ندم أهل الغرور(86/23)
المعتصم يؤخذ على حين غرة
ولما حضرت الوفاة المعتصم الخليفة العسكري العباسي وهو في الأربعين، قال: أموت اليوم؟! قالوا: تموت اليوم، لأنه تعجب كيف يموت وهو شاب؟ في ذهنه أنه لا يموت إلا الشيوخ الكبار! قالوا: تموت، قال: سبحان الله! والله لو علمت أني أموت في شبابي لتركت ما فعلت من المعاصي، لأنه ظن أن في العمر مهلة.(86/24)
الرشيد وضراعته عند الموت
وذكر أن هارون الرشيد لما حضرته الوفاة قال: اعرضوا عليَّ الجيش، فرأى الجيش فقال: يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه.
فلا ملك إلا من ملكه الله التقوى، وأعطاه الله عز وجل اليقين، وأرشده الله بالعلم النافع، إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
فهذه بعض نماذج الصالحين الذين عاشوا لله وانتصروا على الشهوات، غضوا أبصارهم وحفظوا فروجهم وأسماعهم وأياديهم، فقلوبهم طاهرة، وألسنتهم بالذكر عامرة، ووجوههم بأنوار التقوى باهرة، فلا إله إلا الله! كم سافرت قلوبهم إلى الله، ولا إله إلا الله كم غرس في قلوبهم من شجرة: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:25] وأعظم ما يمنى به أهل الشهوات يصابون بداء المعاصي في حياتهم، فيعاقبون بعقاب أليم في الحياة، قبل أن يأتي يوم الله الموعود.
لذلك ذكر الله بني إسرائيل ومعاصيهم، فقال: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] قال أهل العلم: من عقوبة الذنوب نسيان العلم، فقال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] ومن عقوبة المعاصي أنها تنسي المحفوظ، قال الإمام الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
ورأيت في بعض كتب السير، أن أحد الناس نظر إلى منظر لا يحل له، فقال له أحد العلماء: سبحان الله! تنظر إلى منظر لا يحل لك! لتجدن عقوبتها ولو بعد حين، قال: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة، فهذه عقوبة المعاصي.(86/25)
الدواء من أمراض القلوب
فما المخرج من مرض الشبهة ومرض الشهوة؟(86/26)
عودة إلى علاج مرض الشبهة
أما مرض الشبهة فالتفكر في آيات الله الكونية والشرعية: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20] فاليقين بالتدبر والتأمل.
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
وأنا أكرر بعض المقالات التي ذكرها ابن كثير في التفسير في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] فذكر عند هذه الآية أن أبا حنيفة سأله الزنادقة عن دليل القدرة وخلق السماوات والأرض قال: سفينة تعبر دجلة من الشاطئ إلى الشاطئ ليس لها ركاب ولا حارس ولا قائد، قالوا: هذا ليس بصحيح، قال: سبحان الله! سماوات ذات أبراج، وأرض ذات فجاج وليل داج! ألا تدل على السميع البصير؟!
وقال ابن كثير: وقال هارون الرشيد لـ مالك بن أنس: ما دليل القدرة؟
قال: سبحان الله! اختلاف النغمات وتعدد الأصوات، وتباين اللهجات.
والشافعي سئل عن دليل قدرة الباري تبارك وتعالى؟
قال: هذه الورقة -الصنوبر- تأكلها الدودة فتخرج إبريسماً حريراً، وتأكلها الغزالة فتخرج مسكاً، وتأكلها النحلة فتخرج عسلاً، ألا تدل على السميع البصير؟!
والإمام أحمد يذكر عنه أنه قال: دليل القدرة بيضة الدجاجة، أما سطحها ففضة بيضاء، وأما باطنها فذهب إبريز، تفقس فيخرج منه حيوان سميع بصير، ألا يدل على السميع البصير؟!
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
فياعجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد(86/27)
علاج مرض الشهوة
أما دواء الشهوة فالصبر والعبادة.
وعن محارم الإله فاصبر واستهد بالله وإياه اشكر
وبادرن بالتوبة النصوح قبل احتضار وانتزاع الروح
لا تحتقر شيئاً من المآثم وإنما الأعمال بالخواتم
ومن لقاء الله قد أحبا كان له الله أشد حبا
وعكسه الكاره فالله اسأل رحمته فضلاً ولا تتكل
والقبر فاذكره وما وراءه فمنه ما لأحد براءه
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
فأما الشبهة فاليقين والعلم دواؤها وعلاجها، وأما الشهوة فالصبر والعبادة والتوبة دواؤها وعلاجها، نسأل الله أن يتوب علينا وعليكم، وأن يفقهنا وأن يبصرنا، وأن يردنا إليه رداً جميلاً، نشكو عليه حالنا، ونعرض عليه قلوبنا، ونسأله من رحمته، ومن عطائه أن يغيثنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا نشكو حالنا إلا إليه.
اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وإن كان لي من شكر فإني أشكر الله تبارك وتعالى على أن جمعني بكم وأراني هذه الوجوه، التي سجدت لله، وأبى غيرها أن يسجد، وركعت لله وأبى غيرها أن يركع، فهنيئاً لكم مجلسكم، ثم شكراً لكم على كريم استقبالكم، وجميل إصغائكم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(86/28)
الأسئلة(86/29)
نصيحة حفظ الوقت
السؤال
ناشدتك الله يا شيخ أن تدلني رحمك الله على طريقة أحفظ بها وقتي، فأنا منذ صغري وأنا أحاول، لكن يأتيني ما يشغلني فتضيع أوقاتي، وقد ذهب معظم عمري وأنا بهذه الحال، فكيف أحفظ وقتي فيما يرضي ربي، دلني دلك الله على كل خير.
الجواب
الأخ السائل مادام أنه شعر بهذا المرض، فهو متجه إلى الصحة بإذن الله، ولكن المصيبة هي في المريض الذي لا يشعر بالمرض.
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
فما دمت قد عرفت أنك فرطت، وأنك أخطأت وأسأت، فأبشر ثم أبشر وعد إلى الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
والوقت أغلى مايسام فهو أغلى من الذهب والفضة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعاً: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ}.
فإذا علم هذا فأوصيك ونفسي أن تجتهد بحفظ الوقت، وأحسن ما ينظم لك أوقاتك، الصلوات الخمس: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] يقول بعض أهل العلم عن الصلاة: حتى في تنظيم الأوقات، تنظم أوقاتهم، فليكن بعد الفجر دائماً حفظ كتاب الله عز وجل أو ما تيسر منه، فإنه وقت طليق، ووقت مبارك بإذن الله، فاحفظ ما تيسر ولو أن تقلل على نفسك، ثلاث آيات أو أربعاً أو خمساً وتستمر على ذلك، وهذا البرنامج يختلف باختلاف الناس، وبحسب أعمالهم وأشخاصهم، لكنه شبه مقرب للجميع.
بعد الظهر للمطالعة إن كنت من طلبة العلم، خاصة في الكتب الجامعة، وبعد العصر مطالعة مسددة وتخريج، وتحقيق مسائل، وبعد المغرب زيارة لإخوانك في الله عز وجل، وللدعاة ولأقاربك ممن تستفيد بزيارتهم وتفيد.
وبعد العشاء لك ولأهلك من ذكر واستغفار، وأوراد ووتر ثم نوم، أما ما تحفظ به وقتك فأعظم ما تحفظ به الصلوات الخمس، ثم حفظ الله في الذكر والدعاء، ثم حفظ الله بحفظ جوارحك.
فتحفظ عينك وسمعك وقلبك ويدك وفرجك، لعل الله أن يحفظك.
وتحفظ العلم، وذلك بجمع المختصرات ومجالسة العلماء والمشايخ وطلبة العلم، فيقربون لك ما في هذه المختصرات، ولتحاول حفظها، عل الله أن يعينك عليها، ثم اقرأ الشروح والله معك، ولن يترك من عملك شيئاً، وهذه إجابة مقربة، وإلا فإن هذا السؤال يتكرر كثيراً، ولكن إذا صدقت مع الله صدقك الله، وهنيئاً لك إقبالك على الله، نسأل الله أن يسددنا وإياك لما يحبه ويرضاه.(86/30)
أسباب المصائب والعقوبات التي تحل بنا
السؤال
في هذا العام، كما يعلم الجميع مع قلة الأمطار، جاء برد شديد توفي على إثره أناس، وماتت بسببه كثير من المواشي والنخيل وسائر الأشجار، وتفجرت كثير من صنابير المياه ومضخاتها، وحدث كثير من الأمراض، فما رأيك بمن لا يعتبر بذلك، وينسبه إلى الطبيعة دون ربطه بأسبابه، وأنه عقوبة من عقوبات الذنوب والمعاصي المتتابعة؟
الجواب
بل هذا أعظم شاهد وأعظم دليل على ما فعلناه من الذنوب والخطايا، فإن ما وقع هو من ذنوبنا: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] فقلة الأمطار، وجفاف الآبار، وموت الأشجار، وذبول الأزهار، كلها مما أغضبنا به الواحد الجبار، فنشكو أحوالنا إلى الله عز وجل، وقد سلف في أثناء الكلمة قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في بني إسرائيل: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] ونوح عليه السلام يقول لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10 - 12].
وفي بعض الآثار التي في أسانيدها نظر أن الرسول عليه الصلاة والسلام، كما يروى عنه أنه قال: {إن العجماوات والبهائم تشكو فسقة وفجرة بني آدم إلى الله، وتقول: يا ربنا منعنا القطر بسببهم} وأورد السيوطي حديثاً وقد أثر عن بعض السلف أنه نسب إلى أحد الأنبياء أن الله يقول: وعزتي وجلالي لولا الشيوخ الركع، والأطفال الرضع، والبهائم الرتع، لخسفت بكم الأرض خسفاً.
وصح في حديث: {أن سليمان عليه السلام خرج يستسقي ببني إسرائيل، فوجد نملة وهي في القحط والجدب رفعت رجليها تدعو، فتبسم عليه السلام وقال: ارجعوا فقد سقيتم بدعاء غيركم}.
فمن معاصينا ومخالفاتنا: التخلف عن الصلوات، ومقاطعة الجماعات، وتزايد الربا, وأكل الربا ولبسه، وركوب سيارات الربا، وبناء منازل الربا، وإطلاق النظر في المحرمات، وتبرج المرأة إلا من رحم الله، وكلها من المعاصي، فكيف لا يذهب الجمال؟!
وكيف لا تقصى الديار؟!
وكيف لا تيبس الأزهار؟!
وتنقطع الأنهار؟!
وتجف الأمطار؟!
هي المعاصي يا عباد الله!
فلنعد إلى الله، ولنكثر الاستغفار والتوبة، ولنعتبر إن كنا من المعتبرين، ولنتعظ إن كنا من المتعظين، رزقنا الله وإياكم توبة نصوحاً.(86/31)
أبو العلاء المعري في الميزان
السؤال
أبو العلاء المعري يروى أنه في آخر حياته تاب ورجع وأناب كما ذكر صاحب كتاب رهين المحبسين عبد الكريم الخطيب، فهل هذا صحيح؟
الجواب
أولاً: الذين يكتبون عن توبته، مشكوك في توبتهم، فلا بد أن يصححوا الأسانيد قبل أن نصل إلى أبي العلاء، لأنهم أحالونا على مجاهيل، وهم نصبوا أنفسهم وليسوا بثقات، فإنهم قالوا هذا الكلام، لكن نحن نعود إلى أناس، وإلى أسانيد قوية.
سند كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عموداً
وأنا أنقل عن الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة أبي العلاء المعري وابن كثير في البداية، وذكروه وحطوا عليه، وهو يستحق الحط، والنكاية لنبين شره، أما الأمور الاحتمالية بعد أن تثبت الأمور اليقينية، فهذه من أوهى الأدلة ومن أضعف الاحتجاجات، ولو أخذ بهذا، لأسلم فرعون، ولأسلم إبليس، وأدخل أبو لهب الجنة بمثل هذه الحجج ولكن هيهات!(86/32)
كيفية التخلص من ضغط الشهوة
السؤال
لقد كنت قبل سنة تقريباً أمارس عادة محرمة نتيجة الشهوة وبالعزم والإصرار تركتها وعدت لها بعد أشهر، فتركتها قبل أشهر عديدة، فماذا أفعل لكيلا أعود إليها مرة أخرى جزاك الله خيراً؟
الجواب
الأمر الأول: لعل السائل يقصد العادة السرية، وهذه محرمة عند كثير من أهل العلم، وهو الصحيح، واستدل مالك من القرآن على تحريمها بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] وابن تيمية ينص على أنها محرمة، وهي من الفاحشة والعياذ بالله.
فعلى المسلم أن يتوب ويستغفر الله من هذا العمل وأن يراجع حسابه مع الله وله أمور يستطيع أن يظهر بها على نفسه وأن ينتصر على نفسه.
منها: الصدق مع الله واللجؤ إلى الله بالدعاء.
الأمر الثاني: الصيام إذا لم يستطع الزواج، والحديث في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصيام فإنه له وجاء}.
ومنها: أن يشغل نفسه بقراءة القرآن، والذكر، ومجالسة الصالحين وطلبة العلم والدعاة، وأن يكثر من النوافل، وأن يشتغل بالدعوة والتحصيل.(86/33)
حث طلبة العلم على الدعوة
السؤال
ما أكثر طلبة العلم وأهل الخير في هذا البلد ولله الحمد والمنة، ولكن ليس لهم نشاط في الدعوة إلى الله وإقامة حلق العلم في المساجد، فنرجو من فضيلتكم حث أهل الخير وطلبة العلم على تعليم الناس والدعوة إلى الله، أثابكم الله.
الجواب
بلدكم وما جاوره من البلدان فيها علماء، ونحن تلامذة لهم، ونأتي لنستفيد من أمثالهم، وهم مشايخ لنا، ولم يقصروا في الدعوة، لكن ليس كل عالم له أن يتكلم، أو عنده وقت ليتكلم، قد علم كل أناس مشربهم، فالبعض عليه أن يكون واعظاً، والبعض محققاً، والبعض مفتياً، والبعض خطيباً، لتتوزع المهمات على الأمة.
فالعلماء منهم من يحقق كتباً ويخرجها للأمة فتكون أنفع وأفيد، ومنهم من يحقق مسائل، ومنهم من يصحح أحاديث، ومنهم من يفتي الأمة، ومنهم من يوجه باستلام منصب وبإدارة، فينفع الله به في ذاك السبيل.
فنسأل الله أن يأخذ بيد الجميع، وما مثل علمائكم نوصي بأن يستفاد منهم في مثل هذا المكان.(86/34)
أدعية تحجز الإنسان عن الشهوات والشبهات
السؤال
فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
ففي الله أحببناك والله شاهد وإنا غداً عما نقول سنسأل
وبعد: فالإنسان محفوف بالشهوات، فهل هناك أدعية تكون حاجزاً بين الإنسان والشهوات؟
الجواب
حفظ في السنة أدعية كثيرة عنه صلى الله عليه وسلم، لكن تحديد الشهوات، أمر قد يكون غير منضبط، فهي أدعية خاصة لا تحضرني الآن، لكن حفظ كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: {اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى} وهي تشمل الرد على الشبهات والشهوات.
حفظ عنه صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم {يا علي! قل: اللهم اهدني وسددني، واذكر بهدايتك هدايتك الطريق، وبتسديدك تسديد السهم} وعند أبي داود بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ الحصين بن عبيد والد عمران: {يا حصين! قل: اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي} وصح من حديث أم سلمة أن الرسول عليه الصلاة السلام: {كان إذا خرج من بيته قال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله} وهذه الزيادة صحت في بعض الروايات، وفي رواية: اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل عليّ} زاد السيوطي عن بعض النقلة: {أو أبغي أو يبغى عليّ} فبمثل هذه الأدعية وبأمثالها يحفظك الله ويسددك الله، مع النية أن تكف عن المعاصي وأن تنتصر على الهوى، والله معك.(86/35)
نصيحة في تربية الأبناء
السؤال
لي ابن غير صالح وغير مستقيم وحاولت تعديله فلم أفلح، فما هي إرشاداتكم جزاكم الله خيراً حتى تبرأ ذمتي، وينجو ابني من العقاب؟
الجواب
المسألة الأولى: أنصحك أولاً بكثرة الدعاء لابنك، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعوا لأبنائهم، والصالحون كان دأبهم الدعاء للأبناء، والدعوة الصادقة تنفذ إلى عرش الرحمن، ويجيبها تبارك وتعالى، وعند أبي داود: {ثلاثة لا ترد دعواتهم، منهم: دعوة الوالد لولده} فالله الله في الاجتهاد بالدعاء لولدك! والنصح والصدق مع الله والتقوى والطاعة.
المسألة الثانية: اللين، فإن كثيراً من الآباء فيهم فظاظة وغلظة وشدة، تنفر أبناءهم عنهم، والله يقول في محمد عليه الصلاة والسلام: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وقال تبارك اسمه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فالله الله في اللين!
ويرسل الله موسى عليه السلام مع هارون إلى طاغية الدنيا، وليس هو ابنه ويقول: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
المسألة الثالثة: التدرج في دعوته فلا تحاول أن يهتدي في يوم أو يومين أو ثلاثة، بل طول له الحبل ومد له في الوقت، واصبر وصابر لعل الله أن يهديه.
المسألة الرابعة: أن تبدأ معه في الأولويات والمهمات، فتبدأ بالصلاة، ثم بما كبر ثم بما بعدها وما يليها، حتى تصل إلى السنن والمستحبات، وإذا صدقت مع الله هدى لك الله ذريتك، لأن الله يقول في زكريا: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] وقال: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74].(86/36)
أهمية الصلاة
السؤال
ينشغل بعض شبابنا هدانا الله وإياهم ببعض شهواتهم عن الصلاة، وربما بعضهم يتركها بسبب انشغاله باللعب أو النوم، فنأمل التنبيه لأهمية الصلاة وعقوبة تاركها، جزاك الله خير الجزاء.
الجواب
ما ورد من كلامي في المحاضرة فهو حول قضية الاشتغال بالشهوات عن الفرائض، والطاعات، وما على المسلم إلا أن يتقي الله عز وجل ويجيب داعي الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71] وعليه أن يسمع لنداء الرسول عليه الصلاة والسلام ولوصيته، فعند الترمذي وأحمد بسندين حسنين، قال عليه الصلاة والسلام لـ ابن عباس رضي الله عنهما: {يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} فأوصيك بحفظ الله عز وجل والكف عن الاعتداء على محارمه والتجاوز في حدوده، وأما عقوبة تارك الصلاة، فأنت تعرف ويعرف الإخوة أن تارك الصلاة كافر بأحاديث كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة} والحديث في الصحيحين.
ومفهوم المخالفة أن من لم يؤد الصلاة، فلا عصمة لدمه، وحديث آخر صحيح قوله صلى الله عليه وسلم: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} وحديث ثالث عنه صلى الله عليه وسلم قال: {بين المسلم والكفر ترك الصلاة} فيا خيبة من ترك الصلاة! ويا خسارة من فرط في الصلاة! لقد أعلن كفره وتمرده وزندقته وإلحاده والله المستعان.(86/37)
طرق الأعداء في إضلال الشباب
السؤال
أعداء الله لهم طرق كثيرة في صد الشباب عن الإقبال على الإسلام واتباع أهل الحق، أريد من فضيلتكم كلمة ضافية تنبه فيها الشباب والدعاة إلى الله بهذا الكيد الذي يراد.
الجواب
في العالم معسكران: المعسكر الشرقي معسكر حلف وارسو، وهؤلاء أهل الشبهات وهم أهل الإلحاد والزندقة، استالين ولينين وماركس وهرتزل، وهم الذين بثوا الإلحاد، وبثوه قبل أربعين سنة على مركب الاقتصاد، وأتوا اليوم يبثونه على مركب الحداثة، ليخرجوا من أبناء الجزيرة رجلاً متخلفاً متحلقاً متلقفاً ملقوفاً، يقول في قصيدته: ما معناه:
الجزيرة ما رأت النور منذ أن ألقى عليها الهاشمي رداءه.
من هو الهاشمي؟
إنه محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن هو الهاشمي الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور؟
ومن هو الهاشمي الذي سارت كتائبه مهللة ومكبرة حتى فتحت بلاد الأندلس؟ من هو الهاشمي الذي أقام العدل ورفع لا إله إلا الله محمد رسول الله في الأرض؟
فهذا سرت فيه الشبه والإلحاد من موسكو إلى الجزيرة الخالدة، التي سجد أبناؤها لله، وهذا مرض الشبهات والإلحاد، وعلاجه العلم النافع، قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، والتدبر في الكون، في آيات الله الكونية، وآيات الله الشرعية.
وحلف الأطلسي الرأسمالي أمريكا وأوروبا ومن سار مسارها، هم أهل الشهوات، ما استطاعوا بالطائرات ولا الصواريخ حتى قالوا في مؤتمر بلغراد:
إنما ينجح فيهم المرأة والكأس.
فأتوا بالمرأة الفاتنة، والمجلة الخليعة، والأغنية الماجنة، وأتوا بالحبوب المخدرة، وأتوا بالسفور، وأتوا بالشهوات، فضل كثير من شبابنا، وعلاجهم الصبر والعبادة والتوبة النصوح إلى الواحد الأحد.
فالشباب على هذين القسمين، ولكن لله الحمد، نزل الآن كثير من العلماء بـ (قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم) في الساحة، وأقبل كثير من الشباب مستقيمين تائبين منيبين إلى الله الواحد الأحد، فله الحمد والشكر، ونسأله أن يزيد من الخير.(86/38)
كيفية التخلص من الشرود في الصلاة
السؤال
إنني أعاني من الشرود والتفكير أثناء تأدية الصلاة، فما هي نصيحتكم لي ولأمثالي أثابك الله؟
الجواب
الشرود في الصلاة، كلنا ذاك الرجل، وكلنا الذي يشكو حاله، قد أتت أحاديث عنه صلى الله عليه وسلم، منها حديث في مسلم: {أن عثمان بن أبي العاص الثقفي شكا إليه صلى الله عليه وسلم شيطاناً لبس عليه صلاته} يقول بعض أهل العلم: لبس عليه حتى لا يدري هل قرأ الفاتحة أم لا، قال: {ذلك شيطان يدعى خنزب، فإذا أحسست به فانفث وأنت في صلاتك عن يسارك ثلاث مرات، واستعذ بالله منه} قال بعض أهل العلم: هذا إذا لبس عليه فلا يدري أقرأ الفاتحة أم لم يقرأ، فإذا وصل إلى هذه الدرجة، فله هذا الحكم، أما من شرد وسها، فعليه أن يتقي الله عز وجل وأن يحاول بأمور ليستحضر قلبه، وليكون من الخاشعين في الصلاة.
الأمر الأول: أن يعلم أنه لا أكبر من الله، وإذا قال الله أكبر، فالله أكبر من كل شيء، وليتفكر في الصلاة.
الأمر الثاني: أن يصلي صلاة مودع.
الأمر الثالث: أن يتأمل ويتدبر الآيات التي يقرأ.
الأمر الرابع: أن يفرغ نفسه للصلاة.
وهناك كلام للفقهاء في كراهية أن يصلي وهو يدافعه الأخبثان، وصلاة الحاقن، والصلاة في شدة البرد، أو في شدة الحر، وإنما قالوا هذا ليصلوا إلى نتيجة وهي الخشوع في الصلاة، رزقني الله وإياكم وكل مسلم الخشوع في الصلاة.(86/39)
ضرورة الاتعاظ بآيات الله الكونية
السؤال
قرأنا في الصحف أن القمر سوف يحصل له كسوف ليلة الرابع عشر والخامس عشر، فما توجيهك لمن يتهاون بالصلاة ويلهو ويبيع ويشتري وليس لهذه الآية الكونية أي وزن ولا أهمية عنده؟
الجواب
{ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105] كثير من الآيات، كخسوف القمر، وكسوف الشمس، وموت الأحبة، ودفن الآباء والأولاد والأجداد، ومفارقة الأصحاب وما نصاب به من مصائب وكوارث وحروب في الدول، وفتن في الشعوب كلها آيات، لكن من يعتبر؟!
ومن يتذكر؟ والقبور الماثلة فيها الآباء والأجداد والإخوان والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات.
أتيت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبر
فأين من يعتبر؟!
وهذه الآيات يخوف الله بها من يشاء من عباده، كما في الصحيحين من حديث المغيرة وأبي موسى: {إنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما هما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما من يشاء من عباده} يخوف تارك الصلاة ليصلي، ويخوف متعاطي الربا ليترك الربا، ويخوف الزاني ليترك الزنا، والمغني والمطبل وسامع الغناء ليتوبوا من الغناء والزنا والربا، فنسأل الله أن يجعلنا من المتعظين المعتبرين أولي الألباب.(86/40)
الحث على التبرع للمجاهدين الأفغان
السؤال
لا يفهم ما يعانيه إخواننا الأفغان من مكايد وضغوط عالمية تريد الإجهاض على قيام دولة التوحيد هناك، لا سيما وأنهم على وشك قطف الثمار، أرجو توجيه كلمات تحث بها الحاضرين على دعم إخوانهم والدعاء لهم، وبيان فضل الإنفاق في هذا السبيل، لا سيما وأنه سيجمع تبرعات من الحضور لهم أثابكم الله، ونرجو ذكر الأبيات التي قلتها فيهم؟
الجواب
الحمد لله على ما تم وعلى ما أشرف وما قرب من نصر على أعداء الله، وعلى الوثنيين والملحدين، في أفغانستان، والمجاهدون شكر الله لهم، أعني المجاهدين المسلمين الذين أشرفوا على فتح كابل وقدموا بتوفيق الله نصراً عجيباً للمسلمين، وهذا ما قدموه إلا لما وثقوا بالله عز وجل وتوكلوا على الله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] قال لهم الناس: تعالوا إلى هيئة الأمم المتحدة، قالوا: آمنا بالله وحده وكفرنا بـ هيئة الأمم المتحدة، قالوا: تعالوا إلى جنيف، قالوا: آمنا بالله وحده وكفرنا بـ جنيف، قالوا: تعالوا إلى مجلس الأمن، قالوا: آمنا بالله وحده وكفرنا بـ مجلس الأمن.
يا أمة في عمرها لم تحي إلا بالجهاد
كفرت بمجلس أمن من نصب المنايا للعباد
القاتلي الإنسان خابوا ما لهم إلا الرماد
جثث البرايا منهم في كل رابية وواد
فأتى المجاهدون وخرجوا من بيوتهم متوضئين ساجدين مصلين، وأخذوا بأيديهم الكلاشنكوف لغة النار، فأخرجوا المستعمر، وذبحوه على الطريقة الإسلامية، ولي فيهم قصيدة منها:
مروا بقلبي فقد أصغى له البان لي في حمى الحب أصحاب وجيران
نعم لك الله ما قد تبت من وله أما لكم صاحبي صبر وسلوان
أنا يراعاتك اللاتي كتبت بها رسالة الحب ما في ذاك نكران
دع ذا وهات قوافٍ منك صادقة لأمة مجدها بالأمس فينان
والله لو أنصف التاريخ أمتنا لسجل المدح عذباً وهو سهران
مجالس العلم تروي كل قصتنا إن قلت حدثنا يحيى وسفيان
الصانعو الزهد والدنيا بحوزتهم يروي علاها أبو ذر وسلمان
والساكبو العلم من مشكاة دوحتهم علم ابن عباس ياقوت ومرجان
وإن طلبت مثالاً من أرومتنا يكفيك عن مضرب الأمثال أفغان
يا أمة النصر والأرواح أثمان في شدة الرعب ما هانوا وما لانوا
هم الرعود ولكن لا خفوت لهم خسف ونسف وتدمير وبركان
كم ملحد ماجن ظن الحقوق له زفوا له الموت مراً وهو مجان
وبلشفي أتى كالعير منتخياً رأى المنايا فأضحى وهو جعلان
ردوه كالقرد لو بيعت سلامته بشعبه لشراها وهو جذلان
فروا على نغم البازوك في غسق فقهقهت بالكلاشنكوف نيرانُ
يسعى فيعثر في سروال خيبته في أذنه من رصاص الحق خرسان
سياف في حكمة شاه بمملكة لها من الدهر طول الحق برهان
وأنا أتضامن مع فضيلة الشيخ في دعوته للتبرع، فكأنك بدراهمك تقتل شيوعياً أو تجزر ملحداً، والله يتقبل منا ومنكم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(86/41)
الدقائق الغالية
قال تعالى: (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر:37] ما المقصود بالنذير؟
أهو محمد؟!
أم الشيب؟
أم الموت؟!
لكي تعرف الإجابة تصفح هذه المادة، وأيضاً ستجد لطائف من سيرة السلف الصالح.(87/1)
وجاءكم النذير
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وحجة الله على الهالكين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
عنوان هذا الدرس: الدقائق الغالية.
الدقائق الغالية هي حياة المسلم، فكل دقيقة تمر من حياة المسلم وعمره فسوف تحسب عليه عند الله عز وجل، ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37].(87/2)
من هو النذير
قال أهل العلم في النذير، هو: الموت.
وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: القرآن.
وقيل: الإسلام.
وقيل: الشيب.
وذكر عن بعض السلف أنه قال: "من بلغه الله ثماني عشرة سنة فقد أعذر إليه وأنذر"، وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من بلغه الله ستين سنة فقد أعذر الله إليه} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فإذا تفكر المسلم أنه قد جاءته من الله نذارة وإعذار وجب عليه أن يستغل هذه الدقائق في مرضاة الله الواحد الأحد:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني
أما معنى قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر:37] فالمعنى: أولم نمهلكم؟
ألم نمد لكم في الأجل؟!
أما تركناكم تعيشون حتى جاءتكم النذارة؟!
أما تركنا لكم مهلة بإمكانكم أن تتذكروا فيها القدوم علينا فهل تذكرتم؟ وهذا بإيجاز.
ولذلك قال بعض أهل العلم: الشيب هو النذير، فمن شابت لحيته ورأسه فقد أتاه من الله النذير.
قال سفيان بن سعيد الثوري: " من شابت لحيته أو رأسه فليعد للقبر عدته وليشتر كفناً ".
ولقد بكى العلماء والصالحون الشيب، وعلموا أنه داعي القبر، وأنه بريد الموت، وأنه سائق إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
قال الإمام أحمد: " والله ما مثلت الشباب -يعني: أول العمر- إلا بشيء كان في يدي ثم سقط من يدي " وقال أبو العتاهية:
بكيت على الشباب بدمع عيني فلم يغن البكاء ولا النحيب
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب
يقول: يا ليت الشباب -أول العمر- يعود إليَّ فأخبره ماذا فعل بي المشيب؟ غيَّر لوني، وغير بهجتي، وحطم قوتي، وأذاب سخونة شِعْري، ودنف ظهري، وأسهرني، وأبكاني.
ولذلك نام شباب مع شيخ كبير في بيت، وكان هذا الشيخ قد بلغ الثمانين من عمره، ومن المعروف أن الشباب ينامون من أول ما يضع أحدهم رأسه، وهكذا غالب الشباب، أما هذا الشيخ فما نام طول الليل؛ دائماً في أنين في شهيق وزفير حتى صلاة الفجر، فقال له الشباب لما صلوا الفجر: لم تتركنا ننام البارحة، فقال قصيدة يقول فيها:
قالوا أنينك طول الليل يزعجنا فما الذي تشتكي قلت الثمانينا
قالوا: أنينك طول الليل يزعجنا؛ سهرنا سئمنا لم يتركنا ننام فما الذي تشتكي؟ أظلمك ظالم؟ هل اعتدى عليك معتد؟ هل سلب حقك سالب؟:
قالوا أنينك طول الليل يزعجنا فما الذي تشتكي قلت الثمانينا
أشتكي إليكم سن الثمانين.(87/3)
احفظ الله في الشباب يحفظك الله في المشيب
قال ابن قتيبة: مر شيخ كبير من بني غفار عليه لحية بيضاء على صدره -والعرب كان فاجرهم ومؤمنهم، قويهم وضعيفهم لا يعتدون على لحاهم، مر هذا الشيخ وإذا شباب يلعبون في الطريق، فقال أحد الأطفال: يا عم! من الذي باعك هذا القوس؟ -يعني: هذه اللحية كالقوس على صدرك ممن اشتريتها؟ - فدمعت عينا الشيخ، وقال: يا بني! هذه اللحية أعطانيها الدهر بلا ثمن، وسوف يعطيك شيباً مثلها.
أي: اصبر وسوف تجد مثلها، ولذلك قال الصالحون: "من حفظ الله في الشباب حفظه في الهرم".
وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.(87/4)
أبو الطيب الطبري حفظ الله؛ فحفظه الله
وفي حديث عند الترمذي بسند حسن: {اغتنم خمساً قبل خمس: -ثم ذكر منها صلى الله عليه وسلم- شبابك قبل هرمك}.
قال ابن كثير وهو يترجم للمحب الطبري؛ -وهو إمام شافعي كبير، من أجل الأئمة الشافعية، كان مزاحاً دعوباً، وكان متقياً لله عز وجل- يقول: ركب معه شباب في سفينة، فلما اقترب من الشاطئ قفز من السفينة إلى الشاطئ، وحاول الشباب أن يقفزوا فما استطاعوا، فقالوا: كيف استطعت أن تقفز وأنت في الثمانين، ونحن شباب لم نستطع؟
قال: هذه أعضاءٌ حفظناها في الصغر فحفظها الله لنا في الكبر.
ومعنى الكلام: هذه أعضاءٌ حفظناها من المعاصي فحفظها الله علينا لما كبرنا، فما أصابها وهن، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: {احفظ الله يحفظك}.
أبو الطيب الطبري أعطى حذاءه للخراز وأخذ حذاء، فأخذها الخراز وكان مشغولاً -عنده أحذية- فأخذ الطابور عنده، فمر به في اليوم الثاني، قال: أعطني حذائي، قال: إن شاء الله غداً، فمر به غداً.
فقال: إن شاء الله غداً، فمر به بعد غد.
فكلما رآه الخراز وضع حذاءه في الماء ليظهر أنه سوف يصلحها، قال أبو الطيب الطبري: يا عم! أنا أعطيتك الحذاء لتصلحها، لا لتعلمها السباحة.
فهذا هو الرجل الذي يقول: هذه أعضاءٌ حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر.
وذكر أهل العلم في كتب الحديث وغيرها أبواب الشيب وعدوه من الإنذارات للمؤمن قبل أن يأتيه نذير الموت.
ولذلك قال أهل السير: قام عابد من بني إسرائيل عمره ثمانون سنة، فوقف أمام المرآة فرأى شيبة -وكان هذا الرجل قد أطاع الله أربعين سنة، ثم عصاه أربعين سنة، نعوذ بالله من الخذلان! بعض الناس يصيبه الخذلان بعد أن يستمر في طريق الهداية، ولا يثبِّت ولا يهدي إلا الله تبارك وتعالى- قال: فنظر إلى المرآة، فقال: يا رب! أطعتك أربعين سنة وعصيتك أربعين سنة فهل تقبلني إذا عدت إليك؟ فسمع هاتفاً يقول: أطعتنا فقربناك، وعصيتنا فأمهلناك، فإذا عدت إلينا قبلناك.
وقد يلحق الإنسان الخذلان في آخر عمره -نعوذ بالله من الخذلان- لأسباب سوف أذكرها.(87/5)
عبد الملك بن مروان عند الموت
ذكر الذهبي في ترجمة عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، أنه لما تولى الخلافة، وكان عبد الملك عالماً من العلماء، بل كانوا يعدونه من الفقهاء السبعة في بعض الروايات، فكان فقهياً، عالماً، عابداً، فلما تولى الخلافة سل السيف وسفك دماء الأمة، يقولون: أول ما بويع بالخلافة أخذ كتاب الله عز وجل ثم نشره، ثم قرأ فيه قليلاً ثم طبقه، وقال: هذا آخر العهد بك، قال الذهبي معلقاً: اللهم لا تمكر بنا، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، فأدركه الخذلان -والعياذ بالله- لما مكنه الله في الأرض.
ولذلك لما أتته سكرات الموت بكى طويلاً ونزل من على سرير الملك، ونزل إلى الأرض، فمرغ وجهه في التراب، وبكى وقال: يا ليت أمي لم تلدني! يا ليتني ما عرفت الحياة! يا ليتني ما توليت الخلافة! فسمع وهو في سكرات الموت؛ غسالاً يغسل الملابس، لا يحمل هم الأمة، ولا أي هم، ولا خاف من الظلم ولا الإجحاف، فكان يغني؛ لأن أسعد الناس أهل المهن الحرفية، تجد أحدهم كأنه يملك الدنيا بين يديه، فأنت إذا رأيت الخباز وهو على الفرن يترنم كأنه المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فهو يتغنى لأنه ليس على ظهره هموم، مشغلته في يده، فسمع الغسال يترنم، فقال عبد الملك: يا ليتني ما عرفت الحياة! يا ليتني كنت غسالاً! قال سعيد بن المسيب -أحد علماء التابعين- لما سمع هذا الكلام: [[الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا وقت الممات، ولا نفر إليهم]].
وإنما يتذكر قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] لمن عقل وفهم عن الله عز وجل، أما الذي غلبه هواه فهذا لا يسمع الآيات، ولا يستفيد من المواعظ، ولو أسمعته خطب ومواعظ ومحاضرات الدنيا لا يستفيق أبداً.
وبالمناسبة للاستطراد وللطرفة، النساء أغضب ما يغضبهن الشيب، فالمرأة تصاحبك حتى ترى الشيب، فكأنها رأت ثعباناً عليك، يقول حسان:
رأين الغواني الشيب لاح بعارضي فأعرضن عني بالخدود النواضر
فالشيب عدو النساء، ولذلك أخذ بعض الناس السواد وصبغوا به لحاهم، وهذا على الصحيح من أقوال أهل العلم أنه محرم، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: {وجنبوه السواد} والسر في ذلك -كما قال بعض الفقهاء-: أنه يوهم وأن فيه تدليساً، حيث يأتي الرجل عمره ثمانون سنة -شيبة عجوز- ما بقي بينه وبين القبر إلا شبرين أو ثلاثة، فيخطب شابة فتية فتتزوجه فيموت بعد شهرين، قالوا: فيه تدليس، ولأن التدليس أمر محرم فلا يجوز التدليس بالشيب، ويجوز بالورس وبالحناء وبالكتم، وهذا على سبيل الاستطراد.(87/6)
من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم
ينبغي على الناس أن يوقروا الشيخ الكبير فيهم، ولذلك قال بعض الصالحين لما حضرته الوفاة: اللهم ارحم شيبتي! فإني سمعت في الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {إن الله يستحي أن يعذب شيخاً في الإسلام}.
وذكر الذهبي في ترجمة يحيى بن أكثم؛ وهو أحد العلماء القضاة، وقد تولى القضاء للمأمون، لكن سياسته في القضاء كانت غير محمودة، إنما كان محدثاً صالحاً فيه خير، فلما توفي رؤي في المنام: قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: والذي نفسي بيده! لقد أوقفني بين يديه تبارك وتعالى، ثم قال: وعزتي وجلالي لولا شيبتك لعذبتك بالنار، ثم أدخلني الجنة.
وهذا لا يعني أن الشيخ الكبير له أن يفعل ما يشاء؛ لأن الله يستحي من شيبته، بل معناه: أن الله يستحي منه إذا استحى من الله، وإلا ففي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ثلاثة لا ينظر الله إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم -وفي لفظ: ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم- منهم: أشيمطٌ زانٍ} شيخ كبير في السن زانٍ، هذا ليس له عند الله قبول، ولا يكلمه الله يوم العرض الأكبر، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه، وله عذاب أليم، فشيخ أخذ في عمره ما أخذ، ثم أتى إلى الله فختم صحيفته بالزنا، لا قبول له عند الله: {وملك كذاب} ملك ويكذب لأنه لا داعي له، لأن إنما الإنسان إنما يكذب؛ خوفاً أو رغبة أو رهبة، والملك ليس عنده لا رغبة ولا رهبة، والثالث: {عائل مستكبر} رجل يلصق بطنه بالثرى، وينام على الرصيف، وليس عنده درهم ولا دينار ويتكبر على عباد الله.
يقول شيخ الإسلام في كلام ما معناه: ملوم الغني إذا تكبر، وغير الملك إذا كذب، والشاب إذا زنى؛ لكن هؤلاء لقلة دواعي هذه الأمور فيهم كان عذابهم أشد وأنكى عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
نظر إبراهيم عليه السلام في المرآة فرأى شيبة بيضاء، وكان أول مرة يرى إبراهيم الشيب، فقال: يا رب! ما هذا البياض؟ قال: هذا وقار يا إبراهيم! قال: "اللهم زدني وقاراً".
قالوا عن الإمام أحمد: كان الإمام أحمد لا يقوم لأحد، لا لملك أو وزير أو سلطان ولا لغني أو وجيه، إلا إذا رأى شيخاً كبيراً شابت لحيته، فإن الإمام أحمد يقوم ويقبله ويعانقه ويجلسه بجانبه.
وإن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم، وثلاثة يوقرون: السلطان المقسط -أي العادل- وحامل القرآن -أي: طالب العلم العامل بعلمه- والشيخ الكبير، فهؤلاء يوقرون لما أعطاهم الله عزوجل.
ومقصودي من هذا أيها الأحبة: أن نصل إلى مسألة، وهي مسألة حفظ العمر مع الله عزوجل، فإن كثيراً من الناس ذهبت لياليهم من بين أيديهم سدى، وما استغلوها في طاعة؛ فبكوا وندموا غير ساعة مندم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن المفرطين: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عنهم: {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام:31] قال أهل العلم في هذه الآية: يقولون: يا ويلتنا على ما ضيعنا في حياتنا من الأوقات الثمينة.(87/7)
نماذج من أحوال السلف في حفظ الوقت
دخل عمر رضي الله عنه وأرضاه المسجد، فوجد رجلاً حزيناً من الصحابة جالساً في المسجد، فقال: مالك؟ قال: فاتتني صلاة الليل البارحة.
أي: قيام الليل، أما نحن فالكثير منا تفوته صلاة الفجر ولكن قلبه بارد لا يجد حزناً فيه ولا قلقاً ولا هماً ولا خوفاً، كما قال المتنبي:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
أي: من يصبح بالهوان بمنزلة يسهل أن تهون عليه الأمور، كالميت إذا أتيت تنحره وتقطعه بالسكين لا يتأثر، ما لجرح بميت إيلام.
قال هذا الرجل: نمت عن ورد البارحة من قيام الليل فحزنت، قال عمر: سبحان الله! قم فصل، أما سمعت الله يقول: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] يعني: جعل الليل خلفة عن النهار، والنهار خلفة عن الليل، فمن فاته ورده في النهار، وقراءة القرآن، والذكر في النهار، فليعوضه في الليل، ومن فاته في الليل فليعوضه بالنهار، فهي منة من الله عزوجل.
هذا أحد الصالحين اسمه: الجنيد بن محمد كان يسبح في اليوم ثلاثين ألف تسبيحه، ذكر هذا أهل العلم في ترجمته، فلما حضرته الوفاة أخذ يقرأ القرآن وهو في سكرات الموت، فقال له أبناؤه: تقرأ القرآن وأنت مشغول بالموت! قال: وهل هناك في الدنيا أحوج مني إلى العمل الصالح؟ فقد أصبح في ورطة الآن.
فيا أخوتي في الله! إن الدقائق الغالية في حياة المسلم لا تُقدَّر بثمن، والساعة الواحدة يأخذها فلان فيستقل بها إلى رضوان الله الواحد الأحد من قرآن، أو تسبيح، أو مطالعة، أو ذكر، أو دعوة، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، ويأخذها هذا فيصل بها إلى غضب الله ولعنته وسخطه، من ترك صلاة، أو زنا، أو فعل فاحشة، أو جريمة، أو غيبة، أو نميمة، أو معصية تغضب المولى تبارك وتعالى.
يقول النووي -والعهدة على النووي - في التبيان في آداب حملة القرآن؛ وهي رسالة طيبة وجيزة، يقول فيها: كان كرز بن وبرة يختم القرآن في الليل أربع مرات، وفي النهار أربع مرات.
لكن ليس هذا هو السنة، فلا يفقه القرآن في أقل من ثلاثة أيام، لكن أذكره من باب الجد والمثابرة، وكان أصحاب كرز بن وبرة يقولون له: اجلس معنا نتحدث معك، قال: احبسوا لي الشمس وأتحدث معكم، معنى ذلك: أن الشمس تذهب في أعمارنا وتقرضها، فمن يضمن لي يوماً كهذا اليوم.
قال الحسن البصري: [[والذي نفسي بيده! ما أصبح صباح إلا نادى اليوم في صباحه: يا بن آدم! اغتنمني فوالله إني لا أعود لك إلى يوم القيامة]] قال الجاحظ في كتابه الحيوان؛ وأحسن ما أنشد العرب في حفظ الوقت أبيات الصلتان السعدي، يقول فيها:
أشاب الصغير وأفنى الكبير كرُّ الغداة ومر العشي
إذا ليلة حرمت يومها أتى بعد ذلك يوم فتي
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي
هذا من أحسن ما قيل! وأنا أذكر -وهذا يجوز بالإجماع- بعض الأبيات النبطية لأحد الشعراء، يذكرها في العمر وفي الشيب، ابتدأها بحمد الله، يقول:
لك الحمد يا من صور الشمس والقمر وسوى السما سبعاً وقوى عقودها
وصلى على المختار من صفوة البشر مع أنصار دينه يوم كانوا جنودها
أبى أوصيك يا مسلم دليل من افتكر ودرب السعادة عزكم من يرودها؟
إذا ما ذكرت القبر يا عبرة العبر مع الحفرة الظلما دهتنا بدودها
لحى الله دنيا تتعب القلب والبصر إذا قلت طابت تخدش العين عودها
صحبنا بها الإخوان في الحضر والسفر فلما تصافينا بكتنا عهودها
بنينا بها بيتاً من الطين والحجر فدكت مبانيها وهزت سنودها
تعبنا بها والله من كثرة الخطر كرهنا مغانيها وعفنا بنودها
ويصدِّق هذا الكلام قوله عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: {يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الأرض -أي: أنعم أهل الأرض من الفجرة الذي ما عاش إلا في الحرير والقصور وفي الورود الرائجة، والحدائق الناعمة، وفي الحلي والحلل، والدنيا والزلل وفي كل شيء- فيغمسه الله في النار غمسة، ثم يقول الله: هل رأيت نعيماً قط؟ قال: لا -والله- يا رب! ما مر بي نعيمٌ قط، فذهبت الفلل، والقصور، وذهب النعيم، وبقيت المعصية تلاحقه حتى أدخلته النار- ويؤتى بأتعس أهل الدنيا -هذا الرجل الطائع الذي ينام في الخيمة، ولا يجد إلا كسرة الخبز، ولا يجد إلا جرعة الماء، دائماً جائع، مطرود بالأبواب، كسيف البال، مغير الخلقة، عليه ثياب بالية، عليه وضر الضر والفاقة والفقر- فيغمسه الله غمسة في الجنة، ثم يقول الله له: هل مر بك بؤس قط؟ قال: لا -والله- يا رب! ما مر بي بؤس قط} وهذه هي الحياة.
ولذلك سل من تنعم، وهو في الحياة الآن، كم مر في النعيم، هل تتذكر النعيم؟ يقول: لا.
الذي تغدى اليوم لا يذكر الغداء لأنه جاع الآن، والذي جاع في الأمس لا يذكر الجوع؛ لأنه شبع اليوم، ولا تبقى إلا طاعة الله الواحد الأحد.
ولذلك تواصى بها الصالحون قديماً وحديثاً.(87/8)
قصة سلميان عليه السلام والفلاح
ذكر ابن القيم في كتاب الفوائد أن سليمان عليه السلام، قال: "تعلمنا مما تعلم الناس ومما لم يتعلموا فما وجدنا كتقوى الله".
وقال عون بن عبد الله لزملائه وهو يودعهم: أوصيكم بوصية: عليكم بتقوى الله فإن المتقي لا وحشة عليه.
ولذلك فإن القليل من العمل الصالح يعادل جبالاً من جبال ونعيم الدنيا لو كانت في ميزان الحسنات.
ونذكر هنا قصة سليمان عليه السلام مع الفلاح: كان سليمان عليه السلام كان عنده مُلْك الدنيا خيولها، ووحوشها، وطيورها فسخرها الله له، عمل مهرجاناً ذات يوم فاستعرض الدنيا، وخيولها، ووحوشها، وطيورها، ثم مرت به الخيل فأشغلته عن صلاة العصر، قال بعض العلماء: فأخذ السيف فقتل الخيل جميعاً، وتصدق بلحومها؛ لأن لحوم الخيل يجوز أكلها.
وقالوا: بل مسح مسحاً -مر بيده- على أكتافها وأذنابها وأعتقها أو تصدق بها في سبيل الله، فعوضه الله عزوجل -لما علم حرصه على صلاة العصر- بالريح بدل الخيل، فسخرها له، فكان إذا أراد أن ينتقل من مكان إلى مكان قال للريح: يا ريح! أريد تلك الأرض فانقليني إليها، ومهما بلغت الصناعات أو التقدم العلمي فإنه لا يصل إلى هذا المستوى، فكان يقول للريح: تعالي.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12] أي: أن مسيرها في الصباح تقطع مسافة شهر، وإذا عادت فإنها تعود مسيرة شهر.
ومرة من المرات أراد بلاد الهند وكان مقيماً في فلسطين، فقال للريح: أريد الهند، فأتت: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] معنى رخاءً حيث أصاب، أي: أنه إذا أراد أرضاً فلا تنزله بسرعة فتحطمه، بل تقلل من سرعتها (رخاء) رويداً رويداً (حيث أصاب) حيث أراد.
وقال أهل العلم في قوله: (حيث أصاب) حيث أراد، فهو إذا أراد هذه البقعة فلا تنزله في البقعة الأخرى، فإذا أراد الطائف فلا تنزله في جدة، وإذا أراد الرياض فلا تنزله في الدمام.
(حيث أصاب) أي: حيث أراد بنيته، فهي ريح بكماء صماء، لكن الله سخرها له.
فقال: أريد الهند، فنقلته ومعه حاشيته وأمراؤه ووزراؤه، فلما أصبح بين الأرض والسماء، قالوا: لاح له ثوبه، وكان عليه ثوبٌ جميل فالتفت إليه، فأرادت نفسه أن تعجبه، فأوحى الله إليه: يا سليمان! وعزتي وجلالي لو أعجبتك نفسك لأمرت الريح أن تحطمك في الأرض.
والأنبياء معصومون لكن هذا إنذار من الله عزوجل.
فلما مر حجب الشمس عن فلاح، وهو فلاح في الأرض معه مسحاة يزرع بها، ولا يعلم عن هذا الملك العظيم ولا عن الريح، فهو فلاح في الأرض لكنه موصول القلب بالله عزوجل، ويعرف الله عزوجل.
وتقدم الحياة والقلب هو بمعرفتك بالله الواحد الأحد، وانطماس وظلمة القلب هو ألَّا تعرف الله ولو كنت في ناطحات السحاب: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن الكفار الذين ملكوا الدنيا: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن قوة الكافر، وجماله ودنياه: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35] مر سليمان عليه السلام فحجب الشمس عن الفلاح، فنظر الفلاح فرأى سليمان على بساط الريح، وكانت الريح تعمل بنفسها بساطاً، فقال الفلاح: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، فذهبت الكلمة؛ لأن هذه الكلمة -سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر- لا تنزل في الأرض بل تصعد في السماء، والدليل على أنها تصعد هو قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10].
الكلمات الطيبة تتجه إلى الله الواحد الأحد، أما الكلمات الخبيثة: اللعن الشتم البذاء الغيبة النميمة الزور، فإلى سجين وهي محسوبة على العبد، أما الكلمات الطيبة، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10].
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {إن لتسبيح العبد المسلم دويٌ كدوي النحل حول العرش} وهذا الحديث في سنده نظر، وورد في حديث آخر يورده أهل العلم في فضل القرآن: {أن القرآن في آخر الزمان يعود من قلوب الناس فيكون له دويٌ كدوي النحل، فيقول الله: عد إلى صدور الناس، قال: يا رب! كيف أعود إلى أناس هجروني بالنهار بالعمل، وهجروني في الليل، وتوسدوني عند رءوسهم، فيقبضه الله من قلوب العباد} وهو من علامات الساعة، وهذا الحديث ولو أن سنده لا يقوم، لكن دلائل وقواعد الإسلام تؤيده فهو من علامات الساعة.
قال الفلاح: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، فسمع سليمان الكلمة فقال للفلاح -وقد هبط عند الفلاح-: ماذا قلت؟ قال: مررت بي فرأيت ملكك فأعجبني ملكك، فقلت: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً.
فقال سليمان: والذي نفسي بيده! لقولك: سبحان الله خير مما أوتي آل داود.
ويؤيد ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس}.
فلذلك رفع الله إدريس عليه السلام مكاناً علياً.
وقد كان إدريس عليه السلام خياطاً يخيط بالإبرة ويبيع على الناس وهو نبي مرسل، وزكريا عليه السلام كان نجاراً، وداود عليه السلام كان حداداً، فلما علم الله تواضعهم رفعهم سبحانه، أما إدريس فقال الله عز وجل: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم:57] يقولون: كان عندما يدخل الإبرة ويخرجها يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ثم يخرج الإبرة، فأوحى الله إليه: يا إدريس! وعزتي وجلالي لأرفعنك مكاناً علياً، قال: يا رب! بماذا وأنا مذنب؟! -أي: معترف بالتقصير- قال: إنه يُرفع عملك مع عمل أهل الدنيا، فيعادل عملك نصف عمل أهل الدنيا بالتسبيح والتهليل.
وهذا تسديد من الله أن تجد العبد دائماً يسبح ويهلل.
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: "كان خالد بن معدان يسبح في اليوم مائة ألف تسبيحة".
وهذا توفيق من الله عز وجل.(87/9)
ضرورة استغلال الأوقات في الذكر
تجد بعض الناس دائماً يتمتم بالتسبيح حتى يقول عنه المنافقون: هؤلاء موسوسون، وفي حديث ضعيف ضعفه الشوكاني وغيره من الأئمة: [[اذكر الله حتى يقول الناس: إنك مجنون]] ولو أن بعض العلماء صححه لكنه لا يصح بل هو ضعيف، ومعنى الحديث: أي: كأن الإنسان موسوس.
حتى إن أحد الصالحين وقد كان يسبح كثيراً، قال عنه أحد الشباب: عمنا موسوس، فقال في قصيدة:
ومن هيامي بكم قالوا: به مرض فقلت: لا زال عني ذلك المرض
يقول: من ذكري لك -يا رب- يقول الناس: إن بي مرضاً، فقلت: لا زال هذا المرض.
وقال ابن القيم في بيت جميل:
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس
ولذلك تجد الصالحين دائماً يتمتمون، وقد مرَّ معنا في أحد الدروس: أن أحد المسلمين ذهب إلى المدينة النبوية فرأى أناساً من نيجيريا معهم مسابح طويلة يسبحون لكنه لا يدري ماذا يقولون، إنما يسمعهم يتمتمون بالتسبيح -وهذه المسابح فيها كلام سوف يأتي إن شاء الله فالبعض معه مسبحة لا يحملها الحمار، وكل حبة مثل التفاحة!! وهؤلاء هم غلاة الصوفية - فوجدهم يسبحون ويتمتمون لكنه لا يسمعهم وهو لا يعرف المسابح إلا ذاك اليوم، فاشترى مسبحة ورجع إلى قريته فكان يجلس في المجلس فيتمتم ويشتغل في المسبحة، فيقول له الناس: ماذا تقول يا فلان؟ قال: أقول: الحقي أخواتك الحقي أخواتك، فهو لا يعرف التسبيح فتمتم بباطل أو بمباح من القول.
وهذا ضياع للعمر فالسنة أن تعلق قلبك بذكر الله عز وجل سواء لامك الناس أو لم يلوموك.
قال النووي في كتاب الأذكار في مسألة: هل يترك الإنسان التسبيح والتحميد من أجل الناس؛ لأن بعضهم إذا جلس في المجلس يقول: لو هللت، قالوا: ماذا في هذا الإنسان؟ وهذا صحيح أنه ملفت للنظر، وينبغي للإنسان ألا يلفت الأنظار إليه لكن هل يترك الذكر فلا يسبح؟ لأنه يقول: لو سبحت لقالوا: ماذا حدث لي هل أنا موسوس أو مراء، قال النووي: "ومن راقب الناس في هذه الأمور فاته أجر كثير".
وهذا صحيح؛ فمن راقب الناس: قالوا وفعلوا ولاحظوا راقبوا، فاته أجر كثير، كما قال الفضيل بن عياض فيما صح عنه: "العمل من أجل الناس رياء، وترك العمل من أجلهم شرك، والسلامة أن يعافيك الله منهما، وأخلص العمل من أخلص العمل لله عز وجل".
فهذه مسألة حفظ الوقت مع الله عز وجل، وكيف يستغل هذه الدقائق الغالية.
والله ولي التوفيق والقادر عليه، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(87/10)
الأسئلة(87/11)
حكم بعض العبارات التي يطلقها بعض الناس
السؤال
يقول السائل ما صحة هذه العبارات: فلان غني عن التعريف، العصمة لله ولرسوله، المرحوم فلان بن فلان إذا توفي، انتقل إلى مثواه الأخير، قول القائل: الله ورسوله أعلم؟
الجواب
أما قولهم: فلان غني عن التعريف فالعبارة خطأ، يعني: يأتي محاضر أو شيخ أو عالم أو داعية أو مسئول فيقدمون له، ويقولون: فلان غني عن التعريف.
قال بعض العلماء: الغني عن التعريف هو الله، والعبد لا بد أن يُعرَّف به وليس بغني عن التعريف.
وفي سنن الترمذي بسند ضعيف أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {إذا لقي أحدكم أخاه فليسأله عن اسمه ونسبه فإنه واصل المودة}.
وعند مسلم في الصحيح من حديث وفد عبد القيس الذي رواه ابن عباس: {إن الوفد قدموا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: من الوفد؟ -أو من القوم؟ - فقالوا: من مضر، قال: مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى} فسألهم عن أسمائهم عليه الصلاة والسلام وهو من باب التعريف.
ودليلهم من القرآن قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
فلا تقل: فلان غني عن التعريف، ولا تسل عن قبيلته وعن نسبه، فالغني عن التعريف هو الله، ولذلك صاحب أعظم كتاب من كتب النحو سيبويه، وقد كان ذكياً من أذكياء الدنيا مات وعمره (32) سنة، فلما مات رئي في المنام -وأهل الحديث يقولون: سيبوْيَه، وأهل النحو يقولون: راهوَيْه، وأهل الحديث يقولون: راهوْيَه، وسيبويه أعجمي وهو لا يستطيع أن يتكلم، فإذا قام يتكلم في الخطب تلكأ، لكن إذا كتب تجده حافظ الدنيا.
قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة، قالوا: بماذا؟ قال: لأني عندما أتيت إلى لفظ الجلالة قلت: الله لفظ الجلالة أعرف المعارف غني عن التعريف فما عرفته.
فالغني عن التعريف هو الله عز وجل؛ لأنه تعرف إلينا بآياته في كل مكان؛ فلا تلمح ولا تنظر ولا تتأمل إلا ويدلك ما تنظر إليه إلى قدرة الله، نظري إليكم ونظركم إلي، ونظركم في أجسامكم ونظركم في السماء، ونظركم في الأرض والشجر والمدر والحجر والماء والضياء والسماء تدل على رب الأرض والسماء:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
فكلمة غني عن التعريف هي لله عز وجل، والإنسان يُعرَّف، ولو كان معروفاً عند الناس فإنه يقال: فلان بن فلان، يشتغل في كذا، من قبيلة كذا، وهذا ليس من باب العنصرية؛ لأن القبائل التي جعلها الله عز وجل ليس لفضل قبيلة على قبيلة؛ بل المقصود التعارف: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13].
- العبارة الثانية: العصمة لله ورسوله: صحيح أن العصمة للرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يجوز أن نقول: العصمة لله؛ لأن المعصوم لا بد له من عاصم، والله لا عاصم له، وجلَّ الله أن يكون له عاصم.
فالله هو الذي يعصم غيره ولا يعصمه غيره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فتجد بعض الناس يقولون: نحن أخطأنا، العصمة لله ورسوله، فالعصمة للرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى زكى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:1 - 6].
فالله عز وجل غني قادر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يحتاج إليه غيره ولا يحتاج إلى غيره أبداً.
فالذي يقول: العصمة لله فكأن الله معصوم من غيره، وهذا ليس بصحيح.
- العبارة الثالثة: المرحوم فلان بن فلان، والذي انتشر في الصحف والجرائد والمجلات -الآن- أنه إذا توفي رجل قالوا: المرحوم فلان بن فلان، وهذه تعتبر شهادة ولا يعلم الغيب إلا الله، بل يقال له من باب الإنشاء: رحمه الله وغفر الله له، وأسكنه فسيح جناته، ولا يقال له: المرحوم من باب الخبر، ولا يقال: المغفور له، ولا المرحوم، ولا الشهيد، فإن هذا من باب الخبر.
والخبر فيه تقوُّل على الله؛ لأن الخبر لا يأتي إلا عن طريق الكتاب أو من المعصوم عليه الصلاة والسلام، ونحن ليس عندنا خبر، لكن يجوز من باب الإنشاء أن تقول: غفر الله له رحمه الله.
وفي صحيح البخاري: {أن امرأةً لما توفي عثمان بن مظعون قالت: طوبى له من أهل الجنة، فغضب عليه الصلاة والسلام وقال: وما يدريك وأنا رسول الله ينزل عليَّ الوحي صباح مساء، والله ما أدري ما يُفعل بي} يقول: أنا رسول الله يأتيني الوحي من الله ولا أدري ماذا يفعل بي، وأنتِ تشهدين لرجل أنه من أهل الجنة، ما يدريك؟
فالعلم عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي أحد قاتل قزمان وكان من أشجع الناس، وقد سمع بالمعركة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، فأخذ سيفه وقاتل قتالاً شديداً، فأصابته ضربة سيف في رأسه حتى أثخنته الجراح، فحمل إلى دار بني ظفر، ثم لم يصبر على قضاء الله، فسلَّ السيف واتكأ عليه حتى خرج من ظهره وكان إذا ذكر عند الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إنه من أهل النار}.
فلا يشهد لأحد أنه من أهل الجنة إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لأحد من أهل النار خصوصاً من المسلمين إلا من شهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مسألة: يشهد للشهداء على الأجناس ولا يشهد لهم على الأشخاص، مثلاً: من يقتل في أفغانستان فنقول على الأجناس: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، أما أن نقول: فلان بن فلان المولود عند دار فلان شهيد، فهذا تقوُّل على الله، فنحن لا ندري، لكن نتمنى أن يكون شهيداً، ونسأل الله عز وجل له الشهادة، فالله عز وجل يقول عن أجناس الشهداء: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] فقوله: قتلوا أي -أجناس القتلى- لكن الأشخاص علمهم عند الله عز وجل.
- العبارة الرابعة: انتقل إلى مثواه الأخير، وهذه العبارة اشتهرت -أيضاً- في الصحف وفي بعض الأندية وفي المجامع العامة والمجالس، قال كثير من أهل العلم: إن كلمة (مثواه الأخير) توهم معنىً إلحادياً، فإن أهل الإلحاد -عليهم لعنة الله- يقولون: إن القبر هو المثوى الأخير، أي: لا جنة بعده ولا نار، ولا حساب ولا صراط، ولا ميزان، ولذلك فإن عمر الخيام صاحب الرباعيات الذي يقول:
فما أطال النوم عمراً وما قصر في الأعمار طول السهر
يقول: أعطني الخمر اليوم لأنني إذا وصلت القبر لم يعد هناك لذائذ، وليس في القبر حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار، يقول: أعطني اللذائذ اليوم، وقدم لي المعاصي:
فما أطال النوم عمراً وما قصر في الأعمار طول السهر
لبست ثوب العمر لم أستشر وتهت فيه بين شتى الفكر
يقول: أنا لم أستشر عند خلقي، ولو استُشرت لقلت: لا أريد أن أخلق، سبحان الله! {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91] {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5].
فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فهو عبد مخلوق، ويقول:
لبست ثوب العمر لم أستشر وتهت فيه بين شتى الفكر
ثم أتى يقول لصاحبه: اعمل فإن مثواك الأخير القبر.
وهذا رأي للملاحدة، ولا نريد من أهل الإسلام أن يشابهوهم فيه، فليس المثوى الأخير هو القبر، وليست النهاية الأخيرة هي القبر، بل بعد القبر جنة أو نار، وحساب، وموقف، وصراط وميزان، وتطاير الصحف:
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إن قيل: نور الدين جاء مسلماً فاحذر بأن تأتي ومالك نور
حرمت كاسات المدام تعففاً وعليك كاسات الحرام تدور
لا بد من الوقوف، والله! لنبعثن ولنقفن عند الواحد الأحد.
فلا يقال: إلى مثواه الأخير، بل يقال: إلى القبر، أو مات، أو انتقل.
هذا هو الصحيح، لأن هذه الكلمة يستغلها الملاحدة كثيراً.
ولذلك يقول إيليا أبو ماضي وهو أعمى القلب، وهو شاعر لبناني عليه غضب الله:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
يقول: لا أدري لماذا أتيت؟ ولماذا خلقت؟ ولماذا أكلت؟ ولماذا شربت؟ فهو دابة بهيمة: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
>جئت لا أعلم من أين! ولكني أتيت!!
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت!!
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت!!
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري!!
ولماذا لست أدري؟!! لست أدري!!
لكنه سوف يدري: {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:9 - 10].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94].
فهذه الأسماء اللامعة -يا شباب الإسلام- موجودة كتبهم ودواوينهم في الساحة، مثل: بشارة الخوري هذا المجرم النصراني الخبيث، والشاعر اللبناني الكافر، الذي كفر بالله، ويوم نزل في دمشق حملوه على الأكتاف حتى أوصلوه من المطار إلى الفندق.
يقول هذا المجرم:
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
يقول: أعطوني أي دين يؤلف العرب.
ثم يقول:
بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
يقول: قدم بلادك ووطنك وتراب أرضك على كل دين، ثم يقول:
فيا حبذا كفراً يؤلف بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
نسأل الله أن يصليه بعدله جهنم.
ونزار قباني المجرم الآخر عابد الجنس والمرأة؛ استهزأ بالرسول صلى الله عليه وسلم أعظم وأصلح من خلق الله وأشرف من رفع الله، هذا المجرم له أبيات من الإلحاد، وأشرِّف هذا المكان أن أذكرها على لساني ولكن يجازيه ربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وإنما نبين هذا من باب البيان: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
- أما العبارة الخامسة فقولهم: الله ورسوله أعلم.
أما في حياته صلى الله عليه وسلم فتطلق، فهو يعلم بعلم الله له في حياته، أمَّا بَعْد موته فلا يصح أن نقول: الله ورسوله أعلم، وإنما نقول: الله أعلم، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام مات وهو في قبره لا يعلم ولا يشافي ولا يعافي ولا يرزق، وهذا على خلاف معتقد غلاة الصوفية الذي يقول شاعرهم القبوري المشرك البرعي شاعر اليمن لما أتى إلى قبره عليه الصلاة والسلام وأخذ الحديد وبكى وهو يقول: شافي مريضي، لأن عنده بنت مريضة في اليمن، ويقول: أنا مذنب يا رسول الله، والرسول صلى الله عليه وسلم في قبره! يقول في قصيدته:
يا رسول الله يا ذا الفضل يا بهجة المحشر جاهاً ومقاما
فأقل لي عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاماً
وهذه كلمة شركية تخرجه من الملة.
والبوصيري صوفي غالٍ من أصحاب المسابح الذين لا يعرفون من الإسلام شيئاً، وليس عندهم من نور الإسلام ولا من الهداية إلا الخرافة والخزعبلات، فهؤلاء مشركون، وقف البوصيري فقال:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
ولذلك ألَّف ابن تيمية مجلدات في الرد عليهم، من قرأها فهي الدواء والعلاج والشفاء، وهي نور على نور.
فبعد وفاته صلى الله عليه وسلم، يقال: الله أعلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لا يعلم.(87/12)
اسم ملك الموت
السؤال
هل اسم ملك الموت عزرائيل أم لا؟
الجواب
اشتهر هذا ولكنه ليس بصحيح، ولا يوجد في الكتاب ولا في السنة ولا نُقِلَ عن سلف الأمة أن اسمه عزرائيل، بل سماه الله: ملك الموت، ولم يسمه عزرائيل، وقد صح من أسماء الملائكة: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، أما عزرائيل فليس بصحيح.(87/13)
سبب نزول قوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله)
السؤال
ما سبب نزول: {* فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ} [التوبة:75 - 76]؟
الجواب
قال أهل العلم: نزلت هذه الآية في ابن جميل، وكان من الفقراء، فقال: {يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالاً، فوالذي نفسي بيده! لأن رزقني الله مالاً لأتصدقن في سبيل الله} وأصل الحديث عند البخاري، فرزقه الله مالاً، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب لجمع الزكاة، فمر بـ ابن جميل فقال: أعطني الزكاة؟ فقال ابن جميل: الحقوق كثيرة وهذه أشبه بالجباية، وليس لكم حق في مالي وأنا سأدفع الأمانة، ومر على خالد بن الوليد فلم يدفع الزكاة، ومرَّ على العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم فامتنع أيضاً.
فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {أعطاني الناس كلهم زكاتهم وصدقاتهم إلا ثلاثة: عمك العباس، وخالد بن الوليد، وابن جميل -فقام صلى الله عليه وسلم يفصل لـ عمر - فقال: أما العباس فهو عمي، لقد قدَّم زكاة عامين إليَّ، هي له عليَّ ومثلها} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ومعنى ذلك: أن العباس قدم زكاته لسنتين، فاستحيا العباس أن يقول لـ عمر: إنه قد أعطى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا أعطيكم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يعلم أنها عنده، وقد قدمها لأن الرسول صلى الله عليه وسلم احتاج في غزوةٍ من الغزوات إلى الزكاة، فقال للعباس: قدِّم لي زكاة سنتين فقدمها له، فلما أتى عمر لم يخبره صلى الله عليه وسلم أنه أخذ زكاة العباس، فقال العباس: لا.
فقال: هي علي ومثلها، أي: زكاة العباس.
{وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، لقد احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله} كان خالد عنده مائة فرس أوقفها كلها في سبيل الله، والمخرج في سبيل الله ليس فيه الزكاة.
يقولون معن لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذله
يقولون: كان معن بن زائدة من أغنى الناس ولم تجب عليه الزكاة؛ لأنه كلما حال الحول على ماله، أنفقه في سبيل الله، فما وجدوا عليه زكاة ولا سنة، فلامه بعض الناس: أين زكاتك يا معن؟! فقام مروان بن حفصة أحد الشعراء يعتذر له، ويقول:
يقولون معن لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذله
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
يقول: أتطلب منه الزكاة وقد أنفق أمواله في سبيل الله؟!
ثم قال عليه الصلاة والسلام: وأما ابن جميل: {فما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله} يقول: ما ينقم ابن جميل حتى ينكث عهده مع الله، فقد كان فقيراً ثم أغناه الله فمنع الزكاة.
فهذا سبب نزول هذه الآية.(87/14)
قصيدة نبطية في اللحى
السؤال
أتلمس من الشيخ إعادة القصيدة النبطية في اللحى؟
الجواب
هذه القصيدة قد مرت وأظنها كثرت ومُلَّت، وهي مختصرة قليلاً، وهي لشاعر مجيد في الشعر النبطي مثل امرؤ القيس، يقول: إنه حضر في مجمع ومحفل فرأى بعضهم يحلقون اللحى ويخالفون السنة، فقال هذه الأبيات:
يا ربعنا ياللي حلقتم لحاكم وايش علمكم ترمونها في القمامه
هي سنة ما سنها مصطفاكم علامة يا شينها من علامه
شابهتم الشيطان شغلة عداكم من شابه الشيطان يلقى الملامه
ثم يقول:
ما احد جبركم فعلكم من رضاكم من شابه الشيطان يلقى الندامه
ترى اللحى يوصي بها يصيبها مصطفاكم صفوة قريش اللي رفيع مقامه
عفوا لعل الله يغفر خطاكم وتفوزوا يوم اللقا في القيامه
هذه وصية إن كان ربي هداكم أقولها يا الربع مع السلامة(87/15)
صحه حديث: لو خشع قلب هذا
السؤال
حديث اشتهر على الألسنة: {لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه} ما صحته؟
الجواب
هذا الحديث موضوع، وهو من كلام عمر بن الخطاب، وقد ذكره الأثرم وغيره من الأئمة، ولا يصح رفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد أوردوا قصة له فقالوا: {إن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يُصلي وهو يتحرك ويعبث بلحيته، فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه} فهذا لا يصح إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو من كلام عمر بن الخطاب، ويصح إلى عمر، أما إلى غيره فلا يصح، وقد أورده سعيد بن منصور في سننه إلى عمر بن الخطاب.(87/16)
بعض خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل للرسول صلى الله عليه وسلم خصائص يختص بها عن الأمة؟
الجواب
نعم له صلى الله عليه وسلم خصائص، وأحسن من ألف في ذلك الشيخ ملا خاطر في كتاب: خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام وذكر له ما يقارب عشر ومائة خصيصة.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم: أنه لا يتثاءب؛ لأن التثاؤب من الشيطان؛ وما تثاءب في حياته صلى الله عليه وسلم أبداً؛ لأن الشيطان لا يتلاعب به، وفي صحيح مسلم: {ما منكم من أحد إلا ومعه شيطان قرين، قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: حتى أنا، ولكن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير} وهذا بعد أن أسلم، وبعضهم يضبط كلمة (أسلم) أي: فأسلمَ من الإسلام، وبعضهم يقول: أسلم يعني أسلمُ من شره، ولكن الصحيح أنه من الإسلام، أي: أسلم وهداه الله ودخل في الدين.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم: أنه لا يحتلم في المنام، فالاحتلام الذي يأتي الإنسان لا يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاحتلام تلاعب من الشيطان.
أحد الأعراب تلاعب به الشيطان، فاحتلم في المنام، وكانت الليلة باردة، فقام يغتسل بالماء وكان الماء بارداً مثل الثلج، فأخذ الماء يرميه وراء ظهره، ولا يصله إليه شيئاً فقالوا: مالك؟ فقال: ما دواء الكذاب إلا الكذاب، فالاحتلام كذب عنده.
فهذا الاحتلام من الكذب، ولكن الغسل منه واجب والرسول صلى الله عليه وسلم لم يحتلم في حياته ولا مرة؛ لأنه معصوم، والشيطان لا يتلاعب به عليه الصلاة والسلام.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم: أنه تزوج بأكثر من أربع من النساء، فقد جمع بين تسع وتزوج إحدى عشرة صلى الله عليه وسلم، لكنه جمع تسعاً، وليس لأحد من الناس أن يجمع أكثر من أربع.
وبعض النساء يرين التعدد بأكثر من واحدة محرم وقد خالفن الإجماع، ولذلك سمعت -ولا بأس بنقل هذه القصة لأنها قد ذكرت في أكثر من مناسبة-: أن رجلاً من أهل شقرة المدينة الفاضلة، قال لزوجته: أريد أن أتزوج بثانية؟ قالت: لا يجوز، قال: بل يجوز، يقول سبحانه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3].
قالت: هذه الآية نزلت في أهل بريدة أما أهل شقرة فما نزلت فيهم هذه الآية.
فهذه الآية نزلت في المسلمين جميعاً، فعلى النساء أن يعرفن أن التعدد مباح.
الشاهد: أنه صلى الله عليه وسلم أوتي قوة ثلاثين في الجماع، وكان صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه التسع.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه كان يُواصل الليل بالنهار في الصيام إلى ثلاثة أيام إلى أربعة، فقد كان من أقوى الناس، حتى يقول بعض المفكرين مثل سيد قطب: أنه كان مهيأ لقيادة العالم -يعني: في جسمه- فكان قوي الإحساس قوي الجسم، تصوروا أنه كان إذا ضرب بالسيف تكسر السيف ويسمع له شظايا على رءوس الناس، وإذا خطب سمعه من في السوق، وإذا تحرك كان عرقه يتحدر كالدر والجوهر ويوجد منه رائحة المسك، فهو قوي مهيأ لقيادة العالم، فأعطاه الله قوة في جسمه وفي هيكله.
حتى يقول أحد الأنصار: دهدهنا صخرة في الخندق فما استطعنا لها، واجتمع لها نفر من الصحابة من المهاجرين والأنصار، كـ خالد وسعد وعمر وأمثالهم، فأرادوا الصخرة فما استطاعوا، فأتى صلى الله عليه وسلم فرآهم فتبسم، قال: فكأني به يوم شمر عن ساعديه صلى الله عليه وسلم ثم أخذها، قال الأنصاري: والله لقد حملها من على الأرض، ثم وضعها خارج الخندق.
أتاه ركانة -والحديث في السير- وكان مصارعاً لا يغلبه أحد وهو بطل المصارعة، فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: من أنت؟ قال: أنا رسول الله، قال: من أرسلك؟ قال: الله.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، قال: لا.
حتى تريني آية، قال: ما هي الآية؟ قال: تصارعني فإن صرعتني أسلمت وإلا فلا أسلم، قال صلى الله عليه وسلم: قم، وكان الصحابة جلوساً، فأخذه صلى الله عليه وسلم فحمله كالريشة من على الأرض ثم لطمه في الأرض.(87/17)
تفسير قوله تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)
السؤال
ما معنى قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]؟
الجواب
أي: الصلاة بخشوع وخضوع تمنع صاحبها من الفحشاء والمنكر، أما حديث: {من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً}.
فلا يصح وهو حديث باطل، قال ابن تيمية: الذي يأتي الفاحشة ويصلي أجدر أن يقترب من الله فيقترب ويقترب حتى يتوب.
فلا تزيده الصلاة بعداً بل تزيده قرباً.
{إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45].
ما معنى أكبر؟
قال بعض المفسرين: أكبر من كل شيء، وهذا صحيح، لكن المعنى الصحيح: يقول ابن تيمية في الصلاة فائدتان:
الفائدة الأولى: أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
والفائدة الثانية: أن الصلاة يقام فيها ذكر الله، وإقامة ذكر الله في الصلاة أكثر إفادة لك من نهي الصلاة لك عن الفحشاء والمنكر.
ولا فض فوك يا أبا العباس! لا يأتي إلا بالجواهر، ولذلك أنصح من يريد الله والدار الآخرة أن يتبحر في كتب ابن تيمية، فإنها تربي طالب العلم وتنمي ثقافته وإيمانه وصدقه وإخلاصه وتقوده إلى الله، وهي تكفي أن تكون مكتبة، فتكوِّن لنفسك مكتبة فيها المصحف، وكتب السنة، وكتب ابن تيمية، وهذا الرجل من قبل سبعمائة عام أو أكثر ما طرق العالم مثله، يقول ابن دقيق العيد لما رأى ابن تيمية: والله! ما كنت أظن أن الله يخلق مثلك.
(لكن الله قدير) تصور هذا الإمام عمره ثلاث وستون سنة، حفظ علوم الدنيا، وكان كالبحر يقول: أقرأ المجلد الواحد فينتقش في ذهني، قام مجاهداً ومفتياً وخطيباً ومقاتلاً وزاهداً ومعلماً حتى أمضى دقائقه وأوقاته في خدمة هذا الدين، فرحمه الله رحمة واسعة.(87/18)
حكم الإسبال
السؤال
ما حكم تطويل الثوب علماً أنني لا أقصد بذلك التبختر أو الكبر ولكن أقصد بذلك مجرد المنظر فقط، أفيدونا في ذلك؟
الجواب
إسبال الثوب أو ما يلحقه، من بشت أو سروال أو مئزر أو غير ذلك إلى أسفل من الكعب محرم على لسان محمد عليه الصلاة والسلام، ولا يجوز سواء كان ذلك للبطر والكبر أو لغير ذلك من المقاصد.
قال بعض العلماء في تفصيل المسألة:
- من جره بغير كبر فما أسفل الكعبين ففي النار.
- ومن جره بكبر استحق جزاءين:
الأول: أنه في النار، أي: ما تحت الكعبين.
الثاني: لا ينظر الله إليه.
فإن في الحديث الصحيح -حديث أبي ذر في مسلم -: {لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء} قال أهل العلم: هذا فيمن جره خيلاء.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما تحت الكعبين في النار} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
قال أهل العلم: هذا سواء جره خيلاء أو بغير خيلاء.
إذاً: فلا يجوز للمسلم أن يسبل ثوبه تحت الكعبين أبداً، وليس فيه رخصة.
وأما حديث أبي بكر لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: {يا رسول الله! إن إزاري يرتخي لولا أن أتعاهده؟ قال: إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء} قال أهل العلم: لا بد أن يفهم بمفهومين:
الأول: أنه قال: (يرتخي لولا أن أتعاهده) فالإزار يرتخي عليه بدون قصد وليس بعمد.
والثاني يقال: (أتعاهده) أي: أرده، فهذا ليس فيه إسبال، ولم يداوم عليه رضي الله عنه.
وأما قول السائل: إنه يريد الجمال أو المنظر؟
فما أظن أن في مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم منظراً جميلاً، ويكفي مخالفة السنة قبحاً، بل ما أتى به صلى الله عليه وسلم فهو الجميل والطيب والمبارك، وما عارض سنته فهو الخبيث، المحقر، المشوه، ومن رضي بالرسول صلى الله عليه وسلم أرضى الله قلبه، ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].(87/19)
نصيحة لمن يضيق صدره في مجالس الذكر
السؤال
إذا حضرت مجالس الذكر وجدت وساوس، ويضيق خاطري، حتى أخرج من الدرس، فما توصيني به؟
الجواب
نوصيك -أولاً- أن تجاهد شيطانك، فهذا الذي يطردك من مجالس الخير والمحاضرات والندوات هو شيطان، والرحمن يدعوك إلى دار السلام، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:208 - 209] وذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الشيطان فقال: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16].
فوصيتي لك المجاهدة، ولذلك ذكر بعض العلماء أن الشيطان يأتي في أوقات العبادة؛ كأن تقوم تصلي فيأتيك الشيطان وفي الحديث الصحيح: {حتى يخطر بينك وبين نفسك يقول لك: اذكر كذا، اذكر كذا، اذكر كذا} لشيء ما كنت تذكره، ويأتيك وقت الذكر، ووقت العبادة.
فوصيتي لك أن تجاهد الشيطان وسينصرك الله عزوجل إذا جاهدت.
{وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(87/20)
حكم المني والاحتلام
السؤال
هل المني الذي يخرج من الإنسان عند الاحتلام طاهر أم نجس؟ وإذا وقع في ثوبي وصليت فهل صلاتي صحيحة؟ وإن كانت صحيحة والمني طاهر فما الهدف من الاغتسال؟
الجواب
من خرج منه مني باحتلام أو جماع أو غير ذلك فعليه الاغتسال، والاحتلام إذا وجد منه بلل فإنه يوجب الاغتسال والمني طاهر، بخلاف المذي.
فالمني طاهر أما المذي فنجس؛ لحديث علي في المذي عن المقداد عند البخاري ومسلم: {أنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن المذي؟ قال: فيه الوضوء}.
أما المني فهو طاهر لكن يغتسل منه.
أما سؤالك: لماذا أغتسل وهو طاهر؟ فهذا أمر الله الذي أتانا به محمد صلى الله عليه وسلم وما كنا نفقه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].(87/21)
الانصات عند قراءة القرآن
السؤال
قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] هل يجب الإنصات حتى في غير الصلاة؟
الجواب
قال الزهري: نزلت هذه الآية في الصلاة، وقد ذكرها ابن تيمية في كتابه، لما تكلم عن قراءة الفاتحة في مجموع الفتاوى قال: إنها نزلت في الصلاة؛ فيجب في الصلاة الإنصات، أما في غيرها فهو مندوب وهو الأحسن والأولى.(87/22)
حكم الذكر بقلب غافل
السؤال
بعض الناس يسبح وقلبه غير حاضر، ويتمتم بشفتيه وقلبه شارد، فهل يؤجر أم لا؟
الجواب
الذكر على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: ما توافق فيه اللسان والقلب، فهذا مأجور أجراً كاملاً.
المرتبة الثانية: ما انفرد فيه القلب فهذه المرتبة الثانية ويؤجر عليها.
المرتبة الثالثة: ما انفرد فيه اللسان بلا قلب، فهو مأجور لكن ليس كالقلب واللسان، ولا كالقلب وحده؛ لأنه ثبت عند الترمذي من حديث سلمان بسند حسن، قال صلى الله عليه وسلم: {قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه} فدل الحديث على أنه إذا تحركت الشفتان ففيه أجر ومثوبة من الله عزوجل، وعند الترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن بسر قال: {جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به؟ قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} فدل على أن ترطيب اللسان بذكر الله ولو كان القلب شارداً فيه أجر كثير.
ووالله! لا يجعل الله المغني والمزمر والمغتاب وشاهد الزور كالذاكر المتمتم بذكر الله ولو شرد قلبه: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36].(87/23)
حكم قول القائل: الكمال لله والعصمة لرسوله
السؤال
إذا قيل: الكمال لله والعصمة للرسول صلى الله عليه وسلم، فهل هذه العبارة صحيحة؟
الجواب
هذه العبارة صحيحة، فلو قال: الكمال لله فهذا صحيح، والكمال المطلق إنما هو لله، ويوجد بعض الناس فيه كمال نسبي مقيد على مستوى البشر، أما الكمال المطلق فهو لله تبارك وتعالى.(87/24)
حكم المغالاة في المهور
السؤال
زوجت قريبتي بمبلغ أربعين ألف ريال، وأدخلت فيها الذهب والتكاليف، فهل هذه من المغالاة في المهور؟
الجواب
أنت بالنسبة للموجودين من أحسن ما يكون؛ لأنك أدخلت الذهب والتكاليف فكفت أربعين ألفاً، لأن بعضهم يقول: لا آخذ إلا أربعين ألفاً لكن يعطي عمتها عشرة، وجدتها عشرة، وخالتها عشرة، وبنت جدتها عشرة، وبنت خالتها عشرة!! فيدخلون فيأخذون عشرة عشرة حتى يصل المهر إلى مائتين، وهذا أساء وظلم وتعدى، فبعضهم فقط بالصورة الظاهرة أخذ عشرة أو أربعين، لكنه يزيد في التكاليف وفي هذه الإسرافات حتى يكلف ويبهظ صهره، ويخالف سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
لكن بالنسبة للسلف فأنت مغالٍ، لأن سعيد بن المسيب زوج ابنته بدرهمين، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يتزوج بأربعمائة درهم، قال بعض أهل العلم: هي تعادل اليوم (170) ريال، وكان يزوج بناته بذلك، وقالوا: بارك الله في أيسرهن مهراً، لكنك أحسنت، فأنت بالنسبة لغيرك لا بأس بالمهر ولو خففت لكان أحسن.
ونحن وإياكم ندعو إلى التخفيف، ومن رحم وشفق بالأمة رحمه الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه قال: {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه}.(87/25)
نصيحة لشخص سرق حذاؤه في المسجد
السؤال
في مرة من المرات حضرت محاضرة في مسجدكم هذا وسرقت عليَّ حذاء، فدعوت على السارق، فما حكم هذا، وهل عليَّ كفارة، والسلام؟
الجواب
الله المستعان: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157].
رد الله عليك فقيدك، وجبر الله قلبك، وأخلف الله عليك في حذائك.
أما ما ذكرت من هذه المصيبة فإنها تحدث، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي كتبها، وهو من باب القضاء والقدر، فقد كتب الله عليك أن تسرق حذاؤك قبل أن تخلق بخمسين ألف سنة في كتاب عنده.
فعليك أولاً: أن تصبر وتحتسب، وأن تكتم شكواك ولا تخبر أحدأً.
ثانياً: دعوت على من سرقها، وما أظنه إلا إنساناً وهم، وما أظن أن أهل الخير هؤلاء وصفوة الناس، وصفوة الرأي العام والمجتمع يسرقون، لكن قد يهم بعضهم، أو ينسى أو احتاج إليها، فهذا من هذه الأعذار.
وأما أنك دعوت عليه فقد انتصفت؛ لأن المظلوم إذا دعا على ظالمه فقد انتصف، ولو تركته لأنصفك الله من حسناته يوم القيامة ووضعها لك، وأخذ من سيئاتك ووضعها عليه، فما دام أنك دعوت عليه فقد انتصفت، ثم ليس لك حسنات منه ولا يوضع عليه سيئات منك.
وأريد ألَّا تُشهر بهذا الأمر، وأن تحتسب.
فأحد الناس في قرية وكان يبيع على الناس فطائر في مقهى، فسرقت عليه طاوة لا تساوي ثلاثة ريال، فكان يصلي الصبح ويقرأ سورة يس ويبكي ويدعو على من سرق الطاوة، فقال له أحد الدعاة: لو صرفت هذا الدعاء وقراءة سورة يس في شيء آخر لنفعك الله به، أما أن تدعو على هذا الإنسان صباح مساء كأنه اقترف أكبر الجرائم، وهي طاوة لا تساوي ثلاثة ريالات.
فهذا الحذاء أمره سهل، واحتسبه عند الله عزوجل، ونسأل الله لك ولنا الهداية.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(87/26)
الله الله في الصلاة!
الصلاة عماد الدين الأعظم وقطبه الأكبر؛ تاركها بالكلية كافر بالله تعالى، جزاؤه القتل، والتخلف عن صلاة الجماعة من غير عذر نفاق، ولقد ضرب سلف الأمة أعظم الأمثلة في حرصهم عليها وتنديدهم بتاركها.
عن تفصيل هذا كله تحدث الشيخ في خطبته الأولى، ثم عرج في الخطبة الثانية على فضل يوم الجمعة وأحكامها وذكر بعض المسائل المتعلقة بها.(88/1)
أهمية الصلاة
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، أخرج الأمة المظلومة المنهوبة المسلوبة، إلى فضاء النور والريادة والقيادة، أخرج الأمة المسكينة من التبعية المقلدة إلى أمة قائدة رائدة معلمة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(88/2)
حكم تارك الصلاة
يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله} أمره الله أن يقاتل هذا الإنسان حتى يسجد لله، فالمفاصلة بين الإنسان وبين الدين، يوم أن يتهاون أو يترك الصلاة، أو يتنكر للصلاة، أو لا يتعرف على بيت الله، أو لا يسجد لله، حينها يصبح هذا الإنسان لا قداسة له، ولا حرمة أو مكانة، أو قيمة.
هذا الإنسان يوم يترك الصلاة يكون دمه رخيصاً لا قيمة له، يسفك وتهان كرامته ويعزر بقطع رأسه، قيل: حداً، وقيل: قتلاً على الكفر وهو الصحيح، والرسول عليه الصلاة والسلام يأمره الله أن يشهر السيف، فيقاتل هذا الإنسان حتى يعترف بالصلاة ويصليها، يقول الله عن جيل من الأجيال تهاونوا بالصلاة: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].
قال أحد السلف: أما إنهم ما تركوها، ولكن أخروها عن أوقاتها، أي إسلام لمسلمٍ يدعي الإسلام وهو يترك الصلاة حتى يخرج وقتها؟
أي دين له؟
ما معنى لا إله إلا الله لرجل تأخره تجارته أو وظيفته أو عمله أو منصبه، أو اجتماعه عن الصلاة، ثم يأتي بعدها يتبجح على الأمة وعلى العالم، أنه مسلم بهويته، لا إله إلا الله، وأين الصلاة؟
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] إنهم يصلون، لكن صلاة العصر مع غروب الشمس، وصلاة الظهر الساعة الثانية، وصلاة المغرب مع العشاء، وصلاة الفجر مع طلوع الشمس فأين الإسلام؟
وأين لا إله إلا الله؟
وأين التحمس للدين؟
حضرت رسول الله عليه الصلاة والسلام معركة الأحزاب -قبل أن تنزل صلاة الخوف- فقام يقاتل المشركين ويجاهدهم، دمه يثعب من جراحه، في مخاصمة لأعداء الله، فنسي صلاة العصر حتى غربت الشمس، ما نسيها لأنه في لهوٍ حاشا وكلا، أو في سهوٍ حاشا وكلا؛ بل نسيها من احتدام الخصم، اليهود والمشركون، عملاء الصهيونية العالمية والمنافقون، أنسوه صلاة العصر، فلما غربت الشمس قال لـ عمر: {أخرونا عن صلاة العصر أو شغلونا عن صلاة العصر ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً} ثم قام عليه الصلاة والسلام فصلاها فأنزل الله صلاة الخوف، وهذه الصلاة يصليها الخائف في صف القتال، يصليها الذي يمتطي الدبابة، والمريض على السرير، والجريح وهو في جراحه، ولا يعذر أحد، كل عبادة لها مجال في الغالب إلا الصلاة، إن تأخير الصلاة عن وقتها معناه النفاق الصريح الذي وقع فيه كثير من الناس، إلا من رحم ربك، يقول عليه الصلاة والسلام في سكرات الموت: {الله الله في الصلاة وما ملكت أيمانكم} أي دين بلا صلاة؟
ما معنى لا إله إلا الله؟! وما معنى الانتساب إلى الإسلام بلا صلاة؟! يقولون: مسلمون ولكن لا صلاة! أو تهاون ونقر وتأخير للصلاة فأين الإسلام؟! وأين لا إله إلا الله؟!
وأين الصدق مع الله؟
صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى أناسٍ لا يشهدون الصلاة معنا فأحرَّق عليهم بيوتهم بالنار} وعند أحمد: {والذي نفسي بيده، لولا ما في البيوت من النساء والذرية، لحرقت عليهم بيوتهم بالنار} لماذا؟ لأنهم أصبحوا في عداد المنافقين، يتذرعون بالإسلام، ولكن لا يصلون الجماعة مع الناس، ويدَّعون لا إله إلا الله، لكن تؤخر الصلاة إلى آخر وقتها، أو حتى يخرج وقتها، سئل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الأعمال فقال: {الصلاة في أول وقتها} يقول عليه الصلاة والسلام: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} دمه مسفوك بسيف الشريعة، وهو خارج من الملة، لا طهر له ولا قداسة وحرمة، وعرض، ويصبح لا حماية له أو حصانة أو صيانة؛ لأنه حارب الله.(88/3)
هدي السلف في المحافظة على الصلاة
يقول عليه الصلاة والسلام: {بين المسلم والكافر ترك الصلاة} لم يعذر الرسول عليه الصلاة والسلام أحداً في ترك صلاة الجماعة، إلا من عذره الله، مريضاً كأن يكون مرضاً لا يصل به جسمه إلى المسجد، ومع ذلك يقول ابن مسعود: [[والذي نفسي بيده لقد كان يؤتى بالرجل يهادى به بين الرجلين من المرض حتى يقام في الصف]].
مرض أحد التابعين -اسمه ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير - وهو في مرض الموت سمع أذان المغرب، قال لأبنائه: احملوني إلى المسجد، قالوا: أنت مريض وقد عذرك الله، قال: لا إله إلا الله، أسمع حيّ على الصلاة حيَّ على الفلاح، وأصلي في البيت، والله لتحملوني إلى المسجد، فحملوه إلى المسجد، ولما سجد السجدة الأخيرة، من صلاة المغرب، قبض الله روحه، يقول: أهل العلم: كان هذا الرجل في حياته إذا صلى الفجر يقول: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، يعني: الجميلة البديعة الرائعة.
فقال له بعضهم: ما هي الميتة الحسنة؟
قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد.
الميتة الحسنة: أن يتوفاك ربك بعد فريضة أو في صف الجهاد في سبيل الله، أو وأنت على طهارة، أو وأنت في السجود، أو وأنت تطلب العلم، أو وأنت منفق في سبيل الله.
والميتة القبيحة: أن يتوفى الله البعيد وهو على الأغنية الماجنة، أو على السهرة الخليعة، أو على كأس الخمر، أو في سفر في طلب الفاحشة، هذه هي الميتة القبيحة، التي تعوذ منها الصالحون.
وهذا سعيد بن المسيب عالم التابعين، كان بيته في أقصى المدينة، وكان يأتي في ظلام الليل إلى مسجد المصطفى عليه الصلاة والسلام، قال له إخوانه: [[خذ سراجاً لترى به الطريق في ظلام الليل، قال: يكفيني نور الله]] {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
ولذلك في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة} هل سمعتم أجمل من هذه العبارة: {بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة} أفي القيامة ظلمات؟!
أفي القيامة ليل؟
إي والله، ليل أدهى من الليل، وظلمة أدهى من الظلمة، يجعلها الله لأعداء المساجد، وللذين انحرفوا عن بيوت الله، فتظلم عليهم طرقاتهم: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} [الحديد:13] فلا نور لمن لا نور له.
كان سعيد بن المسيب عالم التابعين، على عين واحدة، ذهبت عينه، لماذا؟
قالوا: من كثرة البكاء في السحر من خشية الله، وكان يذهب بهذه العين في ظلام المدينة إلى المسجد، يقول في سكرات الموت وهو يتبسم: [[والله ما أذن المؤذن من أربعين سنة إلا وأنا في المسجد]] فهو قبل الأذان في المسجد، لكن أتى خلف أكلوا نعم الله، وتمرغوا في أيادي الله، ونسوا حظهم من الله، فأصبحت الصلاة في حياتهم من آخر الاهتمامات.
ودع عمر رضي الله عنه وأرضاه سعداً إلى القادسية فأخذه إلى جنب وقال: يا سعد! أوصِ الجيش بالصلاة، الله الله في الصلاة، فإنكم إنما تهزمون بالمعاصي، فأوصيهم بالصلاة.
وكان الصحابة إذا حضر الخوف وامتشجت السيوف، وأشرعت الرماح وتنزلت الرءوس من على الأكتاف تركوا الصفوف لطائفة، وقامت طائفة تصلي:
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
حضر أجدادنا الذين فتحوا الدنيا بلا إله إلا الله، حصار كابل عاصمة أفغانستان، فطوقوها من كل جهة، ولبسوا أكفانهم، لا إله إلا الله، لباسهم الأكفان! لأنهم يريدون الحياة في عز، أو الموت في سبيل الله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52].
إما الموت، وإما الحياة:
فإما حياة نظّم الوحي سيرها وإلا فموت لا يسر الأعاديا
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
وقفوا بأكفانهم يحاصرون كابل، ولما صلوا الظهر قال القائد العظيم قتيبة بن مسلم، وقد كان قبل المعركة يبكي ويمرغ وجهه في التراب ويقول: اللهم انصرنا فإن النصر من عندك، فلما وقف بعد صلاة الظهر، وكان جيشه مائة ألف، قال: ابحثوا لي عن الرجل الصالح محمد بن واسع، أين هو؟
وكان محمد بن واسع هو مفتي الجيش، الإمام الزاهد العلامة، قال: ابحثوا لي أين هو في هذه الساعة؟
فهذه هي ساعة الصفر، ساعة يتنزل النصر من السماء، وهي ساعة بيع الأرواح، وتفتح الجنان، واستقبال الحور العين للشهداء، ساعة حضور الملائكة، فالتمسوه فوجودوه، يبكي وقد اتكأ على رمحه ورفع أصبعه يقول: يا حي يا قيوم! فأخبروا قتيبة فدمعت عيناه، ثم قال: والذي نفسي بيده، لأصبع محمد بن واسع خير عندي من مائة ألف سيف شهير، ومن مائة ألف شاب طرير، وابتدأت المعركة، وانتصر المسلمون وصلوا صلاة العصر داخل كابل.
إنها الصلاة التي هي الحياة، حياة القلوب، إنها الميثاق، والعهد الذي بين الإنسان وبين الله ألا يتركها، ويوم يتركها أو يتهاون بها، أو لا يصليها مع استطاعته جماعة، فاعلم أنه قد أدركه الخذلان، وأن حبل الله قد انقطع منه، وأن اللعنة قد نالته.
عباد الله: إن من أسباب سعادتنا وحفظ الله لنا، ورغد العيش الذي نعيشه، أن نحافظ على عهد الله في الصلاة، وأن نتواصى بها، يقول لقمان عليه السلام لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17].
فهل من مصل؟
وهل من داع إلى الصلاة في أول وقتها؟
وهل من حريص على تلكم الشعيرة العظيمة، التي أتى بها عليه الصلاة والسلام؟
طعن عمر رضي الله عنه في صلاة الفجر، ففاتته ركعة واحدة عندما غلبه الدم، وحمل على أكتاف الرجال، ووصل إلى بيته، فقال: هل صليت؟ قيل: بقيت عليك ركعة، فقام يصلي فأغمي عليه، ثم عقد الصلاة فأغمي عليه ثم أتم الركعة، فقال: [[الحمد لله الذي أعانني على الصلاة، الله الله في الصلاة، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة]] من حفظ الصلاة حفظه الله ومن ضيع الصلاة ضيعه الله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].
وربما أخرت الصلاة عند بعض الناس في ظرف الاصطياف، وهذا الظرف ربما هذا الرغد والأمن والسكينة تجعل بعض النفوس تلهو وتبتعد عن الله، أو تأخر فريضة الله، بحجة النزهة، أو الزيارة، أو التفرجة، فالله الله يا عباد الله في الصلاة، في وقتها، بخشوعها وخضوعها علَّ الله أن يثتبنا ويحفظنا ويرعانا.
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(88/4)
أحكام يوم الجمعة
الحمد لله، الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.(88/5)
فضل يوم الجمعة
أيها الناس: يوم الجمعة أفضل الأيام عندنا أهل الإسلام، وهو عيد لنا وتاريخ، وله قصة من أعظم القصص، هذا اليوم الذي نعيشه في هذه اللحظات، خلق الله فيه آدم، وأدخله الله الجنة، وأخرجه فيه من الجنة، وفيه تقوم الساعة.
هذا اليوم وهذه الساعات، كانت هي موعد النزال بين موسى وفرعون، يوم الصراع العالمي بين الحق والباطل، يوم نزل موسى بلا إله إلا الله والعصا، ونزل فرعون بالدنيا، ودجاجلة وسحرة الدنيا: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً} [طه:59] ولكن ما هو الواجب علينا في هذا اليوم؟
إن مما يؤسف له أن كثيراً من الناس جعلوا هذا اليوم موسماً للنزهة، وفي طريقهم يضيعون صلاة الجمعة، فلا يحضرون الخطبة، ولا يأدون شعائر الصلاة، ولا يتهيئون لهذا الجمع العظيم، الذي هو من أعظم الأيام في أيام الله.
من الصباح الباكر والملائكة في أبواب المساجد، تسجل الأول فالأول، فإذا دخل الخطيب، طوت الصحف، وأنصتت لسماع الخطبة.
من الصباح والكائنات صائخة مصغية تنتظر الساعة، كما صح به الحديث.
العجماوات -الحيوانات-: الببغاوات الحيتان والأسماك الطيور والزواحف منتظرة قيام الساعة!
لكن هذا الإنسان، يوم يلهو ويلغو وينسى الله، يجعل هذا فسحة في عهده، فيخرج ويترك صلاة الجمعة.
وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على أن المسافر إذا حضر صلاة الجمعة في المدينة فإن عليه أن يحضرها في المسجد، فالمسافر -وهو في حال السفر- إذا نزل بمدينة تقام فيها الجمعة، فإن عليه وجوباً أن يحضر صلاة الجمعة ليستمع الخطبة، ويعيش مع المسلمين مشاعرهم وأحاسيسهم.(88/6)
الاغتسال والطيب ليوم الجمعة
أيها المسلمون: يوم الجمعة، له علينا واجبات:
منها: الاغتسال والطيب، وقد أوجبها بعض أهل العلم والجمهور على سنية الغسل، لماذا؟
لأنك تتهيأ للقاء الله؛ لأنه عيد، وربما أسكتتك المنية في هذا اليوم، وهو يذكرك بيوم العرض الأكبر على الله، واليوم الأكبر يوم القيامة يتجمل له بغير هذا الجمال الظاهري، ليس في يوم القيامة ملاحف ولا مطارف ولا ثياب، ولا زينة ظاهرية: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
فهناك السجل مكشوف، والبدن عاري، والقلب مفتوح، والضمائر معروضة، والتاريخ مفتوح أمام من لا تخفى عليه خافية: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49].
كان عمر رضي الله عنه وأرضاه، ينبه الناس على ذاك اليوم، ويأمرهم بالتهيؤ فيقول: [[حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيؤوا للعرض الأكبر على الله]] أما الظواهر فجميلة، ولكن البواطن لا نعلم ما حالها.
لبسنا واشياً من كل حسن فما سترت ملابسنا الخطايا
وتلك قصورنا بالعمر باتت وتلك قبورنا أضحت صلايا(88/7)
قراءة القرآن يوم الجمعة
أيها المسلمون: من المشاعر الحية يوم الجمعة: كثرة قراءة القرآن، وهل يعقل أن الخطيب يدخل وبعد دقائق يدخل المصلون بعده؟! بل إن المساجد يبقى فيها مجال واسع للناس؛ فإذا سلم الخطيب دخل المتخلفون بلا أجور، يشهدون الصلاة هكذا مع الناس، أين الساعة الأولى والثانية؟
وأين أهل الصفوف الأولى؟
ولا يزال قوم يتقدمون حتى يقدمهم الله {ولا يزال قوم يتأخرون حتى يأخرهم الله}.(88/8)
حرمة البيع بعد النداء الثاني
وبعض الغوغاء الذين لا يفهمون أحكام الله يبيعون ويشترون بعد النداء الثاني ودخول الخطيب، أي بيع لهم؟! لا أربح الله بيعهم، ولا أربح الله تجارتهم!
الملائكة تنصت للاستماع، والسماء مفتوحة لصعود الدعاء، وخطباء الأمة الإسلامية الخالدة على المنابر، وقلوب الناس منفتحة لسماع كلام الخطيب، والسكينة تغشى الناس، والرحمة تحف بهم، والله يباهي بهم في السماء، وهؤلاء اللاهون يبيعون ويشترون، ويجرحون مشاعر المسلمين!
إنه جرح لمشاعر المسلمين أن يباع وأن يشترى بعد النداء الثاني، وإنه لتعد على حرمة صلاة الجمعة، إن أولئك قد نبهوا مراراً وتكراراً، واليوم نخبرهم أنهم قد خالفوا أمر الله، وقد عصوا أوامر رسول الله عليه الصلاة والسلام.(88/9)
الكلام وقت الخطبة
ثم إذا أذن المؤذن فإنما هو الإنصات، بل الجالس ليس له أن يكلم من بجانبه، ولا أن يسلم عليه، ولا أن يحيه، قال بعض العلماء: وليس له بعد دخول الخطيب وبدء الخطبة، أن يكلمه حتى بأمر بمعروف أو نهي عن منكر: {من قال لصاحبه يوم الجمعة والخطيب يخطب: أنصت فقد لغى} وزاد بعضهم: {ومن لغى فلا جمعة له} وفي الصحيح: {من مس الحصى فقد لغى} حتى اللعب بالسواك، أو مشط اللحية، أو تهيئة الغترة أو الحركة، فليس للسامع أن يتدخل في ذلك.
وللخطيب أن يحدث حركات لمصلحة الصلاة والخطبة، فيتكلم مع بعض الناس في أثناء الخطبة، أما المصلون فلا؛ بل هدوء وسكينة وخشوع واطمئنان.(88/10)
من معالم الجمعة
ومن معالم صلاة الجمعة: أن تتطيب لها، وأن تأتي متجملاً متزيناً {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] أما أن يأتي الإنسان بثياب المزرعة أو النوم، أو بدلة التجارة، فهذا دليل على عدم توقير الله عز وجل.
إن من يذهب إلى وجوه الناس وأعيان الناس يتلبس لهم، ونحن في الأعراس والمناسبات نتلبس، والله جميل يحب الجمال، والله هو الذي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يتجمل ويتطيب له، فإنه طيب لا يقبل إلا طيباً.
فيا مسلمون: غسل وسواك وطيب ولباس وخشوع وقراءة عل الله أن يرحمنا وإياكم.
فما هو الجزاء لمن يفعل ذلك؟
أن يكفر الله له ذنوب عشرة أيام، من الجمعة إلى الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام، وهذا وعد من محمد عليه الصلاة والسلام.
ومن معالم الجمعة: قراءة سورة الكهف:
فقد صح عند الدارقطني والبيهقي أن من قرأها، أضيء له نور ليلة الجمعة ويوم الجمعة، وفي بعض الروايات، حتى الجمعة الأخرى والذي نور هذا النور هو النور، ونور ما سواه ليس بنور: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
أيها الناس: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الظالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(88/11)
انتفاضة الشعب الفلسطيني
إن الله عز وجل لا يسلط الأعداء على هذه الأمة إلا بسبب الذنوب والمعاصي، فإذا عصت الأمة ربها انهزمت أمام أعدائها؛ وهذا الذي ركز عليه الشيخ حفظه الله، وذكر أن على الأمة أن تأخذ العبرة والعظة من جهاد الأفغان، وتستفيد من ذلك، وذكر مثالاً رائعاً للغيرة على الإسلام، وهي قصة فتح عمورية، ثم ختم الخطبة بالدعاء.(89/1)
الخطبة الأولى: تسلط الأعداء بسبب الذنوب والمعاصي
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فبلغه آيات المنى وأوصله، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى.
أشهد أن لا إله إلا الله ربٌ أحد فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من عمر بالتوحيد قلبه، وأرضى بالإيمان ربه، وأشهد أن محمداً رسول الله باني دولة الإسلام، ومحطم الأصنام، وهادي الأنام عليه الصلاة والسلام، ورضي الله عن الخليفة السباق أبي بكر الذي سبق إلى الإسلام، وأعطى الإسلام كل شيء يملكه، ورضي الله عن عمر الذي خلع الصلبان عن بيت المقدس يوم فتحه، وعن عثمان ذي النورين جامع القرآن، وعن سيف الله المنتضى العبد المرتضى علي بن أبي طالب، وعن كل صاحب وصديق، وكل مجاهد وولي، وكل داعية وعالم، وكل خير وإمام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وسلم تسليماً، أمَّا بَعْد:
فإن الأمة كلما عصت ربها، وجحدت معروف باريها، وتنكرت لجميله تبارك وتعالى؛ سلط عليها أعداءها، فاستباحوا ديارها، وحطموا كيانها، وهدموا مساجدها، ومزقوا كتابها، وأذلوا شيوخها وأطفالها، وفي الأثر أن الله تبارك وتعالى يقول: {إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني} وهذا هو الذي وقع مع الشرذمة الفاجرة، إسرائيل وما أدراك ما إسرائيل؟ الصهيونية العالمية اليهود أبناء القردة والخنازير، يوم خلت لهم الساحة فطرطروا بأصواتهم، ورفعوا راياتهم، ويوم أن دخلنا معهم المعارك فما دخلت معنا لا إله إلا الله، دخلنا بأعلام مهيضة وبأجنحة مخفوضة، وعدنا والهزيمة شعارنا، والانتكاس دثارنا، لأننا ما قاتلنا اليهود بلا إله إلا الله، قاتلناهم بـ علمانية وقومية وبعثية فهزمونا، والله تعالى ينظر إلى هذه الأمة لأنه صاغها من فطرة عنوانها، وموكبها السجود وسطر لها صحائف من خلود، لا تنتصر إلا أن تكون أمة له، ولا يرتفع رأسها إلا أن تكون له متجهة، فيوم اتجهنا لغيره هزمنا.
وأطفأت شهب الميراج أنجمنا وشمسنا وتحدت نارها الخطب
شجباً ونكراً وتنديداً بغارتها الله كم نددوا يوماً وكم شجبوا
تسعون ألفاً لـ عمورية اتقدوا وللمنجم قالوا إننا الشهب
واليوم تسعون مليوناَ وما بلغوا نضجاً وقد عصر الزيتون والعنب(89/2)
انهزامية الأمة
ثم تتلفت الأمة بعد ثلاثين سنة، وإسرائيل بعددها الضئيل وبجيشها الهزيل وبإمكانياتها الضحلة، وحولها العرب يبربرون ويكبرون ولكن لا تكبير، نسمع قعقعة ولا نرى طعناً، لأن الذي يطعن إنما يطعن بروح الله، والذي يرمي إنما يرمي بسهم الله، والذي يريد أن يقاتل لينتصر إنما يقاتل بلا إله إلا الله.(89/3)
قيام الانتفاضة
وفي هذه الأيام تثور ثائرة القلوب المؤمنة بعد صبر طويل، وبعد مرارة حاسمة قاسية لتتحرك لا إله إلا الله مرة ثانية، وحق على كل مسلم أن يتحرك قلبه، وأن يشتعل ضميره ضد هؤلاء اليهود الذين قتلوا أنبياء الله، وذبحوا رسله ومزقوا كتبه، وكفروا بآياته وألحدوا في بيوته.
وهم الذين نشروا الزنا في العالم، وأسسوا الربا في المعمورة، ما تركوا للإسلام قصراً إلا هدموه، ولا حصناً إلا دمروه، ولا علماً إلا كسروه.
دسوا الغوائل ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالفعل هم الذين اغتالوه؛ فإنه مات رسولاً شهيداً نبياً عليه أفضل الصلاة والسلام، سموه فمات من أثر السم.(89/4)
الشعارات الزائفة
واليوم تتردد الصيحات هنا وهناك، يكبرون ويرددون لا إله إلا الله، جربوا الشعارات في الساحة فسقطت وهزمت، ولو كانت عندهم طائرات وصواريخ ودبابات وأخذوا درساً من جهاد الأفغان، تلك العصبة المؤمنة، التي عارضت ذاك المد الكافر والزحف الفاجر الأحمر، وأين إسرائيل من روسيا؟! روسيا أقوى من إسرائيل، والفترة الزمنية التي عاشها العرب مع إسرائيل خمسة أضعاف التي عاشها الأفغان مع الروس، والمال الذي يملكه العرب يضاعف ملايين المرات الأموال التي يملكها الأفغان، والسلاح الذي بأيدي العرب فتاك لا يملك عشر معشاره الأفغان، لكن الأفغان دخلوا الساحة متوضئين ساجدين مكبرين مهللين:
في فتية من بني الأفغان ما تركت كراتهم للعدا صوتاً ولا صيتا
قوم إذا قابلوا كانوا ملائكة حسناً وإن قاتلوا كانوا عفاريتا(89/5)
النصر حليف الإسلام
فعلم أن الإسلام إذا دخل الساحة سوف ينتصر بإذن الله؛ لأن الله كتب على نفسه فقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40] {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] وجربت الأمة الإسلامية طيلة ثمانية قرون أنها كلما ابتعدت عن الحي القيوم، وعصت ربها، وتمرغت في الشهوات، وأكثرت من المخالفات؛ كلما سلط الله عليها جباراً من أنفسها أو غيرها، فأذلها وداس كرامتها ومحق بركتها.(89/6)
تسليط التتار على المسلمين
في القرن الخامس إلى السادس إلى السابع ابتعدت الأمة الإسلامية عن الواحد الأحد الفرد الصمد، هجرت المساجد، وعطلت نهج الإيمان، واشتغلت بالملهيات والأغنيات الماجنات، والتراهات والسفاهات والسخافات؛ فسلط الله عليها قوماً لا يعرفون الله، أتوا من الصين يزحفون على الصحراء: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18] قوم اسمهم المغول (التتار) دخلوا العالم الإسلامي فاجتاحوه مدينة مدينة، وقرية قرية، يحرقون المدينة بمن فيها، ويهدمون المسجد على من فيه، ويقتلون عباد الله زرافات ووحداناً.
دخلوا بغداد فقتلوا في يوم واحد أربعمائة ألف، ودخلوا إلى مسجد دار السلام فقتلوا فيه خمسة وعشرين ألفاَ سجداً لله، وأتوا إلى دار الحكمة التي فيها آلاف مؤلفة من الكتب فأركبوها على خيولهم، ثم ألقوها في نهر دجلة، ثم مرت الخيول من فوقها.
كان التتري المغولي الواحد يقول للنفر العظيم من المسلمين: اجلسوا هنا وانتظروا لآخذ سلاحاً وأقتلكم به، فيجلسون وينتظرون، فيأتي بشفرة فيذبحهم ذبح الشياه واحداً تلو الآخر؛ لأن من ذلت نفسه بالمعصية أذله الله بمن لا يعرف أن هذه معصية.(89/7)
خروج التتار من ديار المسلمين
واستمر الحال، ودخلوا كثيراً من البلاد، ويئس الناس وقنطوا، وارتفعت أصواتهم لله بالدعاء، وأراد الله أن يعلم الأمة الإسلامية أن النصر قد يأتي على غير أيدي العرب، وأن العرب إنما هم أمة وبشر من خلق الله، إن استقاموا على أمر الله نصرهم، وإن خالفوا دحضهم وهزمهم، فأتى قطز السلجوقي المملوكي، وهو عبد -وكلنا عبيد لله- فدعا الأمة الإسلامية وهو ليس بعربي، فاستجابوا له، والأمة تتحرك بلا إله إلا الله، ولا تحيا إلا على الجهاد:
يا أمة في عمرها لم تحي إلا بالجهاد
كفرت بمجلس أمن من نصب المنايا للعباد
القاتلي الإنسان خابوا ما لهم إلا الرماد
جثث البرايا منهم في كل رابية وواد
فدعا قطز في القاهرة بالجهاد الإسلامي المسلح، وأعلن أن المعركة معركة لا إله إلا الله، فاستجاب له المسلمون، وطمت الكتائب، وماجت الجيوش الإسلامية إلى مصر، فاستعرضها فكانت مهللة مكبرة، خرج الشرك من دمائها ومن عروقها وحل مكانه الإيمان، فالتقى في عين جالوت مع المغول والتتار، وكادت في أول معركة أن تكون خطة عظيمة على الإسلام والمسلمين من الهلاك، فعادوا إلى الله ولم يعودوا إلى شرق ولا إلى غرب، ولا إلى مجلس أمن ولا إلى مجلس خوف! وإنما عادوا إلى الواحد القهار، ورددوا في المعركة: (يا حي يا قيوم! لا إله إلا أنت برحمتك نستغيث).
تقطعت الحبال بهم إلا حبل الله، وأغلقت الأبواب أمامهم إلا باب الله، وهزمت الميمنة والميسرة، وبقي قطز في المقدمة، فلما رأى أن الهزيمة سوف تحصل؛ ألقى الخوذة من على رأسه وداسها برجله وقال: وا إسلاماه، أيهلك ويموت الإسلام؟! وأخذ يردد (وا إسلاماه) ففاضت عيون الجيوش الإسلامية بالدموع، وألقوا الدروع من على أجسامهم، وقاتلوا قتال من يريد الله والدار الآخرة، فهزم الله التتار شر هزيمة وقتلهم وفرقهم شذر مذر.
ودخلت طائفة منهم دمشق فرأت في نفسها القوة فخرج لها شيخ الإسلام ابن تيمية العالم الإمام العبقري النحرير، المجدد القوي، خرج وهو في رمضان، فتناول كأساً من الماء وهو صائم أمام الناس، وأمرهم بالفطر، ثم قال لهم: " والله لتنتصرن! والله لتنتصرن.
فقال له الناس: قل إن شاء الله: قال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً ".
تحقيقاً يقع: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40] وخرجوا إلى شقحب وظهر الحق وبطل كيد الجائرين، ونصر الله الأمة.(89/8)
زحف الصليبيين
ولما انتصروا وعادوا إلى الله، ومكثوا على هذه التوبة والعودة ما يقارب مائة سنة، ثم نسوا ما ذكروا به، وعادوا إلى الغفلات والشهوات والمخالفات، فأدبهم الله تعالى بالصليبيين، الذين لا يعرفون الله طرفة عين، فاجتاحوا بلادهم، فأراد الله أن يوقظهم مرة ثانية، فأتى صلاح الدين الأيوبي الكردي، وهو ليس بعربي ولكنه من الأتراك، عرف الله وعرف طريقه إلى الله، فنادى بالجهاد، وأعلن التضحية؛ فاستثار المسلمون، واستنفر القلوب المؤمنة، ومضوا معه حتى دخل حطين وكانوا صياماً في ذلك اليوم، واستعرض جيشه وكان يقرأ عليهم سورة الأنفال، ودخل المعركة بلا إله إلا الله، فسحق أعداءه سحقاً ما سمع التاريخ بمثله:
الحمد لله زالت دولة الصلب وعز بالكرد دين المصطفى العربي
وارتفعت راية لا إله إلا الله، ودخل القدس وقد أحاطها ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع دخل بجيش يهللون ويكبرون، لا يغشون ولا يخونون ولا يكذبون ولا يزنون، لأن من أراد النصر فعليه أن يرعى وأن يتقي الرب الذي يأتي بالنصر، قال عمر لـ سعد رضي الله عنه وأرضاه: [[يا سعد! اعلم أني أخاف عليكم من المعاصي أخوف من أعدائكم]].(89/9)
أخذ العبرة من جهاد الأفغان
فهل آن للفلسطينيين وللعرب عامة أن يأخذوا من جهاد الأفغان درساً لا ينسى، فإن عندهم الطائرات والصواريخ والدبابات والجيوش؟ هل آن لهم أن يدخلوا بلا إله إلا الله كما دخل الأفغان بلا إله إلا الله، فعفروا وجه الكافر الملحد بالتراب، وأذلوا روسيا الحمراء على الطين، وداسوا كرامتها أمام العالم؟ وحق لهم النصر والشهادة والتمكين في الأرض؛ لأن الأفغان خرجوا عزلاً من القوى إلا من قوة الواحد الأحد، والذي يعتمد على قوته أو على هيئة غير الهيئة الواحدة وهو الله عز وجل؛ فإنه سوف يهزم.
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركانُ
والذي نرجوه من الواحد الأحد أن يحقق على أيدي هذه الانتفاضة المسلمة النصر المتين للأمة الإسلامية، وأن يرد أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين للأمة، وأن يكبح جماح تلك الطغمة الفاجرة؛ اليهود أعداء الله، الذين عاثوا في الأرض فساداً، حينها ترتفع لا إله إلا الله، وتعود كرامة الأمة، ويصلح بالها ويصفو حالها، وترتفع أعلامها، وتعود قائدة للركب خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
ربنا فانصرنا على القوم الكافرين، ربنا ثبت أقدام كل من جاهد في إعلاء كلمتك، وفي تثبيت سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم مكن لعبادك المؤمنين في الأرض، وآتهم رشدهم، وانصرهم على أعدائهم، إنك على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
وصلى على محمد وسلم تسليماً كثيراً.(89/10)
الخطبة الثانية: صورة مشرقة للغيرة على الإسلام
الحمد لله القائل: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ * وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:104 - 106] والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وخيرة النبيين، وإمام المتقين، وقدوة السالكين، وحجة الله على الناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي حاسر أسفاً من أمسك المنصرم
ألإسرائيل تعلو راية في حمى المهد وظل الحرم
أوما كنت إذا الموت اعتدى موجة من لهب أو من دم
رب وا معتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
أتت امرأة مسلمة إلى أرض الروم تبيع وتشتري في تجارة، ووقفت في سوق عمورية -بلد من بلاد الروم- وهي تبيع فأتاها رجل علج كافر، لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فسبها وشتمها، فصاحت ورفعت صوتها تقول: (وا معتصماه!) تنادي الخليفة العباسي المعتصم وهو في قصره في بغداد، فتضاحك الروم حولها في السوق، وقالوا: انتظري المعتصم يأتيك على فرس أبلق لينصرك، فذهب رجل من المسلمين الحاضرين في السوق، ودخل على المعتصم في بغداد في قصر حكمه، وقاله له: رأيت امرأة أهينت كرامتها وسبت وشتمت، فقالت: وا معتصماه! فاستهزءوا بها وبك، فوقف المعتصم قائماً وقال: والله الذي لا إله إلا هو، لا يغشاني غسل من جنابة حتى أطأهم بجيش جرار، ثم نادى بالجهاد، وأعلن لا إله إلا الله، وزحف بجيش قوامه تسعون ألفاً:
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت أجسامهم قبل نضج التين والعنب
فالنصر في شهب الأرماح لا معة بين الخميسين لا في السبعة الشهب
فدخل بهم من مدينة إلى مدينة، كلما دخل مدينة أحرقها وفرَّ أهلها، حتى وصل إلى عمورية، فطوقها واستنزل أهلها أسارى، ودعى بذاك الرجل الذي سب تلك المرأة، وقال للمرأة: "هو مملوك لكِ إن شئت أعتقتيه وإن شئت بعتيه أو أبقيتيه عندك.
قالت: بل أعتقه.
فقال له المعتصم: أنا المعتصم، وهذه المرأة، وهذا فرسي الأبلق، أما رأيتني جئت؟ "
رب وا معتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتمِ
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
واليوم كثير من اليتم والصبايا والأطفال في فلسطين، ينادون: وا إسلاماه!! وا إسلاماه!! فهل من مسلم ينقذ؟! وهل من ذي غيرة يغار مما يرى؟! وهل من متحمس ومخلص يصدق مع الله؟! وهل من متيقظ يرى ماذا يفعل بكتاب الله وبيوته وبعباده؟! إننا نبشر بإذن الله بجهاد إسلامي صحيح في فلسطين.(89/11)
استغلال الإسلام ثم تنحيته جانباً
ولكننا نخاف من مثل هذه الموجات، أن يستغل أهل الإسلام في تثبيت الأمن والاستقرار لغيرهم وقد فعل أتاتورك في تركيا، وأخذ الفتية وغررهم وأسقط الخلافة، وقال: نعم للإسلام لما دخل به، فلما استقل بالحكم قال: لا للإسلام، ودخل تلاميذ ابن باديس في الجزائر ضد فرنسا بالإسلام، وقال لهم أصحابهم: نعم للإسلام، فلم استقر لهم النصر واستتب لهم الأمان قالوا: لا للإسلام، ودخلت باكستان في الإسلام وغامر شبابها، فلما اتحدت واستقلت أخذ محمد علي جنة فقال: لا للإسلام! وكذلك في مصر.
فالذي يحذر منه أن تؤخذ هذه الدماء ثم يقال: لا للإسلام، لكن أملنا في الله عز وجل الواحد القهار؛ أن يعيد لنا مجدنا وكرامتنا وريادتنا وتصدرنا، وأن يجعلنا كما كنا خير أمة أخرجت للناس.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلّ وسلم على حبيبك ونبيك محمد، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين ووحد صفوفهم وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، اللهم وفقنا لكل خير، اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم انصر عبادك المجاهدين في أفغانستان وفي فلسطين وفي كل بقعة من أرضك يا رب العالمين، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم انصرهم على أعدائهم، اللهم وحد كلمتهم واجمع شملهم وسدد سهامهم في نحور أعدائهم.
اللهم وفق أئمتنا وولاة أمورنا لما تحبه وترضاه، واهدهم سبل السلام.
اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا.
وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(89/12)
عناية الله بأوليائه
إن الله جل وعلا قد أيد رسله بحفظه ورعايته، فهو الذي أيد موسى عليه السلام عند لقاء فرعون، وهو الذي أيد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في سلمه وحربه، وكما أيد الله الأنبياء أيد أتباعهم، فقد أيد سبحانه سعد بن أبي وقاص ومن معه حين عبروا النهر لفتح المدائن، وأيد أبو مسلم الخراساني حين ألقى به الأسود العنسي في النار.(90/1)
حفظ الله لأبي قتادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على عبده ورسوله محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومرضاته ومغفرته وعفوه وكرمه وإحسانه، وشكراً شكراً لمن قدمني وأتحفني، وحاول أن يكرمني أكرمه الله، فإنما هو دوحة للندى وللإخاء وللوفاء، وكل إناء بالذي فيه ينضح.
موضوعي في هذه الليلة عنوانه: عناية الله عز وجل بأوليائه، والله يرعى أولياءه عز وجل، ويحميهم ويحرسهم.
يا واهب الآمال أنـ ـت حفظتني ورعيتني
عدا الظلوم علي كي يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
أو إن أجد بالمال فالأموال أنت وهبتني
كان صلى الله عليه وسلم إذا ما ودع أصحابه وحانت لحظة الفراق، وانهمرت الدموع، وتحركت القلوب يقول صلى الله عليه وسلم لصاحبه ولتلميذه الذي يودعه: {أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك} وما أجلها من كلمات! وما أروعها من عبارات! (أستودعك الله التي لا تضيع ودائعه) وهذا ثابت عنه صلى الله عليه وسلم.
والله إذا استودع شيئاً حفظه عز وجل، وانظر ما أجلها من كلمة: أستودعك الله التي لا تضيع ودائعه فالله عز وجل إذا حفظ حفظ، وإذا استودع شيئاً حفظه عز وجل من كرمه وبره ووإحسانه.
يقول أبو قتادة رضي الله عنه فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم: رافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة من غزواته، قال: فسهرنا ليلتنا تلك، فلما أتى الصباح وصيلنا الفجر، رافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته، فنعس صلى الله عليه وسلم وأصابته سنة وراحلته تمشي، نعس بعد ليلة جهيدة سامرة من الفداء والبناء والتضحية لهذه الأمة، ما كان يعرف الفراش الوثير صلى الله عليه وسلم، ما كان يعرف المراقد الناعمة، كان دائماً في الأسفار وعلى التلال وفي الصحراء ليرفع هذه الأمة.
في مجلسنا هذا أدركنا حسنة من حسناته صلى الله عليه وسلم، ولولا الله ثم هو ما جلسنا في هذا المجلس المفعم بذكره عز وجل، وما تقابلت هذه الوجوه النيرة، وهذه الأعلام البينة، وهذه المقل التي ترنو بالدموع عند الوداع إلا بإحسانه صلى الله عليه وسلم وفضله بعد فضل الله.
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
يقول أبو قتادة: فنعس صلى الله عليه وسلم فكاد أن يسقط من على راحلته فدعمته قال: فنعس ثانية فقربت منه فدعمته، ثم نعس ثالثة حتى كاد أن يسقط، قال: فدعمته حتى استوى، فاستيقظ صلى الله عليه وسلم فمد طرفه فرآني فقال: {حفظك الله بما حفظت رسوله} دعوة من محمد صلى الله عليه وسلم -لا كالدعوات- تنفذ وترفع فوق الغمام ويفتح الله لها باب الإجابة: حفظك الله بما حفظت رسوله، وحفظ الله أبا قتادة في حياته فما ضل مع من ضل، وما أخذته فتنة وما اجتاحته مصيبة، بل بقي محفوظاً بحفظ الله عز وجل.
والليلة سوف أعرض عليكم نماذج من حفظ الله لأوليائه عز وجل، فإنه الحافظ على كل شيء والوكيل، قال الله عن نفسه: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] خير حافظاً، قالها يعقوب عليه السلام لابنه الفقيد الوليد الجليل يوسف حينما فقده، مرة؛ يقولون: أكله الذئب، ووالله! ما أكله، ومرة يقولون: ابتلعته الصحراء، ووالله! ما ابتلعته، ومرة يقول القصصيون: لقد ذهب هو غيظاً على إخوانه وعلى أبيه، وما ذهب ولكن ذهب في رعاية الله ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وتلك العصابة المؤمنة التي خرجت من القصور الشاهقة إلى الكهف فحفظهم الله عز وجل ورعاهم، وهكذا يحفظ الله كل من تولاه.(90/2)
موسى عليه السلام ورعاية الله له
ونموذجنا الليلة الذي نعيش معه ببسط من الحديث وباتساع من القول هو موسى عليه السلام، وإذا ذكرت موسى فاذكر الشجاعة، والأمانة، واذكر القوة والعظمة، واذكر الفداء والتضحية، موسى عليه السلام لم يستطع لبني إسرائيل إلا هو لأنه قوي أمين، ولو كان غير موسى لأخفق مع الحيات الرقط، رأى فرعون -عليه لعنة الله- في المنام أن شرارة انطلقت من بيت المقدس وأخذت باتجاهها إلى مصر فأحرقت قصور مصر، فخرج كئيباً ذاك الصباح، فجمع السحرة والكهنة والمشعوذين والمنجمين وعرض عليهم رؤياه، فقالوا بالإجماع: "هذا غلام من بني إسرائيل سوف يهدم مملكتك وينهي ملكك".
فأصدر أمراً صارماً بقتل كل غلام في تلك الفترة الحرجة؛ ليحمي ملكه وليؤيد سلطانه، وبالفعل ذهب جواسيسه وجنوده يقتلون الأبرياء من الأبناء، ويقتلون الغلمان ممن ولد لبني إسرائيل، وأخذت الدماء تسيل، وأخذت الحوامل تجهض، والنفوس ترتفع إلى الله بالشكوى، وفي هذه الفترة ولد موسى عليه السلام، يا ألله! أما تقدم سنة أو تأخر عن هذا القرار الذي صدر من فرعون! يا ألله! من يحمي موسى؟
وما ذكر القرآن أن له أباً وإنما هي أمه المسكينة الوالهة الحزينة تحتضنه في لفائف من القماش لتعرضه للجزارين والجلادين
يا ألله! من يحمي هذا الطفل وقد قتل مئات الأطفال، بل ألوف الأطفال من أمثاله؟(90/3)
عناية الله لموسى من القتل وهو رضيع
ولكن تتدخل عناية الله، اسمعوا إلى القصة وإلى العرض، وإلى الجمال والروعة في عرض القصة! يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: بسم الله الرحمن الرحيم: {طسم} [القصص:1] ومعنى (طسم) أي: هذا القرآن المعجز الذي ينفذ إلى القلوب، ويداخل الأرواح، هو من جنس هذه الأحرف المقطعات وحتى يتضح هذا المعنى فنضرب مثلاً: التراب الذي ندوسه بأقدامنا ونلعب به ونبني به السقوف والمنازل والأسطحة: هو الذي خلقنا منه، فالله خلقنا من هذا التراب ونحن لا نستطيع أن نخلق منه بشراًً، وهذا الكلام الذي نتداول به ونتمازح به هو من جنس هذا الكلام لكن الله جعل منه قرآناً.
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} القصص:2 - 4] لقد علا وتجاوز حده وتكبر وما كان ينبغي له أن يتكبر، {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4] إلى أن قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بعدها بأربع آيات: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] يا الله! {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ} [القصص:7] كان المنطق أن يقال فاحفظيه أو فأمسكيه أو فخبئيه ودسيه ولكن (فَأَلْقِيهِ).
والإنسان إذا خاف على شيء، حفظه والتزمه ومسكه وخبأه ولكن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يسير قصة مكشوفة، وعملية سافرة على فرعون، يحاربه -كما يقال: كذا على المكشوف- بطفل يأتي إليه مباشرة، ثم يكون هذا الطفل هو النقمة والانقلاب، وهو نهاية هذا الملك الظالم الغاشم في الأرض.
فقال الله لها: فألقيه، أي: اتركيه لتتولاه رعاية الله، ودعيه لتتكفله عناية الله، وتخلي عنه فإن الله هو الحافظ عز وجل، من الذي يحفظ الطيور وهي لا تملك ضراً ولا نفعاً؟! من الذي يشبعها؟! من الذي يؤيها؟! من الذي يحفظ السوارح في البراري؟! من الذي يحفظ الوالهين والضائعين واليتامى؟! إنه الله عز وجل.
فألقته أمه تحت رعاية الله وعنايته: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى) والوحي إنما يأتي من الله عز وجل لمن يشاء من عباده، فوثقت بهذا الوحي ولو كان من عند غير الله ما وثقت به أبداً، لو قال لها فرعون وهو يملك القوة والجنود والحرس أن تلقيه والله ما صدقت، ولا آمنت، ولا فعلت، لكن قال الله لها: ألقيه فألقته، وانظروا إلى هذا المشهد: أم والهة حزينة تلقي طفلها في اليم ولا تدعه عند أحد من الناس، إنما تلفه وتلقيه.
في اليم: أي في الماء مباشرة ولن يغرق أبداً؛ لأن من يحفظ الله فإن الله يحفظه ومن يحفظه، الله لا يهلك أبداً.
وألقته في الماء وأخذه نهر النيل الرقراق، ليتجه به ولكن إلى أين يتجه به؟ البساتين كثيرة في مصر والحدائق غناء ولكنه سوف يترك كل الحدائق والبساتين؛ ليدخل حديقة فرعون؛ لأن نظام الصرف والري في مصر استخدم في عهد فرعون حيث يدخل ماء النيل إلى كل بستان، ولكن هذا الطفل الذي يرعاه الله يتخلل تلك البساتين ويتركها وراء ظهره ليدخل بستان فرعون، هذا المغنم وهذا الصيد الذي يريد أن يحصل عليه فرعون يدخل بستانه، ويستبشر الحرس الظلمة الغشمة بهذا الطفل الوديع الذي رأوا أنه من بني إسرائيل، فأخذوه في لفائفة وقدموه لفرعون، وصدر أمر فرعون بقتله ولكن عناية الله تتدخل مرة ثانية لتحفظ هذا الغلام.
يقول الله عز وجل: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] تأتي امرأة فرعون المؤمنة آسية فتقول: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص:9] وانظر إلى الخطاب! وانظر إلى عناية الله! وإلى الأسلوب! تقول لزوجها الظالم الغاشم: هذا قرت عين لي ولك، هذا غلام سوف نربيه لعله أن ينفعنا، وسوف ينفعها -إن شاء الله- ووالله، لقد نفعها موسى عليه السلام، نفعها في الدنيا بأن أسلمت على يديه ونفعها في الآخرة بأن أدخلها الجنة -بإذن الله- أليست هي التي قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]؟ بلى.
سمع فرعون هذا الكلام منها وصدَّقها وترك الطفل وتحت عناية من الله أراد الله عز وجل أن يهيئ له مرضعاً؛ لكن من ينبري لإرضاع هذا الطفل؟ إن الله وعد أم موسى أن يرد هذا الطفل إليها، تأتي المرضعات ويقدم الطفل للنساء فيأبى أن يرضع، ويأبى أن يشرب الحليب ليوفي الله وعده عز وجل، وتتدخل أخت موسى عليها السلام وعليه وعلى أنبياء الله ورسله جميعاً، فتقول: هل أدلكم على من يكفله ويحفظه ويرعاه ويرضعه لكم؟
فيستبشرون، ويعاد الطفل الوديع إلى أمه فترضعه وتربيه في حنان، بل وتأخذ على الإرضاع أجرة وكأنها ليست له بأم!(90/4)
عناية الله لموسى وهو غلام
ثم يعود بعد الإرضاع ليتربى في قصر هذا الظالم الغاشم، قالوا: ولما درج وأصبح على وعي وعلى بصيرة ولكنه لا زال صغيراً؛ ضرب فرعون مرة من المرات كفاً قوياً على جبهته، وهذا الكف إيذان بهدم ملكه، وتدكيك إمبراطوريته؛ وإنهاء استعباده للعباد، كفاً حامياً يعلن القوة والعظمة، ويعلن أنه سوف يزلزل من هذا المكان، وغضب الكافر المارد، وازداد غضبه وتميز غيظاً وأمر بقتل هذا الغلام، ومرة ثانية تتدخل امرأة فرعون عليها السلام، فتقول: هذا لا يعقل ولا يعي شيئاً، أعرض عليه تمرة أو جمرة؛ فإن أخذ التمرة فقد وعى فاقتله، وإن أخذ الجمرة فهو لا يدري بشيء فاتركه.
ففعل وعرض عليه جمرة وتمرة، ولكن عناية الله تحرسه وتحفظه في أساليب لا يدركها البشر، امتدت يده عليه السلام إلى الجمرة فأخذها ووضعها على لسانه وبالفعل لذعت تلك اللسان الرطيب العذب الناطق بالحق، فتركه وأعفاه واستمر هذا الشاب ينمو في هذا القصر تحت رعاية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وحمايته، وينزل من القصر ويتركه، لكن ما ندري ماذا حدث في هذه الفترة؟ لأن القرآن لا يتحدث إلا عن العبر والعظات في القصة، ينزل إلى الشارع يعاشر الناس وليعيش معهم.(90/5)
عناية الله لموسى وهو شاب
ومرة من المرات يأتي حطاب إسرائيلي يعمل عند مصري، فيأتي المصري على كبره وعنجهيته وتغطرسه؛ لأن فرعون وراءه وجدات فرعون وخالاته، فيضرب هذا الإسرائليلي، فيستدعي الإسرائيلي موسى لينقذه ويستصرخه ليغيثه، فيتدخل موسى، وموسى كان قوياً، وأبشركم ببشرى سارة لأهل الجنوب وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {كأنه رجل من أزد شنوءة} وأهل شنوءة هم أهل جبال السروات، فهو أحمر ربعة كما عرض للرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه قوة عظيمة، لكن قوة الجسم لا يغتر بها الناس ما لم توفق قوة القلب، ويقول صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى: {أريته كـ عروة بن مسعود الثقفي} فيتدخل موسى، فيضربه ضربةً قوية فيصرعه، فإذا هو في الأرض جثة هامدة، ويفر، ولما علم فرعون بذلك اجتمع بوزرائه وقرر قتل موسى عليه السلام، ويأتي الرجل الصالح إلى موسى ويقول: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص:20] إنهم قد دبروا لك الدسائس والحيل ليغتالوك {فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] الفرار الفرار والنجاة النجاة! وأترك قصة الرجل الثاني لأنها لا تهمنا، لكن موسى عليه السلام بعد أن قتل هذا وأحس بالذنب {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص:16] قال المفسرون: هنا بلاغة عجيبة، ولطيفة حبيبة إلى النفوس، وهي أن الله ما فصل بين الذنب والمغفرة، فما أن قال موسى: رب اغفرلي، حتى قال الله: فغفر له مباشرة؛ لما توسخ بالخطيئة، وأصبح في طينة من خبال الرذيلة اتجه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فنظفه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] قال: (فَغَفَرَ لَهُ) بدون شروط، ولم يأمره بأن يقدم شيئاً من العبادات، بل غفر له، وهذا من الجزالة والعفو والكرم والعطاء الجزيل الذي لا يدركه أحد.
ولكن إلى أين يتجه؟! المدينة قد أوصدت أبوابها، والحرس وقفوا على الطرق يبحثون عن الناس ويأخذون هوياتهم لعلهم يرون صورة موسى التي أعلنت استخبارات فرعون عن قبضه أم ماذا يفعل؟ لكن خرج في وقت قيلولة على غفلة من الناس، وإذا أردت أن تخرج من المدينة ولا يدركك المرور ولا يحبسون سيارتك فاخرج وقت الظهيرة، فإنهم يقيلون في ذاك الوقت، فخرج عليه السلام في تلك الساعة المباركة الميمونة، ثم يسأل الله أن يهديه إلى مكان آمن لأنه لا يعرف الطريق فقد عاش في المدينة، وأبناء المدينة لا يعرفون الفيافي ولا البوادي ولا الصحاري، عاش في المدينة لا يعرف الطرق ولا يعرف الناس لكن حتى في الطريق يسأل الله الهداية منه عز وجل، يقول: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22] سواء السبيل يعني: الطريق، فوجهه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهداه في الصحراء لا مرشد ولا هادي، إنما يمشي وكأن رجلاً يستدعيه، كأنه يقول: هلمَّ إليَّ؛ لأن الله يحفظه ويحرسه، ومشى يخترق هذه الرمال حتى وصل إلى أناس وإلى وادٍ عظيم الماء، وفيه أناس رعاع وفيه حركة وسكون وهو يريد الاستئناس بهم، والإنسان كما يقولون: مدني بالطبع، وزهاد الصوفية إنما خالفوا طبائعهم؛ لأن أمزجتهم قد وقع فيها شيء من الاضطراب، فتركوا الناس وخرجوا إلى الرهبانية التي ذمها صلى الله عليه وسلم.
أما هو فوفد فإذا الناس يسقون، وإذا بابنتين اثنتين تقفان وتذودان غنمهما عن الماء، تريدان أن يخف الزحام وأن ينتهي هذا الفئام من الناس حتى توردان غنمهما، وفي الأخير جاء عليه السلام بعد أن رأى موقف هاتين البنتين، فأخذ الغنم بقوته وشجاعته وزاحم الرجال ودفعهم -وهو من هو في قوته وصلابته- حتى اسقى تلك الأغنام وأعادها للبنتين، ولكن به من الجوع العظيم مالا يعلم به إلا الله، وبه من الغربة ما لا يدركها إلا الله، وبه حتى من المرض، أورد الإمام أحمد في كتاب الزهد: أن موسى عليه السلام قال لما رجع إلى الماء: يا رب! مريض غريب جائع فقير، قال الله عز وجل: يا موسى! الفقير من لم أكن أنا مغنيه، والمريض من لم أكن أنا طبيبه، والغريب من لم أكن أنا مؤنسه، والجوعان من لم أكن أنا مشبعه.
ولكن القرآن يأتي باختصار لأعظم قضية {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] وتتدخل عناية الله مرة ثانية، وتأتي إحدى البنتين فتخبر أباها بما حدث عند الماء وتعود أدراجها؛ لتطلب هذا الرجل العظيم لتوفيه حقه من أبيها، فسلمت عليه ويقول المفسرون: ما رد عليها، ويدرك من يقرأ القرآن لمحاً -تلميحاً لا تصريحاً- أن الرجل كان على عفة عظيمة، وهكذا فليكن أولياء الله؛ ما نظر إليها ولا فاتحها بل قيل: إنه جعلها وراءه لتدله على الطريق، ووصل إلى بغيته.
قواصد كافور توارك غيره ومن قصد البحر استقل السواقيا
ولما وصل إلى هذا الرجل الصالح سلم عليه، قيل: إنه شعيب، وقيل غيره، ولا يهمنا فإنما يهمنا هو القصة والرجل الصالح، فلما سلم عليه وقص عليه القصص، وأخبره بالأنباء المفجعة، والحوادث الرهيبة، والإرهاب الذي استعمله واستغله فرعون عليه لعنة الله: {قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25] لقد استقر قلبك وارتاح ضميرك وأنت في ولاية الله ورعايته؛ لا تخف أبداً نجوت من القوم الظالمين، ثم بدأ بينهما معاهدة، وكتبت بينهما ورقة صك على أن يرعى لشعيب عليه السلام مدة من الوقت فإن شاء عشر سنوات وإن شاء ثمان سنوات: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:27] أي: زيادة تفضل وكرم وعفو {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27] وفعلاً وفىَّ موسى عليه السلام عشر سنوات، يقول ابن عباس: [[وفىَّ أبرهما وأكرمهما وأحسنهما أحسن العهدين]] ولما انتهت العشر السنوات أخذ زوجته وأخذ طفله وغنمه وشاته، وأعطاه الرجل الصالح عصا، والعصا هذه سوف تقلب الدنيا ظهراً لبطن، وسوف يكون لها حديث في القرآن وسوف يكون لها خبر مع فرعون، وتصارع الطغاة والسحرة، وتقف موقفاً وتتكلم بكلام، وتتحدث بحديث فاسمع، فخرج وساق أغنامه وقطع تلك الفيافي، وانظروا لعناية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنه أعلم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كيف يجعل رسالته.
يتوقف في ليلة من الليالي وقد أظلم عليه الليل لا يجد نوراً، ولا يجد شيئاً يستدفئ به أهله، فتلمع له نار في وادي طوى بجانب الطور، فيستأذن من أهله في رقة، ويقول: سوف آتيكم بقبس لعلكم تصطلون، أو بشهاب من النار، أو لعلي أجد على النار هدى، قيل: إنسان يهديني أو صبر يصبرني، أو شيء يصرف كربتنا في هذه الليلة، ولما قرب من النار، وكما يقولون من اللطائف: أنه كان عنده حذاءين من جلد حمار ميت -والله أعلم- إنما قال له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: اخلع نعليك، المقام مقام قداسة، والمقام مقام عبادة، والمقام مقام إجلال وإكرام، فالنعلان لا تليقان أن تدخلا في هذا البساط القدسي، فخلعهما وتقدم، وبعد لحظة من اللحظات سمع كلاماً ما عهده، كلام الله عز وجل يكلم هذا العبد الذي وضعته أمه في الماء، هذا الذي لذعته النار، وهذا الذي رعى الأغنام، وهذا الذي أتى في الصحراء ضائعاً والهاً لا يحفظ شيئاً، وليس عنده مؤهلات لكن تدركه عناية الله عز وجل {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه:14] ووقعت (لا إله إلا الله) في قلب موسى وتحركه وارتعدت جوارحه، واهتز كيانه، وتذكر من هو الله عز وجل {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه:14] انظر إلى السماء! ترى إبداع الله عز وجل، وانظر إلى الأرض! تجد صنعه سبحانه، وانظر إلى كل شيء!
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
ثم يقول له: (وألق عصاك) فألقى العصا التي كان يرعى بها الغنم، فإذا هي حية تسعى، فتركها وولى مسرعاً هارباً لا يلوي على شيء، يا ألله! العصا التي كنت أذود بها الأغنام تتحول إلى ثعبان، ما هذه الاضطرابات، وهذا التموجات في هذه الليلة؟ ما هذه الأحداث الضخام في هذه الليلة؟ من أنا؟ أنا كنت راعياً أرعى الأغنام، ولكن يعود النداء من الله عز وجل: {أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:10] فأقبل وقال له الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لما أوحى إليه أن ياخذ عصاه ليعيدها سيرتها الأولى، فأخذ عصاه، قيل: وضع يده في لسان الحية، فعادت عصا في يده كسيرتها الأولى أي: عصاه الأولى، ثم آية ثانية قال له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [النمل:12] فأدخلها ثم أخرجها فإذا هي بيضاء من غير سوء، ليس فيها برص ولا بهق، إنما هي بيضاء تلمع كالبدر آية ثانية.
ثم قال له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] وتوقف هل هذا صحيح؟ كنت أرعى الضأن، وكنت أبحث عن سراج في هذه الظلمة، ثم الآن أذهب إلى فرعون، ومن يدخلني على فرعون؟! ومن يتركني أتجاوز إلى قصره، وأدخل إلى بساطه، ثم أدخل إلى ديوانه وأتكلم معه وأنا طريد؟ قتلت رجلاً منهم ولو أمسك بي جواسيسه لقطعوني إرباً إرباً؟! لكن الله يقول له: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] أي: تجاوز الحد وبطر، وأنت رجل الموقف، وأنت رجل الساعة، فما كان رده إلا أن قال: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25] وكأن إنساناً ضربه، يتصور أن إنساناً ضربه في صدره كذا أو أخبره بخبر مفجع أو أنه ألقيت عليه قذيفة، فقال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26] ووالله إنه لأمر صعب، وإنها لمسئولية ضخمة: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه:25 - 27] وتأتي قصة اللسان، وكان موسى ألثغاً لا يجيد ولا يبين حتى يقول فرعون: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] لا يفصح ولا ينطق الحروف من مخارجها، لكن قالوا: إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يعطي الأنبياء والمرسلين بقدر ما يسألونه فقط، فأعطاه الله بياناً لكن ليس شافياً كبيان هارون الذي يختطب ويرج الموقف.
يقول: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27 - 28] يقول: لا أريد إلا أن يفقهوا قولي، ثم يقول: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه:29 - 31] وهناك في آية أخرى يقول: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} [القصص:34] يعني: هو أفصح مني لساناً، ولكن إذا أصبح في الحجة والبيان والتضحية وبسط المقالة تأثر الناس، وهكذا الناس، يقول صلى الله عليه وسلم: {إن أحدكم ربما يكون ألحن بحجته من الآخر، فأقضي له على نحو ما أسمع}.
فلذلك ربما تجد صاحب الحق لا يجيد أن يتكلم يقول: نعم هذه ناقتي ضاعت، ولكن لا أدري متى ضاعت؟ ولا في أي مكان ضاعت؟ ويأتي هذا السارق ويقول: بل هي ناقتي الحمراء الصفراء التي ربيتها في وادينا الفلاني، ومكثت عندي سنتين وأعرف رباطها وزمامها وعفاصها ووكاءها، قال القاضي: خذها، فهذا من البيان، فهارون كان عنده من هذا الشيء العظيم.(90/6)
عناية الله لموسى أمام فرعون
ذهب الاثنان، ولذلك يقول: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً} [طه:29 - 33] لأنه من المعروف أن الاثنين يسبحان أكثر من الواحد وهذا معروف في العدد، والثاني: إذا أعان أخاه على الذكر تذاكرا جميعاً، ولذلك إذا أردت أن تسافر فسافر برفيق، يقول صلى الله عليه وسلم: {الراكب شيطان}.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42] أي: لا تضعفا؛ بل سبحا وهللا وكبرا حتى تتقويان على الدعوة وعلى تنفيذها.
فلما وصلا إلى بساط فرعون واستأذناه ودخلا عليه ومعه جنوده وحاشيته، دعواه إلى الله عز وجل.
فضحك والتفت إلى أصحابه يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الشعراء: {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} [الشعراء:25 - 30] الآيات.
ولذلك يقول اشتكى موسى عليه السلام إلى الله عز وجل من فرعون، يريد رعاية الله وحمايته له وهي الشاهد يقول: {رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] يفرط أي: يستعجل، والمعنى أنه يخاف أنه ما إن يدخل من الباب وهو لا يعرف القضية، ولم يتكلم معه في شيء، فيستعجل في حكمه عليه، أو أن يطغى أي: بعد أن نخبره، قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] وإذا كان الله معك يسمع ويرى، فلا تخف من الدنيا كلها، ولذلك هذه العقيدة هي درجة عالية ما أدركناها، ونسأل الله أن يوصلنا إليها.
يقول صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك} وتتدخل عناية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فيوفقه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ويتكلم معه؛ لكن الخبيث رفض، ويعيده للميدان ثانية، ويجمع سحرته في يوم الجمعة، يطلب أن يحشر الناس ضحى، ويخاف موسى عليه السلام، ويتكرر منه الخوف أيضاً، ويأتي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ويقول: لا تخف، أنا معك أسمعك وأراك، لكن الإنسان بشر والبشر يخاف ويوجل وتتهدم جوارحه، حتى أنك لو حلفت للإنسان أنه لا يأتيه شيء، وتحلف له أيمان القسامة أن الذئب لا يأكله لا يصدقك، يخرج ولكن يبقى في نفسه شيء.
فألقى السحرة عصيهم وكل ما في أيديهم، فإذا العصي حبال تسعى، أصبحت الخيزران تلعب كأنها ثعبان، وهو عليه السلام يصدق بوعد الله عز وجل لكن البشر بشر، فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:67 - 68] سوف تجد من يفشل هذا اليوم وينهزم، فألقى عصاه فأخذت تبتلع كل العصي وكل الحبال، وأخذت هذه الحيات في بطنها، وكبرت ما شاء الله واتجهت إلى منصة فرعون لتبتلعه كذلك، لكن الخبيث يشرد، يقول الحسن البصري رحمه الله: [[كان فرعون طياشاً خفيفاً جباناً لأنه ما يقف إلا على الدعاية.
هلا برزت إلى غزالة في الوغى أم كان قلبك في جناحي طائر
أسد عليَّ وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر
وهكذا إلى نهاية القصة، والله يتولاه إلى آخر مرحلة حتى خرج فرعون يطارده من مصر، واتجه إلى البحر ويا سبحان الله! أين يتجه؟! البحر أمامه، وفرعون وراءه؟ لكن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول له: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ} [الشعراء:63] ويا عجباً لهذه العصا! مرة يضرب بها الغنم، ومرة تصبح حية تسعى، ومرة تلتهم الأشياء، ومرة تشق البحر نصفين؛ وهذه عناية الله تدرك العصا، وانشق البحر، وخرج موسى من الماء، ولا يزال فرعون يحاول إدراك موسى ومن معه، فدخل الجنود، هذا إن شئتم صدقتموه وإن شئتم كذبتموه؛ لكن لا تكذبون ولا تصدقون قولوا: دخل فدخل بجيشه، ولما انتصف في الماء أطبق عليه فهلك هو وجنوده، وانتصر موسى عليه السلام وأصبح رجل الموقف.
من الطفل الذي في اللفائف، والذي ألقي في اليم إلى رجل الموقف ورسول الأمة الناجح في هذه المعركة، هذا ملخص القصة التي تبين أن عناية الله عز وجل تدرك أصحابه وأولياءه وأحبابه في الحياة الدنيا وفي الآخرة.(90/7)
عناية الله بمحمد صلى الله عليه وسلم
ولنعيش مع حبيب القلوب، وقرة العيون، وبهجة النفوس صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه حين قرر كفار مكة في بيت الندوة اغتياله صلى الله عليه وسلم، وأرسلوا شباباً معهم سيوف حادة قاطعة تقتل كل من رأت، وشحذوها بالسم، وأخذ كل شاب معه هذا السيف يهزه كأنه نعجة أو هزبر، ووقفوا عند بابه صلى الله عليه وسلم ينتظرون متى يخرج، وظنوا أن إهراق دمه صلى الله عليه وسلم أمر هين، ويخبره الله في المنام بأن كفار قريش قد طوقوا البيت، ونصبوا كميناً لاغتيالك فاخرج، ولكن ما خرج كأي رجل يخاف ويرتعد، بل خرج مستعلياً ظاهراً شجاعاًَ منتصراً، وأخذ حفنة من التراب يحثوهم على رءوسهم، هذه الثلة من الشباب الذين خرجوا لاستقباله صلى الله عليه وسلم.
فلما خرج وتوجه صلى الله عليه وسلم إلى الغار ودخله، خرج كفار مكة كأنهم مجانين، كأن كل إنسان سرق غنمه محمد صلى الله عليه وسلم أو سرق ناقته، خرجوا بالسيوف يطاردونه لكي يخرج من مكة، انظر إلى هذه العقول السخيفة الضالة الضائعة، لماذا ما تركوه يخرج؟ وهذا من العجب! ألم يقولوا: لا نريد أن يبقى معنا؟ إذاً يخرج، والآن هم يطاردونه، فخرجوا واجتمعوا على الغار الذي كان فيه صلى الله عليه وسلم، يا ألله! من يحميه غير الله عز وجل؟ وأبو بكر معه خائف عليه ولم يكن معه سيف، وإلا فسيقاتل رضي الله عنه، والقضية ليست هي قضية قتال؟ هؤلاء مغتالون سفاكون لو رأوه لمدوا أيديهم بسيوفهم.
فقال صلى الله عليه وسلم: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] انظروا عقيدته صلى الله عليه وسلم.
ومن اللطائف يقولون أنه قيل: أتت العنكبوت فبنت عشها عند الباب وأتت الحمامة فضربت بيتها:
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحمِ
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عالٍ من الأطم
وخرج صلى الله عليه وسلم.
وأتت المحاولة الثالثة لاغتياله وهي محاولة سراقة فإنه لما رآه في الصحراء انطلق بفرسه وسيفه ليدرك الجائزة، وليقبض على محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن خرجت كلمة خافتة ساكنة من الرسول صلى الله عليه وسلم يرفعها إلى الله: {اللهم اكفناه بما شئت} هكذا بلا تكلف، وبلا محاضرة، وبلا خطب، وإنما دعاء خفي إلى مولاه، فكفاه الله، وغاصت قدما الفرس ويداه في الأرض حتى سقط.
وانتصر محمد صلى الله عليه وسلم بعد الاغتيالات والمعاناة، وبعد ما تعرض صلى الله عليه وسلم للكرب العظيمة التي ما تعرض لها إنسانٌ أبداً، فالنصر والتأييد من رعاية الله سبحانه وتعالى.(90/8)
أسباب استجابة الدعاء
تأتي إجابة الدعاء؛ مع أنه من الملاحظ أن إجابة الدعاء ليست بالأمر السهل عند أولياء الله عزوجل، بل له أمور تسوغ إجابة الدعاء، وتجعل هذا الدعاء مجاباً بإذن الله عزوجل، فمنها:
1 - الولاء التام لله عزوجل.
2 - المطعم الحلال.
3 - ألا تدعو بإثمٍ ولا قطيعة رحم.
4 - أن تدعو دعاء المضطر؛ فلا تدعو بقلبٍ لاهٍ غافل.
5 - أن تتحرى أماكن الاستجابة، وأوقاتها التي هي معروفه عند الناس؛ فإذا اجتمعت هذه الشروط فإنه أدعى لحصول الإجابة، وهو الفتح من الله، والبركة والرضوان والاستجابة السريعة.
عمر رضي الله عنه حج آخر حجة، فلما مشى يقود الحجيج إلى عرفات سمع هاتفاً يهتف:
عليك سلام من إمام مبارك وبارك في ذاك الأديم الممزق
فكُلم رضي الله عنه في ذلك، قال: هذا أجلي نعي إليَّ، وكان رضي الله عنه عنده طلاقة وفهم، وهو ملهم حيث يقول صلى الله عليه وسلم: {إن يكن في أمتي محدثون فإنه عمر بن الخطاب} أو كما قال صلى الله عليه وسلم؛ فهو محدث ملهم تأتيه السكينة والإلهام من الله عزوجل، هو ليس بنبي لكن تأتيه الفتوح؛ لصفاء قلبه، وقوة عقيدته رضي الله عنه.
ولما انتهى من المناسك قيل: حصبه رجل من اليمن، ووقعت هذه الرجمة في رأس عمر؛ وكان أصلع فسال الدم، والتفت عمر مرةً ثانية، وقال: [[هذا أجلي نعي إليَّ]].
وبعد أن انتهى من المناسك، وانتهى من عبادة الله، اضطجع على البطحاء؛ قيل: في محصب الحجيج، وقال: [[اللهم قد انتشرت رعيتي، ورق عظمي، ودنا أجلي، اللهم فإني أسألك شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك]] وما أعظم ما طلب! طلب أمرين اثنين يصعب أن يجتمعا: شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك.
قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: [[يا أمير المؤمنين؛ شهادة في سبيل الله، وموت في بلد رسول الله، كيف يكون ذلك؟ الناس يقتلون على حدود الروم، وفي بلاد فارس، وفي القادسية، وفي اليرموك، وليس في المدينة قتال، قال: قد دعوت الله]] انتهى.
رجع رضي الله عنه وأرضاه، وأكرم مثواه، وحشرنا في زمرته وزمرة محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق، وأجلسنا معهم على بساط من نور عند مليك مقتدر لا نخاف ولا نحزن إن شاء الله.
وعاد إلى المدينة، وما إن وصل إلى المدينة إلا ورأى رؤيا كما تعلمون؛ رأى أن ديكاً رومياً نقره، وعرض رؤياه على الناس، وقال: [[لقد أخبرت أسماء بنت عميس فأخبرته بأنه سيقتل]]؛ وبقي متوجساً بين الخوف والرجاء، يرجو رحمة الله ويرغب في لقائه، ويتلهف وهو يدعو أن يقرب دائماً من الموت؛ وهذا من الأدلة على أن الإنسان إذا خاف على نفسه خوفاً زائداً أن يدعو بالموت، وإلا فهو منهيٌ أصلاً، فدعا بهذا الموت:
ومن لقاء الله قد أحبا كان له الله أشد حباً
وعكسه الكاره فالله اسأل رحمته فضلاً ولا تتكل
وامتدت يد آثمة وهو يقرأ في صلاة الفجر؛ في قراءة رزينة، متمكنة.
قتل رضي الله عنه، وارتفعت روحه ليوفي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ما وعده، وما سأله؛ وسؤاله له عزوجل: أن يرزقه شهادةً في سبيله، وموتةً في بلد رسوله.(90/9)
المعجزات يؤيد الله بها أولياءه
ومن تأييد الله ورعايته لأوليائه: المعجزات والكرامات، ومن المعجزات التي شهد بها التاريخ لرسولنا صلى الله عليه وسلم وهي كثيرة حتى قال بعض العلماء: إنها ألف معجزة؛ لكن ما أحصيناها حتى نقول: إنها ألف ولا يهمنا أنها ألف أو أقل أو أكثر، ولكن يهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وقعت له كثير من المعجزات:(90/10)
جذع الشجرة يحن للنبي صلى الله عليه وسلم
يقف مرة صلى الله عليه وسلم أمام أصحابه الكرام البررة الأخيار السفرة، يقف ليتكلم إليهم، ثم يدعو صلى الله عليه وسلم بمنبر له صنع، فيجعل المنبر بجانب الجذع الأول الذي كان يعتمد عليه، وحس هذا الجذع بفراق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، جذعٌ لا ينطق ولا يتكلم، ولا يأكل ولا يشرب، ولا ينفع ولا يضر، لكنه يحن ويبكي على مرأى من الناس ومسمع، يقول جابر: [[والله لقد سمعنا له صوتاً كصوت العشار]] الناقة العشراء إذا فارقت ولدها في الصحراء أخذت تحن، فحنَّ هذا الجذع كحنين هذه العشار، وقالوا: سمعنا له صوتاً كصوت الأطفال، واقترب صلى الله عليه وسلم على مرأى من الناس ومسمع يسكن هذا الجذع، ويضع يده الشريفة العطرة الوقورة على هذا ليقر وليسكن، وسكن؛ لكن
السؤال
لماذا يبكي؟ قالوا: بكى مما فارق من الحكمة التي كان يسمعها، ومن النور الذي كان يتوهج عليه، ومن البركة التي كانت تتغشاه.
وبكى من فراق الحبيب؛ لأنه سوف يخرج من المسجد ويرمى فإذا هو جذع.
وبكى؛ لأنه ما كانت له قيمة حتى أدخل مع محمد صلى الله عليه وسلم، فما ميزته إذاً وهو عودٌ خارج المسجد، حيث دخل بعدها ووقف عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم.(90/11)
مائدة جابر تكفي ألفاً من المسلمين
مرةً ثانية الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل مع الناس في الخندق، وأصابه من الجوع ما الله به عليم، مرة يفكههم صلى الله عليه وسلم ويداعبهم؛ والدعابة للمرهق بلسم شافٍ بإذن الله، والدعابة إذا كانت خفيفة لطيفة شريفة أحيت بعض العروق ونبضت به الدماء.
أتى صلى الله عليه وسلم وزيد بن ثابت يعمل ولكنه رفض، عمل حتى كلَّ وملَّ فألقى مسحاته ورقد، فقال صلى الله عليه وسلم: {قم يا نومان، فاستيقظ الرجل فداعبه صلى الله عليه وسلم}.
وكان من عادة الصحابة حينما اشتغلوا في الخندق أن يجعلوا كل رجلين معاً؛ فرجلٌ يحفر ويملأ الزنبيل بالمسحاه، ويعطيه الآخر ليوصله إلى مكان معلوم، فجعلوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً اسمه عمير؛ وكان عمير رجلاً ضعيفاً لا يستطيع أن يأخذ الأحمال، إنما جعلوه مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذ صلى الله عليه وسلم يسميه يا ظهير؛ يعني: كان اسمه عمير فيناديه بظهير لأن فيه قوة.
في هذه الأثناء بلغ صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الجوع الشيء العظيم، فذهب جابر إلى بيته، ورأى زوجته وقال: [[عندكم طعام؟ قالت: عندنا هذه الداجن -عنز صغيرة لا تساوي عشرين ريالاً، يعني: ضعيفة- قال: وما عندكم شيء؟ قال: عندنا مد من شعير]] تعرفون أن المد من الشعير يكفي اثنين أو ثلاثة بالأكثر، فرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: [[يا رسول الله! تعال أنت وثلاثة معك]] يعني: همس حتى لا يسمع رابع فيدخل في المسألة -فيما لا يعنيه- فوقف جابر، فقال صلى الله عليه وسلم: {يا أهل الخندق! -وأهل الخندق ألف رجل- إن جابر بن عبد الله صنع لكم طعاماً فحيهلا بكم} ووقف جابر حتى كاد أن يسقط، فخرج أمام الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: الله ورسوله أعلم.
أتى وهو وجل خائف، فقال لامرأته: [[دعوت الرسول صلى الله عليه وسلم وثلاثة معه، فدعا أهل الخندق كلهم]] قالت: عليك السكينة والوقار، الله ورسوله أعلم.
وانظروا كيف يكفي ألف رجل عنزة صغيرة ومد شعير.
فأتى صلى الله عليه وسلم، وقال لـ جابر: {قل لأهلك -يعني: امرأتك- أن تترك الطعام حتى آتى} فأتى صلى الله عليه وسلم فتفل على الطعام؛ ويا ألله ما أنبله من تفال! وما أجمله! وما ألذه! وما أعذبه! حتى إن فضلاته صلى الله عليه وسلم يستشفى بها؛ إنها البركة، حتى تفاله، ووضوءه، وظفره، وشعره؛ كل هذه بإذن الله من المكرمات التي لو حصلها الإنسان لطار فرحاً.
يقول عبيدة السلماني كما في صحيح البخاري؛ وعبيدة السلماني هذا من أحد كبار التابعين العظماء، الزهاد العباد: [[والله الذي لا إله إلا هو، لوددت أن عندي شعرة من شعر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدنيا وما فيها]].
فدخل صلى الله عليه وسلم فلما برك على الطعام ودعا، قال: {هلم عشرة عشرة} فلذلك من السنة إذا كان عندك ضيوف عددهم أكثر من عشرة إما عشرين أو ثلاثين؛ أن تجعلهم عشرة عشرة، لا تذهب وتجعل ثلاثين على المائدة، بل اجعل عشرة في كل مائدة.
فأدخلهم صلى الله عليه وسلم عشرة عشرة، فأكلوا حتى أكل الجيش كله، فلما انتهوا من ذلك الطعام، قالت امرأة جابر: [[والله الذي لا إله إلا هو، ما نقص منه قليل ولا كثير]] ويقول جابر: [[إنه بحاله حينما وضعناه]] قال صلى الله عليه وسلم: {أعطوا جيرانكم منه} فلو لم يأت الرسول صلى الله عليه وسلم ما أعطوا الجيران، بل كان الثلاثة سوف يأكلونه، لكن الآن شبع الجيش والجيران، وهذا من بركاته صلى الله عليه وسلم.(90/12)
النبي صلى الله عليه وسلم يرد عين قتادة بعد قلعها
وقتادة بن النعمان رضي الله عنه، يأتي يوم أحد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ضربه رجلٌ كافرٌ ماكرٌ ماردٌ جبار بسيفه، فأوقع عينه على خده حتى سالت إلى لحيته، فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بمنظر ما بعده منظر، يا ألله! لا موتاً فينعى ولا حياة فيرجى، وقف أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: {انظر يا رسول الله، فأخذها صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة وأعادها، وجعلها مكانها ثم مسحها فإذا هي على سيرتها الأولى} لا فيها لا خلل، ولا اضطراب، ولا مرض، ولا ألم.
يقول الأنصار: [[والله لقد رأيناها أجمل من أختها]] حتى أن حفيده ابن ابنه دخل على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ودخل ومعه شباب من الأنصار، قال: من أنتم؟ -يقول عمر بن عبد العزيز في يوم عيد مهرجان في دمشق - قال: أنا ابن فلان، وكان أميراً في البصرة؛ كان يأكل ثلاثة أمداد، وكان عنده كثير من المواشي، أي: مناصب في الدنيا يفتخر بها كل إنسان، قال: وأنت؟ قال: ابن فلان ابن فلان ابن فلان الذي فعل كذا وصنع كذا، قال: وأنت؟ قال: ابن فلان، فلما أتى إلى حفيد قتادة بن النعمان، قال: وأنت ابن من؟ قال:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد
في قصيدة طويلة، فبكى عمر رضي الله عنه بدموعه ما يتكفكفها، قال:
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
أي: يقول: هذه المفاخر ليست حقيقية، فلا تفتخرون عندي، تقولون: كان أبي وزيراً، وكان أبي أميراً، وكان أبي في المكتب الفلاني، لا.
إن كنت صادقاً، فافتخر أنك قدمت للإسلام شيئاً، وأنك فعلت شيئاً، وأنك حققت من العبادة شيئاً، أما هذه كلها لا يفتخر بها، فقد كان كسرى ملكاً، وكان فلان إمبراطوراً، لكنها ليست مفخرة يفتخر بها.
نأتي إلى الكرامات:(90/13)
الكرامات تأييد وتشجيع من الله للعبد
الكرامات جمع كرامة أثبتها أهل السنة والجماعة، لكن متى يحصل الإنسان على الكرامة؟
تأتي الكرامة إذا بلغ الإنسان في طورين اثنين:
يقولون: من بلغ في التصفية والعبادة درجة عالية، قال سبحانه: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32] ومرة ثانية: إذا كان إيمانه مزعزعاً، يكاد ينهار، فتأتيه الكرامة فترقيه درجة حتى توصله إلى عباد الله الصالحين، فهذه لها مرتبتان، ولذلك من رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام، فلا يظن أنه من الصحابة، فيعتريه عجب بنفسه واحتقار للآخرين، فيقول: ما هذا! الناس ضالون في الحياة الدنيا وفي الآخرة؛ لأنهم لا يرون النبي صلى الله عليه وسلم في المنام.
ولذلك يقولون: العوام يخشى عليهم إذا رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام أن يخرجوا الصباح، ويقولون: الحمد لله رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام يحسب أنه قد انتهى، وهذه فقط تشجيع له، وتأييد، ولذلك يقول العلماء: الكرامة تأييد وتشجيع، وهي كجائزة وكهدية وقربى وعطية للعبد.(90/14)
كرامة وقعت لأيوب السختياني
وقعت كرامات لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لتدركوا هداية ورعاية الله لهم، وقبلها لا بد أن أقدم قصة لـ أيوب بن أبي تميمة السختياني؛ وأيوب هذا رحمه الله عليكم بقراءة سيرته، هو والصفوة المختارة من عباد الله وأوليائه، ومجاهدو الأمة وعبادها.
كان الحسن: [[يقول عنه: إذا رأيت أيوب السختياني تذكرت شباب الجنة]] ويقول: [[سيد فتيان البصرة أيوب السختياني]].
كان يجلس يحدث الناس في المسجد فيبكي، فيأتي بعمامته يلف على عينيه ويمسحها، ويقول: [[ما أشد الزكام]] لايريد أن يعرف الناس أنه بكى.
وكان يخرج إلى السوق إذا اجتمع الناس، فإذا رأوه هللوا وكبروا وذكروا الآخرة من نور وجهه.
وقد روي أن أيوب السختياني ذهب إلى مكة فسأله رجل: [[يا فلان! هل الكرامات حقيقة لأولياء الله؟ قال: نعم.
قال: وما دليلك؟ قال: انظر هل بجانبنا أحد؟ قال: لا.
قال: فنظر الرجل فما بجانبهم أحد، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم ووضع يده في الصخرة، قال: فانسكب منها الماء فإذا هو يجري، قال: اشرب، فشرب، قال: ثم شرب أيوب، ثم قال: بسم الله؛ يعني: فرد يده ثانية على الصخرة فعادت]].
فهذه الكرامات تكون لمن بلغ في التصفية درجة عالية.(90/15)
كرامة وقعت للعلاء الحضرمي
خرج العلاء الحضرمي؛ أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولما أصبح في الربع الخالي؛ توسط بجيشه يريد البحرين، لكنه ضل وأضاع الطريق، ذهب يميناً وشمالاً وأماماً وخلفاً وفي الأخير ضاع، وأتاهم من الظمأ ما لا يعلمه إلا الله، فقال له أصحابه: [[يا علاء! إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وعدنا خيراً في أمة محمد، ولا يمكن أن نهلك]] سبحان الله! أيهلكهم ضمأ فمن يُشرِب إذن؟ ويهلكون جوعاً، فمن يشبع إذن؟! ويضيعون إذاً فمن يحفظ إذن؟
فقالوا: [[ادع الله عز وجل، فتوجه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في كلمات مختصرة، يقول: يا حكيم يا عليم! يا علي يا عظيم! اللهم أغثنا، قالوا: فوالله، ما انتهى من كلامه إلا وجاءت سحابة مباشرة فتوسطت الجيش، وغطت سماء الجيش، ثم أرعدت وأمطرت، حتى سقوا، وشربوا، وغسلوا، وتوضئوا ثم ارتفعت]] انظروا إلى هذه الكرامة العظيمة التي ما بعدها كرامة! ولو رآها أهل موسكو لأسلموا ولآمنوا ولصلوا صلاة الضحى ذاك اليوم، لكن حكمة بالغة وقدرة عظيمة، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان:43].(90/16)
خالد بن الوليد يشرب السم
تعرفون أبا سليمان رضي الله عنه من هو؟ وقد سرد سيرته أحد المؤرخين، وقال: أتى رومي فأراد أن يسمم خالداً، فناوله كوباً فيه ماء وفيه سم، وناوله الماء، فأتى رجل من جند خالد فقال: إن هذا الماء مسموم، قال خالد: [[أسم الماء؟ قالوا: نعم.
قال: فإني أتوكل على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، حسبي الله ونعم الوكيل، بسم الله! فشربه فما أتى له شيء]] لأن الله رعاه، وحماه، وأيده، وتولاه.(90/17)
سعد بن أبي وقاص يتجاوز النهر بالخيل
يقولون: إن سعداً رضي الله عنه حال نهرٌ بين جيشه وجيش فارس، وأراد رضي الله عنه أن يدخل جيش فارس ويتجاوز الجسور، فقطعوا الجسور، فاضطرب رضي الله عنه هل تتوقف المعركة أو لا؟! وفي الأخير ألهمه الله عزوجل وقال: [[يا خيل الله! اركبي]] وسمع الخيول سعد بن أبي وقاص، والخيول لا تفهم كلام الناس، لكن لما جعل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيهم من البركة، ولما وهب لهم من الكرامة، أسمع الخيول صوت سعد؛ فتوجهت الخيول وكأنها مأمورة تقتحم بأصحابها النهر، وجمَّد الله النهر فلا هو بالثلج فتقع من عليه، ولا هو بالماء فتغرق فيه، ولكن جعله الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كالتراب تمشي بحكمة بالغة حتى نفذ الجيش إلى الجهة الأخرى، ولما انتهوا إلى الناحية الأخرى قال الرجل منهم: أتفتقدون شيئاً؟ قال رجل: أفقد المخلاة؛ يعني: المخلاة أظن فيها خبز كثير، قال: عد إليها، فعاد إليها فإذا هي متعلقة بشجرة في داخل النهر، فأخذها وعاد، هذه كلها من رعاية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وحسن توفيقه لأوليائه.(90/18)
برداً وسلاماً على أبي مسلم الخولاني
أبو مسلم الخولاني والأسود العنسي.
تعلمون أن كثيراً ممن طمس الله على قلوبهم يتفننون في تعذيب الناس، ويحدثون من الأساليب في تعذيب البشر ما لا يعلمه إلا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وكان أبو مسلم الخولاني؛ لا يفتر من ذكر الله عزوجل.
ولذلك ورد في الأثر: [[اذكر الله حتى يقول الناس: إنك مجنون، واذكر الله حتى يقال: إنك منافق]] وفي رواية: [[اذكر الله حتى يقول المراءون: إنكم تنافقون]] ولذلك تجد الإنسان الذاكر لله إذا ذكر الله، قالوا: يمكن أنه يحسب ما معه من أموال أو ما عنده من مكاتب عقارية أو سيارات، وهو يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
دخل هذا التابعي على الأسود العنسي، فقال له الأسود العنسي: أتؤمن بي؟ يعني: إنه رسول.
قال: لا.
قال: أتؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: بأبي هو وأمي، نعم أؤمن به، قال: والله لأقتلنك قتلة ما قتلها أحدٌ قبلي، يظن أن فرعون ما تقدم عليه.
فجمعوا له حطباً حتى أسعروا هذه النار، ثم أتى الجنود فسحبوه بيده ليلقوه، فلما اقترب من النار قال كلمة إبراهيم عليه السلام: حسبي الله ونعم الوكيل، ثم القوه فيها، فجعلها الله برداً وسلاماً عليه، خرج من النار، وأخبروا الأسود العنسي، وقالوا: ألقيناه في النار فطفأت، قال: أخرجوه، هذا أكبر سحرة اليمن، أخرجوه حتى لا يفسد علينا الناس.
فخرج رضي الله عنه وتوجه إلى المدينة.
سمع عمر بن الخطاب في خلافة أبي بكر رضي الله عنه بشأن أبي مسلم، فقال: تصدوا لوفود اليمن، تصدوا واسألوا الركبان أفيكم فلان؟ فسألوا عنه حتى يئسوا منه، وفي يوم من الأيام دخل المسجد على وقت غفلة فقام يصلي، وخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورآه الناس، ورأى هذا الرجل الخاشع المتبتل في صلاته إلى الله، لأن الإنسان يخبرك من صلاته، ولذلك يقول المحدثون: كنا ننظر إلى الشخص فإن رأينا في صلاته حسناً وطمأنينة وخشوعاً كتبنا عنه، وإن رأينا فيه اضطراباً واعوجاجاً تركناه، فقام عمر بن الخطاب فلما انتهى، قال: أظن ذاك الرجل أنه أبو مسلم الخولاني، وقد كان لا يعرفه عمر رضي الله عنه، لكن رأى سكينة، فلما سلم على عمر قال: [[أأنت أبو مسلم؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فعانقه طويلاً فذهب به إلى أبي بكر الصديق وأجلسه بينه وبين أبي بكر، وقال عمر: الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن عليه السلام]].
نماذج عظيمة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلها تثبت حفظ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ورعايته وولايته لأوليائه، ومن الذي يحفظ الإنسان إذا لم يحفظه الله عزوجل؟!!
ولذلك يقال عند النوم: اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك.
وإذا حفظت الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حفظك أبداً.(90/19)
الأمور التي يحفظ الله بها العبد
من الحفظ للإنسان أمور، سوف أذكرها ليتحفظها الإنسان، وتكون له عصمة -بإذن الله- أبداً في يومه، ولا يخاف أبداً، فمن الأمور التي تحفظ الإنسان:(90/20)
الوضوء من الأمور التي بها يحفظ العبد
الوضوء هو سلاح العبد، يقول صلى الله عليه وسلم: {الوضوء سلاح المؤمن} وإذا توضأ الإنسان عصمه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من الشكوك، والشبهات، والأرواح الخبيثة التي تخالطه، والعيون الغادرة الماكرة الحاسدة، والنقمات بإذن الله.(90/21)
أذكار الصباح والمساء من الأمور التي بها يحفظ العبد
والحفظ الثاني: الأوراد والأذكار، وسوف أعرض عليكم أوراداً وأسأل الله أن يعيننا وإياكم على الذكر بها دائماً صباح مساء.
منها: آية الكرسي؛ وآية الكرسي لها حديث عجيب عند العابدين، ولها جلالة عجيبة عند الموحدين لا يعرفها إلا من يداوم عليها؛ لذلك يقول ابن القيم: إني لأسأل الله عزوجل أن يمهل في عمري حتى أكتب مجلدات في تفسير وتخريج كنوز هذه الآية؛ يعني: آية الكرسي، لكن أخذته المنية عليه رحمة الله، وتعلمون ما جاء فيها من فضل وما تعصم به العبد في يومه وليلته.
أيضاً خواتيم سورة البقرة؛ يقول علي رضي الله عنه: [[عجبت لمسلم له عقل ينام ولا يقرأ خواتيم سورة البقرة]].
ومن الحروز: المعوذات، يقول صلى الله عليه وسلم لـ عقبة بن عامر: {قل، قلت: ما أقول يا رسول الله؟ قال: قل، قلت: ما أقول؟ قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ثلاث مرات حين تصبح، وحين تمسي يكفينك من كل شيء} يعني: من الأذكار والأوراد.
والأمر الرابع: قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير، في الصباح مائة وفي المساء مائة، من قالها فله أربعة أشياء من الله وعد غير منقوص ولا مردود، وغير منسي بإذن الله، هذا ثابت في الصحاح: {تكتب له مائة حسنة، وتكفر عنه مائة سيئة، وتكون له عدل عشر رقاب، وتكون له حرز من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت يوم القيامة أحد بمثل ما جاء به إلا رجل عمل بمثله أو زاد عليه}.(90/22)
قراءة القرآن أعظم الأمور التي يحفظ الله بها العبد
ومن الحروز التي جربت، والتي هي أنفع الحروز: قراءة كتاب الله عزوجل، ولا إله إلا الله! كيف يعيش الإنسان في هذه الحياة بلا قرآن؟! وكيف يستطيع أن يعيش يومه وليله بلا قرآن؟! هذا المصحف يجعل الإنسان كالثوب الذي عليه، يموت ويحيا مع المصحف، ما معك في الدنيا إلا القرآن، وما معك شيخ وأستاذ إلا القرآن.
كان أبو بكر رضي الله عنه إذا أراد أن ينزل السوق، قرأ قليلاً في القرآن ثم أطبق صحفاً عنده ورفعها ونزل، ثم إذا أتى من السوق فتحها.
ويقول الذهبي: يروى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان مصحفه في البيت، فإذا دخل توضأ ونشر المصحف فقرأ فيه.
يقول نافع: [[ما كان شغل ابن عمر في بيته إلا الوضوء والمصحف]].
متى ينتهي الإنسان من كتب الدنيا؟! متى ينتهي من مجلات الدنيا؟! متى ينتهي من جرائد الدنيا؟! لا يتركها أبداً لكن يترك كتاب الله عز وجل!
ما كان المحدثون كـ حماد بن سلمة يقرأ حديثاً واحداً حتى يقرأ مائة آية.
ولذلك فإن القرآن هو حرز الحروز، وهو الحافظ بإذن الله في الأزمات، والنكبات، والحزن، والهم، والغم، وليس مثله شيء من الحروز.(90/23)
الصلاة في جوف الليل من الأمور التي يحفظ الله بها العبد
ومن أحسن ما ينفع الإنسان ويشرح صدره الصلاة في جوف الليل، ولو ركعتين في خمس دقائق أو عشر دقائق، ولو قبل الأذان بربع ساعة أو بثلث ساعة، يقوم في تلك الساعة الساكنة الهادئة حينما يتنزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في السماء الدنيا، الناس نيام، فلا لغو ولا ضجة، فيقول الله عزوجل: {هل من داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟} ما ظنك لو سأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، يقول: {هل من مستغفر فأغفر له؟} وأنت تقول: اللهم اغفر لي، {هل من داع فأستجيب له؟} وأنت تقول: اللهم أجبني، اللهم افتح علي.
هذه من أعظم الفتوح، لكن لما سهرنا في أول الليل ضيعنا آخر الليل، والموفق من وفقه الله تعالى.
نسأل الله أن يوفقنا فيما نستقبل من أعمارنا.(90/24)
فعل النوافل من الأمور التي يحفظ الله بها العبد
ومن الحروز: التزود بالنوافل، وأنا أحجج بنفسي أمامكم، قبل أن أوصيكم أوصي نفسي، لابد للإنسان أن يتزود كثيراً، لأن الله عزوجل يقول: {ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته؛ كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به} فالنوافل النوافل.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(90/25)
من أخبار النساء
النساء إذا اجتمعن تكلمن عن الرجال وهذا شيء دائم فيهن، وقد ذكر الشيخ حديث أم زرع المتفق عليه والذي ترويه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهي قصة إحدى عشر امرأة اجتمعن في الجاهلية، وتعاهدن على وصف أزواجهن بما فيهم، فقصت عائشة رضي الله عنها هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستمع إليها تواضعاً.(91/1)
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، الحمد لله ما اجتمع الصالحون، وما تواصل الأخيار الأبرار المفلحون، والحمد لله ما ذكر إلههم الذاكرون، والحمد لله ما غفل عن ربهم الغافلون، وصلى الله وسلم على المعلم الأول، الذي أتى وقال الله له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1].
وأتى بـ {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) [القلم:1].
الذين تكلم للناس فكان أفصح الناس وهو ما قرأ ولا كتب!!
كفاك باليتم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم
وعلى آله مصابيح الدجى، وغيوث الندى، وليوث الوغى، ومن سار على منهجهم إلى يوم الدين، ثم اعلموا -بارك الله فيكم- أن عنوان هذا الدرس من أخبار النساء.
وللنساء أخبار وعجائب، وسوف نأخذ هذه الأخبار من ثقة، من عائشة رضي الله عنها، من أم المؤمنين، من الصديقة بنت الصديق، من الطاهرة بنت الطاهر، من المبرأة من فوق سبع سموات، نأخذ هذه الأخبار -أخبار النساء- من بيت محمد عليه الصلاة والسلام، من البيت الذي أسس على التقوى، والذي شعت منه أنوار القداسة، وأنوار الرسالة والهداية، والذي صدع منه النور حتى غطى العالم، والذي وصفه حاله أنه بيتٌ من طين:
كفاك عن كل قصرٍ شهاقٍ عمدٍ بيت من الطين أو كهف من العلم
تبني الفضائل أبراجاً مشيدة نصب الخيام التي من أروع الخيم
بيت من الطين، إذا نام فيه عليه الصلاة والسلام مس رأسه طرف البيت ورجلاه الطرف الآخر، أما بساطه فمن سعف النخل يؤثر في جنب المصطفى عليه الصلاة والسلام، وسقفه من سعف النخل، ومصابيحه إنها إضاءات من أعوادٍ كانت توقد في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن يكفي أن محمداً صلى الله عليه وسلم في البيت.
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
وإني لأستغشي وما بي غشاوة لعل خيالاً منك يلقى خياليا
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
نورٌ بعثه الله جلس في هذا البيت؛ فاسمع إلى الخبر، كانت عائشة تجلس معه رضي الله عنها وأرضاها، ووجد عليه الصلاة والسلام فراغاً في برنامجه اليومي، وجد ساعة زمنية وكان يلاطف نساءه ويمازحهن، ويسأل عن أخبارهن، فهذا الدرس اليوم هي تلك الساعة أنقلها لكم، وقد نقلها الإمام البخاري ومسلم والطبراني، أنا سوف أعرضها لكم كما عرضتها أم المؤمنين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقته عبادة، ووقته رسالة وجهاد، وتضحية وبذل وعطاء، لكن وجد ساعة يرتاح فيها، فجلس مع عائشة يسألها عن الأخبار، وهو حديث أم زرع، وسبب هذا الحديث عند بعض العلماء أن الرسول عليه الصلاة والسلام سألها: هل ترضى بمعاملته صلى الله عليه وسلم؟
وكانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها فصيحة، كانت تعرف أخبار الجاهلية، قال بعض الرواة: كانت تحفظ ثمانية عشر ألف بيت شعر، هي راوية للأشعار، وهي كأبيها أبي بكر الصديق من أفصح العرب، وكان يعرف أنساب العرب، وإذا أتى إلى أبي بكر رجل قال: من أين أنت؟ قال: من غطفان قال: من أي بيوت غطفان؟ قال: من فزارة قال: من أي فزارة؟ حتى يوصله إلى بيته فهو نسابة وبنته نسابة، ومن يشابه أبه فما ظلم.
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا
وكان صلى الله عليه وسلم يحب عائشة حباً جماً ويقول كما في الصحيح: {فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام} وهي زوجته في الجنة، فسمع حديثها، وحديث المرأة الدينة العاقلة كما قال ابن الرومي في زوجته:
وحديثها السحر الحلال لو انه لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ود المحدث أنها لم توجز
سلسٌ يسلي القلب في غمراته بمطرزٍ عذبٍ وغير مطرز(91/2)
حديث أم زرع
الآن يستمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محاضرة كاملة عن أخبار نساء الجاهلية، وسوف يعلق في آخر الخبر، ويجلس إمام البشرية، وهادي الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية، متواضعاً أما فتاة صغيرة السن فتية، لكنه أوتي خلقاً عظيماً يقول الله فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
وهذا الحديث من كلام عائشة، تقول: جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً.
فليس معهن رجال، وهذا مجلس للنساء خاصة، وعددهن إحدى عشرة امرأة، وسوف تتكلم كل امرأة بوصف زوجها، تصفه لأخواتها وزميلاتها وقريناتها، واسمع إلى الداهية الدهياء، بعضهن ستمدح، وبعضهن ستذم، وبعضهن ستتوسط، يقول ابن حجر: وغالب أحاديث النساء إذا خلون تكون عن الرجال، وغالب أحاديث الرجال عن المعيشة والمال، وهذا أمرٌ معلوم إلا في النادر، كان لكل واحدة منهن زوج، وتبدأ الأولى، والذي يستمع لهذه الأخبار محمد عليه الصلاة والسلام، والتي تتكلم عائشة، وكانت تحفظ القصص بالنقل، ولذلك تأتي بها بالحروف، وهي من أحفظ الناس، ومن علماء الصحابة وكان يعود إليها الصحابة في كثير من القضايا الفقهية والحديثية، فهي فقيهة مجتهدة اجتهاداً مطلقاً رضي الله عنها وأرضاها.(91/3)
الأولى: زوجها كلحم جمل غث على رأس جبل وعر
بدأن بالدور، فقالت الأولى: {زوجي لحم جملٍ غثٍ، على رأس جبلٍ وعر، لا سهلٍ فيرتقى ولا سمينٍ فينتقل} وصفت زوجها وصفاً سيئاً رديئاً تقول: مثل لحم الجمل، ولحم الجمل أردأ اللحوم، وهو يثير نزلة معوية عند كثيرٍ من الناس، فتقول: انظروا للحم الجمل هو مثله، ليس كلحم الضأن أو كلحم الأرانب أو كلحم الدجاج، إنما هو كلحم الجمل، يقولون: لحم الجمل لا يعصد فيصبح ثريداً، ولا يخلط فيصبح مرقاً، وإنما يضطر إليه اضطراراً ولو أن بعض العرب تشرف به وتأخذه، وليته لحم جمل وكفى، قالت: غث، والغث الهزيل، كجملٍ قحمٍ ساق به أهله ثم ذبحوه فانظر إلى لحمه على عظامه، قالوا: قليل الخير إن أتى عبس، وإن خرج أفلس، وإن دخل ضرب، وإن قام شجب، لا يأتي بخير، ولا يذهب بخير، كَلٌّ على مولاه، صخابٌ لا يقيم ديناً، ولا يحترم مروءة، وهذا مثل: قليل البركة في البيت الذي لا بركة فيه من دخوله على أهله، فلا يربيهم على شعائر الإسلام، وإنما يترك الحبل على الغارب بالملاهي والأغاني واللعب واللهو: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام:70].
قالت: {على رأس جبلٍ وعر} على أنه لحم جمل وهزيل فهو على رأس جبل، والجبل ليته سهل، لكنه وعر وصعب {لا سهلٍ فيرتقى، ولا سمينٍ فينتقل} عبرت أنه شديد بالمال يعني: عنده سبعة أقفال، ومفتاحه في غترته، ولا يفتح حتى يقرأ آية الكرسي، وإذا فتح قلل العطاء، ويسأل عن أعواد الكبريت، وعما دخل وعما خرج، والسمن عنده بالملعقة، والدقيق بالدانق، فهو كأبي الدوانيق أبي جعفر المنصور، يقولون: أبو جعفر المنصور كان يحاسب مواليه على الثياب التي يلبسونها، وعلى الدراهم التي يأخذونها، وكانت في خزينته آلاف الملايين من الدنانير، تبني مدناً، ولذلك أبناؤه وبني أبنائه بنوا مدناً، على كل حال قالوا: عرف بالشراسة، وقالوا: قليل الخير، لا يتبسم إلا نادراً، بعض الناس لا يتبسم في ستة أشهر إلا مرة، ويتبسم في السنة مرة أو مرتين أو يخطئ أحياناً فيتبسم، وهذا خلاف نهج محمد عليه الصلاة والسلام {سئلت عائشة عن خلقه عليه الصلاة والسلام إذا دخل فقالت: كان ضحاكاً بساماً} ونحن لا نغير من طبائع الناس، ولكن على الإنسان أن يتوازن، ولا نقول: إن الإنسان معصوم ولكنه قد يهذب من حاله ومن روحه مع أهله قليلاً قليلاً، لكن اسمعوا لأخبار النساء وأقول لأحدكم: لا تستبعد أن امرأتك تقول في غيبتك كهذا الكلام، المرأة لا بد أن تتكلم في زوجها، ولو قالت: إنها لا تذكر خبره، بل تتكلم وتترجم له وتحاضر عنه الليل والنهار.
قالت: {لا سهلٍ فيرتقى، ولا سمينٌ فينتقل} هذا لم يكن له جانب حسن فيعذر به، أبو سفيان يقولون: كان حسن الخلق لكنه شحيح على أهله، ولذلك شكته هند بنت عتبة، بنت الملأ الأشراف من قريش {أتت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجلٌ شحيح، فهل آخذ من ماله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف} فللمرأة إذا منعها زوجها من النفقة أو العطاء، أو من اللباس، أو النفقة الضرورية، أو منعها من أن تعطي أبناءها ما يذهبون به إلى المدرسة، أو الملابس، أو الطعام، فلها أن تأخذ من ماله بدون علمه لكن بالمعروف، لا تفسد ماله بل تأخذ قدر الحاجة ولا تزيد عليها، ولا تستأذنه ولا تخبره؛ لأن هذا رخصة من محمد عليه الصلاة والسلام، وإذا رخص صلى الله عليه وسلم فلا نعود لأحدٍ غيره:
خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحلِ
انتهت الأولى بكلمة واحدة.(91/4)
الثانية لا تبث خبر زوجها لفظاعة أخباره
{قالت الثانية: زوجي لا أبث خبره} تقول: أستره لكنها ما سترته، وهذه مقدمة، تقول: أنا أستر زوجي لو أخبركم بزوجي كان أمراً عجيباً {لا أبث خبره، إن أذكره أذكر عجره وبجره} تقول: اتركوني لا تفتحوا طريقاً لي على زوجي فأتكلم بكلام تصم منه الآذان، أنا لا أريد أن أذكره لو ذكرته أتيت عليه، فاتركوني وخبره وقولها: عجره وبجره، العجر في الأصل التورم في الظهر، والبجر: التورم بالبطن، وعلي بن أبي طالب ذكر ذلك في خطبة صحيحة عنه، وقف على المنبر بعد معركة الجمل، قال: [[إلى الله أشكو عجري وبجري]] بعد أن قتل طلحة وقتل الزبير وقتل كثير من الصحابة، ووقعوا في كثير من المسائل حزن علي رضي الله عنه وأتته هموم في صدره، قال على المنبر وهو حزين يتمنى لقاء الله: [[إلى الله أشكو عجري وبجري]] والمعنى: همومي وأحزاني، وما في نفسي، فتقول هذه المرأة: أنا إذا تكلمت نثرت عليكم من أخباره وأعلامه وأسراره ما الله به عليم، فاتركوا الأمر سراً ولا تسألوني عن شيء، إني إن أذكره أذكر عجره وبجره، وانتهت إلى هذا الكلام واللبيب بالإشارة يفهم، ويقولون: هذا من التكنية والتعريض، كما فعل حسان في شعره فكان يعرض بالكفار تعريضا، وقال الحطيئة يهجو الزبرقان بن بدر:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
محتمل عند العرب يقولون: اترك المكارم لا ترحل لبغيتها قد أتت المكارم إليك، وأنت الطاعم تطعم غيرك وتكسوه، فذهب الزبرقان عرف أن الرجل هجاه هجاء ما بعده هجاء، فذهب إلى عمر قال: يا أمير المؤمنين! انقذني من الحطيئة فقد تكلم علي؟ قال: ماذا قال لك؟ قال: يقول لي:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
عمر فصيح، عربي قح، يعرف الكتاب والسنة والشعر، لكنه قال: ما هجاك، يريد عمر أن يصلح قال: يا أمير المؤمنين! لقد هجاني.
قال: لا.
ما هجاك يقول: أنت الطاعم وأنت الكاسي وكلنا مطعوم مكسو من الله الواحد الأحد؛ لكن قبل هذا التخريج قال: لا.
نتحاكم إلى غيرك، قال: إلى من؟ قال: إلى من يعرف الشعر قال: تعالوا بـ حسان فأتوا بـ حسان فتلوا عليه البيت:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
قال عمر: ما رأيك في البيت؟ قال: ما هجاه ولا سبه؛ لكن سلح عليه فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: اليوم ننصفه منك، فأنزله في قعر بئرٍ وقصته طويلة وقد أبكى بقصيدة له عمر، كان يصيح الحطيئة مثل الثعلب من أقصى البئر، بئر ليس فيه إلا قليل من الماء، أنزله عمر بحبل فكان يصيح مثل الثعلب من أقصى البئر ويبكي، وأبناؤه في نجد، يقول لـ عمر وعمر يسمع كلامه:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخٍ زغب الحواصل لا ماء ولا شجرُ
يقول: ماذا تقول لله يوم تركت أطفالي في نجد وأنا في البئر في المدينة
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمةٍ فاصفح عليك سلام الله يا عمر
أنت الأمين الذي من بعد صاحبه ألقت إليك مقاليد النهى البشرُ
لم يؤثروك بها إذ قدموك لها لكن لأنفسهم كانت بها الأثر
فدمعت عينا عمر قال: أشتري منك عرض المسلمين ألا تسبهم، خذ ألف دينار، حتى لا يتعرض لأعراضهم، وأعطاه ألف دينار فلما توفى عمر عاد الحطيئة يهجو المسلمين ويقول: لو علم عمر لقطع لساني، الشاهد أن هذا هو التعريض.(91/5)
الثالثة تصف زوجها بالحمق والتسرع والغلظة
أما الثالثة: فاسمعوا كلامها قالت: {زوجي العشنَّق، إن أنطق أُطَلَّق، وإن أسكت أعلق}.
قالت العشنق: طويل العنق فيه خبل، وقيل: هو الطويل الذاهب الطول، ولله سبحانه في خلقه ما يشاء، ونحن لا نذم الطويل، ولا القصير، وليس عندنا معامل كيماوية للناس: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
وليس عندنا أبيض ولا أسود، ولا أخضر ولا أحمر، وفي الحديث الصحيح عند مسلم: {إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم} لكن هي غضبت حتى من صورته تقول: طويل رأسه يصطدم في السقف دائماً، والطول على كل حال من أحسن ما يكون؛ لكن إذا كان معتدلاً، لأن الله عز وجل وصف طالوت قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لما قالت اليهود {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247].
قال المفسرون: كان طويلاً، والطول طيب إذا صاحب تقوى، والقصر طيب إذا صاحب تقوى الله، ولا بارك الله في طولٍ أو في قصرٍ بلا تقوى، فلا يقاس الناس يوم القيامة بالسنتيمتر، ولكنهم يقاسون بالأعمال الصالحة وبالحسنات: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) [الزلزلة:7 - 8].
لكن هكذا تقول هذه المرأة، قالوا العشنق: هو الأحمق الأهوج الخبل المعتوه، الذي قليلٌ عقله وتصرفه، والأحمق لا يعرف مصيره مع الله ولا يعرف طريقه ولا يهتدي لخير، ولذلك تجده يخسر الدنيا والآخرة والعياذ بالله، ولا يعرف مصلحته، من أعظم مصالحه أن يهتدي ولكن لا يهتدي.
{إن أنطق أطلق} تقول: إذا تكلمت أو رددت عليه فالطلاق جاهز على طرف لسانه، لا يأتي بشيء إلا طلق، والبعض الآن أصبح يطلق بالألف، وتعدى بعضهم فطلق بالمليون، بعضهم يسأل يقول: أنا طلقت زوجتي بالمليون [[أتى رجل إلى ابن مسعود قال: طلقت زوجتي بمائة مائة مرة، قال: ما عليك -الحمد لله الأمر سهل- طلقت بثلاث وبقي عندك سبعة وتسعون]] يعني: لا تتكلف، ولا تهتم، أما ثلاث فقد ذهبت وسبعة وتسعين ادخرها لزوجاتٍ أخر قالت: {إن أنطق أطلق} يعني: ما عنده مفاوضة ولا كلام ولا يقبل وجهات النظر، وعنده دكتاتورية، فهو لا يقبل رأيها ولا كلامها أبدا، ً وبعض النساء لا يمكن أن تتدخل مع زوجها في أي قضية حتى في قضية نفسها، وبعضهن على الطرف الآخر تتحدث حتى في مشكلة الشرق الأوسط، وفي كل قضية تتحدث وتلقي محاضرات وتتكلم، قالت: {وإن أسكت أعلق} قالت: وإذا سكت فأنا معلقة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129] والمعلقة المرأة المتزوجة التي هجرها زوجها، فلا هي بذات زوج ولا هي خلية، فهي في البيت مركونة أبداً.
كل الثلاث نزلوا بسكاكين على الأزواج وهذه من طبيعة الزوجات في الغالب، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام وصفهن بأنهن {يكفرن العشير، ويكثرن اللعن، لو أحسنت لإحداهن الدهر قالت: ما رأيت منك خيراً قط} لكن فيهن عفيفات، وقورات، كريمات، دينات، محترمات، لكن هذا في الغالب، ونحن والله ما جئنا لنجرح النساء ولا نندد بهن ولكن أتينا نقرأ كلام عائشة من صحيح البخاري ونشرحه للناس.(91/6)
الرابعة زوجها كثير الأكل والشرب والقسوة
{قالت الرابعة: زوجي إن أكل لف -يعني: أكله لف- وإن شرب اشتف، وإن اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث} انظر الفصاحة! تقول: زوجي إن أكل لف: تقول: يأكل الغداء ويتركني، ولا أكاد أنزل الصحن إلا وقد انتهى وغسل وقال: {الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوة} اللقمة الواحدة بخمس والأجر على الله، وإذا اشتغل على السفرة اشتغل بإتقان وحكمة عملاً بحديث: {إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه} يشرب البارد قبل الحار، ولا يعجزه شيء.
وقد كان العرب يتسابون بكثرة الأكل، ويذكر أن من أكثر الناس أكلاً سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي يقولون: حتى ترهل بطنه فما كان يخطب إلا جالساً على المنبر، ويقولون: كان إذا طبخ دجاجاً لا ينتظرها حتى تحول من القدر، كان يأخذ كمه ويدخل يده وينتزع الدجاجة برجلها، كأنه يلعب (كراتيه) ولكن كان منهم من يتقي الله، وكان منهم من يستخدم أكله وطعامه في معصية الله، عمرو بن معدي كرب الزبيدي فارس العرب يقولون: أكل عنزاً وفرق ذرة ذكره ابن قتيبة وابن عبد البر، وهو من سادات مذحج لكن كان إذا ضرب الفارس يقسمه بالسيف نصفين، وكان لا يهرب من المعارك، لا يعرف إلا (أماماً سر) أما (إلى الخلف در) فلا يعرفها في المعركة؛ فيسمونه أقدم العرب وأشجعهم، حتى يقول أبو تمام:
إقدام عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس
فهذا هو الإقدام وليس شاهدنا، ولكن المقصود أن كثرة الأكل تذم، وإذا كان يعين صاحبه على النوم والكسل والخمول وعلى المعصية فهو أشد ذماً، فإن بعضهم يأخذ نعم الله ولا يشكره، ولكن الأكل إذا كان في طاعة الواحد الأحد فهنيئاً مريئاً، وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر} فكل مما أحل الله، وكل الطيبات من اللحم، والعسل، ولكن كن رجلاً صالحاً تعبد الله بهذا الطعام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172].
كل من الطيبات وأكثر، ولكن لا تداوم على التبجح والشبع الكثير فإنه يكثر من النوم، ويكثر كذلك من الكسل، والخمول وهو يعرض صاحبه للأمراض، ولا تمت يبساً وجوعاً مثل المسيحيين والرهبان فهذا ليس من الإسلام، وخير الأمور أوسطها، ولا تقتصر كذلك على ما لا يكفي وعندك الكثير لكن قل: رب أوزعني شكر هذه النعمة.
قالت: {زوجي إن أكل لف} هي تشكو كأن مالهم قليل وهي مسكينة جائعة منذ عرفته لا تشبع معه، يأكل ما بين يديها وما خلفها، {وإن شرب اشتف} أي: لا يجرع الماء، لا يشرب مثل الناس بل يدغفه دغفاً، وهذا مذموم، ومن السنة أن لا يشرب الإنسان دغفة لأنه يورث مرضاً في المرئ، وبعض الناس يشرب مثل شرب الثور، تسمع له جرجرة.
قالت: وإن اضطجع التف تقول: ينام وحده ويلف الكساء حتى لا يكشف إلا في الصباح، يلف البطانية عليه ثلاث مرات، ثم ينام، وهذا مذموم عند النساء كما تعرفون، قالت: إذا اضطجع التف، أي أنه: يلتف بالبطانية أو بالكوت أو بالجلباب، ثم إذا أراد أن يقوم رد في لفافته حتى يستيقظ.
ولا يولج الكف ليعلم البث تقول: أمرض عنده ولا يضع يده عليَّ من الحر، لا يعرف التمريض وليس فيه رحمة.
بعض الناس فيه عطف وحنان إذا مرض الطفل وضع يده على جبهته، وهذا هديه عليه الصلاة والسلام، كان إذا أتى إلى أصحابه يضع كفه الشريفة على صدر الصحابي فيسأل عن حاله، قال سعد بن أبي وقاص المجاهد العظيم خال محمد عليه الصلاة والسلام، مدكدك دولة الظلم والعدوان، قائد المسلمين في القادسية، يقول: {زارني صلى الله عليه وسلم وأنا مريض، فوضع يده على صدري، ويقول: بعد ثلاثين سنة: فوالله لكأن يده الآن على صدري أبرد من الثلج} وكان صلى الله عليه وسلم يأتي إلى الأعراب وهم أعراب ما بينهم معرفة أصيلة كالصحابة، ويضع يده عليهم، ويقول: {لا بأس، طهور إن شاء الله} دخل على أعرابي شيخ كبير والحمى ترزفه رزفاً وتهزه هزاً، يقول المتنبي في الحمى:
وزائرتي كأن بها حياء فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي
فدخل عليه الصلاة والسلام على الأعرابي وهو يتصبب عرقاً تحت البطانية فوضع الرسول صلى الله عليه وسلم يده عليه قال: {لا بأس طهورٌ إن شاء الله} وهذا الأعرابي لا يعرف ذلك قال: {لا ليست بطهور بل حمى تفور، على شيخ كبير تزيره القبور} -يقول: بعد قليل تعلم الطهور هذا يؤديه إلى المقبرة هذه الحمى- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {نعم إذاً} فمات منها، وفي الحديث الصحيح: {إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط} فتقول: هذا لا يعرف المرض ولا يسأل عن المريض، وليس بصاحب رحمة ولا عطف ولا حنان، وهذا خلاف للهدي المعروف في الإسلام قالت: ولا يولج الكف ليعلم البث أي: ليعلم الحزن حتى أنه لا يشارك الهموم، ولذلك يقول الشاعر العربي:
ولا بد من شكوى إلى ذي قرابة يواسيك أو يسليك أو يتوجع
فالشكوى مطلوبة، ولذلك فعلى المسلم أن يقوم مع المصاب في مصابه، ومع المريض في مرضه، ومع صاحب الفاقة في فاقته، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: {إن الله يقول يوم القيامة: يا بن آدم مرضت ولم تعدني، قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان مرض فلم تعده، أما إنك لو عدته لوجدت ذلك عندي} قال الشاعر:
مرض الحبيب فزرته فمرضت من خوفي عليه
اسمع البيت ما أحسنه:
مرض الحبيب فزرته فمرضت من خوفي عليه
وأتى الحبيب يزورني فشفيت من نظري إليه
هذا جيد وهذان بيتان جيدان إن شاء الله.(91/7)
الخامسة تصف زوجها بالحمق
وقالت الخامسة: {زوجي عَياياء طباقاء، كل داء له داء، شجكِ أو فلكِ أو جمع كُلاً لكِ} وهكذا لغتهم؛ لأنهم عربٌ فصحاء والرسول صلى الله عليه وسلم كان يسمع الحديث ويتبسم، وهو أفصح من نطق بالضاد، وهو المتكلم للأمة العربية، وهو الذي أتى بالقرآن، وهو الذي بكت المنابر من تحته.
يقول أحمد شوقي:
وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو النديَّ وللقلوب بكاء
وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاءُ
وإذا رحمت فأنت أمٌ أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرحماء
أفصح الناس لكن يتبسم من هذا الكلام؛ وهذا الكلام عويص علينا نحن، فقد فسدت لغتنا بكثرة الداخل علينا، حتى أصبحنا نتعلم اللغة العربية تعلماً قالت: زوجي عياياء، أي: لا يعرف يتكلم مثل الناس، بليته عقدة في لسانه، لا يخرج الحروف من مخارجها، أصم، أبكم أخرس، يأتي في الشهرين بكلمة، إذا سألت عن اسمه يخبر باسمه فقط، وهذا يميت البيت؛ لأنه لا بد من قراءة أو حديث.
قالت: طباقاء، الطباقاء قالوا: الأحمق التي انطبقت أموره عليه، أصبح ذروة في الحمق، ومن أشهر الخبلان في العالم، طباقاء يعني: مطبقٍ عليه بحمقه، وسوء تصرفه، وعدم معرفة مصالحه، ونحن أهل الإسلام نقول: أحمق الناس من لم يهتد إلى النور الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام، قالت: صفوه بالمعايب والمساوئ كلها، فهو يقبلها ويتحملها، وتصلح أن تكون فيه، ركبوا عليه ما شئتم، كل داء في الدنيا يصلح أن يكون له داء.
{شجكِ أو فلكِ أو جمع كلاً لكِ} تقول: عنده عصا وكل يوم يشجها، وجسمها أصبح حقل تجارب للضرب، فمرة يضرب بالمشعاب، ومرة بالهراوة، ومرة بالسكين فتقول: مرة شجة في الرأس، ومرة فلة في الظهر، ومرة يجمع بين الحسنيين أثابه الله، فيشج في الرأس ويضرب في الكتف فيقولون: الفل في الجسم، والشج في الرأس، وهذا من الضرب، والضرب في الإسلام في حدود الضرب غير المبرح، وهي إذا نشزت المرأة وعصت زوجها، فعليه أن يهجرها في الفراش، فإن أبت فعليه أن يضربها ضرباً غير مبرح، ولا يضرب الوجه فإنه حرام ولا يقبح، والتقبيح: هو اللعن وهو حرام، ولا يضرب الأماكن الخطرة في جسمها كالبطن، وكذلك هي لا تضرب وجهه، ولا بطنه ولا تطلقه، هذه من الأمور التي ينبغي أن أنبه عليها، لكن الضرب غير المبرح الخفيف الخفيف، الذي هو قدر سوط أو سوطين من غير تبريح يقولون: كان شريح عنده زوجة اسمها زينب يقولون: كانت تعصيه قالوا: لو ضربتها فقال:
رأيت رجالاً يضربون نساءهم فشلت يميني حين أضرب زينبا
ولكن مقصودنا هنا أنها تقول: إنه رجل سريع الضرب، سريع العصا.
أتت فاطمة بنت قيس تستشير محمداً صلى الله عليه وسلم بعد أن طلقها زوجها فتقدم لها ثلاثة: أسامة بن زيد وومعاوية بن أبي سفيان وأبو جهم، فكلهم تقدموا في آن واحد يريدون أن يتزوجوا منها، فذهبت إلى محمد عليه الصلاة والسلام وهو يعرف الناس، قالت: يا رسول الله! تقدم أسامة وتقدم أبو جهم وتقدم معاوية فبمن تنصحني منهم؟ قال عليه الصلاة والسلام: {أما معاوية فرجلٌ صعلوك لا مال له} أي: (على الحديدة) ما عنده شيء في البيت، عنده فئران تتطارد في البيت، وهذه نصيحة، والدين النصيحة، وأصبح فيما بعد ملكاً رضي الله عنه وأرضاه، وأما أبو جهم فضراب للنساء -عصاه معلقة بالبيت، يضربهن- يقول عمر عن الزبير بن العوام [[يدٌ بقرطٍ ويدٌ بعصا]] لأن امرأة أتت إلى عمر رضي الله عنه تقول: تقدم الزبير يريد أن يتزوجني -والزبير أحد العشرة، حواري الرسول عليه الصلاة والسلام، الإمام العلم الذي يدوس الأبطال في المعركة مثلما يدوس الأسد المعزة- أتت هذه المرأة إلى عمر وقالت: [[ما رأيك في الزبير؟ قال عمر: يدٌ بقرطٍ ويدٌ بعصا]] يقول: احذري منه فإنه ضراب للنساء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: {أما أبو جهم فلا يضع العصا من عاتقه، أنكحي أسامة، فنكحته فاغتبطت به} أي: أنها هنئت معه وكانت في أحسن عيشة بمشورة محمد عليه الصلاة والسلام.(91/8)
السادسة تمدح زوجها
{وقالت السادسة: زوجي كليل تهامة، لا حر ولا قر، ولا مخافة ولا سآمة} ليل تهامة يقولون: إنه من أحسن الليالي، وهو مستوٍ ليس بحارٍ ولا بارد، وهو هادئ النسمات، خاصة إذا كان على البحر فإنه يذكرك السكن في الجنان، قالت: مثل: ليل تهامة معتدل الأجواء، لا ريح هوجاء، ولا فيه صخب ولا نصب ولا إزعاج، وهو سهلٌ سلس، والليالي عند العرب -يا أيها السادة- تطول بالهم وتقصر بالسرور.
فقصارهنَّ مع الهموم طويلة وطوالهن مع السرور قصارُ
ويقول امرؤ القيس وهو ينظر لليل وكان يسكن في نجد قال:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثل
يقول: متى تصبح لأنه مهموم، ويقول النابغة:
وصدرٍ أراح الليل عازب همه تضاعف فيه الحزن من كل جانب
تطاول حتى قلت ليس بمنقضٍ وليس الذي يرعى النجوم بآيب
إلى آخر ما قالوا في ذلك، ويقول مجنون ليلى وهو يصف طول الليل:
ليلي وليلى نفى نومي اختلافهما في الطُول والطَول يبدو لي إذا اكتملا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت بالطَول ليلى وإن جادت به بخلا
وهذه زوجها فيه خيرٌ كثير وهادئ البال يقولون: ما وصفته وصفاً كثيراً في المدح، ولا ذمته، ويمكن المعيشة تصلح معه، ولذلك لا يطالب من الناس أن يكونوا في سعادة 100% فإن هذا لا يوجد إلا للأنبياء والرسل، لكن يرضون ويتحملون، وعلى الله أن يسدد ويقارب.(91/9)
السابعة زوجها كالأسد خارج بيته وكالفهد في بيته
وقالت السابعة: {زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد} تقول: إذا دخل كالفهد، قالوا: وصفته بالسرعة، وأنه ضجر كثير الحركة، وعجول في الأمور، كأنه دائخ أو كأنه سكران، لا يعرف شيئاً، ولذلك بعضهم دائماً لا يتثبت في أموره ولا في حركاته من كثرة تعجله، وشبهته بالأسد إن خرج بين الناس خافوه فهو شديد الصولة، تمدحه بالشجاعة.
أفاطم لو شهدت ببطن خبت وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا
إذاً لرأيت ليثاً رام ليثاً هزبراً أغلباً يبغي هزبرا
يصف نفسه بأنه الأسد، وقال آخر:
ترى الرجل الطرير فتزدريه وفي أثوابه أسدٌ هصورُ
أو كما قال لا يهمنا فقد وصفته بالشجاعة، وشجاعة أهل الإسلام في الحق، والشجاع إنما هو من يتقي الله:
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتقي الله البطل
فالبطل في الإسلام، هو الذي يتقي الله، وقال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: {ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه وقت الغضب}.
قولها: ولا يسأل عما عهد أي: من حسنات هذا الرجل أنه يعطيني المال ولا يسأل، يعطي المال واللحم والعسل والسمن، ولا يسأل ولا يدقق ولا يحسب، تتصدق، تضيف، تنفق، تأكل، فلا يسأل عما عهد، وبعضهم يقول: تذمه، تقول: ما يسأل عنا ولا يسأل عن أخبارنا، ولا عما نقص علينا وكلا الوجهين محتمل.(91/10)
الثامنة زوجها مسه كالأرنب وريحه كالزرنب
قالت الثامنة: {زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب، وأنا أغلبه والناس يغلب} استمع محمد صلى الله عليه وسلم لهذا الحديث، فمن باب أولى أن تسمعوا هذا الحديث قالت: زوجي المس مس أرنب، أي: خفيف المس طيب لين، بإمكانها أن تداعبه، وأنه قريب، لأن بعض الناس بعيد حتى على أطفاله.
دخل الأقرع بن حابس على محمد عليه الصلاة والسلام -والحديث صحيح- فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الأطفال ويأخذهم ويقربهم؛ قال الأقرع: يا رسول الله؛ تقبلون الأطفال عندكم؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: نعم.
قال: عندي عشرة أبناء والله ما قبلت واحداً منهم، قال: وهل أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك، أي: لستُ مسئولاً على أن الله نزع الرحمة من قلبك.
تقول: إنه قريب المس، أي: أنه يداعب أطفاله وأنه قريب وسهل.
والريح ريح زرنب، الزرنب: شجر طيب الرائحة تقول: دائماً يتطيب والنساء يعجبهن الطيب، وعلى المسلم أن يكون مطيباً دائماً.
رقاق النعال طيب حجزاتهم يحيون بالريحان يوم السباسب
وكان عرق محمد عليه الصلاة والسلام كأحسن المسك وإذا صافحه المصافح بقي وقتاً طويلاً كما قالوا يجد رائحة الطيب في كفه، والطيب من أحسن ما يكون، ولذلك أوصي به إخواني عند المصافحة والملاقاة، ودخول البيت، والذهاب إلى الصلاة، وهو يزكي النفس، ويفتح الذهن، ويجعل للإنسان تأصيلاً في عقله، ويركز اهتمامه، وهو قوت الروح.
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشياً تمشت وجرت في جوانبه بردا
والريح ريح زرنب، وأنا أغلبه والناس يغلب، تقول: أنا أغلبه، ومن الناس من تغلبه النساء، وهن شرُ غالبٍ لمن غُلِب، من الرجال من تغلبه النساء في الضرب وفي الأمر والنهي وفي كل شيء.
والناس يغلب، تقول: ويغلب الناس، ولكني أغلبه في البيت، تمدحه بذلك وتثني عليه، وهذه من الخصال الممدوحة، كان محمد عليه الصلاة والسلام، سهلاً تقول عائشة: {كان رجلاً سهلاً} تقول له: أأعتمر يا رسول الله؟ -بعد أن قضت الحج- قال: {يا عبد الرحمن اذهب بها إلى التنعيم فأعمرها} فكان سهلاً عليه الصلاة والسلام.
وكان يجلس مع النساء فيتحدث معهن وترتفع أصواتهن، فلما اقترب عمر وسمعن جلبته وصوته ابتدردن الحجاب فقال: يا عدوات أنفسكن! كان أولى أن تهبن رسول الله، فقامت امرأة وقالت: أنت فظٌ غليظ وليس كذلك رسول الله، قال الله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].(91/11)
التاسعة تصف زوجها بالكرم والجود
قالت التاسعة: {زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد}.
تقول: {زوجي رفيع العماد} أي: أن بيته متسع في وسط الحي يضيف الناس؛ لأن البخلاء عند العرب يسكنون في شوارع ضيقة لا يهتدي لها الإنسان، فيضيع قبل أن يصل البيت، ولذلك إذا وصف لك البخيل بيته قال: على يمين المسجد، ثم لف على اليسار ثم خذ يمينك، ثم يسارك حتى تضيع قال الشاعر العربي:
ولست بحلال التلاع مخافة ولكن متى يسترفد القوم أرفد
يقول: أنا لا أسكن المنخفضات البعيدة، إنما أسكن على جانب الطريق، ويقولون: كان حاتم الطائي يسكن وسط قبائل العرب، وكان يشعل النار في الليل، ويقول: من يريد الطعام فليأت، فكان يشعل ناره حتى تعلن أن هناك كرماً فيأتون يهتدون إلى النار، تقول الخنساء في أخيها:
وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علمٌ في رأسه نار
وإن صخراً لوالينا ومنقذنا وإن صخراً إذا نشتوا لنحار
هباط أودية حمال ألوية شهاد أندية للجيش جرار
وقالوا: كان إبراهيم الخليل عليه السلام أستاذ التوحيد، وشيخ العقيدة؛ كان عنده قصر في أرض كنعان وله بابان، يقول للخادم من خدامه: إذا أتيت بضيف فأنت عتيقٌ لوجه الله، فانظر كيف سيكون شعور الخادم، سيأتي بضيف ولو من التراب، فيذهب هذا الخادم فيأتي بضيف، أحدهم ذهب فأتى برجلٍ كافر مشرك فأدخله في قصر إبراهيم عليه السلام، فقدم له إبراهيم صحفه، ولذلك يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عنه في القرآن: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26].
والعجل هو التبيع، قالوا: سمين وقيل في سورة هود (حنيذ) سمين، وحنذه على الجمر حتى يكون أشهى، قالوا فقرب الطعام لهذا المشرك وقال له: قل: بسم الله، قال المشرك: لا أعرف بسم الله، قال: قل: بسم الله قال: لا.
قال: قل: بسم الله، قال: لا.
قال: والله لا تطعمه، فأوحى الله له: يا إبراهيم عجباً لك، خلقت هذا وله ستون سنة أطعمه وأسقيه، وراد أن يتعشى عندك ليلة فحرمته.
قالت: {رفيع العماد} يعني: أنه يتصدى للضيوف دائماً ويرحب بهم، وأكرم من عرفت الخليقة محمد عليه الصلاة والسلام:
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
وكان يخرج بالطعام على الناس ويدخل أصحابه على طعامه، وسأله رجل فأعطاه بردته، ويعطي مائة ناقة، وكان المال عنده مثل التراب، وقال ابن عباس في الصحيح: {كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فكان رسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة}.
واختلفوا في أكرم العرب، على كل حال جلس ثلاثة في البيت العتيق واختلفوا في أكرم العرب، فقال بعضهم: أكرم العرب عرابة الأوسي كان يطعم صباح مساء.
وقال الثاني: عبد الله بن جعفر.
وقال الثالث: بل أكرم العرب قيس بن سعد بن عبادة فقالوا: كلٌ منا يذهب ويلبس ألبسة رديئة ويظهر في مظهر مسكين ويسأل صاحبه ثم عودوا إلى الحرم، وننظر ماذا يعطيكم، فذهب صاحب عبد الله بن جعفر الطيار إليه، فوجده قد خرج إلى الشام على فرس يريد سفراً قال: أنا رجل منقطع وأريد مالاً قال: خذ هذا السيف وخذ هذا الفرس، ولو كنت في المدينة أعطيتك، وأنا أريد السفر لكن سوف أنزل تحت هذه الشجرة حتى يأتيني ركب والله يرزقك، قال: لا أقطعك ولا أقطع سفرك قال: والله لتأخذنه، قال: فأخذت السيف والفرس بما عليه، وجلس هو تحت شجرة ينتظر المسافرين، وذهب الثاني عند قيس بن سعد بن عبادة فطرق عليه الباب فخرجت الجارية قال: أريد مالاً أنا فقير فذهبت قالت: مولاي نائم ولكن خذ ألف دينار ولو كان يقظان لأعطاك -ألف دينار تعادل مائة ألف اليوم- وذهب الثالث إلى عرابة الأوسي فوجده قد عمي وخرج إلى المسجد على عبدين يتكئ على أحدهما باليمنى وعلى الآخر باليُسرى ويريد صلاة العصر فقال: أعطني من مال الله، قال عرابة الأوسي: ذهبت النفقات بأموالي ما بقي إلا هذان العبدان خذهما لك قال: فأخذتهما وأخذ هو يعتمد ويلتمس الجدار إلى أن وصل المسجد قالوا: أكرمهم عرابة الأوسي فقال فيه الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجدٍ تلقاها عرابة باليمينِ
قالت: {زوجي رفيع العماد، طويل النجاد} يعني طويل السيف، ليضرب به في المعركة أي أنه شجاع {عظيم الرماد} وهي عند العرب تحتمل الذم وتحتمل المدح، يحتمل أنه عظيم يقري الضيف كثير الرماد لأن قدره دائماً على النار، {قريب البيت من الناد} أي أن بيته وسط القرية ووسط المدينة يتصدى للضيوف، ليس لبيته بواب، وليس عليه حجاب وأبواب وحدائق حتى لا تصل إليه إلا بشق الأنفس.(91/12)
العاشرة: زوجها كريم
{قالت العاشرة زوجي مالك وما مالك؟! مالك خيرٌ من ذلك، له إبلٌ قليلات المسارح، كثيرات المبارك، إذا سمعن صوت المزاهر أيقن أنهن هوالك} تقول: اسمه مالك، قيل في بعض الروايات: اسمه مالك، وتقول: إنه جواد وفيه خيرٌ كثير؛ لكن ميزته الكرم، عنده إبلٌ في البيت قليلات المسارح يعني أنها لا تسرح دائماً، عادة العرب يقولون: يؤخرون مسارح الإبل ينتظرون الضيف، والبخيل يسرحها من بعد صلاة الفجر، لا يصلي الفجر إلا وقد قال لأبنائه: إلى المرعى، بخلاف: حاتم الطائي وغيره؛ لعله أن يأتي ضيف، فيتركونها.
(كثيرات المبارك) دائماً حول الخيام {إذا سمعن صوت المزاهر أيقن أنهن هوالك} قيل المزاهر: الأعواد، وقيل: السكاكين، وقيل: هو ما يستخدم في التطريب للضيف، كان الجاهليون إذا قدم الضيف ضربوا الدف والضيف قريب، فتعرف الناقة أنه قد حكم عليها بالإعدام لما تسمع من صوت الدف.(91/13)
وصف أم زرع لزوجها أبي زرع
قالت الحادية عشرة: {زوجي أبو زرع وما أبو زرع أنس من حلي أذني} اسمه هو أبو زرع ثم تقول وما أبو زرع؟ وهذه الجملة للتعظيم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1 - 3].
{الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1 - 2].
{أنس من حلي أذني} أي: أحسن عندي من حلي الأذن بالأنس واللطف والسكينة، والقرب والهدوء والليونة، وعند البخاري في رواية: {وأملأ من شحم عضديَّ} تقول: إنه عندي أحسن من الشحم الذي في عضدي لما بيني وبينه من قرب ومودة ورحمة.
وبجحني فبجحت إليَّ نفسي، تقول: أعطاني من الدنيا حتى افتخرت على زميلاتي وأخواتي، وتعاظمت إلي نفسي، وهذا ليس محموداً على الإطلاق، وسوف يأتي تفصيله، تقول: وجدني في أهل غُنيمة بشقٍ أي: أن أهلها أصحاب غنم في بادية فقيرة، فجعلني في أهل صهيلٍ وأطيطٍ، ودائسٍ ومُنَقٍّ، أي: فتحولت إليه فأصبح عندي خيل لأن عنده خيلاً وعنده أطيطاً أي: إبل تئط أطيطاً، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موطن أربع أصابع إلا وملكٌ راكعٌ أو ساجد} وفي حديثٍ يروى عنه في العرش عليه الصلاة والسلام: {وإنه ليئط به أطيط الرحل براكبه} والأطيط صوت القتب، وصوت المحمل على الجمل، الخشب الذي تسمع له صريف.
تقول: عنده إبل وخيل وعطاء.
وينبغي للمرأة ألا تتزوج الرجل لماله، بل تتزوجه لدينه، فالمال وحده لا ينفعها، ولو كان عنده مال قارون، وكثير من الفتيات تزوجن رجالاً ذوي أموال، ولكن أهل الأموال هؤلاء كانوا فجرة، وأهل ربا وخيانة مع الله، وأهل غدر مع الواحد الأحد، فأصبحت حياتهم غدراً وزوراً وبعداً عن الله.
وهناك نساء تزوجن فقراء، ولكن هؤلاء الفقراء عرفوا الله أهل صيام وصلاة، وعبادة وتقوى لله، فسعدن سعادة ما بعدها سعادة، فلا تعد المال شيئاً فهو لا يساوي التراب إلا بتقوى الله.
قالت: {ودائس ومنقٍ} تعني: أن له دجاجاً، لكن استبعدوا ذلك فذكره الحافظ في الفتح، وقيل: إنه كثير البر حتى ينقى عنده بالمناخل.
{فعنده أقول فلا أقبح} تقول: أتكلم وألقي ما في ذهني فلا يقبحني ولا يقاطعني، ويستمع إلي، وهي خصلة جيدة في الرجال، ويجب أن يعيها المسلم فيسمع لصوت المرأة، والإسلام هو الذي عرف قدر المرأة وسمع صوتها بعد أن قتلت الجاهلية صوتها المرأة ووأدتها، ولم تعترف بها، فجاء الإسلام فكرمها.
{وأرقد فأتصبح} تتشرف تقول: الصباح أرقد في الصباح حتى الضحى، أي أنها تسهر وتلهو ثم تنام متأخرة فلا تضطر للقيام بل تظل نائمة حتى وقت الضحى، ولو عرفت التسبيح حتى طلوع الشمس وقراءة القرآن كان أحسن، لكن تصف أنها مرتاحة، وأنها تنام على ما تريد، وتقوم متى أرادت.
وأشرب فأتقمح أي: أشرب فأزيد من الشرب، فهي تشرب من اللبن، وتشرب من العسل، وتشرب من السمن لا يقول: كفى، إنما تشرب جهدها.
ثم تصف أم أبي زرع وابنه وزوجه الأخرى وبنته تقول: {أم أبي زرع p> وما أم أبي زرع؟ عكومها رداح} تقول: كثيرة النعم، حتى أمه عندها غرف نوم، وعندها فرش، وعندها خيرٌ كثير قالت: {وبيتها فساح} تقول: حتى بيت أم أبي زرع واسع.
{ابن أبي زرع، وما ابن أبي زرع مضجعه كمسلِّ شطبة} تقول: مثل السيف، لأن العرب تفتخر بمن يختصر في نومه وفي أكله، تقول: ينام على أدنى شيء، ينام مرة عند الباب، ويدخل مرة ينام في أي مكان؛ لأن ذلك يدل على الشجاعة، وعلى القوة، والعصامية، كان بعض العرب ينام مع الأسود، وبعضهم ينام مع الغنم وفي مسارح الإبل من شجاعته ليحميها، قالت: {وتشبعه ذراع الجفرة} تقول: أدنى شيء يشبعه، فلا يأكل الطعام علينا، والعرب تفتخر بذلك يقول عروة:
إني امرؤ عافٍ إنائي شركة وأنت امرؤ عافٍ إناؤك واحد
أقسم جسمي في جسومٍ كثيرة وأحسو قراح الماء والماء بارد
{بنت أبي زرع وما بنت أبي زرع طوع أبيها وطوع أمها،} تقول: تطيع أباها وأمها، يعني أنها بارة {وملء كسائها} تقول: إنها ممتلئة الجسم مع اعتدال الخلقة.
{وصغر ردائها} أي أنها جيدة الملبس، تزين أهلها بأخلاقها الشريفة ووقارها {وغيظ جارتها} أي أن جارتها أو جاراتها يحسدنها، قال:
حسداً حملنه من أجلها وقديماً كان في الناس الحسد
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالناس أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسداً وغيظاً إنه لدميمُ
قالت: {جارية أبي زرع وما جارية أبي زرع لا تبث حديثنا تبثيثا} أي: أنها لا تنقل الخبر من البيت، وهذا فيه مدحٌ لأهل البيت ألا ينقلوا أخبارهم، وعلى المسلم ألا ينقل خبر أهله الخاص في المجالس، وعلى المسلمة ألا تنقل خبر زوجها الخاص في المجالس، فإن هذا مذموم، وقد استنكره عليه الصلاة والسلام، وهو من المجاهرة.
{ولا تنقث ميرتنا تنقيثا} أي: كذلك لا تصرف مالنا ولا تضيعه {ولا تملأ بيتنا تعثيثا أي: أنها مرتبة للبيت، والعرب تمدح الترتيب والإسلام جاء به.
-وبالمناسبة- أنصح النساء لأن هذا الخبر لهن-: أن يتقين الله في ترتيب البيوت، وفي التزام النظام، لأن من صفات اليهود أنهم أوسخ الناس أفنية، فالمرأة العاقلة تجعل للملابس مكاناً، وللمكتبة مكاناً، وللمطبخ مكاناً، ولكل شيء مكاناً، أما أن تكون الملاعق بين الكتب، والسكاكين بين البطانيات، والصحون في المجلس، وحالة لا يعلمها إلا الله فهذا ينبئ بأنه أصاب البيت رجة أو زلزال، وهذا ليس بوارد في الإسلام.
قالت: {خرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فمر بامرأة معها ولدان لها كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها} الآن انتهت، تقول: وجد امرأة غيري فطلقني ونكح تلك.
{فنكحت بعده رجلاً سرياً -أي رجلاً غنياً- ركب شرياً- عنده فرس جيد- وأخذ خطياً -وبيده رمح- وأراح علينا نعماً سرياً -كثير الأنعام- وأعطاني من كل رائحة زوجاً -أي من كل الإبل والبقر، والغنم- فقال: كلي أم زرع وميري أهلك، فلو جمعت كل شيء أعطانيه، بلغ أصغر آنية أبي زرع} تقول: كل شيء أعطانيه لا يملأ صحناً من أصغر صحون ذاك، ويتمدح هذا الثاني ويقول: افعلي ماشئت بهذا المال فقال النبي عليه الصلاة والسلام -خاتماً للحديث وهو يتبسم: {يا عائشة! كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع، إلا أن أبا زرع طلق وأنا لا أطلق} حديثٌ صحيح رواه الطبراني عن عائشة ورواه الترمذي في الشمائل موقوفاً إلا قوله: {كنت كـ أبي زرع} فرفعاه وقالوا: وهو يؤيد رفع الحديث كله، ورواه البخاري في النكاح ومسلم في الفضائل.(91/14)
مسائل مأخوذة من حديث أم زرع
في حديث أم زرع مسائل:
أولها: ملاطفة الأهل، واستماع حديث النساء، وأن غالب النساء إذا اجتمعن تحدثن في حالتهن مع الأزواج، وفيه: أدبه صلى الله عليه وسلم وحسن عشرته.
وفيه: ما كان بينه وبين عائشة من أنسِ حديثٍ وطيب كلام.
وفيه: أن أخبار الجاهلية تقص في المجالس ولا بأس بها.
وفيه: أنه لا بأس بالأسمار والحديث عن الناس ما لم يكن غيبة.
وفيه: أنه لا بأس بأن يتحدث بأخبار القرون الأوائل والأجداد والآباء، وما كانوا فيه من فقر وحروب وعوز، وما كان فيهم من صفات وأوصاف، كما في هذا الحديث.
وفيه: التمثل ببعض الناس في الصفات لقوله عليه الصلاة والسلام: {كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع} ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجل وأعظم وأكرم وأحسن وأبر عليه الصلاة والسلام.
وفيه: تزكية الرجل لنفسه ما لم يخف عليه عجباً إذا كان صادقاً، فقد زكى صلى الله عليه وسلم نفسه وقال: {كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع}.
وفيه: أنه لا يلزم أن يكون المشبه كالمشبه به في جميع الصفات، فإن في بعض الأوصاف ذكر صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع} ولا يلزم في كل جزئية لأن الحال يختلف، ولو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن، وأكرم عشرة، وأحسن بيتاً، وأوسع صدراً، وأبر من أبي زرع لـ أم زرع.
وفيه: أن التشبه بالجاهليين في صفات الخير ليس بمذموم كأن يقول: ككرم حاتم، وكشجاعة عنترة، وكشعر زهير.
وفيه: أن المسلم قد يكون له أوقات مع أهله يأنس فيها بحديثٍ من المزاح بدون غيبة، وأن هذا ليس من ضياع الوقت.
وفيه: أن للقلوب وقتاً من الراحة [[وأريحوا القلوب ساعة فإن القلوب إذا كلت عميت]] {ولكن ساعة وساعة}.
وفي هذا الحديث أحكام أخرى، وأنا جئت به لثلاثة أمور.
أولها: أنه تلي في مجلسه عليه الصلاة والسلام فحقيقٌ لنا أن نسمعه كما سمعه.
الأمر الثاني: أن فيه وصفاً للأزواج والزوجات في هذا الحديث؛ فمن كان فيه سوء فليتجنبه رجلاً كان أو امرأة، ومن كان فيه خير فليثبت عليه وليزدد منه.
الأمر الثالث: أن فيه لفتات تربوية في المجتمع بما أشرت إليها في أثناء الدرس.(91/15)
الأسئلة
.(91/16)
حديث: (ملعون الناظر والمنظور إليه)
السؤال
هنا قائمة ببعض الأحاديث النبوية عن المعصوم عليه الصلاة والسلام يقول: ما صحة الحديث القائل في العورة: {ملعون الناظر والمنظور إليه}؟
الجواب
لا يصح هذا الحديث، ولا يثبت، وليس من كلامه عليه الصلاة والسلام.(91/17)
حديث: (عورة الرجل)
السؤال
ما صحة حديث: {عورة الرجل من السرة إلى الركبة}؟
الجواب
حديث صحيح رواه الحاكم عن عبد الله بن جعفر، وبعضهم يقول: إنه حسن، فهو إما حسن أو صحيح.(91/18)
حديث: (أجرؤكم على الفتيا)
السؤال
ما صحة حديث: {أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار}؟
الجواب
رواه الدارمي عن عبد الله بن أبي جعفر مرسلاً، والمرسل ضعيف، ولذلك فالحديث ضعيف.(91/19)
حديث: (من قرأ سورة الواقعة لم تصبه فاقة)
السؤال
حديث: {من قرأ سورة الواقعة في يومٍ لم تصبه فاقة قط} ما صحته؟
الجواب
سبق أن أشرت إلى أنه قد يحسن، ولكن أعود فأقول: بعد التأمل في سنده وجد أنه ضعيف؛ فهو ضعيف عن ابن مسعود.(91/20)
حديث: (إذا قرأ أحدكم والتين والزيتون)
السؤال
ما صحة حديث: {إذا قرأ أحدكم والتين والزيتون فبلغ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8] فليقل: بلى، وإذا قرأ سورة القيامة فبلغ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40] قال: بلى وقدرة ربنا}؟
الجواب
هذا الحديث لا يصح وهو ضعيف عند الترمذي.(91/21)
حديث: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)
السؤال
ما صحة حديث: {أدبني ربي فأحسن تأديبي}؟
الجواب
حديثٌ ضعيف رواه ابن عساكر، ضعيف في سنده، ولكنه صحيحٌ في معناه؛ فإن الذي أدب الرسول هو الله؛ لكنه ضعيفٌ في سنده.(91/22)
حديث: (حبذا المتخللون من أمتي)
السؤال
ما صحة حديث: {حبذا المتخللون من أمتي}؟
الجواب
هذا الحديث حسن رواه ابن عساكر عن أنس ومعناه يعني الذين يتخللون بعد الطعام بالمخلال حديثٌ حسن.(91/23)
حديث: (غط فخذك فإن الفخذ عورة)
السؤال
ما صحة حديث: {غط فخذك فإن الفخذ عورة}؟
الجواب
حديثٌ صحيح رواه أحمد عن جرهد وفيه ألفاظ: {يا جرهد! غط فخذك فإن الفخذ عورة}.(91/24)
حديث: (صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بلا سواك)
السؤال
ما صحة حديث: {صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بلا سواك}؟
الجواب
رواه أحمد بسندٍ ضعيف، قال ابن أبي حاتم: له سندان ضعيفان وليس بثابت.(91/25)
حديث: (من قرأ [قل هو الله أحد] في يومٍ عشر مرات)
السؤال
ما صحة حديث: {من قرأ قل هو الله أحد في يومٍ عشر مرات بني له بيتٌ في الجنة}؟
الجواب
حديثٌ صحيح.(91/26)
حديث: (إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب)
السؤال
ما صحة حديث: {إني لا أحل المسجد لحائضٍ ولا جنب}؟
الجواب
حديثٌ ضعيف عند أبي داود.(91/27)
حديث: النهي عن إنشاد الضالة في المسجد
السؤال
ما صحة حديث: {من سمعتموه ينشد ضالة في المسجد فقولوا: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا}؟
الجواب
حديثٌ صحيح رواه مسلم.(91/28)
حديث: النهي عن البيع والشراء في المسجد
السؤال
صحة حديث: {من سمعتموه يبيع ويشتري في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك}؟
الجواب
حديثٌ صحيح رواه الترمذي والحاكم إلى غير ذلك.(91/29)
الغضب من الزوجة
السؤال
زوجتي تخالفني كثيراً في بعض الأمور السهلة الميسرة، ولكني يشتد غضبي على ذلك وأخاف من ذلك؟
الجواب
هذا من الشيطان ولا يسلم بيتٌ من خلاف، وأسأل الله عز وجل أن يصلح ما بينكما؛ فلعلك أن تصبر، ولعلها أن تتأدب معك.(91/30)
الزوجة تؤجر لصبرها على غلظة زوجها
السؤال
هل للزوجة أجرٌ إذا صبرت على ما يأتيها من غلظة زوجها؟
الجواب
سبحان الله! صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها دخلت جنة ربها} [[أتى رجلٌ إلى عمر رضي الله عنه يطرق بابه يشتكي من زوجته، فانتظر عمر ما فتح الباب، فسمع الرجل خلافاً بين عمر وزوجته، فترك بعد ذلك طرق الباب أي: مثل من يقول: (في كل وادٍ بنو سعد) فذهب، ففتح عمر فرد الرجل قال: ما لك؟ قال: أتيت أشكو من امرأتي، فسمعت صوت امرأتك معك، قال عمر: إنه ما من بيتٍ إلا ويقع فيه مثل هذا، وإنها لتصنع خبزي، وتغسل ثوبي، وتقوم بخدمتي فأتغافل عنها]] أو كما قال، وهذا من كرمه رضي الله عنه وأرضاه.(91/31)
تضايق الزوجات من كتب أزواجهن
السؤال
ربما وجدت من زوجتي تضايقاً إذا قرأت أو حضرت في الكتب؟
الجواب
هذا يوجد كثيراً وقالت امرأة الزبير بن بكار: والله لكتبك علي أضر من ثلاث ضرائر، أو من أربع ضرائر.
وقال الجاحظ: هذا أضر شيء على النساء، لكن لا بد لها أن تصبر.(91/32)
تكليف المرأة زوجها
السؤال
يوجد من النساء كثيرات يردن الخروج دائماً وأبداً، ويكلفن أزواجهن من الوقت والملابس وفي مثل ذلك كثيراً؟
الجواب
أقول: إذا أدخلت الإيمان وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في البيت فسوف ينتهي كثير من ذلك، والمسلم لا يقصر في النفقة، ولا يزيد على قدر الحاجة: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67].(91/33)
زوجة تكثر من الذهاب إلى بيت أهلها
السؤال
لي زوجة أدعو الله لها كثيراً، وهي صالحة وقائمة وصائمة ومصلية، وأحبها حباً جما، ولكن تكثر الغياب إلى أهلها، وأنا لا أصبر على ذلك؛ فبم تنصحوني؟
الجواب
ننصحك أن تقلل من الزيارة إلى أهلها، لا يكون شعارها دائماً وأبداً: أهلي أهلي؛ لأن أهلها بيتك أنت، وأنت المسئول عنها، ولا تستأذن أباها ولا أمها، بل تستأذن منك أنت، وإذا تعارض إذنك وطلب أبيها قدم إذنك أنت، وعليها أن تتعقل في ذهابها وزيارتها، وكما قال صلى الله عليه وسلم -وأهل العلم يصححون هذا الحديث- قال: {زر غباً تزدد حباً} أما أريد أهلي كل يوم في الصباح وفي المساء فليس هذا بلائق، فما دام أن فيها من العلم والوقار والخير والهدى فزادها الله توفيقاً، ولكن أنصحها أن تقلل من الزيارة إلى أهلها.(91/34)
إسراف النساء في الملابس والحلي
السؤال
هل لك من وصية للنساء في مسألة الإسراف في الملابس وما يشترينه من ذهب وحلي، فقد أثقلن كثيراً على الأزواج؟
الجواب
لعلك أنت منهم.
نعم بعضهم يبيع البيت والأثاث والسيارة من أجل حلي زوجته، وتغير دائماً فأنا أقول: إن حلي المرأة تقوى الله، وإنها مهما تلبست بلباس الدنيا فلباس التقوى ذلك خير:
حورٌ حرائر ما هممن بريبة كضباء مكة صيدهن حرام
يحسبن من لين الكلام روانياً ويصدهن عن الخنا الإسلام
فلتكن المرأة مثل فاطمة بنت عبد الملك بن مروان، زوجة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وعنها وأرضاها في الجنة، سلمت حليها لبيت المال، لما تولى الخلافة قال: إن كنت تريدين الله والدار الآخرة، فسلمي الذهب إلى بيت المال، وإن كنت تريدين الدنيا، فاذهبي إلى أهلك، قالت: الحياة حياتك والموت موتك والهدم هدمك، والدم دمك؛ فهي ممن قال الله فيهن: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21].(91/35)
على المرأة أن تشارك في الدعوة
السؤال
يقول السائل: هل توصون النساء بالدعوة؛ لأنهن يكثرن الاجتماع ولكن ما نرى داعيات إلا قليلات؟
الجواب
ذكرت هذا في محاضرة: (صفات المرأة المسلمة) وهنا أقول: عليها أن تحمل الدعوة، وإذا لم تستطع أن تتكلم فلتهد الكتيب والشريط الإسلامي، عل الله أن ينفع بها، وفي النساء صحوة وعودة إلى الله، ففي مدينة من المدن حضر في محاضرة أكثر من ألفي امرأة من النساء لسماع المحاضرة، وفيهن عودة، وكثيرٌ منهن كتبن كتباً في الساحة، مثل كتاب إليك إليك، وكتاب احذري الهاتف يا فتاة الإسلام، وكتاب الحجاب للمرأة المسلمة، أو رسائل في الحجاب وغيرها من الكتب الكثيرة، فعسى الله أن يهديهن سواء السبيل.(91/36)
أوصي النساء بالزواج
السؤال
أوصِ النساء بأن يتقدمن للزواج؟
الجواب
بل إذا تقدم لهن أحد أوصيهن أن يقبلن، أما هي أن تعلن في عكاظ والجزيرة فليس هذا بصحيح، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الترمذي بسندٍ صحيح: {إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} وأنا أوصي -بالمناسبة- الشباب أن يتقدموا، أنا أعرف مئات الشباب ما تزوجوا يريدون أن يتخرجوا، وبعد التخرج يتوظفون وبعد التوظف يعملون، وبعد العمل يحاسبون ثم يموتون، فعليهم أن يتزوجوا، وعلى النساء ألا يرددن صالحاً إذا تقدم عل الله أن ينفع.(91/37)
حكم الغناء
السؤال
يقول قرأت في كتاب عن موضوع الغناء والموسيقى تحت عنوان الحلال والحرام في الإسلام والكتاب طبع في وزارة المعارف، وقرأت فيه قوله: (ولا بأس بأن تصحبه موسيقى غير مثيرة.
انتهى) والذي نعرفه أن الغناء حرام بشتى صوره بعودٍ أو غيره، فما ردكم على ذلك؟
الجواب
أيها الأخ شكراً لك والكتاب هذا للشيخ يوسف القرضاوي أثابه الله، وقد زل في هذه المسألة وأخطأ، والعالم قد يخطئ وليس معصوماً، فنقول: أسأل الله أن يسامحه ويعفو عنه، وقد تصدى له الشيخ الفوزان فرد عليه رداً عجيباً، وأتى بالكتاب والسنة وأقوال أهل العلم وكلام السلف، ونقولات من المجلدات، وقد نقلت كثيراً من ذلك -والله الموفق- في شريط (رسالة إلى المغنين والمغنيات) وسوف تسمع النقول بالصفحات من ابن تيمية وابن القيم وابن باز، والألباني، وأمثالهم من علماء الإسلام، والأحاديث والآيات، وما قالوا عن الغناء، وأضراره وفحشه، فأنا أطلب منك أن تستمع للشريط حتى تسمع الحق، وعسى الله أن يهديك وكل مسلم سواء السبيل.(91/38)
الأمر بتقوى الله
نادى الله العالمين جميعاً الأولين والآخرين بأن يتقوه.
وقد عرفها الصحابة والتابعون، وقد نقلت إلينا عنهم مواقف تبين تقواهم لله، ولعل من أسباب التقوى التعرف على سيرهم والأخذ بأسباب التقوى الموصلة إليها، ومن ذلك تدبر القرآن والدعاء وذكر الله دائماً وأبداً.(92/1)
الأمر بتقوى الله
اللهم لك الحمد، اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثل ما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك ولا إله إلا أنت.
في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي الجنة رحمتك، وفي النار سطوتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك.
لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، هدى به الله الإنسانية، وأنار به أفكار البشرية، وزعزع به كيان الوثنية، فعليه صلاة الله وسلامه، وعلى آله، وكل من سار على منواله إلى يوم الدين.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(92/2)
وصية الله للأولين والآخرين هي التقوى
نعم! الأمر بتقوى الله هي وصية الله للأولين والآخرين، ومن لم يعمل بهذه الوصية فإنه سوف يخسر ويهلك ويندم، ولذلك قال عز من قائل: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131].
فتقوى الله وصيته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للأولين والآخرين.(92/3)
حياة وميلاد المؤمن بتقوى الله
ومعنى الحياة: هي تقوى الله في القلوب.
كثير من الناس يظن أن معنى الحياة أن يأكل ويشرب، ويتمتع ويركب، ويسكن ويتكلم، وينام ويقوم، إنَّ حصر مفهوم الحياة في هذه الأمور يعني الحياة البهيمية -فالكافر وهو كافر يأكل ويشرب ويتمتع، ويركب ويسكن ويقوم وينام، لكنه كافر- لأن معنى الحياة أن تخرج من الضلالة إلى النور، ومن الغواية إلى الهداية، وأن تنقذ نفسك بتقوى الله من غضب الله، ولذلك يقول عز من قائل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَات لَِيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] أومن كان ميتاً في شهوته، وفي ضلالته، وفي عمايته، وفي غوايته -يتبع كل ناعق- كمن أحياه الله بالإيمان وبلا إله إلا الله، وشرح صدره لهذا الدين، وجعل له الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى نوراً وبَصَّره، وعلَّمه كيف يعيش ولماذا يعيش، وإلى أين يسير.
ولذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: " من اعتقد أنه سوف يهتدي بغير هدى الله الذي أنزل في كتابه، وأرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً" لأن المؤمن يعيش مرتين، أو يولد مرتين، والكافر يموت مرتين، فميلاد المؤمن يوم أتت به أمه يوم عرف الحياة، يوم نزل وأول ما وصل رأسه إلى الأرض، فأتى يبكي من ظلم الحياة ومن غوايتها ومما سوف يواجهه من مصاعب ومن مشاكل، ولذلك يذكر ابن كثير في ترجمة زكريا عليه السلام في البداية:
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
ولدتك أمك باكياً والناس حولك يضحكون سروراً لمجيئك، فأنقذ نفسك قبل أن تأتيك سكرات الموت وقبل أن يأتيك وعد الله واليوم الموعود وتشتد عليك السكرات، فأنقذ نفسك لتبتسم في تلك الساعة، ولذلك يقول الله عز وجل في هذه الساعة: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] ويقول عز من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32] فالحياة كل الحياة أن تحيا بالقرآن وبالإيمان فهذه هي الحياة الثانية أو المولد الثاني.(92/4)
حياة الكافر وموته
وأما الكافر فإنه يموت مرتين، قال تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11] يموت الكافر مرة يوم يكتب عليه الموت؛ كموت البهائم، ومرة قبلها مات، يوم مات قلبه؛ فما استنار بنور الله، ولا عرف منهج الله، ولا اهتدى بهدى الله، ولذلك كانت وصية الله عز وجل للأولين والآخرين بتقواه تبارك وتعالى، يقول عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] فهذا ابن مسعود أحد جيل الصحابة؛ ذاك الجيل الذي تربَّى على القرآن، وما عرفت البشرية على مدى أطوارها مجتمعاً كذاك المجتمع، أولئك الصحابة الذين نشروا لا إله إلا الله على البشرية، فبلغوا بعد خمس وعشرين سنة بلا إله إلا الله إلى السند وطاشقند والأندلس وجنوب أفريقيا؛ لأنهم عرفوا الله، ومنهج الله، ولا إله إلا الله.(92/5)
تعريف الصحابة للتقوى
قيل: يا بن مسعود! ما هو حق تقاة الله؟ قال: [[أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر]] أن يطاع الله فلا يعصى، هذا حق تقواه عز وجل، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، فمن كفر نعمة الله فما اتقى الله، ومن عصى الله فما اتقاه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن نسيه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أنساه الله نفسه، ومستقبله، وولده، وبيته، وأسرته، ومكتبه، ومنصبه في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولذلك يقول عز من قائل: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
وقف أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وهو -كما يقول ابن كثير - في عهده (بعد موت عثمان) أزهد الناس، وأخشى الناس، وأعلم الناس؛ لأنه تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقف على منبر الكوفة، فسئل عن التقوى؟ قال: [[هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل]] اسمع لكلمات النور وحرارة الإيمان التي بعثها جيل محمد صلى الله عليه وسلم في قلوب الناس، هي الخوف من الجليل، والجليل هو الله، والعمل بالتنزيل، فالذي يتقي الله ثم لا يعرف ماذا يتقي ولا تكون تقواه على بصيرة من الكتاب والسنة ما اتقى الله.
والرضا بالقليل، ألا تكون الدنيا أكبر همك، بل ترضى منها ما يكفيك؛ كالمسافر إذا أراد سفراً، والاستعداد ليوم الرحيل، هذا هو تعريفها عند علي رضي الله عنه وأرضاه.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو يسأل عن التقوى، وقبل أن نأتي لسؤال عمر نقف مع عمر وقفة قصيرة:
عمر أحياه الله عز وجل وولد مرة ثانية في الحياة الدنيا، لأنه -كما أسلفت- أن مولد الكافر مولداً واحد، لكن موته مرتين، فـ عمر عاش رضي الله عنه قبل أن يسلم في الجاهلية لم يكن يعرف إلى أين يتجه ولماذا يعيش؟ كما يعيش كثير من الناس اليوم.
كثير من الناس اليوم يعيشون على الطعام والشراب، وعلى المنام والكلام، ولكنهم لا يعرفون معنى الحياة، يظنون أنها كأس، ومتعة، ولهو، وغناء، وطرب، وبعد عن الله عز وجل.
فلما أراد الله أن يحيي قلب عمر رضي الله عنه.
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذاك القول العظيم بكتاب الله الكريم، فسمع عمر رضي الله عنه قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2] فاهتز لهذه الكلمات وسقطت كل ذرة من ذرات الشرك من جسمه، وأتى إيماناً كاملاً من أخمص قدميه إلى مشاش رأسه، فذهب ليبايع الرسول صلى الله عليه وسلم، وانضم إلى هذا الموكب الكريم الذي يتصل أول سنده بنوح عليه السلام، وآخر السند بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى آخر مؤمن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(92/6)
وقفات مع المتقين(92/7)
وقفات مع عمر
أتى عمر رضي الله عنه وانصبغ بهذا الدين، حتى إنه كان يقف على المنبر يوم الجمعة، وبطنه تقرقر من الجوع، وهو خليفة تحت يديه الذهب والفضة وكنوز الدنيا، ويقول لبطنه: [[قرقري أو لا تقرقري والله لا تشبعي حتى يشبع أطفال المسلمين]].
يقول ابن كثير: ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه مرض شهراً كاملاً لما سمع قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:24 - 26] لكن عمر رضي الله عنه في بردته البالية، وبعصاه، وبخوفه الذي يعيش فيه، اهتز له كسرى وقيصر فرقاً وخوفاً؛ لأنه خاف الله، ومن خاف الله خوف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله خاف من كل شيء، ولذلك يقول الأول:
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
يوم كنا نخاف الله، خوّف الله منا كل شيء، كانت ترهبنا الدنيا، وتخافنا المعمورة، ويدين لنا الكفرة، ويسلم لنا المعاندون، وتضعف أمامنا الجيوش الجرارة؛ لأنا خفنا الله.
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجواراً
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لصاغها حلياً وحاز الكنز والدينارا(92/8)
مع سعد بن أبي وقاص
وهذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، لما اتقى الله وكان قائد جيش المسلمين في مواجهة كسرى، جاء كسرى بثلاثمائة ألف مقاتل، وجاء سعد بثلاثين ألفا.
ثلاثون ألفاً مقابل ثلاثمائة ألف، فلما تلاقى الجمعان، أرسل سعد أحد شباب الإسلام، ألا وهو ربعي بن عامر، ذلك الشاب في الثلاثين من عمره، لا يملك من الدنيا شيئاً إلا ثوبه الذي عليه والرمح الذي بيده، والفرس التي يركبها، لكنه يملك أكبر طاقة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، طاقة لا إله إلا الله، وطاقة أنه يعرف الله، ويريد وجه الله، فدخل ربعي على رستم، فلما رآه رستم ضحك وضحك وزراء رستم الكافر الذي ما عرف الله طرفة عين.
فقال لـ ربعي: أجئتم تفتحون الدنيا بهذا الفرس المعقور، وبهذا الرمح المثلم، وبهذه الثياب الممزقة، فرفع ربعي رأسه الذي رفعه محمد صلى الله عليه وسلم
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
فقال ربعي: [[نعم، ابتعثنا الله، لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]] وكانت الواقعة، ونصر الله جنوده الذين كانوا يسجدون له، ويركعون له ويسبحون بحمده، وهزم الله أعداءه الكفرة الملاحدة الفجرة.
ودخل سعد رضي الله عنه وقد فر كسرى صاحب الإمبراطورية العاتية، الذي ظن أنها لا تهزم أبد الدهر، فلما دخل سعد ورأى إيوان كسرى، إيوان العدوان، والظلم، والبغي، والفجور، قال سعد: الله أكبر، فانصدع الإيوان، انصدع كما يقول أهل السير، فدمعت عينا سعد فرحاً بموعود الله، وقال: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:25 - 29].
لما اتقينا الله رفع الله -سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- رءوسنا في القرون المفضلة، ونصرنا ومهد لنا الدنيا، وأعلى ذكرنا ورفع شامتنا، فلما داخلتنا المعاصي، داخلتنا الذلة، وأصبحنا منزوين مستضعفين مستذلين، أصبح هم الواحد منا -إلا من رحم الله- أن يملأ بطنه، وأن يقضي شهوة فرجه، وأن يسكن بيتاً وارفاً، وأن يركب سيارة فاخرة، أهذه أمنيات المسلم؟!
أهذا هو الطموح الذي يريده الله ويريده رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لا والله!!(92/9)
مع عبد الله بن عمرو الأنصاري
كان يأتي الصحابي من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل المعركة يقول لأهله: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، لن أعود إليكم بعد اليوم، فعل ذلك كثير منهم، ومنهم: عبد الله بن عمرو الأنصاري، أحد الشباب الأخيار في المعركة الفاصلة بين الكفر والإيمان، التي شحذ لها أبو سفيان ثلاثة آلاف مقاتل، فلما التقوا في أحد في المدينة خرج أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وخرج معهم عبد الله بن عمرو الأنصاري واغتسل في صباح ذلك اليوم، وتطيب ولبس أكفانه، وأخذ سيفه، وقال لبناته: [[استودعكن الله الذي لا تضيع ودائعه، لا لقاء معكم إلا في جنة عرضها السماوات والأرض]] فلما أتى موعود الله وعلم الله عز وجل أن هؤلاء النفر يريدون وجهه، رزق الله هذا الرجل الشهادة في سبيله، قال ابنه جابر: {رأيت أبي وقد قُطِّع أمام الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة أحد قال جابر: فجعلت أكشف عن وجهه وأبكي فقال لي رسول الله: تبكيه أو لا تبكيه ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه} وفي تفسير ابن كثير بسند صحيح: {أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كلَّم هؤلاء النفر الشهداء - عبد الله بن عمرو وغيره من الشهداء- وقال: تمنوا علي -يقول: كلمهم الله بلا ترجمان مباشرة، قال: تمنوا علي- قالوا: نتمنى أن تعيدنا إلى الدنيا فنقتل فيك ثانية؟! لما وجدوا من طعم الشهادة ورفعتها وأجرها ومثوبتها- قال: إني كتبتُ على نفسي أنهم إليها لا يرجعون فتمنوا!! قالوا: نتمنى أن ترضى عنا فإنا قد رضينا عنك، قال: فإني قد أحللت رضاي عليكم فلا أسخط عليكم أبداً، قال الراوي: (قال صلى الله عليه وسلم: فأخذ الله أرواحهم، فجعلها في حواصل طير خضر، ترد مياه الجنة فتشرب من أنهارها، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، حتى يرث الله الأرض ومن عليها}.
يا لتلك التقوى التي عاشها أولئك النفر الصالح البار الراشد، الذي رباه محمد صلى الله عليه وسلم على سمع وبصر.(92/10)
في ماذا تكون تقوى الله
يقول الله عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
و
السؤال
في ماذا تكون التقوى؟
كثير من الناس يدَّعي التقوى، ويقول بلسانه: إنه متقٍ، لكن ما هي التقوى، تقوى الله (عز وجل) أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، ولذلك كلمة عمر السالفة التي توقفنا عندها، وقال أيضاً لـ أُبي وقيل لـ كعب: [[ما هي التقوى؟ صف لي التقوى، قال: يا أمير المؤمنين! أمررت بأرض أو بطريق فيه شوك؟ قال: نعم، قال: فماذا فعلت؟ قال: تحفزت وتحذرت، قال: فذلك التقوى]].
ما دام أن هذه الطريق ذات الشوك يتحفز ويتحذر منها المار فكذلك الحياة الدنيا.(92/11)
التقوى تكون بالتحرز من عذاب الله
من أراد تقوى الله فليتحفظ وليتحرز، وليحرز نفسه فإن الله عز وجل يحفظه، ولذلك في الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا غلام! قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله! قال: إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله.
واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
فتقوى الله معناها: المحافظة على أمر الله والانتهاء عما نهى الله عز وجل، وتقوى الله تكون في اللسان، وأعظم ما ابتلينا به اللسان، ولذلك يقول بعض أهل العلم: تسعة أعشار الذنوب من اللسان، واللسان هي أخطر ما يمكن أن تجر على المؤمن من الذنوب والخطايا.
ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ووصف المتقين عز من قائل، فقال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3].(92/12)
حفظ الجوارح طريق النجاة
يقول عقبة بن عامر أحد الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! ما النجاة؟ -أي: ما هو الأمر الذي ينجيني من غضب الله، ومن سخط الله، ومن عذاب الله- قال: كف عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك} وقال معاذ: {يا رسول الله! ما هو العمل الذي يقربني من الجنة ويباعدني عن النار، قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه -ثم ذكر له صلى الله عليه وسلم الأمور التي تقربه من الجنة، وتنجيه من النار- ثم قال في آخر الحديث: ألا أدلك على ملاك ذلك كله، قال: قلت: بلى يا رسول الله قال: كف عليك هذا -وأخذ بلسان نفسه- قال: أإنا لمؤاخذون يا رسول الله! بما نتكلم به، قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على مناخرهم، أو قال: على أنوفهم إلا حصائد ألسنتهم}.
فنعوذ بالله من أضرار اللسان، ولذلك عرف الصالحون ضررها وعلموا أنه لا يمكن أن تكمل تقوى الله إلا باجتناب ضرر هذه اللسان.
يقول أحد التابعين: رأيت أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وقد أخذ بلسان نفسه، وهو يحاسب نفسه، ويقول: [[هذا أوردني الموارد]] أي: أوردني موارد الهلاك، هذا وهو أبو بكر الصديق صاحب القدم الثابت في الإسلام، والأول استجابة من الكبار، وصاحب الإنفاق في سبيل الله، وخليفة المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يُدعى يوم القيامة من أبواب الجنة الثمانية.
لأن للجنة أبواباً ثمانية كما تعرفون، يقول عليه الصلاة والسلام: {إن للجنة أبواباً ثمانية، فمن كان من أهل الصلاة، دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، إلى آخر تلك الأبواب، فقال أبو بكر وهو بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أيدعى أحد من تلك الأبواب الثمانية} -انظر إلى الهمة العالية، انظر إلى طلب ما عند الله عز وجل، ولذلك هذه الهمة ليست بالأجسام، وليست بالمناصب، وليست بالأموال، ولكنها بالقلوب، همة تمر مر السحاب {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88]-فيتبسم صلى الله عليه وسلم إعجاباً من هذا الرجل العظيم الذي يريد أن يدعى من الأبواب الثمانية، يريد أن يكون من المصلين ومن الذاكرين والمتصدقين ومن الزهاد والعباد والمجاهدين- فقال له صلى الله عليه وسلم: {نعم وأرجو أن تكون منهم} أبو بكر رضي الله عنه يقول الإمام أحمد في كتاب الزهد في ترجمة أبي بكر رضي الله عنه، أثر عنه أنه دخل مزرعة رجل من الأنصار، دخل وهو خليفة يتنزه مع الناس رضي الله عنه مع الصحابة، فلما رأى مزارع الأنصار رأى طائراً يطير من نخلة إلى نخلة ومن شجرة إلى شجرة، فجلس يبكي رضي الله عنه -وكان رجلاً حزيناً رقيق القلب، متأسفاً نادماً لما في قلبه من إيمان، ومن مخافة- فقال له الصحابة: يا خليفة رسول الله! مالك؟ قال: [[أبكي لهذا الطائر يطير من شجرة إلى شجرة، ويرد الماء ويرعى الشجر، ثم يموت لا حساب ولا عذاب، يا ليتني كنت طائراً، فبكى الصحابة رضوان الله عليهم]].(92/13)
من صفات المتقين
هؤلاء هم الذين عرفوا تقوى الله عز وجل، وخافوه.(92/14)
بذل المعروف من صفات الأتقياء
أورد ابن القيم في روضة المحبين [[أن أبا بكر رضي الله عنه لما تولى الخلافة كان يخرج من مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر كل يوم إلى ضاحية من ضواحي المدينة، فيمكث في خيمة هناك منزوية في الضاحية ساعة ثم يخرج، قال عمر: لأتبعن اليوم أبا بكر، ما جهة خروجه، ولماذا يخرج؟ فأخذ عمر رضي الله عنه يتبع أبا بكر، حتى وصل أبو بكر إلى تلك الخيمة، وهو لا يرى عمر وعمر يراه، فمكث ساعة في الخيمة ثم خرج منها، فلما خرج دخل عمر رضي الله عنه إلى تلك الخيمة، فوجد فيها امرأة عجوزاً حسيرة كسيرة، عمياء، فقال لها عمر: يا أمة الله! من أنت؟ قالت: أنا امرأة عجوز حسيرة كسيرة عمياء، لي أبناء وبنات وليس معنا كافل، مات أبونا ولا كافل إلا الله، قال: فمن هذا الشيخ الذي يدخل عليكم؟ - عمر يعرف أنه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه- قالت: هذا الرجل لا نعرفه، يأتينا كل يوم فيكنس بيتنا، ويصنع فطورنا، ويحلب شياهنا، فجلس عمر يبكي ويقول: رحمك الله يا أبا بكر، أتعبت الخلفاء بعدك]].
إن لم يكن هذا وفاءً صادقاً فالناس في الدنيا بغير شعور
رحماك ربي هل بغير سجودنا عرف السجود لبيتك المعمور
أي جيل هذا الجيل؟! وأي طراز هذا الطراز الذي رباه محمد صلى الله عليه وسلم؟!
من أراد أن يتعرف على تقوى الله فليدرس حياة هؤلاء.
فالذي لا يعرف حياتهم، أو لا يدرس حياتهم، أو لا يعرف ما قالوه وما سطروه وما تركوه، سوف يبقى في جهل، وفي عماية وغواية؛ لأنهم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرف الناس بالإسلام.(92/15)
حفظ اللسان من صفات المتقين
ولذلك أثر عن ابن عباس رضي الله عنه في اللسان، أنه وقف على الصفا وأخذ يبكي ويمسك بلسان نفسه ويقول: [[يا لسان! قل خيراً تغنم أو اسكت عن شر تسلم]] فالذي أوصي نفسي وإياكم به هو تقوى الله في اللسان، وهو أعظم ما يتقى، فإن أعظم ما يصاب العبد بالذنوب والخطايا من اللسان فليتق الله العبد في لسانه، فلا يتكلم إلا بخير.
قال أحد التابعين: جلسنا مع عطاء بن أبي رباح ثلاثين سنة في الحرم ما كان يتكلم إلا بذكر الله أو بآيات الله، أو بأمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو بحاجة لا بد منها، فقلنا له في ذلك، فقال: [[مالكم! أتنسون أن عليكم من يحفظ أنفاسكم ومن يسجل كلماتكم ويحاسبكم به أمام الله؟ {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]]] فالله الله في حفظ اللسان.
تحفظ اللسان من اللعن والبذاءة والفحش، ومن الإسراف في المزاح الذي لا يرضي الله عز وجل، ومن كثرة اللغو بغير ما يرضي الله عز وجل، ومن الغيبة، والنميمة، والاستهتار والاستهزاء، خاصة بالأخيار، وبالعلماء، وبطلبة العلم، وبالدعاة، فإن هذا هو النفاق الظاهر الذي لا نفاق بعده.(92/16)
طيب المطعم من صفات المتقين
وتقوى الله كذلك في المطعم، قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: {يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، قال: يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة}.
أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، أي: أحسن هذا المطعم وليكن حلالاً يجيب الله دعاءك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك ذكر صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: {الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له!} أي: كيف يستجاب لمن مطعمه حرام؟ وكيف تقبل صلاته، وصيامه، وحجه، وعمرته، وذكره، وتلاوته للقرآن وقد أكل الربا، ولبس منه وتغذى به وشرى سيارته وبنى بيته بالربا!! وبه ربى أطفاله فأي عبادة هذه؟!
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لعن الله آكل الربا ومؤكله، وكاتبه وشاهديه، وقال: هم في الإثم سواء} فلما قال سعد: {يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، قال: أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: اللهم أجب دعوته وسدد رميته} يدعو لـ سعد بن أبي وقاص فاتح العراق، أحد العشرة المبشرين بالجنة، الذي حضرته الوفاة وهو في البادية، كما يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء، فلما أتته الوفاة قربت ابنته عائشة منه وأخذت تبكي، فقال لها: ابكي أو لا تبكي، والله إنني من أهل الجنة، فقال الذهبي: صدقت هنيئاً لك ومريئاً، نشهد أنك من أهل الجنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم شهد له أنه من أهل الجنة، ومع ذلك فكان دائماً طيب المطعم، خائفاً من الله وجلاً، فأجاب الله دعوته في أكثر من موضع.(92/17)
استجابة الله لدعاء المتقين
وفي صحيح البخاري في كتاب الصلاة أن أهل الكوفة وكان هو أميرهم، اشتكوه إلى عمر، اشتكوا سعداً إلى عمر الخليفة، شكوه حتى في الصلاة، قالوا: لا يحسن أن يصلي بنا، فيقول سعد مندهشاً متعجباً من هذا الأمر: يا عجباً لبني أسد يعيرونني حتى في الصلاة وأنا أدخلتهم في الإسلام بسيفي هذا!! وصدق رضي الله عنه فإنه هو وأمثاله من دعاة الحق الذين أدخل الله بهم كثيراً من الأمم في الإسلام، فلما وصلت الشكوى إلى عمر، أرسل عمر بعض الصحابة يستقصون الحقائق في العراق، فمروا بمساجد الكوفة مسجداً مسجداً، كلما سألوهم عن سعد أثنوا عليه خيراً ودعوا له بالخير، إلا مسجداً واحداً، مسجد بني عبس قام رجل اسمه أبو سعدة، فقال: "أما إن سألتمونا عن سعد فوالله إنه لا يعدل في القضية، ولا يحكم بالسوية، ولا يسير مع السرية" وقد ظلم سعداً في هذا الكلام، فقام سعد وقال: [[اللهم إن كان هذا الرجل قام كاذباً ورياءً وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن]] فاستجاب الله دعوة الصادق سعد رضي الله عنه، لما علم صدقه وإخلاصه وإنابته لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فأطال عُمْر هذا الرجل.
يقول أحد الرواة اسمه عبد الملك: والله لقد رأيت هذا الرجل بعيني وقد طال عمره، حتى أصبح شيخاً كبيراً سقط حاجباه من الهرم على عينيه، وأصبح يتعرض للجواري في سكك الكوفة يغمزهن ويقول: شيخ مفتون أصابتني دعوة سعد.
وفي سير أعلام النبلاء أن سعداً رضي الله عنه صلى بالناس في الكوفة فلما خرج من المسجد رأى أناساً مجتمعين على رجل، قال: من هذا الرجل؟ قالوا: هذا الرجل يسب علياً بعد أن توفي علي، [[قال سعد رضي الله عنه: لا تسب أخي علي بن أبي طالب، قال: والله لأسبنه، فقال سعد: اللهم أكفناه بما شئت، قال أحد التابعين: والله ما فارقنا المكان إلا وقد ند بعير -جمل- فأقبل إلى الناس فتنحى الناس عنه فاقترب من هذا الرجل فضربه البعير بيده فأرداه قتيلاً في الأرض ونحن ننظر]] لأنهم صدقوا الله وعرفوا تقوى الله، والتمسوا رضا الله، فأجاب الله دعاءهم -سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- وأعطاهم ما تمنوا في الدنيا والآخرة.
نصرهم على أعدائهم وثبت الإيمان في قلوبهم، وكتب حبه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في أرواحهم، وجعلهم خيرة الناس؛ لأنهم يتقونه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: [[خرجنا مع العلاء بن الحضرمي في سرية أرسلنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتهنا وضعنا في الصحراء، فانتهى طعامنا ونفذ ماؤنا، فاستيقنا بالموت، حتى حفر بعضنا قبورهم، وجلسنا ننتظر الموت، ثم التفتنا إلى العلاء بن الحضرمي فقلنا: يا علاء! ادع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لنا، فإن الله يجيب دعاءك، فرفع العلاء بن الحضرمي يديه وقال: يا عليَّ يا عظيم! يا حليم يا عليم! أغثنا، فقال أبو هريرة: فوالله ما كأنه انتهى من دعائه إلا وإذا بسحابة تغطي مخيمنا، وتهطل علينا، فتوضأنا وشربنا واستقينا واغتسلنا]].
هذا لأنهم عرفوا الله عز وجل فلبَّى الله لهم ما سألوا، فتقوى الله عز وجل تكون في المطعم الحلال أن يتقي الله الإنسان فيما يدخل بطنه فلا يدخل بطنه إلاَّ كل حلال طيب؛ ليقبل الله منه أحسن ما يعمل ويتجاوز عن سيئاته {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].
وتقوى الله عز وجل تكون في السمع والبصر، ولذلك يقول الإمام الشافعي:
لسانك لا تذكر بها عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن
وعيناك إن أبدت إليك معايباً لقومٍ فقل يا عين للناس أعين(92/18)
وسائل تحصيل التقوى
والأمور التي تحصل بها التقوى قد تجمع في أربعة أمور:(92/19)
مراقبة الله عز وجل
الأمر الأول مراقبة الله عز وجل في السر والعلن:
وذلك بأن تجعل الله رقيباً عليك في سرك وعلانيتك، فإنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا تخفى عليه خافية، وهو معك أينما كنت.
فهو مع الكافر والفاجر، معية إحاطة وإدراك، وهو مع المؤمن معية نصرة وتأييد وحفظ، ولذلك اتق الله الذي هو معك {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219].
فاجعل منه رقيباً سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، اعبده كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذا تعريف الإحسان الذي عرفه به محمد صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل الطويل.
واعلم أن المراقبة من أعظم ما يمكِّن التقوى في القلب خاصة في السر؛ لأن كثيراً من الناس يراقبون الله في العلانية، وإذا خلوا في السر تهتكوا بحرمات الله ولعبوا بحدود الله، فويلهم من الله.
جاء في سنن ابن ماجة عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ليأتين أقوامٌ يوم القيامة بحسنات كـ جبال تهامة، يجعلها الله هباءً منثوراً، قالوا: يا رسول الله! أليسوا بمسلمين هؤلاء، قال: بلى مسلمون، يصلون كما تصلون ويصومون كما تصومون، ولهم حظ في الليل ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها} فهؤلاء يجعل الله أعمالهم يوم القيامة هباءً منثوراً، ويوردهم موارد الظالمين نعوذ بالله من ذلك.
كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: [[الله الله في السرائر! اللواتي هن خفيات على الناس، وهن عند الله بوادي]] أو كما قال.
يقول الأندلسي يوصي ابنه:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
هذا الأمر الأول المراقبة ودوام المراقبة.(92/20)
ذكر الله
الأمر الثاني: الذي أوصي نفسي وإياكم به؛ كثرة ذكر الله دائماً وأبداً، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:35] وقال عز من قائل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191] وقال عز من قائل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45] فذكر الله أكبر من كل شيء، وهو من أعظم ما تحصله الصلاة، فالله الله في ذكر الله!
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المجلد العاشر من فتاويه، سأله أبو القاسم المغربي عن أعظم وصية توصيني بها، وعن أعظم عمل أعمله بعد الفرائض، وعن أجل كتاب بعد كتاب الله، وعن أحسن مهنة، قال: أما أعظم وصية فلا أظن أعظم من وصية الله للأولين والآخرين وهي تقوى الله، وهي التي وصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم جيوشه ورسله حينما كان يرسلهم، كـ معاذ حينما قال له صلى الله عليه وسلم -كما في الترمذي -: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن} وأما أعظم عمل -يقول ابن تيمية: لا أعلم عملاً بعد الفرائض أعظم -وهو كالإجماع عند العلماء- من ذكر الله عز وجل.
فليكن ذكر الله وردك -يا أخي المسلم- دائماً وأبداً، اذكر الله جالساً وقائماً وعلى جنبك وسفرك وفي حلك وترحالك وفي ليلك ونهارك؛ ليتولاك الله وليشرح صدرك للإسلام، وليحبب لك الطاعة وليكفر عنك سيئاتك، وليجتبيك وليلهمك رشدك، وليبصرك بحقائق هذا الدين, وليجعلك من الأخيار الأبرار، فعليك بذكر الله دائماً وأبداً.
ولذلك من فوائد التقوى أن الله يجعل للمتقي بصيرة وفرقاناً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29] وقال عز من قائل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:3] وقال: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق:5] وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4] فهذه الأمور كلها نتائج لتقوى الله.(92/21)
تدبر كتاب الله
الأمر الثالث الذي تحصل به تقوى الله: تدبر كتاب الله عز وجل، فأوصيكم وأوصي كل مسلم، ثم أوصي نفسي أولاً، بتدبر كتاب الله عز وجل، هذا الكتاب الخالد الذي أنزله الله شفاءً ونجاةً وهدايةً ونوراً؛ يجب أن نتدبره وأن نجعل لنا ورداً يومياً نقرؤه؛ حزب أو جزء لا يمكن أن نغادره، قال عز من قائل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ما لهم لا يتدبرون القرآن، ما لهم لا يتفهمون حقائق القرآن ليعرف الحق من الباطل، والرشد من الغي، والضلالة من الهداية، وقال عز من قائل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] وقال تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] فأوصي نفسي وإياكم بتدبر كتاب الله، ثم قراءة السنة المطهرة والسيرة الخالدة سيرة محمد صلى الله عليه وسلم، وكتب السنة كلها سيرة، ومن أحسن ما كتب في السيرة، كتاب زاد المعاد لـ ابن القيم رحمه الله، فليتدبر وليقرأ وليفهم، في العبادة والصلاة والحج، لأن حياته صلى الله عليه وسلم كلها نور وهداية.(92/22)
الدعاء يعين على تقوى الله
الأمر الرابع مما يعين على تقوى الله عز وجل: كثرة الدعاء، دائماً وأبداً، فعلينا أن نضرع إلى الله بالدعاء، يقول عز من قائل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] فالدعاء الدعاء دائماً وأبداً {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] قيل لـ عمر رضي الله عنه: [[ما هي النجاة؟ قال: ما أعلم بعد رحمة الله كالدعاء]] فالدعاء هو النجاة بإذن الله، خاصة إذا صاحب الأوقات الفاضلة، كأدبار الصلوات وفي السجود، وبين الأذان والإقامة، وفي آخر الليل لمن سهل الله له، وآخر ساعة من الجمعة ويوم عرفة، والأيام الفاضلة المشهودة في اجتماع الناس كهذا المجلس، الذي نسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، أن يفتح علينا وعليكم، وأن يلهمنا رشدنا، إنه على ذلك قدير.(92/23)
مجالسة الصالحين
الأمر الذي ينبغي التنبيه عليه مما يعين على تقوى الله: مجالسة وصحبة وزيارة الصالحين، ومحبتهم والاستئناس بلقياهم فإنها من أعظم ما يعين على تقوى الله، كيف يتقي الله من يجالس الفجرة، ومن يحب المفسدين في الأرض؟! كيف يتقي الله من دائماً وقته مع كل معرض عن الله وكل فاجر في حدود الله عز وجل؟! ولذلك يقول علي رضي الله عنه وأرضاه: [[يا أيها الناس تزودوا من الإخوان الصالحين فإنهم عون في الدنيا والآخرة، قالوا: يا أبا الحسن! أما في الدنيا فصحيح، ولكن الآخرة في ماذا؟ قال: أما سمعتم الله عز وجل يقول: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] فوصف الله المتقين بمفهوم أنهم أصدقاء وأنهم أعوان في الآخرة كذلك]].
يقول الشافعي في رسالة للإمام أحمد:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة
فالله الله في محبة الصالحين، وفي الاستفادة منهم، وفي الجلوس معهم، وفي طلب دعائهم فإنه من أعظم العون في الدنيا والآخرة.
إخوتي في الله: لا أحب أن أطيل عليكم ولكنها وصيتي الجامعة بتقوى الله عز وجل، في السر والعلن وفي الحل والترحال، أن نتقي الله في أسماعنا وأبصارنا وألسنتنا وفي قلوبنا وفي مطاعمنا ومشاربنا وملابسنا، وأن نتقيه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في كل أمر ليكون الله سبحانه معنا، وليكفر عنا سيئاتنا وليتقبل منا أحسن ما كنا نعمل.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(92/24)
الأسئلة(92/25)
أسباب الوحشة مع الله وعدم الخشوع في الصلاة وعلاج ذلك
السؤال
إني أحبك في الله، وأرجو الإجابة على ما يلي:
كثيراً ما يجد الإنسان بينه وبين ربه وحشة، فمن آثار هذه الوحشة، أن هذا الإنسان لا يخشع في صلاته ولا يملك الراحة النفسية في حياته، ما أسباب ذلك، وما علاجه؟
الجواب
أحبكم الله الذي أحببتمونا فيه، هذه الوحشة ترد على القلوب وهي تتفاوت تفاوتاً لا يعلمه إلا الله عز وجل، وأعظم وحشة في الحياة الدنيا وحشة الكافر، فإن وحشته لا أكبر منها ولا أعظم ولا أفحش، قال عز من قائل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126] ثم وحشة الفاسق وهو مجرم وإن كان مسلماً، لكنه متهتك في حدود الله، إن كان مسلماً في الجملة فإنه قد يكون مسلماً، لكنه قد يكون فاسقاً، يرتكب بعض الكبائر، ويصر على الصغائر فوحشته كذلك بعد وحشة الكافر، ثم الوحشة تتنوع بحسب قوة الإيمان وضعفه، فالأقوى أقل وحشة، حتى إن منهم من لا يجد وحشة أبداً، وهؤلاء الذين كتب الله الإيمان في قلوبهم، وأيدهم بروح منه.
فالوحشة التي تجدها -يا أخي- في بعض الأوقات هي من آثار الذنوب والخطايا، والمعاصي، أو كثرة المباحات، أو تجدها من الغفلة والفتور عن ذكر الله، وعلاجها يسير على من يسره الله عليه، أولاً: عليك بالمحافظة على فرائض الله عز وجل، وخاصة الصلوات الخمس بأركانها وركوعها وسجودها، وادع الله في أدبار الصلوات، وبين الأذان والإقامة في أن يفتح الله عليك، وأن ينور قلبك لذكره وأن يهديك سواء السبيل.
الأمر الثاني: عليك بكثرة ذكر الله عز وجل لتنفي عنك الغفلة، لأن الوحشة من آثار الغفلة، وابن القيم يقول: إن من فوائد ذكر الله عز وجل: أنه ينفي الغفلة عن العبد والوحشة التي يجدها العبد بينه وبين الله، فسبب الوحشة بينك وبين الله من المعاصي والمخالفات وترك ذكر الله عز وجل هي قسوة القلب.
الأمر الثالث الذي أنصحك به: تلاوة كتاب الله وليكن أنيسك دائماً وأبداً واحفظ منه ما تيسر، وردد آياته، ورنم ما فيه من آيات ورتلها لعل الله عز وجل أن يجعل لك أنساً بهذا الكتاب.
الأمر الرابع: جالس الصالحين كما سلف في الحديث وزرهم، واطلب دعاءهم، وأحبهم في الله عز وجل ليكون هذا المؤنس.
والذي يورث الوحشة هي المعاصي وهي البعد عن الصالحين، وهي هجر كتاب الله عز وجل، أو التخلف عن بيت الله -المسجد- فهذه كلها أسباب الوحشة والهم، والحزن، والخيبة والندامة، واللعنة والغضب والسخط في الدنيا والآخرة، فنعوذ بالله من ذلك!(92/26)
حكم الغناء وغيره من الآلات وعقاب المغني يوم القيامة
السؤال
من الأمور التي ابتلي بها المسلمون وهي التي أزالت التقوى من القلوب هو الغناء، فنرجو منكم الإيضاح في حكمه، وغيره من اللهو، من الدف وغيره، وما الفرق بين الدف والطبل وما هو العقاب يوم القيامة للمغني والسامع لهذا الغناء، وهل هناك علاقة بين السماع للغناء وعدم الغيرة أي: الدياثة؟
الجواب
الغناء من أكبر ما ابتليت به الأمة ومن أكبر ما عرضت الفاحشة في الأمة، وهو بريد الزنا كما يقول أهل العلم، ولا يقع الإنسان في الزنا حتى يأخذ هذه الوسائل، سماع الغناء الكثير، وكله رخيص، والغناء الماجن يحبب الفاحشة من الغزل والعشق وذكر الأحبة، وهم في الحقيقة أعداء، والله عز وجل ذكر هذه الجريمة في كتابه سبحانه فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان:6] فاشتراء لهو الحديث قيل: هو الغناء، وقال: [[ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً عليه ومرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت البقل من المطر]] [[وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لأبنائه: إياكم والغناء فوالله ما استمع الغناء مسلم إلا وقد أركبه الفاحشة]] فهو الذي يدل على الفواحش.
وأكثر ما ابتليت به مجتمعاتنا من الفواحش الكبار هي بأسباب هذه الأمور والوسائل التي جذبتها وجرتها إلى تلك الحفر الرديئة نسأل الله العافية!
وفي صحيح البخاري عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ليكونن أقوامٌ من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} قال أهل العلم: إنما قال يستحلون بعد التحريم، ومن المعازف العود والوتر والناي والطبل والدف وكل ما دخل في هذا، وإنما يباح الدف في صورة واحدة للنساء في الأعراس وأما الرجال فلا يباح لهم بحال، لا الطبل ولا الدف، وكيف يتقي الله سبحانه من يرقص قلبه على معصية الله عز وجل؟! والغناء حكمه التحريم، وهو الظاهر من كلام أهل العلم، فصاحبه آثم، وارتكب أمراً محرماً، وجزاؤه في الآخرة كما ورد في بعض الآثار أن يصب الله الآنك في أذنيه وهو الرصاص المذاب، وأن يحرمه الله غناء الحور العين في الجنة اللواتي ثبت في السنن وفي مسند أحمد: {إن هناك في الجنة الحور العين ينشدن ويقلن: نحن الخالدات فلا نبيد، ونحن الناعمات فلا نبأس، طوبى لمن كنا له وطوبى لمن كان لنا}.
قال ابن القيم رحمه الله في منظومته:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتهز أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات في الأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
فمن آثار الغناء:
أولاً: أنه يضعف الإيمان أو يلاشيه إلى النهاية.
الأمر الثاني: أنه يحبب الفاحشة ويحبب الزنا، ويحبب الجريمة والبعد عن الله.
الأمر الثالث: أنه يصد عن ذكر الله عز وجل، فصاحب الغناء والمستمع له لا يذكر الله كثيراً، وإن ذكره فإنما هو ذكر المنافق، يقول الله عز وجل: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].
الأمر الرابع: أنه يفتر عن طاعة الله عز وجل، ويجعل أنكد الأمور وأثقلها على المستمع للغناء الصلاة، وتلاوة القرآن.
الأمر الخامس: أنه يشعب القلب، ويورث فيه الهموم والأحزان، ويبتليه بمرض العشق وداء الوله والغرام، الذي يصاب به المنكودون المحرومون، المخذولون من طاعة الله عز وجل، ومن التلذذ بذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
الأمر السادس: أنه يحرم العبد لذة استماع الحور العين في الجنة.
الأمر السادس: أن الله يعاقب من استمع إلى الغناء في الدنيا بأن يصب في أذنه الآنك يوم القيامة، فنعوذ بالله من هذا الأمر، ونسأل الله أن يسلم الأمة وشبابها من هذه الجريمة إنه على كل شيء قدير.(92/27)
السبيل إلى معرفة الحكم الشرعي في أمر لم يعرف حكمه
السؤال
كثيراً ما يواجه المسلم في حياته مواقف وظروفاً لا يعلم الحكم الشرعي فيها، فماذا يعمل؟ وكيف يتصرف؟ هل يعمل ويتصرف مثلما يتصرف الناس وما اعتادوا عليه، ويقول مثلي مثل الناس؟
الجواب
نعم.
يمر الإنسان بظروف وبأزمنة وملابسات قد لا تطرأ على باله ولا يتهيء ولا يستعد لها، فما هو الحكم في هذه الحال والحل، قال السائل: هل يعمل بما يعمل به الناس أم ماذا يفعل؟ لا.
عليه في هذه الحال وفي هذه المسألة التي لا يعرف الحكم فيها أو الموقف أو الزمان أو ملابسة الحال أو القرينة، أو الظرف الذي يعيش فيه بثلاثة أمور:
الأول: أن يدعو الله عز وجل أن يوفقه وأن يلهمه رشده، وأن يكثر من ذكر الله عز وجل، فإن من يدعو الله عز وجل يوفقه سبحانه ويسدده، والدعاء كذلك بحفظ أوامر الله، فإنه إذا حفظ أوامر الله حفظه الله عز وجل وألهمه رشده ووفقه، ومن الدعاء المطلوب في هذا الجانب أن يقول كما علم صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب كما في الصحيح قل: {اللهم اهدني وسددني} وقال حسين بن معبد: {يا رسول الله! علمني دعاءً أدعو به، قال: قل: اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي}.
يقول ابن تيمية رحمه الله: من أحسن ما يدعو به العبد الدعاء الصحيح كما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: {اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم} فعليه بالدعاء.
الأمر الثاني: عليه بالتفقه في الدين وليخصص من وقته ولو كان موظفاً أو تاجراً أو في أي مهنة أن يخصص من وقته أو من يومه بعض الوقت للسماع أو قراءة بعض الكتب الإسلامية التي تعين على التفقه في الدين، أو سماع الأشرطة الإسلامية وهو أعظم ما يعين كذلك، أو مجالسة أهل العلم، أو سؤال طلبة العلم والدعاة عن هذا الحكم.
الأمر الثالث: أنه إذا أشكلت عليه مسألة أن ينظر إلى أهل الخير وأهل الاستقامة والذين يلتمس فيهم الخير فليسألهم، أو يفعل كما يفعلون فإنهم إن شاء الله على خير وبصيرة، وخاصة إذا كانوا كثيرين، ولا ينظر إلى عامة الناس، فإن الله يقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] ويقول: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] أي أن الكثير ضالون، فلا ينظر إلى فعل الناس، وكثير من الناس يستدل على الجرائم والمعاصي إذا لابسها واقتحمها، قال: ذاك فعل الناس، أما ترى كيف يفعلون؟ وهذا ضال مضل، وهذا سخيف عقل، نعوذ بالله من ذلك، وهذا ليس له رشد؛ لأنه لو كان راشداً لنظر إلى الصالحين ولو كانوا قلة، ونظر إلى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ونظر إلى الأفاضل من العلماء والأخيار، وما يتبع عامة الناس إلا جاهل مغرور بنفسه معجب برأيه، ونسأل الله أن يثبتنا وأن يثبت كل مسلم حتى نلقاه.(92/28)
التثاقل عن أداء الفرائض والنوافل
السؤال
ذكرتم آنفاً بأن هناك أموراً تستجلب التقوى، منها الصلوات المفروضات والنوافل، وهي الصلاة عموماً وصلاة الفجر خصوصاً وصلاة الوتر من الأمور النافلة، وحفظ كتاب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، هذه الأمور الثلاثة كثير من الناس يتكاسل أو يتثاقل عنها مع أنه حصلت له عدة محاولات لكي يواصل ويستمر عليها بدون انقطاع، فما هو العلاج لهذه الأمور لكي يستجلب هذه التقوى، وجزاكم الله كل خير؟
الجواب
ذكر الأخ في السؤال أموراً منها فريضة ومنها نافلة، فمثل صلاة الفجر فريضة، لا يعذر مسلم بتركها، ومن تركها فهو كافر، ومن ترك أداءها في الجماعة فهو فاسق مضيع مفرط يأثم وقد ارتكب أمراً محرماً، وأما الوتر فهو سنة مؤكدة لا يتركه ومن داوم على تركه فهو فاسق أيضاً، وحفظ القرآن على القدرة، وهو من أفضل الأعمال، فأما صلاة الفجر ففي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فالله الله! لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من طلبه في ذمته بشيء أدركه من أدركه وأهلكه} فعلامة إيمان المؤمن الصلاة مع الجماعة في صلاة الفجر ومع بقية الصلوات، لكن كثيراً من الناس قد يصلي أغلب الفرائض ويترك صلاة الفجر في المسجد، وهذا علامة النفاق، قال ابن مسعود كما في صحيح مسلم: [[حافظ على هذه الصلوات الخمس فإنهن من سنن الهدى، وإننا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى به بين الرجلين حتى يقام في الصف]] فصلاة الفجر جماعة هي فريضة ولا تترك بحال، ومن يتركها تركاً فهذا كافر، وأما أن يصليها في بيته ففاسق نسأل الله العافية والسلامة!
فالمداومة عليها حفظ للنهار فمن داوم عليها في جماعة حفظه الله في يومه، قال بعض أهل العلم: يحفظه الله من الكبائر، فلا يصاب ذلك اليوم بكبيرة أبداً؛ لأن الله حفظه وسدده بسبب صلاة الفجر.
والوتر -بارك الله فيكم- لا يترك أبداً، وهو من أعظم الأمور، وآخر الليل أحسن أوقات الوتر، وإن لم يستطع العبد فعليه أن يوتر قبل أن ينام، كما قال صلى الله عليه وسلم وهو يوصي أبا هريرة، يقول أبو هريرة رضي الله عنه في الصحيحين: {أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن حتى أموت، بركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر} فعلى المسلم إذا لم يستطع أن يقوم آخر الليل أن يوتر قبل أن ينام، وأن يحفظ الله في هذه النوافل ليحفظه الله في الفرائض.
قال ابن المبارك رحمه الله: من تساهل في الآداب عاقبه الله بترك النوافل، ومن ترك النوافل عاقبه الله بترك الفرائض، ومن ترك الفرائض ابتلاه الله بالكفر، نعوذ بالله من الكفر!
وأما حفظ القرآن فهو من أجل الأعمال يقول عز من قائل: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] ولكن قد يشق على كثير من الناس حفظ القرآن كاملاً فعليه أن يحفظ ما تيسر له، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الترمذي: {إن القلب الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب} فعليك -يا أخي في الله- أن تحفظ ما استطعت من كتاب الله، وأن تردد ولو جزءاً بسيطاً من القرآن وليكن غذاءك، وروحك، ودواءك، وشفاءك ليهديك الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى سواء السبيل.(92/29)
مسلمو العصر ودخول أكثر من باب في الجنة
السؤال
إني أحبك في الله تعالى والسؤال هو: هل هناك أناس يستطيعون أن يدخلوا الجنة من أكثر من باب في هذا العصر الذي طغت عليه الماديات وإن لم يكن هذا الإنسان من العلماء؟
الجواب
نعم.
بارك الله فيك وفي كل مسلم، يستطيع كثير من المسلمين في هذا العصر أن يدخل في أكثر من باب من أبواب الجنة، لا لشيء إلا لكثرة أبواب الخير التي جعلها الله عز وجل وأنزلها في كتابه وعلم بها رسوله صلى الله عليه وسلم.
فأبواب الخير كثيرة، والصالحون ما انقطعوا أبداً بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن في آخر الزمان من يأتي أجره أجر خمسين من الصحابة رضي الله عنهم؛ لكثرة الفتن والمشاغل والمشاكل وكثرة الأمور والجرائم التي أحدثها الناس والمفاسد، فهو لحفظه لدينه ومحافظته على أمر ربه؛ جعل الله أجره أجر خمسين من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فبإمكان كثير من الناس، ونعرف وتعرفون ونعلم وتعلمون، أن هنا من الأخيار والعباد من ليسوا بعلماء، ولكنهم من عبَّاد الله، حافظوا على الصلوات الخمس، أكثروا من صيام النافلة، أكثروا من ذكر الله عز وجل، زهدوا في الدنيا، كفوا أنفسهم عن المعاصي: عن الربا، والزنا، والغناء، والفحش.
حافظوا على أوامر الله عز وجل، تصدقوا وجاهدوا في سبيل الله، كفلوا أيتاماً، فتحوا مشاريع، هؤلاء يدخلون يوم القيامة أو يدعون، ولو أن الداخل يدخل من باب واحد ولكن يدعون من أكثر باب على حسب ما فعلوا، وابن القيم يقول في طريق الهجرتين: إن بعض الناس من المسلمين يفتح الله عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من أبواب الخير، فمنهم من يفتح عليه من باب الذكر، ومنهم من يفتح عليه باب الجهاد، ومنهم من يفتح عليه باب العلم، فلا يشترط أن يكون أهل الخير كلهم علماء، الصحابة لم يكن فيهم إلا ثلة قليلة من العلماء، وفيهم العوام وفيهم العباد وفيهم الزهاد فكثير من الناس يدخلهم الله عز وجل ولو في هذا العصر والعصر المتأخر بعد هذا العصر، أو يدعى يوم القيامة من كثير من أبواب الجنة نسأل الله من فضله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إنه على ذلك قدير.(92/30)
حكم مجالسة شباب صالحين غير معينين على ذكر الله
السؤال
يعلم الله أني أحبك في الله: ولي سؤال: كما ذكرت أن من أسباب التقوى مجالسة الطيبين والصالحين، وسؤالي أني -ولله الحمد- أجالس مثل هؤلاء، ولكن منهم من لا يعين على ذكر الله، ومنهم من يستفزني ويسخر مني، فما حكم جلوسي مع هؤلاء وجزاكم الله خيرا؟
الجواب
أحبكم الله الذي أحببتمونا فيه، أما ذكرك أنك تجالس بعض الصالحين، ولكنك لا تجد فيهم العون، أو تجد بعض الاستهزاء، فهؤلاء من تقصيرهم في هذا الجانب، وأنت أبصر بنفسك، وأعلم بما يرتاح له قلبك، إن كان قلبك يرتاح بترك هؤلاء والجلوس معهم، وأن تجلس وحدك تتدبر كتاب الله وتقرأ كتب العلم وتستمع الأشرطة الإسلامية، فأنت وذاك، وهو أنفع لك لأنك أعرف وأنت فقيه نفسك، وإلا فاستبدل غيرهم من الصالحين؛ لأنه ليس كل الصالحين يفعلون ذلك، وهؤلاء الذين يستهزئون أو يعلقون أو يستهترون هذا من نقصهم ومن ذنوبهم وتقصيرهم، وإلا لو كانوا يريدون خيراً؛ كانوا شجعوك على الخير واستأنسوا بمجلسك، وحاولوا أن يفيدوك، فأنت بارك الله فيك عليك أن تفهم أو تعي أو تبصر ما هو الأفضل أو المفيد لقلبك والأريح لروحك.
وحلك إما أن تجلس وحدك إذا لم تكن تخاف من العزلة، لكن هذا إذا كنت تستغل العزلة، فإن كثيراً من الشباب قد يستفيد لوحده أكثر مما يستفيد من الناس، وإن كنت تخاف على نفسك من العزلة، وأن الشيطان قد يحاصرك أو تستوحش؛ فعليك أن تبحث على إخوة آخرين، فإن الله قد كثر من الخير، ولن تعدم الأخيار إذا التمستهم، ولم تعدم أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الأخيار، فعليك أن تبحث عنهم وتجلس معهم؛ خاصة من عنده علم ويستفيد من الوقت، ويستغل الساعات والدقائق فيما يقربه من الله عز وجل ونسأل الله أن يثبتنا وإياك حتى نلقاه.(92/31)
حكم قراءة الإمام من المصحف في الفرض
السؤال
هل يجوز قراءة الإمام من المصحف في صلاة الفرض، وماذا يقول الرجل إذا تثاءب في الصلاة، هل هناك ذكر معيّن أثناء التثاؤب في الصلاة؟
الجواب
أما قراءة القرآن من المصحف للإمام أو للمأموم في الفريضة فليست جائزة وليست واردة، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يسن هذا أو لم يجوز هذا ولا أحد من أصحابه فيما أعلم، وما فعله أحد من الناس؛ بل في سنن أبي داود: {أن رجلاً سأل الرسول صلى الله عليه وسلم ماذا يقرأ فأخبره قال: اقرأ ما تيسر معك من القرآن، قال: فإن لم أستطع -وفي لفظ- لا أستطيع أن آخذ شيئاً من القرآن فقال: قل: سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله} فلو كان جائزاً لنبه على جوازه عليه الصلاة والسلام أو لذكره بعض أهل العلم أو بعض الصحابة، أما في النافلة -أذكره للفائدة ولو أنه لم يرد في السؤال- فإنه يجوز في النافلة أن يستصحب المصحف.
ذكر ابن حزم في المحلى أن عائشة رضي الله عنها كان يؤمها مولاها ذكوان في المصحف فلا بأس بأخذه في النافلة.
وشق السؤال الآخر: إذا تثاءب ليس هناك ذكر في الصلاة، ولم يسن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكراً مخصصاً للتثاؤب؛ فعليه أن يضع يده على فمه، وأن يكظم من نفسه ليس إلا، في الصلاة أو في خارج الصلاة وليس هناك ذكر.(92/32)
كتاب الفتح الرباني
السؤال
ما رأيكم في كتاب الفيض الرحماني لمؤلفه عبد القادر الجيلاني، وهل يجوز الدخول بالأشرطة التي فيها القرآن إلى دورات مياه -أجلكم الله- أفيدونا مأجورين؟
الجواب
أنا أعرف أن الكتاب اسمه الفتح الرباني ليس الفيض الرحماني إلا أن يكون في طبعة حُرِّفَ اسمه، فـ الفتح الرباني هذا هو مواعظ، والشيخ عبد القادر نفسه من المشايخ الذين يحبون في الله، وهناك كلمات وردت منه نتوقف عنها؛ لأنه لم يسندها الكتاب ولا السنة، وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب ذاك القبر عليه الصلاة والسلام فهو المعصوم، فهذا الكتاب عليه أن يقرأه إن استطاع، وإن وجد غيره فهو أفيد، فأنا وجدته وقرأته ولم أجد فيه كثير فائدة، إنما هو مواعظ ورقائق وكثرة كلام لم يسندها بأحاديث ولا بآيات، وفيها كثير من كلمات الصوفية كالحال والمقام والشاهد والفناء، ونحن في غنية فيما عندنا من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أما الشيخ عبد القادر فقد مدحه ابن تيمية في كثير من كتبه وشرح له كلمات، لكن على الشاب أن يستغني بغير هذا الكتاب من كتب أهل العلم ككتب ابن تيمية، بعد الكتاب والسنة وكتب ابن القيم وكتب ابن كثير، فإن فيها الفائدة المرجوة والنفع التام بإذن الله.
وأما أشرطة التسجيل التي فيها قرآن فالظاهر عدم جواز الدخول بها في دورات المياه، هذا في وقت قضاء الحاجة يعني في المكان التي تقضى فيه الحاجة، أما دورة المياه إذا كانت مفتوحة وواسعة ولها مكان فله ذلك، إذا كان يجدد لا يدخل في نفس الدورة التي يقضى فيها الحاجة، لأنه يجب أن يحترم كتاب الله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] فلا يجوز أن يمتهن كتاب الله عز وجل، لا في شريط ولا في ورقة ولا في مصحف، ولا يترخص في ذلك مسلم.(92/33)
حكم لعن الكفار عامة ولعن أحدهم خاصة
السؤال
ما حكم لعن الكفار، وما حكم التخصيص في لعن أحدهم ما دام حياً وهو لم يدخل في دين الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أي أنه ما زال كافراً؟
الجواب
أما لعن الكفار على الجملة فهذا وارد، ألا لعنة الله على الكافرين، ولعنة الله على الكاذبين، وأما على التخصيص في الأعيان فالأولى ترك ذلك؛ لأن الله قد يتوب عليه أو يهديه، وإلا فقد لعن صلى الله عليه وسلم بعض أعيان الناس من الكفار، وبعض أهل العلم يقول بجواز لعن الكافر بعينه، إذا لم يدخل في دين الله وعلمنا كفره الظاهر، وأنه شاهر بكفره وأظهره، ولكن الأولى والأورع للمسلم ألا يلعن الكافر على الخصوص أي بعينه، ويتوقف عن ذلك، وأما على الجملة فيلعنون.(92/34)
تعارف المتقين في الجنة وتزاورهم
السؤال
المتقون هل يعرفون بعضهم بعضاً يوم القيامة، إذا اجتمعوا في مثل الحياة الدنيا، وكيف يستطيع المؤمن أن يزور من هو أعلى منه درجة في الجنة؟
الجواب
المتقون يتعارفون في الجنة يوم القيامة، ويجلس بعضهم مع بعض ويتزاورون، ودلت على ذلك آيات كثيرة منها قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الصافات: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:51 - 52] وأقبل بعضهم على سرر، فهذا من النعيم أنهم يتزاورون ويتواصلون، ويعرف المسلم أهله في الجنة، وأقاربه، وأخواله، وأعمامه، وأنسابه، وأصهاره، وأصدقاءه في الحياة الدنيا، يقول عز من قائل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] فمن تمام النعمة على هؤلاء أن يجمع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للرجل أهله وكل من يريد في الجنة، وأن يقاربهم على اختلاف في الدرجات، وهم يتزاورون؛ لأنه لا يتم نعمة بعض الناس إذا كان أهله في مكان وهو في مكان، إلا إذا كانوا كفاراً أو مشركين من الذين استوجبوا دخول النار، فهذا أمر آخر، أما لو كانوا في الجنة فإن الله يجمع كل قرابة، فيتزاورون، ويتجالسون، ويتذكرون أيامهم في الدنيا؛ وكنا نرى كذا، أما رأيت يوم فعلنا في الدنيا كذا وكذا، كما يعيشون هذه الأيام، وهذا من تمام النعيم بأنهم بعقولهم وبإدراكاتهم، ويتذكرون أيامهم في الدنيا.
وأما إذا اختلفت الدرجات فإن الله عز وجل قد يلحق بعض الصالحين بأقاربه أو بأهله، فيرفع هذا إلى درجاتهم مناً من الله عز وجل قاله بعض أهل العلم: إذا كانوا من أهل الجنة، وليسوا من أهل النار فيدخله الله عز وجل الجنة بسبب أهله، ولا ينفع هذا إن كان من أهل النار.
إنما يكون في الجنة لكن أقل درجة، كما قال عز من قائل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} [الطور:21] بإيمان شرط أن يكون هذا التابع مؤمناً: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] أي رفعناهم معهم وجمعناهم معهم: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] فتدخل الجنة برحمة الله عز وجل، ولكن الدرجات بالأعمال الصالحة في الدنيا، فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة، وأن يجعلنا من وُرَّاثها في مقعد صدق عند مليك مقتدر.(92/35)
التفكر في آيات الله تعالى
القرآن يطالبنا بالتفكر في آيات الله تعالى في خلقه وتكوينه في صفاته وأفعاله، وضرب الأمثال السابقة لتتعظ الأمم اللاحقة فيا ترى كيف يتفكر الإنسان؟ وبماذا؟ ولماذا؟
وما هي دعوة إبراهيم، وكيف عذب الله قوم سبأ، وأبدلهم بعد النعمة عذاباً، وبعد الرخاء شدة وشقاءً.(93/1)
التفكر سبب لمعرفة الله
الْحَمْدُ لِلَّهِ القائل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:190 - 194] والصلاة والسلام على رسول الله القائل: {والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً} أرسله الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراًَ.(93/2)
أول أمر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الأمر بالتفكر
أمَّا بَعْد:
أيها الناس! كانت أول كلمة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هي قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1].
والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف يقرأ الأمي الذي لم يكتب ولم يقرأ؟ ولم يتعلم ولم يخط بيمينه خطاً، وأصبح في الأربعين من عمره ثم تأتيه كلمة اقرأ؟! فكأن الله يقول له: اقرأ في كتاب الكون المفتوح، وفي آيات الله المعروضة، والشمس الساطعة، والنجوم اللامعة، في الجدول والغدير، وفي الماء النمير، وفي الشجيرات، والحيوانات، اقرأ في كل آية تمر بك في المخلوقات.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فقرأ صلى الله عليه وسلم في آيات الله، فكان يخرج فيتفكر، ويتأمل، ويبكي صلى الله عليه وسلم من آيات الله، والله يقول: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:101]
ترون العجائب، ترون أدلة التوحيد القاطعة، ترون كل شيء يتحدث عن عظمة الله، الزهرة تحدثكم عن الله، الطائر بجناحيه في الفضاء يحدثكم عن الله، والشجرة في الغابة تحدثكم عن الله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [يونس:101] ويقول تبارك وتعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُ} [فصلت:53] يريهم كل آية ليعرفوا أن لا إله إلا الله، ويعرض أمامهم كل مخلوق؛ ليعلموا أن لا إله إلا الله، ويخلق من الآيات البينات على مر السنين؛ ليعلموا أن لا إله إلا الله، يقول جل وعز: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20].
أفلا ينظر أهل الصحراء إلى الإبل وهم يحملون عليها، من خلقها وأبدعها؟ من سواها وزينها؟ من أحياها متحركة على أربع؟
ثم ألا ينظرون إلى السماء، وهم عاشوا مع السماء، وعاشت السماء معهم، والسماء في الصحراء لها طعم ومذاق، فكأنه لا سماء إلا في الصحراء، السماء حين تخلو بها في ليلة من ليالي القمر؛ ترى فيها آيات الله الواضحات، أليس هذا دليلاً على قدرة القدير؟
قيل لأعرابي من البادية: [[أعرفت الله؟ قال: إي والله، قالوا: فبماذا عرفته؟ قال: عجباً لكم! الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، وأرض ذات فجاج، وليل داج، ألا تدلان على السميع البصير]] سُبحَانَهُ وَتَعَالَىَ كل آية تدلل على أنه موجود.
قيل للإمام الشافعي: اعرض لنا من آيات الله - وكان بجانبه صنوبر- فأخذ ورقة منها، وقال: [[هذه الورقة تأكلها النحلة فتخرج عسلاً، وتأكلها دودة القز فتخرج حريراً، وتأكلها الغزال، فتخرج مسكاً، أما تدل على الله الذي بيده كل شيء]].
يقول الأمريكي " كريسي موريسون " في كتابه" الإنسان لا يقوم وحده -والحق ما شهدت به الأعداء- يقول: يا للعجب! النحلة تهاجر تطلب رزقها من وراء آلاف الأميال، فإذا امتصت رحيق الأزهار عادت مهاجرةً مرةً ثانيةً إلى خليتها دون أن تضيع ولا تضل، ربما يكون لها ذبذبات توحي إليها بخبرها، ثم يقول: لست أدري.
فإذا لم يدر هو، فنحن ندري والحمد لله؛ لأن الله يقول: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:68 - 69] أفلا يكفي دليل النحلة على وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟!
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً، وقل للشهد: من حلاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّهُ فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
فالحمد لله الجليل لذاته حمداً وليس لواحدٍ إلاكا(93/3)
التفكر موصل للخشية
في كل شيء لله آية، يقول: تدبروا، وتفكروا في آيات الله، وفكر لا يرزق خوفاً من الله فليس بفكر، ولذلك كان أعظم مراقي التوحيد، وأعظم مقامات العبودية هو: الخوف من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وكان أخوف الناس من الله هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
كل شيء اقتربت منه أمنته إلا الله، فكلما تعرفت عليه خفته: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
يقول إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] بعد إخباته إلى الله، وإنابته إلى الحي القيوم يقول من مقام الخوف: أطمع طمعاً شديداً من الله أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين، ولا يجزم جزماً.
ويقول يوسف عليه السلام، بعد أن ملك مصر، وبعد أن جمع مالها وكنوزها، قال وهو يبكي في آخر عمره: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101] أقصى أمانيه وأعظم ما يرجو أن يلحقه الله إلحاقاً بالصالحين.
واستعرض سليمان عليه السلام قواته وجيوشه من الجن والبشر، ومن الطيور والزواحف، فلما رآها ملأت البر؛ سجد وبكى وقال: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40].
فالشاهد: أن تفكيراً وتدبراً لا يهديك إلى الخوف من الله، فليس بنافع ولا مفيد، وقد كان صلى الله عليه وسلم من أخوف الناس لله، يقول أبو ذر رضي الله عنه: {نمت عنده صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي، فقام يقرأ، وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم بكى، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم بكى، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم ارتفع صوته، وقال: ويل لمن لم يرحمه الله}.
ويقول عبد الله بن الشخير رضي الله عنه: {دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء} -والمرجل: القدر إذا استجمع غلياناً- وهو يبكي من معرفته لله تبارك وتعالى، وكان يحدث الناس عن الله -دائماً- وآياته، ويناديهم بالتزود والقدوم على الله، ويخبرهم أنهم مراقبون من الله، فالله معنا دائماً، وهو فوقنا، سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ يسجل حسناتنا وسيئاتنا: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7].
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستح من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
وإذا خلوت بريبة في ظلمة: لا يراك إلا الله، ولا يسجل حركاتك وسكناتك إلا الله.
والنفس داعية إلى الطغيان: تريد الاقتحام على المعصية
فاستح من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
فأعظم مقامات التوحيد عند أهل السنة والجماعة هو: التفكر، ثم الخوف من الله الجليل.
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
حضرت الوفاة أبا بكر رضي الله عنه، فدخلت عليه ابنته عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فقالت: يا أبتاه! صدق الشاعر:
لعمرك ما يغني النزاء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
]]
فغضب، ونظر إليها، وقال: [[بل كذب الشاعر، وصدق الله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:18 - 21]]].
فهذا أبو بكر الذي قدم للإسلام كل شيء، فالإسلام كأنه أبو بكر، وكأن أبا بكر هو الإسلام، وكما روى الإمام أحمد في كتاب الزهد: دخل مع الصحابة، ليتنزهوا في بستان من بساتين المدينة، فرأى طائراً على نخلة، فبكى، فقال الصحابة: مالك يا خليفة رسول الله؟ قال: أبكي لهذا الطائر، يأكل من الشجر، ويرد الماء، ويموت، ولا حساب ولا عذاب، فبكوا رضوان الله عليهم.
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ويسأل ربنا عن كل شيء
قام هارون الرشيد فحلى قصوره، وزين دوره , وجمع الناس في مهرجان، ثم أدخل عليه الناس أفواجاً أفواجاً، فأتى أبو العتاهية الشاعر الزاهد، فقال له هارون: أمدحت هذا اليوم المشهود؟ قال: نعم.
مدحته، قال: وماذا قلت فيه؟ قال: قلت:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
قال: ثم ماذا؟ قال:
يجري عليك بما أردت مع العشية والبكور
قال: ثم ماذا؟ قال:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
قال: ثم ماذا؟ قال:
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور
فبكى هارون الرشيد حتى أغمي عليه، وأمر بالزينة أن تخلع.
فيا عباد الله: أعظم المقامات: التفكر في أسماء الله وصفاته، وفي آياته وأيامه، وفي دلائل وحدانيته في الكون، ثم الخوف منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وما ارتفع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلا بتدبر آيات الله، والتفكر في دلائل وحدانية الله، والخوف من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
يقول علي رضي الله عنه: [[لا يخافن أحدكم إلا ذنبه، ولا يرجون إلا ربه]] وكانوا رضي الله عنهم دائماً يشعرون برقابة الله، ووحدانيته، ويخافونه سُبحَانَهُ وَتَعَالىَ.
يقول: أسلم مولى عمر: [[خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، بعد أن انتصف الليل، فقال لي: يا أسلم! الحقني فإني أتفقد الناس]] هذا في عام المجاعة -عام الرمادة- يوم أن جاع الناس فجاع عمر معهم، ويوم أن تعب الناس تعب عمر معهم، ويوم أن سهر الناس وسهر عمر معهم.
حسب القوافي وحسبي حين أرويها أني إلى ساحة الفاروق أهديها
فمن يضاهي أبا حفص وسيرته ومن يحاول للفاروق تشبيها
لما اشتهت زوجه الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى، فأشريها؟
خرج رضي الله عنه عام الرمادة، يوم أن وقف يوم الجمعة على الناس، فبكى وأبكى، وسمع قرقرة بطنه، فقال: [[قرقر، أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]].
أيها المسلمون: عباد الله! انظروا إلى اليهود، وهم أنصار القردة والخنازير، كيف يهاجرون إلى فلسطين! متعاونين متساعدين، متآخين على حرب المسلمين، وانظروا إلى الشيوعيين وأذنابهم، كيف يقومون جبهة واحدة ضد المسلمين، من أفريقيا وآسيا، وروسيا جبهة متآخين لصد زحف الإسلام المقدس، ونحن شيع وأحزاب، أفكار وآراء، الجار يحقد على جاره، والمسلم يغتاب أخاه المسلم، والأعراض تنتهك في المجالس.
فهل هذا دين؟! وهل هذا نصر، أو ظفر؟!
إن كيد مطرف الإخاء فإننا نسري ونغدو في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(93/4)
لوازم المحبة في الله
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أمَّا بَعْد:
أيها الناس: إن من لوازم المحبة في الله، والأخوة فيه سُبحَانَهُ وَتَعَالى:(93/5)
النصيحة
النصيحة، النصيحة لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولرسوله ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم.
يقول جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه وأرضاه: {قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: بايعني يا رسول الله! قال: أبايعك على شهادة أن لا إله إلا الله, وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، قال: فبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم، فوالله ما لقيت مسلماً إلا نصحته}.
[[وكان جرير رضي الله عنه إذا بايع رجلاً قال له: اختر في السلعة والثمن، فإني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم]].
[[شرى فرساً بأربعمائة درهم، فلما ذهب الرجل وأخذ الدراهم - البائع- قال جرير: عد، فعاد الرجل، قال: أتريد أن لك بفرسك خمسمائة درهم، قال: نعم، قال: وستمائة، قال: نعم، قال: وسبعمائة، وثمانمائة، قال: نعم، قال: خذ ثمانمائة، فإني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم]].
وروى الإمام أحمد بسند جيد في مسنده، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لوجه الله - وفي لفظ: لله- ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط بمن وراءهم}.
يقول ابن تيمية كلاماً ما معناه: يجب الاعتناء بهذا الحديث وفهمه، فهو جزء من عقيدة أهل السنة والجماعة، أن نوالي من والى الله، ونعادي من عادى الله، ونحب من أحب الله، ونبغض من أبغض الله، سواء وافقنا على فرعيات الآراء، أو خالفنا، سواء اجتهد، أو لم يجتهد، وقلَّد أو لم يقلد: فإن هذه أمور لا تمت إلى الولاء والبراء بشيء من الخدش، بل يبقى الولاء والبراء لله ولرسوله وللمؤمنين.(93/6)
الدعاء بظهر الغيب
ومن لوازم الأخوة: الدعاء بظهر الغيب، أن يدعو بعضنا لبعض في السحر، وأدبار الصلوات، فإن من صفاء القلب، وطمأنينة النفس: أن يدعو المسلم لإخوانه المسلمين، ويبلغ الحسد والغضب والضغينة، ببعض الناس، أن يحرم المسلمين من دعائه، وهو المحروم ليس هم؛ لأن الله سوف يرحمهم بدعوات الآخرين من غيره، لكنه أحرم نفسه فضلاً عظيماً، فقد ثبت في الحديث: {إن المسلم إذا دعا لأخيه بظهر الغيب، قال له الملك: ولك بمثل ذلك، ولك بمثل ذلك، ولك بمثل ذلك}.(93/7)
كظم الغيظ والتسامح والعفو
ومن لوازم الأخوة في الله: كظم الغيظ والتسامح والعفو، يقول الله- تبارك وتعالى-: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].
ذكر ابن كثير عن هارون الرشيد: أنه كلف خادماً له أن يصب عليه الماء، فصب عليه ماءً حاراً، ثم أطلق الإناء من يده، فوقع على رأس هارون الرشيد -وهو خليفة- فغضب غضباً شديداً، وقد تغير لونه من الماء الحار، فقال له الخادم: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران:134] قال: قد كظمت، قال: {وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ} قال: عفوت عنك، قال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال: أعتقتك لوجه الله الحي القيوم.
هذا هو الوقوف مع القرآن وتطبيق أحكامه في الحياة، وهذا هو المطلوب منا تجاه هذا الكتاب العظيم.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة، صلى الله عليه بها عشراًَ} اللهم صل على نبيك وخليلك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة، برحمتك يا أرحم الراحمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفوفهم، وآخ بين قلوبهم، وأزل الفرقة عنهم يا رب العالمين، واجمع شتاتهم، واجعل كلمتهم واحدة، إنك على كل شيء قدير.
اللهم اصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك، واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، ولرفع رايتك يا أكرم الأكرمين.
اللهم انصر المجاهدين الأفغان، اللهم ثبت قلوبهم، وأيدهم بنصر منك، وأنزل السكينة عليهم، اللهم اهزم وشرد أعداءهم، ومزقهم كل ممزق، واجعلهم غنيمة للمسلمين، يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين , والحمد لله رب العالمين.(93/8)
قصة سبأ آيات لكل صبار شكور
الحمد لله حمداً، والشكر لله شكراً، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله الصادق الأمين، أدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، فعليه الصلاة والسلام وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أمَّا بَعْد:
عباد الله: يقول الله تبارك وتعالى في محكم كتابه العظيم: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:15 - 19].
ينتقل بنا القرآن الكريم إلى مدينةٍ من مدن اليمن، قريبة من صنعاء ليتحدث لنا عن أهلها وما كانوا فيه من نعيم، فقد كانوا في رغدٍ من العيش كما نحن اليوم نكون، وكانوا في بسط وفي أمن وسكينة، وفي راحة وطمأنينة.
وكان لهم سد أرسل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عليهم الأمطار الغزيرة ليمتلئ بها هذا السد فيختزن كميات هائلةٍ من الأمطار يصرفونها عن طريق الري والصرف في مزارعهم، وأنبت الله لهم من كل زوجٍ بهيج: من الأشجار اليانعة والأعناب والنخيل والحبوب، حتى قال أهل التفسير: كانت المرأة من نسائهم تذهب بالمكتل على رأسها فتمر من تحت تلك الأشجار المثمرة فيمتلئ هذا المكتل من كثرة ما يتساقط فيه من الثمار، وكان عذق النخلة لا يحمله إلا الفَرَسان من عظمته ومن كثرة ما فيه من الثمار، وكانت المياه صافية، وكان الأمن والسكينة الرغد، وكانت بحبوحة العيشِ كما نعيش فيه نحن الآن.
لكن أهل هذه القرية وسكانها أعرضوا عن أمر الله، وكفروا نعمته، فقابلوا الجميل بالقبيح، وفعلوا المعاصي، وفشا فيهم المنكر فما نهوا عنه ولم يأمروا بالمعروف، وسكت الجميع على الفعل القبيح، وتمردوا على رسالة الله، فسلط الله عليهم حشرة من أضعف حشراته سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فأراً واحداً فنقب هذا السد المنيع الهائل المتين، وأتى الماء مع هذا النقب وانهدم هذا السد وفي الأخير بُدِّلوا بعد النعمة نكداً، وبعد الرخاء ضيقاً، وبعد الخصب والمطر والسكينة والأمن فقراً وسخطاً ولعنة، فتفرق أهالي سبأ: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ:19] خرج الغساسنة إلى الشام، والمناذرة إلى العراق، والأزد إلى عمان، والأوس والخزرج إلى المدينة، وخزاعة إلى مكة؛ لأنهم لم يشكروا نعمة الله، واسمعوا السياق وعيشوا مع الآيات.
يقول جل ذكره:
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} [سبأ:15] آيةٌ على أن هناك إلهاً، وأن هناك رباً يجب أن يعبد: {آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} [سبأ:15] كان لكل إنسانٍ منهم عند بيته جنة -بستانٌ عظيم عن يمين بيته وعن شماله- يقطف الثمار ويأخذ المحصول في أمنٍ وراحةٍ وسكينةٍ وطمأنينة.
ثم قال لهم الله: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} [سبأ:15] فالنتيجة لهذا الرزق هي الشكر وإظهار النعمة لمسديها سُبحَانَهُ وَتَعَالى، واستعمالها فيما يقرب العبد من الله تبارك وتعالى، لا أن نقابلها بالكفر والجحود، والمعصية والجريمة والتبجح على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وعلى شرعه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].
الذين إن مكناهم بالمال والتأييد، وبالصحة والأمن، وبرغد العيش، وبالسكينة والطمأنينة في بلادهم وأوطانهم وأجسامهم وأولادهم وبيوتهم ماذا يفعلون يا ترى؟ هل يرقصون ويغنون ويطبلون؟ هل يعصون ويقترفون المعاصي ويخرجون على حدود الله؟ لا.
قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].
وانظر إلى التعقيب في آخر الآية بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] إليه يرد العمل فيجازي المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته.
{كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15].
بلدةٌ ذات رخاء، مساكن كثيرة وأمطار غزيرة، وأرزاق وفيرة.
بلدةٌ طيبة، تأتي إليها الثمرات من كل مكان، كما تأتي الثمرات إلينا وإلى بلادنا في هذا الزمان من كل دولةٍ من دول الأرض، اشكروا لله ولا تكفروا نعمة الله، ولا ترضوا بالمعصية بينكم، ولا تتعدوا حدود الله، وتنتهكوا حرماته.
ربٌ غفور: يغفر السيئة ويقبل التوبة، ويستر الخطيئة، ويرضى بالقليل، ما أحسن هذا النعيم الذي نعيشه كما عاشه، أهل سبأ! بلدةٌ طيبة: من أرغد شعوب الأرض ومن آمن بلاد الأرض.
وربٌ غفور: يدعونا صباح مساء لأن نستغفر ونتوب، يدعونا كل يومٍ أن نشكر.
وهذا على الإيهام والتهويل والإجمال أعرضوا هكذا، فهم أعرضوا عن شريعة الله، كما أعرض كثيرٌ منا اليوم! أعرضوا عن رسالة التوحيد، كما أعرض كثيرٌ منا اليوم!
أعرضوا عن كتاب الله كما أعرض كثيرٌ منا اليوم!
فتجد الكثير -إلا من رحم الله- أعرض عن كتاب الله إلى المجلات الخليعة السافرة الداعرة، والكتب المتلوثة بالأفكار السيئة، وأعرض عن بيوت الله إلى مجالس اللغو ومجالس التهتك والجريمة، وأعرض عن منهج الله إلى منهج الشياطين ودعاة الإلحاد، وأعرض عن سماع ذكر الله إلى سماع الأغاني الرخيصة الماجنة.
{فَأَعْرَضُوا} [سبأ:16] ثم سكت الخطاب فقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ:16] هذا هو التأديب لمن لم يتأدب، وهذا هو الجزاء لمن لم يشكر النعمة، وهذا هو النكال، وينوع تبارك وتعالى في التأديب، يقول عز وجل: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].
أرسل الله عليهم السيل فدمر سدهم، وأهلك محصولهم، وعاث ببساتينهم وحدائقهم، فتفرقوا في الأرض.
بكى الأطفال وهم يسافرون ويرون الرحيل من بلادهم الآمنة، وبكت النساء وهنّ ينظرن إلى الخراب والإبادة والتدمير التي حلت بأوطانهم وكأن الخطاب يعنينا نحنُ على لسان القائل:
إياك أعني واسمعي يا جارة.
وما فائدة هذا الخطاب إن لم نتدبر ونتعظ وقد ذهب أهل الخطاب.
انظروا إلى جيراننا الذين أعرضوا عن منهج الله ورسالته، كيف سلط الله عليهم التدمير والإبادة، ينامون على أصوات الصواريخ، ويستيقظون على صيحات المدافع، تتساقط قصورهم على رءوسهم، وتتباكى نساؤهم في شوارعهم، ويموت أطفالهم أمام عيونهم لأنهم تلبسوا بالجريمة، ولأنهم لم يشكروا النعمة، ولأنهم ما عرفوا الله، فلقنهم الله دروساً قاسيةً لا ينسونها مرةً ثانية، يعيشون الخراب والدمار، ويعيشون العذاب والويل، ويعيشون الجوع والتمزق.
{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16] {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} [سبأ:17] هم الذين أساءوا وما أسأنا نحنُ، وهم الذين ردوا على الجميل بالقبيح، وهم الذين كفروا النعمة، وهم الذين تسببوا في هذا التدمير والإبادة، فأعرضوا {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:17].
ثم عاد سُبحَانَهُ وَتَعَالى ليذكرنا بصورٍ من صور النعمة التي عاشوها: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً} [سبأ:18] حتى أن أسلوب المواصلات كان ميسراً في عهدهم، يتصلون بمدنهم وقراهم في أيسر وقت وأسهله، في أمانٍ وطمأنينة كما نتصل نحن اليوم بأسباب المواصلات في أمن ورغدٍ من العيش:
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} [سبأ:18] لا تخافون، دماؤكم محقونة، ومساكنكم مأمونة، وأموالكم محفوظة، كما نعيش اليوم:
{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ:19] كأنهم بأفعالهم دعوا على أنفسهم، وإذا رأيت العاصي والمجرم ينتهك حدود الله فكأنه يقول لله: يا رب! نكل بي، ويا رب! عذبني، ويا رب! أبعدني عن ساحتك! قال تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [سبأ:19] ما ظلمهم الله، وما اقترف الله بحقهم نكالاً ولا ظلماً، ولكنهم ظلموا أنفسهم بما كسبت أيديهم: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7] {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ)) [سبأ:19] هل نرى لهم ركزاً؟ هل نسمع منهم من أحد؟ هل نرى بساتينهم وحدائقهم؟ لا.
إنما بقي حديث السمر من أخبارهم، عظةً وذكرى {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} في هذا الأسلوب الغريب الرهيب، مزقناهم كل ممزق: ففرقنا بين الوالد وولده، وبين الزوج وزوجته، وبين الأخ وأخيه، جزاء ما فعلوا، ثم قال تبارك وتعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:19] هذا هو الشاهد من القصة ووجه الاستشهاد: أن تدبروا، يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! تدبروا في مصارع الغابرين، وانظروا كيف فعل الله بالمجرمين، لتأخذوا حذركم:
مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد
وإن لم تتنبهوا فسوف تقعون في ما وقعوا فيه، من التمزق والتدمير والإبادة والجوعِ، ومن المقتِ والنقمة والغضب والسخطِ وسوء المنقلب إلى الله.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم(93/9)
دعوة إبراهيم عليه السَّلام
الحمد لله، الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فاسمع إلى سياق القرآن وهو يتحدث عن إبراهيم عليه السلام، وهو يدعو لهذه البلاد؛ ولهذه الصحراء، ولأهلها، بعد أن أنزل أهله بـ مكة، في شعابٍ سود لا زروع فيها ولا بساتين، ولا حدائق فيها ولا مزارع، ولا حبوب فيها ولا فواكه، وإنما فيها شوكٌ، وصخورٌ مجدبة، وحرارةٌ متوهجة، يترك أهله هناك ثم يستقبل بوجهه الحي القيوم ويقول: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37].
هل رأيت أجدب من هذه الصحراء في بلاد العالم التي نعيش فيها؟
وهل رأيت بعد ذاك الجدب أرغد منها معيشة، وآمن منها وطناً، وأحسن منها متاعاً بفضل تلك الدعوة المباركة من النبي المبارك عليه السَّلام؟
{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37] بوادٍ أجدبَ لا ماء فيه ولا حياة، لا ري فيه ولا رغد، لا ظل ولا أشجار، ولا حدائق ولا بساتين: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37]
و {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم:37] فرض عليهم أن يقيموا الصلاة لوجهك، ويقيموا التوحيد، ويطيعوك ولا يعصوك، ربنا إذا فعلوا ذلك: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} واجعل شعوب العالم تأتي إليهم لتؤانسهم وليحيوا بها حضارةً ويبدعوا بها تجارة، أما رأيت الملايين المملينة وهي تموج بهم في مزدلفة وعرفة ومنى؟
أما رأيت الدعوة كيف تحصنت؟
ولكن هل يا ترى يستمر الشرط مع البركة؟
هل يستمر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
{وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم:37] واستجاب الله لإبراهيم فأتت الثمرات من كل شعوب العالم، أتت الفواكه من دول العالم تحملها الطائرات طازجةً إلى هذه الصحراء، من أوروبا وأمريكا، وأستراليا والصين، ومن كل صقعٍ من المعمورة إلى هذه الصحراء، وكأن الله يقول: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15].
هذه هي النعمة التي أسبلها الله وأسدلها علينا تبارك وتعالى، ولكن العار كل العار والشنار كل الشنار أن نخالف ما جعله الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى سبباً للطاعة، فنرد على الجميل بالقبيح، ونتجرأ على المعاصي كما يفعل السفهاء منا، الذين يلعبون بالنار، وينتهكون حدود الله، والذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ويريدون أن يطمسوا بركة هذه البلاد ومعالمها، بما يتجرءون عليه من شرب المسكر، وتناول المخدرات، ومن مزاولة الزنا، والتعامل بالربا، سوف يغضب الله ذاك الغضب الذي لا يرده هواك.
عباد الله: تدبروا من حولكم، وتفكروا كيف فعل الله بهم: {ِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [ابراهيم:5].
وصلوا وسلموا على من شرفه الله بالرسالة وأمركم بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلّى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ على نبيك وخليلك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه يا رب العالمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم انصر عبادك الموحدين، اللهم انصر جندك المجاهدين في أفغانستان وفلسطين وفي كل صقعٍ من بلاد المسلمين، اللهم ارفع رايتهم على التوحيد، واجمع كلمتهم على ما تحبه وترضاه، وثبت أقدامهم يا رب العالمين، وخذ بأيديهم وأنزل السكينة في قلوبهم.
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ماكانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة برحمتك يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(93/10)
الداعية المطارد
إن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أعظم الخلق عند الله، وقد أخرجنا الله به من ظلمات الكفر والشرك إلى نور الإسلام، وإلى الطريق الصحيح؟!
وهو الذي كابد المشاق من أجل هذا المبدأ؟! وهو الذي ربى جيلاً عظيماً لا زالت الدنيا تتحدث عنهم وعن أمجادهم.(94/1)
حديث الهجرة
إن الحمد لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونستهديه، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، أحمدك اللهم من اعتمد عليك نصرته، ومن فوض الأمر إليك كفيته، ومن تقرب إليك أحببته، ومن حاربك خذلته، ومن خاصمك أهنته، ومن ناوأك أبعدته وأقصيته.
أيها الجيل الموحد! يا حملة المبادئ! أيتها الكتيبة المقدسة!
نقف هذا اليوم نحيي بملء القلوب والأجفان والأسماع رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نحييه في أول العام الهجري، وهو رجل الهجرة الأول، نعيش اليوم مع الأطفال في أيامٍ طرد هو من أطفاله، ونعيش اليوم منعمين في الدور والقصور في أيام شرد من دوره، ونعيش اليوم ناعمين سعيدين جذلين في أيام عاشها هو كلها أسىً، ولوعة، يقدم رأسه وروحه من أجل لا إله إلا الله، إنها الهجرة.
وعنوان الدرس: الداعية المطارد، طارده أقاربه، وأرحامه، وأصهاره، فما سبب المطاردة؟ لماذا طورد؟ أمن أجل أنه أتى بنهب الأموال وسفك الدماء، واحتلال الأراضي، وابتزاز المعطيات؟ لا.
إنه مطارد؛ من أجل أنه أتى لينقذ الإنسان ويخرجه من الظلمات إلى النور، فهذا هو حديث الهجرة.(94/2)
شجاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواجهة المؤامرة
أغلقت مكة أبوابها في وجه الابن البار، وأنذرته في خلال أربع وعشرين ساعة، أن يغادرها ولا يبقى في ساحها، عجيب! ولد في ربوعها، وترعرع في تلالها، شرب ماءها، واستنشق هواءها، وتقول له مكة اخرج! إلى أين؟!! لا ندري.
وليتهم تركوه ليخرج سالماً معافى، لكن يريدون أن يخرجوه جثةً، أو يحبسوه، أو يبيدوه أو ينفوه من الأرض، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]
تخفيت من خصمي بظل جناحه فعيني ترى خصمي وليس يراني
فلو تسأل الأيام عنيَّ ما درت وأين مكاني ما عرفن مكاني
دخل في غرفة علي أو في بيته هو، وطوقه الكفرة الفجرة؛ لأنه يهدد مصالحهم التي بنيت على الظلم، ويصادر شهواتهم، ولا يطاوعهم في نزواتهم، إن أهل الباطل قديماً وحديثاً يرون في حملة المبادئ، وفي رواد الحق خصماء على طول الطريق؛ لأنهم يقولون لهم: لا.
في كل معصية، وشهوة، ونزوة!!
طوقوا بيته بالسيوف المصلته، وتحروا متى يخرج، وهنا تأتي الشجاعة، ليست الشجاعة التي يقدمها الناس من أجل أراضيهم، ومزارعهم، ومناصبهم.
ليست الأنوف الحمراء التي تغضب للجيوب والبطون، والسيوف المسلولة من أجل التراب والطين.
أما محمدٌ عليه الصلاة والسلام فيقدم رأسه من أجل مبدئه، يتحدى الشمس أن تهبط في يمينه والقمر أن ينزل في يساره، ولو نزلت الشمس والقمر، والله ما تهزه خطوة، حتى تعلن لا إله إلا الله أصالتها في الأرض!!
طوقوه وأتاه جبريل فأخبره، قال: الخصوم خارج البيت يريدون قتلك، فيقول: إن الله معنا.
لله درك، ولله در الشجاعة المتناهية، ولله در الروح العالية:
يا قاتل الظلم ثارت هاهنا وهنا فضائح أين منها زندك الواري
الشمس والبدر في كفيك لو نزلت ما أطفأت فيك ضوء النور والنار
أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة يذوب في ساحها مليون جبارِ
فخرج من البيت بلا سيف، وهم بالسيوف، وخرج بلا رمح وهم بالرماح!! وأخذ حفنة من التراب فألقى الله النوم عليهم، فناموا وسقطت سيوف الخزي والعار، ونثر التراب والغبار على رأس الفجار، وهو يقول: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9].(94/3)
دروس من الهجرة النبوية
نقف اليوم: بعد هذا الحدث بخمسة عشر قرناً، لنأخذ دروساً منها:(94/4)
التوكل على الله
أولها: درس التوكل على الله، وتفويض الأمر له، وصدق اللجأ إليه، فلا كافي إلا الله، يقول سبحانه على لسان أحد أوليائه: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر:44 - 45].
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَىَ لرسوله: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36] وكل من هو دون الله فهو تحته، ودونه، وأضعف منه، فلا مقارنة.
الناس اليوم يحملون صدق التوكل والانتصار بالله في أذهانهم لا في حياتهم، إنهم يكونون أجبن ما يكون عندما تهدد لا إله إلا الله، إن قضية الوظائف، والمناصب والموائد، والجاهات والشارات استعبدت البشر، إنها تستعبد الحر الشجاع، فتجعله ذليلاً جباناً لا يقول كلمة الحق: {تعس عبد الدينار تعس عبد الخميلة تعس عبد الخميصة} إن محمداً عليه الصلاة والسلام، أراد أن يبني جيلاً قوياً شجاعاً، يقدم الواحد منهم رأسه لمبدئه، وروحه لمنهجه.
ولكن: طال الأمد، وقست القلوب، وانطمس المنهج، وأصبحت الأمة تعيش خواءً عقدياً، أخوف ما تكون من البشر، انظر إليهم، والله إنهم يخافون من البشر أكثر من رب البشر!! فكم يخافون؟ وكم يجبنون؟ وكم تصيب أحدهم الزلزلة والرعدة من تهديد بسيط، يتعرض لوظيفته أو لمنصبه أو لدخله ورزقه، ولا يرزق ولا يخلق إلا الله!! {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3].
إن قصة الهجرة يتجلى فيها التوكل كأحسن ما يتجلى في أي صورة، يدخل الغار، ويتكرر لنا حديث الغار، ونعيد دائماً حديث الغار، لأن أول التاريخ بدأ من الغار، والنور انفجر من الغار.
فمن يمنعه عليه الصلاة والسلام؛ أين موكبه؟ أين أقواس النصر التي تحف بالناس؟ أين الجنود المسلحة التي تحمي جماجم الناس وأرواحهم وهم أقل خطراً وأقل شأناً منه، لا جنود معه ولا حراسة، لا سلاح، ولا مخابرات، ولا استطلاع!
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمانُ
فيقول أبو بكر: {يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم إلى موطن قدميه لرآنا، فيتبسم عليه الصلاة والسلام -والتبسم في وجه الموت أمرٌ لا يجيده إلا العظماء، حتى يقول المتنبي يمدح عظيماً لا يستحق أن يكون جندياً في كتيبة محمد عليه الصلاة والسلام:
وقفت وما في الموت شك لواقفٍ كأنك في جفن الردى وهو نائمُ
تمر بك الأبطال كلمى هزيمةً ووجهك وضاحٌ وثغرك باسمُ
يتبسم عليه الصلاة والسلام- ويقول: ما ظنك يا أبا بكر! باثنين الله ثالثهما} هل يغلب الثلاثة، أم تكون الدائرة على غير الثلاثة؟ إذا كان الله الثالث، فمن هو المغلوب؟ من هو خاسر الجولة؟ من هو المنهزم في آخر المعركة؟ ويقول: لا تحزن إن الله معنا، بعلمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهي معية الحفظ والتأييد والتسديد لأوليائه، المعية التي صاحبت إبراهيم عليه السلام، وهو يهوي بين السماء والأرض، في قذيفة المنجنيق إلى النار، فيقول له جبريل: ألك إليَّ حاجة؟! قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] فصارت النار برداً وسلاماً.
والمعية التي صاحبت موسى راعي الغنم، الذي يحمل عصاه، ولا يجيد أن ينطق اللغة، ويدخل إيوان الظالم السفاك المجرم فرعون، وحرس فرعون أكثر من ثلاثين ألفاً، الدماء تسيل في البلاط الملكي الظالم، موسى يلتفت ويقول: يا رب! إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى، فيعطيه الله درساً في التوحيد والتوكل: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] نواصي العباد بيديه، ورءوس الطغاة في قبضته، ومقاليد الحكم بيمينه، لا يتصرف متصرف إلا بقدرته.
ثم يأتي سراقة ويطارد محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقرأ القرآن ولا يلتفت؛ لأن الله معه، يدعو على سراقة، فيصبح سراقة مهدداً بالموت، فيقول: يا محمد! اكتب لي أماناً على حياتي.
أنت الآن محمي وأنا مهدد، بالله لا تقتلني، فقد فر من الموت وفي الموت وقع، فيقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن يتبسم: {يا سراقة! كيف بك إذا سورت بسواري كسرى؟} أين كسرى؟ إنه امبراطور فارس، ودكتاتوري الشمال، المجرم السفاك.
فيضحك سراقة كأنه ضربٌ من الخيال، أهذا يستولي على إمبراطوريات الدنيا؟! أهذا يلغي مملكة العالم، وهو لا يستطيع أن ينجو بنفسه؟ وبالفعل تم ذلك، ودكدك الظلم، وفتح الشمال، ورفرفت لا إله إلا الله على الإيوان:
وما أتت بقعةٌ إلا سمعت بها الله أكبر تدوي في نواحيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها(94/5)
حفظ الله لأوليائه
ثانيها: أن الله يحفظ أولياءه، فهم يُؤذَون ويُضطهدون ويحبسون ويقدمون رءوسهم رخيصة لله، ولكن ينتصرون، والعاقبة للمتقين: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52].
والنتيجة الحتمية أنهم هم المنتصرون في آخر المطاف، وأن الباطل مهما انتفش وعلا وكبر، فإنه كما قال سبحانه: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] الباطل: له صولة، والحق: له جولة، والعاقبة للمتقين، وتكفل الله أن يحفظ دعائم هذا الدين والمتمسكين به، والمنضوين تحت لوائه، فمهما تعرض له من الإساءات والاضطهاد والإقصاء والاستخذاء، فإنه لا يزيدهم إلا إصراراً على مبادئهم، وشمماً وقوة.(94/6)
التضحية والبذل
ثالثها: عالم التضحيات والبذل يتحقق فيه عليه الصلاة والسلام، فماذا فعلت أنا وأنت لهذا الدين؟ ماذا قدمنا؟ ومحمدٌ عليه الصلاة والسلام شغله الشاغل أنفاسه خواطره أفكاره أمواله أهله روحه لله!! يقول في إحدى مواقفه: {والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل} هاجر من مكة مطروداً، ووقف في حمراء الأسد يتكلم مع مكة، بينه وبين مكة كلامٌ رقيقٌ مشوق:
يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيءٍ بعدكم عدمُ
إذا ترحلت عن قومٍ وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون همُ
يقول لـ مكة: {والذي نفسي بيده إنك لمن أحب بلاد الله إلى قلبي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت} ثم تدمع عيناه، ويذهب، بناته أمامه يُضربن، فلا يستطيع أن يدفع، يوضع السلى على رأسه أمام الجماهير، ويضحكون عليه، ويمسح السلى ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} تباع غرفه في مكة، بعقدٍ يتولاه عقيل بن أبي طالب.
أعمامه يكذبونه أمام الناس، يحثى التراب عليه، ويطارد بعيداً بعيداً من مكة، ولكن الفجر حل، وهم يريدون إغلاق صوته، فيزداد الصوت قوة، وعظمة، وعمقاً، وأصالة! فيصل إلى المدينة فإذا الدنيا تتحدث به:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسودِ
لولا اشتغال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب نفح العودِ
هكذا العظمة والريادة، فينصت العالم له، ويسمعون كلمته، ويقويه الله بجندٍ من عنده، وتحف به الملائكة:
وقاتلت معنا الأملاك في أحدٍ تحت العجاجة ما حادوا وما انكشفوا
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا
إذاً التضحية هكذا: أن تقدم دمك ومالك ودموعك ووقتك للإسلام، ليس فقط الركعات والتسبيحات التي يمتن بها كثيرٌ من الناس، ولكنهم لا يستطيعون الحرقة على الدين، ولا الغضب على المحارم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ولا يستطيعون أن يتقدموا معك خطوة، لنصرة لا إله إلا الله، فإن هذا عالمٌ آخر.(94/7)
ماذا قدمنا في العام الهجري المنصرم؟
رابعاً: ماذا قدمنا للعام الهجري المنصرم؟ ذهب من أعمارنا عام مات فيه قوم، وعاش آخرون، اغتنى فيه قوم وافتقر آخرون، وتولى قومٌ وخلع آخرون!! فماذا قدمنا للإسلام؟
ولك أن تتعجب معي، وإن تعجب فعجبٌ فعلهم في هجرة محمد عليه الصلاة والسلام، أين هي الصحف الصباحية؟ أين هي الملاحق الفنية؟ أين هي الصفحات الرياضية؟ أين هي الشاشة؟ أين هو المذياع؟ ولم لا تحيي محمداً عليه الصلاة والسلام؟ لقد احتفل بأسبوع الشجرة، وبيوم الطفولة، وبيوم الأمومة، وبيوم الأرض، ولم يبق إلا يوم القطط والبط والوز! لم يبق إلا يومٌ من السنة، وأقترح أن يخصص للقطط احتفالاً بها!
صحفٌ لا تحيي محمداً عليه الصلاة والسلام وكتابها حسنة من حسناته، ومتطفلون على مائدته، وأحرارٌ لما أخرجهم من رق الوثنية والعبودية لغير الله، فهذه بلادٌ ما أشرقت شمسها إلا من تحت قدمه، ثم لا نجد في الجرائد تحية ولا كلمة، ولا عموداً صغيراً، ولا زاوية، تحوي قصة المصلح العظيم، والله لقد قرأت أخباراً عن كلاب حدثت لها وقائع ومصائب في الغرب، وترجموا لها، لكن محمداً عليه الصلاة والسلام لا يجد من يترجم له، ونقول للكتبة وللمحررين وللنخبة المثقفة كما تزعم، ولأهل الكلمة ولأبناء الفكر: لا عليكم {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد:38] {وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً} [هود:57].
لا عليكم إن بخلتم بأقلامكم عن محمد عليه الصلاة والسلام، وجعلتم صفحاتكم الفنية لكواكب الفن، ولشموس الغناء، فعندنا جيلٌ الآن، أعلن توجهه إلى الله، جيلٌ كتب الهجرة بدموعه، وحفظ المسيرة بقلبه، وأصبح حب محمد عليه الصلاة والسلام يجري في دمه.
فعندنا جيل كعدد الذر، كلهم يتمنى اليوم قبل غد أن يقتل في سبيل الله، من أجل مبادئ محمد عليه الصلاة والسلام.
هذا أثره عليه الصلاة والسلام علينا، وهذا موقفنا من دعوته ومن رسالته.
أما غيرنا فيدرس المناهج إلا منهجه، ويتكلم عن الشخصيات إلا شخصيته.
ورأيت في صحيفة زاويةً خصصتها للأعلام والمشاهير ولوفياتهم، من هم؟ إنهم مشاهير السفك والنهب في العالم، والقتل والإبادة واستخذاء الشعوب.
أما المحرر الأول، والرجل الذي أصلح الله به الأمة، فلا كلام عنه ولا ترجمة! فماذا يعتذر هؤلاء أمامه عليه الصلاة والسلام غداً؟ ولا يفهم فاهم، أو يزعم زاعم أنني أريد أن ننشئ له عيد هجرة، أو عيد ميلاد؛ فالإسلام لا يقر هذا، ولا يؤمن به، ولا يقر أن نجتمع في زوايا وخلايا وجوانب لنرقص كما يرقص المخذولون المتهوكون بالنشيد والتصفيق ونحييه، فتحيته أن نطهر بلاده مما طهرها منه هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فتكون بلاداً مقدسة، تحيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نسير على خطواته، وأن نفدي منهجه، وأن نضحي لمبدئه، أعظم مما يضحي الثوريون والماركسيون والاشتراكيون العرب للأقزام الملاعين، وللأوسمة المخذولة، وللأصنام المبعدة.
تحيتنا له: أن نقف مع سنته وننشرها في الأرض: {بلغوا عني ولو آية} {نضر الله امرأً سمع مني مقالةً فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مُبلَّغٍ أوعى من سامع} إن عالم البادية الذي كان يسجد للحجر، ويجمع التمر ويصلي له، ويأتي للوثن الذي يبول عليه الثعلب، ويدعوه أن يشفي مريضه؛ وصمة عارٍ في هؤلاء القوميين العرب، فالذي حررهم من هذا هو محمد عليه الصلاة والسلام، وإن العجب العجاب أن تحتفل النوادي الأدبية، بنظافة البيئة، فتجد محاضرة في نظافة البيئة، وأخرى في فن السياحة، وأخرى في أدب الاصطياف، ولم يبق إلا محاضرة رابعة في بيطرة البقر! كيف تبيطر البقر؟ وما هو علاج البقر؟ ومن هم الأبطال الذي يعالجون البقر من أمراضها؟
علي نحت القوافي من معادنها وما علي إذا لم تفهم البقرُ
لماذا لا تقام محاضرة بعنوان: أثر رسالته عليه الصلاة والسلام على العالم؟ لماذا لا يأتي هؤلاء البسطاء الوضعاء بمحاضرة عن (الإسلام وحاجة العالم إليه) أو القرآن وواجبنا في هذا القرن، أو أثر لا إله إلا الله في حياة الإنسان؟ أما هذه المحاضرات التي شبع منها الناس، ومجتها الآذان، وأصبحنا نصاب بغثيان من سماعها وتردادها، فوالله إنها شغلٌ للأوقات، وإنها تسويدٌ للصحف، ومجٌ للأسماع، وثقالةٌ ودرن على القلوب.
هذا المهاجر الأول، وهذا الداعية المطارد من أجل مبدئه، وهذا عامنا وهذا ما قدمنا، وهذه النوادي، وهذه الصحف، وهذه الأقلام، ولكم أن تحكموا: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14 - 15] {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:6 - 7].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(94/8)
موسى عليه السَّلامُ أمام فرعون
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وعلى قدوة الناس أجمعين، وحجة الله على الهالكين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
في مثل هذا الشهر، طورد داعية أول، زميلٌ له عليه الصلاة والسلام، نهجه نهجه، ومسيرته مسيرته، ودعوته دعوته، إنه موسى عليه السلام: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] لا يُبعث نبي إلا وقد هيأ الله طاغيةً هناك يرصد له، ولا يحمل رائدٌ من رواد الدعوة مبدأً إلا ويتهيأ له ظالمٌ يرصده، سنة الله: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62] {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251].
في هذا الشهر، خرج موسى مطروداً من مصر، يطارده فرعون المجرم بستمائة ألف مقاتل {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) [الزخرف:54] قطيع ضأن، الشعوب التي لا تفهم إلا الخبز والأكل، ولا تفهم إلا ثقافة القِدْر، والجيب والبطن تصفق للطاغية وتحثوا على رأس الداعية.
الشعوب المهلهلة المهترية المتهالكة من الداخل طاردت موسى يريدون قتله، لأنه يريد أن يحررهم وهم يقولون: لا.
يريد أن يخرجهم من الظلمات إلى النور، وهم يقولون: لا.
يريد أن يرفع رءوسهم، وهم يقولون: لا.
اصطدم بالبحر، الجيش وراءه والموت، والبحر أمامه والموت، إلى أين؟ إلى الله، التفت ودعا، والله قريب: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
بنو إسرائيل الخونة الجبناء ولولوا وخافوا وارتعدوا، والكتائب حوله انهارت، يا موسى!: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] ولكن موسى يتبسم، كما يتبسم محمد في الغار {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء:62]
فيقال له كما ذكر بعض أهل السير: أين يهديك وفرعون خلفك والبحر أمامك؟! هذه ورطة لا حل لها، هذا مضيقٌ لا مخرج منه في عرف البشر، {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] ويتلقى المكالمة في الحال من الله، لا تتأخر عنه؛ لأنه كان كليماً: اضرب البحر بعصاك، فضرب باسم الله البحر فانفلق يبساً فمشى بنو إسرائيل، وأتى فرعون يريد أن يجرب آخر جولة له في عالم الضياع، وهي مصارع الطغاة، والطغاة لهم مصارع، إما أن تلعنهم القلوب وهم يسيرون على الأرض وهذا مصرع، وإما أن يشدخون كما شدخ هذا وهذا مصرع، وإما أن يدخر الله لهم ناراً تلظى، وهذا مصرع.(94/9)
إهلاك فرعون ونجاة موسى
وصل فرعون ونجا موسى، وقال الله للبحر: اجتمع فاجتمع، وكان الضحية المجرم، دخل الطين في فمه، فلما أصبح في وقتٍ ضائع قال: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] فيقول الله: {آلْآنَ} [يونس:91] في هذه اللحظة أيها المجرم الخسيس بعد أن فعلت من الأفاعيل ما تشيب له الرءوس؟!
والشاهد أن الرسول عليه الصلاة والسلام يشارك أخاه في فرحة الفلاح والانتصار، ويشارك زميله في هذا اليوم الأغر، يوم عاشوراء، ولذلك تضامن معه، وتكاتف هو وإياه، فقد وجد بني إسرائيل وهم اليهود الخونة الجبناء في خيبر والمدينة يصومون عاشوراء، قال: {ما هذا اليوم، قالوا: يومٌ نجا الله فيه موسى قال: نحن أولى بموسى منكم}
موسى كليم ربنا، وحبيبنا، نحن حملة منهج موسى، ليس أنتم يا خونة العالم! ويا حثالة التاريخ! ويا أبناء القردة والخنازير! فصامه وقال عليه الصلاة والسلام عن هذا اليوم كما في صحيح مسلم: {إني أرجو من الله أن يكفر به السنة الماضية}.
ومن السنة أن تصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده -اليوم التاسع والعاشر، أو اليوم العاشر والحادي عشر من هذا الشهر- يقول عليه الصلاة والسلام: {لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع} فشكر الله لموسى دعوته ومنهجه وبذله وتضحيته، وشكر الله لمحمدٍ عليه الصلاة والسلام بذله وشجاعته وتضحيته من أجل هذه الأمة، وشكر الله لكل من سار على منهجه عليه الصلاة والسلام، وضحى من أجل مبادئه، وبذل من أجل دعوته، وساهم في رفع رسالته.
أسأل الله أن يجمعنا بمحمدٍ عليه الصلاة والسلام وبإبراهيم وموسى وعيسى وبالأخيار الطيبين، وبالشهداء الصالحين، وبالأبرار الصديقين، وبالشجعان الباذلين في مقعد صدقٍ عند رب العالمين.
أيها الناس! صلوا على الداعية المطارد والمهاجر الأول والرسول الأعظم، والهمام الإمام عليه أفضل الصلاة والسلام، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ترقرق الغمام، وما جنح الظلام، وما أُفشي السلام، وما كان في قلوبنا، وفي أذهاننا إمام، صلى الله عليه وسلم ما فاحت الأزهار، وما تمايلت الأشجار، وما تدفقت الأنهار، وما كور النهار على الليل، والليل على النهار، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما تألقت عينٌ لنظر، وما تحرقت أذنٌ لخبر، وما هتف وُرقٌ على الشجر، وعلى آله وصحبه.
اللهم انصر دينك ومنهجك، اللهم اجعله عاماً مباركاً، وعاماً ينتصر فيه الدين، وترتفع فيه إياك نعبد وإياك نستعين، وعاماً يخسأ فيه الفجرة والمنافقون، وعاماً يغلب فيه المناوئون الظالمون، وعاماً يكون عائداً علينا بالحسنات والمكرمات، ورفعة الدرجات عند رب الأرض والسماوات.
الله انصر الأمة وحقق لها أمانيها، وثبت أقدامها، وأيد شبابها، واحم حوزتها، وارفع رايتها، وأقم شامتها، واحم شريعتها، وأيد كلمتها.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(94/10)
إلى مصر المسلمة
إن الإسلام قد جمع الأمة الإسلامية، ووحدها عقيدة وأرضاً وإنساناً، وكانت مصر في طليعة هذه الأمة الموحدة، ولقد كان أبناؤها في طليعة الفاتحين، كيف لا وهم من أقوى أجناد الأرض!
وحين سحق التتار الخلافة الإسلامية في بغداد بعد أن حطموا مدن خراسان وخوارزم، وأرادوا أن يزحفوا على بقية الرقعة الإسلامية ويستأصلوا الإسلام من جذوره تصدى لهم المصريون في عين جالوت، وردوهم على أعقابهم خاسرين.
وبطولاتهم تشرق بها كتب التاريخ ويشهد لها الواقع، وآخر ذلك ما حصل في يوم العاشر من رمضان.(95/1)
مصر وأهميتها بالنسبة للأمة الإسلامية
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين؛ فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس: إن أعظم معجزة قدمها الإسلام للعالم، أن جمع بين هذه الشعوب المسلمة تحت مظلة إياك نعبد وإياك نستعين، وإن أعظم نفع قدمه عليه الصلاة والسلام للدنيا؛ أن آخى بين القلوب وألف بين الأرواح، قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
وقد ينسى بعض السفهاء هذا التأليف، وهذا الإخاء؛ لجهلهم بهذا الدين العظيم.
نما إلى علمي أن أخاً مصرياً يشكو من الجفاء والاستخفاف من بعض الناس، وشافهني بعضهم بهذا؛ فقلت: لا بد أن أؤدب بعض السفهاء، وأن أقلم أظفارهم، وأن أخبرهم ما هي مصر؟
وماذا تعني مصر؟
ومن هم المصريون؟
وماذا يعني وادي النيل؟
إن مدحي وثنائي على مصر هو كمدح الأعرابي وثنائه على القمر: كان يمشي في الظلام الدامس، وفجأة طلع عليه القمر، فأخذ الأعرابي يناشد القمر ويشكره، ويقول: يا قمر، إن قلت: جملك الله؛ فقد جملك، وإن قلت: رفعك الله؛ فقد رفعك.
من أين أبدأ يا مصر؟ وكيف أتحدث؟ وبأي لسان أنطق؟
إنني سوف أدخل التاريخ من أوسع أبوابه إذا ذكرت مصر، وإن الدنيا سوف تصفق لي ويصدقني الدهر إذا ذكرت مصر
مصر المسلمة التي شكرت ربها، وسجدت لمولاها
مصر التي قدمت قلوبها طاعة لربها، وجرت دماؤها بمحبه نبيها عليه الصلاة والسلام.
إن لك يا مصر في عالم البطولة قصة، وفي دنيا التضحيات مكان، وفي مسار العبقريات كرسي لا ينسى.
دخلت مصر في الإسلام طوعاً، ودخل الإسلام قلب مصر حباً، وأحب المصريون ربهم تبارك وتعالى فذادوا عن دينه، وحموا شرعه، ونشروا منهجه، وأحب المصريون محمداً عليه الصلاة والسلام كأشد ما يحب التلاميذ شيخهم، والطلاب أستاذهم، والأبطال قائدهم.
معذرةً يا مصر! إن بعض السفهاء لا يعرفون هذه الوحدة التي ألفها محمد عليه الصلاة والسلام؛ إنهم لم يدخلوا جامعته الكبرى التي جعل أعضاءها كل خير في الدهر، وكل إنسان في المعمورة؛ معذرة يا مصر يا أرض الأزهر الوضاء ويا أرض البطولة والفداء ويا أرض العبقرية والأذكياء!
أنا أعلم أن في الشعوب فسقة ومجرمين، وأنهم لا يستحقون الثناء -ولا أستثني شعباً- ولكن تبقى الكثرة الكاثرة من المؤمنين المصلين العابدين المضحين الطاهرين؛ فحق عليَّ -على منبر محمد عليه الصلاة والسلام- أن أشكر أتباعه في مشارق الأرض ومغاربها هنا وهناك، اليوم وغداً وأمس.
أي جامعة في الدنيا تحمل ثقافةً ليس فيها مصر؟ وأي مؤسسه علمية في المعمورة ليس فيها مصر؟ وأي مسار ثقافي لم يشارك فيه المصريون بعقولهم وأبصارهم وبصائرهم؟ فقد أنزلت سفينة الفضاء الأمريكية على سطح القمر بقدرة الواحد الأحد ثم بعقل مصري.
بها ليل في الإسلام سادوا ولم يكن لأولهم في الجاهلية أول
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
ولا يستطيع الفاعلون كفعلهم وإن حاولوا في النائبات وأجملوا
إنني لا أنتظر شكراً من أحد إلا من الله على هذا الكلام؛ ولكني أريد أن أرد على بعض الأقوام الذين أصابتهم لوثة الوطنية والعرق، والبلد، واللغة المزعومة، والقومية المفترية.(95/2)
موقف مصر في عام الرمادة
أصاب المسلمين في عهد عمر رضي الله عنه قحطٌ أكل الأخضر واليابس (عام الرمادة) وقال عمر: [[والله لا آكل سمناً ولا سميناً حتى يكشف الله الغمة عن المسلمين]] وبقى مهموماً هماً يتأوه منه ليلاً ونهاراً، نزل الأعراب حوله في العاصمة الإسلامية المدينة المنورة بخيامهم، كان يبكي على المنبر عام الرمادة، وينظر إلى الأطفال وهم يتضورون جوعاً أمامه، وود أن جسمه خبزاً يقدمه للأطفال.
وأخذ يقول: [[يا ليت أم عمر لم تلد عمر يا ليتني ما عرفت الحياة آه يا عمر كم قتلت من أطفال المسلمين]] لأنه يرى أنه هو المسئول الأول عن الأكباد الحرَّى، والبطون الجائعة، وفي الأخير تذكر عمر أن له في مصر إخواناً في الله، وأن مصر بلداً معطاءً، سوف يدفع الغالي والرخيص لإنقاذ العاصمة الإسلامية، وكان والي مصر عمرو بن العاص الداهية العملاق، كتب له عمر رسالة، وهذا نصها:
[[بسم الله الرحمن الرحيم، من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، إلى عمرو بن العاص
أمَّا بَعْد:
فوا غوثاه وا غوثاه والسلام]].
وأخذها عمرو بن العاص، وجمع المصريين ليقرأ الرسالة المحترقة الملتهبة الباكية المؤثرة أمامهم؛ ولما قرأها عمرو؛ أجاب عمر على الهواء مباشرة، وقال: [[لا جرم! والله لأرسلن لك قافلة من الطعام أولها عندك في المدينة وآخرها عندي في مصر]] وجاد المصريون بأموالهم كما يجود الصادقون مع ربهم، وبذلوا الطعام، وحملوا الجمال وذهبت القافلة تزحف كالسيل، وتسير كالليل، تحمل النماء والحياة والخير والزرق والعطاء لعاصمة الإسلام.
ودعا لهم عمر، وحفظها التاريخ لهم حفظاً لا ينساه أبد الدهر.(95/3)
جهاد مصر للتتار
دخل التتار العالم الإسلامي فدمروه هدموا المساجد، ومزقوا المصاحف، وذبحوا الشيوخ، وقتلوا الأطفال، وعبثوا بالأعراض، بل دمروا عاصمة الدنيا بغداد، وزحفوا إلى مصر ليحتلوها، وخرج المصريون وراء الملك المسلم قطز الذي يحمل لافتة: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وكانت عين جالوت.
والذي حث الناس على الجهاد هو العالم سلطان العلماء العز بن عبد السلام.
والتقى التتار الأمة البربرية البشعة، التي لم يعلم في تاريخ الإنسان أمة أشرس ولا أقوى ولا أشجع منها، التقوا بالمسلمين المصريين؛ بجيل محمد عليه الصلاة والسلام، ولما حضرت المعركة والتقى الجمعان، قام قطز فألقى لأمته من على رأسه، وأخذ يهتف في المعركة: وا إسلاماه وا إسلاماه وا إسلاماه
فقدموا المهج رخيصة، وسكبوا الدماء هادرة معطاءة طاهرة، وانتصر الإسلام وسحق التتار، ومنيوا بهزيمة لم يسمع بمثلها في التاريخ.
إنها بطولات أريد منها أن أصل إلى كلمة واحدة؛ أن أقول للمحسن: أحسنت، وللمسيء: أسأت؛ وأن أُعلم الجهلة التاريخ، وألا ينشئوا مرة ثانية على عرق جاهلي جنسي لا يتصل بلا إله إلا الله محمد رسول الله.(95/4)
مصر والعدوان الثلاثي
أتى العدوان الثلاثي الغاشم يريد اجتياح مصر، وخرج المؤمنون بعقيدتهم وتوحيدهم يدافعون الدول الثلاث، خرجوا يهتفون مع صباح مصر:
أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا
أنتركهم يغصبون العروبة أرض الأبوة والسؤددا
فجرد حسامك من غمده فليس له اليوم أن يغمدا
وسحقوا العدوان الثلاثي، واندحر العميل الغادر الغاشم بنصر الله ثم بضربات المؤمنين، وكلكم يعلم أن العالم الإسلامي حارب إسرائيل ما يقارب أربعين سنة، فكانت مصر أكثر الأمة جراحاً، وأعظمها تضحيةً، وأكبرها إنفاقاً، وأجلها مصيبةً قدمت آلاف وملايين الأبناء البررة المؤمنين، والدماء، والآراء.
ولـ مصر في قلب الزمان رسالة مكتوبة يصغي لها الأحياء
من مصر تبدأ قصة في طيها تروي الحوادث والعلا سيناء
ولـ مصر آيات الوفاء ندية أبناؤها الأصداء والأنداء
هي مصر إن أنشدتها متشوقاً طرب الزمان وغنت الورقاء
ما مصر إلا الفجر والدمع السخي وإنها سر المحبة حاؤها والباء(95/5)
دور الاستعمار في تمزيق الأمة ومسخ عقيدتها
إن هذه البلاد -بلاد محمد عليه الصلاة والسلام- ترحب بكل مسلم يحمل هوية لا إله إلا الله محمد رسول الله، وإنه شرف لنا أن نستقبل هؤلاء الضيوف من كل أصقاع العالم الإسلامي، ما داموا يحبون الله ورسوله، ويحترمون الإسلام؛ فإنا ننزلهم على الجفون ونضعهم على المقل.
وإن من واجب الضيافة علينا؛ أن نهش ونبش لهذا العطاء الوافر ولهذا الوفد الكريم الذي أتى ليبني ويثقف ويربي ويعلم، وأما الذين ينقمون على الإسلام؛ فلو كانوا إخواناً لنا في بيوتنا لألقمناهم حجراً، وحق علينا أن نملأ أفواههم تراباً من أي بقعة، أو من أي شعب، أو من أي جنس.
إن القضية هي قضية الإسلام، وقضية لا إله إلا الله محمد رسول الله، وإن الشعوبية الجديدة التي تتغلغل في العالم الإسلامي لتمزقه أكثر من هذا التمزيق؛ لهي عقيدة فاشلة خاطئة، أرادها الاستعمار.
فهذا الدين، دين إخاء وقربى وحب وتواد، أتى به محمد عليه الصلاة والسلام.
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأموات أحياه
وقف عليه الصلاة والسلام يوم عرفة، وكان أمامه في الحجاج بلال من الحبشة وصهيب من أرض الروم وسلمان من بلاد فارس وأبو بكر من أرض العرب.
وقف عليه الصلاة والسلام ليقول للجميع: {كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى} {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات13] فما دام أن ربنا واحد وإمامنا واحد، ورسالتنا واحدة، وقبلتنا واحدة؛ فلا دخل للدماء، ولا للألوان، ولا للألسن، ولا للوطنية، ولا للتراب.
إننا أمة سماوية، أنزل الله عز وجل وحيها من السماء، وأبدعها وأخرجها للناس، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] أمة صنعها الله على سمع وعلى بصر؛ فهي لا تؤمن بالكيانات الأرضية التي تقطع صلتها بلا إله إلا الله، ولا تتبع كل ناعق يريد أن يشتت شملها، وأن يوجد بينها تمييزاً عنصرياً بحسب البلدان أو المناطق أو الألوان، فهذا حرام حرام حرام نرفضه ولا نقبله، ولا نقبل من يأتي به ونرده عليه.
تلكم هي رسالة إلى مصر المسلمة، التي أنبتت العقليات والعبقريات والبطولات.
أعني مصر التي قدمت للعالم العلماء، وقدمت الشباب الصالح البناء المثمر، وقدمت أيضاً المؤلف النافع والعقلية الذكية، وقدمت الطهر والدعوة والإصلاح.
ولا أعني الناحية التي لا يسلم منها شعب ولا بلد؛ ناحية عالم الشهوات والشبهات والظلام؛ فهذا ليس لي معهم كلام لا هنا ولا هناك لا اليوم ولا غداً، وإنما بيننا وبينهم في مصر أو في أي شعب من شعوب الإسلام حبل وثيق مدَّهُ عليه الصلاة والسلام كأعظم ما تمد حبال الثقة.
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دينٍ فقد جعل الفناء لها قرينا
تساوت في المجرة فاستقامت ولولا الجاذبية ما بقينا
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(95/6)
وسائل الاستعمار في تمزيق الأمة
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين ولا عدوان إلا على الظالمين؛ والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيها الناس: أفلح هذا الاستعمار في تمزيق العالم الإسلامي تمزيقاً لم يسمع بمثله.
كان العالم الإسلامي شعباً واحداً، ودوله واحدة، وأمة واحدة كان عمر يحكم من المدينة المنورة أكثر من اثنتين وعشرين دولة؛ فلما أتى الاستعمار؛ قسم العالم الإسلامي إلى أكثر من خمسين دولة صغيرة متناحرة متضادة متكالبة، تقسمها حواجز وحدود، وبعضهم يرى التميز على البعض، والله يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وقال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ولكن الكثير لا يؤمن بهذا الإخاء، والكثير يرون أن الكرم في النسب أو اللغة أو الدم.
ماذا فعلت بنا الرايات الجاهلية من رايات العلمانيين والبعثيين والثوريين العرب والقوميين؟!
لقد وزعتنا شعوباً وقبائل سفكت دماءنا أخذت جماجمنا، وجعلتنا نقتتل فيما بيننا.
إن عدونا جميعاً هو الكافر الذي لا يؤمن بلا إله إلا الله؛ وإن عدونا جميعاً هو الذي يعادي محمداً عليه الصلاة والسلام، ومن هذا المكان: أدعو كل مسلم أن يتذكر الإخاء الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103].
فالحفرة هي الهلاك والدمار، ولم يفلح أحد من العظماء في جمع هذه الأمة مثل رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ يوم أتى بميثاق: (إياك نعبد وإياك نستعين).
خدعونا -قاتلهم الله- بـ القومية العربية، وكتب البعث على مقرراته في الصفحة الأولى -بخط النسخ- يقولون: " أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة ".
ثم فاجئونا! فإذا هذه الأمة الواحدة صاحبة الرسالة الخالدة تعتدي على الأعراض، وتقتل الشيوخ، وتدمر المساجد، وتبيد الأخضر واليابس، وتهلك الحرث والنسل وتترك اليهودية العالمية والشيوعية والرأسمالية في الظاهر، وتتعامل معها في الخفاء فأي إخاء مثل إخاء محمد عليه الصلاة والسلام؟!(95/7)
أهمية الأخوة الإسلامية والحث عليها
جلس الصحابة في مجلس يتشاورون في الجهاد، فتكلم بلال على خالد، فرد عليه خالد بكلمة قاسية يعيره بلونه، فقال بلال: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن الصحيح أن صاحب القصة أبو ذر، وهي في البخاري، بخلاف ما يذكره أهل التاريخ فذهب بلال وشكاه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فاستدعى الرسول عليه الصلاة والسلام أبا ذر، ودخل عليه، قال: فسلمت عليه فلم أدر من الغضب هل رد عليَّ السلام أم لا؟ وقال لي: {أعيرته بأمه، إنك امرؤٌ فيك جاهلية} {إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم}.
والذي يحمل هذه الأفكار المنتنة؛ أفكار اللون، والتمييز العنصري، والتمييز بالنسب، وبالبلد جاهل بالشريعة الإسلامية جاهل بالإسلام، وبالأدب، والكرم وواجب علينا أن نؤدبه، وأن نوقفه عند حده، وأن نقول له في نفسه قولاً بليغاً؛ ليعلم أن هذا الدين أوسع من عقليته الضيقة، وأن هذا الإسلام أرحب من صدره الضيق الأسود المظلم.
هذه فكرة! ولعلها أن تنشأ في الجامعات وتدرس، وتعلم في المدارس، لأنه مر على العالم الإسلامي فكرة القومية، التي أنشدها الطلاب في المدارس، وبثتها الصحف، وحفظها بعض الناس، وكتبوا فيها مذكرات؛ لفصل وتمزيق هذا الجسم الواحد {المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى}.
وأقول: إذا رُد على رجل من أي بلد أو على مفكر أساء، أو على شاعر أخطأ، أو على مؤلف أساء الأدب؛ لا يعني ذلك أن ننسى حسنات هذه الشعوب، وإنني أقول كما قال الشاعر العربي:
بـ الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط جيراني
وأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
فأي: بلد يسجد فيه لله فهو بلدي، وأي ناطق يقول: لا إله إلا الله، فهو أخي، وأي ساجد لله فهو حبيبي، قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56].
اللهم اجعلنا من حزبك ومن أوليائك ومن أحبابك، اللهم من أراد بالأمة الإسلامية تمزيقاً فمزقه، ومن أراد بها فرقة ففرق شمله، وأكثر همه وغمه، وأذهب عقله.
عباد الله! صلوا على من جمع الكلمة، وألف الوحدة، وأتى بالإخاء، وبث الحب، وجمع الأواصر.
صلوا وسلموا على المعصوم العظيم الذي حررنا من رين الجاهلية، وأعتقنا من ذل الشرك، وأخرجنا من عبودية المعصية إلى نور الطاعة.
صلوا وسلموا على من أصلح الأمة وفتح الدنيا بالعدل، وأنار الأفكار بالنور.
صلوا وسلموا على من حرر الإنسان من عبوديته للإنسان، ودله على جنة عرضها السماوات والأرض صلوا وسلموا على من ألف الله به بين الأرواح، وأصلح القلوب، وأنار الأبصار، وأسمع الآذان.
اللهم صلِّ وسلم عليه ما تعاقب الليل والنهار، وما فاحت الأزهار، وما ترعرعت الأشجار، وما انهمرت الأمطار، وعلى آله وعلى صحبه الكرام الأبرار.
اللهم اجمع كلمة المسلمين؛ اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور.
اللهم أصلح شباب المسلمين واهدهم سبل السلام.
اللهم انصر الجهاد والمجاهدين، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم أصلح أئمتنا وولاه أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك، برحمتك يا أرحم الراحمين!
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(95/8)
أهل البذل والعطاء
البذل والعطاء صفة من صفات المؤمنين الأبرار والأخيار، وأعظمهم بذلاً وعطاءً النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يرد سائلاً أبداً، وفي هذه المادة نماذج للباذلين من أموالهم في سبيل بعد أن بذلوا جهدهم في الجهاد والعبادة، وقد كان ذلك سبباً في ضمان النبي صلى الله عليه وسلم لبعضهم الجنة، ولم يكن ذلك إلا بسبب الإنفاق في سبيل الله.(96/1)
إعراض اليهود عن البذل والعطاء
عباد الله: هذا شهر العطاء والبذل، هذا شهر الصدقات؛ شهرٌ تضاعف فيه الأعطيات، وتضخم فيه الصدقات، وترفع فيه الدرجات، وتقبل فيه الحسنات، ويغفر الله فيه السيئات.
هذا شهرٌ كان رسولنا -صلى الله عليه وسلم- فيه كالريح المرسلة بالخير، لا يقول: (لا) ولا يعرف (لا) وإنما كلامه وفعله في البذل والعطاء: نعم.
ما قال (لا) قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
والله عز وجل نادى عباده من فوق سبع سموات: أن يتصدقوا، وأن يعتقوا أنفسهم من النار، وأن يقدموا للقبر وظلمته ووحشته، فلما نادى الله العالمين للصدقات والبذل والأعطيات؛ قالت اليهود: الله فقير؛ لأنه يطلب منا أن نعطيه، فرد الله عليهم مقالتهم، وأكذب فريتهم، ودحض دعواهم: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181].
فقالوا بعدها: إن الله غني ولكنه بخيل -جلَّ الله عما يقولون، وتعالى عما يأفكون-: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64]؛ قال ابن عباس: [[يقولون: بخيل؛ لأنه سألنا العطاء والبذل]] فرد الله عليهم بقوله، بعد أن قال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] وانظر ما أحسن الرد! وما أجمل الاعتراض! وما أجمل تدبيج العبارة! هم يقولون: يدٌ واحدة، ولكن قال جلَّ ذكره: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] وكلتا يديه يمين، ينفق آناء الليل وآناء النهار، خزائنه ملأى، وإنفاقه سحاً، لا يغيض ما أنفق من خزائنه منذ خلق السموات والأرض، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إلا كما يغيض البحر إذا أدخل فيه المخيط: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15].
كل ما عندنا فقر، وليس عندنا شيءٌ من القوة، ولا من العطاء، ولا من البذل، فالمال ماله، والعطاء عطاؤه، والميراث ميراثه:
الله أعطاك فابذل من عطيته فالمال عاريَّةٌ والعمرُ رحال
المال كالماء إن تحبس سواقيه يأسن وإن يجر يعذب منه سلسال
يحيا على الماء حبات القلوب كما يحيا على المال أرواحٌ وآمال(96/2)
صور من العطاء
والله عزوجل ما ضاعف عملاً كما ضاعف الصدقات، يقول جلَّ ذكره: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة:261].
انظر إلى جمال الإبداع! وإلى جمال الصورة في النبات والرواء والحياء! {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261].(96/3)
عطاء وبذل عبد الرحمن بن عوف
وقف عندها عبد الرحمن بن عوف؛ أحد العشرة المبشرين بالجنة -رضي الله عنهم وأرضاهم، وحشرنا في زمرتهم يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه - فقدمت قافلته رافدةً وافدة، تجوب المدينة، سبعمائة جملٍ محمَّلةً بالزبيب والحبوب والطعام والثياب، فاجتمع عليها التجار، وأرادوا نهبها بالشراء، فقال: [[كم تعطوني في الدرهم الواحد؟ قالوا: نعطيك في الدرهم درهماً.
قال: وجدت من زادني، قالوا: نعطيك درهمين، قال: وجدت من زادني.
قالوا: نعطيك ثلاثة.
قال: وجدت من زادني.
فقالوا: نحن تجار المدينة ولا يزيدك على ما زدناك أحد.
قال: لا والذي نفسي بيده! قد زادني رب العالمين إلى سبعمائة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرة، فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261] أشهدكم، وأشهد الله وملائكته؛ أنها في فقراء المدينة، وفي مساكين المدينة فقسمت في غداة واحدة، وتوزع الناس يقولون: سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة]].
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنّاً وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة:262 - 263] ثم يقول عز من قائل بعدها بثلاث آيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:267 - 268].
فهنيئاً لمن أعتق نفسه من النار بالدرهم والدينار، وهنيئاً لمن وسع قبره بالبذل والعطاء، فإن الله لا يستقل شيئاً، والبخل إنما هو من شيمة العبد يوم ينسى الله ولقاءه: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُوراً} [الإسراء:100].
وأتى عليه الصلاة والسلام بالآيات البينات التي تدعو إلى الإنفاق؛ والتي نادى الله فيها العالمين قاطبةً إلى البذل والعطاء، فقال جل ذكره: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم:31] وقال جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254].
ويستعرض صلى الله عليه وسلم في الصحيح فضل الصدقة، فيقول في حديث عدي بن حاتم: {ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة} وفي رواية: {فمن لم يجد فبكلمة طيبة} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل أحدٍ يوم القيامة في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس، فمنهم من يأتي وصدقته كالجبل، ومنهم من يأتي وصدقته كالشجرة العظيمة، ومنهم من يأتي وصدقته كالكف على رأسه} فانظر لنفسك كيف تنزل نفسك تلك المنازل، فوالله! لا يبقى للإنسان إلا ما قدم في الدنيا لوجهه تبارك وتعالى.(96/4)
بذل بيت النبوة
في جامع الترمذي بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة وقد ذبح شاة: {أبقي من الشاة شيئاً؟ قالت: يا رسول الله! تصدقنا بها إلا ذراعها -وفي لفظ: ذهبت إلا ذراعها- فقال عليه الصلاة والسلام: بقيت -والله- إلا ذراعها}؛ لأن ما ذهب إلى الله فهو الباقي، وما أكلنا ولبسنا وبنينا فهو الفاني.
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمرانُ
ويا حريصاً على الأموال تجمعها أقصر فإن سرور المال أحزان
ولكن أصحاب الرسول -عليه الصلاة والسلام- بعد أن بذلوا أنفسهم وأرواحهم؛ بذلوا أموالهم لمرضاة الله وهم يبكون ويخافون ألا يتقبل الله منهم، وهم الصادقون المخلصون المنيبون.(96/5)
عثمان بن عفان يجهز جيش العسرة والرسول صلى الله عليه وسلم يضمن له الجنة
يقف عليه الصلاة والسلام على المنبر، وحر الشمس يتوقد، والناس في عسر ومشقة، وهو يجهز جيش العسرة إلى تبوك، فيقول: {من يجهز هذا الجيش وأضمن له الجنة} فيتلكأ الناس؛ لأنها ميزانية ضخمة، ومال باهظ عظيم، فيقول: {من يجهز هذا الجيش وأضمن له الجنة} وهو أصدق الصادقين، وهو الضمين الذي لا يخلف، وهو الكفيل الذي لا يكذب، فيقوم عثمان بين الناس - عثمان البذل والعطاء، عثمان الصدقات والأعطيات- فيقول: يا رسول الله! أشهد الله وملائكته، وأشهدك أني أجهزها في سبيل الله، أرجو ذخرها وبرها عند الله، بخٍ بخٍ، غفر الله لـ عثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر: {اللهم ارض عن عثمان} ثم أخذ صلى الله عليه وسلم يقول: {ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم} وكيف يضره ما عمل؟! وهو أعتق نفسه من النار والعار والدمار، واشترى نفسه من الله.(96/6)
عامر بن ثابت يفتدي نفسه أربع مرات من الله
حضر عامر بن ثابت بن عبد الله بن الزبير المقابر، فبكى حتى أغمي عليه، وكان من تجار المدينة، فلما حمل إلى بيته واستفاق، وزن ديته أربع مرات، ثم أنفقها في سبيل الله، ثم قال: اللهم إني اشتريت نفسي منك أربع مرات، اللهم لا تخزني يوم لا تخزي نبيك وأصحابه، ثم قال: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة.
قيل له: وما هي الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد، فحضرته سكرات الموت وأذان المغرب يرتفع حياً على هواء التوحيد، فنودي للصلاة، فقال له أبناؤه: صلِّ في بيتك فإن الله قد عذرك.
قال: لا والله، أأسمع حي على الصلاة حي على الفلاح وأصلي في بيتي؟! فحمل إلى المسجد، فلما صلى وأصبح في السجدة الأخيرة قبض الله روحه، وهذه هي الميتة الحسنة.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مرت سحابة فسمع أحد الناس صوتاً في السحابة يقول: اسق مزرعة فلان، اسق مزرعة فلان، فتتبع السحابة فهطلت على مزرعة رجل، فأتى إلى الرجل وهو يعدل الماء بمسحاته، فقال: يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: أنا فلان -بالاسم الذي سمعه في السحابة- قال: أسألك بالله، بأي خيرٍ نلت هذا، فإني سمعت صوتاً في السحابة ينادي باسمك، يقول: اسق مزرعة فلان؟ فقال له: أما وقد سألتني، فإن كل ما خرج من أرضي؛ أقسمه ثلاثة أقسام: قسم أتصدق به لمرضاة الله، وقسم أدخره لأهلي، وقسم أرده في هذه الأرض} أولئك الذين عرفوا طريق المال من أين يأتي وإلى أين يذهب.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما تصدق عبدٌ بعدل تمرة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا طيباً- إلا تقبلها الله بيمينه -انظر ما أحسن التعبير! - فرباها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه حتى تصبح كالجبل العظيم} هذه هي الصدقة، يوم يخلص العبد في دفعها ولا يرجو برها وثوابها إلا من الحي القيوم، جل الله تبارك وتعالى.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يقول الله تبارك وتعالى: يا بن آدم! أنفق أُنفق عليك} فإن خزائن الله لا تتبدل ولا تتغير ولا تنقص.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يقول الله تبارك وتعالى يوم القيامة لابن آدم -يوم يستوقفه ويحاسبه ويجازيه، يوم يكلمه كفاحاً، يوم لا يكون بينه وبينه ترجمان- يا بن آدم! جعتُ ولم تطعمني -وفي لفظ: يا بن آدم! استطعمتك فلم تطعمني- قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته وجدت ذلك عندي.
يا بن آدم! استكسيتك فلم تكسني.
قال: كيف أكسوك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان، استكساك فلم تكسه، أما علمت أنك لو كسوته وجدت ذلك عندي.
يا بن آدم! مرضت فلم تعدني.
قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته وجدت ذلك عندي؟!} حينها يتلهف العبد، ويود أنه أنفق كل شيء، وأنه قدم لنفسه، وأنه مهد للعمل الصالح.(96/7)
عثمان بن عفان يشتري بئر رومة
أصاب الناس قحطٌ ومجاعةٌ ومشقة فنادى عليه الصلاة والسلام، وقال: {من يشتري بئر رومة -وهي بئر لليهود عذبة الماء- قال: من يشتري بئر رومة وأضمن له الجنة} فشراها عثمان بن عفان، فلما شرب الناس منها قالوا: سقى الله ابن عفان من سلسبيل الجنة.
وهل الحياة إلا بذل وعطاء؟!
وهل الإنقاذ من النار إلا أن تقدم من هذا المال الفاني؟! وما منا من أحد إلا يستطيع أن يقدم من ثوبه، ودراهمه ودنانيره، وحبه، وتمره، ومن كلامه الطيب، ومن كفه الأذى، ومن بسمته الراقية الرائقة؛ حينها يتقبل الله عنا أحسن ما عملنا ويتجاوز عن سيئاتنا.(96/8)
عبد الله بن المبارك يتصدق بقافلته التي نوى الحج بها
وقد ضرب السلف الصالح أمثالاً في البذل والعطاء، ومن أعظمهم في من أعلم بعد التابعين عبد الله بن المبارك؛ كان رأس ماله ألف ألف درهم ما مرت عليه زكاة أبداً في الحول، من كثرة ما ينفق:
يقولون معنٌ لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
هذا عبد الله بن المبارك، المحدث الخطير، والزاهد الكبير، والعابد والمجاهد النحرير، مر حاجاً بقافلة عظيمة ومعه الحجيج، وهو الذي يصرف عليهم، فلما وصل البادية، نزل مخيماً تحت أشجار هناك، فإذا بجارية خرجت من بيت، وذهبت إلى المزبلة فأخذت غراباً ميتاً من المزبلة، فقال لأحد خدمه: سلها مالها أخذت الغراب الميت؟ فذهب وسألها، فقالت: "والذي لا إله إلا هو! مالنا من طعام منذ ثلاثة أيام إلا ما يلقى في هذه المزبلة من الميتات".
فعاد إلى ابن المبارك، فبكى حتى كاد يغمى عليه، وقال: [[نحن نأكل الفالوذج والناس يأكلون الغربان الميتة، لن أحج هذه السنة، وأعطوا قافلتي ببرها وحبوبها وما عليها من دراهم ودنانير وثياب إلى أهل هذه البادية]] ثم عاد وترك الحج، فلما وصل إلى أرضه -أرض خراسان - رأى في أول ليلة قائلاً يقول له في المنام: "حجٌ مبرور، وسعي مشكور، وذنب مغفور"، وهذه من معالم البذل والعطاء.
وسبحان الله! يوم يرزق الله بعض النفوس فتسخوا بما في يديها؛ تطعم الجائع وهي جائعة؛ وتسقي الظمآن وهي ظمآنة؛ وتلبس العاري وهي عارية، رجاء ما عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(96/9)
وقفات مع الإنفاق(96/10)
سبب الرفعة يوم القيامة
والعبد إنما يرفع يوم القيامة بما قدم في الحياة، فلا -والله- يرفعه منصبه، ولو رفعه منصبه لرفع فرعون، فهو الذي تولى أكبر منصب إداري في تاريخ الإنسان، ولكن أخزاه الله ومقته، وجعله يعرض على النار غدواً وعشياً.
ولا المال يرفعه، فـ أمية بن خلف كان يكسر ماله بالفئوس من الذهب والفضة، ولكنه ملعونٌ مخزيٌ مدحور، إنما العبرة بالأعمال الصالحة لمرضاة الله.(96/11)
نداء إلى أمة الإسلام للنفقة في سبيل الله
فيا أيتها الأمة المتوحدة! ويا أيتها الأمة الحاملة لرفعة رسالة التوحيد والقداسة! أنتم في شهر البذل والعطاء، أنتم في شهر تفطير الصوام، أنتم في شهر الإنفاق، فابذلوا وتصدقوا وأحسنوا علَّ الله أن يعتق رقابنا ورقابكم من النار، وينقذنا من العار، ويدخلنا جنة عرضها السماوات والأرض.
هنيئاً لكم الصيام، وهنيئاً لكم القيام، وهنيئاً لكم البذل والعطاء، أبشروا وأملوا في ربكم ما يسركم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(96/12)
البخل صفة دائمة لليهود والمنافقين
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
عباد الله: فإن الله ذم البخل في كتابه، وذمه رسوله صلى الله عليه وسلم، والله يقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
وذكر الله المنافقين فقال فيهم: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة:67]؛ أي: يمسكون الخير الذي في أيديهم.
وقال عن اليهود: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:37]؛ فوصفهم بخصلتين ذميمتين: بخلٌ في الأموال، وكتمان للعلم.(96/13)
مواقف مشرفة في الإنفاق
ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام، كما عند الترمذي وغيره أنه قال: {السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس، والبخيل بعيدٌ من الله، بعيدٌ من الناس بعيدٌ من الجنة -وفي رواية: قريب من النار-}.
والبخل من أدوى الأدواء التي أجمع عقلاء الأمم على أنه أفضح فضيحة، وما كان العرب يسوَّدون سيداً بخيلاً فيهم أبداً؛ لأن معناه: أن هذا لا ينفعك أبداً، ولا يمكن أن يشاركك في الحياة، ولا يمكن أن تنال منه معروفاً، ولا يقف معك في الأزمات والنكبات.(96/14)
الصحابة يتصدقون بالقليل والكثير
وقف عليه الصلاة والسلام يطلب الأعطيات من الناس، فذهب أحد الفقراء من الأنصار يلتمس عطاءً فما وجد في بيته إلا حفنة من تمر، -كفاً واحداً من تمر- فحمله ودخل به المسجد، وإذا بالمسجد أصبح حلقةً من الناس ينظرون من يأتي بالأعطيات، فدخل بهذا غير خجلان ولا مستحٍ؛ لأن الذي يقبل العطاء هو الله، والقليل عنده كثير، فدخل بها والرسول صلى الله عليه وسلم ينظر إليه فوضعها وسط المسجد وقال: {يا رسول الله! والذي نفسي بيده ما وجدت إلا هذا في بيتي، فقال عليه الصلاة والسلام: آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت} فأخذ المنافقون يتغامزون في أطراف المسجد، يقولون: ماذا تغني هذه الحفنة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسمع صلى الله عليه وسلم قولهم فما رد عليهم بشيء.
ودخل عبد الرحمن بن عوف يحمل أكياس الذهب والفضة حتى وضعها في المسجد وقال: {يا رسول الله! خذ هذا، قال: آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت} فتغامز المنافقون وقالوا: "ما قصد بها إلا رياءً وسمعة".
ذاك فقيرٌ معدم لا تغني نفقته، وهذا رياءٌ وسمعة.
إذاً من الصادق عندكم أيها المنافقون؟ ومن المخلص عندكم أيها الكذابون؟ ومن المنيب عندكم أيها الدجالون؟ فأنزل الله فيهم: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79].
فهو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يكافئ العبد بما فعل؛ ولذلك كان شاهد هذه القصة ألا تحقر من المعروف شيئاً أبداً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق.
ألا تعلم أن البسمة صدقة يكتبها الله لك عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى! وأن الكلمة الطيبة صدقة، ولو أن تسقي أو أن تدلي لأخيك وتفرغ في إنائه من إنائك فإنه لك صدقة!
جاء مسكين إلى عائشة رضي الله عنها وأرضاها فسألها الصدقة، فبحثت في البيت فلم تجد إلا عنبة واحدة فدفعتها إليه، فقال أحدهم: ما تغني هذه العنبة؟ قالت: [[إن فيها ذرات كثيرة]] لأن الله يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8]؛ بل شق التمرة يكتبها الله عزوجل عنده، وأصغر من ذلك الذرة الواحدة.
فأنا أدعوكم ونفسي إلى الاهتمام بهذا الشهر فإن: {الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار} والله يغضب على العبد؛ من كثرة معاصيه ومخالفته، فيأتي العبد فيتصدق؛ فيرضى الله عنه من فوق سبع سموات؛ ولذلك كان أجود الناس -كما أسلفت- رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
يقول جابر كما في الصحيحين: {ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال: لا، إلا مرة -وهذا في المسند -: سأله سائل فقال: لا، وأستغفر الله}:
وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ذا عفافٍ وحياء وكرم
قوله للشيء: لا إن قلت: لا وإذا قلت: نعم قال: نعم
فنعم محمودة في فعل الخير، و (لا) محمودة في فعل الشر، يوم تدعوك نفسك للفحشاء فتقول: لا.
وتدعوك للبر فتقول: نعم.
فهذا هديه صلى الله عليه وسلم.
{نُسج له بردة -ثوب- فأتاه رجلٌ فقال: يا رسول الله! اكسني هذه فإني محتاج، قال: أنظرني قليلاً، فذهب إلى بيته -وما ملك إلا هذا الثوب- فتلفع بشيء من الكساء، ثم خرج بالثوب الجديد ودفعه إلى الأعرابي، فقال الناس: كيف تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس له إلا هذا الثوب؟! قال: إني أرجو أن يكون هذا الثوب كفني، فكان كفنه} رواه مسلم، وهو عن جابر وعن سهل بن سعد في صحيح البخاري.
عباد الله: إن مشاريع الخير تدعوكم، وإن الفقراء ينادونكم، وإن المساكين ينظرون -بعد الله- إليكم، وإن المجاهدين يقفون على الغبراء يتلهفون إلى أموال المسلمين؛ وأعطياتهم، وتبرعاتهم، فهل من منفق؟ وهل من معط؟ وهل من متصدق؟ فوالله لا تتصدقون إلا لأنفسكم، ولا تدفعون إلا لرفع غضب ربكم عنكم، ولا توسعون إلا قبوركم، ولا تظللون إلا نفوسكم.
أسأل الله لكم أجراً كثيراً، ومغفرةً عامةً، وأسأل الله لي ولكم من العيش أرغده، ومن العمر أسعده، ومن الوقت أتمه، ومن الخير أعمه.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صل وسلم على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم اهدهم سبل السلام، اللهم بصرهم بدينهم، اللهم وفقهم لاتباع سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، ولرفع رايتك، ولنصرة دين نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان وفلسطين، اللهم رد لنا المسجد الأقصى يا رب العالمين، اللهم اجعله في حوزتنا، وطهره من أدناس اليهود؛ أعدائك وأعداء رسلك يا رب العالمين.
اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً، اللهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم وخذهم إليك يا رب العالمين واهدهم صراطاً مستقيماً.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ربنا تقبل منَّا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(96/15)
وقفة في حياة ابن الزبير
كان مولد ابن الزبير خبراً ساراً قطعت به إشاعة اليهود بأن المهاجرين لن يولد لهم.
وقد كانت له المواقف الخالدة، فمنها وهو صغير أنه شرب دم محاجم النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يخف من عمر ولم يفر كما فر غيره من الشباب.
ومنها مشاركته في فتح أفريقيه مع عبد الله بن أبي السرح.
وقصة استشهاده من أروع القصص في التاريخ يقف أمامها المرء مذهولاً.(97/1)
رد كيد اليهود بمولد ابن الزبير
الحمد لله القائل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ.
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ.
نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:32] والصلاة والسلام على رسول الله القائل: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها أرضاً طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب حبست الماء، فنفع الله بها الناس، فسقوا وشربوا وزرعوا، وكان منها أرض إنما هي قيعان، لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بما أرسلت به رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي جئت به} صلى الله عليه وسلم، رفع رءوسنا بعد أن كانت مخفوضة، وشرح الله به صدورنا بعد أن كانت ضيقة، وأنار به قلوبنا بعد أن كانت غلفاً، وفتح به أعيننا بعد أن كانت عمياً، وأسمع به آذاننا بعد أن كانت صماً، فعليه صلاة الله وسلامه، أغلق الله أبواب الجنة لمن بعده إلا لمن أتى من بابه، فمن استضاء بغير نوره أو ظن أو اعتقد أنه يهتدي بغير هداه، أو التمس هدى وسبيلاً غير سبيله، فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً، وأولئك من الخاسرين.
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرَّم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
أمَّا بَعْد:
أيها الناس! معنا شاب من شباب محمد صلى الله عليه وسلم، وصاحب من أصحابه رباه على سمعه وبصره، لنتربى كما تربوا، ولنتعلم كما تعلموا، ولنزهد كما زهدوا، هذا الشاب هو عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه.
حملته أمه وهو جنين وهي مهاجرة، وهي أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين رضي الله عنها وأرضاها العابدة الأوابة المنيبة الزاهدة، حملته في بطنها مهاجرة من مكة إلى المدينة، وكان اليهود في المدينة قد حقدوا على رسالة الإسلام، وتعنفوا على محمد صلى الله عليه وسلم، واستخدموا الدعايات المشبوهة، والشائعات وحرب الأعصاب ضد المسلمين، فقالوا: إن كهنتنا -أي: اليهود- قد أعطبوا نساء المسلمين، فلا تلد امرأة مسلمة بعد اليوم، فلما أتت أسماء رضي الله عنها وأرضاها ووصلت بجوعها وتعبها وعطشها ولدت بهذا الابن المبارك الصالح في قباء، وتسامع المسلمون بهذا المولود المبارك، ففرحوا لأنه وثيقة رد على اليهود، وأتي به ووضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبسم صلى الله عليه وسلم، وانشرح صدره بهذا المولود، وقبَّله على جبينه ودعا له بالبركة، ثم أخذ ريقاً من ريقه المبارك صلى الله عليه وسلم، فحنّك هذا الطفل المبارك، وأخذ المسلمون هذا الطفل وداروا به في شوارع المدينة، ليغيظوا به أعداء الله اليهود الذين استخدموا الشائعات ضد المسلمين.(97/2)
قصة توضيح علم اليهود بصحة الرسالة
كان اليهود يعلمون أن رسول الله مرسل من عند الله، يقول أحد الأنصار: كان في المدينة شيخ كبير من اليهود قد بلغ من الكبر عتياً، يقوم فينا صباح مساء فيحدثنا عن أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما أتى صلى الله عليه وسلم رأينا الوصف والعلامات كما كان يحدثنا، فأسلمنا وكفر ذاك الشيخ، وصدقنا وكذب ذاك الشيخ اليهودي، فذهبنا إليه وقلنا: هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ليس هو، فأنزل الله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].
كان عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه من اليهود وقد أسلم؛ لأنه قرأ أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: {انجفل الناس من المدينة، فانجفلت معهم إلى رجل، فإذا هو متوسطٌ الناس، وقد ازدحموا عليه، فأسرفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونظرت وإذا وجهه كالقمر ليلة البدر، فقلت في نفسي: والله ما هذا الوجه بوجه كذاب، فقلت: يا رسول الله! بم جئت؟ قال: جئت بلا إله إلا الله وأني رسول الله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام، فقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، وجدناك مكتوباً عندنا في التوراة، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم، ثم قال عبد الله بن سلام: يا رسول الله! اليهود قوم بهت -أهل زور وكذب وخداع- فاسألهم عني ولا تخبرهم أني أسلمت، فخبأه صلى الله عليه وسلم في مكان، واستدعى اليهود، وقال: كيف عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، وفقيهنا وابن فقيهنا، قال: فإنه قد أسلم، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عليهم ابن سلام، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، قالوا: شرنا وابن شرنا، وخبيثنا وابن خبيثنا، وجاهلنا وابن جاهلنا} فعندها كانوا يفترون المفتريات، ولما ولد ابن الزبير رضي الله عنه، كان رداً حاسماً عليهم.(97/3)
نشأة ابن الزبير
ولد هذا الشاب في بيتٍ من بيوت الإيمان، أبوه الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه، حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، وصاحبه وخليله، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأمه ذات النطاقين.
كان هذا الشاب يترعرع فيسمع آيات الله صباح مساء، لا يسمع في بيته إلا قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحياته بين تسبيح وتكبير، لا يسمع الغناء الماجن، أو الفحش، ولا يسمع الغيبة والنميمة والزور، نشأ بعيداً عن معصية الله تبارك وتعالى، ولما شب وترعرع رضي الله عنه، كان دائماً يصلي في الصف الأول -وهو شاب- ورأى رسول البشرية، ومعلم الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية، فيتعلم الأدب والزهد والعبادة والتقوى والاتصال بالله تبارك وتعالى.(97/4)
قصة شرب ابن الزبير لدم النبي صلى الله عليه وسلم
دخل ابن الزبير وعمره عشر سنوات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجد الرسول صلى الله عليه وسلم يحتجم -كما صح في ذلك الحديث- فناوله صلى الله عليه وسلم دم الحجامة، وقال: {يا عبد الله! اذهب بهذا الدم واجعله في مكان لا يراه أحد، فأخذ ابن الزبير دم رسول الله صلى الله عليه وسلم -دم الحجامة، الدم المبارك الطاهر، الدم الذي عاش في ذاك الجسم الشريف، عليه أفضل الصلاة والسلام- وذهب به في إناء، فلما اختفى وراء بيوت المدينة شرب ذاك الدم الطاهر، حتى انتهى من الشرب، ثم لعق ما بقي في الصحن وعاد، فلما رآه صلى الله عليه وسلم تبسم، وعرف سر المسألة عليه أفضل الصلاة والسلام، وقال: يا عبد الله! أين وضعت الدم؟ قال: وضعته في مكان لا يراه فيه أحد، فقال عليه الصلاة والسلام: ويل لك من الناس وويل للناس منك، لا تمسك النار} وبدأ رضي الله عنه وأرضاه، يزداد قوة إلى قوته، لأن دم الرسول صلى الله عليه وسلم أصبح في جسمه فوصل إلى عروقه وشرايينه.
وأما قوله: ويل لك من الناس، وويل للناس منك، فويل لك من الناس: سوف تجد ما وجدت من الناس من إعراض وتكذيب وشتم وغيبة، ومن حروب، وسوف يجد الناس منك قوة شخصية وشجاعة كما يجدونها مني أنا، وأما قوله: فلا تمسك النار، فكيف تمس النار جسماً أصبح دم الرسول صلى الله عليه وسلم في شرايينه؟!
قال أهل العلم: اكتسب بذلك الدم قوة في جسمه رضي الله عنه وأرضاه، يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء: فكان يصوم سبعة أيام متواصلة -ليل نهار- ويفطر في اليوم الثامن، لقوة جسمه رضي الله عنه وأرضاه، وكان أعبد الناس، والعبادة أشرف مقام في الإسلام؛ فجسم يمنحك الله إياه أو قوة يعطيك الله إياها، ثم لا تستخدمها في مرضاته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنك سوف تحاسب عليها يوم القيامة.
ووقت تمضيه في غير طاعة الله تسأل عنه يوم القيامة.
{جاء شباب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! أعطنا مما أعطاك الله، فأعطاهم من اللباس والمال إلا شاباً واحداً قال: لا أريد اللباس ولا أريد المال، فقال صلى الله عليه وسلم: فماذا تريد إذاً؟ قال: أريد مرافقتك في الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك؟ قال: لا والله يا رسول الله! قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة}.
وقد كان ابن الزبير ساجداً دائماً، يقول ابن أبي مليكة: والله، لقد رأيته قضى ليلة من الليالي راكعاً حتى أصبح، وليلة ساجداً حتى أصبح، وكان إذا وقف في صلاته كأنه سارية لا يتحرك، فيأتي الحمام والعصافير فتقف على رأسه ثم تطير: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2] هذا هو الاتصال بالحي القيوم، وهذه هي عظمة المسلم، وهذا هو الباقي عند الله تبارك وتعالى.
وحدث في يوم من الأيام أن اقتحم سيل عارم الحرم المكي -بيت الله العتيق- حتى أصبح السيل عند مقام إبراهيم عليه السلام، فخرج أهل مكة يبكون خائفين على الكعبة أن تهدم، أما هو فخلع ثيابه وائتزر ونزل يطوف سبعة أشواط وهو يسبح في السيل، قال أهل العلم: ليس لنا أحد طاف بالسيل سابحاً إلا عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه.
وبينما هو شاب خرج عمر بن الخطاب في خلافته فلما رآه الشباب فروا؛ لأن عمر رضي الله عنه كان مهاباً، كان يخاف منه الناس، لقوة إيمانه وشكيمته رضي الله عنه، ففر الشباب إلا ابن الزبير رضي الله عنه، فقد استمر واقفاً في مكانه، فرآه عمر فتبسم، وأراد أن يستجلي الخبر، فقال: ما وراءك يا ابن الزبير؟ لماذا لم تفر مع الناس؟ قال: ليس الطريق ضيقاً فأوسع لك، وما فعلت ذنباً فأخافك، فقبَّله عمر رضي الله عنه، ودعا له، وحيا هذه البطولة، النادرة، والصرامة الفائقة، التي تعلن الرأي في حرية, وتقول الكلمة في صراحة، وتثبت مكانها ولو أزيحت الرءوس عن أكتافها.(97/5)
جهاد ابن الزبير في إفريقيا
عاش ابن الزبير رضي الله عنه وأرضاه على هذا المستوى، وكان دائماً يطمح إلى الجهاد، ويحدث نفسه بالاستشهاد، ويتمنى أن يكون من خلَّص العباد، ودعا داعي الله إلى النفير في سبيل الله.
وذلك يوم كنا لا نخضع رءوسنا للأمم.
يوم كنا لا نطأطئ أعناقنا لأنذال البشرية.
يوم كنا نرفع السيف، فمن أجابنا بلا إله إلا الله، عفونا عنه، ومن لم يفعل قطعنا رأسه كما تُقطع الزهرة في الحديقة.
فنادى عثمان مع ابن أبي السرح إلى الجهاد في سبيل الله في إفريقيا، سلوا إفريقيا عنا ماذا فعلنا وفعل أجدادنا، وسلوا آسيا، وسلوا كل جبال الدنيا تشهد بشجاعة أجدادنا.
لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
كنا نقدم للرءوس سيوفنا لم نخش يوماً غاشماً جبارا
وكأن ظل السيف ظل حديقة خضراء تنبت حولنا الأزهارا
فوصل رضي الله عنه وأرضاه إلى هناك، وهو في السابعة والعشرين من عمره، فلما اجتمع المسلمون والوثنيون الكفرة رأى ابن الزبير رضي الله عنه صفوف المسلمين تتهدم فلم يعجبه ذلك، ونظر في صفوف الأعداء فوجد أن مصدر القوة عند القيادة، فقال: يا معشر المسلمين! احموا ظهري فإني مصمم على الاستشهاد، وخرج يشق الصفوف وظهره محمي حتى بلغ القائد الوثني الأفريقي فقتله وقطع رأسه، وبدت الهزيمة تلحق بأولئك الخاسرين وانتصر الإسلام والمسلمون بهذا الشاب، بعد نصر الله وتوفيقه تبارك وتعالى، وعادوا إلى المدينة المنورة، فقبله عثمان رضي الله عنه وأرضاه.
كم قدم ابن الزبير من بطولة، وكم أعلن من تضحية!! فهو مع الصوَّام في الهواجر صائماً، ومع الذاكرين لله ذاكراً، ومع المتهجدين في سبات الليل متهجداً، ومع الشجعان الأقوياء قوياً شجاعاً.
هذا هو التكامل؛ أن تعطي ثمن القوة في كل مركز، وأن نغطي الشخصية المسلمة كل احتياج، ذلك لأن محمداً صلى الله عليه وسلم يريد من المسلم أن يكون عالمياً في تصوره لأن دعوته عالميه، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] وللحديث بقية.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(97/6)
قصة استشهاد ابن الزبير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، صلى الله عليه وسلم منه نتعلم الأخلاق، ونتعلم الزهد، ومنه نتعلم البذل والتضحية، ما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا حذرنا منه.
ومع ابن الزبير في قافلة الحياة، مع ذلك العابد الذي زكاه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولكل بداية نهاية: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
وإذا لم يكن من الموت بدُّ فمن العجز أن تموت جبانا!
إذا كان الموت قضية مسلمة، وسنة من سنن الله في الحياة، فلماذا يموت المسلم على الفراش وهناك دعاء التضحية، ومواقف استبسال، وطلب الشهادة؟ فلما رأى الله من قلب ابن الزبير أنه يتوق إلى الشهادة، وكان رضي الله عنه يطالب بالحق للمستضعفين من اليتامى والأرامل يرفض الظلم والجور يرفض أن تؤخذ الحقوق جهاراً نهاراً من الضعفاء، فكان من جند المستضعفين بسيفه وقلبه وإيمانه رضي الله عنه وأرضاه، وقف في الحرم وأعلن الخلافة من هناك، وأخذ الخلافة ست سنوات، لكن بني أمية في الشام لم يعجبهم ذلك، فهم يريدون طريقاً وهو يريد طريقاً آخر، وعند الله يجتمع الخصوم، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] وزحف الحجاج إلى ابن الزبير رضي الله عنه وأرضاه وهو في الحرم، وقد لاذ وعاد ببيت الله، وهو ينادي برب الحي وأصحابه، وينادي برفع الظلم والجور عن المظلومين، ولم يهم الحجاج أن تستباح مكة والمدينة في غداة واحدة، ويصل والحجاج إلى مكة، فيطوق الحرم، ويرسل قذائفه النارية إلى بيت الله العتيق، وتلج القلوب، وتصيح الألسنة، لا حكم إلا لله، ولا بقاء إلا للا إله إلا الله، ولكن ذلك الجائر يرفض إلا حكم المعركة والسيف.
وابن الزبير يستدعى من أقربائه ليسلم فيعلن القوة والصراحة والاستبسال رضي الله عنه وأرضاه، وفي آخر لحظاته كان يطارد وحده خمسمائة من الرجال بسيفه، فيهربون أمامه كما تهرب الماعز، ويعود إلى ذات النطاقين، إلى الأم الحنون والمدرسة الأولى إلى الجامعة القوية إلى مصدر الثروة والنماء والاستبسال إلى العزيزة بإيمانها والقوية بتضحيتها ويعرض عليها الأمر، ويأخذ منها الشورى، ويقول: أخاف أني إذا قتلت أن يمزق جسمي، فقالت: وماذا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟ لكن اثبت واحتسب أجرك على الله، فالسلام عليك من شهيد، وأستودعك الله من فقيد، ثم تقول له وهي تبكي: والله لقد كنت مطيعاً لربك، باراً بأبويك، مقيماً للصلاة في الليل، صائماً في الهواجر، ولقاؤنا معك عند الله تبارك وتعالى، وخرج رضي الله عنه وأرضاه، متكفناً في أكفانه البيضاء بياض إسلامه وقلبه ومنهجه في الحياة، وتحنط وتطيب ثم وقف عند مقام إبراهيم، ليودع الحياة وأهلها وطاغوتها، ووقف يصلي، فأتته قذيفة وهو في مكانه فما اهتز وما التوى ولا تغير، فوقعت في رأسه، فأوقعته في الأرض شهيداً، وحمل إلى الحجاج وهو مقتول، فقال: اصلبوه في الحجون، فصلبوه في الشمس وكأنه يخطب الناس أو كأنه قائم في صلاته لربه مناجياً الحي القيوم، شدوه بالحبال على الخشب، ومر أجيال وأطفال الناس ومرّ التابعون يبكون ويودعونه، ومر ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه فقال: السلام عليك، والله، ما علمت إلا أنك مقيماً لكتاب الله، مهتدياً بهدي رسول الله، صائماً للهواجر، قائماً الليل، فالسلام عليك من فارس لم يترجل، ثم مرت أمه وهي عمياء يقودونها، فقالت: إذا وازيته فأقيموني، ووقفت وهي تبكي وتقول: سلام عليك يابن حواري رسول الله! والله لقد كنت باراً في شبابك، مطيعاً في كدرك، عابداً في شيخوختك، فسلام الله عليك حتى ألقاك.
سلام الله عليه يوم يلقى الله تبارك وتعالى، وسلام الله وصلاته على من علمه هذا المنهج، وعلى من أحيا قلبه بالرسالة الرسالة التي تستطيع دائماً وأبداً أن تستمر لتحيي ملايين القلوب، لمن أراد أن يحيا بنور الله، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122] أفمن كان ميتاً في الجاهلية، فأحيينا قلبه بنور الإيمان، فانتفض عليه حياً مؤمناً، وجعلنا له نوراً من هذا المنهج يمشي به في الناس ليوزعه بين الناس، ويهديه لهم، كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها، كمن مثله في ظلمات شهواته ونزواته ومرابعه، يبغث بطنه، ويعبد ثوبه ووظيفته، ويعبد سيارته وحذاءه، ولكنه لا يعبد الله.
فهذا ابن الزبير يعلمنا كيف نعبد الله الحي القيوم، وعلى مثل ذلك المنهج نسير إلى الله، وبمثل حبهم نحب الله وقد وقف يودع الناس:
علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات
كأنك واقف فيهم خطيباً وهم وقفوا قياماً للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاءً كمدك إليهم بالهبات
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أمرنا الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله بها عليه عشراً} اللهم صلِّ على نبيك محمد، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، وارفع رايتهم، وارفع رءوسهم، وانصرهم على عدوهم، واشرح صدورهم بنورك الذي أنزلته على نبيك، اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم انصر عبادك الموحدين في أفغانستان وفلسطين وفي كل زمان وسقع من بلاد المسلمين، اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.(97/7)
فاعلم أنه لا إله إلا الله
(لا إله إلا الله) ليست كلمة تقال فحسب، بل لا بد أن يعلم معناها، ومع العلم لا بد من العمل، ومن لم يأخذ بـ (لا إله إلا الله) أو لم يعمل بها نكسه الله وعذبه في الدنيا قبل الآخرة وأخزاه جل وعلا.
و (لا إله إلا الله) هي التي حمت محمد صلى الله عليه وسلم في كثير من المواقف وحمت من قالها ممن تبعه بحق، وكما أن (لا إله إلا الله) نصرت من أخذ بحقها ممن سبق؛ فإنها ستنصر من يأخذ بها في الدنيا وفي الآخرة؛ ومن تركها فله العذاب والخسارة والندامة في الدنيا قبل الآخرة.(98/1)
شكر وتقدير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله مساكم باليمن والمسرات.
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإنه وسراجاً منيراً.
هدى الله به الإنسانية وأنار الله به أفكار البشرية، وزعزع به كيان الوثنية، فصلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً ما اتصلت عين بنظر، وما تاقت أذن لخبر، وما هتف الورْق على الشجر، وما هطل المطر.
أشكركم شكراً جميلاً، وأشكركم شكراً لا يكتب إلا بدموع عيني ولو استطعت أن أكتبه بالدموع لكتبته والله، أشكركم شكراً لا ينتهي، ولو استطعت أن أكتب شكركم بدمي لكتبته والله، فإن الدم لله والدموع لله والقلب لله والرأس لله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
أشكركم لثلاثة أسباب:
أولاً: لأنكم اجتمعتم لتسمعوا قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] أتيتم هنا بقلوبكم ودمائكم وأبصاركم وأسماعكم لتسمعوا: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] أتيتم هنا لتقولوا سوف تعود لا إله إلا الله، وسوف نبقى مع لا إله إلا الله، وسوف ننصر لا إله إلا الله، وسوف نسجد لرب لا إله إلا الله.
ثانياً: أشكركم لأن أجدادكم هم الذين فتحوا الدنيا بلا إله إلا الله وهم الذين قتلوا في حدائق الأندلس وأسبانيا والبرتغال وطاشكند والهند والسند، وهم الذين ماتوا في صحراء سيبيريا وفي اسطانبول، وعلى ضاف دجلة والفرات، ليرفعوا لا إله إلا الله، ومن يشابه أبه فما ظلم.
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا
ثالثاً: أشكركم على دعائكم الحار بالأسحار، شكر الله لكم دعاءكم وجعله في ميزان حسناتكم، وإنما نصرتم باتباعكم محمداً عليه الصلاة والسلام، ونصرتكم باتباعكم أبا بكر وعمر وعثمان وعلي ونصرتم باتباعكم أهل الخير وأهل العلم وولاة الأمر، فقد نصرتم هذه البلاد ونصرتم لا إله إلا الله، لكني عاجز عن شكركم، وأحيلكم على الغفار رب الأرض والسماوات، الذي يثيبكم ويكسوكم جلابيب الرضوان يوم يجمع الأولين والآخرين، ثم أشكر من قدمني وأعتذر وأقول غفر الله له، وأنا عبد ضعيف.
إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني
فأسأل الله أن يغفر لي ولكم وأن يتقبلنا فيمن تقبل، وأن يثبتنا على الحق.
عنوان المحاضرة: فاعلم أنه لا إله إلا الله.(98/2)
بلاؤه صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أجل (لا إله إلا الله)
لمن قالها الله؟ ومن الذي قالها؟ ولمن تقال؟
أما الذي قالها فهو الحي القيوم، قالها من فوق العرش، ونزل بها جبريل وكتبت في القرآن، قالها الله لمحمد عليه الصلاة والسلام، يا محمد: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19].
إذا رأيت الأعداء والدنيا والمغريات والباطل، فاعلم أنه لا إله إلا الله، يا محمد! قبل أن تدعو الناس وقبل أن تلبس ثيابك وتذهب لمنصبك وتزاول وظيفتك وتحرث بمحراثك: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19].
يا محمد! يوم يسقط رأسك ورأس كل فرد من أمتك على الأرض، لتسقط رءوسكم على لا إله إلا الله، قالها الله لمن؟ لأزكى الخلق، ولأبر الناس، الذي كان يقطع ليله بالدموع والبكاء من خشية الله، وحفظ لا إله إلا الله، كان يعيش بها في الليل والنهار، كان يشرب ويأكل وينام بلا إله إلا الله، ضرب بالسيوف وأوذي وهو يقول لا إله إلا الله، دخل الغار وافتقر وذبح أصحابه، وكسرت رايته مرات، وقُتل محبيه وماتت بناته، وجاع وعري وهو يقول: لا إله إلا الله.
قال له أهل الباطل: نعطيك مالاً حتى تكون أغنى الناس، وتزوج أجمل فتاة واترك دعوتك، نجعلك سيداً علينا واترك دعوتك، فماذا قال العظيم؟ ماذا قال الزعيم؟ ماذا قال الرائد؟ ماذا قال الواثق من دعوته؟
تذوب شخوص الناس في كل لحظة وفي كل يوم أنت في القلب تكبر
أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا وأنت لنا التاريخ أنت المحرر
ماذا قال؟ قام قائماً كما يقوم الأبطال وهو سيد الأبطال، وكما ينهض العظماء وهو أكبر العظماء، وكما يثبت الشرفاء وهو أشرف الشرفاء، قام ودمعت عيناه وقال: {والذي نفسي بيده لو وضعوا الشمس في يمني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله}.
فالمسألة مسألة عقيدة، فالله بلغه ما تمنى، يقول الله له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] إن لم تفعل فما بلغت دينه، ولن تحمل شريعته، ماذا فعل؟ أخرجوه من بيته، طوقه خمسون شاباً بالسيوف يقطر منها الموت، فخرج يقول: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] وأخذ حفنة من التراب، ونثرها على الكفر والوثنية، وعلى كل عميل فدخل كل التراب في عيونهم فخسئوا وخابوا، وخرج منصلتاً مثل السيف وأقوى من الفجر إلى الغار، ولحقوه في الغار، وأرادوا أن يدخلوا إلى الغار وليس معه سلاح، ولكن سلاحه لا إله إلا الله، ولا معه رماح ولكن رماحه لا إله إلا الله، ولا معه دروع ولكن دروعه لا إله إلا الله، طوقوا الغار وأرادوا دخوله فأرسل الله العنكبوت فبنت بيتها في فم الغار، وأرسل الحمامة فبنت عشها وباضت في فم الغار، فأتى الكفار بالسيوف فرأوا عش الحمامة وبيت العنكبوت فقالوا: ما دخل محمد هنا.
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحم
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الأطم
مولاي صلِّ وسلم ما أردت على نزيل عرشك خير الرسل كلهم
الله أكبر يا للعظمة ويا للقوة ويا للنفاذ فخرج المشركون وصعدوا على رأس الغار، فقال أبو بكر وهو يرتعد: {يا رسول الله: والله لو نظر أحدهم إلى موطن قدميه لرآنا} فيتبسم عليه الصلاة والسلام، تبسم العظيم، الزعيم الشجاع.
والفيافي حالمات بالمنى تتلقاك بتصفيق مثير
يقول: {يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا}.
رمى بك الله جنبيها فحطمها ولو رمى بك غير الله لم يصب(98/3)
لا إله إلا الله في طريق الهجرة
خرج من الغار ولحقه سراقة على فرسه، لأن قريش قالت: من يأتي بمحمد عليه الصلاة والسلام حياً أوميتاً فله مائة ناقة، هذه مخاطرة وموت، لكن الشجاع يريد أن يبلغ دينه إلى القارات الست.
اليوم في موسكو عاصمة روسيا، يرتفع الله أكبر، حج منها هذه السنة أكثر من ألفي حاج، لأن محمداً عليه الصلاة والسلام صمد لتدخل لا إله إلا الله موسكو وبكين ولندن وواشنطن، لا بد أن تدخل لا إله إلا الله الدنيا.
لحقه سراقة لينال مائة ناقة، ولكن ظن سراقة أن الأمر سهل، وقد كان أبو بكر مرة يمشي عن يمين الرسول عليه الصلاة والسلام ومرة عن يساره ومرة من أمامه ومرة من خلفه، سلمك الله يا أبا بكر! رفع الله منزلتك يا أبا بكر! فيتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: مالك يا أبا بكر! قال: يا رسول الله! أخاف أن يرصدوا لك فأتقدم أمامك لأموت قبلك، وأخشى أن يلاحقوك فأتخلف، وأخشى أن يأتوا من على الميمنة فأرصد الميمنة، وأخشى أن يأتوا من على الميسرة فأحميك من على الميسرة، قال: {غفر الله لك يا أبا بكر} ما أحسنها من كلمة، ووقف صلى الله عليه وسلم ما عنده إلا إداوة فيها قليل من الماء، وهو يقرأ: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] ولحق بهم سراقة، قال أبو بكر: يا رسول الله! انظر إلى سراقة، فنظر إليه، وهو مقبل معه سيف فيه الموت، فدعى عليه فساخت أقدام فرسه ووقع على وجهه في الأرض، فقال لفرسه صه: -يعني: قم- فقام وأخذ السيف فهو من شجعان العرب.
والرسول عليه الصلاة والسلام ليس معه سيف، ولكن معه ما هو أقوى من السيف، معه لا إله إلا الله، معه قوة أقوى من كل قوة على وجه الأرض، ووقف سراقة ثانية وعدا ليقتله فقال عليه الصلاة والسلام: {اللهم اكفنيه بما شئت} فساخ فرسه ووقع على وجهه، ونهض فقال: يا محمد! أسألك الأمان، اكتب لي أماناً؛ خاف من الموت.
فر من الموت وفي الموت وقع
فتبسم عليه الصلاة والسلام، يتبسم من هذا المسكين، أتى ليذبحه، فأتى يطلب الأمان اليوم من الذبح، وأتى يأخذ صكاً أن لا يقتل، قال عليه الصلاة والسلام: {ويلك يا سراقة! كيف بك إذا سورك الله بسواري كسرى وقصير} ملك فارس وملك الروم.
طريد من مكة ترك بناته وداره وعقاره وأهله وجيرانه وهم يلاحقونه في الصحراء، ومع ذلك يقول يا سراقة! سوف ننتصر على الباطل وعلى دولة كسرى وقيصر، وسوف يأخذون أساورتهم ويجلعونها في يديك، وضحك سراقة من هذا الكلام؟ أهذا كلام؟ هذا يفر في الصحراء ويمنينا بسواري كسرى وقيصر، ولكن بعد عشرين سنة، خرج أبطاله عليه الصلاة والسلام من المدينة، خرجوا يحملون لا إله إلا الله، خرجوا يوزعون لا إله إلا الله على البشرية، مع سعد بن أبي وقاص.
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
ووصلوا إلى هناك وفتحوا القادسية، وأتوا بكسرى وقيصر مربطين في الحبال، لأنهم كفروا بلا إله إلا الله، ولأنهم جحدوا لا إله إلا الله، ولأنهم ما استمعوا فعصوا لا إله إلا الله، وأخذوا السوارين وجعلوها في يدي سراقة، الذي أتى بالفرس وبكى، قالوا: مالك تبكي؟ قال: حبيبي وعدني بذلك وصدق حبيبي: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] واسغفر لذنبك يوم تذنب، وإذا علمت أنه لا إله إلا الله، فما الذي يضرك.(98/4)
الدليل على لا إله إلا الله
الدليل على لا إله إلا الله أن السماء تشهد أن لا إله إلا الله، وانظر إلى القمر انشق من أجل لا إله إلا الله.
خرج عليه الصلاة والسلام إلى كفار قريش وهم في الحرم ليلة أربعة عشر والقمر في السماء أكمل ما يكون، قال: قولوا لا إله إلا الله، قالوا من يشهد لك على أنه لا إله إلا الله؟ قال: إذا أتيت بآية أتؤمنون بي؟ قالوا: نعم، قال: أترون القمر؟ قالوا: نراه، قال: اللهم شق لي القمر اللهم شق لي القمر، فانشق القمر فلقتين، فلقة ذهبت إلى جبل أبي قبيس في مكة، والفلقة الأخرى ذهبت إلى عرفات، فقاموا ينفضون ثيابهم ويقولون: سحرنا محمد سحرنا محمد، فقال الله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} [القمر:1 - 5].
حكمة بالغة لكن من يعرف الحكمة؟! حكمة بالغة لكن أين تدخل الحكمة البالغة؟ أتدخل لعبد الأغنية والكأس، لأهل السهرات الحمراء الذين ملئوا بطونهم من الربا وكفروا بمنهج الله.
{حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر:5 - 7] من يشهد على لا إله إلا الله؟ أنتم وآباؤكم وأجدادكم وأبناؤكم وأهلوكم تشهدون أن لا إله إلا الله، الأرض والزهر في البساتين تشهد أن لا إله إلا الله.
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
من يشهد أن لا إله إلا الله؟ الماء والحيوان وكل من في الأرض إلا الكافر يوم يعرض ومن أعرض عن منهج الله، بل وأنت مولود على لا إله إلا الله، من يوم ما وقع رأسك على التراب وأنت قطعة لحم، وواعظ الله يقول لك في قلبك: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] قبل أن تأكل وتشرب وترضع ثدي أمك وتبكي وتصيح فاعلم أنه لا إله إلا الله.
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً(98/5)
العمل للا إله إلا الله
يولد الإنسان وهو يبكي والناس يضحكون، ويموت المؤمن وهو يضحك والناس يبكون، يوم أتيت أنت أتيت تبكي، هل سمعتم أن أحداً أتى يضحك للدنيا، لا، أتى يبكي إلا عيسى بن مريم عليه السلام فإنه ما بكى، أما الناس جميعاً فبكوا أول ما نزلوا إلى الأرض، يبكون من هم الدنيا ومن غم الدنيا ومن حزن الدنيا، قال الشاعر:
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا
إذا أتتك سكرات الموت: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] فإذا حضرتك سكرات الموت، فاحرص أن تكون ضاحكاً بالعمل الصالح وبالصلوات الخمس وببر الوالدين وبصلة الرحم وبالصدقة.
إذا بكى الناس وأنت في سكرات الموت، فاحرص أن تكون أنت متصلاً بالله ضاحكاً.
نُح على نفسك يا مسكيـ ـن إن كنت تنوح
غفر الله لنا إن الخطايا لا تفوح كل بطاح من الناس له يوم بطوح
كل جبار له يوم يبطحه الله فيه أمام الخلائق: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52].(98/6)
لا إله إلا الله هي فطرة الله
لا إله إلا الله هي فطرة الله في الأرض: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] أكثر الناس لا يعلمون بلا إله إلا الله، ولا يعرفون مقتضى لا إله إلا الله ويخونون لا إله إلا الله، وأكثر الناس يقولون: لا إله إلا الله، لكن لا إله إلا الله في واد وهم في واد آخر.
ويقول سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172].
أنا وأنت وأبي وأبوك وأمي وأمك وجدي وجدك كنا في أصلاب آدم، فمسح الله ظهر آدم فاخرج ذريته كالذر، فنثرهم سبحانه أمامه، ثم قال الله لهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى أنت ربنا لا نريد إلا أنت، وهذه فطرة الله.
ويقول سبحانه: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:1 - 2] هل أتى على الإنسان حين من الدهر؟ أما مر بي وبك في بطون أمهاتنا وقت، ما كنا نرى ولا نبصر ولا نأكل ولا نشرب، فأخرجنا الله، وأنبتنا: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الروم:40] {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3] لا خالق ولا رب ولا معبود إلا الله.
أتي حصين بن عبيد الخزاعي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال له عليه الصلاة والسلام: {كم تعبد يا حصين؟ كم لك من آلهة؟ قال: لي سبعة -أعبد سبعة- قال: أين هم؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: من لرغبك ولرهبك -يعني من لشدتك ومن لك إذا ضاقت بك الضوائق، من لك إذا نزلت بك المصائب والكوارث- قال: الذي في السماء، قال: فاترك التي في الأرض واعبد الذي في السماء قال: ماذا أقول؟ قال: قل لا إله إلا الله، محمد رسول الله} فقالها.(98/7)
يونس مع لا إله إلا الله
خرج يونس بن متى عليه الصلاة والسلام مغاضباً من قومه، فذهب في سفينة، ما استأذن الله، ولا بد له أن يستأذن الله لكن هكذا كتب الله، فخرج في السفينة في البحر في ظلمات ثلاث: ظلمة الليل، فالليل إذا أظلم لا ينوره إلا لا إله إلا الله، يقول عليه الصلاة والسلام فيما يروى عنه لـ أبي ذر: {صل ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور، وتصدق بصدقة على المسكين لهول يوم النشور} ظلمة الليل لا ينورها إلا صلاة الليل وهي نور في القبر.
خرج يونس عليه الصلاة والسلام في السفينة في ظلمة الليل، فلما أصبح في السفينة أرسل الله عليها ريحاً كادت أن تقلبها مرتين أو ثلاثاً، قال ربانها أوقائدها: معنا رجل عصى الله نريد أن نخرجه من السفينة، قال الله: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141].
انظر ما أحسن الأسلوب، وما أحسن العبارة، وما أجمل روعة وإبداع وأسلوب القرآن، (فساهم) أي: اقترع معهم بقرعة، فكان من المدحضين، أي أنه فشل بالقرعة، أتت عليه القرعة أول مرة فقال: (أنا بريئ) قالوا: نعيدها، فأتت عليه ثانية، قال: أعيدوها، فأعادوها ثالثة، فأتت عليه فأخذوه بيديه وسط البحر، لا أهل ولا ولد ولا زوجة ولا مال ولا قبيلة ولا عشيرة، لكن.
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
فأخرجوه فألقوا به في ظلمات ثلاث، فليت اليم والليل كفياه، لكن تلقته سمكة عظيمة فأدخلته بين أضلاعها تماماً ثم أطبقت عليه، فأصبح بين أضلاع الحوت وبين حشاه، في ظلمة الليل وظلمة البحر فمن يتذكر؟ ولمن يعود؟ وعلى من يشتكي؟ وإلى من يلتجئ؟ إلى الله.
يقول لقمان لابنه وهو يوصيه بالعقيدة والتوحيد والإخلاص: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان:16] لو كانت الضائعة أو الضالة حبة خردل -سمسمة- وكانت في صخرة مقفلة أتى بها الله، فالله يقول عن قدرته: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام:59].
يقول: أما مفاتيحكم وكنوزكم وبركم وشعيركم وذهبكم وفضتكم فعندكم مفاتيحها، الذهب والفضة والبر والشعير عندنا مفاتيحها نحن، لكن: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].
وقع عليه السلام هناك، ولما وقع قال وهو في ظلمات بطن الحوت: ((لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فجمع بين التوحيد والاستغفار، ماأحسنها من كلمة، يقول عليه الصلاة والسلام: {من أصابه هم أو غم فقال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً}.
قال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] إلى أين ترتفع هذه الكلمة؟ إلى أين تذهب؟ أتذهب إلى الأهل والأطفال؟ أتذهب إلى القبيلة والعشيرة؟ يقول الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] وكذلك نعود إلى أسلوب القرآن وروعته حيث قال: إليه يصعد، ولم يقل: يرتفع لأن يصعد أعظم، قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10] ارتفعت إلى الله، ومرت (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) بالملائكة فبكت الملائكة، فقد سمعت صوت يونس بن متى، كان دائماً يذكر الله ويسبح الله ويكبر الله ويهلل الله.
حتى يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144] لكن كان يسبح لنا ويصلي ويزكي ويعرف الله في الرخاء، فعرفه الله في الشدة، فبكت الملائكة وقالت: يا رب! صوت معروف من عبد معروف أين هو؟ نريد أن ننقذه، الملائكة يريدون أن ينقذوا يونس، لكن لا يدرون أين هو؟ قال الله: أعرف أين عبدي فسوف أنقذه، فأخرجه الله وأنبت عليه شجرة من يقطين لأنه خرج عارياً مثلما ولدته أمه، فأنبت الله عليه شجرة الدبا فأكل منها وظللته، وإنما اختار شجرة من يقطين لأن الذباب والبعوض لا يأيتها: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:147 - 148].(98/8)
سليمان مع لا إله إلا الله
خرج سليمان عليه الصلاة والسلام على الريح، وكان قد سخر الله له الريح: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12] إذا أراد أن يسافر ركب الريح يأمرها بأمر الله، يقول: أريد الهند فتأتي فتكون كالبساط تحته فترتفع به مع الأمراء والوزراء والحاشية وتذهب به وهو في السماء، وإذا أراد أن يهبط قال: اهبطي هنا، ويقول: بعض المفسرين: إن الله قال: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] لئلا يتوهم متوهم أنها سوف تنزل نزولاً صعودياً مظلياً فتصتدم به في الأرض قال: لا: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] يعني: تتدرج به إذا أراد أن ينزل، فلا تنزل دفعة واحدة، إنما تنزل رويداً وريداً، حتى يهبط.
سليمان أتاه الله ملكاً عظيماً يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35] وقدم المغفرة لأن الملك بلا مغفرة لا يساوي شيئاً، والمنصب بلا مغفرة لعنة، والدنيا بلا مغفرة غضب، قال: رب اغفر لي.
ركب مرة إلى الهند فلما أصبح على بساط الريح إذا بالفلاح يحرث الأرض، فحجب سليمان -عليه السلام- الشمس ببساطه فالتفت الفلاح ظن أنها غيمة وسحابة، فإذا سليمان ومعه الحاشية والأسرة الحاكمة والجنود، قال الفلاح: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظمياً، فارتفعت سبحان الله! إلى الحي القيوم، ومرت على أذن سليمان فسمعها، فقال للريح اهبطي هنا عند الفلاح فهبطت، قال للفلاح ماذا قلت؟ قال: رأيتك ورأيت ملكك فقلت سبحان الله لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، قال: سليمان والذي نفسي بيده قولك: سبحان الله، أعظم مما أوتي آل داود.
خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن
لا إله إلا الله.
ونادِ إذا سجدت له اعترافاً بما ناده ذو نون بن متى
وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا(98/9)
مهما عمرت في الدنيا فإنك راحل
يقول سبحانه للإنسان: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] ومعنى ذلك: يا أيها الإنسان! منذ أن وضعتك أمك وأنت في شدة وكرب وامتحان ومسئولية، وأنت سائر إما إلى طريق الخير، أو إلى طريق الشر، ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] ماذا خدعك؟ من غرك بالله؟ من الذي صرفك عن المسجد إلى المقهى وإلى الجلسة اللاهية؟ من الذي صرفك عن القرآن إلى الأغنية؟ وعن الجلوس مع الصالحين إلى الجلوس مع الأشرار من هذا؟ {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6].
إخوة الإسلام! إخوة الإيمان! يا حملة لا إله إلا الله! يا من جرت دماؤهم بلا إله إلا الله! إن من معاني لا إله الله إلا الله، أن تعيش حياتك بلا إله إلا الله، فالحياة ليست بشيء إنما هي غرور ولحظات لهو.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثان
يقول الله للناس يوم القيامة: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112] كم مكثتم في الأرض؟ كم لكم في الحياة؟ فيا من عاش مائة سنة! ويا من سكن القصور وعمر الدور، ووسع البساتين وأجرى الأنهار، ولبس الجديد وتمتع بالأولاد، وضحك وشبع، كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟
اسمع الرد: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113] حياتنا يوم أو نصف يوم، ما زدنا على يوم أو نصف يوم، عشنا من الصباح إلى المساء، وربما ما أكملنا يوماً من الصباح إلى الظهر فاسأل العادين، اسأل الملائكة، فنحن قد ذهلنا ودهشنا فما ندري، إما يوم أو بعض يوم، لا نريد أن نكذب إنما هو يوم أو أقل، فاسأل العادين، فالله لا يسأل العادين، لأنه هو الذي يعد على العادين، يقول: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] ما معنا هذا؟ قال المفسرون: إذا أمضى على الشيء لا يمضي بعده أحد -الإمضاء التوقيع- وإذا أنهى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أي شيء من معاملة العبد، كان توقيعه الأخير.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] لا معقب لحكمه، فلا يأتي أحد يعقب على حكمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فتوقيعه الأخير: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:114] فيقول لهم: لقد كانت حياتكم قليلة وسهلة ويسيرة ولكنكم ماجلعتموها في طاعة الله.
دنياك تزهو لا تدري بما فيها إياك إياك لا تأمن عواديها
تحلو الحياة لأجيال فتنعشهم ويدرك الموت أجيالاً فيفنيها
يا مسلون! يقول الله: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:114] ما أقل العمر.
الإمام أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة والجماعة، نظر وهو شاب إلى المرآة فإذا شيبه ملء لحيته، فبكى، وقال: والله كأن الشباب شيء سقط من يدي.
كأنه شيء رفعته فسقط من يدك.
فيا شباب الإسلام! انظروا إلى آبائكم الذين شابت لحاهم، من الذي شيبهم؟ هو الذي أفنى القرون السالفة، وهو الذي أخذ الأجداد والآباء وسوف يأخذ الأولاد والأحفاد.
بكيت على الشباب بدمع عيني فلم يغنِ البكاء ولا النحيب
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب(98/10)
إذا كبر سنك فانتظر الموت
كان قيس بن عاصم المنقري أحد الصالحين، وكان له عشرة أولاد صالحون، نام معهم في البيت وعمره ما يقارب السبعين لكن لا ينام، فصاحب السبعين اليوم مريض، وبصره كالّ، وسمعه فاتر وشهيته في الطعام قليلة، وظهره محدودب، فقد يبست أعضاؤه، لأنه في السبعين أو في الثمانين، فكان إذا نام مع أولاده العشرة لا ينام الليل، يسعل ويزفر ويشكو الثمانين، يقول له أحد أبنائه، مالك يا أبي لا تنام؟ قال: ما تركتني الثمانين أن أنام، أسهرتني في الليل، ثم نظمها في قصيدة وقال فيها:
قالوا أنينك طول الليل يسهرنا فما الذي تشتكي قلت الثمانينا
إذا الرجال ولدت أولادها وأخذت أسقامها تعتادها
وكثرت من مرض عوادها فهي زروع قد دنا حصادها
إذا أنجب ابنك وأصبح له أبناء فانتظر سكرات الموت، إذا رأيت أبناء ابنك يدرجون معك في البيت، فانتظر داعي الله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} [طه:102].
إذا رأيت أبناء ابنك ولدوا فهو نذير لك أن تبتهل، اترك المجال لغيرك، أكلت وشربت ونمت، ولهوت وضحكت فاخرج.
إذا الرجال ولدت أولادها وأخذت أسقامها تعتادها
سعال وسهر وألم وفقد بصر وفقد سمع واحدوداب ظهر ويبوسة.
كثرت من مرض عوادها، يعودنك في بيتك وفي المستشفى، وعلى السرير وفي الطريق دائماً يقولون: كيف أصبحت وكيف حالك؟ فهي زروع قد دنا حصادها: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] هذا أسلوب القرآن، ثلاث جمل ثم ردوا إلى الله، ولم يقل: أعيدوا لكن قال: ردوا؛ لأنهم خرجوا بإرادة الله وردوا إلى الله: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام:62] وكل شيء سواه باطل: {أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] أي: أول ما يموت العبد ويصل إلى القبر يجد الحساب هناك، ولا يقول له المحاسبان: أنت مريض ارتح قليلاً، أو أنت كنت في المستشفى ومرضت سنوات نريحك سنة في القبر، لا، أول ما يتركه أهله وأول ما يدفنونه ويغطونه بالتراب وإذا بالحساب ماذا فعلت؟ أين أفنيت أيامك؟ أين كنت تصلي؟ ما هو مطعمك؟ ما هو مشربك؟: {أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].
لا إله إلا الله ما أعظم الشيب.
كان ابن عباس إذا قرأ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] بكى حتى يرثي له أصحابه، قالوا: [[مالك يا ابن عباس؟ قال: أتدرون ما النذير، قالوا: لا، قال: الشيب]].
شاب إبراهيم عليه السلام إمام التوحيد، وأستاذ العقيدة، إبراهيم الخليل صاحب المواقف العظيمة، الذي أركبوه في المنجنيق، ليلقونه في النار فلما أصبح في السماء بضربة من المنجنق ليقع في النار -فقد بنى له النمرود ناراً عظيمة- أتاه جبريل قال: يا إبراهيم! ألك إلي حاجة؟ قال: أما إليك فلا وأما إلى الله فنعم، فلما اقترب من النار -وكان لهيبها يأكل الطيور في السماء، فقد جمعوا الحطب في شهرين أو ثلاثة أشهر- ووجد حرها وسمومها قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأطفأها الله وصارت برداً وسلاماً فوقع هادئاً.
إبراهيم رأى شيباً في لحيته، قال: يا رب! ما هذا البياض في لحيتي قال: شيب يا إبراهيم! قال: ما الشيب يا رب؟ قال: وقار، قال: اللهم زدني وقاراً، زادكم الله وقاراً وزادنا وإياكم ثباتاً وجعل شيبنا وشبابنا في مرضاة الواحد الأحد.
شباب ذللوا سبل المعالي وما عرفوا سوى الإسلام دينا
وما عرفوا الأغاني مائعات ولكن العلا صيغت لحونا
كذلك أخرج الإسلام قومي شباباً مخلصاً حراً أمينا(98/11)
التوبة
أتى رجل من بني إسرائيل فوقف أمام المرآة وعمره ثمانون سنة، أطاع الله في أربعين سنة، وعصى الله أربعين سنة قال: [[يا رب أطعتك أربعين، ثم عصيتك أربعين، أتقبلني إذا عدت إليك؟ فسمع هاتفاً يهتف يقول أطعتنا فقربناك، وعصيتنا فأمهلناك وإذا عدت إلينا قبلناك]].
من الذي أتى باب الله فرده؟ من الذي قرع بابه فيخيبه؟ من الذي اقترب منه فرده وأخزاه؟ من الذي مد كفيه فعادت خائبتين؟ من الذي بكى فما أنجز الله له طلبه؟ من الذي اعتصم بحبل الله فانقطع به الحبل؟ لا أحد، يقول الله: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء:76] ما هو الكرب؟ كاد أن يغرق فقال: لا إله إلا الله، فنجاه الله.
وقال سبحانه: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِين} [الأنبياء:87 - 88] الآيات.
أيها المسلمون! إن من أسرار قدرة الله عز وجل أن تكون مقاليد الأمور بيده، وهي العقيدة التي يريد الله أن يقررها للعبد: أن يعلم أنه لا يضر ولا ينفع إلا الله، ولا يشافي ولا يعافي إلا الواحد الأحد، ثم أعود فأقول: يقول سبحانه: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:68] يقول: يا أيها البشر! يا أيها العالم! أما تنظرون إلى الكبير كيف يكبر، فيعود عقله كعقل الطفل: {نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:68] ما لهم لا يعقلون؟ هذه هي الحياة، وهذا مصيرها.
تزود للذي لا بد منه فإن الموت ميقات العباد
أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زاد وأنت بغير زاد
قالوا لأحد السلف الصالح: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت وأعدائي أربعة، دنيا تنهشني وأنهشها، وشيطان يضلني قبل أن أتحرج منه، وغريم لا يفارقني -وهو الموت- وأسرة تطلب مني النفقة كل صباح، هذه غرماء المؤمن.
وقالوا لرجل من التابعين وهو في الثمانين: كيف أصبحت؟ قال: أما عين من عيوني فقد ذهب بصرها، والعين الأخرى ترثي أختها لتلحق بها، وسقطت أضراسي، وامتدت يدي إلى قبري وحملت كفني فكيف؟ يعني: كيف أصبح.
يا أيها المسلمون! يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:1 - 8].
عند البخاري في الصحيح، أنه عليه الصلاة والسلام: {مر بـ ابن عمر -الشاب الزاهد العابد، وهو في العشرين- فوضع يده على كتفه وقال: كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل} وفي حديث مرفوع: {وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح}.(98/12)
من أسرار لا إله إلا الله
إن من أسرار لا إله إلا الله أن نصرف أعمارنا في مرضاة الله.
سعيد بن المسيب وهو سيد التابعين، الذي بكى من خشية الله حتى ذهبت عينه اليمنى، وقالوا له: اخرج إلى وادي العقيق في المدينة لترى الخضرة والماء، علَّ بصرك أن يعود، قال: لا أخرج من المسجد، كيف تفوتني صلاة في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام وهي بألف صلاة فيما سواه، ولما حضرته سكرات الموت، بكت ابنته، فقال: [[لا تبكي علي والله ما أذن المؤذن من أربعين سنة، إلا وأنا في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام]] هذا هو العمل الصالح، هذا هو الحسن والمؤهلات، يوم لا يجدي المال ولا المنصب ولا الوظيفة.
والأعمش حضرته الوفاة فبكى أبناؤه وقال: [[لا تبكوا عليّ فوالله ما فاتتني تكبيرة الإحرام في الجماعة خمسين سنة]] طوبى لهم
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
اللهم فاجمعنا بهم في دار الكرامة: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55].
أيها المسلمون! ومن أسرار لا إله إلا الله، شكر النعم، فلا إله إلا الله ما تستقيم في الأرض إلا أن تشكر الله على السمع والبصر وعلى الفؤاد، وعلى الإيمان والأمن والستر والعافية، وعلى رغد العيش في الأوطان.(98/13)
أركان شكر الله
إن شكر الله أركانه ثلاثة:-
أن تلهج باللسان بشكر المولى، شكراً لله الواحد الأحد المبدع المصور، وكل شيء في الكائنات له وحده.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
كان ابن تيمية مريضاً فدخل عليه بعض أصحابه وقالوا: ماذا أمرضك يا ابن تيمية، قال: كيف أشكو عليكم الله؟
تموت النفوس بأوصابها ولم يدر عوادها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي أذاها إلى غير أحبابها
أما أبو بكر مرض فقالوا من أمرضك؟ قال: أمرضني الطبيب، من هو؟ الواحد الأحد، هو الذي يمرض ويشافي ويعافي، يقول إبراهيم عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] يقول أهل التفسير لله درُّ إبراهيم.
لماذا؟ لأنه قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78] ثم قال: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:79] ولما أتى عند المرض، ما قال: والذي أمرضني مع أن هذا هو الصحيح، لكن تأدب مع الله فقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] أنا الذي مرضت، وهو بقضاء من الله، لكن ما أراد أن يسيء بالأسلوب: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80].
قالوا لـ أبي بكر من أمرضك؟ قال: الطبيب، قال أحد السلف:
كيف أشكو إلى طبيبي بما بي والذي أصابني من طبيبي
شكر النعم ركنه الأول: اللسان، والركن الثاني: القلب، أن تشكر الله بقلبك، وأن تعتبر أن كل شيء في الحياة من نعم الله.
أنعم الله على آل داود، فقال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] قال داود: يا رب! كيف أشكرك؟ قال: اشكرني بما أردت، قال: لا أستطيع، قال: أتعلم أن هذه النعم مني؟ قال: نعم، قال: فقد شكرتني، مادمت تعرف أن المنعم هو الله، فقد شكرته.
والركن الثالث: العمل، فشكر الله الصلاة في المسجد، وشكر الله صدق مع الله، وشكر الله ذكر لله، وتلاوة للقرآن، وتوبة نصوح وعودة إلى الواحد الأحد: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
قال ابن عباس: [[والذي نفسي بيده، إن هذه القرية مكة]].
ونحن نقول: مكة ومن أمثال مكة كل من أعرضت عن منهج الله، فهي مثل تلك القرية، ضرب الله مثلاً للناس قرية، لكن أسلوب القرآن متأدب، لم يسم لنا مكة، أسلوب القرآن لا يجرح المشاعر، ولم يسم البشر في القرآن، لم يقل: أبو جهل ولو أنه قال في بعض المناسبات لسر من الأسرار، لكن ما كان يفضح القرى، قال: {مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [النحل:112] زبيب الشام، وتمر العراق، وبر اليمن، وخضروات الدنيا كلها تأتي إلى مكة، حتى يقول الله وهو يؤنبهم ويعاتبهم: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57] يقول كفار مكة، يا محمد! لو اتبعناك خشينا من الأعداء، فرد عليهم سبحانه وقال: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:57].
أيها المسلمون! يقول سبحانه عن هذه القرية: {آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} [النحل:112] ونعمة الأمن لا يعادلها شيء، والخوف لا قرار معه، والخوف لا حياة فيه: {آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل:112] كيف كفرت؟ ماذا فعلت؟ أعرضت عن منهج الله وكفرت بلا إله إلا الله، وعطلت المساجد، وقضت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لم تستمع للدعاة ولم تتلوا كتاب الله، ولم تتبع رسول الله وعطلت سنن الله: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
أكلوا حتى لحوم الميتة، وكانت الحمير تموت فيقسمون جلد الحمار -كما يقول أهل التفسير- لأنهم صدفوا عن منهج الله.(98/14)
الحفاظ على نعم الله
أيها المسلمون! أما رأيتم أيامنا مع الله وكيف نعيش رغداً ونعيماً وسعادة وراحة وحبوراً؟! أما رأيتم كيف أنعم الله علينا نعماً ظاهرة وباطنة؟ أما نام جيراننا على أصوات الصواريخ وعلى زلزلت المدافع؟! أما سحقت مدنهم؟! أما دمرت قراهم بالزلازل والبراكين ونحن في رغد، فكيف نحافظ على الرغد؟
نحافظ عليه بلا إله إلا الله، بشكر الله: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15] لكن: {فَأَعْرَضُوا} [سبأ:16] قرية من قرى اليمن، هي في سد مأرب والسد لا يزال إلى اليوم وقد بنوه مرة ثانية، وأكثر ما يأتي من الفواكه اليوم من اليمن من سد مأرب، سد عظيم اجتمعت عليه القبائل في مأرب -بما فيهم أنمار ويشجب- سنة كاملة، فلما بنوه ملأه الله بالماء، ولو بنوه ولم يأت ماء من الله ما نفعهم السد، فأخرزوه بالرصاص وأحاطوه بالنحاس وقالوا عليك الحراس، لكن إذا ما حرس الله فلن يحرس أحد.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمان
خرزوه بالرصاص، وأحاطوه بالنحاس وبنوا عليه الحراس، فملأه الله بالماء، وأرسل الله إليهم رسولاً فقال: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15] ثم قال سبحانه -اسمع إلى أسلوب القرآن-: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ} [سبأ:15] والقرآن هو الذي كان يتحدث عن موسى، انتقلت الكيمرة -كما يقول سيد قطب - مباشرة إلى سبأ، انتقلت إلى اليمن مباشرة، انتقلت الكيمرة لتنقل لنا صورة السد، والقبيلة وهي تعيش هناك وتبني وتزرع وتأكل وتحرث، لتنقل لنا صورة القبيلة: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} [سبأ:15].
كل رجل من القبيلة كان له بستانان: بستان عن يمين البيت وبستان عن يسار البيت، يخرج في الصباح فإذا الطيور تزغرد على الشجر وإذا الماء يتمتم بين الزهور، وإذا أشرقت الشمس ترسل ضوأها على الورود، وقد كان عذق النخلة لا يحمله الفرس، يقول ابن كثير: لقد كانت المرأة تأخذ المكتل على رأسها فلا تخرج من بين الشجر حتى يمتلئ من نعمة الله، فقال الله: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} [سبأ:15] صالحة للزراعة فهناك ماء وشجر وهواء وغمام وظل ونبت وحياة: {وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15] لم يقل رب شديد العقاب، لأنه يختار اللفظ، يدعو الناس إلى الخير.(98/15)
الإعراض عن الله سبب العذاب
قال: سبحانه في كلمة: {فَأَعْرَضُوا} [سبأ:15] تمردوا على شرع الله، والله ما ملأ البيوت هماً وغماً ولا أهلك الشعوب ولا دمر القرى ولا أخزى الفجرة إلا المعاصي، يوم يترك الإنسان منهج الله: {فَأَعْرَضُوا} [سبأ:15] قال سبحانه: {فَأَرْسَلْنَا} [سبأ:16] ولم يقل فأرسل، قال: فأرسلنا نحن، نحن الذين ملأنا لهم السد من قبل، ونحن الذين نرسل الماء اليوم.
يقول بعض المفسرين: يا عجباً! يا سبحان الله! إن سر حياتهم الماء وسر هدمهم ودمارهم الماء، فقد أتى زلزالهم بالماء، وحياتهم بالأمس بالماء، فالماء بالأمس كان حياة وثمرة، وكان ماء طيباً صافياً، والماء اليوم يوم عصوا وخالفوا منهج الله، أصبح زلزالاً وبركاناً.
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ:16] لماذا سمي سيل العرم؟ قالوا: أقبل وله عرمرم كالجيش العرمرم، وأقبل وله حتحتة ينزف بعد صلاة الفجر، فلم يبرق بارق، فما أخبرهم الله بالبرق ولا بالوسم، ولا سمعوا رعداً ولا نزل عليهم قطر، لما انتهوا من الصباح وأطل عليهم الصباح وأمهلهم الله ثلاثة أيام يراجعون حسابهم مع الله، لكن ما راجعوا حسابهم، قال الله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
فأتى في الصباح ينزف، يحمل الجبال والأودية والشجر، فدمرهم تدميراً: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16] لماذا؟ {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} [سبأ:17] لأنهم أعرضوا وما صلوا وما صاموا وما زكوا وما قاموا على منهج الله وما خافوا الله.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:17] كَفور النعم، كَفور الآيادي، جاحد المعروف، ويستمر السياق، واسمحوا لي أن أستمر دقيقتين أو ثلاثاً مع سبأ ثم نعود من اليمن معاً.
قال: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [سبأ:19] لماذا؟ لأن، الفقير العاجز الذي يطلب الكسب، إذا أتاهم وقت نزول الثمرة يأخذ القليل من رزق الله عز وجل، فتضايقوا منه، فكلما أتاهم الفقراء من أنحاء الجزيرة، قالوا يا ربنا! باعد بن أسفارنا حتى لا يأتينا أحد من العرب، اللهم اجعل قرانا بعيدة وباعد بيننا وبين هؤلاء الفقراء فلا نراهم ولا يروننا، قال سبحانه: لمن الرزق؟
الله أعطاك فابذل من عطيته فالمال عارية والعمر رحال
المال كالماء إن تحبس سواقيه يأسن وإن يجر يعذب منه سلسال
الرزق والعطاء والفضل والنعيم لله، قال سبحانه: بلسان الحال، تمنعوا الفقراء وأنا الذي أعطيكم حتى أصبحتم أغنياء.
قال: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} [سبأ:19] يقول: ما أبقينا إلا أحاديث، الليلة نسمر عليهم فأين هم؟
أين من شادوا وسادوا وبنوا ذهب الكل فلم تغن القلل
كتب الموت على الخلق فكم فل من جيش وأفنى من دول
سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88].
{فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ:19] ربع ذهبوا إلى الجنوب وهم أجدادنا فنحن من الأزد، أبناء عمومتنا الأوس والخزرج الذين منهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، ولذلك ليس بغريب عليكم أن تأتوا اليوم لتسمعوا فاعلم أنه لا إله إلا الله، ومن يشابه أبه فما ظلم.
تلك العصا من هذه العصية لا تلد الحية إلا حية
والربع الثاني: ذهب إلى عمان، والثالث: الغساسنة، والرابع: المناذرة، ولكن لا نكون كأجدادنا نكفر بنعم الله: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:19].(98/16)
الأسئلة(98/17)
قصيدة
السؤال
يطلب سماع القصيدة الأخيرة وهي بعنوان سأعود للدنيا.
الجواب
هذه القصيدة عنوانها سأعود للدنيا:
القلب يملي والمدامع تكتب ومشاعري مجروحة تتصبب
النجم يشهد أنني سامرته سحراً وطارحني بهم كوكب
ما عشت في دنيا السعادة ماجناً كلا ولست بعود سلوى أطرب
أبداً وما بعت الغرام شبيبتي طوعاً ومثلي في الشبيبة أشيب
حرمت ليل الوالهين وصغت من دمعي نشيداً للخلود يرتب
يا من رماني بالسهام تكسرت في أضلعي فسهامكم تتخضب
يكفيك ظلمي يا ظلوم فعش به دهراً فإني في انتظارك أنحب
نم ما استطعت فلن أنام ومهجتي مجروحة وربوع حظي مجدب
دعني فلي في الليل أسهم دعوة سحراً تضج إلى السماء وتندب
مهزوزة العبرات ساخنة الجوى بحرارة الإخلاص لا تتهيب
خذ من دموعي شربة أبدية فمدامعي مسفوحة لا تنضب
قل ما أردت فقد سددت مسامعي أنا لن أقول بأن صوتك مذنب
تتعثر الكلمات عند شكايتي وتظل آهاتي تضج وتصخب
ما ساومت نفسي ببيع رسالتي كلا وأسلافي بلال ومصعب
بل كنت بلبل أحمد في روضه في نهجه أرضى وفيه أغضب
بيني وبين هداه حبل مودة يأبى الفصام فشرقوا أو غربوا
عيبي محاربة الشيوعي الذي داس العفاف وفي يديه العقرب
عيبي مراغمة الحقير لأنه يأبى العلو وفي الضلال مدرب
متعجب مني بأن خالفته وأنا على أخلاقه متعجب
أخشى أراه لأن جلدي ناعم يسبى إذا والاه جلد أجرب
يا كل شهم عاش كل قضيتي حراً يفيض به الفؤاد الطيب
يا من سهرت معي وعشت قضيتي قاسمتني البلوى ودمعك صيب
أحرقت قلبك والقلوب كثيرة نامت على بسط الهوان تقلب
أرسلت لي منك الدعاء مضرجاً بالدمع يهمل بالحنين ويسكب
قوسي وسهمي والكنانة كلها لا شيء بل ربي المهيمن يغلب
أنا لن أغيب إذا تغيب ماجن نذل على عزف الربابة يطرب
سأعود للدنيا بهمة سيد يأبى الخنوع وعود مجد أصلب
والصوت أعلى والمشاعر جمة والفكر أرقى والمعلم منجب(98/18)
رسالة تحرق القلب
أما الأسئلة فأشكر أولاً صاحب رسالة أرسلها، كأنها كتبت بدموعه وهي تحرق القلوب، ولكني لن أقرأها لأن فيها تزكية وأنا عبد ضعيف، لكن أسأل الله أن يجعلها نوراً في قبره، يوم ينور قبور الصالحين، هذا الرجل افتتحها بأبيات ولن أقرأها يقرأها عمله وسجله الخالد ودعائي له بظهر الغيب ثانياً: هذا الرجل من القرن، وهو يعتب ويطلب زيارة هناك، فأعده إن شاء الله، والقلب في كل مكان.
وأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
فنحن هناك أو هنا، أو في أي مكان، فكلما وجد من يسجد لله، ويذكر الله فنحن أحبابه، وإخوانه.
يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هم
والشيخ علي بن عبد الخالق أثابه الله يقول: وجهت دعوات من بيشا بـ الجرشي والنماط والسرح، خثعم، آل سلمة، أقول غشيتهم الرحمة والسكينة، وسوف تصلهم لا إله إلا الله وقد وصلتهم، ولي الشرف أن أمشي على أهداب العين وأن أتوكأ على مقل الجفون لأصل إلى الأحباب، فأقبل جباههم وأعانقهم يوم وقفوا مع لا إله إلا الله وضحوا بدموعهم ومشاعرهم وسهرهم، تقبل الله صيامهم وقيامهم وصلاتهم مع المقبولين.(98/19)
العصبية القبلية
السؤال
أرجو من فضيلتكم أن تشير إلى ما يحدث من بعض الناس من التحزب والتعصب القبلي، الذي عم وطغى وفشا إلا فيمن عصمه الله؟
الجواب
أقول وأنتم تعرفون ذلك: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103] فليس عندنا تحزب ولا قبلية ولا عنصرية، فكلها ندوسها بالأقدام تحت التراب، وليس عندنا أسر مرموقة، ولا عندنا سيادات ولا كهنوت ولكن عندنا تقي شريف، نقدمه علينا لأنه تقي: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
إن يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
كلنا من آدم ومن حواء.
أو يختلف نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
وقف عليه الصلاة والسلام في عرفات يعلن حقوق الإنسان ويدوس التميز والعنصرية بقدمه، يقول: {كلكم لآدم، وآدم من تراب} معنى ذلك: يا أبا بكر الصديق! ويا شريف قريش أنت وبلال الحبشي سيان، ومعنى ذلك: يا عمر! أنت وصهيب سيان، ويقول صلى الله عليه وسلم: {سلمان منا آل البيت} فلا قبلية ولا تحزب، ولا يقال: أنا من بني فلان، إذا أصبحوا على بني فلان، هذه كلمة طاغوت، وهذه كلمة آثمة خاسئة حقيرة، نحن أصحاب الإسلام وأهل لا إله إلا الله، أصبحنا على إسرائيل والشيوعية والعلمانية يداً واحدة، ونحن قوة واحدة، ولا قبلية، ولا فخوذ ولا عشائر، فعشائرنا وقبائلنا وأعلامنا كلها تندرج تحت علم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه هي وصيتي ولا أريد أن أطيل لكثرة الأسئلة.(98/20)
التنقص من طلبة العلم والملتزمين
السؤال
بعض الناس يتنقص طلبة العلم والملتزمين ونراه يتساهل في بعض أموره، ويصف الملتزمين بأنهم متزمتون ومتطرفون ويصفهم كذلك بالتشدد في غير موضع التشدد؟
الجواب
السؤال طويل لكنني تركت بعض الجمل، أقول: ليت الذين يهاجمون الملتزمين من أهل الفضل والنبل كنا عذرناهم، يقول: أحد شعراء العرب القدماء، عندما قالوا له: فلان يسبك، قال:
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان عليّ ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
قال: ليته كفء ولكنه قزم، يسبني وهو قزم، ليته كفء يوم أطلق هذه الكلمات، ولكن إذا صلح هؤلاء ندعوهم إلى التوبة النصوح: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] إن هؤلاء الملتزمون، هم سر نهضة الصحوة الإسلامية في أنحاء الأرض، والله إنهم يعيشون في ولاية أمريكا كأبناء الصحابة، يقومون الليل ويقرءون القرآن وهناك البغي والإلحاد والكفر والشهوات والمعاصي، ولكن شباب الصحوة هناك في ولاية أمريكا يعيشون مثل ما يعيش أبناء الصحابة، هؤلاء إن شاء الله بنظر الله إليهم وباستقامتهم ينزل علينا القطر من السماء، وهذا تلاشى من مجتمعاتنا والحمد لله، ولا أظن أن هناك من يسب هؤلاء الشباب أو يتنقصهم ولكن كان في فترات فيما سبق: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].(98/21)
السنة في العزاء
السؤال
ما هي السنة في العزاء؟ وهل التجمعات للعزاء من النياحة أم لا؟
الجواب
أيها المسلمون! هذه المسألة عظيمة وهي منتشرة في القرى وبين القبائل، وهي تحتاج إلى شيء من البسط والتقسيم، وقد سبق أن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -عَمَّر الله حياته وأمتع في عمره- أرسل منشوراً مفيضاً في فتوى صريحة بذلك.
وأقول: فيه تفصيل: المسألة الأولى: صنع الطعام في بيت الميت للوافدين ليس بجائز في الإسلام، أهل الميت لا يصنعون طعاماً للوافدين للعزاء أو لغيره لأنهم في مصيبة، ولا تجمع عليهم مصيبة أخرى ولا يكلفون، لما قتل جعفر رضي الله عنه في مؤتة، قال عليه الصلاة والسلام: {اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم} فالسنة أن يصنع لأهل الميت في البيوت المجاورة طعاماً، ويرسل به إليهم ولقرابتهم، هذه مسألة لا بد أن تعوها.
المسألة الثانية: جلوس الناس في بيت الميت من غير الأقارب ليس من السنة، وعند الخمسة - السنن الأربع وأحمد - عن جرير بن عبد الله البجلي رضي عنه وأرضاه، بإسناد صحيح قال: [[كنا نعد الاجتماع في العزاء على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام من النياحة]] وهذا الدليل استدل به الشيخ عبد العزيز بن باز وأرسل رسالة فيه لأهل الجنوب خاصة؛ لأنها منشورة بينهم، يترك الموظف عمله والمدرس مدرسته والفلاح مزرعته وصاحب الدكان دكانه، ويجلس ثلاثة أيام في بيت كل من مات من القبيلة، وهل هذا من الإسلام؟ بل هذا تعطيل لمصالح المسلمين، وهذا إرباك لحركة السير وحركة الكسب، وتضييع لأمانة التجارة والوظيفة والتدريس.
فليس هذا بجائز، وقد نبه عليه سماحة الشيخ والعلماء، فغير الأقارب لا يجلسون في البيت ثلاثة أيام، وعلى صاحب الوظيفة أن يذهب إلى وظيفته، يكفيك أن تعزي صاحب الميت على المقبرة.
فإذا انتهيت من الدفن فقل: أحسن الله عزاءك وجبر الله مصيبتك، ثم اذهب إلى بيتك، أما الأقارب فلهم أن يقفوا مع الميت في بيته لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ذهب يعزي آل جعفر في بيتهم، وجلس معهم واستأنس معهم واستأنسوا به.
ثالثاً: تنقل القبيلة إلى القبيلة ليس من الإسلام، نقولها صريحة، ومادام أننا اجتمعنا في هذا المكان المبارك، وهذا المنزل المعهود، وحضرت هذه الوجوه الغانمة من القبائل، فانتقال القبيلة إلى القبيلة ليس من الإسلام، لا يعرف عند السلف ولم تفعله القرون المفضلة، وإنما انتشر عندنا نحن هنا من كيسنا ومن رأينا وتصوراتنا وآراؤنا ليس من الشريعة، فيكفي رسالة أو اتصال بالهاتف، أو أن تعزي عند المقبرة، أو إذا لقيته في السوق، أو أن يذهب رجل واحد من القبيلة فحسب، فيعزي برسالة منهم، ويدعون لهم فقط، أما أن يأتي ثلاثون أو أربعون أو خمسون فيقف أولئك ولو لم يأكلوا شيئاً ليس من السنة، ومن عنده دليل أو مستند فلينفعنا به وليفدنا فإنّا لا نزال نبحث ولم نجد شيئاً وغيرنا من هو أعلم منا وأفضل لم يجد شيئاً، والله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الانبياء:7].
المسألة الرابعة: ومن المسائل التي ينبه عليها النياحة واجتماع النساء في بيت الميت، وندبه بالأقاويل وبهزيع الصوت وبالبكاء فهذا عذاب على الميت، والنائحة إذا لم تتب توقف يوم القيامة، وتلبس درعاً من جرب ويصب على رأسها القطران، ويعذب الميت ببكاء أهله وبنياحتهم، وعلى الأقارب إذا حضروا أن يقرءوا القرآن أو ذكر الله، أو كتاباً مما ينفع أو يتواصوا بالخير فيما بينهم هذه هي السنة.
أما المخيمات واجتماع الناس وقناديل الكهرباء في الليل، فهذا ليس من الإسلام في شيء، ونحن الذين نكلف أنفسنا، ونتعب أنفسنا بهده المناسبات خاصة في العزاء، ولم ينزل الله به من سلطان والواجب أن نريح أهل الميت، وأن نريح مشاعر الناس وأن نرتاح في أنفسنا ونترك الموظفين والأساتذة والعمال والمزارعين في أعمالهم فلا نعطل مصالح المسلمين، والله أعلم.(98/22)
تسجيلات الغناء وصوالين الحلاقة
السؤال
ينتشر في بعض الأماكن تسجيلات الغناء وصوالين الحلاقة فما القول في هذه الأشياء والكسب من ورائها؟
الجواب
سبق في محاضرات وفي مناسبات التنبيه على هذه الأمور وأن أشرطة الغناء محرمة والكسب منها وبيعها واستئجار المكان وإيجاره كلها محرمة، لأنها عداء للإسلام وللقرآن وللدعوة، وما دخلت البيوت إلا وأفسدتها، ولا القلوب إلا وخربتها، وكذلك الفيديو المهدم المخرب، هذا محرم استئجاره وبيعه، والسكنى وأخذ الأجرة من العقار محرم.
وكذلك صوالين الحلاقة التي تحلق فيها اللحى، محرم إلا إذا استثني هذا الأمر، فإذا استثني هذا الأمر فلا بأس، يقولون في المنطقة ويعرفها الناس سمعتها من داعية من الدعاة، صالون حلاقة مكتوب عليه صالون النشاما، وقال بعض الدعاة في مجمع من الناس: موجود منطقة في الشمال صوالين مكتوب عليها (صالون اللحية الغانمة) معناها حلقها من الأذن إلى الأذن، وتذهب في الزبالة، سامحوني أن أتلو عليكم أبيات نبطية ولو أني لا أؤيد الشعر النبطي، لكنها تهيض وتفيض في المناسبات، وهذا حربي من الدعاة من قبيلة الحروب الذين هم حروب على أعداء الله يقول:
يا ربعنا يلي حلقتم لحاكم ايش علمكم ترمونها في القمامة
ذي سنة ما سنها مصطفاكم علامة يا شينها من علامة
ترى اللحى زيناتكم هي حلالكم لها مع الخير وقار وشهامة
عفواً لعل الله يغفر خطاكم وتفوزوا يوم اللقا في القيامة
ترى اللحى يوصي بها مصطفاكم صفوة قريش اللي رفيع مقامه
هذه وصية إن كان ربي هداكم أقولها يا الربع ومع السلامة
فنحن نقولها ومع السلامة.(98/23)
من أحكام الأضحية
السؤال
جاءني ابني بأهله في يوم العيد، وجلسوا معنا في البيت هل تكفينا أضحية أم لا بد لكل أسرة من أضحية؟ وما السنة في الأضحية؟
الجواب
البخلاء يوم الأضحية يجتمعون، أربع أسر في شاة واحدة، فيقولون تعمنا وتكفينا شاة، ولكن إن شاء الله ليس بخل عند بعض الناس، لكن ظروفهم تجبرهم والقدر يأتي بهم إما من سفر أو من غيره، أهل البيت إذا كان قدرهم واحد وصحنهم واحد وسفرتهم واحدة تكفيهم أضحية واحدة مهما كثروا، سواء أعماماً أو إخوة أو أبناء، تكفي لجميع أهل البيت، إذا كانت مأدوبتهم واحدة ومائدتهم واحدة تكفيهم أضحية واحدة، ومن زاد فهو تفضل والله يثيبه، لأن الشيطان يأتي على الإنسان اقتصد في الأضحية، بينما عند الضيوف يذبح العشرات والعشرين والثلاثين ولا يحسب لها حساباً، لكن هذا المضحي لا يذبح إلا بعشرين فتية، فيأتي الإنسان من المصلى ويستعيذ بالله من الشيطان ويصلي ركعتين استخارة، ويبحث ويتأمل ولا يأتي إلا بشق الأنفس.(98/24)
قطيعة الوالدين
السؤال
أنا رجل منقطع وعندي ولدان، الأول منهم موظف ودخله كبير، والثاني: عنده تجارة ومؤسسة، وهم لا ينفقون عليّ ولا على أمهم، وأنا في حاجة ماسة وعليّ ديون ولا أجد من يوصلني بالسيارة، فكيف أفعل مع هؤلاء الأبناء وما هو الحل؟
الجواب
حسبنا الله ونعم الوكيل، الابن الأول موظف ودخله كبير، والثاني عنده تجارة ومؤسسة وهذا مديون هو وزوجته أم الأولاد، ولا يجد من يوصله بالسيارة، تصور الوضع، أين لا إله إلا الله؟ وأين المسجد؟ شابان قويان، كان هذا الأب وهذه الأم قد سهروا الليالي وجاعوا ليشبعوا، وأنفقوا عليهم وربوهم فلما أصبحوا عجزة شيوخاً كباراً متهدمي الأعضاء مهزوزي الأركان، تولى عنهم ذاك الموظف الذي دخله كبير ولكن للشياطين، والآخر معه تجارة ومؤسسة، والوالد في البيت يبكي لا يجد من يوصله بالسيارة، فندعوا الأبناء إلى لا إله إلا الله، وندعوهم إلى التوبة، وندعوهم إلى محاسبة النفس.
أما الوالد هذا المسكين والوالدة فأقول لهم أمور: الأمر الأول: أن يسألوا الله الهداية لولديهما في أدبار الصلوات بأن الله يهديهم: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] فعليكما أيها الوالدان الجليلان بالدعاء في أدبار الصلوات والسجود، عل الله أن يهديهم.
الأمر الثاني: أرى أن تنصحوهم وأن تعرضوا أحوالكم عليهم بالعطف عل الله أن يعطف قلوبهم عليكم، وتعرضوا عليهم بعض الأقارب، وبعض الأرحام علهم أن يؤثروا عليهم، فإن لم يجد ذلك فما يحسن السيف إلا سيف القضاء، الشريعة المطهرة.
فعل بعض الصحابة بأبنائه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هكذا، فأتى أحدهم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! أشكو إليك ابني، قال: ماذا فعل؟ قال: يا رسول الله! جعت ليشبع، وسهرت لينام، وظمئت ليروى، وتعبت ليرتاح، فلما كبر ضربني ولوى يدي، فبكى عليه الصلاة والسلام، وقال: هل قلت فيه شعرا؟ -ذكر ذلك الزمخشري - قال: نعم قلت فيه قصيدة يا رسول الله! قال: ماذا قلت؟ قال:
غذوتك مولداً وعلتك يافعاً تعل بما أجري عليك وتنهل
إذا ليلة وافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا شاكياً أتململ
كأني أنا الملدوغ دونك بالذي لغدت به دوني فعيناي تهمل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك أؤمل
جلعت جزائي غلظة وفضاضة كأنك أنت المنعم المتفضل
فبكى عليه الصلاة والسلام ودعا الابن فأخذه بتلابيب ثيابه وهزه وقال: {أنت ومالك لأبيك} هذا القضاء في الإسلام، فالقاضي يجبر هؤلاء المردة، ويأخذهم بالسوط وبالعصا، ويأخذهم بالقوة حتى ينفقوا عليك وعلى أمهم نفقة تكفيك وتكفي أمهم ويخصص لهم ما يكفيهم من المرتب وما يكفيهم من خدمة، ووصول بسيارة، هذا أمر الله، لكن نحن ندعوهم قبل أن تصلوا إلى القضاء، ونأمل من الله عز وجل أن يرد ويعطف قلوبهم عليكم , فإنه سبحانه قدير وبالإجابة جدير.
وملاحظة على السؤال الذي سبق في الأضحية: أما أنه يقسمها ثلاثة أقسام فيعطي ثلثها ويهدي ثلثها ويأكل ثلثها، فأصبحت هذه من باب المستحبات عند أهل العلم، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يوجبها وجوباً، وإنما جعله صلى الله عليه وسلم على الاستحباب إذا وجد فقير ومحتاج ومن يستنفع بالأضحية، فثلث يأكلها وثلث يوزعه هدية وثلث يتصدق به، هذا على الاستحباب، لكن إذا ما وجد طالبها، ولا إلى من يهدي واستغنى الناس والحمد لله فليضعه في البيت فليأكلها كلها.
هنيئاً مريئاً غير داء مخامر لـ عزة من أعراضنا ما ستحلت(98/25)
التصرف في الوقف
السؤال
يقول عندنا مزارع وقف لا نزرعها ولا نستفيد منها، هل يجوز بيعها وصرف قيمتها في بناء مسجد أو مشروع ينفع المسلمين؟
الجواب
نعم.
وقد أفتى ابن تيمية وغيره من العلماء أن الوقف إذا توقفت منافعه ومصالحه، فيباع وينقل إلى مصلحة تنفع المسلمين، كثير من المزارع من عشرين سنة وثلاثين سنة ما زرعت ويسمونها وقف لله، وقف الله ما يزرعونها أما مزارعهم يزرعونها، فهذه عليهم أن يصرفوها في مصارفها ويبيعوا هذه القطع ويبنوا بها مساجد أو خزانات ماء على الطرق للمسلمين، أو تفتح بها بيوت للخير أو سكنى وقف للمسلمين، أو قناطر تنفع الناس أو آبار يحفرونها أو مساجد يبنونها بالبوادي وفي التهامات أو في مثل ذلك فهذا أنفع للمسلمين، أما دثرها وتركها بهذا المستوى، فليس بوارد وهو القول الصحيح عند أهل العلم.
عسى الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(98/26)
عوامل القوة في حياة المسلمين
إن الله عز وجل رفع هذه الأمة وأعزها بالإسلام، وعندما حافظ الجيل الأول على هذا الدين كانوا أعزة، لا يعتزون بملك ولا منصب ولا مال، بل كانوا معتزين بدينهم، الذي هو مصدر قوتهم، وإذا أردنا أن نعتز بغير هذا الدين أذلنا الله.(99/1)
الافتخار بهذا الدين
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء، إن الله على كل شيء قدير، اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثلما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت.
في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي الجنة رحمتك، وفي النار سطوتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، والصلاة والسلام على من أرسلته معلماً وهادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، شرحت به الصدور، وأسمعت به الآذان، وأريت به العيون، ورفعت به منارة الإسلام، ودكدكت به دولة الأصنام، ورفعت به راية لا إله إلا الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس! يقول الأول:
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
من مبادئنا الأصيلة، ومن تعاليمنا الجليلة أن نفتخر بهذا الدين، وأن نتشرف بأن جعلنا الله مسلمين، فمن لم يتشرف بالدين، ولم يفتخر بكونه من المسلمين ففي قلبه شكٌ وقلة يقين، يقول الله عز وجل في محكم كتابه عن القرآن مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44] أي: شرف لك وشرف لقومك وشرف لأتباعك إلى يوم القيامة، فالواجب أن تتشرف بالقرآن لكونك من أمة القرآن، وأمة الإسلام.
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدمِ
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأممِ
ولذلك يقول جل ذكره: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] قال الأستاذ/ سيد قطب: لا تهنوا ولا تحزنوا فأنتم الأعلون: الأعلون سنداً، والأعلون متناً، والأعلون مبادئاً، والأعلون منهجاً، فمبدؤكم المبدأ الأصيل، وقرآنكم القرآن الجليل، وسندكم الرب الفضيل، فكيف يهون من الله سنده؟! وكيف يهون من رسوله قدوته؟! وكيف يهون من دينه الإسلام؟!
ولذلك كان لزاماً أن نفتخر، وأن نشعر أنفسنا بالشرف والجلالة والنبل يوم أن جعلنا الله مسلمين؛ لأن بعض الناس قد يخجل أن ينتسب إلى السنة، أو أن تظهر عليه معالم السنة، وهذا خطأ كبير.
كيف لا يتشرف المؤمن والله جعله عبداً له؟!
ولذلك يسنن الله -عز وجل- ويقنن مبادئ الشرف والرفعة في كتابه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، يقول عن الجاهليين: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:31 - 32] فالشرف كل الشرف ليس في الدور، ولا في القصور والأموال والأولاد، ولا في الهيئات والذوات، بل الشرف أن تكون عبداًَ لرب الأرض والسماوات، وولي من أولياء الله الذين يعملون الصالحات، ويجتنبون المحرمات.(99/2)
ليس الفضل عند الله بالأشكال والأنساب
جاء عبد الله بن أم مكتوم الأعمى الضرير الفقير المسكين، ولكنه مسلم مؤمن، قائم الليل صائم النهار، جاء إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام يسأله مسألة فرعية فقهية، والرسول صلى الله عليه وسلم مشغول بكفار قريش وساداتهم يريد أن يهديهم إلى صراط الله المستقيم، فلما دخل عليه، قال: يا رسول الله! أريد كذا وكذا، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يريد أن تفوته الفرصة مع هؤلاء الكبار.
فعاتبه ربه من فوق سبع سموات، عاتبه في هذا الأعمى المسكين الضرير المحتاج في خطاب يلذع القلوب، يقول الله له: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1] وخاطبه بخطاب الغيبة، ولم يقل: عبست، وإنما يقول: عبس أي: تغير وجهه واكفهر، عبس هذا الرسول النبي، عبس هذا الداعية في وجه هذا الرجل الصالح، عبس وتولى وأعرض عنه: {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:2] أي: كيف تعْبِس وهو أعمى ولا تستقبله؟ مسلم في قلبه قلعة من قلاع التوحيد، في قلبه جامعة من أكبر جامعات الدنيا من الإخلاص والصدق والتعامل: {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:2] أما ترق للأعمى؟! أما تحلم عليه؟! أما تعطف عليه؟! ولم يسمه باسمه وإنما علمه بسمته.
ثم قال الله له: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3] من أخبرك أن هذا أراد أن يتطهر بالعلم النافع؟! فقد أراد منك أن تفقهه في الدين، وأراد منك أن تقوده إلى رب العالمين: {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} [عبس:4 - 5] أما الكافر الذي استغنى عن الرسالة والرسول، وعن القرآن والسنة، وعن الهداية والنور: {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس:6] تستقبله وتهش وتبش في وجهه، وتلين له في الخطاب، تستقبل هؤلاء الجبابرة الذين أتوك، وأما هذا الأعمى تعرض عنه!
{وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس:7] ليس عليك حساب أن يتطهر هؤلاء، ذرهم يموتون بكفرهم، ورجسهم وعنادهم وجبروتهم فالنار مثواهم: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:8 - 10] فلا تفعل ذلك.
{فأتى عبد الله بن أم مكتوم مرة ثانية، فقام له صلى الله عليه وسلم، وعانقه وفرش له رداءه، وقال له: مرحباً بالذي عاتبني فيه ربي} وبالفعل كانت النتيجة أن مات هؤلاء الأشراف السادة على الكفر ودخلوا ناراً تلظى، وأما عبد الله بن أم مكتوم فأسلم واستمر في الإسلام، ولما أتى داعي الهداية، والكفاح، والجهاد، وارتفعت راية الإسلام بيد عمر رضي الله عنه وأرضاه، ونادى بالنفير إلى القادسية، إلى معركة فاصلة مع آل كسرى وآل رستم؛ كان من المجاهدين عبد الله بن أم مكتوم، قال له الصحابة: أنت أعمى، قال: لا والله، يقول الله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41] فلما حضر المعركة، سلموه الراية، فوقف مكانه حتى قتل، فكان قبره تحت قدميه.
سلام على ذاك الصديق المخلص، وسلام على ذاك المنيب الذي عرف الله.
والمقصود: أنه تشرَّف بالإسلام، فكان قلعة من قلاع الحق استقبلت نور السماء فوزعته على البشرية، والرسول عليه الصلاة والسلام كما قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: [لا يعجبه شيء في الدنيا إلا التقي]] وعبد الرحمن بن عوف يقول: [والله ما رأيت متقياً لله إلا وددت أنني في مسلاخه]].
فأنت ترى المتقي فيحبه قلبك إن كنت مسلماً، وتظهر عليه علائم النصح والقبول والرضا، وترى الفاجر ولو كان وسيماً جميلاً فعليه آيات السخط، والغضب، وعليه سمات الإعراض عن الله، وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] أما الأجسام فطويلة، وأما البشرة فجميلة، ولكن القلوب قلوب ضلالة وجهالة وعمالة.(99/3)
قصة جليبيب
كان جليبيب رجلاً فقيراً، لا يملك من الدنيا قليلاً ولا كثيراً، حتى ثوبه يبقى عليه السنوات بدرنه وغباره ووسخه، لا يجد إلا كسرة الخبز، ولكن الله نظر إلى قلبه فهداه إلى الإسلام، والذين يتفننون في القصور والدور قد لا يهديهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى سواء السبيل: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23].
{جاء جليبيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبسم صلى الله عليه وسلم لما رآه، وقال وهو يمازحه: يا جليبيب! أتريد الزواج؟ فقال: يا رسول الله! من يزوجني لا أسرة عندي ولا مال ولا دار ولا شيء من متاع الدنيا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: اذهب إلى ذاك البيت من بيوت الأنصار، فأقرئهم مني السلام، وقل لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تزوجوني، فذهب وطرق عليهم الباب، وكانوا من سادات الأسر، ومن كبريات العشائر في الأنصار، فخرج رب البيت، ورأى جليبيباً وهيئته، وفقره، وعوزه، فقال: ماذا تريد؟ فأخبره الخبر، فعاد إلى زوجته فشاورها، فاستكبرا الخبر، وقالوا: ليته غير جليبيب، فلا نسب ولا مال ولا دار، فشاوروا تلك البنت الصالحة التي تربت في مدرسة التوحيد، فقالت: وهل تردون رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!}
فتزوج بها وعمَّر بيته الذي أسسه من الفقر، فكوخه المسكنة، وإدامه التسبيح والتهليل والتكبير، وظلاله الصلاة في الهجير، والصيام في شدة الحر، وحضر معركة من المعارك، ولما انتهت بالنصر قال صلى الله عليه وسلم: {هل فقدتم أحداً من الناس؟ قالوا: فقدنا فلاناً وفلاناً، قال: وغيرهم؟ قالوا: ما فقدنا أحداً، قال: لكني فقدت جليبيباً، ثم قام عليه الصلاة والسلام، فتفقده في القتلى البواسل والشهداء الفواضل، فوجده قد قتل سبعة من الكفار وقتل بجانبهم، فتقدم إليه الرسول الكريم، والنبي العظيم، فقبل جبهته قبلة الجائزة للموحدين، وللشهداء العارفين، وللأبرار الخالدين، وقال: قتلت سبعة ثم قتلوك، أنت مني وأنا منك، أنت مني وأنا منك، أنت مني وأنا منك.
لقد كانت عظمة هؤلاء يوم اتصلوا بالواحد الأحد، عرفوا الله عز وجل؛ فعرَّفهم الله عز وجل على منازل الصديقين.(99/4)
العلم يرفع الناس
دخل سليمان بن عبد الملك -الخليفة الأموي- الحرم ومعه الوزراء والأمراء والحاشية والجيش، فقال: من عالم مكة؟ قالوا: عالم مكة عطاء بن أبي رباح، قال: أروني عطاء هذا؟ فأشرف عليه فوجده عبداً كأن رأسه زبيبة سوداء، مشلولاً نصفه، أزرق العينين، مفلفل الشعر، لا يملك من الدنيا درهماً ولا ديناراً، فقال سليمان: أأنت عطاء بن أبي رباح الذي طوق ذكرك الدنيا؟ قال: يقولون ذلك.
قال: بماذا حصلت على هذا العلم؟ قال: بترك فراشي في المسجد الحرام ثلاثين سنة ما خرجت منه حتى تعلمت العلم، قال سليمان: يا أيها الحجاج! لا يفتي في المناسك إلا عطاء.
فلما اختلف سليمان هو وأبناؤه في مسألة من مسائل الحج، قال: دلوني على عطاء بن أبي رباح، فأخذوه إلى عطاء، وهو في طرف الحرم والناس عليه كالغمامة، فأراد أن يجتاز الصفوف ويتقدم إليه -وهو خليفة- فقال عطاء: يا أمير المؤمنين! خذ مكانك ولا تتقدم الناس، فإن الناس سبقوك إلى هذا المكان، فلما أتى دوره سأله مسألة فأجابه، فقال سليمان لأبنائه: "يا أبنائي! عليكم بتقوى الله والتفقه في الدين، فوالله، ما ذللت في حياتي إلا لهذا العبد"؛ لأن الله يرفع من يشاء، ويهدي من يشاء، ويجعل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قيمة من يشاء في تقواه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وجاء هشام بن عبد الملك الخليفة أخو سليمان، فحج البيت الحرام، وفي الطواف رأى سالم بن عبد الله الزاهد العابد العالم ابن عبد الله بن عمر، وهو يطوف وحذاؤه في يديه، وعليه عمامة وثياب ودجلة لا تساوي ثلاثة عشر درهماً، فقال له هشام: يا سالم! أتريد حاجة أقضيها لك هذا اليوم؟، قال سالم: أما تستحي من الله؟! تعرض علي الحوائج وأنا في بيت من لا يحوجني إلى غيره، فاحمر وجه الخليفة، فلما خرج من الحرم، قال: أتريد شيئاً؟ قال: أمن حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال: أما حوائج الآخرة فلا أملكها، لكن من حوائج الدنيا، قال سالم: والله الذي لا إله إلا هو، ما سألت حوائج الدنيا من الذي يملكها تبارك وتعالى، فكيف أسألها منك؟!
إنهم عظماء، إنهم عاشوا في مدرسة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم!
ما بنى جملة من اللفظ إلا وابتنى اللفظ أمةً من عفاء
أخرج خير أمة للناس يرون الذهب والفضة مع الكفار فيهدمونها ويطئون عليها بالأقدام، فيقول لهم المستعمر والكافر: خذوا هذا الذهب واتركوا بلادنا، قالوا: لا والله، دارنا وبلادنا جنة عرضها السماوات والأرض.
ومن الذي باع الحياة رخيصةً ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
أم من رمى نار المجوس فأطفأت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
إنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(99/5)
العزة بهذا الدين
يخرج عمر رضي الله عنه وأرضاه لاستلام مفاتيح بيت المقدس، فيخرج له الناس ويستعرض الجيش المسلم بقيادة الأمراء الأربعة تحت راية أبي عبيدة المقدام الهمام، يستعرضون له بـ الجابية، فلما أشرف عليهم، قال: لا إله إلا الله! ثم قال: [[نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]] ثم أمر الكتائب والجيوش أن تتفرق ليدخل في مسكنة ودعة وهدوء، فلما اقترب الأمراء منه، قال: تفرقوا عني، أين أخي أبو عبيدة عامر بن الجراح؟ فتقدم أبو عبيدة فتعانقا وبكيا طويلاً، فقال عمر: يا أبا عبيدة! كيف بنا إذا سألنا الله يوم القيامة ماذا فعلنا بعد رسولنا صلى الله عليه وسلم؟
قال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين! تعال نتباكى ولا يرانا الناس، فانحرفا عن الطريق إلى شجرة، والجيوش تنظر إليهم، والأمراء، والقساوسة، والرهبان، والنصارى، ثم وقفا يبكيان طويلاً، رضي الله عنكم أيها السلف الصالح يوم عرفتم أن الستين والسبعين السنة ينبغي ويجب أن تصرف في مرضاة الله تبارك وتعالى.
يقول رستم قائد فارس -وتحت يديه مائتان وثمانون ألفاً من الجنود الكفرة- لـ سعد بن أبي وقاص القائد المسلم: أرسل إليَّ من جنودك رسولاً أكلمه، فأرسل له سعد رضي الله عنه وأرضاه ربعي بن عامر، وعمره ثلاثون سنة من فقراء الصحابة قال له سعد: [[اذهب ولا تغير من مظهرك شيئاً، لأننا قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]] فخرج ربعي بفرسه الهزيل ورمحه المثلم.
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وجاء بثيابه الممزقة، فلما سمع رستم أن وافد المسلمين سوف يدخل عليه، جمع آل أنو شروان الحاكمة والوزراء والجنود، ولبسوا التيجان ولبسوا الإذربيجي واستعدوا؛ ليرهبوا هذا الوافد عله أن يتلعثم فلا يحسن الكلام، فلما جلس رستم، قال: أدخلوه علي، فدخل يقود فرسه ويعتمد برمحه على فرش رستم ليظهر له أن الدنيا حقيرة ورخيصة وأنها لا تساوي عند الله شيئاً، ومن علامات رخصها وحقارتها أن أعطاها هذا الكافر وجعل سعد بن أبي وقاص ينام على الثرى، فلما وقف أمامه، قال: اجلس، قال ربعي: ما أتيتك ضيفاً وإنما أتيتك وافداً، فقال رستم -والترجمان بينهما-: ما لكم أيها العرب -وأقسم بآلهته- ما علمنا قوماً أذل ولا أقل منكم! فللرومان حضارة، ولفارس حضارة، ولليونان حضارة، وللهنود حضارة، أما أنتم فأهل جعلان تطاردون الأغنام والإبل في الصحراء، فماذا أتى بكم؟!
قال ربعي: نعم.
أيها الملك كنا كما قلت وزيادة، كنا أهل فحشاء نعبد الأصنام، ويقتل القريب قريبه على مورد الشاة، لا نعرف نظاماً ولا مبدءاً ولا حضارة، ثم انتخى ورفع صوته كأنه الصاعقة في مجلسه فقال: [[ولكن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]] فغضب رستم، وقال: والله! لا تخرج حتى تحمل تراباً من بساطي، فحمله على رأسه، وقال ربعي: هذه الغنيمة الباردة إن شاء الله، تسليم أرضك وديارك: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45] فلما أشرف على سعد، قال: ماذا على رأسك يا ربعي؟ قال: تراب من تراب أرض رستم وكسرى، فكبر المسلمون حتى اهتز مخيمهم، وقال: هو النصر، هذا تسليم أرضهم بإذن الله.
وفي الصباح الباكر يوم أطلقت الشمس أشعتها على الدنيا كان سعد رضي الله عنه وأرضاه في أول الصفوف، والتقى الجمعان، وبرزت الفئتان، وتبدى الرحمن لحزبه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي ثلاثة أيام تُسحق كتائب الضلالة والعمالة، وتُداس الجماجم التي ما عرفت لا إله إلا الله، وتُضرب الرءوس التي ما دخل فيها نور لا إله إلا الله، ويدخل سعد في اليوم الرابع على إيوان كسرى الذي حكم الدنيا ألف سنة، فيراه مموهاً بالذهب، ويرى سلاسل الزبرجد والمرجان، فيبكي سعد ويقول: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:25 - 29] فكهين.
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
كنا نرى الأصنام من ذهبٍ فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(99/6)
التربية على تعظيم الله عز وجل
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وحجة الله على الناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس! إن مما يجب على المسلم الذي يريد أن يربي بيته تربية إسلامية أن يشرّف بيته وأبناءه بالإسلام، وأن يعظم شعائر الله في قلوبهم، ويعظم الحدود التي أمر الله بحفظها، فيكون بيته معظماً لله تبارك وتعالى، ومعنى ذلك: أن تربي في نفس ابنك تعظيم الله، فلا يكون أحد في قلبه أعظم من الله ولا أجل منه ولا أحب هذا هو البيت المسلم.(99/7)
طرق تعظيم الله سبحانه وتعالى
وأمور التعظيم والتشريف في البيت المسلم تحصل في أمور:
1/ أن تُعظِّم الله في قلب ابنك فتعرفه على الواحد الأحد، فلا يتلفظ بلفظ الجلالة إلا في مكارم الأمور، وفي أشرف المناسبات، وأن تعلمه أين الله تبارك وتعالى، وتعرفه على صفات الواحد الأحد، فتعرفه كرمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وحلمه، وبره، وتريه آثار القدرة في آياته وصفاته، فعندما يأكل الطعام، تقول له: هذا من فضل الله؛ ليحب الله، وعندما يلبس اللباس، فتقول: هذا من جود الله، ليتعرف على الله، وحينما يسكن البيت فتقول: هذا من توسيع الله عز وجل ومن فضله، فيتحبب إلى الله تبارك وتعالى.
2/ تعظيم كتاب الله، فتحبب إليه القرآن وتعظم مبدأ القرآن في قلبه، وتجعل من أعظم اهتماماته في الحياة أن يحفظ كتاب الله، فإن وجدت قصاصة من المصحف رفعتها، وقبلتها، وطيبتها، وهو يراك، ووضعتها على رأسك، فهذه أعظم من مائة محاضرة تحاضر فيها عن عظمة القرآن، وإذا رأيت شيئاً من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم فترفعه، وإذا ذكر لك الرسول صلى الله عليه وسلم في المجلس فتصلي وتسلم عليه، وتدعو الله أن يجزيه عن الإسلام خيراً، وعن الدعوة براً، وعن البشرية فخراً.
3/ أن تُعظِّم في قلبه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وتعظم في قلبه كيف كان صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر وعثمان والصحابة أجمعون، فيعيش ونجوم مجده هؤلاء القوم وليسوا نجوم الفن ولا نجوم الغناء كما يفعل بعض الناس، لأن كثيراً من الأطفال تربوا على أن العظماء هم المغنون والمغنيات الأحياء منهم والأموات، فيرى أن هذا المغني قد شق طريق المجد، وقد صعد وقد نال من الفخر ما لم ينله أحد من العالمين، ويظن بعض الأطفال أن هؤلاء الفنانين والفنانات أنهم رزقوا من العقول والذكاء والجلالة ما لم يرزقه أحد من الناس لا لشيء إلا لأن الطفل يصبح ويمسي على صوت هذا المغني!! وأما ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، فقلّ في بيته.
4/ وطائفة من الناس ثقافتهم دخيلة عميلة ضالة رأوا أن نجوم المجد ماركس ولينين وهرتزل ونابليون وهتلر أعداء الإنسانية، يقرءون كتبهم، ويحفظون كلماتهم، وهؤلاء -والذي لا إله إلا هو، والذي شرف وجه محمد بالرسالة- لا يساوون الغبار الذي كان على حذائه صلى الله عليه وسلم، والله إنهم لا يساوون الغبار الذي وطأه صلى الله عليه وسلم، والله إنهم لا يساوون ولو اجتمعوا من الشرق ومن الغرب بصاق أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] أولئك الذين ركبوا مجد التاريخ، وأسمعوا أذن الزمن، وامتطوا البحار يرفعون لا إله إلا الله، أولئك الذين علَّم الله الإنسانية بهم الهداية، وعلم الله بهم الضلالة، ومحق الله بهم العمالة، أولئك الذين كانوا قرءاناً يمشي على الأرض، كانوا يتعاملون بالقرآن، وينامون على حدس القرآن، ويصحون على صوت القرآن، أولئك الذين نظر الله إلى قلوبهم فرضي عنهم ورضوا عنه، فيكلم شهداءهم كفاحاً، ويرضى عن كلام أدبائهم ويثني عليهم وهم في الحياة الدنيا، يجتمعون تحت شجرة فينزل جبريل بكلام الله، ويقول: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] يجتمعون في الصباح الباكر، فيتنزل عليهم جبريل بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] جلالة، ونور، وبياض، وإشراق، وبشاشة، أما أولئك الذين أُدخلوا علينا عن طريق المجلات الخليعة والكتب الظالمة الظانة الغاشمة أولئك أنجس خلق الله، فالكلاب أطهر منهم، والحمير أنزه منهم، لأنها مخلوقة بلا عقول تكليف، أما هم فكلفوا بعقول ثم ألحدوا، وكفروا، وأعرضوا فهم أضل منها سبيلاً.
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23] إن الذي لا يؤمن بالله عليه لعنة الله في الدنيا والآخرة.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [البقرة:161 - 162].
أسأل الله بأسمائه الحسنى وبصفاته العلى أن يشرفنا وإياكم، وبيوتنا، وأطفالنا بالإسلام، الذي أتى به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].(99/8)
كلام جميل وفعل قبيح
مناقضة الفعل للقول من خصائص النفسية اليهودية، وقد حذرنا الله من سلوك طريقهم جملة وتفصيلاً، وخاطب المؤمنين بقوله: (لم تقولون ما لا تفعلون) وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجعله من علامات النفاق.(100/1)
تفسير آية: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عنوان هذا الدرس: (كلام جميل وفعل قبيح) وهو تذييل وتعليق لبعض أهل العلم على قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] وهذه الآية هي أول آية معنا في هذا الدرس.
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] لا زال الحديث مع بني إسرائيل وكان الدرس السابق بعنوان (أول لقاء مع بني إسرائيل) وهو تجريد لأعمالهم وكشف لمخططاتهم وما فعلوه؛ لعلنا أن نجتنب ما وقعوا فيه.
وكما قيل:
إياك أعني واسمعي يا جاره
مصائب قوم عند قوم فوائد
قال أهل العلم كـ الرازي وغيره: الخطاب في هذه الآيات لبني إسرائيل ولنا؛ لأنهم انقرضوا أو بقي منهم أناس كفرة فبقي الخطاب لنا نحن الأمة الإسلامية، وهذا الخطاب بالخصوص للدعاة ولطلبة العلم وللعلماء وللآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، يقول الله لنا ولهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
هنا مسائل أولها:(100/2)
الترهيب من أمر الناس بالبر ونسيان النفس
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة:44] البر: كل شيء جميل، والبر تزكية النفس، وطهارة الروح، وقد شمله القرآن في معان متعددة على هذه المعاني والمقاصد التي ذكرت، يقول الله لهم: ما لكم يا بني إسرائيل لا تستحون من الله، تأمرون الناس بالبر وأنتم لا تأتمرون، تأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم.
يقول أبو الأسود الدؤلي في مقطوعة له:
يا أيها الرجل المعلم غيره هلاَّ لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا كيما يصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
يقول عليه الصلاة والسلام والحديث عند أحمد والطبراني ويقبل التحسين، وربما أصله في الصحيح لكن هذه هي الرواية التي اطلعت عليها: {مررت ليلة أسري بي بأناس تقرض شفاههم بالنار، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم} تقرض شفاههم بالمقاريض وهم في النار والعياذ بالله؛ وخصت الشفاة؛ لأنهم طالما تكلموا ووعظوا ووجهوا الناس بها.
ذكروا عن أحد الصالحين من الدعاة أن عبداً رقيقاً أتى إليه فقال: أريد أن تخطب الناس في العتق لعل سيدي أن يعتقني من الرق، فخطب الناس ودعاهم، وهكذا في كل جمعة فجاء العبد وقال: في كل جمعة الحث على العتق ولكن سيدي ما أعتقني، قال: انتظرني إذاً وقتاً من الزمن، قال: فأتى هذا الرجل الداعية فجمع أموالاً واشترى عبيداً وأعتقهم لوجه الله، ثم قام فوعظ الناس بالعتق، فلما خرج الناس أتى السيد إلى عبده فأعتقه، فسئل هذا السيد كيف أعتقته والعالم هذا يتكلم من زمن؟ قال: ما وقع كلامه في قلبي إلا هذه الجمعة، وهذا يدل على أن العمل إذا وافق القول، وقع موقعه.
كان بنو إسرائيل -نعوذ بالله من الخذلان- في المجالس والدعوة كلامهم جميل، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، وربما وصل ببعضهم ألا يصلي ويشرب المسكر ويزني ويقتل، ولكن إذا وقف أمام الناس وقف داعية، وقد شهد التاريخ نماذج من هذا، لكن بالخصوص بنو إسرائيل امتازوا بذلك حتى قال الله في عالمهم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176].
وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {يلقى برجل في النار فتندلق أقتاب بطنه في النار، فيدور عليها كما يدور الحمار برحاه فيجتمع عليه أهل النار فيقولون له: يا فلان! أما كنت تأمرنا بالمعروف؟ قال: بلى، قالوا: أما كنت تنهانا عن المنكر؟ قال: بلى، قالوا: فما لك؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر فآتيه} وهذا هو معنى قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
ولذلك كان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم؛ لصدقه مع الله، ولإخلاصه، ولقربه من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولا يزال الداعية محاسباً نفسه حتى ينطبق قوله مع فعله، ونعوذ بالله من الخذلان، والحرمان، أن نأمر الناس بشيء ثم لا نأتيه.
جاء رجل إلى ابن عباس -وهذه القصة عند ابن كثير - وقال له: أريد أن أعظ الناس، قال: [[ماذا فعلت بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] أأحكمتها؟ قال: لا، قال فهل أحكمت قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3] أأحكمتها؟ قال: لا، قال: فهل أحكمت قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن شعيب: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] أأحكمتها؟ قال: لا، قال: فاذهب، فأمر نفسك ثم أمر الناس]] ولكن عند أهل العلم أنه من قام بالفرائض واجتنب الكبائر فلا بأس أن يدعو الناس ولو إلى نوافل لا يقوم بها.
قال الإمام أحمد: لو مكث الإنسان حتى لا يكون فيه عيب ولا نقص ولا ذنب، ما أمر أحدٌ بمعروف ولا نهى أحد عن منكر، لكن من وقع في بعض الصغائر وفوت بعض النوافل، فأما الكبائر فلابد للواعظ أن يمتنع عنها، والفرائض حتى يأتي بها ثم ينصح الناس.
إنسان لا يصلي ثم يقوم يدعو الناس إلى الصلاة أليس بأكبر الفجار؟ بلى.
إنسان ينادي بنزع الخمر والربا وهو خمار مرابٍ، كيف يقبل منه؟
وقد وقع للعلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان مثل هذا الموقف وكان يعيش في المدينة المنورة وكان هناك رجل أحمق معتوه، مرفوع عنه القلم، كان يأتي عند المسجد النبوي ويقول: صلوا صلوا، فإذا مر الشيخ، والشيخ عليه جلالة وعليه ديانة وزهد وعبادة، يقول للشيخ: صلِّ صلِّ، وهو إذا دخل المسجد لا يصلي؛ لأنه معتوه مرفوع عنه القلم فلا يدخل، فكان كلما رأى الشيخ يقول قال له: يا شيخ صلِّ، قال: وأنت محتاج إلى قليل صلاة، وأنت لماذا لا تصلي؟ أنت تحتاج إلى قليل من الصلاة، قال: إن شاء الله آتيكم، وهذا كأن القلم رفع عنه.
أما النوافل فإنه أحياناً لا يستطيع الإنسان أن يأتيها، إنسان لا يستطيع قيام الليل فقد يكون مشغولاً بالجهاد أو أنه عالم وعنده تدريس ومراجعة وتخريج، وقد يأخذ عليه وقتاً طويلاً فلا يستطيع أن يوتر إلا قبل أن ينام، فلا نقول له: لا تأمر الناس بقيام الليل.
بل يأمرهم لأنهم سوف يكونون في ميزان حسناته إذا قاموا الليل، وقد يوجد إنسان داعية لكنه فقير، فله أن يأمر الناس بالصدقة، وإن كان لا يجد ما يتصدق به، لعله أن يجد من الأثرياء من يتصدق، وقس على هذه الأمور.
إذاً: فلا بأس على الداعي أن يتحدث عن أمور من النوافل ولو لم يستطع لها، كصيام النافلة، وقيام الليل، والصدقة، عل الله أن يهدي: {أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح إنما دخل النقص على بني إسرائيل، أنهم كان الرجل إذا لقي أخاه ينهاه ثم لا يمنعه أن يكون أكيله وشريبه في آخر النهار، حتى قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].(100/3)
أثر التطبيق في وقع كلام الواعظ على سامعيه
وقف الحجاج بن يوسف الثقفي يوم الجمعة يقول: لا إله إلا الله كم من مستقيم يدعو الناس للتقوى ولا يتقي، ماذا أعددتم للقبر! لا إله إلا الله ما أضيقه!
ولا إله إلا الله ما أظلمه!
ولا إله إلا الله ما أوحشه!
فالناس ما بكوا لأن الحجاج هو المتكلم، فهو الذي قتل مائة ألف وقتل العلماء، وأخاف الناس، فأخبر الحسن بهذه الموعظة فقال: سبحان الله! يلبس لباس الفساق، ويعظ وعظ الأخيار، ويضرب رقاب الناس ويقرأ القرآن على لخم وجذام، هذا ما كان له قبول.
لكن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه الزاهد.
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر
إذا شجرات العرف جذت أصولها ففي أي غصن يوجد الشجر النضر
عمر بن عبد العزيز يقف في الثامنة والثلاثين من عمره على المنبر في أول جمعة قامها بعد الخلافة، فيأتي وينظر إلى الأمة فيبكي ويجلس ثم يقوم يتكلم فلا يستطيع أن يتكلم، قال: يا أيها الناس بيعتكم في أعناقكم، الله حملني الشيخ الكبير والعجوز والأرملة والمسكين، ماذا أقول لربي يوم القيامة؟ ثم بكى.
قال رجاء بن حيوة أحد الوزراء عنده، والله لقد نظرت إلى الجدران هل تبكي معنا أم لا، قال: ما بقي أحد، بكى الناس كلهم، فيرى هل تبكي الجدران؟ لأنه صادق وعلم الله صدقه، ولا بأس أن نقف معه قليلاً.
لما تولى الخلافة أتى إلى عبده، وكلنا عبيد الله لكنه مولى أسمر دائماً يرابط الخلفاء، ومعه سيف طويل للطوارئ، وأي إنسان يعترض في الطريق، يضرب رأسه فإذا هو قسمين رأسه في جهة وجثته في جهة.
كان مزاحم دائماً مع الخلفاء، فلما تولى عمر بن عبد العزيز أخذه عمر بينه وبينه، قال: أحببتك لاثنتين، قال: ما هي؟ قال: رأيتك وقت الضحى ونحن في سفر لا يراك إلا الله خلوت بنفسك وراء الجبل فركعت ركعتين.
انظروا إلى المواصفات عند الخليفة عمر بن عبد العزيز لم يقل: أنت من أسرة فلان وأنت تحمل مؤهلاً، قال له: خلوت وراء جبل وصليت ركعتين في مكان لا يراك فيه إلا الله.
المسألة الثانية: رأيت مصحفك معك دائماً.
من علامة الخير أن يكون الرجل مصحفه في جيبه يجلس خمس دقائق في مكتبه يفتح المصحف يتصل بالواحد الأحد، أتظن المنافق يحب القرآن؟! أتظن أن المنافق دائماً مصحفه معه؟! لا.
بل والله إنه يوجد من يقرأ عشرات الجرائد من الصحف والإعلانات، وإعلانات شركات الإسمنت، ودرجة الحرارة، والصيدليات المناوبة، والضائعين والضائعات، ولكن لا يقرأ ولو صفحة في اليوم من القرآن، كيف ترجو له النجاة! كيف تريد له نوراً!
ولذلك يقول: لأجل هاتين الاثنتين اخترتك وزيراً معي.
يا مزاحم: إذا رأيتني عدلت عن الصراط المستقيم؛ فخذني بتلابيب ثوبي وقل لي: اتق الله يا عمر!
ولما تولى الخلافة في أول يوم، بعد سليمان، قال للحاشية الأولى: أنتم معفيون لا أريدكم أبداً إلى يوم القيامة، سبحان الله يا عمر كنا مقربين من عبد الملك والوليد وسليمان! قال: هذا هو الأمر، قالوا: من يجلس معك؟ قال: يجلس معي فلان وفلان وفلان وعد سبعة واختار مطرف بن عبد الله بن الشخير، ورجاء بن حيوة المحدث الكبير، واشترط على هؤلاء السبعة العلماء ثلاثة شروط هي:
الشرط الأول: ألا يُغْتَاب أحد من المسلمين أبداً.
الشرط الثاني: ألا يمدح في المجلس.
الشرط الثالث: ألا تذكر الدنيا في المجلس.
ويبدأ المجلس بعد صلاة العشاء كأن بين أيديهم جنازة.
عمر نوعٌ آخر من الناس، ولذلك هدى الله به الأمة ووجهها إلى المسار الصحيح، فكان إذا تكلم؛ كان لكلامه وقع في القلوب حتى يكاد يرجف بالقلوب.(100/4)
ضرورة مطابقة الفعل للقول
{أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] هنا مسائل، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بعد أن لامهم.
أولاً: أنتم تأمرون ولو لم تأمروا لكانت المسألة سهلة، تجد إنساناً فاسقاً يستحي على نفسه.
قيل لأحد السلاطين وهو نور الدين محمود زنكي بطل من الأبطال كردي ليس عربي بعض الناس الآن يقول: ما يصلح إلا العربي! لكنه ولي من أولياء الله عز وجل، ترجم له ابن كثير يقول: سقى الله عظامه شآبيب الرضوان، كان مخلصاً لله، ذكروا عنه أنه سجد ذات مرة -من ضمن تضرعه وذلته لله وخشيته من عذاب الله ومقته لنفسه- يقول: اللهم اغفر لعبدك الكلب محمود -وهو يقصد نفسه-.
قيل له: لماذا لا تعظ الناس؟ قال: أنا مثلي يعظ الناس! كم تساوي هذه الكلمة؟! ولذلك قد يأتي من الحمقى رجل إذا وعظته يقول: أتقول هذا الكلام لمثلي أما تستحي أن تعظني، أنا أحتاج إلى دعوة.
حتى ذكروا أن الإمام أحمد قام أمام الناس فوصف الجنة والنار، فقال: يا أيها الناس! والله لا يضمن أحد لنفسه الجنة حتى أنا لا أضمن لي الجنة، أنت أنت يا إمام ماذا فعلت؟ هذه الكلمة كانت إداً.
ذكر أهل السير في ترجمة عيسى عليه السلام وذكرها ابن كثير في مواطن: أن رجلاً من بني إسرائيل كان عابداً، فأخذ فاسقاً بيده فذهب به إلى بيت المقدس، فلما اقتربوا من بيت المقدس دخل العابد ووقف هذا الفاسق، قال: ادخل، قال: أنا مثلي يدخل بيت المقدس أألطخه بسيئاتي وبمعاصيّ! فأوحى الله إلى عيسى قل لذاك الفاسق: كلمته هذه عادلت سبعين سنة من عبادة هذا العابد.
لكن لا يعني ذلك أن الإنسان يقول: ما سمعنا بمثل هذا الشيء السهل، إذاً: نسمع الغناء، ونفعل الزنا والربا والفواحش -نعوذ بالله- ونقول: نحن نلطخ المجتمع بمعاصينا وذنوبنا! لا والله إن هذا هو الفحش والبعد عن الله، لكن وصل هذا العبد إلى تلك المكانة بما وقر في قلبه من الذل لله تعالى.
وفي الحديث الصحيح: {أن عابداً أتاه رجل مسرف كان يقترف المعاصي، فقال له العابد: اتق الله واستح منه، فقال: دعني أنا وربي لعل الله أن يرحمني، فلقيه فقال له: اتق الله، عد إليه ولا تعصيه، قال: دعني وربي لعل الله أن يرحمني، قال: والله لا يغفر الله لك! فقال الله عز وجل: من الذي يتألى عليَّ؟ من الذي حلف على الله؟ أشهدكم يا ملائكتي أني غفرت لهذا المجرم -أو هذا الفاسق- وأحبطت عمل هذا العابد} فليستأنف العمل من الآن، أي: سجلاته شطب عليه في لحظة وذاك غفر له، ويبدأ ذاك من الصفر وهذا من الصفر، ذاك مقبول، وهذا مطرود بكلمة زهو وعجب على الله بها، ولذلك قالوا: أنين المذنبين خير من تسبيح المقربين، فهو مذنب ولكنه يئن إلى الله ويرجع إليه، أما مذنب يذنب ولا يزال في الفحش، ويقول: نحن مذنبون مقصرون فهذا من المخادعة أما إنسان كان له تاريخ أسود وعاد إلى الله فهذا من الأقربين إلى الله، ولذلك تجد ذلة المعصية معه دائماً تستصحبه، حتى يلقى الله وهو من أحسن الناس.
قال سعيد بن جبير كما ذكر عنه الإمام أحمد في كتاب الزهد: رب حسنة أدخلت صاحبها النار، ورب سيئة أدخلت صاحبها الجنة، قالوا: بماذا؟
قال: عاص عمل سيئة فلا يزال يبكي منها ويندم عليها حتى دخل الجنة، ورجل عمل طاعة فلا يزال يدل بها ويتكبر ويفتخر حتى دخل النار.
ولذلك عند الطبراني والبزار بسند فيه كلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن العالم الذي ينفع الناس ولا ينفع نفسه كالشمعة تضيء للناس وتحرق نفسها} ولذلك ما هي الفائدة أن ينجو الناس وتهلك أنت؟
وما الفائدة أن يستفيد الناس ولا تستفيد أنت؟
قال: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] قالوا: هذا ينطبق على طلبة العلم الذين يدرسون إلا أن يبلغوا هذا العلم الذي بين أيديهم.
وطلبة العلم يؤتون من ثلاثة مداخل:
المدخل الأول: الكتمان نعوذ بالله من الكتمان، فإنك قد تجد طالب علم يكتم ما عنده: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ} [البقرة:159] قد تجد عالماً يحفظ عشرين متناً، وقد تسمع من طلبة علم، قالوا: فلان يحفظ المتون كلها لكن في بيته، وحفظ القرآن والصحيحين والسنن والمعاجم والمسانيد، فإذا أتاه طلبة العلم يريدون معلومة منه، تشفعوا وتوسلوا، ودخلوا وخرجوا، وطرقوا الأبواب، وحاولوا أن يخرج فلا يخرج، فإذا أعطاهم وجهه مرة؛ أعطاهم الكلام كأنه يزنه في ميزان الذهب، وقته ضيق لا يستطيع أن يبذله، يقول: ليس عندي وقت، لماذا؟ قال: الوقت حرج، ولذلك ما فائدة العلم:
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كف شددتا
ولذلك أكثر ما منيت به الأمة الإسلامية اليوم يوم جلس بعض العلماء في الصوامع العادية، فتجد العالم يجلس في الصومعة ولا ينزل للناس، فيترك الشباب وحالهم إما يستقيمون أو يضلون أو يهتدون أو يمرقون وينظِّرون لأنفسهم، وأصبح الشباب هم المفتون والقادة والمنظرون، فلذلك أتى في المسيرة اعوجاج لأن العلماء ما قادوا هذه المسيرة، وهم الذين ينبغي أن يقودوها.
المدخل الثاني: العجب والكبر على الناس؛ وقد يصاب بها بعض أهل العلم، نعوذ بالله من ذلك.
المدخل الثالث: الحسد وهو لا يقع كثيراً نسأل الله العافية والسلامة.(100/5)
معنى (الكتاب) في قوله تعالى: (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ)
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] أي كتاب: إنما لم يقل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى التوراة أو الإنجيل أو القرآن ليبقى الكلام عاماً لكل من يقرأ الكتاب، فما أحسن وما أعجب أسلوب القرآن!
فقال: (الكتاب) ولم يقل (التوراة) لأنه لو قال (التوراة) لسكت أهل القرآن، ولو قال (القرآن) لسكت أهل التوراة، وهكذا أهل الإنجيل، لكن قال (الكتاب).
كل من يقرأ القرآن، ومن يقرأ كتب السنة وغيرها من كتب العلم، فعليه أن يبلغ وأن يستحي على نفسه من ذلك الأمر، أن يقرأ الإنسان ثم لا يبلغه إلى الناس نعوذ بالله من الخذلان.(100/6)
سبب محاجة الله لليهود إلى عقولهم
{أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] لماذا لم يقل (أفلا تعلمون)؟! قالوا: إنما قال: (أفلا تعقلون) لأنهم انتهوا من مسألة العلم، فهم عندهم كتاب لكن ما استفادوا وما أفادوا بالعلم فردهم إلى العقل، قال: إذا ذهب علمكم فأين عقولكم؟!
ومما يحكى في هذا أن أحد طلاب الصوفية مر به ابن تيمية وهو يقرأ -وهو لا يعرف يقرأ- يقول: فخر عليهم السقف من تحتهم، في سورة النحل، والسقف دائماً يكون فوق، والقرآن يقول: {فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِم ْ} [النحل:26] قال ابن تيمية: سبحان الله لا عقل ولا علم، إذا لم يكن عندك علم تعرف أن السقف دائماً يكون من فوق، فيقولون في المثل: أعمى ويناقر، لا عقل ولا علم، فإن بعض الناس إذا ما كان عنده خشية في الدين، لكن تجد عنده حمية وغيرة، فمثلاً تجد بعض الفسقة يأنس لبعض الأمور، أي: لا يريد الفاحشة أن تنتشر، فمجتمعه فاسق بنفسه، لكن تجد فيه غيرة على المحارم، لا يقبل الدياثة في بيته فهو حازم، يغضب إن قيل له: يا فاسق! يغضب إذا جلس مع شلل السوء، يغضب إذا وجد أحد أولاده في المقاهي وأماكن الخسارة والدمار، ففطرته عريقة وعنده مروءة ونخوة.
وبعضهم يجتمع له تركيب لا دين ولا مروءة ولا نخوة ولذلك يتردى ويصبح كالبهيمة والعياذ بالله، فهذا أمر لا بد أن يلاحظ في هذه الآية ولا بد أن تكون نصب العين.(100/7)
حال الصحابة بين أقوالهم وأفعالهم
الآية الثانية ليست في هذه السورة إنما قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] وسببها أن بعض الصحابة قالوا: [[يا ليتنا ندري أي العمل أفضل فنعمله]] فأنزل الله الجهاد فخافوا وكلَّ كثير منهم، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3] لكن وجد من الناس من قال وفعل، كالصحابة رضوان الله عليهم وعلى الأخص الشهداء منهم.
كان البراء بن مالك فارساً عجيباً- يقول عمر للقواد: لا تولوه الجيش؛ لأنه لو تولى الجيش حطم نفسه وحطم الجيش ودخل به في مضيق لا يخرج منه أبداً، عمر يريد قائداً يريد الحياة نسبياً، يريد أن ينجو بالناس، لكن البراء يريد أن يدخل بالجيش فيدمره، قال: لا تولوه قيادة الجيش، كان إذا أراد أن يصارع في المعركة أتاه إغماء، ثم يقوم من الإغماء بعد أن يرش بالماء، فيأخذ سيفه فلا يزال يقاتل في الأعداء حتى ينكسر سيفه أو ينهزم الذي أمامه، هو من أشجع الناس، دخل عليه أخوه أنس وهو يرتجز -أي: ينشد نشيداً إسلامياً ويرفع صوته- وكان صوته جميلاً والصوت الجميل بالشعر المباح لا بأس به، قال له أنس: أتنشد وأنت من صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: اسكت فوالله الذي لا إله إلا هو لا أموت إلا قتلاً.
يحلف؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك} لو حلف على الله لأنفذ الله يمينه؛ لأنه بلغ في الولاية مبلغاً عجيباً، فحلف أن يموت شهيداً.
وسبب هذا الحديث: أن أخت البراء نزعت ثنية امرأة، فأتت المرأة تشتكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: نقتص من أختك يا براء، قال: أختي تقتصون منها، قال: نعم، قال: بم تقتصون؟ قال: ننزع ثنيتها، قال: والله لا تنزع ثنيتها أبداً -والرسول صلى الله عليه وسلم هو الحاكم- فقال صلى الله عليه وسلم: اذهبوا إلى أهلها فإن رضوا بالأرش فلا بأس، فذهبوا إليهم فرضوا، فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: {رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره} أشعث: رأسه ليس مُسَرَّحَاً، لا يعرف الدهن ولا الزيت؛ لأنه فقير ثيابه مغبرة، ينام على الرصيف، ويأكل على الرصيف، ويلقي المحاضرة على الرصيف، ولم ير قصراً إلا بعينه، ومعنى: ذي طمرين أي: ذي ثوبين ممزقين.
ألا رب ذي طمرين محفوفة له غدت روضه منسوجة ونمارقه
إلى آخر ما قال {لو أقسم على الله لأبره} إنما المقصود أقسم أن يموت شهيداً، ويقول عنه أهل السير: إنه قتل مائة فارس مبارزة من غير ما قتل في المعارك.
وأتى وعد الله الحق، وكان إذا حضر المعركة نظروا إلى البراء ماذا يفعل فأتاه الإغماء:
لما حضرنا كشفنا عن جماجمنا ليعلموا أننا بكر فينصرفوا
قالوا البقية والهندي يحصدهم ولا بقية إلا السيف فانكشفوا
أتى في اليمامة هو والأنصار، فلما رأى المسلمين فروا في أول المعركة، ورأى الكفار أقبلوا؛ قال البراء: [[بئس ما عودتم أقرانكم، والله ما كنا نفر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم]] ثم أخذ غمد السيف وكسره على ركبته، ومعنى كسر السيف أنه لن يعود إلى مكانه، فضرب به حتى نصر الله المسلمين.
وأتت معركة تستر وقائدها أبو موسى الأشعري فرأى أبو موسى الجيش الأجنبي الكافر وإذا هو كالجبال، وجيش المسلمين قليل، فالتفت إلى البراء بن مالك الأشعت الأغبر ذي الطمرين، قال: [[يا براء أسألك بالله أن تقسم اليوم على ربك أن ينصرنا، قال: انتظرني قليلاً]] فانتظره قليلاً فذهب واغتسل ولبس أكفانه وتحنط: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171]:
إذا ما فررنا كان أسوأ فرارنا صدود الخدود وازورار المناكب
صدود الخدود والقنا متشاجر ولا تبرح الأقدام عند التضارب
أتى والمسلمون صف والمشركون صف، وقال: [[اللهم إني أقسم عليك اليوم أن تنصرنا وتجعلني أول شهيد]] ودارت رحى المعركة وكان أول شهيد في المعركة، وانهزم الأعداء ولحقهم المسلمون يضربون فيهم ضرباً عنيفاً حتى هزموهم {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
كان سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة إذا أتى في المجلس والرسول صلى الله عليه وسلم معه علماء وكبار وشهداء الصحابة يقول: {هذا خالي فليرني كل خاله} أي: من كان عنده خال فليريني مثل هذا الخال.
فأتى سعد رضي الله عنه فقال: [[لما حضرنا معركة أحد أتى عبد الله بن جحش وهو شاب في الثلاثين قال: يا سعد تعال ندعو الله وراء هذه الصخرات، قال: فملت معه وراء الصخرات، قلت: ادع أنت، قال: فدعوت الله بالنصر للإسلام والمسلمين وللرسول عليه الصلاة والسلام -قبل المعركة بدقائق- فأما عبد الله بن جحش فاستقبل القبلة وقال: اللهم إنك تعلم أني أحبك، اللهم لاقي بيني وبين كافر هذا اليوم شديد حرجه قوي بأسه فيقتلني فيك، فيبقر بطني ويجدع أنفي، ويفقأ عيني، ويقطع أذني، فإذا لقيتك يوم القيامة في هذه الصورة تقول لي: لم فعل بك هذا؟ فأقول: فيك يا رب، قال سعد: والله الذي لا إله إلا هو ما انتهت المعركة إلا ورأيته مبقور البطن، مجدوع الأنف، مفقوء العينين، مقطوع الأذنين، فقلت: أسأل الله أن يلبي له ما سأل]] فقد قدم أول المؤهلات، وهي قوله: (إنك تعلم أني أحبك) وهذه من رواية سعيد بن المسيب.
ولذلك قالوا فصدقوا، ونووا فأعطاهم الله أحسن ما تمنوا، فيالله كيف كانوا من جيل! ولا إله إلا الله كم بنى صلى الله عليه وسلم من صرح! وكم ترك من فئة عبدت الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وأسست كياناً خالداً في الأرض لا يمحى أبد الدهر! {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].(100/8)
تفسير قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] هنا في هذه الآية الكريمة عدة مسائل:
أولاً: أن هناك إشكالاً وهو أنه كيف يكون هذا الخطاب لبني إسرائيل وهم لا يصلون؟ وقد أجاب على ذلك بعض العلماء بأنه لعلهم أن يتوبوا وغير ذلك من الأجوبة.
والسؤال الذي أثاره الرازي وغيره كيف يأمرهم الله بالصلاة وهي لم تفرض عليهم كهيئة الصلاة هذه؟ قالوا: الصلاة تشمل الذكر والخشوع والإنابة، فيمكن أن يكون لهم صلاة مختلفة الهيئة عن صلاتنا، إذاً فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ} [البقرة:45] كيف يستعينون بالصبر ويصبرون؟
والصبر هذا من أحسن ما يوصى به المؤمن، قال الإمام أحمد: عجيب أمر الصبر تدبرته في القرآن فوجدته في أكثر من تسعين موضعاً.
سئل عمر: [[بم أدركتم هذه المنازل؟ قال: بالصبر أدركنا ما تمنينا]] والصبر لو كان رجلاً لكان جميلاً، ولو كان جبلاً لكان راسياً، ولو كان شجرة لكانت فواحة معطاة، والصَّبْر كالصِّبْر وهو دواء مر علقم يحرق، فالصبر مثله ولكنه في الأخير من أحسن ما يكون:
صابر الصبر فاستجار به الصبر فقال الصبور للصبر صبراً
ومعنى هذا الكلام، أي: الرجل العظيم صابر الصبر، وتوافق هو والصبر في منزلة حتى يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] قالوا: اصبروا على الأعمال، ثم طاولوا في الصبر ومدوا أنفاسكم واثبتوا على مكان الصبر، واتقوا الله لعلكم تفلحون.
فقال الشاعر: هذا الرجل فيه من الصبر أنه صابر الصبر (فاستجار به الصبر) أي حتى قال الصبر: أعوذ بالله منك، فاستعاذ الصبر بالله من هذا الرجل من شدته وقوته، (فقال الصبور) أي الرجل للصبر: صبراً.
وبات أبو وردي المحدث الشاعر الكبير يقول:
تسترت من دهري بظل جناحه فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام عني ما درت وأين مكاني ما عرفن مكاني
ثم يقول في قصيدة أخرى:
وبات يريني الدهر كيف اقتداره وبت أريه الصبر كيف يكون
قيل: كيف يذاق الصبر؟
قالوا: "من لم يعرف الصبر ما ذاقه".(100/9)
أنواع الصبر
والصبر على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: صبر على الطاعات، وهو أجلها وأعظمها، فإذا رأيت إنساناً -مثلاً- يتوضأ كل يوم خمس مرات، ويأتي إلى المسجد، فاعلم أنه من أحسن الصابرين، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط} فهذا أعلى درجات الصبر؛ لأن الصبر على مصيبة مثل موت الإبن تحصل في العمر مرة، قد يموت في العمر ابن واحد أو في عشر سنوات لكن الصلوات الخمس كل يوم، في البرد والحر، وفي النشاط والفتور، وفي الصحة والمرض
ثم تصابر على الصف الأول حينها تتفوق، فالصبر على الطاعات من أجملها.
القسم الثاني: صبر عن المعاصي: أن تجمح نفسك عن فعل أي ذنب وهذه في المرتبة الثانية.
القسم الثالث: صبر على المصائب، وأجمل قصص الصابرين في المصائب.(100/10)
بعض سير الصالحين في الصبر
أبو قلابة أحد العلماء يقولون: أصابه مرض في أطرافه، فقطعت أطرافه الأربعة فزاره الناس-تصور إنسان أصابه مرض حتى قطعت يداه ورجلاه وأصبحت أطرافه مقطعة- قالوا: كيف أنت؟ قال: الحمد الله الذي كفر بسيئاتي ما قدمه لي في حياتي.
وممن يشهد له في هذا الجانب عروة بن الزبير تقطع رجله من الفخذ ويموت ابنه في نفس اللحظة، فيستيقظ من إغمائه ويقول: [[اللهم لك الحمد إن كنت أخذت فقد أعطيت، وإن كنت ابتليت فقد عافيت، أعطيتني أربعة أبناء، وأخذت ابناً واحداً، وأعطيتني أربعة أعضاء وأخذت عضواً واحداً فلك الحمد]] ثم يقول:
لعمرك ما مديت كفي لريبة وما حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا ذل لي فكري ولا نظري لها ولا قادني فكري إليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة من الله إلا قد أصابت فتى قبلي
ولذلك قيل: ما هي علامة الصابر؟ قالوا: ألا يقول: أح، فالطفل إذا قرب يده من شيء حار قال: أح، حتى يقول أحد الشعراء في الصبر وهو الشريف الرضي -لكن صبره في ماذا؟! الشريف الرضي يطلب الإمارة والمنصب في الدنيا، يقول أنا صبرت حتى نلت الإمارة وهذا صبر لكنه ليس الصبر الذي نقصده، يقول:
أقسمت أن أوردها حرة وقاحة تحت غلام وقاح
إما فتى نال المنى فاشتفى أو فارساً زار الردى فاستراح
قال أحد العلماء ليس صبرك بصبر، بل الصبر:
إذا طلبت الله في كل ما أملته نلت المنى والنجاح
بهمة تذهب ماء الحصى وعزمة ما شابها قول آح
دخلوا على الإمام أحمد وهو مريض مرض الموت، إمام أهل السنة والجماعة -سلام على الإمام أحمد يوم ولد، وسلام عليه يوم أسلم، وسلام عليه يوم يموت، وسلام عليه يوم يبعث حياً- دخلوا عليه وبه من الحال ما لا يعلمه إلا الله، حتى كان يئن، أي: كان يزفر أنيناً، فقال له أحد الجلاس: سمعنا أن طاوساً كره الأنين للمريض، فما أنَّ بعدها أبداً.
ودخلوا على أبي بكر الصديق فقالوا: ماذا تشتكي؟ قال: [[عرضت أمري على الطبيب -يقصد الله عز وجل- قالوا: ماذا قال لك؟ قال لي: قال: إني فعال لما أريد]] أخذه شاعر الصوفية وقال:
كيف أشكو إلى طبيبي ما بي والذي قد أصابني من طبيبي
وهذه منازل يختارها الله لمن يشاء وأعظمها الصبر على الطاعات.
سيد قطب له كلام عجيب على هذا، يقول في كلام ما معناه: إن النفس إذا طاولها الباطل، وأتتها الشواغل والفتن، توقفت فاحتاجت إلى مدد ووقود حتى يأتيها الصبر والصلاة، واستعينوا بالصبر، وإذا انتهى الصبر فعليك بالصلاة.
جاء عند أحمد في المسند: {كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قال: أرحنا بالصلاة يا بلال} إذا اجتمع عليه أمر هم وغم قال: {أرحنا بالصلاة يا بلال} ولذلك وصيتي لمن أتت عليه هموم أو غموم أو كوارث أو مصائب أن يبدأ بالصلاة.
في ترجمة الحافظ ابن حجر صاحب الفتح، يقولون: خرج يوماً للنزهة فطوقه اللصوص من كل جانب -أراد عمراً فأراد الله خارجة - فقام يصلي ويركع ويقوم، فتبدد اللصوص عنه، فقالوا له: لماذا؟! قال: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45].
وذكر ابن كثير عن ابن عباس أنه أتاه مقتل أخيه فقام يصلي، قالوا: مالك؟ قال: يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45].
ولذلك ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه قال: {كنا في بدر فنظرت في الليل قبل المعركة بليلة -تصور أن الكفار سوف تواقفهم أنت بالسيف والسيوف بأيديهم ثم يكون قتالاً ذريعاً لا يعلمه إلا الله- قال: فنظرت فرأيت الناس كلهم نيام إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى الصباح} وهذا من باب ما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] ولذلك يقولون: أكثر الناس صبراً أكثرهم صلاة.
وانظر إلى الإمام أحمد كم كان يصلي غير الفرائض؟ قالوا: ثلاثمائة ركعة، ولذلك لما أتت الفتنة وضرب بالسياط وهدد، كان من أصبر الناس، وأقل الناس صبراً أقلهم صلاة وخشوعاً، فتراه ينهار أمام الحوادث، إذا رأى النتيجة في الامتحان وكان يحمل مادتين بكى وأبكى الناس، وإذا وطئ إنسان رجله في الحافلة أو في مكان أقام الدنيا وأقعدها، وإذا فاتته سبعة ريالات شكا على الجيران والإخوان والناس، هذا انهزام وفشل، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19 - 22].
هؤلاء المصلون يحملون طاقات هائلة من الإيمان، يقول محمد إقبال في انتصارات الصحابة:
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمراً
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا(100/11)
تفسير قوله تعالى: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)
ثم قال الله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] ففي هذه الجملة مسائل:
المسألة الأولى: ما معنى هذا الكلام المجمل؟ معناها إن الصلاة كبيرة وثقيلة وصعبة إلا على الخاشع، فهي سهلة يسهلها الله، وإن الصلاة لا يأتيها ولا يستطيع أن يداوم عليها بخشوعها وخضوعها إلا الخاشع، ولذلك أكبر الصلاة على المنافق صلاة الفجر وصلاة العشاء، حتى إذا سمع الأذان تجده يخاف ويقول: قطع علينا جلستنا، وإذا سمعوا المؤذن يقولون: سبحان الله! ما أسرع الوقت! فإذا أذن الظهر وبعده العصر قال: صلاة! صلاة! نسأل الله العافية.
ثم إذا قام يقوم ببطء كأنه يجرجر بالسلاسل، يتوضأ ثم يذهب إلى المسجد مكسوف الخاطر ويقابل رب العالمين ويقف في آخر صف وفي طرفه رجلاً تجاهه، ويتكئ على هذه مرة وعلى هذه مرة، فإذا سلم كان أول الناس خروجاً، فهو آخرهم دخولاً وأولهم خروجاً:
وإذا تكون ملمة أدعى لها وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
وهذا أحد العرب كان له أخ أكول، وكانت أمه إذا عملت الحيس دعت جندباً، قالت: تعال كل، فيأكل، ثم إذا انتهى وأبقى شيئاً قالت: يا فلان يا جندل! تعال كل، فإذا سمعوا هيجة واضطراب وقتال قالت: يا جندل أنت الأول، يعني في المعركة هذه:
وإذا تكون ملمة أدعى لها وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
ولذلك تجد أكثر الناس على الشهوات أقلهم في الطاعات، إذا أتت أول شهوة أو معصية فهو الأول، ولكنه في الطاعات متخلف متأخر.
قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45].(100/12)
حكم تارك الصلاة
والسؤال هنا: هل يستدل من الآية على كفران تارك الصلاة؟
الجواب
هذا استدلال تبعي، ولو أن هناك أدلة تثبت أن من ترك الصلاة فقد كفر، كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} وقوله صلى الله عليه وسلم وهو حديث صحيح: {بين المسلم والكافر ترك الصلاة} وقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى} فمفهوم المخالفة أن من لم يصلِّ فما عصم دمه، فإذاً هو كافر.
فقوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] أي: الذي لا يؤديها ليس من الخاشعين وإنها كبيرة عليه ما دام لم يؤدها ومن الناس من لا يصلي فهو كافر، ومنهم من يصلي لكنه يصلي مرة ويترك مرة يعني على المزاج فهذا كافر صلاة الفجر في البرد يتركها، لكن الظهر مناسبة فيصليها، وهناك قسم آخر هم أناس يصلون، لكن بفتور وكسل مع أنهم يداومون على الصلاة لكنهم يؤخرونها فهذه كبيرة من الكبائر، وهناك أناس يصلون ويخشعون.(100/13)
تفسير قوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ)
قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:45 - 46] هل الخاشعون يظنون أنهم ملاقو الله؟
الظن أليس فيه شيء من الشك؟ أي أن الظن ليس بيقين!! يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس:36] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} [يونس:66] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32] فالظن ليس بجزم فكيف يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ويمدح الخاشعين {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} [البقرة:46]؟
و
الجواب
أنه من معاني الظن: التيقن، والظن هنا بمعنى العلم واليقين، يقول دريد بن الصمة وهو شاعر جاهلي:
فقلت لهم: ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرج
يقول: قلت لقومي: انتبهوا! يأتيكم غداً ألفان من الأبطال في السراة وفي الخناجر والسلاح، قال: فما أطاعوني فيقول لذلك:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
فهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرج
وهذا شاعر أعمى القلب والبصر، مات كافراً وإلا فهو شاعر جيد، ولكن ما نفعه شعره فالمقصود أنه قال: ظنوا، أي: تيقنوا وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف:53] أي تيقنوا أنهم سوف يصلون النار التي يظنون: يعتقدون.
من الناس من يسمع بأخبار الجنة والنار، وتقول له: هذا المال حرام في الدنيا، فيقول لك: الله غفور رحيم:
خذ ما رأيت ودع شيئاً سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
اتق الله! أجرك في الآخرة وثوابك عند الله، قال: عصفور في اليد ولا عشرة على الشجرة، يعني يقول: ما ندري نموت أو نحيا، إن مت أو حييت لا بد من لقاء الله، وقد قال عز وجل سبحانه: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] وصدق الشاعر:
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حيِّ
ولكنا إذا متنا بعثنا ويسأل ربنا عن كل شيِّ
فهذا هو الخلاف بيننا وبين الصحابة، الصحابة كانوا ينظرون إلى أن الجنة قريبة منهم حتى نسب إلى علي بن أبي طالب قوله: [[والله لو كشف الله الغطاء، ورأيت الجنة والنار، ورأيت عرش الله بارزاً، ما زاد عندي على ما عندي من الإيمان ذرة]].
الصحابة يأتي أحدهم يقول: يا رسول الله! أين ألقاك يوم القيامة؟ يعني الأمر كأنه غداً، لذلك يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] قال: يا رسول الله أين ألقاك يوم القيامة؟ والناس في زحام شديد، مليارات من عهد آدم إلى آخر الساعة، أين ألقاك؟ قال عليه الصلاة والسلام: {التمسني في ثلاثة مواطن لا أغادر أحدها: عند تطاير الصحف، أو عند الميزان، أو عند الصراط}.
فالموطن الأول: عند تطاير الصحف:
يقف عليه الصلاة والسلام بنفسه وهو أرفع الناس وأعظمهم منزلة عنده؛ لأنه صادق مخلص وغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيقف ينظر إلينا نحن المساكين ماذا فعلنا؟ فيرى تطاير الصحف فيقول عليه الصلاة والسلام، بأبي وأمي هو: {اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم} ويعرف أمته، فأنت يعرفك أنك من أمته لست من أمة موسى ولا شعيب ولا صالح ولا نوح، ويعرف أنك من أمته بالوضوء، علامة الوضوء تتلألأ عليك:
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانية
قيل: {يا رسول الله! كيف تعرف من لم يأت من أمتك بعد؟ قال: أرأيت إنساناً عنده خيل بهم بها خيل بلق ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى، قال: فإن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع أن يطيل غرته فليفعل} أنت من بين الملايين، فيعرفك النبي صلى الله عليه وسلم أنك من أمته وينظر إلى تطاير صحفك ويقول: {اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم} يخاف أن يؤخذ أحد من أمته إلى الشمال، إذا أخذ أحد إلى الشمال فلا إله إلا الله:
فليت شعري يرى الأخبار قد نشرت على الصراط وكان الهول في ظلم
إلى آخر ما قاله عبد الله بن المبارك.
الموطن الثاني: عند الميزان:
إذا لم تجدني في المكان الأول فسوف تجدني عند الميزان، ميزان الحسنات والسيئات، وقد ذكرها سُبحَانَهُ وَتَعَالى حيث قال: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف:49] وقال سبحانه تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] حبة الخردل، والذرة من الحسنة والسيئة توزن، والرسول صلى الله عليه وسلم واقف يقول: {اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم} يراك وأنت توزن.
الموطن الثالث: عند الصراط:
الصراط هو آخر عبور إما هنا أو هناك وهو ينظر، والرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم بجوار بعض على حافتي الصراط، موسى بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك نوح وإبراهيم وعيسى ألوف مؤلفة من الأنبياء، حتى أنه في بعض الروايات أن الأنبياء يقاربون أربعمائة ألف، أي مثل بعض سكان الدول الآن، يقفون حول الصراط الذي هو أدق من الشعرة، وأحد من السيف، فيمر الناس وأول من يمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدم
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم
فيقف وينظر إلى الناس وهم يمرون ويقول: {اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم} وتجد التصادم والخدش على الوجوه والعياذ بالله من الخذلان والحرمان.
وورد أنه صلى الله عليه وسلم يقف على الحوض كذلك وهي من العلامات المميزة، فيأتي قوم من أمته بهم من العطش ما لا يعلمه إلا الله، يأتون أفواجاً فتأتي الملائكة معها مرازب ومعها سياط من حديد فتضرب هؤلاء، فيقول صلى الله عليه وسلم لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يا رب! أمتي أمتي، أمتي أمتي، قال: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك، فيقول: سحقاً سحقا} يعني هلاكاً هلاكاً.
أما بلَّغ؟
نشهد والله أنه بلغ الرسالة وقد وصل العذراء في خدرها من دعوته ما وصل علماء الصحابة رضوان الله عليهم، وأصبحت دعوته كالشمس فبلغت دعوته كل إنسان، ولا يعذر من بلغه شيء من دعوته إلا أن ينقذ نفسه من غضب الله ولعنته وسخطه عز وجل.(100/14)
أهمية الخشوع في الصلاة
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] هناك تساؤل أثاره أهل العلم: كيف تكون الصلاة كبيرة على الذي لا يخشع في صلاته كالفاجر، وتكون خفيفة على المؤمن، مع العلم أن المؤمن يخشع ويلاحظ سكونه في الصلاة، ويلاحظ حضور قلبه في الصلاة فيعاني مشقة عظيمة من جرائها، وأما الفاجر فقد يصلي، ولذلك تجد بعض الناس قد يصلي عشر ركعات، ولا يدري هل صلى عشراً أم لا، لكن المؤمن إذا قام يصلي ركعتين وجل وخاف، وشقت عليه من كثرة استحضاره، فكيف تكون كبيرة على ذاك، وخفيفة على هذا؟ مع العلم أن هذا يعاني مشقة، أما الفاجر لا يعاني مشقة؛ لأنه يتسلى؛ لأنه ربما إذا طول الإمام في القراءة ذهب فكره وعقله في أمور الدنيا، في أفعالها وأقوالها، وفي بيعها وشرائها.
حتى ذكروا أن تاجراً صلى وراء إمام فسلم الإمام من ثلاث، فقال التاجر: ما صليت إلا ثلاثاً، قال: لا، بل صليت أربعاً قال: لا.
والله ما صليت إلا ثلاثاً، قال: كيف علمت، قال: أنا دائماً إذا صليت أربع أبدأ معك في السفر أخرج من بوابة الظهران في الركعة الأولى، وبعدما أجتاز خريص في الركعة الثانية، وأدخل إلى الخرج في الثالثة، وما أصل الرياض إلا في الرابعة، وأنت سلمت بي وأنا في الخرج، لذلك بعض الناس تجده يبيع ويشتري أو يصمم عمارة، أول ما يضع القواعد في الركعة الأولى، ويرفع الهيكل والعظم في الثانية، والتلييس في الثالثة، والفرش والأثاث في الرابعة ثم يسلم وقد انتهى من العمارة: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] ما سمعنا بأرخص من هذا السعر إنسان يخطط ويعمر وينتهي فلا عمار ولا شيء.
كما قيل: إن أحد الحمقى رأى في المنام أن عنده تيساً، فقالوا: اعطنا تيسك بعشرة دنانير، قال: لا، بعشرين، قالوا: بعشرة، فنازلوه إلى خمسة عشر فرفض، فصحا من المنام فلم يجد لا تيساً ولا دنانير فغمض عينيه، وقال: هات الخمسة عشر! لكن هذه لا شيء، إنها أحلام الإنسان الذي يضيع أحلامه في الصلاة، ولذلك لا يسلم إلا مع الإمام مهما حاول أن يستعجل أو مهما حاول أن يفر، سوف يقيده الإمام فلا يسلم إلا معه.
فليتق الله هذا في صلاته!
والمقصود بقوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] قالوا: الكبيرة بمعنى ثقيلة على نفسه أي لا يحبها، وأما الخاشع فإنه يحب الصلاة؛ فلذلك تجد الخاشع إذا أذن المؤذن، قال: الله أكبر ثم تابعه، وتجد الخاشع ينظر إلى ساعته متى يؤذن؟
كم توقيتكم هنا؟
من مؤذنكم؟
قلبه معلق بالمساجد، فهذا من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إذا سمع الأذان ذهب إلى المسجد، أما هذا الفاجر، أدهى وأبخس فلا يسمع الأذان، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {وقلبه معلق بالمساجد} والحبيب يرتاح إلى ذكر حبيبه:
وداعٍ دعا إذ نحن بـ الخيف من منى فهيج أشواق الفؤاد ولا يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بـ ليلى طائراً كان في صدري
استشهد به ابن رجب عند ذكر الصلاة، هذا مجنون ليلى يقول: كنت أنا في منى أمشي وليلى في العراق، فسمعت إنساناً ينادي عن اسم ليلى فطير قلبي.
فالرجل المسلم إذا سمع: الله أكبر، ذكره بالله الواحد الأحد، قال سعيد بن المسيب: [[الحمد لله ما أذن المؤذن من أربعين سنة إلا وأنا في المسجد]] تصدقون أنه في عصرنا الآن بعض الناس ما يصدق أن هناك عباداً بلغوا درجة عالية ومرتفعة بسبب ما يرى من المفاسد، وكثرة ما يرى نعوذ بالله من الربا وكثرة التفلت، شيكات مصرفية، وربا فائق، وغناء ماجن، ومجلة متكدسة، ونظر طافح، وقسوة قلوب، وذنوب وخطايا حتى يظن المجتمع أنه هلك، ويقول: هلك الناس وهو أهلكهم، لا، الناس فيهم خير.
في بعض المناطق التي حدثنا عنها إلى هذا الوقت وإلى هذا الزمن، أنه يوجد عباد كبار السن في جهة نجد وقد حدثني بذلك بعض الثقات من طلبة العلم، قال: يجلسون بعد صلاة الفجر يوم الجمعة فيفتح المصحف من الفاتحة ويبدأ يقرأ ويأتي إلى سورة الناس ويختم المصحف قبل أن يدخل الخطيب بوقت بسيط.
وهناك رجل قالوا عنه: والله لو قيل له إن القيامة تقوم غداً، ما استطاع أن يزيد على عمله، عابد انصرف عن الدنيا، حتى ذكر أحد الكتاب -لا أحب أن أذكر اسمه- عن بعض العباد في ضواحي الرياض شيئاً عجيباً، تصور أن هناك شيوخاً كباراً في السن في بعض القرى يجتمعون، قد تعاهدوا وتعاقدوا على الخير والصلاح، وأن يختموا أعمارهم بخير ماذا يفعلون؟! قالوا: يصلون الفجر فإذا صلوا الفجر جلسوا في المسجد يذكرون الله حتى تطلع الشمس، ثم قاموا يصلون إلى أن يرتفع الضحى عشرات الركعات، ثم ذهبوا إلى بيوتهم فإن كانوا صائمين واصلوا وإلا أكلوا وجبة، ثم أتوا قبل صلاة الظهر يذكرون الله ويقرءون القرآن إلى أن يدخل وقت صلاة الظهر، ثم يصلون الظهر ثم يتنفلون ويعودون إلى بيوتهم في قيلولة، ثم يعودون من العصر ويقرءون إلى صلاة المغرب، ومن المغرب إلى العشاء ثم يعودون إلى العَشاء فينامون ثم يستيقظون وسط الليل، هل بقي وقت للمعصية؟! نحن لا نطالب الناس بمثل هذا لكن فاتقوا الله ما استطعتم، فإن الله علم أن الناس منهم موظفون ومهندسون وتجار ومسئولون ورعاة وبناة، فلذلك اتقوا الله ما استطعتم لكن انظر إلى البقية لعل الله أن يرحم بهم الناس.
وهناك قرية من القرى، قالوا: دخل مرض الجدري كل القرى إلا هذه القرية؛ لأنه كان فيهم رجل عابد يقوم الصباح بعد صلاة الفجر فيصلي في مسجده، ثم يطوف بالقرية ويقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، قالوا: والله الذي لا إله إلا هو ما سلمت قرية في تلك المقاطعة من الجدري ذكوراً وإناثاً وأطفالاً إلا هذه القرية، ما أصابها حبة جدري بصلاح هذا الرجل الصالح، ولذلك ورد في أحاديث أن الله يرحم أهل الحي بصلاح رجل واحد، وأن الله يضيف الناس بصلاح الصالح.
ولذلك تجد بعض الناس إذا سافر إلى أماكن يسألونه عن المدن، يقولون له: كيف وجدت الناس؟ قال: والله نعوذ بالله فجر الناس، لأنه نزل على أمثاله:
وفي السماء طيور إسمها البجع إن الطيور على أمثالها تقع
زار مثله وأمثاله الذين يتركون الصلاة، زار أهل الموسيقى والليالي الحمراء وأصحاب المجلات الخليعة، فجلس معهم فما رأى إلا هؤلاء، لكن أسأل بعض الأخيار الآن إذا سافر كيف وجدت الرياض وجدة ومكة والطائف، قال: ما شاء الله صحوة عارمة، وإقبال إلى الله، وتوبة نصوح، واستقامة ومجالس ذكر؛ لأنه زار من أمثاله وأقرانه فرأى خيراً، فلذلك ينبغي على الإنسان أن يتخذ عند الله وسيلة من العمل الصالح.(100/15)
نداء لبني إسرائيل
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة:46 - 47] وهذا نداء لبني إسرائيل: يا بني إسرائيل استحوا على وجوهكم، ويا من هم على أمثال بني إسرائيل فالخطاب عام قال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47] في الآية قضايا منها النداء، وكانوا إذا أرادوا أن يهيجوا الرجل قالوا: يابن فلان، يابن المكارم.
يا أبا المجد يا بن ماء السماء يا سليل النجوم في الظلماء
طاغية من الطغاة حبس سبعين قاضياً اتهمهم أنهم يريدون قتله في ناحية من النواحي، فحبسهم وحلف أن يقتلهم جميعاً يوم الجمعة، فلما بقي ليوم الجمعة أربعة أيام ذهب هؤلاء القضاة، فأرسلوا رسائل إلى عالم من العلماء ولا بأس بهذا العالم، عالم جليل، فركب بغلته ونظم قصيدته إلى هذا الملك، ودخل على هذا السلطان المتجبر فقال له:
يا أبا المجد يابن ماء السماء يا سليل النجوم في الظلماء
فأجرني كـ المطعم بن عدي حين قال النبي في الإسراء
فقال السلطان: لقد أطلقتهم لك وعفوت عنهم.
لماذا؟! لأنه يمدحه يقول له: أنت ابن فلان أنت ابن الأخيار، فلذلك ينبغي للمسلم أن تكون هذه الكلمات في الدعوة على لسانه، يا فلان، يابن الأسرة الجليلة، يابن العابد، يابن الخاشع تفعل بنفسك هذا، أمَّا أن تقول: يا فاجر يا ابن الفاجر لماذا لم تصل؟! سوف يترك الصلاة ثم يكفر والعياذ بالله، هذا ليس بأسلوب قال الله لموسى ولهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] قالوا: كنياه يا أبا مرة مرر الله وجهه في النار.
المقصود قال: يا بني إسرائيل يعني: يا بني الرجل الصالح يعقوب عليه السلام، واسمه إسرائيل: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47] اذكروا نعمتي ليس ذكر اللسان، بعض الناس يقول: أنعم الله علينا بنعم ظاهرة وباطنة، فلله الحمد، لكن أعماله مخالفة وهذا ليس من الشكر وشكر النعم يكون بثلاث:
الأولى: باللسان: أن تعلنها في الناس قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11].
الثانية: بالجنَاَن: تعلم أنها من عند الله عز وجل.
الثالثة: بالفعل: تجعلها في مرضاة الله عز وجل وتعطي منها في سبيله تبارك وتعالى.(100/16)
تفسير قوله تعالى: (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)
وأني فضلتكم على العالمين قيل (في العالمين) هنا مسائل:
قيل: فضلهم على عالم زمانهم وهو الصحيح.
وقيل: فضلهم ببعض الأمور على العالم كله، وهذا رأي ضعيف، لكن الصحيح على عالم زمانهم، يقال للعالم عالم وقته، وزاهد عصره، والعالم أو شيخ الإسلام في عهده فهذا في عالم زمانه، أما هم فليسوا أفضل من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، لا والله لا نقولها تعصباً ولكن الله أخبر بهذا الأمر حيث قال عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] إذاً في عالم زمانهم كانوا سادة، ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على لسان موسى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ} [المائدة:20] حيث كان لديهم أنبياء كثر.(100/17)
تفسير قوله تعالى: (اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ)
كان يوجد في الوقت الواحد في بني إسرائيل عدد كبير من الأنبياء والملوك، وكانت هناك أسر كاملة هي ملوك، ولكن ما رضوا، وما استحقوا خلافة الله فسلبهم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:47] النعمة في القرآن أطلقت في القرآن نِعمة ونَعمة، بفتح النون وكسرها قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل:11].
والسؤال هنا: ما الفرق بين النِّعمة والنَّعمة؟
الجواب
النَّعمة بفتح النون معناها: ما نتعيش به في الحياة، نعمة الدواب والحمير والسيارات وغيرها، فهذه نعمة ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} [المزمل:11].
والنِّعمة قالوا: ما استفاد بها العبد في مرضاة الله تبارك وتعالى، فالنَّعْمة: نعمة المعايش، ومن قال: الكفار في نعمة، ولكن المسلمين في نِعْمة من الله، فهذا كلام صحيح فهم تقووا بالنعمة في مرضاته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أما بعض النعيم فليس بنعيم فقد يظن بعض الناس أنها نعم.
يقول أبو تمام:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
بعض الناس يظن أنها نعمة عليه وهي لعنة والعياذ بالله، فبعضهم يستدرجه الله بزيادة المال، وبعضهم بكثرة الولد، وبعضهم بالمنصب حتى يرديه والعياذ بالله.
لكن النِّعمة: هي ما أوصلتك إلى رضوان الله تبارك وتعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:47] لأن النعمة من عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم قال: {أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:47] ليختصهم من بين الناس، (وأني فضلتكم على العالمين) ولكن لما لم يقوموا بهذا الفضل، ولم يقوموا بالخلافة؛ مسخهم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولعنهم وجعلهم شر طائفة أخرجت للناس، ولذلك لا تجد في العالم أشر من اليهود، وإذا وجدت يهودياً ووجدت بقعة فابسط على اليهودي ولا تبسط على الأرض.
اليهود هم الذين يدبرون الخيانات والعمليات اللعينة والجرائم والفواحش والسيئات في كل شبر من الأرض:
تلك العصا من هذه العصية لا تلد الحية إلا حية
قوم غضب الله عليهم، كيف نثق بهم؟! قوم لعنهم الله، كيف نرضى عنهم؟! قوم قطع الله الحبل بينه وبينهم، كيف نصل حبالنا بهم؟! هذا أمر لا بد أن يعرف، وسوف يمر معنا أخبار كثيرة عن اليهود.
قال الله تعالى: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64].(100/18)
الأسئلة(100/19)
حال حديث: (إن الله إذا غضب على عبد أعطاه مالاً)
السؤال
ما مدى صحة حديث: {إن الله إذا غضب على عبد أعطاه مالاً، فإذا زاد الله عليه الغضب أمد له} أو كما قال عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
هذا الحديث لا يصح من كلامه عليه الصلاة والسلام، فليس زيادة المال أو إعطاء المال علامة الغضب أو الرضا، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] ففيهم من إذا أعطي مالاً طغى، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:15 - 16] يقول: من الناس من إذا أعطاه الله رزقاً ومالاً، قال: ربي أكرمني لمنزلتي عند الله، وهذا ليس بصحيح قد يكون فاجراً، ومنهم من إذا ابتلاه الله وقلل رزقه عليه وأفقره، قال: لحطتي عند الله وعدم قيمتي عنده، وهذا ليس بصحيح قد يكون ولياً من أولياء الله عز وجل.(100/20)
حكم قضاء الصلاة الفائتة
السؤال
من فاتته الصلاة، فنسيها ثم تذكر هل يصليها مع الصلاة التي هو فيها، أم يصليها مع الصلاة التي تماثلها، يعني نسي الظهر هل يصليها إذا تذكرها في أي وقت أم يتركها ويقضيها وقت الظهر في اليوم التالي؟
الجواب
الصحيح أن يصليها متى ذكرها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي قتادة: {من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها} ولو في وقت النهي، أو وسط الليل، أي وقت يصليها متى ذكرها، ولا تنتظر إلى نفس الوقت الذي تركت فيه الصلاة.(100/21)
السفر لحضور المحاضرات هل هو من شد الرحل المنهي عنه؟
السؤال
إني وفقت لهذا الدرس، وأتيت من مكان بعيد، من وراء ستين كيلو متراً عن أبها، فهل هذا يدخل في شد الرحال الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
أولاً: شكر الله لك مجيئك وسوف تجده في ميزان حسناتك، لكن احتسبه عند الله، واعلم أنك حصلت على أمور وهي:
أولاً: لعلك سمعت كلمة ينفعك الله بها ما دامت السماوات والأرض.
ثانياً: لعل الله عز وجل نظر إليك في هذا الحشد المكرم؛ فقال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم، لأن الملائكة يقولون: {يا رب كيف تغفر لفلان وليس منهم، وإنما أتى هكذا، يقول الله: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم، أشهدكم أني غفرت لهم}.
ثالثاً: لعلك أدركت رحمة تنزلت من السماء في هذه الجلسة، فإن من أعظم الجلسات عند الواحد الأحد جلوس الذكر، فإن هذا المجلس من أعظم ما يباهي الله به ملائكته في السماء.
رابعاً: ثم لعل رحمة الله أدركتك والسكينة وقعت عليك.
أما شد الرحال فلا، بل أنت مأجور ومسافر لطلب الخير، ومقصود الحديث: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد} المقصود من المساجد أو من الأماكن التي قد يذهب إليها للعبادة، أما زيارة الصالحين فواردة، والرحلة في طلب العلم واردة بل مندوبة، بل قد تجب إذا لم يتعلم الإنسان ما يلزمه، قال البخاري في الصحيح: باب السفر في طلب العلم، وسافر موسى عليه السلام في طلب العلم وقال: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} [الكهف:62] فستين كيلو متراً أتيتها وأنت مرتاح في سيارتك ما تعادل نصب الصحابة، سافر جابر شهراً كاملاً إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد، فكيف أن تأتي من مسافة خمسمائة كيلو متر أو مثلها أو أمثالها، لا أنت أكثر أجراً ممن كان قريباً من المسجد، وكل بحسب نيته، فأثابك الله في هذا.(100/22)
الكلب يلهث دائماً
السؤال
لماذا الكلب يلهث سواء حملت عليها أم لا؟
الجواب
أن الكلب يلهث سواء حمل عليه أم لا، لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى خلقه هكذا، الكلب من علاماته أنك إذا أدخلته في الظل مد لسانه ولهث، فإذا أخرجته في الشمس مد لسانه ولهث، ليس هناك فائدة سواء ظللته أم لا، فالله وصف العالم الذي ما استفاد بعلمه كالكلب جاهل مخطئ، وعالم مخطئ، إذاً ما الذي يصلحه؟
مثل الكلب إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث، وهذه من أسرار الله في خلقه في الحيوانات، فإن في الحيوانات أسراراً عجيبة لا يعلمها إلا الله.
أثبت الطب أن الكلب عنده حاسة شم يدرك بها الصديق من العدو، ولذلك تجده في البيت من وراء مسافة طويلة يعرف أن سيده أو ابن سيده أو صاحب البيت أقبل فلا ينبحه، ولكن يعرف أن الرجل أجنبي فيقوم بالنباح من قبل مسافات، هذا من الأسرار، إذا أتى الطب وجاء بشيء حقيقي قلنا على العين والرأس، وإذا خالف الطب القرآن وضعنا الطب تحت أقدامنا ودسناه بأرجلنا؛ لأن القرآن قواعد ثابتة وكذلك الحديث، فما دام أن مثل هذه الإشراقات ظهرت فالحمد لله، هذه فائدة نستفيد منها مثل الذباب يقال: يغمس جناحه فإن فيه دواء وفي الآخر داء، ثبت في الطب أن عنده إفرازات، إذا أفرز الدواء على الداء ذهب الداء بإذن الله عز وجل.(100/23)
حكم ترك ما يعتاد عليه الإنسان من نوافل
السؤال
تعودت أن أصوم من شهر شعبان ثلاثة أيام من كل سنة؟ فهل علي إثم إذا تركت هذه السنة؟
الجواب
ليس عليك إثم، أنت متطوع أمير نفسك، لك أن تصوم ولك أن تفطر، فإذا تنشطت فأكثر من الصيام، وإذا كسلت فلا إثم عليك، فاتقوا الله ما استطعتم، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.(100/24)
أحب الأسماء إلى الله
السؤال
ما أفضل الأسماء عند الله ورسوله؟
الجواب
أحب الأسماء في الحديث الصحيح (عبد الله) و (عبد الرحمن) أما حديث: {أفضل الأسماء ما عبد وحمد} فلا يصح فهو موضوع، لكن هناك الحديث الصحيح: {أحب الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها همام وحارث} والعرب تكثر من التسمي بـ همام وحارث، فهمام بنيته فالعبد دائماً يهم، وحارث: يزاول بيده، فالعرب كانت تختار الأسماء القوية مثل: صخر.
يقول: كنا علاقم في فم الأعداء، ومر في حلوقهم، لما كانت أسماؤنا علقم ومرة، وكنا صخوراً وجنادب، لما كانت أسماؤنا صخراً وجندباً، فأصبحنا ذلالاً لما أصبحت أسماؤنا دلالاً، ولذلك العرب لا تريد أسماء إلا مثل: صخر، مرة، حرب، حمزة، طلحة، حنظلة، دائماً أسماؤهم قوية، أما دلال، ودعد، ودعد اسم امرأة لكنه قد يطلق في بعض الأحيان على رجل فهذه الأسماء ترخي العزائم.(100/25)
فضل صيام أيام البيض
السؤال
الرجاء التنبيه على صيام الثلاثة الأيام البيض؟
الجواب
يقول أبو هريرة في الصحاح أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن حتى أموت: {صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام، وركعتي الضحى} وثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، وهي صيام رسولنا عليه الصلاة والسلام وإبراهيم عليه السلام.(100/26)
عودة من ترك الصلاة لمدة ثلاثة أشهر
السؤال
رجل كان يصلي فترك الصلاة لمدة ثلاثة أشهر ثم تاب، فهل يقضي الصلوات التي فاتته خلال مدة الشهور الثلاثة؟
الجواب
الصحيح أن يتوب إلى الله ويعود إلى الإسلام، ولا يقضي ما فات، لأنه كان في تلك الفترة كافراً.
فإنه لا يطالب بالصلاة في حالة كفره بل يتوب إلى الله.(100/27)
من صلى وهو جنب ناسياً
السؤال
رجل صلى الفجر وكان في الليل قد احتلم، فما تذكر أنه احتلم إلا بعد صلاة الفجر بثلاث ساعات، فهل يغتسل ويعيد الصلاة؟
الجواب
نعم يغتسل ويعيد الصلاة إذا رأى البلل، أما إذا احتلم وما رأى بللاً في ثيابه ولا شيئاً فلا غسل عليه، ولا إعادة.(100/28)
حال حديث: (اسأل عن دينك حتى يقال: إنك مجنون)
السؤال
ما معنى حديث: {اسأل عن دينك حتى يقال: إنك مجنون}؟
الجواب
هذا لا يصح بهذا اللفظ لكن في حديث فيه كلام {اذكر الله حتى يقال إنك مجنون} وبعض العلماء صحح هذا الحديث أو حسنه لكن {اسألوا عن دينكم حتى يقال مجنون} هذا من الأمثال في الحث على الإكثار من السؤال في الدين حتى تكون على بصيرة حتى يقولون خبل الرجل من يسألنا في كل مسألة هذا مثل ولكن لا يصح كلام المعصوم عليه الصلاة والسلام.(100/29)
شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته
السؤال
هل ينفع النبي صلى الله عليه وسلم أمته؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم له الشفاعة الكبرى، وله المقام الأعظم حين يسجد تحت العرش وكل الأمم راضخون في الموقف -نسأل الله العافية- وذلك حين تدنو الشمس منهم، ويشتد الكرب، ويضيق بهم الحال حتى يقولون: من يشفع لنا، حتى تصل النوبة إلى محمد عليه الصلاة والسلام:
واستشفع الناس بأهل العزم في إراحة العباد من ذا الموقف
وليس فيهم من رسول نالها حتى يقول المصطفى أنا لها
فهو يشرف على أمته وله الشفاعة العظمى ولا يمنع أثناء جلوسه أن ينادي الله عز وجل، أتدري من أول من يكسى كما في الحديث الصحيح؟! هو إبراهيم عليه السلام.
شرفه الله بالكسوة؛ لأن الناس كلهم عراة فأول من يكسى إبراهيم.
من أول من يستفيق من الصعقة ولا يدري هل صعق أم لا؟! إنه موسى عليه السلام، يقول عليه الصلاة والسلام: {يستفيق الناس وأكون أول من يستفيق فأجد موسى باطشاً بالعرش أي ماسكاً به، فلا أدري هل كفاه الله الصعقة في الدنيا أم أفاق قبلي} ولذلك يقول: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف:143] هذه ميزات لبعض الأنبياء.(100/30)
حقيقة عري الناس يوم القيامة
السؤال
إن أول من يكسى إبراهيم عليه السلام هل كانوا عراة ثم يكسون؟
الجواب
من مفهوم هذا الحديث أنهم كانوا عراة فيكسون، فإن أول من يكسى هو إبراهيم عليه السلام وذلك عند دخول الجنة، ولو أن رسولنا صلى الله عليه وسلم أفضل بلا شك ثم إبراهيم.(100/31)
ثبوت صفة الغضب لله سبحانه وتعالى
السؤال
ما مدى صحة غضب الله سبحانه في المحشر قبل الشفاعة في الفصل؟
الجواب
ثبت في الصحيحين أن ربنا تعالى يغضب غضباً لم يغضبه من قبل، فيستدرك كل إنسان عن الغضب حتى الأنبياء يقولون: نفسي نفسي قد غضب الله غضباً لم يغضب مثله لا قبله ولا بعده، حتى يأتي رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فيخر تحت العرش ساجداً، ثم يثني على الله بمحامد ما كان يعرفها فينزلها الله عليه، فيقول: ارفع رأسك وسل تعط، فأول شفاعة هي في الفصل بين العباد، فيتنزل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ويفصل بين الناس، وهذا هو اليوم الحق: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً * وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه:102 - 107].
نسأل الله تعالى أن يسهل علينا وعليكم ذاك اليوم، وأن يتولانا وإياكم يوم تزل الأقدام، وأن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(100/32)
وفي أنفسكم أفلا تبصرون
تطرق الشيخ في هذه المادة إلى آخر الاكتشافات التي تدل على بديع صنع الله؛ كتقسيم العقل البشري إلى أربعة أقسام، وأشار إلى تأثر بعض أهل العلم من النصارى بهذه الاكتشافات وإسلامهم، وبيّن الشيخ أن الكفار يعلمون أن القوة العظمى هي قوة الله، ولكن كفروا بها واستيقنتها أنفسهم.
ثم تطرق في الخطبة الثانية إلى فوائد معرفة آيات الله سبحانه وتعالى.(101/1)
عظمة الله وبديع صنعه
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله وسلم عليه ما تضوع مسك وفاح، وما ترنم حمام ولاح، وما شدى بلبلٌ وصاح، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المسلمون: إن آيات الله في كتاب الكون ظاهرة، والله يتجلى في عصر العلم، ويحدثنا عن نفسه بآياته؛ بالليل والنهار، وبالسماء والأرض، وبالماء، والضياء، وبالأشجار، والأنهار، والأزهار، فهل قرأنا كتاب الكون؟ هل تدبرنا وتفكرنا في آيات الله؟!!
وكتابي الفضاء أقرأ فيه سوراً ما قرأتها في كتابي
قبل زمن قصير أتى رجل من الصالحين بورقة نخلة إلى عالم من العلماء -لا زال حياً يرزق إلى اليوم- مكتوبٌ عليها -بقدرة الله-: الله، ورقة النخل بنفسها كتبت، والله أملاها، وسخرها لتكتب على ظهرها: الله، وعلى بطنها مكتوبٌ: الله، بالخط العربي الكوفي الجميل، فقُطفت من غصنها، وأُتي بها إلى هذا العالِم، وعرضها على الجماهير؛ فرأوا اسم الله على ظهرها وبطنها، وهي تقول بلسان حالها: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88].
انظر لتلك الشجرة ذات الغصون النضره
من شادها من بذرة حتى استقامت شجره
انظر إلى النحلة في بستانها منقعره
من الذي علمها مصَّ رحيق الثمره
انظر إلى الليل غفا من هزه وأظهره
انظر للوح الكون مَنْ ذا زانه وسطّره
انظر إلى الأموات مَنْ يحييهمُ من مقبره
ذاك هو الله الذي أنعمه منهمره
ذو حكمة بالغة وقدرة مقتدره
فلا إله غيره سبحانه ما أقدره
نشرت جريدة الشرق الأوسط صباح هذا اليوم آخر اكتشاف علمي وصل إليه العالم، اكتشفوا قدرة الواحد الأحد، وأن لا إله إلا الله، وأن لا مدبر، ولا صانع، ولا حكيم، ولا منفذ إلا الله الواحد الأحد: فما لهم لا يؤمنون؟!(101/2)
العقل البشري يتكون من أربعة أقسام
كتب بحث: أن علماء أمريكان توصلوا إلى علم دقيق في آخر علومهم؛ هذا العلم يتحدث عن الدماغ الذي خلقه الله في رأس الإنسان، واكتشفوا أنه يتكون من أربعة أقسام، أو أربع غرف:
أما القسم الأعلى الأيمن: فهو مكانٌ للتفكير؛ خصصه الله وأوجده ليفكر به الإنسان، فهو قسم خاص مكون من خلايا تأخذ المعلومة فتهضمها، وتتأملها، وتتفكر فيها، وتدرسها دراسة مستفيضة، وقد سموا هذا القسم بقسم الدراسة.
وأما القسم الأعلى الأيسر: فهو قسم النطق والكلام؛ وهذا القسم عبارة عن غرفةٌ من الخلايا تجمع كلام الإنسان، وماذا يريد أن يتحدث به، وترتب كلامه، وحروفه، حتى ينطق بما يريد التكلم به، فإذا أراد أن يقول: محمداً فلا يقول: علياً، وإذا أراد أن يقول: (ب) فلا يقول: (ر) وهذا دليلٌ على ألوهية وقدرة الواحد الأحد.
أما القسم الأسفل الأيمن: فهو قسم خاصٌ بعواطف الإنسان، وأمزجته؛ من حبٍ، وبغضٍ، وسخطٍ، وانشراحٍ، وميلٍ، فإذا أحب الإنسان شيئاً انطلق هذا الجهاز يسلط حبه على هذا الشيء، وإذا أبغض شيئاً انطلق هذا الجهاز يرسم له بغض هذا الشيء.
وأما القسم الأسفل الأيسر: فهو قسم التحكم، قالوا: وهو جهازٌ إداريٌ عصبي، يتحكم في المعلومات، والحروف، والنطق.
وقالوا: فإذا اختلَّ جهاز التفكير؛ اضطرب الإنسان فأصبح مجنوناً، أو معتوهاً.
وإذا اختلَّ جهاز النطق القسم الأعلى الأيسر؛ أصبح الإنسان ثرثاراً لا يتحكم في كلامه.
وإذا اختلَّ جهاز العواطف الجانب الأيمن الأسفل؛ فمعنى ذلك: أن يصبح الإنسان إما قاسياً بارداً، وإما ملتهباً حاراً، والمتوسط من توسط مزاجه.
وإذا اختلَّ جهاز التحكم الأيسر الأسفل؛ فمعنى ذلك: أن الإنسان ينهار فلا يتحكم في طاقته، ويصاب بشلل.
حينها عرضوها للعالم؛ ليشهدوا على أنفسهم بالكفر، ويشهدوا بأن لا إله إلا الله، فأسلم بعضهم بمثل هذه النظريات وكفر بعضهم.
ونحن نقول لأنفسنا: أما نزل علينا قرآنٌ يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191].(101/3)
آيات الله تدل عليه
من هو الذي يتفكر ويتدبر؟!! ومن الذي يقرأ كتاب الكون؟!!
أهو المغني والمطرب، أو المزمر والضائع، أو صاحب المخدرات، أو عبد الأغنيات؟ لا.
بل هو الذي يذكر الله قائماً وقاعداً وعلى جنبه؛ هو الذي يقرأ كتاب الكون، ويتأمل في أسرار الحياة:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وأنا أنقل كلام الغرب:
والحق ما شهدت به الأعداء
والحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنَّى وجدها.
وأنقل من كلامهم مسألتين:
المسألة الأولى: كلام ربنا، وكلام رسولنا معروف لديكم.
المسألة الثانية: لنقول: اسمع إلى المجرم والخواجة، فإن الله يشهد على هذا الصنف أنه يؤمن بباطنه ويكفر بظاهره؛ فإن فرعون يعلم أنْ لا صانع، ولا مدبر، ولا رازق إلا الله، ولكن كفر بلسانه، قال موسى له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102].
يقول الأمريكي، الكاتب اللماع، الذي أسلم، صاحب كتاب الإنسان لا يقوم وحده: تأملت النحلة كيف تذهب آلاف الأميال عن خليتها ثم تعود من وراء البحار والقفار فلا تغلط وتدخل في خلية غير خليتها؛ من الذي دلها وعلمها؟!! وكان يعتقد أن لديها هوائياً أو جهازاً إخبارياً يطلق ذبذبات، فقال له علماء الإسلام: لا.
ما عندها جهاز إخباري ولا هوائي ولكن الله يقول: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل:68] وأوحى أي: ألهم.
فنطق هذا الأمريكي وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:68 - 69] فما لهم لا يؤمنون!! ما لهم لا يسلمون!! أفلا يصلون!!، ويتجهون إلى الله!! وهذه هي قاصمة الظهر، وإذا أصبح من المسلمين من اشتغل بالكمنجة، والكوبة، والعود، والبلوت، والسيجارة، والأغنية، والخمر، والمرأة، وأعرض عن الله؛ فهذه هي قاصمةٌ أخرى، وهذه مصيبةٌ دهياء، وصالعةٌ صلعاء.
فيا مسلمون! الكفار والمخترعون اليوم أقبلوا يؤمنون ويدخلون في هذا الدين، وفي المقابل أخذ بعض شبابنا ينسحب من هذا الدين، فسبحان الله! ثمانية عشر رجلاً من الأمريكان ألفوا كتاب الله يتجلى في عصر العلم وكلٌ أتى بحقيقة تثبت وجود الله وعظمته وكبرياءه.(101/4)
قوة الله هي العظمى
سفينة تضررت بعدما أبحرت في المحيط الأطلنطي، فأصبح أهلها في ظلام الليل واليم، وفي شباك الموت، وفجأة انقطع الجهاز المرسل -الهوائي- عن السفينة المبحرة الأخرى التي أتت لإسعافهم؛ فانقطعوا من البر، والبحر، والجو، والجبال، والوهاج، وانقطعوا من كل شيء، ولم يبق إلا إرسال الله.
يقول راوي القصة وهو أمريكي، كان معهم وهو مكتشف ومخترع وذكيٌ من أذكياء العالم قال: فلما أبحرنا أظلمت بنا الدنيا، فحاولنا الاتصال فأخفقنا وفشلنا، فانقطع اتصال الهوائي، وفي الأخير اتصلت قلوبنا بالله؛ يقول الله عن كفار قريش، وعن كل مشرك: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] إذا هاجت الريح، وتلاعبت بالسفينة الأمواج، وانقطعت اتصالاتهم بالناس اتصلوا بالله، وهذا كفعل يونس بن متى عليه السلام؛ عندما انقطع البشر عنه، وانقطع اتصاله بالناس، وأصبح في ظلماتٍ ثلاث: ظلمة اليم، وظلمة الحوت، وظلمة الليل، فقال في الظلمات: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فأنجاه الله.
قال الأمريكي: فأخذنا ننادي -يعني: بلغتهم- الله الله! يعني: انتهت كل الاتصالات فلم يبق أمامهم إلا الله، وانتهت قوى الأرض العظمى ولم يبق إلا الله؛ فنجاهم الله إلى البر، وفي الأخير أعلنوا إسلامهم، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وآخر النظريات التي اكتشفها سوخاروف، وهو عالم روسي في موسكو: اكتشف أن للنبات ذبذبات يطلقها على النبات الآخر وللحشرات، وهذا دليل على قوة عظمى ليست بقوة بشر، قلنا له: يا ملحد! إنها قوة رب البشر، لا إله إلا الله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20] سبحان الله! كيف أعطى دواب وحيوانات القطبين جلوداً من فراء، وأعطى حيوانات الصحراء أربع أرجل، وأعطى الطير في السماء أجنحة، وأعطى السمك في الماء مجاديف، فما أحكمه! وما أعظمه! وما أقدره! وهذا الشعور ينبغي أن يتحول إلى إيمان لا إلى مجرد علم فحسب، فلا يكفي إن لم يتحول إلى عمل، وقد قال الله عن أهل الكفر: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(101/5)
معرفة آيات الله
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيها المسلمون! أرسل الله محمداً عليه الصلاة والسلام، فقال له: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] وفي أول تكليم مع موسى من الله قال له: يا موسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه:14].
وهذه النصوص والأحداث التي تحدثنا عنها، إذا لم يستفد الإنسان منها أموراً فلا فائدة له منها، وتخزين العلم في الذهن دون خشية الله والإيمان به، والعمل على مرضاته، إنما يكتب عليك حجة تلقى بها الله، وتَقذِفُ العبيدَ في النار.
والذي نستفيده من هذه الأصول، والأسس، والآيات البينات في الكون، والاكتشافات العلمية ثلاث فوائد:
أولاً: مطالعة أسماء الله وصفاته في الكون؛ فهو حكيم، ومدبر، وخالق، ورازق: أحسن كل شيء خلقه، فلا تجد في خلقه تفاوتاً، صنع الله الذي أتقن كل شيء، أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
فكل شيء يدلك على الله، انظر إلى جسمك، وحركاتك، وكلماتك، وانظر إلى اندفاعاتك، ومشاعرك، وخواطرك، أنت عالم من العوالم، أنت كونٌ وفيك اختفى الكون الأكبر، فلماذا لا تتفكر في نفسك ومن خلقك؟!! لتكون عبداً لله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].
فأول ما نستفيده: مطالعة أسماء الله وصفاته في الكون؛ فإذا رأيت الزهرة الحمراء فقل لي: من صبغها ولونها؟! من جملها وبهاها؟! من كساها وحلاها؟! إنه الله لا إله إلا هو، ومن جعلها بألوان مختلفة وهي متقاربة؟! إنه الله: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} [الرعد:4] وهذا يُخرِجُ ثمرةً غير هذا، والماء واحد، ولهذه عمرٌ، ولهذه حياة، ولهذا لون، فلا إله إلا الله ما أعظم الله!.
ثانياً: أن يتحول هذا الشعور، وهذا الإدراك، والفهم إلى إيمان.
ماذا ينفعك أن تعرف أن الذي خلق الزهرة هو الله وأنت لا تصلي، ولا تزكي، ولا تسبح، ولا تذكر الله؟ إن المجرم الخواجة المخترع يعرف أن هذا صنع الله لكنه لم يؤمن بالله، ولا ينفع التفكر إن لم يتحول إلى إيمان، إقامة لصلاة الفجر في جماعة، وإلى استقامة في البيت.
كلما حاولت أن تخلو بمعصية نظرت إلى السماء، والأرض، والجبال؛ فراقبت الذي خلقها، وأبدعها، وصورها:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعيةٌ إلى الطغيانِ
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
مراقبة وإيمان، وخشية وخشوع، وهذا الأصل من دراسة هذه الكائنات.
ثالثاً: أن تذكر الله في آياته.
حين تركب سيارتك وتنظر إلى كتاب الكون الذي عرضه الله لك، وأشهدك على آياته، فتنظر إلى الشجرة فتقول: سبحان الله! وإلى الجبل فتقول: سبحان الله! وتنظر إلى الماء، والضياء، والسماء، والأرض، والجبال، فتقول: سبحان الله!
نزل القرآن على محمد عليه الصلاة والسلام، فكان أول خطاب له: (اقرأ) وهو أمي، عاش عمره في البادية، لم يقرأ ولم يكتب ولم ينظم حرفاً، ولم يسطر مقالة، ولم يخطب خطبة، ولم يدرس كتاباً، ولم يطالع صحيفة، ولم يعرف خطاً ولا حرفاً واحداً: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] لكنه عليه الصلاة والسلام كان يخرج إلى غار حراء فيخرج رأسه من الغار ليقرأ في صحيفة الكون؛ في النجوم الساطعة، والشمس الطالعة، وفي الماء النمير، والجدول والغدير، وفي الأنهار، والأشجار، فيقول الله له: (اقرأ) قال أهل العلم: اقرأ في الكون، وقرأ عليه الصلاة والسلام، وعرف بإذن الله الذي علمه، وأنتج أمةً تعبد الله ولا تشرك به شيئاً.
فذكر الله في آياته ألا يكون أحدنا إمّعة، ولا يكن أحدنا بليداً يعيش بشخصية الغافل المعرض، الذي يخرج إلى الحدائق فينظر إلى تهييء البشر وتجهيزهم وينسى صنع رب البشر، وينظر إلى الكون ولكن لا يتدبر ولا يعقل، ويصف الحدائق وصفاً ساذجاً بليداً غبياً.
يا مسلم! الكون أمامك يدلك على الله، فقل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، تزود بالإيمان، واستقرئ معالم الكون، وحاول أن تذكر الله صباح مساء، وعش مع آيات الواحد الأحد: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191].
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على نبيك وخليلك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه.
اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور، واهدنا سبل السلام، ووفقنا لكل خير.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً.
اللهم أصلح شباب المسلمين، ووفقهم، وارض عنهم.
اللهم كفر عنهم سيئاتهم، وأصلح بالهم، واهدهم سبل السلام يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(101/6)
ذكر الموت والتوسل بالقبور
قال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) فيجب على المسلمين أن يعملوا بوصية نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ويكثروا من ذكر الموت وما بعده، فإن ما بعد الموت أشياء عظيمة، وأموراً جسيمة، والقبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران، فيجب على المسلم أن يتزود بالطاعات والأعمال الصالحة لكي تكون له نوراً في قبره، وأن يكثر من ذكر لا إله إلا الله قبل أن يحال بينه وبينها، وأكثر شيء يحتاجه الميت في قبره هو الدعاء.
والمقصود من زيارة القبور تذكر الآخرة من أجل الاستعداد لها بالأعمال الصالحة وليس ما يفعله بعض الجهلة الذين يذهبون إلى القبور للتبرك بها والذبح لها، والدعاء عندها.(102/1)
ذكر الموت
الحمد لله القائل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:99 - 104].
والصلاة والسلام على رسول الله القائل: {القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار} وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، شهادة أدخرها وإياكم إلى يوم العرض على الله، ندخرها إلى يوم الفتنة في القبور، يوم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:(102/2)
كفى بالموت واعظاً
أيها الناس! ألا ترون أنكم تشيّعون كل يوم غادياً ورائحاً إلى الله، قد ترك الأحباب، وفارق الأصحاب، ووسد التراب.
غنياً عما ترك، فقيراً إلى ما قدم انتهى أمله وأجله وعمله، وتبعه أهله وماله وعمله، فعاد أهله وماله وبقي معه عمله.
وسد التراب، وفارق الأحبة والجيران، وهجره الأصحاب والإخوان ما كأنه فرح مع من فرح، ولا كأنه ضحك مع من ضحك، ولا كأنه ارتاح مع من ارتاح فلما وسد تلك الحفرة أتى يبحث عن عمله، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].(102/3)
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للأموات
كان عليه الصلاة والسلام أرحم ما يكون بالميت من المسلمين إذا مات، وأشفق ما يكون بالميت من المؤمنين إذا مات؛ لأن الميت أحوج الناس إلى الدعاء والترحم.
يقول عوف بن مالك رضي الله عنه: {صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة رجل من الأنصار، فلما صففنا خلفه تخطيت الصفوف حتى وقفت بجانبه وهو يصلي على الجنازة، فسمعته صلى الله عليه وسلم يبكي وهو يقول: اللهم اغفرله، اللهم اعف عنه، اللهم ارحمه، اللهم أكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس قال عوف: فوالله لوددت أني أنا الميت من حسن دعائه صلى الله عليه وسلم}.
بل كان عليه الصلاة والسلام يذهب في الليل البهيم والظلام الدامس فيقف على مقبرة بقيع الغرقد في المدينة، فيبكي بكاءً طويلاً، ويدعو دعاءً طويلاً؛ لأنهم أحوج ما يكونون إلى الدعاء، وأحوج ما يكونون إلى الترحم؛ ولأنهم كما قال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54].
كان ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه إذا قرأ قوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54] يبكي رضي الله عنه وأرضاه حتى يكاد يغمى عليه، ثم يقول: [[اللهم لا تحل بيني وبين ما أشتهي.
قيل له: ماذا تشتهي؟ قال: أشتهي أن أقول لا إله إلا الله، فيحال بيني وبين لا إله إلا الله]] وأهل القبور حيل بينهم -والله- وبين لا إله إلا الله، فلا يستطيعون أن يقولوها.
فهل سمعتم بميت يصلي في قبره؟
وهل سمعتم بميت يصوم في قبره؟
وهل سمعتم بميت يذكر الله في قبره؟
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ:54] كما فعل بأشياعهم من المجرمين، وأضرابهم من المنافقين، وأشباههم من الفاسقين: {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54].(102/4)
قصة مطرف ودعاؤه للأموات
يقول مطرف بن عبد الله بن الشخير: كنت آتي كل ليلة جمعة إلى البصرة لأصلي الجمعة فيها، وكنت في طريقي أمر على أهل القبور، فأدعو الله لهم وأترحم عليهم، إلا ليلة من الليالي مررت فلم أقف؛ لأن الجو كان بارداً، فدخلت بيتي ونمت، فرأيت فيما يرى النائم كأن رجلاً من أهل القبور يقول: يا مطرف! حرمتنا دعاءك الليلة، والله! إن الله لينور علينا قبورنا بدعائك ودعاء إخوانك من المؤمنين أسبوعاً كاملاً.
قال: فتوضأت وذهبت ودعوت الله لهم، فلما عدت كنت أقول في طريقي: لا إله إلا الله أقف بها في حشري لا إله إلا الله أقضي بها عمري لا إله إلا الله يغفر بها ربي ذنبي لا إله إلا الله أدخل بها قبري.
فسمعت كأن قائلاً يقول: تزود يا مطرف! من لا إله إلا الله، فوالله لقد حيل بيننا وبينها.
فدعاؤنا للأموات نور ورحمة تنزل عليهم.
يقول عليه الصلاة والسلام: {إن الله يرحم أهل القبور بدعائي لهم، وينور عليهم قبورهم بصلاتي عليهم} أي: بدعائي لهم.(102/5)
صفة القبر
فيا عباد الله! تأملوا وتفكروا في تلك الحفر الضيقة الموحشة في بيوت اللحود، وفي بيوت الهوام والدود، يقول مجاهد رحمه الله: [[يقول القبر: أنا بيت الوحشة أنا بيت الظلمة أنا بيت الدود أنا بيت مفارقة الأحباب ومضايقة اللحود أنا بيت من يوطَّى فيه على الخدود أنا بيت فراق الأهل والأموال أنا بيت فراق الدور والقصور أنا بيت فراق اللذات والأولاد والبنات والشهوات]].
فيا عباد الله! رحم الله امرءاً قدم من الصالحات لتلك الحفرة.
ورحم الله امرءاً أعد الحسنات لذاك القبر.
ورحم الله امرءاً حاسب نفسه قبل أن يوضع في مكان ضيق لا أنيس فيه إلا العمل الصالح، ولا حفيظ فيه إلا الله، ولا مجازي ولا محاسب إلا الحي القيوم.
يقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لجلسائه: [[أرقت البارحة -أي سهرت فلم أنم حتى الفجر- قالوا: ما أسهرك يا أمير المؤمنين؟ قال: لما أويت إلى فراشي ووضعت لحافي علي تذكرت القبر، وتذكرت الميت بعد ثلاث ليال، حينما يتركه أهله وأحبابه وجيرانه وإخوانه، فيتغير ريحه، وتتمزق أكفانه، ويسري الدود على خدوده، فليتك ترى يا فلان تلك الرائحة المنتنة بعد الطيب في الدنيا، وتلك الأكفان الممزقة بعد الثياب الجميلة في الدنيا]].
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر
هل رأيت قبر غني من فقير؟ هل رأيت -أي: هل ميزت- بين قبر أمير من حقير؟
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبر(102/6)
قصص الصالحين وحالهم عند ذكر الموت
يقول علي رضي الله عنه وأرضاه: {خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فجلس صلى الله عليه وسلم على شفير القبر وجلسنا حوله، فنكس رأسه وأخذ ينكت الأرض بمخصرة في يده، ثم رفع رأسه ودموعه تسيل من لحيته صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أيها الناس! والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً}.
والله لو نعلم كما يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لضحكنا قليلاً ولبكينا كثيراً، لكننا أكثرنا من الضحك وأقللنا من البكاء، قست قلوبنا بالمعاصي والشهوات، وقست قلوبنا بالترهات، وقست قلوبنا بالبعد عن فاطر الأرض والسماوات، لما انغمرنا في الشهوات، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ينادينا فيقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
ويل لعبد لم يتهيأ لتلك الحفرة ويل لعبد لم يتهيأ لذاك القبر ويل لعبد لم يتهيأ بالعمل الصالح ويل لمن صد عن سبيل الله ويل لمن قاطع بيوت الله ويل لمن هجر كتاب الله.
مر عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه فرأى المقبرة فبكى، ثم توضأ وصلى ركعتين، فقال له أصحابه: لِمَ صليت الآن ركعتين؟ قال: تذكرت قول الله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54].
عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، الذي قال لابنه لما حضرته الوفاة: يا بني! ألبسني أكفاني وشد علي أكفاني؛ فإني مخاطب في قبري، وإني أخاف إذا قمت للفتان في قبري أن تسقط من على أكتافي أكفاني.
فلما أتته سكرات الموت بكى وحول وجهه إلى الحائط.
وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الذين فتح الله على أيديهم الفتوح، فقد فتح الله على يديه مصر، ودوَّنَ دواوينها وجند أجنادها.
فلما أتاه اليقين، وأتته سكرات الموت بكى بكاءً طويلاً، فقال له ابنه يحسن ظنه بالله ويحسن رجاءه في الحي القيوم: يا أبتاه! أنت من أصحاب رسول الله فلا تخف، أما فتحت مصر؟ أما جاهدت في سبيل الله؟ أما تقربت إلى الله؟ فالتفت إليه أبوه وقال: يا بني! لقد عشت حياتي على أدوار ثلاثة: كنت في الجاهلية قبل الإسلام، وكان أبغض الناس إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لو تمكنت منه لقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من جثي جهنم، ثم أسلمت وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، فلما رآني رحب بي وهش وبش في وجهي وقال: {حيهلاً بك يا عمرو! فبسطت يدي لأبايعه فبسط يده، فلما بسط يده قبضت يدي، فقال: مالك يا عمرو؟ قلت: أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر الله لي ذنبي.
قال صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم في وجهي: أما علمت يا عمرو! أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن التوبة تجب ما قبلها} فوضعت كفي في كفه ويميني في يمينه، وبايعته على لا إله إلا الله وأنه رسول الله، فكنت معه، إذا حل حللت معه، وإذا سافر سافرت معه، وإذا أقام أقمت معه والله! ما كنت أستطيع أن أملأ عيني من وجهه حياء منه والله لو سألتموني أن أصفه لما استطعت أن أصفه والله ما كنت أنظر إليه إجلالاً له، فلو مت على تلك الحالة لرجوت أن أكون من أهل الجنة.
ثم تخلفت بعده فلعبت بي الدنيا ظهراً لبطن، فوالله! ما أدري هل يؤمر بي إلى الجنة أم إلى النار، لكن عندي كلمة أحاج لنفسي بها عند الله، هي لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قبض يمناه على هذه الكلمة العظيمة.
قال ابنه عبد الله: فلما أتينا لنغسله فتحنا كفه فانقبضت على لا إله إلا الله، وجئنا ندخله في كفنه ففتحنا يده فانقبضت على لا إله إلا الله، فدخل في القبر بلا إله إلا الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
أبني أبينا نحن أهل منازل أبداً غراب البين فيها ينعق
نبكي على الدنيا وما من معشر جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
أين الأكاسرة الجبابرة الألى كنزوا الكنوز فلا بقين ولا بقوا
من كل من ضاق الفضاء بجيشه حتى ثوى فَحَواه لحد ضيق
خرص إذا نودوا كأن لم يعلموا أن الكلام لهم حلال مطلق
يقول ابن عوف رضي الله عنه: [[خرجت مع عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، فلما وقفنا على مقبرة بقيع الغرقد اختلس يده من يديه -وكنت قابضاً على يده- ثم وضع نفسه على قبر وبكى بكاءً طويلاً، فقلت: ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال: يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت شجرة فأعضد! أنسيت يا بن عوف هذه الحفرة؟! قال: فأبكاني والله]].
فالله المستعان على ذاك المقام، وعليه التكلان أن يثبتنا وإياكم يوم يثبت أهل طاعته فلا يخذلون، ويوم يثبت أهل البر من عباده فلا ينسون، ويوم أن يلهمهم رشدهم عند سؤال الفتان في القبور؛ فينطقون بلا إله إلا الله قوية من قلوبهم، نسأله التثبيت لنا ولكم ولكل مسلم، فمنه التثبيت ومنه العون ومنه السداد.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين؛ فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(102/7)
زيارة القبور
الحمد لله، والصلاة على رسول الله، وسلام على صفوة خلق الله، محجة عباد الله، وقدوة الناسكين من أولياء الله، والحجة على أعداء الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
أيها الناس! فواجبنا نحو أمواتنا من المسلمين الزيارة والترحم والدعاء لهم، لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ينور عليهم قبورهم بدعائنا لهم فما أحوجهم إلى دعائنا! ولكن نحن لا نحتاج إلى أحد منهم، فإنهم كما قال تعالى: {لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3].
والزيارة الشرعية أن يزور المسلم -الرجل لا المرأة- القبور ليتذكر الوقوف بين يدي الله، والعرض عليه، ويزهد فيما سوى الله، ويقلل متاعه من هذه الدنيا التي تشغله عن الله، ولذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {زوروا القبور فإنها تذكر بالآخرة}.(102/8)
حكم التوسل بالقبور
إن المقصود من زيارة القبور هو التذكير بالآخرة، لا التوسل بأصحابها كما يفعله الوثنيون المبتدعون المشركون في بعض البلاد الإسلامية؛ فإنهم يذهبون إلى تلك القبور، وقد يكون أهلها من الصالحين، فيتوسلون بهم إلى الله، ويتبركون بتلك القبور وهؤلاء الذين يزورون القبور ويفعلون هذا الفعل قد حبط عملهم في الدنيا والآخرة إن لم يتوبوا إلى الله ويراجعوا حسابهم مع الله.
وإذا سألتهم: لِمَ تفعلون هذه الأفاعيل الشركية الوثنية والأمور الجاهلية؟
قالوا: نحن لا نعبدهم، وإنما نتبرك بهم ونتوسل بهم إلى الله.
وهذا منطق أهل الجهل والشرك والوثنية، فإنهم كانوا يقولون كما قص الله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد} ومعنى (وثناً يعبد) أي: يتوسل إليه، ويتبرك به، ويعتقد أنه ينفع ويضر بعد موته.
هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بغيره الذي ما بلغ مرتبته من الناس؟
كيف يتوسل به إلى الله ويتبرك به وبالدعاء عنده؟!
إن هذا هو الشرك بعينه، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66] فالذين يتوسلون بالقبور في أي بلد وفي أي مكان وفي أي زمان، ويتبركون بالدعاء عندهم، ويعتقدون نفع الأموات أو ضرهم: {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:139].
يقول صلى الله عليه وسلم وهو في سكرات الموت، وهو يصارع الموت في آخر لحظة من لحظات الدنيا: {لا إله إلا الله إن للموت لسكرات} ثم يقول: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا فبور أنبيائهم مساجد} يحذر منهم صلى الله عليه وسلم ومن فعلهم.
ووقع ما فعله أولئك من اليهود والنصارى في أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ففي كثير من البلاد الإسلامية يشركون بالله بتقربهم إلى القبور، وبعكوفهم عليها، وبتوسلهم بأصحابها؛ فوقعوا في الغلو الذي وقع فيه من كان قبلهم، يقول الله تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30] فقاتل الله كل من اتخذ من دونه إلهاً يعبد، أو توسل إلى الله بغير ما شرع في جلب منفعة أو دفع مضرة.
يقول ابن تيمية رحمه الله: الرسل عليهم الصلاة والسلام وسائط هدى وتبليغ للرسالات من الله إلينا، ولا نتوسط بهم في العبادات بيننا وبين الله.
فمن توسل بأحد أو تشفع به وهو ميت في قبره، أو تبرك بالدعاء عند قبره فقد خسر عمله.(102/9)
آداب الزيارة الشرعية
فالزيارة الشرعية أن نزور القبور لتذكرنا الآخرة، وأن ندعو لأهل القبور بالرحمة كما دعا لهم صلى الله عليه وسلم.
ومن أدب الزيارة: عدم الجلوس على القبر، فإنه صلى الله عليه وسلم منع من الجلوس عليها، كما صح في صحيح مسلم من حديث بثينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها} ويقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: {لأن أجلس على جمرة فتحرق ثيابي حتى تنفذ إلى جسمي خير لي من أن أجلس على قبر}.
ومن آداب الزيارة: ألا يصلى على القبور إذا زارها الزائر، وصحيح أنه يصلى على الميت إلى شهر كما في صحيح البخاري، لكن هذا في صلاة الجنازة، أما أن تصلى الفريضة على القبر؛ فهذه من الأمور المبتدعة، والصلاة منهي عنها هناك.
ومن الأمور التي تجب علينا لأصحاب القبور: إكرام قبورهم من المرور عليها، فلا يمر على القبر ولا يمتهن، ولا يبنى عليه، فقد جاء في صحيح مسلم: عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: {أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته} سويته: أي سويته بالأرض، فلا يبنى عليها، ولا يعكف عندها، ولا يتبرك بها، ولا يجلس عليها، ولا يمر عليها، وإنما هي تذكرنا بلقاء الله، وبالقدوم عليه، فما أوعظ القبور وما أوعظ أحاديثها! وما أرقها للأفئدة التي قست من المعاصي كأفئدتنا!
[[كان عثمان رضي الله عنه وأرضاه إذا رأى القبور بكى حتى يغشى عليه، فقال الصحابة: يا أمير المؤمنين! تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتذكر القبر فتبكي؟! فقال: القبر أول منازل الآخرة، من نجا فيه نجا مما بعده، ومن هلك فيه هلك فيما بعده]].
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]
وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين على ما تحبه وترضاه.
اللهم وحد بين صفوفهم، واجمع كلمتهم على الحق وارفع رايتهم يارب العالمين.
اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور واهدهم سبل السلام، وأرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه، وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه، إنك على كل شيء قدير.
اللهم اغفر لجميع أموات المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، وأبدلهم دوراً خيراً من دورهم، وأهلاً خيراً من أهاليهم، وأزواجاً خيراً من أزواجهم، ولقهم الجنة وقهم عذاب النار.
اللهم ارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.
اللهم وفق أئمتنا وولاة أمورنا لما تحبه وما ترضاه يا رب العالمين، اللهم اهدهم رشدهم، وألهمهم توفيقهم، إنك على كل شيء قدير، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم انصر عبادك المجاهدين الموحدين الذين يجاهدون لإعلاء كلمتك في أفغانستان وفلسطين وفي كل صقع من بلاد المسلمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(102/10)
مولد الهادي البشير
تحدث الشيخ حفظه الله تعالى عن مولد النبي صلى الله عليه وسلم ونشأته وما أظهر الله عز وجل على يديه من المعجزات الباهرة، ثم عرج على بعثته وقيامه بواجب الدعوة والبيان حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، وانتشر دينه في الأرض، ودانت له البشرية، مشيراً إلى الحكمة العظيمة من كونه صلى الله عليه وسلم بشراً، يتيماً، أمياً، ثم نبه على أهمية محبته واتباعه.(103/1)
إطلالة على السيرة النبوية
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، أحيا به الله القلوب، وأنار به العقول، وأسمع به الآذان، وبصر به العيون، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].(103/2)
تعلق الأمم برموزها
الأمم اليوم تتعلق برموزها، فتنصب لهم صوراً تذكارية، وتطوف بهم وتقدسهم، وتردد الثناء عليهم صباح مساء، ونحن لا رموز لنا، لا قداسة أرضية، ولا طقوس، وليس عندنا إلا رجل واحد جعله الله إماماً لنا، ولكنه معصوم، وقدوة لنا لكنه صادق، ومعلماً لنا لكنه فاتح، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
أمي لا يقرأ ولا يكتب، ما حمل قلماً ولا كتاباً ولا دفتراً، لكن أفاض الله الوحي على قلبه، فحفظ القرآن كله، والسنة كلها.
وعند الناس رموز؛ لكنهم سفكة للدماء، وطغاة في الأموال، ومعتدون على الأعراض، وعندنا رجل لكنه يحمل العفاف والطهر والنزاهة والعدل والحق.
تجلى مولد الهادي وعمت بشائره البوادي والقضايا
وأهدت للبرية بنت وهب يداً بيضاء طوقت الرقابا
لقد ولدته وهاجاً منيراً كما تلد السماوات الشهابا(103/3)
مولده صلى الله عليه وسلم ونشأته
تقول آمنة: حملته فما أحسست بالحمل، ولما ولدته ولدته ساجداً على الأرض، ومن أول لحظة وهو يسجد لله الواحد الأحد، وقبل أن تلده بليلة رأت كأن نوراً خرج منها فأضاءت له قصور الشام، وقبل أن تلده مات أبوه فنشأ يتيماً، واستمرت معه فترةً ثم ماتت، فبقي اليتيم عليه الصلاة والسلام في اليتم والفقر والظمأ والجوع؛ ليتعلق بالله، وذهبت به حليمة السعدية إلى بادية بني سعد، قالت حليمة: كنا في فقر مدقع، وفي سنة مجدبة والله ما أمطرت علينا ذاك العام قطرة، ولا نبتت في مراوحنا نبتة، فما وصل عليه الصلاة والسلام وهو طفل إلى ديار بني سعد، إلا وغمامة ملأت السماء فأمطرت حتى سالت الأودية، وامتلأت الأودية عشباً أخضر، وحلبوا حتى ملئوا الآنية، وكانوا في رغد من العيش.
وإن الكريم إذا أقام ببلدة سال النضار بها وقام الماء
تقول حليمة وقد أسلمت رضي الله عنها: كان إذا أظلم الليل، خرج صلى الله عليه وسلم من الخيمة وهو طفل عمره سنتان، ينظر ويتفكر في النجوم، لا إله إلا الله! طفل عمره سنتان يتفكر في النجوم والسماء في الليل، سبحان من علمه! وسبحان من أحكم إرادته! وسبحان من أنبته نباتاً حسناً!
ترده إلى الخيمة، فيخرج وسط الليل لينظر في السماء، من خلق السماء؟ ومن خلق النجوم؟ ومن أبدع الكون؟(103/4)
حادثة شق الصدر
تقول حليمة: وخرج مرة من المرات مع أخيه من الرضاعة يرعى البهم.
وراعي البهم هذا سوف يرعى الأمم، في ثلاثة أرباع الدنيا، هذا الراعي دخل قواده فصلوا وسبحوا في قرطبة والبرتغال والسند والهند، هذا الراعي أخرج الأمة الضعيفة المسلوبة المظلومة من الجزيرة، فصلت في ضفاف دجلة والفرات، وأذنت في صنعاء وكابل.
قالت: فلما خرج يرعى البهم أتاه رجلان، فبطحاه أرضاً وشقا صدره، وأخذا علقة من قلبه!
من هم الرجلان؟
أرسل الله ملكين اثنين، فأخذا طستاً من ذهب مملوءاً حكمة وعلماً، فأتوا إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام، فأضجعوه على ظهره وشقوا صدره الكريم.
ولذلك يقول بعض المفسرين في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] أي: يوم شققنا صدرك، ثم وسعناه فكان واسعاً حكيماً حليماً رحيماً، فلما شقا صدره، أخذا العلقة السوداء- وما منا إلا وفيه علقة سوداء، يجتمع فيها الحسد والحقد والخيانة والغل فقطعوها، وأخرجوها، ثم غسلوا قلبه بماء زمزم، ثم ملئوا -بإذن الله- قلبه حكمةً وإيماناً، ثم ردوا صدره وخاطوه؛ حتى يقول أنس كنت أرى أثر الشق والرسول عليه الصلاة والسلام في الستين من عمره.
ثم أقاموه، وأتى وهو خائف إلى أمه من الرضاعة حليمة، وأخبرها الخبر، فردته إلى مكة.
وعاد -وهو صبي- يتدرج في الكرامة والعزة والرفعة، ما سجد لصنم، ولا شرب خمراً، ولا خان، ولا سرق، ولا كذب، ولا غش، وفي صحيح مسلم: {كان يمرُّ في وديان مكة، فيراه الحجر فيقول الحجر: السلام عليك يا رسول الله! ويراه الشجر فيقول الشجر: السلام عليك يا رسول الله} قبل النبوة، يسلم عليه الشجر والحجر، فيفزع ويخاف وينظر فلا يرى شيئاً.
وينشأ صلى الله عليه وسلم يتيماً، صبوراً فقيراً محتسباً، لم يقرأ ولم يكتب، ويبلغ الخامسة والعشرين من عمره، فيكون مضرب المثل في مكة حياءً وأمانة ووقاراً وعفافاً، ولكن بعد أن نبئ خونوه، وقالوا: ساحر، وقالوا: شاعر، وقالوا: كاهن، ورموه في عرضه، والله يقول: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22] ما باله بالأمس أمين صادق وفي مخلص، واليوم أصبح مجنوناً كذاباً خائناً ساحراً؟ بالأمس كان مضرب المثل فيكم واليوم أصبح عدواً لكم؟!
سافر في الخامسة والعشرين من عمره، فنزل في بصرى في الشام فجاءت غمامة تظلله من الشمس وهو مع النوق والإبل، وهناك شجرة، بجانب صومعة بحيرى، يقول عنها أهل العلم من أهل الكتاب: لا يجلس تحتها إلا نبي، فترك الشجر كله وجلس تحتها، حكمة بالغة، وقدرة نافذة.(103/5)
اختصام قريش في الحجر الأسود
اختصمت قريش في وضع الحجر، وكانت قد هدمت الكعبة قبل الرسالة، واختصمت في من يضع الحجر؟ ومن يحمل الحجر؟ وكانوا أربع قبائل، كل قبيلة تقول: هي التي تضع الحجر، وأتى بنو هاشم، فملئوا صحفة دماً، ثم وضعوا أيديهم وتعاهدوا وتعاقدوا ألا يضع الحجر إلا هم أو يقتلوا عن بكرة أبيهم، ثم اصطلحوا على أن أول من يدخل الحرم هو الذي يحكم في القضية، ودخل البشير النذير، ودخل النبي المعصوم، قبل أن يوحى إليه، ووقف عليهم فأخبروه، فأخذ الحجر ووضعه في كساء، وقال: لتحمل كل قبيلة طرفاً من الكساء، فلما قربوه من موضعه وضعه هو بيده الشريفة، فهو الذي وضع الحجر الأسود مكانه الآن.(103/6)
بعثته صلى الله عليه وسلم
واستمر به الحال عليه الصلاة والسلام فلما بلغ الثلاثين أنكر وضع الدنيا، فإن العالم يعيش على خطأ، وأخذ يبحث عن الصواب، وسوف يأتي به جبريل من رب الأرباب.
كان يخرج من مكة إلى غار حراء يتعبد، فكان يتحنث ويتوجه بقلبه إلى الله، يعرف أن للكون إلهاً خالقاً رازقاً وأنه يستحق العبادة، ولكن ما عنده مصحف يقرأ فيه، ولا يعرف الصلاة، قال تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] ويقول الله فيه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] ومكث في الغار، يظل الأربع الليالي والخمس يتعبد، ثم ينزل إلى خديجة فيمتار ميرةً ويعود، وفي أثناء ذلك، أتاه جبريل وله ستمائة جناح، كل جناح قد سد ما بين المشرف والمغرب، فدخل عليه وقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ.
كفاك بالعلم في الأمي معجزةً في الجاهلية والتأديب في اليتم
قال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، فأخذه فألصقه على صدره ثم غطه، قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق:1 - 3] فانطلق يقرأ، ثم أطلقه، فذهب ونزل من الغار، وأخذ ينظر في السماء، كلما نظر في ناحية من السماء، إذا جبريل على كرسي بين السماء والأرض، ووصل إلى خديجة، إلى الحكيمة العاقلة، إلى الزوجة العاقلة البديعة الرائعة قال: زملوني! زملوني! لقد خشيت على نفسي.
ثم أخبرها الخبر، فنطقت الصدق، وكلمات الواقع، وكلمات العدل والحق وقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً، لماذا؟ ألمنصبه؟ ألأسرته؟ ألماله؟ ألشهرته؟ لا، قالت: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، والله لا يخزي أهل المعروف.
وانطلق عليه الصلاة والسلام يدعو قومه إلى الله، انطلق عليه الصلاة والسلام يخرج الأمة من الظلمات إلى النور، حتى أصبح أتباعه اليوم -في الجملة- ملياراً ودينه اليوم يعلو وينتصر.
الشيوعية كان لها مليار، فانسحقت قبل سنوات، ولعنت على ألسنة البشر، لماذا؟ لأن الحق هو الذي ينتصر والباطل ينمحق، قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] لقد قال: عليه الصلاة والسلام: {لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله} ونحن لا نطريه، وإنما نقول: هو عبد الله رسوله، ولكن من واجب الأمة علينا أن نلفت أنظارها إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، لماذا؟
لأن الأمم والشعوب لم تلفت أنظار الناس إليه، فكان من مسئولية العلماء والدعاة أن يذكروه على المنابر، وأن يشيروا إلى شيء من عظمته ورسالته؛ لأن البشر -في العموم- استبدلوا بعظمته عظمة أناس لا يساوون الغبار الذي على قدميه، ولا جلد حذائه الذي كان يمشي به عليه الصلاة والسلام.
نور من الغار أم صوت من الغار أم ومضة الفكر أم تاريخ أسرار
تطوي الدياجير مثل الفجر في ألق تروي الفيافي كمثل السلسل الجاري
الشمس والبدر في كفيك لو نزلت ما أطفأت فيك ضوء النور والنار
أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة يذوب في ساحها مليون جبار
شادوا الدنانير هالات مزخرفة جماعها لا يساوي ربع دينار
ويبقى رسول الله عليه الصلاة والسلام إماماً، لكن ليس إلا لمن أراد أن يكون إمامه صلى الله عليه وسلم، فيكون إماماً لأهل الصلوات الخمس، وللصادقين، والمخلصين، وإماماً لأولياء الله، أما الأشقياء فلهم أئمة، وأما الأدعياء فلهم قادة، وأما الحقراء الصغراء، فلهم زعماء: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71] وإمام الأخيار محمد عليه الصلاة والسلام، يقول أحد الصالحين وقد ذكر إمامته:
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
وكان ابن تيمية يزيد ويقول:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
فنسأل الله أن يثبتنا على منهجه، وأن يجعلنا من أتباعه، وأن يسقينا من حوضه، وأن يحشرنا تحت لوائه، وأن يغمرنا في زمرته، وأن يهدينا سنته، وأن يوقظنا من غفلتنا باتباعه عليه الصلاة والسلام.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(103/7)
دروس وعبر من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وسيد المتقين، وحجة الله على الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(103/8)
الحكمة من كونه بشراً يتيماً أمياً
أيها الناس: فيما مر دروس، نستفيدها من سيرته عليه الصلاة والسلام قبل النبوة، والدروس هذه هي أن الرسول عليه الصلاة والسلام رجل يتيم أمي، ثلاث قضايا: بشر، وأمي، ويتيم.
فأما كونه بشراً، فهي حكمة من الله، قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9] أي: لو كان ملكاً من الملائكة، ما استطعنا اتباعه، وما استطعنا أن ننهج منهجه، وما كان في مقدورنا أن نحتذي سيرته، لكن جعله الله بشراً، يعيش آلامنا، يجوع كما نجوع، ويظمأ كما نظمأ، وينام كما ننام، ويتزوج النساء، ويرضى ويغضب، ويضحك ويبكي، فهو بشر مثلنا فنتبعه.
وأما الكفار فاعترضوا على أنه بشر، قال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان:7 - 8].
يقولون: كيف يكون هذا رسولاً وهو يأكل الطعام كما نأكل، ويجلس معنا كما نجلس، ويبيع ويشتري في الأسواق؟! هذا لا يصح، فأخبر الله أن الحكمة كل الحكمة في جعله بشراً نستطيع أن نتبعه، فبعض الصحابة أرادوا أن يصلوا في العبادة حداً لا يبيحه لهم الشارع، يقول أحدهم: أنا لا أتزوج النساء، والثاني يقول: وأنا لا آكل اللحم، ويقول الثالث: وأنا أصوم ولا أفطر، فأُخْبِرَ عليه الصلاة والسلام فقال: {أما أنا فأتزوج النساء، وآكل اللحم، وأصلي وأنام، وأصوم وأفطر، فمن رغب عن سنتي فليس مني} قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] إذاً: فالحكمة هي: في كونه بشراً لا ملكاً.
المسألة الثانية: يتيم، ليس عنده عوامل أرضية، تجعله يسود على العرب، ولذلك قال هرقل: لو كان أبوه ملكاً لقلت: رجل يطلب ملك آبائه.
لقد اختاره وهو يتيم، ليس وجيهاً في قومه، ولا عنده منصب، ولم يكن ملكاً ولا صاحب ثروة، بل يتيم يخرج من مكة، لا يملك كسرة الخبز وقطعة الثوب، ثم يسيطر على ثلاثة أرباع العالم، فالحكمة هي في كونه يتيماً.
والأمر الثالث: أنه أمي، يقول: مايكل هارف، وقالها جولدزيهر المجرم يقول: أنا لا أعجب من محمد كونه نبياً، فإن الله قد بعث أنبياء كثر، لكن العجب أن يبعث بعد الأربعين أمياً لا يقرأ ولا يكتب، فيكون أخطب خطيب وأفصح فصيح.
فيبعث عليه الصلاة والسلام لا يقرأ ولا يكتب، كان يذهب إلى خباب بن الأرت وخباب بن الأرت، كان حداداً يصنع السيوف -يصقلها على كير- فيعلمه عليه الصلاة والسلام الرسالة، فيقول كفار قريش: انظروا إلى محمد يذهب إلى خباب الأعجمي يتعلم منه القرآن! سبحان الله، العجم يعلمون القرآن! فيكون الرد صارخاً قوياً: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103].
ذهبت مشرقة وسرت مغرباً شتان يبن مشرق ومغرب
خباب أعجمي لا يستطيع نطق الحروف العربية إلا بكلفة، ومحمد عربي، وقريش تقول: يتعلم محمد من خباب القرآن، يذهب إليه ليدعوه في الصباح وبعد الغروب، في هدأة الليل، وبعد الفجر، فقال: كفار قريش: يتعلم في الصباح والمساء، ويأتي يخبرنا بهذه الأساطير من خرافات الأولين قال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان:5 - 6]
لا يقرأ ولا يكتب، ولكن ما خرم من القرآن حرفاً واحداً، نزل القرآن مباشرةً على قلبه، وكذلك كان يرتجل الخطبة، ولا يلحن في كلمة، ولا يتلعثم في حرف، وهذه الكتب والعلماء والدعاة كلها ميراثه عليه الصلاة والسلام، كان يصلي بالناس، فيقول: {استووا ولا تختلفوا؛ فإني أراكم من وراء ظهري}.
كان يكتشف الصفوف ويراها من وراء ظهره، ينام الليل كله، فلا ينتقض وضوءه ويقول: {يا عائشة! إنها تنام عيناي ولا ينام قلبي}.(103/9)
حقيقة اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته
هذا الرسول عليه الصلاة والسلام يجب علينا أن نعيش معه عيشة الصادقين، لا عيشة أرباب الدنيا والأمم المتفلتة، يوم تقدس عظماءها، فإذا ماتوا لعنتهم، لكن نحن نعيش معه في أسماعنا وأبصارنا وحياتنا، يعيش معنا رحيماً قدوةً إماماً، حتى في أقل أعمالنا، وشعائرنا التعبدية نراه عليه الصلاة والسلام، نقلم الأظافر، فإذا هو القدوة، نعفي اللحى، نقصر الثياب، نقتدي به في أدب الحديث والمشي والكلام والزيارة، وأدب العيادة والدعاء، في كل ذلك يكون إمامنا هو محمد عليه الصلاة والسلام.
أيها الناس: باستطاعتنا أن نحيي محبته باتباعه، لا كما يفعل بعض الجهال، يوم أحيوا ذكره في الزوايا بالغلو والرقص والنشيد، ولكن أماتوا سيرته وسنته في الواقع، أحيوا حبه ولكن أماتوا سنته عليه الصلاة والسلام، يقولون عند القبر في المدينة، كما يقول أحدهم وعنده من الخرافة والشرك ما الله به عليم:
يا رسول الله يا من ذكره في نهار الحشر رمزاً ومقاما
فأقلني عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاما
وهذا شرك وخرافة، لا يريدها الله ولا رسوله عليه الصلاة والسلام، بل نحيي سيرته بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبنشر العلم في الناس، والصبر على الأذى، وبالوقوف في ساعة الردى، وبنشر الفضيلة، وقمع الرذيلة، وبنشر السنة في المجالس.
فهذه هي معالم محبته عليه الصلاة والسلام.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(103/10)
سعد بن أبي وقاص
هل تعرفونه؟ رجلٌ دخل في الإسلام مبكراً، جاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، بل وفداه بأبيه وأمه، وله من الكرامات الكثيرة منها إجابة دعوته، ومنها معركة القادسية وعبوره النهر، كان رجلاً شجاعاً اعتزل الفتنة ليلقى الله عبداً تقياً خفياً نقياً هل عرفتموه؟!
إنه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.(104/1)
ترجمة سعد بن أبي وقاص
الحمد لله الحمد لله القائل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ * وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:101 - 106].
والصلاة والسلام على رسول الله القائل: {الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم} والقائل: {لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه} رضي الله عنهم وأرضاهم.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصبحه وسلم تسليماً كثيراً أمَّا بَعْد:
فمعنا اليوم: صاحبٌ من أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الصاحب، هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وأحد أهل بدر الذين قال الله لهم: {اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} وأحد أهل بيعة الرضوان، الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، فقال الله عنهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18].
هو خال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: {هذا خالي فليرني كلاً خاله} هو سعد بن أبي وقاص، هو أبو إسحاق، مدمر امبراطورية كسرى، ومبيد جيوش الضلالة من دولة المجوس، عبدة النار، ورافع راية التوحيد على الرافدين، على دجلة والفرات.
فسلامٌ على سعد بن أبي وقاص، يوم أسلم لله، وسلامٌ عليه يوم توفي ومضى لله، وسلامٌ عليه يوم يبعث حياً، وإنما المقصد من سيرة هؤلاء الامتثال، وأن يتوجه شباب الأمة وشيبها إلى التأسي بمثل هؤلاء الأبطال، فـ سعد رضي الله عنه وأرضاه، من أولئك النفر البررة السعداء، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه:
أسدٌ يقدم في يوم الوغى لا يخاف الموت إن خاف الأسد
جسدٌ لفف في أسماله رحمة الله على ذاك الجسد
كان ثالث ثلاثة في الإسلام، ترتيبه في الإسلام الثالث، أسلم وعمره سبع عشرة سنة، ووضع يده في يد النبي صلى الله عليه وسلم فعاهده على أن يرفع لا إله إلا الله، وأن يعيش لا إله إلا الله، وأن ينصر لا إله إلا الله، حتى يلقى الله، فلما أسلم، غضبت أمه العجوز، الذي ما فهمت رسالة الله، ولا أتقنت ولا عرفت ما هي لا إله إلا الله، وحاولت أن تصده عن الإسلام، ولكنه رفض أن يعود خائباً إلى دين الوثنية، بعد أن بصَّره الله بالإسلام، فأضربت عن الطعام والشراب، ورفضت أن تأكل وتشرب، وأقسمت بلاتها وعزاها ألاَّ تأكل حتى تموت، فقال لها: [[يا أُماه، والله لو أن لك مائة نفس، فخرجت النفس بعد النفس ما عدتُ عن ديني حتى تموتي، فكلي أو دعي]] فلما رأت الصدق أكلت!!
لقد كان رضي الله عنه وأرضاه صادقاً مع الله، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أول يومٍ عده صلى الله عليه وسلم ثلث الإسلام، يقول: {يا رسول الله! ادعُ الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال له صلى الله عليه وسلم: يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة}.
إن المطعم الحلال، هو الذي يجعل المؤمن طيباً في كلامه، وصلاته، طيباً في دعائه وعبادته مع الله، ثم قال عليه الصلاة والسلام: {اللهم أطب مطعمه اللهم أجب دعوته، وسدد رميته}.
فكان إذا رمى بسهمٍ في سبيل الله لا يخطئ هذا السهم، حتى يقول علي رضي الله عنه وأرضاه: [[رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، والحرب تستعر، وهو يشرف على الأعداء وعلى الكفار، وسعد يرمي بالسهام، فتقع في نحور الكفار، فيقول: ارمِ سعد فداك أبي وأمي]].
فما فدى صلى الله عليه وسلم أحداً كما فدى سعداً، فأخذ يهيل لهم، ويرميهم حتى هزمهم الله، وردهم الله على أعقابهم خائبين خاسرين، لقد عاش الجوع في أول الإسلام، يقول عن نفسه: [[والله لقد مرت عليَّ ليالٍ ثلاث، ما أكلتُ فيها أكلة، ولقد بحثتُ عن أوراق الشجر، فأكلنا ما حولنا من أوراق الشجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله لقد ذهبتُ ليلةً دامسة ظلماء أبحث عن طعام، فما وجدت إلا جلد ميتة، فأخذت الجلد، فأحرقته على النار، ثم سحقته، ثم خلطته بماءٍ وشربته]].
ويقول رضي الله عنه وأرضاه: [[لما توفي صلى الله عليه وسلم ما نفضنا التراب عن قبره حتى أنكرنا قلوبنا]].
عاش وفياً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع صاحبيه، أبي بكر وعمر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا رآه تبسم، وقال للصحابة: {هذا خالي فليرني كلٌ خاله}.
ولما تولى عمر رضي الله عنه وأرضاه، خلافة الإسلام سمع أن المجوس وآل كسرى، يعدون العدة لاجتياح الجزيرة العربية، كان قصدهم إبادة الإسلام، والهجوم على عاصمة الإسلام، فنادى عمر رضي الله عنه وأرضاه، في الصحابة وفي المسلمين استنفاراً عاماً وجهاداً في سبيل الله، وتضحيةً لرفع لا إله إلا الله، فاجتمع المسلمون، وخرج عمر رضي الله عنه وأرضاه من المدينة ليقود الحرب الطاحنة مع فارس، وخيم حول المدينة، وخلف على المدينة بعده أبا الحسن علي بن أبي طالب فلما نزل عمر ونزل معه المسلمون في المخيمات، جلس رضي الله عنه وأرضاه يستشير الناس، وإذا بـ علي يقدم من المدينة، فيقول عمر: [[ما أقدمك يا أبا حسن، قال: يا أمير المؤمنين! إنك إن ذهبت وقتلت في أرض فارس يوشك أن يأخذ أهل فارس بيضة الإسلام، وأن يدخلوا عاصمة الإسلام، فأرى أن تولي رجلاً بعدك يقود المعركة وأن تبقى في المدينة، فاستأنس عمر لهذا الرأي، واستشار الصحابة، فأجمعوا على رأي علي رضي الله عنه وأرضاه، فقال عمر: فمن أستخلف إذاً؟ فذهب كل إنسانٌ في خيمته يفكر، وإذا بـ عبد الرحمن بن عوف يرفع صوته ويولول، ويقول: يا أمير المؤمنين! وجدت الأسد في براثنه، سعد بن أبي وقاص، فيقول عمر: صدقت حياً بك أهلاً وسهلاً]] فيأخذ الراية ويسلمها لـ سعد، ويوصيه بتقوى الله ويتباكى هو وسعد رضوان الله عليهم عند الفراق، ويقول له: [[ملْ معي الطريق يا سعد]]! فيميل معه، فيتباكيان فيقول ابن عوف: مالكما؟ قال عمر: تخلفنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخشى أن نهلك، أو أن نفتن، أو أن نرتد على أعقبانا، ثم قال له عمر: [[يا سعد! يا سعد بن وهيب! يا سعد بن أبي وقاص! لا يغرنك قول الناس: إنك خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله ليس بينه وبين أحد من عباده نسب، فاتقِ الله يا سعد! في جيش المسلمين، واتقِ الله في خاصة نفسك]] فأغض سعد رضي الله عنه وأرضاه رأسه وطرفه وقال: [[سمعاً وطاعةً يا أمير المؤمنين!]].
وخرج رضي الله عنه وأرضاه معه جنود الله، مهللةً مكبرة، ليخوض القادسية وللقادسية حديثٌ آخر، ومقامٌ آخر.(104/2)
مواقف وعبر من القادسية
ولكن نأخذ منها بعض النماذج عن أولئك النفر:(104/3)
مواقف عزة المؤمن
لما حضر رضي الله عنه وأرضاه خطب جيشه وكانوا ثلاثين ألفاً، وقال: [[إن العدو لا ينتصر علينا إلا بالمعاصي، فالله الله اتقوا الله وذروا المعاصي، فإنَّا إن عصينا الله غضب علينا ثم أهلكنا]] وخيَّم رستم وراء دجلة، ومدت الجسور، ليعبر أحد الجيشين، لتكون النهاية المحتومة، بين جيش لا إله إلا الله، وبين جيش الضلالة، بين الذين يريدون أن تنصر راية الله، وبين من يريد أن ينصر الباطل، ولكن أرسل رستم في الصباح، قائداً فارساً، أرسله إلى سعد: أن أرسل إليَّ أحد أصحابك، فأرسل سعد رضي الله عنه وأرضاه ربعي بن عامر، شابٌ كالسيف، صادق كالفجر، قويٌ كالحق، عميقٌ كالصدق، وقال: [[اذهب إليهم ولا تغير من هيئتك شيئاً]].
أي: اذهب في ثيابك وفي صدقك، وفي وضوحك، ولا تغير ولا تدين لهم بكلمة، فذهب ربعي على فرسٍ هزيلٍ ضعيف عليه أسمالٌ بالية، ومعه رمح مثلم:
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبالِ وربما صرنا على موج البحارِ بحارا
فقدم ربعي ودخل على رستم، وإذا تيجان الذهب على رأس رستم ووزرائه، فلما رآه رستم ضحك، وقال لـ ربعي جئتم تفتحون الدنيا بهذا الفرس المعقور، وبهذا الرمح المثلم، وبهذه الثياب البالية؟! فقال ربعي ورفع صوته، وأخذ صوته يدوي كالصاعقة: [[إي والله إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].
وفي الصباح بدأت المعركة، ونصر الله جنده، ومدت الجسور، وأخذ سعد ينادي الكتائب أن تعبر إلى أعداء الله، فلما عبرت أول كتيبة، كان من دهاء أهل فارس عبدة النار، أن قطعوا الجسور، فوقعت أول كتيبةٍ في النهر، فغرق كثير منهم، فلما رأى سعد هذا المشهد، رفع صوته، والتفت إلى السماء، وقال: [[اللهم كن سندنا ومددنا وعضدنا، حسبنا الله ونعم الوكيل]] يا خيل الله اعبري، فلما سمعت الخيول دعاء سعد بالعبور، أخذت تتوجه وتقتحم بأنفسها في النهر، وأخذ الجيوش ينزلون فجمد الله لهم نهر دجلة، فإذا هو ليس بالثلج الذي تنزلق عليه الأقدام، وليس بالماء الذي تغوص فيه الأقدام أيضاً، فأخذوا يلتفتون ويبتسمون بعضهم في بعض، وأخذ قائدهم من ورائهم يسوقهم ويقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] فما أن وصلوا إلى عبدة النار، المجوس، إلا وعملوا فيهم بسيوف الله، فأخذ أولئك يتساقطون وراءهم في النهر ويذعنون ويُقتَلون، ويهربون ويفرون، وارتفعت لا إله إلا الله.
ومضى سعد إلى مدينة المدائن عاصمتهم، فلما رأى قصر كسرى، قصر الضلالة والجهالة والبطالة والعمالة، قال سعد ودموعه تهراق تواضعاً لله: [[الله أكبر {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} * {وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} * {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} * {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِين}) [الدخان:25 - 28]]].
وعاد رضي الله عنه وأرضاه فكَّوف الكوفة، وبنى تلك المدينة، وولاه عمر أميراً عليها، فكان من خيرة الأمراء، يخاف الله في رعيته، لا يشبع حتى يشبعون، ولا يرتاح حتى يرتاحون، ولا ينام حتى ينامون، يتفقدهم، ويأوي إلى ضعيفهم، وينصف مظلومهم، ولكن أهل الكوفة قومٌ غشمة ظلمة، مشاغبون، شكوه إلى عمر رضوان الله عليه وأرضاه، وقالوا: هذا سعد ظالم، لا يحسن حتى يصلي، فتبسم عمر رضي الله عنه من هذه الكذبة التي لا تدمغها الأدمغة، ولا تهضمها واستدعى سعداً، وقال: [[يا سعد!.
يا أبا إسحاق، إن أهل الكوفة، يقولون: إنك لا تحسن أن تصلي]] وتبسم الصحابة وتبسم سعد، وإذا لم يحسن سعد الصلاة، فمن يحسن الصلاة إذاً؟
وإذا لم يعرف الفقه في الدين فمن الذي يفقه في الدين إذاً؟!!
فقال سعد: [[يا عجباً لأهل الكوفة!! يعيرونني بأنني لا أحسن الصلاة، والله لقد أدخلتهم في الإسلام بسيفي هذا]] وصدق رضي الله عنه، فقد أدخلهم بسيفه كما تدخل قطيع الضأن في الإسلام، ولكن لما علم الله أنهم ظلمة، ابتلاهم بظالمٍ مثلهم، فابتلاهم بـ الحجاج بن يوسف الثقفي: {
الجواب
=6000917> وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129].
وأرسل عمر رضي الله عنه وأرضاه لجنةً من الصحابة يستقصون الحقائق، ويبحثون عن النتائج، فمروا بمساجد الكوفة مسجداً مسجداً، يسألون عن الصادق من الكاذب، يسألون عن سعد عن سيرته وعدله، وكلهم يثني عليه خيراً، وكلهم يمدحه، ويدعوا له، إلا رجلاً واحداً، ومع أنه كبير في السن، إلا أنه ظالمٌ غاشم، قام فقال للصحابة: أما إن سألتمونا عن سعد، فإنه لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يخرج في السرية ".
فقام سعد ومد يديه إلى السماء إلى علام الغيوب، وقال: [[اللهم إن كان هذا الشيخ كاذباً قام رياءً وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن]] فاستجاب الله دعوة المخلص الصادق، الذي أطاب مطعمه مع الله، والذي حصن مدخله ومخرجه مع الحي القيوم.
قال أحد الرواة: والله لقد رأيت ذاك الشيخ -وهذا في صحيح البخاري - وقد أطال الله عمره، وأطال فقره، ورأيته يتعرض للجواري في سكك الكوفة، يغمزهن وقد سقط حاجباه على عينيه ويقول: شيخٌ مفتونٌ أصابتني دعوة سعد.
فقد كان مستجاب الدعوة رضي الله عنه وأرضاه، وصلى بالناس صلاة الجمعة، ثم خرج من المسجد، وإذا بالناس مجتمعين على رجل، فقال: ما لهم، قالوا: هذا الرجل يسب علي بن أبي طالب، فالتفت إليه سعد وقال: لا تسب أخي علي بن أبي طالب، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: {أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي} فقال الرجل: والله لأسبنه، فقال سعد: والله لأدعون عليك، قال: ومن أنت حتى يجيب الله دعاءك؟! فتوضأ سعد، وصلى ركعتين، ورفع يديه، وقال: [[اللهم أرنا فيه عجائب صنعك]] وما انتهى من دعائه إلا بجملٍ شرود أقبل من الكوفة لا يلوي على شيء، كأنه يبحث عن شيء، والناس يفرون من طريقه، حتى أتى إلى هذا الرجل، فضربه برجله، فإذا هو ميت.
فقال سعد: [[الحمد لله الذي أرانا فيه آيته الظاهرة]].(104/4)
موقف المؤمن من الفتن
وعاد رضي الله عنه وأرضاه إلى المدينة بعد أن توفي عمر، ولما بدأ الخلاف بين الصحابة، في عهد علي ومعاوية رضوان الله عليهم جميعاً، اعتزل الفتنة، وخرج إلى الصحراء رضي الله عنه وأرضاه، ترك الدنيا وهي مقبلةٌ إليه، ترك زينتها وزخرفها، وترك كل ما يمت إلى الدنيا، وقد أدى مهمته في الحياة ورسالته، ونصب له خيمةً في الصحراء، أما نهاره فصيام، وأما ليله فقيام، يسبح الله في الصباح والمساء، لا يفتر عن ذكر الله، معه قطيعٌ من الغنم، استغنى بما عنده من التقوى والزهد وعبادة الله عن الدنيا، وترك الفتنة لأصحابها والباحثين عنها، وجاءه ابنه عمر وقال: [[يا أبي يتقاتل الناس على الملك، وأنت في هذه الصحراء، قال: يا بنيَّ! والله إني أولى بالخلافة مني ببردي هذا، ولكني تركتها خوفاً من الله، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله يحب العبد الغني الخفي التقي}]].
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريباً
فإني أعظمكم ثروةً وإن خلتموني وحيداً سليباً
وأتاه الموت في الصحراء، فمات كما يموت الناس، ولكن عمله محفوظ عند الله!!: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران:30] يجد عمله وإخلاصه وصدقه عند الله، الذي لا تضيع ودائعه، عند علام الغيوب، الذي يثيب بالحسنة عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعافٍ كثيرة.
وحضرته الوفاة، واقتربت ابنته عائشة منه، وكانت تبكي وتقول: [[يا أبي!! أتموت هنا وحدك في الصحراء بعد صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر؟!!
فقال لها: لا تبكي علي فوالله إني من أهل الجنة]].
قال الذهبي معلقاً: صدق رضي الله عنه وأرضاه، فهنيئاً له، ومريئاً، نُشهد الله ونُدين الله بأنه من أهل الجنة، وارتفعت جنازته إلى المدينة ليصلى عليها هناك، وخرج الصحابة يتباكون، ويقولون: رضي الله عنك يا أبا إسحاق! عشت حميداً، ومت حميداً وتلقى الله يوم القيامة سعيداً، وخرج أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم متحجباتٍ من الحجرات يبكين، ويقلنَ: [[مروا بـ سعد علينا سقى الله سعداً من سلسبيل الجنة نصلي عليه]] فمروا به عليهن بعد أن صلوا عليه، فصلين عليه كذلك ودعون له، ووقف أحد الصحابة على جثمان سعد، وهو في أكفانه وقال: [[والله ما أعلم أشجع منك، والله ما أريد أن ألقى الله بعمل رجلٍ كعملك، ذهبت عن الفتنة نظيفاً سليماً رضي الله عنك وأرضاك]] رضي الله عنكم يا أصحاب محمد ورضي الله عنكم يا من اتبع محمداً صلى الله عليه وسلم:
كن كالصحابة في زهدٍ وفي ورعٍ القوم هم مالهم في الناس أشباهُ
عبادُ ليلٍ إذا جن الظلام بهم كم عابدٍ دمعه في الخد أجراه
وأسدُ غابٍ إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون لقياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناهُ
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(104/5)
دروس وعبر من حياة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، ورسول رب العالمين، وحجة الله على الناس أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أمَّا بَعْد:
فمن سيرة هذا الإمام الكبير نأخذُ دروساً في الحياة:
أولها: من موقفه مع أمه يوم رفضت أن تسلم، وأضربت عن الطعام والشراب، فرفض هو أن يعود عن دينه، نأخذ من ذلك ألا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، وأن بر الوالدين شيء، وطاعة الله شيءٌ آخر، وأنه لا يطاع مخلوقٌ في معصية الله، مهما كان هذا المخلوق، من أبٍ أو أمٍ أو مسئولٍ أو معتمد، فإن الله عز وجل، هو الذي يطاع بحقٍ، فلا ينبغي لأحدٍ من الناس أن يطيع والديه في معصية الله، بل يصاحبهما في الدنيا معروفاً، ويحسن صحبتهما، ولكن لا يتبعهما على ما أرادا من ضلالةٍ أو معصية، أو مخالفة، فعلى المسلم أن يكون دائماً ثابتاً، كما فعل سعد بن أبي وقاص مع أمه، وقال لها: [[والله لو كان لك مائة نفس، فخرجت الواحدة تلو الأخرى ما رجعت عن ديني فكلي أو دعي]].
والدرس الثاني: أن المطعم الحلال هو من أسباب إجابة الدعوة، وأن الله عز وجل، لا يقبل دعاء رجلٍ إلا إذا أحسن مطعمه، وكان مطعمه حلالاً، ولذلك ذكر صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة: {الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، ومطعمه حرام، ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنَّى يستجاب له}.
أي: كيف يستجيب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى له وقد دنس مطعمه، نأخذ ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم لـ سعد: {أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة} فاللقمة الحلال هي من أسباب إجابة الدعاء وإصلاح الذرية والنية والطوية، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام، كما في صحيح مسلم عن جابر: {لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه وشاهديه، وقال: هم في الإثم سواء} لأن عمله مردودٌ عليه، ونأخذ من موقفه رضي الله عنه وأرضاه في الفتنة، واعتزاله للفتنة، وتركه الخوض فيما خاض فيه غيره من الناس، موقفاً ودرساً، وفائدةً لا ينساها المسلم وهو أن من علامات المسلم ومن خصائصه أنه إذا حدث حادثٌ في الناس أو وقع اختلافٌ بين الأمة، أو وقعت مشاكل وحوادث، لا تخدم الدين، وإنما تشتت كلمة المسلمين وتفرق جمع المؤمنين، أن على المسلم أن يعتزل هذه الحوادث، والمشارب، وهذه المشاكل، وليبق في بيته، وليكن حلساً من أحلاس بيته، لا يخرج إلا لصلاة، أو لجمعٍ مبارك، أو لفائدة يستفيدها، فـ سعد رضي الله عنه وأرضاه اعتزل الفتنة لما رأى الحوادث المدلهمة والفتن التي تعم الأمة، وتركها وجلس في بيته رضي الله عنه وأرضاه، فإن الذي يحب الفتن، ويستوشي الأخبار والحوادث، ويحب الزعازع والقلاقل، رجلٌ فيه نفاق، مريضٌ قلبه، مريضةٌ روحه، لا يربو ولا يعشعش ولا يفرخ إلا على الكوارث والحوادث، أما سليم القلب، والذي يريد الخير للمسلمين فإن كان هناك جمعٌ مبارك، ونصرة، وتأليفٌ للكلمة شارك، وإن كان هناك خلاف، وحدثٌ وزلازل ومحن اعتزل، وهذا هو المؤمن الحق.
عباد الله فبمثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اقتدوا: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] وعلى منهاجهم سيروا، وبأخبارهم نفسوا وعطروا مجالسكم، وعلى ضوءٍ من سيرتهم استضيئوا، في ظلام الحوادث الدامس، وفي ليل الفتن المدلهم، نسأل الله لنا ولكم الثبات والاستقامة حتى نلقاه.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً واحدة، صلَّى الله عليه بها عشرا} اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم إلى ما تحبه وترضاه، اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم اهدهم سبل السلام، اللهم أعز الإسلام والمسلمين اللهم أعز الإسلام والمسلمين اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع رايتك وانصر كتابك، وأيد سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم وفق إمام المسلمين لما تحبه وترضاه، اللهم ألهمه رشده، وخذ بيده لما تحبه وترضاه يا رب العالمين!
اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاةُ خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنةٍ مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان وفي فلسطين وفي الفلبين، وفي كل بلاد من بلادك يا رب العالمين!
اللهم ثبت أقدامهم، اللهم أنزل السكينة عليهم، اللهم أفض عليهم روحاً من روحك، ويقيناً من يقينك، ووفقهم لما تحبه وترضاه يا رب العالمين!
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(104/6)
سؤالات واستفسارات عن الرسالة والرسول
إن من دلائل رسالة الإسلام شهادة العقلاء على أنه حق، ومما يستوقف الناظر في صحيح البخاري حديث المحاورة الشهيرة بين هرقل وأبي سفيان التي تصل القمة في روعتها عند قول هرقل: (ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه) والحق ما شهدت به الأعداء، وفي هذه المادة تفصيل وبيان لهذه المحاورة الجميلة.(105/1)
هرقل يحاور أبا سفيان
الحمد لله القائل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ * قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ * إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ * وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:107 - 112].
والصلاة والسلام على رسول الله القائل: {والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون}.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
أيها الناس: فهذه مناظرة حارة ومقابلة ساخنة بين أبي سفيان؛ قائد المشركين في حروبهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين هرقل؛ ملك الروم، وعظيم الروم.
عنوان هذه المحاضرة: سؤالات واستفسارات عن الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم.
ولنستمع إلى أبي سفيان وهو يروي القصة وهي في صحيح البخاري، كتاب الإيمان.
يقول: كنا في المدة التي ماددنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم -يقصد الصلح الذي وقع في الحديبية سنة 6هـ- فخرجنا تجاراً إلى الشام، وبينما نحن في تجارتنا في سوقٍ من أسواق الشام، وإذا بجنود هرقل يطلبوننا، وهم يسألون في السوق: هل هنا في السوق أحدٌ من العرب؟ فدلهم الناس علينا، فألقوا القبض علينا وذهبوا بنا وأدخلونا على ملك الروم، وإذا حوله البطارقة والقساوسة والوزراء وقواد جيشه وقد اكتظ بهم المكان.
قال أبو سفيان: فقال هرقل: من منكم أقرب الناس نسباً من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ -يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم- فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسباً.
-وهذا الكلام يجري عن طريق الترجمة، والمترجم يترجم العربية لـ هرقل ويترجم لغة هرقل لـ أبي سفيان - قال: اجلس أمامي، قال: فأجلسني أمامه.
ثم دعا برفقتي فأجلسهم خلفي، ثم قال لهم: إني سائل هذا الرجل عن الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني فكذبوه يقول هرقل: إن افترى عليَّ ودجل فكذبوه حتى يعرف الكاذب.
وقد صدق أنه من أقرب الناس نسباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو من عبد شمس والرسول عليه الصلاة والسلام من بني هاشم.
فقال أبو سفيان: فوالله لولا أن يتحدثوا عني بالكذب لكذبت عليه؛ لأنهم لن يكذبوه وهو منهم وهو سيدهم.
فسأله السؤال الأول: كيف نسبه فيكم؟ أي: الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب.
وصدق فما هناك في العرب، بل في المعمورة، بل في الكرة الأرضية، أرفع نسباً، وأطهر محتداً، وأشرف مولداً من الرسول عليه الصلاة والسلام.
ثم قال: هل كان من آبائه ملكاً؟ أي: على العرب.
قال: لا.
وصدق أبو سفيان فليس من آبائه صلى الله عليه وسلم من ملك، ولكنهم سادة كرماء أشراف.
قال: فهل قال أحدٌ هذا القول قبله منكم؟
قال: لا.
وصدق فإنها لا تعرف هذه المقالة في العرب.
فقال هرقل: أأشراف الناس يتبعونه على دينه أم ضعفاؤهم؟
قال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم.
قال: أيزيدون أو ينقصون؟
قال: بل يزيدون.
قال: أيرتد أحدٌ منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطةً عليه؟
قال: لا، لا يرتد أحدٌ منهم بعد أن يدخل دينه.
فقال: أقاتلتموه؟
قال: نعم، قاتلناه.
قال: كيف قتالكم معه؟
قال: يدال علينا ونديل عليه، فالحرب سجال، مرةً يغلبنا ومرةً نغلبه.
قال: فهل يغدر؟
قال: لا، ونحن منه في مدة لا ندري هل يغدر أم لا.
قال أبو سفيان: ولم تمكني كلمة أدخل بها عليه إلا هذه الكلمة، فهو يريد أن يقدح في الرسول عليه الصلاة والسلام، لأنهم أعداء؛ ولكنه ما استطاع، وما وجد فرصة في القدح فيه صلى الله عليه وسلم.
ثم قال هرقل: بم يأمركم؟
قال: يأمرنا بأن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
قال: فهل جربتم عليه كذباً؟
قال: لا.(105/2)
استنتاجات هرقل
انتهت هذه الأسئلة؛ وهي أحد عشر سؤالاً من أعظم الأسئلة في الرسالة، دلت على عظم عقل ذاك الملك الذي سألها، ودلت على صدق أبي سفيان الذي أجاب عليها فإليكموها بالتفصيل، والذي يفصلها هرقل.
ثم قال لهم: إني سألتكم عن نسبه، فقلتم: إنه فيكم ذو نسب، والله عزوجل يبعث الأنبياء في نسب من قومها.
فنسبه صلى الله عليه وسلم أرفع نسب:
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عموداً
قال: وسألتك: هل قال أحد هذه المقالة قبله؟ فقلتَ: لا، فقلتُ: لو أنه قال أحد هذه المقالة لقلت رجلٌ يقلد غيره.
وقلت لي: إنه ليس في آبائه من ملك؛ فلو كان من آبائه ملك، لقلت: رجلٌ يطلب ملك آبائه، ومجدهم وتراثهم.
فلم يكن من آبائه ملك؛ لأن العرب في الجاهلية تطلب ملك آبائها ومجدها؛ حتى تريق في ذلك الدم الأحمر، أما سمعتم ل امرئ القيس يوم قال:
ولو أنما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجدٍ مؤثلٍ وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
أي: أنه يطلب ملك آبائه.
ثم قال هرقل: وسألتك: أضعفاء الناس يتبعونه أم أشرافهم؟ فقلت: ضعفاؤهم؛ فعلمت أنه دين من عند الله، فإن الضعفاء أتباع الرسل.
وأول من يستجيب لدعوة الله هم الضعفاء والمساكين، وأول من يعادي الرسل هم المترفون؛ لأن فيها إضراراً بمصالحهم ودكتاتورياتهم في المجتمعات، فهم ينصبون لها العداء وهذا الدين للمستضعفين وللسادة سيان، فهو يساوي بين الأحمر والأسود، وبين الغني والفقير، وبين الكبير والصغير، وميزانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] يرفع بلال بن رباح العبد المولى، فيجعله سيداً من سادات المسلمين، ويبني الله له قصراً أبيض كالربابة في الجنة، ويخسئ هذا الدين أبا جهل؛ وهو فطحلٌ، صنديد من صناديد المشركين، ويخسئ أبا لهب؛ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عارض هذا الدين.
إذاً: فهو يقرب الضعيف لتقواه، ويرفع المسكين لمحبته لربه ومولاه، ويخسئ الفاجر المتكبر ولو كان صدراً وسيداً في قومه.
ثم قال: فقلت لك: أيزيدون أم ينقصون؟ فقلت لي: بل يزيدون؛ فعلمت أن هذا الدين سوف يستمر، وأن اتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام يزيدون.
ثم قلت لك: هل يرتد أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فقلت لي: لا؛ وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشته القلوب.
إنه دينٌ تحبه القلوب، وترتاح له الأرواح.
إنه دينٌ محبوب، إذا أدخله الله في قلب العبد، فلو أعطى له كنوز الدنيا، وخزائنها ذهباً وفضة على أن يعود عن دينه ما عاد طرفة عين؛ إذا ذاق حلاوة الإيمان، لا يعود عن دينه ولو يقذف في النار، فبشاشة الإيمان إذا دخلت في القلب لا ينتكس صاحبها، ولا يشتري الضلالة بالهدى، ولا الغي بالرشاد، ولا الظلام بالنور: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] وقوله عز من قائل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125].
ثم قال: وسألتك: هل جربتم عليه كذباً؟ فقلت لي: لا؛ فوالله ما كان له أن يدع الكذب عليكم ويكذب على الله.
فهو ليس كذاباً، وما وجهه بوجه كذاب، بل هو صادق: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4].
ثم قال: وسألتك: هل قاتلتموه؟ فقلت: نعم، تُغلبون تديلون وتدالون؛ وكذلك الرسل تبتلى حتى تكون لهم العاقبة.
وسألتك: هل يغدر؟ قلت: لا؛ وكذلك الأنبياء لا تغدر.
ومحمد صلى الله عليه وسلم لا يكذب ولا يغدر.
وإذا وعدت وفيت فيما قلته لا من يكذب فعلها أقوالها
أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة أدبت في هول الردى أبطالها
فهو لا يكذب لأنه شجاع، ولا يجبن لأنه صادق.
قال: وسألتك: بماذا يأمركم؟ فأخبرتني أنه يأمركم بعبادة الله، وبالصلاة والصدق والعفاف والصلة؛ وهذه دعوة الرسل.
ثم قال هرقل لـ أبي سفيان: وقد كنت أعلم أنه سوف يملك مكان قدمي هاتين.
وصدق هرقل فما هي إلا خمسٌ وعشرون سنة، وإذا بكتائبه صلى الله عليه وسلم تتدفق كأمواج البحر، عليها قيادة أبي سليمان؛ سيف الله المسلول، خالد بن الوليد يخوض المعركة، ويرفع لا إله إلا الله، وإذا بـ هرقل يولي الأدبار، وينظر إلى قصره في الشام، ويقول: سلامٌ عليك يا سورية، لا لقاء بعد اليوم.
ويدخل خالد، ويجلس على سريره ويقول: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} [الدخان:25 - 28].
قال هرقل: ولو كنت أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه أي لسافرت إليه في المدينة لكنه يخاف من قومه ومن شعبه ومن دولته أن يقتلوه.
وقال: ولو كنت عنده؛ لغسلت الغبار عن قدميه.(105/3)
نص رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل
ثم توقف أبو سفيان وتوقف هرقل، وسكتت البطارقة والقساوسة، وخفض القواد والوزراء رءوسهم في صمت، وإذا بطارق يطرق القصر، فخرج أحد الحجبة وقال: من أنت؟ قال: أنا دحية بن خليفة الكلبي، أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، معي رسالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم.
قال أبو سفيان: فأدخلت الرسالة، وتناولها القواد سريعاً حتى وصلت إلى هرقل، فنظر فيها ثم دفعها إلى الترجمان، قال: اقرأها علينا.
قال فرفع صوته وقرأ، وهذا نص الرسالة: {بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم؛ السلام على من اتبع الهدى، أمَّا بَعْد: فأسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]} فلما انتهت الرسالة وترجمت، قال أبو سفيان: كثر اللغط، وارتفعت الأصوات، واحتدمت الضجة، واختلط الناس، فأخرجنا الجنود من القصر، فقلت في نفسي: لقد أَمِرَ -أي: قوي- أَمْرُ ابن أبي كبشة، إنه ليخافه ملك بني الأصفر أي: ملك الروم.
وعاد أبو سفيان، وأسلم بعض الروم بهذه الرسالة، وارتفعت دعوته صلى الله عليه وسلم.(105/4)
ما يستفاد من المحاورة
ويؤخذ من هذه المقابلة والمحاورة أمور:
الأول: أن هذه الرسالة صادقةٌ صدقها الأعداء قبل الأصدقاء,.
شهد الأنام بفضله حتى العدا والحق ما شهدت به الأعداء
الأمر الثاني: أنه لا هداية، ولا نور، ولا فلاح إلا فيها، ومن اعتقد الفلاح في غيرها؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
الأمر الثالث: أنها عامة، وأنها عالمية، من لم يدخل فيها فلا قبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً، ولا فتح له أبواب الجنة.
الأمر الرابع: أن الأتقى هو الأشرف في الرسالة، وهو الأقدم والأوسم والأعظم، فلا ميزة لغني عن فقير، ولا لنسيب عن مسكين، وإنما الميزة لمن عمل بهذه الرسالة واتقى الله فيها.
الأمر الخامس: أنه ينبغي تبليغها للناس كافة؛ ملوكاً ومملوكين، كباراً وصغاراً، أغنياء وفقراء، لأنها رسالة لأهل الأرض جميعاً.
الأمر السادس: أن على المسلم أن يتذوق حلاوة الإيمان؛ ليثبت الله الإيمان في قلبه، ويؤيده بروح منه، ويكتب هذا الدين في فؤاده {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
الأمر السابع: أن الله نشر هذه الدعوة كما نشر الليل والنهار، فصارت مشرقة ومغربة، فانطفأت بشموسها أقمار ضلالة الأصنام، ونجوم عملاء الضلالة إلى أن تهاون المسلمون برسالتهم:
من الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لصاغها حلياً وحاز الكنز والدينارا
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(105/5)
واجبات المسلم تجاه رسالته
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وحجة الله على الناس أجمعين، وقدوة السالكين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله: من أراد أن ينقذ نفسه من الضلالة، وأن ينقذ نفسه من غضب الله ولعنته ومقته فليقبل على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ويدمن النظر في سطورها، وليتعلمها ويتفقه فيها، فإن واجب المسلم نحو رسالته صلى الله عليه وسلم ثلاث واجبات:
الواجب الأول: أن يعتقد أنها صادقة، وأنها حق وصحيحة، وأن النجاة والفلاح فيها لا في سواها؛ ومن اعتقد أن الخير في سواها فهذا رجل ختم الله على سمعه، وطبع على قلبه، وأخزاه ولعنه ومقته، وجعله من أهل النار، ولا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً يوم القيامة.
أوصد الله أبواب الجنة وأغلقها فلا تفتح لأحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من طريقه، فمن اعتقد أن غير طريقه سليمة، ومؤدية إلى رحمة الله؛ فقد ضل وشقي وخسئ في الدنيا والآخرة، عليه الخزي من الله والعار والشنار والنار.
الواجب الثاني: أن يعمل وأن يعتقد أنها شرف له؛ فيطبقها في حياته، ويأخذ السنة بحذافيرها، فلا يأخذ شيئاً منها ويدع شيئاً آخر: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]:
يا مدعٍ حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبينا
أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تدويناً وتهوينا
خذها جميعاً تجد خيراً تفوز به أو فاطِّرحها وخذ رجس الشياطينا
فواجب المسلم أن يأتي إلى هذه السنة، فيطبقها في بيته وفي نفسه ظاهراً وباطناً، فهذا هو النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، وأن يتشرف بأنه ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
الواجب الثالث: أن ينشرها بين الناس، وأن ينصرها ويوزع هدايتها في بيوت الناس، وفي أنديتهم ومحافلهم، وأن يفرح أن السنة تُعلَّم، وتُدرس، وتُنشر، وإذا لم يكن ناصراً للسنة فلا يكن عدواً لها ولا حجر عثرة في طريقها، ولا واقفاً ضدها، بل يتشرف بأنها تدرس وتعلم وتفقه، فهذا واجب المسلم.(105/6)
قصة جذع النخلة ودلالتها
جاء في صحيح البخاري عن جابر رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال عليه الصلاة والسلام لامرأة من الأنصار: {مري غلامك النجار أن يصنع لي منبراً أخطب الناس عليه.
فصنع ذاك الغلام له صلى الله عليه وسلم منبراً، فأتى عليه الصلاة والسلام، وهجر الجذع الذي كان يخطب عليه سابقاً -جذع نخلة- وأخذ هذا المنبر، فلما رقى على هذا المنبر وصعد عليه، وترك ذاك الجذع؛ حنَّ ذاك الجذع وبكى، قال جابر: والله لقد سمعنا له صوتاً كصوت العشار -أي: النوق- وقال أنس: والله لقد سمعنا له بكاءً كبكاء الأطفال في المسجد -شهد هذه القصة أكثر من ألف من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم- ثم نزل عليه الصلاة والسلام من على منبره، وقطع خطبته، وأتى إلى الجذع فوضع يده عليه يقرأ عليه، ويسمي عليه، ويدهده عليه كما يدهده على الأطفال حتى سكت}
قال الحسن البصري: [[يا عجباً لكم! جذعٌ من نخلة يحن لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم لا تحنون لسنته]].
إن واجبنا في الرجوع إلى الله في هذه الأيام -وفي عودة المسلمين- أن نأتي بحرارة إلى كتب السنة بعد القرآن، ونترك تلك الثقافات الدخيلة التي شوشت قلوبنا، ولعبت بعقولنا، وضيعت أوقاتنا الثقافات التي صدرها نابليون في حملاته، وكانت وديكارت؛ فأخرجت جيلاً ليسوا بجيلٍ كجيل الصحابة، وثقافات مشوهة فلابد أن نعود إلى المنبع العذب الصافي؛ منبع محمد صلى الله عليه وسلم.
نسينا في ودادك كل غالٍ فأنت اليوم أغلى ما لدينا
فلام على محبتكم ويكفي لنا شرفاً نلام وما علينا
ولم نلقاكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداءك أعداء الدين، اللهم اقطع دابرهم وزلزل الأرض من تحت أقدامهم، والعنهم لعنة تدخل معهم في قبورهم يا رب العالمين.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق؛ أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفق إمام المسلمين لما تحبه وترضاه، اللهم ارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتأخذ بيده إلى الصواب.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك؛ في برك وبحرك.
اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان وفي فلسطين وفي الفلبين وفي كل بلد من أرضك يا رب العالمين.
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(105/7)
المرأة المثالية
(لا بد أن تتحرر المرأة بأن تخرج إلى الأسواق وتخلع الحجاب وتشارك الرجال في كل شيء).
هذا ما ينادي به أهل الفجور والإلحاد، ينادون بهذا الكلام الذي باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب.
والدين الإسلامي يريد من المرأة أن تكون درة مصونة، لا تعبث بها الأيادي القذرة.
وعلى المرأة أن تدعو إلى الله في حدود ما تستطيع وما هو جائز لها، وعليها أن تحافظ على شرفها.(106/1)
المرأة مربية الأجيال
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكن ورحمة الله وبركاته، فرصة طيبة، ولقاء سانح أن يتكلم المسلم مع أخواته، مع أمهات الجيل مربيات الأبطال والشهداء والأدباء والعلماء، فالمرأة المسلمة يوم تعي خطاب ربها سُبحَانَهُ وَتَعَالى وما يراد منها في الحياة الدنيا تكون امرأة مثالية، والمرأة المثالية عنوان كلمتي هذا اليوم التي توجه إلى كل أم وأخت وقريبة مسلمة.
المرأة المسلمة في القرآن ذكرها سُبحَانَهُ وَتَعَالى مع الرجل، فهن شقائق الرجال، قال الله عز وجل لما ذكر الصالحين والصالحات: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] وذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالى النساء بعد الرجال فقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] وقال عز من قائل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات الآيات ِ) [الأحزاب:35].(106/2)
أهم ما يطلب من المرأة
إذا علم ذلك فلا بد أيتها المسلمة! أيتها المتعلمة أيتها التي تريد الحياة السعيدة! أن تعرفي ماذا يراد منك لهذا الدين.
أول ما يراد هو الإيمان؛ كيف نحمله وكيف نعيش به، وحياة بلا إيمان إنما هي غضب وسحق ولعنة وسخط، قال عز من قائل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126] عاشت آسية امرأة فرعون رضي الله عنها وأرضاها ولعن الله فرعون، عاشت في قصره، ومعه الذهب والفضة ومعه ملك الدنيا وتراثها وثراؤها، فلما رأت حياته حياة الكفر والضلال، وحياة الضياع والمعصية، وحياة اللعنة والغضب؛ أعرضت عن هذه الحياة، وملت حياة قصر فرعون وهي زوجته، فأخذت تشهد ألا إله إلا الله وأخذت تسأل الله أن يزيلها من هذا الملك الضيق إلى ملك الآخرة، وهي تقول: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] فاستجاب الله دعوتها.
يقول بعض العلماء: انظر إليها عليها السلام كيف طلبت الجار قبل الدار، قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ} [التحريم:11] أي: في جوارك وفي جنتك {بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] فلما سمع أنها آمنت عذبها بكل عذاب، حتى ذكر أهل السير أنه بلغ من تعذيبه أن ينصب عليها الحجارة في شدة الحر، وأن يسمر كفوفها على الجدران، وكانت الملائكة تظلها بأجنحتها عليها السلام، وانتقلت إلى الدار الآخرة لأنها رفضت حياة الضياع؛ الحياة الباطلة الآثمة.(106/3)
اعتناء الدين بالمرأة
والرسول صلى الله عليه وسلم أتى إلى المرأة أباً وزوجاً وأخاً ومعلماً عليه الصلاة والسلام، ربَّّى البنات، ورزقه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من البنات أكثر من البنين، فكان صلى الله عليه وسلم لا يسافر سفراً إلا بدأ ببناته، فيودعهن ويعيش معهن، ويلاحظ أمورهن، بل قال عليه الصلاة والسلام: {من عال جاريتين فأحسن أدبهما ورباهما فهو رفيقي في الجنة} أو كما قال، وقال صلى الله عليه وسلم: {الله الله في النساء فإنهن عوانٍ عندكم} وقال عليه الصلاة والسلام: {خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي}.
ومما يذكر في هذا الباب كيف ربى صلى الله عليه وسلم بنته المجيدة فاطمة الزهراء، رباها في بيت الحكمة والنبوة، تدرجت معه صلى الله عليه وسلم فأرضعها الإسلام والدين والقرآن، ثم زوجها من علي بن أبي طالب على شيء لا يذكر من المهر، على درع حطمية مكسرة، يقول علي: {وفدت على الرسول صلى الله عليه وسلم لأخطب ابنته، فلما جلست أمامه أتى بي من الخجل ما الله به عليم، فما تكلمت، فقال: يا علي ماذا تريد؟ فسكت، قال: أتريد فاطمة، قلت: نعم.
يا رسول الله! قال: عندك مال؟ قلت: يا رسول الله! وهل من مال عندي، قال: أين درعك الحطمية؟} وهي درع لا تساوي درهمين، فأتى بها رضي الله عنه وأرضاه، وزوجه النبي صلى الله عليه وسلم قرة عينه، فاطمة الزهراء.
يقول محمد إقبال شاعر الباكستان في فاطمة يقول:
هي بنت من؟ هي أم من؟ هي زوج من؟ من ذا يساوي في الأنام علاها
أما أبوها فهو أشرف مرسل جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلي زوج لا تسل عنه فما أزكى شمائله وما أنداها
إيوانه كوخ وكنز ثرائه سيف غدا بيمينه تياها
وعاشت رضي الله عنها وأرضاها في حياة الفقر والمسكنة؛ لكنها تحمل الإيمان والعمل الصالح، تعلم أن ما عند الله خير من الدنيا، قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] والله يقول في هذه الحياة: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35] إذا علم هذا فإنني أطالب أختي المسلمة التي تسمع هذا الحديث أن تتقي الله في حياتها وفي مستقبلها، وأن تعمر قلبها وبيتها بالإيمان:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لها قرينا
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:101 - 103] وقال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].(106/4)
نماذج من نساء المؤمنين
وأما في هذه الفقرة فمع طائفة من المسلمات اللواتي حفلن بطاعة الله عز وجل، وعشن في رضا الله تبارك وتعالى.
أم سليم، وهي أم أنس رضي الله عنها وأرضاها؛ التي يقول فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: {دخلت الجنة البارحة، فرأيت الرميصاء في الجنة} أتى أبو طلحة ليتزوجها وقد أسلمت وهو مشرك كافر، فأراد أن يتزوجها فقالت: [[لا والله حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وهذا مهرٌ يكفيني من الدنيا]] فأسلم معها، وكان مهرها الإسلام، فكان مهرها أعظم مهر في تاريخ الإنسان، وعاشت هذه المرأة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهدت له أعظم شيء في حياتها، وأحب شيء إليها وهو ابنها أنس طيبته وغسلته وعمره عشر سنوات وقالت: [[يا رسول الله! هذا أنس يخدمك، فهو هدية لك يا رسول الله]].
الخنساء النخعية، ربت أربعة أبناء لها، فلما كبروا حضرت بهم معركة القادسية، وقالت لأبنائها: "يا أبنائي والذي نفسي بيده إنكم أبناء رجل واحد، ما غدرت أباكم، ولا خنت خالكم، فإذا حضرت المعركة فيمموا أبطالها، واحضروا وطيسها وكونوا شهداء ".
وقتلوا في آخر النهار، وأتى الخبر إليها فتبسمت وقالت: "الحمد لله الذي أقر عيني بشهادتهم في سبيل الله".
هذه مكارم المرأة المسلمة:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم نبت إن تعاهده الحيا بالري أورق أيما إيراق(106/5)
بعض الجوانب في حياة المرأة
ثم اعلمن أيتها الأخوات المسلمات! أن رسالتنا في الحياة تختلف عن رسالة الأمم جميعاً، فإن الكافرات والمنحرفات، وإن الداعرات والمومسات في العالم لهن رسالة ولنا رسالة، وهم لم يعرفوا حتى المرأة ولا صانوا كرامتها.
إن لينين واستالين وماركس وهرتزل نادوا أن المرأة شيطانة، وهذه مذكراتهم نقرؤها صباح مساء، وإن الهنود كانوا يشكون هل المرأة إنسانة أم لا؟
إن الجاهليين الوثنيين في مكة قبل الإسلام كانوا لا يورثون المرأة ولا يسمعون رأيها، ويعدونها متاعاًً ساقطاً، وإن الأمريكان والألمان زجوا بالمرأة في أتون المعامل والمصانع والحروب، تشارك الرجل فيها فأذهبت جمالها وبهاءها وروعتها.
أما الإسلام فحفظ للمرأة جمالها وأدبها وبهاءها وروعتها، لما أتى صلى الله عليه وسلم سن للمرأة حقها في الإسلام، وجعلها شريكة للرجل، قال البخاري في الصحيح: "باب هل يجعل الرجل للمرأة أو النساء يوماً من نفسه" أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: {يا رسول الله! غلبنا عليك الرجال، يحجون معك ويصلون معك ويجاهدون معك، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فأتى عليه الصلاة والسلام فجعل لهن يوم الإثنين} فكان يحضر ويعلم ويربي ويوجه.(106/6)
الحجاب في الإسلام
المرأة في الإسلام درة وشمس، ووردة مكنونة لا تهان ولاتداس، محترمة فمن هذا المبدأ ننفذ إلى قضية الحجاب، فالحجاب ستر أراده الله للمرأة، وسنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى خروج المرأة عن الحجاب أنها تغضب المولى وتستحق اللعنة -أعوذ بالله من اللعنة- ولذلك في أثر {أن المرأة إذا تطيبت وخرجت من بيت زوجها بدون إذنه لعنتها الملائكة حتى تعود}.
فيا أخواتي المسلمات! أما رأيتن إلى الصور الخليعة من صور النساء الأجنبيات، المعرضات، المنحرفات، فيوم تركت المرأة دينها وعقلها وإيمانها ومراقبة ربها، وخرجت على الحجاب، ضلت سواء السبيل، وخلعت جلباب الحياء، فلذلك تحمل كثير من المجلات صورة المرأة الداعرة، وصورة المرأة التي تعرض نفسها على الأجانب، والتي ما عرفت السجود لله، ولا عرفت الوضوء ولا المصحف، ولا عرفت الاستغفار والتوبة.
ولذلك عانت كثير من الأسر العار والمسبة والدمار وقلة المروءة بسبب امرأة تهتكت ونزعت الحجاب.
إن الحجاب سنة وفريضة، وله كيفية في دين الله عز وجل، الحجاب هو ستر جمال المرأة لئلا تراها العيون، وأما من نادى بأن الوجه والكفين لا يدخله الحجاب فقد أخطأ خطأً بيناً، وغلط غلطاً فاحشاً، لا والله؛ بل الوجه يُستر ويبقى محجباً، وجه الجمال والروعة والحسن، ويوم يهتك الحجاب عن الوجه، فلا يبقى هناك حجاب ولا يسمى حجاباً، ويسمى هذا معارضة لشرع الله تبارك وتعالى.(106/7)
مجالس النساء
ومما أحب أن أنبه عليه: قضية انتشرت بين كثير من النساء اللواتي لم يعرفن الحياة، وما ملأن قلوبهن وبيوتهن بالإيمان، وهي قضية المجالس وما يدار فيها، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر من كثير من المجالس التي تحضرها النساء غير المستقيمات، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن المرأة كثيرة اللعن والشتم والسب إلى غير ذلك، ولذلك قال: {رأيتكن أكثر أهل النار، تقول امرأة: "ما بالنا يا رسول الله! أكثر أهل النار! " قال: تكفرن العشير وتكثرن اللعن، فأما كفر العشير فلو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت شيئاً قالت ما رأيت منك خيراً قط}.(106/8)
التبرج والفحش يجعل الرجال يعزفون عن المرأة
فحذار حذار من كثير من المجالس اللاتي يتخللهن الغيبة والنميمة، والزور والفحش، ولا تظن المسلمة بأنها بمغيب عن الواحد الأحد، قال تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7].
وأنا أعلم أن هناك -والحمد لله- نساء مستقيمات بدأن في مجالسهن بالدعوة، وقراءة القرآن وذكر الله، وقراءة السيرة والحديث النبوي، والكتاب والشريط الإسلامي، فإلى تلكم الأخوات أهدي باقة من الود والسلام والدعاء أن يثبتهن الله حتى يلقينه، يوم {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء} [إبراهيم:27].
نحن أمة حسننا وجمالنا في ديننا، ووالله -مما أعلم من حالة الرجال عموماً- أن جمال المرأة في دينها وفي استقامتها وفي سترها، حتى الفسقة من الرجال لا يريدون المتبرجة، ولا يريدون إلا المحتشمة؛ لأن السلعة المعروضة تنبذها النفوس، يقول العربي في قصيدة له:
إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كن الكلاب ولغن فيه
إن المرأة التي تعرض نفسها على الناس لا تشتهى ولا تراد ولا تحب، لأنها عصت الله وأغضبت المولى تبارك وتعالى، ثم هي لم تعد مرغوبة عند الناس لأنهم لا يريدون إلا دراً مكنوناً، ولا يريدون إلا بضاعة محفوظة مصونة كما أرادها الإسلام.(106/9)
الإسراف عند النساء
فإذا علم هذا فإني أحذر من قضية الإسراف، فقد تظن المرأة أنها إذا أكثرت من الذهب والفضة، وأكثرت من الملابس والحلي والأثاث أنها أصبحت محسنة ومجيدة وجميلة ومرغوباً فيها، والله تعالى يقول: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:27] {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67].
يا أيتها المسلمة التي جعلت همها في الذهب والحلي! اعلمي أن بنت الرسول صلى الله عليه وسلم فاطمة لم تحمل ذلك، لم تملك من الدنيا إلا ما يقوتها وهي عند الله سيدة نساء العالمين، رضي الله عنها وأرضاها.
{أتت إلى بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم تطلب خادماً، فأتاها النبي صلى الله عليه وسلم من الليل هي وزوجها وقد أخذا مضاجعهما فقال: ألا أدلكما على خير مما سألتماني؟ قالا: بلى.
قال: إذا أخذتما مضجعكما فسبحاً ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين؛ وكبراً أربعاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم}.
ما أحسن التوجيه! إن الذي ينفع العبد في الآخرة إنما هو الذي يبقى في ميزان الحسنات، وإن الخادمة والملبس والحلي، وإن البيت والسيارة الفاخرة بلا إيمان كلها غضب ومحق وانصراف عن هدي الإسلام، وزيادة من النكال الذي يستغله الإنسان على حساب حسناته في الآخرة.
الإسراف أمر معهود، ووجد كثيراً في المجتمعات، لا ترضى المرأة فيها إلا بعشرات الملابس ومئات الأشياء، وكل شيء في تجديد، فتحضر الولائم والأعراس بحلي جديدة، وملبس جديد، وشيء جديد، دائماً وزوجها في كلفة ومشقة وعنت، وتريد أن تحيا معه حياة السعادة، فتنغص عليه حياته، وتضيق عليه مستقبله، وتفقره مالياً، وتدينه مادياً، فيتحمل أموال الناس ديوناً على كاهله، ويعيش في تعاسة من أجل امرأة سفيهة في تصرفها وسفيهة في مستقبلها، وسفيهة في ملبسها؛ تظن أن الجمال وأن الوزن والقيمة في هذه الأشياء، لا والله.(106/10)
فتن في مجتمعاتنا
ثم إني أنعى والجبين ليندى والقلب ليوجل مما حدث في مجتمعاتنا من ظواهر نشكو إلى الله منها، ونسأل الله أن يصلح الحال، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حذرنا من الفتن {كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا} فتن كقطع الليل، فتن يرقق بعضها بعضاً، فتن مدلهمات كالسيل الجارف، كأمواج البحر.
ومن الفتن التي حلت بالمرأة اختلاطها بالأجانب وعدم احتشامها، ونسيانها لرقابة الواحد الأحد:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء:218] و {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] والذي يعلم ما تكنه الضمائر وما تحويه السرائر.(106/11)
الخلوة بالأجنبي
وجد من النساء من تخرج مع السائق في خلوة ليس معها محرم، تجوب به المدينة، وتدخل به الأسواق، وتخترق به صفوف المسلمين، وتجرح مشاعر المؤمنين، وتخيب أمل أمتها فيها، ثم تَحدُث أمور الله أعلم بها في ظلام الليل، لكن الذي خلق الليل يعلم ما حدث فيه، والذي ستر المذنبين يعلم ما يفعلون.
فامرأة تخرج بسائقها إلى السوق وتضيع عن أهلها ساعات طويلة لا يدرى أين ذهبت، وامرأة تسافر مراحل مع الأجانب، وامرأة تذهب إلى الخياط الأجنبي الذي ليس عنده من الوازع الديني، ولا من الإيمان، ولا من مراقبة الواحد الأحد ولو ذرة، امرأة تذهب إلى الخياط تحمل فستانها وجلبابها ولباسها فتبيع دينها وعرضها، امرأة تذهب فتكلم ذاك وهذا.
ولذلك أنعى إلى أخواتي المسلمات مسألة الهاتف، وما أحدث عند اللواتي لم يحملن إيماناً ولا مراقبة من شر مستطير، وهناك كتيب سوف يصدر قريباً لإحدى المسلمات المؤمنات اسمه أيتها المسلمة احذري التلفون الهاتف ورأيت من بعض التقريرات والاستقراءات مما أحدث هذا الجهاز من مضرة، وما هتك من أعراض، وما ضيع من حشم ما الله به عليم، فنسأل الله أن يصلح الحال، ولكن حذار حذار من الخلوة بالأجنبي.
ومن الفقه الأعوج، ومن السفه أن وجد عشرات بل مئات من النساء يحضرن صلاة التراويح يردن الأجر والمثوبة، لكن تركب مع السائق الأجنبي في الخلوة فيجوب بها الشوارع ويذهب بها إلى المسجد، فأي طاعة وأي قربة وأي حسنات وأي درجات هذه، عصت الله في أول الطريق حتى وصلت إلى المسجد وأغضبت المولى تبارك وتعالى حتى وصلت إلى بيت الله تعالى متعطرة متطيبة مع سائق أجنبي في خلوة محرمة ثم دخلت المسجد لتؤدي نافلة.
والله لجلوسها في بيتها أرفع وأولى، ولمقعدها في عقر دارها أحسن عند الله مثوبة وأجراً، إنها هتكت جلباب الحياء، وأفسدت أكثر مما أصلحت، وعادت من المسجد مأزورة لا مأجورة، ومدحورة لا مشكورة، لأنها عرضت نفسها للفتن، وكم تفتن القلوب وكم تحدث في النفوس من فتنة عارمة إذا شم أحد الناس الفاسقين الطيب الذي يفوح من جلباب هذه المرأة، إذا نظر إليها أو خلا بها، فإلى الله نشكو حالنا، وإلى أخواتي المسلمات أنادي نداء حاراً أن اتقين الله في هذه الأمة؛ في مستقبلها وفي أبناء الجيل، وفي بيوت المسلمين والمسلمات.(106/12)
إحجام المرأة عن الزواج
ومن الظواهر التي وجدت في المجتمع إحجام كثير من النساء عن الزواج الشرعي بكلمة الواحد الأحد، وهذا الزواج هو مستقبل المرأة مع تقوى الله عز وجل، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {مسكينة مسكينة مسكينة! قالوا: من يا رسول الله؟ قال: امرأة لا زوج لها، ومسكين مسكين مسكين رجل لا زوجة له} وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38].
وإحجام المرأة يوجد له أسباب:
إما والعياذ بالله أن هناك فسقاً وفجوراً فصدها فجورها أو فسقها عن الزواج الشرعي.
ومنها حجج ساقطة كإكمال الدراسة، أو لأجل الوظيفة ومنها أمور أخرى، وهذه مأساة، فإن الوظيفة لا تعطل الزواج ولا تعطل حياة البيت؛ إذا كانت وظيفة طيبة شرعية؛ وكذلك مواصلة الدراسة، وهذه الحجة والذريعة أفسدت كثيراً، وعطلت الكثير من المصالح، وعطلت كثيراً من الطرق، وسدت كثيراً من النوافذ.
ووجد في المسلمات من لا تريد الزواج من رجل ما، إما بذريعة الفقر أو بذريعة عدم الوظيفة أو بأمر آخر، وهذه مأساة، يقول صلى الله عليه وسلم: {إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} إن الإيمان هو المطلوب، وإن الفاجر مغضوب عليه، -والله- لو تقدم بقصور الدنيا، وملايينها، ووالله لو أتى بسيارات الدنيا وهو فاجر لا يزيده فجوره وماله إلا لعنة وغضباً من الواحد الأحد، وقد رأينا من أخواتنا المسلمات من حددت الزواج بصاحب المال ولم تنظر إلى دينه، وإنما نظرت إلى منصبه، أو جاهه أو منزلته في الناس، أو شهرته فتقدمت إليه وأغفلت جانب الإيمان، فحول حياتها من جنة إلى سعير، ومن سعادة إلى شقاوة، ومن نعمة إلى لعنة والعياذ بالله.
أتعسها في دار الدنيا وفي دار الآخرة، حتى أنني سمعت من أخواتي المسلمات عن طريق الهاتف وبعض الكتابات والأسئلة أنها تعيش في جحيم، فزوجها لا يصلي، وهذه زوجها يتناول المخدرات، وهذه زوجها يعاقر الخمر، وتلك يضربها صباح مساء، يمنعها من الصلاة ويعطلها عن زيارة والديها، يدخل عليها الفاحشة والعياذ بالله، صور عجيبة، لماذا؟ هي التي باعت نفسها، وهي التي رضيت بالفاجر، وهي التي دخلت هذا البيت الآثم المظلم، والبيت النير هو بيت (لا إله إلا الله) هو البيت الذي يعبد فيه الواحد الأحد، هو بيت الحجاب والشريط الإسلامي.(106/13)
الغناء الماجن والمسلسلات الخليعة
ومما أنوه به كذلك مسألة انتشار الغناء الماجن، الأغنية قد أحدثت في قلوب أمتنا وجيلنا رجالاً ونساء فسقاً وفجوراً، قال أهل العلم: "الغناء بريد الزنا" وما استمعه مسلم أو مسلمة إلا هتك دينه وضيع مستقبله وأظلم فؤاده وقسى قلبه، ولذلك كانت مصائب الغناء أربع:
أولاً: أنه يغضب المولى تبارك وتعالى.
ثانياً: أن القلب يقسو، فينصرف عن القرآن والحديث والسيرة، فلا يحب الوعظ ولا الدعوة.
ثالثاً: أن الله يحرم من سمع الغناء في الدنيا غناء الحور العين، فعند أحمد في المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن في الجنة جوار يغنين يقلن: نحن الناعمات فلا نبأس، نحن الخالدات فلا نبيد، طوبى لمن كنا له وكان لنا}.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[إذا اشتهى أهل الجنة الغناء أرسل الله ريحاً طيبة فهزت أغصان الجنة فسمع صوت ما سمع بصوت أحسن منه]] قال ابن القيم ينظم هذه المعاني:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
إذا علم هذا فحذار حذار من الغناء فهو محرم قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان:6] ويقول عليه الصلاة والسلا: م {إني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين؛ صوت عند نعمة وصوت عند مصيبة} فحذار حذار من شريط الغناء، حذار حذار من المسرحية الآثمة، ومن المسلسل المجرم الذي هتك البيوت وهدمها وخرب القلوب، فما عادت تصلح لأن تعي لا إله إلا الله، وما عادت تصلح أن تحمل القرآن، وما عادت تصلح أن تسبح بحمد الله، وما عادت تصلح أن تتوجه إلى الله عز وجل، لأنها خربت والله من الغناء.
ويلحق بالغناء الموسيقى، ومهما تهتك متهتك أو تساهل متساهل فحكمها الحرمة في دين الله عز وجل في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك يدخل في هذا الباب الفيديو المهدم، وما أحدث من فساد عظيم وشر مستطير، فهو إنتاج صهيوني عالمي المقصود منه تهديم بلاد الإسلام، وتولى هذا الفيديو في أول ما ظهر شركة إيطالية، وهي التي تقدم كثيراً من الأفلام وتغذيها بالمال، ويقول اليهود: إنهم نجحوا في الفيديو أكثر مما نجحوا في المعركة.
نجحوا في خراب بيوتنا وأبنائنا وبناتنا بطريق الفيديو أكثر مما نجحوا بالطائرات والصواريخ، والدبابات والقنابل، يعرضون الجنس والخلاعة، ويعرضون المجون والكفر على شاشاته وفي مسلسلاته وأدواره، فإذا رأت المسلمة هذا المسلسل وهذه الشاشة أصبحت في بعد ومنأى عن الواحد الأحد.
وعليكم بإخراجه -فليس فيه صلاح- وعدم الإنصات له، وعدم ترك البيت مسرحاً لهذا الهدم.(106/14)
المجلات الخليعة وما يلحق بها
ومن هذا الباب المجلة الخليعة: انظرن أخواتي في الله! إلى الأسواق وما ردحت فيها من مجلات خليعة تحمل صوراً ماجنة، صور جنس رجل مع امرأة يعاقرها في الفاحشة الكبيرة التي تغضب المولى، صورة شابة فتية جميلة متهتكة أصبحت تعرض نفسها على العالمين.
وللأسف الشديد والمأساة الملحة أن المجلة تدخل بيوت كثير من الناس، وكثير من المؤمنات الصادقات، توجد المجلة عند مخدتها وعند رأسها تقرؤها صباحاً ومساءً؛ فلا تعرف تقرأ كتاب الله ولا تخصص وقتاً للحديث، ولا تستمع الشريط الإسلامي، ولا تقرأ الكتاب الإسلامي وسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، بينما القرآن يدعوها صباح مساء إلى أن تتلوه: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29] {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
ويعجبني أن وجد في بناتنا مستقيمات متحجبات ملتزمات، أطهر من حمام الحرم، وأزكى من ماء الغمام، لا تعرف الواحدة منهن إلا مدرستها وبيتها، ومصحفها معها، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته والشريط الإسلامي والجلوس مع الداعيات المسلمات ودعوة أخواتها، ولذلك توفرت أسباب الخير، من كثرة الدعاة وتوفر الكتاب والشريط الإسلامي، وقد استمعت إلى دعوة من التوعية الإسلامية، وقد قامت بالمناداة والدعوة لاستقبال المرأة المسلمة عصر كل يوم خميس في مقر التوعية الإسلامية لرؤية وأخذ وملاحظة الشريط الإسلامي الذي في السوق الإسلامي والحمد لله.
فأقبلن على الخير وانتهين عن الشر، فإن الله سوف يتولاكن في دار الدنيا ودار الآخرة، والله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
وهنيئاً لمن أطاعت زوجها بعد أن أطاعت ربها وصلت خمسها، وصامت شهرها، حينها تدخل جنة ربها، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم.
فيا حفيدات زينب وأسماء، وعائشة وفاطمة مزيداً من التقوى، ومزيداًُ من التعقل، ومزيداً من الحرص على العرض والشرف والأسرة.(106/15)
مصيبة هتك العرض
هتك العرض -والله- لا تعادله لذة الدنيا، ولقد وجد من الآباء من بكى حتى خلط دمعه بدمه، بكى دماً أحمر من عينيه لما رأى بنته قد هتكت حجابها وجلبابها، وهتكت عرضها، وارتكبت الفاحشة الكبرى، -والله- لقد وجد من الآباء كما ذكر كثير من الدعاة قال: رأيت بعض الآباء أصيبوا بسكتات قلبية مما رأوا من المناظر في بناتهم، وأغمي على كثير من الآباء حتى حملوا إلى المستشفيات مما رأوا، فالعرض لا يساويه شيء من الدنيا، -والله- إن الأب المسلم يتمنى أن يقرض بالمقاريض أو يقطع بالسكاكين قطعة قطعة من رأسه إلى أخمص قدميه ولا يسمع في عرض ابنته كلمة واحدة، فكيف تتقدم المرأة المسلمة أو البنت الناشئة إلى هذا العار والدمار والشنار وتنسى عرضها، إن لم تتق الله وتستحي منه أفلا تستحي على عرضها.
أفلا تقدر أباها وأمها وإخوانها وخئولتها وأعمامها، ألا تعلم أنها في لحظة واحدة، وفي دقائق معدودة تمارس فيها لذة محرمة أو نظراً محرماً أنها تهدم مستقبلها، وتدخل أباها جحيماً من العار والدمار، ويتمنى أبوها أن يقطع تقطيعاً، حتى إني سمعت أن بعض الآباء يقول: يا ليتني ما عرفت الحياة، وبعضهم كان يرفع يديه إلى السماء ويقول: يا رب! لم خلقتني، سبحان الله!
بلغ من الحالة ومن الأسى واللوعة، والندم والبكاء أن يقول يا ليته ما خلق ويا ليته ما عرف الحياة، لأن مريم عليها السلام لما خافت أن يزور عليها المزورون ويبهتها الباهتون وهي بريئة، وهي طاهرة مطهرة {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] هكذا يقول بعض الآباء أو بعض الأمهات.
حتى إن بعض الآباء يدعو صباح مساء على ابنته، التي جعلته لا يخرج من بيته فجعلته يتقنع داخل البيت، لا يستطيع أن يدخل مع الجيران، ولا يجلس مع الإخوان والأحباب، أصبحت حياته مظلمة، وأصبح يحمل وصمة في جبينه، فهل قدَّرت البنت والأخت المسلمة هذا؟ ألا جعلت في محسوبها أن هذا فعل شنيع تكاد تنهد منه السماء والأرض، وتكاد تتدكدك منه الجبال.
اللهم أصلح شبابنا وشاباتنا، اللهم أصلح فتياننا وفتياتنا، اللهم أصلح بيوتنا وقلوبنا، اللهم اهدنا سبل السلام، اللهم إنا توجهنا إليك نريد وجهك أن تربي بيوتنا على لا إله إلا الله محمد رسول الله، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم إن أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين ولا مفرطين ولا ضائعين ولا مضلين، اللهم إنا نعوذ بك من الفاحشة والسوء والمعصية، اللهم إنا نعوذ بك من الغضب واللعنة، اللهم إنا نسألك الستر والعفاف والرغد، اللهم أدخلنا في جلباب سترك وعفوك ورحمتك، ونسألك من العيش أرغده، ومن العمر أسعده، ومن الوقت أعمه، ومن الزمن أتمه، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
شكر الله لكن استماعكن، وأسأل الله أن تكون هذه الكلمة نافعة مفيدة، تقابل بالعمل وبالتأثر، وأن تكنَّ من اللواتي يستمعن القول فيتبعن أحسنه، أولئكن الراشدات المستقيمات الحافظات للغيب بما حفظ الله، نزلهن الجنة في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(106/16)
الأسئلة
.(106/17)
حكم صيام الست من شوال قبل قضاء رمضان
السؤال
الأخت المسلمة تسأل عن صيام ست من شوال وقضاء ما بقي من شهر رمضان، هل لا بأس بتقديم الستة على القضاء أم ماذا؟
الجواب
الأولى والأقرب إلى السنة أن يُقضى ما بقي من الشهر قبل صيام الست من شوال؛ لأن القضاء فريضة والست من شوال نافلة، ولا تقدم النافلة على الفريضة، لكن لو حدث أن أختاَ قدمت الست من شوال فلا بأس بذلك، لكن الأولى والأحسن والأقرب إلى الأصول أن يقدم القضاء قبل الست من شوال.(106/18)
حكم صيام يوم السبت وحده
السؤال
ما حكم من صام يوم السبت وحده؟
الجواب
صيام السبت وحده منهي عنه؛ لكنه غير محرم، إنما هو مخالفة للأولى، فالأحسن ألا يفرد يوم السبت ولا الجمعة بصيام، وإنما لها أن تفرد يوم الإثنين ويوم الخميس وما دام أنها صامت عن جهل، فلا بأس إن شاء الله، ولكن لا تفرد يوم السبت من الآن إنما تصوم يوماً قبله أو يوماً بعده.(106/19)
حكم لبس الدبلة في الزواج
السؤال
ما حكم لبس المرأة للدبلة -في الزواج- المكتوب عليها اسم الزوج؟
الجواب
إذا لبستها للزواج فلا بأس بذلك، ولا أعلم فيه نهياً إلا أن يكون مشابهة، فإن كان فيه تشبهاً بالكافرات فهو أمر محرم، فإنه لا يجوز التشبه بالكافرة.
أما إذا لبستها هكذا فلا أعرف فيه بأساً، وأما إذا كتب اسم الزوج عليها وأصبح أمراً معهوداً ومتداولاً وأصبح مقنناً فأرى أنه من باب البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، وأنه محرم، وأنا قصدت قبل أنها تلبسها وقت الزواج من ضمن الحلي، لكن ما دام أن لها مراسيم وأصبحت منتشرة وأصبح لها ضبط ومؤقتة ويكتب عليها اسم الزوج فهذا ما أنزل الله به من سلطان، وهي من العادات الجاهلية التي لم يأت بها الإسلام فليعلم ذلك.(106/20)
دعوة للتبرع
لدي الآن دعوة بمناسبة هذا الأسبوع للتبرع لأبناء فلسطين وأفغانستان، والصناديق موجودة كما أشار الدكتور في هذا الإعلان داخل الجامعة، وأنتن تعلمن أن الصدقة خاصة للمرأة باب عظيم فتحه النبي صلى الله عليه وسلم، وجهاد المرأة المسلمة ليس قتالاً، يقول صلى الله عليه وسلم: {جهادكن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
والمرأة لا يطلب منها أن تحمل السلاح ولا أن تحضر المعركة ولا أن تشهد الغزوات إلا لمداواة الجرحى وخدمة الجيش، فدورها في الجهاد التبرع ومد اليد بالدرهم والدينار والكسوة والغذاء، ودعوة الأخوات المسلمات إلى التبرع وإلى طاعة الله، وأن تدخل الإسلام على البيوت المجاورة؛ لأن الله إذا هدى بها امرأة مسلمة كان خيراً لها من حمر النعم كما قال ذلك عليه الصلاة والسلام.(106/21)
حكم البقاء مع زوج لا يصلي
السؤال
امرأة مع زوج لا يعرف من الإسلام إلا اسمه -كأنه لا يصلي ومعرض عن الله عز وجل- طلبت من هذا الزواج الطلاق واستخارت الله عز وجل ورأت في المنام كأن بيتاً يحترق، فهل تستمر معه؛ مع العلم أنه سوف يأخذ ابنه أم ماذا تفعل؟
الجواب
أقول ما دام أن هذا الزوج معرض ولا يصلي فهو كافر، وقد علمت هذه الفتيا وانتشرت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} وقال: {الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة} إذا علم ذلك فهو كافر على كل حال، فإن استطاعت أن تدعوه وأن يعلن توبته ويدخل في الإسلام من جديد فلها ذلك، وإن رأته معرضاً فلها أن تطلب الفكاك والطلاق، وألا تمكنه أبداً من نفسها فيصبح محرماً عليها لأنه كافر وهي مسلمة، وأما رؤياها في المنام بأن بيتها يحترق فهو بيت العاصي المجرم يحترق بالجريمة والكفر والعياذ بالله، فالحريق هو الكفر والإعراض عن الله عز وجل، وهو شؤم، ولا يدخل الحريق بيتاً في المنام إلا لشؤم هذا البيت، فلتنجُ بنفسها من هذا الوحش المجرم الذي أعرض عن الله عز وجل، وما عليها من الابن فالله عز وجل يتولاه.
أما أن تعيش مع كافر معرض عن الله عز وجل فهذا أمر عظيم لا ينبغي أن يصبر عليه.(106/22)
حكم البقاء مع زوج متساهل بالفرائض
السؤال
زوجي متساهل بالفرائض، فهل لي أن أطلب الطلاق منه؟
الجواب
ما دام أنه يصلي فهو على خير ولا يطلع على النيات إلا الله، لكن إذا كان فاسقاً فلا تطلب الطلاق منه، إنما تحاول أن تؤثر في حاله بالدعوة بالتي هي أحسن بإدخال الشريط والكتاب الإسلامي، بدعوته، بالتأثير عليه، بالدعاء له، فما دام أنه يصلي ولا يترك فريضة فهو مسلم، أما إن ترك ولو فريضة واحدة عامداً متعمداً فقد كفر، ولو صلى في البيت فهو فاسق لكنه مسلم.(106/23)
الخوف من الرياء في العمل
السؤال
أريد الدعوة إلى الله عز وجل لكني أخاف من الرياء فماذا أصنع؟
الجواب
أقول لها: عليها أولاً أن تخلص العمل لله عز وجل، وعليها أن تترك هذه الوسوسة؛ لأنه لو أخذ كل إنسان رجلاً كان أو امرأة بهذه الوسوسة وأنه إذا دعا يخاف من الرياء والشهرة لما دعا أحد إلى الله، ولا تكلم أحد بكلمة، فعليها أن تترك هذه الوساوس وأن تخلص عملها لوجه الله، وأن تدعو إلى الله عز وجل على بصيرة، وتعلم أنها من ورثة الأنبياء والرسل بدعوتها إلى سبيل الله عز وجل، ولكن عليها أمران:
الأول: ألا تدعو إلا أخواتها من النساء، فإنه ليس للمرأة أن تدعو الرجال أبداً إلا محارمها.
والثاني: عليها أن تدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، وألا تكون فظة ولا غليظة، ولا مصدرة لأحكام جارفة جائرة، بل عليها أن تدعو بالتي هي أحسن؛ باللين والهدوء والتحبب والهدايا علًّ الله أن يحببها إلى خلقه، وأن تكون مؤثرة ونافعة ويرفع منزلتها عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(106/24)
هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في اللباس
أمور الحياة كلها محكومة بشرع الله جل وعلا، ومن ذلك اللباس، فاللباس له أحكام، وله ضوابط لابد للمسلم أن يعرفها.
وفي هذا الدرس بيان لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في لباسه، وفيه عرض لبعض الأحكام؛ مثل: حكم إسبال الإزار، وحكم لبس الحرير، وما ورد من أذكار تقال عند لبس الثياب.(107/1)
اللباس في الكتاب والسنة
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله نحمده على كل نعمة أنعم بها في قديم أو حديث، ونشكره شكراً جزيلاً، ونصلي ونسلم على معلم الخير، ومعلم البشر، ورسول الإنسانية، وهادي البشرية، ومزعزع كيان الوثنية، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السموات شيِّقات ظِماء والفضا والنجوم والأنواء
كلها لهفة إلى المصطفى الهادي وحب مبجل واعتناء
حن جذع إليه وهو جماد فعجيب أن تجمد الأحياء
معنا في هذه الليلة هديه صلى الله عليه وسلم في اللباس،
و
السؤال
كيف كان يلبس؟ وما هو قدر اهتمامنا بلباسه صلى الله عليه وسلم؟ وهل أتى ليعلمنا اللباس؟ وأن نلبس غتراً وثياباً وأقمصة وسراويل لتكون محددة؟
الجواب
نعم.
أتى ليعلمنا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويعلمنا الخير، والهدي، والأدب، والسلوك، والطعام، والشراب، واللباس، فلا نلبس إلا بأمر، ونجتنب المحرم لنكون على بصيرة، فهو قدوة في كل جليلة ودقيقة صلى الله عليه وسلم.(107/2)
اللباس في القرآن
ولنستمع إلى الإمام البخاري وهو يفتتح كتاب اللباس: بسم الله الرحمن الرحيم: كتاب اللباس: "باب قول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف:32] " هذه الآية جاءت رداً على الذين كرهوا جمال اللباس، والتزين بنعم الله -عز وجل- وأنكروا أن يتزين الإنسان في الحياة، فرد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم بهذه الآية فقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] فالطيبات للذين آمنوا في الحياة الدنيا، وهي لهم في الآخرة ولا يدخل معهم الكفار، فالكفار يشاركون المؤمنين في هذه الحياة، بل يزيدون عليهم بالذهب والحرير، والرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة.
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف:32] من هذا الذي أحل وحرم غير الله عز وجل وغير رسوله صلى الله عليه وسلم؟ {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116] فالتحليل والتحريم لا يأتي إلا من الكتاب والسنة، ولذلك دخل في باب التحريم والتحليل أناس ليس عندهم علم، فأفتوا الناس بأن هذا حلال وهذا حرام؛ فافتروا على الله.
فالذي يريد أن يحرم فليأتِ بدليل، والذي يريد أن يحلل فليأتِ بدليل، لا يقل: هذا الطعام حرام؛ لأن فيه كيت وكيت.
من أين لك تحريمه؟ وقد سمعنا وسمعتم، ورأينا ورأيتم من أدخلته هذه الفتيا في باب الوسوسة، حتى حرم على عباد الله ما أحل الله لهم، وحلل لهم ما حرم الله عليهم، وهو باب خطير يأتي تفصيله.
قال ابن القيم كلاماً في إغاثة اللهفان معناه: حملت هذه الوسوسة بعض الناس إلى أن حرموا طعام المسلمين، وأكلوا طعام الملاحدة والزنادقة.
فلذلك أباح الله لنا أشياء ذكرها في الكتاب، وذكرها رسوله صلى الله عليه وسلم، وحرم أشياء ذكرت كذلك.(107/3)
اللباس في السنة
قال البخاري: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة} وهذا الحديث معلق، والمعلق هو: الذي حذف من أول إسناده رجل أو أكثر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام أو إلى من دونه.
فهذا الحديث معلق؛ لأن إسناده حذف من عند البخاري، {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129] أي: لا هي بصاحبة زوج، ولا هي مطلقة.
ومر معنا أن المرأة تقول في زوجها: العشنق إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق.
فالحديث المعلق هو الذي ليس بموضوع وليس بمسند، وإنما نسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
وهذا الحديث صحيح وسوف يأتي مسنداً.
قوله صلى الله عليه وسلم: {كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة} الإسراف: أن تبذر تبذيراً، وأن تتجاوز الحد في الإنفاق، فكل والبس وتصدق في غير إسراف ولا مخيلة.
والمخيلة: أن تأخذ هذا الشيء كبراً وبطراً.
إذاً المذموم في اللباس ما حملك على إحدى اثنتين أو عليهما: الكبر أو الترف والتبذير.
قال البخاري: "وقال ابن عباس: [[كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطِئَتْكَ اثنتان سرف أو مخيلة]] وهذا الحديث موقوف على ابن عباس، ولو أن بعض أهل العلم رفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
والمخيلة من الخيلاء، وهو الكبرياء، ويستخدم في المعاني والذوات، يقال: هذا في قلبه مخيلة، ويقال في جسمه مخيلة {مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18] أي: قلبه يفخر، وجسمه يختال، وهذا يحدث في المعاني والذوات، فصاحب المعاني الذي في قلبه كبر يظهر على فلتات لسانه، فتراه يقول: رحت، وذهبت، وقلت، وراجعت، ودخلت، وخرجت وصاحب الخيلاء والكبرياء في الجسم يظهر على حركاته وسكناته من جلسته وتنحنحه، ومن ذهابه وإيابه؛ لأنه عمي عن الإرشاد النبوي الشريف.
قال البخاري رحمه الله: حدثنا وكلمة (حدثنا) معلم كبير من معالم أهل السنة والجماعة، وهي متعوب عليها، وهي تربي الرجال والأجيال، حتى يقول أحد الزنادقة -كما يقول ابن تيمية -: اتركونا من حدثنا.
قال أحد العلماء: إذا رأيت الرجل يقول: اتركونا من حدثنا؛ فاغسل يديك منه.
أي: حارب الإسلام جهاراً نهاراً، وعلم ليس فيه (حدثنا) فمعناه وسوسة، وتنميق الكلام وتصنيف الحديث
العلم ما قيل فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين
(فحدثنا) لا بد أن تدخل كل بيت مسلم، ولا بد أن تربي ملكتك الذهنية وأبناءك وبيتك على تذوق (حدثنا) وهي كانت عند السلف الصالح من أروع وأحسن الكلام، قالت الصوفية: نحن نأخذ علمنا من الرزاق ما نأخذه من عبد الرزاق، عبد الرزاق بن همام الصنعاني شيخ أحمد في الحديث، قال ابن القيم في مدارج السالكين: والله الذي لا إله إلا هو لولا عبد الرزاق وأمثال عبد الرزاق ما عرفتم الرزاق ولا عرفتم الخلاق، ويقول غلاتهم: علمنا علم الخرق، وعلمكم علم الورق.
ولذلك إذا رأيت إنساناً يستهزئ بالسنة أو بالسيرة أو بالكتب فاعرف أنه قد بلغ درجة من البهيمية -وهذا استطراد إنما نحن عند كلمة حدثنا- والإمام أحمد يقول: إن لم تكن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث فلا أدري من هم.
وقال الشافعي: إذا رأيت محدثاً كأني رأيت صحابياً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقالوا لـ أحمد: إلى متى تطلب الحديث؟ قال: من المحبرة إلى المقبرة.
فقد كان عمره فوق السبعين وهو مريض، وقد جلد في ظهره، وهو بالمحبرة ينتقل من شيخ إلى شيخ يكتب، قالوا له: تكتب، حتى الآن؟ قال: من المحبرة إلى المقبرة.
قال سهل بن عبد الله التستري: حق على المسلم أن يكتب العلم حتى يصب آخر المداد في القبر.
أي: يصب عليه في القبر إذا انتهى وذكر ابن قتيبة: أن داود قال لسليمان عليه السلام: "يا بني سجل العلم وقيده في ألواح قلبك".
وأخرج عبد الله بن المبارك الإمام الزاهد الكبير العالم المحدث بطاقة وهو على زبالة، فقالوا: مالك؟ قال: مرت من هنا جارية تنشد بيتاً فسجلت هذا البيت؛ لأنه درة في مزبلة.
وبلغ من حرصهم على تصيد الفوائد الشيء المذهل، يوم كانوا يعرفون وزن العلم والفائدة، والتضحية من أجل ذلك.
قال البخاري: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن نافع وعبد الله بن دينار وزيد بن أسلم، يخبرونه عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا ينظر الله إلا من جر ثوبه خيلاء} وهذا الحديث بلاغ للناس، ونظر الله عز وجل معناه رحمته وبره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فالذي يجر ثوبه لا ينظر الله إليه.(107/4)
مسائل في اللباس
وفي اللباس مسائل، منها: اللباس الأبيَض، ومنها: ذم الشهرة في اللباس، ومنها: التوسط في اللباس، ومنها: التجمل في المناسبات كالأعياد والجمع، ومنها: حكم لبس الحرير، ومنها: جر الإزار ولبس الأحمر إلى غير ذلك من المسائل التي ننبه عليها إن شاء الله.(107/5)
أجمل اللباس اللباس الأبيض
المسألة الأولى: أما أجمل اللباس فهو اللباس الأبيض، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:106 - 107] فالبياض المعنوي أو بياض العاقبة هو علامة السعادة، لا بياض البشرة، فإن بعض الناس أسود البشرة، وهو أبيض السجل والحسنات عند الواحد الأحد، وبعضهم أبيض كالقمر، لكنه أسود الأعمال والسجل والتاريخ عند الله وعند الناس.
وما الحسن في وجه الفتى كرم له ولكنه في طبعه والخلائق
فإذا جمع الله بين الحسن الظاهر والباطن فهو الكمال، واللباس الأبيض مشرف، وكل شيء أبيض محبوب، قال عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {واغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد، ونقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس} وسبب ذلك أن الثوب الأبيض صاحبه يعتني به، فيبقى دائماً نظيفاً طيباً جميلاً أمام الناس، وأدنى شيء يؤثر فيه.
وأما صاحب الثوب الأسود؛ فإنه تمر عليه الأشهر، وهو بحمد الله على حالته لا يتغير، وقد يصبح فيه من السواد والبقع والروابي والأشجار ما الله به عليم، وهو على حاله.
فحبذ أهل العلم الثياب البيض، وقد روى الإمام مالك في الموطأ في باب الأدب واللباس، قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[يعجبني أن يكون القارئ ثوبه أبيض]]؛ لأن الأبيض يفتح النفس، وهو يظهر الاعتناء بهذا الدين والتجمل له، وكان عليه الصلاة والسلام يلبس الأبيض، ووجهه أبيض كأنه القمر ليلة أربعة عشر، فإذا اجتمع حسنه على حسن الثياب فهو الكمال المطلق.
ولذلك سيد قطب يتساءل كثيراً في سورة التحريم عن هذا الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول: إن اختياره لم يكن صدفة، إن الله هيأه ليكون رسولاً للبشرية، حتى في حياته وجسمه وأعضائه وجماله، فهو قوي العاطفة، حي الإحساس، مشرق الإدراك، متحرك مع الناس، يهش للدعابة لكن بلطف ووقار، ويمزح مع أصحابه، ويبكي في وقت البكاء، إنه الكمال البشري المطلق الذي وصل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح البخاري في كتاب اللباس: باب الثياب البيض -شرفها وفضلها- قال سعد رضي الله عنه وأرضاه: [[رأيت بشمائل النبي صلى الله عليه وسلم رجلين عليهما ثياب بيض يوم أحد ما رأيتهما قبل ولا بعد]] فقد نزلت الملائكة يوم بدر وأحد، يقول حسان:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
أشرف بيت قالته العرب في تاريخ الإنسان هو هذا البيت، فقد قيل لأحد أهل الأدب -أظنه النضر بن شميل: - ما أشرف وأفخر بيت قالته العرب؟ قال: قول حسان:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
والصحيح عند أهل السير أن جبريل كان تحت قيادة الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن القائد الأعلى لقوات الإسلام في بدر هو المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبعض أهل السير قالوا: لا.
جبريل قائد الملائكة -ألف ملك- والرسول صلى الله عليه وسلم قائد الصحابة.
لكن الصحيح أن القيادة تعود إليه صلى الله عليه وسلم.
فنزلت الملائكة في الثياب البيض لشرفها وفضلها، وهو مقدم إلا للحاجة.(107/6)
ذم لباس الشهرة
المسألة الثانية: ذم الشهرة.
في سنن ابن ماجة {أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن ذا الشهرتين} الشهرة الأولى هو: الذي يلبس الغالي المرتفع ويشهر نفسه حتى يلحق بالجبابرة، والشهرة الثانية: الذي يلبس الرخيص الممزق حتى يقال: هذا زاهد وناسك.
ولذلك بعض الناس لا يزهد إلا في الثياب، يجمع من الدور والعقار والسيارات والفلل، ويلبس ثوباً بعشرين ريالاً، والدنيا كلها ساكنة في قلبه، في قلبه أسواق ومحلات ومراكز وملبوسات ومطعومات، ولكن عليه ثوب بعشرين درهماً، وبعض الناس من أزهد الناس يلبس من أحسن اللباس، لكن الدنيا خرجت من قلبه.
فاللباس ليس هو كل شيء، فإذا رأيت ثياب الإنسان ممزقة فلا تظن أنه قد بلغ إلى رتبة ثابت البناني، أو الإمام أحمد بن حنبل، أو سفيان الثوري حتى ينظر إلى عمله وأخلاقه وسلوكه فمذمومٌ أن يلبس الإنسان الشهرتين، لكن الحديث عند ابن ماجة وفي سنده نظر وفيه ضعف.
وقد سبق أن الشهرة الأولى هو الذي يلبس لباساً فاخراً دائماً، فتجده يلبس لباساً يوصله بالجبابرة، ويسبل الثياب، ويتبختر في المشية، فهذا من الجبابرة المشهرين بهم في الدنيا والآخرة، وبعض الناس يتقمص شخصية الموت، وكأنه متصوف هندي من الهندوس يلبس ثوباً ممزقاً إلى الركبة، ثم عليه من الأوساخ والأوزار ما الله به عليم، ولو أنه أحسن في نفسه لغسل ثوبه، وتطيب؛ لأن الدين دين الطيب والإبداع والروعة، وهو دين الإيمان والحب والطموح.(107/7)
التوسط والتجمل في اللباس
المسألة الثالثة: التوسط في اللباس.
وأحسن حل للمسلم أن يكون وسطاً من عامة الناس فلا يلحق نفسه بالكبراء، ولا ينزل إلى درجة الذين يُستزرى بهم، لكن يتوسط في اللباس {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:3] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] وفي حديث فيه ضعف: {خير الأمور أوسطها أو أواسطها} أورده ابن الأثير في جامع الأصول وضعفه.(107/8)
التجمل في المناسبات
المسألة الرابعة: التجمل في المناسبات.
فمن هدي المسلم أن يكون له مناسبات يتجمل فيها، وأحسن ما يتجمل المسلم في المناسبات يوم الجمعة وفي الأعياد {أتى عطارد بن حاجب بحلة له من أرض العراق، فعرضها للبيع، فأخذها عمر وقال: يا رسول الله! خذ هذه الحلة تجمل بها، وصل بها الجمعة، وتجمل بها للوفود.
فأقر عمر على هذا، ولكن أنكر عليه أنها من الحرير، وقال: هذا لباس من لا خلاق له.
أو قال: إنما يلبس هذه من لا خلاق له يوم القيامة}.
فمنع صلى الله عليه وسلم لبسها لأنها من الحرير، وأقر مبدأ التجمل، وقد كان عليه الصلاة والسلام في الأعياد يلبس الحلة الحبرة، من برود اليمن، وهي حمر مخططة، وسوف يأتي حكم اللباس الأحمر.
وقد ذهب ابن عباس إلى الخوارج في العراق في النهروان، يجادلهم ويناظرهم، فرأوا عليه بردة بألف دينار، وابن عباس كان من أحسن الناس، كان يلبس بردة بألف دينار، والدينار عشرة دراهم -أي: تعادل عشرة آلاف درهم، وهو ترجمان القرآن وحبر الأمة، وهو الذي كان يبكي من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، فأتى إلى الخوارج فقالوا: أأنت ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام وتلبس هذا؟! قال: أنا أعلم أم أنتم بالرسول عليه الصلاة والسلام؟ قالوا: أنت.
قال: والله، لقد رأيته في حلة من أحسن الحلل.
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بؤسها
لبس صلى الله عليه وسلم الغالي الجميل للوفود، ولبس الطيب ليوم الجمعة، ولبس البرود الحمر للأعياد، ولبس التروس والدروع في القتال، ولبس الصوف المرحل؛ لأنه كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] لم يتقيد بهيئة في اللباس أو الطعام حتى يضيق على الناس، لا يرد موجوداً ولا يتكلف مفقوداً عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
كان الإمام مالك من أغنى الناس لباساً واعتناءً، وقد ذكر بعض الناس في تراجمه: أنه كانت له عشرات الأحذية.
ذكر ذلك التونسي في ترجمة الإمام مالك، ونقلها عن ترتيب المدارك للقاضي عياض، ويقول أحد أهل العلم: دخلت في بيت مالك بن أنس في المدينة، فكأنه من بيت الملوك، الحجبة على بابه، قال: فلما جلست أخذ يلقي إلي الوسائد يمنة ويسرة من كثرتها، ولكن مع ذلك يقول عن نفسه: ما مرت به ليلة، إلا رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام، إلا ليلة واحدة.
وكان مجلس الحديث في مسجده صلى الله عليه وسلم الذي يقوم به الإمام مالك مجلساً فارهاً، بهياً بديعا ًمن حسنات الدنيا، أتدرون ماذا كان يفعل قبل أن يخرج؟ كان يتهيأ الطلبة للجلوس، فيجلسون وعليهم الثياب والعمائم البيض، ويطيب المكان، ثم يستقبلون القبلة ويجلسون، وبعد قليل يغتسل الإمام مالك، ثم يتوضأ، ثم يلبس ثيابه، ثم يتطيب، ثم يلبس القلنسوة وعليها العمامة، ثم يخرج بالبرد، فتخرج المجامر -وهي المباخر- أمامه حتى يصل إلى المسجد فيجلس على الكرسي، ويبدأ يتكلم، فما يتكلم أحد وكأن على رءوسهم الطير.
حتى نسب إلى ابن المبارك أنه قال: جلست عند الإمام مالك، فكان يقرأ الحديث.
ووجهه يتغير حتى تغير وجهه ثلاث عشرة مرة، يحمر ويسود، فلما انتهى قلت: مالك؟ قال: لدغتني عقرب ثلاث عشرة مرة.
قلت: ولماذا لا تنتهي؟ قال: أقطع كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم من أجل عقرب.
قال: ثم قرأ بيده وتفل، فمسح رجله، فكأن ما بها شيء.
وما كان يتبسم إلا للحاجة، دخل عليه وفد من أهل اليمن، فقالوا: يا أبا عبد الله! عندنا قوم يأكلون فإذا أكلوا قاموا فرقصوا حتى يتعبوا من الرقص ومن السكار.
وهؤلاء غلاة الصوفية.
وقالوا سكرنا بحب الإله وما أسكر القوم إلا القصع
فقال الإمام مالك: أمجانين هم؟ قالوا: لا.
قال: أصبيان هم؟ قالوا: لا.
قالوا: فتبسم ثم دخل غرفة عنده، قال أهل المدينة: حسبنا الله عليكم ونعم الوكيل، ما تبسم إمامنا من ثلاثين سنة، وأحرجتموه اليوم حتى يتبسم.
لكن نقول: هذا فعل الإمام مالك، وقوله يعرض على صاحب تلك الشريعة الحية عليه الصلاة والسلام، فإن وافق قلنا على العين والرأس، وإن خالف ضربنا به عرض الحائط وقلنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
فهذه الأخلاق إذا نقلت لكم عن عالم أو كبير أو زاهد أو وجيه أو إمام تعرض على حياته صلى الله عليه وسلم؛ فإن رماها فلا تصلح، وإن قبلها وأدخلها ومشت فهي صالحة بحمد الله.(107/9)
النهي عن لبس الحرير
المسألة الخامسة: ومنه لبس الحرير.
وهو محرم، ولا يتساهل فيه إنسان، وقد تساهل فيه كثير من الناس، وهو من علامات الساعة، ولبس الحرير لا يجوز إلا بمقدار أربع أصابع، وأشار عمر إلى أصابعه على المنبر رضي الله عنه وأرضاه، وذلك كحاشية الثوب، أو ما ينسج مع الثوب أن يكون لو جمع كله بمقدار أربع أصابع.
ولكن يجوز لبس الحرير في موطنين اثنين:
الأول: إذا كان من الطب والاستشفاء، وأشار الأطباء أن لباس الحرير يوافق هذا المريض فله ذلك، ففي الصحيحين من حديث أنس {رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف في لباس الحرير} وبعض الأمراض كالجرب والحكة يناسبها الحرير، فإذا أشار الأطباء به فيلبسه المسلم، وهذه رخصة.
الموطن الثاني: إذا اصطف الأعداء، ورأى أن عندهم قوة وبهرجان وزينة؛ فله أن يلبس هذا ليرهب الأعداء، ولذلك نقل أن معاوية كتب لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنهم: إن أهل الروم قد فتنوا المسلمين بلبس الحرير، ولبس الديباج.
فقال: ألبس المسلمين من هذا الحرير، والرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن مشية الخيلاء، وقال لـ أبي دجانة وهو يختال يوم أحد أمام الأعداء: {إن هذه مشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموقف}.
وأبو دجانة أحد الأنصار الكبار العظماء، أتى الرسول صلى الله عليه وسلم قبل معركة أحد فصف الصحابة، والكفار هناك، كل إنسان ينظر بعين زرقاء يريد أن يشرب دم خصمه من المسلمين ومن الكفار، فسل صلى الله عليه وسلم سيفه وقال: من يأخذ هذا السيف؟ فظنوه جائزة أو وساماً وتشريفاً، وقالوا: كلنا نأخذه يا رسول الله! فقال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ -وكلمة (بحقه) يوضع تحتها ألف خط- فنزلت الأيدي إلا يد أبي دجانة، قال: ما حقه يا رسول الله؟ قال: حقه أن تضرب به في الأعداء حتى ينحني.
قال: أنا آخذه وأستعين بالله، فلما أخذه أخرج عصابة حمراء كان يخرجها في القتال وعصب بها رأسه، قال الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت -معناه ذبح- فأخذ السيف، قال أنس: فذهبت وراءه، فوالله الذي لا إله إلا هو، لقد رأيته يكسر بها جماجم الكفار.
ومع صلاة العصر عاد به وهو منحني وقال: خذ يا رسول الله! فدعا له صلى الله عليه وسلم.
بالخير واليمن والبركة.
فهذا هو الذي اختال في هذا الموطن، وليس الاختيال للذين يختالون عند الرقص واللهو واللغو الاختيال والقوة والشجاعة تكون عند ضرب الجماجم، وعند مقارعة السيوف وحطم الرماح.
يقول الأنصاري وهو يمدح قومه:
إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا صدود الخدود أزوار المناكب
صدود الخدود والقنا متشاجر ولا تبرح الأقدام عند التضارب
ويقول الأعشى قيس بن ميمون؛ أعشى القلب والبصر، أراد أن يسلم فأرشي إليه بمائة ناقة فعادت به، فلما وصل إلى داره كسرته إحداها فمات.
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
لكنه من الشعراء الكبار، يقول:
لما التقينا كشفنا عن جماجمنا ليعلموا أننا بكراً فينصرفوا
قالوا البقية والهندي يحصدهم ولا بقية إلا السيف فانكشفوا
يقول: كنا ملثمين وأعداؤنا ما علموا أنا بنو بكر بن وائل، فلما حضرنا كشفنا الجماجم فلما علموا انهزموا.
وهذه مبالغة كاذبة آثمة خاطئة.(107/10)
حكم جر الإزار
المسألة السادسة: جر الإزار.
وهو موضع حديثنا اليوم، يقول عليه الصلاة والسلام: {لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء} وهنا مسألة، يقول بعض الناس: أنا لا أجر ثوبي خيلاء، إنما أسبلت هكذا، ويعلم الله عز وجل أني لا أجر ثوبي خيلاء.
قلنا: وما دليلك أيها المتقي الورع الزاهد العابد المجاهد؟ قال: دليلي أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لـ أبي بكر لما شكا إليه وقال: {يا رسول الله! إن إزاري يرتخي لولا أن أتعاهده.
قال: إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء} فيقول: ما دام أن الرسول عليه الصلاة والسلام أباح لـ أبي بكر أن يجر إزاره، وقال: إنه ليس ممن يفعل ذلك خيلاء، فأنا أفعل ذلك.
قلنا له: أنت توقف أمام ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: الذي زكى أبا بكر هو المصطفى صلى الله عليه وسلم، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:3 - 10] وأما أنت فتحتاج إلى من يزكيك ويشهد لك، ولن تجد مثل الرسول عليه الصلاة والسلام مزكياً.
المسألة الثانية: يا أيها الرجل العملاق العبقري، إن المزكى هو أبو بكر الصديق
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول
من يأتي مثل أبي بكر؟ أأنت في زهدك وعبادتك مثل أبي بكر؟!
لا تعرضن بذكرهم في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمعقد
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
المسألة الثالثة: نقول: لو فتح هذا الباب لأسبل الناس ثيابهم جميعاً، وقالوا: لا نفعل هذا خيلاء والإنسان يعصي الله عز وجل ويجاهر في ذلك، يسرق السارق من السوق ويقول: أستغفر الله العظيم، اللهم ثبتنا ولا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا يضرب العود ويغني ويقول: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا، اللهم رد هذه الأمة إليك رداً جميلاً يغني ويقولون له: ما هي أمنيتك في الحياة؟ قال: أن ينصر الله المسلمين في فلسطين أنت بعودك هزمت المسلمين، أنت الذي أخر المسلمين عشرين سنة، بمثلك دخل شامير ورابين وموشي ديان بلاد المسلمين، وقصف بلاد المسلمين، وأنت على العود مسخت الأجيال وشباب المسلمين.
إسرائيل تدرب الكتائب والجيوش المجيشة، وما عرفت الغناء وحبيبي وحبيبتي، وأنت مسخت الأجيال وتغني لهم وهم يصفقون ويتراقصون، وأما إسرائيل فإنها ما رقصت ولا صفقت، عرفت من أين تأتي، فلذلك لا يصلح هذا الورع البارد المظلم.
الإنسان يرى إلى محرمات الناس في السوق، ويقول: اللهم قنعنا بما أتيتنا، وثبتنا واهدنا سبل السلام يقرأ المجلة الخليعة، فيقال له: لماذا لا تهتدي؟ فيقول: أسأل الله أن يهديني، وهل كفرت؟! لا.
ما كفرت، لكنك تقترب من الكفر وإن الذي يقترب من الزيغ والفسق والمعاصي يقترب من الكفر، وفي الإسلام خطوط أربعة وهي الدفاعات:
الخط الأول: دفاع الإسلام وهو الفرائض.
والثاني: السنن.
والثالث: الآداب.
والرابع: المروءات.
فإذا ضرب خط المروءات دخل في الآداب، فإذا انتهت الآداب ضربت السنن والنوافل، فإذا ضربت السنن دخل الجيش على الفرائض، فإذا ضربت الفرائض دخل الإنسان في الكفر، نعوذ بالله {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] يقول المتنبي:
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل(107/11)
حكم اللباس الأحمر
المسألة السابعة: نهى صلى الله عليه وسلم عن الركوب على المياثر الحمر.
وعن لبس اللباس الأحمر، فما هو هذا اللباس؟ بينما سوف يمر معنا بعده حديث البراء بن عازب {أن الرسول صلى الله عليه وسلم لبس بردة حمراء، أو صلى في بردة حبرة حمراء} فكيف نجمع بين النهي والفعل؟
و
الجواب
أما اللباس الأحمر الخالص فلا يجوز لبسه، وهو من لباس النساء، وأما الثياب المخططة التي فيها خطوط حمر وبيض، أو خضر أو سود فلا بأس، وهذا هو الأحمر المخطط المعلَّم كما قال ابن القيم، أما الأحمر الأصم الخالص، فهذا للنساء ولا يجوز لبسه للرجال؛ لأنه من لباس النساء، وفيه من الميوعة والأنوثة، والانهزامية والفشل ما الله به عليم، ولباس الرجال لا بد أن يجمع القوة والإبداع والجمال؛ لأن هذا دين القوة، والإبداع، والجمال.
ويلحق بالجواز الغتر لأنها مخططة، ولو كانت حمراء خالصة لقلنا: هذا في الثياب، أما الغتر فيجوز.(107/12)
حكم اللباس الأسود
المسألة الثامنة: هل يجوز للمسلم أن يلبس الأسود أم لا؟
لبس الأسود فيه تشاؤم، لكن ورد أنه صلى الله عليه وسلم لبس أسوداً، وقف أبو مسلم الخراساني الذي قتل ألف ألف من المسلمين، وهو مقيم الدولة العباسية، ولذلك قيل: ثلاثة نقلوا دولاً إلى دول، الاسكندر المقدوني نقل دولة إلى دولة، وبختنصر البابلي، وأبو مسلم الخراساني نقل دولة بني أمية إلى دولة بني العباس، وهو الذي أتى بأعلامها.
قام يوم الجمعة يخطب الناس وعليه ثياب سود؛ لأن شعار لباس بني العباس الثياب السود، يسمى شعار الصولة والدولة والهيبة لبسوه، لكن الإمام أحمد لم يلبسه؛ لأن الأسود مذموم دائماً، فقام أبو مسلم الخراساني فتكلم، فقام رجل من وسط الناس وقال: يا أبا مسلم! كيف تلبس الثياب السود، وقد نهى عنها صلى الله عليه وسلم؟ قال: حدثني فلان -الرجل صاحب حديث، وهو صادق في الحديث، كذاب دائماً إلا في هذا الحديث- عن فلان، عن فلان، عن أبي الزبير، عن جابر {أن الرسول عليه الصلاة والسلام دخل الحرم وعليه عمامة سوداء} والحديث في صحيح مسلم، قال أبو مسلم: يا غلام! اضرب رأس الرجل.
فتقدم أحد غلمانه فضرب رأسه، فإذا رأسه في واد وجثمانه في واد، {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [البقرة:134].
لكن الله يبتلي الظالم بأظلم منه، فرصد له أبا جعفر المنصور حتى استخرجه كما تستخرج الحية من جحرها، وكان أبو مسلم جبار من الجبابرة، معه ألوف مؤلفة من أهل خراسان العجم يمشون في موكبه، لو قال لهم: اقتلوا من شئتم لقتلوه، وكان أبو جعفر من أدهى دهاة الدنيا، فأخذ يستدرجه ويتملح له، وكان أبو مسلم من قواده لكنه خرج عن الطاعة، ومن أعظم مصائبه أنه كتب له ائتني الزكاة التي قبضتها.
فقال: لا زكاة لك عندي.
ذهب معه في الحج؛ فسبقه وأخذ يقود الحجاج وترك الخليفة، ولو قال له: اذهب إلى الشمال لذهب إلى الجنوب عصى وتمرد فأتى أبو جعفر بحنكته فلبس -وهذا في باب اللباس- فروة ممزقة وقال: والله الذي لا إله إلا هو، لا أنزعها من على جنبي حتى أقتل أبا مسلم.
فدخل أحد وزرائه عليه، فقال: كيف تلبس هذا وأنت خليفة؟ قال:
قد يدرك الشرف الفتى وقميصه خلق وجيب قميصه مرقوع
وفي الأخير كتب إلى أبي مسلم رسالة رقيقة كأنها تسيل بالدموع وعليها الورد والياسمين، وقال: أقدم إلينا، فقد قصرنا في ضيافتك، وفي جوائزك؛ فأنت الذي فتحت الفتوح -وهو صادق- فأُرسِلَتْ الرسالة، فاستشار أبو مسلم وزراءه، فقالوا: لا تقدم فيذبحك.
فأرسل له رسالة ثانية: يا أبا مسلم! لا يغرنك حلمي، فوالله، لو وقعت في النار، لوقعت وراءك في النار، والله لو سقطت في البحر لسقطت وراءك في البحر يهدده مرة ويدغدغه أخرى.
وفي الرسالة الثالثة أرسل إليه أعمامه، وقال: تحببوا إلى الرجل وعانقوه.
وبنو العباس من أحفاد ابن عباس ترجمان القرآن وهم أهل الخلافة.
فذهب أعمامه إلى أبي مسلم، ودهدهوه، وعانقوه، ومشوا حفاة أمامه، وهو علج لا يساوي ريالين، فتكبر عليهم.
في الأخير أرسل له رسالة رابعة وقال: أقدم علي ولك الأمان.
فأعطاه الأمان، فظن أنه لا يغدر، لكنه غدر به -نسألة الله العافية- فلما أتى بالأمان مع ذلك أخذ عشرين ألفاً من الحرس، عشرة آلاف على ميمنته، وعشرة آلاف على مسيرته، ودخل بغداد، وكان أبو جعفر المنصور ذكياً فقال لأعمامه: إذا دخل بغداد فاستقبلوه في الطريق وامشوا حفاة، فاستقبلوه ومشوا حفاة، وقال لهم أبو جعفر: لا توهموه بشيء أبداً، فدخل بحرسه حتى طوَّقوا قصر الخليفة، وسلم عليه الخليفة، وحياه وعانقه عناقاً حاراً أخوياً ما سمع في التاريخ مثله، ثم أجلسه فتركه في الضيافة ثلاثة أيام.
ثم قال له: يا أبا مسلم! أما تريد أن تسبح معنا في دار الخلافة؟ -في دار السلام في بغداد - قال: نعم.
فأمر جيش الخلافة أن يوزعوا هذا الحرس في كل مكان، فأدخلوهم في الثكنات وأغلقوا عليهم، وقال: علي به في الصباح.
فأدرك أبو مسلم الموت، وقال أبو جعفر لأربعة من حراسه: أنتم وراء الستار، فإذا صفقت فاخرجوا فاقتلوه، فلما أدرك الموت قال لعم أبي جعفر عبد الله بن علي: ادخل معي هذا اليوم استنقذني من هذا فإنه سوف يقتلني، قال: أنا أتوضأ واسبقني عنده وسوف آتيك، وكان كلما دخل في باب أغلق عليه، سبعة أبواب، حتى لا يأتي أحد بعده، والحرس عنده، حتى دخل عند الخليفة وحده، وعنده خنجر في وسطه، وهو خائف ويريد أن يقتل الخليفة، وأبو جعفر ليس عنده شيء سوى سيف تحت فراشه.
فقال أبو جعفر: أرني هذه الحربة، من أين أخذتها؟ فتوهم بعد أن مازحه، فأعطاه الحربة، فسلها وجعلها تحت الفراش، ثم قال: مالك سبقتني في طريق الحج؟ قال: فعلت كذا وكذا.
قال: مالك تخطب أختي وهي من بني العباس وأنت علج فاجر؟ قال: فعلت كذا وكذا.
قال: مالك منعتني الزكاة؟ ثم قال: الله أكبر، حق عليك يا مجرم، ثم ضرب بين يديه فخرج الحرس فقتلوه، ثم وضع في كسائه ووضع عند أرجل الناس، فدخل عبد الله بن علي ذاك الواسطة القوي الشفيع، وقال: أين أبو مسلم؟ قال: هذا هو في هذا الكساء صل عليه، ثم رمي على رءوس الناس، فكأنها ما تناطحت في قتله عنزتان.
الشاهد: أن الأسود لبسه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاء من حديث أبي الزبير عن جابر في صحيح مسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- دخل وعلى رأسه عمامة، ذاك القائد الرباني الرحيم الرءوف، الذي سيرة كل من سار على غير منهجه تلقى ويضرب بها عرض الحائط، فليست بسيرة، وليست بأخلاق ولا أدب.(107/13)
اللباس وحسن المقصد
المسألة التاسعة: لبس المقاصد.
هناك من يلبس المقاصد وهو مأجور، وإنما الأعمال بالنيات، والله سبحانه وتعالى أعلم بنيتك، فإن كنت تلبس اللباس الجميل لتظهر جمال الإسلام، وجمال العلم والدعوة، فأنت مأجور مشكور وإن كنت تلبس الداني الرخيص المتبذل تواضعاً لله واحتساباً عند الله، فأنت مأجور مشكور.
الكل يعرف علي بن أبي طالب، ولا ينكره أحد، والمعارف لا تعرَّف
بينما يذكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغر
قلن تعرفن الفتى قلن نعم قد عرفناه وهل يخفى القمر
دخل وتولى الخلافة أربع سنوات وقيل خمس، والخمس أولى، نزل الكوفة وعليه ثوب بأربعة دراهم، قطعه من أنصاف ساقيه، وركب الحمار وجعل أرجله الاثنتين على جنب الحمار، ثم دخل فلما رآه الناس قاموا، فقال: [[أنا أبو الحسن، أهنت الدنيا أهانها الله]].
وعمر بن الخطاب لبس برداً مرقعاً فيه أربع عشرة رقعة، وكان يصلي به في الناس رضي الله عنه وأرضاه، ولا بأس أن نعيد قصة طالما أعدناها، لكن علها أن تقف في القلوب شواهد، وفي الأذهان دلائل، وفي البصائر معالم.
أتى رسول كسرى من بلاد فارس ليفاوض عمر بن الخطاب، فلما دخل المدينة سأل عن عمر، فلم يجده في بيته، فذهب إلى المسجد فلم يجده، قال: أين بيت الخليفة؟ قالوا: هذا البيت.
قال: ليس بصحيح، أين حرسه؟ قالوا: لا حرس له، قال: أين دنياه؟ قالوا: لا دنيا له.
قال: أين أجده؟ قالوا: أبحث عنه.
فذهب الصحابة يبحثون عنه، فمروا بشجرة في ضاحية من ضواحي المدينة، وإذا بـ عمر نائم تحت الشجرة ضحى، درته التي يخرج بها وسواس الشيطان من الرءوس عند رأسه -أي إنسان عنده وسوسة في رأسه، فإنه يزيلها إما بدرته، وإن لم ينفع فيستخدم سيفاً أملح- فلما رآه قال: هذا الخليفة؟ قالوا: هذا الخليفة.
وإذا ثيابه ممزقه، عليه برد ممزق مرقع، فأخذ يرتجف الوزير الفارسي، وذهل.
وقال: حكمت فعدلت فأمنت فنمت.
فقام عمر فذهل الرجل أكثر وأكثر، وأخذ يفاوضه، فكاد يجن الرجل من عقل عمر، ومن تفوقه وذكائه.
قال حافظ إبراهيم:
وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً بين الرعية عقلاً وهو راعيها
رآه مستغرقاً في نومه فرأى فيه الجلالة في أسمى معانيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها
فقال قولة حق أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت نوم قرير العين هانيها
ذكر الغزالي أن عيسى بن مريم عليه السلام أخذ حجراً ينام عليه -وسادة- فقد كان من أزهد الناس عيسى عليه السلام، يلبس الصوف، وينام ومخدته الحجارة، وفراشه التراب ولحافه السماء فقال له الشيطان: يا عيسى بن مريم! أما تركت الدنيا وطلقتها؟ قال: نعم.
قال: فما بالك تتوسد منها؟ قال: فرمى بالحجر وتوسد ذراعه.
والعهدة على حجة الإسلام محمد بن محمد أبي حامد الغزالي.(107/14)
رؤية الثوب الأبيض في المنام
المسألة العاشرة: من رؤي في المنام وعليه ثوب أبيض رأيت حبيبك وقريبك عليه ثوب أبيض، فما هو تأويل هذه الرؤيا؟ أقرب ما يكون أنه الخير -إن شاء الله- واليمن والبركة والسعود والأجر والثواب، فتبشر بذلك خيراً.
وجاء في حديث ذكره ابن حجر المكي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام سئل عن ورقة بن نوفل فقال: {رأيت عليه ثياباً بيضاء ولو كان من أهل السوء لما رأيت عليه ثياباً بيضاء} فاستدل بهذا على أن الثياب البيض علامة الخير.
ولا نقول: إن من رؤي عليه ثياب سود أنها علامة السوء، لا.
نتوقف عند هذا، ولا يتسرع في تعبير الرؤيا والأحلام، يأتي واحد فيقول: رأيت عمي جالساً -قد مات- وهو يأكل ويشرب، ثم بكى بعد أن أكل وشرب، فما تأويل الرؤيا هذه؟ فيأتي أحد الناس ويقول: عمك -إن شاء الله- من العشرة المبشرين بالجنة، وأما علامة الأكل فهو {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] وأما البكاء فهو البكاء من خشية الله.
كان شيوخ القمر يجتمعون في البصرة وفي الكوفة بعد صلاة العشاء، لا يقرءون ولا يبحثون ولا يتساءلون، بل ينظرون إلى القمر ويخططون، ويقولون: يموت فلان يوم كذا، ويموت فلان يوم كذا، ويحيا فلان يوم كذا.
فهؤلاء شيوخ القمر الذين يعبرون الرؤيا مثلما اتفقت.(107/15)
من رئي في المنام وعليه قميص يجره
المسألة الحادية عشرة: إذا رأيت حبيبك أو قريبك أو صديقك وعليه ثوب يجره في المنام فهذه علامة خير، ففي صحيح البخاري أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {عرض علي الناس في المنام البارحة وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين}.
ويُتساءل: هل يجوز للإنسان أن يجر قميصه ما دام أن عمر يجر قميصه في المنام؟ قلنا: لا.
هذه أحكام منام، وهذه أحكام يقظة.
وهذا مثل تصحيح الحديث عند بعض الناس في المنام، وهذا موجود أورده ابن مندة، فقد جاء بأحاديث وقال: رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام، فسألته عن هذه الأحاديث، فقال: هي صحيحة.
وبعضهم يقول: هذا من زيادة الكذب، حتى يقول الذهبي أورد كذبة لبعضهم وقال: هكذا فليكن الكذب.
الذي يكذب مثل هذه وإلا فلا، فإن بعضهم يقول: سافرت ووصلت المدينة، وصليت ركعتين ووصلت إلى القبر، فقلت: يا رسول الله! حدثني فلان عن فلان عن فلان عن فلان من الصحابة عنك أنك قلت كذا.
فقال: هذا صحيح.
وبعض الكذب متعوب عليه، أي: يستاهل، كذب على مزاجك، وبعض الكذب يدخل فيه شيء، لكن الكذب على المزاج يستحق أن تعرف العقول أنه كذب.
وأكثر ما يصاب الكذابين بمعرفة التاريخ؛ فإن ابن مسعود رضي الله عنه مات قبل صفين، فأتى أحد الكذابين وقال: حدثنا فلان، قال: كنا في معركة صفين فخرج علينا ابن مسعود وعليه حزام من ليف، يظن هذا الكذاب أن ابن مسعود بقي حياً إلى بعد صفين، فسمع الحديث الإمام أحمد؛ فتبسم وقال: أتظن أن ابن مسعود بعثه الله من القبر حتى حضر صفين؟! بعض الناس ينسى الوقائع والتاريخ.
فالمقصود من رؤي في المنام وعليه قميص يجره فهذا علامة الخير إن شاء الله، والرؤيا أكثر ما يكذب فيها بعض الناس، وفي الحديث الصحيح: {من تكلف غير ما ترى عيناه، كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بقادر} فيقوم أحدهم عند الإفطار فيرى أهله ويريد أن يتحبب إلى زوجته، فيقول: رأيتك في الجنة البارحة وأنت في قصر أبيض كالربابة.
فتقول ابنته: وأنا.
فيقول: رأيتك على يمين الجنة عندك سبعة قصور.
ويقول ولده: أين أنا؟ فيقول: تشرب من الرحيق المختوم.
فهذا من الكذب.
وبعضهم يموت ابن لقريبه فيريد أن يواسيه في المصيبة، فيقول: أبشر، ابنك -إن شاء الله- سعيد، رأيته البارحة في الجنة، ويقول: أين أبي وأين أمي؟ قال أهل العلم: أكثر ما يكذب في المنام، هو الأكثر كذباً في اليقظة وفي حديث صحيح ما معناه: {أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً} وأصدق الناس لهجة محمد عليه الصلاة والسلام، ما كذب كذبة واحدة في التاريخ، لا في الليل، ولا في النهار، ولا في الصيف، ولا في الشتاء، ولا في السماء، ولا في الأرض، ولا يقظة، ولا مناماً، ولا في أي مكان، ما كذب كذبة أبداً، فكان أصدق الناس رؤيا، يرى الرؤيا فتأتي مثل فلق الصبح.
يقول قبل معركة أحد: {رأيت كأن ذباب سيفي كسر، وكأن أبقاراً تنحر، وكأنني أدخلت يدي في درع حصينة.
قالوا: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: أما إدخال اليد في الدرع فهذه المدينة المنورة، وأما كسر ذباب السيف فهذا رجل من أقاربي يقتل غداً، وأما الأبقار التي تنحر فهؤلاء الشهداء من المؤمنين، وعند الله خير} وفي الصباح بدأت المعركة، وآوى المؤمنون إلى المدينة، وقتل حمزة، وقتل سبعون من الصحابة، فهذه رؤيا من الرؤى التي رآها صلى الله عليه وسلم.(107/16)
التصدق بالثياب الملبوسة والمستعملة
المسألة الثانية عشرة: هل لك أن تتصدق بلباسك وتخفف منها؟ هل من المروءة عند الناس أن إذا عرض لك فقير وسألك؛ أن تخلع له غترتك، وتقول: تفضل؟ أو شيئاً من لباسك الداخلي أو الخارجي؟
حدث هذا عن المصطفى عليه الصلاة والسلام، أتت امرأة فنذرت لله عز وجل أن تلبس الرسول عليه الصلاة والسلام حلة، فذهبت فنسجت حلة، وتعبت عليها والحلة من أحسن اللباس- لتكون هدية طيبة إلى المصطفى الطيب صلى الله عليه وسلم، فلما نسجت الحلة ذهبت بها إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال الصحابة: فلبسها محتاجاً إليها.
كانوا في قلة من اللباس والطعام والشراب، لبسها محتاجاً إليها، فلبس الحلة عليه الصلاة والسلام وخرج إلى الناس، فلما خرج قام رجل في الطريق، وقال: يا رسول الله! ألبسني هذه الحلة.
قال: انتظر قليلاً، فذهب صلى الله عليه وسلم إلى بيته وغير ملابسه الأولى الممزقة، وأعطاه الحلة، فأمسك الأنصار بالرجل وقالوا له: فعل الله بك وفعل، صنع الله بك وصنع، لبسها صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليه، وأنت تسأله وتعرف أنه لا يقول (لا).
فإن كلمة (لا) ليست في قاموسه عليه الصلاة والسلام إلا في لا إله إلا الله
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
يغضي حياءً ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم
كلتا يديه غياث عم نفعهما يستوكفان ولا يعروهما عدم
ذكر البزار عن شيخ الإسلام ابن تيمية في الأعلام العلية، قال: كنت أرافقه فربما عرض له الفقير المسكين، فيبحث ابن تيمية فلا يجد دراهم في جيوبه، ويبحث عن الخبز فلا يجد خبزاً، فيختفي ويخلع أحد ثوبيه ويعطيه الفقير.
قال: فعرض له فقير مرة فسأله سؤالاً، فما وجد ابن تيمية إلا ثوباً عليه، ولم يجد دراهم ولا خبزاً ولا شيئاً، فأخذ عمامته فقسمها نصفين وأعطى الفقير نصفها.
ما هذه الأخلاق؟! إنها أخلاق الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر.
وورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: {من كسا مسلماً على عري كساه الله من حلي الجنة} والحديث يقبل التحسين، وفي حديث ابن عباس الصحيح: {يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا بن آدم! جعت فلم تطعمني، قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان جاع فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته وجدت ذلك عندي؟ يا بن آدم! مرضت فلم تعدني، قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته وجدت ذلك عندي؟ يا بن آدم! استكسيتك فلم تكسني، قال: كيف أكسوك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان استكساك فما كسيته؟ أما علمت أنك لو كسيته وجدت ذلك عندي؟}.(107/17)
أذكار واردة عند لبس الثياب
المسألة الثالثة عشرة: ماذا يقول من لبس ثوباً؟
من السنة إذا لبست ثوباً أن تقول: {اللهم إني أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر من صنع له، الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في الناس}.
اللباس من الله، والطعام من الله، والماء من الله {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53].
إذاً: لا بد أن يعرف هذا الذكر ليقال؛ لأن أهل السنة دائماً يعتنون بالأذكار {من قال هذا الدعاء ثم عمد إلى البالي من ثيابه فتصدق بها، ستره الله في هذا الثوب حياً وميتاً} فمن السنة إذا لبست جديداً فاعمد إلى بالي ثيابك فتصدق بها على الناس، ولا تقل: ليس في المجتمع من يحتاج، بل في المجتمع من يحتاج إلى مزق الثياب وكسر الخبز، وهل أنت طفت العالم، ورأيت المجتمع، واستقصيت الأحوال؟ إن الذي يجلس على الموائد الشهية، ويركب المراكب الوطية، ويسكن في الفلل البهية، يظن أن الناس بهذه العيشة المرضية، لا.
والإنسان إذا بحث عن الفقراء فإنه سوف يجد الفقراء والمساكين.
وهذا الحديث في عمل اليوم والليلة، وهو بشواهده يقبل التحسين، والرسول عليه الصلاة والسلام رأى عمر بن الخطاب وعليه ثياب بيض فقال: {البس جديداً، وعش حميداً، ومت شهيداً} فلبس عمر جديداً، وعاش حميداً، ومات شهيداً، رضي الله عنه وأرضاه.(107/18)
أعظم لباس هو لباس التقوى
المسألة الرابعة عشرة: أعظم لباس {ولِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً وإن كان كاسياً
فمن استتر بستر الله من الطاعات والعبادات والأخلاق الجميلة، ستره الله في الدنيا والآخرة، ولو كان في قلة من الثياب، ومن تكشف أمره بالمعاصي والذنوب والخطايا لا يستره الله ولو لبس ما في الدنيا من ثياب {ولِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] فأحسن لباس -يا عباد الله- لباس التقوى، وإني أدعو نفسي وإياكم إلى التلبس بهذا اللباس بالأخلاق الجميلة بالتواضع بالصدق مع الله والإخلاص، لعل الله أن يلبسنا وإياكم التقوى في الدنيا والآخرة، فإن من ألبسه الله التقوى نجح في الدنيا والآخرة، ولا يخاف ظلماً ولا هضماً.
قال البخاري: وعن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة.
قال أبو بكر: يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لستَ ممن يصنعه خيلاء} مر هذا معنا وأن بعض الناس يقول: إن ثوبي طويل، وأنا لا أفعل ذلك خيلاء، فنقول: الإزار غير الثوب، فالإزار هو ما يلف بشيء، أو يربط، أو يعقد عند الأزرة، فهو يرتخي بالطبع.
أما الذي يذهب إلى الخياط، فيقول: أسبله في الأرض، فهو الذي تعمد، وهو الذي أتى بهذا الخطأ وهذا الذنب، ولا يقل فيما بعد: الخياط هو الذي فعل كذا، وكثير من الناس إذا قيل له: ارفع إزارك، قال: حسبنا الله على الخياط.
سبحان الله! هذا الخياط كيف تعرض للمسلمين دائماً في تطويل ثيابهم، وإذا قيل له: ربِّ لحيتك، قال: حسبنا الله على الحلاق.
أصبح الخياط، والحلاق، والفران، والخباز، والغسال، المسئولين عن عقائد الناس، وعن عباداتهم وآدابهم، ومتى كانوا كذلك؟ إنما هم يفعلون ما يؤمرون، لا يعصون أبداً، فأنت إذا اتقيت الله عز وجل لا يصيبك لوم.
وعلى المسلم ألا يستنكف عن السنة، حتى إن بعضهم يقول: العصر لا يناسب أن نجعل ثيابنا فوق الكعب.
نحن لا نقول: يرفعها كثيراً، لكن فوق الكعب، وسوف يجملك الله عز وجل ولو فوق الكعب، أما أن تسحبها سحباً فإنك لست مسئولاً عن كنس الشوارع ولا الأحياء، فقد تولاها غيرك، فأنت -بارك الله فيك- لباس التقوى هذا هو لباس عباد الله الصالحين، ولباس المصطفى عليه الصلاة والسلام.
عمر رضي الله عنه طعن وهو في سكرات الموت، وأتى شابٌ يجر إزاره، فقال له: [[يا بن أخي، ارفع إزارك فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك]] وفي بعض السير [[أتقى وأنقى وأبقى]] فهو أبقى للثوب، وأتقى لله، وأنقى للثوب من النجاسات، وهل تدلك الشريعة إلا على ما فيه خير لك في الدنيا والآخرة، وكلما علم الله أنك تريد التقيد بشرعه كلما زادك من الخير والفضل والحسن في الدنيا والآخرة، وهذه الشريعة لا يستنكف ولا يتكبر عليها.
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: {خسفت الشمس ونحن عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقام يجر ثوبه مستعجلاً حتى أتى المسجد، وثاب الناس فصلى ركعتين، فجلي عنها -أي: عن الشمس- ثم أقبل علينا وقال: إن الشمس والقمر آيتين من آيات الله، فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا حتى يكشفها} أي: يكشفها الله عز وجل.
وهذا الحديث له قصة: مات ابن الرسول عليه الصلاة والسلام إبراهيم، وعمره ما يقارب السنتين، فلما مات كان من قضاء الله وقدره أن يكسف بالشمس في ذلك اليوم، لا لموت ابنه، فلما كسفت الشمس في ذلك اليوم قام عليه الصلاة والسلام من مجلسه، يجر إزاره، وفي بعض الألفاظ سقطت عمامته في الأرض خائفاً أن الساعة قامت؛ لأنه أول مرة في حياته تكسف، وما كان يعرف صلى الله عليه وسلم أن هذا سوف يقع، فقام إلى المسجد وقام الناس وراءه، وتباكى النساء والأطفال، وثوب بالصلاة ودخل يصلي، والبكاء يقطع صوته صلى الله عليه وسلم، فقرأ سورة البقرة، وفي أثناء الصلاة تأخر قليلاً وتقدم قليلاً، فلما سلم قام فألقى خطبة عظيمة، لأنه سمع الناس يقولون: كسفت الشمس لموت إبراهيم فقال: {إن الشمس والقمر لا تكسفان لموت أحد ولا لحياته، إنما هما آية من آيات الله يخوف الله بهما عباده قالوا: يا رسول الله! نراك تقدمت؟! قال عليه الصلاة والسلام: عرض علي عنقود من عناقيد الجنة، ولو أخذته لأكلته ما بقيت الدنيا، ثم رفع العنقود.
قالوا: ورأيناك تأخرت؟! قال: رأيت عمرو بن لحي الخزاعي الذي سيب السوائب يجر قصبه في النار.
وفي لفظ: عرضت لي النار كعرض هذا الحائط، وعرضت لي الجنة فلم أرَ كالخير والشر اليوم} فما أحسن الخير وما أشد الشر! هذا مناسبة الحديث.
فهو صلى الله عليه وسلم لم يجر إزاره متعمداً، وإنما للخوف وللخشية نسي من نفسه صلى الله عليه وسلم، فارتخى الإزار فقام يزحف إلى المسجد ليصلي بالناس.
إذاً: فالرسول لم يجر الإزار متعمداً، وليس فيه دليل لمن جر ثوبه أو إزاره، بل هذا حدث على خلاف المراد والمقصود.(107/19)
الأسئلة(107/20)
اللباس الموافق للسنة
السؤال
ذكرت اللباس، فما هو لباس السنة من الثوب والبنطلون وما شابه ذلك؟
الجواب
اللباس -أولاً- من المصالح المرسلة، التي على الإنسان ألا يتكيف بكيفية محددة، فلم يكيفه الله عز وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يقول: يا أيها الناس! لا بد أن تلبسوا العمائم أو البنطلون، لا.
إنما المقصود ألا يكون فيه محرماً أو ضيقاً أو شفافاً أو ما يكشف العورة، هذا هو المحذور، أما غير ذلك فلكل بلد، ولكل شعب، ولكل أمة لباس يتعارفون عليه، فنحن هنا في بلادنا لا نقول: هو لباس السنة وأما غيرنا فلا.
فإن أهل العمائم مثل السودان وغيرهم، يقولون: نحن أقرب، وهم في العمائم أقرب، وغيرهم من أهل مصر ربما يدعون أموراً ويقولون: لباسنا أخف وأقرب متناولاً ومداولة في الأعمال، فنقول: لا.
اللباس إذا كان حلالاً فما تعارف عليه الناس، ولم يخرج إلى حد الحرام فهو المطلوب، ولكلٍّ مروءة وعرف.
والعرف يدار عليه بعض أحكام الشريعة، فمن العرف أن تلبس لباس بلدك الذي تعيش فيه وهو من المروءة، فإن عندنا إذا نزل أحدنا إلى السوق وليس على رأسه شيء، فهو من خوارم المروءة، مع أنه جائز، لكنه خفة وطيش، وقلة مروءة، أو يأتي أحد في فنيلة وسروال ويدور في السوق، فنقول: مالك؟ قال: من تواضع لله رفعه ومن تكبر على الله وضعه.
قلنا: ما شاء الله يا هذا الورع المظلم البارد، بل هذا من قلة العقل وقلة المروءة.
فلا يلام أحدٌ بأحد، ومن يلبس عندنا لباس المغاربة ويقول: هو ليس محرماً.
وهو أحد رجلين: أما واهم ويظن أن هذا هو السنة، أو رجل في عقله شيء.
إذاً إذا خلا اللباس من المحرم أو التشبه بالكفار قلنا بجوازه، أما إذا أتى أحد يتشبه بالكفار والخواجات، وبشيء ما أتى به الدين، قلنا كما في الحديث الصحيح: {من تشبه بقوم فهو منهم}.
إذاً فليس هناك لباس محدود، وأنت البس ما شئت، لكنك تراعي العرف العام للمجتمع وللبلد الذي تعيش فيه، البس في كل زمان ومكان وظرف ما يناسب زمانه وظرفه ومكانه.(107/21)
سبب قلة أحاديث أبي بكر عن الرسول
السؤال
لماذا كان أبو بكر أقل الصحابة حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
السائل صدق، أبو بكر من أقل الصحابة حديثاً، ألكثرة نومه؟ ألجلوسه في البيت؟ ألمطاردة التجارة والزراعة؟ لا.
أبو بكر أقل الناس حديثاً؛ لأنه أقام الدولة الإسلامية بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولأنه اشتغل بضرب جماجم الكفار، ولأنه أسس منابر العدل، ووزع الجيوش، وأقام الأعلام، ورفع الرايات، واشتغل بأمور الأمة، فكفل اليتيم، وقام على الأرملة، وأشبع الجائع، وحكم، ونصر المظلوم، وأقام العدالة، فما تفرغ ليجلس للناس ويقول: حدثنا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فـ أبو هريرة أكثر منه حديثاً، وأبو بكر أعظم منه وأفضل منه في الإسلام وأجل، فليست المسألة مسألة حديث، لكن مسألة البلاء الحسن، والجهد والطاقة التي صرفها في سبيل الله.(107/22)
صلاة التسابيح
السؤال
هل ورد في صلاة التسابيح حديث صحيح؟
الجواب
ألف ابن ناصر أحد علماء القرن السادس رسالة في صلاة التسابيح، ومن أهل العلم من صحح الحديث، ومنهم من حسنه، ومنهم من ضعفه، ومنهم من وضعه، والصحيح أن الحديث ضعيف ولا يعمل بهذه الصلاة، ولو أن بعض العلماء حسنوه وقبلوه، وهم مأجورون؛ لأنهم اعتقدوا حسن الحديث، والصحيح أن صلاة التسابيح لا تصح فلا تصلى، وفيما صح كفاية، وياليتنا نقوم بالضحى، والوتر، ومن استطاع قيام الليل؛ حتى نخرج إلى الأحاديث الموضوعة.(107/23)
حديث (وبحق السائلين)
السؤال
ما مدى صحة الحديث {وبحق السائلين}؟
الجواب
ورد في السنن أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول إذا خرج إلى المسجد: {اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، فاغفر لي ذنبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} هذا الحديث ضعيف، في سنده عطية بن سعيد العوفي، وهو ضعيف عند أهل العلم، فضعف به السند، والحديث في معناه يمكن أن يكون، لكن في الطريق عطية وابن تيمية ضعفه ثم شرحه، قال: إن كان بحق السائلين، فحق أوجبه الله على نفسه، لم يوجبه أحد من الناس، فإن للسائل حق أن يعافيه الله عز وجل، وللمذنب إذا استغفر أن يغفر الله له، وللتائب حق إذا تاب أن يتوب الله عليه، فهو حق أوجبه الله على نفسه ولم يوجبه أحد من الناس.(107/24)
حديث (ما أخذ بالحياء فهو حرام)
السؤال
ما مدى صحة {ما أخذ بالحياء فهو حرام}؟:
الجواب
هذا الحديث لا يصح، وهو من الآثار التي لا ترفع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، والعجيب أن الناس يحفظون الأحاديث الموضوعة، وأما الأحاديث الصحيحة فبحفظ الله ورعايته لم يحفظوا إلا القليل، أحد الناس يقول: كما يقول صلى الله عليه وسلم، لما قيل له: ما أخرك يا رسول الله؟ قال: أصنع لكل حق طبق.
حتى الكلام ليس من كلام العرب ولا العجم ولا الفرنسيين، (طبق وحق) فهذا ليس من لفظه صلى الله عليه وسلم.
وقد سمعت أحد الإخوان من المشايخ يقول: سمع في جلسة أن أحد القصاص يقص في مجلس، فقال: ذهب رجل منا -من عسير- إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! هل من ام بر ام صيام في ام سفر؟ قال: {ليس من ام بر ام صيام في ام سفر يا صبي عسير}.
فاللفظة هذه ما أحسنها! ما دخلت الكتب ولا العقول، فمثل الأحاديث الموضوعة هذه تتجنب، وحديث: {ما أخذ بالحياء فهو حرام} لا يصح وليس مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم.(107/25)
حكم رفع الثوب إلى الركبتين
السؤال
ما حكم رفع الثوب إلى فوق نصف الساق وإلى الركبتين؟
الجواب
هذا ما يفعله أحد، هذا فنيلة وليس بثوب، فإن بعض الفنايل تصل إلى الركب، أما أن يصل إلى الركبتين فهذا ليس بساتر، إنما الثوب عند العرب أن يكون ثوباً والفنيلة فنيلة وأما إلى نصف الساق فهو السنة، والأحسن والأولى أن يلبس إلى نصف الساق، لكن من رأى أن يلبس إلى فوق الكعب فليلبس إلى فوق الكعب إذا رأى ذلك.
فإن ابن مسعود شكا إلى عمر وقال: إن في ساقي حموشة، فأريد أن أنزل إزاري إلى تحت نصف الساق.
فقال: افعل ذلك.
فكان ينزله إلى فوق الكعب، لكن أما تحت الكعب فخطر ممنوع الاقتراب، وأما إلى الركبة فما سمعنا بهذا.
وفي الختام أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، وأن يتقبل منا صالح ما عملنا، وأن يتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(107/26)
الراحمون يرحمهم الله
رحمة الله تعالى بعباده واسعة وعظيمة، وهي أوسع لهم وأرجى، وفي هذا الدرس تجد بياناً لبعض مظاهر رحمة الله، التي منها ما وضعه الله من الرحمة في نبيه صلى الله عليه وسلم، التي من خلالها ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها، وتجد تلك التربية متمثلة في عمر، مما يدعوك إلى أهمية وفائدة تعليم الناس كيف يتراحمون.(108/1)
سعة رحمة الله تعالى
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثلما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالإسلام، رفعت رءوسنا بالإسلام وكانت مخفوضة، وأنرت قلوبنا بالإسلام وكانت مظلمة، وشرحت صدرونا بالإسلام وكانت ضيقة.
عز جاهك، وجلَّ ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت، في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي كل شيء رحمتك وآيتك، أنت رب الطيبين، وملجأ المضطهدين، وعضد المستنصرين، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
والصلاة والسلام على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، من شرحت له صدره، ووضعت عنه وزره، ورفعت له ذكره من جعلته قدوة للناس، وإماماً للمتقين من جعلته خطيباً للناس إذا وفدوا، ومتكلماً لهم إذا احتشدوا، ورافعاً لعلمهم إذا عقدوا هديت به البشرية، وأنرت به أفكار الإنسانية، وزعزعت به كيان الوثنية، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(108/2)
فضل الرحمة
أمَّا بَعْد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، واعلموا أن رحمة الله عمَّت الكائنات، وأن أعظم صفات المولى تبارك وتعالى هي الرحمة، فهو رحمن رحيم، رحمن الدنيا والآخرة.
والملائكة يوم تتوسل إلى ربها ومولاها تبارك وتعالى تثني عليه بالرحمة، فتقول: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيم}) [غافر:7] فرحمته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى تبلغ ما بلغ علمه، رحمته عز وجل لا تتناهى، خلق الرحمة -كما في الصحيح- في مائة جزء، فجعل جزءاً واحداً في الدنيا، يتراحم بهذا الجزء الناس والحيوانات والعجماوات؛ حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تطأه، وأما تسعة وتسعون من الأجزاء فادخرها الله عنده يوم القيامة، والله عز وجل خير الراحمين، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:118].
فرحمته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا تتناهى، ولذلك طلب من عباده أن يكونوا رحماء، ومدح المؤمنين فقال عنهم: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54].
فما أعظم رحمة الله! وما أجل هذه الصفة يوم يتذكرها العبد المسلم فيكون رحيماً بعباد الله!
وأبعد القلوب عن الله -تبارك وتعالى- القلب القاسي، فالله لا يحب الجبارين والمتكبرين، ولا الذين يحملون قلوباً قاسية لا تشفق ولا ترأف ولا ترحم ولا تلين.
قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
قست قلوبهم باللعنة وهم بنو إسرائيل، وقست بقطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، وقست بالزنا والتناحر والتقاطع، ولذلك قال الله فيهم: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13].
أُتي الرسول صلى الله عليه وسلم بسبيٍ من الكفار، وفي السبي امرأة والهة، أُخِذَ ولدُها من بين يديها وهو طفل رضيع، فأصبحت حائرةً مضطربةً، تبحث في السبي، فكلما وجدت طفلاً وضعته على ثديها وهي تبكي، حتى وجدت طفلها، فأخذت الطفل، فوضعته على ثديها وهي تبكي، وروحها تكاد يفارق نفسها فقال عليه الصلاة والسلام: {أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا، -والله- يا رسول الله! وهي تقدر ألا تطرح ولدها في النار، فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده! لله أرحم بعباده من هذه بولدها}.(108/3)
عدم تعجيل العقوبة في الدنيا
ومن رحمة الله: أن يرى العصاة الفجرة الجبارين المتكبرين يسفكون الدماء، ويأكلون الأموال، ويتعدون على الأعراض، ويغتصبون الأملاك، ورحمته لا تزال تكلؤهم، وستره لا يزال يغشاهم، وكنفه لا يزال يعمهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو لم يغفل عنهم، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:41 - 42].(108/4)
الرحمة تشمل كل ذي كبدٍ رطبة
يعلمنا الرسول عليه الصلاة والسلام أن الرحمة لا تكون بين الناس فحسب، لا بين الرجل وزوجته، ولا بين الرجل وابنه فحسب؛ بل بين الكائنات فقد أخبر صلى الله عليه وسلم: {أن رجلاً من بني إسرائيل مر يوماً من الأيام ببئر مطوية، وقد بلغ به من الظمأ ما الله به عليم، فنزل وشرب، فلما روي صعد من البئر، فرأى كلباً يلهث -والكلب من أخس الحيوانات- لكن الكلب يحمل كبداً رطبة، ويحمل قلباً يتأثر، -فقال الرجل الإسرائيلي يوم أراد الله أن يرحمه، ويتناوله بعين الرضا- قال: لقد بلغ بهذا الكلب ما بلغ بي من الظمأ، فعاد إلى البئر، وملأ خفه من الماء؛ وقدمه إلى الكلب فشرب، فرضي الله عن هذا من فوق سبع سماوات، وأدخله الجنة}.
ويخبرنا عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم بمأساة عاشتها امرأة يهودية، كانت تحمل قلباً غليظاً، لكن على عالم القطط، وبعض الناس لا تظهر شجاعته إلا على القطط والكلاب؛ مقدام لكن على الكلاب، وشجاع وبطل لكن على القطط، وهذه المرأة الإسرائيلية أعلنت شجاعتها وبطولتها على قطة من القطط، فقد أغضبتها القطة؛ فحبستها في بيت، فأتت القطة تبحث عن الطعام، فلا طعام، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فماتت القطة، فكان جزاء هذه المرأة أن عذبها الله في نار تلظى.
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يرى هذا المشهد حين صلى بالناس صلاة الكسوف في المدينة، فتأخر من المحراب خطوة، ثم تقدم خطوة، فلما سلم سأله الصحابة عن ذلك، فقال: {عرضت لي الجنة، فرأيتها في عرض الحائط، ورأيت عنقوداً من عنب لو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار، ورأيت فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه بالنار -لأنه أول من أدخل الأصنام إلى جزيرة العرب - ورأيت امرأة تنهشها هرة تعذب في النار، لأنها حبستها في الدنيا}.(108/5)
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم
لقد امتدح الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالرحمة، وأخبره أنه ألف القلوب بالرحمة، ولو كان غير ذلك لما تألفت له قبائل العرب، ولو أنفق ما في الدنيا من ذهب وفضة.
فالعرب أمة مبعثرة همجية ما لم يسيطر عليها الإسلام، وهي أمة مشاغبة متمردة ثائرة، ولذلك لم يكن لها حضارة، وثقافة، ولم تكن لها دولة حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا إله إلا الله، وألف بين قلوبهم، قال تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] فكان عليه الصلاة والسلام يمتاز بالرحمة، حتى يقول الله تبارك وتعالى له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] أي: لو سستهم بالشدة والجبروت والسفك؛ لتفرقوا وتبعثروا وما اجتمعوا لك أبداً.
يأتي الرجل يحمل من الحقد والحسد والضغينة والقتل للرسول صلى الله عليه وسلم الأمر العظيم، فيعفو عنه صلى الله عليه وسلم ويتبسم له، فيعود حبيباً قريباً إلى قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].(108/6)
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالأطفال
كان يمر عليه الصلاة والسلام في سكك المدينة على الأطفال، فيقبِّلهم، وكثير من الناس اليوم جبار متكبر، يرى أن من أحقيته وشخصيته وعلوه وسموه ألا يدنو إلى طفل في الشارع، فيمسح رأسه ويقبله؛ يقول: مالي ولأطفال الناس؟! وحضرتي تتنزل إلى هذا لأطارد الأطفال في السكك لأمسح رءوسهم وأقبلهم، لكن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يدنوا منهم ويقبلهم.
وإذا رحمت فأنت أمٌ أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرحماءُ
فإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمةٌ ووفاءُ
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لا تفعل الأنواءُ
وإذا غضبت فإنما هي غضبةٌ في الحق لاضعن ولا بغضاءُ
وإذا سعيت إلى العدا فغضنفر وإذا غضبت فإنك النكباءُ
أتى صلى الله عليه وسلم ليصلي بالناس، فسمع طفلة -وهي ابنة بنته زينب وهو جدها عليه الصلاة والسلام- تبكي وقد أقيمت الصلاة، فهل يصلي ويترك الطفلة تبكي، أم يتشاغل بالطفلة عن الصلاة وعمرها سنتان؟ فأخذها على كتفه الأطهر الأرأف الأشرف، وتقدم الصفوف، ليُري القواد والزعماء والعلماء أنه أرحم الناس، فكان إذا سجد وضعها في الأرض، وإذا قام رفعها، فهل بعد هذه من رحمة؟!
يصلي عليه الصلاة والسلام بالناس، ومن حبابته للقلوب وقربه للأرواح يأتي الحسن والحسين عليهما رضوان الله أبناء فاطمة الزهراء البتول الراشدة المرضية، فينظران الرسول عليه الصلاة والسلام ساجداً في صلاة الظهر، ووراءه في الصفوف الرجال والنساء والأطفال، فضاقت بهم الدنيا إلا ظهر المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأعجبهما المنظر يوم سجد صلى الله عليه وسلم وأرخى أكتافه، فصعد الحسن على ظهره، ثم صعد الحسين، وأصبح صلى الله عليه وسلم ساكناً في سجوده وأطال السجود، فلما سلم سأله الناس: {ما لك أطلت السجود يا رسول الله؟! قال: إن ابني هذين ارتحلاني فخشيت أن أوقعهما في الأرض فأوذيهما، فانتظرت حتى نزلا} فمن يفعل هذا؟!
إننا نتعامل مع الأطفال بالضرب والشتم والمطاردة في المسجد، حتى إن كثيراً من الأطفال أصبح يخاف من المسجد خوفاً عظيماً، لما يسمع فيه من التهديد والإرهاب والثوران، لكن المصطفى صلى الله عليه وسلم تحبب إلى الأطفال حتى دخل عليه الصلاة والسلام إلى قلوبهم.
يذهب إلى أحد الأطفال، وكان له طائر يلعب به، فمات الطائر فأصبح موت هذا الطائر مصيبة في حياة الطفل، فيعزيه صلى الله عليه وسلم ويقول -والحديث صحيح-: {يا أبا عمير! ما فعل النغير} فما كأن المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا متفرغاً لهؤلاء الأطفال، مع العلم أن هموم البشرية وأحداثها تدور على كتفه صلى الله عليه وسلم.(108/7)
تخفيف الصلاة رحمةً بالضعفاء وذوي الحاجات
من الرحمة التي أنزلها الله في قلبه عليه الصلاة والسلام أنه يصلي بالناس فيسمع بكاء الأطفال، فيتجوز في الصلاة، فيقول: {إني أدخل في الصلاة فأريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الطفل فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه} سبحان من أعطاك الرحمة! وسبحان من أنزلها في قلبك! وسبحان من علمك أن تتعامل مع الناس؛ حتى قدت البشرية إلى بر السلام!
كان يغضب من التشديد على الناس، ويريد التيسير؛ أرسل أبا موسى ومعاذاً داعيين ورسولين ومنذرين ومبشرين إلى اليمن، فكان آخر ما أوصاهما به أن قال لهما: {يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا}.
وأتاه رجلٌ من الأنصار فقال: {يا رسول الله! والله الذي لا إله إلا هو إني أتخلف عن صلاة الفجر من أجل ما يطيل بنا فلان} يعني معاذاً رضي الله عنه وأرضاه، فقد قرأ بهم مرة من المرات سورة البقرة، فقسمها في ركعتين، فأتى هذا الأنصاري وكان وراءه أسرة ومتطلبات وأشغال ودواعي، فترك الصلاة وصلى صلاة خفيفة، وذهب يشتكي معاذاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل قال الرسول صلى الله عليه وسلم أحسنت يا معاذ؟ أحسنت يوم أطلت وقرأت وأسمعت ورتلت؟ لا.
بل غضب صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، فلما دخل معاذ غضب عليه الصلاة والسلام في وجهه، وقال: {أفتان أنت يا معاذ! أفتان أنت يا معاذ! أفتان أنت يا معاذ! من صلى منكم بالناس فليخفف؛ فإن فيهم الكبير والصغير والمريض وذا الحاجة} فهذا الدين رحمة، ويسر وسهولة دين دخول إلى القلوب , وشراءٌ للأرواح.
كانت عيناه عليه الصلاة والسلام تدمعان دمع رحمة، وإلا فهو من أشجع الناس.
وإذا لقيت كتيبة يوم الردى أدبت في يوم الردى أفعالها
وإذا وعدت وفيت فيما قلته لا من يكذب فعلها أقوالها
وكان صلى الله عليه وسلم يتأثر في المواقف، فقد دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه، فبكى حتى شهق صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عوف: {حتى أنت يا رسول الله؟! -أي: حتى أنت تبكي- قال: إنها رحمة ويضعها الله في قلوب من يشاء من عباده، ومن لا يرحم الناس لا يرحمه الله}.
ويأتي إلى الحسن فيقبله أمام الجماهير، فيقول الأقرع بن حابس التميمي - وهو رجل تربى في البادية صلداً كالحجر قاسياً كالصحراء- قال: {يا رسول الله! أئنكم تقبلون الأطفال؟! والله إن عندي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم، وقال: أأملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟}.
يرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه رجلاً يريد أن يذبح شاة، فقادها برجلها، فقال عمر: [[يا عبد الله! اتقِ الله، وقد الذبيحة إلى الموت قوداً جميلاً، كفى بك أن تذبحها]] ولذلك تجد بعض الناس يتعامل ببشاعة وقسوة وفتك مع الحيوانات؛ ومع الأبقار والأغنام والدجاج والقطط والكلاب؛ وكأن ليس لها قلوب ولا أكباد، والله الذي خلقها ولو لم يرد رحمتها ما خلقها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وأعظم ما نتراحم به بيننا في تعاملنا وزياراتنا وتوادنا قال صلى الله عليه وسلم: {ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء}.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو التواب الرحيم.(108/8)
مظاهر الرحمة في قلب عمر
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً؛ وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
كانت مدرسته عليه الصلاة والسلام تمتاز على مدارس غيره بالرحمة، فقد علَّم أصحابه الرحمة؛ حتى أصبح أشدهم وأقساهم قلباً من أرحم الناس، ولولا هداية الله لـ عمر رضي الله عنه وأرضاه لما كان يرحم، ولا عرفت عيناه الدموع، فقد كان عمر من أقسى الناس في الجاهلية، كان سفاكاً فتاكاً لا يعرف المهادنة، ولا يعرف الحوار واللين والسهولة، وإنما الكلمة القوية والأخذ بالعنف، فلما سكب صلى الله عليه وسلم إناء الرحمة في قلبه كان أرحم الناس.
يقف عمر بن الخطاب يوم الجمعة فتغلبه دموعه رحمةً، فلا يستطيع أن يتكلم، يأتي يصلي بالناس فلا يسمع الناس قراءته من كثرة بكائه، أخذت الدموع في خده خطين أسودين، فمن جعل هذه الرحمة تسري في شرايينه وفي عروقه؟!
فهذا أسلم مولى عمر، قال له عمر بعد صلاة العشاء: أتنام؟! فقال: نعم، قال عمر: والله ما نمت منذ ثلاث ليال، انطلق بي يا أسلم، فقد جعل الله في عنقي الأرملة والمسكين والشيخ الكبير والعجوز، وإن الله سائلي عنهم يوم القيامة، قال: فذهب معه بعد صلاة العشاء، وبيده درة -عصا- يتمشى في شوارع المدينة، يسأل عن أمنها، وراحة أهلها, يسهر لينام الناس، ويجوع ليشبع الناس، ويظمأ ليروى الناس، فاقترب من بيتٍ في ناحية من نواحي المدينة، فسمع امرأة تبكي، فوضع رأسه على صائر الباب، فإذا المرأة في الولادة، فأخذ يبكي معها، قال أسلم: مالك يا أمير المؤمنين؟! قال: هذه المرأة في الولادة، إنك لا تدري ماذا تجد من ألم الولادة يا أسلم! إني أخاف من الله أن يسألني يوم القيامة عنها، ثم انطلق إلى بيت المال، فأحضر طعاماً وصنعه لها وقدمه، فلما أصبحت تأكل وارتاحت قالت لـ1000029>عمر - ولم تعرفه-: والله إنك لخير من عمر بن الخطاب.(108/9)
تحمله الجوع ليشبع المسلمون
هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يقول عام الرمادة: والله لا أبتل في سمن ولا آكل سميناً حتى يجلي الله الكربة عن المسلمين؛ يأتي يوم الجمعة يخطب الناس، فيقرقر بطنه على المنبر من الجوع، فيقول لبطنه ويضرب عليه: [[قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]].
حسبي وحسب القوافي حين أرويها أني إلى ساحة الفاروق أهديها
يا رب هب لي بياناً أستعين به على حقوق العلا قد نام راعيها
عمر رضي الله عنه وأرضاه يبلغ من حنانه وبره إلى أن يسأل عن الأطفال ماذا أكلوا وشربوا، وكيف ناموا؟ ثم يواصل استقصاءه للحقائق ليرتاح، فرضي الله عن ذاك الإمام الذي علَّمه صلى الله عليه وسلم الرحمة، وعلَّمه كيف يعيش مع الناس بالرحمة، وعلمه كيف يكون رحيماً بالناس؟
إنها الرحمة التي علَّمها صلى الله عليه وسلم أصحابه، ومن لا يرحم الناس لا يرحمه الله، وكثير من البطون اليوم تشبع، وما عليها أن يجوع آلاف المسلمين، وتكتسي بأشرف الملابس، وأرقى المعطيات، وما عليها ممن عري من الناس، وتسكن قصوراً شاهقةً والناس ينامون على الأرصفة؛ لأن الرحمة ما سكبت في القلوب كما أرادها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
والتراحم الذي يريده الله عز وجل هو التراحم والتواد بين المؤمنين، وأوله أن تلقى المؤمن وأنت تود له ما تود لنفسك، وهذه ضاعت من أوساطنا إلا ممن رحم الله.
بعضنا لا عليه أن يسعد ولو شقي الناس، ولا عليه أن يجوع الناس إذا شبع، ولا عليه أن يتعب الناس إذا ارتاح، فأين الرحمة التي أرادها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟!(108/10)
الرحمة التي يريدها الله من المسلمين(108/11)
رحمة الرجل لأهل بيته
من الرحمة التي يريدها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الناس: أن يرحم الرجل أهل بيته، وأول ما يرحمهم به أن يقودهم إلى الإسلام، فوالله لرحمتك لأهل بيتك بقيادتهم إلى الإسلام أعظم من تقديم الطعام والشراب إليهم، يظن بعض الناس أن الرحمة لأهل البيت أن يشبعهم ويكسوهم ويسكنهم ويسدل عليهم الخير؛ وهذا من الرحمة، لكن أعظمها أن تقودهم إلى الجنة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].(108/12)
الرحمة بالمساكين بتفقد مرضاهم وإطعام جائعهم
أيظن الإنسان أن الله لا يسأله عن بني الإنسان؟! يوم القيامة يقررك الله بذنوبك، فيقول الله: {يا بن آدم! جعت فلم تطعمني} أكلت الموائد الشهية وشبعت وجاع الناس وهذا حديث صحيح من رواية ابن عباس: {قال العبد: يا رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان جاع فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته وجدت ذلك عندي} يجوع جارك ويمسي طاوياً يتلوى من الجوع، ترى الفقراء والمساكين يتلوون في السكك والطرقات والمنحنيات لا يجدون كسرةً يابسةً من الخبز، وأنت ترمي الأكلات في القمامة للقطط والكلاب، حتى أصيبت قططنا وكلابنا بالتخمة، فأصبحت تموت بالتخمة، وأما الأكباد الجائعة والبطون الخاوية، فأصبحت لا تجد قطعة الخبز اليابسة التي ترمى في السكك.
{يا بن آدم! ظمئت فلم تسقني، قال: كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان ظمأ فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي، يا بن آدم! مرضت فلم تعدني} وكثير من عيادات الناس وزياراتهم اليوم أصبحت على الوجاهة والشهرة والمناصب ومعطيات الدنيا.
الفقراء يمرضون السنوات ولا يعادون، والمساكين يطرحون في المستشفيات على الأسرة ولا يجدون من يعودهم، إن كان رجل له منصب وجاه من الأغنياء وأهل الشهرة:
ترى الناس أفواجاً على باب داره أطافوا على تلك الديار وسلموا
تشكو عتبات الوجهاء من كثرة الزيارة لا لوجه الله، لكن لوجهه وأصبحت دعوات الناس على الطعام للوجاهة، فيدعى وجهاء الناس والفقراء يتلوون بجانب الخيام والقصور والفلل لا يدعون، لأنهم فقراء.
{يا بن آدم! مرضت فلم تعدني، قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما تعلم أن عبدي فلان بن فلان مرض فلم تعده، أما إنك لو عدته لوجدت ذلك عندي}.
عباد الله! أسأل الله أن يرحمني وإياكم برحمته التي وسعت كل شيء، وأن يجعلنا رحماء مع أهلنا وجيراننا وإخواننا وأمتنا، وأن يجعل الرحمة تعاملنا، وأن يكسونا ثوب الرحمة، وأن يرحمنا سراً وجهاراً وظاهراً وباطناً، وأن يغرس شجرة الرحمة في قلوبنا، لتثمر الصدق واليقين والصراحة والوضوح.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدةً، صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على حبيبك ونبيك محمد، اللهم اعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين!
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(108/13)
إليكم أيها الآباء!
ذكر الشيخ: أن الأبناء هبة, منّ الله بهم على الآباء, فعلى الأب أن يقدر هذه الهبة ويربيهم التربية الحسنة.
ثم ذكر أموراً تحصل بها التربية الصحيحة, وتعين الأب على التربية الحسنة.
وتطرق إلى هدي الإسلام في تربية الأبناء من حين أن يولدوا وقد ذكر أن الأب هو القدوة للأبناء في أفعاله وتصرفاته، فهم يأخذونها منه وإن خالفت أقواله.(109/1)
الذرية الصالحة من أعظم النعم
الحمد لله، الحمد لله الذي جعل الأبناء لعيون الآباء قُرَّة، وجعلهم لقلوبهم مسرَّة، وجعل الأبناء في جبين السعادة دُرَّة، وأوصى بهم وبتربيتهم في الكتاب والسنة كرة من بعد كرة.
والصلاة والسلام على خيرة الآباء، أبي الزهراء، سيد الأولياء، وأعظم الأصفياء، وأجل المربين النبلاء.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المسلمون الفضلاء! أيها الآباء النبلاء! إن من أعظم الهبات التي يهبها الله تبارك وتعالى: أن يرزقك الله الذرية الصالحة الناصحة، والأبناء النجباء الأتقياء، حينها تسعد في الحياة الدنيا وفي الآخرة.(109/2)
أسباب الحصول على الذرية الصالحة
وهذه الهبة، وهذا العطاء الرباني يحصل بسببين اثنين:
أولهما: قضاء وقدر من الحي القيوم، وهداية خَلقية أمرية منه تبارك وتعالى.
وثانيهما: سبب كسبي من العبد بالتربية والتوجيه والتعليم.
فها هو إبراهيم الخليل يتوجه إلى الله تبارك وتعالى أن يجنب أبناءه الشرك والوثنية، يقول عليه السلام في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] كأنه يقول: يا رب! لا تجعل أبنائي مشركين وثنيين فجرة، حينها تُنَغَّص عليَّ الحياة، وتُكَدَّر عليَّ السعادة، وتُظْلِم الدنيا في عينيَّ.
ويقول بعدها بآيات في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37] يا رب! أبنائي يقيمون الصلاة فلا تضيعهم.
يارب! أبنائي أتقياء أخيار؛ فلا تجعلهم ضُلاَّلاً مشركين.
ويقول في سورة البقرة -يوم طلب الولاية من الله له ولأبنائه- في قوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124].
ولو كان الأب خَيِّراً باراً سعيداً تقياً، ولكن ابنه فاجر، فلن تناله ولاية الله، فالله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، ولا واسطة، ولا شفاعة, إلا لمن ارتضى من عباده الأخيار.
وزكريا عليه السلام يشرف على الهرم، ويدركه الشيب، ويضمحل جسمه، فيلتفت إلى القبلة, ويرفع أكف الضراعة إلى الحي القيوم، يقول الله عنه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [مريم:4 - 6] يقول: يا رب! أسألك ابناً صالحاً يرثني في الخير، يدعو لي وأنا في القبر، مُسَدَّداً، يتصدَّق.
فيُحَسِّن خُلُقَه، فيكون في ميزان حسناته، سبحان الله! يا له من دعاء!
يقول الله في سورة الكهف: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:82] حفظ الله لهما الكنز؛ لأن أباهما كان صالحاً.
والله عز وجل يمتن على زكريا عليه السلام بالهداية لأبنائه، فيقول: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].
ومدرسة التوجيه والتربية في القرآن تعتمد على الوصايا النافعة، لا على المبادئ المهزوزة الفاشلة، والتعاليم التي أُسْقِيَها أبناء المسلمين في هذا العصر، تجعل الواحد منهم ينشأ فاشلاً فاجراً إلا من رحم ربك.
يقول تعالى حاكياً عن لقمان وصيته لابنه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
أي وصية هذه؟! وأي تعاليم هذه التعاليم؟! وأي مبادئ هذه المبادئ؟!(109/3)
الأمور التي تحصل بها تربية الأبناء
وتربية الأبناء - أيها الآباء النبلاء الفضلاء الشرفاء - تحصل بأمور؛ أفرد بعض العلماء فيها تصانيف؛ ومن أجَلِّ ما تحصل بها هذه الأمور:
أولها: اختيار الزوجة الصالحة.
ويوم نخفق ونفشل في اختيار المرأة الصالحة سوف ينشأ النشء غير مستقيم، ولا مسترشد.
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراقِ
الأم نبت إن تعاهده الحيا بالريِّ أورق أيما إيراقِ
والرسول - عليه الصلاة والسلام - يعلن الأسس التي تتزوج عليها الأمم جميعاً، فيقول: {تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولنسبها، ولجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك}.
فأهل فارس: يتزوجون للجمال.
والروم: يتزوجون للنسب.
واليهود: يتزوجون للمال.
وأما أمة محمد عليه الصلاة والسلام: فيتزوجون للدين، وللاستقامة.
والأم إذا كانت صالحة مرشدة؛ نشأ أبناؤها حفظة لكتاب الله، أخياراً، أبراراً، سعداء، يتشرفون بحمل الرسالة، لا يَخْجلون إذا تلبسوا بالسنة، لا يتدسسون إذا رأوا على أنفسهم معالم الاستقامة؛ لأن بعض الناس ينكس رأسه إذا استقام، ويخجل أن يسمى سنياً؛ لأنها ما غرست في قلبه فطرة (لا إله إلا الله).(109/4)
نماذج من الزوجات الخيرات
أم سليم: يراها صلى الله عليه وسلم في الجنة.
ولقد كان أعظم مهر في الإسلام مهر أم سليم، أتاها أبو طلحة وهو مشرك يريد أن يتزوجها، فقالت: " مهري الإسلام، إذا أسلمتَ تزوجتك، فأسلم فتزوجته.
لما قَدِم صلى الله عليه وسلم المدينة، أهدت إليه ابنها أنس بن مالك، فخدمه عشر سنوات، تقبل الله منها أحسن ما تقبل من عباده.
الخنساء: تحضر معركة القادسية، فلما قربت المعركة بين الحق والباطل، بين (لا إله إلا الله) والكفر، جمعت أبناءها الأربعة، وقالت: يا أبنائي! - والله - ما خنتُ أباكم، ولا نكستُ رأس خالكم، -والله - إنكم لأبناء رجل واحد، فإذا أقبلت المعركة، فيمموا قبلتها، واستقبلوا شطرها، ثم قاتلوا أبطالها، ولا أراكم أحياء في آخر اليوم، أريد أن أراكم شهداء؛ لأسعد بكم في جنة عرضها السماوات والأرض.
وبدأت المعركة، وقاتل أبناؤها، وقتلوا جميعاً، وأتى الصحابة يعزونها في أبنائها، قالت: الحمد لله الذي أقر عيني بهم في جنة عرضها السماوات والأرض، وهي تضحك.
أي جيل هذا الجيل؟! وأي سعادة حصلت لهم لما استقاموا على منهج الله الذي رضيه لعباده؟!(109/5)
التربية من حين اجتماع الزوجين, ومن حين خروجه وليداً
والأمر الثاني: يحصل بذكر الله يوم أن يلتقي الرجل بالمرأة.
والأمر الثالث: يوم يقع رأس المولود في الأرض:
حينها يبكي صارخاً
يقول فيلسوف الأدب:
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا(109/6)
هدي الإسلام عند خروج الطفل من بطن أمه
يوم يقع رأس الغلام في الأرض, ماذا يفعل الإسلام به؟ ما هو هدي الإسلام للمولود؟
هديه -كما أتى في (السنن) و (المسند) - أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما ولد الحسن بن علي أذَّن في أذنه.
يا لله! ويا لَلْعَجب! ويا لَلرَّوعة والإبداع! لينشأ الطفل على (لا إله إلا الله)؛ لينشأ على الأذان، وليغرس في قلبه معالم هذا الأذان، ولتُحَبّب إليه المساجد, والرياض الخضرة بتقوى الله وبذكر الله.
أذن صلى الله عليه وسلم في أذنه، لتهتز أذنه بالوحدانية، ولينشأ قلبه على الصمدانية، وليكون عبداً لله من أول يوم.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريَّا
دخولي تحت قولك: ياعبادي وأن صيرت أحمد لي نبيَّا
وفي بعض الآثار، ونقل هذا عن عمر بن عبد العزيز أنه يُقام في الأذن الأخرى، يُؤَذَّن في اليمنى، ويقام في الأخرى.
وعَقَّ صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً (كما في السنن).
لكن في (السنن): يقول عليه الصلاة والسلام: {كل مولود مرهون بعقيقته، يُعَقُّ عنه يوم السابع، عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة} وهو في (السنن) و (المسند) بسند حسن.
وهذا معناه: أن تعلن رضاك بموعود الله، وبما أعطاك الله؛ فتتصدق، وكأنه في يوم عيد، يوم رزقك الله ذرية تزيد في الأمة الإسلامية، وتسبح بحمد الله، وتكون لك ذخراً.
ويُحْلَق رأسُه، ويُتَصَدَّق بوزنه فضة، كما ثبت ذلك في الآثار والأحاديث الصحيحة.(109/7)
هدي الإسلام في الأسماء
وسنّ صلى الله عليه وسلم على الآباء: حسن الأسماء للأبناء, وفي (الصحيح): {أحب الأسماء إلى الله: عبد الله، وعبد الرحمن}.
ليكن اسم ابنك جميلاً، اسماً إسلامياً عربياً قوياً، لا اسماً فيه أنوثة أو تدليل أو مستورداً من الخواجات والعملاء والضُّلاَّل أبناء الوثنية السخفاء الحقراء، بل يكون اسماً قوياً: عبد الله، عبد الرحمن، عبد السلام، أحمد، محمد؛ ليكون خادماً لهذه الرسالة الخالدة، التي شق نورها المعمورة، فلا يكون اسماً مستعمراً مستورداً، ففي كتابنا وفي سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- ما يغنينا عن هذه الأسماء.
وورد عنه صلى الله عليه وسلم: أن الناس يُدْعَون يوم القيامة بأسمائهم وأسماء آبائهم.
فيا معاشر الآباء! يا رواد الجيل! يا ركب الحضارة! اختاروا الأسماء الطيبة البديعة المليحة الحسنة؛ لتكون عنواناً يوم القيامة، يوم العرض الأكبر، تدعون بها أنتم وآباؤكم وأبناؤكم.
وسنّ الإسلام كذلك: أن يُرَبى الطفل على تقوى الله، وأن تُغْرس في قلبه طاعة الله، وأن تُزْرع في قلبه شجرة الإيمان.(109/8)
تربية الطفل على الافتخار بالدين
الرسول عليه الصلاة والسلام يقول لـ ابن عباس وهو طفل كما في سنن الترمذي بسند حسن: {احفظ الله يحفظك} انظر إلى الوصايا الخالدة التي تزرع في القلب، فتمر في الشرايين مع دفق الدم، فتكون حرارة ونوراً وتوهجاً: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
نقول: ما للمجتمعات ينشأ الأبناءُ فيها لا يحملون التشرف بالدين، ولا الافتخار بالرسول عليه الصلاة والسلام؟
لأن البيوت -إلا من رحم الله- جعلوا العظماء في البيت المغنيين والمغنيات، والماجنين والماجنات، فيظن الطفل أن عظماء الناس وقوادهم وأن فاتح بلاد الناس, هو هذا المغني, وهذه المغنية.
فما طرق في أذن الطفل دائماً وأبداً مع وجبة الإفطار ومع الجلسة والغداء والعشاء وحفل السمر، محمد رسول الله: أبو بكر الصديق عمر الفاروق عثمان ذو النورين علي بن أبي طالب، فهذه الأسماء اللامعة، هذه الأسماء التي من لم يَسِر على منوالها، -فوالله- إنه مهزوم, وفاشل, وحقير, ولا يساوي في عالم العدالة والإبداع فلساً واحداً، هذه الأسماء إذا لم تشتهر في البيوت، ولم تعرف سيرتُها، فمعنى ذلك أن البيت فاشل حقير مغضوب عليه.
أنجعل هتلر في البيت، ونابليون وديكارت وكانت وأشباه هؤلاء القردة والخنازير, وأعداء البشرية وأعداء الشعوب؟ أم من المغنين, والمغنيات, الأحياء منهم والأموات؟!
لا والله، بل تتعرف على الأنبياء والصحابة، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ(109/9)
أدب الإسلام وهديه بالأطفال
ومن أدب الإسلام وهديه بالأطفال:
إذا بلغ الطفل السابعة أن يؤمر بالصلاة أمراً.
فيقال: صل هداك الله، صل فتح الله عليك، هذا طريق المسجد، احضر معنا، هيا بنا إلى روضة من رياض الجنة، هيا إلى رحمة الله تغشانا، وإلى الملائكة تحف بنا، وإلى الرضوان يداخلنا ونداخله، وإلى السعادة، هيا قم بنا؛ ليعرف طريق المسجد.
ويوم يعرف الابن طريق المسجد فلن يعرف طريق السجن ولا الحبس أبداً، ولن يعرف طريق الخمارة ولا المقاهي اللاهية، ولا المنتزهات اللاغية، ولا جلساء السوء، ولا الليالي الحمراء؛ فالمسجد يغسله غسلاً، والمسجد يعلمه تعليماً، والمسجد يجعله هادياً مهدياً راضياً مرضياً.(109/10)
هدي الإسلام في من بلغ العاشرة من عمره
فإذا بلغ العاشرة جاء الأمر بالتأكيد والضرب، والفصل بينه وبين إخوانه في المضاجع، لا ينام الأخ مع أخيه الذكر، ولا الأنثى مع الأنثى في فراش واحد، ولا الذكر مع الأنثى، فهذه تعاليم سماوية، ومبادئ أصيلة جليلة، لا بد أن تكتب في الصدور، لا في السطور.
فإذا ما ترعرع فاستصحبه دائماً، واحضر به جلسات الخير، ومنتديات البر، ومعالم التوحيد، ومحاضرات التوجيه والتربية.
لا تتركه لاعباً تائهاً في الشارع والسكك، وتأتي أنت تتعلم، فكأنك تهدم من شق, وتبني من شق، وهذا ليس فيه منفعة؛ لأن الدين ليس فيه ترقيع أبداً.
للحديث بقية، ولا نريد الإطالة.
(فحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق) ومن يراجع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجد الخير والبر والهداية والفلاح في الدنيا والآخرة.
وفقنا الله وإياكم لبناء بيوت أصيلة جليلة هادية مهدية متجهة إلى الله الواحد الأحد.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(109/11)
الأب قدوة لأولاده
الحمد لله، الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فلا يزال الحديث متصلاً مع الآباء، مع هؤلاء الذين حملهم الله مسئولية تربية النشء، وقيادة الجيل، وهداية هؤلاء الشبيبة بعد هداية الله عز وجل.
ومن الأمور التي يؤكد عليها، وهي في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم:
أن يكون الأب قدوة لابنه:
وما فشل كثير من الآباء في تربية أبنائهم, إلا يوم ربوهم بالقول, وتركوا الفعل والعمل، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2].
يريد الأب من ابنه أن يكون صادقاً بالقول, وهو فاجر كاذب, يتعدى حدود الله في القول، ويريد من ابنه أن يكون مصلياً محافظاً على الصلوات الخمس في الجماعة, وهو لا يعرف المسجد أبداً، فكيف يهتدي؟! كيف يكون الابن أميناً وأبوه خائن؟! والابن مُتَّقٍ وأبوه فاجر؟! إن الابن في مرحلة الشبيبة يقلد تقليداً تاماً.
فمن الهدي والخير والسداد والمصلحة - يا عباد الله - أن نكون قدوة لأبنائنا في البيوت، نأمرهم بالخير ونأتيه، وننهاهم عن المنكر ونجتنبه؛ ليصلح الله لنا الظاهر والباطن، فإنه إذا أصلح أصلح.
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوهُ
يا أيها الرجل المعلم غيره هلَّا لنفسك كان ذا التعليمُ
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ(109/12)
أثر التعليم النافع
والمسألة الثانية التي يجدر الإشارة إليها: التعليم:
تعليم الأبناء تعليماً شرعياً، يعتمد على الكتاب والسنة، لا تعليماً ثقافياً ساذجاً؛ فتحشى به أذهانهم حتى تكون مثل سلة المهملات.
علمٌ لا يقوده إلى المسجد، ولا يحبب إليه طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يقوده إلى الخير، ولا يجنبه المعاصي والمزالق ليس بعلم.
نحن نختلف تماماً عن أمم الأرض التي لا تدين بالإسلام؛ فعلمنا من فوق سبع سماوات، وعلمهم من الطين والتراب، قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
فهذا الابن لا بد أن تسكب في قلبه العلم؛ وأعظم العلم أن تحفظه كتاب الله عز وجل من يوم يبدأ في السادسة, أو في السابعة وتلقنه السور العظيمة والآيات الكريمة، وتدخل كتاب الله في قلبه، ليستدرج النبوة بين جنبيه؛ غير أنه لا يوحى إليه؛ ليكون شافعاً له، لتنور صدره، لتزيل همومه وغمومه وأحزانه وكربه بالقرآن, لتجعله راضياً مرضياً, سعيداً في الدنيا والآخرة.
فالله الله! في تحفيظ أبنائنا كتاب الله.(109/13)
أثر التعليم السيء
ويوم أتت بعض الأسس التربوية من الغرب، وقالت: هذا ليس بسِنِّ حفظ، وإنما يُحفَّظ معلومات ونماذج من كتيبات، وعندها تركنا القرآن وحفظ القرآن، أخفق الأبناء، فما نجحوا في هذه العلوم, ولا في هذه العلوم.
وأصبحوا مذبذبين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
فالعلم النافع الذي يعتمد على: قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأؤكد مبدأً أصيلاً, أن أي داعية, أو أي مصلح يهون من شأن العلم ومن شأن التحصيل العلمي بحجة الدعوة في سبيل الله, فإنما هو يهدم الإسلام بمعوله، ويعادي الرسالة المحمدية، علم أم لم يعلم.(109/14)
أسس ينبه عليها الآباء
ومن الأسس التي أريد التنبيه عليها للآباء كذلك:
جلساء الخير والرفقة الصالحين.
الله الله فيهم، وفي إبعاد أبنائنا من الرفقة السيئة، قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
ومن معالم الولاء والبراء كما ثبت في الأحاديث الصحيحة: {أن تحب العبد، لا تحبه إلا لله} {ورجلان اجتمعا في الله وافترقا عليه}.
فحبب ابنك إلى الأخيار، والعلماء، وطلبة العلم، والدعاة، والمصلحين، والأخيار الصالحين، فوالله لا يكسب منهم إلا نفعاً في الدنيا والآخرة.
أما المردة والفجرة وعصابة السوء والإجرام والإفساد, فهم والله الجناة على البشرية، والجناة على البلاد والعباد، ولا يكسب منهم إلا عاراً وشناراً ودماراً وناراً في الدنيا والآخرة.
يقول الشافعي:
أحب الصالحين ولستُ منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي(109/15)
متابعة الأبناء
أمِن المعقول - يا أيها الآباء الأخيار الأبرار - ألاَّ يُدْرَى عن الابن أين يذهب؟ ومع مَن يمشي؟ ومع مَن يلعب؟ ومع مَن يجلس؟ ومع مَن يسافر؟ أهذا من العقل ومن النُّبْل بمكان؟!
لا والله، هذا جهلٌ، وسفه في التربية، نترك أبناءنا هكذا شذر مذر، فيقعون في حمأة الرذيلة، فيُحبسون ويجلدون ويتردَّون، ويتعاطون المعاصي، ثم نقول: لقد كتب الله عليهم هذا! والله يهدي من يشاء ويُضِل!
وهذا صحيح؛ لكنها كلمة حق أريد بها باطل؛ أين سببك؟ أين كسبك؟ أين تربيتك؟ أين ملاحظتك وتوجيهك؟ لو حدث هذا ما حدث ذاك.
فأوصيكم ونفسي بهذه الأمور للأبناء؛ لأن لهم حقوقاً عليكم، كما أن لكم حقوقاً عليهم.
حينها تسعدون بهم، ويكونون في ميزان حسناتكم، ويكونون بررةً بكم، ويدعون لكم قبل الموت وبعد الموت، وتتشرفون بهم في الدنيا والآخرة.
أقر الله عيوننا وعيونكم بأبناء بررة، نجباء أخيار، وصرف الله عنا وعنكم السوء.
عباد الله! وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدة, صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
وارض اللهم عن الأصحاب الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق, أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه.
اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً، اللهم تب عليهم، وأصلح بالهم، وكفر عنهم سيئاتهم، وأخرجهم من الظلمات إلى النور.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك في كل مكان.
اللهم انصر المجاهدين في كل أرض من بلادك، يا رب العالمين!
اللهم أيدهم بروح منك، واكتب لهم النصر على عدوك وعدوهم، يا رب العالمين!
ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(109/16)
شهيد المحراب
الفاروق عمر هو الرجل الذي أعز الله به الإسلام، وأذل به أهل الكفر والشرك والإلحاد، هذا الرجل الذي ملأ الأرض عدلاً، ونشر الله به الدين، وأذل به الروم وفارس، ولأنه كان كذلك قبل الله دعاءه وجعله من الشهداء في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مسجده ومحرابه.(110/1)
منزلة الفاروق في الدين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أشهد أن الدين خالص، وأن الرسول خاتم، وأن الكفر خاسر.
أيها الناس! يا أتباع محمد عليه الصلاة والسلام! يا حملة المبادئ الخالدة! عنوان هذه الخطبة: (شهيد المحراب).
من هو شهيد المحراب؟
الزمن: صلاة الفجر.
المكان: مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام.
المقتول: عمر بن الخطاب.
القاتل: أبو لؤلؤة المجوسي.
{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عليهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].
من منكم لا يعرف عمر؟
مَنْ مِنَ الناس لم يسمع بـ عمر؟ السلام عليك يا عمر بن الخطاب يوم الجمعة، السلام عليك في هذه الساعة المباركة، السلام عليك يوم أسلمت، ويوم توليت، ويوم قتلت، ويوم تبعث حياً.
تردى ثياب الموت حمراً فما دجا لها الليل إلا وهي من سندسٍ خضر
ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعةٌ غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبرُ
فتىً كلما فاضت عيون قبيلةٍ دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكر
الرسول صلى الله عليه وسلم، يترجم لـ عمر ثلاث رؤى في المنام، كلها لـ أبي حفص، وكلها صحيحة كالشمس:
الأولى: قال عليه الصلاة والسلام: {رأيت الناس البارحة يعرضون عليَّ وعليهم قمص -الأمة كلها تعرض عليه، وعليها قمص ثياب- منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض عليَّ عمر بن الخطاب وعليه قميصٌ يجره، قالوا: ما أوَّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين} دينه مسبلٌ عليه، يغطي جسمه، ويقفو أثره.
يقول عليه الصلاة والسلام: {أتيت بلبن، فشربت منه، حتى أني أرى الريَّ يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: ما أوَّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم} فهو دَينٌ عالم بعلم الكتاب والسنة، العلم الأصيل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19].
يقول عليه الصلاة والسلام: {دخلت الجنة البارحة، فرأيت قصراً أبيض في الجنة، فقلتُ: لمن هذا؟ وأردت أن أدخله، قالوا: لـ عمر بن الخطاب، فذكرت غيرتك يا عمر، فلم أدخل القصر، فبكى عمر وقال: أمنك أُغار؟!} أُغار منك وأنا تلميذٌ من تلاميذك، وحسنةٌ من حسناتك؟!(110/2)
جيل محمد صلى الله عليه وسلم
هذا هو عمر الذي قتل في المحراب، والعظماء يقتلون، إما بالخناجر أو الرصاص؛ ليعلم الله أنهم عظماء، فتعيش الأمة على دمائهم نغماً زكياً تحيا به في شرايين قلوبها، وتبني على جماجمهم مكرمات ما كان لها أن تبنى لو لم تكن تلك الجماجم، وتجعل من أشلائهم تحفاً للتاريخ.
يقول أحد المسلمين، وهو من أتباع محمد عليه الصلاة والسلام، من الشباب الذين قتلوا في بدر، أو أحد، أو القادسية، أو اليرموك، أو حطين، أو عين جالوت، وليس هو من الشباب الذين قتلوا يوم التزلج على الثلج، أو قتلوا في ساعات السهر، أو تدحرجت بهم مسارح الفن، فوقعوا على رءوسهم.
يقول هذا الشاب:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياةً مثل أن أتقدما
وليس على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
فهذا هو جيل محمد عليه الصلاة والسلام، هذه المدرسة التي قدمها للتاريخ، فذلك الرعيل الذي ما سمع الناس بمثله، عاش فيه عمر مع الرسول عليه الصلاة والسلام، أسلم بـ (طه) وكان أجمل من الشمس في ضحاها، وأوضح من القمر إذا تلاها، تولى الأمة فرعاها، وقاد المسيرة وحباها، وتولى بعدل وآواها، فمرحباً بـ عمر، أسلم لما سمع: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عليكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:1 - 5].
أسألكم بالله! هل هناك إنسان يفهم هذا الخطاب ثم لا يسلم ولا يذعن؟
هل هناك إنسانٌ يفهم كلام رب البشر، ثم لا يسري هذا الكلام في ذرات دمه؟
وقد فهم عمر هذا الخطاب، لأنه عربيٌ قُح، فسرى في دمه، فانتشر تيار الإسلام، في كل جزئيةٍ من لحمه ودمه، فأسلم ووضع كفه في يد محمد عليه الصلاة والسلام، ولكن على ماذا؟
على الاستيلاء على أموال الناس؟!
على توسيع القصور والدور؟!
على بناء الحدائق الغناء والبساتين الفيحاء؟!
على استذلال البشر؟!
على إيجاد مستعمرات من التعذيب؟!
لا.
بل على العدل والحق والميزان ولا إله إلا الله.(110/3)
عمر مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعده
فكان عمر في كف محمد عليه الصلاة والسلام سيفاً مصلتاً يهزه للحادثات، يقول العقاد: الفرق بين أبي بكر وعمر، أن أبا بكر عرف محمداً النبي، وأن عمر عرف النبي محمداً.
فـ أبو بكر عرف الرسول عليه الصلاة والسلام في جاهلية أبي بكر وبعد إسلامه، وعمر لم يعرف الرسول عليه الصلاة والسلام، إلا في ساعة ميلاده يوم أسلم، يوم وضع كفه في كف الرسول عليه الصلاة والسلام، كلما رأى حدثاً، أو رأى زنديقاً أو منافقاً قال: يا رسول الله! إئذن لي أضرب عنقه! ولو أذن له، لقتل العشرات، ووالله! لا يتورع لحظة، إذا سمع الأمر المحمدي إلا أن ينفذه ولوسبح في دمه هو.
ويموت عليه الصلاة والسلام كما يموت الناس، وكان عمر قوي الجثة، وصلب الجثمان، ومتين الهيكل، وشديد العضلات:
قد كنتَ أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
قل للملوك تنحوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
فهذا الرجل يأخذ الدنيا في ساعة، يستولي على امبراطورية كسرى في يوم ويسلمها للفقراء في يوم، وهذا الرجل تأتيه الموائد من الذهب والفضة على الجمال، وتدخل المدينة وهو يصلي في الناس، وفي بردته أربعة عشر رقعة من الفقر والعوز، وهذا الرجل يفتح دولة هرقل، ويدكدك عاليها بسافلها ولا يجد خبز الشعير الذي يأكله مع فقراء المسلمين، هذا هو عمر!
لما مات الرسول عليه الصلاة والسلام -كما سبق معنا- قام بالسيف وقال: [[من قال أن محمداً قد مات، ضربت عنقه بهذا السيف]] فلما سمع الخبر وتأكد من النبأ، سقط على وجهه مغمى عليه حتى رش بالماء.
أين العضلات؟! أين الجثمان؟! أين القوة؟!
تولى أبو بكر فكان عمر بجانبه وزيراً ومستشاراً! وأتت سكرات الموت لـ أبي بكر فكتب كتاباً بولاية العهد لـ عمر، فكان مبكياً حقاً، واسمع الكتاب:(110/4)
كتاب أبي بكر بخلافة عمر
[[بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر إلى عمر بن الخطاب، وأنا في أول أيام الآخرة، وفي آخر أيام الدنيا، فقيراً لما قدمتُ، غنياً عما تركتُ، أمَّا بَعْد:
فيا عمر بن الخطاب! قد وليتك أمر أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فإن أصلحت وعدلت، فهذا ظني فيك، وإن اتبعت هواك فالله المطلع على السرائر، وما أنا على صحبة الناس بحريص، يا عمر! اتق الله لا يصرعنك الله مصرعاً كمصرعي، والسلام]].
وصل الكتاب إلى عمر، فبله بالدموع! وتولى أمر الأمة، وبحث عن ميراث أبي بكر، فإذا هو ثوبان وبغلة، بقيت من بيت المال، فبكى حتى جلس عمر وقال: [[يا أبا بكر! أتعبت الخلفاء بعدك]](110/5)
خلافة عمر
فتولى عمر وألقى خطبةً ما سمع الناس بمثلها، بين لهم سياسته، ماذا يريد أن يفعل في الأمة؟ فسار بهم سيرةً عمرية، ضرب الدهر بها المثل، السيرة التي ما سمع الناس بمثلها!!(110/6)
معاملة عمر لرعيته
فهذا عمر يطوف في المدينة! وهو رجل الأمة الأول، وهكذا يعنون له الفضلاء، ينام الناس في العاصمة ولا ينام، ويشبعون ولا يشبع، ويرتاحون ولا يرتاح.
إذا هدأت العيون ونامت وتلألأت النجوم، أخذ درته وجاب سكك المدينة يتفقد، هل من مريض؟
هل من أرملة؟
هل من مجرمٍ يؤدبه؟
وفي ليلةٍ من الليالي: سمع امرأة في خيمة وهي في النفاس، فسمعها تصرخ من ألم الولادة فبكى، وذهب إلى بيت المال وحمل شحماً وزيتاً وزبيباً وبراً على كتفه فقال أسلم مولاه: أنا يا أمير المؤمنين! أحمل هذا، قال: لا.
إنك لا تحمل أوزاري يوم القيامة، ودخل الخيمة وصنع الطعام وقدم العشاء للمرأة، فقالت: والله إنك خيرٌ من عمر بن الخطاب، وهو عمر بشحمه ودمه وإيمانه وإخلاصه.
ذهب عمرو بن العاص إلى مصر أميراً فاتحاً، فتسابق ابنه محمد ومصريٌ على فرسين، فسبق المصري محمد بن عمرو بن العاص وهو ابن الأمير، فنزل ابن عمرو، فضرب المصري على وجهه، لماذا؟ أهذا نهج الإسلام؟! أهذه العدالة المنشودة التي أتت من فوق سبع سماوات؟! أهذا ميثاق: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أن يمتهن الإنسان ويضطهد؟!
فذهب المصري إلى عمر فأخبره، فدعى عمر عمرو بن العاص وابنه محمداً، والجماهير من الأمة ملء الأرض، فلما قدم عمرو وهو لا يدري ما الخبر وبيده ابنه محمد، وقبل أن يسلم على عمر، قام عمر بالدرة التي إذا ضرب بها أحداً من الناس؛ أخرج وساوس الشيطان من رأسه! قال للناس: والله لا يحول بيني وبين عمرو وابنه أحد، ثم أخذ عمراً فبطحه أرضاً.
كل بطَّاحٍ من الناس له يومٌ بطوحُ
ثم أتى بابنه محمد فنكسه عليه، وأخذ يضربهم ضرباً مبرحاً، فيقول عمرو: الله الله يا أمير المؤمنين فيَّ! الله الله فيَّ! فيقول عمر: [[متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!]].
متى كانوا عبيداً؟
متى كان هذا الإرهاق والاضطهاد والتبعية؟!
ما فائدة الإسلام في الأرض إذاً؟!
فما نفع الميزان والكتاب والسنة؟
وتمشي المسيرة، ويأتي عام الرمادة، عام ثمانية عشر للهجرة، فتأخذ الأخضر واليابس، ويموت الناس جوعاً، فيكتب عمر للأقاليم، أن يحضروا عنده في المدينة، فنصب لهم خياماً، وقال: [[إن حييت، فالحياة حياتي، وإن متُ ماتوا معي]] كان يأخذ الطعام في الصباح في الصحاف على رأسه ورءوس أبنائه ويوزعه في الخيام، كان يجلس فيبكي ويقول: [[الله يا عمر كم قتلت من نفس!]] لماذا قتلت؟ من قتلت؟ وأنت تحيي النفوس ولا تقتلها!
وفي عام الرمادة، حلف ألا يأكل سميناً ولا ينبل في سمن، حتى يرفع الله الضائقة عن المسلمين، وقف على المنبر يوم الجمعة، ببرده المرقع -طيلة الخلافة- ليس معه إلا هو، والله! لو أراد أن يبني بيته من الذهب الخالص لاستطاع، ووالله! لو أراد أن يمشي من بيته إلى المسجد على الحرير والاستبرق لاستطاع، ووالله! لو أراد أن يجعل أسوار المدينة من الزبرجد الذي كسبه من كسرى وقيصر لاستطاع.
يقف في أثناء الخطبة، فتقرقر بطنه وأمعاؤه تلتهب من الجوع، رجل لا يأكل ثلاثة أيام إلا كسرة خبز من شعير! فيقول لبطنه: [[قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]]
هل لنا تاريخ غير عمر؟
هل معنا تاريخ غير تاريخ عمر؟
وبماذا نتكلم مع الأمم؟
وبماذا نفتخر؟
وبماذا نتصدى للهجومات البشعة على الإسلام إلا بمثل عمر؟!
أذعن له الكفار قبل المؤمنين.
يقول مايكل هارف الدكتور الذكي الأمريكي: في كتابه الأوائل، (ص:164): "هذا وكان لـ عمر بعد محمد -عليه الصلاة والسلام- أعظم الأثر في فتوحات الإسلام، فلولاه -هكذا يقول: ونحن نقول: لولا الله- لما انتشر الإسلام هذا الانتشار الفظيع السريع في الأرض".
يصلي عمر بالناس صلاة الاستسقاء، فلا يدرون ماذا يقول من البكاء، وهو يسأل الله ألا يجعل هلاك الأمة في ولايته، فينهل الغيث وهو في المصلى!! ويسير الماء غدقاً تحيا به النفوس والقلوب وتعود الحياة إلى العاصمة.(110/7)
شهادة الأعداء لعمر
يريد عمر أن يعاهد الكفار، بعد أن اجتاحهم، ونسف دولتهم تماماً، لكن أبقى لهم مستعمرة، ريث ما يهيئون غروبهم من بلاد الله، فيأتي الهرمزان قبل معركة القادسية، وهو مستشار كسرى، يأتي لابساً تاجاً من ذهب وزبرجد وعليه الحرير، يدخل المدينة ومعه الحرس، فيقول: أين قصر الخليفة؟ قالوا: لا قصر له، قال: أين بيته؟ قالوا: تعال نريك بيته، فذهبوا فأروه بيتاً من طين -من هذه البيوت الطينية التي تكلم للعالم منها، ونشر الضياء في الكون- قال: أهذا بيته؟! قالوا: نعم.
قال: أين حرسه؟ قالوا: لا حرس له، يقول شوقي:
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمانُ
فطرق الباب، فخرج ابنه، قال: أين أبوك؟ قال: التمسوه في المسجد نائماً، أو في ضاحيةً من ضواحي المدينة -وقت ضحى- فذهبوا إلى المسجد فما وجدوه.
وهو ينام في الضحى ساعتين، وكان لا ينام في الليل ولو ساعة! تقول له زوجته: [[لمَ لا تنام الليل، ولا تنام النهار إلا قليلاً؟ قال: لو نمتُ النهار ضاعت رعيتي، ولو نمتُ الليل ضاعت نفسي!!]] فكان يصلي ويستغفر في الليل ويحكم ويعدل في النهار.
ذهب الهرمزان فما وجده في المسجد، فالتمسوه فوجدوه تحت شجرة من سَلَم، وضع درته بجانبه، وبردته المرقعة عليه، وقد توسد ذراعه في أنعم وأهدأ نومة، والأمة تعيش في هدوء وعدل وسكينة.
هذا الذي فتح الدنيا ودوخ الملوك!! هذا الذي داس جماجم الخونة ينام تحت شجرة!! فانذهل الهرمزان وقال: حكمت فعدلت فأمنت فنمت.
قال حافظ إبراهيم:
وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً بين الرعية عقلاً وهو راعيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردةٍ كاد طول العهد يبليها
فقال قولة حقٍ أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهمُ فنمت نوم قرير العين هانيها(110/8)
محاكمة الفاروق
وفي آخر ولايته، قدم نفسه للمحاكمة! في آخر جمعة خطبها، قدم جسمه للقصاص، وقدم أمواله للمحاكمة، فإن كان منه خداع، أو غش، أو ظلم، أو سفك فهذا جسمه.
فماذا رد الناس عليه؟
تراد المسجد كله بالبكاء.
من يحاكم عمر؟
من يقتص من عمر؟
من يستطيع أن يقف أمام عمر، ويقول: أخذت مالي، أو سفكت دمي، أو نهبت عرضي، أو أهنتني؟!
لا يستطيع أحد.
فنزل واستودع الله الأمة إلى لقاء، وهذا هو الاغتيال في المحراب، الذي سوف أذكره.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(110/9)
حب الشهادة في سبيل الله
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
يقول الإمام الأعظم عليه الصلاة والسلام -وهو المعصوم وقائد المسيرة-: {والذي نفسي بيده، لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل} هذا الشيخ فكيف يكون التلاميذ؟!
وهذا الأستاذ فكيف يكون الطلاب؟!
هذا القائد فكيف يكون الجنود؟!
يكونون لهباً من العزة والتضحية، وقذائف من البذل والعطاء، هذا الذي يتمنى الشهادة دائماً -محمد عليه الصلاة والسلام- أعطاه الله الشهادة، قال ابن كثير: وقد مات عليه الصلاة والسلام مسموماً فجمع الله له بين الرسالة والشهادة.
وكان عمر يسمع كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، فحج بالناس في حجة الوداع -أعني عمر - ووقف يوم عرفات، فخطب الناس خطبةً عظيمةً باهرة، ثم استدعى أمراء الأقاليم -أمراء الأقاليم جميعاً استدعاهم أمامه كالمحافظين- وقد كان يحكم اثنتين وعشرين دولة، فأخذ يحاسب كل أميرٍ أمام الناس، والرعية تدعي والأمير يجيب، وعمر بالدرة فوق رأسه.(110/10)
إحساس عمر بقرب أجله
وبعد أن انتهى ذهب ليرمي الجمرات، فرماه أحد الحجاج بحصى في رأسه فسال دم عمر، فقال عمر: [[هذا قتلي]] معناه أني سوف أقتل!!
علوٌ في الحياة وفي الممات
فهو لا يموت بل يقتل، لا كما يموت الذين يموتون بالتخم في غرف الباطنية من كثرة ما أكلوا وشربوا وما قدموا شيئاً.
لهم شموخ المثنى ظاهراً ولهم هوى إلى بابك الخرمي ينتسبُ
فلما انتهى من مناسك الحج جلس بـ الأبطح واتكأ على يده اليسرى ثم رفع يده اليمنى مع اليسرى، وقال: [[يا ربِ! شابت شيبتي، ورق عظمي، ودنى أجلي، وانتشرت رعيتي، اللهم فاقبضني إليك غير مفرطٍ ولا مفتون، اللهم إني أسألك شهادةً في سبيلك، وموتة في بلد رسولك]].
علوٌ في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزاتِ
ومالك تربةٌ فأقول تسقى لأنك نصب هطل الهاطلات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن يواروا فيه تلك المكرماتِ
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا عن الأكفان ثوب السافيات
رجع إلى المدينة وهو يتمنى الشهادة، قالت له ابنته حفصة: [[يا أبتاه! موتٌ في سبيل الله، وقتلٌ في مدينة رسول الله! إن من أراد أن يقتل فليذهب إلى الثغور -إلى الحدود- قال: هكذا سألت الله، وأرجو أن يلبي ربي لي ما سألت]] هذا السخاء والبذل أن تجود بدمك إلى الله، كان أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام إذا حضروا المعارك، لبسوا الأكفان من تحت الثياب.
أكفانهم بدماء البذل قد صبغت الله أكبر من سلسالها رشفوا
في كفك الشهم من حبل الهدىطرفٌ على الصراط وفي أرواحنا طرفُ
لا شهداء الوطنية والماركسية والضياع والإلحاد.
وصل عمر إلى المدينة، ورأى في المنام أن ديكاً ينقره نقرتين أو ثلاثاً، فعرض الرؤيا، فقالوا: [[يقتلك رجلٌ من العجم]] فقام وخطب الناس وأخبرهم أنه لن يستمر، وأنه سوف يغادر إلى غير هذه الدنيا، إلى أين؟ إن شاء الله إلى مقعد صدقٍ عند ملكٍ مقتدر، إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض.
تأخرت عن وعد الهوى يا حبيبنا وما كنت عن وعد الهوى تتأخرُ
سهرنا وفكرنا وسالت دموعنا وشاخت ليالينا وما كنتَ تحضرُ
أيا عمر الفاروق هل لك عودةٌ فإن جيوش الروم تنهى وتأمرُ
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا
نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقُصرُ
وليمون يافا يابسٌ في حقوله وهل شجرٌ في قبضة الظلم يثمرُ
صلَّى الجمعة ونزل، واستمر في الحياة ساعات، ودَّعَ الدنيا، وليس عنده شيءٌ من الدنيا يقسمه، فعنده بيت من الطين وفراشٌ من حصير وجبة وعصا، هذه دنيا عمر.
فأين السجلات؟ حسناتٌ عند الله!
وأين الميراث؟ عقيدةٌ خالدة!
وأين التركة؟ مبادئ رشيدة تثبت ثبوت الدنيا!.
صلى الفجر وأتاه أبو لؤلؤة عليه لعنة الله، مجوسي مجرم ما سجد لله سجدة، فقد دبر المجوس قتل عمر لينهوا هذا الطود الشامخ.
مولى المغيرة لا جادتك غاديةٌ من رحمة الله ما جادت غواديها
مزقت خير أديمٍ حشوه هممٌ في ذمة الله عاليها ودانيها
>>
أتى وعمر يصلي، وقد بدأ عمر بعد الفاتحة بسورة يوسف، وكان يحب سورة يوسف، وكان في صوته صحل يخرج من قلبه، فلما وصل إلى قوله تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] انهد يبكي، فبكى الناس جميعاً حتى سمع النشيج من آخر الصفوف، ثم قال: الله أكبر، وهذه التكبيرة كانت آخر تكبيرةٍ له في الحياة، ركع، فتقدم أبو لؤلؤة بالخنجر المسموم، فطعنه ست طعنات ثلاث ضربات فوقع عمر وهو يقول: [[حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلتُ، وهو رب العرش العظيم!!].
وتقدم ابن عوف، وما أخلت الصفوف وما خرج أحد من الصف، لأن هذه الأمة كانت تصلي والسيوف تضرب على رءوسها في المعركة:
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
فهي أمة تصلي ورءوسها تقطع في الأرض؛ لأنها تحب الله.
تقدم ابن عوف فأكمل الصلاة سريعاً، وعاد الناس إلى عمر، وقد فقدوا صوته.
أين صوتك؟! أين صوت الحاكم؟! أين صوت الحبيب؟! أين صوت العادل؟!
أصبح في سكرات الموت، ماذا يقول؟ يقول: من قتلني؟ قالوا: قتلك أبو لؤلؤة المجوسي، قال: الحمد لله الذي جعل قتلي على يد رجلٍ ما سجد لله سجدة.
لا إله إلا الله! لك الحمد يا رب أن زكيت المحراب بدم عمر، وزكيت دم عمر بالمحراب!
رفعوا جثمانه، فكان يفتح عينيه، وهو يقول: هل صليت -أي هل أكملت الصلاة؟ - قالوا: لا.
قال: الله المستعان! كل أمنياته أن يكمل الصلاة ليلقى الله وقد صلى صلاة الفجر، لم يسأل عن ولاية أو ولد، ولا عن بلد أو زوجة أو ميراث!!
كانت دماؤه تسيل طاهرةً على الثياب، يقول بعض الصحابة: ظننا أن القيامة قامت يوم مات عمر!!
من لجسمٍ شفه طول النوى ولعينٍ شفها طول السهر
جسدٌ لُف في أكفانه رحمة الله على ذاك الجسد(110/11)
حال عمر عند الاحتضار
وضعوه في البيت، وأحضروا له مخدة، فنزعها، وقال: [[ضعوا رأسي على التراب لعل الله أن يرحمني]] ومرغ وجهه بالتراب، وهو يبكي ويقول: يا من لا يزول ملكه! ارحم من زال ملكه.
من الذي لا يزول ملكه؟
إنه الواحد الذي يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عليهَا} [مريم:40] والذي يقول: {كُلُّ مَنْ عليهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] والقائل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88].
يقول عمر: أنا يا ربِ خلعت اليوم! أنا يا ربِ ذهبت! أنا يا ربِ عبد أتيت! زال ملكي، وملكك لا يزول فارحمني!!
وسلاطينهم سل الطين عنهم والرءوس العظام صارت عظاماً
قال عمر: أدخلوا علي أطفال المسلمين، يريد أن يودع الرعية، وقد أكمل الصلاة بحمد الله، فشرب لبناً فخرج اللبن من جوفه، قال: الله المستعان! أدخلوا علي أطفال المسلمين، فدخل الأطفال يبكون، لمن يبكون؟ يبكون الوالد والزعيم العادل والأب الحنون! فقبلهم واحداً واحداً ومسح على رءوسهم، ودخل الشباب فحياهم ورأى شاباً في ثوبه طول، وعمر في سكرات الموت، دمه يخرج من بطنه وأضلاعه، فيقول: [[تعال يابن أخي! فيأتِ الشاب]] من منا يستطيع أن يتكلم في إسبال الإزار، وروحه تقعقع في صدره؟!
يقول أحد الفضلاء: أمير المؤمنين يأمر بالمعروف وينهى المنكر وهو في سكرات الموت، فقال: [[تعال يابن أخي! ارفع إزارك]] أي: قصر ثوبك، أمة كل دينها لباب، فليست الثياب من القشور، ولا اللحى من القشور، ولا الغناء من القشور، بل كله لباب، قال: [[ارفع إزارك، فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك]] فذهب الشاب وهو يبكي لموت عمر.
ودخل علي بن أبي طالب؛ ليُلقي آخر كلمة أمام عمر: كلمة الوداع، كلمة ما رأيت أصدق منها إذا ودع الحبيب حبيبه.
اتكأ علي بن أبي طالب على عبد الله بن عباس، وأخذت دموع علي تفيض ويقول لـ عمر: [[يا أمير المؤمنين! فقال عمر: لستُ للمؤمنين اليوم بأمير.
ذهبت الإمارة، قال: يا أبا حفص! والله! لطالما سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر وذهبت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر فأسأل الله أن يحشرك مع صاحبيك، قال عمر: يا ليتني أنجو كفافاً لا لي ولا علي]].
وقد عزاه الناس، ثم أخذ يقول: [[الله الله في الصلاة!]] وترك الخلافة في الستة الذين بقوا من العشرة المبشرين بالجنة.
وحملوا جثمانه ليدفن إلى جوار صاحبيه.(110/12)
دفن عمر بجانب صاحبيه
أين يدفن؟ قالوا: ندفنك مع الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: [[لا أزكي نفسي، ما أنا إلا رجلٌ من المسلمين، استأذنوا عائشة في ذلك]] فذهبوا إلى عائشة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبوا منها الإذن -أن يدفن مع صاحبيه- ليكون ثالث الثلاثة، قالوا لـ عائشة: [[ندفن أمير المؤمنين مع صاحبيه؛ قالت: والله! لقد هيأتُ هذا المكان لنفسي، ولكن والله لأوثرن اليوم عمر بهذا المكان، ادفنوه مع صاحبيه]] فدفنوه مع صاحبيه، فجزى الله عمر عن الإسلام خير الجزاء.
إنا لله وإنا إليه راجعون، سلامٌ على ذاك العدل، وعلى ذاك الإمام، وجمعنا الله به في دار الكرامة، في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، هذه شخصيةٌ من شخصيات العالم الإسلامي، التي قدمها محمد عليه الصلاة والسلام للناس، هذا خليفة راشد، وإمامٌ عادل، يقول علي وعمر مكفن قبل أن يُصلى عليه: [[والله! ما أريد أن ألقى الله بعمل رجل إلا بعمل رجل مثلك]] كعملك وصدقك وعدلك.
اللهم أرنا وجه عمر، وأجلسنا مع محمد في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، اللهم إنا قد أحببنا ذاك الرعيل فيك فهبنا يوم القيامة لأحد منهم، وشفعهم فينا يا رب العالمين.
اللهم صلِّ وسلم على النعمة المسداة، وعلى اليد المعطاة، محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى خلفائه الراشدين، والأئمة العادلين، والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، ولرفع رايتك.
اللهم تولنا فيمن توليت، واهدنا فيمن هديت، وبارك لنا فيما أعطيت.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(110/13)
عقدة البقرة
اشتهر بنو إسرائيل بكثرة مسائلهم لأنبيائهم والتعنت عليهم, ولما كثرت منهم شدد الله عليهم, وقصة البقرة من أبرز الأمثلة على ذلك, والشيخ حفظه الله تكلم عن هذه القصة, وذكر بعض الفوائد والدروس المستفادة منها, ثم أنهى كلامه بذكر شيء من اللطائف والفوائد حول البقرة, وحول هذه القصة.(111/1)
ضرب الأمثال في القرآن الكريم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أشهد أن الله حق, وأن النبيين حق, وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حق، وأشهد أن النبي خاتم، وأن الدين خالد، وأن الكفر خاسر.
أيها الناس! تعنت العقل البشري أمام الوحي، وخاصم الإنسان الفاجر ربه، واعترض العقل على خالقه، واليوم معنا صورة من اعتراض البشر الضعفاء على الله، ومعنا سورة البقرة، وإن شئت سمها عقدة البقرة, التي تعقد فيها بنو إسرائيل، واضطربوا وسألوا، وناقشوا وشددوا؛ فشدد الله عليهم.
كان يقرأ عليه الصلاة والسلام هذه السور؛ سورة النحل والنحلة حشرة، وسورة النمل والنملة حشرة، وسورة البقرة والبقرة حيوان، وسورة العنكبوت وهي حشرة، فقال كفار قريش: محمد يستهزئ بكم، يأتينا بقرآن ويقول: هو وحي.
وهو يتكلم عن عالم الحيوانات والعجماوات، وعن عالم الطيور والحشرات، فما دخل الطير والبقر والنحل، والكلاب والحمير بهذا الوحي، فرد الله عليهم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26] فالذي خلق البعوضة هو الله، والذي خلق الفيل هو الله، والذي صور البقرة هو الله، والذي ركب الحمار هو الله، قال ابن القيم: " وفي الناس على ضروب أشباههم شبه من الحيوانات " ففي الناس من طبيعته كطبيعة الخنزير تماماً لا يقع إلا على القاذورات, يسمع المحاسن ويسمع الجميل فكأنه ما سمع، فلا يلقط إلا الخطأ والعثرة، قال ابن تيمية: " في الناس كأمثال الذباب كثير, لا يقع إلا على الجرح أما على الجسم السليم فلا يقع " فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي} [البقرة:26] ومن يمنعه أن يضرب الأمثال؟ {أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:26] أي: أما حملة (إياك نعبد وإياك نستعين) , أما المتوضئون ورواد لا إله إلا الله {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26] ثم يضرب الله قصة البقرة, ويسمي أكبر سورة في القرآن باسم البقرة, فتعرف بين الناس من أجل خمس آيات فيها بهذا الإسم، فلا يعرف المسلمون هذه السورة إلا بسورة البقرة، وثلث السورة نسف وإبادة لبني إسرائيل، وثلثها أحكام شرعية وقواعد منطقية وعقلية يفهمها اللبيب.(111/2)
قصة البقرة
قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] لماذا؟ ما هو وجه التكليف أن يذبحوا بقرة؟ أتى بالصلاة، والصيام، والحج فلماذا ذبح البقر؟ السبب بعدها، قالوا: قدم الله سورة البقرة ثم أتى بالقصة في الآية التي تليها.(111/3)
معاندة بني إسرائيل للرسل
كان رجل من بني إسرائيل غنياً ثرياً، فعدى عليه ابن أخيه في الليل فذبحه!
اغتيال رهيب في ليلة ظلماء!
وأتى هذا القاتل المجرم إلى موسى ليخفي جريمته، ويبعد التهمة عن نفسه, فبكى بين يدي موسى عليه السلام، قال له: مالك؟ قال: عمي قتل البارحة وأنت المسئول عنه، فأنت النبي وبيدك الحكم؛ سل الله من قتل عمي، فجمع موسى بني إسرائيل وقال: من قتل عم هذا الرجل؟ قالوا: لا ندري، إن كنت يا موسى نبياً فسل ربك، فهم يقولون: ادع لنا ربك، قال أحد المفسرين: قبحهم الله وفضحهم، أليس بربهم؟! لماذا لم يقولوا: ادع ربنا، وإنما قالوا: ربك؟ فابتهل واستقبل القبلة وبكى وقال: اللهم أخبرنا من هو القاتل.
فقال الله: يا موسى! مر بني إسرائيل أن يأخذوا بقرة فيذبحونها, ثم يأخذوا عضواً منها فيضربوا الميت؛ فإني سوف أحييه بإذني؛ فيتكلم فيخبر بمن قتله، قال الله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:72 - 73] فقال موسى: اذبحوا بقرة، قال ابن عباس: [[لو أخذوا بقرة من عرض البقر لأجزأتهم]] لكن تعنت البقر, أمام قصة البقر، لأن العقول التي لا تهضم معلومات الوحي تعترض، والعقل الجامد أمام النور الخالد يعترض، الله يقول: اذبحوا بقرة فاعترضوا، ففي كل شئونهم اعتراض، أنزلهم في واد فيه منٌّ وسلوى, حمام مشوي وعسل فقال: كلوا، قالوا: لا {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة:61] أخرجهم من البحر وأقدامهم مبتلة بالماء, فلما خرجوا وذهب يكلم ربه عبدوا العجل، وقالوا: ظمئنا أين الماء؟ فضرب الصخرة بالعصى فانفجرت اثنتي عشرة عيناً، قالوا: أين ربك؟ قال: أكلمه، قالوا: اذهب فكلمه.
فذهب فلما أتى وجدهم قد أخذوا هذا العجل وسجدوا له، فتاب إلى الله وبكى موسى منهم، قال: يا رب! ما توبة بني إسرائيل؟ قال: خذ من خيارهم سبعين رجلاً والقني بـ طور سيناء , فإذا لقيتموني فاسجدوا لي؛ لأتوب عليكم، {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف:155] فاختار من خيارهم سبعين، فمضى بهم إلى طور سيناء وقال: لا تتكلموا فإن ربي سوف يكلمني، فإذا كلمني فاسجدوا وابكوا، قالوا: نعم، فلما كلمه الله لم يسجدوا، فالتفت إليهم وقال: ما لكم؟ قالوا: أرنا الله جهرة.
قال: اسجدوا لله قالوا: أرنا الله جهرة.
فأنزل الله عليهم صاعقة فقتلت السبعين جميعاً, فوقف موسى باكياً وقال: يا رب! أعود لبني إسرائيل فيقولون لي قتل السبعين من خيارنا, فماذا أقول لهم؟ قال الله: سأحييهم لك.
فأحياهم الله، وقالوا: يا موسى أحيانا الله فأرنا آية؟ فنتق الله الجبل فوق رءوسهم {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الأعراف:171] قال: أصدقتم؟ قالوا: لا.(111/4)
تعنت بني إسرائيل في الأسئلة
قال الله تعالى على لسان نبيه موسى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة:67] هذه هي كلمة أبي جهل وكلمة الخونة العملاء، أمام العلماء والدعاة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, قالوا: أتتخذنا هزواً وتضحك علينا؟ نسألك عن القتيل فتقول اذبحوا بقرة!
تقول له زيداً فيسمعه عمراً ويكتبه بكراً ويقرؤه فهراً
قال: بل اذبحوا بقرة، قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] قال أهل العلم: من سخر بالوحي فقد جهل, ومن عبث في التعليم فقد جهل، ومن أتى بالهزل في موطن الجد فقد جهل.
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة:68] شددوا فشدد الله عليهم، وهذا مثل ما يفعل الذين يأتون إلى الدين فيتصورون أنه جامد وأن فيه التزمت وأنه متطرف, فتثقل عليهم التكاليف كالصلاة والسجود وأبسط الأشياء, وتسهل عليهم أمور الدنيا والمعصية، حتى أن أحدهم يستطيع أن يراهن بأمواله ويسافر إلى بلاد المعصية وتثقل عليه حجة أو عمرة.
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} [البقرة:68] ليست بالكبيرة المسنة ولا بالصغيرة البكر، {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] فضيقوا الدائرة عليهم, {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة:69] وإلا فالله لم يسألهم عن اللون، ولم يشترط عليهم لوناً خاصاً {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] وهذا أجمل لون؛ كشعاع الشمس الذهبي عند الغروب، قال الحسن البصري: " يعني سوداء " قال أهل العلم: ليست بسوداء وإنما هي صفراء فاقع لونها، فإنه يقال: للأسود قاتم، وللأصفر فاقع، وللأحمر قاني، وللأخضر باقع، وللأبيض يقق, قال: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] فاجتمعوا في مجلس مغلق ثم عادوا إليه: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70] فيتدخل رسولنا عليه الصلاة والسلام عند هذه الكلمة فيقول: {وأيم الله! لو لم يقولوا: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70] ما وجدوها أبداً} ولكن استدركوا فقالوا: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70].
قال موسى: ما دام أنكم سألتم، وعرضتم الإشكال، وتشددتم، فلا بد لكم من تشديد، {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] قال المفسرون: ليست مهيأة للحرث ولا للزرع، ويسمونها معززة أي لم تحرث ولم تزرع، لا تثير الأرض زراعة ولا تسقي الحرث, مسلمة قالوا: أي سليمة من العيوب، لا فيها مرض، ولا هي عوراء ولا هتماء ولا عضباء، إلى غير تلكم العيوب.
لا شية فيها, قال: بشرط ألا يكون فيها بقعة تخالف لون الأصفر الفاقع، وهذا التشديد؛ كما يشدد الكهنة والسحرة في أوصافهم عندما يريدون الضحك على عقول الناس وتعجيزهم, فيشترطون ألواناً للتيوس التي تذبح, أسود قاتم، أو أحمر قانئ، أو أصفر فاقع، فإذا علموا أنها انتهت التيوس السود من الأسواق انتقلوا إلى الصفر فالحمر فالبيض.
قال: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:71] قال أهل العلم: كأنهم يقولون أما قبل الآن فما جئت بالحق.
فقد كان يضحك عليهم إذن، ويسخر ويستهزئ بهم في ظنهم.
{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] [البقرة:71] متى ذبحوها؟ طافوا مدن بني إسرائيل وقراهم قرية قرية؛ فوجدوا هذه البقرة عند عجوز تحلبها وتعلفها، والعجوز علمت أنهم بأشد الشوق إلى هذه البقرة فبالغت في الثمن، قالوا: كم ثمنها؟ قالت: لا أبيعها.
قالوا: اطلبي ما شئت من المال.
قالت: إذا ذبحتموها وسلختموها فاملئوا جلدها ذهباً فهذا ثمنها.
قالوا: سمعاً وطاعة.
فقل للعيون الرمد للشمس أعين تراها بحق في مغيب ومطلع
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها بأبصارها لا تستفيق ولا تعي
يقول بعض العلماء: مثل بني إسرائيل الذين ردوا أوصاف البقرة حتى وقعوا في الثمن, أمثالهم في الأمة كمن رفض التكاليف, بل ليست تكاليف, إنما هي عبادات سهلة ميسرة؛ حتى تخللت أقدامه النار يوم العرض الأكبر، وكان صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا فيقول: {أسبغوا الوضوء، ويلٌ للأعقاب من النار} قال أهل العلم: فمن لم يتحمل مشقة الماء البارد ليسبغ الوضوء؛ حمله الله نار جهنم في عقبيه، وقس على ذلك.
{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] فلما ذبحوها ملئوا جلدها ذهباً فأخذته العجوز, وأخذوا الغضروف فضربوا به الميت؛ فانتفض من قبره حياً بإذن الله فإذا به واقف, قال موسى: من قتلك؟ قال: ابن أخي هذا.
هذا هو المجرم الذي أتى يسأل عمن قتل عمه، فقتله موسى.
هذه هي القصة.(111/5)
البقر في المنام
وتأويل البقر في المنام خير، قال أهل العلم: إذا رئيت وهي تذبح فشهداء، وإذا رؤيت واقفة فأخيار صالحون مؤمنون، وهذا في صحيح البخاري , فقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد على المنبر قبل أحد بليلة يلقي بياناً عسكرياً حاراً، يقول: {رأيت البارحة في المنام أن سيفي ثلم ثلمة -قيل انكسر ذبابه، وهو رأس السيف ذو الفقار- قال: ورأيت بقراً تنحر, ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة.
قال الناس: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: أما ثلم سيفي فرجل من أهل بيتي يقتل -وكان حمزة - وأما البقر التي تنحر فالمؤمنون الشهداء.
ثم دمعت عيناه وقال: والله خير -فقتل سبعون من أجلِّ المسلمين- وأما يدي في الدرع الحصينة فآوي إلى المدينة منتصراً} قال بعض المعلقين على قصة بقرة بني إسرائيل وهذه الرؤيا: " يا بني إسرائيل! يا حثالات العالم! يا حملة الجريمة! يا أعداء لا إله إلا الله! بخلتم بذبح بقرة فتشرطتم على موسى, وأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام حضروا بدراً وأحداً فقالوا: ماذا تريد منا يا رسول الله؟ قال: أريد منكم النصر.
قالوا: فما لنا إذا نصرناك؟ قال: لكم الجنة فقدموا أرواحهم وهي أغلى من البقر".
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
أمَّن رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبراً(111/6)
مقارنة بين صحابي جليل وبين بني إسرائيل
نقف عند قصة عمير بن الحمام، وقصة بني إسرائيل عند البقرة، صحابي لا يحفظ إلا عشر سور، أتى بدراً فكسر غمد السيف على ركبته، فقال عليه الصلاة والسلام: {يا أهل بدر! إن الله اطلع عليكم اطلاعة فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
يا أهل بدر! والله ما بينكم وبين الجنة إلا أن يقتلكم هؤلاء فتدخلون الجنة} فألقى عمير بن الحمام بتمر في يده وكسر غمد السيف على ركبته وقال: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى بخٍ بخٍ، وقاتل حتى قتل، أيهما أكثر تصديقاً؟ هذا هو الصنف الخالد الذين قدمهم عليه الصلاة والسلام.
{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] أبو بكر الصديق , يقول عليه الصلاة والسلام لقريش: {أسري بي البارحة إلى بيت المقدس فقالوا: كذبت.
وقال أبو بكر: صدقت، فقال: وعرج بي فقالوا: كذبت.
وقال أبو بكر: صدقت، قال: وفرض علي خمسون صلاة قالوا: كذبت.
وقال أبو بكر: صدقت، فأنزل الله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33]} فـ أبو بكر هو الذي جاء بالصدق وأمثاله إلى قيام الساعة، وهناك طراز ومدرسة اسمها مدرسة أبي بكر الصديق، هذه المدرسة تحترم الوحي، ومدرسة أبي جهل وأصحاب البقرة مدرسة تهاجم الوحي، فلا تريد للوحي أن يستقيم في حياة الناس أن يتبع، أو أن يُسمع صوته، أو ينشر، أو يفهم أو يدرس، أو يربى الناس عليه، أو يدخل إلى البيوت، بل تقف هذه الفئة -فئة أبي جهل والوليد بن المغيرة وأصحاب البقرة- حجر عثرة في وجه أتباع موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، ولابد من هذا قال الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].(111/7)
دروس مستفادة من هذه القصة
والمقصد من هذه القصة أمور ثلاثة:
الأول: لا يحق للعقل أن يعترض على الوحي، ويوم يبدأ بالاعتراض والتشكيك، تبدأ اللعنة تنصب عليه من السماء.
الثاني: على المسلم أن يتلقى هذه الرسالة باستسلام, وأن يسلم وجهه، وأن يطوع قياده، وأن يسجد برأسه، وأن يعلن انكساره وفقره أمام الله.
الثالث: فضل الأمة المحمدية التي سارت على منهج رسول الهدى عليه الصلاة والسلام, بالمقارنة مع بني إسرائيل، مع اليهود.
ونستنبط -أيضاً- أن الاعتراضات، والتهجمات، والسخريات، والأطروحات الكالحة، والهجوم المكشوف؛ الذي يعانيه أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، سوف يستمر ويستمر، ولكن:
رضينا بك اللهم رباً وخالقاً وبالمصطفى المختار شهماً وهاديا
فإما حياة نظم الوحي سيرها وإلا فموت لا يسر الأعاديا
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
أقول ما تسمعون, وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين؛ فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(111/8)
استحالة اجتماع المسلمين مع اليهود
الحمد لله ولي الصالحين, ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين, وقائد الغر المحجلين, وشفيع المؤمنين ومحجة السالكين, وعلى آله وصحبه والتابعين.
يقول بعض المفكرين المعاصرين: من الاستحالات المنطقية اجتماع إسرائيل مع المسلمين، فلا تجتمع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله مع النجمة السداسية أبداً، قال: ووقع ما فعل أجدادهم مع موسى في شأن البقرة, وقع في هيئة الأمم المتحدة وفي مجلس الأمن، القرار الذي يدعو إلى انسحاب أبناء القردة والخنازير من أرض المعراج, ومن أرض المؤمنين, ومن أرض عمر بن الخطاب وصلاح الدين؛ ينص على الانسحاب من الأراضي المحتلة، ومعنى ذلك: أن تطهر البلاد منهم، فأتوا وقالوا: لا, ليست الأراضي, وإنما هي من أراضٍ محتلة.
فحذفوا (ال) التعريف كقولهم في البقرة, وقالوا: لا يمكن, ومعنى أرضٍ: أي أرض، ولو بقعة محدودة، يكفي أن نخرج من سيناء وطابة أو شيء من الجولان، ووقف العرب أمامهم بين (أل) التعريف , ولم يقفوا كما وقف صلاح الدين بالسيف.
تلك المكارم لا قعبان من لبن وهكذا السيف لا سيف بن ذي يزن
وهكذا يفعل الأبطال إن غضبوا وهكذا يعصف التوحيد بالوثن
في العالم اليوم أطروحة تسمى أطروحة التعايش السلمي، نبذ الأديان التي تفرق بين الشعوب، والتعايش السلمي بين الدول والشعوب، قالوا: وسبب الانزعاج والإزعاج هو الدين، فما فرق الأمم إلا مسلم، ويهودي، ونصراني، إذن نلغي هذه الأعلام والألقاب والأوسمة، ونبقى في تعايش سلمي تحت مظلة الإنسانية، وهذه هي مبادئ الماسونية , والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بعد قصة البقرة بآيات يحذرنا ويقطع علينا خط الرجعة؛ ألا نطمع في بني إسرائيل في اليهود، فلا تلد الحية إلا حية، ولو نسيت الكلاب نباحها، والخيل صهيلها، والغنم غثاؤها، والحمام هديره؛ لما نسي اليهودي عداءه للرسول عليه الصلاة والسلام، فقد نكت في دمائهم الخيانة، وقلة الأمانة، وعداء لا إله إلا الله، ويتبعهم أهل مدارسهم الذين تشبعوا بأفكارهم، وحملوا مدرستهم, شعروا أم لم يشعروا، قال الله بعد هذه القصة: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75] أتظنون أنهم سوف يسالمونكم ويؤمنون لمبادئكم ويكونون إخواناً لكم؟ {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة:75] لا، وقبل هذه الآية يقول: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] أطعمهم الله المن والسلوى، ونجاهم من البحر، وظلل عليهم الغمام، وأنقذهم من فرعون، وسقاهم وأراهم الآيات، وأنزل عليهم الصحف، ثم قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64].(111/9)
لطائف وفوائد
في قصة البقرة لطائف أذكرها للاستملاح كما ذكرها أهل العلم:
قيل لإمام أهل السنة والجماعة: (أبي عبد الله أحمد بن حنبل): أتذبح البقرة أم تنحر؟ لأن البخاري في الصحيح في كتاب الحج قال: باب هل تذبح البقر؟ قال الإمام أحمد: بل تذبح.
قالوا: وما الدليل؟ قال: قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] والشاهد في هذا فقه الأئمة, هذه العقول المدركة التي رفعت مستوى الثقافة عند المسلمين، فشرفنا أحمد بن حنبل، وتاريخنا ابن تيمية، ومجدنا مالك، وسؤددنا الشافعي، هذا ميراثنا فليرينا العملاء الخونة ميراثهم، إما وَتَر أو بلوت، أو ضياع أو موسيقى حالمة، لكن هذه استنباطات الأئمة, وضعوا عقولهم في مدرسة الوحي فأنتجت طلاباً كالنجوم, وغرسوا أفكار أشجارهم في حديقة لا إله إلا الله فآتت أكلها كل حين بإذن ربها.
ومنها: جواز بيع السلم.
انظر إلى عقل الإمام مالك كيف طارت به أشواقه حتى وقع على قصة البقرة، قال: فمن باع غرضاًً بصفة كصفة بقرة بني إسرائيل جاز بيعه بصفة معلومة؛ لأن هذه البقرة وصفت لهم من الله عز وجل فبحثوا عنها فوجدوها.
ومن ذلك أن المسلم لا يتعنت أمام المسائل الشرعية، ولا يفحم العلماء, وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الأغلوطات، ونهى عن إفحام أهل العلم، بل عليك أن تطلب العلم لوجه الله، ويكون غرضك من المسألة أن تعمل بها لا أن تعنت وتعجز هذا العالم، وهذه تربية للتلاميذ في المدارس والجامعات؛ أن يتقوا الله في الأساتذة؛ فلا يفحموهم بالمسائل العويصة والأغلوطات, فإن من فعل ذلك فقد تكلف، ومن تكلف فليس منا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِين} [المائدة:101 - 102].
قال أهل العلم: ويؤخذ من هذه القصة أيضاً أن الدين يسر، وأن الله إذا أمر بأمر فهو على ظاهره، فلا يدور المسلم حول أمر الله بل ينفذه سمعاً وطاعة.
قالوا: ويؤخذ منها أن من امتثل الأمر في أول شيء وقام به في أول وقته فهو المأجور، فمن صلى الصلاة في أول وقتها أجر لا كمن صلاها في آخر الوقت، وعند البخاري، وعند الترمذي وابن خزيمة: أن ابن مسعود قال للرسول: أي الاعمال أفضل؟ قال: {الصلاة في أول وقتها} ويروى: {الصلاة في أول وقتها رضوان الله} وكذلك من حج في أول عمره، ومن تاب في أول عمره أفضل ممن ترك المتاب والعودة إلى الله حتى بلغ الستين والخمسين.
تفر من الهجير وتتقيه فهلا من جهنم قد فررت
وتشفق للمصر على الخطايا وترحمه ونفسك ما رحمت
مشيت القهقرى وخبطت عشوا لعمرك لو وصلت لما رجعت
ويقبح بالفتى فعل التصابي وأقبح منه شيخ قد تفتى
قال ابن تيمية في هذه القصة: ويؤخذ منها -أيضاً- أن من أخر التوبة وفعل الأفعال الشنيعة على كبر عمر فإنه قد أساء إساءتين: إساءة المعصية، وإساءة عدم الإعذار من الله، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
وذكر منهم أشيمط زاني} شيخ يأتي يوم القيامة ولا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم، لا حجة له، وقال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: {أعذر الله إلى امرئ بلغه ستين سنة} معنى الحديث عند أهل السنة: أي قطع الله عليه الحجة يوم القيامة فلا حجة له، إذا أتى وعمره ستون فيقول الله له: لِمَ لم تتب؟ قال: يا رب لو أمهلتني لتبت.
أبعد الستين مهلة؟! {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] قال ابن عباس: [[النذير الشيب, ومن عمّره الله ثماني عشرة سنة فقد أعذر إليه]] هذا عند كثير من المفسرين ولكن الحديث أصح.
فالبدار البدار، لا نصبح كبني إسرائيل نسمع الموعظة فنقول: غداً أو بعد سنة، أو ماذا يراد من هذا الكلام؟ أو ما هو المطلوب منا؟ بل علينا أن نمتثل.
والعقول الملتوية المنحرفة هي مدرسة شامير، وموشي ديان، على مر تاريخ الإنسان, وهم أناس ربما يوجدون في قلب الأمة الإسلامية, وهم كالجراثيم تجتث، ولكنها لا تضر هذا الجسم الطاهر, ولذلك نقول في كل صلاة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] قال سفيان بن عيينة رحمه الله: [[من فسد من علمائنا ففيه شبه باليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه بالنصارى]] والأمة اليوم وقع فيها مدرسة تشابه مدرسة النصارى ومدرسة اليهود, في أفكارها وفي التوائها وفي محاربتها، وفي أطروحاتها وأقلامها، وأدبها وغزلها وغنائها، فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، وأن يلهمنا وإياكم رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].(111/10)
قصة عائد إلى الله
هذه قصة عائد إلى الله، عرف طريقه المستقيم إلى الله بعد أن كان شارداً على الله، فقد مرت عليه السنوات وهو يعيش في ظلام كما يعيش كثير من الشباب المعرضين عن الله.
ولما أراد الله هدايته لمست مسامعه كلمات داعية عملاق، فأصغى لها، فوصل الصوت إلى قلبه، فإذا به ينهد باكياً ثم يسلك سبيل الهداية.(112/1)
قصة تائب
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير، الحمد لله الذي خلق السماوات والارض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ هدى الله به البشرية، وأنار به أفكار الإنسانية، وزعزع به كيان الوثنية، صلى الله عليه ما اتصلت عينٌ بنظر، وما تألقت أذنٌ لخبر، وما هتف ورقٌ على شجر، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضرٍ يحلُّ بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه
ونركب الجو في أمنٍ وفي دعةٍ فما سقطنا لأن الحافظ الله
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136] {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
هذه قصة أرويها هذا اليوم قصة عائد إلى الله قصة تائب عرف طريقه المستقيم إلى الله، رجلٌ يعيش ولا يزال يعيش على قيد الحياة، رجلٌ نيَّف على الخمسين من عمره؛ عابدٌ من العباد وليٌ من الأولياء، نحسبه والله حسيبه، لا أذكر اسمه فقد سألني بالله ألا أسمي اسمه للناس يوم أروي هذه القصة، يعيش في مدينة من مدن بلادنا.
هذا الرجل قصته عجيبة! تروي قصة الإنسان يوم يعيش حياتين، وفترتين، ومرحلتين، يوم يعيش في أول عمره الضياع، والهيام، والضلال، والشرود، والتمرد على أمر الله تبارك وتعالى، {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23].(112/2)
حياته قبل التوبة
هذا الرجل كان يعمل جندياً -حارساً- يتولى نوبته ببندقيته لكنه لا يعرف الله، يقول: مرت بي تلك الفترة والله ما سجدت لله سجدة إلا رياءً ومجاملة للناس.
كانت تمر به الأشهر الطويلة لا يغتسل من الجنابة لا يركع ركعة لا يتلو القرآن لا يذكر الواحد الديان شاردٌ عن الله ميت بمعنى الكلمة.
ليله يسهر مع الغناء الماجن، مع رفقة السوء، مع شلل الإجرام، مع عصابات التمزق والفشل والانهزام، مع الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً.
فإذا أدركه النوم؛ نام بلا طهارة كالجثة الهامدة، ميت، لا يعرف مواقيت الصلاة؛ لأنه لا يصلي، وإذا استيقظ استيقظ متى يريد بلا طهارة، بلا ذكر بلا وضوء بلا عبادة.
نهاره ذهابٌ وإياب يوم يترك نوبته في الحراسة، والعجيب في أمره! أنه قوي البنية؛ لكنه ضعيف القلب آنذاك، صلب المراس لكنه مهزوم الإرادة، متحرك الأعضاء لكنه فاني العزيمة والإقبال على الله تبارك وتعالى.
كان يُشْعِل السيجارة بعد الأخرى، وإذا رأى أهل التدين والالتزام استهزأ بهم، يرى أن الإسلام رجعية، وأن الدين تخلف، وأن السنة سخف، وطالما زاره بعض الدعاة مما رأوا من إجرامه وفساده ووعظوه وحذروه وأنذروه، فكان يردد كلمته المشهورة: كفرٌ صراحٌ ولا دينٌ مُخَشْخَش؛ يعني: نفاقٌ صلبٌ عَمْدٌ وفجور، ولا دين أتلبس به أمام الناس.
قاطَع والدَيه؛ وهما على بعد ثلاثمائة كيلو متر منه هجرهم، وسبهم، وشتمهم، كان يجلس مع رفقته فيستهزئ بالصالحين، ويستهزئ بالسنن، ولا إله إلا الله كم يتمرد القلب على الله إذا لم يعرفه! ولا إله إلا الله كم يهدم كيان الإنسان إذا لم يهتدِ هذا الإنسان! {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس:17 - 20] {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:8 - 11] {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:6 - 7] {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:1 - 3].
واستمرت السنوات بعد السنوات وهو يعيش في ظلام، كما يعيش اليوم كثير من الشباب المعرضين عن الله؛ يأكلون، ويشربون، ويطبِّلون، ويزمِّرون، ويرقصون؛ لكنهم لا يعرفون الله.
مساكين! الذين يتصورون أن الحياة دفٌ، وطبلٌ، ونايٌ، ووتر.
مساكين! الذين جعلوا الحياة لذةً، وشراباً، وأكلاً كالبهائم.
مساكين! الذين ما عرفوا حلاوة الإيمان، وطعمه ولذته.
واستمرت الليالي والأيام بهذا الرجل وهو في حراسته يحمل بندقيته، يسمع النداء الخافق العالي بالأذان فلا يجيب داعي الله، ويرى الصالحين يتوجهون إلى المسجد فلا يشاركهم أبداً.(112/3)
أسباب توبته
ولقد قيض الله لهذا الرجل داعيةً عملاقاً؛ هذا الداعية وإن كنت لا أعرفه، لكن يعرفه كثير من العلماء وطلبة العلم في هذه المنطقة وغيرها، اسمه: محمد بن حمود اليمني؛ رجلٌ ما ذَكَرَتْهُ الكتب لكن ذَكَرَتْهُ القلوب، وما عَرَفَتْهُ الصحف لكن عَرَفَتْهُ الأرواح، وما سُجِّل بالجرائد لكن سَجَّله الله في الخالدين.
حُدِّثْنا بتواترٍ عنه أنه كان يأخذ القلوب فيسافر بها إلى الله، فأقف مع هذا الرجل، وأقف في قصة حدثنا بها بعض الصالحين؛ قصة بين هذه القصة، تتحدث عن هذا الداعية، يقول الرجل الصالح: "رأيت في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيت كأنني في سوق وقد اجتمع الناس في هذا السوق، فلما ارتفعت الشمس، وأخذ الناس يتبايعون ويتشاورون في السوق، وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- يرتقي إلى منبر السوق، وإلى مكانٍ عالٍ في السوق فيعظ الناس، ويبكي ويُبكي الناس، قال: حتى رأيت بعض الناس سقطوا مغمىً عليهم من التأثر، فرشوا بالماء وحملوا من السوق -هذه رؤيا منام- قال: وفي الصباح نزلت إلى سوق البلدة فوقفت مع الناس، فلما احتمت الشمس وارتفع النهار واجتمع الناس، وإذا بهذا الداعية، يصعد منبراً مرتفعاً في السوق يكبر ويهلل، وتتساقط دموعه قبل الكلمات إي والله! قال: فرأيت الناس يتساقطون من التأثر ويرشون بالماء، ويحملون إلى الظل، فكان هذا تأويل رؤياي من قبل".
نعود إلى قصة هذا الرجل الأول، قال: وفي أثناء ما كنت في نوبتي آخذاً بندقيتي بجانب مسجدٍ في هذه البلدة، والناس يصلون وأنا لا أعرف الصلاة، وإذ بهذا الداعية يرتفع صوته بعد صلاة العصر؛ منذراً، ومحذراً، ومذكراً، وهو يتلو قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ثم أخذ يشرح الموقف والعرض الأكبر، ويصف الجنة والنار.
وقد سلم هذا الرجل قلبه لهذا الداعية، ووصل صوته إلى قلبه قبل أن يصل إلى أذنيه؛ لأن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب.
قال: فاستأسر قلبي بين يديه، {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4].
قال: وانتقلت من البلدة بروحي فما أدري أين أنا، وأصابني من الإعياء والبكاء والإغماء ما الله به عليم، حتى ما استطعت أن أتحامل على رجلي فجلست على الأرض.
قال: وكان صوته ينفذ إلى القلب مباشرة؛ وهو يتحدث عن الحشر والنشر ومواقف الحشر وكأن ربي بارزٌ على عرشه يوم العرض الأكبر.
قال: واستمريت في البكاء إلى قبيل المغرب حتى سلمت نوبتي لزميلي، وذهل الناس مني واجتمعوا عليَّ مالك مالك؟ قلت: لا شيء، أتوب إلى الله أستغفر الله أعود إلى الله، اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
وهكذا يفعل الداعية المخلص بالقلوب يفتح مدناً من القلوب بالكلمات لا تفتحها الجيوش المجيشه، ولا الجنود المجندة.
وقام هذا الرجل وذهب فاغتسل من الجنابة التي مكثت عليه أشهراً طويلة، وغير ملابسه فقد غير قلبه، وقام يستغفر ويتوب ودموعه تتساقط مع قطر ماء الوضوء.
إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ تبين من بكى ممن تباكى
قال: وأول صلاةٍ صليتها صلاة المغرب، فلما صليت وإذا أنا بالداعية، فسلمت عليه، فهش وبش في وجهي، وكأنه اشتراني وأعتقني -والله- وعانقه في نفس الوقت؛ وهذا هو السحر الحلال، وهو: تبسم أهل الفضل والنبل والعلم؛ ليشتروا القلوب ويبيعوها بجنة عرضها السماوات والأرض.
يقول الله لرسوله عليه الصلاة والسلام: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ويقول له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
قال: فذهب بي هذا الداعية إلى بيت يجاور المسجد، وسألني: لماذا أبكي؟ فقصصت عليه حياتي، فشاركني في البكاء، وقلت: الآن أولد مولداً جديداً، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].(112/4)
التائب حَفِظَ القرآنَ في أربعة أشهر
قال: أخذ هذا الداعية يحدثني عن الهداية، وعن طريق الجنة، وثواب الله للصادقين، وجزائه للتائبين، وعن إقباله على المقبلين.
قال: وسألني كم أحفظ من القرآن؟ قلت: لا أحفظ شيئاً، قال: سبحان الله! وكيف صليت معنا آنفاً، قال: وقفت هكذا، حتى الفاتحة لا أحفظها؛ لأنه قد يبلغ ببعض الناس التمرد والإعراض إلى أن يفهم كل شيء إلا الإسلام، ويعرف كل شيء إلا القرآن، ويحب كل شيء إلا الدين، بل وجد في مجتمعاتنا وأوساطنا ومدننا من يحفظ مئات الأغنيات ولا يحفظ سورة، هذا موجود وحاصل، وهكذا يفعل المعرض والشارد عن الله عز وجل.
قال: فقام فعلمني الفاتحة وسوراً أخرى، ثم ألزمني برجلٍ من أهل القرية عنده صلاح، وقال: حفِّظه كتاب الله، قال: والله الذي لا إله إلا هو -الرجل يروي قصته- ما أخذت أنام من الخوف؛ من خوف الله في الأربع والعشرين ساعة إلا ساعتين، وحفظت القرآن كله حفظاً عن ظهر قلب في أربعة أشهر؛ لأنه أحب القرآن، وأقبل على الواحد الديان، وعرف طريقه إلى جنة الرضوان.
هذا الرجل استمر في الهداية، وأصبح عابداً، وأعرف أنه يقرأ القرآن ويختمه في كل ثلاثة أيام، ويصوم كثيراً من الأيام، ولا يتمالك عينيه إذا قرأ القرآن إلا أن ينهد باكياً.
يحدث بقصته هذه فيبكي؛ لأنها قصة عجيبة، تمر بنا كثيراً، وهي قصة النجاة من النار، وقصة العودة إلى الواحد القهار، وفي أولها حرمانٌ وفي آخرها رضوان، أولها لعنة وشقاوة وآخرها رحمةٌ وحسنٌ وإقبالٌ على الله الواحد الأحد.
فيا من عاش حياة الإعراض! ويا من أدبر طويلاً في أيامه! ويا من جعل ليله ونهاره مسارح للمعاصي! أَقبِلْ على الله وتعال إليه، وضع يمينك في حبل محمدٍ عليه الصلاة والسلام، ليصلك بالله الواحد الأحد.
هذا نموذجٌ من حياة كثيرٍ من الناس، وعندنا من هذا وعند كثيرٍ من الإخوة عشرات النماذج؛ من الذين أعرضوا ثم أقبلوا، من الذين عاشوا الخذلان والحرمان ثم عرفوا الطريق إلى الواحد الديان، قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(112/5)
قصة تائب آخر
الحمد لله رب العالمين؛ ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد:
أيها الإخوة الكرام! فإن قصص التوبة والإقبال على الله عزوجل تملأ التاريخ، ومن يقرأ سير الصحابة والسلف الصالح يجد كل واحدٍ منهم مر بفترتين في الغالب؛ فترة الإعراض والظلام وفترة الإقبال على الله.
ومما حُفِظ عن شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه ونور ضريحه- أنه قال: لا بد لكل عبدٍ أن يولد مولدين اثنين: المولد الأول: يوم أتت به أمه، وهذا يشترك فيه الناس حتى البهائم، فإن كل مخلوقٍ له هذا المولد، ويعيش هذه الحياة، ويحس بهذا الميلاد الكافر والمؤمن البهيمة والدابة الطائر والحشرة، كلهم يولدون هذا المولد.
أما المولد الثاني: فلا يذوقه إلا المؤمن، ولا يحسه إلا المؤمن؛ وهو الميلاد الثاني الذي ذكره سبحانه بقوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122] ما معنى ذلك؟ هل معناه: أنه كان ميتاً لا يتحرك، ولا يأكل، ولا يشرب؟ لا.
إنما معناه: أنه كان ميت القلب والإرادة والعزيمة، ميت السير إلى الله، يأكل ويشرب؛ ويُطَبِّل ويُزَمِّر ويُغَنِّي؛ ويتمرد ويفسق، لكنه ميت، قال الله: {فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122] أي: بالإيمان، {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122] أي: بالعلم، {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] فالميلاد الثاني قال: هو ميلاد الإنسان في الإسلام، يوم يخلع كل شرك وشبهة ونفاق ومعصية ويأتي فيسلم نفسه إلى الله، ويشتري نفسه من الله، ويعتق رقبته من النار، هذا هو الميلاد الثاني، وهذا الميلاد ذاقه الصحابة رضوان الله عليهم ولا يزال كثير من الناس يعيشونه في هذا العصر وبعد هذا العصر.
سلامٌ على التائبين جملةً الذين عرفوا الطريق إلى الله.
أحد العلماء في مدينة الرياض حدَّثنا بقصة وقعت لقريب له؛ هذا القريب يقول: كان جندياً من جنود إبليس.
وكنت امرءاً من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي
يقول: كان متمرداً على الله حتى وصل الحال به إلى أن دعت عليه أمه بالهلاك، وأن يريح الله العباد والبلاد منه.
يذهب في الليل فلا يأتي إلا في ساعة متأخرة، يأتي وهو محشوٌ من حبوب المخدرات ومن السكار والخمر، أما المسجد فما دخله أبداً، وربما لو دخل المسجد لنجسه.(112/6)
مع الدعاة إلى الله
قال: واستمر على هذه الحال حتى تأذى منه جيرانه وشكوه، وحاول بعض الدعاة معه محاولة فوصلوه إلى بيته، ووعظوه بالله، وسألوه بأسماء الله الحسنى أن يتوب، وعلى الأقل أن يمسك على الناس شره، وصل البلاء به المواصيل، وما بقي إلا توبةٌ نصوحٌ، أو قاصمةٌ من الله يوم يأخذ الظالم فلا يفلته أبداً.
قال: وبينما نحن نعظه، بكى، وظننا أنه تاب، وأنه أحس بالعودة إلى الله، ولكن دون جدوى عاد كما كان، بل أمَرَّ مما كان، وكان يستهزئ ويسخر بنا في رسائل وجلسات، وكان عنده أصحاب يدعونه إلى الردى والغواية.
قال: واستمر به الحال، فكتبنا له رسائل، وحاولنا أن نتوسط ببعض الناس، شفعُنا فيه أن يهتدي فرفض.
تذكرنا طريقةً مبتكرة للهداية؛ وهي طريقة ناجحة، طريقة إهداء الشريط الإسلامي، أن يصل إليه، وأن يستمع إليه، وأن يُوْدَعَ في بيته وفي سيارته.
قال: فاشترينا مجموعة من الأشرطة ووضعناها في سيارته، قلنا: هذه آخر محاولة، وبعدها ندعو الله أن يريح العباد والبلاد منه؛ لأنه سبب في غواية كثير من شباب الحي والحارة.
قال: وقدر الله، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى له أزمنة يقدر فيها الهداية فلا يستعجل على أمره، {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1].
قال: سافر هذا الرجل إلى مدينة الدمام، وفي أثناء الطريق سمع الغناء حتى ملَّ، وسمع البذاء والسخف حتى كَلَّ وسئم، وقبل أن يصل إلى مدينة الدمام بمراحل حاول أن يسمع هذه الأشرطة الموجودة؛ ليسمع ما يقول هؤلاء البشر السخفاء في نظره الحقراء في فكره، هل يتكلمون كالناس؟! هل عندهم شيء؟!
قال: ففتح شريطاً يتحدث عن اليوم الآخر، قال: وتأمل وألقى سمعه، وتحدث الشريط عن حياة الإنسان وعن رحلته، وعن ضعفه، وعن موقف الإنسان يوم العرض الأكبر، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
قال: وبدأ التأثر، وانتهى الشريط، وأخذ شريطاً آخر يتحدث عن الجنة، وبدأ التأثر والبكاء منتهاه -وهو يتحدث عن نفسه- حتى يقول: ما كدت أتحكم في إطار السيارة وفي قيادتها حتى دخلت المدينة، ومع دخوله المدينة أدخل الله الهداية قلبه.
وأول ما وصل وصل إلى مكانٍ فتوضأ فيه، وجدد وضوءه، وبدأ بالمسجد وصلى ركعتين، وأعلن توبته وهو يبكي أمام الله، وصلى مع الناس، وعاد إلى الله وأكمل سماع هذه الأشرطة التي زادته عمقاً وإيماناً وبصيرة.
عاد إلى أهله بوجهٍ غير الوجه الذي ذهب به؛ وجه الإيمان وجه النور والهداية وجه الإقبال على الله عزوجل، {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:106 - 107].
ليسو كقومٍ إذا لاقيتهم عرضاً أهدوك من نورهم ما يتحف الساري
تروى وتشبع من سيماء طلعتهم بوصفهم ذكروك الواحد الباري
مَن تلق منهم تقل: لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري(112/7)
الأهل والجيران يفرحون بتوبته
وصل إلى بيته وأخبر والدته فانصدعت بالبكاء من الفرح، ومن الفرح ما يبكي:
طفح السرور عليَّ حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
وأيام وإذا بالناس من الجيران يتوافدون عليه؛ يهنئونه بهذا النجاح، وهذا المستقبل، وإذا برب العباد يوزع محبته على الناس، ففي الصحيح: {أن الله عزوجل إذا أحب عبداً، قال لجبريل: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم يقول للملائكة: فيحبونه، ثم يوضع له القبول في الأرض -وفي بعض الروايات: حتى إن الناس ليَشربون حبه مع الماء البارد، وإذا أبغض الله عبداً، قال لجبريل: إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم يخبر أهل السماء فيبغضونه، ثم يوضع له البغض في الأرض، حتى إن الناس ليشربون بغضه مع الماء البارد}.
أحبوه، وواصل مسيرته مع الله، وما زال حياً وأصبح مثالاً وأسوةً: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] وهدى الله على يديه كثيراً من الناس، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4].
عباد الله! جددوا توبتكم وإقبالكم إلى الله الواحد الأحد، أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين، فإن ربكم غفور شكور.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنَّا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.(112/8)
المؤذن الأول
إن الله سبحانه وتعالى نظر إلى خلقه فوجد الصحابة أطهر الناس قلوباً، فاختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهم أعظم من عرفت البشرية؛ فلذلك اعتنى أهل السير والتراجم بحياتهم وتدوينها في الكتب لأخذ العبر والعظات والاقتداء بهم في هذه الحياة.
وفي هذا الدرس قصة المؤذن الأول ألا وهو بلال بن رباح، وفيها كيف كانت حياته قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبعد بعثته، وكيف عاشر النبي صلى الله عليه وسلم وخدمه وأحبه، وكيف كانت حياته بعد النبي صلى الله عليه وسلم.(113/1)
حياة بلال مع النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وسلم ما فاحت الأزهار وما تناغمت الأطيار، وما تعاقب الليل والنهار، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المؤمنون: عنوان هذه الخطبة: المؤذن الأول.
من هو المؤذن الأول؟
من هو أول من صدح بصوت الحق على منارة الحق في دنيا الحق؟(113/2)
الصبر على هذا الدين
إنه ذاكم المولى الضعيف المسكين الذي رفعه هذا الدين، فأصبح من ورثة جنة النعيم.
بلال بن رباح اسم يحبه المؤمنون وصوت تعشقه آذان الموحدين، ولا بد للمسلم أن يولد ميلادين اثنين وأن يعيش حياتين:
الميلاد الأول: يوم ولدته أمه.
الميلاد الثاني: يوم ولد في هذا الدين الجديد.
وبلال رضي الله عنه وأرضاه ولد ميلادين، وعاش حياتين، وصاحب عالمين، ولد مولى، وأستأسره الجبابرة وسلطوا عليه سياط الكبر والعنجهية، فكان مولىً لا حساب له ولا تأثير في الحياة، وأخذ إلى مكة مفصولاً ومعزولاً عن أهله وأمه، وعاش في مكة.
وفجأة صدع الرسول عليه الصلاة والسلام من على الصفا بلا إله إلا الله محمد رسول الله.
وذهب صلى الله عليه وسلم إلى سادات مكة يدعوهم إلى لا إله إلا الله، فكفروا بلا إله إلا الله، واعترضوا على رسول الله وكذبوه، وافتروا عليه وآذوه، وشتموه، فأنزل الله عليه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
معنى الآية: ما عليك من هؤلاء الكبار؛ فإنهم صغار عند الله، لا تعبأ بهم أبداً، ولا تعطهم شيئاً من وقتك ما دام هذا صنيعهم.
ولا تظن أن الإسلام سوف ينتصر على أكتاف المتكبرين المتجبرين، لكن اذهب إلى أناس يريدون وجه الله، من المساكين والفقراء والموالي، من الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً.
وذهب صلى الله عليه وسلم يبحث عن أحبابه وأتباعه وجنده وتلاميذه، فوجدهم في أصناف من الناس، في عالم الفقر والزهد والضعف والمسكنة، ومنهم بلال.
ورأى بلال محمداً عليه الصلاة والسلام فأحبه، والسر الذي زرعه رسول الهدى عليه الصلاة والسلام في القلوب هو الحب، فجر أنهار الحب في قلوب أصحابه حتى كان الواحد منهم يقدم صدره أمام صدر الرسول عليه الصلاة والسلام، ويقطع أمامه بالسيف إرباً إرباً، ويقول:
نفسي لنفسك الفداء يا رسول الله!!!
حب أجراه في قلوبهم، فأحبه بلال حباً استولى على سمعه وبصره وقلبه، فأصبح يتحرك في حب الرسول صلى الله عليه وسلم، يأكل وشخص الرسول أمام عينه، ويشرب وشخص الرسول في سمعه وبصره، ولسان حال بلال يقول:
أحبك لا تسأل لماذالأنني أحبك هذا الحب رأيي ومذهبي
أو كما قال الأول:
أحبك لا تفسير عندي لصبوتي أفسر ماذا والهوى لا يفسر
فلما أحبه شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وعرض عليه الدين، فأحب هذا الدين؛ لأنه يرفض الرق، والعبودية لغير الله، ولأنه ينبز الظلم ويحارب الظلمة.
فلما أحبه، وشهد أن لا إله إلا الله، اجتمع الجبابرة على بلال، وضربوه ليعود عن لا إله إلا الله، فأبى، سجنوه وعذبوه، فأبى، ربطوه بالحبال وجرجروه على صخور مكة السوداء في الظهيرة وجهاً لبطن ليعود، فكان يتلفظ بقوة: أحد أحد.
من هو الواحد الأحد؟ إنه الذي أرسل هذا الرسول، وأنقذ الإنسان، والذي دعا قلبه ليؤمن بالواحد الأحد.
لطموه على وجهه فيرتفع صوته متأثراً ثائراً مجروحاً: أحدٌ أحد.
حب يجري في الدم لله ولرسوله، يسحبونه في الظهيرة جائعاً عارياً قد أثرت السياط في ظهره، تمزق لحمه على الصخور، وهو يقول: أحد أحد.
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]
إنها إرادة تكسر الحديد! وهذه هي المعجزة الكبرى التي أتى بها رسولنا عليه الصلاة والسلام، وهي تحويل الأعراب والموالي والفقراء والمساكين إلى جيش ضارب رهيب يفتح الدنيا بلا إله إلا الله.
يقول إقبال:
وأصبح عابدو الأصنام قدماً حماة البيت والركن اليماني
يقول: إنك يا محمد! حولت عباد الأصنام إلى حماة للركن اليماني والحجر الأسود.
ولما أسلم بلال أمام هذا التعذيب الهائل مر به أبو بكر وهو يعذب، فقال أبو بكر: أشتريه منك يا أمية - أمية بن خلف المجرم- قال: خذه ولو بعشرة دنانير، قال أبو بكر: والله لو جعلت ثمنه مائة ألف دينار لاشتريته بذلك، فدفع القيمة وأخذه، فأنزل الله: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21] من هو الذي سوف يرضى؟
وهل أراد أبو بكر من بلال كلمة شكر؟
لا، بل أعتقه لوجه الله، وأتى به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام معذب الجسم ومنخور اللحم، السياط قد أثرت في مواضع من جسمه، فأخذه عليه الصلاة والسلام واحتضنه كما تحتضن الأم طفلها، وقبله ودعا له، وعينه مؤذنه الأول الذي أذن في فجر التاريخ، وهو أول مؤذن حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وكلما حانت الصلاة قام بلال يهتف: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر.
فتنتفض أجسام المؤمنين من صوت بلال كما تنتفض الأجسام من التيار الكهربائي.
المؤذن كلما اهتم الرسول عليه الصلاة والسلام وأصابه كرب، قال: {أرحنا بها يا بلال!} فيؤذن، كان يتقدم أمام الرسول عليه الصلاة والسلام بماء الوضوء والعنزة، وكان يأخذ حذاء الرسول بيده، ويرى أنها أشرف خدمة يقدمها في تاريخه.
يجلس عليه الصلاة والسلام فيقول: أين بلال؟
كان يحبه، وهو الحب الذي سرى في جسم بلال وعوضه عن كل شيء، عن جاهه ونسبه وماله، فما دام أن الرسول عليه الصلاة والسلام يحبه فكفى.(113/3)
رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم لبلال رضي الله عنه في الجنة
وفي ذات يوم جلس عليه الصلاة والسلام يخبر أصحابه في الصباح الباكر بعد صلاة الفجر عن رؤيا رآها في المنام، فقال: {رأيت البارحة، كأني دخلت الجنة -وهي رؤيا حق ما زاغ البصر وما طغى- فسمعت دف نعلك يا بلال، فماذا كنت تصنع} إذاً فهو من أهل الجنة.
وشهد أهل السنة أن بلالاً من أهل الجنة، وقد جعل الله له الذكر الحسن في الدنيا، فمسلمو اليابان والشام والجزيرة ومصر واليمن والمغرب، وكل مسلمي العالم يعرفون من هو بلال.
قال: {سمعت دف نعليك البارحة يا بلال! فماذا كنت تصنع؟ قال: يا رسول الله والله ما أنا بكثير صيام ولا صلاة ولا صدقة، ولكن ما توضأت في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بعد الوضوء ركعتين} متفق عليه
كلما توضأ صلى ركعتين.
كان خفيف الجسم ممشوق القامة، أسود اللون، لكنه أبيض المبادئ.
وكَّله عليه الصلاة والسلام أن يحرس الجيش في المعركة في غزوه من الغزوات، قال: من يوقظنا للصلاة؟
قال بلال: أنا يا رسول الله! فنام الجيش، وقام بلال يصلى طيلة الليل، فلما أقبل الفجر واقترب السحر حدث بلال نفسه، أن يضطجع قليلاً ليرتاح، فاضطجع فنام، وأتت صلاة الفجر والرسول عليه الصلاة والسلام نائم، والجيش نائم، وطلعت الشمس والأمة نائمة، وبعد طلوعها وارتفاعها كان أول من استيقظ عمر، فرأى هذه المأساة التي يراها لأول مرة، وهي أن الرسول المعصوم نام ولم يصل الصلاة والجيش معه، وهي حكمة من الله، ليكون قدوة للناس إذا ناموا، وأن تصيبه صلة من النوم ليكون عذراً لمن غلبه النوم.
يستيقظ عمر ويقترب من الرسول عليه الصلاة والسلام، ويستحي أن يقول للمعلم الأول: قم للصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم لا يوقظ، والرواية في البخاري قال: فأخذ عمر يقول وهو بجانب الرسول عليه الصلاة والسلام: الله أكبر الله أكبر ويعيد التكبير حتى استيقظ الرسول عليه الصلاة والسلام، ودعا حبيبه، ومؤذنة، وأجلسه أمامه، فقال: {يا رسول الله! أخذ بعيني الذي أخذ بعينك، فتبسم عليه الصلاة والسلام} فهو يقول: العذر واحد، أنت نمت وأنا نمت، والذي غلبك غلبني، والذي انتابك انتابني، فتبسم صلى الله عليه وسلم وأقره، وأدى الصلاة فأذن بلال بعد طلوع الشمس وصحت صلاتهم وقبلت.(113/4)
ارتفاع منزلة بلال بالتقوى
ويجلس بلال في مجلس، ويقول أبو ذر لـ بلال: يا بن السوداء!
هل في الإسلام حمراء وسوداء وبيضاء؟
هل هناك أسود أو أبيض أو أحمر؟
من هو الكريم عندنا في هذه الملة المشرفة؟
إنه المتقي، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
إننا لا نعترف بالألوان أو الأجناس أو البلدان، بل نعترف برجل يحمل لا إله إلا الله، هويته إياك نعبد وإياك نستعين، وغضب بلال وقال: والله لأرفعنك إلى خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفع أمره فغضب النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم غضباً شديداً، لأنه يؤسس منذ عشرين سنة مبدأ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فيأتي هذا بكلمة يهد هذا البناء وهذا الصرح الشامخ، لا يجوز هذا.
ويستدعي أبا ذر، قال أبو ذر رضي الله عنه: والله ما أدري هل رد علي النبي السلام أم لا من شدة الغضب، وقال: {أعيرته بأمه؟ إنك امرأ فيك جاهلية}.
إن هذه خطيئة في الإسلام لا أكبر منها، إنها هدم للكتاب والسنة، ولكن بلالاً يزداد مع الأيام رفعه لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يحبه.
يصلى النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم صلاة العيد، ويخطب الناس، ثم يتكئ على بلال ويذهب يخطب النساء، وهو متكئ على بلال، ويرى بلال أن السعادة البشرية قد حصلت له؛ لأن رسول البشرية ومعلم الإنسانية وضع رأسه في حجره.
أي كرم؟!
وأي تشريف؟!
وأي عطاء؟!
وأي تبجيل؟!!
ويفتح الرسول عليه الصلاة والسلام مكة في اليوم المشهود الذي حطمت فيه الأصنام، فلا معبود بحق إلا الله، فيدخل الرسول عليه الصلاة والسلام على ناقته، ومعه عشرة آلاف من المؤمنين، أصبحت العقيدة جزءً من أجسامهم، أواضاً من جماجمهم التي على أكتافهم.
يدخل فيرى الأصنام فيطعنها برمحه فتتساقط وتتناثر، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الاسراء:81] وتحين صلاة الظهر، ويجلس الناس أجمعون في صرح الكعبة المشرفة في الحرم، مؤمنهم ومشركهم، ويقول عليه الصلاة والسلام: أين بلال؟
فيقول: هاأنا يا رسول الله! قال: اصعد وأذن على سطح الكعبة.
أليس هذا دين الموالي؟!
أليس هذا انتصار للفقراء؟!
أليس هذا عدل للمساكين؟!
أليس هذا رفع لرءوس المستضعفين؟!
أليس هذا هو العدل بعينه؟!
أن يقوم المولى الأسود على الكعبة السوداء وهي بيت الله ليهتف بنداء الحق.
أين أبو جهل؟!
أين أبو لهب؟!
أين أبو طالب؟!
وصعد بلال واستوى على الكعبة لكي يخاطب الدنيا بشهادة الحق إلى يوم الدين، فلما أذن بكى الناس، ومن الذي يرى المشهد، ويرى الصورة ويسمع الصوت ويعيش التفاصيل ثم لا يبكي؟!!
هل قلوبهم من الحجارة؟!
هل سدت أسماعهم وأبصارهم حتى لا يروا؟!
إنه شيء عجيب يوم الفتح الأكبر.
الفاتح: رسول الله عليه الصلاة والسلام.
الدين: الإسلام.
المؤذن: بلال المولى الأسود.
أين يؤذن؟ على سطح الكعبة.
قال: الله أكبر، وكان صوته جميلاً يسبي القلوب يأخذ الأرواح ثم لا يتركها، يشدها ثم لا يرسلها.
أول من بكى الرسول عليه الصلاة والسلام، سالت دموعه حارة؛ لأنه تذكر المعاناة، وتذكر الصدمات الهائلة، وتذكر أيام الجوع والوجع والتعذيب، وأيام الإرهاب الفكري والمعنوي والجسدي، ثم يرى أنه قطع مرحلة هائلة وأنه انتصر، وأن مولاه وحبيبه أصبح مؤذناً، ويبكي الصحابة، ويشارك النساء والأطفال في البكاء، وهذا الصوت يتلجلج في هضاب مكة وأوديتها، يسبح كالتيار في الماء.
لا إله إلا الله.
يقول أحد المشركين وكان ما يزال على شركه: ما كنت أظن أن الحياة تطول بي حتى أرى هذا الغراب الأسود، ينعق على الكعبة.
قاتلك الله! أغراب هو؟!
بل هو إنسان العيون.(113/5)
حياة بلال بعد النبي صلى الله عليه وسلم
وأتت وفاته عليه الصلاة والسلام، فيموت الإمام، ويبقى المؤذن، وتصور المشهد، ولك أن تتدبر ما شئت، ولك أن تعرف رجلين متحابين، معلم وتلميذ، وإمام ومؤذن، عاشا الحياة حلوها ومرها، ليلها ونهارها، حلها وسفرها، وفجأة يموت الإمام ويبقى المؤذن.(113/6)
امتناع بلال عن الأذان
مات عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] ولكن مبادئه لن تموت أبداً، ومع أذان الفجر قام بلال ليحاول محاولةً يائسةً عله يستطيع أن يملك أعصابه فلا تنهار ليؤذن.
أذَّن، لكن اسمع ماذا حدث.
التفت إلى قبر الرسول عليه الصلاة والسلام أمامه، التفت وإذا المحراب خالٍ من الإمام، التفت إلى بيت الرسول عليه الصلاة والسلام وليس فيه الأب! كيف يؤذن؟
كيف يستطيع أن يواصل بصوته؟
بأي عبارة يؤدي؟
أين بصره؟
أين سمعه؟
أين قلبه؟
أين كيانه؟
وقف على المنارة مع أذان الفجر، فقال: الله أكبر وتشجع وزاد وقال: الله أكبر وشجع نفسه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، ولكن أتت قاصمة الظهر، أتت المسكتة المبكية التي لا يستطيع بعدها أن يؤدي كلمة واحدة، قال: أشهد أن محمداً رسول الله، فبكى وبكت النساء معه في عقر البيوت في المدينة، مع أذان الفجر، وقامت المدينة تبكي كلها، الأطفال يبكون مع الفجر ماذا حدث؟
بكى المؤذن.
أشهد أن محمداً رسول الله ثم ولا كلمة، اختنق صوته وتلعثم، فمن يؤذن؟
نزل وهو ينحب في الدرج حتى وصل ورمى بجسمه في المسجد!!
أين الإمام؟
مات الإمام وبقى المؤذن.
أين الحب؟
ذهب الحب فلا حب حتى نلتقي، يوم تعيش هذه الأبصار والأسماع حياة أخرى تجمعها بمن تحب، وحضر الصحابة ليشاهدوا المنظر أمامهم، منظر المؤذن وهو ملقي على الأرض كالثوب.
أتاه أبو بكر الخليفة، قال: مالك؟
قال: والله! لا أؤذن لأحد بعد رسول الله، سبحان الله! وحمل إلى بيته:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(113/7)
مواقف من حياة بلال
الحمد لله رب العالمين، وولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
الحديث والحب مع بلال، والذكر لـ بلال، انتهى هذا الفصل، وأعفاه أبو بكر من الأذان تماماً، وتفتح الفتوح، ويذهب ليشارك بجسمه، وروحه، ودمه في إعلاء لا إله إلا الله، ويصل إلى الشام وهناك يجاهد، ويقاتل بسيفه، ويرفع علم التوحيد، ويعلم الناس، يجاهد وينتظر المنية لتلحقه بالإمام في جنة عدن عند مليك مقتدر، ولكن هناك مواقف مؤثرة توقف التاريخ، تجعل التاريخ منصتاً واقفاً أمامها.(113/8)
أذان بلال في بيت المقدس
يذهب عمر بجمله ومولاه ليفتح بيت المقدس، فلا موكب ولا جنود ولا حراسة ولا حشم ولا دنيا، يذهب بالدين، لكنه يذهب وهو يحمل الدنيا في يديه، كما قال حافظ إبراهيم:
قل للملوك تنحوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
يأخذها في ساعة ويعطيها في ساعة.
وأتى عمر ودخل بيت المقدس بثوبه الممزق المرقع، وهو في ثوبه وفي هيكله وفي جسمه يصف العدل، ويمثل الرحمة والصرامة، ويجتمع المؤمنون في فتح بيت المقدس، الصحابة وكبار الصحابة، وأهل العهد المكي، وبقية العشر، وأهل بدر وأهل بيعة العقبة، وكلهم احترق من داخله بموت الإمام.
وتحين صلاة الظهر مرة ثانية، فيقول عمر: أسألك بالله يا بلال
أن تؤذن لنا، قال: اعفني يا أمير المؤمنين! قال: أسألك بالله أن تذكرنا الأيام الأولى في حياتنا، فلكل إنسان ذكريات، وذكريات الصحابة محمد عليه الصلاة والسلام، وحبهم وتاريخهم وتعاليمهم وفجرهم وليلهم ونهارهم محمد عليه الصلاة والسلام، يريد عمر أن يطوي أربعين أو ثلاثين سنة في جلسة واحدة، قال الصحابة: يا بلال اتق الله سألك أمير المؤمنين، فقام بلال يتحامل على جسمه، وقد أصبح شيخاً كبيراً، وارتفع صوته، فإذا بصوت عمر يسابقه بالبكاء أسرع من صوت بلال بالأذان، وتَنْهَدُّ أكتاف عمر، وقد أصبح كالطفل الرضيع يبكي، وبكى كبار الصحابة، وبكى الجيش الفاتح الذي مع عمر، الجيش والواحد منهم كالأسد الضرغام، لا ينهزم ولا يغلب، ولكن غلبوا في ساحة الحب، أصبحوا صرعى من البكاء، وتردد المسجد الأقصى بالبكاء، لماذا؟
لأن الأذان ذكرهم تاريخاً وذكريات تنهال على الإنسان من كل حدب وصوب.
فلا إله إلا الله ما أعظم الذكريات! ولا إله إلا الله ما أجل الحياة! وما أشرف الأوقات مع أولئك الذين رفعوا دين الله في الأرض والبحار والفلوات!(113/9)
رؤية بلال للنبي صلى الله عليه وسلم في المنام وزيارته له والوداع الأخير
وبعدها يعود بلال إلى الشام، وانقطع عن المدينة المنورة فترةً طويلة، انقطع لأن السفر مضن، وبلال أصبح شيخاً كبيراً أشرف على الشيخوخة، ونام ليلة من الليالي؛ وفي أثناء النوم زاره طيف محمد عليه الصلاة والسلام، زاره وجه الرسول عليه الصلاة والسلام النوم، والرسول عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين - يقول: {من رآني في المنام، فسوف يراني، فإن الشيطان لا يتمثل بي} رأى حبيبه وشيخه، رأى الإمام بصورته، ورآه بنوره، وبشاشته أمامه يحاسبه، ويعاتبه ويقول له: هجرتنا يا بلال! أما تزورنا؟
ما أعظمها من كلمات! وما أقوى العتاب!
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
أو كما قال المتنبي:
يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدمُ
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون همُ
هجرتنا يا بلال، ألا تزورنا في المدينة!
واستيقظ بلال باكياً وسط الليل، وتوضأ وصلى ركعتين، وأسرج راحلته، أبعدها يتأخر؟!
دعوةٌ مقدمةٌ من الإمام الأعظم إلى المؤذن في الشام أن يزوره في المدينة.
والرسول عليه الصلاة والسلام حرم الله على الأرض أن تأكل جسده، كلما سلم عليه مسلم رد الله عليه روحه ليرد السلام، ركب الناقة وذهب، وطوى القفار وكأنها سويعات، سويعات قصيرة حتى يصل إلى المدينة.
جزى الله الطريق إليك خيراً وإن كنا تعبنا في الطريق
فوصل قبل صلاة الفجر، لتكون ملحمة من البكاء أيضاً، فوجد الناس نياماً، وأتى إلى الروضة فسلم، وبكى ما شاء الله له أن يبكي، ووقف هناك في عالم الذكريات، والحياة، وعالم العبر، والدروس التي لا تنتهي أبداً.
وحان أذان الفجر وتأخر المؤذن -مؤذن المدينة تأخر ونام- حكمةً من الله وتحرج بلال، فدينه لا يسمح أن يذهب، وينام الناس، ويذهب وقت الأذان، فصعد المنارة وأذن، ولما أتى إلى محمد رسول الله خنقه البكاء، وقام الناس من المدينة، قام الصحابة كأنهم بعثوا من القبور يبكون مع بكاء بلال.
الله أكبر! كيف تتكرر المشاهد التي لا تنتهي والصور التي تحمل الأحاسيس والذكريات والمشاعر، وأتوا إليه، وأتى المؤذن وأذن من جديد ووقف بلال يعانقهم ويعانقونه، ويبكون ويبكي:
ولما تلاقينا تباكت قلوبنا فممسك دمع عند ذاك كساكبه
ولكن بلالاً بعدها ودَّع الصحابة؛ لأنه أتى لمهمة خاصة، ولإجابة دعوة خاصة لحبيب خاص، فعاد وفي الشام أتته المنية، فأخذ ينشد وهو في سكرات الموت: [[غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه]].
ومن الذي لا يفرح كفرح بلال، وهو يتصور أنه بعد لحظة سوف يلقى محمداً عليه الصلاة والسلام، وأبا بكر وعمر وخيار الناس؟!
ولفظ أنفاسه، ومات قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27 - 28].(113/10)
دروس وعبر من قصة بلال
وفي قصة المؤذن الأول دروس:
أولها: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فالقرشي الذي أعرض عن الرسالة في نار تلظى، والحبشي الذي آمن بالرسالة في مقعد صدق عند مليك مقتدر، والإسلام لا يعترف بالفروق التي تجعل للناس تمايزاً غير تمايز الدين.
الثاني: أن هذا الدين لا يأتي لأهل المناصب ولا لأهل الشارات والجاه والأموال، ولكن هو يبقى مكانه ليأتي إليه من يحبه ويعشقه لذاته هو، قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53] يقول أبو جهل: كيف يهتدي بلال وأنا سيد بني مخزوم وهو عبد حبشي؟
قال الله تعالى عنهم: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11] ويقول الله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53] فالدين لمن أتى حباً لذات الدين وحمله بشرف وعزة وإباء وتضحية.
الثالث: معرفتة عليه الصلاة والسلام للفروق الفردية بين أصحابه، واستعداد الصحابة، ومواهبهم الشخصية، فقد أعطى الأذان بلالاً، لأنه يصلح أن يكون مؤذناً، ولأنه المؤذن الأول الناجح، والراية لـ خالد في المعركة، والخلافة لـ أبي بكر، وعلم القافية والأدب لـ حسان، ومدرسة الفرائض وتوزيع المواريث لـ زيد بن ثابت، والقضاء وهيئة الاستشارة والعدل، لـ علي بن أبي طالب، (قد علم كل أناس مشربهم) وهذه لا يستطيع لها إلا الرسول عليه الصلاة والسلام وحده، لأنه قرأ نفوس أصحابه ودرس مواهبهم واستعداداتهم وهذا أمر يفوت على كثير من المربين والمعلمين والدعاة.
الرابع: أن مبائدنا تبدأ من بلال، وأنها تعلن صريحة من فوق المنابر، فلا عندنا أسرار، ولا شيء نتكتم عليه، ولا شيء نغطيه؛ فمبادئنا واضحة، تعرض صافيةً نقيةً، كصفاء الماء ونقاء الصحراء وكعرض الأرض والسماء، فمبادئنا كما قال بعض الكتبة: جمعية كبرى، أفرادها كل خير في الأرض، مبادئها تعلن من فوق المنابر والمنائر، فليس عندنا أسرار ولا كواليس نضع فيها أخبارنا، أو نغطي فيها أسرارنا، بل نحن واضحون تماماً، وهذا درس يعيه من يعيه.
الخامس: أن من أراد أن يهدي الناس لا بد أن يزرع في قلوبهم الحب، فإذا زرع الحب في قلوبهم، فليشرق بهم مع هذا الدين وليغرب بهم، فهم أحبابه السامعون له، ومن تصور أنه سوف يهدي الناس بالعصا، وسوف يردهم بالضرب والركل والشتم، فقد أخطأ سواء السبيل، وقد خسر منهجه، وقد ضل سعيه، وقد أفلت الناس من يديه، يقول تعالى مخاطباً نبيه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فالذي يستطيع أن يزرع الحب في قلوب الناس وفي أسماعهم وأبصارهم فقد نجح نجاحاً باهراً في جذبهم إلى الهداية، وهذا هو السر الأعظم في نجاح دعوته عليه الصلاة والسلام، وهو أنه جعل الناس كأبنائه بل أحب إليه من أبنائه، فأحبوه حباً تقطعت قلوبهم لحبه، وعاشوا بحبه الليل والنهار.
عباد الله: صلوا على الإمام، وترحموا على المؤذن، أسأل الله أن يجمعنا بهم في دار الكرامة.
اللهم اعرض صلاتنا وسلامنا على محمد هذه الساعة المباركة، اللهم بلغه منا أشرف السلام وأزكى التحيات، وعلى آله وصحبه والتابعين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم إلى ما تحبه وترضاه.
اللهم اهدنا سبل السلام.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه، اللهم اهد قلوبهم إلى الحق، اللهم فقههم في الكتاب والسنة، اللهم حبب إليهم العلماء والدعاة والصالحين، وبغض إليهم المردة والمرتدين والمنافقين والزنادقة.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك ولرفع رايتك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(113/11)
كرامات الأولياء
في هذه المادة تحدث الشيخ عن الذكر وفضائله، وحث عليه، وبين من هو الذاكر لله كثيراً، وما هي العلاقة بين ذكر الله ومقام الولاية، وذكر أمثلة على كرامات الأولياء من سلفنا الصالح الزاخر بالعباد والزهاد والأولياء.(114/1)
الذاكرون الله كثيراً
الحمد لله الذي شرح صدور أهل الإسلام للسنة فانقادت لاتباعها وارتاحت لسماعها، وأمات نفوس أهل الباطل بالبدعة بعد أن تمادت في ابتداعها، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اتصلت به أنوار الهدى بعد انقطاعها، وارتفعت به حصون التوحيد في سموها واتساعها، صلى الله على صاحب العز المنيف والطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، معلم الإنسانية، وهادي البشرية، ومزعزع كيان الوثنية، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، واعلموا أن أحلى ساعات العمر، وأسعد أيام الحياة، وأرغد دقائق العصر، معايشة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في أقواله، وأعماله، وأحواله.
من زار بابك لم تبرح جوارحه تروي أحاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرةٍ والكف عن صلة ٍ والقلب عن جابر والسمع عن حسن
وأي حياة يعيشها الذين يعيشون على غير ركبه صلى الله عليه وسلم، وأي لذة يجدونها الذين يتلذذون بمعصيته صلى الله عليه وسلم، وأي سمو وأي ارتفاع يناله الذين يتنكبون سيرته وهديه عليه الصلاة والسلام!
إن أعظم ما يقود المسلم في الحياة ويرغبه في مرضاة الله، هو ذاك الأسوة العظيم {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].
نسينا في ودادك كل غالٍ فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرفاً نلام ولا علينا
ولما نلقكم لكن ذكراً يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا(114/2)
الحث على ذكر الله
إن ذكر الله عز وجل في حياته صلى الله عليه وسلم جانب مشرق وكبير فياض، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: كان هديه صلى الله عليه وسلم في الذكر أنه كان ذاكراً لله دائماً، فكلامه وأنفاسه وأقواله وأحواله كلها كانت ذكراً منه لربه تبارك وتعالى، كان يذكر ربه قائماً وقاعداً وعلى جنبه، كان لا يتحرك إلا بذكر الله، ولا يسكن إلا بذكره، إن خطب فبذكر الله يخطب، وإن تحدث فبذكر الله يتحدث، وإن أفتى فبذكر الله يفتي؛ ولذلك كان متمثلاً لأمر الله تبارك وتعالى، يقول الله عز وجل: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205] فانظر كيف قال: (خيفة) في الذكر، وقال في الدعاء: (خُفية) يقول عز وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:55].
وقال الجهبذ النحرير شيخ الإسلام ابن تيمية: إنما ذكر الله الخوف مع الذكر، وذكر الإخفاء مع الدعاء، لأن الذكر يورث الانبساط والفرح، فربما أدى بالعبد إلى الطغيان في حد العبودية؛ فألزم الله الذاكر أن يخافه تبارك وتعالى، أما الدعاء فكان نعمة جليلة، فخوف الحسد على العبد من دعائه لربه، ألزمه الله بإخفاء دعائه بينه وبين مولاه، والله يقول: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وهذا مصداق الحديث الصحيح الثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {قال الله تبارك وتعالى: من ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم} وفي الأثر القدسي أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قال: {أنا جليس من ذكرني}.
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس
يقول الله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] قال أحد السلف: والله إني لأعلم متى يذكرني ربي، قالوا: متى؟ قال: إذا ذكرته، يقول: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وقال جلَّ من قائل: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] وذكر الله هنا قيل: القرآن، وقيل: مطلق الذكر، وهو الصحيح إن شاء الله، تطمئن القلوب من خوفها وفزعها وهلعها وجزعها وانهزاميتها وفشلها وحزنها ويأسها، ولا تطمئن القلوب إلا إلى الحي القيوم.
اسمه الله الذي تأله إليه القلوب وتأوي إليه، وتحبه وتسكن إليه تبارك وتعالى.(114/3)
من هو الذاكر لله كثيراً؟!
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] ولقد تفنن ابن الصلاح في بيان متى يسمى العبد ذاكراً؟ وما حد الكثرة في الذكر وما حد القلة؟
قال: "من حافظ على الأذكار الواردة المأثورة صباح مساء وأدبار الصلوات، وفي كل ميقات، فهو من الذاكرين الله كثيراً".
ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[الذاكر كثيراً من يذكر الله في قيامه وقعوده، وفي حله وترحاله، وفي صحته ومرضه]] ويرى ابن تيمية أن الذكر الكثير هو أن يرطب لسانك بذكر الله على حديث عبد الله بن بسر عند الترمذي، قال: {يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} والله يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191].
وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
ونادي إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذو النون ابن متى(114/4)
الذكر في الصلاة
يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] قال ابن تيمية: " هذه الآية أخطأ فيها جمٌ غفيرٌ من المفسرين، ومقصود الآية: أن للصلاة معنيين وفائدتين ومقصودين:
أولهما: أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
وثانيهما: أن الصلاة يقام فيها ذكر الله.
قال: وإقامة ذكر الله في الصلاة أعظم من نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر ".
وهذا معنى قوله تبارك وتعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45].
وفي ليلة بطيئة النجوم هادئة السحر باردة النسيم، عاشها ابن عباس رضي الله عنهما مع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يروي قصتها البخاري ومسلم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: {بت ليلة في بيت خالتي ميمونة -أي: بنت الحارث، زوج رسول الله عليه الصلاة والسلام- في ليلتها الذي يأتيها فيها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، قال: فدخلت بيتها بعد صلاة العشاء، فنمت في عرض الوسادة، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآني فظنني نائماً وأنا متناوم -شاب عمره (10) سنوات يريد أن يرى هدي الرسول عليه الصلاة والسلام في الليل، يريد أن يرى ماذا يفعل من الذكر والمناجاة والدعاء والإخبات- قال: فقال لـ ميمونة: نام الغليم؟ -وهو تصغير تحبيب- قالت: نعم، قال: فأتى صلى الله عليه وسلم فجلس على فراشه فهلل، وكبره، وذكره، ودعاه، ثم نام حتى سمعت -غطيطه وفي لفظ البخاري: خطيطه وهو صوت يحدث النائم إذا استغرق في النوم- قال: ثم استيقظ، وانظر إلى الغليم ما هدأت جفونه، وما داعبه الكرى، ولا ساهده المنام، استيقظ صلى الله عليه وسلم، قال: فأخذ يفرك النوم من عينيه، ويقول: لا إله إلا الله، ثم قال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران:190 - 191] الآيات، حتى ختم العشر الآيات من أواخر سورة آل عمران.
ثم قام عليه الصلاة والسلام فلحقه ابن عباس بماءٍ من شنٍ، فوضعه عند الباب، وعاد عليه الصلاة والسلام، فوجد الماء ولم يجد من وضعه، فتساءل في نفسه! من وضع لي الماء؟ ثم قال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، ثم أتى فتوضأ عليه الصلاة والسلام، وأخذ السواك واستقبل القبلة -وابن عباس هو الذي تشرف بحفظ الحديث هذه الليلة- فقال: فسمعته يقول:
اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، والجنة حق، والنار حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والنبيون حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت.
ثم قال -وهذا عند مسلم تفرد به-: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم} وهذا امتثال لقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} [الأعراف:205] ولقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:41 - 42] والله عز وجل طلب من رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسبحه بالغدو والآصال.
الغدو مع أنسام الفجر، ومع إطلالة الصباح، ومع برود هذا الفجر البهي على القلوب، ومع تفتح الأرواح، وإشراق الأفراح، وتغريد الحمام على الغصون، وانسياب الريح الهادئة، على المسلم أن يبدأ بذكر الله وتسبيحه.(114/5)
فضل الذكر
في صحيح البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت} إن الذي يذكر الله حيٌ، والذي لا يذكر الله ميتٌ، فتدبر أي حياة لهذا، وأي حياة لذاك.
وعند مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: {كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال لنا: سيروا هذا جمدان -وهو جبل بين مكة والمدينة - سبق المفرِّدون -وضبطها بعض أهل اللغة بالمفرِدون على التخفيف- قالوا: يا رسول الله، وما المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات}.
وفي صحيح مسلم عن أبي أيوب رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه، ولو كانت كزبد البحر} هذا حديث سنده كنجوم السماء، فانظر إلى قلة الجهد المبذول، وإلى عظيم الأجر الحاصل.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يومه مائة مرة: كتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له عدل عشر رقاب، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به يوم القيامة إلا رجل عمل بعمله، أو زاد عليه}.
وفي صحيح مسلم عن سعد وغيره، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس}.
وعند الترمذي بسند حسن: {من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة}.
وعند البخاري من حديث أبي موسى، قال: {كنا نصعد ثنية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يرفعون أصواتهم بالتكبير، فلحقني صلى الله عليه وسلم وأنا أقول في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال: يا عبد الله بن قيس -اسم أبي موسى - قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله، قال: أتدري أن لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وعند ابن حبان بسند صحيح، قال أبو ذر: {أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثمان، وذكر منها: وأن أكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها من كنوز الجنة}.
وفي سنن الترمذي -وقد سلف- من حديث عبد الله بن بسر، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: {يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فأخبرني عن شيء أتشبث به، قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد العاشر من الفتاوى يوم سأله أبو القاسم المغربي عن أفضل عمل بعد الفرائض يتقرب به إلى الله، قال رحمه الله: " لا أعلم بعد الفرائض أعظم من ذكر الله عز وجل ".
وهو شبه إجماع بين أهل العلم أن الذكر أفضل العمل بعد الفرائض، قال: ومدلول ذلك نظراً وخبراً وعقلاً وحالاً محشوشٌ، أو كما قال.
والذاكرون الله كثيراً من الصحابة والسلف جمٌ غفيرٌ، لا يأتي المقام على ذكرهم.(114/6)
قصة أبي مسلم الخولاني
ذكر ابن رجب في جامع العلوم والحكم: أن أبا مسلم الخولاني كان لا يفتر لسانه من ذكر الله، دخل على معاوية، وهو يتمتم بالذكر، فقال معاوية: أجنون هذا يا أبا مسلم؟ قال: بل حنون يا معاوية.
حنون إلى رضوان الله، حنون إلى عطاء الله، حنون إلى الاتصال بالله.
والذهبي يذكر عن أبي مسلم هذا الذاكر، أن له قصة عجيبة كادت تودي بحياته، لكن الله حفظه يوم أكثر من الذكر، يوم أكثر من الاتصال بالله، ذلك أن أبا مسلم دخل على الأسود العنسي الكذاب الدجال في اليمن الذي ادعى النبوة في صنعاء، فقال له الأسود: هل تشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: هل تشهد أني رسول الله؟ قال: لا أسمع شيئاً، فأعاد عليه الكلام، فأعاد عليه الجواب، فجمع له حطباً وأجّجه، فلما صارت ناراً عظيمةً ذات سعير، قال لجنوده: ألقوه في النار، فأخذوه بتلابيب ثيابه وأكتافه ومجامع جسمه، فلما حملوه في الهواء تذكر الواحد الأحد، تذكر الركن.
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
يا واهب الآمال أنت حفظتني ومنعتني
وعدى الظلوم عليَّ كي يجتاحني فنصرتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك منعتني
قال وهو في الجو: حسبي الله ونعم الوكيل، وهي كلمة إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار، وكلمة محمد صلى الله عليه وسلم لما قيل له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] فلمَّا وقع في النار، حولها الله برداً وسلاماً، وذلك في خلافة أبي بكر الصديق، وارتحل من اليمن واستقبله الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وعمر والصحابة، وقال عمر: [[مرحباًَ بالذي جعله الله في أمة محمد كالخليل إبراهيم عليه السلام]] وما ذلك إلا لكثرة اتصاله وذكره للواحد الأحد.
أيها الناس! أوصيكم ونفسي بكثرة الذكر، فإن فوائده جليلة أوصلها ابن القيم إلى ما يقارب الثمانين، وقال: لا يأتي الحصر عليها منها: طرد الشيطان، وإرضاء الرحمن، وإذهاب الوسواس، والرضا بمقدور الله، والاطمئنان إلى الله، والقضاء على الفراغ، والهم والغم والحزن، وجمع الجهد، والقوة، والنظرة، والمهابة، والحلاوة، والطلاوة، والملاحة التي يكسبها الله العبد، والأجور الحاصلة، وتكفير السيئات، ومن أعظمها أن يسكن القلب إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
أيها الناس! اذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم وفي بيوتكم، وفي طرقاتكم ومراكبكم وسياراتكم، وفي مكاتبكم، اتصلوا به سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فإنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى يصل من وصله، ويهدي من استهداه، ويرزق من استرزقه، توبوا إليه، وأنيبوا إليه، والجئوا إليه.
أسأل الله أن يجعلني وإياكم من الذاكرين الله كثيراً، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(114/7)
وسطية هذه الأمة
الحمد لله، الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:(114/8)
معنى (أمةً وسطاً)
يقول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] فما معنى الوسط؟ وما مدلولها؟ وما حدها ومقدارها؟
الجواب
الوسطية: مدار دلالتها عند أهل التفسير على ثلاث معانٍ:
قيل: العدول.
وقيل: الخيار.
وقيل: المتوسطون في أمورهم.
وكأن المعنى الأخير، وهو التوسط في الأمور هو المقصود، أو القريب من المقصود إن شاء الله، فنحن أمة وسط.
وسط في المعتقد، فلسنا بالأمة التي تلغي اعتقادها، ولا تؤمن بإله كأهل الإلحاد والوثنية، وأهل الفكر العفني المتخلف الذين كفروا بالإله، لا إله إلا هو {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65].
ولسنا بالأمة التي ضاهت أهل الحلول والاتحاد، فجعلت كل مطعوم ومشروب ومحبوب ومنكوح ومرغوب إله كما فعل ابن عربي في فتوحاته وفصوصه، وأتباعه قاتلهم الله أنى يؤفكون، بل نحن نشهد أن لا إله إلا الله، فلا إله إلا الله، ولا معبود إلا الله، ولا محبوب، ولا مرغوب، ولا مرهوب، ولا مطلوب إلا الله، فلا إله إلا هو، هو إلهنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فنحن في المعتقد وسط بين الفريقين وبين الواديين، ووسط في الفن والجمال.
فلسنا بالأمة البليدة الغبية، التي تتنكر للحب والجمال، والله جميل يحب الجمال، جمَّل الكون، وجمَّل المخلوقات، ولسنا بالأمة المفتونة التي ترقص على الجمال، وتعبد الجمال، وتسجد للجمال! إننا أمة تحب الجمال إذا سقاها هذا الحب إلى مرضاة الله تبارك وتعالى حب حلال مباح، يقوم مقدرات العبد في الحياة، ويرغبه فيما عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ونحن أمة وسط، وسط في التفكير، فلسنا بالأمة التي تعيش مع الخيال، فلسفية الفكر كـ سقراط وبقراط ومن سار في ركبهم.
ولسنا بالأمة التي لا تؤمن إلا بالمحسوس! فنحن أمة نفكر ولكن في نصوص، ونتدبر ولكن في قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمة تستقرئ وتستنبط، لكن في كلام وحي يوحى من الله تبارك وتعالى.
وأمة وسط في الزمن، فلسنا بالأمة التي تقدمت وأتت في أول مسيرة التاريخ، فكانت عرضة للتجارب الضحلة، عديمة الاستقراء، قليلة العلم! لا، ولسنا بالأمة الأخيرة التي كانت خاتمة للأمم، فلم يكن بعدها جيل يستفيد من ركبها، لكن توسطنا الزمان نستفيد من القديم ونبني عليه، ونبني للمستقبل ونعطيه ونبذل له.
العجيب والطريف أننا وسط في المكان، فما عشنا وراء المحيطين، ولا وراء القطبين، بل عشنا وسط الدنيا، ووسط الكرة الأرضية من أم القرى التي سماها الله في القرآن أُماً، والأم هي: المتوسطة للأشياء توزع الهداية للناس، ونحن في وسط الدنيا.(114/9)
نحن وسط بين المرجئة والخوارج
ونحن وسط في العمل والإيمان، فلسنا بـ المرجئة الذين أبطئوا العمل، وقالوا: الإيمان قول واعتقاد فحسب، فالمصلي والتارك مؤمنين سيان، وهذا خطأ، ولسنا بـ الخوارج الذين كفَّروا الناس بالذنوب، وأخرجوهم بالكبائر من دائرة الإسلام، بل نقول: من شهد أن لا إله إلا الله، وقام بمقتضاها، فهو مؤمن ولو ارتكب الكبائر، لكنه يجازى ويعاقب على هذه الكبائر، فنحن أمة الوسط.
ووسط كذلك في أمورنا، وفي عبادتنا، وسط بين الكسالى في العبادة، وبين المتشددين المتعمقين الذي شقوا على أنفسهم، نؤدي الفرائض ونتحبب إلى الله بالنوافل على قاعدة: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيكتم عن شيء فاجتنبوه} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
عباد الله: الوسط يدخل في تعامل العبد في علاقاته، وتحصيله، وقراءاته، وزيارته، وعيشه، ولباسه، وتناوله للأمور، وحديثه.
وهنا حديث لكنه ضعيف: {خير الأمور أواسطها} والخطابي يضبطها: أوساطها، هذا أو ذاك، فالوسط هو المطلوب.
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143].
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].(114/10)
سيرة الشيخ عائض القرني الذاتية
إن طلب العلم قضية كبرى، ومنزلة عالية، ورتبة بعيدة المنال لكل صاحب همة ضعيفة، فمن يريد أن يبلغ هذه المرتبة، وينال هذا الفضل العظيم، والشرف النبيل لابد أن يكابد ظمأ الهواجر ويسهر الليالي، ويصبر على التعلم، وعلى آلم الفقر، وهذا الدرس يتناول سيرة شيخ داعية إلى الله، وعالم ركب الصعاب، وصبر على العقبات في سبيل طلب العلم، فيها ترجمته ونشوءه على طاعة الله، وطلبه للعلم حتى صار شيخاً يشار إليه بالبنان، إنه الشيخ: عائض بن عبد الله القرني.(115/1)
ترجمة موجزة للشيخ عائض القرني
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم في الله: عائض بن عبد الله القرني من مواليد بـ القرن بالجنوب، عام (1379هـ) نشأت هناك في قرية ريفية حالمة، تقع على مشارف شفى تهامة، تحف بها من جنبتيها شجر العرعر، وهي عليلة النسيم، طيبة الأنداء، وارفة الظل، نشأت مع أطفال القرية، قليلة حضارتنا هناك، وقليلة معداتنا وأدواتنا، ولكنَّا نشأنا على كل حال -والحمد لله- في التزام لا بأس به، مع والدين وأناس يصلون، ويصومون، ويذكرون الله كثيراً، وأهل القرية يتعاودون المسجد كل يوم خمس مرات، وعندهم خير كثير، وهم على الفطرة ولو أنهم يحتاجون إلى علم شرعي كثير.
رعيت الغنم، وضاعت مني غنيمات، وكم بكت عيني من ضياع الغنم لا من خشية الله، وأنا أستغفر الله عز وجل من تقصيري، ولكن مهما يكن فالعظماء قد رعوا الغنم، فكيف بالمقصرين من أمثالنا؟!(115/2)
بداية دراسة الشيخ عائض
درست في مدرسة آل سليمان الابتدائية، وبدأنا من الصف الأول، وكنا نتلقى ضربات بالعصي لو ضرب بها بعض الحمير لمرض! ولكن هكذا جعلوا من العلم شدة وقسوة، وجعلوا من العصي طريقاً إلى التفهيم، وهذا خلاف ما كان ينهجه عليه الصلاة والسلام.
وإني بالمناسبة أوجه درساً لأساتذة الابتدائية وما يقاربها أن يتقوا الله في هؤلاء الطلاب، وأن يعلموا أن العصي لا تُعلِّم وإنما تهذب، فمهمتها أن تكون مهذبة ومربية ومعزرة، لا أنها مفهمة ومدرسة ومعلمة، وانتقلنا في مدرسة ابتدائية إلى مراحل وأكثر ما استفدت تعليم الخط والإملاء، وفي الأولى: درس وزرع ووزن.
وفي الرابعة: طه والطبلة، كان لطه طبلة يضرب عليها ووددنا أنهم جعلوا بدل الطبلة {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} [طه:1 - 4] وحفظت أناشيد كثيرة، ولكنها ضاعت؛ لأنها في الحقيقة هزيلة، لم تكن تؤدي الغرض المقصود، ولم تكن مستعدة لأن تعيش معنا كثيراً.
والعجيب أنني كنت آخذ في أولى في الترتيب الرقم (20) وفي الفصل (80) طالباً، فلما أتيت في الثانية أخذت المرتبة الـ (15) وفي الثالثة -أظن- الـ (8) أو ما يقاربها، وفي الرابعة إلى الخامس، فلما وصلت السادسة أصبحت أزاحم على الأول، فما أدري ما هذا الذكاء الذي أتى فجأةً والحمد لله رب العالمين.(115/3)
بداية طلب الشيخ عائض للعلم
انتقلت إلى معهد الرياض مع قرابة وأعمام لي، وسكنت هناك، وارتحت في المعهد كثيراً في الصف الأول والثاني والثالث، إذ درست المتوسطة هناك مع رفقة طيبة، وأذكر من زملائي -بعض الأخيار- منهم الشيخ: عبد الرحمن السديس إمام الحرم، والشيخ: عبد العزيز الدخيل وهو داعية موفق، وكذلك الشيخ: عائض فدغوش الحارثي وهو داعية في الحرس الوطني، وكثير من الأحبة والإخوة، ومنهم الشيخ: علي المقحم داعية كذلك وموفق.
وإنما كنت -والحمد لله- مرتاحاً لأسلوب التدريس في المعهد، وللفوائد التي نتلقاها، ولكثافة العلم الشرعي الذي نستفيده كل يوم، ولجودة الأساتذة، ولو أنا لا نخلو بعض الأيام من بعض الضربات، خاصة من أستاذ الرياضيات سامحه الله عز وجل على ما قدمه لنا من ضرب شائق وشائك في مادة الجبر التي هي أعقد من الحديد إذا اختلط بعضه ببعض.
ثم ذهبت إلى أبها في الثانوية ودرست هنا، وأول من لقيته من الأساتذة الشيخ الداعية إبراهيم سير -حفظه الله- فكان له أعظم الأثر في توجيهي إلى طلب العلم، وإلى الاستزادة من المعرفة، وإلى إلقاء الكلمات والمواعظ، وقد كتب لي كلمةً أول ما وصلت إلى أبها، وقال: ألقها على الطلاب، وأنا لا أزال أذكر بعض هذه الكلمة، أحفظها؛ لأنه كتبها بيده وهي كلمة بليغة جداً، يقول في أثناء هذه الكلمة: أين يسير شباب هذه الأمة؟
ما هو هدفهم؟
ما هي غايتهم؟
أي حياة يعيشونها؟
وأخيراً: من المسئول عنهم؟
تساؤلات كثيرة إلى آخر ما قال، فقرأت الكلمة على الطلبة وأعجب الطلبة، ثم بدأت ألقي بعض الكلمات في الأندية، وكنت أظن أن العلم الموجود في الساحة هو علم أدب وشعر، وأنه لم يكن هناك علماء إلا أبو تمام والمتنبي والبحتري وامرؤ القيس وأحمد شوقي!
ولكن الشيخ عبد الله الأفغاني الداعية الموفق والأستاذ العجيب، والقرآني الفريد، أتى وأخذني، وقال: إني أرى فيك ذكاءً، ولكن أرى أن تميل إلى علم الحديث؛ لأنه العلم الذي ينفعك ويقودك ويهديك -إن شاء الله- إلى سواء الصراط المستقيم وكلام مثل هذا، فأخذت أطالع في صحيح البخاري فرأيت في أول السند: حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان، وأنا متعود على خفة المعلومات وعلى قلتها عن طريق الأدب، فقلت: متى أصل إلى الفائدة بهذه الطرق؟ ولكن الله فتح، فأخذت مختصرات الحديث وراجعتها، وأذكر أنني راجعت مختصر البخاري للزبيدي ست أو سبع مرات، ثم أخذت صحيح البخاري، فقرأته بالسند ما يقارب ثلاث مرات، ثم رجعت إلى الفتح فقرأته ما يقارب مرة، وبعض المواضع فيه من باب التحدث بنعمة الله قرأتها إلى ما يقارب عشر مرات، إلى اثني عشر مرة، إلى إحدى عشر مرة، أما بلوغ المرام فأعرف أنني ألزمت نفسي أن أكرره فكررته أكثر من ثنتين وخمسين مرة، ولو أني حفظت بعضه لكن بعضه أستذكره استذكاراً لا حفظاً.(115/4)
قراءة الشيخ عائض للكتب
ثم تفضل الله عز وجل عليَّ بمكتبة كانت رائدة، وكانت الكتب المشهورة موجودة، فطالعت الأمهات الست مروراً، ثم عدت إلى جامع الأصول فقرأته ما يقارب مرتين، والثالثة وقفت في المجلد الرابع، ثم قرأت العقد الفريد مرتين، والبداية والنهاية ما يقارب مرتين والثالثة إلى أول الثامن، ثم البيان والتبيين للجاحظ، وعيون الأخبار كذلك، وفي ظلال القرآن مررت به وفتح الباري كما ذكرت، والمغني أخذت منه ما يقارب ثمان مجلدات، أما التفسير فطالعت ابن كثير وبعض المجلدات من ابن جرير، وطالعت المحلى -والحمد لله- ثم في المجموع ما يقارب مجلدين، ومن الثالث ما يقارب خمسين صفحة، والرازي طالعت من تفسيره بعض المجلدات، ونظرت في الخازن ولم أكثر منه، وأما الكشاف فأكثرت في مواضع منه وكررته كثيراً؛ لأنني أعجبتني عبارته في الأدب والبلاغة، وأكثرت -حقيقة- من مطالعة الشعر والأدب، فكان عندي أكثر من اثنين وعشرين ديواناً، وبالخصوص ديوان المتنبي، ومختارات الأدب للبارودي، وطالعت منها بعض القصائد أو حفظتها على كل حال.
وأما في جانب الحديث، فكانت هي مادتي المرغوبة وهي المقدمة والمفضلة جداً، فكنت أطالع المختصرات وأكررها، وأطالع شروح الأحاديث، وأخذت على نفسي أني إذا أخذت من المختصرات أن أكرره ولو ثلاث أو أربع مرات حتى يرسخ، كـ رياض الصالحين وبلوغ المرام كما تقدم، ومختصر مسلم للمنذري ومختصر البخاري للزبيدي والمنتخب من الصحيحين للنبهاني وجامع الأصول كما تقدم، ومشكاة المصابيح للتبريزي إلى غيرها من الكتب والرسائل، فكان وقت القراءة سعيداً، ومن باب ذكر التحدث بنعمة الله عز وجل طالعت سير أعلام النبلاء للذهبي ثلاث مرات، ونظرت في كثير من كتبه كـ ميزان الاعتدال وكررت بعض المواطن فيه، وكان إذا أعجبتني بعض الأبيات دونتها أو أعجبتني أحاديث أو طرف جعلته في الحواشي أو في مسودات صغيرة؛ لأكررها عند الطلب أو أحفظها، وكان الوقت عامراً بالقراءة، ولو مُنِّيت أو خيرت أن أجلس مع أي أحد ما اخترت إلا الكتاب كما قال المتنبي:
أعز مكان في الدنا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب
وفي العطلة الصيفية كنت أسكن في القرية، فكانت قليلة المشاغل لا هاتف ولا سيارات متحركة ولا أسواق ولا فتن ولا أمور تستدعي الشغل، فكنت أجلس بعد صلاة الفجر وأطالع إلى الثامنة ثم أنام ما يقارب ساعة، وأطالع إلى الظهر -والحمد لله- ثم بعد الظهر كذلك ثم أنام قبل العصر، ثم أطالع من العصر إلى المغرب، وقد جعلت في البرنامج أن يكون الصباح دائماً في القرآن والتفسير، وأمَّا بَعْد نومة الصباح إلى الظهر ففي الحديث غالباً، وأما في الظهر فللتاريخ وأغلب ما أقرأ فيه، وأما العصر ففي الفقهيات وبعض ما كتب من مؤلفات حديثة، وأما في المغرب فأدب، وبعد العشاء كنت أطالع في كتب الجاحظ أو لـ ابن قتيبة أو ما يقارب ذلك.(115/5)
شخصيات من العلماء قرأ لهم الشيخ عائض
أكثر شخصية قرأت لها فيما أعلم ابن تيمية، وقد قرأت في الفتاوى والحمد لله، وكررت منه بعض المجلدات ثلاث أو أربع مرات، وبعض المجلدات ما قرأته إلا مرة، وأظن أني ما فهمته إلى الآن، ودرء تعارض العقل والنقل حاولت فيه محاولات ولكنها باءت بالفشل، خاصة أول المجلد الثاني ثم أعود، فكررت في الأول كثيراً، ولكن كان قليل النفوذ إلى بعض معلوماته وكنائزه، لأنه ألفه ليرد على بعض فئات من المسلمين ويناقشهم كطوائف أهل الكلام، وعلم المنطق وهذا في الصعوبة بمكان.
وابن القيم تعجبني كتبه، ولكن العجيب كتب ابن تيمية، وأنا أنصح بها كثيراً، وأتمنى من إخواني أن يطالعوها بإسهاب، وأن يصبروا على المطالعة فإنها هي العلم، وتبين لي أن المطالعة هي ركيزة بعد فتح الله عز وجل وتوفيقه أكثر من الدروس المقررة والمواد، وتبين لي أن هذه الدروس والمواد والكليات والمعاهد والثانويات إنما هي مفاتيح فحسب، ومن اقتصر عليها فلا يكون معه إلا علم قليل بإمكانه أن ينفع به الناس، أما أن يكون متوسعاً عارفاً عنده معلومات ونصوص، وإدراكات وثقافات عامة، وعنده استنباط وجودة قريحة، فلا بد أن يطالع مطالعة هائلة، وهذا معلوم بالاستقراء من سيرة العلماء فإنه بإذن الله -بعد فتح الله- لم يكن لهم إلا المطالعة.(115/6)
التحاق الشيخ عائض بالكلية وتخرجه منها
وصلت إلى كلية أصول الدين، وارتحت مع إخوة وأساتذة ومشايخ فيهم خير كثير، وكان من الشخصيات المحببة إلى قلبي عميد كلية الشريعة وأصول الدين الدكتور: عبد الله المصلح وكثير من الفضلاء معه ممن أثروا في منهجي التعليمي، وفي تشجيعي على الدعوة، وعلى مشاركة الإخوة في الكلية، وكنت في النشاط الخطابي والثقافي لا بأس بذلك.
أما المخيمات فقد حضرت ما يقارب سبعة مخيمات للإخوة، وكان يغلب عليَّ طابع المزح والهزل في الأرجوزات وحفل السمر، حتى إن بعض الإخوة خفت عليهم أن ينفجروا من كثرة الضحك، وبعضهم كان يترنح برجله، وبعضهم دمعت عيناه على لحيته من كثرة ما ضحك، وقالوا: سوف تأخذ فينا ذنباً، ولا أزال أحفظ بعض هذه المقطوعات وهي مسجلة عند بعض الإخوة في أشرطة قديمة.
ثم أعان الله عز وجل بعد التخرج على دراسة السنة التمهيدية في الرياض إلى الدراسات العليا، وكان من الأساتذة الشيخ: أحمد معبد، والشيخ الدكتور: الذيب الصالح، والشيخ: عبد الفتاح أبو غدة، والشيخ: عبد الوهاب البحيري إلى غيرهم من العلماء الذين استفدنا -حقيقة- منهم فائدة طيبة.
ثم عدت إلى أبها، وحضرت الماجستير في البدعة وأثرها في الدراية والرواية، وقد حصلت عليه -والحمد لله- وأنا أعمل اليوم محاضراً في أصول الدين، وإمام وخطيب جامع أبي بكر الصديق، وأنا أتحرى من الله أن يغفر ذنبي وذنب كل مسلم، وأن يزيدنا من عنده، وأن يغفر لنا تقصيرنا وخطايانا وزللنا.(115/7)
بداية التزام الشيخ عائض
السؤال
تمر على الشاب فترات يتقلب فيها بين الصلاح وغيره، فمتى كانت بداية التزامك ومن أثَّر عليك؟
الجواب
الذي أعرفه من نفسي أنني عادي في أموري، عادي في الذكاء والالتزام، وعادي في الحماس وفي التوجه، ولكن مجتمع القرية -على كل حال- أسلم بكثير من مجتمع المدن قبل سنوات لا توجد امرأة فيما أعلم متبذلة مع أن الحجاب عندهم كان هو هذا الحجاب الذي هو رأي لبعض أهل العلم ألا يغطى الوجه، لكن الآن أصبح يغطى الوجه والكفان، فلم تكن امرأة متبذلة مع أنَّ عند بعض النساء قلة دين؛ لكن هناك مروءة، ونخوة قبلية، وأنفة، وكذلك لم يكن هناك مغريات وأجهزة إعلام تنساب بهذا الركام وهذا الزيف، ولم يكن هناك صور خليعة، ولا جلسات البلوت ولا الباصرة، ولا مقاهي تستضيف حملة السيجارات ولا الأغاني، إنما كان عندنا المسجد والبيت والمزرعة، فكنا بين هذه الثلاثة وربما اجتمعنا مع أهل القرية في جلسة سمر أو جلسة في العصر يتذاكرون ما لذ من الأخبار وأخبار الآباء والأجداد، وما جرى بين القبائل وقصائد وأشعار وأسمار ومن هذا القبيل.
فبدأت على هذا المنوال، ولكني لما وصلت إلى الرياض تأثرت ببعض الإخوة وببعض الأساتذة، وأكثر ما أظن أنه أثر في مساري كثرة القراءة في كتب السلف وخاصة تراجم السلف الصالح يوم طالعت تراجم الصحابة مثل: كتاب رجال حول الرسول لـ خالد محمد خالد، وأنا يعجبني هذا الكتاب ولي عليه ملاحظتان:
في ترجمة أبي ذر ملاحظة، وفي عدم توثيق النصوص أخرى، لكن أسلوبه عجيب وأخاذ، وقد أثر فيَّ تأثيراً بالغاً حتى كأني أعيش مع الصحابة، ولا بأس أن يطالع ويستفاد منه لأسلوبه العظيم ولطرحه العجيب، وكذلك بعض التراجم، فأظن أن من ما أثر فيَّ التراجم، ثم ولعت وبصراحة بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا شرف لي، وطالعت في كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم لـ سعيد حوى ولي عليه ملاحظات، وقد استفدت منه كثيراً، ثم طالعت السيرة لـ ابن هشام، وأحسن ما أعجبني في هذا الباب زاد المعاد لـ ابن القيم، فإنه من أحسن ما دبجت يد مسلم، فغفر الله لذاك الإمام العظيم، وأنا أنصح بهذا الكتاب.
وعلى كل حال؛ فسيرته صلى الله عليه وسلم وافية حتى كنت أفرح -والله- إذا ذكر في المجلس، وإذا ذكره بعض المشايخ، وقد كنت أصلي في الرياض وأنا في السنة التمهيدية وأنا مع الشيخ: محمد الراوي فكان إذا ذكر شيئاً من السير لا أملك دموعي وأنا جالس بين المصلين، خاصة إذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، وعظمته، وزعامته، وإصلاحه في العالم ونوره، وإشراقه، وتعجبني لفتات سيد قطب إذا ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام في الظلال أيما عجب! لأنه يعرضها بأسلوب عصري بديع، ثم يعطي الرسول صلى الله عليه وسلم بحرارة، وبشوق، وبلوعة، هذا مما أظن أنه في بداية الالتزام، وأنا أسأل الله أن يزيدني وإخوني التزاماً وتوفيقاً وهداية ورشداً، وأن يثبتنا حتى نلقاه.(115/8)
حفظ الشيخ عائض للقرآن وما حفظ من السنة
السؤال
كما تعلم أن القرآن والسنة زاد الداعية، فكم تحفظ من القرآن؟ وهل تحفظ كتاباً في السنة؟ وكم كررته؟
الجواب
بدأت في المهد أحفظ في القرآن، وقد حفظت في المهد ما يقارب من ثمانية أجزاء، ولما عدت إلى الكلية، قلت: لا بد من حفظه جميعاً، فمن بداية أولى أصول الدين بدأت في حفظه حتى انتهيت إلى الثالثة في نهاية حفظه، ولكني أقول: أنا لا أحفظ القرآن جميعاً حفظاً ترضى به النفس، ويطمئن إليه القلب، لأن الحافظ هو الذي يقرأ من أي مقطع في أي وقت كان ويستذكر، أما أنا فالمقطع الذي أريد أن أصلي به في الناس لا بد أن أكرره قبل الصلاة في الغالب، فقد حفظت القرآن؛ ولكني أحتاج إلى مراجعته، وأحتاج إلى أن أعود إليه وأن أثبته؛ لأني شغلت عنه وإن كان لي ورد يومي ولكنه لا يكفي؛ فإن المشاغل كثيرة، وبعض الطلبات، والمحاضرات، والجلوس مع الأحبة، وأشغال الدنيا تلهي عنه، فعندي منه خير، والذي يهمني كثيراً في القرآن أن أعمل به، وأطبق تعاليمه، وأن أعيشه في حياتي وسلوكي.
وأما الحديث؛ فالحمد لله يعلق بذهني شيء كثير، ولو أني ما تعمدت حفظ كتاب بعينه، حاولت في الجمع بين الصحيحين واللؤلؤ والمرجان مرة، ولكن ما اصطبرت على ذلك، ولكن -والحمد لله- يعلق بالذهن كثيراً من كثرة ما أراجع وكثرة ما أُحَضِّر؛ لأني ألزمت نفسي بدرس كل صباح -من قريب- مع بعض الإخوة في شرح المسند، فهذا ينفع كثيراً في تذكر الأحاديث، والتدريس في الكلية كله في متون الأحاديث، والمحاضرات لا بد أن يعاد إلى الأحاديث قبل إلقائها قبلها، وكثرة القراءة في الحديث، ولذلك يعلق بالذهن كثير ولله الحمد والمنة.(115/9)
بداية تأليفه الشعر وأول قصيدة قالها
السؤال
عرفك الناس شاعراً، فيا ترى كيف كانت بدايتك في الشعر؟ وما هي أول قصيدة قلتها وهل تذكر منها شيئاً؟
الجواب
الحمد لله، أنا أقول الشعر، والشعر قد يكون نعمة أو نقمة، نعمة: إذا قُصِدَ به طاعة الله وكان في مرضاته سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ونقمة: إذا كان مجوناً وسخفاً وعبثاً ولعباً -والعياذ بالله- وإذا كان زندقة فهذا كفر.
فأنا أقول الشعر وأهواه وأحبه كثيراً، وأحفظ فيه من أجمل المقطوعات، وأنا أعزم مع بعض الأحبة -إن شاء الله- جمع بعض الأشرطة والكتيبات اسمها من أعذب الشعر، أو الأدب الذي نريده، ليكون عوضاً عن هذه السخافات والركام الذي في الساحة التي رزحت به، ركام يعرض وركام يستمع إليه وركام يطالع، يقول أحدهم في قصيدة حداثية:
أنا ذبابة ليمون أطير من شجرة إلى شجرة
قلنا: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم لا تضلنا بعد إذ هديتنا، اللهم لا تزغ قلوبنا.
والآخر نبطي يقول:
يا ونتي الونيت يوم صليت ونت وطارت وراء حمامة
قلت: أين هذا؟ وأين هذه المدلولات من أبيات الشعراء ومقطوعاتهم التي رأيناها في كتبهم ودواوينهم التي تستحق الإجلال؟ فليتها تفضى على الناس، وليتها تفرغ لتعيها القلوب، ويحفظها الخطباء، ويتهدرون بها على المنابر، وتذكر في الجلسات، ويحفظها الشباب في المخيمات لكانت لهم بعد القرآن والسنة زاداً.
وعلى كل حال؛ فإن لكل بداية نهاية فإن العبرة بتمام النهايات لا بنقص البدايات، بدأت في معهد الرياض في أولى متوسط وثاني متوسط ببعض القصائد، وفي ثاني متوسط أذكر أنه جاءنا معهد لعله معهد الجوف زيارة، فكلفوني بنظم قصيدة، فنظمت قصيدة فجعلتها مثل فهرس، توفي الأمير فيصل رحمه الله في تلك الفترة فرثيته في القصيدة، ورحبت بمعهد الجوف، وأثنيت على معهد الرياض، ودعوت الشباب إلى الالتزام، وذكرت العلم والعلماء، فكانت شبه فهرس، وهي ضعيفة البنية سقيمة المعاني، لكن أوهمني الأساتذة في معهد الرياض أني متنبي العصر!! فظننت أنني كما قالوا، وهم يريدون تشجيعي فمنها.
لك يا معهدي الأجل سلامي عامر الود والتحايا أمامي
جئتك اليوم نافضاً عن إهابي أسأل الجهل والأماني أمامي
فكان أهم شيء أن تختم بالميم، وأما المعاني فيضحك منها عجائز نيسابور!(115/10)
أول موعظة ألقاها الشيخ عائض
السؤال
هل تذكر أول موعظة قلتها وفي أي مسجد كانت؟
الجواب
أول موعظة فيما أذكر في مسجد في حي المرقب في الرياض، وكان معي في النشاط الشيخ: صالح السحيباني، وهذه الموعظة في وفاته عليه الصلاة والسلام، واكتشفت فيما بعد أن الموعظة مكذوبة وموضوعة وليست بصحيحة، قرأتها من كتاب مكذوب، فقمت أمام الناس بعد صلاة المغرب فقبضت المكرفون وأخذت أتحدث، وأخذت أرجلي ترتعش بجانب الإمام؛ لأنها أول مرة، والمسجد كبير، والمصلون مزدحمون، فكنت أتكلم وأنظر في السقف وما نظرت إلى مصلِّ حتى انتهيت من شدة الخوف والوجل، وكانت أي كلمة تخرج من لساني أخرجها بحول الله، فأتيت إلى قصة عكاشة أو عكَّاشة -واللفظان صحيحان- فأتيت بها فاضطربت مرةً أقول: عكاشة، ومرة بلال، ومرة معاوية؛ فأصبح الناس في حيص بيص ما يدرون بماذا يخرجون؟ لكن كنت أتعمد رفع صوتي؛ لأنني ظننت أن الموعظة هي الصوت، حتى انتهيت وأنا وجل خائف خوفاً لا يعلمه إلا الله عز وجل، والعرق يتصبب، وما أدري ماذا قال الناس؟ لأنني ما التفت إلى أحد، ثم خرجت من الباب الجانبي للمسجد.(115/11)
المواقف المحرجة
السؤال
يمر على الإنسان مواقف محرجة، فهل تتذكر موقفاً من تلك المواقف؟
الجواب
أذكر موقفاً محرجاً واحداً كنت في مخيم جامعة الإمام في حجلى أول مخيم تربوي، وكان كبيراً، وحضره كثير من طلبة العلم والمشايخ والأساتذة، منهم الشيخ: علي جابر إمام الحرم، وكان هو في أسرته أسرة محمد الفاتح، فكلفوني أن أقول قصيدة في الحفل الكبير، فجهزت قصيدةً ونظمتها وصححتها، ولكن لما جلسنا في الخيمة قبل الحفل طلب مني أحد الإخوة محمد حجر من الطوال ومن جهة سامطة أن ينظر في القصيدة؛ فأعطيته القصيدة لينظر فيها ونسيتها معه، فنزل عند أمه في خميس مشيط قبل الحفل، وظننت أنها في جيب البنطلون؛ لأنا كنا في لباس كشافي رياضي، فلما أتى الحفل، وأتت الشخصيات ووجهاء المنطقة، وبدئ بالحفل، وكنت أنتظر فقرتي، فنودي بي على رءوس الأشهاد أن ألقي قصيدتي، فقمت فلما أصبحت أمام المكرفون، وقدمت للقصيدة، وأخبرت بالدافع لي على هذه القصيدة وما هي نواياي، فتحت الزرار لآخذ القصيدة، فإذا الجيب فارغ، حاولت في الجيب الثاني فتذكرت في الحال أن الأخ نزل بها، فقلت المعذرة يا جماعة الخير! نزل الأخ محمد حجر -ببساطة أريد أضحكهم- نزل بقصيدتي في الخميس، وإن شاء الله سوف يعود بها الليلة، لأنه سار يسلم على أمه بالسيارة، فارتج الحفل بالضحك!! وخرجت والعرق يتصبب مني، ثم تمددت داخل الخيمة، وقلت: حسبنا الله ونعم الوكيل.(115/12)
إمامته لبعض المساجد
السؤال
يرى في الساحة عزوف كثير من الشباب عن إمامة المساجد، فكم مسجد أممت وفي أي مكان تقع؟
الجواب
لما أتيت إلى أبها في المعهد العلمي كنت في مسجد صغير في شمسان أصلي فيه إماماً -أحياناً- ثم في مسجد آخر بجانبه، وكنت أقرأ عليهم في كتاب بعد صلاة الفجر، ثم ذهبت إلى مسجد محمد بن عبد الوهاب الذي بناه التاجر محمد بن عبد الوهاب قابل، فصليت به فترة أظنها سنتين أو ثلاثاً، ونفعتني تلك الفترة؛ لأني كنت أكتب الخطب وأعود إليها، وأهتم بها كثيراً لما أرى من إقبال طلبة العلم، فكنت أهتم بالخطب، وربما حفظت بعض المقاطع منها ارتجالاً، ثم ذهبت إلى الرياض وعدت، فعينت إماماً في جامع أبي بكر الصديق ولا أزال إماماً فيه إلى الآن والله الموفق والمعين.(115/13)
قصائد الشيخ عائض وأفضل أشرطته
السؤال
حبذا فضيلة الشيخ لو تذكر للأخ المستمع أفضل ثلاث قصائد قلتها، وكذلك من الأشرطة ثلاثة من التي تنصح بها كل مسلم؟
الجواب
أما ثلاث قصائد مما قلتها فمنها مقطوعة في الرسول عليه الصلاة والسلام، قلت فيها:
صوت من الغور أم نور من الغار أم رمضة الفكر أم تاريخ أسراري
يا عيد عمري ويا فجري ويا أملي ويا محبة أوطار وأعماري
تطوي الدياجير مثل الفجر في ألق تروي الفيافي كمثل السلسل الجاري
البدر والشمس في كفيك لو نزلت ما أطفأت فيك ضوء النور والنار
أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة يذوب في ساحها مليون جبارِ
فما لقومي بلا وعي قد انتكسوا أصغوا لصيحات عربيد وخمار
شادوا الدنانير هالات مزخرفة جماعها لا يساوي ربع دينار
يبيع ذمته المأفون في وثن والدين ينهار منه في شفا هار
لو بيع في السوق ما حازوا له ثمناً ولو شروه لكان الغبن للشاري
جمع الطوابع من أسمى هوايته ذو همة بين خباز ونجار
إلى آخرها، وقصيدة الذرية في أبي ذر منها:
دمعة الزهد فوق خدك خرسا ووجيب الفؤاد يحدث جرسا
أنت من أنت يا محب وماذا في حناياك هل تحملت مسَّا
إلى آخر القصيدة وهي موجودة في ديوان لحن الخلود وديوان واإسلاماه، ومنها قصيدة للمجاهدين الأفغان منها:
مروا بقلبي فقد أصغى لي البان لي في حمى الحب أصحاب وجيران
نعم لك الله ما قتلت من وله أما لكم صاحبي صبر وسلوان
إلى آخر القصيدة، وقصيدة في سماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز منها:
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي
إلى آخر القصيدة وبعض القصائد الأخرى.
أما الأشرطة التي أرى أنها مفيدة وهي من أشرطتي لعل الله أن ينفع بها، ويجعل العمل خالصاً لوجهه الكريم فشريط (احفظ الله يحفظك، ورسالة إلى المغنين والمغنيات، وقتل المجرمين عدالة، وصفات المرأة المسلمة، ورسالة إلى مسئول، وأسباب انشراح الصدر).(115/14)
مقومات الخطابة عند الشيخ عائض
السؤال
ما هي مقومات الخطابة في نظرك يا شيخ؟
الجواب
من أحسن الكتب التي كتبت في هذا الفن: كتاب لـ أبي زهرة اسمه: الخطابة، ولكن من مقومات الخطابة فيما أرى:
أولاً: الإخلاص لله عز وجل، وأن يقصد بعمله وجه الله في كل عمل يعمله.
ثانياً: أن يكون صاحب جرأة -أي: شجاع القلب- مستعد أنه يواجه الجماهير، لا يهاب، ويكون عنده رباطة جأش؛ لأن الموقف صعب، شيب رءوس كثير من العظماء، حتى يقول عبد الملك بن مروان لما قال له أبناؤه: نراك شبت، قال: من صعود المنابر كل يوم جمعة أعرض عقلي على الناس.
ثالثاً: أن يكون عنده تدرج، بأن يبدأ بالمساجد الصغيرة، وبالمجمعات الصغيرة والقرى والأرياف، ثم يتهيأ لخوض المدن وحضور الجماهير في المدن الحاشدة.
رابعاً: أن يكون عنده علم، وأن يكون كثير الاطلاع، لأن الكلمات تسعفه، فتسعفه الأبيات، والآيات، والأحاديث، والقصص، والمواقف، والنكت والطرائف، فيكون عنده مادة؛ لأن الذي عنده جرأة وليس عنده مادة كالرجل عنده شجاعة ولكن ليس لديه سيف، فلا بد من مادة.
خامساً: أن يتهيأ قبل الخطبة، كما قال عمر -لما حضر سقيفة بني ساعدة رضوان الله عليهم-: [[زورت كلاماً]] أي: هيأت كلاماً، فيعرف ما هو الموضوع الذي سوف يتكلم فيه، وماذا سوف يقول، ويحفظ الآيات والقصص ويرتبها في ذهنه ويعنصرها في ذاكرته ثم يتكلم، وإذا كتب فعليه أن يعتني بحسن الأسلوب وجمال العبارة، وأن يكرر المكتوب، وألا تقيده الورقة عن الناس.
ثم أوصي الخطباء ألا يطيلوا على الناس، وأوصيهم أن يعيشوا الواقع، وأن يزودوا خطبهم بالآيات والأحاديث الصحيحة.
وأوصيهم أن يجملوا العبارة بالأسلوب الطيب الرائق، لأن أهل الباطل غلبونا بأساليبهم، فلا بد أن نعرض الخطابة في ثوب جميل يقبله الناس، وأوصيهم كذلك أن يعملوا بما يقولون: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].(115/15)
دواوين وكتب ألفها الشيخ عائض
السؤال
اذكر لنا بعض الدواوين والكتب التي ألفتها، وما هو آخر كتاب سينزل في السوق؟
الجواب
أما الدواوين فمنها: ديوان لحن الخلود وديوان واإسلاماه، وديوان نسمات من الجنوب، وديوان هدايا وتحايا).
ومنها كتاب: (شباب عادوا إلى الله، وكتاب الحركات الإسلامية المعاصرة، وكتاب أمريكا التي رأيت، وكتاب همسة في سحر ونسمة في سمر، وكتاب سيرة الأبطال) وهي مطبوعة جميعاً وسوف يصدر قريباً -إن شاء الله- ضوابط الصحوة الإسلامية، وكتاب كيف تطلب العلم، وكتاب الغزالي في ميزان الاعتدال، وكتاب دروس للصائمين وسوف يصدر -إن شاء الله- رسالة وهي البدعة وأثرها في الدراية والرواية، وشجو الحمام في أدب السلام وغيرها من الكتيبات، والله المعين.(115/16)
سبب تأليفه في الإيمانيات وترك الأحكام
السؤال
فضيلة الشيخ: لماذا لا تؤلف في الأحكام؟
الجواب
أنا أحب الأحكام وأعتني بها، بل أدرِّسها كثيراً وأكثر ما أدرِّس الأحكام، حتى لا أدرس في المصطلح ولا في أي مادة أخرى، لكن الأحكام لأني محتاج إليها في علم الفتيا؛ ولاحتياج الناس والعامة ومن يجلس معه الداعية فأفرؤها، لكن التأليف قد رأيت كثيراً ممن أغدقوا في الساحة وكفوا هذا الجانب، وتكلموا كثيراً في البرامج، مثل: الإذاعة، والأشرطة، والكتيبات، والرسائل، والكتب، فرأيت أنه ينقصنا كثيراً في الإيمانيات ورد الناس إلى الإيمان ليتلقوا الأحكام، فالأحكام بلا إيمان لا يتقبلها الناس، وقد يفهمها حتى المعرض، لكن أريد أن يصل الإيمان وأن يربى الناس على الإيمان حتى يتلقوا الأحكام، ولا ينقصنا جانب الأحكام؛ لكن ينقصنا الإيمان كيف نرد الناس إلى هذا الدين؟ وكيف نحبب الناس في هذا الدين وفي رسول هذا الدين عليه الصلاة والسلام.(115/17)
أهم الشخصيات التي قابلها
السؤال
من أهم الشخصيات الإسلامية التي قابلتها؟
الجواب
قابلت بعض الشخصيات الشهيرة، واستفدت منهم ولو في مجلس واحد، فإن من أفادك حرفاً فقد أفادك، منهم من أعجبني ولا يزال يعجبني دائماً أحبه حباً جماً سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز متع الله بحياته، ونفع بأنفاسه، وأمد في عمره، جلست معه مجالس، وحضرت له بعض الدروس، واستفدت من كلماته، ومن بعض أشرطته وكتيباته.
ومنهم الشيخ العلامة الذكي: محمد الصالح العثيمين زرته مرات في بيته، واستفدت من أشرطته وكتبه وحضرت له بعض المحاضرات والدروس.
ومنهم الشيخ الأستاذ العلامة المحدث الكبير: محمد ناصر الدين الألباني لقيته مرة واحدة في مكة هذا الزمن المنصرم، وجلست معه ما يقارب ثلاث ساعات ولي فيه قصيدة، ولي في الشيخ عبد العزيز بن باز أيضاً قصيدة اسمها: "البازية" ذكرتها قبل قليل، وفي الشيخ ابن عثيمين أبيات منها:
إذا بريدة بالأخيار قد فخرت يكفي عنيزة فخراً شيخ ناديها
وفي الألباني أبيات منها:
هاكم سلام الله يا إخواني قولوا رعاك الله يا ألباني
يا جامعاً سنن الرسول بعصره كـ الترمذي أو أحمد الشيباني
يا دار قطني الشريعة إنني أهفو إليك وحبكم أشجاني
إلى آخر القصيدة.
وقابلت الدكتور عبد الله عزام رحمه الله، والأستاذ العلامة المفكر الكبير محمد قطب، وزرته قريباً قبل ما يقارب أسبوعين، والشيخ الأستاذ العلامة عبد المجيد الزنداني واستأنست برؤيته والجلوس معه، وكثير من الأحبة، ومن الدعاة الموفقين كالداعية الأستاذ أحمد القطان، والداعية عصام البشير وغيرهم من المشايخ.(115/18)
إجابات سريعة
السؤال
ماذا يقول عائض القرني عما يحدث للمصلين في مسجدك، فإنهم يصلون في خارج المسجد؟
الجواب
أقول: يتقدمون مع ركاب الدرجة الأولى، وذلك بتبكيرهم في الساعة الأولى، ولا يبقوا حتى لا يجدون فرخة ولا دجاجة ولا بيضة.
السؤال
ما سبب نحالة جسمك؟
الجواب
من الجلوس مع الثقلاء.
السؤال: ما رأيك في زوجة ثالثة؟
الجواب: إذا ماتت زوجتاي اللتان معي تزوجت الثالثة.
السؤال: نجيب ضرب مقره في كابل؟
الجواب: ضل وله حصاص.
السؤال: ما رأيك في قتل عزام؟
الجواب: طعنة في قلب كل مسلم.
السؤال: ما رأيك في سيَّاف؟
الجواب: بطل من الدرجة الأولى.
السؤال: تعليق على موسكو والانفتاح؟
الجواب: عير انقطع رباطه.
السؤال: رأيك في ابن باز؟
الجواب: ابن باز رجل كـ جبل أحد يحبنا ونحبه.
السؤال: رأيك في الحداثيين؟
الجواب: رؤيتهم تنقض الوضوء، وحدثهم حدث أكبر.
السؤال: رأيك في صغار ينقمون على الألباني؟
الجواب: يقول المثل: مائة إبرة لا تساوي فأساً.
السؤال: قولك في التوبة؟
الجواب: طريق التائبين والمستغفرين {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135].
السؤال: أناس يقولون: قليل من الوقت للبلوت؟
الجواب: ما أسكر كثيره فقليله حرام.
السؤال: بعض الفضلاء عليهم ملاحظات؟
الجواب: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
السؤال: ما هو عنوان رسالتك في الماجستير؟
الجواب: البدعة وأثرها في الدراية والرواية.
السرال: ماذا يضايقك؟
الجواب: يضايقني فراغٌ كثير عند كثير من الشباب، لا يستغلونه في طاعة الله، ولا في العلم الشرعي، ولا في التحصيل.
السؤال: حدث أبكاك؟
الجواب: موت الدكتور عبد الله عزام، وقبله موت أبي الأعلى المودودي.
السؤال: هل هناك أديب أعجبك؟
الجواب: من المعاصرين في أدبه على الطنطاوي بارك الله فيه.
السؤال: هل لك لحظة ندم؟
الجواب: إذا تذكرت ذنوبي وتقصيري مع الله، وكثرة نعم الله علي سُبحَانَهُ وَتَعَالى ندمت.
السؤال: هل هناك شاعر أعجبك؟
الجواب: المتنبي.(115/19)
البرنامج اليومي في حياة الشيخ
برنامج حياتك اليومي في هذه الأيام؟
الجواب
أصلي الفجر، وبعد الفجر إذا كنت في أبها درس في مسند الإمام أحمد يستمر ما يقارب ساعة إلا ربع، ثم ركعة الإشراق، ثم أذهب إلى البيت فالإفطار، فإن كان عندي محاضرة في الكلية في أيام الدراسة ذهبت وإلا نمت ما يقارب ساعة، ثم أقوم فأكتب أو أطالع إلى ما يقارب الظهر، ثم صلاة الظهر، ثم العودة، فمطالعة أو كتابة، وغالباً هذا الوقت للاتصال بالهاتف وسماع بعض أصوات الأحبة، ثم الغداء، ثم القيلولة التي أحافظ عليها كثيراً إلا في بعض الأوقات، ثم صلاة العصر، وبعد العصر هذا الوقت الدسم عندي للمطالعة في المكتبة ويتخلله اتصال بالهاتف، وبعد المغرب في الغالب زيارة الأحبة، وسماع بعض الأسئلة من الإخوة والاستفادة من الجلوس معهم، وعرض بعض المشاكل، وبعد العشاء مطالعة أهم شيء في الواقع، مجلات إسلامية، صحف إسلامية، وسماع الأخبار أحياناً، وما يدور في الساحة، ثم الوتر ثم النوم.(115/20)
تكرار المادة العلمية في بعض المحاضرات
السؤال
فضيلة الشيخ! يرى بعض طلبة العلم أن بعض المادة العلمية تكرر سواء أكانت في الخطب أم المحاضرات أم الدروس التي تلقيها فماذا تقول؟
الجواب
أقول: أما مبدأ التكرار فليس بعيب؛ فالقرآن كرر كثيراً من القصص، فهذه قصة موسى عرضت في القرآن طولاً وقصراً ما يقارب ثلاثاً وعشرين مرة، ونحن معنا مادة وهي موجودة لا يزاد فيها ولا ينقص القرآن والسنة، إذا بدأنا من الفاتحة انتهينا إلى الناس ثم نعود من الفاتحة وهكذا، وهذه قضيتنا ودائماً هذه رسالتنا حتى يعرفها الناس، وقضية أن المتكلم أو الداعية يأتي كل يوم بشيء جديد، فهذا ليس بوارد، لابد أن يجدد مادته، وأن يأتي من الكتاب والسنة بالجديد الذي ما سمعه الناس إلا قليلاً، لكن أن يستهدف كل وقت؟
هذا متعسر وليس الداعية فنان يأتي كل يوم بأغنية أو مسرحية، أو يأتي بفرقة تغير أصواتها، هو دائماً داعية يضرب على نقاط وعلى مسائل لا بد أن يكررها حتى يعيها الناس، وهل عمل الناس بالمسائل التي قلناها حتى نأتي لهم بجديد؟
وهل نحن هواة نقل كلمة، إنما نريد هذه القضايا أن تنفذ؟
وأنا أقول -ولو قال الإخوة أنه تكرار- ليس تكرارً مطلقاً، صحيح أن القصة ممكن تتكرر في خمسة أشرطة وفي عشر محاضرات وفي عشرين لكنها تعرض بقوالب وفي أساليب، مرة طولاً ومرة قصراً، مرة بأسلوب علمي، ومرة بأسلوب وعظي، ومرة بأسلوب أدبي ومرة مناقشة فهذا ليس كذاك.
وقال الأول:
قالوا: تكرر قلت: أحلى علماً من الأرواح أغلى
فإذا ذكرت محمداً قال الملا أهلاً وسهلاً
وقال الثاني:
كرر العلم يا كريم المحيا وتدبره فالمكرر أحلى
فأنا أحاول الآن الاقتصار في بعض المحاضرات، وإعادة بعض المحاضرات القديمة بنفس المادة لكن بأسلوب آخر.(115/21)
سبب ضعف المادة العلمية في بعض المحاضرات
السؤال
فضيلة الشيخ! بعض المحاضرات يلاحظ فيها ضعف المادة العلمية، فيا ترى لمن يرجع هذا؟
الجواب
هذا أولاً لا بد منه مهما بلغ الإنسان لا بد أن يضعف في بعض الجوانب، وأنا أعرف نفسي أني ضعيف مقصر، لكن أحياناً قد تكون المادة من علم الواقع، أو من مسائل الواقع التي ما تظفر بنصوص من الكتاب والسنة إلا نصوصاً عامة؛ لأن القرآن جاء فيه صلاح العباد في الدنيا والآخرة، فأحياناً أضطر أن أكثر من علم الواقع، ومن أطروحات في الواقع، ومن مسائل مرت في الساحة فتنقصها النصوص، والشباب متعودون على أنه لا بد من مادة دائماً تكون محفوفة بالنصوص، وأحياناً قد تكون كلمات مرتجلة فتسجل، أذكرها في بعض المواقف لأنه لكل مقام مقال إما اجتماعاً مع بعض الأحبة، أو حفلة، أو كلمة مفاجئة، أو طرفة نادرة فتسجل فيقولون: هذه ما حُضِّر لها وهو الصحيح.
على كل حال؛ لا بد من الضعف والقوة والإبداع والقدم والغرابة، ولا بد من الضعف والله يغفر لنا ولكم زللنا.(115/22)
نصيحة للتسجيلات الإسلامية
طلب: قبل الختام فضيلة الشيخ! بماذا تنصح التسجيلات الإسلامية بما فيها تسجيلات البيارق؟
الجواب
أنا أولاً: أشكر التسجيلات الإسلامية شكراً جزيلاً على ما قدمته للأمة الإسلامية شكراً لا انتهاء له، فقد أثرت الساحة بالشريط الإسلامي، وقدمت الطيب والجديد من القرآن الكريم، والمحاضرات، والفتاوى، والدروس، والخطب، وما قدمته من الأمسيات، والأناشيد، وقد أجادت كل الإجادة، هذا في غالب التسجيلات لا في العرض فقط بل في الإنتاج، والابتكار، والإبداع، والتوزيع، واستقبال المشتري، فجزاهم الله خيراً، ولكن لي معهم وقفة!!
أولها: إني أطلب منهم أن يقصدوا بعملهم هذا وجه الله، ويجعلوا هذه المادة ثانوية، أي: طلب المال من هذا الطريق؛ لأنهم ينفعون وينشرون الدين بهذه الطريقة، الشريط إذا دخل البيت كأن داعيةً دخل البيت، كم من غاوٍ، وكم من ضال، وكم من مارد، وكم من فاجر، سمع شريطاً فاهتدى وعاد.
إنكم -أيها الإخوة- من أهل التسجيلات الإسلامية دعاةً في الحقيقة ولو لم تتكلموا، أو تحاضروا، أو تخطبوا في الناس ولو لم تعظوا، أدخلوا الشريط قلوب الناس وبيوتهم وسياراتهم هدية، فأطالبهم أولاً بالإخلاص.
ثانياً: بحسن التسجيل، أن يكون التسجيل مبتكراً صافياً طيباً، لأنني لاحظت بعض التسجيلات تسجيلها ضعيف حقيقة، على ما تطور به العلم الحديث، وعلى الأجهزة والأساليب، وعلى ما أجاد الله به من مال، ومع ذلك سمعت مرة شريطاً لي أنكرت صوتي، قلت: أنا هذا! ما هو صوتي حتى اكتشفته من بعد -والحمد لله- دلني الله على أنه صوتي! فهل يعقل أن هذه تسجيلات في هذا العصر؟ لكن غالب التسجيلات تعتني.
ثالثاً: أوصيهم بأن يساعدوا الناس خاصة إذا كانوا بعض الطلبة والمحتاجين، أو الفقراء الذين لا يملكون المادة، أن يخفضوا في قيمة الشريط، أو أن يتصدقوا فإنه في ميزان الحسنات.
رابعاً: أن يعتنوا بالابتكار والإبداع وحسن الدعاية في سبيل الله عز وجل، لأن أهل الباطل في تسجيلاتهم وفي إبداعاتهم يعتنون بالدعاية والنشر والإعلان حتى يعرف الناس أن هناك مادة، وهذا ليس من باب الرياء والسمعة؛ لكن من باب إظهار الحق ونصرته.
وأما تسجيلات البيارق فأشكرهم على هذا اللقاء، وأتمنى لهم مزيداً من الخير، وأوصيهم وصايا منها:
أن يختاروا المكان الطيب والعرض الطيب، وإن عرضهم طيب -والحمد لله- ولا زال بعضنا يوصي بعضاً وينصح بعضاً، ولكن لهم مني الدعاء الخالص بالتوفيق، ولكل تسجيلات إسلامية نفع الله بها وزادها توفيقاً ورشداً وهداية.(115/23)
كفى بالموت واعظاً
إن الإنسان في هذه الحياة الدنيا إما أن يكون غارقاً في شهواتها ولذاتها حتى تنسيه الدار الآخرة.
وإما أن يجعل الدنيا دار ممر ويجعل همه الأكبر الدار الآخرة، ويجعل الموت وما بعده نصب عينيه.
وهذه المادة تتناول أمراً عظيماً ومهولاً ألا وهو تذكر الموت وسكراته وخنقته، ويتخلل ذلك نتف من قصص الأنبياء والصالحين عند الموت وحالهم عند تذكره.(116/1)
حال الناس عند سكرات الموت ودخول القبر
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومن واجب أهل الفضل علينا أن نشكر لهم فضلهم، ومن واجب أهل الإحسان أن نشكر لهم إحسانهم، فنشكر مدير هذه الثانوية بالغ الشكر، والأساتذة أيضاً، ونشكركم أيضاً لحسن استماعكم وتواضعكم لاستماع هذه الكلمات، ونسأل الله أن ينفع بها، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم.
أمَّا بَعْد:
فقد كانت هذه الكلمة ربما تدور حول الموت، وحدد موضوعها، وحينما أخبرت بهذا الموضوع تذكرت أبياتاً للشاب العالم الزاهد/ حافظ الحكمي - رحمه الله تعالى- في الموت، إذ يقول:
والموت فاذكره وما وراءه فمنه ما لأحدٍ براءه
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه
والقبر روضةٌ من الجنان أو حفرةٌ من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
تالله لو علمت ما وراءك لما ضحكت ولأكثرت بكاءك
من هذا المنطلق، ومن هذه الذكرى يمر الإنسان في قافلة الموت، ويتذكر هذا المصير المحتوم، وهذه الساعة المقضاة من الله على ابن آدم، ساعة الموت التي يذل فيها الجبار، ويذعن فيها العاصي، ويعود فيها المتمرد، ويتوب فيها المذنب.
ساعة الموت هذه الأليمة التي يمر بها الملك والمملوك، والرئيس والمرءوس، والغني والفقير.
وكان من الجميل بنا أن نذكر بعض قصص المحتضرين وأخبارهم وأنبائهم علنا أن نتذكر هذا المصرع الذي لا يفوتنا أبداً، وسوف نمر به ولو طالت أعمارنا، ولو تمتعنا بالشباب والصحة، ولو زهدت لنا السيارات والعمارات، ولو سكنا في الشقق الفاخرة، ولو لبسنا الثياب الفاخرة الجميلة، ولو تمتعنا بالمطاعم، وجلسنا على الموائد، وتزاورنا وضحكنا كثيراً، إنها سوف تمر بنا هذه الساعة التي تنسي ما قبلها، والتي يتذكر فيها الإنسان حسابه مع الله، ماذا فعل، وماذا قدم؟
ما عمل بتلك الساعات التي أفناها بالقيل والقال، واللهو واللعب، والجلوس الذي لا طائل من ورائه، ومرافقة أقران السوء، وأصحاب الانحراف الذين ما زادوه إلا ضلالاً وإعراضاً عن الله.
تلك الساعة لا بد أن نحسب لها حسابها من الآن، ولا بد أن نقف معها وقفةً طويلةً جداً لنتذكر بماذا سوف نلقى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في هذه الساعة؟
وبماذا سوف نرد على الملكين؟
وماذا سوف نقول إذا طرحنا في القبر وتلك الحفرة التي تعرفونها؟.
التي يتجرد فيها الإنسان من كل شيء إلا من الأعمال الصالحة، فيتجرد من المنصب، فيدخل في قبره بلا منصب، وبدون: يا صاحب الفخامة! ويا صاحب المعالي! ويا صاحب السماحة! وإنما يدخل جثماناً في قطعٍ بيضاءٍ، فيوسد في هذه الحفرة، ويتولى عنه الناس.
يدخل بلا سيارة، ولا إخوان أو خلان، وبلا زوجة أو صاحب أو قرين إلا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ولو نجا أحد من الناس من ساعة الموت، لكان الجدير أن ينجو محمدٌ صلى الله عليه وسلم، ولكنه والله ما نجا، فمر بها كما يمر بها الإنسان، ووقف معها كما يقف الإنسان، وهو أشرف الخلق على الله تبارك وتعالى، وهو أكرم الناس على رب الناس، لكنه تلقاها برحابة صدر، لأنه أحسن العمل مع الله.(116/2)
النبي صلى الله عليه وسلم يعالج سكرات الموت
يروي البخاري ومسلم في صحيحيهما: أنه لما احتضر صلى الله عليه وسلم وضع خميصته -وهي قطعة قماش- على وجهه الشريف من شدة الكرب، وروحه تنتزع من بين جنبيه، وهو يقول: {لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، اللهم أعني على سكرات الموت، اللهم خفف علي سكرات الموت، تقول عائشة: بأبي هو وأمي! والله إنه كان يضعها في الماء، فيبلها -أي: الخميصة- ثم يضعها على وجهه، ويقول: اللهم أعني على سكرات الموت} ثم يقول صلى الله عليه وسلم وهو في السياق: {بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى} قال الصحابة: إنما قال ذلك صلى الله عليه وسلم لأنه خيِّر بين أن يمد له في عمره، وأن ينسأ له في أجله، أو يلقى ربه، فقال: بل الرفيق الأعلى.
أي: أريد اللقاء الآن، أريد الرحيل من هذه الدنيا الآن، أريد الموت في هذه الساعة، لأنه يعلم صلى الله عليه وسلم أنه مهما طال عمره، ومهما امتد أجله، فإنه سوف يلقى هذا المصرع، فمن الآن إذا كانت هذه الحياة نهايتها هذه النهاية، فبدون كلفة، وبدون مشقة وهموم وغموم، الآن آخذها وأجرع كأس الموت، وأرتاح من هذه الحياة.
وتوفي صلى الله عليه وسلم كما يتوفى الناس، ومات كما يموت بنو الإنسان، لكنه بقي ذكره أبد الآبدين؛ لأنه أحسن العمل مع الله، والإنسان يطمع في طول العمر، وامتداد الأجل، لأن بعض الناس يرى هذه الحياة متعة، سكنى، ومطعم، وملبس، وزواج، وترقي، ومناصب، فيرى أن هذه الحياة أحسن من الحياة الأخرى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [البقرة:86] أولئك الذين ضلت أعمالهم، أولئك الذين حبط مسعاهم، أولئك الذين خسروا الصفقة مع الله، يريدون هذه الحياة فحسب.(116/3)
موسى يصارع ملك الملك
وقف موسى عليه السلام، فقال: يا رب! أريد عمراً طويلاً، قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: اختر ما شئت، وجاء ملك الموت -بلا شك وأنتم تعرفون ذلك في قصة صحيحة- فضربه موسى عليه السلام ففقأ عينه، فعاد ملك الموت إلى الله، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، ففقأ عيني، فرد الله عليه عينه، وعاد ملك الموت إلى موسى ليقبض روحه، قال: يا موسى! تمنى ما شئت من العمر، قال: ثم ماذا؟، قال: ثم تموت، قال: الآن إذن، فقبض روحه، ولذلك يقول أبو العتاهية:
نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح لتموتن وإن عمرت ما عمر نوح
فإذا كان هذا العمر، ولو عمر نوح، فلا بد من النهاية، ولا بد من المصير المحتوم.(116/4)
قصة أبي بكر ومعاوية عند الموت
روى أهل السير أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه لما احتضر، دخلت عليه ابنته عائشة، فسلمت عليه، وبكت طويلاً، ونظرت إليه وهو خليفة المسلمين، ورفيق الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار، وصديق الإسلام يموت في ثوبين متواضعين مجرداً من الدنيا، لا يملك إلا بدنة، وبيتاً متواضعاً من طين وفراشاً واحداً، يموت وهو يملك العالم الإسلامي تحت إدارته وخلافته، فتشتد سكرات الموت عليه، فأنشدت عائشة بعض الأبيات وهي تعزيه في روحه رضي الله عنها، والتفت إليها، مؤنباً ومعارضاً لها بهذا الاستشهاد، كذب الشاعر وصدق الله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] هذا الموقف ليس موقف قول شعر، وليس موقف محاضرات، وليس موقف مرادات، بل هذا موقف قول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
ما معنى تحيد؟ أي: تتصرف كلما أتاك المرض، ذهبت إلى المستشفى والعيادة، وعرضت نفسك على الطبيب علك تمتع، لكن إذا جاء الموت، انتهى كل شيء.
{ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] هذا ما كنت منه تتصرف، وتحاول أن تلف وتعرض، ولكن الآن لا منجا وملجأ من الله إلا إليه، انتهى كل شيء.
دخلوا على معاوية رضي الله عنه وأرضاه في الملك، وهو على سرير الموت، وهو في دمشق عاصمة الإسلام، فلما أتاه الموت، قال: أنزلوني على التراب، فقالوا: يا خليفة المسلمين! ويا أمير المؤمنين! نرى السرير أرفق لك، قال: أنزلوني لا أبا لكم، انتهى السرير، وانتهى الملك، فأنزلوه، فلما وضعوه في التراب كشف الفراش، ووضع خده، وبكى طويلاً على التراب، قال: صدق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] فنسي كل شيء، نسي جيشه وجنده، ونسي ملكه وقصوره، وما كان يعد، وانتهى الأمر إلى هذا الموقف، وهذا المصير المحتوم.
وأنتم تعرفون أن عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي الآخر، لما حضرته الوفاة، بكى طويلاً، وقال: يا ويلتاه! ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه، يا ليتني كنت راعي غنم، يا ليتني كنت زبالاً، يا ليتني كنت غسالاً، فبكى الناس حوله من كلامه هذا، فلما بلغ كلامه سعيد بن المسيب رحمه الله -عالم المسلمين- قال: [[الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا وقت الموت، ولا نفر إليهم]] لأنهم لا يستيقظون إلا وقت الموت، ولا يتنبهون إلا في هذه الساعة، وإذا الأمر خرج من أيديهم، وإذا العمر ليس معهم، فيفيقون ويتذكرون، فإذا ما بأيديهم حيلة.
ولذلك الذكي كل الذكي الذي يعد لهذه الساعة، ولا يغتر بالشباب والصحة، لا تقل: إني شاب وسوف أتخرج، وسوف أحضر بعض الرسائل، وسوف آخذ بعض المناصب، ثم أستعد للموت، فإن هذا هو الغباء كل الغباء، وهذه البلادة كل البلادة، ومن أعطاك عهداً من الله أنك سوف تستمر في هذا العمر؟ ومن أعطاك من الله خبراً ميقناً أنك سوف تعيش حتى تتخرج؟ لا والله.
إن الموت معك، وإن ملك الموت ليصاحبك، ولكن يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] أي: إن الموت معك، لكن المعقبات تحفظك حتى يأتي أمر الله، فإذا أتى أمر الله، تولى عنك هذان الملكان الحافظان، فقد يأتي أجلك وأنت في الطيارة في الجو، أو في السيارة، أو وأنت على كرسي الدراسة تستمع، وكلك آذان صاغية لما يقول الأستاذ، وإذا بك تفاجأ وأنت تنتقل إلى الدار الآخرة.(116/5)
عمر ومعاذ عند الموت
فهذا عمر رضي الله عنه وأرضاه - وأنتم تعرفون من عمر - الذي قضى حياته كلها في الجهاد وقيام الليل والصلاة والذكر والزهد, والعدل رضي الله عنه وأرضاه, خرج على المسلمين يوم الجمعة، فصلى بهم، ثم بكى في الخطبة بكاءً عظيماً، ثم قال: [[أيها الناس! إني رأيت في منامي أن ديكاً رومياً ينقرني ثلاث نقرات، وقد عرضت هذه الرؤيا على أسماء بنت عميس -زوجة جعفر - فأخبرتني أن رجلاً من الموالي سوف يطعنني ثلاث طعنات، فإذا أنا طعنت، فالله خليفتي عليكم، وأوصيكم بتقوى الله، وأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه]] ونزل رضي الله عنه وأرضاه من تلك الجمعة، وعاد في فجر يوم السبت ليصلي بالناس، وكان من هديه رضي الله عنه وأرضاه أن يقرأ سورة يوسف، وابتدأ فيها حتى بلغ قوله تعالى حكايةً عن يعقوب: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] فضج بالبكاء رضي الله عنه وأرضاه، وقطع صوته في القراءة، وبكى الناس خلفه، ولما ركع، تقدم إليه ذاك المارد الفاجر أبو لؤلؤة المجوسي بخنجره الذي يحمل حدين مسمومين وطعنه ثلاث طعنات، ولما طعن، قال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ثم هوى صريعاً في المحراب، شهيداً في سبيل الله تبارك وتعالى، وجاء عبد الرحمن بن عوف، فأكمل الركعة الثانية رضي الله عنه وأرضاه وصوته يقطعه البكاء، لأنه علم أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قد انتهى من الحياة، وفر أبو لؤلؤة يطعن الناس يمنةً ويسرةً حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً مات منهم سبعة، وبقي ستة جرحى.
وبعد ذلك حمل الناس عمر رضي الله عنه وأرضاه ودماؤه الطاهرة تنسكب على مناكبهم وتنهمر على أكتافهم، وهم يأخذونه إلى بيته رضي الله عنه وأرضاه، يعزونه في نفسه، وقد انتهى من الحياة، ولما وضعوه على فراشه وسريره في بيته، تقدم الصحابة يعزونه - اسمع إلى التعازي، اسمع إلى الكلمات الصادقة، وإلى حرارة الإيمان في تعازي الصحابة بعضهم لبعض- يتقدم ابن العباس رضي الله عنه وأرضاه، فيقول: [[السلام عليك يا أمير المؤمنين! فيقاطعه عمر، ويقول: لست للمؤمنين بأمير، إنني أصبحت من أهل الدار الآخرة اليوم، فيقول: السلام عليك يا أبا حفص! والله لقد أسلمت فكان إسلامك نصراً لله ولرسوله وللمؤمنين، وهاجرت فكانت هجرتك فتحاً، وتوليت فكانت ولايتك عدلاً، فبكى عمر رضي الله عنه وأرضاه من هذه الكلمات، وقال: إليك عني يا ابن عباس! والله لوددت أني أنجو من هذه الدنيا كفافاً لا لي ولا علي]] فانحرف ابن عباس يبكي رضي الله عنه وأرضاه.
ثم تقدم علي بن أبي طالب عليه رضوان الله، فقال: {السلام عليك يا أبا حفص! والله لقد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر، فأسأل الله عز وجل أن يحشرك مع صاحبيك} فبكى وكأنه ارتاح لهذه الكلمة.
ثم قال للناس: أيها الناس! أستودعكم الله وأوصيكم بتقوى الله، وقال وهو في السياق: إني ما أكملت الفجر الصلاة الصلاة، وعيونه تترقرق بالدموع، وأُتي له بلبن فشرب، فخرج اللبن من كبده ومع دمه رضي الله عنه وأرضاه، فقام وأكمل الركعة، وهو يومئ إيماءً، وفي تلك الساعة الحرجة التي ينسى الحبيب حبيبه، والخليل خليله، وينسى الإنسان كل شيء إلا هذه الساعة؛ يتقدم إليه شاب وهذا الشاب مطيل لثوبه يجر إزاره في الأرض، فسلم على عمر رضي الله عنه وأرضاه وقبل رأسه، وقال: أستودعك الله يا أمير المؤمنين! أحسن الله عزاءك في نفسك، فقال عمر: [[يا ابن أخي! ارفع إزارك -يوصيه برفع الإزار وتقصير الثوب في تلك الساعة- يقول: ارفع إزارك فإنه أتقى لربك، وأنقى لثوبك، فيقول: جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، فيقول عمر: بل جزى الله الإسلام عني خير الجزاء]] ثم ينتقل إلى الدار الآخرة.
هؤلاء الأعلام لا بد أن نجلس معهم ساعات، ونخلو معهم سويعات ولحظات، ونعطيهم الوقت الغالي من أعمارنا لنعيش معهم؛ لأن الذي يبقى مع الرثاة، ومع الناس الذين نجاورهم ونعيش معهم -ونحن مثلهم- سوف يبقى خامداً هامداً لا يتذكر الموت أبداً، ولا يستعد ولا تتغير حياته، ولا ينقلب له منقلب، ولا يحسن العمل، لأنه يظن أن هذه الحياة أكل وشرب، وأنها جلوس وزيارة، وأنها شهادة ومنصب، وأنها مال وولد، وهذا مغرور والله.
فهذا معاذ -وأنتم تعرفون معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه- أتته سكرات الموت مع الفجر، فقال: [[اللهم إني أعوذ بك من صبيحة يوم إلى النار، اللهم إنك تعلم أني لم أحب الحياة لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، ولا لعمارة الدور، ولا لبناية القصور -لكن لماذا تحب الحياة إذاً- قال: لكني والله كنت أحب الحياة لثلاثة خصال: لصيام الهواجر -أي: صيام الأيام الحارة التي تشتد فيها الحرارة- ولقيام الليل -لله دره من عابد وعالم! ما أنبله! وما أحسنه! وما أجمله! حينما عرف الحياة ثم يقول- ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر]] أما غيرها فما كنت أحب الحياة بأمر سوى هذه الثلاث، أما نحن لو سئلنا، لقلنا: كنا نحب الحياة لنزور فلان وعلان، ولنركب السيارة الفاخرة، ونسكن في الشقة الوفيرة، ولنتمتع بالمطاعم والملابس، ولنتقلد المناصب ونجمع الأموال، ولنعتز بالأولاد.
هذه حياتنا التي لا تفرق عن حياة البهائم إلا في أننا ننطق ونعرف ونتكلم، لذلك وجب علينا أن نعود إلى السلف لندرس حقيقة الموت، وفلسفة الموت مع السلف الصالح، كيف استعدوا للموت؟ وكيف عاشوا معه؟.(116/6)
عمرو بن العاص وسفيان الثوري عند الموت
روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه قال: حضرته الوفاة في مصر، وكان والياً على مصر، وفاتح مصر، ومعلم أهل مصر وهو أرطبون العرب، وداهية الإسلام، الذي دوخ ملوك الكفر حتى دخلوا في هذا الدين.
حضرته الوفاة، فإذا هو متجرد من دهائه وذكائه، وإذا هو متجرد من منصبه وأمواله وأولاده، ذهب المنصب والمال والأولاد، وإذا هو متجرد من كل شيء إلا من العمل، وكان معه أناس من وزرائه وأولاده وأصحابه، فحول وجهه إلى الحائط وبكى بكاءً طويلاً، فجاء ابنه عبد الله بن عمرو الزاهد العابد، فقال: يا أبتاه! ما لك تبكي -وأراد أن يحسن ظنه بالله عز وجل- يا أبتاه! أما صحبت الرسول صلى الله عليه وسلم، أما ولاك غزوة ذات السلاسل؟ أما مدحك؟ أما صحبت أبا بكر وعمر؟ أما فتحت مصر؟ أما جاهدت؟ أما فعلت؟
فلما طال كلام ابنه عبد الله، وطال بكاء عمرو، التفت عمرو إلى الناس، فقال: أيها الناس! إني عشت حياتي على طباق ثلاث -وسوف أعرضها لكم، وهو في سكرات الموت، يتكلم عن سجل حياته ويعيد لهم التاريخ مرة ثانية من يوم ولد إلى أن يلقى الله في هذه الساعة.
اسمع إلى أنبائه وأخباره- يقول: [[إني عشت حياتي على ثلاث طباق كنت في الجاهلية لا أعرف الإسلام، وكان أبغض الناس إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو تمكنت منه لقتلته غيلة، ولو مت على تلك الحالة لكنت من أهل النار، ثم رزقني الله الإسلام، فهاجرت من مكة إلى المدينة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسجده، فلما رآني، هش وبش في وجهي بأبي هو وأمي واستقبلني، وقال: حيهلا يا عمرو! قال: فصحبته وأحسنت صحبته، ووالله ما كنت أملأ نظري منه صلى الله عليه وسلم حياءً منه، والله لو سألتموني الآن أن أصفه لكم- أي: أصف رسول الله صلى الله عليه وسلم- لما استطعت، فيا ليتني مت على تلك الحالة، ولو مت على تلك الحالة، لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم تخلفت بعده صلى الله عليه وسلم فلعبت بي الدنيا ظهراً لبطن، فوالله ما أدري هل يؤمر بي إلى الجنة فأنا من السعداء، أو يؤمر بي إلى النار فأنا من الأشقياء، لكن ليس معي من العمل إلا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم قبض يده على لا إله إلا الله، قال ابنه عبد الله: فأتينا لنغسله، وفتحنا أصابعه، فما استطعنا أن نفتحها وبقيت مضمومة، قال: فأدخلناه في كفنه وأصابعه مضمومة وأدخلناه في قبره وأصابعه مضمومة رضي الله عنه وأرضاه]].
فالعدة كل العدة أن تستعد لهذا المصرع، والحزم كل الحزم أن تحفظ وقتك، وأن تستعد بعمل صالح لهذا المصرع، والذكاء كل الذكاء أن تحفظ هذه السويعات التي تمر بك مرَّ الرياح، أو البرق الخاطف أن تستغلها فيما يقربك من الله.
الله الله لا يغتر الإنسان بشبابه وفراغه وصحته، فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إذا أخذ؛ فإنه يأخذ أخذ عزيز مقتدر، وأنتم رأيتموهم ورأيناهم، شباب مترفون أقوياء مصطحون منعمون أهل أموال وثروة خرجوا من بيوت أهلهم، وما ودعوا أمهاتهم، ولا آباءهم، وعادوا أمواتاً وجثثاً هامدةً حتى ما استطاعوا أن يقولوا: السلام عليكم أيها الأهل والجيران، وإلى اللقاء، ما استطاعوا أن يقولوا: وداعاً وعادوا وقد انتهوا من هذه الحياة.
فالله الله لا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور! أعدوا ما استطعتم من العمل الصالح، فهذه الدقائق تقول لك: إن الموت قد حصل.
دقات قلب المرء قائلةً له إن الحياة دقائق وثوان
وكان سفيان الثوري رحمه الله إذا جلس مع الناس، يجلس قليلاً، وهو يسبح، ثم ينتفض، وإذا هو واقف، فيقولون له: ما لك يا أبا سعيد؟
قال: والله ذكرت الموت.
وإذا أردتم ترجمة سفيان فعليكم بـ" حلية الأولياء " لـ أبي نعيم، اقرءوا كيف كانوا، وكيف كانوا يتذكرون الموت، وكيف يعدون له، كان يتذكر الموت وهو في مجلس الحديث، فيقطع التحديث، والفتوى، والموعظة، ويبكي حتى يقولون: كأنه يصرع من البكاء، ثم يقول بأبيات الصلتان السعدي:
أشاب الصغير وأفنى الكبير كرُّ الغداة ومرُّ العشي
إذا ليلةٌ حرمت يومها أتى بعد ذلك يومٌ فتي
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجةً ما بقي
يسألونه ويقولون: يا أبا سعيد! ما حكم كذا وكذا؟ فيقول: والله! ما أدري ماذا تقول أيها السائل، قال: كيف لا تدري وأنا أتكلم بالعربية؟ قال: والله! لقد أنساني الموت كل شيء.
ولذلك يقول الذهبي: كان سبب موت سفيان الثوري أنه ذكر الموت فتفتت كبده حتى عرض ماؤه على الطبيب، قال: هذا الرجل لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام.
فهذا رجل فتت ذكر الموت كبده، قرأ سورة "ألهاكم التكاثر" بعد صلاة العشاء، فبقي يرددها ويبكي حتى الصباح، كان يبكي أهله وجيرانه من بكائه رضي الله عنه وأرضاه، لأنه علم علم اليقين.
يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر:5] لأن علمنا الآن في الآخرة علم ظني ليس علم يقين، ندري أنا سوف نموت، وندفن الأجداد والآباء والأمهات والإخوان، لكنه علم ظني وعلم نظري، ما تعمق في قلوبنا، وإلا لو تعمق في قلوبنا لكنا أقبلنا على الله، وتجردنا إلى الله وأتينا بهمة وعزيمة إلى الله، وحفظنا أوقاتنا مع الله، لكنه علم نظري، فنحن نعرف أننا مسلمون، وأننا سوف نموت، ويقولون: هذه حياة، والله غفور رحيم، وهذه كلمات جوفاء، وهذه كلمات أصدرتها البلادة، وأصدرتها عدم المبالاة مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وإلا لو ذكرنا الموت لكانت حياتنا غير هذه الحياة.
فالله الله يا إخوتي في ذكر الموت دائماً وأبداً.
ميمون بن مهران الزاهد العابد التابعي حفر قبراً في حضيرته -بجانب داره- وسواه، وجعل فيه صفائح.
فدخل القبر وجعل يقرأ أجزاءً من القرآن، وبكى بكاءً طويلاً، ثم يعود ويخرج من القبر، ويقول: يا ميمون! خرجت من القبر، فاعمل عملاً صالحاً.
وبعضهم كان يأخذ كفناً ويفصله ويعلقه في سقف بيته، كلما أصبح نظر إلى الكفن وبكى، وقال: أواه!
ولذلك من حسن الإنسان وذكائه أن يذكر الموت.(116/7)
أسباب تذكر الموت
ومن أسباب تذكر الموت أمور سوف ألخصها لكم في ثلاثة أسباب، وفي ثلاثة أمور:(116/8)
زيارة القبور
أن تزور القبور، وأن تكثر من زيارة القبور، فلا تلهيك الأسواق والمعارض والقصور والدور والحفلات، والأشجار والحدائق عن زيارة القبور، اجعل من هذه العشر الزيارات للحدائق والقصور اجعل زيارة واحدة للقبور، ثم قف قليلاً وتذكر أين زملاؤك الذين عاشوا معك؟ أين الذين عرفتهم وعرفوك؟ أين الذين ضاحكتهم وضاحكوك؟ والذين آنستهم وآنسوك وزرتهم وزاروك؟ أين هم؟ وماذا فعلوا؟
وهذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه الخليفة الزاهد صلى العيد بالناس -وكان خليفة لاثنتي وعشرين دولة من دول الإسلام، من سمرقند شرقاً إلى طنجة غرباً، ومن طاشقند شمالاً إلى إفريقيا جنوباً، وهو الخليفة الوحيد في هذه المعمورة- صلى العيد بالناس وخرج رضي الله عنه وأرضاه، فلما مر بالمقبرة، وقف وبكى بكاءً طويلاً، ثم قال: يا أيها الناس! هذه قبور الأحبة من بني أمية، هذه قبور آبائي وأجدادي وإخواني وجيراني، هذه قبور أصدقائي أتدرون ماذا فعل بهم الموت؟، ثم بكى، فقال الناس: ماذا فعل يا أمير المؤمنين؟ قال: يقول يا عمر! إنني فقأت الحدقتين، وأكلت العينين -أي: الموت- وفصلت الكفين عن الساعدين، والساعدين عن العضدين، والعضدين عن الكتفين، والقدمين عن الساقين، والساقين عن الركبتين، وفصلت كل شيء على حدة، ثم بكى فبكى الناس جميعاً البار والفاجر.
وهذه المواعظ التي تقف عندها تعطيك دروساً لا تنساها أبداً، فتقف عند المقبرة، ولو في الأسبوع مرة واحدة لعشر دقائق تتذكر أباك وجدك وعمك وخالك وأمك وجدتك، تتذكر من صرعوا في هذا المصرع، هل تميز قبر غني من فقير؟ هل تميز قبر ملك من مملوك؟ أين ذهبوا؟ لا بد أن تقف هذه الوقفات، وأن تخصص هذه الزيارات.(116/9)
قراءة القرآن وتدبره
أن تقرأ كتاب الله بتدبر، وتخلو بنفسك، فتتباكى إذا لم تبك، وإذا لم تجد دموعك وقحطت عيناك، فحاول أن تعصر نفسك وأن تتباكى، يقول عمر: إذا لم تبكوا فتباكوا، يعني: تشارك فقط في البكاء عل الله أن يرحمك ويرزقك عينين هطالتين بالدموع، لأن الله حرم على النار عيناً بكت من خشية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وعيناً باتت تحرس في سبيل الله، فقف وخذ المصحف واقرأ سورة (ق) أو (النجم) أو (الواقعة) أو (الرحمن) فهذه السور التي تنصبُّ آياتها كأنها قذائف على الإنسان، اقرأ وقف قليلاً وتدبر عل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرزقك إنابة، وأن يعيدك إليه تبارك وتعالى.(116/10)
صحبة الصالحين والأخيار
صحبة الصالحين:
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً وقد صاروا أقل من القليل
لا تجلس مع بعض الناس، أو مع بعض الزملاء الذين يبعدونك عن الله، فأنت تريد أن تقرب من الله وهم يبعدونك عنه أميالاً، تريد أن تقترب من الجنة، فيقربونك من النار، تريد أن تقترب من الهداية، فيأخذونك إلى الغواية.
فعليك أن تجلس مع الصالحين، وعند الجلوس مع الصالحين تتنزل الرحمات من السماء، وتحفك السكينة، ويغشاك الله بفيض من رحمته، ويذكرك الله فيمن عنده.
ولذلك تمر الملائكة، ثم يصعدون إلى الله، فيقولون: {يا ربنا! جلس أولئك القوم يذكرونك وفيهم فلان ليس منهم، قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: اغفروا لهم جميعاً، وله فاغفروا، قالوا: إنه ليس منهم، قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم}.
فمثل هؤلاء يرحمك الله برحمتهم، ولو كنت بعيداً عنهم، ويدخلك الله معهم.
الرسول صلى الله عليه وسلم كان يلقي خطبة في مسجده الميمون المبارك، والناس كلهم آذان صاغية لسماع خطبته، وفي أثناء الخطبة يدخل أعرابي فيقطع الحديث على الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: {يا رسول الله! متى تقوم الساعة؟ -فلم يقطع صلى الله عليه وسلم خطبته، بل استمر في كلامه كالسيل المنحدر- فلما انتهى، قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: ما أعددت للساعة؟ -يعني: العمل ليس أن تسأل عن الساعة ومتى تقوم، وما يهمك أن يدمر العالم، إذا كان موتك بعد لحظات، أو أسابيع، أو سنوات، ما يهمك أن تقوم الساعة، فإذا مت فقد قامت ساعتك- قال: فماذا أعددت للساعة؟ قال: يا رسول الله! والله ما أعددت لها من كثير عمل، ولا صلاة، ولا صيام، ولا حج، ولا عمرة، لكني أحب الصالحين، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت، قال أنس رضي الله عنه وأرضاه -راوي الحديث- فوالله ما فرحنا بكلمة سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحنا بهذه الكلمة، فنحن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، ولو لم نعمل بعملهم}.
فالله الله في الجلوس مع الصالحين، والابتعاد عن الفسقة، والمردة، والمتهاونين بهذا الدين، والمتهاونين بالوقت والحياة، ابتعدوا عنهم الجهد، وانفروا عنهم، ولو كانوا الإخوة الأشقاء من الأم والأب.
يقول الشافعي -رحمه الله-:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة
ثم يرد عليه الإمام أحمد، فيقول:
تحب الصالحين وأنت منهم ومنكم كم تلقينا الشفاعة
فأحب الصالحين، واجلس مع الصالحين، وعليك بهذه الأسباب، وتقرب إلى الله عز وجل بما استطعت من النوافل، لأننا أصبحنا قوماً كما يقول محمد إقبال: علفنا الأكل.
كان السلف الصالح علفهم الذكر، على مفهوم فلسفة محمد إقبال، وكان قربتهم إلى الله وموائدهم القرآن, والصيام والصلاة وأصبحنا الآن نعتلف, علفنا الموائد الشهية، أكل وشرب وضحك وزيارات، إنهاء للوقت، وضياع للمعلومات وللصالحات، فهذه حياته.
ولذلك قلّ من تراه من المسلمين من يصلي ركعتي الضحى التي هي ركعة الأوابين، والتي تعادل ثلاثمائة وستين حسنة، والتي ينظر الله إليهم في الضحى، وهم يتململون في الضحى والناس في أعمالهم ومشاغلهم، فيغفر الله لهم.
وقل من تراه منا يقوم في آخر الليل ساعة السحر حينما يخلو الله بأحبابه، وبالخواص من عباده فيناجيهم ويناجونه، ويدعونه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ويستغفرونه.
وقل من تراه يتوضأ ويصلي ركعتين.
وقل من تراه يختم القرآن، ويتعاهد القرآن كل أسبوع، أو على الأقل كل شهر.
وقل من تراه يزور المقابر ويجلس مع الصالحين في كتب التراجم والأولياء ويزور الصالحين ويستزيدهم إنما نشكو حالنا إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
نسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يبدل حالنا بأحسن منها، وأن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يتولانا فيمن تولى، وأن يحلينا بالإيمان وبحلية اليقين والإحسان، وأن يذكرنا المصير المحتوم، وأن يجعلنا ممن يستعد له الاستعداد الطيب، وأن يحفظ علينا أوقاتنا وأعمارنا وحياتنا.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(116/11)
أروع يوم في حياة مجاهد
إن حديث كعب بن مالك هو من الأحاديث الطوال التي تمتزج فيها العاطفة بالمعاناة، مثله في ذلك مثل حديث أم المؤمنين عائشة في حادثة الإفك.
وهو يشكل صورة حية متكاملة للمجتمع المسلم حال تنزل القرآن، ويكشف عن التغيير العميق والنقلة الهائلة التي أحدثها القرآن الكريم في تلك الثلة المختارة، والتي يعتمل في نفسوها ما يعتمل في نفوس البشر غير أن الله تكرم عليها بعنايته، وسددها بكلماته، وزكاها بتربية نبيه، فكانت قمة سامقة على مدار التاريخ.(117/1)
غزوة تبوك
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة الأبرار: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
معنا في هذه الليلة حديث، اتفق الشيخان: البخاري ومسلم على إخراجه، وهو من أطول الأحاديث عند البخاري ومسلم، وهو حديث يبكي العين والقلب، ويفرح العين والقلب، هو حديث توبة، وحديث بشرى ومأساة، حديث ذنب، وانكسار العبد عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، هذا الحديث طويل، وفيه من الحكم ما يربو على مائة حكمة أو مائة فائدة.
وهو حديث كعب بن مالك يوم تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ويروي الحديث بنفسه، وهذا الحديث شرحه الحفاظ، وأعظم من شرحه ابن حجر رحمه الله.
غزوة تبوك -كما تعرفون- كانت من أواخر الغزوات في حياته صلى الله عليه وسلم، سمع أن الروم يريدون الإجهاز على الجزيرة العربية، فجهز عليه الصلاة والسلام جيشاً قوامه اثني عشر ألفاً، وقيل: عشرة آلاف، والأول الصحيح، ولما تهيأ الناس للغزوة، كانوا في شدة الحر، وقد طابت الثمار، ودنت الظلال، وعكف الناس على زروعهم وعلى ثمارهم، وهم في مجاعة لا يعلمها إلا الله عز وجل، حينها يمحص الله أهل الإيمان بإيمانهم، ويدحض أهل النفاق بنفاقهم.
والرسول عليه الصلاة والسلام، كان إذا أراد غزوة ورّى بغيرها؛ ليكتم خبره عن الناس، فكان إذا أراد مكة قال: كيف طريق غطفان في نجد، وكيف ماء غطفان، ليظهر للناس أنه يريد تجاه نجد وهو يريد مكة، ليعمي خبره على الناس، والحرب خدعة، إلا معركة تبوك، فأعلنها صلى الله عليه وسلم إعلاناً عاماً في الناس، ليتجهز الناس، ووقف عليه الصلاة والسلام بعد أن أعلن أنه متهيئ، وأنه يريد تبوك قام المنافقون يعتذرون.
يأتيه الجد بن قيس الذي طبع الله على قلبه بالنفاق، من أغنياء المدينة، يقول: يا رسول الله! ائذن لي ولا تفتني قال: ولِمَ؟ قال: أنا رجل إذا رأيت بنات بني الأصفر -أي: بنات الروم- أفتتن، فأنا لا أريد الخروج، فقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49].
فر من الموت وفي الموت وقع، فر من فتنة ظنية كذب فيها، ولكنه وقع في فتنة النار التي تلظى، وأتوا يعتذرون بالحيل، فعذرهم صلى الله عليه وسلم.
ووقف عليه الصلاة والسلام في يوم الجمعة وخطب خطبة ما سمع الناس بمثلها ألهب فيها الحماس، ورفع فيها الإخلاص، ودعا إلى التبرع وتجهيز هذه الغزوة، وكان الجيش ضخم لا يستطاع أن يجهز بمال قليل، فقال: {من يجهز الجيش وله الجنة؟ فتوقف الناس فأعاد، فتوقف الناس فأعاد، وتوقف الناس فأعاد، فقام عثمان رضي الله عنه وأرضاه، فقال: أنا أجهز الجيش يا رسول الله!} بسلاحه، وبدوابه، وبرواحله في سبيل الله، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم.
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
وقال: {غفر الله لـ عثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض} يد بيضاء لا تنسى عند الواحد الأحد، يوم لا تضيع الودائع عنده تبارك وتعالى، ثم نزل عليه الصلاة والسلام فتهيأ وسار الجيش.(117/2)
تخلف كعب بن مالك
أما صاحبنا هذه الليلة فهو: كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، الشاعر المشهور، فلم يكن له حظ لأن القضاء الكوني والقدر كتب عليه ألاَّ يرافق الناس، والعبد يبحث ويكتسب ويتسبب لكن {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:5].
يقول كعب: والله ما كنت أيسر منها في غزوة من الغزوات، ووالله ما كنت أريح نفساً من تلك الأيام، قال: ولم تفتني غزوة من الغزوات إلا غزوة بدر، فإنها فاتتني؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتهيأ لها، وإنما خرج على عجالة، يريد مبادرة كفار مكة، وعذر من تخلف عليه الصلاة والسلام عن غزوة بدر، أما غزوة تبوك فلم يعذر أحداً عليه الصلاة والسلام؛ لأن الإعلان كان من قبل شهر، والخبر سرى في الجزيرة العربية، والجيش ما خفي أمره على الناس.
قال: شهدت بيعة العقبة، وهي في نفسي أرفع من غزوة بدر، ولو كانت بدر أذكر في الناس.
قال فخرج صلى الله عليه وسلم بالجيش: قال: وتلبثت قلت: أتهيأ اليوم، أتهيأ غداً، أتهيأ بعد غدٍ، حتى تفارط الغزو، وخرج الناس بجيشهم، فلما أصبحوا على مسيرة ثلاثة أيام؛ أردت أن أتهيأ ودخلت على زَوْجَتَّي -وكان له زوجتان- وقد فرشتا لي في العريشين، وهما في المزرعة، مزرعة متدلية الأغصان من الفواكه والرطب والظلال والماء البارد، والرسول صلى الله عليه وسلم في الصحراء.
ما حقنا أن تقروا عين ذي حسد بنا ولا أن تسروا كاشحاً فينا
ولا بد من شكوى إلى ذي قرابة يواسيك أو يسليك أو يتوجع
وهل من الحب أن تترك خليلك في الرمضاء وأنت في الظلال الوارفة؟
قال: فوقفت حزيناً على الباب، ثم عدت لأتجهز، فتفارط الغزو ولم أتمكن من اللحاق بهم -حكمة الله وقدرته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- فلم يذكرني صلى الله عليه وسلم حتى اقترب من تبوك.
ولما اقترب صلى الله عليه وسلم نزل هناك في تبوك، وأخذ يتفقد أصحابه، ولم يكن هناك ديوان -لم تكن الأسماء مسجلة- وإنما يعرف رسول صلى الله عليه وسلم وجوه الناس والمهاجرين والأنصار، ومن هم من طلبة العلم، ومن المجاهدين الأخيار والأبرار، الذين عرّفوا بأنفسهم في الصفوف الأولى؛ لأن بعض الناس يعرفه الناس بمناقبه في الإسلام، بصلاته بصيامه، بصدقه مع الله، أما بعض الناس لا يذكر لا في الدنيا ولا في الآخرة.(117/3)
أبو ذر رضي الله عنه يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك
قال: فجلس عليه الصلاة والسلام، وكان مجلسه عند تبوك قال: من تخلف؟
قالوا: كعب بن مالك، قال: ومن؟ قالوا: فلان وفلان وعدوا رجالاً، فجلس عليه الصلاة والسلام ساكتاً، وإذا برجل يقتلع خطاه من الصحراء، أعياه جمله، ضرب الجمل وحاول أن يمضي مع الجمل فما استطاع، فأخذ متاعه وجعله على كتفه، وأتى يقتلع أقدامه من الصحراء في حرارة الشمس التي يكافؤه الله بها بظلال الجنة.
فقال عليه الصلاة والسلام: {كن أبا ذر، اللهم اجعله أبا ذر} فاقترب الرجل، وكان كالصقر في آخر الصحراء، وكلما اقترب كبر هذا الجسم، حتى اقترب وقال الناس: أبو ذر، فقال عليه الصلاة والسلام وأبو ذر وما يزال بعيداً: {رحمك الله يا أبا ذر، تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك} وعاش وحده رضي الله عنه، فإنه في آخر حياته أخذ زهابه -شملة- وعصا وصحفه -هذا تراثه من الدنيا جميعاً- وعاش وحده:
دولتي جعبتي وكنزي يقيني فإذا ما وصلت فالكل ينسى
لاطفوني هددتهم هددوني بالمنايا لا طفت حتى وحسى
أركبوني نزلت أركب عزماً أنزلوني ركبت في الحق نفسا
خرج إلى الربذة رضي الله عنه، وأقام يرعى الماعز، من أكبر صحابة النبي صلى الله عليه وسلم صدقاً وإخلاصاً وتضحية، حتى يقول الذهبي في بعض الآثار: إنه يحشر يوم القيامة مع عيسى بن مريم.
من أزهد الناس، كان يجلس في الصحراء ليسلم عليه دينه ولما رأى القصور بدأت في عصر التابعين تشمخر في المدينة، ورأى الحدائق، والأنهار كان يقوم بعصاه في المجامع العامة، ويقول: ما هذه الدنيا؟ نحن جئنا لإنقاذ الناس وإخراجهم من الظلام إلى النور، وهذه تعطلكم عن الآخرة، إن وراءنا عقبة كئودة يا عباد الله! ويصيح ولكن في أذن من؟
جاءت الدولة الأموية، ورأت فارس والروم، ورأت القصور والأرائك والطنافس والكنبات -كما حدث فينا الآن- فأكلوا وشربوا وتمتعوا، فضاع قيام الليل، وضاعت حلقات الذكر، والأمة إذا استرخت مع الرفاهية ومع النعمة، وأصبحت أمة ملاعق وصحون وبطون، تنسى الله عز وجل إلا من رحم الله.(117/4)
الشاهد من قصة كعب
الشاهد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما فعل كعب بن مالك؟
فقام رجل بينه وبين كعب بعض الحزازات ليشهد.
وبعض الناس لا يدعى ولا يستشهد، لكن يدلي بشهادته قبل أن يستشهد، حتى إذا ذكر بعض الأخيار في بعض المجالس، ترى بعض الأعداء كما قال الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] قال ابن تيمية: هادياً يهديه، وناصراً ينصره، فالهادي بصيرة، والنصر إما شيخ أو سلطان، والله يجعل للأولياء إما هدى بصيرة، وإما سلطان يدفع عنهم، وكفى بسلطان الله من سلطان.
فترى إذا ذكر بعض الأخيار وبعض الذين لهم قدم صدق، ينبري لهم من يتنقصهم في المجالس، ويتهكم بهم في نقاط الضعف التي لا يخلو منها البشر، وينسى حسناتهم التي كالجبال، قام الرجل فقال: يا رسول الله! ألهى كعب بن مالك نظره إلى برديه، واشتغاله في أهله.
وقام معاذ بن جبل الداعية الإمام، الذي يتقدم يوم القيامة قبل العلماء برتوة ويدخل الجنة، قائد العلماء إلى الجنة، قام يدافع عن الرجل، وإذا لم يدافع المؤمنون بعضهم عن بعض، يدافع عنهم ربهم: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) [الحج:38] قال: يا رسول الله! والله ما علمت في كعب إلا خيراً، وأثنى عليه.
وانتهى صلى الله عليه وسلم من الغزوة.
قال كعب يروي القصة والمأساة، مأساة وجرح في حياته لا ينساه، لكن ضمدته التوبة، وداواه بلسم السماح من الله عز وجل؛ فإذا رضي الله عز وجل فما عليك ممن غضب وممن شرق أو غرب:
فليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
رغم أنوف الناس إن غضبوا إذا رضي الله عليك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنت لا تطلب رضا الناس فإن عند ابن خزيمة وأصل الحديث عند أبي داود، يقول عليه الصلاة والسلام: {من أرضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخط الناس برضا الله، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس}.(117/5)
رجوع النبي صلى الله عليه وسلم
قال كعب: فلما أقبل عليه الصلاة والسلام قافلاً إلى المدينة حضرني بثي وحزني، وتذكرت كل حجة أخرج بها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم!
ماذا يقول؟ يقول: كنت مريضاً فيكذب على الله! يقول: كنت مسافراً وهو موجود! يقول: انكسرت رجلي وهي ما انكسرت! يقول: أنا شيخ وهو شاب! يقول: أنا فقير وهو من أغنى أهل المدينة! قال: فحضرني بثي وحزني، والبث أشد الحزن، يقول يعقوب عليه السلام: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [يوسف:86] قال بعض العلماء -ينسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم-: لو علم يعقوب بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة:156] لقال هذه الكلمة وما قال: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) [يوسف:84] ولم يقل إنما أشكو بثي، وإنما قال: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة:156].
قال: وأخذت أستشير كل ذي رأي من أهلي.
يذهب إلى أعمامه فيقول: ماذا أقول؟ الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يقدم إلى المدينة، وسوف يسألني لماذا تأخرت؟ وبين يدي مَن؟ بين يدي ذي نقمات قوله القيل.
حتى وضعت يميني ما أنازعها في كف ذي نقمات قوله القيل
الذي يعلمه الله علم الغيب، يعلم الكذب من الصدق عليه الصلاة والسلام، قال: فأخذت قرابتي، بماذا أخرج به بين يديه صلى الله عليه وسلم.
يذهب إلى عمه فيستشيره، إلى أخيه إلى قرابته.
قال: فلما قدم عليه الصلاة والسلام المدينة، دخل الموكب الكريم، والوجه الطلق، الذي أحيا الله به المدينة المنورة، فأصبحت لؤلؤة في جبين التاريخ، استفاقت على صباح جديد، ملأ آذانها أذان بلال.
المدينة التي كانت تئن بالأوثان والأصنام، استفاقت بلا إله إلا الله.(117/6)
استقبال الناس للنبي صلى الله عليه وسلم
الصحيح عند كثير من أهل السير والمحدثين أن الأطفال والجواري استقبلوا الرسول صلى الله عليه وسلم بقولهم: (طلع البدر علينا) يوم أتى من تبوك لا من الهجرة، وبعضهم يرجح ذلك ويميل إلى هذا.
وكان إذا أقبل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أسرع السير عليه الصلاة والسلام، وقال للناس: {إني متعجل، فمن شاء منكم أن يتعجل فمعي، ومن شاء أن يتأخر} يسمحهم لأنه القائد الأعلى، وأخذ يقول: {آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون} وسمعت المدينة، فخرجت بأطفالها وفلذات أكبادها، والجواري على أطراف السكك والطرقات، يستقبلون معلم الخير، الأب الحاني، المربي الكبير، الذي جعله الله رحمة لكل إنسان.
حتى الكافر هو رحمة له، قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107] (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال:33] وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128] وانطلقت الهتافات:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحباً يا خير داع
وأخذ صلى الله عليه وسلم يستقبل الأطفال، وتسابق الحسن وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن الزبير إلى ناقته عليه الصلاة والسلام، فجعل أحدهم أمامه والاثنين خلفه، تركوا آباءهم، وأتوا إلى أبيهم الحقيقي المعلم الأكبر صلى الله عليه وسلم.
يقول كعب: فلما أفل إلى المدينة زاح عني الباطل، والحجج والحيل التي لا تنفع، أي: تلاشت، لم يبق إلا الصدق قال: فأجمعت صدقه.
يقول: قلت في نفسي لا يمكن أن أخرج إلا بكلمة صادقة، قال: فكان عليه الصلاة والسلام يبدأ بالمسجد، فيصلي فيه إذا دخل ضحى، قال فبدأ عليه الصلاة والسلام بالمسجد.
ترك أهله ليستقبل بيت الله عز وجل، وليتفاءل بركعتين تقربه إلى الحق، وهو أقرب الناس إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فدخل عليه الصلاة والسلام، ونزل وخلع السلاح عنه، وصلى ركعتين، ودخل البواسل من جنود أبطال الإسلام، أهل الفتوح، الذين تركوا اسم الله مرفوعاً بسيوفهم:
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم مناراً
فصلى عليه الصلاة والسلام وأخذ الناس يسلمون عليه، والمنافقون الذين تخلفوا ما يقارب الثمانين منافقاً، لكن الثلاثة صادقون الذين خلفوا، جلس عليه الصلاة والسلام، هذا يسلم ويذهب قال كعب بن مالك: فتقدم المنافقون فاعتذروا، فعذرهم صلى الله عليه وسلم، فيقول هذا: أنا مرضت يا رسول الله، ويأتي الآخر ويقول: أصابني زكام وقت الغزوة، فيقول له: اذهب وذاك يفعل، وكلها كذب، حتى يقول الله عز وجل: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43].
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لماذا لم تصبر قليلاً؟ فقال الله: عفا الله عنك، حتى يطمئن الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم إذا سكت القارئ وقال: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:43] علم النبي عتاب الله له، وعلم أن الله قد عفا عنه؛ لذا قدم العفو على العتاب حتى لا يخاف عليه الصلاة والسلام، لكن تلطَّف الله وروَّح عن رسوله صلى الله عليه وسلم {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:43].
لكن أذن لهم صلى الله عليه وسلم، فهو معفو عنه، فلما أذن لهم خرجوا يتضاحكون، فأهل الباطل يفرحون بباطلهم، يكذبون ويفرحون، فيقولون لأسرهم وعشائرهم: ألا ترون إلى جدلنا وإلى قوة حجتنا، خرجنا من بين يديه، اعتذرنا بكذب وصدقنا.(117/7)
دخول كعب على النبي صلى الله عليه وسلم
أتى كعب بن مالك ووضع يده بكف المصطفى عليه الصلاة والسلام قال: فتبسم عليه الصلاة والسلام، تبسم المغضب.
وما رأيك بسيد الخلق عليه الصلاة والسلام تجلس أمامه ويتبسم تبسم المغضب.
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
يغضي حياءً ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم
قال: يا كعب! أما ابتعت ظهرك؟ قال كعب: يا رسول الله! والله الذي لا إله إلا هو، لو جلست عند أحد من أهل الدنيا غيرك لاستطعت أن أخرج من بين يديه بحجة، إني شاعر وقد أوتيت جدلاً.
وكان كعب بن مالك من أفصح الناس على الإطلاق، بل هو من شعراء الدعوة المطاليق المناطيق المصاقيع.
قال: يا رسول الله! والله الذي لا إله إلا هو، لو جلست عند أحد من أهل الدنيا لاستطعت أن أخرج من بين يديه بحجة إني رجل شاعر وقد أوتيت جدلاً، لكن والله الذي لا إله إلا هو يا رسول الله! لقد علمت لو أني كذبتك الآن؛ ليوشكن الله عز وجل أن يغضبك، ثم يغضب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليَّ، وإن صدقت اليوم على شيء تجده عليَّ، إني أرجو من الله أن يرضيك عني.
والله يا رسول -اسمع العذر- ما كان لي من عذر، والله ما كنت أكثر مالاً وأكثر قوة مني حين تخلفت، فما لي من عذر.
ثم أتى صاحبه الثاني والثالث فاعتذرا كعذره، فقال: قوموا.
قال: فلقيني بنو سلمة -أسرته وقبيلته- عند الباب فقالوا: ما لك ما استطعت أن تعتذر، والله ما رأينا أهون منك اليوم.
قال: فوالله ما زالوا بي حتى كدت أرجع فأكذب نفسي، وهؤلاء بعض الجلساء يوشون الإنسان ويحدثونه عن نفسه حتى ينسوه الله عز وجل.
قال: فثبتني الله عز وجل فما عدت، قلت: لا.
قد صدقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرجو أن يرضيه الله عني، وأن يرضى الله عني، قلت: هل تخلف معي أحد من الناس كان عذره كعذري؟ قالوا: نعم.
قلت: من؟ قالوا: هلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع العامري.
قال: فذكروا لي رجلين من أهل بدر، وكلمة أهل بدر هي عند الزهري، قال ابن القيم رحمه الله: وهما لم يحضرا بدراً لكن أوردتها لأنها في الصحيحين، والصحيح أنهما لم يحضرا بدراً لكنهما من أفضل الناس، ذاك شيخ عابد كبير زاهد، وهذا شاب يتقطع حرارة لنصرة لا إله إلا الله.
قال: فذكرا لي رجلين صالحين لي بهما أسوة، وذلك مما يسلي في المصائب على الإنسان؛ أن يكون له شركاء، حتى يقول ابن القيم: إن مما يسهل المصائب رؤية المصائب في الدنيا، ففي كل واد بنو سعد.
أي: ما من إنسان إلا دخلت على قلبه وعلى بيته مصيبة، في جسمه أو في عرضه أو في دينه أو في كل شيء.
سبب هذا المثل: (في كل واد بنو سعد): أن رجلاً من العرب من هوازن، ذهب يبحث عن جملٍ له، فكلما نزل وادياً قال: من القوم؟ قالوا: بنو سعد، فنزل في الوادي الآخر فقالوا: بنو سعد، والآخر قالوا: بنو سعد، قال: في كل وادٍ بنو سعد.
فيقول ابن القيم: في كل واد بنو سعد من المصائب.
والخنساء يوم بكت صخراً بكته حتى خيف عليها الموت، فوعظتها عائشة رضي الله عنها، فقالت:
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكين مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي
تقول: مما يسهل عليَّ المصيبة، أني أرى عجائز يبكين على أولادهن، ولكن لا يبكين مثل أخي، لكن التأسي لا بأس به.
قال: فذكرا لي رجلين لي بهما أسوة وقدوة، قال: فأقامنا صلى الله عليه وسلم حتى يقضي الله في أمرنا.
ولم يبت فيهم صلى الله عليه وسلم، وبتَّ في الأولين، وأما هؤلاء أرجع أمرهم إلى الله من فوق سبع سماوات.(117/8)
الأمر بهجر المتخلفين
كان أول مرسوم اتخذه صلى الله عليه وسلم تجاههم؛ ألا يكلمهم الناس ولا يبايعونهم ولا يشارونهم، ولا يواصونهم، مقاطعة وحضر عام، انظر ما أعظم المصيبة والكارثة! إنسان يعيش في المدينة بين المهاجرين والأنصار، بين الأطفال والأحبة، يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والسادات والأجلة، وبين عشية وضحاها يؤمر هؤلاء جميعاً ألا يكلمه حتى القرابة، إخوانه ممنوعون من الكلام، والسلام، والزيارة، والمواصلة، مقاطعة في ذات الله عز وجل، هؤلاء عصاة، ولذلك يبوب البخاري باب: مجافاة أهل المعصية، فوقفوا في بيوتهم وكما وصفهم الله تعالى بقوله: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة:118] يقول كعب بن مالك: والله إن الأرض التي كنت أراها ما كانت الأرض التي أعرفها، النخل ليس بالنخل.
ولذلك الحزن والمصائب تغير الأنظار، وتجدد تغير الطبيعة في عينك إذا أصابتك كارثة، قال: فقاطعنا الناس، نسلم فلا يردون ولا يسلمون علينا، ونبتاع فلا يبيعون، يأتي إلى الرجل في السوق يقول: أريد هذا السمن فلا يكلمه الرجل، يحمل السمن يسحب السمن من يده؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا قال كلمة معنى ذلك أن الدنيا سوف تتوقف وتصغي.
وكعب بن مالك بن زهير الشاعر هجا الرسول عليه الصلاة والسلام بثلاثة أبيات أو أربعة، فقال عليه الصلاة والسلام لقبائل العرب: {من وجد منكم كعب بن مالك بن زهير فليقتله} فأصبح يمشي في الليل، وينام في النهار، ضاقت عليه الدنيا أين يذهب؟ لا كهف يأوي إليه ولا قبيلة تنصره، كل القبائل ممنوع أن تحمي هذا الرجل.
وفي الأخير نظم قصيدة، ودخل على أبي بكر في بيته قال: يا أبا بكر! ضاقت عليّ الدنيا بما رحبت، وأخرج أصابعه حتى أظفاره لم يقلمها، وأراه جوعه وهزاله ومرضه وضعفه، فماذا ترى؟ قال أبو بكر وكان رجلاً حصيفاً عاقلاً- أعندك أبيات؟ والعرب كانت تتوسل بالأبيات في العظماء.
قال: نعم.
قال: إذا صلى الرسول صلى الله عليه وسلم الفجر فألقها عليه، فصلى الرسول صلى الله عليه وسلم الفجر، فتقدم كعب، فأتى بتلك القصيدة كأنها انتزعت من قلبه.
يقول:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول
إلى أن يقول:
نُبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول
انظر ما أحسن الكلام:
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب ولو كثرت في الأقاويل
ثم وصف حالته في الصحراء يقول:
لقد أقوم مقاماً لو يقوم به يرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لأن قلب الفيل مثل الحجر يقول: من خوفك وتهديدك لي والله لو كان الفيل مكاني لانهار الفيل فكيف بي أنا، حتى قال:
حتى وضعت يميني ما أنازعها في كف ذي نقمات قيله القيل
فالمقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قال قولاً انتهى الأمر، ويأتي كعب بن مالك، يسلم على أقاربه فلا يسلمون عليه ولا يكلمونه، وأصبح في عزلة، وفي الأخير قال: تسورت الحائط على ابن عمي أبي قتادة، أبو قتادة ابن عمه، فارس الإسلام، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الباب مغلق، لو طرق الباب لا يفتح أبو قتادة يقول: من؟ قال: كعب بن مالك، قال: لا.
في الأخير اقتحم المنزل من على السور، قال: فلما تسورت عليه الدار دخلت عليه، وقلت: يا بن عمي! هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: فما أجابني، قلت: أسألك بالله أتعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: فما أجابني، قلت: أسألك بالله أتعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: الله ورسوله أعلم.
حتى الجواب ضعيف، ولم يأتِ إلا في آخر لحظة، وليس جواباً شافياً، قال: فدمعت عيناي وتسورت الحائط وعدت.(117/9)
البلاء يزداد على المتخلفين
قال كعب: فخرجت إلى سوق المدينة -خرج متفرجاً، وإلا لا يبايع أحداً ولا يشاري أحدا، ً ولا يكلمه أحد، ولا يسلم عليه أحد- وبينما أنا أدور في السوق، وإذا أنا بنبطي أتى من الشام -حادثة من الحدائث، ومصيبة من المصائب وتتجمع بعض المصائب على بعض الناس في فترة واحدة- قال: وإذا هو بورقة بيده يقول: أين كعب بن مالك؟ والناس لا يتكلمون مع كعب ولكن يقولون: انظر إليه هناك.
قال: فأخذ الناس يشيرون إليَّ، فأتى وأعطاني رسالة، قال: وكنت قارئاً وكان وقليل من الصحابة من يقرأ، أمة أمية، لكن قلوبهم تقرأ؛ لأن بعض الناس يقرأ ويصدح، ولكن ليس له قلب، العين هي التي تقرأ والعين هي التي تتعلم، أما القلب فلا تعلم قال الله: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد:19] {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] فليست المسألة مسألة الثقافة، بعضهم معه سبع لغات ويدخل النار من سبعة أبواب.
يقول: كنت قارئاً ففتحت الرسالة فقرأتها، فإذا هي من ملك غسان -في الشام ملك من ملوك الدنيا، لم يجد فرصة يدخل بها إلا في هذه الأزمة- فقرأ الرسالة فإذا فيها: إلى كعب بن مالك من ملك غسان، إني سمعت أن صاحبك جفاك -قاطعك- ولم يجعلك الله بدار هوان- انظر ما أحسن ذاك، وسيرة ذاك، وخلق ذاك المنافق الكبير -فالحق بنا نواسك.
الحق بنا نسعدك ونعطك من المال وتتكلم معنا، وتزورنا ونزورك، أما هذا الحال فما يصلح، يدخل من نقاط الضعف، وكان كعب رجلاً مؤمناً بالله عز وجل ورسوله واليوم والآخر قال: قلت وهذه أيضاً من البلاء، قال: فتيممت بها التنور فسجرتها -أحرقها في التنور في النار- قال: وكنت أصلي مع المسلمين، وكنت أجلد القوم، أما الرجلان الآخران فانهارا من كثرة البكاء، يقوم أحدهم يصلي في المسجد، وعظامه تتخاذل لا يستطيع، فانهار في البيت.
هذه المسألة ليست بالسهلة، تصور أن الرسول صلى الله عليه وسلم تعيش معه أو يعيش معك، ثم يقول: يا أيها الناس -في يوم الجمعة- لا تكلموا فلان ابن فلان ولا تسلموا عليه، ولا تزوروه ولا تبايعوه، ولا تشاروه، ولا تشاوروه، أي مصيبة كهذه المصيبة، الموت ولا هذا الأمر.
قال: كنت أخرج، وكنت أجلد القوم فأشد عليَّ ثيابي -كان شاباً ما يقارب 35 عاماً- قال: فأصلي مع الناس، فكنت آتي والرسول صلى الله عليه وسلم جالس، فأسلم عليه فوالله ما أدري أيسلم عليَّ أم لا، إما من كثرة الحزن، وإما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرد، أو يرد رداً خفياً.
قال: والله لا أدري هل يرد عليَّ السلام أم لا؟ قال: فكنت إذا أقبلت إلى صلاتي سارقني النظر عليه الصلاة والسلام.
فإن كعب بن مالك يدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسارقه النظر، إذا كبر وأصبح في دعاء الاستفتاح نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ينظر إليه ويعرف أنه كعب، قال: فإذا سلمت أقبل صلى الله عليه وسلم على نفسه ولا ينظر إلي، وهذا جفاء تتقطع له القلوب.(117/10)
الأمر باعتزال النساء
قال كعب: فلما مضت أربعون ليلة من الخمسين أرسل إلينا صلى الله عليه وسلم أن اعتزلوا نساءكم.
كل يوم تأتي داهية دهياء.
حتى كأني للحوادث صخرة بصفا المشقر كل يوم تقرع
وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع
قال: فأرسل إلينا أن اعتزلوا نساءكم، قال: فأرسلت أأطلق امرأتي أم لا؟ قال: لا.
اعتزلها فقط ولا تطلقها.
قال: فذهبت امرأة هلال بن أمية -وكان شيخاً كبيراً قد عمي من كثرة البكاء- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! أتأذن لي أن أخدم هلال بن أمية -أي: أصنع له الطعام، أقرب له طعامه وشرابه- قال: نعم.
ولكن لا يقربك.
يقول صلى الله عليه وسلم: لا يقربك، وهذا جزاء ونكال وتعزير، قالت: يا رسول الله! والله ما به من حراك، مازال يبكي من ذلك اليوم إلى اليوم، ليل نهار.
لا ترقأ له دمعة، انهار تماماً.
ولذلك بعض المصائب تطم على الإنسان، حتى يبقى ليله ونهاره بكاء، يعقوب عليه السلام، وهو من الأنبياء الذي آتاهم الله العصمة وقوة القلوب، أصبح يبكي ليل نهار حتى ابيضت عيناه، يقولون: إن الملائكة كانت تبكي لبكائه، ويقولون: جبريل كان يزوره فيجلس معه يبكي، وكان يغطي يعقوب بيده على فمه ويقول: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف:18] وكلما سأله بعض جيرانه من الشامتين وهم يدرون بالقصة قال: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [يوسف:86].
ولذلك كان أبو بكر إذا صلى بالناس صلاة الفجر وقرأ سورة يوسف وبلغ قوله تعالى: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [يوسف:86] انهار من شدة البكاء، وبكت معه الصفوف.
وثبت أن عمر رضي الله عنه، كان إذا قرأ سورة يوسف وبلغ قوله تعالى: (قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف:92] بكى وبكى معه الناس.
فالمقصود: أن هلال بن أمية انهار من كثرة البكاء، قال: فاعتزلنا النساء، ومضت خمسون ليلة.
خمسون كلها مرارة، لم يذوقوا المنام إلا قليلاً ولا الطعام والشراب إلا قليلاً، حياة متعبة، تغير الجو والطبيعة والأشجار والأنهار وكل شيء.(117/11)
توبة الله عليهم
وبعدها أراد الله أن يتوب عليهم من فوق سبع سماوات، وبابه مفتوح، ونواله ممنوح، وخيره يغدو ويروح قال الله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] ومن يستر العيوب إلا الله، غفران الذنب ليس بيد ملك مقرب ولا نبي مرسل، لا يغفر الذنب إلا الله، ولا يكشف الكرب إلا الله، الرسول له مهمة التبليغ عليه الصلاة والسلام، أما إذا اشتدت الأزمات والكوارث والمصائب فالله هو الذي يكشفها، قال الله: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل:62].
قال: فصليت صباح ذات يوم -وكان بيته في مزرعة بعيداً من المسجد، وربما لا يسمع الأذان- على سطح بيتي -لأنه لا يسمع الأذان- قال: فلما انتهيت من صلاة الفجر، جلست أسبح الله عز وجل، وأنا على الحالة التي ذكر الله عز وجل من حالتنا، حالة يرثى لها، حالة الأسى، واللوعة، والحزن -وإذا برجلين: رجل على فرس، ورجل أقبل راجلاً يسعى، قال: وأوفى الرجل الذي على رجليه على جبل سلع، وجبل سلع بين بني سلمة وبين المدينة.
ويقول أنس كما في الصحيحين: لما دخل الأعرابي يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستسقي الله عز وجل -وللفائدة-: إن الأعرابي دخل من باب القضاء والرسول صلى الله عليه وسلم في شدة حر المدينة وليس هناك من السحاب ولا الغمام في السماء شيء، وكانت المدينة تتوقد بلهيب الحرارة حتى الرمضاء تحترق يقول أنس: {فدخل الأعرابي فقطع خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر يفيض على الناس مما أتاه الله من الحكمة، وقال: يا رسول الله! -فالتفت صلى الله عليه وسلم نحو دار القضاء التي شراها عمر - جاع العيال، وضاع المال، وتقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا.
ومباشرة لم يتلكأ، ولا فكر ولا تلعثم، رفع يديه: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، قال أنس: والذي نفسي بيده، ما في السماء من سحاب ولا قزع، فثارت سحابة كالترس، فأوفت على سلع قال: ثم انتشرت السماء، ثارت كالجبال في لحظة، قبل أن ينتهي صلى الله عليه وسلم من الخطبة، وهو ما كان يخطب إلا لحظات، قال: فثارت كالجبال ثم أرعدت وأبرقت وأزبدت، ثم أنزلت الغيث، قال: فأخذ سقف المسجد يخر على وجه النبي صلى الله عليه وسلم وجبينه الطاهر، وأخذ يتبسم إلى الجماهير، ويقول: أشهد أني رسول الله.
إي والله، نشهد أنه رسول الله، في لحظات تأتي هذه الأمطار، يقول: سال الوادي.
ويأتي ذاك الأعرابي أو غيره، وانظر نفس الكلام يقول: يا رسول الله! جاع العيال، وضاع المال، وتقطعت السبل، فادع الله، أن يكف عنا الغيث.
لماذا؟ لأنه حبسهم في البيوت، فالغنم لا تخرج والإبل والبقر أصبحوا في حظر، السماء مدلهمة على الأرض في اشتباك، واستمر المطر فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم من كثرة تململ الإنسان، أمس يشكو واليوم يشكو، ولكن الإنسان لا يدعو برفع الرحمة، إذا أنعم الله عليك برحمة؛ فلا تقل اللهم خفف علينا الغيث، فقال صلى الله عليه وسلم: {اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الضراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر قال أنس: والله ما أشار إلى ناحية إلا سكب الغيث نحوها، وخرجوا من المسجد مثل الجوبة} هذه في رواية البخاري، كأنهم في ثوب مفصل على المسجد وعلى الطرقات، يخرجون في الشمس، أما ناحية الطريق من هنا غيث والناحية الأخرى غيث، والمساجد والطرقات والجبال والروابي.
الشاهد: أن سلعاً هذا جبل في المدينة مرتفع، يقول صلى الله عليه وسلم: {إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج من المدينة} معناه: إذا كثر العمار واختلط الناس، وكانت اهتماماتهم بالدنيا، فاخرج من المدينة، فلما رأى أبو ذر البناء وصل إلى سلع خرج من المدينة إلى الصحراء.(117/12)
استحباب تبشير المسلم
قال: فأوفى ذلك الرجل وأصبح على جبل سلع، والفارس أقبل يبشر؛ لأن البشرى مطلوبة.
ولذلك إذا سمعت بخبر طيب لا تتأخر، بل بشر المسلم وحث وأسرع واتصل، لا تمهله حتى تنتهي وقت البشرى، ثم تأتي مبشراً بعد انتهاء الأمر، واحرص على أن يكون لك شرف البشرى وأجر البشرى، ولذلك الملائكة بشرت إبراهيم، والله يقول: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) [الصافات:101] والبشرى من أحسن ما يمكن.
في الصحيح أن أبا بكر وعمر رضوان الله عليهما، كانا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكانا يطوفان بعض الليالي في المدينة يستمعان القائل، ويسألان عن أخبار الناس، ومرا بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا برجل توضأ ودخل المسجد يصلي، ثم رفع صوته بالقراءة، وكان صوته من أحسن الأصوات، وهذا هو ابن مسعود -يقول مسروق -أحد تلاميذه-: قرأ بنا ابن مسعود في صلاة المغرب في الكوفة سورة: قل هو الله أحد، فوالله ما سمعت بصنجٍ ولا نايٍ ولا وترٍ أعجب من صوته، فكان يقرأ- فرفع صوته بالقراءة، فدعا صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر يريد أن يريهما هذا التلميذ البار النجيب، الذي نبت في نبتة الإسلام، فوقفا على نافذة المسجد وأخذا ينظران وأخذت دموعهم على خدودهم من القرآن، ثم انتهى ابن مسعود ولا يدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يستمعون له، فرفع كفه، فقال عليه الصلاة والسلام: {سل تعطه، سل تعطه، سل تعط}.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: {من أراد أن يأخذ القرآن غضاً طرياً فليقرأه على قراءة ابن أم عبد} أي: ابن مسعود.
قال عمر: فطالت عليَّ ليلتي يريد أن يصبح الصباح ليذهب إلى ابن مسعود ليبشره، وفي الصباح صلّى الفجر وذهب إلى ابن مسعود يبشره، قال: قد بشرني أبو بكر.
قال: والله لا أسابق أبا بكر، كلما أتى عمر يريد المركز الأول سبقه أبو بكر، حتى يقول ابن القيم تعليقاً على هذه القصة:
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول
يقول: أنت ضعيف الجسم وأبو بكر ضعيف، لكن دائماً هو الأول حتى يدخل الجنة من الأبواب الثمانية.
عمر رضي الله عنه، أراد أن يفعل في الإسلام فعلة عظيمة من أعظم الجود، فأتى إلى ماله وقسم الذهب والفضة، والغنم نصفين، والبقر نصفين، والإبل نصفين فقال: أما نصف فلي ولأهلي، وأما نصف ففي سبيل الله، ثم أخذ النصف، وتوقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: ما فعل فعلك من الناس أحد، فقال: يا رسول الله! هذا المال لك في سبيل الله، قال له صلى الله عليه وسلم: {أبقيت لأهلك شيئاً قال: نصف المال يا رسول الله! قال: لكن أبا بكر دفع ماله كله في سبيل الله} قلت: والله لا أسابق أبا بكر أبداً، نعم دائماً:
إن تبتدر غاية يوماً لمكرمةٍ تلق السوابق منا والمصلينا
وفي السنن بسند جيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس مع الصحابة قال: {من زار منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا يا رسول الله، قال: من شيع جنازة؟ قال: أنا يا رسول الله، قال: من تصدق بصدقة؟ قال: أنا يا رسول الله، قال: من أصبح صائماً؟ قال: أنا يا رسول الله، قال: ما جمعها أحد إلا دخل الجنة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فالمقصود: أن السبق بالبشرى هي أحسن ما يمكن أن يبشر بها المسلم، فاغتنم هذا الأجر وبشر به، فإذا سمعت ببشرى سارة لأحد: نجح ابنه، أتاه شيء يفرحه، أتاه ابن وهو غائب، فاغتنم هذا الأجر والمثوبة في إدخال السرور عليه، لكن بعض الناس بالعكس، إذا رأى مصيبة طار في جناح السرعة، اتصل بالتلفون: أبشرك مات ابنك في تمام الساعة الرابعة هذا اليوم، ورسب ابنك في ثمانية دروس، وأبشرك ابنتك الأخرى أخفقت في الامتحان.
لكن لو أتت مبشرات لم يبشر، بعض الناس يدخل من هذه الجوانب، يحب الحوادث، نسأل الله العافية والستر.
يقول عثمان: [[ودت الزانية أن يزنوا الناس جميعاً]] وأهل الكوارث يريدون أن يقع الناس في الكوارث، ولذلك التلميذ إذا رسب في الامتحان يأتي يتبشر في قائمة الراسبين ويقول: عسى ابن فلان ابن جيراننا معي، حتى نتشارك في المصيبة، يريد أهل القرية أن يرسبوا جميعاً، أما إذا نجحوا يأتي على المصيبة مصيبة أخرى، مصيبة أنه رسب، ومصيبة أنهم نجحوا هم، فالمقصود: اغتنام البشرى.(117/13)
كعب بن مالك وتوبة الله عليه
قال: فأوفى الذي على سلع فأخذ يصيح؛ لأنه ليس عنده فرس، وصاحب الفرس ما صاح، وهو يريد أن يسبق، فأخذ الذي على سلع يقول: يا كعب بن مالك أبشر، يا كعب بن مالك! أبشر.
يا كعب بن مالك! أبشر.
ومن الأدب في الإسلام إذا بشرك أحد بشيء؛ أن تقدم له شيئاً بنسبة هذه البشرى، ليست بشرى ضئيلة ثم تكبر، لكن بنسبة هذا، قال: فكان السابق صاحب الصوت، وأتى صاحب الفرس فبشرني، وكان عليَّ ثوبان، والله ما لي غيرهما؛ قال: فخلعتهما وأخذت ثياباً من جيراني، حياة بدائية حياة فقر وعوز، وهو من أغنياء الصحابة، فما بالك بفقراء الصحابة؟ أهل الصفة كانوا لا يجدون إلا ما يواري أحدهم عورته، وهذا من الأغنياء عنده ثوبان، حتى يقول صلى الله عليه وسلم يقترح على الناس: {لو أن لأحدكم ثوب لجمعته وثوب لمهنته} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وهذا من أدب الإسلام؛ أن تقدم شيئاً لمن بشرك بنجاح ابنك، أن تدعوه كذلك في البيت، أن تقدم له شيئاً بمناسبة هذه البشرى، أما ترك هذا الأمر فليس من المستحسن، لحديث كعب رضي الله عنه، قال: فاستعرت ثياباً من جيراني وشددت على نفسي ثم انطلقت إلى المسجد، أتى الآن يقابل سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، كأن البشرى له عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم تلاميذه وطلابه، وهم حسنة من حسناته.
قال: فدخلت المسجد، فلما رآني صلى الله عليه وسلم استنار وجهه كأنه فلقة قمر، تهلل حتى تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: [[إذا سر بشيء استنار وجهه كأنه فلقة قمر]] تبرق أسارير وجهه صلى الله عليه وسلم، وهيئته الجسمية عجيبة، جسمه كالحرير الأبيض الناصع، يقول أنس: [[نظرت إلى القمر ليلة الرابع عشر وإلى وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، والله لوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمل من القمر ليلة أربعة عشر]] وقيل لـ أبي هريرة: أكان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كالسيف؟ قال: لا.
كالشمس.
تقول عائشة وربما ذكرت قول أبي سويد حيث يقول وهو هذلي:
ومبرأ من كل غُبَّر حيضة وفساد مرضعة وداء مغيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل(117/14)
حكم القيام للقادم
قال: فاستنار وجهه وسُرَّ وقام لي، وأخذ الناس يهنئونني، أي: من المهاجرين والأنصار، قال: ما قام لي إلا طلحة بن عبيد الله الأنصاري أخو الجود طلحة الفياض، قال: والله ما أنساها لـ طلحة، والله ما قام لي غير طلحة، قال: فمشى إلي وعانقني.
وهذا من إكرام الكريم، وفيه جواز القيام للوافد إذا كان لمناسبة، وأنه ليس فيه حرج، أحد أهل الفضل كان جالساً، فقدم أحد العلماء فقام له هذا الرجل، وكان هذا الرجل وزيراً وذاك الداخل عالماً، فقام الوزير، فقال العالم: لا تقم فإنه لا يجوز القيام، قال الوزير:
قيامي والإله إليك حق وترك الحق ما لا يستقيم
وهل رجل له لب وعقل يراك تجي إليه ولا يقوم
لا بأس بالقيام للإكرام، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: {قوموا إلى سيدكم} ولما قدم جعفر الطيار، قام له صلى الله عليه وسلم وقبله بين عينه، وقال: {ما أدري بأيهما أسر، بقدوم جعفر أو بفتح خيبر وكلها مسرات} فقام طلحة بن عبيد الله، وطلحة أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن أسرة أبي بكر الصديق من بني تيم، وكان يسمى الفياض، لا يمسك شيئاً من الدنيا قليلاً ولا كثيراً، أكرم الناس، يعطي باليمين واليسار.
وذهب يوم أحد بأكثر الأجر، حتى كلما ذكر أبو بكر يوم أحد قال: ذاك يوم ذهب بأجره طلحة بن عبيد الله حتى شل يوم أحد، ضرب حتى شلت يمينه وشل نصفه هذا، فهذا طلحة بن عبيد الله الذي قام وعانق كعب بن مالك قال: ثم جلست فقال صلى الله عليه وسلم: {أبشر يا كعب بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك}.(117/15)
منزلة التوبة
وفيه دليل على أن التوبة أعظم منزلة في الإسلام، حتى قال فيها شيخ الإسلام ابن تيمية: إن أعظم منزلة يصل إليها العبد منزلة التوبة، لن يصل إليها أحد بسهولة، فهي أعظم المنازل، لذلك يقول الله تعالى في آخر العهد: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) [التوبة:117] كيف يتوب عليهم؟ لما كانت غزوة تبوك من آخر الغزوات تاب الله عليهم، فهي آخر المنازل وأرقاها، إذاً: أكبر منزلة لك هي منزلة التوبة، لذلك قال: {أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك}.
والرسول صلى الله عليه وسلم ربما قام في مجلسه لاستقبال الناس أحياناً، للفائدة: يقول عمرو بن العاص: لما أسلمت، قدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عثمان بن شيبة بن طلحة الداري -من بني عبد الدار أهل مفاتيح الكعبة- وخالد بن الوليد وأناس، فقلت لأصحابي هؤلاء: إما تأخرتم عني أو تقدمت؛ لأن لي ذنوباً أريد أن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بها -قدم مشركاً ولكن يريد الإسلام- قال: فلما رآني صلى الله عليه وسلم، هش في وجهي وبش وقام وعانقني.
لماذا؟ لأن عمرو بن العاص ليس كغيره، أرطبون العرب، يقول عمر بن الخطاب: رمينا أرطبون الغرب بأرطبون العرب، داهية الإسلام، ومعناه: مكسب للدعوة، ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم جلس في مجلسه، مع أن هذا جاء بنعرة الجاهلية، ومروءة الجاهلية وشهامتها، ربما يرجع؛ لأن بعض الاستقبال من بعض الدعاة ربما ينفر المدعو، يأتيك يسألك بسؤال، فتقول: لست لك بفارغ، يأتي يبحث معك مشكلة الهداية، كيف أهتدي؟ فتقول: أنا مشغول، حاول تبحث عن غيري، هذا ليس بأسلوب.
قال: فعانقه وهش في وجهه وبش.
وإكمالاً للفائدة، قال: يا رسول الله! مد يدك أبايعك، فلما بسط صلى الله عليه وسلم يده، قبض عمرو بن العاص يده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مالك يا عمرو، قال: أشترط -أي: لا أبايعك إلا بشرط- قال: تشترط ماذا؟ قال: أشترط أن يغفر الله لي ذنبي.
قال: أما تعلم يا عمرو، أن الإسلام يهدم ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها؟ قال: فأسلمت، فوالله الذي لا إله إلا هو، ما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله ما كنت أملأ عيني إجلالاً له، ووالله لو سألتموني الآن -وهو في سكرات الموت- ما استطعت أن أصفه لكم عليه الصلاة والسلام}.(117/16)
حكم الصدقة بالمال كله
قال كعب: قلت: يا رسول الله! إن من توبة الله عليَّ أن أنسلخ من مالي في سبيل الله.
يقول: مادام أن الله تاب عليَّ، فمالي كله في سبيل الله.
فقال عليه الصلاة والسلام: {ابق عليك بعض مالك فهو خير لك} وفيه دليل على أن المسلم لا يذهب ماله كله، بل يستبقي لورثته ولنفسه مالاً؛ لئلا يتكففوا الناس، وقد قال هذا صلى الله عليه وسلم لأكثر من واحد.
زار سعد بن أبي وقاص فارس الإسلام، مدمر إمبراطورية كسرى التي داسها تحت قدميه، حتى كان عليه الصلاة والسلام يقول: {هذا خالي فليرني كل خاله} أي: هل عندكم أخوال مثل سعد بن أبي وقاص، الأسد في براثنه؟ زاره صلى الله عليه وسلم، وسعد مريض قال: فما أحسست إلا برد أنامله صلى الله عليه وسلم على صدري فاستفقت، حتى يقول سعد بعد ثلاثين سنة: والله الذي لا إله إلا هو، إني لأجد برد أصابع النبي صلى الله عليه وسلم على كتفي من ذلك العهد.
قال سعد: يا رسول الله! إن عندي مالاً ولا يرثني إلا كلالة، وذكر من نفسه ومن حاله، قال: أريد إنفاق مالي كله، قال: لا.
قلت: يا رسول الله! فالنصف، قال: لا.
قال: يا رسول الله! الثلث، قال صلى الله عليه وسلم: {الثلث والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء؛ خير من أن تجعلهم عالة يتكففون الناس}.
قال ابن عباس: [[وددت أن الناس غضوا في الوصية من الثلث إلى الربع]] ليبقى للورثة شيء، وليس في الإسلام حرج أن تبني بيتاً لورثتك، وأن تعمر عمارة لذريتك؛ فتموت فيدعون لك بالخير، وأنك ألجأتهم إلى بيت، ووسعت عليهم مما وسع الله عليك، أما من يذهب ماله ثم يموت، فإذا أطفاله وراءه عالة يتكففون الناس، هذا ليس من الإسلام! قال صلى الله عليه وسلم: {أبقِ عليك بعض مالك فهو خير لك} فأبقى له سهماً من خيبر.
يقول كعب: [[فوالله ما أعلم أحداً من الناس أبلاه الله عز وجل ما أبلاني بالصدق]] لأنه صدق مع الله، ولذلك لما كان الخطاب له وللتائبين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119] لأنه صدق فأنجاه الله عز وجل.
قال الإمام أحمد: ما وجدت كالصدق، الصدق لو وضع في جرح لبرأ، وقيل له لما دخل السجن: بم نجاك الله؟ أي: في فتنة خلق القرآن، محنة القول بخلق القرآن، التي كاد يذهب فيها أرواح الأمة، بل قتلوا فيها علماء كبار، مثل ابن نصر الذي دخل على أحد الأمراء فقال له: ألا تقول بخلق القرآن؟ قال: لا.
قال: والله إما أن تقول بخلق القرآن أو لأقتلنك قال: والله ما نفسي عندي تساوي مثل هذه، ثم قطع زراً من جبته فرماه على الأمير، فقتله الأمير.
ودخل الإمام أحمد متحري السيف، وحاولوا بكل وسيلة في الدنيا قدموها، المناصب الإغراءات كلها وهو يرفض، يقول: ائتوني بشيء من كتاب الله، أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الأخير نجاه الله.
قيل له: بم نجاك الله؟ قال: بالصدق؛ لأنه صدق مع الله عز وجل قال الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69] {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ) [محمد:21] فلما صدق نجاه الله.
قال كعب: وإني أسأل الله أن يثبتني فيما بقي، فو الله لا أعلم أني كذبت منذ أن تاب الله عليَّ.
والتحرز من الكذب من أعظم الأعمال، وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود مرفوعاً: {لا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً} أي: من الصديقين الكبار قال الله: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) [النساء:69].
والصديق فوق الشهيد {لا يزال الرجل يتحرى الكذب} أي: في كلماته، في مزحه، في سؤالاته؛ لأن بعض الناس يتجوز حتى في المزاح يكذب، وإذا سأله أهله كذب، نعوذ بالله، لكن المؤمن لا يزال يتحرى الصدق حتى يكتبه الله عز وجل صديقاً عنده.
{ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً} نعوذ بالله من الكذب.
فأبلاه الله عز وجل بلاءً حسناً بالصدق، وتاب الله عز وجل عليه وأنزل الله عز وجل: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة:118] فتاب الله عليهم توبة عظيمة ما سُمع بمثلها، وهذا هو الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وهو حديثنا في هذه الليلة وفيه مسائل:(117/17)
من فوائد حديث توبة كعب بن مالك(117/18)
الفائدة الأولى: عظم التوبة في الإسلام
عظمة التوبة في الإسلام وأنها أعظم منزلة، وهي التي دعا الله الأولين والآخرين إليها، وهذا الحديث استدل به النووي في باب التوبة في رياض الصالحين، وغيره من العلماء، ولذلك قال الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53] والآن نترك الفوائد في الحديث؛ لأنها ما يقارب مائة فائدة، نتركها للإخوان ليشاركوا معنا في فوائد الحديث أو ما يستنبط من الحديث.(117/19)
الفائدة الثانية: فضل الصدق
فضل الصدق وأنه من أفضل الأعمال، وسلف فيه أحاديث، وأن من صدق نجاه الله عز وجل، وأن أعظم مزلة هي مزلة الكذب، قال ابن تيمية: الكذب والنفاق مقرونان، ولذلك إذا ذكر الله النفاق ذكر الكذب معه، وإذا ذكر الكذب ذكر النفاق، قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) [المنافقون:1] وقلة ذكر الله مع النفاق، قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء:142].(117/20)
الفائدة الثالثة: تقوى الله
من يتق الله يجعل له مخرجاً، فإنه ما حفظ الله العبد إلا وجعل له مخرجاً من كل ما ضاق على الناس، فلما حفظ كعب بن مالك ربه، وصدق معه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى واتقاه جعل الله له مخرجاً من هذه الكارثة والمحنة، وجعل مخرجه التوبة.(117/21)
الفائدة الرابعة: الحث على البشرى بالخير
الحث على البشرى بالخير وأن المؤمن دائماً مبشر، وأنه يواسي، وأن واجب المؤمن أن ينزل الناس منازلهم، وأن يقف مع المؤمنين في مواقفهم.
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بؤسها
فواجب على المسلم إذا دخل على الناس مفرحات أن يشاركهم الفرحة والسرور، وواجب عليه إذا دخل عليهم الحزن أن يشاركهم حزنهم، وهذا من صفات المؤمنين الذين يريدون الله والدار الآخرة قال عليه الصلاة والسلام: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}.
فالبشرى واردة في الخير، وأعظم ما يبشر به المؤمن بالاستقامة، ولابد من حث الناس على الاستقامة، لا تترك أمور التربية مسدولة مضيعة هكذا، تجد إنساناً يصلي في المسجد خمس صلوات في اليوم والليلة، لك أن تذهب إليه وتقول له: إني أحبك في الله، وأبشرك بالخير وبالسداد وبالتوفيق قال الله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58].(117/22)
الفائدة الخامسة: الدفاع عن أعراض المسلمين
الدفاع عن أخيك في المجلس إذا ذكر وانتهكت حرماته، وفي ذلك بعض الآثار، وهو حديث لكن لا يحضرني درجة صحته: {من ذب عن مؤمن في ظهر الغيب؛ قيض الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من يدافع عنه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فالمقصود: أن واجب المسلم ألا يترك الأمر هكذا، لا يدافع إلا عن أبيه أو أخيه، كل مؤمن واجب عليك أن تذب عنه إذا انتهكت حرماته، إلا أن يكون فاجراً -والعياذ بالله- مجاهراً بالفجور فاتركه.
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
لكن إنسان فيه وفاء وإخلاص، وحسناته أكثر من سيئاته، وإلا لو ذهبنا في انتقاص الناس لذنوب الناس ما خلا أحد، يقول سعيد بن المسيب: [[ما يخلو فاضل ولا شريف ولا نقيب من الذنب والخطأ، لكن من الناس من يغفر]] تجعل سيئاته لحسناته، فهؤلاء الذين كثرت حسناتهم على سيئاتهم تجعل سيئاتهم لحسناتهم.
لذلك يقول بشار بن برد:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
والآخر يقول:
تريد مبرأً من غير عيب وهل عود يفوح بلا دخان
فالمقصود: أن الناس أهل ذنوب، والكامل من كثرت حسناته ومناقبه على سيئاته، فإذا وجد في مجلس أو منتدى أنه نيل من شخص، فواجب عليك أن تقوم وتقول: لا.
لكن ليس بقوة وعنف، تقول: لا.
ما علمت فيه إلا خيراً، وهو من أهل المسجد والجماعة، ومن أهل الصدق والصلاح، ومن أهل الخير، ومن الذين يريدون الله والدار الآخرة، حينها يقيض الله لك من يذب عن حرماتك.(117/23)
الفائدة السادسة: الصبر في الكوارث
الصبر عند نزول الكوارث والمصائب؛ يؤخذ من قصة كعب قال: فقلت: أصبر فإن الصبر من أفضل الأعمال، الصبر ذكره الله تعالى في أكثر من تسعين آية، والصبر على ثلاثة أنواع:
1 - صبر على الطاعات.
2 - صبر عن المعاصي.
3 - صبر على المصائب.
وأعظمها الصبر على الطاعات، والصبر جعله الله عز وجل من أركان الإمامة: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200] فالصبر الصبر، فلا علاج للعبد إلا بالصبر، ومن صبر جعل الله له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل كربٍ فرجاً.(117/24)
الفائدة السابعة: الولاء والبراء
الولاء والبراء، الحب في الله والبغض في الله، أتى هذا مما فعله المهاجرون والأنصار مع كعب، فإنهم لما رأوه جَانَبَ الصواب وأتى بهذه المعصية؛ بغضوه في الله عز وجل، وكان بغضهم لله عز وجل، فتركوا السلام عليه، والزيارة له والمواصلة، من أجله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال عليه الصلاة والسلام: {من أبغض لله، وأحب لله، وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان} والحديث عند أبي داود بسند صحيح.
وهذه هي أركان الولاية، وهي من أعظم القضايا التي تحدث عنها شيخ الإسلام، مسألة الولاء والبراء، وهي على درجات، فلا يصح للمسلم أن يكون الناس عنده سواء، الفاجر والبار، والمصلي والتارك للصلاة، وبار الوالدين وعاق الوالدين، وواصل الرحم وقاطع الرحم، والله عز وجل ما جعلهم سواء، قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36] في أي العقول، وفي أي الشرائع والأسس والقيم يكون هذا الصالح كالطالح؟!
إذا فعلت الأمة هكذا انهارت القيم، وضاعت التعاليم السماوية والشرعية، وأصبح صاحب الخير مضطهداً، إذا كان يجهد جهداً وليس له قيمة، وقيمة الفاجر أكبر منه، بل يبلغ في بعض الأماكن أن يقدم الفاجر على المؤمن لأسباب إضافية أو لمكانته ولثروته، فإذا أصبحت الأمة في هذا المستوى فقل عليها السلام.
تجد بعض الناس من أولياء الله، لكن لفقره وعوزه وقلة نصرته، وضعف مقدراته ينتهي، ليس عنده إلا التراب، ولا يقدر من احترام أحد، وهذا -بارك الله فيكم- من أعظم المصائب.
فلابد من أصل الولاء والبراء، ذكر الغزالي في الإحياء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: [[والذي لا إله إلا هو، لو صمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، وأنفقت أموالي غلقاً غلقاً في سبيل الله، ثم لقيت الله لا أحب أهل الطاعة، ولا أكره أهل المعصية لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار]] نعوذ بالله من النار، القلب الذي لا يحب في الله ولا يبغض في الله قلب فاجر، حتى بعض الناس تحبهم من النظر إليهم والشافعي قد أسس في هذا أبيات، وهي أبيات تربوية للدعوة وللدعاة، يقول:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
الشافعي يقول بأنه ليس من الصالحين، وإذا لم يكن الشافعي من الصالحين فمن نحن معهم؟
الشافعي الذي كان يقوم الليل في المسجد من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر ويبكي حتى يسقط مغشياً عليه، الشافعي الذي أثبت عنه أهل العلم، كأهل التراجم والذهبي في ترجمته: أنه قرأ القرآن في رمضان ستين مرة، في الليل وفي النهار مرة، بغض النظر عن سينية هذا، الشافعي الذي نسأل الله حبه يقول:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
يقول: من حسناتي، والتي أرجو الله أن أتقدم بها، أني أحب الصالحين، ولو أني لم أكن منهم، لأني مذنب مقصر، لعلي أن أنال بهم شفاعة عند الله.
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة
يقول كل عاصي في قلبي أكرهه؛ لأنه يعصي الله، يتعدى حدود الله وينتهك محارم الله، فلذلك يثور قلبي عليه، وهذا من الحسنات، فإن بعض الناس ولو كان مقصراً، لكن من توفيق الله له أنه يكره المعاصي، ويكره الفجرة، لكن بعض الناس يبلغ من عناده وفجوره وخبثه؛ أن يحب الفجرة والعصاة.
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة
ثم يقول:
تعمدني بنصحك بانفراد وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعط طاعة
يقول: إذا أردت أن تنصحني وأنا مذنب فخذني وحدي، وأَسِر إلي بالخطأ، لا تأتي يوم الجمعة وتقول: فلان ابن فلان، الذي يسكن في حارة كذا ورقم تلفونه كذا، فعل وفعل.
فهذه فضيحة وليست نصيحة، وهذه تنفر القلوب، ولذلك بعض الناس يتخذ أسلوباً في المجالس، يقول: يا فلان! الله يهدي أبناءك، إنهم فعلوا وفعلوا الواجب عليك أن تنصحهم، هذا فضحهم أمام الناس.
يقول الشافعي:
تعمدني بنصحك بانفراد وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعط طاعة
ولذلك أرسلت هذه القصيدة للإمام أحمد بن حنبل وهو في السجن، قيل: في السجن وقيل في غيره، ويظهر أنه لم يكن في السجن، فكتب إليه الإمام أحمد:
تحب الصالحين وأنت منهم ومنكم قد تناولنا الشفاعة
الشافعي من أُسرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشافعي ينتمي إلى جد الرسول صلى الله عليه وسلم الخامس أو السادس.
فيقول:
الشفاعة تأتي من بيتكم، لا تأتي من بيت آخر، هذا هو المقصود.
رسالة:
بعض الإخوة يذكر ويقول أني ذكرت كعب بن زهير في القصة لـ كعب بن مالك، وأنا أوردت هذه القصة عمداً؛ لشدة قوله صلى الله عليه وسلم وتأثيره في الناس.
أحد الإخوة قبل أن نستكمل الفوائد يذكرنا وإياكم بفضل صيام يوم عاشوراء، وهو صوم اليوم العاشر من هذا الشهر، نسأل الله أن يعيننا وإياكم على صيامه، والسنة صيام يوم قبله أو يوم بعده وسئل عنه صلى الله عليه وسلم، فقال: {إني لأحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية} فلما قدم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رأى اليهود يصومونه، قال: {لماذا تصومونه؟ قالوا: هذا يوم نجا الله فيه موسى عليه السلام، قال: نحن أولى بموسى منكم} فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بصيامه، وندب صلى الله عليه وسلم أن يصام يوماً قبله ويوماً بعده، وهو على ثلاثة أقوال:
1 - إما أن تصوم اليوم التاسع والعاشر والحادي عشر.
يوماً قبله واليوم هو ويوماً بعده.
2 - وإما أن تصوم يوم عاشوراء ويوماً قبله.
3 - وإما أن تصوم يوم عاشوراء ويوماً بعده.
وهذا من أحسن ما يكون، ولكن بعض أهل العلم يقول: يجوز إفراده، لكن الأحسن والأولى والأفضل -ولو أنه يجوز إفراده- لمن عنده مشقة، أو امرأة حامل لا تستطيع الصوم صيام يوم قبله أو يوم بعده.(117/25)
الفائدة الثامنة: معاملة الناس بالظاهر
في الحديث معاملة الناس بظواهرهم ونكل سرائرهم إلى الله، وهذا يؤخذ من أن الرسول صلى الله عليه وسلم عفا عن المنافقين، لما سمع كلامهم فوكل سرائرهم إلى الله، ونحن ما بعثنا لنشق عن قلوب الناس، يتكلم الإنسان بحسن، نقبل منه الحسن ونوكل سريرته إلى الله، يطبق السنة؛ نثني عليه ونمدحه، ولا نقول مثل بعض الناس إذا رأوا الملتزم قالوا: ليس بالصادق! لم يرب لحيته وما قصر ثوبه إلا لأمر.
هذا تشكيك في الناس وسوء ظن فيهم، هذا معناه ضرب للقاعدة الإسلامية، وإظهار الجرح في شعور المسلمين، من أدراك أنه على باطل؟ وهل أمرت بالتفتيش عن قلوب الناس؟ بل احمل الناس على السلامة وحسن الظن، وما يفعل هذا - التشكيك بالناس الأخيار - إلا من ساء عمله مع الله.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه بقول عداته فأصبح في ليل من الشك مظلمٍ(117/26)
الفائدة التاسعة: حكم تسور المنزل
لا يجوز للشخص أنه يتسور حائط القريب للحاجة؛ لأن كعب بن مالك من الصحابة وفي ظرف طارئ، والسنة ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بأمر أو بإقرار أو وصف، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمع في حديث على أنه أقره على هذا العمل، وتسور الحيطان منهي عنه، وهو الولوج بدون استئذان، إلا في بيتك أنت، إذا رأيت أن هناك مأمناً، وأنك ما استطعت أن تدخل إلا بهذه الطريقة بعد أن تشعرهم، فيظهر أن كعب بن مالك أمن من فتنة النظر إلى أجنبية، وأنه رأى بالظروف والاحتياجات والحادث الذي يعيشه؛ أنه ليس هناك مشكلة أو أمر منهي عنه فتسور، أما أن نأخذها فائدة فأنا أتوقف عن هذا.(117/27)
الفائدة العاشرة: العزلة في الإسلام
فضيلة العزلة: وهذه فائدة عرضاً، ما جاءت في نص الحديث، عندما ذكرنا أبا ذر ذكرنا أن العزلة كانت تناسبه والناس ليس كلهم تناسبهم العزلة، ابن تيمية سئل عن العزلة والخلطة فقال: لا يمكن أن يكون فيها جواباً عاماً، لكن العزلة لا تمدح مطلقاً والخلطة لا تمدح مطلقاً، إنما تخالط الناس بقدر ما تصيب، في مجامعهم، في صلواتهم، في مجالس الخير، في الدعوة، وتجتنبه في فضول المباحات، التي لا طائل من ورائها ولا فائدة.(117/28)
الفائدة الحادية عشرة: الثبات على المبادئ
الشيخ عبد الله بن حميد يذكرنا بفائدة جليلة، وهي فضل الثبات على المبادئ الأصيلة، والمبادئ الجليلة، والمبادئ الأصيلة في هذا الدين من طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله يثمر عاقبتها عفواً وخيراً، فهذا الرجل لما قدمت له عروض تافهة سافلة رخيصة من الدنيا وعرض الدنيا ما باع ذمته ولا باع دينه وشرفه، بل بقي على مبدئه، بقدر ما تحمل من الجفاء واللوعة والأسى والفرقة، فكيف أبدله الله عز وجل عزاً في الدنيا والآخرة، وأكسبه التوبة ورفع رأسه، وشرح صدره.
ولذلك من قدم عرض الدنيا على الدين، سلب الله عليه الدنيا والآخرة، أحد العلماء من بني إسرائيل اسمه: بلعام بن باعوراء تناسب هذه القصة، أسلم وكان مع موسى عليه السلام، وحفَظَّه الله ما شاء من العلم، فقدمت له بعض الأعراض الدنيوية ليرتد عن بعض مبادئه الأصيلة الجليلة القويمة، فارتد فمسخه الله عز وجل، وأخزاه وأذله، ونزع بركة العلم ونور العلم منه، وقال فيه آيات تتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف:175 - 176].
وابن تيمية دخل على أحد السلاطين في دمشق فقال له السلطان: يا ابن تيمية! يقول الناس: إنك تريد ملكنا، فضحك ابن تيمية بقوة وشجاعة وقال: والله ما ملكك وملك أجدادك وآبائك يساوي عندي فلساً.
مطلب ابن تيمية أكبر من هذا كله، وأكبر من الدنيا ومن ذهبها، رضا الله عز وجل، وجنة عرضها السماوات والأرض:
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
هذا القاضي الجزائري.
وهذا واجب المؤمن حتى يقول ربعي بن عامر لما قال له رستم: أتريدون شيئاً من المال، فإنا كنا نعطيكم بعض الأموال فتعودون عنا من أطراف الجزيرة، فكأنها تأخرت عنكم النفقة هذا العام فأتيتم تطلبونا؟
قال: لا.
إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
محمود بن سبكتكين، قائد سلجوقي كبير صائم مصلي، من أزهد وأعبد السلاطين، كان يملك ملكاً لا يملكه إلا القليل من ملوك الإسلام، كان في الشمال وكان له جيش جراراً، أتدرون كم جيشه؟
يقول بعض المؤرخين: وصل إلى مليون (ألف ألف).
ففي جيشه مليون شهم كـ عنتر، وأمضى وفي خزانه ألف حاتم
هذا محمود بن سبكتكين، قام عليه أحد العلماء يعظه في يوم مهرجان ويوم انتصار، فوعظه فبكى السلطان محمود حتى سقط على وجهه في الأرض، دخل بلاد الهند ففتحها، واجتاح ألف صنم، وكل صنم طوله كالسارية، منصوب كله ذهب، فأتى ملك الهند فقال: يا محمود بن سبكتكين! لا تقاتلنا ولا نقاتلك، خذ هذا الألف الصنم لك وعد عن ديارنا ونحن نعطيك الجزية في كل عام، قال محمود سبكتكين: تريد أن يدعوني الله يا بائع الأصنام، والله لأحرقنها ولأكسرنها، ليدعوني الله يوم القيامة يا مكسر الأصنام، فأتى على الأصنام فأحرقها وكسرها، فيقول محمد إقبال لأنه من جماعته، هذا باكستاني وذاك سلجوقي:
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاًَ وصاغ الحلي والدينارا
محمود مثل إياز قاما كلاهما لك بالعبادة تائباً مستغفرا
العبد والمولى على قدم التقى فارحم بوجهك عبد سوء في الثرى
والمقصود: أن الدنيا هينة، وأن مطلب المسلم أعظم من ذلك.(117/29)
الفائدة الثانية عشرة: وجوب الالتزام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم
وجوب الالتزام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم: وهذا يؤخذ من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالمقاطعة فقاطعوا، وأمرهم بالتسليم فسلموا، وهذا الأمر لا أخرج منه، يقول الإمام أحمد: أخشى أن يصيب من ترك السنة الزيغ؛ لأن الله ذكره في آخر سورة النور، والزيغ هي الفتنة.
فمن خالف أمره صلى الله عليه وسلم؛ أصابه الله عز وجل بالزيغ، وكل شيء من السنة لا يستهين به العبد، وأثر عن عبد الله بن رواحة أنه أقبل من السكة يريد دخول مسجده صلى الله عليه وسلم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأهل المسجد: يا أيها الناس! اجلسوا، فجلس في الشارع في الشمس، فخرج الصحابة فإذا هو جالس فقالوا له: مالك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اجلسوا وأخشى أن أكون مخاطباً، فما أردت أن أمشي فجلست، هذا هو الأمر وعبد الله بن رواحة كان من أصدق الناس رضي الله عنه وأرضاه، وهذا هو الامتثال العظيم، حتى ورد من الامتثال أمور عظيمة ذكرت عن ابن عمر أنه كان يطوف بناقته في مزدلفة، قالوا: مالك؟ أضيعت شيئاً؟ قال: [[لا والله، لكن رأيت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم تدور في هذا المكان، فأردت أن يوافق خفٌ خفاً]] رضي الله عنه وأرضاه.(117/30)
الفائدة الثالثة عشرة: هجر أصحاب المعاصي على قدر الذنوب
من الفوائد مشروعية: هجر أصحاب المعاصي بقدر ذنوبهم، فمن أتى بمعصية، نظرة إلى حرام، لا يهجر كمن ترك الصلاة في المسجد، قال تعالى: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق:3].
صاحب الكبائر لا يهجر مثل صاحب الصغائر إنما يهجر أكثر، الكافر هجره عظيم وطويل، ومقاطعة تامة إلا أن ترى أنك تؤثر عليه، وبعض الناس بحجة أنه يؤثر على الناس، ولو كان شاباً بارداً؛ تراه يخالط أهل المعاصي، فإذا قلت له: مالك تصلي معنا وتحضر وتخالط هؤلاء؟ قال: أريد أن أُؤثر عليهم.
ولا يؤثر عليهم إلا من هو أكثر منهم عدداً وعدة وفكراً وعلماً، فينتبه الإنسان من مخالطة هؤلاء فهم أولاً: يهونون عليه شأن المعاصي، والأمر الثاني: أنه يغضب الله عز وجل، الأمر الثالث: أنه لم يعرف الولاء والبراء إلا أن يدعوهم.(117/31)
الفائدة الرابعة عشرة: المكافأة على البشرى
آداب البشرى أن تكافئ من أحسن إليك، قال عليه الصلاة والسلام: {من صنع إليكم معروفاً فكافؤه فإن لم تجدوا ما تكافؤه به، فادعوا له حتى ترون أنكم قد كافأتموه} والإمام أحمد يقول: ما أهدي له هدية إلا كافأت عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها، أي: إثابة بقدر الهدية.
وفي ختام هذه الجلسة: نتوجه إلى الله أن يتقبل عنا صالح الأعمال، ويتجاوز عنا وعنكم سيئها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
والحمد لله رب العالمين.(117/32)
مع التركي الشهيد
من هو هذا التركي الشهيد؟
وما هي حياته؟
وما هي سيرته؟
وما هي فتوحاته؟
ومن أين هو؟
ماذا قدم للدين؟
لماذا سمي بالحاكم الراشد السادس؟
هل هو مجاهد أم عابد أم زاهد؟ أم كلها مجتمعة فيه؟
كل هذا ستعرفه في هذا الدرس، وسترى العجب العجاب من حياة هذا التركي العظيم!(118/1)
قضايا يجب أن يفهمها الناس
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أصحاب الفضيلة العلماء! أيها الأساتذة الكرام! أيها الإخوة الحضور! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، قبل أن أبدأ في هذه المحاضرة، التي هي بعنوان: (مع التركي الشهيد) أريد أن أبين قضايا هامة عسى أن يفهمها الناس:-
أولها: أن الدعاة يعرفون واجبهم نحو ولاة الأمر في البلاد، وهم أحرص الناس على حق الراعي؛ لأنهم أعرف الناس بالشريعة، فلا يتوهم واهم أو حاسد أو منافق أنه بإمكانه أن يوجد هوة بين الدعاة وولاة الأمر مهما فعل من الإغراءات والدعاوى؛ لأن هذه البلاد قامت على المصحف والسيف.
ثانيها: أن الدعاة هم حملة الأمن والأمان، وهم ضد الفوضى والفتنة، وهم يرفضون كل ما يعكر أمن البلاد واستقرارها وسكينتها، ولا يسمحون لكل طائف أن يوجد فرقة أو إساءة إلى ولي الأمر أو إلى أحد من المسلمين.
ثالثها: أن الدعاة في بلادنا لهم مصدر علمي وهم: سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وأصحاب الفضيلة من رؤساء المحاكم والقضاة، فهم يسيرون الدعوة، وهم المستشارون، والناصحون الأمناء، والدعاة لا يخرجون في أي مقاطعة، أو إقليم أو منطقة، عن مشاورة رئيس المحاكم والقضاة.
رابعها: أن الدعاة والحمد لله لا يتدخلون فيما لا يعنيهم، وليس لهم مطالب إلا نشر كتاب الله عز وجل، وتعليم الجاهل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهم مقتدون في ذلك بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهم دائماً يسألون الله عز وجل لولاة الأمر الاستقامة والسداد، وأن يريهم الله الحق حقاً ويرزقهم اتباعه، ويريهم الباطل باطلاً ويرزقهم اجتنابه، متذكرين قول الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والجماعة: لو أن لي دعوة مستجابة، لجعلتها لإمام المسلمين.(118/2)
أسباب اختيار موضوع مع التركي الشهيد
أيها الإخوة! اخترت هذه العنوان وهذا الموضوع لسببين اثنين: -
السبب الأول: أن هذا التركي الشهيد نور الدين محمود الذي أثنى عليه شيخ الإسلام ابن تيمية والذهبي وابن كثير وابن القيم أبناء عمومته الأكراد اليوم يحصدون بالأسلحة الكيماوية على يد المجرم صدام حسين، فكان من المناسب أن أُذكر المسلمين بأبناء نور الدين في كركوك وفي السليمانية، وفي شمال العراق، وهم يصرعون بالآلاف يومياً، وأخبرهم ماذا فعل نور الدين، وماذا قدم هو وصلاح الدين لـ (لا إله إلا الله) و (إياك نعبد وإياك نستعين).
السبب الثاني: أن الله عز وجل يقول: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف:111] والقصص له تأثير في القلوب، وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول: إن القصص جند من جنود الله يرسلها على من يشاء، وقال في رواية أخرى عنه: قصص الرجال أحب إلينا من كثير من مسائل الفقه.
فإذا علم هذا، فأحب أن أعرض سيرة نور الدين محمود وأن نعيش سيرة هذا الإمام الشهيد الذي سماه الذهبي: ليث الإسلام، وملك الشام، والمجاهد الصنديد، والعابد الشهيد، وسوف نرتحل معه، ومعنا ومعه لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعسى الله أن يجمعنا به في دار الكرامة: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
أخذنا بأقطاب السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع(118/3)
من مواقف نور الدين محمود وبعض صفاته وأخلاقه
نور الدين محمود بن زنكي، تركي ليس بعربي، والعرب إذا تولت عن حمل لا إله إلا الله؛ وكل الله بها الأكراد أو الأتراك، أو الأفغان، أو الهنود أو الأحابيش: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] فلما اعتنق آباؤه الإسلام رسخوا في الدين، وسجدوا لرب العالمين، وهو حنفي المذهب، ولكنه يراهن بجمجمته كل يوم مع لا إله إلا الله، وضد من يحارب لا إله إلا الله، وسوف أسوق أخباره ومراجعي في ذلك سير أعلام النبلاء، للإمام الذهبي ومرآة الجنان للسبط ابن الجوزي ووفيات الأعيان لـ ابن خلكان والبداية والنهاية، (ابن كثير) وسيرته أيضاً وهي الروضتين، وترجمة له ضافية، والتجديد لـ محمد العبده، مع الكامل لـ ابن الأثير، ومع ما كتب عن دولة الأكراد وعسى الله أن يهدني وإياكم سواء السبيل.
وأنا لن أعتني بالقصص التاريخي لكن أسمعكم العبر، واعلموا أن من اقترب من الله إنما يقترب بالطاعة، وقد كتب عمر الفاروق إلى سعد بن أبي وقاص، يقول له: [[يا سعد! - سعد بن مالك بن وهيب - لا يغرنك قول الناس، إنك خال الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن الناس ليس بينهم وبين الله نسب، إنما أقربهم إلى الله أطوعهم له]] فلما أطاع محمود زنكي الله أحبه أهل العلم ودعوا له في المساجد، وأكثروا من ذكره، وبكت عليه الأمة الإسلامية بكاء عظيماً، وجمعت مراثيه في مجلد، ونحن ما نزال نذكره ونترحم عليه، وسوف أذكر لكم أبياتاً نظمها كثير من الشعراء في الثناء عليه.
يقول أبو اليسر وهذا في السير: سمعت نور الدين محمود ساجداً قبل السحر يبكي ويقول في السجود: اللهم احشرني يوم القيامة من بطون السباع وحواصل الطير.
- ما معنى الكلام؟ معناه: إذا قتل الناس على الفرش، وإذا قتلوا تخمة من الطعام، فاقتلني في سبيلك، حتى تشبع مني الكواسر والطيور، واحشرني من بطونها، وفي الصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام وقف على حمزة وعلى الشهداء السبعين في أحد وبكى وهو ينظر لـ حمزة وقال: {والذي نفسي بيده! لولا جزع صفية أختك لتركتك حتى تشبع منك الطيور والسباع} فكان يقول: اللهم إني أسألك أن تحشرني يوم العرض الأكبر من بطون السباع وحواصل الطير، وهذا علامة الصدق مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.(118/4)
من مواقفه في الجهاد
وقال القطب النيسابوري: رأيت نور الدين محمود في المعركة، قد خلع درعه، ثم استقبل القبلة، ثم بكى ومرغ وجهه في التراب، وقال: اللهم لا تخذل أمة محمد على يدي، قال له أحد الجنود: بالله لا تخاطر بنفسك يا محمود! فإن أصبت في معركة، فإنه لا يبقى أحد للمسلمين مكانك، فبكى وقال: من محمود؟ إن الله هو الذي نصر الدين قبل محمود ونصر الدين بعد محمود وحفظ الله الدين بلا إله إلا الله.
ولما اصطف الناس أمام الفرنجة الصليبيين في دمياط في أرض مصر، خرج ثم التفت إلى السماء وقال: اللهم نصرك، اللهم نصرك، اللهم نصرك، فابتدأت المعركة بسهم أطلقه صليبي فوقع في عين أخيه نصر الدين فذهبت عين أخيه، فالتفت إلى أخيه وقال: أحسن الله عزاءك في عينك، والله! لو علمت الأجر لتمنيت أن تذهب الثانية.
ويذكرني هذا بقصة قتادة بن النعمان التي ذكرها ابن القيم في زاد المعاد أنه لما حضر يوم بدر، ضربت عينه بالسيف فنزلت على خده فأتى عليه الصلاة والسلام فردها بيده فصارت أجمل من العين الأخرى، فكان ابنه يقول:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد
ووقف نور الدين محمود في المعارك، قال الذهبي: خاض أكثر من خمسين معركة، وافتتح أكثر من ثمان وعشرين قلعة، وكانت دولته تمتد من تركيا في الشمال إلى اليمن، وهو الذي قضى على الرافضة والباطنية والإسماعيلية وشردهم كل مشرد.
وامتدت دولته -أيضاً- من بلاد مصر إلى جبال القوقاز، وهو مربي صلاح الدين الذي فتح الله على يديه في حطين
يروي المكارم أكرم الجدين عن أشجع الشجعان نور الدين
.(118/5)
تعلم نور الدين محمود
أما نور الدين فقد تعلم الفقه على المذهب الحنفي وكان يدرس كتب الحديث وقال عنه الحفاظ: كان قبل المعركة يقرأ سورة الأنفال ويبكي ثم يستمع لموطأ الإمام مالك قبل أن يبدأ الهجوم.
قال العماد الأصبهاني الكاتب الشهير: حضرت مجلس نور الدين محمود فتحدثنا في طيب هواء دمشق، يعني أحاديث المجالس الجو الأمطار الغيم، قال: وكان واجماً لا يتحدث، والوزراء والأمراء حوله يتحدثون، فقالوا: مالك أيها الأمير! لا تتحدث؟ قال: أما أنا فو الله لا يهدأ بالي ولا يرتاح حالي حتى يدخلني الله الجنة.
ما دمشق؟ وما هواؤها وما طيبها أمام جنة عرضها السموات والأرض؟
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
هذا هو المطلب.(118/6)
من مواقفه أمام القضاء
قال الذهبي: أتى رجل إلى قاضي القضاة كمال الدين الشهرزوري لله دره، وهذا القاضي حنفي، وهو من أشهر القضاة في الأرض بالعدل، وكان يحفظ كتاب الله، وكان لا يهاب أحداً، جلس للحكم فأتاه رجل من الرعية، قال: لي خصم، قال: من خصمك؟ قال نور الدين محمود قال: الله أكبر! هو خصمك، قال: إي والله، قال: ماذا فعل؟ قال: أخذ أرضي بـ حمص، فأرسل رسالة إلى نور الدين محمود، قال: ما رأيك لقد خاصمك أحد الرعية؟
قال نور الدين: أتستأذنني؟! أحضرني معه عندك، واكتب لي رسالة، وادعني فيها لأحضر!!
فدعاه الشهرزوري وهو أديب وهو الذي يقول فيه الأستاذ علي الطنطاوي: ما قرأت في الأدب العربي أجمل من قصيدته، التي يقول فيها:
لمعت نارهم وقد عسعس الليل ومل الحادي وحار الدليل
فتأملتها وفكري من البين عليل وطرف عيني كليل
وفؤادي ذاك الفؤاد المعنى وغرامي ذاك الغرام الدخيل
وهي ما يقارب خمسين بيتاً، فأتى نور الدين وقبل أن يصل أرسل للقاضي رسالة، قال فيها: إذا أتيت فلا ترفع مجلسي، ولا تصافحني أمام الناس، وأجلسني مع خصمي على البساط.
فدخل نور الدين فقال الشهرزوري: اجلس هنا، فجلس أمامه وهو حاكم الإقليم الذي ذكرت لكم من جنوب اليمن إلى شمال تركيا، هذه يحكمها الآن اثنتان وعشرون دولة، فجلس أمامه، فادعى نور الدين أن الأرض له، وأتى بشهود وأخرج عريضة تثبت ذلك، فقال الخصم: صدق، ظننت أنها لي واختلط علي الأمر، وحدثني فلان أنها من الميراث، فمادام أنه أشهد فلاناً فهي له وهو صادق، قال نور الدين محمود: وأنا أشهدكم أن الأرض له.(118/7)
تبسم نور الدين وحرصه على محاربة المنكر
يقولون: ما تبسم نور الدين قط، وقد ذكر ذلك الذهبي، قالوا: وهم يتلون حديث الرسول عليه الصلاة والسلام المسلسل بالتبسم، ومعنى المسلسل بالتبسم: أنه تبسم صلى الله عليه وسلم ثم تبسم الراوي من الصحابة، ثم التابعي، وهذا هو المسلسل بالتبسم.
فلما وصل إليه التبسم، قال له المحدث: يا نور الدين تبسم قال: كيف أتبسم وبيت المقدس في يد الصليبين؟ قال الذهبي: لو تبسم لكان أحسن؛ لأن التبسم صح عن معلم الخير عليه الصلاة والسلام.
فقد تبسم صلى الله عليه وسلم وقال في الحديث الصحيح: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} وقال جرير بن عبد الله في الصحيح: {ما رآني صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي} وكان يقوم في السحر كما ذكر الحفاظ، ويقول: اللهم إني أسألك مسألة، أن تقتلني شهيداً في سبيلك.
وكان إذا قام الإمام في المحراب للصلاة، قال: اللهم خذ من دمي حتى ترضى.
فهل سمعتم صدقاً كهذا الصدق؟ وهل هناك أغلى من الدم؟
اللهم خذ من دمي حتى ترضى.
وأنقل لكم قصيدة من البداية والنهاية ذكرها ابن كثير ومدحه فيها وأثنى عليه، وكان كلما كتب أسطراً ترحم عليه، وسأل الله له المغفرة.
عمل نور الدين مهرجاناً في دمشق استعرض فيه جيشه المسلح ليغزو عكا ويافا، ويطهرها من الصليبين ويخرج الفرنجة، فاستعرض الجيش كله وحضر الأمراء والوزراء والعلماء ووجوه الناس، وأصبح يوماً من أيام الله، وفي أثناء ذلك العرض خرج عليهم الواعظ أبو عثمان المنتخب بن أبي محمد الواسطي وهو من علماء الأمة وكان زاهداً، يقولون: كان لا يملك من الدنيا إلا قعباً وصحفةً وعصاً وجبة عليه، وما كان يأخذ المال من نور الدين أبداً؛ بل كان يرفض، فخرج وقطع الحفل عليهم، ووقف أمام نور الدين وقد سمع أن هناك خمراً يباع في شمال سوريا، فأراد أن يخبر السلطان.
قال: يا نور الدين! عندي قصيدة.
قال: قل.
فوقف أمام الناس وقال:
والقصيدة في البداية والنهاية صفحة (302) من المجلد الثالث عشر- يقول:
مثل وقوفك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إن قيل نور الدين رحت مسلماً فاحذر بأن تبقى وما لك نور
يقول: احذر يوم القيامة أن تأتي ولا نور لك.
أَنَهيت عن شرب الخمور وأنت في كأس المظالم طائش مخمور
كانوا يسمونه الملك العادل على مر التاريخ، ويقول أحد المؤرخين المتأخرين، وذكره أبو الأعلى المودودي وغيره، يقول: عدول الإسلام ستة: الخلفاء الراشدون الأربعة، وعمر بن عبد العزيز ونور الدين محمود، قال:
أَنَهيت عن شرب الخمور وأنت في كأس المظالم طائش مخمور
عطلت كاسات المدام تعففاً وعليك كاسات الحرام تدور
ماذا تقول إذا نقلت إلى البلى فرداً وجاءك منكر ونكير
ماذا تقول إذا وقفت بموقف فرداً ذليلاً والحساب عسير
وتعلقت فيك الخصوم وأنت في يوم الحساب مسلسل مجرور
وتفرقت عنك الجنود وأنت في ضيق القبور موسد مقبور
ووددت أنك ما وليت ولاية يوماً ولا قال الأنام أمير
وبقيت بعد العز رهن حفيرة في عالم الموتى وأنت حقير
وحشرت عرياناً حزيناً باكياً قلقاً وما لك في الأنام مجير
أرضيت أن تحيا وقلبك دارس عافي الخراب وجسمك المعمور
أرضيت أن يحظى سواك بقربه أبداً وأنت معذب مهجور
مهد لنفسك حجة تنجو بها يوم المعاد ويوم تبدو العور
قال: فبكى السلطان بكاء شديداً حتى أغمي عليه ورش بالماء، ثم قام بعد أن رشوه بالماء وأرسل جيشه ألا يبقى مقس ولاعشَّار ولا مكان للخمر ولا للربا إلا ينهى ويباد، ويرفع له بذلك مذكرات ليطمئن، هذه من ابن كثير.(118/8)
طلبه للرزق وقيامه لليل
أما دخله فقال الذهبي والسبط ابن الجوزي: كان له ثلاثة دكاكين بـ دمشق إيجاراها في السنة عشرون ديناراً، لا يأكل إلا منها، ولا يرضى أن يأكل من إيجار غير هذه الدكاكين الثلاثة، وقال السبط ابن الجوزي: استأجر نور الدين محمود سلطان الدنيا وسلطان المشرق عجوزاً، وقال: اصنعي لي الكوافي، وبيعيها والفائدة لي وأجرتك عليّ، فكانت تبيع الكوافي، وذكر ذلك صاحب كتاب سير أعلام النبلاء في المجلد الحادي والعشرين.
فكانت العجوز تصنع له الكوافي وتبيعها في السوق فإذا أتت سلمها الأجرة وسلمته قيمة الكوافي، فيتعيش بها وأهله.
أما قيامه في الليل، فقد فرض على الجيش أن يقوموا قبل الفجر بساعة، فإذا حضر قبل الفجر بساعة ضربت الطابلانخات، هكذا سماها ابن كثير، وهي أشبه شيء بالمدافع، أو بالزِّيرة التي تخرج منها أصوات.
فإذا ضربت استيقظ الجيش جميعاً من الثكنات واستيقظ حرسه وأهله وحاشيته واستيقظ هو فصلوا حتى يطلع الفجر.
أتظن أن هذا ينهزم؟! كيف ينهزم {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18] قال: وكان يقوم الليل كثيراً ويدعو الله عز وجل بالنصر للمسلمين، وكان يكثر من البكاء، وربما صلى في بيته داخل الإيوان، وربما خرج أحياناً فصلى في الثكنة، وكان يمر على الجنود قبل صلاة الفجر ويقول: آه النار النار! يعني: النار يوم العرض الأكبر.
قال الناظم فيه:
جمع الشجاعة والخشوع لربه ما أحسن المحراب في المحراب
ومعنى المحراب: الشجاع المقدام المقاتل، والمحراب معناه: محراب الإمام في المسجد.
قالوا: وكان إذا ركب راحلته قرأ القرآن وهو يسير، ويأتيه بعض الشعراء يقول: نريد أن ننشدك، قال: كفاني كتاب الله سميراً وأنيساً، وقد سمع الحديث، وكان إذا أراد أن يسمع الحديث جلس على ركبتيه كما جلس جبريل عليه السلام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم قال: فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه.(118/9)
التزامه بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم
وخرج مرة يستعرض جيشه قبل إحدى المعارك مع الصليبين، وكان الأكراد هؤلاء أبناء عمومة التركمان، والأتراك ليسوا بعرب يلبسون السيوف عرضاً كالجنابي، وهذا ذكره ابن كثير والذهبي، فخرج نور الدين محمود في الصباح يستعرض جيشه، وقد عرض سيفه وعرض الأكراد أبناء عمومته كـ أسد الدين شيركوه وصلاح الدين ونصر الدين كلهم، فمروا بالجيش فوقف أحد العلماء من الأحناف، وقال: يا نور الدين! وجدنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يلبس سيفه في الطول ولا يلبسه في العرض، قال: بالله عليك؟ قال: إي والله، قال: إنما نحن خدم لمحمد عليه الصلاة والسلام، ثم نقض السيف وهو واقف، وأشار إلى الجيش جميعاً أن البسوها في الطول، فهكذا الإقتداء: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، قالوا: ولبست الأكراد إلى اليوم على هذه اللبسة، أي: قبل السلاح المتطور من عهد نور الدين.
وكتب كتباً في المساجد يطلب السماح قبل موته من الرعية، فقرأت بعد صلاة الجمعة في كل مسجد من مساجد العالم الإسلامي قام الخطباء بعد الصلاة ونص الكلمة من نور الدين محمود العبد الفقير إلى المسلمين أجمعين.
أمَّا بَعْد:-
أشهد الله وملائكته، ثم أشهدكم أني ما تعمدت ظلمكم ألا فالعفو والسماح والغفران.
قالوا: فبكى الناس في المساجد ودعو له رضي الله عنه وأرضاه.(118/10)
رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم في المنام
ذكر الأسنوي في رسالته، وذكر السمهودي في وفاء الوفاء، الكتاب المشهور، أن نور الدين محمود نام ليلة من الليالي وهو في دمشق العاصمة، وفي وسط الليل رأى الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام وبجانبه رجلان عليهما زي مغربي، فيقول صلى الله عليه وسلم: أنقذني يا محمود! قال: فقام وصلى ركعتين ورجع فنام، فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: أنقذني يا محمود! فعاد ثلاثة، فقال: فرآه وهو يقول أنقذني يا محمود! فقام وبعد صلاة الفجر جمع العلماء، وجلس في الإيوان، وما كان يجلس إلا ضحى، أي جمعهم بعد الفجر مباشرة وقال: ماذا ترون رأيت كذا وكذا؟ قال أهل العلم: نرى أن الرسول عليه الصلاة والسلام يؤذى في قبره فنرى أن تذهب ونذهب معك الآن لنرى ماذا أتاه في قبره، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
قال: فأعلن حالة الاستنفار في جيشه وتحرك بالجيش الذي يداهم به الصليبيين حوله إلى المدينة، قال: ومشى هو في أول الجيش ونزل قباء -المكان المعروف- ثم طوق المدينة، وأمر بعدم دخول داخل أو خروج خارج من المدينة، ثم عمل وليمة غداء للناس واستدعاهم، وقال لجنده: فإذا أصبحنا على الطعام وبدأنا نأكل اذهبوا في بيوت المدينة ومن تخلف فتعالوا به، فذهبوا فوجدوا الناس قد حضروا مأدبته، إلا رجلين مغربيين في الروضة يسبحان ويصليان، فعادوا وقالوا له: أتى الناس إلا رجلين رفضا أن يأتيا، قال: عليّ بهما، فأتي بهما، فإذا هما اللذان رأى في المنام، قال: ما قصتكما؟ قالا: نحن نعبد الله ونسبحه ونذكره في الروضة، قال لجنوده: مسوهما بعذاب، يعني: خذوهما بتحقيق، فذهب مع الجنود فجلدوهما فاعترفا، فقالوا: نحن أرسلنا ملك عكا الصليبي من الفرنجة، وأنزلنا في قارب في جدة، وركبنا من هناك، لنأخذ جثمان الرسول صلى الله عليه وسلم، ونذهب به إلى عكا، قال: يا كلبان! ما كان لكما ذلك، ثم أمر السياف أن يضرب رءوسهما، فضرب رءوسهما، ثم نكسهما عند مدخل قباء، ثم ذهب وأتى إلى القبر، فوجد أنه يحفر من تحت البساط وقد اقتربوا من القبر، فأمر بصب ما حول القبر من الرصاص، وقيل بين الرصاص وبين القبر صبة فضة، فرضي الله عنه ورحمه، وأعلى منزلته في الجنة، وهذا هو الوارد، قال ابن كثير: لما مات نور الدين فرح المجنة -يعني: الماجنون- وفرح أهل الخلاعة، وفرح أهل الطرب، لأن دولتهم ماتت في دولته، فأهل الفن، وأهل العود والوتر، ماتت دولتهم في دولته، لا يحب إلا العلماء، وما يكرم إلا الدعاة، وما يعلي إلا أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله، أما أهل الضياع فما لهم سوق عنده أبداً.
قال: فقام مغنٍ يرقص في السوق، ويقول:
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر
وهذه القصيدة لـ أبي نواس، وهذا المغني لما سمع بموت نور الدين، نزل السوق يرقص، ويقول:
ألا فسقني خمراً وقل لي هي الخمر ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر
قالوا: وكان الشعراء يقفون ببابه، قال: أنا لا أعطي شاعراً، إنما أعطي العلماء؛ لينشروا دين الله والمجاهدين؛ لينصروا دين الله، والفقراء للحاجة، والمساكين للعوز، أما غيرهم فليس لهم في بيت المال لهم شيء هكذا قال.
فقال أحد الشعراء في نور الدين رحمه الله، لما أتى إلى نور الدين فمدحه بقصيدة، فلم يعطه شيئاً، قال: أنت لست بعالم تدعو، ولا بمجاهد ينصر بك الدين، ولا فقير ولا مسكين، فقال الشاعر:
سلطاننا زاهد والناس قد زهدوا له فكل عن الخيرات منكمش
أيامه مثل شهر الصوم طاهرة من المعاصي وفيها الجوع والعطش
الجوع والعطش للمتمردين وهؤلاء الهامشيين، الذين ليس لهم مكانة ولا أثر في الأمة، ولا ينبغي أن ينزلوا إلا منزلة من المنازل التي يستحقونها.(118/11)
اشتهاره بالعدل وخوفه على الإسلام
كان مضرب المثل في العدل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فانظر كيف نصر الله نور الدين وصلاح الدين على قلة العدد والعدة، مع كثرة العدو وذلك لأنهم أقاموا العدل في الأرض، ثم قال: إن الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، وإن الله يدمر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، انتهى كلامه في المجلد الثاني.
وكان نور الدين محمود يلعب بالكرة على الخيل، قال له أحد الناس: مالك تلعب بالكرة، أليس هذا من اللهو؟! قال نور الدين محمود: يقول عليه الصلاة والسلام: {إنما الأعمال بالنيات} وأنا والله ما لعبتها إلا لأتقوى بها على الجهاد في سبيل الله.
قال: ونامت زوجته ولم تقم الليل، فغضب هو وغضبت زوجته، ومن ثم أنشأ الطابلانخات لتحدث الأصوات ليقوم الناس، وكانت زوجته عابدة مصلية، وهي بَنَتْ كثيراً من المدارس وأوقفت كثيراً من الوقوف، قال ابن كثير:
فألبس الله هاتيك العظام وإن بُلين تحت الثرى عفواً وغفرانا
سقى ثرى أودعوه رحمة ملأتَ مثوى قبورهم روحاً وريحانا
وهو يستحق والله!
وقيل له: اذكر لنا من بعض أيامك، قال: لما نازلت الفرنجة في دمياط، قال: خرجت بجيش قليل، وإذا بجيش الفرنجة كثير قد اجتمعوا من فرنسا وانجلترا وغيرها كل هذه الدول اجتمعوا ضده، فلما رأى جيشه قليلاً وجيشهم كثيراً، طلب المهلة عشرين يوماً، قال: فصام العشرين يوماً كلها لا يفطر إلا على ماء وقليل خبز حتى ضمر جسمه، وكان يقوم الثلث الأخير، ويقول: اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي.
قال: فنام ليلة، فرأى الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول له: لا تيأس يا نور الدين محمود! من نصر الله، أما نصرك يوم حارم؟! قال: فلما صلى الفجر أتاه القاضي يحيى قاضي دمياط، فصلى معه وقد رأى القاضي يحيى رؤيا كرؤيا نور الدين، فسلم عليه وقال: رأيت رؤيا البارحة، فتبسم نور الدين محمود قال: لعلك رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: قل لـ نور الدين محمود لا ييأس من نصر الله، فإنه نصره يوم حارم؟ قال: إي والله رأيت هذه الرؤيا، قال: وأنا رأيتها، قال: فأسألك بالله ما يوم حارم؟ قال: لما نازلت الفرنجة في حارم العام الأول، كان عددهم أكثر من هذا العدد، فلما ترجلت عن فرسي، أنست من نفسي الهزيمة، فمرغت وجهي في التراب، وقلت: اللهم انصرني فنصرني ربي، فهذا يوم حارم.
فيقول صلى الله عليه وسلم: الذي نصرك يوم حارم ينصرك اليوم، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123] قال الذهبي: وكان نور الدين حامل راية العدل والجهاد، وجمع غباره، الذي على قلنسوته وثيابه، ووجد على سرج فرسه، فجمع مقدار لَبِنَة، ثم صنعت لبنة، ثم قال: ضعوها عند رأسي إذا وضعتموني في القبر، فجمعوا هذا الغبار، وجلعوها لبنة ووضعت عند رأسه، قال الذهبي: قل أن ترى العيون مثله، حاصر دمشق ثم تملكها وبقي بها عشرين سنة، وافتتح أولاً حصوناً كثيرة، وأقام الإسلام ونصر الدين، وارتفعت في عهده لا إله إلا الله محمد رسول الله، وبنى المدارس بـ حلب وحمص ودمشق وبعلبك والجوامع والمساجد، وكان إذا أذن المؤذن قام مسرعاً لا يتأخر.
يقول بعض المؤرخين: كان أول من يدخل المسجد القريب مسجد الجيش؛ نور الدين محمود، وكان يمر على الجنود وكان فيه مزح، يمزح أحياناً ويسلم عليهم ويوقظهم للصلاة، فإذا جد الجد لا يتبسم أبداً، قال الذهبي: وكان بطلاً شجاعاً، وافر الهيبة، حسن الرمي، مليح الشكل، ذا تعبد وخوف وورع، وكان يبكي في مجلس العلماء إذا تلي عليه كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان يحضر مجالس الحديث بنفسه في المسجد، وربما خرج في الليل متنكراً لا يُعرف، ليرى أحوال الفقراء، وأحوال العامة، وسمع أن أحد المترفين اعتدى على ملك رجل آخر فاستدعاه، وبطحه بالكرباك بيده؛ لأن هذا يقولون: ظالم، قال: وكان يتعرض للشهادة دائماً وأبداً، وبنى دار العدل، وأنصف الرعية، ووقف مع الضعفاء والأيتام والمجاورين، وأمر بتكميل سور المدينة النبوية، واستخرج العين بأحد التي دفنها السيل، وفتح درب الجهاد، وقال: أسأل الله أن ألقاه يوم القيامة، ولا يسألني عن درهم ولا دينار.(118/12)
خوفه من الله عز وجل
وكان يفكر ملياً، فإذا قيل له: ما لك؟ قال: أخشى من الله عز وجل أن ينجي الأمة وأن يدخلني النار -نعوذ بالله من النار- وكانت الفرنجة قد استضرت في عهده ضرراً بالغاً، وألحق بها هزائم فادحة عبر التاريخ، وكان نور الدين مليح الخط، كثير المطالعة، يخلو قبل أن ينام بكتب العلم فيطالعها، وكان يصلي كل الصلوات في جماعة ولا يعذر أحداً من الجيش بترك الصلاة، وكان يصوم حتى في المعركة.
يقول صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: {من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً} قال: وكان يتلو ويسبح الله كثيراً، ويتحرى في القوت، ويتجنب الكبر، وكان يتشبه بالعلماء والأخيار، وكان إذا دخل عليه العلماء أقام الوزراء وأجلسهم مكانهم، وقال لهم: أنتم ميراث محمد عليه الصلاة والسلام، وكان إذا تكلم قال للعلماء: تكلموا يا من استشهدهم الله على وحدانيته: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18].
وكان كل من رآه، شاهد من جلال السلطنة وهيبة الملك ما يبهره، وكان على وجهه نور من كثرة صلاته بالليل، وكان متواضعاً جد متواضع، وربما مر بالأطفال الأيتام فمسح على رءوسهم، فرضي الله عنه وأرضاه، ورفع منزلته.
قال أبو الفرج ابن الجوزي: جاهد وانتزع من الكفار نيفاً وخمسين مدينة وحصناً، وارتفعت كلمة التوحيد في عهده، وكان سادس الخلفاء أو الأئمة على مر الإسلام، وربما سبع بعضهم بـ أورنك زيب ملك الهند في العدد.
وقال عنه موفق عبد اللطيف صاحب التاريخ: كان نور الدين لا ينشف له لبِد من الجهاد، وكان يأكل من عمل يده، ينسخ تارة، وربما نسخ كتب الحديث وباعها، ويعمل أغلافاً تارة، وربما عمل أغلافاً للمصاحف وجلوداً لها، ويلبس الصوف ويلازم السجادة والمصحف، وكان حنفياً يراعي مذهب الشافعي ومالك، ويحترم الخلاف، ولا يرى أن يثار الجدل في مجلسه، وقد عزر كثيراً من علماء المنطق وأهل الكلام، وقال: إنما الإسلام قال الله وقال رسوله، وهؤلاء علماء الفوضى علماء الكلام الذين يقول فيهم الإمام الشافعي: رأيي في علماء الكلام أن يطاف بهم في العشائر والقبائل وأن يضربوا بالجريد وبالنعال ويقال: هذا جزاء من ترك قال الله وقال الرسول عليه الصلاة والسلام، فهم أشبه شيء بعلماء الفكر الضائع الضال الذين لا يهتدون بنور من الله عز وجل ولا بصيرة.(118/13)
أوصاف نور الدين
ذكر ابن الأثير في الكامل أوصافه فقال: وكان أسمر، له لحية في حنكه، وكان واسع الجبهة، آثار السجود بادية عليه من كثرة صلاته، وكان حلو العينين، طالعت السير فلم أر فيها -يقول ابن الأثير - فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة منه، وهو أولى بقصيدة أبي تمام الشهيرة التي قالها في محمد بن حُميد الطوسي الذي قتل شهيداً:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
فتى كلما فاضت عيون قبيلة دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكر
تردى ثياب الموت حمراً فما أتى لها الليل إلا وهي من سندس خضر
ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعة غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر
إلى آخر ما قال، قال: فهو أولى بها.(118/14)
مجالس نور الدين
كان يحاسب عماله، وله في كل جمعة أربعة مجالس:
المجلس الأول: للعلماء، يجلس معهم ويستفتيهم، ويسألهم، وربما تدخل في بعض القضايا، وكان يحفظ كثيراً من الأدلة.
المجلس الثاني: لأمراء الأقاليم وكان يتحرى معهم.
المجلس الثالث: للفقراء والأيتام.
المجلس الرابع: للنساء وكان يجلس وراء ستار، ويسمع شكاوى النساء، وربما أخر مجلس النساء وأرسل من ينوب عنه من القضاة ليسمعوا الشكاوي.
قال الذهبي: كان دينا تقياً، لا يرى بذل الأموال إلا في نفع، وكان كما مر معنا، أدمن الكر والفر حتى أثر ذلك في جسمه.(118/15)
وفاة نور الدين محمود
هل مات شهيداً حيث أنه سُمي عند أهل العلم شهيداً؟
والشهادة هبة من الله عز وجل، وفي صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه} وقد سأل الله الشهادة في كل موقعة، وقد تمنى وكان يسجد ويقول كما مر معنا: اللهم احشرني يوم العرض الأكبر من حواصل الطير وبطون السباع، ومع ذلك لله حكمة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
خالد بن الوليد يقال: خاض أكثر من مائة معركة، ومع ذلك مات على الفراش -حكمة بالغة- وهذا سمي عند أهل العلم شهيداً؛ لأن مرضه أشبه بالشهادة، فقد جلس في الإيوان وكان تُرفع إليه قصاصات وأوراق الشكاوى فرفع طرفه وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم احمر وجهه فسحب من المكان ورفع، فمات بعد ساعات، وأصيب بالخوانيق وهو اختناق وقليل جروح امتدت إلى بطنه فلعله من الشهداء الذين قال فيهم عليه الصلاة والسلام: {المبطون شهيد} قالوا: دخل الداء إلى بطنه، وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة}.
وفي تذكرة الحفاظ للذهبي أن أبا زرعة الحافظ الكبير المحدث لما حضرته سكرات الموت أغمي عليه، فأراد تلاميذه بعد ما استيقظ أن يذكروه هذا الحديث، لأنهم استحيوا أن يقولوا: قل لا إله إلا الله، وإلا فلا حياء في مثل هذه الكلمة، بل النصيحة واردة، لكن لجلالة أبي زرعة في الإسلام، أرادوا أن يذكروه بسند الحديث ليتذكر هو الحديث، قال: فاختلفوا في سند الحديث قال بعضهم: حدثنا فلان، وقال بعضهم: حدثنا فلان، فقال: أبو زرعة، وهو في الرمق الأخير، حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان، أن فلاناً حدثنا عن معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} ثم قال: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ثم مات.
ولما توفي اختلطت السلطة، وقام نائبه ففتح الإيوان للعزاء، فسمع بكاء الناس، ووقف النساء والأطفال على سطوح المنازل، ونزل الجند من الثكنات معهم الخيزرانات، يمنعون الناس من النزول إلى السكك خوفاً من الرهج، وأصاب الناس هم عظيم وحزن، ودخل في كل بيت مصيبة، وقام الناس يقرءون القرآن، ويبتهلون إلى الله أن يغفر له، وأعيدت قراءة رسائله إلى الأمة، واشتد البكاء، ونزل القضاة يصلون بالناس، وارتفعت جنازته وسار وراءها الجيش ثم العامة، وما وصلت إلى المقبرة إلا في صلاة العصر وقد مضي بها من الصباح.
وتقطعت في الطريق أحذية الأمراء والوزراء، وكانت الأغطية تسقط على الناس من على سقوف المنازل والعمامات، وكان الناس يقولون: سقى الله نور الدين من سلسبيل الجنة، غفر الله لـ محمود، رحم الله محموداً، قال: وأسلم من النصارى، واليهود جمع عظيم لما رأوا جلالة الإسلام وعظمته، وقام القاضي الشهرزوري يصلي عليه فقال: الله أكبر فبكى؛ فبكى الناس.
قال: وكان له رسم في حياته، يحسب ما يدخل عليه من أجرة الدكاكين ومن أجرة الكوافي ونسخ المجلدات، ويحسب ما ينفق في سيبل الله، وكانت معيشته عيشة الفقير، وكان له بعض الأموال في مزرعة في الشمال ينفقها على الفقراء.(118/16)
معالم من سيرة نور الدين
فهذا من سيرته رضي الله عنه وأرضاه وهذه المعالم التي أريد أن ألخص من سيرة هذا الإمام لتكون معلماً من معالم السيرة، وقد ذكرها الحفاظ كثيراً وأطنبوا في ذكرها، وكلما ذكر ابن تيمية الجهاد؛ ذكر هذا الرجل وترحم عليه، ولا نزال نترحم عليه إلى اليوم، والله يقول: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].(118/17)
اهتمامه بالعلم ونشر السنة
فقد اهتم بالعلم ونشر السنة، ولذلك أباد دولة الفاطميين إبادة ما سمع التاريخ بمثلها، وبقيت لهم بقية في مصر استحوذ عليها صلاح الدين وأنهى أمرهم، وأباد الإسماعيلية والباطنية، وكان قوي الشكيمة، ولا يسمح للمبتدعة بالحديث في المساجد.
وكان يأمر بالسنة، وكان إذا صلى الناس العشاء قام أولاً يوتر بعد صلاة العشاء على مذهب الأحناف، وأنت ترى الأحناف اليوم إذا سلم الإمام حتى في الحرمين يقومون مباشرة ويسنون، ونور الدين منهم، وهو من أصلب الناس على المحافظة على السنن، ومن أقواهم حتى يروون في رواية لـ أبي يوسف ومحمد بن الحسن، أن الوتر واجب، فهم يحافظون عليه محافظة تامة، ومنهم نور الدين محمود، وكان يخلع حذاءه إذا أراد أن يدخل المسجد ويأخذها بيده أمام الجنود والناس، وكان إذا دخل المسجد تبسم للناس وتبسموا له، وسلم عليهم.
وكان يحضر مبكراً لصلاة الجمعة، فيجلس أمام الخطيب، وكان يعظه الواعظ المنتخب فيبكي، وكان المنتخب يقول في الخطبة: يا محمود! اتق الله يا محمود! فيسمع نشيج محمود في الصف الأول.
قال الذهبي في ترجمة القطب الواعظ الثاني الذي أتى خطيباً بعد المنتخب، فبعد أن مات المنتخب، عين نور الدين محمود القطب خطيباً بعده، فأراد أن يقلد الأول، والأول عنده صدق وعلم وقوة وزهد، فكان يقول: يا محمود! اتق الله يا محمود! قال: فيقشعر جلد محمود ولا يبكي، وبعد الصلاة قال له محمود: لا تذكر اسمي في الخطبة، فو الله إن المنتخب كان إذا قال لي: يا محمود! اقشعر جلدي وذرفت دمعتي ووجل قلبي، وأما أنت إذا قلت لي يا محمود! ضاق صدري وقسا قلبي، قال الذهبي مترجماً لـ القطب كان غائصاً في بحار الدنيا.
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها
وأذكر في ذلك قصة يذكرها الحفاظ: أن عمر رضي الله عنه وأرضاه، مر برجل مصروع أغمي عليه، فقال عمر: مه، ما هذا؟! قالوا: مصروع، عليه مس، فجلس عمر ووضع يده على صدره، وقرأ عليه سورة ق فشفي بإذن الله وأخرج الجان، وبعدما ما مات عمر أتى الجان وركب هذا الرجل، وأعاد الكرة معه، فجاء رجل من الناس -وقد حضر قصة عمر رضي الله عنه- فوضع يده على صدر هذا المصروع وقرأ سورة ق، فقال الجان: السورة هي السورة ولكن القارئ غير القارئ.
فالكلام هو الكلام، لكن القارئ يختلف، فذاك عمر وهذا يختلف.
فهذا وقع أيضاً، فيقول نور الدين: لا تذكرني في الخطبة مرة ثانية، اخطب وأنا أسمع، أما ذاك فذهب.(118/18)
إقامته للجهاد
وبقي من سيرته مسألة ثانية، وهي أنه أقام الجهاد للمسلمين وفتح الله به بلاداً كثيرة، ورفع به الراية، وصنع منبراً من الخشب، وكان يضرب فيه المسامير بنفسه، قالوا: لمن هذا المنبر، قال: أصلي فيه وأخطب فيه إن شاء الله في بيت المقدس، ولكن لم يحصل.
تقضون الفلك المسير دائر وتقدرون فتضحك الأقدار
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الانسان:30] وفتح أحد حسناته، وهو تلميذه صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس، ولما فتح بيت المقدس الجمعة الأولى جلس في الصف الأول وقام شمس الدين الحلبي يخطب في الخطبة، وذكر نور الدين وأخذ يحيي صلاح الدين، يقول في الخطبة: الحمد لله وحده، الذي نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، الحمد لله منزل الكتاب، مجري السحاب، هازم الأحزاب، ثم التفت إلى صلاح الدين وقال:
تلك المكارم لا قعبان من لبنِ وهكذا السيف لا سيف ابن ذي يزن
وهكذا يفعل الأبطال إن غضبوا وهكذا يعصف التوحيد بالوثن
ثم ترحموا على نور الدين، فلما صلوا قام صلاح الدين وقبل المنبر من الخشب، الذي صنعه نور الدين محمود وقال: رحمك الله، وقد تمنى أن يصلي هناك، فنسأل الله أن يكتب له أجر تلك الأمنية، وكان خاطره مكسرواً كلما تذكر بيت المقدس، وقد فتح الشمال وطرد الإفرنجة ووقف أحد أبناء نور الدين واسمه ابن معين الدين معه، فلما طرد الإفرنجة، قال لـ ابن معين الدين: الآن بردت جلدة أبيك في قبره، قال: ولمَ أبي؟ قال: لأنه صالح الإفرنجة وأنزلهم دمياط وأنا طردتهم، قال: الآن لما شاركت عسى أن تكون كفارة، أنك طردت هؤلاء الأقزام.(118/19)
اهتمامه بالقرآن وحملته
وقد جعل لحفاظ القرآن الكريم أعطيات، وكان يسمع بنفسه على الأبناء والأطفال الذين يدخلون عليه، وكان بجيبه دائماً دنانير، فكلما أتاه طفل قبله ومسح رأسه ووضع في يده ديناراً، وكان يسأل أبناء المترفين والسادة والأمراء والوزراء هل يحفظون القرآن أم لا؟ رحمه الله رحمة واسعة.(118/20)
نشره كتب الحديث ورفعه لمكانة المحدثين
المسار الرابع في حياته: أنه رضي الله عنه وأرضاه نشر كتب الحديث وجعل للمحدثين مكانة في الإقليم، وأمر العلماء أن يقلوا من الخلاف، وكان يردد الكلمة المشهورة، وقد رددها ابن تيمية في رفع الملام عن الأئمة الأعلام فكان نور الدين محمود يقول: من عبد الله على مذهب أحمد فقد أصاب، أو مذهب أبي حنيفة، أو مذهب مالك، أو مذهب الشافعي، وكل يقصد الخير، فانظر إلى حسن فطنته، وإلى عقله وتمام رويته، جمعنا الله به في دار الكرامة.
فهذه معالم من سيرة نور الدين محمود الذين يتعرض أبناء عمومته الأكراد أهل السنة إلى هجوم من الحزب الكافر: حزب البعث، وإبادة تامة، فنسأل الله أن يرفع عنهم هذه الضائقة وأن ينصرهم على عدوهم، وإنها والله لعبرة لنا أن نعتبر، والله عز وجل قد تكفل بنصر هذا الدين {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
فهذا الدين ينصر على يد من والى الله عز وجل، فإن بلالاً عبد حبشي جعله الله من أنصار دينه، وأبو طالب أصله قرشي ولكنه أعرض عن لا إله إلا الله، وسلمان فارسي وصهيب رومي، ولكن أقرب الناس إلى الله أحبهم إليه بطاعته، ولا يقترب أحد إلا بنصر هذا الدين.
فانظر إليه كيف كان عجمياً تركياً ولم يكن عربياً، ثم تحمس للإسلام وتفقه في الدين، ورفع القرآن ونصر إياك نعبد وإياك نستعين، وأكرم أهل العلم وأذل أهل الكفر والبدع، ونفى الفساد، وأقام العدل والجهاد، فأصبح مرفوع العماد، ومذكوراً بين العباد على مر الأعوام والأيام والآماد: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف:111].
ونسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وإنما المقصود من سير هؤلاء أن نتعلم ونأخذ منهم ما تركوا لنا من علم وأدب وتواضع وحلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من تشبه بقوم فهو منهم} ويقول الله عز وجل: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] وكان صلى الله عليه وسلم يقول: {المرء يحشر مع من أحب} فنشهد الله عز وجل وملائكته وحملة عرشه، ثم نشهدكم أننا أحببناه وأحببنا الصالحين، فنسأل الله أن يجمعنا بهم في دار الكرامة.
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
أيها الإخوة الكرام: بقي مسألتان، المسألة الأولى: حفظكم الله تعلمون أنه قد قرب وقت إخراج زكاة الفطر وهناك الهيئة العامة للإغاثة الإسلامية، وفقها الله والقائمين عليها تتلقى زكاة الفطر، وعنوانها معروف عند الإخوة حتى تدفعوا إليها زكاتكم، وفيها فتوى من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز.
الأمر الثاني: أمامكم مشروع عظيم، والواجب علينا جميعاً أن نشارك فيه، وهو والله فخر لهذه البلاد وفخر لنا جميعاً، وهو ما أوجب أن يمكن أن يدفع فيه المال، الجماعة الخيرية لتحفيظ كتاب الله تتحرى منكم الدعم، هذه الليلة وبعد هذه الليلة، وسوف تقوم بمشروع عظيم، بناء واسع للجماعة، وفيها مسجد، وفيها صالات، ومكتبات ودور وفيها أمكنة لطلبة العلم، تحمل الشهادة لكم بأنكم أنفقتم في سبيل الله، ولا يقول قائل منكم إني دفعت بالأمس، أو قبل أمس، لا.
بل: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261] إلى التبرع هذه الليلة، بدعم سخي، على ما عودتم أنفسكم بهذا البذل، وأنا أسأل الله عز وجل لي ولكم التوفيق والهداية.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(118/21)
الهداية
لا بد لمن يسلك سبيل الهداية التي يتوصل بها إلى رضوان الله سبحانه وتعالى من أمور، منها:
دعاء الله عز وجل بالتوفيق للهداية.
وتدبر كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
والتمعن والنظر في الكون والخلق كيف هدى الله عز وجل كل إنسان إلى ما هو أهل له من عمل ووظيفة وغاية.
فيجدر بهذا السالك به أن يعرف أسباب الهداية وأحوالها وسبل التوصل إليها.(119/1)
أهمية الهداية
الحمد لله القائل: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:1 - 6].
والصلاة والسلام على رسول الله القائل: {والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار}.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المسلمون الفضلاء! أيها الصائمون النبلاء! أيها الأتقياء الأولياء! عنوان هذه المحاضرة: الهداية.
أزفها بمناسبة هذا الشهر الكريم، وأهديها لمن فكر أن يتوب، ولمن رشح نفسه أن يكون عبداً لله، ولمن فكر يوماً من الأيام أن ينقذ نفسه من الهموم والغموم والأحزان، والتمزق والفجور، والبعد عن الله، أعداء الله يشكون الظلام؛ لأنهم ما رأوا نور محمد عليه الصلاة والسلام، ويشكون الظمأ؛ لأنهم ما شربوا من نهره صلى الله عليه وسلم، ويشكون الجوع؛ لأنهم ما جلسوا على مائدته:
أين ما يدعى ظلاماً يا رفيق الليل أينا إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه
قد مشينا في ضياء الوحي حقاً واهتدينا ورسول الله قاد الركب تحدوه خطاه
قد شربنا من كئوس الوحي حقاً وارتوينا وكتبنا في العلا بالحق تمجيد الإله
عناصر هذه المحاضرة:
أولها: الهداية إلى الصراط المستقيم، وما هو الصراط المستقيم؟ وأي صراطٍ مستقيم هو؟ بين مناهج الأرض وأطروحات الأرض، وقوانين الأرض، أسباب الهداية، كيف يهتدي العبد، الهداية تزيد وتنقص، الهداية إلى الأعمال الصالحة، الهداية العامة والهداية الخاصة: أقسام الهداية، انفراد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بالهداية وحده، لا يهدي إلا هو، الهداية لصاحبها، وليست لأحد من الناس، هل الهداية سببٌ للمخاوف؟ سؤالٌ يجاب عنه في المحاضرة
الهداية بالوحي، لا بمادةٍ أخرى؛ لأن الوحي وحده أثبت أنه الطريقة السلمية إلى الله عز وجل، الهداية هي السعادة الحقيقة، الهداية المطلقة، من معالم الهداية ودنيا الهداية، شرح الصدر علامةٌ للهداية، أما العنصر الخامس عشر: فهو مع محمدٍ عليه الصلاة والسلام، ومع الهداية في السنة النبوية، من كلامه، ومن منهجه ومن مشكاته صلى الله عليه وسلم.
وقبل أن نبدأ نقول: إنما يمكن أن يشفي سقمنا ومرضنا هو الهداية وحدها، ولذلك توجه هذه الكلمة لطبقات الناس؛ للملوك وللأمراء، وللوزراء، وللعلماء، وللعامة، وللأغنياء، وللفقراء؛ لأن الله نادى الجميع فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:1].
تعال يا من حاله في وبال ونفسه مغروسةٌ في عقال
يا راقداً لم يستفق عندما أذن في صبح الليالي بلال
روض النبي المصطفى وارفٌ وأنتمُ أصحابه يا رجال
والذي لا يركب في سفينته لن ينجو أبداً، وسوف يدركه الهلاك وتدمر حياته ومستقبله، جرب أهل الذكاء ذكاءهم فكان إخفاقاً ولعنة، وجرب أهل المال مالهم فكان غضباً عليهم وسحقاً وفقراً، فعرفوا بالتجارب والاستقراء أنه لا يمكن أن ينجو أحد إلا في سفينة محمد عليه الصلاة والسلام، وأنا جعلت أكثر مادة هذه المحاضرة آيات من القرآن الكريم، وجمعت في هذا الموضوع أكثر من ستين آية من كتاب الله عز وجل، تتكلم كلها عن الهداية، وعن تعريف الهداية، وأسباب الهداية، وطرق الهداية، ونتائج الهداية، ومن المهتدي حقيقة، وما علامة الهداية، وكلها سوف تسمعونها.(119/2)
الهداية إلى الصراط المستقيم
في القرآن ثلاث آيات تتحدث عن هذا المبدأ، يقول سبحانه وهو يوجه المؤمنين إلى الدعاء: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] وقال سبحانه: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:68] وقال سبحانه: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح:2].
قيل: القرآن، وقيل: محمدٌ عليه الصلاة والسلام، وقيل: طريق النجاة، وقيل: الإسلام، والصحيح: أنه كل ما يهديك إلى الله فهو الصراط المستقيم، والصحيح أنه الإسلام، فهو الطريق الذي وقف في أوله صلى الله عليه وسلم ورفع فيه راية لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والطريق الذي يؤذن فيه بلال، والطريق الذي سلكه من قبل نوح وآدم وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، هو الطريق الخالد لذاك الموكب الكريم، فهذا هو الطريق المستقيم: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] وهم الأنبياء والرسل والصالحون والشهداء وحسن أولئك رفيقاً، والصراط المستقيم هو أقرب موصل بين نقطتين، فليس فيه عوج ولا لبس، ولا مذاهب أرضية، ولا أطروحات بشرية، إنه مستقيم جد مستقيم يوصلك إلى الأمام.
ولا تركن لغير الهداية، لا تتوقع أن منصبك أو كرسيك أو مالك أو ولدك سوف ينقذك من عذاب الله، إن لم تتشرف بحمل الهداية، قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95].
لبيد بن ربيعة أحد شعراء العرب كان شاعراً مشهوراً، كان عنده جماهير، يصفقون له ويمدحونه، لكنه ذاق جرعةً من دواء محمد عليه الصلاة والسلام، فوجد الهداية، فاعتزل الشعر والجماهير والغناء، وقال:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا
إذا وصل بك الحال إلى أن لم تكتشف في هذا القرن الخامس عشر، أن الهادي بعد الله -هداية الدلالة- محمدٌ عليه الصلاة والسلام، فإنك إذاً ما اكتشفت، ولا عرفت شيئاً.
وقال سبحانه: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:68] وهذه في سورة النساء، يقول الواحد الأحد: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:66 - 68].
والخطاب لليهود، ولكل من سار على منهج اليهود، أو شابه اليهود في سيرهم، يقول: لو فعلوا بهذه السنة وهذا القرآن والوحي {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:66 - 68].
وقال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] أنا وأنت علينا ميثاق، والميثاق ختمٌ أتى به صلى الله عليه وسلم، فمن حمله في كتفه أداه إلى الجنة، وهذا الميثاق يقال عليه: شارة المدينة، وخرج من مسجده صلى الله عليه وسلم، وهو علامة لـ أهل السنة، إذا رآهم المحاسبون يوم العرض الأكبر أدخلوهم الجنة، ومن لم يحمل الختم فليس على مسيرة محمدٍ عليه الصلاة والسلام.
وقال سبحانه للرسول عليه الصلاة والسلام: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح:2] وهذه الآية من سورة الفتح التي نزلت بعد صلح الحديبية.
قال أهل العلم: "كيف يهديه وقد هدي؟ واهتدى وهدى الملايين؟ لساني ولسانك، وعيني وعينك، وأنفي وأنفك، وأذني وأذنك، كلها أدواتٌ تتحرك بلا إله إلا الله، هذه الملايين اليوم التي تصوم في شعوب الأرض كلها ورقات من شجرته عليه الصلاة والسلام:
أتطلبون من المختار معجزةً يكفيه شعبٌ من الأموات أحياهُ
ويقول شوقي:
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرممِ
يقول شوقي: إن كان عيسى أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى بإذن الله، فأنت يا رسول الله! أتيت إلى شعوبٍ ميتة، وإلى حضارة واهية، وإلى قلوب متفلتة، فأحييتها بلا إله إلا الله!! وأعدتها إلى الله، وحركتها بلسان الحق، حتى خطبت على منابر الدنيا، قال أهل العلم: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح:2] أي: يزيدك هداية إلى هدايتك!!
وكان عليه الصلاة والسلام، إذا قام في الليل -وهذا عند مسلم من حديث عائشة كان إذا قام من الليل يقول:: {اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل! فاطر السماوات والأرض! عالم الغيب والشهادة! أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلفَ فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم} فهداه الله هدايةً عامة، وهدايةً خاصة، وهدى به الأمم عليه الصلاة والسلام.(119/3)
أسباب الهداية(119/4)
السبب الأول: الصدق مع الله
أما أسباب الهداية فاسمع إليها: أعظم سبب أن تصدق مع الله، الآن القلوب وضعت في الحرم، ففي التراويح وضعوا مهجهم أمام الله، ملوكاً وكباراً وأغنياء وفقراء، منهم الطائف، ومنهم العاكف، ومنهم الساجد، ومنهم الراكع، كلهم يستمعون القرآن والرسالة الخالدة، وكلهم يريد أن ينال المغفرة والرضوان من الله، لا أحد يشتكي على أحد، لا معاريض ولا وثائق ولا دعاوي، كل القلوب اتجهت إلى الله عز وجل، فأعظم ما يمكن أن يجعلك مهتدياً، ويرشحك أن تتوب، ويجعلك عبداً لله أن تصدق مع الله!!(119/5)
السبب الثاني: المجاهدة
يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] يقول أحد الشعراء الحكماء -وعجب ابن تيمية من قصيدته في درء تعارض العقل والنقل - وكان هذا العالم شاعراً مجيداً وكان داعياً إلى الله -يقول في قصيدة لوعة وأسى وحسرة وتبتل إلى الله:
وحقك لو أدخلتني النار قلت للذين بها قد كنتُ ممن أحبه
وأفنيت جسمي في علومٍ كثيرةٍ وما منيتي إلا رضاه وقربه
أما قلتمُ: من كان فينا مجاهداً سيحمد مثواه ويعذب شربه
أترجم القصيدة وهي بالعربية، لكنها مناجاة الأصفياء والأخيار، يقول: وحقك يقول: "والله لو أدخلتني النار لأتكلمن إلى أهل النار وأقول: والله إني كنتُ أحب الله في الدنيا.
وحب الله شيءٌ عظيم: يشرب الخمر شارب في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام مرات، فيجلدونه بالجريد والنعال والأحذية، ويقول أحد الصحابة عنه: قاتلك الله قال عليه الصلاة والسلام: {لا تسبه فوالذي نفسي بيده، ما علمته إلا أنه يحب الله ورسوله} ولو أنه يشرب الكأس، لكن هناك فطرة من الحب، غير أنه ما سقاها وما قواها حتى تصبح شجرة: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:25].
فيقول هذا: "يا رب! وحقك إن أدخلتني النار قلت للذين بها: قد كنتُ ممن أحبه".
ويقول في آخر القصيدة: أما قلتمُ من كان فينا مجاهداً أما قلت في القرآن يا رب! من جاهد فيك سوف تعظم قدره وتكرمه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] قال:
أما قلتم من كان فينا مجاهداً سيحمد مثواه ويعذب شربه
يا الله! يا الله! هذه الأمة اتجهت إليك، ما تريد بديلاً عن الإسلام، وهذه الصحوة العارمة جربت كل شيء، فما وجدت خلودها ولا أمنها ولا استقرارها إلا في الإسلام.(119/6)
السبب الثالث: الإيمان
ويقول سبحانه عن المؤمنين: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس:9] لم يقل: بأبصارهم؛ لأن كثيراً من الناس عندهم أبصار لكنهم ما استخدموها في الهداية! عندهم عيون يرون، ويبصرون ويدركون، يلتقطون الإبرة في ظلام الليل وفي الوهج على الأرصفة، ولكنهم ما رأوا علماً مكتوباً عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله مما بلغه لنا رسول الله عليه الصلاة والسلام: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9].
والإيمان هداية، الإيمان مع المادية الجدلية العصرية ومع الشيوعية الإلحادية، جُرب أنه هداية، عاش كثيرٌ من الشباب في أمريكا، فتحصنوا بالإيمان فأصبحوا كأنهم من أبناء الصحابة، وترك بعض الناس في الجزيرة الإيمان، فتردوا حتى كأنهم من ذرية أبي لهب وأمية بن خلف، فالإيمان أعظم ما يهدي العبد {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9].(119/7)
السبب الرابع: القرآن
وقال سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9].
هذا القرآن وحده مع السنة يهدي للتي هي أقوم، في العقائد، والمعاملات، وفي العبادات، وثيقة -وقد كررت هذا الكلام- أثبتت قوتها وأثبتت أنها سوف تبقى بإذن الله، كما يقول شوقي:
آياته كلما طال المدى جددٌ يرينهن جلال العتق والقدمِ
وقال آخر:
أتى على سفر التوراة فانهدمت فلم يفدها زمان السبقِ والقدمِ
ولم تقم منه للإنجيل قائمةٌ كأنه النوم زار الجفن في الحلمِ
وثيقة ماركس اللعين عليه غضب الله انتهت في اثنتين وسبعين سنة على يدِ أذنابه وعملائه، لكن الإسلام ما زال منتصراً في الساحة، في القارات الخمس يمرُ مر السحاب، صنع الله الذي أتقن كل شيء، القرآن وحده: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9].
وانظر إلى هذا التعبير، يهدي للتي هي أقوم: للتربية، وللسلوك، وللأخلاق، وللمعتقدات، والمعاملات، لتحكيمه في حياة الناس، للسياسية الشرعية، وقال سبحانه في أسباب الهداية: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] احفظ هذه الجملة {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] ولم يقل: يهدِ عينه؛ لأن العين قد تذهب، كثيرٌ من الناس عمي، ولكن قلوبهم كالشمس، وكثيرٌ من الناس مبصرون ولكن قلوبهم ظلماتٌ بعضها فوق بعض، ظلمات الشهوات والمعاصي: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] يقول تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22].
{:وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] قال ابن عباس: [[هو العبد تصيبه المصيبة فيسلم ويرضى، ويعلم أنها من عند الله، فيهدي الله قلبه]] عندنا في الإسلام المؤمن يموت ابنه فيقول: آمنتُ بالله وتموت زوجته، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويتهدم بيته ويحترق ماله، ويرى المصائب مثل الجبال، فيقول: إنا لله راجعون، فيهدي الله قلبه، ويزيده إيماناً على إيمانه، دين أقوى من الحديد، إرادات تكسر الحجر، لأنه دينٌ خالد يصل بالعبد إلى رضوان الله عز وجل والسعادة.(119/8)
الهداية تزيد وتنقص
أنا وأنت لسنا كـ أبي بكر الصديق، أبو بكر الهداية في قلبه مثل الدنيا، النور في قلبه مثل الشمس لا يصيبه ظلام أبداً؛ لأن وقته للإسلام، من أول يوم وضع يده في كف محمد عليه الصلاة والسلام مبايعاً ومهاجراً ومجاهداً حتى أفنى كل شيءٍ عنده في خدمة هذا الدين، وأنا وأنت نطالب اليوم أن نهتدي فنصلي في المسجد جماعة، ونطالب أن نترك الغناء والمخدرات والدخان، أما أن نطالب أن نفعل مثل أبي بكر، فلا:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامةٍ يا مربع
لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمُقعدِ
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم
وما بيننا وبينهم كما بين الثرى والثُريا!
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا
نحن مع الصحابة مثل العُصي وهم سيوف؛ لأن الصحابة كانوا يستيقظون مع الصباح، يقول أحدهم وقد انتبه وقد استيقظت عيناه وقلبه، من النوم: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور، فأول ما يفكر به كيف ينصر هذا الدين، كيف يقدم روحه، أما نحن فأول ما نستيقظ نتفكر في إفطارنا ووظائفنا وخبزنا ولحمنا وثلاجتنا وفاكهتنا، اهتماماتهم كلها للإسلام، تقطع يد أحدهم، وتتعلق بعصبة، أو بعرق، فيجعل يده بين ركبتيه، ثم يتمطى عليها حتى تنقطع لئلا تشغله عن الجهاد؛ وتقطع يد جعفر بن أبي طالب اليمنى فيأخذ الراية باليسرى، وتقطع اليسرى، فيحتضنها بين عضديه أو ليست هذه معالم الهداية؟؟!!
من يصل إلى هذه الدرجة؟! أحد الصالحين كان فيه مرض، فكان يتبسم ويقول:
إن كان سركمُ ما قال حاسدنا فما لجرحٍ إذا أرضاكمُ ألمُ
هذا البيت لـ أبي الطيب المتنبي، رمي وهو ينشد عند سيف الدولة بدواة، فسال الدمُ من جبهته، فضحك سيف الدولة، فيقول المتنبي: يا سيف الدولة! إن كان سرك هذا الدم، فأنا لا أجد أذىً لأنه سرك.
فأتى الولي الصالح، فقد رد البيت إلى من يستحقه.
والهداية -أيها الإخوة- تزيدُ وتنقص، يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] تعبير القرآن لا يرتقى إليه، أسلوبٌ فذ، مثل كلامنا ومثل القرآن كمثل مادة التراب، نحن نستطيع أن نصنع من مادة التراب آجراً، ونصنع منها أواني فخارية، لكن هذا التراب خلق الله منه الإنسان، والقرآن من حروف نتكلم بها، ولكن كلامنا لا يمكن أن يقارب مستوى القرآن.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17].
فهم اهتدوا من أول الطريق، الذي يصلي الصلوات الخمس يعطيه الله خشوعاً، والذي يترك الغناء يحبب الله إليه القرآن، والذي يتجه إلى ذكر الله عز وجل يقوده الله عز وجل إلى بر السلام: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] وفي البخاري: {وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به}.
فمن مشى في الطريق خطوةً زاده الله هداية، المؤمن دائماً في هداية بعد هداية، والكافر والفاجر في إعراضٍ بعد إعراض، لا يخرج إلا من جرائم إلى جرائم، يضع الكأس فيحمل المجلة الخليعة، ويضع المجلة الخليعة فيعرض عن القرآن، ويعرض عن القرآن فيترك المسجد، ويعق والديه فيقطع رحمه، فهو في مصائب ومدلهمة، ويقول سبحانه: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13] عندنا الوقود، والطاقة، يسميها سيد قطب: محطة الوقود، هذه محطات جعلها الله للمؤمنين كالمار في سيارته -ولله المثل الأعلى- كلما أوشك وقوده أن ينتهي، تزود من الطريق التي سلكها محمد عليه الصلاة والسلام، والوقود هنا هو الإيمان والذكر والقرآن والسنة وصدق التوجه إلى الله والصيام، أنتم بين موعظةٍ وصيامٍ وتلاوةٍ واعتكافٍ وعبادة، فهي وقودكم: {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13] عندنا الهدى نحن زدناهم من عندنا لا من عند غيرنا، وزدناهم على الجمع والتعظيم، وقوله زدناهم دليل على أن أصل النبتة موجودة في قلوبهم، أما الذي بتر الإيمان في قلبه، وأتى يطلب الشفاء، فهذا إنسانٌ ما عرف الطريق أصلاً، بتر الفطرة، ويقول سبحانه: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً} [مريم:76] فيزيدهم بعد أن اهتدوا.
ثم ذكر أن من عواملِ طاقات الهداية ومما يزيد الهداية الأعمال الصالحة الباقيات، ومن الباقيات: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، نحن المؤمنون عندنا هزجٌ جميل.
قرأت قبل أيام لخواجة مؤلف في علم النفس يقول: فإذا أحسست بالقلق فعليك أن تستمع إلى الموسيقى، فأقول له: خيب الله شبابك، وسود الله وجهك، وجهت الإنسان للموسيقى ليدفع القلق، وقد علمنا عليه الصلاة والسلام ذكراً وهزجاً خالداً، علمنا أن نقول: لا إله إلا الله، وهي كلمة تنشرح لها القلوب:
الله أكبر كل همٍ ينجلي عن قلب كل مكبرٍ ومهللِ
يونس عليه السلام في بطن الحوت في الظلام، ولما أظلمت الدنيا في عينيه قال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فانقشعت من أمامه الظلمات:
أين ما يدعي ظلاماً يا رفيق الليل أينا إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه
أين هذا الظلام؟ يقول لسان حال المؤمن: أين الظلام الذي يشتكيه الناس؟ أين هذه المستشفيات النفسية التي فتحت لأهل القلق والهموم والغموم؟ أين الظلام؟ أنا لا أجد ظلاماً؛ لأنني أصلي وأحمل القرآن وأذكر الله، وأتبتل إلى الله:
أين ما يدعى ظلاماً يا رفيق الليل أينا إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه(119/9)
الهداية إلى الأعمال الصالحة
وهناك هداية جزئية إلى الأعمال الصالحة، قال سبحانه عن المؤمنين: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:24]: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} [الحج:24] أي: أن الله وفقهم فهداهم إلى الطيب من القول.
لا إله إلا الله! هذا الإيمان عجيب، يحول الإنسان بين عشيةٍ وضحاها إلى أن يصبح نظره طاعة، وكلامه طاعة، وحركته طاعة، ومشيه طاعة، حتى كلامه يصبح ذكراً يقول سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10].
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] ودل على نفسه سبحانه بالضمير لا بالاسم الظاهر؛ لأنه معروف عند المؤمن أنه إلى الله، العرب في أشعارهم كانت تعبر بالضمير تعظيماً للممدوح، يقول المتنبي يمدح كافوراً:
قطعت الفيافي والشناخيبَ دونه وجبت هجيراً يترك الماء صاديا
أبا كل طيب لا أبا المسك وحده وكل غمامٍ لا أخص الغواديا
وترك اسم كافور، وما أعلمنا به في القصيدة، لأنه مشهور.
ولو أن هذا المتنبي قطع الفيافي إلى الله وترك هؤلاء البشر لكان له عند الله شأن لكن مرة عند سيف الدولة، فإذا جفاه سيف الدولة، خرج إلى كافور، وإذا طرده كافور خرج إلى عضد الدولة لأنه ما عرف الطريق.
قال:
قطعت الفيافي والشناخيب دونه وجبت هجيراً يترك الماء صادياً
يقول: إني جبت الصحراء وظمئت في الصحراء حتى كدت أموت لآتي إليك والشناخيب هي الجبال، والشاهد قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] والصالحون يعرفون على من يعود الضمير في قوله: (إليه، وأنه هو الله).
وورد في قصة سليمان عليه السلام، والقصة في تسخير الريح له، كما قال تعالى: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] غدوها شهرٌ ورواحها شهر، سخر الله له الريح، فكان إذا أمرها أن تنتقل به من مكان إلى مكان انتقلت به الريح، وأصبح في السماء، معه وزراؤه وأمراؤه وحاشيته على بساطٍ من الريح، فحجب سليمان بهذا البساط عليه السلام الشمس عن فلاحٍ يزرع في الأرض؛ فنظر فوجد بساط سليمان عليه السلام يخترق الجو عابراً من مكانٍ إلى مكان، فالتفت فرأى سليمان ورأى الناس معه على بساطٍ من ريح، وتعبير القرآن جميل يقول: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] أي: أنها إذا أرادت أن تهوي به فلا تهوي مرةً واحدةً فيتكسر، بل تهوي بالتدريج حتى تنزله كما تفعل الطائرة في مدرجات المطار: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] قال أهل العلم: بانبساطٍ متدرج حتى يصل، قال: فلما التفت الفلاح قال: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، ولم يكن يعلم أن قوله: (سبحان الله) أعظم من ملك آل داود، فسمعها سليمان عليه السلام؛ لأنها اخترقت الحجب لتصعد إلى رب العالمين: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10].
قال للبساط: اهبط هنا فهبطت الريح، قال للفلاح: ماذا قلت؟! قال: رأيتك فقلت: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، قال: والذي نفسي بيده، لقولك: (سبحان الله) خيرٌ مما أوتي آل داود.
هذه الكلمة وحدها خيرٌ من ملك الدنيا وما عليها، ويقول سبحانه: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] تعبيرٌ عجيب! وهنا أضواء دنيوية لكنها تضمحل أمام نور الله.
فأنت شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
إذا أتى نور الله بطل كل نور: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].
ولا يهدي الله لنوره إلا من يشاء، ومن يحب، وفي حديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب} فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، ومن هداه الله فقد أحبه، أما الدنيا فأمرها سهل، يعطيها الله الكافر الوثني في أفريقيا، والملحد الأحمر في روسيا والنصراني الأشقر في أمريكا، والصيني الأصفر في بكين، فكلهم سواء، أما الهداية فلا يعطيها الله إلا لصنفٍ من الناس: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13].(119/10)
الدعوة عامة والهداية خاصة
كان هذا القرآن دعوة لكل من في الأرض، ولكن المهتدين قليل، يقول سبحانه: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25] فالدعوة عامة لكل مخلوق، لكن الهداية خاصة، قال تعالى: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25] صراطاً مستقيماً غير ذي عوج، فلا يهدي الله عز وجل إلا من شاء سُبحَانَهُ وَتَعَالى ومن أحب، وما كل من دعي سوف يهتدي، لكننا نقيم الحجة على الناس، ونسمعهم كلام رب الناس، ونخبرهم بسنة سيد الناس عليه الصلاة والسلام كما أمر الله بنيه فقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس:108] {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].(119/11)
الهداية قسمان
والهداية نوعان:
هداية توفيق لا يملكها إلا الله، وهداية دلالة للرسول عليه الصلاة والسلام، ودليل الأول قوله سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13] لو شاء الله، لهدى المعمورة، ولو شاء الله لأدخل الناس الإسلام، ولو شاء الله ما بقي كافرٌ على وجه الأرض، ويقول سبحانه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].
حرص محمد عليه الصلاة والسلام على قرابته، وعلى أعمامه وعلى أبناء عمومته، زارهم في البيوت حاول بكى سالت الدموع على خده ليهتدوا حتى ينجوا من النار لكنهم رفضوا!!
بينما جاء سلمان من أرض فارس وبلال من الحبشة وصهيب من أرض الروم، أتوا كلهم يقولون: لبيك اللهم لبيك!! وأبو طالب عند الركن لا يهتدي وأبو جهل عند المسعى والحطيم وزمزم لا يعرف الله!!: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] أنت لا تملك الهداية: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59] عنده مفاتيح القلوب، وهو يفتح على من يشاء، متى شاء.
بعض الصالحين عنده ابن مثل الشيطان، وبعض الفجرة عنده ابن كأنه حمزة، أو سعد بن معاذ، أو طلحة، أو الزبير قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
هذه هداية التوفيق لا يملكها إلا الله، أما هداية الإرشاد، وهداية الدلالة، فهي للرسول عليه الصلاة والسلام:
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراكَ حاديا
وإني لأستغشي وما بي غشوة لعل خيالاً منك يلقى خياليا
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
أجتمع بالناس لكنني لا أجد لكلام الناس طعماً مثل طعم كلامك، عند البخاري ومسلم، وأجلس مع الزعماء، لكنني لا أجد زعيماً مثلك، وأسمع كلام العلماء، لكنني لا أسمع كلاماً ككلامك.
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
يقول الله عن هدايته صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] إنك لتهدي إلى صراط مستقيم ليس كمثله صراط!! لا صراط الشيوعية، ولا صراط العلمانية، ولا صراط اليهودية، ولا صراط النصرانية، ولا الماسونية وصراطه صلى الله عليه وسلم أشد ضياءً من الضحى.(119/12)
انفراد الله تعالى بالهداية
واختص سبحانه وتعالى بالهداية، لا يملك أحد أن يهدي أحداً، وهذا أمر معلوم؛ فبعض الناس لو استمع ألف محاضرة ما اهتدى، وبعض الناس يسمع القرآن من أوله إلى آخره، ولا يغير في حياته مثقال ذرة، وبعض الناس لو انتطحت الجبال بين عينيه فلن يهتدي، بل دفن بعضهم أبناءه بيده في القبر، وسمع ذكراً للموت، وآتاه الله من الوعظ ما الله به عليم، ومع ذلك يترك الصلاة!!
يقول سبحانه: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس:35] أسلوب عجيب، إنني أقف عاجزاً أمام هذه الآيات، فقد فسدت لغتنا فلا نتذوق القرآن.
قبل ليالٍ اهتز الحرم كما سمعتم بسورة يوسف والإمام يقرؤها، ووالله إن القلب يشهد أنه لا يستطيع أحد من الناس أن يأتي بمثل هذا القرآن، يكفي الملاحدة أن يسمعوا هذا القرآن ثم يحكموا بعقولهم، هل يستطيع أحد من البلغاء أن يقول مثل هذا القرآن؟! فإمام الحرم لم يتمالك شعوره فانفجر في الحرم باكياً، عند قول يوسف لإخوته: {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92].
يقول تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس:35] أتهديكم هذه الأصنام والزعماء والآلات والجهات التي تنتسبون إليها ولا تنتسبون إلى الله أتهديكم هي؟! هي تحتاج إلى من يهديها، فكيف أنتم تستهدون بها؟! أعمى ويقودك!! أعمى يقود عمياناً!! أصم يدل الناس بالسماع على السماع وهو لا يسمع!! مالكم؟! مالكم كيف تحكمون؟!! أفمن يهدي إلى الحق وهو الله سبحانه أحق أن يتبع وكذلك محمد عليه الصلاة والسلام.
{أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} [يونس:35].
بحاجة إلى أن يهدى وما هدي أصلاً، ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الإسراء:97] الحقيقة أن من هداه الله فهو المهتدي، أما غيرُ من لم يهده الله فلو لبس كل اللباسات وادعى الدعاوي ورفع اللافتات فليس بمهتد لا توجد دعوى في الدنيا إلا أثبتت الدعايات أنها ممحوقة، فهذا لينين أتى وقال: من أجل الكادحين -والكادحون هم العمال- وأتى إستالين بذلك، وأتوا بالانفتاح، وقالوا: "نحن أتينا لنصرة حقوق البشر، وأتينا لرفع الإنسان، وأتينا لإصلاح حال الشعب، ولإغناء الفقراء، ولضم الشتات، والديمقراطية، وغيرها من هذه العبارات، والله يثبت أنهم ضلال وأنهم ولو ما ادعوا في الظاهر فإنهم ليسوا مهتدين، من يهد الله فهو المهتدي، أما غيره فليس بمهتد، ويقول سبحانه: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} [آل عمران:73] إذا فاخروك فقل: إن الهدى هدى الله.(119/13)
الهداية لصاحبها
يظن العبد إذا اهتدى أنه زاد من الإحسان لله، وفي الحديث الصحيح عند مسلم: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئاً} والله الذي لا إله إلا هو، لو كان سكان الأرض كلهم على إيمان أبي بكر ما زاد في ملك الله ذرة، وما نفع الله ذلك، والله الذي لا إله إلا هو لو كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص عند ذلك من ملك الله شيئاً، قال سبحانه: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [الإسراء:15] أنت تنفع نفسك وتنقذها حين تؤدي ما افترض الله عليك، يقول ابن القيم: لله الفضل والمنة، يعطيك الإيمان، ويعطيك الحياة، ثم يتوب عليك، فتكون المنة لله ليست لك.
أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام أعراب من بني أسد، قالوا: يا محمد! اشكرنا، قال: على ماذا؟ قالوا: أسلم العرب كلهم بالسيف وأما نحن فأسلمنا بلا قتال، فسكت عليه الصلاة والسلام، وما أحب أن يجرح مشاعرهم، مع أنهم دخلوا واهتدوا على يده صلى الله عليه وسلم ثم يقول قائلهم: احمد الله احمد ربك أنني اهتديت على يديك!!، فهذا غير صحيح، ومثلهم كمثل إنسان تهديه تمراً أو رطباً، فيقول: احمد الله أني أخذت هديتك، احمد الله أني قبلت مالك.
فسكت عليه الصلاة والسلام، فأنزل الله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].
المنة لله.
الفضل لله والعطاء لله أتمن على الله وهو قد هداك؟! قال تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الإسراء:15].(119/14)
الهداية والمخاوف
هل الهداية سبب للمخاوف؟ هل يمكن أن تكون هدايتك سبيلاً للخوف، وسبباً لأن تعلق به التهم وأن تكون متزمتاً في نظر الناس كان وهو فاجر وفاسق عبداً للأغنية، وعبداً للسيجارة والبلوت، وكان في أمنٍ، وكان حسن الخلق، فلما استقام وقصر ثوبه واهتدى وسجد لله وأعفى لحيته وأحب الله ورسوله أصبح متزمتاً ومتطرفاً في نظركم، فما لكم كيف تحكمون؟!! إن هذا القول يشبه ما قاله أبو جهل وأمثاله: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57] لا إله إلا الله حجة واهية يضحك الإنسان منها، يقول أبو جهل وأبو لهب: نحن لو اتبعناك تخطفنا من أرضنا وأهلكتنا العرب، وأصبحنا حرباً للناس، فاسمع الرد العجيب: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:57].
نحن أمناهم في الجاهلية فكيف في الإسلام؟! نحن طردنا عنهم أبرهة الأشرم وسلطنا عليه طيراً أبابيل في وادي محسر مع فيله وجيشه، وعاد خاسئاًَ حقيراً!! نحن حاربنا جيوش العالم من أجل الحرم، فلما أتيت أنت بلا إله إلا الله، قالوا: نخاف إذا اتبعناك أن نتخطف، ما تخطفوا في الجاهلية، فكيف في الإسلام؟! {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57].
وما حول الحرم جبال سود لا حدائق ولا بساتين ولا مزارع ولا أنهار ولا أشجار ولا أزهار ولا ورود، حتى إبراهيم عليه السلام لما ترك زوجته وولده، التفت وإذا الصخور وهي سوداء مثل الليل، والحرارة متوهجة، لا ماء ولا شجر، ولا مدر فالتفت فرفع يديه، وقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37].
الآن ألوف مؤلفة في الحرم ما اشتكى أحدٌ منهم أنه ما وجد رطباً في السوق، أو تفاحاً أو برتقالاً أو موزاً، الأرزاق تأتي من كل أنحاء الأرض، تأتي من المشرق والمغرب ومن أوروبا وأمريكا ومن كل بلاد العالم طازجةً وجاهزةً ومثلجة وحارةً وباردة؛ لأن إبراهيم دعا!! يا خسارة على هذه العقول! ويا خسارة على هذا الأبصار!! {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} [القصص:57].(119/15)
الهداية بالوحي
إن الهداية ليست بالذكاء، وليست بأساليب أخرى، إنما الهداية بالوحي، قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] يهدون بكتابنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، فيا من رشح نفسه ليكون داعية؟! ويا من فكر أن يدعو نفسه إلى الله أو بيته، وسيلتك الوحي: القرآن والسنة.
لقد جرب كثير من مؤثرات الدعوة كالإعلام والدعاية والتشهير والصياح والقصص الموضوعة، لكنها كلها تنتهي، يمكن أن يبكي الناس وهم جلوس لكنهم يخرجون من المسجد فينسوها، وما وجد أشد تأثيراً من القرآن والسنة الصحيحة الثابتة: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].
فالهداية تكون بالوحي: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4].
قد شربنا من كئوس الوحي حقاً واهتدينا ورسول الله قاد الركب تحدوه خطاه
والذي لا يشرب من ماء الوحي سوف يبقى ظمآناً إلى أن يرد النار، ولن يجد ما يرويه ولا يشرب من الكوثر ولا من الحوض المورود، لأنه لم يشرب شربة من الوحي، فلن يشرب شربةً من حوضه صلى الله عليه وسلم لا يظمأ بعدها أبداً.(119/16)
الهداية هي السعادة
السعادة الحقيقية: هي الهداية، انظر إلى أحوال الناس، كثير من الناس عنده قصورٌ كثيرة، وعنده من المال ما يمكن أن يطعم به ألوفاً مؤلفة من الناس ويعيشهم ويسكنهم، لكنه في اضطراب معقود الجبين، على جبينه مكتوبٌ عليه لا سعادة، يوشك أن يأخذ السكين وينحر نفسه، نقول له: مالك؟! عندك المال والمنصب وكل شيء؟! قال: ما رأيت السعادة، الله يجيب على هذا التساؤل فيقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:123 - 126] أتاك رسول الله عليه الصلاة والسلام وآتاك القرآن، والإيمان، وأتتك الرسالة، وأتتك لا إله إلا الله، فأعرضت عنها، لم يكن لها قدرٌ عندك في حياتك ولا ميزان، ولا أصالة، ولا اهتمام، ووالله إنا نعلم أن من الناس اليوم من يعيش ويجعل الدين في آخر اهتماماته، حتى وقت الصلاة، وتأدية الصلاة، والقيام إلى الصلاة، في آخر جدوله اليومي ثم يصلي صلاةً باردةً ميتةً سقيمةً مريضة، ويقول: أين السعادة؟؟!!
نحن جربنا دينكم ما وجدنا السعادة، نقول: لو حملت الدين ذقت الدين، كما ذاقه الصالحون، عرفت طعم السعادة، وما شقيت بعدها أبداً، بإذن الله.(119/17)
الهداية المطلقة
الله له هداية مطلقة، وهدايةٌ خاصة؛ الهداية المطلقة: يدخل فيها العجماوات والحيوانات والبهائم، يقول سبحانه: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الإنسان:3] وهذه لكل مخلوق: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الإنسان:1 - 3].
وفرعون يقول لموسى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49] اسمع إلى الجواب الصارم، يقول الزمخشري صاحب الكشاف: "لله دره من جواب أسكته!! أسكت الخبيث الغبي، إسكاتاً ما بعده اسكات: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49] لو قال موسى: ربنا الله، لقال فرعون: أنا الله، ولو قال: ربنا المالك، قال: أنا المالك، لكن الجواب كان مفحماً: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، كل شيء أعطاه خلقه ثم هداه هدايةً مطلقة إلى أسباب المعايش.
النملة هداها الله من هدى النملة؟! من علم النملة أن تأتي في الصيف فتكتنز للشتاء، عند النملة مخازن ومستودعات، قسم المستودعات لا يصرف منه إلا في الشتاء؛ ومن شك منكم فليبحث في جحر نملة، وهذا مثبت بالعلم التجريبي، وهناك قسم للاستهلاك المحلي اليومي، وقسم العاملات، وقسم الملكة لها مكتبٌ خاص، تجتمع في دورات سنوية بالعاملات والشغالات، هل هذا من هدي النملة من نفسها؟ لا والله، هل عند النملة دماغ تفكر في هذا المستوى؟! إن الله هو الذي هداها وإلا فهي ما تملك شيئاً.
اسمحوا لي غفر الله لكم أن أورد قصةً أوردها ابن القيم في مفتاح دار السعادة يقول: ذكر أحد الصالحين أن نملةً من النمل خرجت من جحرها، والنمل يسلك طريقاً عابراً ويتخذه ويفتحه ويعبده ويزفلته، ثم لا يأخذ طريقاً آخر، وأنت انظر إليه، والنمل إذا كان هناك ماء قليل، بمستوى النملة صنع النمل جسراً من أفراده ثم يمشي بقية النمل عليه، واسألوا الواقع وانظروا.
قال ابن القيم: فخرجت نملة تبحث عن رزقها من الشغالات، لأن هناك ملكة لا تخرج أبداً، وهناك عاملات تبني بيوتاً وتخزن وترصد الحبوب والقمح، وهناك شغالات تحمل الطعام، فخرجت الشغالة فوجدت رجل جرادة؛ رجل الجرادة أكبر من النملة، فحاولت أن تسحبها يميناً أو يساراً فما استطاعت، فذهبت إلى النمل فأخبرتهم؛ وبينهم لغة خاصة؛ ولغة الحيوان مثبتة.
وهذا الروسي سخروف الذي توفي قبل شهرين اكتشف في مذكرات له أن للنبات لغات خاصة، وكاد أن يسلم هو، لكنها حكمة الله عز وجل.
يقول: للنباتات نبراتٌ خاصة من الصوتيات، والورد بينه صوتٌ خاص، والنخل صوتٌ خاص -قدرة الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالى- فالحيوان بقدرة الله عز وجل له لغة خاصة: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل:16] خرجت هذه النملة فاصطدمت برجل الجرادة فما استطاعت أن تحملها فأتت إلى شغالات أخرى، فأتت الشغالات معها فأتى الرجل الصالح فرفع رجل الجرادة، فأتوا فما وجدوا في المكان شيئاً، فلما رجع النمل أنزل الرجل الصالح رجل الجرادة، فأتت تسحبها فرجعت إلى الشغالات فأخبرتهم فأتى النمل فرفع الرجل رجل الجرادة فلم يجد النمل شيئاً فرجعوا ثالث مرة، فرفع الرجل، فقال النمل: قد كذبت، قال: فطوقوها ثم مزقوها قطعةً قطعة.
عودوا إلى مفتاح دار السعادة، واسألوا ابن القيم في ذلك، واسألوا أهل الكتب العلمية مثل: الطب محراب الإيمان، أو كتب الأمريكان، الله يتجلى في عصر العلم واسألوا كتاب الإنسان لا يقوم وحده لـ كريسي موريسون وكتاب الإنسان ذلك المجهول لـ ألكسيس كارل فهذه حقائق شهد بها الكافر وهو كافر، فكيف بالمؤمن؟!
قال سبحانه: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] يمتن على الإنسان بالهداية وهذه هداية مطلقة، يقول: بينا له طريق الخير من الشر، التمر والجمر، دللناه على طريق الجنة وطريق النار، وقال سبحانه: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] وقال سبحانه: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الإنسان:3] وقال سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] علمناه الطريق وأتينا بمحمد عليه الصلاة والسلام، وأنزلنا القرآن، وقلنا: هذه القبلة، وهذا الماء وهذا المسجد فتوضأ وصلِّ، وطريق الشر كذلك، وهذه الخمارة والبارة والعود والوتر والغناء والمجلة الخليعة وافعل ما شئت، أنت أبصر بنفسك، والطريق غداً:
ستعلمُ في القيامة إن عُرضنا غداً عند الإله من الملوم
أما والله إن الظلم شؤمٌ وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
{: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].(119/18)
من معالم الهداية
من معالم الهداية: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:19] يقول موسى: لا تتكبر علينا يا فرعون لأني راعي غنم وأنت سلطان جبار، أنا أهديك، اسلك معي، امض معي.
قال: أنت لا، تكبر وطغى وكفر، قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]؟ فأجراه الله من فوق رأسه، دسه مع الضفدع في الطين حسب يناغي ويفاغر والطين مخدوشٌ في عنقه وهو يقول: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] فكان
الجواب
الآن يا خسيس، آمن بالله؟! فيقول: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:19].
ومن معالم الهداية: قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ} [السجدة:13] لله الحكمة، وقال سبحانه في الكفار: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:23] والخطاب إما للملائكة يقول: خذوهم إلى الجحيم، دلوهم الباب، افتحوا لهم أبواب جهنم، أو الخطاب إلى خزان النار، اهدوهم إلى صراط الجحيم، أما المؤمنون فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام قوله: {إن المؤمن أهدى ببيته في الجنة منه في الدنيا} لا إله إلا الله، أدنى أهل الخيم منزلة له عشرة أمثال الدنيا:
أقلهم ملكاً من الدنيا ملك وعشرة أمثالها من دون شك
لكنما موضع سوطٍ فيها خيرٌ من الدنيا وما عليها
لكن من يهدي هذه الأمة إذا دخلت الجنة! {أبواب الجنة ثمانية: بين المصراع، والمصراع كما بين أيلة (القدس) إلى صنعاء، وليأتين عليه يومٌ وهو كظيظ من الزحام} فمن يهدي هؤلاء؟ قال: يمشي المؤمن في الجنة حتى يصل إلى منازله، من هدى المؤمن؟ الله سبحانه، أما الكافر فإنه يكب في النار كباً قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:23] نعوذ بالله من الجحيم، أسأل الله لا يرينا وإياكم النار:
إن الملوك إذا شابت عبيدهمُ في رقهم أعتقوهم عتق أبرارِ
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النارِ
ويقول سبحانه: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] وهذه هداية يشترك فيها الناس، بهذه النجوم يهتدي بها الكافر والمسلم، ولكن نجم النجوم محمد عليه الصلاة والسلام، والذي لا يهتدي به سوف يضل ضلالاً بعيداً، وقال سبحانه عن فرعون -ففرعون واعظ، لكنه يدرس العقيدة الباطلة- يقول: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29].
كذب عدو الله، فإن سبيل رشاده النار!!: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] وبعض الناس اليوم فيه نسبة من فرعون، تجد الذي يقود الشباب إلى الضلال، يقول: ما أدلك إلا على الخير، وأنا أريد لك ما أريد لنفسي، هؤلاء الدعاة لا تصاحبهم، هؤلاء المطاوعة احذر منهم، أنا لا أريد لك إلا ما أريد لنفسي، نقول له: شيخك وأستاذك فرعون يقول: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] أتى بقومه وأدخلهم النار، وقال: هذا سبيل الرشاد.
ومن معالم الهداية، قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:79] يخبر الله عنه قال: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:79].
ومن معالمها: لما دخل موسى على فرعون، إن ترك السلام صعب، تدخل إلى نصراني تريد أن تدعوه إذا لم تقل صباح الخير أو Good morning sir، وجئت تقول: أسلم يا عدو الله! أدعوك إلى طاعة الله، فذلك غير لائق.
لكن الله أعطى موسى أدب الدعوة هو وهارون فقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] فلما دخل القصر، قال: إن سلمت على هذا المجرم كيف أسلم عليه؟!! وإن تركت السلام فذلك أمر عسير، فقال: والسلام على من اتبع الهدى، ففهمها ذلك فظن أنه هو ممن اتبع الهدى فجلس، قال: وكنياه في المجلس، قال: يا أبا مرة! أأدعوك؟! والقول اللين عند المفسرين أنه قال: إذا أسلمت أبقى الله لك ملكك وشبابك وصحتك، فأسلم تسلم، هذا القول اللين، هذه من معالم الهداية، ثم التدرج في الهداية، فالهداية لا تبدأ من أول يوم، فبعض الشباب يهتدي لشهر، ثم يقول: أنا قلبي قاسٍ، تقولون: الإيمان فيه هداية، وأنا ما زلت في وساوس، فنقول له: اصبر اصبر.
يقول ابن تيمية: "ليست العبرة بنقص البدايات، لكن العبرة بكمال النهايات" اصبر قليلاً، تزود من القرآن، اذكر الله، وادع الله، واحضر مع المسلمين، واحضر المحاضرات والدروس، وسوف تهتدي إن شاء الله، قال سبحانه في التدرج: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122] اجتباه أولاً، وتاب عليه وهدى، تأتي الهداية تدريجياً مع الأيام، فالإسلام مثل النبتة تغرسها فلا تخرج غداً، هل رأيت رجلاً غرس نخلة وأتى يقطفها في النهار الثاني؟! لا، الإسلام يأتي مثل النخلة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24].
إن شجرة الإسلام تسقى بالتراويح وبالنوافل وبالتسبيح وبالقرآن وبالذكر وبالعبادة، فتنبت، وقد تأتيها أعاصير فتميل قليلاً، يأتيك ذنب فتستغفر وتتوب، ويأتيك فتور فتستغفر وتتوب، وتتفلت مع زملائك فتستغفر وتتوب، يأتيها ريح وشمس، لكن أصلها ثابت!! ثم تصل إلى حال أن الأعاصير لا تستطيع لها، بعض الشجر عمره ألف سنة، ومهما نخر النمل ساقها فإنها تظل ثابتة، لكن لو مرت عليها بعوضة وهي في بداية نموها والنخلة مثل الإسلام، والإسلام مثل النخلة، هبطت بعوضة على نخلة، فأرادت أن تطير، فقالت البعوضة للنخلة: تمسكي أريد أن أطير، قالت النخلة: والله ما أحسست بك حين وقعت عليَّ، فكيف أحس بك حين تطيرين.
ثابتاً على الحق لا يتزلزل أبداً فيصبح الشاب المؤمن المهتدي، ولذلك تجد بعض الناس لو سمع ألف أغنية فإن إيمانه مثل الجبال، ولو سمع ألف فتنة، ولو غمسته في موسكو أو في بكين فلا يتزلزل إيمانه، ولو قطع قطعة قطعة، وبعض الناس مزلزل وهو في أول الطريق!!
وقال سبحانه في التدرج: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] فتأتي الهداية تاجاً، والله يدعو المؤمنين إلى أن يطلبوا الهداية، ونسأل الله أن يثبتهم على الهداية: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] ربنا إن كثيراً من الناس ما صاموا وقد صمنا، وما سجدوا وقد سجدنا، وما قاموا وقد قمنا، نسألك الثبات على الإيمان، والثبات على الإسلام، والثبات على الرسالة الخالدة، حتى نلقاك وأنتَ راضٍ عنا.
وذكر الله المتحسرين على الهداية فقال: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57] لكن هيهات، الآن تتحسر يوم العرض الأكبر؟! ويقول سبحانه عن موسى والبحر أمامه وفرعون خلفه، والموت أمام عينيه، وأصبح كما قال المتنبي لـ سيف الدولة:
وقفت فما في الموت شكٌ لواقفٍ كأنك في جفن الردى وهو نائمُ
تمرُ بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاحٌ وثغرك باسمُ
قال بنو إسرائيل: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] يقولون: إن الموت أدركنا فرعون عنده ستمائة ألف مسلح وراءهم، والبحر أمامهم، فيقول موسى عليه السلام والعصا بيده: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] يقول: أنا معي ربي جربتُ شرعته هداني في مناسبات، وأنقذني حتى في قصر فرعون وغلبت فرعون، وعند فرعون ستة وثلاثون ألف حارس بالسيوف وأنا وحدي ونصرني!! ونصرني في الميدان! ونصرني يوم ألقيت العصا! ونصرني يوم كَادَني ذاك!! أما الآن فمعي ربي: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] فأوحى الله إليه الضرب بالعصا، يقول ابن جرير الطبري في التاريخ: اضرب بعصاك البحر، فكان موسى متأخراً قليلاً، فقال لهارون عليه السلام: اضرب أنت، ظن موسى أن الأمر فيه سعة، هو أو هارون سواء، فضرب هارون فما تغير البحر، بل قال ابن جرير إن البحر يقول: من هذا الجبار الذي يضربني، فقال الله عز وجل لموسى: اضرب أنت!!
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزالِ
فأخذ العصا وقال: بسم الله، فضرب فانفلق!! هذا من الهداية.(119/19)
شرح الصدر علامة للهداية
{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125] ظلمة وضيق وفجور وبعد عن الله، وتمزق وتشتت وأسى ولوعة، عنده الأدوية والعقاقير ولكنه لم يستخدمها، ساكنٌ في مكانٍ مريح، وعنده نعم ومال لكنه لم يعرف الهداية، ولم يذقها، وقد قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125].(119/20)
الهداية في السنة
أختتم بها هذه المحاضرة التي أهديها بمناسبة هذا الشهر الكريم إلى من أعرض ونقول له: تب، وإلى من تاب نقول: استمر، وإلى من استمر نقول: واصل، وإلى من واصل نقول: اجعلها خاتمتك.
يقول عليه الصلاة والسلام يوصي علياً: {قل اللهم اهدني وسددني} والحديث عند مسلم، وكان يقول عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن مسعود عند مسلم: {اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى} كلمات مباركات، اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: {واهدني إلى أحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت}.
وأختم بذاك الدعاء المشهور الذي أطلبُ منكم ومن نفسي أن نحفظه وأن نكرره في هذه الليالي المباركات، وهو في صحيح مسلم عن عائشة كما مر: {اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل! فاطر السماوات والأرض! عالم الغيب والشهادة! أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم} هذه هي الهداية.
وهذه هي رسالة محمد عليه الصلاة والسلام هي معالم الخلود وهذه هي النجاة
اللهم تقبل منا واصرف عنا كل سوء، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(119/21)
الخطوط الحمراء
في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات) الحديث.
وفي هذا الحديث ذكر لمحظورات كثيرة منتشرة بين الناس، تعمل على تمزيق المجتمع كما أنها حالقة لدين المرء، وفي هذا الدرس شرح لهذا الحديث وذكر ما يستنبط منه من فوائد.(120/1)
قضايا في حديث: (إن الله حرم عليكم)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الأحباب البررة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عنوان هذا الدرس (الخطوط الحمراء).
وقبل أن أبدأ أحمد الله عز وجل أن شرفني بالجلوس أمامكم، وعلى أن شرفكم بحضور مجالس الرحمة والتوبة والإنابة والقرب من الله، هذه الليلة مساء السبت (21) من شهر ذي القعدة لعام (1412هـ).
هذه الخطوط الحمراء وضعها رسولنا عليه الصلاة والسلام، وليس للعبد أن يتجاوزها، فإنه هو المعصوم عليه الصلاة والسلام الذي يحلل ويحرم بإذن الله، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36].
إذا علم هذا فالخطوط الحمراء في كلامه عليه الصلاة والسلام فيما ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال}.
من يستطيع من البشر أن ينسج مثل هذه الكلمات؟ من يعبر بمثل هذا التعبير؟ من الذي يستطيع بعقله وبتفكيره وبقلمه وبمواهبه أن ينظم كلاماً في سطرين يكون قاعدة كبرى للأمة، فيحلل ويحرم، ثم يكون في أجمل أسلوب وفي أجل عبارة.
إنه رسولنا عليه الصلاة والسلام.
وفي هذا الحديث قضايا:
أولاً: من هو راوي الحديث؟
هذا الحديث رواه البخاري ومسلم ولكن راويه من الصحابة المغيرة بن شعبة، وهو ثقفي من الطائف أسلم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحب الرسول عليه الصلاة والسلام، وعلمه صلى الله عليه وسلم من أحاديثه وسننه الشيء الكثير، تميز من بين الصحابة بالذكاء الرهيب إلى درجة الدهاء والعبقرية، فهو مع معاوية بن أبي سفيان وزياد بن أبيه وعمرو بن العاص فهم دهاة العرب الأربعة.
هذا هو المغيرة بن شعبة.
تولى العراق في عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه، وله الحديث الطيب العطر عن الرسول عليه الصلاة والسلام.
ويكفيه أنه روى هذا الحديث: {إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال} وقائل هذا اللفظ كان أمياً عليه الصلاة والسلام، ولكن الله علمه؛ قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء:113].
القضية الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: {إن الله حرم عليكم} والمحرم حقيقة والمحلل هو الله، ولا يحق للإنسان أن يحرم أو يحلل من عند نفسه، قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116] فليس للإنسان أن يبتدع من عنده تحريم محلل أو تحليل محرم على الأمة، فإن الله سوف يحاسبه ويعاقبه.
ولذلك أحذر نفسي وإخواني ممن يتكلم أو يوجه أو يربي الناس أن يقحم نفسه في تحريم حلال أو تحليل حرام؛ فإن هذا ليس لأحد إلا لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ثم لرسوله عليه الصلاة والسلام.(120/2)
نبذة حول الحرمة والكراهة في الشرع
أما الفرق بين التحريم والكراهة:
فالحرام في الاصطلاح: ما يثاب تاركه ويعاقب فاعله.
وأما المكروه: فهو ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، هكذا عُرِّف.
والرسول عليه الصلاة والسلام ملك زمام البلاغة بيده، فانظر كيف نوع عليه الصلاة والسلام! فإنه قال: {إن الله حرم} ثم قال: {وكره لكم} فلو قال صلى الله عليه وسلم: إن الله حرم، ثم قال: إن الله حرَّم، كان في الأسلوب تكرار ينبو عنه السمع، ولذلك تجده صلى الله عليه وسلم يقول مثلاً: {إن الله كتب عليكم خمس صلوات، وفرض عليكم زكاة} فلم يقل: كتب صلاة وكتب زكاة، فهذا مكرر تمجه الأسماع، فعدل عليه الصلاة والسلام عن التحريم في الثانيه فقال: {وكره لكم}
أمر آخر: إن المكروهات الثلاث في قوله: {وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال} أقل خطورة من الثلاث الأولى التي ذكرها رسولنا عليه الصلاة والسلام.
ثم قال: {عليكم} والمخاطب به الأمة الإسلامية، أمة الاستجابة التي اتبعته عليه الصلاة والسلام، فإن المسلمين هم المخاطبون بفروع الشريعة، والكافر لا يخاطب بفروع الشريعة في قول لأهل العلم، ولو أنه ينكل ويعذب على تركه فروع الشريعة، ولكن المقصود بـ: {عليكم} أي: على الأمة، والمقصود بهم الذين حضروا هذا الخطاب منه عليه الصلاة والسلام والذين لم يحضروا بحيث كانوا أحياءً وكانوا غيباً عن مجلسه، أو كانوا في أصلاب أمهاتهم، كمثلي ومثلك الآن، فإنا أتينا بعد أربعة عشر قرناً نتبعه ونحبه ونقتدي به عليه الصلاة والسلام، فهو يخبرنا بالخبر، وما زالت ألفاظه وأوامره ونواهيه فينا حية.
ثم قوله: {إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات} لم يقل الآباء والأمهات لأمرين:
الأمر الأول: عظم حق الأمهات، فإن حقهن عظيم، ولذلك قال بعض العلماء استنباطاً كالحافظ وغيره: للأم ثلاثة حقوق، وللأب حق واحد من الآداب والوقار والعطاء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح لما سأله الرجل: {من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أبوك} فجعل لها ثلاثة حقوق وجعل للأب حقاً واحداً، فهي بالنسبة للأب ثلاثة أرباع الحقوق، فأتى صلى الله عليه وسلم بحق الأمهات؛ لأنهن أعظم حقاً وأعظم منزلة.
الأمر الثاني: اتساق العبارة في السجع الجميل غير المتكلف، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يقف على التاء، فقال: {عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات} فوقف على التاء، ولو أتى بالآباء -عليه الصلاة والسلام- ما وقف على سجعة، وهذا محله علم البلاغة.(120/3)
تعريف العقوق والأدلة على تحريمه
قال: {عقوق الأمهات} أما العقوق -أعاذنا الله وإياكم- فإنه القطع يقال: عق الشجرة أي: قطعها، وعق الحبل أي: قطعه، فالعقوق القطع، قال سبحانه: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة:27] وقال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].
وقد ورد تحريم العقوق والأمر بالصلة في آيات كثيرة كقول المولى جلت قدرته: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23] وكقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:83] وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} [الأحقاف:15].
وحرَّم عليه الصلاة والسلام العقوق في أحاديث كثيرة، ولكن لا يتسع المجال لذكرها؛ لأن المقام مقام تحذير من العقوق، وليس المقام مقام ذكر للبر والصلة، ولو أني سوف أستطرد قليلاً في بعض ما نقل عن السلف في بر الوالدين، وفي تحريم عقوق الوالدين، وقد نبه صلى الله عليه وسلم على عظم حق الأب كثيراً حتى قال كما في الصحيح: {لا يدخل الجنة قاطع} والمعنى: قاطع الرحم، وأولى من يوصل الأب والأم، فهما الوالدان، وهما باب الجنة، وكما يروى: {الجنة تحت أقدام الأمهات}.(120/4)
من أشعار العرب في حب الأمهات
وبالمناسبة فقد توفيت جدة المتنبي، وكانت من أسرة طيبة المنبت، فامتدحها وأثنى عليها ورثاها، وهو شاعر العربية الذي لا يشق غباره، وإن شاء الله سيكون هناك درس بعد فترة بعنوان: (مالئ الدنيا وشاغل الناس)؛ نعيش فيه ليلة مع المتنبي.
قبل وقاة جدته أرسل لها رسالة في منبج يدعوها لزيارته في العراق، فوصلت الرسالة فقبلت رسالته وبكت، ثم أصابتها حمى فماتت، ولم تزره، فاسمع العربية والقوة والإبداع بمناسبة بر الوالدة، وهذه جدة، قال:
ألا لا أرى الأحداث مدحاً ولا ذما فما بطشها جهلاً ولا كفها حلما
إلى مثل ما كان الفتى مرجع الفتى يعود كما أبدي ويكري كما أرم
لك الله من مفجوعة بحبيبها قتيلة شوق غير ملحقها وصما
إلى أن يقول:
أحن إلى الكأس التي شربت بها وأهوى لمثواها التراب وما ضما
بكيت عليها خيفة في حياتها وذاق كلانا ثكل صاحبه قدما
ولو قتل الهجر المحبين كلهم مضى بلد باق أجدت له صرما
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا فلما دهتني لم تزدني بها علما
يقول: أنا أعرف الليالي أنها تفعل كذا، فلما دهتني بجدتي ما زادتني بها خبرة، هي فقط أثبتت أنها تأخذ الأحباب.
منافعها ما ضر في نفع غيرها تغذي وتروي أن تجوع وأن تظما
ثم قال في جدته:
أتاها كتابي بعد يأس وترحة فماتت سروراً بي فمت بها غما
حرام على قلبي السرور فإنني أعد الذي ماتت به بعدها سما
تعجب من لفظي وخطي كأنما ترى بحروف السطر أغربة عصما
يقول: تعجبت من سطوري يوم كتبت لها فماتت.
وتلثمه حتى أصار مداده محاجر عينيها وأنيابها سحما
رقا دمعها الجاري وجفت جفونها وفارق حبي قلبها بعدما أدما
ولم يسلها إلا المنايا وإنما أشد من السقم الذي أذهب السقما
طلبت لها حظاً ففاتت وفاتني وقد رضيت بي لو رضيت بها قسما
فأصبحت أستسقي الغمام لقبرها وقد كنت أستسقي الوغى والقنا الصما
ثم يقول:
ولو لم تكوني بنت أكرم والد لكان أباك الضخم كونك لي أما
وهذا من أبياته القوية مثل بيته الأول الذي يقول:
قفي واغرمي الأولى من اللحظ مهجتي بثانية والمتلف الشيء غارمه
ومعنى البيت أيها الأحبة: لو لم يكن أبوك ماجداً أنتج مثلك للناس لكان يكفي أنك جدة لي، فهو يفتخر بها، ثم يقول: الفخر أنك جدة لي، فالفخر لك ليس لي في أبيات طويلة أنا أتركها إلى أن يقول:
فلا عبرت بي ساعة لا تعزني ولا صحبتني مهجة تقبل الظلما
فهذه بعض الأبيات في رثاء الجدة.
وقد رثى بعض الأحبة -وهو شاعر منطيق قوي- أمه في أبيات، أذكر بعضها يقول:
ماذا أقول وفيما أشتكي زمني صبراً جميلاً على ما كان من زمن
أقول والعمر جاث حول مرقدها: أماه! والخوف يدنيني ويرسلني
فيما تعانين من هم ومن ولهٍ أحس تحت إهابي ما يمزقني
هل تذكرين عظامي اسمع الصورة:
هل تذكرين عظامي وهي عالقة على يديك وريقات على فنن
أو تذكرين جفوني وهي مبحرة تحت اللفائف بين الضعف واللدن
أو تذكريها وقد ذابت موسدة ضلعين من صدرك الثرثار باللبن
أم الوحيد أجيبيني قد اقتربت نفسي ولكنها في الغيب لم تحن
فأطرقت ثم أومت لي مؤشرة إلى جبيني ومالت كي تطمئنني
قالت محضتك مكنوني فكن رجلاً في العمق من جرحي كالخنجر اليمني
إلى آخر ما قال.
وأعود إلى شرح الحديث.
ممن بر والدته ابن سيرين عالم التابعين يقول: ما صعدت بيتاً منذ أن وجدت أمي خوفاً من أن أعلو أمي وهي تحتي، في المنزل! وكان إذا دنا معها في المائدة لا يرسل يده حتى ترسل يدها، يقول: أخاف أن آخذ لقمة تشتهيها فأكون عاقاً.
ووصل رجل من أهل اليمن يطوف بأمه وهي عجوز، ويحملها على منكبه في حرارة مكة، ويطوف بالبيت، وعرقه يتصبب، فرأى ابن عمر فقال: يا بن عمر أوفيتها حقها؟ أبررتها؟ قال ابن عمر: لا والله ولا بزفرة واحدة.
وتعلمون في الصحيحين قصة من انطبقت عليهم الصخرة: أولهم الرجل الذي فرجت له الصخرة بسبب أنه حلب نياقه ثم أتى إلى أبويه الشيخين، فوجدهما نائمين، فبقي واقفاً باللبن وأطفاله يتضاغون عند قدميه حتى طلع الفجر، وأطفاله يطلبون اللبن، فاستيقظ والداه فشربا اللبن، فلم يوقظهما لئلا يزعجهما، ففرجت له الصخرة بمقدار بره بوالديه.
وتعلمون أن الأم مقدمة في الحق على الأب؛ فإن لها الاحترام الكثير، والخضوع الكبير، ولها ثلاثة أرباع الرقة والعطف والحنان، فإنها مرت بأمور وبأزمات وبوقفات لا يعلمها إلا الله، والوالد لم يمر إلا بربع ما مرت به من هذه المشاكل، ومن التربية والحنان على الولد.(120/5)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: {ووأد البنات}
قوله عليه الصلاة والسلام: {ووأد البنات}:
الوأد هو: دفن البنت حية، وكان الجاهليون يفعلون ذلك هروباً من عار البنت؛ فإنهم يقولون: البنت إذا ربت كانت عاراً على أهلها، وهذا منطق سخيف حرمه الإسلام، وقد جعله الله عز وجل من أعظم الذنوب، فإن رزق البنت على الله، وربما كانت البنت مباركة أعظم من بركة الولد، وقد منح صلى الله عليه وسلم من البنات أكثر من الأولاد، فحرم الله ذلك، وقال سبحانه: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] قرأ أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلْتْ} [التكوير:8 - 9] هكذا قرأ أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه بسكون اللام وكسر التاء الثانية في كلمة: (قُتِلْتِ).
ويروى عن عمر والقصة ضعيفة ضعفها أهل السير، أنه كان يبكي في حياته حتى أخذ البكاء في خديه خطين أسودين، فقيل له في ذلك قال: أبكاني قصة ابنتي، وكانت في الجاهلية، ذهبت بها لأدفنها حية، فلما حفرت القبر وقع الغبار على لحيتي؛ فأخذت وهي صغيرة تنفض الغبار عن لحيتي قال: فدفنتها حية وهي تبكي.
وورد عن قيس بن عاصم المنقري أنه أخذ ابنته وقد ربت ونشأت وترعرعت، فقال لأمها: حلي فلانة، فحلتها وطيبتها وغسلتها، فأخذها بيدها، فلما ذهب بها إلى بئر مطوية في بادية من بوادي بني تميم، فأشرفت على البئر، فنكسها على رأسها فماتت.
وكان قيس عاقلاً لكن الجاهلية أذهبت عقل العاقل، وإلا فإنه الذي يقال له:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من ألبسته منك نعمةً إذا زار عن شحط بلادك سلما
وما كان قيس موته موت واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
وقال سبحانه: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام:151] وقال: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31] والمعنى من فقر؛ فإن الرزاق هو الله عز وجل، فليس الأب الذي يرزق أولاده، ولذلك فتحديد النسل نظرية خاطئة؛ لأنها خوف من الرزق، لا يوافقها الإسلام ولا الكتاب ولا السنة، لأن الله هو الذي يرزق؛ قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6] وما ولد مولود إلا وقد تكفل الله برزقه وبأجله، وبسعيد أو شقي، وبعض الناس يكون فقيراً وليس له ولد، فإذا ولد له أولاد وبنات رزقه الله رزقاً عظيماً، ولا تدري لعل رزقك هذا الذي يمنحك الله إياه بسبب بنت لك واحدة، فإن الرزاق حقيقة هو الله وليس العباد.
وأول من أحيا الموءودة في الجاهلية، ومنع أن توءد هو جَدُّ الفرزدق صعصعة بن ناجية، فإنه منع الموءودة أن توءد حتى يقول الفرزدق:
وجدي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم توءد
وكان جده فارهاً في العرب يقول: أحيا بإذن الله عز وجل في الجاهلية مائة فتاة ومنعهن من القتل، فكان يأتي الفتاة التي يريد أبوها ذبحها، فيأخذها ويربيها عنده حتى يزوجها: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32].
وهذه -والحمد لله- ليست موجودة في عالم الإسلام، وما يقدم عليها أحد إلا من أضل الله سعيه وما سمعنا بذلك، لكن منع النسل وحجزه وحظره وإلغاؤه هو الذي أفتى فيه أهل العلم، أما تحديده فإن في المسألة تفصيلاً، وقد تكلم فيه بعض كبار العلماء، وكتبوا فيها رسائل، فقالوا: إذا كانت المرأة مريضة، ولا تستطيع مواصلة الحمل ويضرها؛ فإن لها أن تؤجل سنوات حتى تشفى، أو كان هناك ظروف خاصة لا يعلم بها، فإن لهم أن يحددوا فترة من الزمن، أما قطع النسل فهذا هو الممنوع الذي لا يجوز.
وبعض الآباء يقول: أكتفي بطفلين أو بثلاثة، وهذا ليس في الإسلام؛ لك أن تحدد النسل، ولكن ليس لك أن تقطع النسل.(120/6)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (منعاً وهات)
قال عليه الصلاة والسلام: {ومنعاً وهات} أي: وحرَّم الله عز وجل المنع، وهو أن تمنع الحقوق التي عليك، والحقوق منها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، فالواجب كالزكاة والمستحب كالصدقة، وغيرها من الحقوق التي جعلها الله عز وجل في مال العبد، وفي خلقه، وفي شفاعتة، وفي جاهه ومنصبه ومسئوليته، فالمنع محرم، ويدخل في ذلك البخل، والبخل أذم خصلة وجدت في العبد، حتى قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ذاماً اليهود: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] قال ابن عباس كما في تفسير ابن كثير: بخيلة، وهم البخلاء عليهم لعنه الله.
حتى إن بعض السلف من أدبه مع الله كان إذا قرأ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64] كان يقرؤها باستحياء يخفض بها صوته؛ لأنها في جانب العزة والجلالة سُبحَانَهُ وَتَعَالى، بل الله سبحانه هو الغني الجواد، وكل عبد يجود فهو من جوده سُبحَانَهُ وَتَعَالى، خزائنه لا تنفد لو أنفق ليلاً ونهاراً: {يد الله سحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنها لم تغض مما في يمينه إلا كما يغيض المخيط إذا أدخل البحر} قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] وقال تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً} [الإسراء:100].(120/7)
ذم البخل
ولو سئل الناس التراب لأوشكوا إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا
التراب -وهو تراب- لو سألت الإنسان كل يوم مد تراب لمنعك، يقول: في هذا التراب سر ولعل فيه ذهباً، فالإنسان شحيح وأكرم الأكرمين هو الله، يطعم الفاجر ويسقيه ويعطيه، ويسكنه ناطحات السحاب وهو كافر.
وقرأت في ترجمة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أنه كان له عبدان رقيقان يرسلهما مع صلاة المغرب، ويقول: أوقدا ناراً عظيمة، وقد كان إبراهيم عليه السلام كريماً، وكان عند الضيافة يروغ، قال تعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] والضيوف قليل جاء بعجل فيقول لرقيقه: من أتى منكم بضيف فهو حر لوجه الله.
فتصور حرص هذا المولى على أن يجد ضيفاً، فوجد ضيفاً كافراً فأتى به، فأدخله على إبراهيم عليه السلام، وصحفة إبراهيم دائماًُ مليئة بالطعام المبارك وباللحم، وقربه إبراهيم وقال: قل بسم الله! قال الكافر: ما أعرف بسم الله!
وهذا سيد التوحيد، ورئيس قسم العقيدة، يقول الكافر: ما أعرف بسم الله قال إبراهيم عليه السلام: والله لا تأكل لقمة، كيف لا تعرف بسم الله الذي أقام السماوات والأرض: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [الفرقان:60] فأخذ عصاه وخرج، فأوحى الله إلى إبراهيم، عجباً لك يا خليل الرحمن! هذا الكافر أطعمته وأسقيته سبعين سنة وأنت ما أطعمته ليلة.
من الذي أطعمه في عمره؟ الله.
فسبحان الجواد الكريم!
قال الله تعالى في البخلاء: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [الحديد:24] بعض الناس بخيل من درجة ممتازة، البخل مركب فيه يرثه أباً عن جد بسند قوي، فهو بخيل، وأبوه بخيل، وجده بخيل، فتجد البخل يجري في دمه، فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [الحديد:24] وتجد بعض الناس يلقي محاضرات في البخل، ويوصي جيرانه وجماعته، يقول لأحدهم: عليك بحفظ المال لا تضيف هؤلاء، اتق الله في مالك، فلن ينفعك إلا درهمك الأبيض في يومك الأسود! ويضع أحاديث في هذا.
وسوف أقص عليكم بعض قصص البخلاء، وقد ألف فيه بعض الفضلاء كـ الجاحظ بعنوان البخلاء والخطيب البغدادي أيضاً بعنوان: البخلاء.
فأما الخطيب البغدادي، فأتى بآيات وأحاديث وقصص، وأما الجاحظ فجرده قصصاً أدبية، وكلا الكتابين فيهما مسرح للنظر وللفكر، ولا بأس بإيراد بعض الشيء.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] أي: فالذي يبخل لا يبخل إلا على نفسه لا على الله، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79] فالبخل مقيت، قال بعض أهل الأدب: كان أعظم عيب عند العرب البخل.(120/8)
البخل ينافي السيادة
سأل عليه الصلاة والسلام بني سلمة -وهم يسكنون في قباء - قال: {من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا: سيدنا الجد بن قيس على بخل فيه، قال: وهل داء أدوى من البخل؟! بل سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح} أما هذا فليس بسيد، فخلعوه من تلك الليلة وولى عليهم عمرو بن الجموح؛ لأنه يستحق السيادة، أما البخيل فلا يستحقها.
وعند الترمذي بسند فيه كلام: {السخي قريب من الله قريب من عباده، والبخيل بعيد من الله، بعيد من عباده، بعيد من الجنة} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وقد أسهب الجاحظ وهو يكتب عن البخلاء وعن قصصهم، ثم أتى الخطيب البغدادي المحدث الشهير فكتب كتاباً فذكر البخلاء من طبقات الناس: من بخل بخبزه، من بخل بطعامه، من بخل بوقته، لأن البخل أنواع، ومنهم من يبخل بالعلم، حتى تجده من أبخل الناس بالعلم، ومنهم من يبخل بجاهه، ومنهم من يبخل بوقته، ومنهم من يبخل بواسطته وشفاعته، والجود منحة ربانية يمنحها الله من يشاء.
وفد عبد الله بن قيس الرقيات الشاعر على عبد الله بن الزبير رضي الله عنه فوقف عليه وابن الزبير أمير المؤمنين لمدة ست سنوات فقال:
أتيتك من بلد بعيد ناءٍ، نقبت ناقتي وكلَّ مسعاي وضمر جسمي أريد أعطية منك.
قال: أما أن ناقتك نقبت -أي أنها أصابها حفى- فخذ لها جلداً وحذها به، وأما أنت فأعطيك تمراً تأكله الآن، فقال: لعن الله ناقة حملتني إليك.
فقال: إن وصاحبها!
بداية وهذا شاهد في النحو ذكره ابن هشام في كتاب شذور الذهب، معناها: نعم وصاحبها، فذهب هذا وكان شاعراً فقال:
أرى الحاجات عند أبي خبيب نكدن ولا أمية في البلاد
من الأعياص أو من آل حرب أغر كغرة الفرس الجواد
يقول: يا أبا خبيب! نكدت عندك الحاجات، أين بنو أمية؟ لأنهم ينافسونه، فذهب إلى عبد الملك فأعطاه عشر نوق، وملأهن براً وزبيباً وتمراً.
فالمقصود أن العبد إذا قُصد فعليه أن يعطي، وأن تحمد الله أن جعلك مقصوداً لا قاصداً، وأن جعلك يرتادك الناس لا يرتادون غيرك أو لا تكون أنت مرتاداً لهم.
ومما ذكر: أن رجلاً أتى علي بن أبي طالب -ذكره صاحب كتاب عيون الأخبار - فقال له علي: أمسك ماء وجهك، لا تكلمني بحاجتك واكتبها، فكتبها على التراب يقول: أريد حلة يعني أريد ثوباً، فكساه علي رضي الله عنه حلة من أجمل الحلل، قالوا: خلع حلته التي يصلي بها العيد والجمع فأعطاه، فقال الرجل:
كسوتني حلةً تبلى محاسنها لأكسونك من حسن الثنا حللا
يقول: أنت كسوتني حلة واحدة والله لأكسونك حللاً من الثناء تبقى إلى آخر الدهر، وحسن الثناء مطلوب في الإسلام؛ قال تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء:84] يكسبه الإنسان بالمعروف والكرم.(120/9)
من قصص البخلاء
والبخلاء قصصهم عجيبة وغريبة، منهم أبو الأسود الدؤلي النحوي كان بخيلاً بالطعام، يرفع عنه القلم إذا رأى ضيفاً، وإذا قدمت مائدته امرأته رفع عنه القلم قالوا: فإذا رأى ضيفاً احمر وجهه، واختلفت عيناه، وأصبح يضرب سوطاً من بعيد "خطر ممنوع الاقتراب" فكان إذا قدمت امرأته طعاماً له قال: أغلقي الباب، فقدمت يوماً عشاءه ونسيت الباب، فاقتحم ضيف فقير مسكين، دخل عليه وجلس معه على المائدة، فجلس يأكل، وغضب أبو الأسود الدؤلي وقامت قيامته، فلما تعشى الضيف قام أبو الأسود إلى حبل، فشد الضيف يده اليمنى برجله اليسرى، وقال: والله لا أتركك في الليل تؤذي المسلمين، فهو يعتبر العشاء هذا إيذاءً للمسلمين، فحبسه حتى صلاة الفجر، ذكره أهل العلم فيمن ذكروا.
ومنهم أحد أهل العلم رجل من أعيان المدينة كان سخياً بالمال بخيلاً بالطعام، وإذا أكلت عنده تغديت أو تعشيت استحل دمك، يقول أهل العلم: كان يستحل دم من يتعشى عنده، وكان والياً على المدينة، وهذا ذكره الخطيب البغدادي، وذكره الجاحظ وأهل الأدب، فدخل عليه ستة، ومعهم أشعب الطماع الذي يتبع الأعراس والولائم والحفلات ليأكل دائماً، وأشعب هذا يأكل أكل أربعة، فدخل مع الستة، فقال الستة بعضهم لبعض: انتبهوا لوالي المدينة لا تأكلوا عنده شيئاً، نريد غرضنا فقط، فوالله إن أكلتم لا يلبي طلبكم، ويستحل دماءكم، فجلسوا وكان غداء الوالي مازال على النار، وكان جدياً يطبخ، فجلس قال: تغديتم يريد أن يستأمن قالوا: الحمد لله، والله لا نريد شيئاً، قال: ما وراء الله مذهب، كفى بالله حسيباً من أقسم بالله بررناه، لو أنكم تركتم القسم لتغديتم معي، قالوا: لا والله تغدينا، قال: الحمد لله، فلما أتى بالغداء قال: تفضل يا أشعب -وكان يظن أنه سيقول: لا والله تغديت- قال: نعم فقام فأخذ جنب الجدي فمسحه، ثم جنبه الآخر فمسحه، ثم أقبل على الرأس فشذرمه، ووصل إلى اليد، فغضب هذا الوالي حتى أصبح يخالط في عقله، فلما انتهى قال: قبل أن تذهب يا أشعب -يريد أن يوقعه- عندنا أناس في سجن المدينة نريد أن تدخل معهم في رمضان تعلمهم القرآن لأنك تحفظ كتاب الله، والله! لتدخلن في رمضان فتصلي بهم كل رمضان، يقول أشعب: لا.
وأعاهدك بالله عز وجل ألا آكل لك طعاماً بعد اليوم -وهذا مما ذكروه في هذا الباب- فأطلقه.
قوله صلى الله عليه وسلم: {ومنعاً} المنع: البخل.
ومن أقسام البخل قسم عظيم خطير، وهو البخل بالعلم والفائدة؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] يبخل بالدعوة وبالموعظة، يبخل بالتوجيه والتربية وهو عالم ومتعلم وعنده خير، فهو من صف البخلاء الذين لعنهم الله؛ لأن الله يقول في بني إسرائيل حين بخلوا بالعلم: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:37] فأبخل الناس بالفائدة اليهود ومن سار على منوالهم من هذه الأمة.
الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من البخل ومن الجبن، وقد قسم في يوم واحد سبعة آلاف ناقة وأربعة وعشرين ألف رأس من الغنم، ثم لحقه أعراب الناس يطاردونه يريدون مالاً، فنشب كساؤه بشجرة، فقال صلى الله عليه وسلم: {خلوا كسائي أيها الناس؛ فو الذي نفسي بيده! لو كان لي عدد عضاة تهامة غنماً وإبلاً لأنفقتها؛ ثم لا تجدونني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً} عليه الصلاة والسلام.(120/10)
ذم السؤال لغير حاجة
وقوله صلى الله عليه وسلم: {ومنعاً وهات} فيه ذم السؤال، "هات" أي: الذي يسأل الناس تكثراً بلا حاجة، فقد ذمه صلى الله عليه وسلم، قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة:273] وقال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {لأن يأخذ أحدكم حباله فيذهب إلى الجبال فيحتطب ويبيع خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه} لا يحوز لك أن تسأل تكثراً عما يغنيك، فإنه حرام، ولذلك أحذر الذين اتخذوا الشحاذة والمسألة طريقاً في جمع الأموال، بل كشف عن بعضهم فإذا هو يمتلك خمسمائة ألف، وبعضهم بلغ الملايين المملينة في البنوك، وهو يتخذ من الشحاذة طريقاً ومهنة، وسوف يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم بل عظام فقط، قال صلى الله عليه وسلم: {من يسأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر، ولا تزال المسألة بالرجل حتى يأتي وجهه خدوش ليس فيه مزعة لحم يوم القيامة} يأتي ووجهه مقطع لأنه ما استحيا من الله، ثم ما استحيا من خلقه، ولا تجوز المسألة للقوي الذي يكسب ويستطيع أن يزاول العمل، ولا تجوز أيضاً لمن عنده غنى وكسب.
ولذلك يفاجأ الإنسان حين يرى الأقوياء الفتيان الشباب يقفون أمام الناس، ويسأل أحدهم يا خيبتاه! شاب قوي يستطيع أن يعمل، يستطيع أن يكدح ويشتغل وينتج ومع هذا يسأل الناس، ومثل هذا لا يعطى لأنه قوي يستطيع أن يكسب.
كان رجل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الناس، فدعاه صلى الله عليه وسلم فأعطاه درهمين، ثم قال: {اشتر بهذا قدوماً أو فأساً، وخذ بهذا طعاماً لأهلك} يعلمه صلى الله عليه وسلم طريقة الإنتاج والعمل، يفتح له ورشة، وطريقاً للعمل والكسب وطلب الرزق الحلال، فذهب واشترى طعاماً لأهله، ثم أتى بفأس فأتي به في خشبة فركبه له صلى الله عليه وسلم ليكون مباركاً وقال: {اذهب بارك الله لك لا أراك شهراً} فيما يروى عنه، يقول: اذهب احتطب وبع، فكان يذهب في النهار، فيقتطع من الشجر، ويبيع في أسواق المدينة حتى أصبح غنياً، فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه أصبح غنياً، وقد أطعم أهله وكساهم وتصدق؛ قال صلى الله عليه وسلم: {لأن يذهب أحدكم فيأخذ حبالاً فيحتطب فيبيع خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه}.
فالتحذير من هات هات؛ لأن بعض الناس يدمن على هذا، فيصبح وجهه صفيقاً لا حياء فيه، فيطلب الناس لغير الحاجة، حتى إن بعضهم قد يطلب لبعض الديون البسيطة التي على الناس أكثر منها، يفاجئك ويطلب يقول: علي مبلغ كذا وكذا، ولقد مات عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة في ثلاثين صاعاً من شعير ولا يوجد من سلم من الدين.
ومات الخلفاء الراشدون وأكثرهم مدين، وكذلك العلماء والأخيار والأبرار، فأن يجعل الإنسان وجهه صفيقاً وهو شاب قوي قادر ليس بصحيح.
أيضاً الإسلام يعالج مبدأ العطالة والبطالة، ونحن نعيشها في بعض الصور، فقد تجد الشاب كسلان لا يشتغل، طرق العمل مفتوحة لكن لكسله يقف دائماً حائراً نائماً في بيته يتسلف ويقترض من الناس، فلا ينفع أهله ولا ينفع نفسه ولا أمته، فمثل هذا يحذر منه الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: {اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول} فاليد العليا هي اليد المعطية، واليد السفلى هي اليد الآخذة.
وقد بايع صلى الله عليه وسلم جماعة من صحابته (ستة أو سبعة) على ألا يسألوا الناس شيئاً، ومنهم أبو بكر الصديق ومالك بن عوف، فكان يسقط سوط أحدهم في الأرض، فلا يقول للرجل: (ناولني) بل ينزل بنفسه يأخذه، فبايعهم صلى الله عليه وسلم تكريما لهم على ألا يسأل أحدهم الناس شيئاً.
فمن كرامتك على الله عز وجل أن يغنيك عمن أغناه عنك، ومن الدعاء الطيب: اللهم أغننا عمن أغنيته عنا، فلا يكون لك حاجة إلى أحد؛ إنما حاجتك إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، إلا في ضرورات لا بد منها كالديات أو بعض الورطات أو الحوادث التي لا يستطيع الإنسان تسديدها.
يقول المقنع الكندي يمدح نفسه:
لهم جل مالي إن تتابع لي غنىً وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا
يقول: أنا إن كثر مالي أنفقته على قومي، وإذا قل لا أكلفهم رفداً.
وإنما بلغ حاتم الطائي هذا الذكر العظيم في الناس؛ أنه كان إذا وضع الطعام بين يديه يقول لامرأته: التمسي من يأكل معي، فإني لا آكل وحدي، فيبقى الطعام موضوعاً حتى تأتي امرأته أو أبناؤه بضيف، حتى يقول في قصيدة له:
إذا ما وضعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي
وقال عروة بن الورد في قصيدة له:
أتهزأ مني أن سمنتَ وأن ترى بوجهي شحوب الحق والحق جاهد
أوزع جسمي في جسوم كثيرة وأحسو قراح الماء والماء بارد
فإني امرؤ عافي إنائي شركة وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
وهي أبيات جميلة لا يتسع المقام لذكرها.(120/11)