أقسام النور
ما هو النور؟ وما هي أقسام النور؟
النور على أقسام:
أول نور لك في الحياة الصلاة، ففي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم، قال: {الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء} الحديث، فأعظم نور لك في الحياة الدنيا الصلاة، فمن لم يتنور بالصلاة فلا نور الله عليه، ومن حُبس عن الصلاة فقد حبس عن النور، وإذا رأيت الإنسان يتهاون بالصلاة فاعلم أنه ليس عنده نور، ولا هداية، ولا إيمان، وأنه في ظلمة: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
والرسول عليه الصلاة والسلام صح عنه أنه يقول: {صلوا في بيوتكم، فإن الله جاعل لكم في بيوتكم من صلاتكم خيراً أو نوراً} فالصلاة في البيت نور، بشرط أن تكون النافلة، لا الفريضة إلا لعذر، فمن صلى الفريضة في البيت فقد أثم وأذنب إذا صلاها بلا عذر.
ومن النور القرآن؛ قال تعالى: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] وقال: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:15] فالقرآن نور، قال أهل العلم: ولا يكون القرآن نوراً للإنسان إلا بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يعمل بمحكمه، ويؤمن بمتشابهه، فمن شك في القرآن، أو في شيء من القرآن لم يجعل الله له نوراً أبداً.
الشرط الثاني: أن ينزع الشهوات من قلبه، فلا يقرأ القرآن بظلمة وشهوة وفجور، فإنه لا يستفيد منه شيئاً أبداً.
الشرط الثالث: أن يلقي سمعه، وهو شهيد القلب؛ قال تعالى: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] فإذا اكتمل هذا أثر القرآن في قلبه تأثيراً بيناً.
والذكر في حياتك نور، فإذا رأيت الإنسان يذكر الله كثيراً فاعلم أن عنده نوراً، ومن لم يذكر الله فليس له نور، والله وصف المنافقين الذين ذهب الله بنورهم بأنهم لا يذكرون الله إلا قليلا، كلما ذكر الله النفاق -هذه قاعدة- ذكر الذكر، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] وفي آخر السورة يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون:9] ويقول سبحانه تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] وفي الصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى تميل ثم ينقر أربع ركعات لا يذكر الله فيها إلا قليلاً}.
فالمنافق يصلي ويحج، ويعتمر، لكنه مصاب بداء خطير، وهو على قسمين:
نفاق اعتقادي مخرج من الملة.
ونفاق عملي، وهذا فيه نظر، وهو أقل من ذاك خطورة.
فالنفاق المخرج من الملة هو نفاق من يعتقد كذب القرآن، أو كذب الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو منافق ملعون في الدرك الأسفل من النار، ولو صلى وصام وزعم أنه مسلم.
ومن النفاق الاعتقادي من استهزأ بشيء من كتاب الله، أو من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، أو من عباد الله من أجل صلتهم بدين الله، فهو كافر؛ قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
أما النفاق العملي فهو على أضرب: {إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر} فهذا منافق نفاقاً عملياً وهو من المذنبين، ومن المتلبسين بصفات أهل النفاق، لكن لا يخرج من الملة.
فالذكر -يا أيها الأبرار- نور، فعن عبد الله بن بسر -كما في الترمذي بسند حسن- أن رجلاً قال: {يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب} [الرعد:28] {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191].
والصدقة نور، وقد سماها صلى الله عليه وسلم ووصفها بقوله: {تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار} ويستظل بها العبد يوم القيامة: {كلٌ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس} كما صح في الحديث، وفي حديث ابن مسعود في البخاري: {وإذا تصدق أحدكم فإن الله يأخذ صدقته بيمينه، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون كـ جبل أحد} وفي رواية: {ولا يقبل الله إلا طيباً}.(55/12)
أنواع الظلمات ونماذج لمن مات فيها
وأما الظلمات فقد ذكرها الله عز وجل في كتابه على صيغة الجمع، قال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] والظلمات ثلاث:
ظلمة الكفر: وهذه أعظم ظلمة نجانا الله وإياكم منها، وهي ظلمة ما بعدها ظلمة، وهي ظلمة شديدة متلفة مهلكة لصاحبها.
والظلمة الثانية: ظلمة الكبائر، فإن الكبيرة إذا أصيب بها العبد أظلم قلبه وقسا، وبعدت روحه، وشردت نفسه، ولا يكفرها إلا واحد من المكفرات العشر، التي ذكرت في بعض الدروس.
والظلمة الثالثة: ظلمة الصغائر من الذنوب، فمن نجا من الظلمات فقد نجاه الله، ومن وقع في الظلمات، فهو في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
ومن هم الذين ماتوا في الظلمة ولم يروا النور:
الجد بن قيس أحد المنافقين، قال له صلى الله عليه وسلم: {تعال اخرج معنا في غزوة تبوك قال: يا رسول الله! أنا رجلٌ أحب النساء، وإذا رأيت نساء بني الأصفر لا أصبر} وبنو الأصفر هم الروم، انظر إلى الكذاب الدجال، فقال الله عنه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49].
ضاع جمله في الحديبية، قالوا: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله! لأن أجد الجمل خير لي من أن يستغفر لي محمد، نعوذ بالله من الخذلان في الدين والحرمان في الدنيا.
أتدرون ما هو الخذلان؟
الخذلان أن يكتب الإنسان، أو أن يعتقد كفراً، أو يخدم أو أن يتكلم، أو يكون تحت مظلة الكفر؛ صحفياً، أو شاعراً، أو خطيباً، أو قصصياً، أو مسرحياً.
والكفر هو أعظم ذنب عصي الله به في الأرض، قالوا: تعال يستغفر لك، فلوى رأسه، فلماذا فعل ذلك ولم يقل: لا؟ ولماذا لم يتكلم؟ لأنه خاف أن يكشفه الوحي بكلامه، فينقل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فنقل الله الصورة والحركة لرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ} [المنافقون:5] الآية.
يقولون: حتى الحمار يلوي رأسه.
ومما يذكر أن التبغ قدم لحمار -التبغ شجر الدخان- ليأكله، فلوى الحمار رأسه، كأنه يقول: لا أريد، وهذه كالزهرة تشم ولا تعك.
ويوصف بها المنافقون: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون:5 - 6] وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5].
وحينما يذكر الله عدم الهداية يعللها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بأنهم فسقوا في أول الطريق: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5].
ومن المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول -نعوذ بالله من الكفر والخذلان- كان يصلي مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فيقوم ويقول يوم الجمعة للصحابة: اسمعوا لمحمد، استمعوا واستفيدوا، ولكن ما استفاد هو، خرج في غزوة فتشاجر مهاجري وأنصاري، وعبد الله بن أبي من الأنصار، لكن ما ناصر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فقال يوم رأى المهاجري يتشاجر مع الأنصاري، قال: صدق الأول! جوع كلبك يتبعك، وسمن كلبك يأكلك، ثم قال كما حكى الله عنه: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:8] فسمع ابنه الكلام، وكان ابنه عبد الله مؤمناً؛ لأن الله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم:19].
من هو عكرمة؟ إنه ابن أبي جهل، أبوه ميت، وقطعة من كلب، ميت لأنه ما آمن بالله عز وجل، فخرج منه عكرمة الذي لبس أكفانه يوم اليرموك، واستقبل القبلة، وقال: [[اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى]] وقتل في المعركة، وأتي به إلى خالد بن الوليد قائد المعركة، فقال خالد: ماذا تريد؟ فأشار إلى الماء يريد أن يشرب، لأنه لا يستطيع الكلام، فأتى خالد له بكوب ماء بارد وهو يحتضر، فلما أعطاه الماء البارد ليشرب نظر إلى عمه الحارث بن هشام، فأشار أعطه، يؤثرون حتى في ساعة الصفر كما قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] فقدموا الماء للحارث، فرأى الحارث رجلاً آخر فأشار إليه، فأبى أن يشرب قبل عكرمة، فردوا الماء لـ عكرمة فإذا هو قد مات، ثم إلى الحارث فإذا هو قد مات، ثم إلى الثالث فإذا هو قد مات، فرمى خالد بالكوب من يده، وقال: [[اسقهم من جنتك]] فهذا خرج من صلب أبي جهل.
فأتى عبد الله بن عبد الله بن أبي، وقال: يا رسول الله! ائذن لي في قتل أبي، فإني لا ترضى نفسي أن أرى رجلاً يقتل أبي ويمشي على الأرض، لكن والله إن أذنت لي لآتينك برأس أبي هذا اليوم، فقال عليه الصلاة والسلام: {بل نترحم على أبيك، ونصحبه خيراً، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه} فلما أتى أبوه ليدخل المدينة، وقف عبد الله بالسيف على مدخل المدينة، وقال لأبيه: والذي لا إله إلا هو لا تدخل حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ولم؟ قال: لأنك الأذل وهو الأعز، فإذا أذن لك فادخل؛ ويقول الله عز وجل عن هذا: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] فالعزة لله وللرسول عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين.(55/13)
نماذج لظلمات أهل الفن
وممن عاش الظلمة وتردى في الظلمة أناس كثير يعيشون على مر الدهور، وأنا أذكر نماذج من أهل الأدب والفن في هذا، وإلا فله حديث آخر، لكن حديثي الآن حول قوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] وقوله تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
أحد الناس، يقول في مقطوعة له وهو يعيش في ظلمة وهو إيليا أبو ماضي يقول:
جئت لا أعلم من أين! ولكني أتيت!!
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت!!
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت!!
كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري!!
ولماذا لست أدري؟!! لست أدري!!
في ظلمة، لكن سوف يدري: {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:9 - 10] {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
أحدهم يقول لسلطان:
ما شئتَ لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
فابتلاه الله بمرض؛ لأنه يعيش في ظلمة: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
ورجل ثالث، مجرم من المجرمين، قام يقول للناس ويخاطب العرب:
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
فكان يعيش ظلمة، ومات في الظلمة: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].(55/14)
طرق الظلمة الموصلة لها
إخوتي في الله: الطرق الموصلة إلى الظلمة ثلاث:
الشهوة- والغضب- والغفلة.
فإذا غضبت أوقعك الشيطان في حبائل القتال، وهي نفس غضبية، وجعلك من جند فرعون -نعوذ بالله من ذلك- إن لم تتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ليجعل الله لك نوراً، وإذا غضبت فتوضأ، واستعذ بالله من الشيطان الرجيم، واقرأ شيئاً من القرآن، ليأتيك النور على هذه الظلمة.
وإذا أصابتك الشهوة، ووقعت في حبائل إبليس، وقعت في التردي والمعصية، وكنت من جند الشيطان ومن أهل الشهوات قارون وأمثاله.
وإذا غفلت وقعت في نسيانه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19].
إذا علم هذا -إخوتي في الله- فلا بد أن تتنبه للأبواب الثلاثة التي تدخل عليك منها الظلمة، وتجعلك في الظلمة: الغضب والشهوة والغفلة.(55/15)
تفسير قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض)
ونعود للآيات: ((اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور:35] ما معنى قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:35] قيل: معنى هذا مثل نور الله عز وجل الذي أعطاه المؤمن في قلبه، كمثل مشكاة فيها مصباح، وهذا ذكره ابن كثير، وأسنده إلى ابن عباس، وهو من أقرب الأقوال.
فالنور الذي في قلبك أيها المؤمن: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35].
قال عليه الصلاة والسلام: {اللهم اجعل في قلبي نوراً} فالنور هذا هو نور الإيمان، والقرآن، والذكر، والدعاء: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:35] ذكر ابن إسحاق في السيرة بسند فيه إعضال -والمعضل ما سقط من سنده رجلان على التوالي- قال: لما نزل صلى الله عليه وسلم بـ وادي نخلة، استقبل القبلة، وقام يصلي، ثم دعا الله، وقال: {اللهم إني أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة} فذكر لوجهه سبحانه وتعالى نوراً.
وفي صحيح مسلم قال أبو ذر: {يا رسول الله! هل رأيت ربك؟ قال: نورٌ أنى أراه}.
وجمهور أهل السنة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في الإسراء، وقد أخطأ من ذهب من بعض أهل العلم إلى ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم نفى ذلك عن نفسه، قال: {نورٌ أنى أراه} أي: ما رأيت الله، والله عز وجل يقول: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103].
ومن معتقد أهل السنة والجماعة أن الله يراه المؤمنون في الآخرة، ويحجب عنه الكفار والمنافقون: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:15 - 16] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
ويقول عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري يصف ربه، قال: {حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره} فهو نور سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وهو النور، وهو المنزل للنور، وهو الهادي إلى النور، فنسأله أن يهدينا وإياكم إلى النور.
والنور في القرآن ذكر على ثلاثة أضرب:
نور معنى كما في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:35] ونور حس كما في قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] ونور هداية كما في قوله تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] فهو على ثلاثة معان.(55/16)
من أقوال أهل العلم في النور
وقبل أن أفرغ إلى حديث آخر أحب أن استطرد في قضايا:
مما قال أهل العلم: إن القلب يسرج سراجه فيه النور -لحديث حذيفة في الصحيح- فإذا استكمل العبد في الهدى وزاد في الصالحات، وأكثر في النوافل، نور الله قلبه حتى يصبح أبيض لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض -نسأل الله من فضله- وأن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء، فتجتمع هذه النكات حتى يصبح القلب أسود كالكوز مجخياً -أو منكوساً- لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه.
ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا تاب صقلت وأزيلت، حتى يعود أبيض، وهذه الذنوب والخطايا تؤثر في ثوب الإيمان الأبيض، فتنكته فيصبح أسود، فإذا أزلته بالاستغفار والتوبة أعاده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أبيض.
في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: {قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال عليه الصلاة والسلام: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد} ما أجمل هذه الكلمات! تصل إلى القلوب، لا أجمل منها ولا أعبق إلا القرآن، فهو كلام من أنزله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فلذلك قال: {اللهم نقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس} والبخاري يستشهد على هذا بلباس البياض، ويأتي بمثل هذا.
فإذا علم هذا فالخطايا هي التي توردك في الظلمة، ولا يوردك في الظلمة إلا الخطايا، وواجبك في الخطايا أن تتوب ليصقل قلبك، ومن ترك نفسه للخطايا أظلمت روحه، وأظلم قلبه فأصبح في ظلمة: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور:40].
أحد المناطقة يذكره ابن تيمية في المجلد الرابع من فتاويه، يقول: سئل عن قلبه، قال: ظلمات بعضها فوق بعض، سبحان الله! الذي لا يهتدي بالقرآن لا يهتدي بالوحي ويقع في الظلمات، قالوا له: لماذا لا تقرأ وتستغفر وتتوب وتعبد الله؟ قال: لا أستطيع: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54].
فإذا وصل الخطأ إلى هذا المستوى والظلم والعصيان والفجور أظلم القلب، فأصبح مغلقاً، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] بل: {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد:16] {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13].
قال ابن المبارك: [[من ترك الآداب ابتلاه الله بترك السنن، ومن ترك السنن ابتلاه الله بترك الفرائض، ومن ترك الفرائض ابتلاه الله بالكفر]] ومن فعل هذه أصبح في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
ما هي الآداب؟ هي آداب الإسلام.
ما هي السنن؟ سنن الإسلام التي أتى بها صلى الله عليه وسلم، ولذلك سئل الإمام أحمد عن رجل ترك الوتر وداوم على تركه، قال: "هذا رجل سوء لا خير فيه" وإذا رأيت الإنسان يترك النوافل ويداوم على تركها، فاعرف أنه سوف تمر به مرحلة يترك الفرائض.(55/17)
كيفية الحفاظ على النور
خطوط الدفاع ثلاثة:
آداب، وسنن، وفرائض، فمن ترك الآداب ابتلاه الله بترك السنن، ومن ترك السنن وقع الثلم والنقص في الفرائض، ومن ترك الفرائض ابتلاه الله بالكفر.
وهذا أمر لا بد أن يعلم، وحجاب، أو ساتر الإيمان أمور أذكرها:
منها: ذكر ابن تيمية في المجلد الأول من فتاويه، قال: "للقلب أو محركان الذكر والفكر" فأعظم ما يحصل لك به النور الذكر والفكر: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] والذكر ذكر الله بالقرآن وبأي ذكر، والفكر التفكر في آيات الله المشهودة والمقروءة، وهذا أمر لا يغيب عنكم أيها الإخوة الكرام.(55/18)
مسائل حول الفطرة والنور
وأخلص من هذا الدرس إلى مسائل ألخصها:
المسألة الأولى: أن الفطرة وحدها لا تكفي للهداية، وقد أخطأ الفلاسفة لما قالوا: ليس هناك داعٍ أن يرسل الله الرسل؛ لأن الله خلق السماوات والأرض وأقام الكائنات، وعرض الآيات البينات، فلماذا يرسل الرسل؟ وقد كذبوا، فالفطرة وحدها لا تكفي، ولو كفت الفطرة لاهتدى الناس، لكن الناس مفطورون على الهداية، ولكنهم يزيغون فيحتاجون إلى الرسل، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15].
المسألة الثانية: أن النور لا يأتي إلا من عند الواحد الأحد، وأن من التمس النور من غير هداية الله أضله الله، ومن التمس العافية من غير الله أمرضه الله وأسقمه وأتلفه، ومن التمس السداد من غير الله أضله وأعماه وأهلكه، فالهداية من الله، والنور من الله، وهو في الإيمان والقرآن.
المسألة الثالثة: أن النور أقسام وهذا معلوم بالنصوص، وأننا نأتي يوم القيامة على أنوارنا في الدنيا بصالحاتنا -نسأل الله من فضله- منا من يأتي كالقمر ليلة البدر، ليلة أربعة عشر، ومنا من يأتي كالكوكب الدري اللامع في السماء، ومنا من يزهر نوره إزهاراً كالنجم، ومنا من يأتي نوره كالمصباح، ومنا من يأتي نوره على رأس ظفره وأصبعه.
المسألة الرابعة: أن النور يزيد وينقص بزيادة الإيمان، ومعتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان ينقص ويزيد كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] والنور يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي.
ومن اعتقادنا أن موقدات الإيمان اثنان: الذكر والفكر، والذكر بالقرآن وبالتسبيح، والفكر في آيات الله الكونية وآياته الشرعية، ومما يعرض في هذا الباب أن النور ينقطع.
فإنه يكون للمنافقين في الدنيا بحسب ما استضاءوا بالنور ظاهراً.
-كيف استضاءوا بالنور ظاهراً؟ - كانوا يصلون معنا ويصومون، ونعوذ بالله من النفاق، ومن لم يخف من النفاق خيف عليه من النفاق.
قال الحسن في صحيح البخاري -معلقاً-: [[ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق]] وقال عمر لـ حذيفة: [[أسألك بالله يا حذيفة أسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟ قال: لا.
ووالله! ولا أزكي أحداً بعدك]].
وهناك نور يجعله الله للمنافقين بالصلوات الظاهرة فيأتي يوم القيامة لهم نور، ثم يقطع الله عنهم النور، فيتساقطون في نار جهنم: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17].
المسألة الرابعة: الظلمات على أنواع ثلاثة:
كفر، ونفاق، ومعاص، والظلمة تزيد بالمعاصي، وتنقص بنقصان المعاصي، وأكثرها للكافر والمنافق، والظلمة هي معنوية وحسية كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى في الحسية: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] وقال في المعنوية: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] وأن المؤمن قد توجد في قلبه ظلمة، لكن لا تخرجه من الإسلام والدين.
المسألة الخامسة: وصف النور والظلمة وصفات أهل النور:
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257].
ما هو وصف الكفر وظلمة الكفر؟ ووصف الإيمان ونور الإيمان؟
أما وصف الإيمان ونور الإيمان، فيوصف بالنور وبالماء البارد على القلب، وبالحبل الممدود إلى السماء، وباستطاعتنا أن نوجد من النصوص أمثلة وشواهد لهذا.
والظلمة توصف بأمور: توصف بانعقاد الخاطر، وظلمة القبر، وتوصف بانعقاد القلب، فلا يرى النور ولا ينشرح، فيكون: {ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22].
وأهل النور -يا أيها المسلمون- هم أهل السنة والجماعة.
وصفات أهل النور - أهل السنة والجماعة - أربع صفات:
الأمر الأول: أنهم لا يأخذون منهجهم، ولا عقيدتهم، ولا عبادتهم، ولا سلوكهم إلا من الكتاب والسنة: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].
الأمر الثاني: أنهم يقصدون بعملهم وجه الله تبارك وتعالى، فلا يشركون مع الله شيئاً في عبادتهم، ولا في أخلاقهم، ولا في سلوكهم.
الأمر الثالث: أنهم يتعاونون ويتواصون بالحق والصبر: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3].
الأمر الرابع: أنهم وسط، وقد وصفهم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، وهذا نور على نور، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] فهم وسطٌ في المعتقد، ووسطٌ في العبادة، ووسطٌ في الأخلاق والسلوك.
وهذه هي صفات أربع لأهل النور، وهم أهل السنة والجماعة.
فنخلص من هذه المحاضرة إلى أن أهل النور هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، جعلنا الله منهم، وجعل الله لنا نوراً نمشي به في الناس، وأحيانا الله بالنور، وأماتنا على النور، وشرح صدورنا للنور، وهدانا إلى صراط مستقيم.(55/19)
حكم السحرة والكهان والعرافين
هذا أخ يشتكي من انتشار الكهنة، وقد سمعنا بعض العلماء والمشايخ يتكلمون بهذا، ويندبون الناس إلى التحدث عنه خاصة الدعاة، لأنه انتشر في أوساط الناس، وهو في المدن أكثر منه في القرى فيما سمعنا، وهي مسألة خطيرة، وهذه ليست مسألة إسبال ثياب، أو أخذ اللحى أو شرب الدخان، بل إنها مسألة خطيرة، ومن أعظم المسائل الخطيرة في تاريخ الإنسان، فهي مسألة شرك وكفر في القرن الخامس عشر، قرنٌ بلغت فيه كتب العلم والسنة مبلغها، ووجد العلماء وانتشرت المساجد والوعي والدعاة والعلماء، ثم يغزونا الشرك إلى قعر بيوتنا، وإلى داخل مدننا وقرانا، فهذه هي الخطورة التي ما بعدها خطورة، وهي قاصمة الظهر.
وهذا الأخ يشتكي ويقول: وجد في أماكننا وقرانا ومدننا كثيرٌ من الدجالين والسحرة والمشعوذين والعرافين والكهنة، فماذا تقول في هذا الباب؟
وهؤلاء نسأل الله أن يكفينا شرهم، وأن يزيلهم عن مجتمعاتنا، فإنهم أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأعداء الكتب السماوية، وهم الذين قطعوا الطريق بين الخلق والخالق تبارك وتعالى، وهم الذي صرفوا القلوب إلى غير باريها، وهم الذي عطلوا الأرواح عن أن تسافر إلى واليها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فعليهم من الله ما يستحقونه، وهؤلاء كفرة بلا شك.
وفي صحيح مسلم {من أتى عرافاً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً} وفي لفظ صحيح: {من أتى كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام} والسحرة هؤلاء كثير، ووجدوا في القرى والمدن، وهم أناس يدعون الغيب، وقد كذبوا ودجلوا على الله عليهم لعنة الله، وهؤلاء السحرة يدعون علم الغيب، ويقول أحدهم: أنا أعلم الغيب: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65].(55/20)
ما يقوم به الساحر حتى تخدمه الجن
فمن ادعى الغيب فإنما هو مخدوم من الجن، وقد قرر ابن تيمية في المجلد العاشر والحادي عشر أن هؤلاء يستخدمون الجن في أغراضهم، فأنت تأتي الساحر وما أخبرته باسمك، ولا باسم زوجتك وابنتك وأختك، فيخبرك بهذا، يقول: اسمك كذا وكذا، واسم ابنتك كيت وكيت، وسيارتك كذا، وأنت تسكن في كذا، فمن أخبره؟ إنهم الجن، وهو لا يخبره الجان حتى يكفر بالله.
حتى يقول بعض أهل العلم: إنه اكتشف أن بعض السحرة اشترط الجن عليه أن يبول على المصحف فبال على المصحف، والسحرة هؤلاء لا تخدمهم الجن في القرى ولا الأماكن ولا الضواحي حتى يكفرون بالله العظيم، إما بأن يستهزئوا بالآيات، أو أن يدوسوا شيئاً من أوراق المصحف أمامهم، أو يصلوا بالنجاسات، كما ذكر ابن تيمية، فبعض السحرة قد يكون من أئمة المساجد، وبعضهم قد يكون خطيب يوم الجمعة وهو ساحر، وبعضهم قد يكون إماماً وهو مشعوذ كاهن، فيأتي يصلي بالناس وعليه جنابة.
فهذا الساحر يكفر بالله العظيم، فلا يخدمه الجان إلا بعد أن يكفر بالله ويبول على المصحف، فيأخذ المصحف في زاوية ويبول عليه، فإذا بال عليه كفر بالله وانسلخ من الإسلام ومن لا إله إلا الله، فتأتي الجن تنقل له الأخبار من مكان إلى مكان، والجن لا تنقل له خبراً وهو مؤمن أبداً.(55/21)
الفرق بين كرامات الأولياء وشعوذة المشعوذين
كيف نفرق بين كرامات الأولياء وشعوذة المشعوذين؟
هنا وليٌ من أولياء الله تأتيه كرامة، مثل أن يرى نوراً في بيته، مثل أن يطوي الله له الأرض، مثل أن يأتي الأسد له فيطأطئ الأسد رأسه له، ويأخذ الأسد ويمسكه، أو يمسك الثعبان فلا يؤذيه الثعبان، وبين مشعوذ يأتي إلينا فيأخذ الثعبان فإذا هو عصا، ويأخذ العصا فإذا هي ثعبان.
أحد الناس قال: رأيت مشعوذاً أخذ فنجاناً فحوله إلى بيضة دجاجة، وأخذ براداً فحوله إلى حمامة، وهذا من المشعوذين، فكيف نفرق بين هذا وبين هذا؟
قال ابن تيمية: نفرق بين الكرامة والشعوذة بفارقين اثنين، وهذا من الفرقان الذي يجعله الله لأهل النور: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].
الفارق الأول: أن الكرامة لا تجري إلا على يد رجل صالح عامل بالكتاب والسنة، فإذا رأيت الرجل الفاجر تجري على يديه خوارق للعادات فالعنه والعن خارقته ولا تقبل منه كلمة، رجل فاجر يصلي بجنابة، رجل يأوي الزبالات، ولذلك كثير من السحرة والكهنة -كما نقل إلينا برجال ثقات- يبيتون في المزابل والرماد والمذابح والحمامات، لأن الجن لا تأتيهم ولا تسخر لهم إلا في هذه الأماكن، ولذلك إذا دخلنا الحمام قلنا: نعوذ بالله من الخبث والخبائث، فهؤلاء إذا أتى علي أيديهم شيء فنكفر بهم ونكفر بما أتى على أيديهم.
ليست كرامة، بل هي ندامة، ولعنة، وخزي، ودمار، وعار في الدنيا والآخرة، ومن أتاهم وصدقهم فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً، ولا يزكيه ولا ينظر إليه، وله عذاب أليم، وقد كفر بما أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام.
فالضابط أن الكرامة لا تأتي إلا على يد رجل صالح، عامل بالكتاب والسنة، صاحب سنة واستقامة، يعتقد اعتقاد السلف الصالح، فهذه كرامة أتت علي يده، وإذا أتت على يد النجس الآخر القذر المشعوذ الكاهن، فهي خيبة وندامة ولعنة وابتلاء من الله.
الفارق الثاني: ألا يستخدم الكرامة إلا فيما يرضي الله وينصر بها دين الله، مثلما فعل الصالحون، فالصحابة أكرمهم الله بكرامات فكانت في سبيل الله، مثل الطفيل بن عمرو الدوسي أكرمه الله بنور جعله في جبينه، فسأل الله أن يحوله في عصاه، فكان إكرامه بجعل النور في العصا آية في الدعوة.(55/22)
أمثلة من كرامات الأولياء وشعوذة المشعوذين
ذكر ابن كثير والذهبي أن خالد بن الوليد رضي الله عنه ذهب إلى أرض الروم يقاتل، فقال له قائد الروم: يا خالد! إن رسولكم -عليه الصلاة والسلام- يخبركم أنكم إذا توكلتم على الله لا يضركم شيء، وهذا يا خالد! سمٌ زعاف في قارورة، جمعناه شهراً كاملاً، فإن كنت صادقاً فاشربه ولا يضرك شيئاً، فأتى خالد فكشف القارورة، وأزال غطاءها، وقال: [[بسم الله، توكلت على الله، حسبي الله، لا إله إلا هو عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم]] فشربها كلها فما أصابه شيء.
يقول ابن تيمية: هذا وأمثاله تأييد للحق ورفعٌ لـ (لإله إلا الله) فكان في سبيل الله؛ لأنه خالد بن الوليد صاحب الكتاب والسنة، 1000028>خالد الذي غزا في سبيل الله مائة معركة، تكسرت في يده تسعة أسياف لأنه ينصر دين الله.
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
أما المشعوذون والسحرة والكهنة، فحدهم السيف: {حد الساحر ضربة بالسيف} وهذا الحديث تكلم فيه، ولكنه حسن، وهذا معلوم لولاة الأمور وأهل التنفيذ أنهم إذا ظفروا بساحر يتقربون إلى الله بدمه؛ لأن بعض الناس يتقرب إلى الله بدماء المبتدعة والسحرة والمشعوذين.
ولذلك ابن القيم يتفنن في مقطوعة له في مثل هؤلاء، فـ الجعد بن درهم، هذا الظالم العميل، المبتدع، الخرافي، الساحر، المشعوذ، أتى به خالد بن عبد الله القسري يوم عيد الأضحى، وقد كان خالد بن عبد الله القسري والي العراق، فخطب الناس، فقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله منكم فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم، فنزل فأخذ خنجره، وبرك على صدر الجعد بن درهم، وذبحه مستقبلاً به القبلة، وهذا يكفي عن سبعة.
قال ابن القيم:
ولأجل ذا ضحى بـ جعد خالد الـ ـقسري يوم ذبائح القربان
إذا قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
من أراد أن يتقرب فليقرب بمثله، فهؤلاء السحرة من ظفر بأحد منهم فليرفعه إلى الجهات، وحكمهم السيف، وهم ملعونون في الكتب، وعلى ألسنة الرسل، وهم أعداء الرسالات الخالدة، ومن وصلهم وصدقهم فقد كفر بالقرآن، وكفر بالسنة، ولا تنفعه صلاته ولا صيامه، ولا حجه، ولا عمرته، وهو ضالٌ مضل.
وقد رأيت أشخاصاً حدثوني، أنهم ذهبوا إلى ساحرة مشعوذة، فوصفوا لها جفاف البئر، فوصفت لهم من أين يحفرون، وهي ما حضرت، وما رأت، وما سمعت، وهي في بيتها، فعليها لعنة الله.
وأحدهم ذهب بابنه إلى مشعوذ كاهن ساحر، فوصف له داءه، فقرأ عليه ورقاه، وأراني هذه الأوراق، فإذا فيها طلاسم وخطوط، فتشافى الابن ابتلاءً من الله، فلعنة الله على الذاهب والماضي إلا أن يتوب.
فعلموا أهلكم وجيرانكم ومجتمعكم، وإلا فالأمة سوف تذهب مع السحرة والمشعوذة والكهنة، وسوف يسحتها الله بعذاب من عنده، وتفتري على الله، وتكون أمة فاشلة منهزمة مشركة، نعوذ بالله من الخذلان والحرمان.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(55/23)
الجوائز السخية
أي عمل لابد بعده من جائزة، ولكل مجتهد نصيب، فالذي يجتهد في أمور الدنيا ينال، والذي يجتهد في أمور الآخرة ينال، والنبي صلى الله عليه وسلم وضع الجوائز العظام التي لا توزن بما في هذه المعمورة، فمن أجل أن تعرف هذه الجوائز والأعمال التي تنال بها هذه الجوائز؛ تصفح هذه المادة وستعرف الكثير؛ وستعرف بالإضافة إلى ما سبق لطائف من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن حياة أبي بكر وعمر، وابن المبارك.(56/1)
النبي صلى الله عليه وسلم يعرض الجوائز
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عنوان هذا الدرس: "الجوائز السخية".
يقول عليه الصلاة والسلام: {من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا؛ نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يطلب فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه} رواه مسلم وغيره.
هذه هي الجوائز السخية التي يعلنها عليه الصلاة والسلام للمؤمنين، إذا جعل الناس جوائز من الذهب والفضة، ومن السيارات والقصور، ومن الدور والبساتين، جعل عليه الصلاة والسلام جوائزه أغلى وأعلى وأجلَّ، أتى الناس إليه عليه الصلاة والسلام يريدون الدنيا وحطامها فأعطاهم الدنيا والآخرة، أتى الناس يطلبون بيوتاً ومزارع فأعطاهم جنة عرضها السموات والأرض.
وقف خطيباً في الناس، يقول: {أيها الناس! إني أعطي بعضكم لما جعل الله في قلوبهم من الهلع، وإني لأدع قوماً لما جعل الله في قلوبهم من الإيمان منهم عمرو بن تغلب: قال عمرو بن تغلب كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها} وهذا منطق المؤمن أن يقف أمام مغريات الدنيا، ويعلم أنه مهما جمع، ومهما حصل فيها فهو قليل في جانب ما عند الله {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] يقول الزبيري:
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
وقد شاهد الإنسان وهو يقرأ التاريخ؛ السلاطين، والأغنياء، والأثرياء، وأرباب الدنيا، وهم يمرون كمر السحاب {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] جمعوا وذهبوا.
في رحلة ابن بطوطة قال: " وصلت مكاناً وراء نهر سيحون وجيحون فوقفت في تربة هناك، فقال لي أحد الناس: في هذه التربة رأس ألف ملك " في هذه التربة مدفون ألف ملك من ملوك الدنيا انظر إليهم، فيقول الشاعر لما وقف على التربة:
وسلاطينهم سل الطين عنهم والرءوس العظام صارت عظاما
وكان علي بن أبي طالب في الكوفة، فدعا بإناء يشرب فيه من ماء، فأتي له بإناء من خزف من طين فخار الذي خلق منه الإنسان، فأتي بالإناء فبكى علي، قالوا: مالك؟ قال: [[الله يا طين، كم فيك من خدٍ أسيل، ومن طرف كحيل]] المعنى: كم وضع فيك من الأشلاء، وربما مزجت أنت والطين الذي معك من المقبرة، وكان فيه بقية أموات، يعبر عن ذلك أبو العلاء المعري بقصيدته الرائعة، السائرة، وهو يقول:
غيرُ مجدٍ في ملتي واعتقادي نوح باكٍ ولا ترنم شادي
وسواءٌ صوت الشجي إذا قيس بصوت النعي في كل نادي
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
صاح هذه قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد
وهذا منطق سديد، ولو أن صاحب هذه الأبيات ليس برشيد، لكن قد يقول الشيطان كلمة يصدق فيها أحياناً.
أما حبيبنا عليه الصلاة والسلام فإنه يتكلم لنا بأبلغ ما يتكلم به الإنسان للناس، ويحيي من هذه الكلمات أمة ما كان لها أن تعيش إلا بهذه الكلمات: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] والأمم لكل أمة مثلٌ أعلى، ولكل أمة وشدان وجدان؛ يعني: يشدها فمثلاً: الغربيون تشدهم الموسيقى، فالموسيقى معهم حتى في صفوف القتال، فمثلاً الصينيون يفخرون بالرقص، الشرقيون يحبون الترانيم، فهم دائماً إذا اجتمعوا ترنموا في مجالسهم، وأهل إفريقيا يحبون الألوان الباهتة والمزركشة، أما هذه الأمة فأحياها عليه الصلاة والسلام بالقرآن، حركها فتحركت وقامت مهللة مكبرة، ومع القرآن كلامه عليه الصلاة والسلام، فإن كلامه يؤثر ويصل إلى القلوب وينفع الله به.(56/2)
سبب قوله: (كرب الآخرة) وعدم قوله: (كرب الدنيا والآخرة)
يقول عليه الصلاة والسلام في هذه الجمل التي جعلتها بعنوان الجوائز السخية: {من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا؛ نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة} هنا سؤال، لماذا لم يقل عليه الصلاة والسلام: نفس الله عنه كربة من كرب الدنيا والآخرة، مع العلم أنه قال بعدها: {ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة}.(56/3)
كرب الدنيا لا يقارن بكرب الآخرة
أجاب أهل العلم بجوابين:
الجواب الأول: أن كرب الدنيا إذا قيست بكرب الآخرة، فإنها تكون سهلة، وليس فيها مضرة أبداً، ولا ألم إذا قيست بألم الآخرة، ففي الصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيغمس في النار غمسة واحدة ثم ينزع، فيقول الله له: هل رأيت نعيماً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا يا رب.
ويؤتى بأبئس أهل الدنيا من أهل الجنة، فيغمس في الجنة غمسة واحدة، فيقول الله له: هل مر بك بؤس قط؟ هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا يا رب}.
إذاً فألم الدنيا بالنسبة لألم الآخرة كلا شيء، ولا يعتبر شيئاً، ولا يقاس معه أي مقياس، لا حبس الدنيا، وجلدها وضربها، ولا جوعها وظمأها ومشقتها، لهذا لم يسمها عليه الصلاة والسلام كربة.
كان عامر بن عبد الله بن الزبير يزن نفسه، وكان يخرج ديته، وأعتق نفسه أربع مرات، فقد اشترى نفسه من الله أربع مرات، يحسب ديته فيتصدقها في الأيتام والفقراء والمساكين، قالوا: لماذا تفعل هذا؟ قال: [[لكربات يوم العرض الأكبر]].(56/4)
غالب الناس لا تصيبهم كرب في الدنيا
الثاني: قال أهل العلم: إنما قال عليه الصلاة والسلام: كربة من كرب يوم القيامة ولم يقل: كربة من كرب الدنيا: لأن بعض الناس يعيش في الدنيا ولا تمر به كربة، وهذا مشاهد من أحوال العالم، فإنك تجد بعض الناس سليماً معافى لا يصيبه شيء.
يقول صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري في كتاب المرضى: {المؤمن كالخامة من الزرع تفيئها الريح يمنة ويسرة، والمنافق كالأرزة لا تزال قائمة منتصبة حتى يكون انجعافها مرة واحدة}.
فدائماً المؤمن مصاب، ودائماً في أسى ولوعة، والفاجر تجده متماسكاً، لكن خزيه يوم العرض الأكبر.
والإنسان يتساءل: سبحان الله! كيف أن فجرة التاريخ، ومردة العالم لا يأتيهم قاصم يقصمهم! فيجيبك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بقوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42] الله يعلم وليس بغافل، ولكنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يصبر ولا أصبر ولا أحلم منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ} [إبراهيم:42 - 43] فمثلاً انظر إلى التاريخ: جنكيز خان وهولاكو ونصير الدين الطوسي وأبو مسلم الخراساني والحجاج وغيرهم من المجرمين، والمردة، والظلمة، تجد الواحد منهم يعتو ويعتو، والإنسان منا في نفسه يقول: سبحان الله! لماذا لم يهلكهم الله؟! بلغ السيل الزبا، فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42] هذا الجواب.(56/5)
كرب الدنيا وكرب الآخرة
ما هي كرب الدنيا، وما هي كرب الآخرة؟(56/6)
كرب الدنيا
أما كرب الدنيا فلا تسمى كرباً في الجملة، ولو سميت بذلك فذلك بنسبة الدنيا، كالدين، والحبس والمصائب والكوارث والحوادث، ولكنها عند المؤمن أسهل ما يكون، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن}.
وقوله عليه الصلاة والسلام: {من نفَّس عن مؤمن كربة} معنى نفَّس: أزال، وأزاح كربة مثل كربة الدَّين والجوع والمرض، وذلك يكون بقضاء الحوائج، والوقوف معه، والشفاعة، ورفع الظلم عنه، ونصرته، والذب عن عرضه، والمحاماة عنه؛ لأن {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً} ومن خذل مؤمناً في مجلسٍ كان يجب عليه أن ينصره فيه خذله الله عز وجل، ولا يجد له ناصراً.
وهذا أمر معلوم، لا يقل الإنسان: نفسي نفسي في المناصرة، بل لا بد للمسلم أن ينصر أخاه المسلم وذلك حق واجب عليه.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {يقول الله عز وجل يوم القيامة -يوم يحاسب العبد-: يا بن آدم! استطعمتك فلم تطعمني، فيقول: كيف أطعمك، وأنت رب العالمين؟! فيقول الله: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا بن آدم! مرضت فلم تعدني، فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! فيقول: مرض عبدي فلان، فلم تعده أما إنك لو عدته لوجدت ذلك عندي، يا بن آدم! استسقيتك فلم تسقني، قال: كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان ظمئ فما أسقيته، أما إنك لو أسقيته لوجدت ذلك عندي}.
وعند الترمذي قال عليه الصلاة والسلام: {أيما مؤمنٍ أطعم مؤمناً على جوعٍ أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مؤمنٍ سقى مؤمناً على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم -انظر إلى العبارات الهائلة وانظر إلى البلاغة في أرقى صورها- وأيما مؤمنٍ كسا مؤمناً على عري كساه الله من خضر الجنة} لماذا قال: من خضر الجنة؟ لأن ثياب أهل الجنة تأتي من ورق الجنة، تخرج هناك أوراق في الجنة فتفصل للعبد المؤمن ثياباً جاهزة كل يوم، هذه خضر الجنة.(56/7)
كرب يوم القيامة
الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم للأمة أمة التكافل، فيقول هنا: {نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة} والقيامة فيها كرب، ومن أعظم الكرب يوم القيامة ما يقع عند تطاير الصحف -نسأل الله لنا ولكم السلامة- فإنه يعطى فريقٌ باليمين وفريقٌ بالشمال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة:19 - 22] ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:25 - 28].
ثم من الكرب عند الميزان؛ فإن هناك ميزاناً دقيقاً، من الذي يحكم على الميزان؟! ومن الذي يقف عليه؟! هل تقف عليه الملائكة، أم الرسل، أم ملوك الدنيا، أم قضاة العالم؟!
إنه الله رب العالمين: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] لا ظلم، ولا هضم لحق أحد، فيقف الإنسان مبهوتاً أمام الميزان وهو خائف وجل أن ترجح السيئات بالحسنات، والله المستعان، ومن كرم الله عزوجل أنه إذا تساوت كفتا الحسنات والسيئات أدخل الله العبد الجنة.
ومن كرمه أيضاً أن يأتي بحسنات ما تصورها الإنسان، فيضعها الله في ميزان حسناته فيدخل الجنة.
ثم يقول عليه الصلاة والسلام: {ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة} انظر ما أحسن كلمة "يسر! " والله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم ميسراً قال: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] وقال: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:1 - 3] وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ووصف رسوله بأنه مسهل فقال: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]؛ أغلال اليهودية، وأغلال النصرانية، والأحكام الجائرة، والتكاليف، والشدائد في العبادات، ولو وضعت علينا ما استطعنا، كان الرجل من بني إسرائيل إذا مس البول شيئاً من ملابسه قطع الذي مسه البول، فلما أتى عليه الصلاة والسلام قال: {بعثت بالحنيفية السمحة} وكان يقول: {إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه} فهو سهلٌ في لباسه، يلبس مرة الجميل البديع، ويقول: {إن الله جميل يحب الجمال} ومرة يلبس المتواضع الذي يجده، حتى يلبس أحياناً صوفاً من شعر:
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بؤسها
ويأكل أحياناً ما لذ وطاب من الطعام، كالعسل واللحم، وأحياناً لا يجد كسرة الشعير.
وينام أحياناً عليه الصلاة والسلام هادئاً في مكانٍ مريح، وأحياناً ينام على التراب، ليكون قدوة لطبقات الناس جميعاً؛ لأنه مربي، فلا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، لا إلى المترفين الذين جعلوا حياتهم -فقط- أكلاً، وشرباً، ومناماً، ولا إلى الذين أزروا بأنفسهم وكانوا كالرهبان، وكعباد النصارى، لا.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143].(56/8)
ارحم الناس يرحمك الله
وقال صلى الله عليه وسلم: {ومن يسر على معسر} المعسر: تطلق على من أعسر في الدين، فتيسر عليه بأن ترجئه، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] أي: تنظره إلى أن ييسر الله عليه، ولا تلح عليه وأنت في سعة، ولا تذهب به إلى القاضي، ولا ترفع أمره، ولا تفضح ستره، بل ترجئه من دينه حتى يفرج الله دينه، فإنك إن فعلت ذلك تجاوز الله عنك يوم القيامة، وهذا أمر معلوم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: {من سره أن ينجيه الله عز وجل من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه} وممن يتجاوز الله عنهم يوم القيامة كما في الصحيحين: {رجلٌ كان يداين الناس في الدنيا، فيقول لكتابه: تجاوزوا عن فلان علَّ الله أن يتجاوز عنا، ففي يوم القيامة يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: تجاوزوا عنه -وفي لفظ- أنا أولى بالكرم منك تجاوزوا عنه} أي: لست أكرم مني، ما دمت تجاوزت أنت عن عبادي؛ فأنا أتجاوز عنك، فيتجاوز سُبحَانَهُ وَتَعَالى عنه ويدخله الجنة.
فقوله صلى الله عليه وسلم: {من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة} وبعض أهل العلم يقول: إن من وجد معسراً فأسلفه وأقرضه مالاً وأعطاه يدخل في هذا، بل يدخل في هذا دخولاً أولياً.
وهذا من التراحم، والجزاء من جنس العمل، ومن رحم الأمة رحمه الله، وفي صحيح مسلم تقول عائشة رضي الله عنها: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو في بيتي هذا: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به} فالجزاء من جنس العمل.(56/9)
الترهيب من كشف ستر الله على العباد
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: {ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة} فإننا نعلم من قوله صلى الله عليه وسلم: {الله ستيرٌ يحب الستر} المروي في الترمذي، أي أنه: ستير سُبحَانَهُ وَتَعَالى يحب الستر، ويحب أن يستر على العباد وألا تكشف أمورهم ولا يفضح ما أسروه؛ لأنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى يحب أن يضع كنفه وستره على العباد.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {يا من آمن بلسانه ولم يؤمن قلبه! لا تتبعوا عورات المسلمين؛ فإن من تتبع عورات المسلمين فضحه الله ولو في عقر داره} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وفي بعض الألفاظ: {تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في عقر داره}.
قال ابن رجب: يقول أحد العلماء: " وجدت أناساً لم تكن لهم ذنوب ولا عيوب، فبحثوا عن عيوب الناس فأبدى الله عيوبهم للناس، وكان هناك أناس لهم عيوب وذنوب ستروا الناس فستر الله عيوبهم وذنوبهم ":
لا تضع من مكان قدر عظيم بالتجري على العظيم الكريم
فالعظيم العظيم يصغر قدراً بالتجري على العظيم العظيم
ويقول الشافعي:
إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى ودينك محفوظٌ وعرضك صيِّنُ
لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ فكلك عورات وللناس ألسنُ
وعينك إن أبدت إليك معايباً لقوم فقل يا عين للناس أعينُ
يقول كعب بن زهير:
ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل
وهذا هو الذي يتكلم عن عيوب الناس وعن ذنوبهم، ويفضح تاريخهم، ويحب أن يشهر بهم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] قالوا: عذابهم في الدنيا: أن يشيع الله عنهم كل خبث، وعذابهم في الآخرة أن ينكل الله بهم جزاءً وفاقاً.
وعن ابن عمر عند الحاكم، وفي الموطأ مرسلاً قوله صلى الله عليه وسلم: {من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه الحد -وفي لفظ: نقم عليه كتاب الله}.
قال أهل العلم: يجب على المسلم إذا ابتلي بشيء من الذنوب ولو من الكبائر أن يستتر بستر الله، ولا يذهب فيشهر بنفسه، بل يتوب ويقلع عن الذنب.
وقال الإمام مالك: " أرى ألا يرفع إلى السلطان ".
وقال أحمد: لا يرفع إلى السلطان؛ لأن السلاطين كثيراً منهم من يقيمون الحدود على الضعيف ويتركون الشريف.
فيرى الإمام أحمد ألا يرفع إليهم.
وعند أبي داود والنسائي وأحمد والبخاري في الأدب المفرد وابن حبان قوله صلى الله عليه وسلم: {أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم} قال ابن القيم أي: في الحقوق وليس في الحدود، وهو الذي لا يعرف منه زلة، والمقصود هنا قوله عليه الصلاة والسلام: {ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة}.
إن على المسلم أن يستر المسلم، فلا يتتبع عورته، ومن ضمن ذلك: لا يجوز للمسلم أن يتسلق حائطاً ليرى أحداً إذا سمع عنه أنه يشرب الخمر، هل يشرب الخمر في عقر داره، ولا يصح له أن يتجسس عليه في بيته هل يستمع إلى الغناء أم لا حتى يرفع فيه، وليس له أن يدخل منزله ليرى هل فيه فواحش أو منكرات، وليس له إذا سمع أنه فَعل فِعلةً أن يرفعها إلى السلطان إلا من اشتهر بالفجور فأصبح فاجراً من الدرجة الأولى، فهذا يرفع، هذا هو الصحيح عند أهل العلم.
وقال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: {كل أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من المجاهرة: أن يبيت الرجل يستره ربه على ذنب، فيصبح يقول: يا فلان! فعلت كذا وكذا، وفعلت كذا وكذا، فأصبح يكشف ستر الله عليه، وقد بات ربه يستره} ولذلك بعضهم يتمدح، إذا فعل أفاعيل سرد تاريخه على الناس، حتى بعضهم إذا سافر مثلاً إلى أوروبا أو إلى بعض المدن المتهتكة، فأتى يذكر ويقول: كنا نفعل كذا، وكنا نفعل كذا، وهذا من المجاهرة.
وبعضهم يقول ذلك بحسن نية بعد أن يتوب، وهذا خطأ، حتى إن بعضاً ممن يعظ الناس ويرشدهم يقول: أنا -وهو أنا- كنت أفعل وأفعل، وكأنه من الخلفاء الراشدين: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} [النور:21].
وهناك طرفة ما أدري هل وقعت أم لا؛ يقولون: أحد الناس قام في مسجد، وقال: يا أيها الناس! كلنا على خطأ، أنا -وهو أنا- والله ما أضمن لنفسي دخول الجنة! ومن أنت؟! من أهل بدر الذي اطلع الله عليهم فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟!
قضية سرد القصص والحوادث التي مرت بالإنسان هي على خلاف منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهم الصحابة، ويكفي أن الإنسان يتوب ويقلع، أما أن يكون كلما وقف في موقف قال: كنت أسرق وأشرب الخمر وأفعل وأفعل، هذا خطأ، بل يتوب إلى الله عز وجل ويقلع، ولا يذكر لنا هذا فلسنا بحاجة إليه، وبعض الوعاظ يقول: إنها أمور تربوية، من أين تربوية؟! ولم يفعلها السلف الصالح، لا الصحابة ولا التابعون.
وورد في حديث ابن عمر الصحيح: {إن الله عز وجل يحاسب العبد يوم القيامة، فلما يقرره بذنوبه، يقول: أنا سترتها لك في الدنيا وأغفرها لك اليوم}.
ومن ستر المسلم: ألا تتحدث عما ستر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى من الذنوب والخطايا، فإن الجزاء من جنس العمل، وكذلك من الستر ألا تذكر الفواحش التي تقع كالمتلذذ بها؛ لأن بعض الناس يذكر ذلك تلذذاً، فيذكر فواحش المجتمع، ويذكر ما حدث من المواقف، ويذكر ما رأى وشاهد من أفلامٍ خليعة، ومن أشرطة جنس، ومن أماكنٍ اطلع عليها مثلاً، ويبدي صوراً خليعة، ويشيعها في المجالس بتشاؤم عجيب، وبروح متفطرة، وبنظرة سوداوية إلى هذا المجتمع وهذه الخليقة، وهذا خلاف نهج الرسول عليه الصلاة والسلام.
يقول في صحيح مسلم: {من قال: هلك الناس، فهو أهلكهم} وضبطت أهْلَكَهُم، وقيل: أهلكُهم، ومعنى: (أهلكُهم) أشدهم هلاكاً؛ لأنه أعجب بنفسه، وإن كان أهلكَهم بصيغة الفعل الماضي فمعناه: هو الذي أهلكهم بهذا الكلام؛ لأن الناس إذا كثر فيهم إشاعة الفاحشة تساهلوا بالمعاصي.
الشاب إذا سمع أن عشرين قصة عن الزنا قد وقعت، هان الزنا عنده؛ ولذلك يجب على الإنسان ألا يشيع الفاحشة في الذين آمنوا.(56/10)
الترغيب في إعانة العباد
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: {والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه} العبد: عبد الله، و {الناس عيال لله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله} وكلما أردت أن تتقرب إلى الله فحاول أن تتحبب إلى خلقه بإسداء المعروف إلى عباده سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
يقولون: أرسل الحسن البصري رحمه الله رجلاً إلى ثابت البناني؛ ليذهب مع هذا الرجل ويشفع له عند السلطان، فأتى إلى ثابت البناني وهو معتكف في المسجد، فقال الرجل: أرسلني إليك الحسن لتذهب معي إلى السلطان لتشفع لي، قال: أنا معتكف، فرجع إلى الحسن وقال: ثابت يبلغك السلام، ويقول: هو معتكف! فيقول الحسن: اذهب وقل له: يا أعيمش -وأعيمش تصغير أعمش وهو الذي في عيونه صغر أو قلة بصر- يا أعيمش! ذهابك في حاجة أخيك المسلم أفضل من حجة بعد حجة.
فذهب إليه، فقطع اعتكافه وذهب معه إلى السلطان.
ويقول الحسن البصري: [[يقول: أحدكم: أحج أحج أعتمر أعتمر نفس عن مكروب، صل رحماً، اعط فقيراً]] أو كما قال.(56/11)
مواقف من إعانة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه
{الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه}
وذكر الإمام أحمد في المسند أن خباب بن الأرت، لما ذهب يجاهد في سبيل الله كان عليه الصلاة والسلام يأتي إلى أهل خباب بن الأرت فيحلب لهم غنمهم، الله أكبر! الله أكبر! هؤلاء الذين يصفون أنفسهم بالعظمة والكبرياء، لا تصلح وجوههم أحذية للرسول صلى الله عليه وسلم، جلد جباههم لا تصلح أحذية له، يحلب شياه أسرة خباب بن الأرت.
معلم البشرية، أصفى جوهر خلقه الله من الخليقة، شفيع الناس، وأبرهم وأكرمهم، المنقذ بإذن الله، الذي هدى الأمة إلى صراط الله المستقيم، الذي يتنزل عليه جبريل صباح مساء بالوحي، يذهب إلى أحد الموالي من أمته، فيحلب لأهله الشياه في الأواني، ويدفع لهم اللبن، كما روى الإمام أحمد في المسند.
ولعلك تتأمل هذه القصة، لتعيش عظمة الإنسان الذي عرف طريقه، وعرف كيف ينقذ هذه الأمة، ثم تقارن بينه وبين أناس لا يسلمون على الناس، البشر ليسوا عندهم بشر إنما هم عنده كالحيوانات الأليفة، لا يسلم، ولا ينظر، ولا يتبسم، ولا يمد يده؛ وكأنه من جنس آخر، ودمه دم آخر، ففرق بين أن يأتي الإنسان يحمل هذا الدين: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فيأتي إلى إخوانه المؤمنين، فيرى أنه يوم يكون ذليلاً لهم قريباً منهم يكون قريباً من الله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54].
أسد عليَّ وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى إذ كان قلبك في جناحي طائر
هذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يحلب شياه خباب بن الأرت لبناته وأطفاله، هو الرجل الذي في حنين يصدم كتيبة قوامها ألف مقاتل من المقاتلين المدججين بالسلاح، يصدمها وحده، ويقول:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
كان الجيش الذي أمامه عشرة آلاف، وفر الصحابة جميعاً.
يذكرون ويقولون: عمر على شجاعته فر؛ لأنه رأى شيئاً لا يطاق، أصبحت السماء تلتهب بالنبل، ويقولون: أصبحت كالغمام حجبت شعاع الشمس، وفر الناس جميعاً، ووقف عليه الصلاة والسلام في موقف ضنكِ، ونزل عليه جبريل بقول الله: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84] معنى الكلام: لا تفر، احذر أن تتأخر خطوة، معناه: إذا تأخرت سوف ينكسر الدين، وتسحق {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
شاعرهم دريد بن الصمة يمدح هذا الجيش البالغ تعداده عشرة آلاف، ويمدح الكتيبة التي تسمى كتيبة القلب وكان فيها مالك بن عوف النصري، فيقول:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدججٍ سراتهم في الفارسي المسرد
يقول: هؤلاء الألف كلهم كالفارس المسرد؛ يعني: في الحلق الحديد، الدرع من أذنه إلى كعبه، لا يمكن أن يخترقه شيء، ووقف صلى الله عليه وسلم أمام الكتيبة فأخذ حفنة من التراب، ورماها في وجوههم وقال: شاهت الوجوه، ثم أخذ السيف وسله، فدمغ الكتيبة.
هذا هو الذي يحلب الشياه عليه الصلاة والسلام.(56/12)
مواقف من إعانة أبي بكر لرعيته
وكان أبو بكر الصديق له جيران، ذكر ذلك ابن رجب في جامع العلوم والحكم، كان له جيران قبل أن يلي الخلافة، كان يذهب إليهم بعد أن يحلب ناقته، فيذهب إليهم ويحلب شياههم، فلما تولى الخلافة قالت إحدى البنات: أبو بكر تولى الخلافة سوف يتركنا، قال: لا والله.
لا أغير عادتي قبل الخلافة.
فكان إذا انتهى من أمور الخلافة ذهب وحلب لهم الشياة، أبو بكر الصديق الذي يدعى يوم القيامة من ثمانية أبواب، من باب الصدقة، وباب الجهاد، وباب الريان، وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن العلم، يدعى يوم القيامة من كل باب؛ لأنه برز في كل ناحية، هذا يحلب الشياه.(56/13)
مواقف من إعانة عمر لرعيته
وعند أبي نعيم في الحلية، وكنت أنسبها أنا قبل لـ أبي بكر كما ذكر ابن القيم وأظنه قد وهم، فصاحب الحلية يقول: هي لـ عمر: - يقول: " كان عمر يخرج إلى جيران في طرف المدينة في خيمة فيحلب لهم شياههم، وكان معهم عجوز عمياء، لا عندها والي إلا الله، وهو خليفة، فلما خرج من الخيمة لحق طلحة وراءه، فقال للعجوز: من هذا؟ قالت: لا أعرفه.
قال: ماذا يفعل؟ قالت: يصنع طعامنا، ويكنس بيتنا، ويحلب شياهنا، فجلس طلحة يبكي ويقول: أتعبت الخلفاء بعدك يا عمر.
من يستطع أن يفعل مثلك؟! إنسان معه هموم الدنيا، يقاتل الفرس والروم، ويفتح سيحون وجيحون، وقادته تنتشر في كل مكان، ويدير الدولة الإسلامية في ثلاثة أرباع الكرة الأرضية من المدينة ومع ذلك يحلب الشياه لبعض رعاياه.(56/14)
الصحابة والتابعون من أنفع الناس للناس
قوله عليه الصلاة والسلام: {والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه} يقولون: سيد الناس خادمهم، وهذا مثل صحيح.
وكان ابن المبارك إذا رافق الناس وصحبهم في السفر، يشترط عليهم شرطاً وهو: أن يخدمهم في السفر، وهو أمير المؤمنين في الحديث؛ صاحب:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
وقال مجاهد: [[صحبت ابن عمر لأخدمه فكان يخدمني وكان يركبني على الفرس، ويسوي عليَّ ثيابي]] وابن عمر صحابي ومجاهد تابعي.
ونزل الناس في عهده عليه الصلاة والسلام منزلاً، فقام أحدهم وقال: أنا أذبح الشاة، وقال الثاني: أنا أسلخها، وقال الثالث: وأنا أطبخها، وقال صلى الله عليه وسلم: {وأنا أجمع الحطب} عليه الصلاة والسلام، فقام صلى الله عليه وسلم يجمع الحطب، وهذا يشتغل في شغله، وقرب إليهم عليه الصلاة والسلام مؤنتهم.
وفي الصحيحين: {أن الصحابة سافروا، فصام بعضهم، وبعضهم لم يصم، فأما الصوام فوقعوا في الأرض من الجوع والتعب، وأما المفطرون فقاموا وشدوا الخيام وملئوا البرك بالماء وطبخوا، فقال صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر} لماذا؟ لأن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.(56/15)
الإسلام لا يعرف البطالة
كان هناك رجل عابد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: {من ينفق عليه؟ قالوا: أخوه، قال: أخوه خير منه}.
وورد في بعض الآثار أن الرسول صلى الله عليه وسلم صافح رجلاً فوجد يده خشنة من العمل، قال: {إن هذه يد يحبها الله} هذه اليد الخشنة التي تأخذ وتزاول وتفعل يحبها الله، ومن المصائب أن الأمة الآن تعيش في بطالة، وكثير من الناس حتى الشباب الآن تجده ملتزماً مستقيماً لكن فيه بطالة، ويأتيه الشيطان ويترك الدراسة، والوظيفة، والعمل، وإذا قيل له: أتشتغل في البنشر؟ قال: هذا عيب في سوبر ماركت؟ قال: عيب أنا فلان أتنازل إلى هذا!! إذاً في مزرعة، قال: عيب، إذاً في مكتبة؟ قال: عيب، إذاً في التسجيلات؟ قال: عيب، وهكذا تأتيه الأنفة حتى يكون بلا عمل، وليس كل ذلك بعيب إنما العيب في البطالة، والعيب أن يجلس الإنسان عاطلاً وكلاً على أبيه مثل: الحجر الأدرن، لا تبني به ولا يتدحرج.
ولذلك تجد بعضهم عندهم تصوف هندوكي، وتخيلات في الحياة، يجلس في البيت حتى تأتيه الوسوسة.
لماذا لا تدرس؟ قال: الدراسة في الكليات ليس فيها بركة، ولماذا لا تعمل؟ قال: ما وجدت عملاً يناسبني، قال: ماذا تريد؟ قال: إن شاء الله أتزوج فيما بعد وأبحث عن عمل مناسب، ودائماً يتدين من الناس، ولو أدركه عمر بن الخطاب لمرغه في التراب.
كان في عهد عمر شباب دخلوا المسجد يعبدون الله عز وجل، وظنوا أنها سوف تنطلي هذه البطالة على عمر؛ لأن عمر يقوم على الدولة الإسلامية، التي أقيمت على {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وكان يلاحظ كل ما يجري، ويلاحظ كل منحى، ويسأل عن الداخل والخارج، وعن أمور الشباب والعلم، والقصاصين، والوعاظ، وعن كل دقيقة وجليلة يحاسب الناس، دخل المسجد وإذا مجموعة في الضحى، والناس في المزارع يشتغلون، والأنصار العباد الذين قدموا أنفسهم في بدر وحنين يسقون النخل، وهذا يجر الدلو من البئر ويصب، وهذا نجار، وهذا خشاب، وهذا يبيع السمن، وهذا يبيع العسل، وهذا يبيع الغنم، وعمر بنفسه يبيع ويشتري في السوق، إلا هذه المجموعة في المسجد!! قال عمر: [[من أنتم؟ قالوا: عبَّاد.
قال: سبحان الله! -كأن: عمر ليس بعابد؛ لأنه جاء من خارج المسجد! - قال: فمن يأتي لكم بطعامكم؟ قالوا: جيرانٌ لنا -أي أنهم يبقون في المسجد وقت الغداء، فإذا حانت الساعة الثانية أتى الأكل- انظروا العبادة كيف تكون!! قال عمر: انتظروا قليلاً -ظنوا أنه على العادة أنه سيأتي بأكل فذهب فأتى بالدرة- وتعرفون ما الدرة؟ وهذه درة عند عمر تخرج الشياطين من الرءوس، وهذه الدرة ما ضُرب بها إنسان إلا خرج سليماً بإذن الله، وزاد عقله ورشده، وأصبح يعرف طريقه! فأخذ الدرة، وأغلق أبواب المسجد وأتى يضربهم ضرباً حتى يبطحهم فلما أدماهم، قال: اخرجوا إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، فأخرجهم من المسجد، وأغلق أبواب المسجد]] أي أن الإسلام لا يقر الإنسان أن يبقى عالة وأيضاً متى كانت هذه الأعمال عيباً، متى كانت النجارة والخشابة، والبنشر عيباً؟! العيب: هو ترك هذه الأمور، أما هذا فهو شرف في الحياة، فقد عمل عليه الصلاة والسلام، وعمل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وقال صلى الله عليه وسلم: {لأن يأخذ أحدكم أحبلة فيذهب إلى جبل من الجبال، فيحتطب على ظهره فيبيع ويشتري خيرٌ له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه}.(56/16)
الجوائز التي ينالها طلاب العلم الشرعي(56/17)
سهولة الطريق إلى الجنة لطلاب العلم
ثم قال عليه الصلاة والسلام: {ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة} أقرب الطرق إلى الله طريق العلم الشرعي، علم قال الله وقال رسوله، فلا يدل على الله إلا العلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] كلما زاد علم الإنسان بالحقائق، وبالكون، وبأسرار هذه الخليقة، زاد قربه من الله.
الآن تجد المخترعين والمكتشفين أقرب الناس إلى الإسلام، وفي فترة من الفترات أسلم أذكى أذكيائهم.
سخروف هذا الذي مات قبل ستة أشهر، الذي أثبت ذبذبات النبات اقترب كلامه من الإسلام، لكنه ما اهتدى، لأنه ما وجد داعية يوجهه، فإن أساطينهم، وأذكياءهم أكثر من يدخل الدين.
وتجد رعاة البقر عندهم أبعد شيء عن الدين؛ لأن هؤلاء بلغوا من العلم حداً عجيباً، فدلهم العلم على الله، والله يقول: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18] العلم هنا: هو العلم الشرعي، قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وما قربك من الله كعلم التفكر في الكون، والمخترعات، وأسرار الكون وما وراء الكون كله يدلك على الله بشرط أن يكون عندك وثيقة لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، فكلما ازداد الإنسان علماً كلما ازداد قرباً من الله.
قال صلى الله عليه وسلم: {ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً} قال أهل العلم فيه: من أتى درساً، أو إلى عالمٍ، أو إلى طالب علم سهل الله طريقاً إلى الجنة، والآن ذهابك من بيتك إلى المسجد فإن الله يسهل لك به طريقاً إلى الجنة؛ لأنك تركت أشغالك وأعمالك وقصدت المسجد لا تريد شيئاً من الدنيا ولا تهرب من شيء فما أرغمك أحد أن تأتي هنا، وليس عندنا تحضير الأسماء والغياب، وليس عندنا أعمال سنة، ولا درجات، إنما الدرجات عند الواحد الأحد {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] أتيت حباً وخرجت حباً.(56/18)
غفران الذنوب لطلاب العلم
وأيضاً من الجوائز غفران الذنوب، {انصرفوا مغفوراً لكم قد رضيت عنكم وأرضيتموني} ولا يرضى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كرضاه عن مجالس الذكر، لأنها تظهر عظمة الإسلام؛ فمن صور عظمة الإسلام أن يجلس طالب صغير من طلاب العلم، فيجتمع جمع هائل بما فيهم العلماء والدعاة والصالحون والبررة والأخيار، فيستمعون إليه وهو يقول: يقول الله ويقول رسوله عليه الصلاة والسلام كذا وكذا، فالله سبحانه يرضى عنه.
وتجدون الآن في آخر الحديث ما هي الجوائز التي يحصل عليها الجلاس، وأنا أقول لكم بصراحة: إنه بالإمكان أن يأتي أضعاف مضاعفة على هذا العدد، ووقت المغرب إلى العشاء وقت مستهلك، إما أن تجلس في البيت فترد على الهاتف إلى صلاة العشاء كلامٌ أشبه شيء بالهذيان، وإما أن تجلس تشرب الشاي أو القهوة، وإما أن تتحدث كلاماً مع أطفالك وأنت معهم أربعاً وعشرين ساعة، وغيرها مما فيه مضيعة للأوقات وفي المقابل أنت تستطيع في الوقت الذي بين المغرب والعشاء أن تحصل على الأجور ما لا يحصل عليها كثير من العباد الذين صاموا وقاموا إذا قصدت بمجلسك وجه الله.
قال عطاء بن أبي رباح: " مجلس الذكر يكفر سبعين مجلساً من مجالس اللغو".
وكن كالعلماء الربانيين، والعلماء الربانيون هم الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره، وقال: هم الذين اتصلت نسبتهم بالله، وهم الذين دلوا الخليقة على الله عز وجل، والطرق المحذروة، وطرق الشيطان، وعرفوهم طريق الرحمن هؤلاء هم الربانيون، والله عزوجل تكفل أن ييسر كتابه لمن أراد أن يقرأه لقصد الهداية، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17].
قال مجاهد: " أخذ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على نفسه أن ييسر كتابه لمن أراد " أما من لم يرد أن يهتدي فقد قال الله عنهم: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [فصلت:44]؛ يعني: القرآن، قالوا: لا يقوم قارئ من القرآن إلا بزيادة أو نقص والله المستعان.(56/19)
سهولة اجتياز الصراط يوم القيامة لطلاب العلم
وقال ابن رجب: وفيه أن الطريق الحسي يسهل يوم القيامة لمن طلب العلم الشرعي.
والطريق الحسي هو الصراط المستقيم، فأسعد الناس بالصراط المستقيم من طلبوا العلم الموروث عن محمد عليه الصلاة والسلام، فمن تَعَلَّمَ آية أو حديثاً أو جلس في موعظة أو محاضرة، فإنه يسهل عليه المرور على الصراط يوم القيامة.
وقال أهل العلم: الناس بخير ما دام عندهم علماء.
وقال صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: {إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العلماء، ولكن بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا} وإذا مات طلبة العلم والعلماء ولم يكن لهم أثر، ولم يكن لهم تواجد، فاعلم أن هذا هو أول دمار الأمة.
وإذا قلَّت الدروس عند الأمة، والمواعظ، والحلقات، والمحاضرات وحجمت فهي خطوات دمار الأمة، وإذا رأيت الدروس منتشرة، والمحاضرات، والدعاة، والكلام في العلم الشرعي، والمسائل، والمفتين، وقال الله وقال رسوله، والحديث فيما يقرب من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فبشر الأمة بخير عميم.(56/20)
حديث آخر يبين فضائل طلب العلم
قال عليه الصلاة والسلام: {وما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده}.(56/21)
خيركم من تعلم القرآن وعلمه
أولاً: في مسألة: تدارس كتاب الله عزوجل، وأنه من أشرف الأمور، وفي صحيح البخاري: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه}.
وكان الصحابة يجتمعون عند عمر أحياناً، فيقول عمر لـ أبا موسى: [[ذكرنا ربنا يا أبا موسى]] فيندفع أبا موسى يقرأ والصحابة عنده، ويبكي عمر والصحابة، وكان صوت أبي موسى جميلاً، يقول له صلى الله عليه وسلم: {لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود} لكن مجالس الذكر الآن واجتماع الناس على القرآن قلت كثيراً؛ بسبب المغريات العصرية، والفتن التي تشهدها الأمة والمسلسلات والأغنيات والتمثيليات والنزوات والشهوات حتى تجد الإنسان إذا سمع القرآن لا يخشع أبداً ولا يتأثر؛ بسبب ما رأى، إنسان يرى عشرين مسلسلاً أو ثلاثين مسلسلاً ثم يأتي يوم الجمعة يسمع سورة تقرأ عليه، أين تقع هذه السورة من العشرين مسلسلاً، ومن المائة أغنية، ومن عشرين مجلة خليعة، والمائة فيلم، وشريط جنس، أين تقع؟!
أرى ألف بانٍ لم يقوموا لهادمٍ فكيف ببانٍ خلفه ألف هادمِ
فإذا أتت الأمة، وأتت قلوبها، وصودمت بهذه المفاجئات؛ أصبح الذكر ميتاً أو ضعيفاً أو مريضاً فلا يكون له أثر.
وهنا ألفت عنياتكم إلى أن الأوزاعي ومالكاً ذهبا إلى بدعية أن يجلس الناس جميعاً بعد صلاة الفجر في المسجد فيتحلقون ويقرءون القرآن.
وهذا رأيهما، وقد نقل عنهما، وإنما أقول ذلك لطلبة العلم للفائدة.
وسئل الأوزاعي عن ذلك فذكر أن حسان بن عطية يقول: " أول من أحدثه هشام بن إسماعيل المخزومي في عهد عبد الملك بن مروان ولم يكن معروفاً عند السلف.
لكن الجمهور من العلماء ذهبوا إلى أن هذا مما يقرب من الله عزوجل، وأن هذا عمل صالح، وليس ببدعة؛ واستدلوا على ذلك بما في الصحيحين عن أبي هريرة: {إن لله ملائكة يطوفون يلتمسون حلق الذكر، فإذا وجدوا حلقةً من حلق الذكر، جلسوا فيها إلى أن يصعدوا إلى الله ويسألهم} الحديث طويل، وهو في الصحيحين.
فهناك ملائكة يسيحون في الأرض يلتمسون حلق الذكر، فإذا وجدوا حلقة يذكر فيها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أو رسوله أو دينه جلسوا وحفوهم، فنسأل الله أن يجعلهم جلساءنا هذه الليلة.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: {هم القوم لا يشقى بهم جليسهم} روى هذا الحديث البخاري ومسلم والترمذي وأحمد وابن حبان، وفي صحيح مسلم ومسند أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان عن أبي سعيد الخدري قال: {معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله عز وجل، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكن كنت مع نفر من الصحابة ونحن نذكر الله في المسجد فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله عز وجل ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن علينا بك، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك؟ قال: والذي نفسي بيده، لقد نزل عليَّ جبريل الآن فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم ملائكته}
ومعنى يباهي: يفاخر، أي يقول: يا ملائكتي! انظروا إلى هؤلاء جلسوا في مسجد كذا وكذا يذكرونني، ومجالس الذكر أرضى ما يرضي الله عز وجل؛ وهي التي يفر منها الشيطان، ويتعمق فيها الإيمان، ويتقوى بها هذا الدين، وهي من أعظم الأمور.(56/22)
من الفضائل: نزول السكينة
وقال عليه الصلاة والسلام: {يتلون كتاب الله إلا نزلت عليهم السكينة} والسكينة من عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد نزلها على رسوله عليه الصلاة والسلام في الغار، ويوم حنين، وفي مواطن كثيرة، وهي اطمئنان وبرد وسلام، وراحة، وسعادة ينزلها الله على القلوب، فتسعد سعادة ما بعدها سعادة، وتفرح وتتمايل أشجارها، وتسيل أنهارها، ويسيل القلب في طرب شرعي لا يعلمه إلا الله.
فإذا نزعت السكينة من هذا القلب، أصبح خائفاً، ومضطرباً، وقلقاً، وفزعاً، لا يستقر على شيء {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
وهذه السكينة تحصل بالإيمان، وتحصل بمجالس الذكر التي يذكر فيها الرحمن.
في الصحيح أن أسيد بن الحضير رضي الله عنه وأرضاه؛ وهو أحد الأبطال الكبار، قيل: إنه قتل في معركة اليمامة رضي الله عنه وأرضاه وهو من الأنصار، وكان مقداماً، وقتل عديداً من الكفار، وهو من سادات بني عبد الأشهل {قام يصلي بالليل ويقرأ سورة الكهف بصوت شجي، فكانت فرسه تدور في مكان البيت، وتكاد أن ترفس، أو أن تطأ ابنه وهو نائم، فلما كادت أن تقطع حبلها، أنهى صلاته وسلم ثم أخذ الفرس ونظر إلى السماء، فإذا ظلة كالمصابيح فوق البيت، فوقف مدهوشاً مذهولاً، ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره قال: أرأيتها؟ قال: نعم.
قال: والذي نفسي بيده إنها الملائكة تنزلت لسماع قراءتك.
قال: ولو بقيت تقرأ حتى الصباح لرآها الناس لا تتوارى عنهم} {} [الإسراء:78] قال مجاهد: تشهده الملائكة، وما أحسن العبارة! ما أحسن التفسير! قال: "تشهده الملائكة" وقال غيره: تشهده ملائكة السماء.
والمقصود هنا بالقرآن قيل: هو قرآن الفجر الذي يتلوه الإمام في صلاة الفجر وقال غيرهم: القرآن بعد الفجر، والقرآن قبل الفجر، والصحيح كلها، فإذا بدأ الإمام يقرأ في صلاة الفجر نزلت الملائكة تشهد وتسمع القرآن الذي هو كلام الله عزوجل، وهذه من السكينة.(56/23)
من الفضائل: غشيان الرحمة
وأما غشيان الرحمة فإن رحمته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى واسعة وهي خاصة وعامة؛ خاصة للمؤمنين وهي معنى الرحيم {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب:43] والرحمن عامة للمؤمن والكافر وفي الدنيا والآخرة، يقول سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] وفي الحديث الصحيح: {إن رحمتي سبقت غضبي} فنسأل الله أن يرحمنا وإياكم رحمة عامة وخاصة.
في مجالس الذكر تغشى الرحمة الجالسين كلهم، فيدخل فيهم حتى من قصر في العمل؛ لأن المؤمنين يقولون: وهب المسيئين منا للمحسنين، والمعنى: من جلس منا محسناً فأدخل المسيء منا معه، ولذلك يقول أحدهم: يا أيها المقصر! اهجم هجمة الكذابين على باب الباذلين كأنك طفيلي، وقف بيدك على الباب وقل: تصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين، علَّ الله أن يفتح لك الباب.
فأنت إذا جلست مع الأخيار لحقت بهم.
يقول ابن كثير في تفسيره: "الكلب لما رافق الأخيار في القرآن، ذكره الله في القرآن: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18] ".
ذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان أن الخليع الشاعر كان رافضياً، يحب الرافضة، فلما أتته سكرات الموت أمر أن يدفن في النجف، وأمر أن يكتب على قبره {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18] يستحق، قالوا: فلما مات، حملوه، وحفروا له قبر في النجف، وكتبوا: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18].
يقول ابن كثير: فانظر كيف شرفه الله، لما رافق الصالحين فبقي الكلب يصاحبهم في القصة من أولها إلى آخرها.
هكذا تكون رفقة الصالحين:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة
وقال غيره:
عن المرء لا تسألْ وسل عن قرينه فكل قرينٍ بالمقارن يقتدي
ولذلك تجد الخيّر إذا رافق الأشرار أصابه الشر والذلة والحسرة حتى يلحق بهم، ولو كان بريئاً، فيقولون: فلان يرافق فلاناً السيء انتبهوا له، فتصبح عليه وسام عار، ووصمة عيب.(56/24)
من الفضائل: أنهم تحفهم الملائكة
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: {وحفتهم الملائكة}؛ فإن لله ملائكة، ومعتقد أهل السنة والجماعة أن لله ملائكة، نؤمن بهم على الجملة والتفصيل، وأن الله جعل لهم تخصصات: منهم ملائكة القطر، وأخرى لتنزل الذكر كجبريل الذي نزل على الرسول عليه الصلاة والسلام، وملك الجبل هذا مهمته فقط الجبال، وملك للريح، وملك آخر لقبض الأرواح {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60] وملك للصحف، وحفظة يحفظونه من أمر الله أي: بأمر الله، وملائكة فضلاً، يقول في الحديث عند مسلم فضلاً: أي زائداً على عدد الملائكة وليس لهم عمل خاص محدد غير البحث عن حِلَق الذكر يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موطن أربع أصابع إلا فيه ملك ساجد أو راكع أو قائم} {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] لما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30]؛ يعني: على النار تسعة عشر، فضحك أبو جهل، ووضع رداءه على وجهه يضحك، المجرم؛ الخبيث؛ ويغمز لأصحابه المجرمين، ويقول: تسعة عشر، أنا أكفيكم يا قريش بعشرة واكفوني بتسعة؛ انظر بطولة الفجور والخيانة!! فأنزل الله بعدها: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] هذا للتسعة عشر منهم، الواحد له من الأجنحة ما يسد الجناح الواحد ما بين المشرق والمغرب، فهذا جبريل عليه السلام بجناح واحد أخذ قرى قوم لوط ستمائة ألف، ورفعها حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب ثم قلبها وألحقهم بالحجارة، هذا ملك من الملائكة، فكيف بالآخرين الذين في السماء الرصد الهائل والجيوش؟ الله عزوجل لما اتصل به رسوله في بدر، يقول: إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض، فنزل جبريل يقود معه ألف من الملائكة، فيقول حسان؛ ويحق لـ حسان أن تندفع قريحته الشاعرية الهائلة، يتفجر بأشرف بيت قالته العرب يقول:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمدُ
يقول: يا مجرم يا أبا جهل! من عندك تحت اللواء؟ من هي قيادتك؟ من الذي يصدر لك الأوامر؟ الشيطان!! {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:48].
وأقصد من كلامي هذا أن أقول: إن هناك ملائكة فضلاً؛ -أي زيادة- يدورون على حلق الذكر وهم الذين يحفونها؛ لأنه ليس عندهم عمل إلا هذا، ولله المثل الأعلى.
يقول: عملهم أنهم يخبرون، ويرفعون الأذكار، كما في صحيح مسلم، قال: {هل رأوني؟ -وربهم أعلم بهم- قالوا: ما رأوك.
قال: كيف لو رأوني؟! قالوا: كانوا أكثر تسبيحاً لك، قالوا: ويستعيذونك.
قال: مم يستعيذونني؟ -وهو بهم أعلم- قالوا: من النار.
قال: هل رأوها؟! قالوا: ما رأوها.
قال: كيف لو رأوها؟! قالوا: كانوا أشد استعاذة.
قالوا: ويسألونك، قال: ماذا يسألونني؟ قالوا: الجنة، قال: هل رأوها؟! قالوا: ما رأوها قال: كيف لو رأوها؟! قالوا: كانوا أكثر مسألة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقولون: يا رب! معهم فلان إنما جلس معهم هكذا} ما جلس للدرس أو للمحاضرة إنما صلى المغرب ثم اضطر للجلوس لحاجة {قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم} قال أهل العلم: هكذا أي: ما قصد المجلس ولا قصد الذكر وما قصد أن يستفيد، فغفر الله له بسببهم.(56/25)
من الفضائل: أن الله يذكرهم
ويذكرهم سبحانه عنده، وفي الصحيحين: {أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم}
اذكرونا مثل ذكرانا لكم رُبَّ ذكرى قربت من نزحا
واذكروا صباً إذا شاد بكم شرب الدمع وعاف القدحا
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وهذا جزاء الذاكرين الله، خاصة في ملأ؛ لأنك الآن ذكرك مع مجموعة أفضل من ذكرك وحدك، فمع المجموعة تعلن قوة الإسلام فإننا لماذا نصلي الجمعة سواء؟ ولماذا نحج سواء؟ ولماذا نصلي العيد سواء؟ كل ذلك لنظهر تضامن المسلمين، وعظمة الدين، وأن هذه الكثرة الكاثرة تعلن أنها تحت عبودية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].(56/26)
تقوى الله هي ميزان التفاضل بين الناس
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: {ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه} المعنى: إن من اعتمد على نسبه، ولم يعتن بعمله فإنه لا ينفعه ذلك عند الله شيئاً، وأن صاحب النسب العظيم والعمل الحقير لا ينتفع بنسبه، ولا ينفعه عند الله إنما ينفعه العمل.
وكان عليه الصلاة والسلام يقول في الصحيح: {يا بني هاشم! لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم} لأن بعض الناس الآن يعتمد على نسبه، ودائماً في كل مجلس يذكر سلالته، وأنه ابن فلان، وأن أباه فعل وصنع، وجده كذلك، وهذا كما في الأدب المفرد للبخاري بسند حسن: {من افتخر بتسعة آباء في الجاهلية فهو عاشرهم في النار} فبعض الناس دائماً يفتخر على حساب الآخرين بسلالته وبنسبه وبأصالته وبإقليمه وبمنطقته وببلده، وهذا التمييز العنصري الذي قسم العالم الإسلامي وجزأه ما أنزل الله به من سلطان.
أنزل الله عزوجل نسباً عظيماً للأمة وهو: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] رفع بلالاً وجعله أكرم من أبي جهل المخزومي، ومن الوليد بن المغيرة، ومن أمية بن خلف.
وجعل سلمان الفارسي من أهل البيت، ورفع صهيباً وخباباً وابن مسعود، لكن بعض الناس لعدم تصوره لهذا الدين، ولعدم انشراح صدره لهذه الرسالة؛ لا يزال يحمل في رأسه التمييز العنصري على الأجناس والأشخاص، والدول، والأقاليم -أقصد المسلمين- العالم الإسلامي، فتجده يتميز وينحاز، ويظهر التفاخر على الناس؛ لأنه من إقليم كذا، أو من أسرة كذا، أو من قبيلة كذا، وهذا خطأ ومخالف للكتاب والسنة.
لهذا يقول صلى الله عليه وسلم: {يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئاً} والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا} فالنسب الطيب مع الإيمان، خير على خير، أما أن يكون النسب مصدر إزعاج للآخرين وتعالي وتكبر وتفاخر فهذا هو الويل والدمار:
إذا فخرت بآباء لهم شرفٌ نعم صدقت ولكن بئسما ولدوا
إن الفتى من يقول: هأنذا ليس الفتى من يقول: كان أبي
وقال الآخر:
خذ بحد السيف واترك نصله واعتبر حسن الفتى دون الحلل
إلى آخر ما قال.
وأما مجتمع المسلمين الآن فهم بعيدون عن: {من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه} فإن بين الناس أموراً تعارض السنة من ضمنها -وهذه لم يستطع لها أعلم العلماء وأعظم الدعاة حلاً- وهي مسألة النسب، وهذا قبيلي وهذا غير قبيلي، وعدم التزاوج من الصنفين، وهذا الأمر يخالف الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم.
فبعض الأسر جعلت تتناءى أن تتزوج من أسرٍ أخرى أقل نسباً منها، ولو عدنا إلى أصل السند ورأس الشجرة وصلنا كلنا إلى آدم وحواء، فكل هذا العالم -الأحمر والأسود والأشقر- يرجع إلى آدم وحواء {كلكم من آدم وآدم من تراب}.
فهذا الذي يفتخر على الناس يرجع إلى التراب، وما على الإنسان إلا أن يعرف أن الفضل في الإسلام إنما هو بتقوى الله، وليس بغير، وأن من قدم أموراً أخرى كالنسب والمال والجاه والمنصب، إنما هو من قلة فقهه في دين الله عزوجل، ولعدم معرفته بشرعه تبارك وتعالى.
هذا ما لزم في هذا الدرس، وقد انتهى، وبقي بعض الأسئلة، ونسأل الله أن يتولانا وإياكم بعين رعايته، وأن يهدينا وإياكم سبل السلام.(56/27)
الأسئلة(56/28)
راجيف غاندي
السؤال
ما رأيك في راجيف غاندي؟
الجواب
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
هذا يفرح بموته.
طفح السرور عليَّ حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
من بشرنا بقتل مثله فله حمل بعير وأنا بذلك زعيم على الدعاة.(56/29)
النوم على الفرشة ليس من التصوف
السؤال
إذا كنت لا أرغب إلا في النوم على الفرشة دون فراش، وقد يكون ذلك أنفع لصحتي فهل هذا تصوف؟
الجواب
لا.
بارك الله لك في فرشتك، ولو نمت على الرصيف ما عليك، ما دام أنفع لصحتك فافعل ما بدا لك.
لكن لا يكون هذا تحريماً لما أحل الله، أو تقشفاً قد يضر بالصحة؛ لأن بعض الناس بلغ به التقشف مبلغاً عظيماً، ومن يقرأ في سير بعض الناس يجد عجباً عجيباً.
يقول الذهبي في سيرة أحدهم: "ترك الطعام والشراب ثلاثة أيام يعبد الله في غرفة" يسبح ويستغفر وترك الغداء والعشاء ثلاثة أيام، فظهرت له أشباح دخان، فأخذ يقول: الملائكة تنزلت عليَّ.
فقال الذهبي: "لا والله ما تنزلت عليك الملائكة، ولكن عقلك طاش وفاش وخاش".
وذكر الخطابي عن رجلٍ أنه جعل على عينه اليسرى لاصقاً، وقال: من الإسراف أن أنظر إلى الدنيا بعينين!! هذا هو المذموم.(56/30)
الوساطة قسمين: حسنة وسيئة
السؤال
هل تعتبر الواسطة من باب العون للمسلم، ويؤجر عليها؟
الجواب
الواسطة على قسمين:
واسطة محرمة، وواسطة مأجور صاحبها، وهذه تسمى شفاعة، ولكن الواسطة اسم حادث.
فأما من شفع، أو من توسط في إزاحة حق عن مسلم أو توسط في باطل، أو دون حد من الحدود؛ فهذا مأزور غير مأجور، وهذا من دعاة أبواب جهنم -والعياذ بالله- ممن يصرفون الحق عن مستحقيه، كبعض الناس ما همه إلا أن يصرف الحقوق عن أهلها، أو يتعدى على أموال الناس، أو يعطل أرزاقهم، الناس يصبحون كل صباح يقولون: نسأل الله من فضله، وهو دائماً في باب الفضل، ودائماً في باب أرزاقهم، فبعض الناس مهمته هكذا كلما أتى خير دفعه، وكلما أتى شر أكده، وكلما أتى شيء عفو منعه.
حتى يذكر شيخ الإسلام رحمه الله وابن القيم عن نصير الدين الطوسي الرافضي الذي كان مستشاراً لـ هولاكو أن هولاكو أتى إلى بغداد وأراد أن يعفو عن المسلمين لما رأى الأيتام والمساكين والأرامل، لكن هذا المجرم نصير الدين الطوسي قال: لا تعف عنهم هم فعلوا وفعلوا وأرى أن تقتلهم بالسيف، فقتل في ساعة واحدة سبعة وثلاثين ألفاً، فهذا ومن كان على شاكلته دائماً يوحي بالشر ويقف في وجه الخير ويوقد نار الفتنة، وإذا قال الناس كلمات الخير نطق بكلمة الشر فلا يحب العفو ولا التسامح، ولا أن يستمر الخير.
وأما شفيع الخير؛ فهو الذي جعل الله له جاهاً طيباً، وهو الذي له الثناء الحسن، كما حكى الله عن إبراهيم إذ يقول: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء:84] وهو الثناء الحسن، وهو الذي يتحمل حمالات الناس، ويقف بحوائجهم عند أبواب السلاطين، ويرفع شكاياتهم، ويرفع الضيم عنهم، ويأخذ أمورهم ومعاملاتهم ويقدمها، ويقف معهم كأنه يقف مع أموره الخاصة، فهذا جزاؤه عند الله، أن يكون الله في عونه، وأن ينفس عنه كرب الآخرة، وأن يتولاه في من تولى، وهذا صنفه كثير في العالم الإسلامي، كـ رجاء بن حيوة رحمه الله ورضي الله عنه؛ فهو الذي كان سبباً في تولية عمر بن عبد العزيز، انظر هذا المستشار العظيم الصالح العالم،! كان رجاء بن حيوة؛ مجتهداً مطلقاً، وكان مستشاراً لـ سليمان بن عبد الملك وسليمان أراد أن يولي ابنه أيوب الخلافة، فكتب مرسوماً أني إذا مت تولى بعدي ابني أيوب، فمات أيوب قبل أن يموت الخليفة، فلما حضرت سكرات الموت سليمان بن عبد الملك تلعثم ماذا يقول، إخوانه الأشقاء يريدون الخلافة وهم ظلمة، ورجاء بن حيوة يريد أن يعطيها الولي الصالح المجتهد المطلق عمر بن عبد العزيز ابن عمهم، فوقف فكان سليمان يبكي على فراش الموت ويقول وهو في سكرات الموت:
إن بني فتية صغار أفلح من كان له كبار
قال عمر بن عبد العزيز: لا والله لكن {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15].
فقال لـ رجاء بن حيوة: من أولي؟ قال: إن أردت أن تلقى الله وأنت من السعداء، فول عمر بن عبد العزيز.
فقال اكتب: فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، وليت عمر بن عبد العزيز ثم مات، فلفَّ رجاء الورقة وجعلها في جيبه وقدم على المنبر وصعد، وقال: يا أيها الناس! تبايعون لمن في الصحيفة؟ قالوا: نبايع.
فقام يزيد وهشام إخوان سليمان بالسيوف، قالوا: اقرأ الصحيفة، قال: لا أقرؤها حتى يبايع الناس؟ قالوا: إما بايعتم وإلا قتلناكم.
قالوا: نبايع.
فأخرج الصحيفة فإذا هو عمر بن عبد العزيز.
فهذا شفيع عند الله يقول: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85].
والناس كثير منهم لا يستطيع أن يرفع حاجته، ولا أن يرفع ضيمه، ولا أن يقدم لنفسه نفعاً، على سبيل المثال: بعضهم تجده سنوات تمر به لا يستطيع أن يدخل لبيته مثلاً خدمة الماء أو الكهرباء أو الهاتف، بينما بعض الناس في لحظة يتصل بالهاتف: بسم الله أنا أبو فلان لا يأتي صلاة الظهر إلا والهاتف موجود، فهذا يستخدم ثقله في نفع الناس، ونفع المصابين، والأرامل، وهو المأجور عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو صاحب قدم الصدق.
هذا تقسيم الوساطات منه الحسن ومنه السيء، والله المستعان.(56/31)
ثلاث نصائح للداعية المسلم
السؤال
حصلت على بطاقة داعية وأريد التوجيه لي والإرشاد؟
الجواب
أولاً: بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير! وهذه البطاقة سوف تكون لك شهادة عند الله عزوجل إذا صدقت وأحسنت استخدامها فيما ينفع، وأنا أوصيك بثلاث مسائل:
الأولى: أن تخلص العمل لوجه الله، فتكون دعوتك ليكون الدين كله لله؛ لأنه لا يصلح أن يكون قصد الداعية إلا أن يكون الدين كله لله، وترتفع (لا إله إلا الله) أرفع من كل شيء في الأرض، تكون لا إله إلا الله دائماً رفيعة، وتبقى كلمة الله هي العليا.
الثاني: أرى أن تطلب العلم دائماً؛ فإن الداعية لا بد له أن يتعلم، ولابد أن يتزود من الفقه في الدين حتى يكون على بصيرة.
الثالث: أرى أن تلين للناس، ولا تكن فظاً، ولا تتخذ قصص بعض الناس ممن مروا في التاريخ يقولون: كان هذا يكسر، وكان هذا يضرب، وكان هذا يلطم؛ هذه لا تصلح {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] {وما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع الرفق من شيء إلا شانه} فالله الله في الرفق، وفي الهدوء، وفي مخاطبة الناس باللين حتى تكسبهم.
بقي بعض المسائل أشير إليها وهي:
حاول أن تتكلم للناس في كبار المسائل قبل صغارها؛ فإن الاشتغال مثلاً بصغار المسائل ليس من الحكمة.
الآن تجد من الناس من جعل قضية تقصير الثياب قضية كبرى، فلا يتحدث في المحاضرات إلا عنها، وهي لابد منها، لكن لابد أن تأخذ حجمها، لا أن تترك العقيدة وأمور الإسلام والأركان والكبائر، وتأتي إلى هذه الجزئية تستهلك بها وقتك، ليس من الحكمة.
ثم أرى كذلك أنك لا تظهر عيوب الناس عندهم؛ وأنكم تفعلون كذا، وتفعلون كذا، وسمعت عنكم كذا، بل اذكر ما فيهم من مناقب، ونبه على المثالب بشيء من الأدب والاحتياط حتى يقبلوك؛ لأن الناس لا يرضون بأن يقف إنسان فيهم يجرحهم، ويجرح مشاعرهم، يعني: أحياناً بعض الناس يذهب إلى قرية، أو قبيلة من القبائل فيجتمعون ويقوم واعظاً فيهم، ويقول: سمعت عنكم أنتم يا أهل هذه القبيلة، أنكم من أغلى الناس في المهور، وأن بينكم الحسد والبغضاء، وأنكم متناحرون، هؤلاء تنغلق أفهامهم، وأسماعهم وأبصارهم تماماً، كيف تجرح الناس وتريد أن يسمعوا منك؟!
كان عليه الصلاة والسلام إذا تحدث يقول في سوق عكاظ لبني عبد الله؛ وهي قبيلة من قبائل العرب، قال: {يا بني عبد الله! إن الله أحسن اسم أبيكم فأحسنوا استجابتكم لله} ما أحسن المقدمة! وكان يتودد إلى الناس ويحبب بنفسه حتى كسبهم، حتى يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
وهذه هي الأعجوبة أن يصيد قلوب قبائل العرب، وأن يوجههم معه عليه الصلاة والسلام.
ونسأل الله لنا ولكم الهداية، والتوفيق والسداد، والعون والرشاد.
ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ألا يصرفنا من هذا المكان إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وتجارة لن تبور.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(56/32)
أمسية شعرية في القرعاء
إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحراً، والأدب والشعر على مدار التاريخ كان وما يزال وسيلة لنشر الأفكار والمبادئ بين الجماهير، وذلك لما يشتمل عليه من الطرافة والمتعة ونقل الكلمة بأسلوب يأخذ بالألباب.
وإن الدعوة الإسلامية لم تأخذ حظها بعد من هذه الوسيلة الجماهيرية في هذا العصر مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم وظفها في خدمة الدعوة.
والشيخ عائض لامتلاكه ناصية الشعر قولاً ونقلاً أراد أن يختط هذا الخط جنباً إلى جنب مع كثير من دعاة الإسلام الذي يمتلكون هذه الموهبة، ومن ضمن أمسياته الأدبية الممتعة هذه الأمسية الشعرية المتنوعة.(57/1)
مقطوعة ترحيبية
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراًً ونذيراًَ، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، أتى بالقلم والسيف، أتى باللسان والسنان، أتى بالمنبر والميدان، أتى بالكلمة الصادقة والدعوة الناجحة، أتى بالخلود، أتى بكلمة الأدب، يوم لا يعرف الناس الأدب إلا ما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
شكراً لهذا الاستقبال وهذه الحفاوة.
أهلاً وسهلاً والسلام عليكمُ وتحيةً مِنَّا تُزَفُّ إليكمُ
ولو علمتُ أنني أُسْتَقْبَل بهذه المقطوعة؛ لهيأت مقطوعة أخرى، لكنني أعدكم، وهو دين إن شاء الله وعارية مضمونة تصلكم إلى بيوتكم.
ضيوف الخير قد شرفتمونا بلقياكم ربوع الجو طابا
فـ (أبها) من زيارتكم تباهت بثوب الخلد أطلقت الضبابا
كأن اشبيليا نُقِلت بـ أبها فأحيت في ضمائرنا الطلابا
وسار شذا العبير بكل وادٍ فعانق في تسرعه الضبابا
وتبدو الشمس من خدرٍ خجولاً وإن شاءت تكنفت السحابا
فيا عصر الشبيبة دُمْت عصراً ويا عصر الصبا حي الشبابا
فإني سوف أذكرك اعتباراً إذاضمر القنا والرأس شابا
ومثلي ومثلكم هذه الليلة كمثل الشاعر الإيراني السُّنِّي/ الشيرازي سعد، وهو شاعر من شعراء العالم، يقول:
قال لي المحبوب لما زرته مَن ببابي قلت بالباب أنا
قال لي أخطأت تعريف الهوى حينما فرقت فيه بيننا
ومضى عام فلما جئته أطرق الباب عليه موهنا
قال لي من أنتَ قلتُ انظر فما ثَمَّ إلا أنتَ بالباب هنا
قال لي أحسنتَ تعريف الهوى وعرفتَ الحبَّ فادخل يا أنا
فأقول لكم: أنا أنتم، وأنتم أنا، فمن أنا؟!
وهذه القصائد، أسأل الله -عز وجل- أن يجعلها في ميزان الحسنات، صحيحٌ أن الكلمة الطيبة لا يُقْتَضَى أن تكون نثراً فحسب، بل نرجو الله أن تكون كذلك شعراً، يوم يُحَاسَبُ المبطلون على كلماتهم، والناكثون على تصرفاتهم.
وسوف أختار لكم هذه الليلة بعض المقطوعات، ولا بأس أن أُوْقَفَ أثناء القصائد، فمن عنده طرفة، أو سؤال عن بيت، أو طلب لبعض القصائد العربية المشهورة، أو الإسلامية فلا بأس؛ لأننا نريد أن يكون هذا مجلساً مفتوحاً، لا يكون حكراً على أحد، أو حرماً لا يباح إلا لشخص، بل هو لنا جميعاً، فمن عنده شيء أو تذكر شيئاً أو مقطوعة أو بيتاً، فليرفع يده مشكوراً ويسأل.(57/2)
قصيدة: أين الشباب عن الساحة
هذا بعض القصيد، وهذه قصيدة عنوانها: (أين الشباب عن الساحة) سوف أختار منها بعض الأبيات:
يا طالع اليُمْن حيوا لي محياهُ نداء حق من الفصحى سمعناهُ
قد أطرب الأذن فانصاعت لنغمته وأطرقت برهة تصغي لفحواهُ
يقول للجيلِ والإيمانُ رافده عودوا إلى الله قد ناداكم اللهُ
صحا فؤادي على صوت وموعظة ولام من كان قبل اليوم أغفاهُ
وجاءكم في رحاب الهدي مبتهجاً لعله أن تنال الخير يُمناهُ
نادٍ كريمٌ شباب الحق مهجته الدين نغمته والحق معناهُ
إسلامُ! أبشر بجيلٍ أنتَ رائدهم قد فاز من منهج الإسلام ربَّاهُ
يا رب! عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناهُ
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناهُ
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناهُ
ونركب الجو في أمن وفي دعةٍ فما سقطنا؛ لأن الحافظ اللهُ
كن كالصحابة في زهد وفي ورعٍ القوم هم، ما لهم في الناس أشباهُ
عباد ليل إذا جنَّ الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأُسْدُ غابٍِ إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون لقياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
وربما كانت هذا القصيدة (وهي طويلة) تربو على (80) بيتاً، معارضة لقصيدة محمود غنيم التي يقول فيها:
ما لي وللنجم يرعاني وأرعاهُ أمسى كلانا يعاف الغمضَ جفناهُ
إلى أن يقول:
يا من يرى عمراً تكسوه بردتُه والزيتُ أدم له والكوخ مأواهُ
يهتز كسرى على كرسيه فََرَقاً من خوفه وملوك الروم تخشاهُ(57/3)
قصيدة: أرحنا بها يا بلال
وهذه قصيدة أخرى اسمها: (أرحنا بها يا بلال) كان - عليه الصلاة والسلام - إذا كربه أمر، أو اهتم، أو حزن، قال لـ بلال: {أرحنا بها} أي: بالصلاة، فحُق لكل مسلم أن يرتاح بالصلاة:
وقل لـ بلال العزم من قلبِ صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به تلق أبواب السماء الثمانيا
قم أطرب الدنيا بلال بنغمة قدسية تحيي بها الأسحارا
ليموت صوت البغي في ميلاده وأداً ويبقى صوتكم قهَّارا
قم يا بلال أعد نشيدك في الورى للعالمين ورتل الإنذارا
ودع التماثيل التي قد صورت جذذاً ومزق عبدها الخوارا
هذا نموذج منها، وسوف ننتقل إلى بعض القصائد المطولة.(57/4)
قصيدة: ثناء وتبجيل لمعلم الجيل
قصيدة في الثناء والتبجيل لمعلم الجيل صلى الله عليه وسلم، والرسولُ عليه الصلاة والسلام أصْدَقُ المدْحِ ما صُرِفَ له، والله عز وجل يحب المدح.
في الطبراني: عن الأسود بن سريع قال: {وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إني نَظَمْتُ قصيدة أمدح بها ربي سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فقال صلى الله عليه وسلم: أما إن ربك يحب المدح} وفي (الأدب المفرد) للبخاري قال الأسود بن سريع: {ركبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أتحفظ شيئاً من شعر أمية بن أبي الصلت، قلتُ: نعم.
قال: هاتِ، فأنشدتُه قافية، قال: هيه، فأنشدتُه الثانية، قال: هيه، حتى أنشدته مائة بيت، فقال: آمَنَ شعرُه، وكَفَرَ قلبُه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
الأماني على لسانك أحلى فأعد يا حبيب عصراً تولى
لم أقضِّ لبانة العمرفيه ونهاني المشيب لما أطلا
أعصر الليل في كئوس من الحزن وأدعو الصباح حتى أملا
وأنادي الدجى بهمسة حب فارغ الصبر من لسان لعلا
ذكريات مع الرسول وحب تستثير الشجون منه الأجلا
كلما مر ذكره في فؤادي قال قلب المحب: أهلاً وسهلا
كيف أحكمت يا عظيم بناءً هو من كل مشرق العمر أعلى
وتفانيت في بناء كيان أنت أوليته عطاء وبذلا
كلما صغت جملة من نضار أنبتت دوحة من المجد جلا
وإذا ما ابتسمت أبدعتَ جيلاً مرهف الحس يمتطي كل مُثلى
المعالي تصوغ منك وتبني فيك آمالها وترجوك خلا
والليالي تنورت بشموس أنت أرسلتها عفافاً ونبلا
والصحاري إذا مشيتَ رياضٌ ملئت بالجمال حسناً ودلا(57/5)
البوصيري وقصائد المديح النبوي
وأنا مسبوق من كثير من الشعراء في مدحه صلى الله عليه وسلم، منهم: البوصيري الإمام الصوفي، ولولا أنه إمامٌ في صوفيته، ولولا أنه عكر قصيدته ببعض الشركيات في آخرها، لكانت من أروع القصائد، إذ يقول في مطلعها:
أمِن تَذُكُّر جيران بـ ذي سلم مزجت دمعاً جرى من مقلة بدمِ
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة وأومض البرق في الظلماء من إضم
إلى أن يقول في مدحه صلى الله عليه وسلم:
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدمِ
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأممِ(57/6)
شوقي يعارض البوصيري في المديح النبوي
وقد عارض أحمد شوقي البوصيري بقصيدته التي يقول في مطلعها:
ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحُرُمِ
إلى أن يقول فيه صلى الله عليه وسلم:
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدمِ
كنت الإمام لهم والجمع محتفل أعظم بمثلك من هادٍ ومؤتممِ
لما خطرت به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلمِ
حتى بلغت مكاناً لا يطار له على جناح ولا يسعى على قدمِ
وقيل كل نبي عند رتبته ويا محمد هذا العرش فاستلمِ
ومن المقطوعات فيه صلى الله عليه وسلم:
نسينا في ودادك كل غالٍ فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرفاً نلام وما علينا
ولم نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمرالله بعدك ما سلينا(57/7)
من أشعار الزهد
ومما يؤثر عن الإمام علي رضي الله عنه أبي الحسن أنه كان يقول:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك تربتها والزعفران حشيش نابت فيها
وعلى منوال هذه القصيدة قلت:
دنياك تزهو ولا تدري بما فيها إياك إياك لا تأمن عواديها
تحلو الحياة لأجيال فتنعشهم ويدرك الموتُ أجيالاًَ فيفنيها
يا رب نفسي كبت مما ألم بها فزكها يا كريم أنت هاديها
هامت إليك فلما أجهدت تعباً رنت إليك فحنت قبل حاديها
إذا تشكت كلال السير أسعفها شوق اللقاء فتعدو في تدانيها
حتى إذا ما كبت خوفاً لخالقها ترقرق الدمع حزناً من مآقيها
لا العذر يجدي ولا التأجيل ينفعها وكيف تبدي اعتذاراً عند واليها
فإن عفوت فظني فيك يا أملي وإن سطوت فقد حلت بجانيها
إن لم تجرني برشد منك في سفري فسوف أبقى ضليلاً في الفلاتيْها(57/8)
قصيدة: على أرض الكويت
ومن القصائد التي أتذكرها قصيدة اسمها: (على أرض الكويت) ألْقِيَتْ هذه القصيدة في مهرجان شباب جامعات الخليج في الكويت، وهذا اللقاء كان بين شباب جامعات المملكة والإمارات وقطر والبحرين والكويت والعراق:
حيوا الكويت ففيها الملتقى الرحِب والرأي والعزم والأبطال والنجب
وانثر ثناءك مسكاً زاكياً عبقاً كأنما هو صوت الخلد ينسكب
اسق المعنى بنار الحب علله ماء الخليج فقلب الصب ملتهب
كويت ما عرف الأحباب غربتنا وقد أساء بنا الواشون إذ كذبوا
لا تحسن العذر منا ألف قافية لأن من يطلب الأعذار لا يهب
هذي الجزيرة قد غادرتها وجلاًَ من الفراق وقد أضناني النصب
أما تراني براني الهم في صغري لم يبق يا صاح إلا العظم والعصب
تركت نجداً شذا الريحان يأسرها في أرضها يتغنى الشعر والخطب
وللحجاز عتاب في أرومته يسبي القلوب فيا أهلاً به عتب
سل الجمال بأرض الله أين غدا تجيب أبها ويروي السهل والحدب
من فقد ذياك صار الهم يصحبني فالطرف منتبهٌ والنجم منتصب
وخفف الوجد إخوانٌ لنا هتفت لهم شئون فؤادي والتقى النسب
فجددت ذكريات الحب رؤيتهم فقد نسيت غداة الجمع من ذهبوا
خذوا سلامي إلى أرض العراق ففي أحشائها الدهر والتاريخ والحقب
وعرجوا بـ دبي فانثروا قبلي على تراب الرُبى هذي هي القرب
كم في المنامة من خل ومعرفة وكم على دوحة الأخيار من صحبوا
فيحفظ الحب قلبي في عمان ولو قالوا: بعدت فإن الوصل مقترب
أتيت أحمل أحزاني لأنثرها في محفل زانه الإفضال والأدب
وأمتي في بحور الخوف غارقة لم تدرِ أين هو المسلوب والسلب
أضحى يمزقها من ليس يرحمها وفي دماها هواة القتل قد خضبوا
تحاول اللات والعزى خديعتها وتعتري أرضها الأصنام والنصب
إلى آخر القصيدة.(57/9)
تحية للحاضرين
هذه تحية، ونحولها هذه الليلة إليكم، قيلت في أناس غيركم، هذه رباعية فقط:
مع الأشواق أحملها إليكم على كف النسيم المشرئب
ترتلها دموع الحب لحناً ويرسلها الضمير إلى المحب
غرست به أمانٍ رائعات فأطلعت الوداد بأرض قلبي
لهيب الشوق تطفئه دموعي مع الإخوان قد خلفت صحبي(57/10)
أرجوزة القرني
ونقف مع أرجوزة مشهورة، وأظن أنه يعرفها الكثير؛ ولا بأس من إعادتها.
هذا الأرجوزة قيلت بمناسبة أمسية شعرية كانت في الرياض.
والأراجيز عند العرب هو: بحر الرجز، وهو حمار الشعراء، أي أن كل إنسان لا يستطيع أن يَنْظم، له أن يركب هذا الحمار، فيصبح ناظماً وشاعراً، ولذلك أكثر ما ينظم العلماء على بحر الرجز، مثل ابن مالك في منظومته الرائعه في النحو:
قال محمد هو ابن مالك أحمد ربي الله خير مالك
وعارضه كثير من الناس على هذا المنوال.
ومن بين نَظَم ابن مالك يقول:
ولا يجوز الابتدا بالنكره ما لم تُفِدْ كـ (عندَ زيدٍ نَمِرَه)
فقلتُ في منظومتي:
ولا يجوز الابتدا بالنكره ومن أجاز ذاك فهو بقره
فقلت في القصيدة:
يقول عائض هو القرني أحمد ربي وهو لي وليُّ
مصلياً على رسول الله مذكراً بالله كل لاهي
قد جئت من أبها صباحاًباكرا مشاركاً لحفلكم وشاكرا
وحَمَلَتْنَا في السما طياره تطفح تارة وتهوي تارة
قائدها أظنه أمريكي تراه في هيئته كالديكِ
قد حدث الحجة في طهران عن آية الله ورفسنجاني
بأن من مات قريب كربلا فهو إلى الفردوس حقاً مقبلا
وأن من فر من اليهود فمات خوفاً فهو كالشهيد
وهذه القصيدة تحكي قصة سفري إلى المدينة المنورة، ومن المدينة إلى عنيزة إلى الشيخ/ ابن عثيمين، ثم إلى الرياض، إلى أن أقول:
وابن عثيمين وصلنا داره أمتعنا بمجلس أداره
وقد وصلنا حلقة الجزائري فقال: أهلاً مرحباً بزائري
الجزائري: هو أبو بكر الجزائري(57/11)
المغزى من هذه الأرجوزة
وهذه القصيدة ليست فكاهية، على ظاهرها أنها مزح فقط، بل إن لها إن شاء الله معانٍ، فمن ضمن الأبيات: أنني قلت في بعض الناس من الشباب الذين نسأل الله أن يهديهم والذين آثروا طريق الغواية على طريق الرشد، ويفتخرون بالسفر إلى البلاد الأجنبية، فبعضهم يفتخر أنه سافر إلى لندن، وإلى واشنطن وأمريكا، ويحدث الناس، ويعيد هذا الخبر ويبديه، وهذا من الذلة التي وقعنا فيها، كانوا قديماً في القرون الفاضلة يفتخرون أن يسافروا إلى بلادنا، فيأتي الفرنجة يجلسون مجالسهم، ويقولون: زرنا بغداد، وزرنا دمشق، ووصلنا إلى مكة، وإلى المدينة، وأصبحنا الآن نفتخر أن زرنا بلادهم، فهولاء قلتُ فيهم:
ومن يزور لندناً في عمرة له ثواب حجة وعمرة
وشيخهم (ريجان) في الفرائضِ وعلمه قد جاء بالنقائضِ
وذلك على مذهبهم، فنسأل الله لنا ولهم الهداية.(57/12)
حب الإمارة
مما يُبْتلى به بعض الناس والذي نهى صلى الله عليه وسلم عنه، حب الإمارة وحب المنصب، وبعض الناس مجبول في بنيته وفي خلقته حب الإمارة، إذا تخاوى مع الناس أحب أن يتأمر، وأن ينفذ الناس ويسمعوا لقوله، فهذه فتنة المناصب التي ذمها صلى الله عليه وسلم ونهى أبا ذر عن الإمارة، وقال: {نعمت المرضعة، وبئست الفاطمة} وهذه قصيدة رباعية في المناصب، أربعة أبيات:
يتهاوون كالفراش هياماً كلهم همه حصول المناصب
علمتهم أفكارهم كيف يرقون وفي الجو منهم ألف غاصب
لم تخولهم المواهب تقديراً فما القوم من رجال المواهب
حينما شابهوا الزمان دعاهم والزمان التعيس يهوى الحبايب(57/13)
ذم الكبر ومدح التواضع
وهذا متكبر، ونعوذ بالله من الكبر، والكبر قرين الشرك، بل هو ركن من أركان الكفر، وإذا رأيت إنساناً متكبراً، ولو تقمص قميص الدعاة أو طلبة العلم، فقد تمت خسارته في الدنيا والآخرة، ومن تكبر فقد نازع الله - سُبحَانَهُ وَتَعَالى - رداء الألوهية والربوبية، ومن أخذ الكبر قصمه الله وعذبه؛ فنعوذ بالله من الكبر.
قلت في رباعية نظمتها في خطبة جمعة عن المتكبرين؛ لأن الخطبة كانت في مدح التواضع وذم الكبر والمتكبرين، ومن صفات المتكبر أنه دائماً غضبان، ويظهر عليه التزمت والانقباض وقلة الابتسام، بخلاف الطلق السهل البشوش؛ الذي يرحب ويحيي ويبش ويهش؛ فهذه علامات التواضع، ولذلك كانت هذه سيرة محمد صلى الله عليه وسلم، كما يقول جرير بن عبد الله البجلي: {ما رآني صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي} وسئل أحد العلماء: ما هو السحر الحلال؟ قال: تبسمك في وجوه الرجال، ويقول زهير بن أبي سلمى، يمدح هرم بن سنان:
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
فقلت:
وجوههم من سواد الكبر كالحة كأنما أوردوا غضبى إلى النارِ
هانوا على الله فاستاءت مناظرهم يا ويحهم من مناكيد وفجار
ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً أهدوك من نورهم ما يتحف الساري
أي: المتواضعين من طلبة العلم والدعاة من أمثالكم واشباهكم.
تروى وتشبع من سيماء طلعتهم بوصفهم ذكروك الواحد الباري
بدون أن تأكل أو تشرب إذا رأيتهم تروى وتشبع.
من تلقَ منهم تقل: لاقيتُ سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
وفي المتكبر يقول:
أنت من أنت يا شبيه الزرافه يا عظيماً في كِبْرِهِ والسخافة
من هو هذا المتكبر؟ كيف أتى؟ وإلى أين يذهب؟
خفف الوطء ما رأيناك شيئاً كلما زدت كبرةً زدت آفه
هل توهمت أن جدتك الكبرى تولت على الأنام الخلافه
جدتك الكبرى: أي: الثالثة.
أم لأن العلوم صيغت جميعاً في دماغ ما فيه إلا الخرافه(57/14)
أهلاً رمضان
وفي رمضان رباعية ترحب بشهر رمضان:
مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيام يا حبيباً زارنا في كل عام
قد لقيناك بحب مفعم كل حب في سوى المولى حرام
فاغفر اللهم ربي ذنبنا ثم زدنا من عطاياك الجسام
لا تعاقبنا فقد عاقبنا قلق أسهرنا جنح الظلام(57/15)
قصيدة: صوت الريح
وهذا صوت الريح، يقول:
على كتلة من رمال الهموم رقدت لأسمع صوت الرياح
لأنسى بها كل ما زارني من الحزن حتى يزور الصباح
ففاجأني الليل في غمضة ثقيل الخطى جاثماً في الوشاح
فقلت: أما كان يكفي أسى مآسي حتى نكأت الجراح
فقال يقولون إن اللبيب إذا سَلَّ همته ما استراح(57/16)
قصيدة: بلال بن رباح
وأما بلال بن رباح فلنا معه عودة، يقول في بلال، وفي ندائه بـ (لا إله إلا الله) على منائر المسلمين:
ماست على شفتيك نغمة بلبل فانساب ماء الحب في الخد الجلي
وتطايرت ومضات عينك أنجماً تُهْدى لكل مكبر ومهلل
تسقي حُمَيا الموتِ ألف أمية أحدٌ هتفت بها لكل معطل
نازلتهم وقذائف التوحيد من كفيك تهوي للجبان الأنذل
فسحقت طاغوت الضلالة معلناً نصراً على رغم المهين الأعزل
أبلال فاسلم يا سواد محاجر أشبهت إنسان العيون الأجمل(57/17)
محمد إقبال يفتخر بالمسلمين
هذه قصيدة تهدى لكل طالب علم، ولكل داعية يترك أهله، ويترك الحواشي، ويترك بيته ساعات من الزمن ليخرج مع شباب الأمة، وليفقه في دين الله، وليعلم، وليبذل من وقته؛ لأن للوقت زكاة، وللعلم زكاة، وللعمر زكاة، وما خيرة الحياة أن يبقى الإنسان مع بنياته، ومع أطفاله، وفي مطبخه، والأمة ضائعة هائمة ما تجد من يوجهها، فلذلك يدعى كل شاب بهذه القصيدة، وكل من عنده ثقة، وكل من عنده عزيمة، وكل من يريد الله والدار الآخرة إلى أن يخرج إلى ساحة المسلمين، إلى أن يخرج مع شباب الإسلام، إلى أن يبذل من وقته، إلى أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، مثلما خرج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى يقول إقبال، يصف تلك النهضة التي بعثها محمد صلى الله عليه وسلم وبثها في الناس، فخرجوا من المدينة، وبعد خمس وعشرين سنة أصبح بعض الصحابة والتابعين في بلاد السند، وفي طاشقند، وفي الأندلس، وأصبحوا في جنوب أفريقيا، يقول محمد إقبال يمدح الصحابة:
ومن الذي رفع السيوف ليرفع اسـ ـمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالا في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الأفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنسَ إفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها حلياً وصاغ الكنز والدينارا
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا(57/18)
ربعي في موقف العزة
دخل ربعي بن عامر، وهو شاب في سنٍ كأسنانكم، وثيابه ممزقة، ورمحه مثلم، وفرسه هزيل، دخل على رستم الكافر العاتي الفاجر، في معركة القادسية، قبل أن تبدأ المعركة، مع رستم ثلاثمائة ألف، ومع ربعي وهو مع سعد بن أبي وقاص في جيشه ثلاثون ألفاً، فلما دخل ربعي على رستم ضحك رستم وضحك وزراؤه، وقال رستم: جئتم تفتحون الدنيا بهذا الفرس المعقور، وهذا الرمح المثلم، وهذه الثياب الممزقة؟ فضحك ربعي ضحكة المنتصر الذي يعتز بدينه، والذي خرج من وطنه يرفع اسم الله - عز وجل - قال: [[نعم.
جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان، إلى عدل الإسلام]] وبعد ثلاثة أيام أتت هذه الخيول الهزيلة، والرماح المثلمة، والثياب الممزقة، فدكت - بإذن الله - إمبراطورية كسرى، وسوتها بالأرض، فأصبحت قاعاً صفصفاً، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً.
ودخل سعد فلما رأى قصر كسرى، قصر العمالة، قصر الضلالة، قصر البغي والعدوان والجهالة، دمعت عينا سعد دموع الفرح المبتسم المبتهج بنصر الله وقال: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عليهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:25 - 29] وهناك: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].
إلى حيث ألقت رحلها أم قشعمِِ(57/19)
قصيدة عن شمولية الإسلام
هذه القصيدة القيت في الرياض
يا رياض الخير قد جئت وفي جعبتي أبها بلقياك تسامى
حلفت لا تشرب الماء ولا تأكل الزاد ولا تلقى مناما
أو ترى الأحباب في نجد فإن لم تجدهم صار ممساها حراما
أنت يا جارتنا والجار لا يهجر الجار ولو باع الذماما
ما ذكرت الرَّبع إلا زادني ذكره دمعاً على الخد وساما
ومَن التي حلفت؟ هي: أبها، والضمير يعود إلى أقرب مذكور.
إلى أن قلت:
لا تحدثني عن العمران في أرضكم يا صاحِ والأهل يتامى
بعض الناس يتصور أن العمران هو أن تبنى القصور الشاهقة، وناطحات السحاب، وأن تسفلت الطرق، وأن تكهرب، وأن تبنى الحدائق، وهذا كله عمران لكنه دنيوي، وأعظم العمران عمران القلوب والأرواح، وأن نسير إلى الله عز وجل، وأن نتحد في المسير إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
أنا لا أرغب سكنى القصر ما دام قلبي في جثى الذل مُساما
صل ما شئت وصم فالدين لا يعرف العابد من صلى وصاما
أي: صلى وصاما فحسب، وظن أن هذه كل العبادة.
واجعل السبحة مترين وخذ عُمَّة بيضاء واصبغها رخاما
واترك العالم في غوغائه يتلظى في لياليه اضطراما
أنت قسيس من الرهبان ما أنت من أحمد يكفيك الملاما
تترك الساحة للأوغاد ما بين قزم مقرف يلوي الزماما
للأوغاد: أي: لكل فاجر.
أو دَعِيٍّ فاجر أوقع في أمتي جرحاً أبى ذاك التئاما
لا تخادعني بزي الشيخ ما دامت الدنيا بلاءً وظلاما
أنت تأليفك للأموات ما أنت إلا مترف حب الكلاما
لأن هناك تأليفاً للأحياء، وتأليفاً للأموات، فتأليف الأحياء: أن يخلص الإنسان اتجاهه ومنهجه إلى الله، منتهجاً كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي بهذا الكلام فيصبه في قلب كل شاب، وفي قلب كل مؤمن، فهذا التأليف للأحياء، والتأليف للأموات: أن يغلق عليه بابه، ثم يأتي بكتب السلف، فيتلقف ما كتبوا فيها، ويعارضه، ويدلل على بطلان مسمياته، فيزيد على الحواشي حواشياً، وعلى المتن متناً، وعلى الغبار غباراً، وهذا ليس بتأليف.
كل يوم تشرح المتن على مذهب التقليد قد زدت قساما
والحواشي السود أشغلت بها حينما خفت من الباغي حساما
لا تقل شيخي كلاماً وانتظر عمر فتوى مثلكم خمسون عاما
والسياسات حِمَىً محظورة لا تدانيها فتلقيك حطاما
فخذ الأجيال في ساح الوغى واسق أعداء الهدى كأساً زؤاما
رتل الحق بصوت الحق في لجة الأمواج لا تخش الزحاما
صوتك المعروف فجر صادق فحنانيك تقدمنا إماما(57/20)
مع النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته
وقلت في وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة:
عد بذكراك على قلب كسير راعه الحزن وأضناه المسير
حزناً من أمة غارقة في الأمالي وهي في نوم نكير
سامها الأعداء خسفاً فجثت تتحامى سطوة الباغي الحقير
خالفت نهج رسول الله بل نَسِيَت سيرته وهو البشير
في ضمير الكون سجلت الهدى وسقيت القلب من وحي نمير
كلما أبصرك القلب هفا حولك البِيْد رغاء وزئير
قاطع الصحراء وثباً للعلا دونما أي جواد أو بعير
والفيافي حالمات بالمنى عجباً من قلبك الفذ الكبير
هل درت أم القرى ماذا جرى لبِِسَتْ بعدك ثوباً من سعير
وبكى الغار على فرقاك لو أسْعَفَتْه الرجل أضحى في مسير
والرمال العُفْر صارت حللا تتلقاك بتصفيق مثير
والبشارات همت في يثرب كهنيء الغيث في اليوم المطير
والمحبون قليل صبرهم قبل لقياك ألا أين البشير
فدموع الحب تروي قصصاً إنما الحب دموع وزفير
شخصت نحوك أبصار الورى طلع البدر فذا ليل منير
ولكم أن تسألوا، ومن ليس عنده سؤال فليتهيأ بسؤال؛ لئلا تبقى الجلسة سرداً؛ لأننا نريد بعض المشاركة.
هذه القصائد فيها جديد وفيها قديم، وما أظنكم اطلعتم على: (مع بلال) أو (بلال ماسِت على شفتيك) ولا (متكبر) ولا (الهمة) ولا بعض المقطوعات، فأريد أن أعتذر؛ لأن الجديد يحتاج شيئاً من الوقت، وأنا وعدتكم بمقطوعة لكم خاصة هدية؛ لأنني فوجئت بتلك المقطوعة، فإن شاء الله تكون سَلَفَاً، وإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم.(57/21)
مع ابن المبارك
ابن المبارك: تعرفون أنه من علماء الأمة، كان يحفظ ما لذ وطاب، وكان يقول ما لذ وطاب، وهو صاحب تلك الأبيات التي قالها يوم خرج يبذل مهجته في سبيل الله، خرج من مكة، ومعه الفضيل بن عياض، فأبى الفضيل أن يخرج، وأما ابن المبارك فخرج رضي الله عنه وأرضاه فقال له الناس: ابقَ معنا، فقال:
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
ولما أصبح ابن المبارك في الجبهة أتته رسالة من الفضيل يلومه على الخروج، فكتب إليه تلك الأبيات الرقيقة التي جُلُّكم يحفظها:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
فأنا أشكر للأخ/ زيدان هذه المشاركة، وإن دل على شيء فإنما يدل على أنه يريد أن يتحف دعوته ونثره بشيء من الشعر، ويدوِّن منه خُطَبَه؛ ليكون من دعاة الإسلام، هو وأمثاله من شباب هذا الدين.(57/22)
رثاء
في سنن الترمذي: قال أحد الرواة: وقفت عائشة رضي الله عنها على قبر أخيها عبد الرحمن فبكت ثم قالت:
وكنا كندماني جذيمة برهة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
فهي قد استشهدت بأبيات لـ متمم بن نويرة في أخيه مالك.
وأعتذر لمقالة الشيخ أن هذا قديم، ويريد الجديد، وأعتذر بأني شغلت عن الشعر بما أسأل الله أن يكون خيراً منه، وهو الحديث النبوي.
فقد يأخذ الشعر من وقت المسلم أكثر مما يراد، وإنما كل شيء بقدر: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:3] فأنا أبحث في الحديث النبوي، وهذا شرف شرفني الله به، أسأل الله أن يعيذني وإياكم من تبعاته، وأن يجعلنا ممن إذا علم شيئاً عمل به.(57/23)
الأسئلة(57/24)
إنشاد شعر الغزل في المسجد
السؤال
هل يجوز إنشاد شعر الغزل في المسجد؟
الجواب
أولاً: الشعر في الجملة: يجوز في المسجد إذا خلا من أمور:
ففي صحيح البخاري: {أن حسان كان ينشد في المسجد، فلحظ إليه عمر فقال حسان: كنت أنشد وفيه من هو خير منك، فقال حسان إلى أبي هريرة: فقال: نعم}.
وكان صلى الله عليه وسلم يقرب منبره لـ حسان، ويقول: {اهجهم وروح القدس يؤيدك}.
ومما يروى أن كعب بن زهير أنشد: (بانت سعاد) في المسجد.
ولكن أورد ابن حجر في الإصابة حديثاً، يقول صلى الله عليه وسلم: {من سمعتموه ينشد في المسجد فقولوا: فض الله فاك} فيُجمع بينهما: أن الشعر الإسلامي، والمطلوب، والذي يشيد بالدعوة وبالكتاب والسنة، هذا ينشد في المسجد.
أما إن كان شعراً فيه غزل أو مجون أو هجاء لأعراض الناس، فهذا لا ينشد في المسجد، ويُذَم.
أما الغزل العفيف فلا أرى بأساً، أن يفتتح به في قصيدة في المسجد.
مثل:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ متيم إثرها لم يفد مكبولُ
ومثل شعر حسان:
طوبى لمعتَرَك من الآرام قبل الأصيل كعاكف أو رامي
إلى آخر ما قال.
فمثل قصائده، تكون عفيفة، وبقدر الحاجة، وفي استهلال القصيدة، فلا بأس بذلك.(57/25)
قصيدة بانت سعاد
السؤال
سمعت أن قصيدة كعب بن زهير: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول، أنه ليس هو القائل، بل قائلها غيره، لما فيها من الغزل؟
الجواب
لا.
بل هو قائلها، وهو الذي اشتهرت عنه، وكتب السيرة تقول ذلك، وما قالها أحد غيره، وأما الغزل: فقد قلت لك: إنه قد قال الغزل من هو خير من كعب، كـ حسان في شعره، ولا بأس به إذا كان عفيفاً، ولم تُشَبَّه فيه النساء.
صل على من شق له طلعة القمر شفيع الملا يوم نبعث من القبور
وانت رفيقي لا تزود من الغرر وخذ لك متاعك واترك الفاني الغرور
أي: خذ متاعك من الدنيا، وهو الزاد: العمل الصالح، واترك الفاني الغرور: الذي هو العمل الذي لا يرضي الله عز وجل إلى غير ذلك، لكن لا نشجع على النبطي؛ لأنه هدم للغة العربية، ومحاربة لها وللنحو وللغة الضاد، ولكتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل المرجو إلغاء هذا النبطي، ومحاربته، ومحاصرته، والتضييق عليه، وتشجيع الكلمة الفصيحة، والشعر الفصيح؛ لأن هذا هو المطلوب.(57/26)
ذم الشعر الحر
السؤال
ما هو الشعر الحر؟
الجواب
الشعر الحر بارك الله فيك: {ما أسكر كثيره فقليله حرام} هذا الشعر الحر أصبح الناس على هذه الوتيرة كلهم شعراء، فيكفي أن الإنسان إذا أراد أن يقول كلاماً أن يأتي بكلام لا يفهمه الناس، فيقول: أنا شاعر، وأنا قد لا أقبل الحكم؛ لأن توجه بعض الناظمين والأدباء إلى الشعر العربي الفصيح المقفى الموزون.
فهم ما يقبلون حكمنا في هذا، ونحن كذلك ما نقبل قولهم، لكن لم يعرف عند العرب هذا الشعر، وإنما هو حادث، والبحور عند العرب (16) بحراً، وجعله بعضهم إلى (17) بحراً، ولكن ما عندهم (18) بحراً، أن يأتي بقصائد منثورة ومقامات، وخطب ومواعظ ومحاضرات، ويقول: هذه قصائد.
هذا شعر فرنسا، جاء من هناك.(57/27)
العرضة
السؤال
ما رأيك في (العرضة)؟
الجواب
نحن خرجنا من الأدب إلى الفتاوى، نقول في العرضة: لا تجوز، وليس هذا مجال بحثنا، وليست جائزة للرجال إذا كان فيها طبل ومزمار، لأنها من آلات العزف التي أخبر صلى الله عليه وسلم أن الأمة سوف تستحلها.(57/28)
شعر سعد الشيرازي وفكرة وحدة الوجود
السؤال
أبيات الشيرازي سعد أليس فيها شيء من فكرة وحدة الوجود؟
الجواب
قد يكون فيها شيءٌ من فكرة وحدة الوجود، لكن أنا استدللت بها هذه الليلة في أمر، وهو أننا نحن وإياكم شيء واحد من الحب، أي: أننا متساوون في الحب ونتبادل الحب؛ لأننا أصبحنا هيكلاً واحداً كما يدعي أهل وحدة الوجود، {وإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم}.(57/29)
أبها في أمسية شعرية
السؤال
نرجو أن تعطونا شعراً في مدينتكم؟
الجواب
وهذا موجود، وهذه قصيدة (أبها في أمسية شعرية) سوف تسمعونها بإذن الله:
أيها العاذل لا تعتب علي قد كفاني عذل نفسي يا أُخَي
أرعني سمعك فالقول الذي نمقوه الناس لم ينسب إلي
هاك أشواقاً عِذاباً تُجْتَلى أهدها (أبها) وعانقها وحَي
وامتدحني عندها فالمدح في لغة الأحباب محبوب لدي
فدموع الوجد في وجنتها كالظبا بين كداء وكُدَي
يابنة الأطياف أحسنت القِرى قد كفاني الزاد من شِبْع ورِي
دع بلاد الهند واهجر ذكرها عند (أبها) وتغافلْ عن دبي
واطَّرح روما ومن فضلها وكذا مدريد ما تِيْكُم بِشَيْ
أهلها كل همامٍ ماجد جده سعد وعمرو وعلي
وأنا مَلَّكْت قلبي حبَّه ويكَأن القلب بالتمليك وَيْ
حب من يتقي الله وما كان حبي حبَ غيلان لِـ مَيْ
هذه من قصائدي في (أبها).(57/30)
مدح العلماء
السؤال
اعطنا القصيدة التي فيها مدح العلماء؟
الجواب
القصيدة التي فيها مدح العلماء: مدحت الشيخ/ عبد العزيز بن باز، وسمعتم منها قبل أمس، ومنها:
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي
لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي
عفواً لك الله قد أحببت طلعتكم لأنها ذكرتني سير أسلافي
يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن أجرى الدموع كمثل الوابل السافي
يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي
أغراهم المال والدنيا تجاذبهم ما بين منتعل منهم ومن حافِ
وأنت جالست أهل العلم فانْتَظَمَتْ لك المعالي ولم تولع بإرجافِ
بين (الصحيحين) تغدو في خمائلها كما غدا الطل في إشراقه الضافي
" الصحيحين ": صحيحا البخاري ومسلم، وأوصي كل شاب مسلم بعد كتاب الله بـ (الصحيحين) أن يتبحر فيهما، وأن يكرر قراءتهما، وأن يجيدهما أكثر من تكرار كثير من الكتب التي لا تنفع.(57/31)
شرح أبيات شعرية في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم
السؤال
أرجو شرح البيت الثاني والثالث من القصيدة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
يقصد من القصيدة التي مدحت بها الرسول صلى الله عليه وسلم:
الأماني على لسانك أحلى فأعد يا حبيب عصراً تولى
لم أُقَضِّ لَبانَة العيش فيه ودعاني المشيب لما أطلا
أعصر الليل في كئوس من الحز ن وأدعو الصباح حتى أملا
الأماني على لسانك أحلى: معروف.
فأعد يا حبيب عصراً تولى: والإنسان يتعلق بحبيبه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.
لم أُقََضِّ: في هذا العصر.
لَبانَة العيش: لبانة العمر: أي: أنني دنا مني المشيب قبل أن أنتهي من الشباب.
أعصر الليل: هذا من الوجوه البلاغية.
في كئوس من الحزن، وأدعو الصباح حتى أملا: ولا فرجة للإنسان من ليل همومه، ولا ليل شهواته، ولا ليل معاصيه إلا بمنهج محمد صلى الله عليه وسلم، كما سلف في مناسبة قول ابن تيمية: من اعتقد أنه سوف يهتدي بهدى غير هدى الله الذي أرسل به محمداً صلى الله عليه وسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، نعوذ بالله من ذلك، فلا بد للإنسان أن يخرج من ليله الذي يعيش فيه، وهو ليل المعصية وليل الغواية إلى صباح الهداية الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام.
يا حبيب: لا يُقْصَد به الدعاء، وليس المقصود به هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما أي حبيب، وأنا جعلته كل أخ في الله عز وجل، وليس كل نداء مذموم، بل إن كان للاستغاثة أو لطلب العون، فهذا هو المذموم، وإلا فنحن نقول: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي والأحسن: ألا ينادى الرسول صلى الله عليه وسلم سواء لاستغاثة أو لغيرها، أي: ألا يقول الإنسان: يا رسول الله.(57/32)
نونية وميمية ابن القيم
السؤال
هل تحفظ النونية والميمية لـ ابن القيم؟
الجواب
النونية أحفظ منها أبياتاً، منها: في الغناء.
من نونية ابن القيم في الغناء:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ إنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
ويقول في وصف الصالحين في آخر الزمان، أن لهم أجر خمسين من الصحابة:
إسناده حسن ومصداق له في الترمذي فافهمه بالبرهان
إلى أخر ما قال.(57/33)
قصيدة ابن المبارك
السؤال
قلت لنا قصيدة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من هو عابد الحرمين؟
الجواب
ابن المبارك يخاطب الفضيل بن عياض، سماه عابد الحرمين، أي: الحرم المكي، والحرم المدني.
يقول: يا عابد الحرمين! لو أبصرتنا ونحن في جبهات القتال؛ لأن ابن المبارك عالم زاهد معلم مرب، خرج يجاهد الكفار فيقول: يا عابد الحرمين!
كيف تلومنا، وتقول: أننا خرجنا في الجبهة، وتقول: لو أننا بقينا معك؟
فيقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
لو رأيت كيف تضرب رءوسنا في سبيل الله، ودماؤنا تسيل في سبيل الله، وأنت تظن أن العبادة فقط محصورة في هذه الركعات أو التسبيحات! فكأنك تلعب بالعبادة؛ لأن الدين الإسلامي دين حياة، ودين جهاد، ودين كلمة، ودين دعوة، في المسجد، وفي المحراب، وعلى المنبر، وفي الساحة، ومقابلة العدو في كل مكان.
فـ ابن المبارك يريد أن يعمم الفهم لدى الفضيل بن عياض، فيقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
يقول: إذا كنت تبكي في الليل، فنحن دماؤنا تسيل علينا من نحورنا من الضرب في سبيل الله، والدم أغلى من الدمع.
ولا يخطر في الذهن أن قصد ابن المبارك بعابد الحرمين أنه يعبد الحرمين: مكة والمدينة؛ إنما يقول: يا عابد الحرمين، بمعنى: أنها صفة إضافية، مثل أن تقول: إمام الحرمين، أو كذا، لا أنه يعبدهما.(57/34)
نظم ونقد
السؤال
ما رأيك في هذين البيتين:
يا أرض أبها في الدنا فلتفخري لما حوت قرعاء كل غضنفر
أحلامهم تزن الجبال رزانةً ولهم من الأعمال فوق المشتري
الجواب
ميزة مخيمكم: كثرة الشعراء فيه، وكثرة النبوغ، والنابهين.
أجاد، ولكنه سرق نصف بيت.
يقول:
يا أرض أبها في الدنا فلتفخري لما حوت قرعاء كل غضنفر
هذا يدل على أنه شاعر، وسوف يكون شاعراً.
,الغضنفر: الأسد
أحلامهم تزن الجبال رزانة: هذا للفرزدق يقول:
أحلامنا تزن الجبال رزانة وتخالنا جناً إذا ما نجهلُ
فهو سرقها جزاه الله خيراً، وهذا تضمين، وليس سرقة؛ وليس اقتباساً؛ لأن الاقتباس: يكون من الآيات والأحاديث، والتضمين: أن يأخذ نصف بيت من شاعر قديم، فيجعله في قصيدته، أو يأخذ بيتاً ويشير إليه.
وبمناسبة القرعاء؛ هنا مقطوعة في القرعاء، لكن صاحب السؤال لا ينساه، حتى نأتيه في القرعاء:
في ربى القرعاء:
لك يا حديث العارفين منازل في كل قلب طيب الأردانِ
كم طهرتك دموع صبٍّ مغرمٍ نزحت به الفرقى عن الإخوانِ
رتلت آيات الحنين بنغمة تبكي القلوب بلوعة الهجرانِ
أحببتكم في الله حتى لم يعد لسواكم في القلب شخص ثانِ
من حبكم أوطانكم أحببتها ونسيت في أوطانكم أوطاني
لَمُخَيَّمٌ أنتم به يا إخوتي فيه القداسة مشرق العرفانِ
غرس البراعة في قلوبكم غداً متأرجاً بالرَّوح والريحانِ
انظر إلى القرعا تجدها مسجداً متجاوب الأرجاء بالقرآنِ
هل تذكرونا مثل ذكرانا لكم هذا الوفاء المحض يا إخواني
وبالمناسبة! أخبرني أحد الإخوة من الذين أتوا هذه المخيمات فقال: تهت في هذا المكان، فسمعت قبل ليلة من المايكرفون وهم يشرحون أبواب الطهارة، فوجدت من الأنس، وأنا في الليل، ومن الراحة والفرحة، واستحيت أن أدخل عليهم وهو يقصد مكانكم هذا.
وهل أعظم من أن تأتوا في هذا المكان فترتلون آيات الله البينات وتتدارسون أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وتشرحون أبواب العلم، هذا هو الشرف في الدنيا والآخرة.(57/35)
مداخلات ومشاركات
فيارب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارفِ
ولكنَّ قبري بطن نسر مقيله بجو السماء في نسور عواكف
وأمسي شهيداً ثاوياً في عصابة يصابون في فج من الأرض خائف
فوارس من شيبان ألَّف بينهم تقى الله نزالون عند التزاحفِ
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف
تعليق الشيخ على القصيدة:
الأمر الأول: الأخ/ محمد جزاه الله خيراً ذكرنا بالجهاد في سبيل الله والاستشهاد بهذه المقطوعة، وهذا من خير ما نحفظ، والخوارج يحفظ شعرهم، ولا بأس من الاستشهاد به؛ لأنهم من أجود الناس شعراً؛ ولكن مع ملاحظة ضلالتهم وانحرافهم عن منهج أهل السنة والجماعة.
والذي أريده من الأخ أن يواصل حفظ مثل هذه المقطوعات، التي تنفعه في الدعوة في سبيل الله إن شاء الله.
والأمر الثاني: أن يعتني أكثر؛ لأن بعض الأبيات فيها كسر؛ لأنه أقحم بعض الكلمات، ويعود إلى عيون الأخبار لـ ابن قتيبة؛ لأن المقطوعة موجودة فيها، و (العقد الفريد) لـ ابن عبد ربه.
السؤال
ما رأيكم في هذا البيت:
أحببتكم واللهُ يعلم أنني في القول لم أكذب ولم أتكلفِ
الجواب
هذا بيت مستقيم، وهو على نسق بيت لـ ابن الفارض، ونفس القافية، ونفس البحر، يقول ابن الفارض:
قلبي يحدثني بأنك مُثْلِجِي روحي فداك، عرفتَ أم لم تعرفِ
فيقول:
أحببتكم والله يعلم أنني في القول لم أكذب ولم أتكلفِ
فصدق جزاه الله خيراً، ما تكلف في البيت، ولا تكلف في الحب، ونحن نحبه كذلك، أحبنا الله وإياكم، وجعلنا من المتحابين فيه.
ويقول: فادع لي بالثبات والهداية.
نسأل الله أن يثبتنا وإياك وكل مسلم.(57/36)
مشاركة وسؤال
السؤال
يتحفنا هذا الأخ ببعض الأبيات ويقول: من قائل هذه الأبيات؟
رأيتُ الناسَ قد ذهبوا إلى مَن عنده ذهبُ
ومَن لا عنده ذهبُ فعَنْه الناسُ قد ذهبوا
رأيت الناسَ مُنْفَضَّةْ إلى مَن عنده فِضَّةْ
ومَن لا عنده فِضَّةْ فعَنْه الناسُ مُنْفَضَّةْ
رأيتُ الناسَ قد مالوا إلى مَن عنده مالُ
ومَن لا عنده مالُ فعَنْه الناسُ قد مالوا
الجواب
لا أعرف من قالها، وَلَيْتَه سكتَ! وما عليكم إلا أن تسمعوها، وهي مثل أبيات أحد الشعراء حيث يقول:
الليل ليلٌ والنهار نهارُ والأرض فيها الماء والأشجارا
أي: أنه لم يأت بشيء جديد.
ما أحسن الكلمات! ولكن المعنى ليس فيه شيء.
وبعض الشعراء اجتمعوا في مكان، ومعهم رجل لا يحسن الشعر، فقالوا: والله لا تقوم حتى تقول بيتاً، وهم بجانب نهر.
ففكر طويلاً، ثم نكس رأسه، ثم رفع رأسه فقال:
كأننا والماءُ مِن حولِنا قومٌ جلوسٌ حولهم ماءُ
هذا تكلف في الأبيات.
مثل مَن يقول:
كأننا والسقف من فوقنا قوم جلوس فوقهم سقفُ(57/37)
توبة الفضيل بن عياض
السؤال
هل كان الفضيل بن عياض فاسقاً في أول حياته؟
الجواب
الله أعلم، إنما نسب إليه أنه كان يعتدي في الطرقات وهو شاب، فأنصت لشيخ وهو يقرأ في الليل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عليهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] فبكى، وتاب، وأناب، وأصبح من العباد الكبار الذين نتولاهم ونشهد الله على محبتهم، ونسأل الله أن يحشرنا في زمرتهم.
خاتمة:
في ختام هذه الجلسة: أتوجه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يتجاوز عنا وعنكم سيئها في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وشكراً لكم على حسن إصغائكم.
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(57/38)
كيف نعلم الناس؟
رسالة المعلم في المؤسسات التعليمية عظيمة، فهو الذي يرسم للجيل الطريق، وهو قدوة الطلاب وقائدهم، وفي هذه الخطبة يخاطب الشيخ المعلمين، ويرشدهم إلى الطريق الذي ينبغي أن ينتهجوه، ويوضح دورهم في الحياة.(58/1)
أهمية العلم النافع
الحمد لله القائل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5].
والصلاة والسلام على رسول الله القائل: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} صلى الله وسلم على مؤسس حضارة الأمة, ومعلم الأجيال, وهادي الشعوب, والذي أقام صرح الحضارة, وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً, أمَّا بَعْد:
عباد الله: غداً يبدأ العام الدراسي، وتفتح الجامعات والمعاهد والمدارس أبوابها, وغداً يخرج شبابنا وكريماتنا لتلقي العلم النافع, وغداً تستهل السنة الدراسية يومها الأول.
و
السؤال
ما هو موقفنا من العلم؟
وما هو العلم الذي نريده؟
وما هو واجب العلم علينا؟
وما هي مسئولية الأساتذة الأخيار والمعلمين الأبرار تجاه شباب وكريمات الأمة، وأجيالها؟
غداً يومٌ يرسل الأب فيه فلذة كبده إلى الأساتذة والمعلمين, فماذا يفعلون بهذه الفلذة؟ وبهذه القلوب التي تجلس أمامهم؟
وما هو موقف الإسلام من العلم؟
أولاً: أيها الأبرار: لقد نادى الله بطلب العلم ومدحه، وأثنى على العلماء وبجلهم وذكرهم في كثير من الآيات, وذم صنفاً آخر من العلماء، ومقتهم وندد بهم، وذم مسعاهم.
يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لرسوله في أول طرق الدعوة وخطواتها: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].
قبل أن تبدأ في الدعوة والحياة والمسيرة عليك بطلب العلم، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] فاملأ قلبك بالإيمان, وجوارحك باليقين, وكن عبداً لله قبل أن تتعلم العلم.
ويقول الله له ممتناً عليه يوم أن أخرجه من بين جبال مكة ووهادها وشعابها -فإنه ما تعلم في مدرسة ولا دخل جامعة، ولا تلقى العلم على شيخ- قال الله له: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء:113] فمن الذي علمك؟ من هم شيوخك؟ من هم أساتذتك؟ الله هو الذي علمك وفقهك ونوّر بصيرتك: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19].
واستشهد الله بالعلماء وطلبة العلم على أكبر شهادة في الدنيا, وأكبر شهادة عرفتها الإنسانية وهي شهادة التوحيد, فقال عز من قائل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] فانظر كيف جعلهم شهداء على وحدانيته, وألوهيته؛ وذلك لعظم قدرهم.
ووصف الله طلبة العلم بأنهم يخشونه تبارك وتعالى, ويقفون عند حدوده, ولا ينتهكون حرماته, وبأنهم يراقبونه في السر والعلن.
فالذي لا يراقب الله ولا يخشاه ولا يتقيه ولا يتقه ليس بطالب علم, قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
ووصف الله طلبة العلم بأن عندهم من الفهم للدعوة، والفقه في الدين، والاستنباط من النصوص شيئاً كبيراً، فقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] فالرسالة الخالدة والمبادئ الأصيلة، والأهداف الجليلة لا يعقلها إلا من يفهم عن الله أمره ونهيه.
ولم يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالتزود من شيء إلا من العلم فقال له: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] لا يكتفي بعلم ولا يقف عند نص, وإنما همته تمر مر السحاب, كل يوم في ازدياد, وكل لحظة في تحصيل, وكل ليلة في مواصلة في هذا الصرح الجميل فهذا العلم هو الذي يغبط عليه صاحبه.
كل وقت في ازدياد العلم إرغام العدا وجمال العلم إصلاح العمل
لا تقل قد ذهبت أربابه كل من سار على الدرب وصل
والله عز وجل حكم بين طلبة العلم وبين غيرهم فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] وسكت عن الجواب؛ لأنه لا يوجد للسؤال إلا جواب حاصل، ولا ينبغي أن يجاب للعلم به.
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
يا أيها المسلمون: يا أبناء من تعلموا العلم النافع الذي أوصلهم إلى الدرجات العليا في الجنة! أبناؤكم إذا لم يتعلموا العلم النافع، ويطلبوه لمرضاة الواحد الأحد، فأقلل به من علم! ويا لحسرة صاحبه! ويا لندامته وخسارته! علم لا يجعلك تشهد أن لا إله إلا الله، وتعظم الله فليس بعلم, وعلم لا يجعلك تحافظ على الصلوات الخمس في جماعة فليس بعلم, وعلم لا يجعلك باراً بوالديك وصولاً لرحمك صادقاً وفياً، خاشعاً منيباً متقياً سنياً ليس بعلم.
العلم ليس حفظ النصوص، فمن الناس من يحفظ القرآن ولكنه فاجر, يلعنه القرآن وتلعنه السنة, ومن الناس من يدهده بالكلمات ولكن قلبه ما عرف الله.(58/2)
التحول الجذري في الجزيرة العربية
العنصر الثاني: كيف حول النبي صلى الله عليه وسلم الجزيرة العربية من جزيرة يسكنها بدو رحل, جزيرة لا تفهم ولا تفقه ولا تعي شيئاً, أهلها قتلة نهبة، سلبة سرقة، زناة كذبة، ولو ظن القوميون أن العرب لهم مجد قبل الإسلام, وأيُّ مجد؟ مجد الإبل والبقر والغنم! مجد القتل والنهب والحقد والضغينة؟! لا والذي رفع السماء بلا عمد, ما بدأ مجدنا وتاريخنا وعظمتنا، وما ارتفعت رءوسنا إلا بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم.
أتى عليه الصلاة والسلام إلى الأمة الضائعة المسكينة الضالة، فهداها إلى الله, قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] لكن كيف علمهم؟ أعلمهم بالسوط والسيف؟ أعلمهم بالحبس والسجن؟ أعلمهم بالحديد والنار؟ لا والله، قال الله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] لو كنت سفاكاً ما اجتمعت عليك القلوب, ولو كنت قتالاً نهاباً ما أحبتك القلوب, لكن كما قال الله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] وقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
أتيت أيها المصطفى إلى العرب الذين هم كقرون الثوم، يتقاتلون على مورد الشاة ومربط الناقة, فأتيت بالخلق الفاضل، والبسمة, واللين, والرفق والنصيحة, فانقادت لك القلوب, فحررتها من وثنيتها وشركيتها وقدتها إلى الله.
إن الدعاة الذين يحاولون اليوم أن يصلحوا بالتجريح والعنف، وبالتعريض بالناس, وبالنقد لبعض العلماء الذين لهم زلات انغمرت في بحار حسناتهم؛ هؤلاء لا يفقهون ولا يعلمون، ويفسدون أكثر مما يصلحون, وسوف يعلمون أنه ليس بأيديهم نتيجة.
يرسل الله موسى وهارون إلى فرعون السفاك المجرم، وقال لهما: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] قال سفيان الثوري كما في تفسير ابن كثير: القول اللين أن يكنياه أي: نادياه بالكنية وكنية فرعون: أبو مرة، -مرّر الله وجهه في النار- فأخذ موسى يقول: يا أبا مرة، إذا أسلمت أنعم الله عليك بملكك وصحتك وشبابك.
فالرسول عليه الصلاة والسلام جاء إلى هؤلاء البدو الرحل، الذين لا يتفاهمون إلا بلغة الهراوات والمشاعيب, فأتى إليهم بالهدوء واللين حتى قاد قلوبهم، يقول الله له من فوق سبع سموات: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:62 - 63] إنها معجزة، كيف استطعت أن تؤلف بين غطفان وبني تميم؛ وتؤلف بين قريش والأوس والخزرج؛ وتؤلف بين هوازن وفزارة، حتى أصبحوا إخواناً متحابين متصافين متقاربين؟(58/3)
خطاب الناس على قدر عقولهم
أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام بدوي جلف لا يفهم شيئاً، تربى مع التيس والكلب, فدخل على المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأخذ جبته وسحبها وقال: يا محمد! أعطني من مال الله الذي عندك، لا من مال أبيك ولا من مال أمك.
فغضب الصحابة، وتبسم عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه, وأراد الصحابة أن يبطشوا بهذا الأعرابي ويطرحوه أرضاً، فيضربوه ضرباً مبرحاً ينسيه أباه وأمه, فقال عليه الصلاة والسلام: خلوا بيني وبين الرجل وأخذه وشبك أصابعه بأصابعه، وأخذه يقوده إلى بيته ويمازحه ويلاطفه ويداعبه, ثم أتى به إلى غرفته وقال: خذ ما شئت من تمر وزبيب وحب وثياب, هل أحسنت إليك؟ قال: نعم.
جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً قال: اخرج إلى أصحابي فأخبرهم بما فعلت بك، وبما قلت لي ليذهب غيظهم الذي وجدوه في أنفسهم عليك.
وخرج أمام الجماهير فقال له صلى الله عليه وسلم: هل أحسنت إليك؟ قال: نعم.
جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً, ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله, ما رأيت معلماً قبلك ولا بعدك أحسن منك.
فقال عليه الصلاة والسلام للصحابة وهو يتبسم: {أتدرون ما مثلي ومثلكم ومثل هذا الإعرابي؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: مثلنا كمثل رجل كانت له دابة انفلتت منه فأخذ يلاحقها، فلما رآه الناس أخذوا يلاحقونهها معه, فلما رأتهم ما زادها إلا فراراً, فقال: أيها الناس! خلوا بيني وبين دابتي أنا أعلم بها، فأتى بشيء من حشائش الأرض -أي: من خضار الأرض- وأخذ يلوح به أمام الدابة حتى أتت فأمسكها فقيدها, قال: لو تركتكم وهذا الأعرابي فضربتموه لكفر فدخل النار}.
وذهب الأعرابي إلى قومه، فكان داعية فيهم حتى أسلموا عن بكرة أبيهم, فسبحان من علمه! سبحان من ثبته! سبحان من سدد خطاه على هذا التعليم!
أفلا يأخذ الأساتذة الأخيار والمعلمون الأبرار درساً من هذا الأسلوب الراقي في تعليم شباب المسلمين؟! لقد أخطأ كثير من الأساتذة والمدرسين يوم استخدموا السوط في جلد البشر، وفي ضرب أبناء المسلمين.
إن العنف لا يولد إلا عنفاً, وإن البغض لا يأتي إلا ببغض.
يقول عليه الصلاة والسلام: {ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه} فالجمل إذا رأى منك صلفاً وحدة، قطع حباله وغضب عليك وناهش وباهش! فكيف بالأجيال؟ وكيف بأبناء المسلمين؟
والرسول عليه الصلاة والسلام كان في تعليمه يخاطب الناس على قدر عقولهم, فأستاذ الابتدائي ليس كأستاذ الجامعة, فهو يريد أن يصل إلى عقول هؤلاء الناشئين وإلى أفهاهم, فلا ينبغي عليه أن يكبر عليهم المعلومات، ولا يحجم عليهم المقتضيات، وعليه أن يخاطبهم بقدر عقولهم.
جاء في صحيح البخاري أن أحد أطفال المسلمين -وهو أبو عمير أخو أنس - كان له نغر (طائر) يلعب به، فمات الطائر, فأراد صلى الله عليه وسلم أن يسلي هذا الطفل، فلما ذهب إلى بيتهم سأل أمه عن حاله فأخبرته، فقال له صلى الله عليه وسلم: {يا أبا عمير ما فعل النغير؟} قال أهل العلم: فيه درس عظيم على أن الناس يخاطبون على قدر عقولهم, وأن المعلومات تصلهم على قدر العقول.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا تكلم مع الأعراب خاطبهم بكلام يفهمونه, بكلام على مستواهم وعلى ما تبلغه أفهامهم, فإذا أتى إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وجلة الصحابة، كلمهم في القضايا الكبرى.(58/4)
التعليم بالقدوة الحسنة
كان عليه الصلاة والسلام في التعليم ينهج طرقاً شتى, منها: التعليم بالقدوة في نفسه, ووالله ما قال كلمة إلا عمل بها, ووالله ما دعا الناس إلى خير إلا كان أسبقهم إليه, كان يتأثر بما يقول, يدعو إلى الصدق وهو صادق, يدعو إلى الصلاة وهو مصلِّ, يدعو إلى الخشية وهو يخشى الله.
أما الذي يدعو وهو كاذب فلن يجعل الله في دعوته خيراً, ولن يكون لها تأثيرٌ, يدعو بعض الناس -ونعوذ بالله أن نكون منهم- إلى بر الوالدين وهو يعق والديه, ويدعو إلى صلة الرحم وهو قاطع لرحمه, فلا يجعل الله لكلامه نوراً ولا لدعوته تأثيراً, قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] أي: أما تستحون؟! تتكلمون كلاماً جميلا ًوتحاضرون وتؤسسون وتؤلفون، ولكن الأفعال تكذب الأقوال! أين الحياء من الله؟! خيبة لمن يفعل ذلك إن لم يتب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليه.
فكان عليه الصلاة والسلام يربي بالقدوة، يراه أول من يفد عليه ساعة من الزمن فيهتدي بمرآه, لأنه يراه صادقاً أميناً مخلصاً، محباً للخير، قائداً إلى البر والتعاطف.
وكان عليه الصلاة والسلام يربي بالتطبيق, فهل يعي الأساتذة هذا المبدأ؟ كان إذا أراد أن يعلم الناس الصلاة قام فصلى أمامهم.
إن كثرة الحصص النظرية والمحاضرات بلا تطبيق معناه: إدخال المعلومات في الأذهان وخروجها من الآذان.
جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد الساعدي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قام على المنبر فقال: {يا أيها الناس صلوا كما رأيتموني أصلي} ثم قام فصلى لهم, فأراهم كيف يركعون ويسجدون، وكيف يخشعون ويسبحون.
فهل فكر أحد من الأساتذة بدلاً من أن يكتب كثيراً على السبورة معلومات لا تنفع أطفال المسلمين، أن يريهم الوضوء أو الصلاة, أو أن يريهم كيف يسبحون الله عز وجل, أو أن يريهم هيئة صلاة الكسوف والاستسقاء وصلاة الخوف؟! ليكون علم التطبيق نافعاً محفوظاً مجدياً.
وكان عليه الصلاة والسلام يضرب الأمثال المذهلة التي تبقى في النفوس فلا تزول, أراد أن يصف لهم فضل الصلوات الخمس, فماذا عسى أن يقول؟
في الجزيرة العربية القاحلة قال: {أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل كل يوم منه خمس مرات, أيبقى من درنه شيء؟ -وتوقف الصحابة عند هذا المثال في الصحراء التي تلتهب، وتصوروا النهر وهو يمر أبوابهم وكأن الماء البارد يتدفق على رءوسهم- فقالوا: لا يا رسول الله! قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا}.
وورد مع الصحابة في السوق فرأى جدياً أسك ميتاً -ليس له أذان، ومع ذلك ميت- فرفعه بيده الشريفة وقال لأصحابه: {من يشتري هذا بدرهم؟ قالوا: والله لو كان حياً ما يستحق درهماً لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟! قال: أفرأيتم هوانه على أهله؟ قالوا: من هوانه رموه في السكك قال: والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذا على أهله} هذا هو التعليم ووضوح المنهج.(58/5)
أنواع العلم
والعلم علمان:
1 - علم ضار لا ينفع, وهو العلم الذي يسلخ الشاب من مبادئه ودينه، ومن تقوى الله وخشيته، فيخرج حاملاً الشهادة وهو فاجر, ويحمل مؤهلاً علمياً وهو فاسق، لا يعرف من الدين قليلاً ولا كثيراً.
فهذا هو العلم الضار، قال تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة:102] فعلم لا يصل إلى القلوب, ولا تدمع منه العينان, ولا يشدك إلى كثرة الذكر والتلاوة, والنوافل, ويجعلك داعياً ليس بعلم.
2 - العلم النافع، وقد سبق تفصيله في بداية الكلام.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(58/6)
فضل المعلم ودوره في المجتمع
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً, وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً, وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
أيها الأخيار فإنني أدعو كل معلم وأستاذ أن يتقي الله عز وجل في أجيال المسلمين, وأن يخلص النية، وأن يصدق مع الله عز وجل في تعليم شباب المسلمين, ولا يظن أنها مجرد وظيفة واستلام راتب وقضاء وقت, لا والله! فالأمر أعظم من ذلك, الأمر رسالة خالدة واتباع للرسول عليه الصلاة والسلام.
إن المعلم كاد أن يكون نبياً من الأنبياء, فإن أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام وورثة الأنبياء هم الدعاة إلى الله والأساتذة والمعلمون.
فأدعو كل أستاذ إلى أن يكون مربياً متقياً، وأن يعلم أن هذه البلاد تختلف تماماً عن كل بلاد -أقصد من غير بلاد المسلمين- في التعليم والتوجيه, فنحن لسنا في فرنسا ولا أمريكا ولا الصين بل نحن في مهبط الوحي وقبلة المسلمين، وفي بلد الحرمين، نحن في بلاد انبعثت منها لا إله إلا الله, وانطلقت منها الدعوة الخالدة, وخرجت منها الكتائب التي فتحت بلاد الدنيا, وعلمنا يؤخذ من فوق سبع سموات، كتاب وسنة, ونسأل الله ألا نتعلم لغير الأغراض التي يريدها الله عز وجل.
فيا أيها الأستاذ مهما كان تخصصك؛ تاريخاً، أو جغرافيا، أو رياضيات، أو تربية، أو علم نفس، فإنك معلم ومن المأجورين المشكورين في الإسلام, اجعل هذه المادة عبادة، وصلة تصل الشباب بربهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى, فإنك -والله- مسئول عن هذا الدرس وعن هذه المادة التي تقدمها عند الله.
لقد أزرى الله عز وجل وندد ببني إسرائيل يوم تعلموا وما استفادوا منه, غضب الله عليهم ولعنهم حيث قال: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] نقول: ما للبركة في أرزاقنا قلَّت؟ ما للشباب -إلا من رحم الله- فسد؟ ما للأجسام أصابها المرض؟ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ، ولو اتقينا الله في تطبيق العلم لرحمنا الله عز وجل.
ووصف الله بني إسرائيل بأنهم كالحمير, تعلموا علماً لكن ما استفادوا منه, حمار يحمل مجلدات ومصنفات، فهل يستفيد الحمار؟! فدماغه دماغ حمار! تكلمه فلا يفهم, قال تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] والآيات والأحاديث تقرأ في الفصل صباحَ مساءَ, ولكن كما قال الله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18].(58/7)
العمل بالعلم
يا شباب الإسلام هذا القرآن وهذه السنة، وهذه الجامعات والمعاهد والمدارس، ما أقيمت إلا لتقودكم إلى جنة عرضها السموات والأرض, فالخواجات يتعلمون للدنيا، قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] وينتهي علمهم إلى المادة، ولكن ما وراء عالم الشهادة يخفقون فيه, قال تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] وقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176] هذا مثل لعالِم السوء, ولطالب العلم الفاسق الفاجر.
رجل من بني إسرائيل اسمه " بلعام بن باعوراء " تعلم العلم، فأراد الله أن يرفعه بالعلم لكنه ما ارتفع؛ لأنه خسيس, جعل مكان التلاوة أغنية ماجنة, وجعل مكان المصحف مجلة خليعة, وجعل مكان الدروس وحلقات العلم رفقة السوء في المقاهي والملاهي، والليالي الحمراء، وليالي السوء في تاريخ الإنسان؛ فما اهتدى ولا ارتفع، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] يريد الله أن يكرم الإنسان فيأبى الإنسان, ويريد أن يلبسه ثوب الستر فيخلع ثوب الستر, ويريد أن يرفعه من الطين والرذيلة والفاحشة فيرفض!! فمثله كمثل الكلب، إذا أدخلته الظل أخرج لسانه ولهث واطرد نَفَسُه, وإن أخرجته في الشمس لهث وأخرج لسانه, فالظل والشمس سيان عند الكلب, ولذلك بعض الناس يتعلم ويسمع المواعظ والخطب والنصائح مما غيرت في حياته ذرة.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:175] فهو أغوى الناس, لأنهم يقولون: هذا خريج كلية الشريعة وأصول الدين، وهو فاسق! فيمكن أن يكون عنده دليل على جواز الفسوق والفجور! فقد أضل الناس، (وزلة العالِم زلة عالَم) والعالِم إذا زل زلّ به فئام كثيرة من الناس, قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} لو علم الله منه صدقاً لرفعه ولكنه ما ارتفع.
فيا أيها الأساتذة أروا الله من أنفسكم الصدق! ويا طلاب المسلمين! أروا الله من أنفسكم النصح، وطلب العلم لوجهه، والقوة في التحصيل.
إن هذه الدعوة تقام على علم, وإن من يهون من شأن العلم، أو يقلل من شأن الحلقات والدروس والتحصيل معناه أنه يضرب في صميم الإسلام، ويهدم بمعوله حصن الإسلام، ويدوس كرامة الإسلام.
الإسلام ما بني إلا على علم, وما نشر إلا بقال الله وقال رسوله؛ فبماذا ندعو الناس؟ أنصفف لهم كلمات؟! أنجعل لهم خطباً إنشائية رنانة طنانة لا علم فيها ولا توجيه ولا نصوص ولا أدلة؟!
غداً أيها المسلمون يبدأ هذا العام، ونسأل الله أن يكون عاماً حافلاً بالخير واليُمن, حافلاً بالصدق والنصح, وأن يتقي أساتذتنا ربهم فيما ولاهم الله جل وعلا, وأن يحملوا الأمانة بصدق، وأن يعلموا أن الله سوف يسألهم: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] وقال: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27 - 29].
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه, فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلّى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على نبيك وحبيبك محمد، اللهم اعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين, اللهم ارض عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بمنّك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين, اللهم وحد صفوفهم, اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه, اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور, اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا, وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة, ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا, ونسألك القصد في الغنى والفقر, ونسألك لذة النظر إلى وجهك, والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار, ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(58/8)
مدرسة الاستهزاء
تحدث الشيخ حفظه الله عن الاستهزاء بالمؤمنين، وأنه قديم قدم الصراع بين الحق والباطل، وأنه لابد من وجوده في كل عصر ومكان، وقد آذى هؤلاء خير البشر، فكيف بنا نحن؟!
ثم تحدث عن الشائعات في الإسلام، وواجب الناس تجاهها، وأهمية سؤال أهل العلم عنها.
وختم حديثه بضرورة التوبة في كل زمان ومكان وعلى كل حال.(59/1)
الاستهزاء عبر التاريخ
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المؤمنون! عنوان هذه الخطبة "مدرسة الاستهزاء".
وهي مدرسة قديمة أقامها الأفاكون المارقون ضد الصالحين عبر حقب التاريخ، وقد عاش مرارتها وقسوتها وبأسها رسولنا عليه الصلاة والسلام.
لقد مرغ الأفاكون عرضه في التراب، وشوهوا مسيرته، ونالوا من مبادئه، وأحرقوا وجدانه، فكان يقوم الليالي السود مجروحاً متأثراً شاكياً إلى ربه يقف في وادي نخلة، بعد أن طرده القريب والبعيد، وشوهت سمعته في مكة والطائف، ويشكو إلى الواحد الأحد، ويقول: {اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس.
ثم يقول: إلى من تكلني، إلى بعيدٍ يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن رحمتك أوسع لي، لك العتبى حتى ترضى}.
كل يوم وهو عليه الصلاة والسلام يدافع عن عرضه ونفسه ومبادئه بما استطاع، ويكلُّ أحياناً فيأتي الوحي من السماء، يدمغ أنوف المارقين المستهزئين.(59/2)
الاستهزاء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
جلس الرسول عليه الصلاة والسلام مع أصحابه في المسجد يعلمهم ويربيهم ويزكيهم، وانطلق من الجلوس شاب صغير في السادسة عشرة من عمره، اسمه عمير بن سعد، مُلئ حكمة وإيماناً، ودخل على عمه وهو شيخ كبير في الستين من عمره، ولكن النفاق في قلبه كالجبال، يصلي مع الناس في المسجد، ولكنه مكذب بالرسالة والرسول.
قال له عمير بن سعد: يا عماه! سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا عن الساعة حتى كأني أراها رأي العين.
فقال الجلاس بن سويد -وهو عمه-: يا عمير! والله إن كان محمد صادقاً فنحن شر من الحمير.
فامتقع وجه عمير بن سعد، واهتز جسمه وانتفض كيانه؛ فقال: يا عم! ووالله إنك كنت عندي من أحب الناس، ووالله لقد أصبحت اليوم من أبغضهم إلى قلبي، يا عم! أنا بين اثنتين: إما أن أخون الله ورسوله فلا أخبر الرسول، وإما أن أقطع علاقتي بك وليكن ما يكن، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت.
ما معنى هذه الكلمة؟ معناها الكفر بلا إله إلا الله، والاعتراض على رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال الجلاس بن سويد: أنت طفل غرّ لا يصدقك الناس فقل ما شئت.
فذهب عمير وجلس أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: {يا رسول الله! إن عمي الجلاس بن سويد خان الله ورسوله، وقد تبرأت إلى الله ثم إليك منه، فلا علاقة لي به.
قال: ماذا قال؟ قال: يقول: إن كنت أنت صادقاً فهم شر من الحمير.
فجمع الرسول عليه الصلاة والسلام الصحابة واستشارهم في هذا الكلام، فقالوا: يا رسول الله! إن هذا طفل لا تصدقه، وليس بواع، وهو ينقل الكلام وشاية، والجلاس بن سويد يصلي معنا، وهو شيخ كبير وعاقل.
فسكت عليه الصلاة والسلام ولم يصدق هذا الشاب.
وسالت دموع الشاب، وانتفض جسمه، والتفت إلى السماء حيث القدرة وعلم الغيب، وحيث الذي يعلم السر وأخفى، وقال: اللهم إن كنت صادقاً فصدقني، وإن كنت كاذباً فكذبني.
فوالله ما غادر مجلسه وما قام من المسجد إلا وجبريل يهبط من فوق سبع سموات بالوحي المقدس {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [التوبة:74]
واستدعى الرسول صلى الله عليه وسلم الجلاس، وسأله عن الكلمة فحلف بالله ما قالها، فقال عليه الصلاة والسلام: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة:74] أما أنت يا جلاس فقد كفرت بالله، فاستأنف توبتك؛ لأن الله يقول: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ} [التوبة:74] واستدعى الرسول صلى الله عليه وسلم عمير بن سعد وفرك أذنه وقال: مرحباً بالذي صدقه ربه}.
ماذا يستفاد من هذا؟ يستفاد أن هناك معسكراً يستمر مع الصالحين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يلغ هذا المعسكر في أعراض الصالحين كما تلغ الكلاب في الماء، ولا بد: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].
يقول المتنبي:
كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم ويكره الله ما تأتون والكرم
ما أبعد العيب والنقصان عن ملأٍ هم الثريا وذان الشيب والهرم
ومعنى ذلك: أن المستقيمين على أمر الله، والطائعين لله، والخائفين منه من شباب الصحوة ودعاتها وعلماء الأمة وصالحيها، والذين يحملون سنته عليه الصلاة والسلام يواجهون بحرب دعائية مفتعلة لا هوادة فيها، فهم يوصفون بالتطرف والتزمُّت، وقلة العقل، والتشديد والتنفير والتحريم، وتكليف الناس بما لا يطاق، إلى غير ذلك من العبارات، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5].
إن أتباع محمد عليه الصلاة والسلام لم يسرقوا أراضي الناس بالغصب والقوة إن أتباع محمد عليه الصلاة والسلام لم يضايقوا الناس في أرزاقهم إن أتباع محمد عليه الصلاة والسلام لم يعطلوا مصالح الناس، ولم يستهزئوا بالفقراء، ولم يقفوا حجر عثرة في طريق المستضعفين: إنهم هم الذين يبينون الظلم ويكشفون أوراقه، ويقولون للظالم: اتقِ الله يا ظالم، ويقفون مع الفقراء والمستضعفين والمستذلين حتى يأخذوا حقهم الشرعي الذي أحقه الله لهم.
ولكن مع هذا كله! هناك صنف لا يعجبه هذا، يلحق الوشاية بحملة الشريعة، من القضاة، وأهل التمييز، والعلماء، وديوان المظالم، وكتاب العدل، ونجوم الدعوة، وحملة السنة، وأساتذة الجامعات والمربين كل هؤلاء يريد أولئك أن تسقط عدالتهم في الأمة؛ لأنهم يحمون دين الرسول عليه الصلاة والسلام، ويبلغونه غضاً طرياً للأمة.
فحذار من أولئك، وحذار من الإنصات إليهم.
وقد كشف الله أوراقهم، فما رأيناهم إلا لاغين، لاهين، طربين، عابثين، مسرفين، أسرفوا في الأموال وضيعوها، ولعبوا بالأوقات وأنفقوها، وتهتكوا في الأعراض ومزقوها، فكلما نصحتهم وصفوك بأنك عنيد جاف غليظ متزمت.
حملة الشريعة يقومون في الثلث الأخير من الليل، ويحفظون كتاب الله في حين تجد أولئك يسهرون على اللعب المحرمة، وعلى الأعراض المشوهة، يمزقون أعراض المسلمين، فدخلهم حرام، وكلامهم حرام، وليلهم حرام، ونهارهم حرام، ومع ذلك لا يحرص أحدهم على أن يتعلم سنة محمد عليه الصلاة والسلام، فتجده في واد والسنة في واد آخر.
قام نفر في عهده عليه الصلاة والسلام في تبوك فاتهموا الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه بأنهم جبناء لا يستطيعون المواجهة، وأنهم يأكلون كثيراً، فاستدعاهم عليه الصلاة والسلام في صباح اليوم التالي، فسألهم وحجهم، فقالوا: يا رسول الله! معذرة، إنما كنا نخوض ونلعب.
فأنزل الله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ.
لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] والمعنى: أنهم خرجوا من الملة بكلمة واحدة قالوها في عرض الرسول عليه الصلاة والسلام وفي عرض أصحابه.(59/3)
الاستهزاء في واقعنا المعاصر
وما أدري ماذا يعجب هؤلاء؟!!
هل يريدون أن تتحول الأمة إلى أمة تشجع الكرة، أو أمة تحمل الفن وتشجع الفنان والأغنية، أو تتحول الأمة إلى أمة لاهية لا تحمل رسالة، ماذا يريدون صراحة؟ ما هو الحل الذي يرضيهم؟
إن تمسك الشباب بالسنة بغّضُوهم إلى المجتمع وحذروا منهم الأمة، وشبابنا وشباب العالم الإسلامي الذي تمسك بالسنة تاج على جبين هذه الأمة، فلا تطرف ولا تمزق ولا عنف ولا خروج عن المعهود.
أهم أفضل أم أولئك الملأ من الشباب الذين خرجوا عن معالم الإسلام، يتزلجون على الثلج في العطل الصيفية، ويسافرون إلى المدن اللواتي تعرفونها بالفساد والخيبة والندامة، فيصرفون الملايين المملينة؟
وإن حضروا ما شهدوا الصلاة، وإن قرءوا ففي غير المصحف، وإن شهدوا فبغير الحق، وإن استمعوا فلغير القرآن، وإن حضروا فإلى غير المساجد والندوات والمحاضرات، وإن غضبوا فلغير انتهاك الحدود والمحرمات.
فأي أولئك أسعد وأحسن وأبرك؟ {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36].
لقد وجدنا الملتزمين أكثر الناس دفاعاً عن المبادئ، وعن البلاد الإسلامية في فلسطين وأفغانستان تحت دبابات الغزو المستعمر، وفي الخفجي تحت نيران البعث، فهل كانت لهم جريرة؟ وهل كان لهم ذنب؟!
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم
هم الفتى الأزدي إتلاف ماله وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
ولا يحسب التمتام أني هجوته ولكنني فضلت أهل المكارم
>>
قال الله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79] وقال أيضاً: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ.
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16]
أيها المسلمون! يروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بلقبه، لا تتبعوا عورات المؤمنين، فإن من تتبع عورة مؤمن تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في عقر داره}.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(59/4)
الشائعات في الإسلام
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد:
أيها الناس! إن ضعاف النفوس يتلقون الشائعات ثم يفشونها في الناس وينشرونها في المجالس، وقبل أيام كثر الحديث عن شائعة أن مولوداً ولد لأمه، فلما وضعته في الأرض تكلم، وأخبر أن في الشهر السادس الداخل هذا سوف تقع حوادث ووقائع وكائنات، ويحذر الناس هو من هذا الشهر ثم مات، فماذا كانت ردة الفعل؟
كان الذين حظهم من العلم الشرعي والفقه الشرعي في الدين قليل خائفين وجلين من هذه الشائعة، فمنهم من جدد توبته مصدقاً لهذا الطفل، ومنهم من أعلن أنه سوف يترك المعاصي، ومنهم من سهرت عينه خوفاً من الوقائع والكوارث، وهذه عجائب بعضها أدهى من بعض.(59/5)
واجب الأمة تجاه الشائعات
أما أهل العلم فقرروا أموراً:
أولاً: لا يعلم الغيب إلا الله {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65] {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام:59] فلا يعلم متى تقوم الساعة، ولا متى تأتي القيامة إلا الله، ولا يعلم متى ستنتهي الدنيا إلا الله، فليس لأحد من الناس أن يعلم شيئاً من علم الغيب إلا من أطلعه الله على علم الغيب من رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وليس لأحد أن يصدق هؤلاء الكذبة الأفاكين المارقين.
الأمر الثاني: من هدي الإسلام أنه إذا شاعت شائعة أن يعودوا إلى أهل العلم والدعوة فيسألونهم مباشرة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن المرجفين والمروجين للشائعات، والمحبين لإشاعة الشائعات والفواحش: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] فالواجب الرد إلى أهل العلم وسؤالهم مباشرة عن الكائنة إذا كانت، وعن الشائعة إذا شاعت.
الثالث: عجباً لهذه الأمة! لا تتوب إلا إذا سمعت شائعة، ولا تعود إلى الله إلا إذا هددت ببركان أو زلزال، فكم أصابتنا من السياط؟! وكم لدغتنا من اللوادغ ونحن نراوح في حالنا وفي مكاننا لا نتعداه؟! {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126].(59/6)
التوبة واجبة في الشدة والرخاء
الناس في الرخاء يضحكون على أنفسهم، وإذا اشتدت بهم الفتن والكوارث والمحن أعلنوا عهداً جديداً لله أن يفوا معه، ثم يخونون ربهم، يتوبون الآن من شائعة قالها مروج كذاب على لسان طفل ما قال ولا تكلم ولا نطق، فيعلنون أنهم سوف يحضرون صلاة الجماعة، ويحافظون على قراءة القرآن، وينتهون عن الكبائر والمخالفات، فإذا بردت الشائغة رُدوا لما كانوا عليه وعادوا إلى حالهم الأول، وهو فعل الذين خالفوا أمر الله ونسوا موعوده.
أيها الناس! إن الواجب علينا أن نتوب إلى الله توبة نصوحاً، وأن نستعد للقائه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه قد يموت الواحد منا قبل الوقت المؤجل الذي حُدد في الشائعة المذكورة، ومن يدري؟ ومن يعلم؟ لعله أن يموت اليوم، فليتهيأ وليتجهز.
وبادرن بالتوبة النصوح قبل احتضار وانتزاع الروح
لا تحتقر شيئاً من المآثم وإنما الأعمال بالخواتم
ومن لقاء الله قد أحبا كان له الله أشد حبا
وعكسه الكاره فالله اسأل رحمته فضلاً ولا تتكل
فتوبة نصوحاً أيها الناس، وعودة إلى الله، وتصديقاً بالوحي، وإقراراً مع الفقه في الدين وسؤال أهل العلم.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.(59/7)
من أحكام التعزية
وقبل أن أنتهي من هذه الخطبة هنا فتوى عن مسألة انتشرت في المنطقة ولم تنكر، وأصبحت سائدة كأنها من السنة، وهي: حكم الاجتماع في التعزية.
السؤال
يسأل بعض الإخوة عن حكم اجتماع بعض الناس في بيت الميت وقت التعزية، وجلوسهم ثلاثة أيام في هذا البيت، سواء صُنع لهم طعام في بيت الميت أم لا، فهل هذا من السنة؟ وهل ورد فيه شيء عن الرسول عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
الحمد لله، السنة تعزية المصاب من المسلمين بقولك له: (آجرك الله وغفر الله لميتك) ونحو ذلك، والسنة إرسال الطعام لأهل الميت؛ لاشتغالهم بالمصيبة، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن جعفر {اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم} رواه الخمسة، وصححه ابن السكن والترمذي، وأخرجه أحمد وابن ماجة والطبراني من حديث أسماء بنت عميس، وهو حديث صحيح.
ولا يجوز اجتماع الناس في بيت الميت لاستقبال الناس، سواء صُنع لهم طعام أم لا؛ لحديث جرير بن عبد الله البجلي قال: {كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعه الطعام بعد دفنه من النياحة} رواه أحمد وابن ماجة وهو حديث صحيح.
فالسنة تعزية صاحب المصيبة عند القبر، أو في الطريق، أو بالذهاب إلى بيته بدون تجمع، أو بالاتصال به، وليس من السنة ذهاب القبيلة أو غالبها أو جماعة منها إلى قبيلة أخرى من أجل التعزية، فهذا لم يفعله رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه ولا التابعون لهم بإحسان، وهذا من البدع المخالفة للشريعة الإسلامية.
وأشد من هذا وأخطر نصب الخيام، وصنع الطعام، واجتماع الناس في بيت الميت، مع مافي ذلك من مفاسد كتعطيل الناس عن أعمالهم، وكثرة الكلام بغير ذكر الله، وحصول المزاح واللغو والضحك.
فالواجب النهي عن هذا من قبل أئمة المساجد وخطباء الجوامع ومشايخ القبائل، والله أعلم.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، وأسأل الله لنا ولكم الحفظ والرعاية، وأن يعصمنا من البدع ومن مضلات الفتن، وأن يجمع قلوبنا على طاعته.
وأسأله أن يرضى عن أصحاب رسوله وعن التابعين لهم بإحسان، وأن يصلح ولاة الأمر وأن يهديهم سبل السلام، وأن يوفق المسلمين لكل خير.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(59/8)
نعم الله
نعم الله علينا عظيمة، من انسلخ منها فمثله كمثل الكلب، كما بين الله سبحانه وتعالى ذلك، وفي هذه المادة بيان للشكر وبماذا يكون، وذكر بعض الأمثلة على كفر النعمة وجحودها كقصة بلعام بن باعوراء مع موسى عليه السلام، ثم قوم سبأ وما فعل الله بهم من تدمير وتشتيت.(60/1)
المنسلخ عن آيات الله
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فيقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في محكم كتابه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176] ضرب الله هذا المثل لكل من جحد نعمته، ورد معروفه عز وجل، فإن كثيراً من الناس ينعم الله عليهم بنعم ظاهرة وباطنة فيكفرونها ويجحدونها؛ فيسلبها سُبحَانَهُ وَتَعَالى منهم، ثم ينكل بهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى جزاء ما جحدوا من المعروف وأنكروا من الجميل.
وكثيرٌ من الناس يمنحهم الله الشباب، فيفسدون به، ويستغلونه فيما يبعدهم عنه عز وجل فيسلب الله نعمة الشباب منهم.
وكثيرٌ منهم يرزقهم الله الصحة في الأجسام، فلا يُرونَ الله عز وجل ثمرة هذه الصحة ولا العافية، فيأخذهم الله عز وجل بهذا.
وكثيرٌ يمنحهم الله الأموال فلا يؤدون حق الله فيها، بل يجعلونها سلماً إلى المعاصي، وسبباً في المنكرات والفواحش، فيأخذهم الله عز وجل، ويحاسبهم بأموالهم.
فالله عز وجل يقول: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف:175] وهذا الرجل اسمه بلعام بن باعوراء من بني إسرائيل، منحه الله عز وجل نعمة العلم والفهم والفقه، ولكنه لم يستغلها فيما يقربه من الله عز وجل، بل نسي حق الله وموعوده، ونسي أمره عز وجل ثم عصاه، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:175].
هذا الرجل كما قال أهل التفسير: كان مع موسى عليه السلام، وعلمه الله التوراة فلما تعلمها ذهب إلى قوم كفار ليفاوضهم على الصلح مع موسى عليه السلام، فلما رأى دنياهم، وكنوزهم، وذهبهم، وفضتهم، استهواه هذا؛ فكفر بالله العظيم، وقدم الدنيا على الآخرة، وقدم موعود أهل الدنيا على موعود رب الدنيا والآخرة؛ فسلب الله نعمة الفقه والفهم منه، وتركه بليداً كالحمار، ومؤخراً كالخنزير، ونجساً كالكلب، نعوذ بالله من ذلك.
حتى قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} [الأعراف:176] لو شئنا أن يرتفع بلا إله إلا الله وبمعناها؛ لرفعناه بها.
وهذا جزاء العبد الذي يرتفع بالطاعة، والذي يحب أن يتقرب إلى الله عز وجل بطاعته فيرفعه الله، وأما العبد الذي يتأخر إلى المعصية، ويتأخر عن كل ما يقربه من الله، فلا يزال يتأخر حتى يؤخره الله، قال تعالى: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} [الأعراف:176] أي: قدم الدنيا على الآخرة.
قال تعالى: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176].
يقول عز من قائل: مثل هذا الرجل مثل الكلب، والكلب من طبيعته أنه يلهث، فهو يمد لسانه ويلهث سواء في الظل أو في الشمس، فهذا مثل رجل يلهث في الجهل والمعصية، سواء تعلم أو لم يتعلم؛ لأن قلبه خبيث؛ ولأن فيه مكراً؛ ولأنه صادٌ عن الله عز وجل، وإلا فلو كان فيه خير يوم أن قربه الله عز وجل إليه لعرف النعمة والجميل، ولعرف عطاء الله عز وجل فانقاد إليه.(60/2)
كفران النعم سبب لعذاب الله
وضرب الله مثلاً في القرآن للأمم والشعوب، يوم تنحرف عن منهج الله عز وجل، وتترك طرق المساجد، وتميل إلى الخمارات.
يوم تترك سماع كتاب الله عز وجل، وتميل إلى سماع الغناء.
يوم تنحرف عن منهجه صلى الله عليه وسلم وسنته المطهرة، وتميل إلى كتب الشياطين؛ شياطين الإنس والجن، ويوم تعكف وتسهر على الأفلام، والأغاني الماجنة، ويوم ترخص قيمها ومبادؤها ودينها وأخلاقها، وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، ماذا يصنع الله بها؟ يدمر شبابها، ويبعد سُبحَانَهُ وَتَعَالى علماءها، ويبتلي إناثها ونساءها، فتبقى أمة مظلومة مهضومة متأخرة، يبتليها الله عز وجل بالخوف والجوع.
يقول عز من قائل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
قال أهل العلم: لا تزال كل قرية في أمن الله ما أقامت فروضه، وما نهت عن المعاصي التي تغضبه، فإذا انحرفت أخذها الله كما يأخذ الظالم ثم لا يفلتها أبداً، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} [الطلاق:8 - 9].
أعد الله لهم عذاباً شديداً في الآخرة، ما كفاها عذاب الدنيا، بل أعد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لها الخزي والعار والدمار والنار؛ لأنها انحرفت عن منهج الله.
فتشوا واسألوا كل مدينة وكل قرية أخذها الله في هذا العصر، أو قبل هذا العصر، واسألوا جيراننا، ومن حولنا ومن دوننا: مالهم ابتلوا بالحروب والمنكرات والفواحش والبعد عن الله؟! إنما ابتلوا بذلك لأنهم عصوا أمر الله، وخرجوا عن طاعته سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ويوم أن يعود الشخص إلى الله ولو ببصيص من نور؛ ينصره سُبحَانَهُ وَتَعَالى ويؤيده، ويسدده ويهديه.
وقد جربنا وجرب غيرنا، وسمعنا وسمع غيرنا، أن أناساً كثيرين وقفوا في وجه الطغيان، في وجه اليهود، فما استطاعوا أن يقفوا أمامه؛ لأنهم أهل معاصٍ؛ ولأنهم خرجوا عن لا إله إلا الله، حتى أتى في هذا العصر حفنة قليلة من الناس في أفغانستان، تسجد لله، وتعترف به، وتتحاكم إلى شرعه، فوقفت في وجه أكبر قوة من قوى الأرض.
فلما رجعوا إلى الله أراهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى نصره، ورفع لهم كلمة لا إله إلا الله، وثبت أقدامهم.
فكيف لو رجعت الأمة كلها إلى الله عز وجل؟! والله لو رجعنا إلى الله لما كان في الدنيا يهود يسيطرون على بلاد الله، وعلى عباده، ويمتهنون شرائعه.
والله لو رجعنا إلى الله عز وجل لما كان هناك جوع ولا خوف، ولا دمار ولا نار، ولا عار ولا شنار، لكننا لما تخاذلنا عن أن نجتمع في بيوت الله، وأن نتناصح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصبنا بهذا.
قال عز من قائل: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:15 - 19].
قرية كانت منفلتة في اليمن، كانت غائصة في الحدائق والبساتين وأنواع الثمرات من بين يديها ومن خلفها، لهم سد عظيم يختزن آلاف آلاف البراميل من المياه، أغدق الله عليهم النعم، فسماؤهم مليئة بالغيوم، لا شمس لديهم تحرقهم، وثمارهم يانعة يقطفونها، حتى قال الأئمة من أمثال ابن كثير: تمر المرأة بزنبيلها فيمتلئ مما يتساقط من الأشجار.
يشربون ماءً بارداً، ويتظللون في ظل وارف، ويتعاونون في معيشة هادئة ساكنة.
فأرسل الله إليهم الرسل ليقولوا: لا إله إلا الله، وليؤدوا شكر نعمة الله، وليسجدوا له، وليتناهوا عما يغضبه، فماذا فعلوا؟ كفروا، وجحدوا، وأنكروا، وتمردوا على الله، شأن الشاب الذي لا يعرف بيوت الله، جسمه كجسم البغل، يتنهد على الأرض من كثرة النعم، ومن كثرة المشروبات والمطعومات والملبوسات، فإذا سمع الأذان كأن في أذنيه وقراً، لا يعرف طريق المسجد، إنما يعرف طريق المعصية والانحراف، فهذا مثل هذه القرية.
فأتتهم رسلهم وفاوضتهم على لا إله إلا الله، وفاوضتهم إلى الرجوع إلى الله عز وجل، وأخذتهم بالتي هي أحسن ليعودوا إلى الحي القيوم، فكفروا وقالوا: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ:19] معنى ذلك: أنهم رفضوا حتى أداء الزكاة من هذه الأموال والصدقة، وقالوا: اجعل بيننا وبين هذه القرى مسافات؛ حتى لا يأتينا فقير ولا مسكين، ولا يأتينا طالب حاجة.
فماذا فعل الله بهم؟ هل حاربهم بطائرات أو بجيوش جرارة، أو بدبابات مصفحة؟ لا -والله- أتي بفأر صغير فنحت في هذا السد، وهو سد مأرب العظيم، ثم دخل الماء وسقط السد، وذهبت دنياهم وآخرتهم، لقد اجتاحهم ماء السد، فدمر قراهم بعضها على بعض، وبيوتهم بعضها على بعض، واجتاح أشجارهم وأعنابهم ونخيلهم ومزارعهم، فصاروا حدثاً بعد عين لكل معتبر.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً} [الفرقان:40] فأوقع الله بهم ما هم له أهل، فذهبوا وتفرقوا حتى صاروا مثلاً، فتقول العرب: تفرقوا أيدي سبأ.
وخرجوا من بلادهم على وجوههم وهم يتباكون، الحبيب فقد حبيبه، والوالد فقد ولده، والأخ فقد أخاه، والزوجة فقدت زوجها؛ لأنهم عصوا الله عز وجل.
ولذلك قيل لرجل من البرامكة الوزراء لما سجنوا في عهد هارون الرشيد: لم سجنتم وذهبت دنياكم؟ لم أخذت قصوركم؟ ولم جلدت ظهوركم؟ فدمعت عينا خالد البرمكي وقال: بغينا، وطغينا، ونسينا الله، وسرت دعوة مظلوم في جنح الليل فسمعها الله والناس عنها هجوع.
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {دعوة المظلوم يرفعها الله عز وجل على الغمام، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين}.
ومروا برجل مقعد -كما في السير- قد نهشته الأمراض، وأصابته الأوصاب، وهو في حالة مزرية، لا يستطيع حراكاً ولا قواماً، ولا يستطيع أن يمد يده، فقالوا: مالك؟ قال: كنت في صحة وعافية، وفي قوة لا يعلمها إلا الله، وكنت إذا سمعت نداء الله أتباطأ، فيقال لي: اتق الله عز وجل، وتعال إلى بيوته، وأقم فرائضه، فكنت أقول لهؤلاء: وماذا يصيبني إذا لم أفعل؟ فابتلاني الله بهذا المرض.(60/3)
شكر الله على نعمه
إخوتي في الله! إن شكر الجسم أن تؤدي حقه مع الله عز وجل، فتستخدمه فيما يقربك من الله.
وشكر اللسان الثناء، وشكر اليد الوفاء، وشكر العين الإغضاء، وشكر الوجه الحياء منه سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وقد كان عليه الصلاة والسلام، وهو يعظ أصحابه، ويردهم إلى الله وينصحهم، وهم من أحيا الناس مع الله، ومن أقربهم إليه، يقول صلى الله عليه وسلم: {استحيوا من الله حق الحياء -فيقولون له عليه الصلاة والسلام، وهم يظنون أن الاستحياء دخول الإسلام، وهذا من الحياء، لكن مرتبة الحياء الكبرى أن تجعل بينك وبين المعاصي حجاباً- قالوا: يا رسول الله! والله إنا لنستحيي من الله حق الحياء.
قال عليه الصلاة والسلام: ليس ذلك بحق الحياء، حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ومن تذكر البلى ترك زينة الحياة الدنيا}.
قال أهل العلم: الحياء في العين: ألاَّ تنظر بها إلى ما يغضب الله عز وجل، وحياء الأذن: ألا تسمع بها ما يغضبه تبارك وتعالى، وحياء اليد: أن تكون محبوسة تحت طاعة الله عز وجل، وحياء الرجل: ألاَّ تمشي بها إلا في مرضاته عز وجل، ولذلك كان من معالم المحاسبة عند أهل السنة والجماعة: أن الله عز وجل يجمع الأولين والآخرين يوم القيامة، فيحاسبهم كما خلقهم وكما بدأهم أول مرة، يحاسبهم على الأعضاء، ولن تجد عضواً أشد خطورة ولا ضراوة على الإنسان من لسانه.
ويحق لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ومن مثل أبي بكر في إيمانه وزهده وعبادته؟ أبو بكر الذي أنفق ماله كله في سبيل الله، وأتعب جسمه لرفع لا إله إلا الله، وبقي ساهراً حريصاً على الأمة يقودهم إلى الله عز وجل، وهو مع هذا يقف في مزرعة رجل من الأنصار، ويمد لسانه ويبكي ويقول: [[هذا الذي أوردني الموارد]] أي: المهالك، فإذا كان الصديق خائفاً، فما بالنا نحن لا نخاف؟! وما بالنا لا نعود ونحاسب أنفسنا؟! وقل لي بالله عليك كم نذكر الله في اليوم؟ وكم نتكلم بكلام ليس بذكر؟ وإذا عادلنا كلامنا مع الناس، وهذاءنا، وهراءنا، وتسويفنا، كم نعادله؟ هل هو بمعشار العشير مع سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؟
ومقصود هذا الكلام حفظ النعم التي أنعم الله بها علينا، فإن الله عز وجل إذا أنعم على العبد انتظر سُبحَانَهُ وَتَعَالى حتى يرى ماذا يفعل العبد هذا، فإن حفظ النعمة بالطاعة زاده سُبحَانَهُ وَتَعَالى {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] وإن ضيعها أخذه الله أخذ عزيز مقتدر.
فيا من أنعم الله عليه بنعمة الشباب، إن كنت تريد حفظ هذا الشباب فليس حفظه إلا بحفظ الله.
ويا من أنعم الله عليه بالمال، حفظ المال بحفظ الله.
ويا من أنعم الله عليه بجاه، أو بمنصب، أو بولد، إذا أردت المحافظة على ذلك فاحفظ الله عز وجل، وإلا فانتظر الزوال والنكبة إن عاجلاً أو آجلاً.
قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: والله إني لأعصي الله عز وجل في الليل فأجد جزاءها في النهار.
فقال له بعض أهل العلم: نحن لا نجد الجزاء في النهار، جربنا أنا نعصي الله عز وجل في الليل كثيراً فلا نجده في النهار.
قال: إنكم أكثرتم من الذنوب فما تعلمون من أين تؤتون.
أي: لا تعلمون من كثرة جزاءاته من أين تؤتون.
ولا يظن ظان أن الجزاء والعقاب أن تنزل عليه صاعقة أو قذيفة، أو يعذب بمرض، لا.
إن أشد العقاب أن يقسي الله قلب هذا المجرم، وأن يطبع على فؤاده، وأن يبتليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى بالصد عن سبيله، ويزيده سُبحَانَهُ وَتَعَالى ضلالاً؛ لأنه هو الذي زاد ضلالاً وحياداً عن الله، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5].
وحكي عن بعض الصالحين وقد ذهب إلى صلاة الجمعة، فانقطعت حذاؤه، فقالوا له: مالك؟ قال: تذكرت أني لم أغتسل للجمعة؛ فانقطعت حذائي.
قال ابن تيمية: قللوا الذنوب فعرفوا من أين يؤتون.
فلما أكثرنا الذنوب والخطايا أصبحنا لا ندري من أين نصاب، أبالهموم والغموم والأحزان؟ أم بفساد الأبناء؟!
وليست النعمة في مفهومها عند عقلاء المسلمين أن تكثر الأرزاق، هذه نعمة، ولكن النعمة أن نستقيم مع الله، وأن نتجه إليه، وأن نحسن معاملتنا معه، وإلا لو كانت النعمة بهذا المعنى لكان الكفار وهم أكثر منا قصوراً ودوراً، وذهباً وفضة، وجاهاً ومنصباً، وأموالاً وأولاداً، أصحاب نعمة.
لكن الله يقول: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} [الزخرف:33 - 34].(60/4)
كيفية الشكر
والشكر يكون بثلاثة أمور؛ فما أتاك من نعمة فواجبك أن تشكرها بثلاثة أشياء، أو بثلاثة مقاصد:
أولها: أن تردد على لسانك: "الحمد لله"، فإنها تملأ الميزان، وإن سبحان الله والحمد لله تملأ ما بين السماوات والأرض، ويعجب ربك إلى العبد إذا قال: الحمد لله.
وأول من يدخل الجنة الحامدون الذين يحمدون الله في السراء والضراء، فقد ضاع فرسٌ لـ جعفر الصادق، فقال: والله لئن ظفرت بفرسي لأحمدنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بمحامد ما حمدها به إلا أولياؤه وأحباؤه، فلما وجد الفرس، قال: الحمد لله، فقال له أبناؤه: أين المحامد؟ قال: وهل أبقت الحمد لله محامد بعدها؟! ولذلك قال عز من قائل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].
فواجبك أن تردد دائماً الحمد على لسانك؛ ليبقي الله عليك النعمة، البس ثوبك إن كنت مسلماً وقل: الحمد لله، وكل طعامك وقل: الحمد لله، واشرب شرابك وقل: الحمد لله، وقم من نومك وقل: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور.
وكلما لمع لك لامع من النعمة، أو لمح لك لامح من الجميل فقل: الحمد لله، ليبقي الله عليك النعمة.
ثانيها: أن تعقدها بقلبك، وأن تتصور أن ما أتاك من النعيم إنما هو من الله لا من الناس، وما صرف عنك من العذاب ومن المصائب، إنما صُرف عنك من الله عز وجل.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، في كلام ما معناه: [[إن من النكران أن ينعم الله عليك بنعيم فتقول: هذا بسبب فلان، أو يصرف الله عنك سوءاً، فتقول: هذا بسبب فلان، والله ما أتى من نعيم، ولا صُرف من عذاب إلا بتقدير الله ورحمته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى]].
أوحى الله عز وجل إلى داود عليه السلام فقال له داود في أثناء الكلام: يا رب! بأي لسان أشكرك؟ أنعمت علينا بنعم ظاهرة وباطنة فبأي لسان أشكرك؟
قال الله عز وجل: يا داود! أتدري أن هذه النعم مني؟ قال: نعم يا رب! قال: إن علمت ذلك فقد شكرتني.
قال: يا رب! إني أريد أن أشكرك بالعمل، قال: يا داود! تقرب إلي بما استطعت من عمل.
وفي كتب التفسير أن داود عليه السلام جمع آل داود، وكان عددهم ما يقارب ثلاثين ألفاً، وهم الملوك في بني إسرائيل، فيهم المملكة كابراً عن كابر، ومنهم سليمان بن داود، فجمعهم أعماماً وأخوالاً وأبناءً وأقارب، حتى ملئوا الشرفات في بيت المقدس، فقال داود عليه السلام وهو يبكي: يا آل داود! إن الله أنعم علينا نعماً ظاهرة وباطنة، فعليكم بطاعته، فوالله إن لم تطيعوه ليسلبنها الله منكم.
قالوا: ماذا نفعل؟ قال: قسموا ساعات الليل والنهار، فليكن منكم في كل ساعة من ليل أو نهار مصلون وصائمون وذاكرون ومستغفرون، فقسم عليهم الساعات في الليل والنهار، فكان قوم منهم يسبحون، وقوم يستغفرون، وقوم يصلون، وقوم يصومون، فقال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] وقليل من الناس من يشكر الله.
فالأمر الثاني: أن تعتقد أنها من عند الله، وأن ما ساق الله لك من نعيم، إنما هو بقضائه وقدره، ولم يسقه لك أحد من الناس، فو الله {لو اجتمع الناس على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} فالقضاء والقدر من عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثالثها: أن تظهر آثار النعمة عليك، بالعمل وبالتجمل، فإذا أنعم الله عليك بنعمة، فإنه يحب أن يرى أثرها عليك، فإذا أنعم عليك بمال فالبس من الجمال ما يري الناس أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قد أنعم عليك بنعيم، ولا تزري بربك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا تشكوه بثيابك، أو بملبسك، أو بمسكنك، أو بمركبك، فكأنك تقول: لم يعطني الله شيئاً.
والله يقول: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] أي: بلسانك وبفعلك.
ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه} والواجب عليك أن تستغل هذه النعمة في مرضاته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية والرشد والسداد، وأن يستغلنا بنعمته في طاعته، وأن يجعلنا ممن إذا أنعم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر، والحمد لله رب العالمين.(60/5)
أحكام الموت وما بعده
الموت حقيقة ماثلة أمام كل مخلوق، وكل يوم والناس يودعون أحدهم إلى القبر، وفي هذا دافع للإنسان المسلم أن يعرف الأحكام المتعلقة بالموت وما بعده.
وفي هذا الدرس بيان لهذه الأحكام لمن لم يطلع على كتب الفقه أو عسر عليه فهمها.(61/1)
حقيقة الموت
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيها الفضلاء الأخيار! عنوان هذه المحاضرة (أحكام الموت وما بعده) ورقمها (305) وأسأل الله أن ينفع بها، وأن يجعلها في ميزان الحسنات.
أيها الكرام! الموت مخلوق من مخلوقات الله عزوجل، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:1 - 2] ولكن إلى الآن ما اكتشف ما هو الموت، وصل العالم المادي إلى الذروة لكن ما اكتشف حقيقة الموت، لا يدرون ما هو، ولا كيف يموت الإنسان، ومتى يموت، لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى اختص بعلمه.
وقد توعد الله أعداءه بالموت فقال سبحانه: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8].
يقول الحسن البصري رحمه الله: [[فضح الموت الدنيا، فلم يدع لذي لبٍّ فرحاً]] والمعنى: أن كل من انبسط وارتاح وسر بما عنده من مال وولد، وما عنده من منصبٍ ووظيفة، إذا ذكر الموت تكدر، إلا الحمقى والبلداء، فالله عزوجل جعل هذا الموت منغصاً.
دخل أحد الفضلاء على خليفة من الخلفاء العباسيين فقال له الخليفة: "أما ترى القصر؟ قال: رأيته.
قال: أما تراني؟ قال: رأيتك.
قال: أرأيت جيشي؟ قال: رأيته.
قال: ماذا تقول؟ قال:
أنت نعم الخليل لو كنت تبقى غير أن لا بقاء للإنسانِ
والله عزوجل لام الذين غُرُّوا، ولهوا بمتاعهم ولعبهم، فقال: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:45 - 46].
يقول عدي بن زيد؛ وهو شاعر جاهلي، خرج مع النعمان بن المنذر قبل الإسلام، وكان عدي بن زيد رجلاً عاقلاً، أقسم ألا يشرب الخمر أبداً وهو في الجاهلية، فلما جلس مع السلطان الملك النعمان، أخذ السلطان يشرب الخمر، فقال له عدي بن زيد: "أبيت اللعنة -هذه كلمة تقال للملوك، ومعناها: أستأذنك في الكلام لا تغضب عليَّ- قال: قل، قال: أتدري ماذا تقول هذا الشجرة؟ وهي لا تتكلم، لكن أراد هذا الشاعر أن يدخل بموعظة إلى السلطان قال: لا أدري ماذا تقول.
قال: تقول الشجرة:
رب ركبٍ قد أناخوا حولنا يخلطون الخمر بالعذب الزلال
قد مضوا حيناً وساروا زمناً ثم صاروا جثثاً تحت الرمال
يقول: ألا تعتبر بأجدادك وقد أصبحوا جثثاً وأنت تشرب الخمر!! ألا تتفكر وتتأمل!!.
ويا أيها الإخوة: موضوع الموت، وما بعد الموت، والاستعداد للموت هو حديث الساعة؛ لأن كثيراً من الناس بعد الأحداث أصبح في هلعٍ ورعبٍ من الموت، ولا يخاف من الموت إلا اليهود، قال الله عنهم: {يَوَدُّ أحد هُمْ لَوْ يُعمر أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة:96] لأنهم ليس لهم آخرة ولا جنة عند الله، أما المسلم فالآخرة خيرٌ له من الدنيا، وأبقى وأحسن، يوم يكون مؤمناً بالله.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وقد أخبر رسوله عليه الصلاة والسلام بالموت وأنه كتبه على جميع الكائنات: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] والخلد في الدنيا من المستحيلات ولا يخلد من البشر أحد، وهو قول واحد بإجماع العقلاء من الناس قاطبة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] ولكن ما هو أعظم زادٍ نتقدم به إلى الله؟ إنه الإيمان.
والبشرية الآن تبحث عن الإيمان، والإلحاد أصبح لا حقيقة له، أصبح كذباً ولعنةً، لا قرار له، حتى رؤساء الإلحاد والشيوعية في العالم تبرءوا من الإلحاد والشيوعية في العالم.
فهذا جرباتشوف -رئيس الشيوعيين في العالم، رئيس الاتحاد السوفيتي - يقول: في البروستريكا: "إن الإلحاد خرافة " ولذلك اعتنق النصرانية، وأثبت بعد الصفحة الخمسين من البروستريكا، يعني: إعادة البناء أنه مسيحي؛ لأنه وجد أن كفر الإنسان بالله كذب ولو وفق بداعية مسلم، وبإمام يقوده إلى الله، لكان مسلماً، ولكن الحكمة لله.
والشاهد أيها الإخوة: أريد أن أصل إلى الموضوع الذي أريد أن أتحدث عنه، وهو أحكام فصلها أهل السنة والجماعة في كتبهم، أريد أن نتدارسها اليوم؛ لأن الوعظ كثُر، ونحن بحاجة إلى فقه الأحكام، وما يقربنا من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.(61/2)
أحكام ما قبل الموت
يقول سبحانه: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] ومعنى الآية عند كثير من المفسرين: من رخاءٍ إلى شدة، ومن نعيم إلى بؤس، ومن حياة إلى موت.
فالله يداول الأيام، حتى يقول عدي بن زيد:
أيها الشامت المعير بالدهر أأنت المبرأ الموفور
هل رأيت المنايا خلفن أمناً من ذا لا يُضام عليه مجيرُ
أين كسرى، كسرى الملوك أنوشروان أم أين قبله سابور؟
معنى الأبيات؛ يقول: يا من يشمتنا بالموت، ويعيرنا بالفناء، أأنت تبقى؛ ولذلك تجد بعض الحمقى يعيرون بعض الناس، ويشمتون إذا ماتوا، وليس في الموت شماتة، لأنه يموت الشريف والدنيء، ويموت الكريم والبخيل، ويموت المؤمن والكافر، لكن الشماتة فيمن أعرض عن منهج الله، وصدف عن آيات الله.(61/3)
تذكر الموت
السؤال الأول: يقول عليه الصلاة والسلام: {أكثروا ذكر هاذم اللذات فما ذكر في قليل إلا كثره} فما هو هاذم اللذات؟ وكيف نذكره؟ وما الفائدة من ذكره؟
و
الجواب
روى الترمذي والنسائي وابن حبان عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {أكثروا ذكر هاذم اللذات فما ذكر في قليل إلا كثره} والحديث من رواية أبي هريرة.
وهاذم اللذات بالذال: هو الموت، وهو الذي يهدم اللذة على العبد، ويعكرها، ويقطعها؛ واللذة: كل ما تلذذ به من مال، أو حسب، أو نسب، أو جاه، أو منصب؛ أرأيت إنساناً أحمق في منصب، أو مال يذكر الموت ثم لا يتنغص!!
فقوله صلى الله عليه وسلم: {أكثروا ذكر هاذم اللذات} أي: الموت.
زاد بعض الناس: {أكثروا ذكر هاذم اللذات، ومفرق الجماعات، وآخذ البنين والبنات} والجملتان الأُخريان ليستا من كلامه عليه الصلاة والسلام.
وأما قوله: {فما ذكر في قليل إلا كثره} يعني أن من يتذكر الموت دائماً يصبح القليل عنده كثيراً، القليل من المال، والمنصب أو الجاه يكفي، ما دام أنها عبور، ويقول الأول:
طول الحياة إذا مضى كقصيرها واليسر للإنسان كالإعسار
فسيان كثرة المال وقلته؛ بل القلة قد تكون أنفع.
قال: "وما ذكر في كثير إلا قلله " أي: أن، أهل الأموال الكثيرة تقل في عيونهم أموالهم يوم يذكرون الموت.
دخل أبو العتاهية على هارون الرشيد، وكان هارون الرشيد في قصره، والشعراء يهنئونه بقصر افتتحه، فقال لـ أبي العتاهية: "كيف رأيت القصر؟ قال: اسمع مني أبياتاً، قال: ما هي؟ قال:
>>
قال: هيه، يعني: زد.
قال:
يسعى عليك بما اشتهيت مع الرواح أو البكور
قال: زد.
قال:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور
هذا غرور أهل الدنيا، وهو غرور يشبه غرور البهائم، يوم يصدفون عن ذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(61/4)
تمني الموت
السؤال الثاني: هل يجوز للمسلم أن يتمنى الموت؟ ومتى يجوز له أن يتمناه؟
و
الجواب
منع عليه الصلاة والسلام المسلم من أن يتمنى الموت، هذا من حيث الأصل، وهو أصل متفق عليه.
ففي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال من حديث أنس: {لا يتمنيَّن أحدكم الموت لضرٍ نزل به، إن كان محسناً فلعله أن يزداد إحساناً، وإن كان مسيئاً فلعله أن يتوب} فالأصل أن لا تتمنى الموت، واعلم أن عمر المؤمن لا يزيده إلا خيراً عند الله.
لحديث جابر عند مسلم {المسلم لا يزيده عمره إلا خيراً} وعند أحمد في المسند من حديث طلحة: {أن رجلين أسلما عند الرسول عليه الصلاة والسلام -دخلا الإسلام سواء، في يوم واحد، وفي ساعة واحدة، مسلم وأخوه أسلما عند الرسول عليه الصلاة والسلام- فقتل الأول شهيداً في سبيل الله، ومكث الآخر بعده أربعين يوماً ثم مات -هذه رواية أحمد - فرأى طلحة الرجلين بينهما في الجنة أربعون درجة، فسأل الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: كم تخلف ذاك بعده؟ قالوا: أربعون يوماً يا رسول الله، قال: كم صلى فيهن من صلوات؟ فحسبوها.
قال: فإن الله رفعه بصلواته التي صلاها بعد أخيه، هذه الدرجات} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، والحديث حسن، والمقصد أنه إذا أصابك ضرٌ، أو مرض فلا تتمنى على الله الموت، أو أن يتوفاك؛ لأنك لا تدري ما الخير، والخيرة فيما اختار الله.
تنبيه: ذكر أهل السنة كـ الطحاوي وابن كثير والذهبي: أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما حج آخر حجة حجها، رفع يديه عند الجمرات، وقال: [[اللهم إنها كثرت رعيتي، ورق عظمي، ودنا أجلي، فاقبضني إليك غير مفرط ولا مفتون.
اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وفي بلد رسولك]].
و
السؤال
لماذا يتمنى عمر الموت، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يتمناه؟
و
الجواب
عند أهل السنة بجوابين:
الجواب الأول: لم يتمن عمر الموت، ولم يحدد وقته، وإنما تمنى الشهادة في سبيل الله؛ وتمني الشهادة مطلوب، وهي من أفضل الأعمال، وقد قال عليه الصلاة والسلام: {من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه} رواه مسلم.
بينما تجد الرياء والسمعة إذا دخل في العمل لا ينفع، حتى لو قتل الإنسان في الجبهة، وهو مراء فلا ينفع، بينما إذا صدق ومات على فراشه فهو شهيد وعند أحمد في المسند بسند حسن: {ربَّ قتيلٍ بين الصفين الله أعلم به، -وفي لفظ- الله أعلم بنيته} فقد يكون مرائياً، وصح عنه عليه الصلاة والسلام: {أن أول من تسعر بهم النار ثلاثة، منهم: المجاهد الشهيد -فيما يظهر للناس- الذي قتل في المعركة، وقاتل رياءً وسمعةً ليقال: جريء، وقد قيل، فيقال: خذوه إلى النار}.
والجواب الثاني: أن المرء إذا تحقق أنه وقع في فتنة، وأن الناس قد فتنوا فله أن يطلب من الله أن يتوفاه، وقد دل على ذلك نصوص كإخباره عليه الصلاة والسلام، أن المؤمن في آخر الزمن من كثرة الفتن يمر على القبر فيقول: {يا ليتني مكان صاحب هذا القبر من كثرة الفتن} من قلة من يقول: لا إله إلا الله، ومن قلة من يعترف بأوامر الله، أو يكف عن محارمه.(61/5)
المؤمن يموت بعرق الجبين
السؤال الثالث: ما معنى {المؤمن يموت بعرق الجبين}؟ وهل عرق الجبين علامة عند أهل السنة أم لا؟
الجواب
صح عنه عليه الصلاة والسلام عند ابن حبان والثلاثة؛ أبي داود والنسائي والترمذي أنه قال عليه الصلاة والسلام: {المؤمن يموت بعرق الجبين} فما معنى الحديث؟
قيل: أنه إذا حضرته سكرات الموت أصابه عرق، وأتاه رشح، وهذا معنىً موجه، وهو صحيح.
وقيل: أنه يموت كداً وكدحاً في العمل الصالح؛ وهي كناية عن اجتهاده في العمل الصالح، وعن بذله، وعن تقواه لله عزوجل حتى يلقاه الله عزوجل وقد بلغ من نفسه مبلغاً من العبادة، والمجاهدة {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] على ذكر هذه الآية، فإن ابن أبي الحديد وهو معتزلي؛ شاعر عملاق، من أكبر شعراء المعتزلة، ذكره ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل، يقول في هذه الآية، لما أتته سكرات الموت قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] ثم قال أبياتاً، يخاطب الله، يقول:
وحقك لو أدخلتني النار قلت للـ ـذين بها قد كنت ممن أحبه
وأفنيت جسمي في علوم كثيرة وما منيتي إلا رضاه وقربه
أما قلتمُ من كان فينا مجاهداً سيكرم مثواه ويعذب شربه
وهي أبيات لطيفة، أعجبت ابن تيمية شيخ الإسلام، لكن من الذي يجاهد في الله؟ هو الذي يصدق مع الله عزوجل، ويفعل المأمور، ويجتنب المحذور، ويتبع الكتاب والسنة باختصار.
هذا معنى (المؤمن يموت بعرق الجبين).
وبعض العلماء يقولون: "من علامة المؤمن أنه قد يتبسم في سكرات الموت، ويعرق جبينه، وتأتيه مبشرات" وقد حدث هذا لـ ابن المبارك، فيما نقلوا عنه أنه تبسم، وقال: " {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] " وقد ترى له رؤيا حسنة في الحياة الدنيا؛ والرؤيا من المبشرات يراها المؤمن، أو تُرى له كما قال عليه الصلاة والسلام.(61/6)
ما يلزم من حضر المحتضَر
السؤال الرابع: ماذا يلزم من حضر المحتضر، الذي حضرته الوفاة؟
الجواب
يلزمه تلقينه (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فكلمة التوحيد، لا إله إلا الله ندخل بها في الدين، ونختم بها حياتنا، وقامت من أجلها السماوات والأرض، ونزلت من أجلها الكتب، وأرسلت من أجلها الرسل، وأقيمت من أجلها النار والجنة، ونصب الصراط، ونزلت الصحف، ونصب الميزان، لا إله إلا الله وثيقة أتت بها الرسل عليهم الصلاة والسلام من لدن نوح إلى محمد عليه الصلاة والسلام، وجرت من أجلها بدر وأحد وحطين والقادسية وعين جالوت ومعارك الإسلام، وهي فيصل بين أهل التوحيد وأهل الكفر وهي الميثاق الذي أخذه الله عز وجل بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173] فعليك إذا حضرت محتضراً أن تلقنه لا إله إلا الله.
إما شهيداً في المعركة، أو مريضاً، أو مصاباً بحادث، ورأيت أنه في الرمق الأخير، فالله الله أن تجري هذه اللفظة على لسانه، فإنها أعظم اللفظات، وأحسن الكلمات، وهي أكبر الحسنات.
قال أبو ذر للرسول صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! لا إله إلا الله من الحسنات؟ قال: أعظم الحسنات} هل بعد لا إله إلا الله حسنة؟ هي أعظم الحسنات.
يقول عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم وعند الأربعة: {لقنوا موتاكم لا إله إلا الله} من حديث أبي سعيد وأبي هريرة؛ ومعنى: لقنوه أي: قولوا له لا إله إلا الله، فإذا قالها فلا تعدها ولا تكررها عليه حتى يتكلم بكلام غير لا إله إلا الله؛ لأن هذا من الأدب.
ويذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ قصة عن أبي زرعة الحافظ الكبير، وأبو زرعة هذا عملاق، مجرح ومعدل يقولون: كتب بيده ألف ألف حديث -مليون- حضرته الوفاة فأراد تلاميذه أن يلقنوه لا إله إلا الله لكن استحيوا منه، فهو عالم الدنيا، ومحدث المعمورة، فاستحوا أن يقولوا قل: لا إله إلا الله -ولا حياء في هذا- فأرادوا أن يذكروه بسند الحديث، وأغمي عليه، فأرادوا فقط أن يقولوا: حدثنا فلان لأنه يعرف بضاعته، فإذا قالوا حدثنا فلان قال: حدثنا فلان تذكر بـ السند المتن فقال: لا إله إلا الله، فتلعثموا لا يدرون من السند أهو شعبة أو الأعمش سليمان بن مهران، فاستفاق وسمعهم يتضاربون بالكلام بينهم في الحديث فقال: حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن فلان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لقنوا موتاكم لا إله إلا الله} وحدثنا فلان عن فلان عن معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} لا إله إلا الله محمداً رسول الله ثم مات.
وهذه من علامات حسن الختام والثبات قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
وهذا هو التلقين الذي على المسلم أن يلقن العبد به.
وأهل السنة يقولون: يدخل العبد في الإسلام بلا إله إلا الله.
ليس كما قال أهل الفلسفة وأهل المنطق بالنظر والاستدلال، بل قالوا: بلا إله إلا الله، وهي التي طلبها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.
فقال في الصحيحين: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، -وفي رواية- أو أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله} الحديث.(61/7)
قراءة سورة (يس) على الميت
السؤال الخامس: هل يصح في قراءة يس على الميت حديث أم لا؟
الجواب
تعلمون أن بعض المذاهب يرون أن على المسلم إذا حضر المحتضر، أن يقرأ على الميت سورة (يس) ويقولون: إنها تخفف من النزع ومن السكرات.
والصحيح عند أهل السنة من المحدثين أنه لا يثبت في ذلك حديث، وليس من السنة أن يقرأ على الميت سورة يس.
وما رواه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث معقل بن يسار عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {اقرءوا على موتاكم يس} لا يصح، قال الدارقطني: "حديث مضطرب لا يثبت، وفي سنده أبو عثمان، وليس بـ النهدي لا نعرفه ولا أباه " واختلف سنده على كثير من الحفاظ فردوه، والسنن العقدية لا تثبت بمثل هذا الحديث الضعيف الذي ضعفه العلماء ولم يثبتوه، والمسلم يقف عند المأثور ولا يبتدع في دين الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} ومن نظر في سند ذلك الحديث وجد أنه لا يصح أبداً {ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه} ورحم الله امرءاً وقف مع الأثر ومع الكتاب والسنة.
إذاً، لا يقرأ على المحتضَر سورة يس.(61/8)
أحكام ما بعد الموت(61/9)
تسجية الميت
السؤال السادس: هل للتسجية قبل التكفين أصل وارد؟ يعني: تسجية الميت بثوب، أو ببرد، أو بشيء، هل ورد في ذلك شيء؟
الجواب
نعم.
ففي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- {أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما توفي سجي ببردة حبرة من برود اليمن}.
وهذا من السنة لكي يكون الميت مستوراً، حتى تجهيزه في الغسل والتكفين والدفن والصلاة عليه؛ فالمقصد من هذا أن يستر الميت، سترنا الله وإياكم، وهي سنته عليه الصلاة والسلام.(61/10)
دين الميت
السؤال السابع: ورد عنه عليه الصلاة والسلام التغليظ في الدين على الميت، فما هو الأثر في ذلك؟
الجواب
جاء عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي بسند حسن أنه قال: {نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه} فعلى العبد أن يجتهد في أن يقضي دينه، لأن حقوق العباد مبنية على المشاحة، والحق الذي بينك وبين الله مبنيٌ على المسامحة، فعليك أن تجتهد في أن تقضي دينك، وأن ترد حقوق الناس قبل أن تلقى الله عزوجل.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {يغفر للشهيد كل ذنبه إلا الدين} أي: شهيد المعركة إذا قتل في سبيل الله غفر الله ذنبه إلا الدين، قال: {أخبرني بذلك جبريل} لأنه لا مبرر أن تترك حقوق الناس ومظالمهم، ثم يموت العبد ويتركها ضائعة، ليس هذا بوارد.
لكن على العبد أن يترك وصيته، فإذا لقي الله عزوجل كان عند ورثته خبر ونبأ ووصية مكتوبة بهذا، لما صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {ما حق امرئ مسلم يبيت ثلاث ليالٍ إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه} من حديث ابن عمر، فكان ابن عمر يكتب وصيته، ويضعها عند رأسه رضي الله عنه وأرضاه.(61/11)
الماء الذي يغسل به الميت
السؤال الثامن: ما صفة الماء الذي يغسل به الميت؟ أعاننا الله على هذه المواقف فسوف تمر بنا جميعاً:
هو الموت ما منه ملاذٌ ومهربُ متى حط ذا عن نعشه ذاك يركبُ
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعلَّ الردى مما نرجيه أقرب
ونبني القصور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنا نموت وتخرب
ورد عنه عليه الصلاة والسلام في الرجل الذي وقصته ناقته، وهو محرم في عرفات، قال: {اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه -وفي لفظ: وجهه-} وابن القيم متردد في إثبات لفظة وجهه.
هذا حاج من المسلمين، وقف مع الرسول عليه الصلاة والسلام في عرفة، فسقط من على ناقته فوقصته برجلها فمات، وهو محرم، فأتي به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فأخبروه الخبر قال: {اغسلوه بماء وسدر} لأن الماء والسدر أنقى {وكفنوه في ثوبيه} أي: ثوبي الإحرام {فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً} وقد أتى في ذلك خبر، أنه: يخرج من قبره يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، ولذلك لم يغط رأسه ولا وجهه لأنه محرم، والمحرم لا يغطي رأسه على الصحيح، وفي تغطية وجه المحرم خلاف، والصحيح أنه لا يغطيه.
فالمقصود أنه لا بأس بأن يمزج الماء الذي يغسل به الميت بسدر، أو كافور، كما في حديث زينب، أو صابون؛ لأن المقصود الإنقاء.
وهذا الشيء الطاهر الذي يضاف إلى الماء لا ينجسه، بل يزيده -إن شاء الله- طهارة، وسوف يأتي معنا تفصيل في ذلك إن شاء الله.(61/12)
غسل النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال التاسع: كيف غُسل الرسول عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
روى أحمد وأبو داود عن عائشة {أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أتى علي بن أبي طالب والعباس والفضل وأسامة يغسلونه، كان في ثيابه المطهرة صلى الله عليه وسلم فلا يدرون هل ينزعون ثيابه ويباشرون جسمه الطاهر الطيب -بأبي هو وأمي- أم يغسلونه من فوق الثياب، فاختلفوا} وفي رواية أبي داود: {فألقى الله عليهم النعاس فناموا الأربعة في الغرفة فسمعوا هاتفاً يقول: اتركوا ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، واغسلوه من فوق الثياب} فغسلوه بالماء ودلكوه والثياب عليه، عليه الصلاة والسلام وما نزعوا ثيابه لأنه مستور حياً وميتاً، وطيبٌ صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وقد كان وهو طفل في السنة الثانية من عمره صلى الله عليه وسلم كما قال أهل السير: إذا تعرى بكى حتى يلبس ثوباً، ويوم أخذته حليمة السعدية كانت تقول: [[كان إذا عري يبكي، ويحاول أن يضم نفسه حتى يستتر عليه الصلاة والسلام]] فالله الذي حفظه.
فهذه صفة غسله عليه الصلاة والسلام، أنه غسل من على ثيابه ودلك صلى الله عليه وسلم، فهو الطيب المطيب حياً وميتاً، ولذلك لما أتاه أبو بكر قال: [[فداك أبي وأمي ما أطيبك حياً وميتاً]].(61/13)
تقبيل الميت وصفة غسله
وهذا فيه سؤال في تقبيل الميت، هل يقبل الميت من القريب والصاحب؟
نعم.
فقد أتى أبو بكر والرسول عليه الصلاة والسلام مسجى قد مات، فكشف الغطاء عن وجهه وبكى وقبله وقال: [[فداك أبي وأمي ما أطيبك حياً! وما أطيبك ميتاً! أما الميتة التي كتبت عليك فقد ذقتها، ولكن لا تموت بعدها أبداً]] وهذا وارد.
السؤال الحادي عشر: صفة غسل الميت، وحديث غسل زينب.
روت أم عطية في الصحيحين أن زينب بنت الرسول عليه الصلاة والسلام توفيت- وقد توفيت بناته عليه الصلاة والسلام في حياته إلا فاطمة، وهذا من الستر لهن- فلما توفيت زينب، أتى الرسول عليه الصلاة والسلام فوقف على النساء في الباب، وقال لـ أم عطية: {اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك -وفي لفظ: تسعاً (وبعض الحفاظ لا يثبتها) - واجعلن في الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما انتهين من غسلها أُخبر رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، فأعطاهن حقوه -والحقو: إزاره الذي يلي جسده صلى الله عليه وسلم- وقال: أشعرنها} هذا من الرحمة، واللطف ببنته صلى الله عليه وسلم، إزاره الذي يلي جسمه، أمر أن يجعل شعاراً لها مما يلي جسمها، لأنها حبيبته وقرة عينه صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الحديث قضايا:
منها: أن المرأة تغسل المرأة ولو كانت أجنبية.
ومنها: أن السنة في الغسل أن يكون ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً على الوتر.
ومنها: أنه لا بأس أن يخلط شيئاً من كافور، أو من أطياب؛ حتى تكون رائحة الميت طيبة.
ومنها: التبرك بآثار الصالحين؛ وهذا له خاصة عليه الصلاة والسلام ليس لأحد غيره، فيما نعلم، وهو أصل عند أهل السنة، ولو أن البعض تجوز لكن آثارة صلى الله عليه وسلم فقط، ثيابه، وشعره، وأظفاره؛ هي التي فيها البركة صلى الله عليه وسلم، وليست لغيره.(61/14)
صفة الكفن
السؤال الثاني عشر: ما هي صفة الكفن؟
الجواب
ورد في الصحيحين من حديث عائشة: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية -نسبة إلى سحول قرية في اليمن - من كرسف} يعني: من قطن- كفن فيها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، فثلاث قطع بيض تلف على الميت، هذه صفة الكفن.
ومن كفن في قميصه فوارد عند أهل السنة، وجائز أن يكفن في ثوبه إذا كان نظيفاً جميلاً طيباً، والسنة أن يكون أبيض كما سيأتي معنا.(61/15)
التكفين بالقميص
السؤال الثالث عشر: التكفين في القميص.
أتى عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول لما مات أبوه المنافق؛ عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، وحربة الحاسدين الناقمين على الإسلام، فقال: {يا رسول الله، أعطني قميصك حتى أكفن أبي فيه} وأبوه عدو للإسلام، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام تقديراً لابنه المسلم المؤمن، أعطاه قميصه، فكفن هذا المنافق فيه، جزاءً لابنه وإكراماً له.
فاستدل به البخاري وأمثاله على أن القميص لا بأس به على أن يكون كفناً، وحمل هذا المجرم إلى القبر، وقام عليه الصلاة والسلام يصلي عليه، فأتى عمر أمامه قال: {يا رسول الله، تصلي على عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين؟!! قال: دعنا يا عمر.
قال: يا رسول الله كيف تصلي عليه، أما فعل كذا، أما فعل كذا، أما فعل كذا، كيف تصلي عليه، وقد قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80]!! قال عليه الصلاة والسلام: دعنا يا عمر والذي نفسي بيده لو أعلم أن الله يغفر لهم بعد السبعين لاستغفرت لهم بعد السبعين} فلما صلى أتى العتاب من الله عزوجل إليه عليه الصلاة والسلام، وقال: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أحد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] فجعلها صلى الله عليه وسلم خاتمة عمله في هذه المسألة أن لا يُصلي على من علم نفاقه، وكفره، وضرره على الإسلام والمسلمين.
والشاهد في هذا التكفين بالقميص.
ويقولون ابن المبارك رضي الله عنه وأرضاه المحدث الزاهد العابد كان له ثوب يصلي فيه دائماً، وكان يصلي فيه صلاة الليل، فلما حضرته الوفاة قال: كفنوني في ثوبي هذا؛ فإني قد صليت فيه لله كثيراً، وكنت أقوم فيه الليل.
وابن القيم له كلام في مدارج السالكين، يقول: " إن آثار الصالحين لها أثر على الصالحين؛ كثياب الصالحين، وعمائم الصالحين، وأحذية الصالحين، قال: حتى ترى وسام الصلاح عليها.
وكذلك الفسقة؛ تعرف ثيابهم، وتعرف عمائمهم مما عليها من الفجور والفسق، وهذا أمر يعلمه أهل التقوى، وأهل الفراسة الإيمانية ".(61/16)
لون الكفن
السؤال الرابع عشر: هل هناك سنة في لون الكفن؟
الجواب
روى ابن عباس عند الخمسة إلا النسائي أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم}.
والبياض لون جميل، وهو من أحسن ما يلبسه العبد المؤمن، والبياض مذكورٌ في كثير من الأحاديث، يقول عليه الصلاة والسلام في دعاء الاستفتاح: {ونقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس}.
وقال عمر رضي الله عنه كما ذكر مالك في الموطأ، في آخر الباب: [[يعجبني أن يكون ثوب القارئ أبيض]] فقوله صلى الله عليه وسلم: {البسوا البياض؛ فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم} دليل على أن السنة في الكفن أن يكون أبيض، تفاؤلاً أن يبيض الله وجه هذا الميت، وأن يكون هذا الثوب منقى من الأوضار والأوساخ والأدران.
والله المستعان، وقد قيل:
خذ القناعة من دنياك وارضَ بها لو لم يكن لك إلا راحة البدن
فانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير اللحد والكفن
أو كما قيل.
ولذلك لم يذهب أحد من الناس من القرون الأولى والأخيرة إلا بالطين والكفن، وهذه عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين؛ أنه لا يذهب الإنسان من هذه الدنيا إلا بالطين والكفن أبداً قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
يقولون: لما حضرت أبا بكر -رضي الله عنه وأرضاه- الوفاة أتوا بثيابٍ جديدة، فقال: [[ما هذه الثياب؟ -وهو في سكرات الموت- قالوا: نكفنك فيها.
قال: لا.
الحي أولى بالجديد من الميت، وأنا ميت فإذا مت فاغسلوا ثوبي هذا -ثوب قديم كان يصلي فيه ويجاهد ويتصدق ويقرأ القرآن ويسبح؛ أبو بكر الإسلام، وأبو بكر الدين، وأبو بكر الإيمان، وأبو بكر المجاهد صاحب المواقف الخالدة- قال: إذا مت فاغسلوا ثوبي هذا، وكفنوني فيه وقال: اذهبوا بثوبي الآخر إلى عمر، وبالبغلة، وبهذا الجمل، وقولوا: يا عمر اتق الله، ليصرعنك الله مصرعاً كمصرعي.
فلما ذهبوا بهذا إلى عمر، بكى حتى جلس وقال: أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر]] لأنه أوصاه وقال: هذا الميراث، وهذا بقية الميزانية، فهل أكلت أموال الأمة؟، وكان أبو بكر الصديق يحكم الشام والعراق والجزيرة واليمن، يحكم ما يقارب ست دول الآن، فلما حضرته الوفاة ترك في بيت المال بغلةً له وجملاً وثوباً وقال: ردوه إلى بيت المال، إلى عمر الخليفة الذي بعدي، وقولوا: يا عمر انتبه، ما تركت أنا إلا هذه، فلا تلعب بالأموال، ولا تبدد الثروات، ولا تحاول أن تلغي العدل في مملكتك فيأخذك الله، فبكى عمر وقال: [[أتعبت الخلفاء بعدك]].
واستطراداً أنا أذكر قصة ذكرها ابن القيم، يقول: كان أبو بكر يخرج بعد صلاة الفجر كل يوم -كان إذا صلى الفجر في المسجد يخرج إلى البادية، إلى ضاحية من ضواحي المدينة قريبة- فيجلس في خيمة هناك حتى طلوع الشمس ثم يعود فافتقد عمر أبا بكر -رضي الله عنهم جميعاً- وسأل أين يذهب هذا الخليفة؟ -خليفة المؤمنين، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم- فذهب وراءه، فلما خرج أبو بكر من الخيمة اختفى عمر ودخل بعده فوجد عجوزاً عمياء جالسة معها أطفال.
قال: يا أمة الله من أنت؟ قالت: عجوزٌ عمياء.
قال: أين أبوكم؟ قالت: مات منذ زمن، وأنا وأطفالي ليس لنا عائلٌُ إلا الله، ثم الشيخ الذي يدخل علينا هذا.
قال: أعرفتيه؟ قالت: ما عرفته -وهو أبو بكر، لأن أبا بكر ما قال: أنا أبو بكر، ولم يعلم بنفسه، ولم يخبر باسمه- قال عمر: فماذا يفعل إذا دخل عليكم؟ قالت: يقُّمُّ بيتنا -يكنس البيت أولاً- ويحلب شياهنا، ويغسل ثيابنا، ويصنع لنا طعامنا.
فجلس عمر وكان واقفاً وبكى وقال: أتعبت الخلفاء بعدك]].
فهذه سيرة حميدة، وهذا سجل التاريخ، وهكذا تساس الأمة، ويقاد الأجيال، ويعلم وينشر الدين بهذه الأخلاق النيرة، حتى الغرب، وحتى أعداء الله عزوجل يعترفون بهذه السيرة.
وقد قرأت أن أحدهم يسمى كرس مرسن أمريكي يقول: "أعطوني إسلاماً كالإسلام الذي يعيشه عمر وأدخل في الدين".
ولذلك جعل مايكل هارف وهو أمريكي؛ صاحب العظماء المائة، عمر رقمه (56) وقال: إنه عظيم، وإنه أثبت عظمته بسيرته التي طوقت الدنيا.
هل تدرون من الأول عند مايكل هارف؟ هو الرسول عليه الصلاة والسلام، جعله الأول في الكتاب وقال: " إني أعلم أن الشعب الأمريكي سوف يغضب يوم جعلت محمداً الأول "، قلنا: أرغم الله أنفك وأنف الأمريكان، وهل كان عليه الصلاة والسلام إلا عظيماً، سواء رضيت أم أبيت، وهذا هو المقصود.(61/17)
إحسان الكفن
السؤال الخامس عشر: هل ورد في إحسان الكفن حديث؟
الجواب
نعم.
روى مسلم عن جابر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إذا ولي أحد كم أخاه فليحسن كفنه} أي: إذا توليت أنت كفن المؤمن، قريباً، أو حبيباً، أو صديقاً فأحسن كفنه وحسناً لا يدخل في المغالاة؛ لأن المغالاة قد ورد فيها النهي، ومهما غاليت فلا ينفع الميت إلا عمله، وتسبيحه، وذكره، وصلواته، ووالله لو نسجت له كفناً من ذهب، وألبسته تاجاً في القبر، وحكت له بردة من ديباج، وصنعت له كساءً من فضة؛ فإنه لا ينفعه إلا أن يكون من أولياء الله؛ وإذا كان من أولياء الله فلو كان بغير كفن، فـ حمزة ما وجدوا له كفناً، وجدوا له أذخراً وحشيشاً غطوه به، وكان سيد الشهداء عند الله.
وكذلك مصعب -رضي الله عنه وأرضاه- لكن الحسن معناه أن تختار ثياباً جميلة نسبياً بيضاء طيبة نقية؛ هذا هو الإحسان.
أما المغالاة في الكفن، فقد نهى عنه عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح فقال: {لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سريعاً} أي يصبح هباءً منثوراً، تأكله الدود في ثلاثة أيام.
وقد كان عمر بن عبد العزيز؛ الخليفة، الزاهد، الراشد، الذي جدد أمر الأمة في المائة سنة، وتولى الخلافة وعمره تسعاً وثلاثين سنة، وقاد الأمة بالزهد، ما كان عنده إلا ثوب واحد، وهو خليفة يملك اثنين وعشرين دولة، إلى حدود أسبانيا وسيحون وجيحون والسند والهند يملكها كلها، ومع ذلك ليس عنده إلا ثوب يغسله يوم الجمعة، ويبقى في ثيابه الداخلية حتى يجف ثوبه، ثم يصلي فيه، يقول له الناس: [[ألا تتزين، وتتجمل؟ قال: كيف لو رأيتموني بعد ثلاث ليالٍ في القبر، إذا تولى عني الأحباب والأصحاب ووسدت التراب]].
فقوله صلى الله عليه وسلم: {لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سريعاً}؛ معنى ذلك: لا تأتوا به غالياً فإنه ثلاثة أيام فينتهي، ولا يبقى إلا العمل الصالح:
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمرانُ؟!
ويا حريصاً على الأموال تجمعها أقصر فإن سرور المال أحزانُ
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسرانُ
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ(61/18)
جمع الموتى في قبر واحد
السؤال السادس عشر: هل يجوز أن تجمع بين ميتين، أو ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة، أو أكثر في قبر؟ وهل هذا وارد إذا أتت حروب -نسأل الله أن يستر، وأن يلطف بنا، وأن لا يرينا فتنة، وأن يقبضنا غير مفتونين، ولا مضيعين- إذا أتت حروب مدلهمة، أو موت كاسح في الناس، هل يجمع بين اثنين فأكثر؟
الجواب
الأصل أن يدفن كل ميت وحده، لكن إذا اضطر إلى ذلك من كثرة القتلى، أو كثرة الأموات، فيجوز أن يدفن اثنان أو أكثر في قبر واحد، لما روى جابر في البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم {أنه جمع قتلى أحد الاثنين والثلاثة في قبر وقال: أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فيقدمه} ليكون إماماً لهم وقريباً لهم، وشفيعاً لهم.
وكان صاحب القرآن عند الرسول عليه الصلاة والسلام سيداً من السادات.
يقول أنس: [[كان الرجل إذا حفظ سورة البقرة وآل عمران جدَّ فينا]] يعني: نبل وفضل وأصبح سيداً.
وعندما أتى كوكبة من الصحابة يريدون الغزو قال عليه الصلاة والسلام: {أفيكم أحد يحفظ سورة البقرة؟.
قال أحدهم: أنا يا رسول الله! قال: اذهب فأنت أميرهم}.
فالإمارة في الإسلام بالفضل، والقرآن وبتقوى الله، والقرب منه، بالمؤهلات التي أتى بها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، وليس بغيرها.
فالشاهد هنا: أنه يجوز أن يجمع بين الثلاثة، والأربعة، ويستحب عند أهل العلم أن يجمع الأحباب في الدنيا في القبر؛ يعني: المتوافقين، والزملاء، والأحبة، والجيران المتآخين أن يكونوا هم في قبر واحد.
ولا يجمع بين غير المحارم؛ كأن يجمع بين الأجنبية والأجنبي، لا، والأصل المنع من ذلك.(61/19)
غسل أحد الزوجين الآخر
السؤال السابع عشر: هل لأحد الزوجين أن يغسل الآخر؟
الجواب
نعم، فقد روت عائشة في مسند الإمام أحمد وابن حبان أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لها قبل أن يموت بأيام: {لو متِ قبلي لغسلتك}.
وزار بقيع الغرقد فسلم عليهم في ظلام الليل، ثم عاد وهو معصوب الرأس عليه الصلاة والسلام من الصداع، وقال: {وارأساه}.
بل في الصحيح أن عائشة قالت: {وارأساه! قال عليه الصلاة والسلام: بل أنا وارأساه! -وهذا على الندبة- ثم تفكهت عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لو مت أنا -لا تدري أن أجله قد دنا عليه الصلاة والسلام- لو مت أظن أنك تتزوج بعدي؟ -انظر إلى غيرة المرأة، حتى بعد الموت- قال عليه الصلاة والسلام: بل أنا لو مُتِ لغسلتك} ترك المزح عليه الصلاة والسلام، وكأنه يتخيل أنه قريب الميعاد من لقاء الله عزوجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3].
أخذ من هذا أهل العلم، أن الرجل يغسل زوجته، وأن المرأة تغسل زوجها، فإن علياً غسل فاطمة، لما رواه الدارقطني بسند صحيح عن أسماء بنت عميس قالت: [[لما توفيت فاطمة بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام، غسلها علي]].
فلأحد الزوجين أن يغسل الآخر.(61/20)
حكم الصلاة على من قتل حداً
السؤال الثامن عشر: هل لنا أن نصلي على من مات في حد؟؛ كرجل مسلم زنى وهو محصن فرجم بالحجارة حتى مات، فهل نصلي عليه؟ أو رجل قتل نفساً ثم قتل فهل نصلي عليه أم لا؟
الجواب
روى بريدة بن الحصيب في صحيح مسلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام: {صلى على الغامدية التي رجمت من الزنا} فما أرحمه، وما أحسنه، وما أحسن هذا الدين!.
ونحن أهل السنة والجماعة لا نكفر بالكبائر، وأهل الكبائر الذين لم يستحلوها لا زالوا مسلمين لكنهم فسقة، يقول حافظ الحكمي:
لكن عصاة من أولى التوحيد قد يدخلونها بلا تخليدِ
وإنما كفر بالكبائر الخوارج -عليهم غضب الله- وهم مخالفون مبتدعة.
فالمقصود من هذا أن من ارتكب حداً أقيم عليه فإنه يصلى عليه ولا زال مسلماً؛ كالمحدود من الزنا إذا تاب، وعلمت توبته، وندم، وأتى يطلب الحد، فإنه يقام عليه الحد، ثم يصلى عليه كما فعل صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم.(61/21)
الصلاة على قاتل نفسه
السؤال التاسع عشر: الصلاة على من قتل نفسه، رجل انتحر، والانتحار حرام، واحتساء السم حرام، ومن فعل ذلك فهو خالد مخلد في النار، يحتسي سمه كما صح عنه عليه الصلاة والسلام، ومن قتل نفسه بالسكين فسكينه معه يطعن نفسه ويجأ بها صدره في نار جهنم، أي يجعله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في النار يفعل بنفسه هذا الفعل.
روى جابر بن سمرة في صحيح مسلم أن رجلاً قتل نفسه بمشاقص؛ قيل المشاقص: شيء من السكاكين الطوال، وقيل: هي الأسهم التي يرمى بها، أي: نحر نفسه فمات، فلم يصل عليه النبي عليه الصلاة والسلام، ترك الصلاة عليه -عليه الصلاة والسلام- ولم يصل عليه.
قال أهل العلم: تعزيراً من الإمام ألا يصلي على هذا.
نسأل الله العافية والسلامة.(61/22)
الصلاة على القبر
السؤال العشرون: هل يصلى على الميت في قبره إذا فاتت الصلاة عليه في الحياة؟ أي: أتيت وصاحبك قد توفي، ولم تدرك الصلاة عليه مع الناس، وأتيت وقد نقلوه وقبروه، ودفنوه، فماذا تفعل؟
الجواب
السنة لك في ذلك أن تذهب وتصلي عليه صلاة الجنازة، وهو في القبر.
لكن يقول أهل العلم: إذا كان العهد قريباً، قدر بعضهم ذلك بشهر، أو ما يقاربه.
لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: {كانت امرأة تقم المسجد -وفي لفظ: رجل- فماتت -فكأنهم سهلوا شأنها، وما أرادوا أن يخبروا الرسول عليه الصلاة والسلام بشأنها -فصلوا عليها ودفنوها، فسأل عنها عليه الصلاة والسلام، فأخبروه أنهم دفنوها أو دفنوه، فقام على قبرها أو قبره فصلى عليه الصلاة والسلام صلاة الجنازة}.
وعند البخاري من حديث ابن عباس موقوفاً عليه، وهو من قبيل المرفوع الفعلي الحكمي، قال: {مر بنا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى على قبر دفن لشهر} فبعض أهل السنة يحددها بشهر.
وأما من طالت مدته فلا، ويكفي الدعاء له والاستغفار.(61/23)
حكم النعي
السؤال الحادي والعشرون: ما حكم النعي في الإسلام؟
الجواب
روى الإمام أحمد والترمذي عن حذيفة قال: {نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن النعي، وقال: لا نعي في الإسلام}.
والنعي المنهي عنه يا أيها الإخوة! هو الإخبار على وجه التشهير؛ أن تشهر بهذا، وتجعل له منزلة كما يفعل الناس الآن في الصحف والمجلات، فيقولون: ننعى إليكم فلان بن فلان الذي توفي يوم كذا وكذا، وينشرون إعلانات في الصحف؛ فهذا من النعي المحرم؛ لأنهم يريدون به الشهرة.
ثم يكتبون بعد ذلك إعلانات شكر لمن شاركهم في العزاء، أو اتصل بهم في الهاتف، وإعلانات شكر لمن زارهم، وواساهم، ولمن بكى من بكاهم أو غير ذلك، وهذه ليست واردة في الإسلام، وهذا خلاف السنة، لأنه لا نعي في الإسلام، لأنه تشهير بالميت.
ولكن روى البخاري عن أبي هريرة قال: {نعى إلينا الرسول صلى الله عليه وسلم النجاشي في اليوم الذي مات فيه} فكيف نجمع بين الحديثين؟ يقول هنا: {نعى إلينا} وهناك نهى رسول الله صلى الله عن النعي، وقال: {لا نعي في الإسلام}.
أما حديث النجاشي {أنه نعى} أي: أخبرنا؛ فالخبر لا بأس به، ولك أن تخبر بموت الميت ليحضر الناس ليصلوا عليه، أما أن تشهر به في الناس، وتندبه، وتخبر به؛ فهذا ليس وارداً، وليس من السنة، وإنما النعي هنا بمعنى: أخبرنا صلى الله عليه وسلم بموت النجاشي في اليوم الذي مات فيه، فصلى عليه الصحابة كما سيأتي.(61/24)
الصلاة على الغائب
السؤال الثاني والعشرون: هل يصلى على الغائب؟ فلو أن رجلاً مات في مدينة الرياض ونحن هنا في الخميس فهل نصلي عليه هنا؟
الجواب
قد كثر الحديث في هذه القضية، وكثر القيل والقال، والعجيب أن للعلماء أربعة أقوال في المسألة.
بعضهم يقول: -كـ الروياني من الشافعية- إذا كان الميت تجاه القبلة فنصلي عليه؛ وهذا لا دليل عليه أبداً.
وبعضهم يقول: يصلى عليه مطلقاً؛ واستدلوا بحديث معاوية بن معاوية الليثي {أنه مات في المدينة، والرسول عليه الصلاة والسلام في تبوك فصلى عليه صلى الله عليه وسلم من هناك} والحديث ضعيف لا يصح، بل يصل إلى درجة الوضع.
ولكن ما هو الصحيح، والراجح في المسألة؟ الراجح -إن شاء الله- أن المسلم إذا مات في بلد لم يصل عليه فيها فيصلى عليه؛ أي: مسلم مات في بلد ولكن ما سمعنا أن أحداً صلى عليه، فنصلي عليه صلاة الغائب.
لأن بعض العلماء قالوا: النجاشي لما توفي؛ توفي بأرض الحبشة وكانوا نصارى وما صلوا عليه، فصلى عليه صلى الله عليه وسلم في المدينة، صلاة الغائب، فالمسلم إذا مات وتيقنا أنه لم يصل عليه مسلم صلينا عليه.
الحالة الثانية قالوا: إذا كان للمسلم بلاء حسن؛ كإنسان مشهور، كعالم من العلماء الكبار، كما يفتي علماؤنا الآن بالصلاة على عالم من العلماء، أو مجاهد من المجاهدين الكبار، أو رجل؛ كان له عدل، وكان يحكم بالكتاب والسنة، فهذا يصلى عليه.
فهي حالتان: إذا لم يصل على الميت في بلده الذي مات فيه.
والحالة الثانية: إذا كان له أثر وبلاء حسن.
أما أنه كلما سمعنا بميت مات قمنا صلينا، كلما مات في الطائف ميت، أو في الرياض، أو في جدة، أو في تبوك قمنا وقلنا للناس مات فلان بن فلان، وليس له أثر وقدم صدق يعرف بين الناس، فليس هذا بوارد في السنة فيما أعلم، هذا في صلاة الغائب.(61/25)
المرغوب في عدد المصلين
السؤال الثالث والعشرون: هل ورد عنه عليه الصلاة والسلام عدد مرغوب فيه في الصلاة؟
الجواب
ورد عند مسلم عن ابن عباس، قال عليه الصلاة والسلام: {ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه}.
وكلما كثر العدد كان أحسن، والسنة أن يكونوا ثلاثة صفوف، وكان ابن عباس يوزع الناس ثلاثة صفوف، لأنه من أحسن ما يكون، وفعل ذلك جابر وكثير من الصحابة.
فالأربعون وما فوق أحسن، وورد عن ابن عباس في رواية (120) لكن الأكثر كأنه على زيادة الأجر.
والله أعلم.
فهنيئاً لمن صلى عليه أربعون أو أكثر لا يشركون بالله شيئاً، وأخلصوا له الدعاء، فعسى الله أن يشفعهم فيه.(61/26)
الصلاة على الجنازة في المسجد
السؤال الخامس والعشرون: هل يجوز لنا أن نصلي على الجنازة في المسجد؟
الجواب
الأصل في ذلك أن تكون في الجبانة -في الصحراء- هذا الأحسن والأحوط، وكان الصحابة يفعلونه، وهو الأغلب في فعلهم مع الجنازة.
لكن روت عائشة كما في الصحيح قالت: {والله ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل وسهل ابني بيضاء إلا في المسجد} احتاجت -رضي الله عنها- أن تدفع حجة من يقول لا يجوز، لأن المشهور عند الصحابة أنه صلى هناك.
وسبب الحديث أن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه وأرضاه- توفي، فأتوا به من البادية، فأدخلوه في المسجد؛ مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام يصلون عليه، فأنكر بعض الصحابة.
فقالت عائشة {ما أسرع ما نسي الناس! والله ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل وسهل ابني بيضاء إلا في المسجد}.
فعلم أنه جائز ووارد أن يصلى على الميت في المسجد إذا كان الجمع أكثر، أو كانت الجبانة أو الصحراء بعيدة، ولا يمكن أن يذهب الناس إلى هناك، فالأمر وارد، وهو وارد في السنة وله أصل ولكن الأولى والأحوط إذا كانت المقبرة قريبة، والناس يتواجدون هناك أن يصلى عليه في الصحراء، (في الجبانة).(61/27)
صفة الصلاة على المرأة والدعاء لها
السؤال الرابع والعشرون: صفة الصلاة على المرأة؟
الجواب
ورد عن جابر بن سمرة: {أن امرأة ماتت في عهده صلى الله عليه وسلم -قيل: ماتت بسبب الولادة، أو ولدها مات في بطنها فماتت بهذا- فقام صلى الله عليه وسلم وسطها فصلى بالناس}.
فالسنة أن يقوم الإمام وسط المرأة، وعند رأس الرجل هذه سنته عليه الصلاة والسلام في الصلاة، والدعاء للمرأة يتغير بلفظ المؤنث، وعلى الرجل بلفظ المذكر، وسوف تأتي الأدعية التي كان يدعو بها صلى الله عليه وسلم.(61/28)
الصلاة على الميت والدعاء
السادس والعشرون: وصف الصلاة على الميت والدعاء؟
ورد أربع تكبيرات، وورد خمس، والراجح الأربع كما يقوله الحنابلة وغيرهم من المحدثين: وكان عليه الصلاة والسلام يكبر التكبيرة الأولى فيقرأ سورة الفاتحة، وكان ابن عباس يجهر بها أحياناً يعلمها الناس، قال: [[ليعلموا أنها سنة]].
وورد أن ابن عباس كان يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} [الإخلاص:1] مع الفاتحة، ويكبر الثانية ويصلي على الرسول عليه الصلاة والسلام -الصلاة الإبراهيمية-: {اللهم صل على محمد وعلى آل محمد} الحديث، ويكبر الثالثة ويدعو للميت كما في حديث عوف بن مالك قال: {توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل، فاقتربت من الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لامست ثيابي ثيابه، فسمعته يقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم عافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه قال عوف بن مالك: فوددت والله أني أنا الميت} يعني: من حسن الدعاء.
وكان عليه الصلاة والسلام، ربما قال: {اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تفتنا بعده واغفر لنا وله} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ثم يسلم تسليمة واحدة على اليمين، كما هو المعروف، وإن سلم تسليمتين فوارد، وفي حديث معقل بن يسار وهو صحيح، وحديث ابن مغفل وهو صحيح {أن الرسول صلى الله عليه وسلم سلم تسليمتين} فللإمام أحياناً أن يسلم تسليمتين إذا أراد، ولكن الغالب والراجح تسليمة واحدة.(61/29)
أجر من شهد الجنازة وما يتعلق بذلك
السؤال السابع والعشرون: أجر من شهد الجنازة: صح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أبي هريرة أنه قال: {من شهد الجنازة حتى يصلى عليها وتدفن عاد من الأجر بقدر قيراطين، كل قيراط كجبل أحد}.(61/30)
موقع المشيع من الجنازة
السؤال الثامن والعشرون: أين يكون المشيع للجنازة؟
الجواب
المشيع الذي يمشي السنة أن يكون أمام الجنازة، لما روى الخمسة وابن حبان {أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة} أما الراكب؛ الذي يشيعها وهو راكب سيارة أو دابة فالسنة أن يكون خلف الجنازة، وأما الماشي فيمشي أمام الجنازة وإن مشى بجانبيها فحسن ولا بأس، ولكن الأفضل أن يكون خلفها.(61/31)
اتباع النساء للجنازة
السؤال التاسع والعشرون: اتباع النساء للجنازة.
تقول أم عطية في الصحيح: {نهينا عن اتباع الجنازة، ولم يعزم علينا} نهاهن صلى الله عليه وسلم لكن كما تقول لم يعزم عليهن، وكثير من أهل العلم يرون أن لا تتبع المرأة الجنازة، ويلحقونها بباب زيارة القبور للنساء؛ لأنها سريعة الهلع، وقليلة الصبر، فليس لها أن تتبع الجنازة بل تبقى في بيتها، وتتقي الله عزوجل، ولو كان الميت قريبها، أو ابنها، أو أخاها، أو أباها، فلا تفعل، بل تبقى في بيتها وتتقي الله، وبيتها أستر لها.(61/32)
أحكام في الدفن وغيره(61/33)
إدخال الميت القبر
السؤال الثلاثون: كيف يدخل الميت قبره؟
الجواب
روى أبو داود من حديث عبد الله بن يزيد أنه قال: {السنة أن يدخل الميت من قبل رجلي القبر} أي: أول ما يدخل رأسه من عند رجله حتى يوضع في قبره.(61/34)
زيارة القبور
السؤال الحادي والثلاثون: زيارة القبور للرجال والنساء.
زيارة القبور سنة للرجال لقوله صلى الله عليه وسلم: {كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر بالآخرة} وهذا الحديث -أيها الإخوة الفضلاء- عند مسلم من حديث بريدة بن الحصيب.
وأما النساء فالراجح عند أهل العلم أنه لا يجوز للمرأة أن تزور القبور، لقوله صلى الله عليه وسلم: {لعن الله زائرات القبور، والمتخذات عليهن المساجد والسرج} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، ولو أن بعضهم يقول يجوز للمرأة أن تزور نادراً لأن لفظ الحديث (زوارات) يدل على الكثرة، لكن الصحيح أن (زائرات) ورد، ولو كان (زوارات) لما أخرجنا اللفظ من أن الرسول صلى الله عليه وسلم منع الزوارات، ومن يخبرنا أن المقصود به من تكثر الزيارة، ولو كان اللفظ للمبالغة، وقطع مادة الإفساد هي الأولى والأحسن، وذلك سداً لذريعة المفسدة، فنمنع النساء أن يزرن المقبرة.
أما ما ورد في صحيح مسلم الذي يستدل به الشيخ الألباني وغيره من العلماء، يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ عائشة لما قالت: {يا رسول الله! إذا زرت القبور ماذا أقول؟ قال: قولي: السلام عليكم دار قوم مؤمنين} الحديث، فهذا -والله أعلم- يقول بعض الشراح، ولا أدري كيف يخرج هذا قال: إذا اضطرت أن تمر بالقبر، أو صادف أن مرت به فلها أن تسلم، كأن تكون في سيارة، أو مرت مع ابنها، أو وحدها ورأت قبوراً فلها أن تسلم وتقول: {السلام عليكم دار قوم مؤمنين} الحديث الذي في مسلم.
هذا هو المقصود، وأما أن عائشة زارت قبر أخيها عند الترمذي من حديث عطاء في مكة وبكت وأبكت، ففي سنده انقطاع، ثم عمل الصحابي وحده لا يقوم به حجة إذا خولف، والمسألة فيها بحث طويل.
والخلاصة: زيارة القبور سنة للرجال، والنساء ممنوعات من ذلك لهلعهن وجزعهن.(61/35)
عذاب الميت ببكاء أهله
السؤال الثاني والثلاثون: ثبت عنه صلى الله عليه وسلم {أن الميت يعذب ببكاء أهله} كما في الصحيح، ولكن البكاء كما قالوا: البكاء الذي فيه نياحة، ورفع صوت، وفيه ندبة وتسخط على القضاء والقدر، أما البكاء الذي يحزن فيه القلب، وتسيل الدموع فهذا ليس فيه بأس.
والرسول عليه الصلاة والسلام دمعت عيناه، وحزن قلبه، وقال في موت إبراهيم: {تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(61/36)
التعزية
السؤال الثالث والثلاثون: السنة في العزاء.
أورد الشوكاني: أن مدة العزاء ثلاثة أيام، وألا يتجمع الناس في بيت الميت، ولا ينصبوا خياماً كما يفعل بعض الناس، ولا يصنع أهل الميت للناس طعاماً، وإنما قال عليه الصلاة والسلام عند الخمسة: {اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم} في قتل جعفر والمقصود أن هذا ليس بوارد في العقل ولا النقل، وما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا الصحابة.
ولسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز كتاب في ذلك تعرفونه، وهو رسالة خاصة يخص أهل الجنوب، لأن السائل من أهل الجنوب.
والسنة أن تعزي ولا تجلس، ولا يذهب الناس جماعات، ولك أن تعزي عند المقبرة، أو في الطريق، أو في السوق، أو بالهاتف، أو برسالة.(61/37)
مصير أهل الكبائر، والشهادة لمعين بالجنة أو النار
الرابع والثلاثون: معتقد أهل السنة في قضيتين:
عصاة الموحدين: سلف أنه يخاف عليهم العذاب، ويرجى لهم الرحمة، ولكن لا يخلدون في النار، ويسمون فسقة من أهل الكبائر، هذا أهل الكبائر.
الثاني: هل نشهد لأحد بجنة، أو نار؟
أما الجنة، فقال ابن تيمية لـ أهل السنة فيها قولان:
القول الأول: لا نشهد بالجنة لأحد إلا من شهد له الرسول عليه الصلاة والسلام.
القول الثاني: من استفاضت عدالته وزهده وصلاحه وخيره؛ شهدنا له بالجنة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: {وجبت وجبت -للجنازتين ثم قال-: أنتم شهداء الله في أرضه}.(61/38)
الأسئلة(61/39)
تلقين الميت في القبر
السؤال
حاضرنا دكتور في جامعة من الجامعات، وأخبرنا أن تلقين الميت في القبر وارد وفي بعض البلاد الإسلامية، يلقنونه ويقولون له: يا فلان قل لا إله إلا الله.
فهل هذا صحيح؟
الجواب
الحديث الذي ورد فيه، ضعيف عند أهل العلم، أورده ابن حجر في بلوغ المرام، وهو ضعيف لا يعمل به، وعليه فلا ينبغي إذا حضرت المقبرة أن تقول: يا فلان، وهو في القبر، إذا قال لك الملك: من ربك؟ فقل: ربي الله.
ومن رسولك؟ فقل: رسولي محمد صلى الله عليه وسلم.
وما دينك؟ فقل: الإسلام، ليس بصحيح، ولا يفعل، والسنن لا تأتي بهذه الأحاديث الواهية، وأنتم لكم أن تراجعوا سنده عند ابن حجر في بلوغ المرام، وأظن ابن حجر يرى ذلك لأنه شافعي المذهب، وللشافعية كلام في هذا، ولكن أهل الحديث يقولون: لا يثبت هذا، ولا نفعله، ونقف مع النص.(61/40)
بطلان قصة عمر مع الملكين في القبر
السؤال
سمعت خطيباً في شريط يقول لما دفن عمر رضي الله عنه وأتاه الملكان، قام من قبره فقال للملكين: من ربكما؟ وما دينكما؟ وما نبيكما؟ وهذا الخطيب مشهور عند الناس؟
الجواب
هذا ليس بوارد، ولم يقله عمر، ومن أخبر الخطيب أن عمر قال ذلك.(61/41)
الصلاة على شارب الدخان
السؤال
هل يصلى على شارب الدخان إذا مات؟
الجواب
نعم يصلى عليه، ولا زال مسلماً موحداً، وهو من العصاة، وما منا إلا مذنب، وغالب الناس يذنبون، وليس فيهم معصوم، ولكن نرجو منه أن يتوب، وأن يستغفر ربه قبل أن يلقى مولاه.(61/42)
الصلاة على تارك الصلاة
السؤال
والدي لا يسجد لله سجدة، ولا يصلي أبداً، فهل نصلي عليه إذا مات؟
الجواب
لو مات على هذا الوضع فالصحيح أنه لا يصلى عليه أبداً، وإنما هو كافر، وهذا قول أهل العلم وهو شبه إجماع.
وينص ابن تيمية على أن من ترك الصلاة فقد كفر، وأحاديثه عليه الصلاة والسلام تدل على هذا، مثل قوله: {} {بين المسلم والكافر ترك الصلاة} فعليك أن تدعو لوالدك في الصلوات، وأن تحذره من لقاء الله عزوجل، وأن تنذره وعيد الله عزوجل، وأن تحاول أن تؤثر عليه حتى يلقى الله وهو مسلم، فإنها والله مأساة ما بعدها مأساة أن يموت كافراً على هذا الحال، وهل الكفر إلا ترك الصلاة؟!(61/43)
القبلة في الصلاة على القبر
السؤال
بالنسبة للصلاة على الميت وهو في قبره، هل نجعله إلى القبلة؟
الجواب
تجعل القبلة أمامك، يعني: القبر بينك وبين القبلة ثم تصلي إلى القبلة، أي: لا تستدبر القبلة، وهذا أمر معلوم.
أيها الإخوة الفضلاء! في ختام هذه المحاضرة أشكركم شكراً جزيلاً، وأسأل الله أن يجمعنا بكم في دار الكرامة، وأن يثبتنا وإياكم على القول الثابت.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(61/44)
الذين يستحقون اللعنة
اللعنة: هي الطرد والإبعاد من رحمة الله ومن كرم الله؛ فيجب على المسلم أن يحذر من لعنة الله, ويجب عليه أن يعلم الأشياء التي إذا فعلها أو اتصف بها وقعت عليه اللعنة, وقد ذُكر في هذا الدرس ستة عشر حديثاً تبين من هم الذين يستحقون اللعنة من الله والطرد من رحمته تبارك وتعالى, فما هي هذه الأحاديث التي يجب علينا معرفتها وتجنب ما فيها مما يؤدي إلى اللعن؟(62/1)
أحاديث اللعن
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين.
فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
أيها الناس: بين يدي الآن وثيقة شرعية، وقائمة نبوية بأسماء الذين لعنهم الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فنعوذ بالله من مقته، ونعوذ بالله من لعنته، ونعوذ بالله من غضبه.
سوف أقرؤها بين أيديكم، علنا أن نجتنب هؤلاء الملعونين وهذه اللعنة.
واللعنة: هي الطرد والإبعاد من رحمة الله ومن عفوه، وكرمه.
وتوخيت في هذه القائمة الأحاديث الصحيحة والحسنة التي ثبتت عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم إلا في بعض الألفاظ فنبهت على ذلك، وتجنبت الضعيفة، وإلا فالملعونون والملعونات عشرات في كثير من الأحاديث النبوية.
وسوف أسرد الأحاديث ثم أعود فأعقب بشرحٍ موجزٍ على كثير من الألفاظ.
- يقول عليه الصلاة والسلام: {لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها} رواه أبو داود، وصححه الحاكم عن ابن عمر.
- وقال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما} رواه أحمد عن ثوبان وللترمذي والحاكم نحوه، وكلمة الرائش في ثبوتها نظر.
- وقال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء} رواه مسلم.
- وقال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده} رواه البخاري ومسلم.
- وقال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء} رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
- وقال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل} رواه أبو داود وصححه الحاكم.
- وقال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله المحلل، والمحلَّلَ له} رواه أحمد والأربعة.
- قال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله النائحة والمستمعة} رواه أحمد وأبو داود.
- قال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله} رواه البخاري ومسلم.
- قال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة} متفق عليه.
- قال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله زوارات القبور} رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وعند الثلاثة: {زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج} وفي الجملة الثانية ضعف, ولها شواهد تحسن بها.
- قال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله من لعن والديه، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غير منار الأرض} رواه مسلم وأحمد والنسائي.
- قال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله من مثل بالحيوان} متفق عليه.
- قال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور} رواه ابن ماجة، وصححه ابن حبان.(62/2)
الملعونون في الخمر
فلنعد إلى بعض الألفاظ، ولنستمع إلى هؤلاء الملعونين وصفاتهم، علَّ الله أن يدرأ عنا وعنكم لعنته، وغضبه، ومقته، وويله.
يقول عليه الصلاة والسلام: {لعن الله الخمر وشاربها} ويدخل في ذلك المتعاطي للمخدرات بأنواعها؛ لأن العلة واحدة وهي: السكر وذهاب العقل، فمن باع المخدرات حبوبها، وحشيشها، وأنواعها فهو ملعون، ومن حملت إليه، ومن روّجها، ومن سار فيها، ومن تستر على أصحابها.
{ومبتاعها وعاصرها} الذي يزاول عصر العنب والتمر وما في حكم ذلك.
{ومعتصرها} من تعصر له.
{وحاملها} من بلد إلى بلد، ومن شخص إلى شخص.
{والمحمولة إليها، وآكل ثمنها} وهو الذي يبيعها ويأخذ ثمنها.(62/3)
الملعونون في الرشوة
ويقول عليه الصلاة والسلام: {لعن الله الراشي والمرتشي والرائش} الراشي: هو الذي يرشي المسئولين والعمال والوجهاء ليحصل على حق ليس له، ويصرف حقاً استحقه صاحبه، فمن دفع رشوة لمسئول، أو لعامل، أو لوالي أمر من ولاة المسلمين، فهو ملعون، ومن قبلها فهو ملعون، ومن سار بينهما في الواسطة فهو ملعون على لسان المصطفى عليه الصلاة والسلام.
والله أكبر، ولا إله إلا الله، كم للرشوة من فساد في مجتمعنا! كم عطلت من حق، وكم هدمت من حق، وكم ركبت من ظلم، وكم ضيعت من حقوق لأصحابها، وهي جريمة شنعاء، ملعونٌ من زاولها، ملعون من رضي بها، ملعون من حملها.
والرشاوى إما من أجل أن يسهل له خدمة، أو يقدم له جائزة، أو يسهل له أرضاً، أو يدفع له مالاً؛ كلهم يدخلون في لعنته صلى الله عليه وسلم.(62/4)
الملعونون في الربا
وأما قوله: {لعن الله آكل الربا} وهو من زاول أكله.
{وموكله} وهو من أعطاه وقدمه وبذله.
{وكاتبه} أي: من توظف في كتابته، ومن زاول العمل الذي فيه ربا.
{وشاهديه} من يوقع على الصك، ويمضي العقد، ويصرف الحوالة؛ فهو ملعون على لسان أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم.(62/5)
لعن السارق
{ولعن الله السارق يسرق البيضة} قيل: بيضة الدجاجة، ولا يقطع عليها لكن يتدرج حتى يسرق ما هو أكبر منها فتقطع يده.
وقيل: البيضة التي يضعها المقاتل على رأسه، فتقطع يده لدناءته، وحقارته في الإسلام.(62/6)
لعن المتشبهين من الرجال والنساء
{ولعن الله المتشبهات من النساء بالرجال} وهن اللواتي يلبسن لباس الرجال، ويمشين مشية الرجال، ويتكلمن كلام الرجال، ويجلسن جلسة الرجال، ويزاولن أعمال الرجال؛ هن ملعونات على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم بلعنة الله.
ويدخل في ذلك: المغنيات، والراقصات، والداعرات؛ فإنهن خرجن عن الحجاب والستر، وفعلن ما يفعل المغنون والماجنون والراقصون، وحسابهم عند الله.
{والمتشبهين من الرجال بالنساء} هم الذين يتأنثون في مشيتهم، ولبسهم، ودبلهم، وخواتمهم، وشعورهم، وأظافرهم، وكعوبهم؛ فهم ملعنون، وهم يسمون في الشريعة المخنثون، ولا حظ لهم في الخير إلا أن يتوب الله عليهم توبة نصوحاً.
ويدخل في ذلك: من رقق صوته كالمرأة، ومن جلس جلسة المرأة، ومن مشى مشية المرأة، ومن تثنى تثني المرأة، ومن استخدم المزينات والمكاييج التي تتزين بها المرأة فهو يدخل في هذه اللعنة.
وقال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل} قال أهل العلم: اللباس الخاص بالرجال في عرف الناس للرجال، واللباس الخاص بالنساء في عرف الناس للنساء، فمن لبس من الرجال لبسة المرأة فهو ملعون، ومن لبسن من النساء لبسة الرجال فهن ملعونات على لسان أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم.(62/7)
لعن المحلل والمحلل له
وقال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله المحلل والمحلل له} المحلل: هو الذي يأتي إلى الزوجة المطلقة وهي التي طلقت ثلاثاً وأخذت العدة، فلا تجوز للأول حتى ينكحها زوجٌ آخر، كما نص على ذلك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فيأتي هذا الرجل فيتزوج هذه المرأة باتفاق مع الزوج الأول لا لقصد أن تكون زوجة له، ولكن ليحللها فيمكث معها فترة، أو يدخل بها ثم يطلقها فيتزوجها الأول باتفاق بينهما؛ فهذا ملعون وذاك ملعون.
وإنما يجوز أن يتزوجها لقصد أن تكون زوجة، ثم إذا بدا له أن يطلقها فيطلقها ويتزوجها الزوج الأول.
فمن فعل الصورة الأولى فهو ملعون بلعنة الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.(62/8)
الملعونون في النياحة
وقال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله النائحة} النائحة: التي تنوح في المأتم، وتدعو بالويل والثبور، وتصيح في وقت المصائب والثواكل والكوارث، إذا مات أبوها أو أخوها أو زوجها أو ابنها، رفعت صوتها وولولت، وناحت، وقالت: يا فلان ابن فلان! يا ظهراه! يا جبلاه! واكريماه! واشجاعاه! فهي ملعونة.
ويدخل في ذلك المستمعة، قال بعض أهل العلم: هي التي تأتي بالنائحة، وتدفع لها أجرة، وتمهد لها، وتدخلها بيتها، فهي ملعونة، والسر أنهم ما رضوا بقضاء الله، وتسخطوا على حكم الله، وأثاروا الفاحشة في عباد الله، فهن ملعونات.(62/9)
الملعونون في الوشم والنمص وتغيير خلق الله
قال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله الواشمات، والمستوشمات} الواشمة: هي التي تضع الوشمة في خد النساء، والوشم كالحبر، وكالصبغ الأخضر والأسود وما يدخل في حكمه، فهي: تأتي بعقاقير معها وبمخايط، وتدخل الوشم في خدود النساء فهي ملعونة.
{والمستوشمات} هن اللواتي يأتين بالوشم ويضعنه في خدودهن وعلى أنوفهن وتحت شفاههن، فهن ملعونات، وهذا الوشم حرام.
{والنامصات والمتنمصات} والنامصة: هي التي تقلع شعر حاجبها، وتنتف شعر حواجبها لتزججه، وتطريه، فهذه ملعونة، هذه النامصة تفعل بالأخرى، والمتنمصة التي تستدعيه، وتحبذه، وتفعله بنفسها بواسطة هذه النامصة، فهن ملعونات بلعنة الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{والمتفلجات} وهن اللواتي يوشرن أسنانهن، وينشرن أسنانهن، ويحددنها فهن ملعونات، أو يجعلن فرجات بين الثنايا والأسنان، فهن ملعونات بلعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{المغيرات خلق الله} وهن اللاتي يفعلن في أنفسهن ما يغير خلق الله بهن.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله الواصلة والمستوصلة} الواصلة: التي تصل شعر غيرها؛ فوصل شعر المرأة حرام، لا يكون إلا من أصل, أما الوصل حرام، ملعونة الواصلة، والمستوصلة التي تطلب من النساء أن يوصلن شعرها, فملعونة الأولى وملعونة الثانية بلعنة الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذه اللعنة للنساء، لكن -والله- وجد من بعض الشباب الذين ضيعوا لا إله إلا الله، وجهلوا لا إله إلا الله، وضيعوا أصالتهم، وكرامتهم، وعزهم، وإباءهم، ونخوتهم؛ من يوصل شعره، ويركب الباروكة على رأسه فهو حقيق باللعنة من الله من فوق سبع سموات.
نسأل الله أن يدرأ عنا وعنكم غضبه ولعنته، ونسأله رضوانه ورحمته، وأن يفقهنا وإياكم في الدين، ويجعلنا وإياكم من الراشدين المهديين المتفقهين في الدين، الذين يعيشون على نور من الله.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله الكريم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(62/10)
لعن زوارات القبور
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المتقين، وقدوة الناس إلى الله أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فبقي من هذه الأصناف التي صحت بلعنهم الأحاديث، وحسنت عن المصطفى عليه الصلاة والسلام قوله صلى الله عليه وسلم: {لعن الله زوارات القبور} رواه أحمد وابن ماجة والحاكم ومعنى: زوارات: بصيغة المبالغة: هن اللواتي يتعاهدن القبور بالزيارة، ويكون لهن زيارة مكثفة على القبور، وقد نهى صلى الله عليه وسلم أن تزور المرأة القبور؛ لما في زيارتها من فتنة، وجزع، وهلع، وتسخط.
ولأنها: ضعيفة القلب.
ولأنها: متعرضة للعيون، فمنع عليه الصلاة والسلام زيارة المرأة للقبور.
ولعن من اتخذ من النساء زيارة القبر عادة لها وأكثرت منها، فمن فعل ذلك من النساء فقد استحقت اللعنة.
وفي لفظ: {لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج} وقال بعض أهل العلم: لا تشملهن اللعنة حتى تتخذ المسجد والسراج.
ولكن أبعد للريبة وأبعد للمعصية ألا تزور المرأة القبر بحال من الأحوال، وإذا أتت على القبر فاتخذت مسجداً، أو مصلىً، أو سراجاً، أو بنت بناءً شملتها اللعنة وأحاطت بها؛ لأنها خالفت أمر الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.(62/11)
لعن من لعن والديه
وقال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله من لعن والديه} وقد استحق اللعنة، ولا يفعل ذلك إلا فاجر، وقد وجد من هذا الصنف كثير، بل أخبرنا كثير من الإخوة الثقات أن هناك شباباً ضربوا أمهاتهم ضرباً مبرحاً, وقد استدعي بعضهم إلى رجال الأمن في بعض المناطق بشكوى من أمه ضربها سبع مرات، فلما أوقف أمام رجال الأمن بكى وأخذ يقبل رجلي أمه، قال: أتوب.
قالت: لا والله اضربوه، لطالما أبكاني.
يبكي هو مرة والله لقد ضربني مرات، فهذا فجور وهو ملعون، ومن لعن والديه ملعون.
واحذر من استدعاء سب الوالدين، بأن يتعرض بعض الناس بقلة الأدب بسب والدي الناس فيسبون أباه وأمه.
نسأل الله العفو والعافية.(62/12)
لعن من ذبح لغير الله
وقال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله من ذبح لغير الله} وهي الذبيحة الشركية، التي تذبح في النذور الشركية، وعند القبور، وعند الأصنام، وبأخبار الكهنة والسحرة والمشعوذين، أن يقولوا: اذبح ذبيحة لونها كذا، وصفتها كذا، فمن فعل ذلك وأطاعهم فهو ملعون.
وهذه الذبائح كثرت في هذا الزمن خاصة في البوادي والقرى مع الكهنة والمشعوذين والسحرة أعداء الله.
فليعرف المؤمن لمن يذبح، وليكن نسكه لله وقصده بذبيحته وجه الله، ولا يتقرب بشيءٍ من هذه إلى غير الله تبارك وتعالى.(62/13)
لعن من آوى محدثاً
{ولعن الله من آوى محدثاً} المحدث: هو الفاجر المتهتك في حدود الله، الذي اشتهر فجوره، كالسارق الذي تمرد على ولاة الأمور وعلى حدود الله، وكالمروّج للمخدرات، وكالفاجر الذي عرف فجوره، فمن ستره، وتستر عليه ودرأ عنه الحد، وحاول أن يتلبس به، وأخفاه عن ولاة الأمور، فهو ملعون؛ لأنه فعل جريمة، وجرح شعور المسلمين، ولأنه سبب في انتشار الجريمة والفاحشة في المجتمع المسلم.(62/14)
لعن من غير منار الأرض
{ولعن الله من غير منار الأرض} منار الأرض: هو الحد الذي يفصل بين حق الرجل والرجل, في المزارع والحقول والديار والدور، وهو يسمى باللغة العامية التي ليست بصحيحة: الوتد، ويسمى: الحد، فمن غيّره على غير ما وضع له فهو ملعون، ولا يفعل ذلك إلا من قلَّ إيمانهم ويقينهم.
نسأل الله العفو والعافية.(62/15)
لعن من مثّل بالحيوان
وقال صلى الله عليه وسلم: {لعن الله من مثّل بالحيوان} أي: شوه الحيوان، أو قتله من غير ذبحه، كأن يقطع رجله وهو حي، أو يقطع ذيله، أو يصعقه صعقاً، أو يرميه وهو واقف مربوط برصاص، فقد مثل به، أو قطع أذنه، أو فقأ عينه، فهو ملعون بلعنة الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.(62/16)
لعن المتسخطات
{ولعن الله الخامشة وجهها} في المآتم والمعازي، وهي التي تخمش وجهها من الجزع والهلع.
{والشاقة جيبها} في مناسبة الموت تشق ثوبها فهي ملعونة.
{والداعية بالويل والثبور} وهي التي تتسخط على القضاء والقدر، وقد سبق بيان ذلك في {النائحة}.
فيا عباد الله! أخبروا أسركم بهذا، وأخبروا بناتكم وزوجاتكم وعماتكم وخالاتكم، وانشروا الخير في بيوتكم، وأخبروهم بمحارم الله وحدود الله؛ لئلا تنالهم لعنة الله وغضبه.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
وصلوا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين!(62/17)
حب الصالحين
إن الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، وبالحب في الله يجد العبد حلاوة الإيمان، ولكن في هذا الزمان انقلبت موازين الحب والبغض، فأصبح الناس يحبون أهل المال والفجور والغناء.
فعلى المسلم أن يعرف من يحب، ومن يصاحب، ومن يجالس، وهناك ثلاثة أصناف من الناس لا تُصاحَب، وللإخوة حقوق يجب على المسلم مراعاتها.(63/1)
مصاحبة الصالحين
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثلما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت من أطاعك قربته، ومن تقرب إليك أحببته، ومن عصاك أدبته، ومن حاربك خذلته وأهنته، في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي النار سطوتك، وفي الجنة رحمتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك.
لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، والصلاة والسلام على معلم الخير، وهادي البشرية، ومعلم الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية، صلى الله عليه وسلم ما تعلقت عين بنظر، وما اتصلت أذن بخبر، وما هطل مطر، وما هتف ورق على شجر، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ذا عفاف وحياء وكرم
قوله للشيء لا إن قلت لا وإذا قلت نعم قال نعم
هذان بيتان للمجاهد الزاهد عبد الله بن المبارك رضي الله عنه يدعو فيهما إلى حب الصالحين، وتولي الأبرار، ومرافقة الأخيار.(63/2)
الولاء والبراء من عقيدة أهل السنة والجماعة
إن الولاء والبراء من عقيدة أهل السنة والجماعة، وإن حب الصالحين جعل محمداً عليه الصلاة والسلام يشتاق لـ بلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي.
إن هذا الدين أخرج صلاح الدين من الأكراد، ومحمد الفاتح من الأتراك، فجعلهم في سبيل الله.
إن التولي عن هذا الدين جعل أبا طالب وأبا لهب وأمية بن خلف في النار، وعقيدة الولاء والبراء وحب الصالحين وبغض المعرضين هي عقيدة كعقيدة الصيام والصلاة والزكاة.
والله يصف أولياءه فيقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].
فحب الصالحين طريق إلى الجنة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول عن هذا الحب: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان} وللإيمان حلاوة وذوق، لا يذوقه أهل البارات والخمارات، ولا أهل القصور والدور، ولا أهل المناصب والبساتين، ولا أهل ناطحات السحاب إذا كانوا بلا إيمان.
فالإيمان له حلاوة يذوقها أولياء الله: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان -منها-: وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله} لا للونه أو نسبه، ولا لمنصبه أو شهامته أو عصبه، ولكن لأنه مؤمن بالله العظيم.
ويقول سبحانه: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] والعداوة تظهر يوم القيامة، وفي أثر: {أن الله ينادي الناس يوم القيامة، فيقول: يا أيها الناس! إنني جعلت نسباً، أو جعلتم نسباً فوضعتم نسبي ورفعتم أنسابكم، قلت: إن أكرمكم عند الله أتقاكم، فقلتم: أكرمنا فلان بن فلان وفلان بن فلان، فاليوم أضع أنسابكم وأرفع نسبي، إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.
وقف حبيبنا صلى الله عليه وسلم على الصفا يعلن حقوق الإنسان، ويتكلم عن فضل الإنسان، وما ميزه الله به، وما هو أساس التمايز والتفاضل بين الناس، فيقول لبني هاشم -أسرة الريادة في العالم ولا يوجد أشرف من بني هاشم في الكرة الأرضية- قال: {يا بني هاشم! لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم، من بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه} والمقصود هنا: أن من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان -وهذا هو أساس الدين-.
قال ابن عمر: [[والله الذي لا إله إلا هو، لو أنفقت أموالي غلقاً غلقاً في سبيل الله وصمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، ثم لقيت الله لا أحب أهل الطاعة، ولا أبغض أهل المعصية، لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار]].(63/3)
حب السلف بعضهم لبعض
الشافعي -الإمام العلم- هاشمي، ولكن ما نظر إلى هاشميته، ولا إلى قرشيته، بل نظر إلى تعامله مع الله، يقول في البيتين المشهورين:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة
يقول: أنا عاصي، لكن لا أحب العصاة، وأنا مقصر في الطاعة، لكني أحب الطائعين، يقول الإمام أحمد له:
تحب الصالحين وأنت منهم ومنكم يرتجى نيل الشفاعة
يقول: من أين خرج الإسلام إلا من بيتكم، ومن أين أشرقت شمس الرسالة إلا من عقر داركم، فأنت من الصالحين، ومن مثلك تطلب الشفاعة لصلاحك وخيريتك.
كان الشافعي أكبر سناً من أحمد، وكان أكثر علماً في أصول الفقه والفقه، وكان يزور أحمد في بيته، فقال له تلاميذه: تزور أحمد وأنت أكبر سناً من أحمد، فرد ببيتين يقول فيهما:
قالوا: يزورك أحمد وتزوره قلت: الفضائل لا تغادر منزله
إن زارني فلفضله أو زرته فلفضله فالفضل في الحالين له(63/4)
فضل الحب في الله
رفعهم الله، لأن محبتهم في الواحد الأحد، وصح عنه عليه الصلاة والسلام: {أن رجلاً زار أخاً له في قرية، فأرصد الله في طريق هذا الزائر ملكاً من الملائكة، فوقف للزائر، قال: أين تريد؟ قال: أريد فلان بن فلان، قال: ماذا تريد منه؟ قال: أحبه في الله، فأريد زيارته في الله، قال: أمالك من نعمة عنده تربها؟ - أي: تردها بقاءها؟ - قال: لا.
والله الذي لا إله إلا هو، ما زرته إلا في الله، قال: فأنا ملك أرسلني ربي أخبرك أن الله غفر لك ولصاحبك}.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إذا التقى المسلمان فتصافحا، تحاتت خطاياهما كما تحت الشجرة ورقها}.
الإسلام يُبنى على الحب، والحب شجرة الإسلام، ولا يمكن أن تكون ولياً لله حتى تحب أولياء الله، فمن هم أولياء الله؟
هم أهل المسجد والمصحف والحديث والاستقامة والخير للمسلمين، قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56].(63/5)
أثر غياب عقيدة الولاء والبراء
لما مات الولاء والبراء، أصبح الكافر مقدم عند بعض المسلمين على المؤمن المصلي، ورأينا من سلخت شعائر العبادة والتوجه إلى الله من قلبه؛ يقدم الكافر الأشقر الوثني على المسلم المصلي لا لشيء، وإنما لأنه مهزوم من داخله، في قلبه مرض فزاده الله مرضاً، ينظر لهذا المسلم بعين الحقارة، وينظر لهذا الأشقر الأحمر بعين التعظيم والحضارة والمادة والصناعة، وهذا من الرذيلة التي ما بعدها رذيلة.
كتب أحدهم سؤالاً يقول لنا: أخٌ في شركة إذا حضر وقت الغداء، تركنا وذهب يتغدى مع الخواجات.
قلنا: المرء يحشر مع من أحب، فهو يحشر معهم، ولولا هذه الانهزامية في قلبه، ما فَعَل ما فَعَل، بل تجد بعض الناس يقدم للكافر من الخدمات والاحترام مالا يقدم عشر معشاره لإخوانه المسلمين، لأن صورة الإسلام ما وضحت في قلبه.
[[عمر رضي الله عنه كتب له أبو موسى من العراق، فقال: عندنا نصراني وهو كاتب حذق فطن، فهل يكتب لي؟ فكتب له عمر: لا يكتب لك، فرد أبو موسى وقال: إنه كاتب حذق، فرد عمر قال: قاتلك الله! تقربهم بعد أن أبعدهم الله، وترفعهم بعد أن أهانهم الله، وتكرمهم بعد أن أذلهم الله، لا يكون لك كاتباً أبداً]].
إذا علم هذا، فيا إخوتي المسلمين! عاش السلف على هذا المنهج الرباني: أن تحب الرجل لا تحبه إلا لله.
{قام عليه الصلاة والسلام خطيباً، فتحدث فقاطعه أعرابي، وقال: متى الساعة يا رسول الله؟ فلما انتهى قال: ماذا أعددت للساعة؟ قال الأعرابي: يا رسول الله! والله ما أعددت لها كثير صيام ولا صدقة ولا صلاة، ولكني أحب الله ورسوله، قال عليه الصلاة والسلام: المرء يحشر مع من أحب} وهذه قضية كبرى في حياة المسلم تجعله يحب الصالح لنفسه.(63/6)
معرفة صاحبك وجليسك
قال رجل لـ ابن المبارك: مع من تنصحني أن أجلس؟ قال: اسمع مني، قال: نعم قال:
من كان ملتمساً جليساً صالحاً فليأت حلقة مسعر بن كدام
فيها السكينة والوقار وأهلها أهل العفاف وعلية الأقوام
في الناس مجالس تقرب من النار والعار في الدنيا والآخرة، فهناك مجالس في المجتمع من مجالس جهنم، من مجالس إبليس يدار في بعض مجالس اللاهين العابثين الاستهزاء بالله ورسوله وبالجنة والنار ولقاء الله، وبعضهم يستهزئ بالدعاة والعلماء وطلبة العلم، فالجلوس مع مثل هؤلاء قطعة من النار والعار والدمار والشنار في الدنيا والآخرة إلا أن يعظهم وينصحهم، وإن من الناس من حبه بُعدٌ من الله عز وجل.
قال جعفر الصادق لابنه: [[يا بني! لا تصاحب ثلاثة، فقد غضب الله عليهم: لا تصاحب عاق الوالدين فإن الله قد تبرأ منه، ولا تصاحب الكذاب فإنه يقرب لك البعيد ويبعد عليك القريب، ولا تصاحب البخيل فإنه يبيعك بأدنى سبب]].
إذا علم هذا فليعرف العبد من يجالس، ومن يؤاكل، ومن يحب، قال صلى الله عليه وسلم في حديث حسن: {لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي} ولما حضرت عمر سكرات الموت قال: [[ما آسى على الحياة إلا على ثلاث -وذكر منهم-: رفقة أجلس معهم ينتقون أطايب الكلام كما ينتقون أطايب التمر]].
وهؤلاء أولياء الله إمامهم محمد عليه الصلاة والسلام، ودستورهم القرآن، وبيوتهم المساجد.
ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً أهدوك من نورهم ما يتحف الساري
تروى وتشبع من سيماء طلعتهم بوصفهم ذكروك الواحد الباري
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
وفي صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: {يقول الله يوم القيامة: أين المتحابون في جلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي}.(63/7)
عاقبة جلساء السوء
يا إخوة الإسلام! يا شباب الإسلام! أحذركم جلساء السوء: قوم جلسوا على الأرصفة يروجون المخدرات ويرتكبون المحرمات ويقاطعون الصلوات، ويستمعون الأغنيات الماجنات، قوم تخلوا عن الأدب، وحاربوا منهج الأنبياء والرسل، معهم كل لهو ولعب، صدوا عن منهج الله، وحرفوا شباب الإسلام عن بيوت الله.
الجليس السيء مؤذٍ، قال ابن القيم: وهل كان أشأم على أبي طالب من أبي جهل؟ أبو طالب أراد أن يتحرك في سكرات الموت ليقول: لا إله إلا الله -ولو قالها؛ لسعد في الدنيا والآخرة- ولكن منعه أشأم الناس عليه.
معلم الخير الزعيم العالمي المصلح عليه الصلاة والسلام كان عنده حين حضرت عمه سكرات الموت، فأخذ -صلى الله عليه وسلم- رداءه مسرعاً من البيت، وعلي بن أبي طالب -الشاب المؤمن- يقول: يا رسول الله! عمك الشيخ الضال في سكرات الموت، انظر الولاء والبراء عند علي يقول: عمك، يعني: أبي الشيخ الضال، لأنه ليس مسلماً فأخذ صلى الله عليه وسلم رداءه مسرعاً يريد أن يلحقه في ساعة الصفر -ساعة الموت- التي يذعن فيها المتكبر، ويسلم فيها الكافر، ويفتقر فيها الغني، ويلين فيها القاسي، يريد أن يظفر بلا إله إلا الله، يريد أن يحاج له بلا إله إلا الله، فدخل فجلس عنده، ولكن الجليس السيء المجرم السفاك الأجرب أبو جهل كان جالساً من قبل، فيقول عليه الصلاة والسلام: {يا عمِّ! قل: لا إله إلا الله؛ كلمة أحاج لك بها عند الله، فتنحنح أبو طالب واتكأ وأراد أن يقولها، فقال أبو جهل: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ لا تقل لا إله إلا الله، فمات على غير لا إله إلا الله}.
انظر إلى الجليس السيء هامان وقارون كان أحدهم عن يمين فرعون والآخر عن يساره، فكلما أراد أن يهتدي ويعلن لا إله إلا الله، خيبوا طريقه وأظلموا بصائره.
وهذه هي حاشية السوء وبطانة الردى، كلما أراد أحد أن يعمل خيراً أو وينتج أو ينصر الدين؛ أزوه أزاً وهم شياطين الإنس والجن، فلذلك كان فرعون في قلبه لا إله إلا الله، يقول له موسى: يا مجرم! والله إنك لتعلم أنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102] ولكن رفضها مستشاراه ووزيراه ومفوضاه، كلما أراد أن يعلن لا إله إلا الله، رفضا ولم يضر المسيرة الإسلامية إلا جليس السوء.
والعرب تقول: الصاحب ساحب، وهو لصٌ يأخذ منك ما لا تأخذ منه.
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
يقول عليه الصلاة والسلام كما صح عنه: {مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، أما حامل المسك فإما أن تشتري منه وإما أن يحذيك، وأما نافخ الكير فإما أن يحرق ثيابك أو تجد منه رائحة منتنة} فأنقذوا أنفسكم من جلساء السوء، وعصابات الإجرام، وأصحاب الفاحشة الذين يريدون أن يكون الدين عوجاً ولا يريدون صلاحاً للعباد والبلاد والأمة.
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، أقول هذا وأستغفر الله العظيم الجليل فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(63/8)
حقوق الأخوة في الإسلام
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، الحمد لله على ما أعطى، والحمد لله على ما أسدى، والحمد لله على ما رفع وسوى، الحمد لله جعلنا خير أمة أخرجت للناس، الحمد لله جعل إمامنا خير الرسل وكتابنا خير الكتب وقبلتنا خير ما يتوجه إليه، والصلاة والسلام على معلم الخير، وهادي البشر خير من بعث بالرسالة الخالدة، فأخرج الإنسان من الظلمات إلى النور وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(63/9)
الدعاء في ظهر الغيب
الإخاء في الإسلام له حقوق، ومن حقوق الإخاء: دعوة الغائب للغائب، أن تدعو لأخيك بظهر الغيب، وأن تسأل الله -عز وجل- له التوفيق والسداد.
{عمر بن الخطاب ذهب يؤدي عمرةً -والحديث عند الترمذي - فاستأذن الحبيب عليه الصلاة والسلام ليأذن له أن يعتمر، فلما مرَّ ووقف في ساعة الوداع، قال له عليه الصلاة والسلام: لا تنسنا من دعائك يا أخي} عجباً! التلميذ يدعو لشيخه؟ الطالب يدعو لمعلمه؟ ورقة عمر من شجرة محمد عليه الصلاة والسلام.
كان عمر يتذكر هذه الكلمة، فنسي عمر كل شيء إلا هذه الكلمة، وغفل عن كل شيء إلا هذه الكلمة، كان إذا ذكرها في أيام الخلافة بكى، وقال: [[عجباً {لا تنسنا يا أخي من دعائك}.
كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها]].
وعند أحمد في المسند وغيره أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {يقدم عليكم رجل من أهل اليمن اسمه أويس بن عامر القرني، له والدة هو بها بار، أصابه برص فبرئ منه إلا موضع درهم، فمن لقيه منكم، فليطلبه ليدعو له، أو يستغفر له} سبحان الله! رجل لم يدرك الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه رجل صالح دعاؤه مقبول، في بعض الروايات: {يشفع يوم القيامة في مثل قبائل مضر يدخلهم بإذن الله الجنة}.
قدمت وفود اليمن سنة بعد سنة، وكان أبو بكر وهو خليفة ينتظر الوفود ويسألهم، لكن ما حظي بهذا، وتوفي أبو بكر، وتولى عمر وسأل قوافل اليمن: [[أفيكم رجل اسمه أويس بن عامر؟ حتى لقي وفداً قالوا: نعم فينا، قال: أين هو؟ قالوا: يرعى الإبل في الصحراء، وجئناك نسلم عليك -لم يكن له ميزان ومكانة من تفاهته عندهم في ميزان البشر وميزان الجاهلية، جعلوه يرعى الإبل- قال عمر: أله والدة هو بها بار؟ قالوا: نعم.
قال: أصابه برص فشفي منه وبقي منه أثر؟ قالوا: نعم.
قال: قوموا بنا، فقام هو وعلي على حمار والصحابة حوله]].
جزى الله المسير إليك خيراً وإن ترك المطايا كالمزاد
سلام عليك يا عمر تركب الحمار ولكنك أرغمت الدنيا للا إله إلا الله، تركب الحمار، ولكن أبطالك دخلوا حدائق الأندلس بسيوف لا إله إلا الله، تركب الحمار، ولكنك دست تحت حذائك إمبراطورية كسرى وهرقل عظيم الروم، وأعلنتها في الخافقين أن لا حكم إلا لله.
عمر تاريخ أمة، ودستور حياة، وقصة مجد، فوصل إلى أويس ووجده يصلي الضحى ما عنده من الدنيا قليل ولا كثير.
ديننا هذا يجعل الإنسان المسكين الذي ينام على الرصيف خيراً من ملايين مملينة من الذين ينامون في ناطحات السحاب وهم لا يعرفون الله، صاحب القصور بلا إيمان دابة، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:125 - 126].
[[وقف عمر عليه على أويس فقال: من أنت؟ قال: أويس بن عامر، فسأله قال عمر: ادنُ مني، فدنا، فقبله عمر، فبكى هذا الرجل -قبلة حظي بها من عمر بن الخطاب الزاهد الشهيد الشهير، هي خير من الدنيا وما فيها- قال: استغفر لي، فبكى أويس، وقال: يا أمير المؤمنين! أأنا أستغفر لك وأنت أفضل مني؟! -إي والله، والله لـ عمر أفضل من أويس وآلاف أويس، ولكن دعوة أويس طيبة- قال: استغفر لي، قال: غفر الله لك يا أمير المؤمنين، قال: أتبقى معي؟ قال: يا أمير المؤمنين! اتركني في غمار الناس لا أعرف، فتركه في غمار الناس حتى مات]].
دعوة الصالح للصالح من أحسن ما يكون وأفضل الدعاء دعوة غائب لغائب.
وصل ابن الإمام الشافعي بعد وفاة أبيه إلى أحمد، فقال له أحمد: أبوك من السبعة الذين أدعو الله لهم في السحر وأنا في السجود، سبعة أسماء كان يحفظها أحمد بأسمائهم وأسماء آبائهم، اللهم اغفر لفلان بن فلان، وفلان بن فلان سبعة، وهذا يوم كان حب الله في قلوبهم، فلما نزل حب الدنيا في قلوبنا؛ تحاسدنا وتباغضنا وتقاطعنا وتحاربنا إلا من رحم ربك.
أيعقل أن أمة تربى على الكتاب والسنة يجلس عند القضاة الصهر مع صهره؟!
سل المحاكم والقضاة، أصبح النهب والسلب والقتل بين الجيران والأرحام، جار ما سلم على جاره أكثر من عشر سنوات من أجل قطعة أرض، أمة أعرضت عن نور الرسالة وملأت قلوبها بالتراب؛ فامتلأت غضباً وحقداً وحسداً.(63/10)
صفاء القلب للأخ المسلم
ومن حقوق الأخوة: صفاء القلب للأخ المسلم أن تصافيه، وألا تجد عليه موجدة، وألا تحمل عليه ضغينة ولا غشاً، وصفاء القلوب هذا يوصل العبد إلى درجة الأبرار ويجعله أعظم من الشهداء.
محمد عليه الصلاة والسلام يجلس مع أصحابه، فيقول في الحديث المشهور: {يخرج عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فيأتي رجل معه حذاؤه بيده اليسرى مبلل من الوضوء ويتقاطر من لحيته -الجميلة الرائدة- الماء فيصلي ركعتين، وفي اليوم الثاني كذلك وفي اليوم الثالث، فيسأله أحد الصحابة بعد أن بات عنده: ماذا كنت تعمل؟ قال: أنا لست بكثير صيام ولا صلاة ولا صدقة، ولكن -والله- ما نمت ليلة فوجدت في نفسي على مسلم حقداً أو حسداً أو ضغينةً أو بغضاً، قال الصحابي: تلك التي ما استطعناها}.
بعض الناس يصلي في المسجد ويزكي ويصوم، ولكن لو أذن له أن يقتل كثيراً من الناس لفعل، في قلبه نارٌ مدلهمة مؤصدة على المسلمين، وهذا يدل على انطفاء نور الإيمان.(63/11)
الدفاع عن الأخ في غيبته
ومن حقوق الأخوة: أن تدافع عن أخيك في ظهر الغيب، والأعراض اليوم رخيصة، يغضب اليهودي في فلسطين لليهودي في هولندا واليهودي في هولندا يغضب لليهودي في روسيا، أما المسلمون اليوم فأصبحت أعراضهم رخيصة، كثير ممن يدعي نصرة الإسلام، ولكنَّ عدوه اللدود أخوه المسلم، يهتك عرضه في المجالس، وينهمر في دمائه ولحمه، يعدد أخطاءه ويضخمها ويكبرها وينسى حسناته، وهذا هو الذي عطل مسيرة الدعوة وانتصارها سنوات طويلة، ولن ننتصر إلا يوم نكون تحت راية واحدة، وحب واحد، ووراء إمام واحد وهو محمد عليه الصلاة والسلام.(63/12)
النصيحة
من حقوق الأخوة: النصيحة:
ويعترف بالنصيحة ولا يعترف بالفضيحة، يقول الشافعي:
تعمدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعط طاعة
تفضحني أمام الناس، وتنصحني وتشهر بي، وتعرض سيئاتي في المجالس، وتقول: أريد هدايته، والله لو صدقت لأسررت النصيحة، ولقدمتها بقالب من الود والحب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟! قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم}.
فأما النصيحة لله: فتجريد العبادة والتوحيد له.
وأما لرسوله: فتجريد المتابعة.
وأما لكتابه: فالإقبال عليه بشغف، وتدبره والعمل به.
وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فعدم شق عصا الطاعة ما لم يُر كفر بواح، وجمع الكلمة والدعاء لهم بظهر الغيب.
وأما النصيحة لعامة المسلمين: فأن تشفق عليهم، وتقدم لهم النصيحة بقالب من الود، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {أكثروا علي من الصلاة ليلة الجمعة ويوم الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: يا رسول الله! كيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت -أي بليت- قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء}.
اللهم صلِّ وسلم عليه ما ذكره الذاكرون وما غفل عنه الغافلون، وصلِّ على صحبه الأبرار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اهد شباب المسلمين، اللهم أصلح بالهم، اللهم كفر عنهم سيئاتهم، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، واهدهم سبل السلام، اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم انصر المسلمين المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر كل من نصر هذا الدين، وأعلِ كلمته، ووحد صفوف المجاهدين، واجمع شملهم على الحق يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(63/13)
كيف تكون جباناً؟
الشجاعة وسام لا يأخذه إلا من كانت روحه عنده رخيصة في سبيل غايته، ولايخاف الموت.
أما الجبن فهو صفة ذم، والرجل الجبان يكون دائماً ذليلاً مهاناً، وقد ضرب لنا التاريخ صوراً رائعة لأناس قدموا أرواحهم ليقيموا مبادئهم.
والشجاعة غالباً صفة في المؤمنين، وقد تجد في العصاة والكفرة شجعاناً.(64/1)
ذم الجبن
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
أصحاب الفضيلة، يا شباب الصحوة، أيها الأخيار الأبرار: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
اللقاء يتجدد، والحب يزيد، والصلة تنمو، والمقصد الله فهو يعلم ما نريد.
عنوان هذا الدرس: كيف تكون جباناً؟ وما هي الطرق التي تساعدك على أن تكون جباناً مع التعلم والممارسة ومع التدرب هذا هو ملخص ما أريد أن أقوله.
سأل الرسول عليه الصلاة والسلام ربه أنه يعيذه من الجبن، فقال صلى الله عليه وسلم: {اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال} واستعاذ الصالحون من الجبن، وقد عدته العرب جريمة كبرى وسيئة في الرجل، ومن أعظم مميزاته وأعطياته صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة المحمدية أنه أخرجهم شجعاناً، يقول المتنبي في الشجاعة:
أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر وحيداً وما قولي كذا ومعي الصبر
وأشجع مني كل يوم سلامتي وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر
تمرست بالآفات حتى تركتها تقول أمات الموت أم ذعر الذعر
وأقدمت إقدام الأبي كأن لي سوى مهجتي أو كان لي عندها وتر
إلى آخر ما قال.
ولكن أقصد في هذه المحاضرة مقاصد تهم المسلم، وهي من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتوحيد الذي أتى به رسولنا عليه الصلاة والسلام عدو للجبن والخوف من غير الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، والجبناء يموتون في اليوم مرات والشجاع يموت في عمره مرة واحدة، والجبان يتوهم كل شيء ضده، والشجاع يتصور أنه ضد كل شيء إلا كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وما والاهما.
ولقد سطر أبو بكر الصديق كلمة رائدة حفظها الناس وتكلم عنها المفكرون حتى الغربيون منهم، وهي قوله للصحابة: [[اطلبوا الموت توهب لكم الحياة]] فإن من طلب الموت وهب الله له حياة سعيدة هنية، فيعيش منشرح الصدر، وقال ابن القيم في أسباب انشراح الصدر في زاد المعاد: ومنها الشجاعة وسعة صدر الشجاع، فإن الله يشرح صدره بشجاعته وإقدامه.
وهذا أمر معلوم، فإن الهم والذلة وحقارة الحال والهلع والجزع تأتي مع الجبن، وإن السعادة والانشراح والضحك والبسمة تأتي مع الشجاعة والإقدام، وفرض الرأي، وقول كلمة الحق التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، قال عبادة في الصحيحين: {با يعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن عصابة حوله أن نقول الحق ولا نخشى في الله لومة لائم} وعند ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: [[أخذ عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول الحق ولو كان مراً]] والحق مرٌّ قد يذهب بالنفوس ويطير بالرءوس، لكن لأن الحق في الأرض لا يقوم إلا على قطع الرءوس وإذابة النفوس؛ وجب أن يكون هناك شجاعة إيمانية يحملها رواد محمد عليه الصلاة السلام.
ولما قام مسيلمة الكذاب في اليمامة، وادعى النبوة؛ زج أبو بكر الصديق بشباب من شباب محمد عليه الصلاة والسلام في وجهه وقال: [[والذي نفسي بيده لأقاتلنه بقوم يحبون الموت كما يحب الحياة]] وقالها عمر لأهل فارس، وقالها كثير غيره فرضوان الله عليهم، وقال أبو بكر الصديق على المنبر: [[والذي نفسي بيده لأرسلن لهم خالداً يذهب وساوس الشياطين من رءوسهم]].(64/2)
الفرق بين الشجاع والجبان
قال المتنبي:
أرى كلنا يبغي الحياة بجهده حريصاً عليها مستهاماً بها صبا
فحب الجبان النفس أورده البقا وحب الشجاع الحق أورده الحربا
يقول: إن الجبان يحب الحياة وكذلك الشجاع، ولكن الفرق بينهما أن هذا يحيا سعيداً مكيناً مرفوع الرأس، وذاك يحيا خائفاً جباناً فاتراً متخلفاً، ويقول الله عز وجل عن شجاعة أهل الإيمان وإقدامهم، وعن فرضهم لرأيهم الحق، وعن كفاحهم ومدافعتهم عن آرائهم وأقوالهم ومبادئهم: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52] أي: قل يا محمد أنت وأصحابك وجيلك للكفرة والعملاء والزنادقة والمارقين والمرتدين: إنكم تتربصون بنا إحدى الحسنيين؛ إما أن نعيش أعزة نحمل المبادئ ونحن أقوياء، أو أن نموت في سبيل الله شهداء وهذا مكسب عظيم، ويقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
فبين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن الأجل بيده، وأنه لا يتدخل أحد في تقديم ساعة أو تأخيرها ساعة، ولا يملك النفوس إلا الله.
وتهدد الله اليهود الجبناء بالموت فقال: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة:8] فأخبر أنهم جبناء يحبون الحياة، وقال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] قال أهل العلم: إنما نكَّرها لِتعم فمعناها حياة، لكنها أي حياة، حياة البهائم، وحياة الوحوش والزواحف وحياة القردة والخنازير، أي حياة ولو كانت بلطم الوجوه، ولو كانت بكسف البال.
قال الله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96] ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للصحابة ولمن سار على منوالهم من أمثالكم ممن يتوضأ خمس مرات، ويحمل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] في قلبه: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] يقول: إن تعبتم أو أرهنتم أو خفتم؛ فإن العدو الكافر المنافق يناله مثلما ينالكم.
وهذا صحيح، فإنكم تعلمون أن كثيراً من المخطئين الضالين، من البعثيين والماركسيين والعلمانيين والحداثيين، والدجالين الماكرين وشربة الخمور والزناة يحبسون ويجلدون ويقتلون، ومع ذلك تجد الواحد يصامد ويجالد من أجل فاحشته ومنكره ومبدئه الخاطئ.
ولكن يقول الله: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] يقول: اصبروا قليلاً كما صبروا، مع العلم أنه ينالهم الأذى والقرح، وأنتم كذلك ينالكم الأذى والقرح، ولكن النتيجة مختلفة.
وهذا كما قال النابغة الجعدي لما وفد على الرسول عليه الصلاة والسلام واستهل قصيدته يمدح قبيلته:
تذكرت والذكرى تهيج على الفتى ومن عادة المحزون أن يتذكرا
فلما قرعنا النبع بالنبع لم تكن على البعد في عيدانه أن تكسرا
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ولكننا كنا على الموت أصبرا
يقول: ما أتوا إلينا وهم نساء، أتوا ومعهم سيوف تقطع الرءوس ومعنا سيوف، فسقيناهم الموت وسقونا الموت بها، وصبرنا قليلاً فانتصرنا.
وننكر يوم الروع ألوان خيلنا من الضرب حتى نحسب الجو أشقرا
إلى أن يقول في نهاية قصيدته:
بلغنا السما جوداً وجداً وسؤددا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
قال عليه الصلاة والسلام وهو يهتز متبسماً: إلى أين يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة.
قال: لا فض فوك، فعاش مائة سنة ما سقط له سن ولا ضرس والشاهد هنا أن المسلم يناله الضر لكن النتيجة مختلفة.(64/3)
المؤمن شجاع والكافر جبان
قال عمر بن الخطاب: [[اللهم إني أعوذ بك من عجز الثقة وجلد المنافق]] فكون الفاجر شجاعاً والمؤمن جباناً؛ هذه مصيبة وداهية لا تتصور، ولذلك انظر إلى أبناء البعث الآن الذين رباهم الخونة والعملاء مثل: ميشيل عفلق وأحمد حسن البكر وصدام حسين " تجد الواحد ينطلق ويتفجر تحت الدبابة، ويقف أمام المدفع، ويطلق العيارات النارية وكأنه يزغرد في أبهة العيد، وتجد الماركسيين يدخلون أفغانستان وتنفجر بهم الدبابات وتشدخ رءوسهم على الجبال، وكأنهم يغنون ويطبلون ويرقصون، وتجد بعض الناس من المؤمنين ممن يصلي الصلوات الخمس إذا هبت الريح من الباب أغمي عليه ورش بالماء، فيقول عمر: [[اللهم إني أعوذ بك من عجز الثقة، وجلد المنافق]] وسوف تأتي أخبار لهؤلاء.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:145] فهل سمعتم أن أحداً مات بغير إذن الله؟ لا.
لأن الله غالب على أمره، ولأن الأوامر من عنده؛ ولا يسبق أحد أجله، فإذا أذن الله فالموت، وإذا لم يأذن فلو اجتمع أهل الأرض على أن تموت فلن تموت أبداً.
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران:157] يقول: اتقوا الله واعملوا صالحاً، وقولوا الحق، وقدموا الرأي الصائب، فإن قتلتم فإلى جنة عرضها السماوات والأرض، وإن عشتم فإلى خير، أما الجبان فإنه يموت حقيراً ويعيش حقيراً.
وقال تعالى عن أوليائه: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39] فهم يبلغون الرسالة ويظهرون مبدأهم ويقولون رأيهم، ويقولون لصاحب المنكر: خف الله واتق الله، ويمنعون المنكر في الأرض، ومع ذلك لا يخافون إلا من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم مدح الله أوليائه فقال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
دخل طلحة وعليه ثياب خضر، وقد رد بيده عن المصطفى في أحد كل سيف ورمح وسهم، فدخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23] ونظر إلى طلحة فقال: {هذا ممن قضى نحبه} هذا من الجيل الصادق الذين قدموا رءوسهم في المعركة.
ومنهم عمير بن الحمام يأكل التمر يوم بدر، قال عليه الصلاة والسلام: {يا أهل بدر إن الله اطلع عليكم فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، يا أهل بدر، والله ما بينكم وبين الجنة إلا أن يقتلكم هؤلاء فتدخلون الجنة، فألقى عمير التمرات من يده وقال: بخ بخ، إذا بقيت إلى أن آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة} ثم أخذ غمد السيف وكسره على ركبتيه -وهذه ساعة الصفر عند العرب- ثم أخذ السيف وقاتل حتى قتل وهو ينشد:
فليس على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
يقول: أحسن الحياة أن أتقدم قبل أن أقتل وأنا مهزوم، فهي خيبة في الدنيا وخيبة في الآخرة.
يقول السموءل، وهو يهودي كان يسكن خيبر، وقد أقر له الناس بالشجاعة، وقد يوجد في اليهود شجعان، والجبن صفة عامة فيهم، لكن النادر لا حكم له، فقد يخرج منهم اليوم شجاع، وبالأمس شجاع مثل مرحب والسموءل، فهو يقول:
يقرب حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول
وإنا لقوم لا نرى القتل سبة إذا ما رأته عامر وسلول
وعامر وسلول جارتاه من القبائل، ترى الموت سبة أما نحن فنراه مدحاً.(64/4)
مواجهة المؤمنين الموت لأجل مبادئهم
قُتل مصعب بن الزبير في العراق، فقال أخوه عبد الله في مكة: [[والله الذي لا إله إلا هو لا نموت نحن آل الزبير حبطاً ولا حبجاً كما يموت بنو مروان، إنا نموت تحت ضرب السيوف وقصع الرماح]] وقد صدق؛ فقد قتل الزبير وأبناؤه وعائلته كلهم في سبيل الله، بل عبد الله بن الزبير تطيب وتحنط ولبس أكفانه وأتى إلى أمه أسماء ذات النطاقين الطاهرة الصادقة، فقال: يا أماه! الحجاج قد أغلق علي الحرم ومعه اثنا عشر ألفاً وما عندي إلا خمسمائة، فماذا أفعل هل أسلم نفسي؟
قالت: لا.
اتق الله لا تسلم نفسك، قاتل حتى تقتل.
قال: والله ما أخاف القتل ولكن أخشى أن يمثل بي إذا قتلني -يعني يقطع أنفي ويبقر بطني - قالت: لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها - لله درها - فصمد وصمد حتى قتل، فصلبه الحجاج ومرت به وسلمت عليه وهو مصلوب، فقالت: السلام عليك أما آن لهذا المصلوب أن يترجل وللفارس أن ينزل.
وفي مثله يقال:
علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات
لعظمك في النفوس تبيت ترعى بحراس وحفاظ ثقات(64/5)
العقيدة منهج حياة
يقول عليه الصلاة والسلام كما عند أحمد والترمذي بسند صحيح: {واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك} فلماذا لا نربي في نفوسنا عقيدة التوحيد؟ ولماذا لا نأخذ العقيدة التي ندرسها في الطحاوية ومعارج القبول وكتاب التوحيد ونجعلها عملاً وحياةً ورأياً ونصيحة؟ أما أن نحفظها ولا نطبقها فهذا لاينفعنا لا في الدنيا ولا في الآخرة.
أيضاً: يقول عليه الصلاة والسلام لـ ابن عباس: {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشي لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} وهذا قضاء من الله.
وعند أهل السير حديث ذكره ابن كثير في التفسير عنه عليه الصلاة والسلام أن الله عز وجل قال: {وعزتي وجلالي ما اعتصم بي عبد ثم كادت له السماوات والأرض إلا جعلت له من كيدها فرجاً ومخرجاً، وعزتي وجلالي ما اعتصم بغيري عبد إلا أسخت الأرض من تحت قدميه}.
وهذا بأن يجعل الله عز وجل أمر العبد إليه وأن يكله إلى نفسه؛ لأنه لم يعتمد على الله، ولم يقل كلمة الحق، ولا شجع نفسه، ولا علم أن الخالق والرازق هوالله، وأن الناس لا يملكون ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
العجوز التي دخلت على الحجاج وقد قتل ابنها في أول النهار، ثم أخذها بعد صلاة الظهر وأدخلها عليه وقال: "أتدرين يا فلانة أنا قتلنا ابنك؟ قالت: لو لم تقتله لمات".
فقد قتلته وهذا أجله قضاءً وقدراً من الله.
وأتت الخنساء النخعية في معركة القادسية ومعها أربعة أبناء كأن وجوههم القمر ليلة أربعة عشر، وقد لبسوا أكفانهم، فأخذت الأربعة وقبلتهم وقالت: "يا أبنائي، والله ما خنت أباكم ولا هجنت خالكم، والله إنكم من نسل رجل واحد، وأنتم والله من أحب الناس إلى قلبي، فإذا أتيتم المعركة فيمموا أبطالها، واقصدوا وطيسها، ثم لا تعودوا، فإني ما ادخرتكم إلا لهذا اليوم، فقتلوا جميعاً، فلما أخبروها ضحكت وقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم جميعاً في سبيل الله "، فلله درها ما أجمل تلك العبارات!
ومرض الجبن في الجبناء يكثر بالوهم، وأكثر مرض الناس وَهْمٌ من أحاديثهم وما تفتعله خواطرهم، وما يترصدونه من الحوادث، وما يشعرون له من نقص إيمان، حتى يقول الله عز وجل عند ذلكم الصنف من المنافقين: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4] فإذا تحرك الباب خاف وأغمي عليه، وإذا سمع طقطقة الأحذية أو أن هناك قراراً يكتب قامت قائمته وثائرته وما نام الليل، وإذا سمع أن هناك تدبيراً تقلب على الفراش، والله يقول لأوليائه: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80] فيقول: الإبرام عندنا وفتل الحبال عندنا، وهذه كما يقول أحدهم:
تقضون والفلك المسير ضاحك وتقدرون فتضحك الأقدار
فالحبال تفتل من فوق سبع سماوات، والتقدير من عنده سبحانه فلا ضرر ولا نفع ولا حياة ولا موت إلا من عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالى.(64/6)
الخوف من الله هو الحق
الجبناء يخافون من البشر أكثر مما يخافون رب البشر، وأنا أقولها كلمة صادقة لا أكذب فيها بإذن الله: والله العظيم لو أن كثيراً من الناس خافوا من الله كما يخافون من البشر لصلحت أمورهم في الدنيا والآخرة.
ووالله إنا نعلم من أنفسنا ومن كثير من الناس أننا قد نغتاب أو ننم أو نعصي الله، ولكن عند الناس نراعي ألفاظنا ونراعي كتبنا ومحاضراتنا، كل هذا خشية من لفت النظر، أفلا خشينا من لفت نظر الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، الذي يعلم السر وأخفى، والذي كل الأمور بيده، والذي لا ينفع ولا يضر أحد إلا بإذنه!
وكيف لو أن هذه التقوى والمراعاة والحرص والتأني كانت في جانب العبادة؟ وكيف لو أن هذا الهدوء والانضباط والتعقل والحكمة كانت في جانب الدين؟ كيف لو أن هذا الرشد والنضوج العقلي كان مع الله عز وجل؟ لصلحت الأمور، وارتاح الناس في دنياهم وأخراهم، وكفل الله لهم النصر ما داموا على قيد الحياة والأجر والمثوبة من عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
قال علي بن أبي طالب -وهي كلمة متينة نفيسة عظيمة -: [[الأجل درع حصينة]] يعني: أجلك درع لك، فلن تموت إلا بأجل.
خرج يوم صفين فخلع الدرع، قال ابنه: كيف تخلع الدرع يا أبتاه وهو يقيك، قال:
أي يومي من الموت أفر يوم لا قدر أم يوم قدر
يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر
سبحان الله! يقول: لماذا أخاف من القدر؟
إن كان كتب الله عليَّ الموت فسوف أموت، ولا تغني الدروع {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] وإن كان الله كتب لي الحياة فلن يصلني موت، وهذه عقيدة علي بن أبي طالب الذي قدم رأسه في كل معركة، ثم قتل في المسجد رضي الله عنه.
خالد بن الوليد يطلب الموت والشهادة في كل مكان، وكلما حضر معركة سأل الله الشهادة، وقد خاض في الجاهلية والإسلام مائة معركة، كان قائدها ومؤججها وأستاذها.
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
وللعلم فإنه مات على الفراش، لأن الله كتب له أنه يموت على الفراش، وقال: [[لقد طلبت الشهادة في أكثر من مائة معركة، وما في جسمي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء]] رضي الله عن خالد، أخرجوه في الجنازة من حمص، فقامت أخته فاطمة من داخل البيت وجنازته يمر بها الأبطال على رءوسهم، فتقول:
أنت خير من ألف ألف من القوم إذا ما كبت وجوه الرجال
ومهين النفس العزيزة للذكر إذا ما التفت صدور العوالي(64/7)
أعظم الشجاعة الخوف من الله
وأعظم الشجاعة خوف الله، والخائفون من الله هم أشجع الناس، وهم الذين يؤدون أوامر الله عز وجل ويجتنبون نواهيه، كما قال الأول:
ليس الشجاع الذي يحمي فريسته عند القتال ونار الحرب تشتعل
لكن من رد طرفاً أو ثنى وطراً عن الحرام فذاك الفارس البطل
فأشجع الناس من راعى مابينه وبين الله، ورد نفسه عن الحرام، وكسرها وقت الغضب ووقت الشهوة ووقف عند الحدود، هذا هو الشجاع المحفوظ بحفظ الله عزوجل الذي ينتصر، ولذلك قال بعضهم: لا ينتصر العبد في المعركة حتى ينتصر في نفسه على الشهوات والمعاصي والمخالفات.(64/8)
الجبناء عند العرب
أما الآن فأتوقف بكم قليلاً مع الجبناء وأخبارهم؛ لأن المحاضرة بعنوان: كيف تكون جباناً؟
فما هي الطرق السليمة الموصلة لأن تكون جباناً؟! ضربت العرب أمثله لجبناء، فقالوا عن الجبان: نعامة فتخاء وقالوا عنه: دجاجة.
وقالوا: الحدأة القتول وقالوا: الظليم.
وكلها من أمثلة الجبن وكانت العرب لا تولي سيداً جباناً، بل تشترط فيه شرطين:
الأول: أن يكون شجاعاً.
والثاني: أن يكون كريماً.
ولكن قد يكون الجبن جبلة، والإسلام يرد الجبناء فيعلمهم أن يحملوا شجاعة الرأي والفكر والعلم والقتال، ليصبح الناس مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
ومثال شجاعة الرأي شجاعة العلم، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُون إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:160].(64/9)
من أجبن العرب
من أجبن العرب، أبو حية النميري، كان جباناً يضرب به المثل، أخذ سيفاً من خشب، فكانت قبيلته إذا قاتلت أخذ السيف من الخشب وجلس في آخرهم، فإن انتصروا ضارب معهم وإن هزموا فر، وكان يسمي سيفه (ملاعب الأسنة) وكان يعرض سيفه من الخشب أمامه ويقول: يا سيف، كم من نفس أهدرتها ومن دم أسلته!!
قال عنه ابن قتيبة في عيون الأخبار وصاحب العقد الفريد: دخل كلب في ظلام الليل بيته، فخرج هو وزوجته وتناول السيف -سيف ملاعب الأسنة- وخرج خارج المنزل وأخذ يقول: الله أكبر وعد الله حق.
فاجتمع أهل الحي -وأظنه عاش في الإسلام في القرن الأول، وقالوا: مالك؟ قال: عدو محارب انتهك عرضي ودخل عليَّ في البيت وهو الآن في البيت.
ثم قال: يا أيها الرجل اخرج إن كنت تريد مبارزة فأنا أبو المبارزة، وإن كنت تريد قتلاً فأنا أم القتل كل القتل، وإن كنت تريد المسالمة فأنا عندك في مسالمة.
فبقي يتراود ويضرب الباب بالسيف وينادي، فلما أحس الكلب بجلبة الناس خرج من بينهم، فألقى السيف من الخوف وقال: الحمد لله الذي مسخك كلباً وكفانا حرباً.
ومنهم أيضاً: قائد مشهور أخذ القيادة بغير كفاية وجدارة وقدرة، يسمونه: ابن عبد ربه، ويسميه المؤرخون: ضرطة الجمل، أخذ أبناء المسلمين وذهب بهم إلى فارس، وكان يمضي في الليل وينام في النهار شهراً، حتى استعد أهل فارس وتترسوا وقووا كتائبهم، ثم بدأ الهجوم فكان هو أول من انهزم، ودخل المدينة على بغلته وترك أبناء المسلمين يقاتلون أهل فارس، يقول الشاعر في قصيدة طويلة:
تركت أبناءنا تدمى كلومهم وجئت منهزماً يا ضرطة الجمل
يقول: فررت أول المعركة وتركت أبناءنا يذبحون.
يقول فيه قتيبة بن مسلم: والله لا أوليه ولو على شاة، أي: لا يقود شاه، فقد جربوه مرة واحدة، والطعن في الميت حرام.(64/10)
أبو دُلامَهَ من الجبناء
قال أبو جعفر المنصور: أين أبو دلامة؟ وهو رجل مزاح فكاهي، ليس من سادات المعارك فللميادين أبطال، وللأقلام أبطال، وللمنابر أبطال، فـ أبو دلامة مضحك للخليفة فقط، ويوم بدت الدشرة في مسيرة الأمة كان الخلفاء رقاصين ومروجين ومهرجين ومطبلين ومزمرين، وتأخر العلماء والدعاة، وأهل الفكر ورواد النهضة الإسلامية؛ لأنهم يفسحون المجال للمهرجين والسمار واللاعبين، فـ أبو دلامة لما أتت المعركة قال الخليفة: أين أبو دلامة؟ قال: حاضر.
قال: اخرج بارز ذاك الفارس.
قال: تعلم أني لست للمبارزة.
قال: عزمت عليك أن تبارزه.
فخرج فلما قرب من الفارس وضع سيفه وقال للفارس: والله إنك تعلم أني أكره الموت على فراشي فكيف تقتلني هنا؟ فضحك أبو جعفر وضحك الناس، وعاد أبو دلامة.(64/11)
أمور تعينك على أن تكون جباناً
أولها: انطماس التوحيد، فإذا انطمس التوحيد الذي في القرآن والسنة، وخاف القلب وأصبح البشر أعظم من الله؛ أصبح الإنسان جباناً، يراعي الإنسان من أجل مصالحه ومن أجل منصبه ووظيفته ومكانته، وتجد أنه يدبج لك الجبن ويلفلفه في لفائف ويقول: مصلحة الدعوة! الحكمة والأناة! {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159].
الثاني: عدم اعتقادك أن الخالق والرازق هو الله، ونعرف أن كثيراً منا يعتقد أن الرازق والخالق غير الله، وقد لا يقولها ولكن هذا هو اعتقاده وتصوره بحسب الممارسات العملية في حياته في يومه وليلته، يترجم عن هذا الأمر.
الثالث: نسيان تقدير الآجال وأنها بيد الواحد الأحد، فأنت تعيش ستين سنة لا تزيد ولا تنقص، أو تعيش أربعين لا تزيد ولا تنقص.
أفنقول: إن الذين قتلوا أنس بن النضر عجلوا عليه موته؟ أو الذين قتلوا عبد الله بن رواحة أو زيد بن ثابت أو جعفر الطيار أنهم قصموا أعماراهم؟ لا والله، ما تقدموا دقيقة ولا تأخروا دقيقة، وما تركوا من أرزاقهم لقمة واحدة.
الرابع: اعتقاد نفع الناس وضرهم بغير مشيئة الله، فإن بعض الناس قد يقول: أخشى أن يضرني فلان لا.
فعليك أن تتوكل على الله، وعليك بتقوى الله: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} [آل عمران:111] قال أهل العلم: أذى في أعراضكم، فأما تلطيخ العرض فيلطخون عرضك ويسبونك، أما الضرر فلا يضرونك إلا بإذن الله: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102].(64/12)
أخبار الشجعان
والآن إلى قائمة الشجاعة في الجاهلية والإسلام والعصر الحاضر.(64/13)
عنترة بن شداد
كان عنترة بن شداد مولى أسود لسيده شداد العبسي، وكان عبسياً، وقد بلغ من الشجاعة مبلغاً عظيماً، وقد قيل له: كيف تغلب الأبطال؟ قال: أبدأ بالجبان فأضربه وأقسمه قسمين، فإذا رأى الشجاع الجبان مقسوماً فر مني.
وقيل له: كيف تنتصر على الناس؟ قال: بالصبر.(64/14)
عمرو بن معد يكرب الزبيدي
ومنهم: عمرو بن معدي كرب الزبيدي:
وهذا حطم الرقم القياسي في كثرة الأكل، كان يأكل خروفاً وفرقاً من الذرة في مقعد واحد بحفظ الله ورعايته، دخل على عمر رضي الله عنه، فقال: أطعمني يا أمير المؤمنين.
فأطعمه خبزاًَ، قال: زدني.
فأطعمه ثريداً، قال: زدني، فأطعمه زبيباً، قال: زدني.
قال: انتهى ما عندي - ميزانية عمر قليلة - قال: زدني.
قال: من الحرة أي: من حجارة الحرة وقال له عمر: أين صمصامتك التي تقاتل بها الناس؟ قال: هذه.
فوجد عمر أن السيف ليست قوية، فقال: ما أرى قوة.
قال: إنك رأيتها وما رأيت الساعد الذي يضرب بها، فقال عمر: الحمد لله الذي خلقنا وخلق عمراً واعتدي على قبيلته مذحج في ظلام الليل -اعتدت عليها قبيلة كندة أو قبيلة أخرى- فسلبت نساءهم وأخذت أموالهم، فخرجوا في الصباح يقاتلون فانهزمت القبيلة، ولم يكن عمرو معهم؛ فلما حضر أخذ فرسه وأخذ السيف ونازل قبيلة كندة كلها، فأخذ يقاتلهم ويقاتلونه حتى يقول في قصيدته:
أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
فأخذ يكيل لهم الضربات إلى صلاة العصر فهزمهم جميعاً، فسمته العرب (أقدم العرب) حتى يقول أبو تمام للمعتصم:
إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس
وقد أسلم ثم ارتد رضي الله عنه، ثم أسلم وعاد إلى الإسلام، فقاتل في القادسية وانتصر نصراً مؤزراً مع المسلمين، ويضرب به المثل في الشجاعة.(64/15)
محمد بن حميد الطوسي
ومنهم: محمد بن حميد الطوسي، لله دره!
عمره تقريباً اثنان أو ثلاث وثلاثون سنة، أعطاه المعتصم قيادة الجيوش الموحدة الإسلامية، وكان له إمام حنفي يقوده وقاض، والعلماء معه يقاتلون الروم، فلما حضرت المعركة خرج محمد بن حميد فلبس الأكفان عليه، فلما لبس الأكفان أخذ يقاتل من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، ومن الظهر حتى صلاة المغرب، ثم قتل قبل الغروب، فلما قتل بدأت النوائح، وهذا أمر مخالف للإسلام، ولكن كانت النائحات في بغداد يبكين عليه؛ لأنه كان رجلاً يفدى بالعيون والقلوب، فقام أبو تمام فألقى قصيدة يعزي فيها المعتصم، وقد انتصر جيش محمد بن حميد والحمد لله، حتى يقول الذهبي: "الحمد لله" ويقول ابن كثير: "ولله المنة، أن الله نصر الموحدين بمثل هذا البطل بعد نصر الله ".
يقول أبو تمام:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل عن السفر السفر
فتى كلما فاضت عيون قبيلة دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكر
تردى ثياب الموت حمراً فما دجى لها الليل إلا وهي من سندس خضر
يقول: لبس أكفانه تقطر بالدم، وفي الليل ألبسه الله سندساً أخضر في الجنة، ثم يقول:
ثوى طاهر الأدران لم تبق بقعة غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر
فسمع المعتصم القصيدة ودموعه تهراق، فقال: يا ليتني أنا المقتول وقيلت فيّ.(64/16)
أبو دجانة والبراء
ومنهم: أبو دجانة، وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، مد النبي صلى الله عليه وسلم في أحد المعارك السيف فقال: {من يأخذ السيف؟ فمد الصحابة أياديهم، قال: بحقه.
فخفضوا وبقيت يد أبي دجانة، قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله، وما حقه؟ قال: أن تضرب به في الأعداء حتى ينحني} [رواه مسلم].
فأخذ السيف ففلق به هامات المشركين ولما أخذ السيف أخرج عصابة حمراء، ومعناها في مفهومنا خطر ممنوع الاقتراب، يقول الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، فلما رآها الناس ذهلوا، حتى يقول في قصيدته:
أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل
ألا أقوم الدهر في الكيولي أضرب بسيف الله والرسول
ففعل فعلاً يشكر عليه، فلق هام المشركين وقتَّلهم قتلاً، حتى أتى بالسيف مع صلاة العصر وقد انحنى، وهذه هي الشجاعة الإيمانية.
ومنهم: البراء بن مالك.
قال صلى الله عليه وسلم: {رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك} فكان إذا حضر المعركة يقول له المهاجرون والأنصار: يا براء أقسم على الله أن ينصرنا.
حضروا معركة تستر وهو معهم، فقال أبو موسى: [[يا براء نسألك بالله أن تقسم على الله أن ينصرنا.
فقال: اللهم إني أقسم عليك هذا اليوم أن تنصرنا وتجعلني أول قتيل]] فانتصروا وكان أول القتلى رضي الله عنه وأرضاه.
ومنهم حبيب بن زيد الأنصاري.
قطع مسيلمة الكذاب جسمه قطعة قطعة فصمد حتى آخر قطرة من دمه.
ومنهم: خبيب بن عدي:
وقف على المشنقة وجسمه يقطع وهو ينشد ويقول:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
إن هذه الكلمات لا بد أن تخرج جيلاً يحمل لا إله إلا الله ويقتحم معاقل اليهود، ويدمر أهل الصليب، ويوجد في الأرض قوة إسلامية يقودها أصحاب وأحباب وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم.(64/17)
السورماري وشبيب بن يزيد
ومن الشجعان: أحمد السورماري المحدث، شيخ البخاري.
قتل في المبارزة ألف مشرك، وقال أحد الناس للبخاري: سمعنا أنك تقول إن أشجع الناس في الإسلام السُرماري وقد بالغت.
قال: ما قلت إن أشجع الناس في الإسلام السُرماري.
قالوا: ماذا قلت؟ قال: قلت: أشجع الناس في الجاهلية والإسلام السُرماري.
قطعة من حديد وزنها عدة أرطال، وكان لا يبارز بالسيف وإنما يبارز بهذه القطعة، فإذا أتى الفارس ضربه على رأسه، فإذا نخاعه ثراً ودماؤه في الأرض، قتل ألفاً مبارزة من غير من قتل وافترس في المعركة.
ومنهم: شبيب بن زيد الخارجي.
وهو من أشجع الناس وهو قائد الخوارج، كان عنده ستون من الخوارج فهزم الحجاج ومعه ثلاثة آلاف، ثم تتبع الحجاج في كل غزوة، وكان من شجاعته أنه كان ينام على البغلة، ترجم له ابن كثير فقال: كان ينعس على البغلة من قوة قلبه.
وهو في المعركة، ومن ينام في المعركة؟!
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
ونحن في أبها ما نمنا وصواريخ الأسكود تضرب في حفر الباطن، وحفر الباطن في الصحراء، ونحن أغلقنا النوافذ والأبواب وأغلقنا السطوح، وتصورنا صدام في الماء، والأطفال خافوا من صدام، والحيوانات والعجماوات والطيور والزواحف، فإذا سمعنا طلقة الصاروخ أخذ الواحد منا ترعده الحمى.
وزائرتي كأن بها حياء فليس تزور إلا في الظلام
أهؤلاء أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؟! أهذا جيل يستطيع أن يقتحم على اليهود؟! سبحان الله أين الشجاعة؟! كيف لو أن المعركة في طرفنا؟ وكيف لو أنك في الصف الأول؟ ومع ذلك كدسوا الأرز والشاي وعلب الليمون وكل شيء في البيوت وأغلقوا عليه وكأنهم لا يموتون: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96] سبحان الله! أين المحاضرات الرنانة والدروس؟ لقد ضاعت وقت الصفر.
وشبيب أمره عجيب أتدرون ماذا فعل؟ قاتل الحجاج وكاد أن ينتصر عليه، لكن فرسه رأى بغلة فاقتحم نهر دجلة من على الجسر فوقع في النهر مع هذا الفارس، وكان مربوطاً في الفرس، فأراد أن يسبح فما استطاع، ففرق به الفرس وارتفع فأخذ يقول: "لله الأمر من قبل ومن بعد" ثم مات، يقول أحد الجبناء: "يا ليتني أظفر بمشركٍ مقتول فأقطعه قطعة قطعة".
وامرأته لديها شجاعة مثله، اسمها غزالة، حضرت المعركة وقاتلت الحجاج بعده، ودخلت بيت الإمارة فهرب الحجاج من الباب الثاني، فدخلت المنبر وأخذت السيف وخطبت في الناس، قال أحد المسلمين ممن سجنهم الحجاج: يا مجرم يا حجاج! سجنتنا وعذبتنا وفررت من غزالة!
أسد عليَّ وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى أم كان قلبك في جناحي طائر(64/18)
الشجاعة في إبداء الرأي وقول الحق
نحن أمة لا نعيش الحوار، فالحوار معدوم عندنا للأسف، والواجب علينا أن ننمي نفس الحوار، فعندنا موت في الحوار، فقد أدرس في الفصل والطلاب لا يعيشون الحوار، قد تأتي إلى الجامعة والمدرسة والنادي والمسجد والمحاضرة وكلهم يخافون منك لأنك تتحدث، لكن إذا طلبت منهم أن يكتبوا ملاحظات أتتك عشرات الملاحظات، أما أمامك فكل شيء على ما يرام، ويقول لك: أحسنت وقدس الله روحك يا شيخ ونور ضريحك.
هذا هو منطق الاستسلام، لكن الحوار أن تكون محاوراً بالتي هي أحسن، وتبدي رأيك بشجاعة، ما الذي يمنعك أن تقول رأيك وأن تكتب؟! أو أن تعترض على الأستاذ؟ أو أن تكتب إلى المسئول؟ أو أن تناصح؟ أما أن تسكت وتموت أفكارك في قلبك فهذا ليس من الإسلام في شيء.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: {أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر} وقال عليه الصلاة والسلام: {سيد الشهداء عند الله حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره أو نهاه فقتله} فهؤلاء هم سادة الشهداء.(64/19)
لماذا الخوف من النقد؟
والأمر الذي أريد أن أنبه عليه ألا تخافوا من النقد -أيها الإخوة- كونوا عصيين على النقد، ولا يرهب أحدكم أن ينقد، فإن كان النقد صحيحاً موجهاً فعليه أن يقبله وأن يدرسه ويتأمله، وإن كان النقد لا يصلح فعليه أن يرميه.
ودائماً يتلقى أحدنا عشرات الأوراق، يعرف أن بعضها من منافقين أو مغرضين أو حسدة، فجزاؤها أن يأخذها إلى سلة المهملات فيقطعها إرباً إرباً ويرميها ويقول: ترد عليكم هذه السلة.
وأما البعض فيعرف أنها من أخ أو من ناصح أو من محب؛ فيقرؤها ويتأملها ويصحح من مساره ويستفيد منها.
فلماذا نخاف من النقد؟ ولماذا نعتبر أن الإنسان إذا نقد أن هذا النقد هو من العداء وأن الناقد عدو لنا؟ هذا ليس بصحيح، فلابد من النصيحة قال علي رضي الله عنه: [[المؤمنون نصحة، والمنافقون غششة]].
أيضاً: أطالب إخواني ونفسي أن نظهر الرأي في قالب الأدب، فعلينا أن نتكلم بأدب في رأينا وحوارنا ومناقشتنا، وأنا لا أعرف أن الدعاة يجرحون، ولو أنها وصلتني رسائل من بعض الناس يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول على رءوس الناس: {ما بال أقوام يفعلون كذا} فالواجب على الدعاة ألا يجرحوا المؤسسات ولا الهيئات والأشخاص، وأنا قلت: ما جرح الدعاة أحداً، ولا جرحوا مؤسسة، إنهم يتكلمون من واقع، ولأنه ما دام قد نشر الفساد فلا بد أن ينشر الحق، ولا بد أن ينبه على الباطل، أما أن تعلن كلمتك بين ألف وتطلب مني أن أعلن كلمتي في سر وأنت تتكلم بجهر، فلا يصح هذا.
الأمر الثاني: من قال إن الدعاة بهذا المستوى؟! الحقيقة أن صورة الدعاة ملطخة، ليست بصورة صحيحة كما هي عليهم يقولون عنهم: متطرفون ومتزمتون، ويرون الخروج على الحاكم ويرون نقض البيعة.
وأنا والله لا أعلم داعية يعتقد هذا، فمثل هذا الكلام لا يصح ولا يحمل، لكن يا أيها الإخوة لا بد أن نعيش الحوار، فلماذا إذا نقدنا مؤسسة غضب أهلها، أهم يريدون مدحاً فقط؟! فلا رأي ولا دراسة ولا ملاحظة ولا نصيحة، وهذا لا يصح، يعتبر الغرب بما فيهم الأمريكان وحتى الاتحاد السوفيتي أن أعظم دولة ديمقراطية تعيش الحوار هي إسرائيل، هكذا اعتبارهم في الإعلام، والله أعلم بهذا، لكنها عندهم أعظم دولة في الشرق تعيش بالحوار وإبداء الرأي والأخذ والرد والمساءلة، ويمكن أن يكون هذا، مع العلم أني أبرأ إلى الله من اليهود، وأسأل الله أن يمكننا منهم وأن يجعلنا شهداء في الحرب معهم.(64/20)
شجاعة الأنبياء
وكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام شجعاناً، فإن إبراهيم عليه السلام لم يحمل التوحيد متكاسلاً متوانياً في بيته، بل قام على الأصنام بالفأس فكسر رءوسها: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} [الصافات:93] قال أهل العلم: لإبراهيم عليه السلام روغتان: روغة شجاعة وروغة كرم، راغ إلى الأصنام فكسرها، وراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين.
فالذي يريد أن يروغ يروغ كإبراهيم عليه السلام لكن في حدود الأدب، فلا تأخذوا من قصة إبراهيم أن للداعية تغيير المنكر باليد أو بالكسر، فإني أخشى أن تكون العواقب أعظم والفساد أكبر والمنكر أشنع، لكن عليه أن يسلك الطريق الأمثل في إنكار المنكر؛ كأن يقول كلمة الحق أو يهدي نصيحته في قالب من الأدب، وقبل أن نكون مؤدبين ومعزرين للناس، يجب أن نكون محببين إليهم، ثم يرفع إلى أهل الحل والعقد وإلى القضاة والمسئولين بأمر هذا المنكر حتى يتلافى.
أيضاً موسى عليه السلام بارز في الميدان بقوة الحجة ومعه العصا، يقول لفرعون اللعين والله يأمره: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] قال كلمة اللين، قال له: يا أبا مرة، لكن لما أتت المصارحة يقول له فرعون: {فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} [الإسراء:101] قال له موسى: يا مجرم.
{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102].
فالقول بقوة وإبداء الرأي بشجاعة مطلوب من المسلم.
أيضاً محمد صلى الله عليه وسلم ما علمت أشجع منه على مر التاريخ.
ينام في بيت واحد ويطوق بخمسين مقاتل ويخرج عليهم ويحثو عليهم بالتراب: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9].
ينام في الغار ويقول: {لا تحزن إن الله معنا} ويحضر الحروب بنفسه صلى الله عليه وسلم، ويدمر الأعداء ويعيش صلى الله عليه وسلم شجاعة، ويبتسم في المعركة وهو أنيس القلب مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(64/21)
شجاعة الصحابة والصالحين
في حرب الردة وقف أبو بكر الصديق على المنبر يعلن الحرب على الردة، فيعترض بعض الصحابة عليه فيقول: [[والذي نفسي بيده لو منعوني عقالاً أو عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم عليها]] ثم جند الجنود، وقال في رواية أخرى: [[والذي نفسي بيده لو أتت الكلاب فأخذتني بأعقابي -لأنهم يقولون اترك الصحابة يحرسون المدينة - ما خلفت جيشاً عن الغزوة في سبيل الله]] فهذا هو الرأي؛ أن تقدم رأيك وتثبت عليه بشجاعة وبتفان أيضاً.
وهذا ابن تيمية في مصاولة الباطل؛ فإنه بلغ مبلغاً عظيماً، كان يخطب وحوله السيوف تلمع والسياط والجنود، وكان يتكلم بشجاعة، فيقول له السلطان: كأنك تريد ملكاً يا ابن تيمية قال: "ما ملكك ولا ملك آبائك عندي يساوي فلساً، إني أريد جنة عرضها السماوات والأرض".
وكان يتكلم أمام الناس بقوة ويعلن الحق ويبينه لأن الله أخذ الميثاق: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187] جعلوه قراطيس أي: جعلوا هذا القرآن قراطيس في الجيوب يخرج وقت الحاجة ويتلف وقت الحاجة، فلابد أن تعرض فكرتك بأدب ووضوح وأن تطالب بحقك ونصرة الإسلام، ولا بد أن تطالب بالحق أن يكون حقاً والباطل باطلاً، مثل مطالبة أهل الباطل بالباطل.
أيضاً: الثوري؛ فإنه كان ينصح ويقف للظلمة في وجوههم، وينكر عليهم وقد قال لـ أبي جعفر -وهو ظالم-: اتق الله يا أبا جعفر! ودخل طاوس على أبي جعفر، فقال له: ناولني الدواة يا طاوس قال: لا والله إن كنت تكتب باطلاً فلا أعينك على الباطل، وإن كنت تكتب حقاً فلست بخادم لك.
وأتى الخليفة المهدي فدخل مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، فقام له الناس، إلا ابن أبي ذئب المحدث، فقال: لماذا لم تقم يا ابن أبي ذئب؟ قال: أردت أن أقوم لك، فتذكرت قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] فتركت القيام لذلك اليوم، فقال له: اجلس، فوالله ما تركت شعرة في رأسي إلا قامت.
ومنهم أيضاً: الأوزاعي؛ فإنه أنكر على عبد الله بن علي عم أبي جعفر، فيما قتل في دمشق وما فعله بالمسلمين والسيوف تقطر حوله دماً، حتى يقول بعض الوزراء: كنت أجمع ثيابي خوفاً من دم الأوزاعي، وكان الأوزاعي ينصحه ويزجره ويحذره مما فعل بصوت يجلجل كصوت الأسد.
ومنهم: سيد قطب رحمه الله.
فإنه بلغ أمام حكومة ضباط التحرير أو التدمير مبلغاً عظيماً، وأعلن التمرد عليهم، وأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، وأرسل قذيفة معالم في الطريق ذاك الكتاب الذي وزع تصويراً في موسكو بعد سنة من كتابته، حتى حذرت موسكو حكومة الضباط بأن ينتبهوا لهذا المجرم -أي: سيد قطب - فأخذوه وسجنوه عشر سنوات لا يرى النور، يقول: والله إن الشمس كانت تدخل علينا من ثقب من السجن، وكنا نتداول في السجن على الشمس بالدور ما رأى الشمس عشر سنوات.
ومع ذلك يقوم الليل ويكتب في ظلال القرآن، ويرسله من السجن كتاب كأنه يكتبه بدمه.
جاءه الوزراء والضباط وجاءته الحاشية وقالوا له: اكتب لنا ورقة تنازل واعتذار.
قال: إن أصبعي التي أعلنت الوحدانية لله في كل يوم خمس مرات، ترفض أن تكتب كلمة استجداء، إن كنت حبست بباطل فأنا أكبر من أن أستجدي الباطل، وإن كنت حبست بحق فأنا أصغر من أن أعترض على الحق.
قالوا: إنه سيقتلك.
قال: لا إله إلا الله، أنا أبحث منذ أربعين سنة عن هذا.
يقول: أنا أبحث عن القتل.
فماذا فعل به؟ لقد شنقه أعداء الله.
وقد حرر سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى رسالة لـ جمال عبد الناصر قال فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى الرئيس جمال عبد الناصر: السلام على من اتبع الهدى، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93] ثم أتى الشيخ بالآيات والأحاديث، وقد تلوتها في ترجمة الشيخ، وهي محفوظة في ملف الشيخ وفي ذكرياته التي كتبها طلابه عنه، وهي من أعظم البرقيات.
ولما أتوا بـ سيد إلى المشنقة تبسم، حتى يقول أحد الشعراء في سيد:
يا شهيداً رفع الله به جبهة الحق على طول المدى
سوف تبقى في الحنايا علماً قائداً للجيل رمزاً للفدا
ما بكينا أنت قد علمتنا بسمة المؤمن في وجه الردى
رحمه الله وجمعنا به.
ومنهم الأستاذ العلامة: أبو الأعلى المودودي -رحمه الله وأثابه- سجن تسع سنوات، سجنه خان وما قبل الشفاعات فيه إلا بشرط أن يكتب ورقة اعتذار، قال: ولو كتب لي قدر كفه ورقة اعتذار لقبلت منه، فقال: أنا أكبر من أن أكتب له ورقة اعتذار، فقالوا له: إذا كتبتها تخرج من السجن.
فقال: لا أخرج.
يقول فيه العطار:
نفسي فدتك أبا الأعلى وهل بقيت نفسي لأفديك من أهل ومن صحب
أما استحى السجن من شيخ ومفرقه نور لغير طلاب الحق لم يشب
ثم مات رحمه الله، ودوى العالم الإسلامي بموته، مع أنه يموت في اليوم عشرات العلماء والمفكرين، والأدباء، لكن الذين يحملون الحق بجدارة قليل، والذين يقدمون التضحيات قليل، والذين يصطفيهم الله عزوجل مثل ابن تيمية وأحمد والعز بن عبد السلام وسيد وأبو الأعلى المودودي هم أيضاً قليل.(64/22)
شجاعة العصاة
والعصاة فيهم أناس شجعان إلى أبعد ما تتصورون، فأنت قد تتصور أنهم ليسوا بشجعان، لكن عندهم شجاعة متناهية، قال الإمام أحمد وهو في السجن: "ما ربط على قلبي إلا قول رجل كان معي من المحبوسين، حبس على الخمر قال: يا أحمد بن حنبل! اصبر على الحبس واصبر على السوط، فإنك من أجل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والله يا أحمد لقد جلدت في الخمر ألفاً وستمائة سوط وما تراجعت.
قال الإمام أحمد: فربط على قلبي.
فهذا يشرب الخمر ويجلد، ويشرب الخمر ويجلد، ومن الناس من يجلد الواحد منهم مرات، على محجر أو على ساقية، ويقول: الحمد لله والشكر له، لا ارتشيت ولا أرشيت، وإنما عن حقي وأملاكي، والله لو سال دمي قطرة قطرة ما أتنازل عن شبر من أرضي.
فتعيش الشجاعة، وهذه شجاعة أهل الدنيا.(64/23)
شجاعة مرحب اليهودي
ومنهم: مرحب اليهودي
فإنه كان شجاعاً بلا شك، بارز الصحابة وقتل سبعة، حتى خرج له علي رضي الله عنه، وقطع رأسه وكأنه ما خلق له رأس، وكان يقول مرحب:
قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
قال علي:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة
كليث غابات كريه المنظره
أكيلكم بالسيف كيل السندرة(64/24)
بابك وأبو مسلم الخراساني
ومنهم: بابك الخرمي.
فقد قتل من العرب والعجم ومن الكفار والمؤمنين، ألف ألف رجل، وهو أعظم مجرم في التاريخ، حتى إن المعتصم يقول: إنه سهر ليالٍ طويلة ما أتاه النوم، وخاف أن يدخل عليه في بغداد، هذا الهامة الطامة، وقف في الشمال يرسل الكتائب ويقاتل.
فقال المعتصم: من يأتيني به وله ألف ألف درهم، وأكتب اسمه مع اسمي ويدعى له على المنابر.
من هذا البطل الذي يأتي به؟! فأرسل الإفشين بن قطلوبغا، وأصله تركي لكنه قائد مسلم مشهور، فأرسله فبقي يقاتله سنة، صيفاً وشتاءًَ وليلاً ونهاراً، فظفر به ثم قطع رأسه، فصلب المعتصم رأسه في سامراء حتى يقول البحتري: فجعلته علماً بـ سامراء.
ومدحه الخليفة ودعا له عدة جمع ثم أصدر المعتصم مرسوماً بألا يدعى له، فقد أخذ حاجته منه والحمد لله.
ومنهم: أبو مسلم الخراساني
وكان من الشجعان الكبار، وكان يقدم نفسه، وهو عاص خطير، حتى استفتي الإمام أحمد: هل نصلي في مسجده؟ قال: لا.
مسجد عاص.
أخذ أموال المساكين وبنى بها مسجداً كبيراً في خراسان، وكان يخطب يوم الجمعة وعليه عمامة سوداء، فقام أحد الناس -وليته ما قام- فقد أجرى دماء المسلمين، وقتل منهم القتلى، وأخذ أموالهم وأراضيهم، وهذا قام يلاحظ عليه ملاحظة، فقال له أبو مسلم: ماذا؟ -وكان فصيحاً- قال له الرجل: أتلبس السواد وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس السواد؟ قال: كذبت، حدثني فلان عن فلان عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، والحديث في مسلم: {أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل في عمرة القضاء وعلى رأسه عمامة سوداء} يا غلام اضرب عنقه.
فقام الغلام فضرب عنقه.
هذا هو أبو مسلم الخراساني، أمره إلى الله، لكن عنده شجاعة متناهية، ما كان ينام الليل كان يتقلب فتقول له أمه: مالك؟ فيقول: همة تنطح الجبال.
حتى يقول فيه أحدهم:
همة تنطح الثريا وعزم نبوي يزعزع الأجبال
ولذلك نقل دولة بني أمية إلى بني العباس، كأنه نقلها من جيبه الأيمن إلا جيبه الأيسر، وفي الأخير، ذبحه أبو جعفر المنصور.
ومن شجاعة أهل الدنيا أن بعضهم يقاتل على أكياس الشعير التي تباع في الشاحنات إلى آخر النهار، ويحبس أسبوعين، ويقاتل على الغنم وعلى بيعه وعلى الفحم، ويقاتل بعضهم على الحبحب وعلى كل شيء، أما على الدين فلا.
والمؤمنون هم أشجع الناس، ولماذا كان المؤمنون أشجع الناس؟ لأنهم باعوا أنفسهم وأموالهم من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] ولأن ما عند الله خير من الدنيا، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] ولأنهم يحملون مبدأ، أما المنافق فليس عنده مبدأ، فالمنافق يجلس مع المتدين فيصبح متديناً، ويجلس مع شارب الخمر فيصبح شارب خمر، ويجلس مع المغني فيصبح مغنياً، يقول الله في المنافقين: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء:62] أنا أعرف بعض الناس إذا جلس معك أصبح ولياً، يسألك عن أحاديث رياض الصالحين، ويسألك عن ركعتين بعد صلاة الظهر، وعن صلاة الضحى متى تكون؟ والشارب هل يقص أم يحلق؟ وكيف يقصر الثوب؟ ويسأل مسائل دقيقة، ولكنه يظلم في أراضي المسلمين وفي أجسامهم وأعراضهم، ويظلم ظلماً عظيماً، وهذا لا ينفعه سؤاله ولا ورعه.
ولن المؤمنين يثقون من حفظ الله ورعايته، فإن الله يقول: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173] ويقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52] ولأن العاقبة لهم ولا محالة، فإن الله جعل العاقبة والخاتمة والسمعة الحسنة ودرء الحوادث والأعراض لأوليائه، وجعل لهم النتيجة الطيبة في الدنيا والآخرة.
هذا ما للمؤمنين عند الله عز وجل إذا احتسبوا أنفسهم وكلامهم في ذات الله، وقام أحدهم يحمل مبدأه، وعلم أنه سوف يلقى الله عز وجل ملوماً إن لم يدع إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويصبر على ما أصابه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17].
إخوة الإيمان: هذا هو درس كيف تكون جباناً؟ ولكني أسأل الله أن نكون كلنا من الشجعان الذين يحملون أرواحهم على أكفهم، والذين لا يخشون إلا الله، ويقولون كلمة الحق، ويتقربون بدمائهم وأموالهم وأعراضهم في خدمة دينه سبحانه وتعالى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(64/25)
كيف تكون محدثاً؟
ابتدأ الشيخ بذكر فضل وشرف علم الحديث.
وذكر أن الحديث هو المصدر الكافي والينبوع الصافي للعقيدة, وأنه أمان من الوقوع في مزالق الاعتقاد.
ثم تحدث عن كيفية دعوة أهل الحديث إلى الله، وعن أهميه عملهم بما يعلمون, وأهمية إكثارهم من النوافل والطاعات, بعدها نبّه على بعض الأشياء المهمة التي يجب مراعاتها مثل: ترك المعاصي, الإنفاق من العلم , أدب الخلاف إلخ.
ثم أشاد في ختام الموضوع بمكانة علم الحديث والاتجاه العام إليه هذه الأيام، ثم أجاب الشيخ على بعض الأسئلة المتعلقة بهذا الموضوع.(65/1)
فضل علم الحديث وأهله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أمَّا بَعْد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته؛ سلام الله عليكم يا أصحاب الحديث، ويا أهل الحديث، وإن كان من شكر فإني أشكر الله تبارك وتعالى ثم أشكر مدير هذه الدار، ثم أشكر هيئة التدريس، وأشكركم يا طلبة العلم.
وأنا أشهد الله أني أحبكم فيه؛ أما الحب الأول فهو مشترك بين المسلم وأخيه؛ وهو الحب الذي يعيشه المسلم مع إخوانه المسلمين، وأما الحب الثاني الذي أشعر به في قلبي وأنا أدخل هذه الدار؛ فهو حب أهل الحديث، والسرور برؤيتهم والجلوس معهم، وأهل الحديث لهم مكانة في القلوب، ولهم جلالةٌ في النفوس.
وسوف نتكلم على أهل الحديث، من هم أهل الحديث؟
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: إذا رأيت محدثاً، أو رجلاً من أصحاب الحديث فكأني رأيت صحابياً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.
وسئل الإمام أحمد؛ إمام أهل السنة والجماعة، من هي الطائفة المنصورة؟ قال: إن لم يكونوا أهل الحديث فما أدري من هم.
فأنا كنت بشغف الشوق إلى أن أزور هذه الدار، وكنت سعيداً يوم دخلت هذه الدار؛ لأنني أسمع عنها الذكر الحسن، وأعلم بأنني سوف ألتقي فيها بأحفاد الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وأبي داود:
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
هم النجوم، وهم الشموس التي ما أفلت حتى اليوم، واعلموا بارك الله فيكم أن الحديث معكم إنما هو من بضاعتكم، وكأنكم تقولون: {بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف:65] ولكني أقول: جئت ببضاعة مزجاة فأوفوا لنا الكيل، وتصدقوا علينا من علمكم، إن الله يجزي المتصدقين.
ما أتيت إلا لأعلن الحب فيه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وأتكلم في بعض القضايا؛ أتكلم عن شرف هذا العلم، وهو علم شريف لكن لمن علم أنه شريف {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] وإن لم يكن علم الحديث أشرف العلوم فأيُّ علمٍ يتوج لهذه المكانة!! وأيُّ علمٍ يرشح لأن يحتل على علم الحديث مكانه!! لا والله لا يكون هذا أبداً.
يقول ابن عبد الباقي؛ أحد العلماء الأجلاء، من أحفاد أبي أيوب الأنصاري، الذي ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء وأثنى عليه كثيراً، وهو من علماء السلف والسنة، قال في آخر عمره: تبت من كل علم إلا علم الحديث.
يقول القرطبي المحدث:
نور الحديث مبينٌ فادن واقتبسِ واحد الركاب له يا ابن الرُضا الندُسِ
واطلبه في الصين فهو العلم إن رفعت أعلامه برباها يابن أندلسِ
ويقول الآخر:
أهل الحديث هم صحب النبي وإن لَمْ يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
فهم صباح مساء مع أنفاس المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ مع حدثنا، وأخبرنا، وسمعت، وعن، وأن؛ وهي كلمات أهل السنة والجماعة، وهي أسانيد أهل السنة والجماعة، وهو علم أهل السنة والجماعة.
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفان
ما العلم نصبك للخلاف سفاهةً بين الرسول وبين رأي فلانِ
صلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وفي السنن قوله صلى الله عليه وسلم: {نضر الله امرأً سمع مني مقالةً فوعاها، فأداها كما سمعها، فربَّ مبلغٍ أوعى من سامع} وعند ابن حبان في الصحيح: {رحم الله امرأً} ولبعض أهل العلم من أهل الحديث رسالة اسمها المسك التبتي في شرح حديث (رحم الله امرأً سمع مني مقالتي)؛ المسك التبتي نسبة إلى التبت: وهي الهضبة في الهند التي تنفح بالمسك، في فضل هؤلاء الوعاة الحملة.
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} وهو من حديث معاوية، ومفهوم المخالفة: أن الذي لا يريد الله به خيراً لا يفقهه في الدين، ولا يعلمه السنة، ولا يوجهه إلى الجلوس في دار الحديث، ولا الاستماع إلى كلامهم، ولا إلى العيش معهم، ولا إلى أخذ السنة منهم.
وأنتم أصبحتم أسانيد بين الأمة المحمدية وبين تراثها، فالله الله في هذه الأمانة! والله الله في هذه الرسالة، والله الله في هذا التراث المحمدي الخالد!
يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري من حديث أبي موسى: {مثل ما بعثني الله به من الهدى} انظر ما أحسن كلمة بعثني، ولم يقل: أرسلني، أو كلفني، لأن البعث عادةً يأتي في ذكر التوحيد والشرك {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] قال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث}؛ وقال: (الهدى) ولم يكتفِ بل ذكر (العلم) وقال: (العلم) ولم يكتفِ بل ذكر (الهدى)؛ لأن الهدى هو العمل الصالح، والعلم هو العلم النافع، واليهود أوتوا علماً لكن لم يؤتوا عملاً، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13] وقال في عالمهم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176] وقال فيهم: مثلهم {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] حمار لا يفقه، ولا يعي، على ظهره صحيح البخاري وصحيح مسلم وفتح الباري وتحفة الأحوذي؛ لكنه حمار:
قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أركب
فإنني جاهلٌ بسيطٌ وصاحبي جاهلٌُ مركب
والجاهل المركب: هو الذي لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.
وشرف أهل الحديث أجمعت عليه الأمة الإسلامية، ذكر الذهبي في ترجمة الإمام أحمد: أن رجلاً ذُكر للإمام أحمد أنه يتنقص أهل الحديث، فهز يده وقال: زنديق زنديق زنديق، في درجة الملحد وإنما تزندق أبو العلاء المعري وأمثاله؛ لأنهم استهزءوا بـ أهل السنة وأهل الحديث.
وفي سيرة أبي داود صاحب السنن أنه قال: دخل عليه سهل بن عبد الله التستري قال: طلبٌ يا أبا داود أريد أن تنفذه لي، أسألك بالله، قال: ما هو؟ قال: أن تخرج لي لسانك.
فأخرج لسانه فقبلها، وقال: لسانٌ وعت كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتحدثت به أولى بالتقبيل.
وذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة أبي زرعة؛ حية الوادي، المحدث، المعدل، إمام أهل الجرح والتعديل أنه لما توفي رئيَ في المنام، فقالوا: ماذا فعل الله بك؟ قال: رفعني في عليين، قيل: بماذا؟ قال: صليت على الرسول عليه الصلاة والسلام في كتبي كتابةً ألف ألف مرة.
وشرف أهل الحديث يأتي من ثلاثة أمور:
أول شرف: أنهم من أكثر الناس صلاةً على الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن:
إذا فات المحب سماع من يهوى تلذذ باستماع حديثه
فهم أكثر الناس صلاةً على الرسول عليه الصلاة والسلام؛ في دروسهم ولقاءاتهم ومناظراتهم وحوارهم.
الأمر الثاني: أنهم حفظوا أصول الإسلام.
وهل العلم إلا قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عمرو الأوزاعي: ما أتاك من الكتاب والسنة فعلى الرأس والعين، وما أتاك من أحدٍ يخالف الكتاب والسنة فضعه في الحش؛ والحش هو الكنيف.
فالعلم قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فأهل الحديث حفظوا علينا أصول الإسلام؛ بمدارستهم وبحفظهم، ولا تؤخذ العقيدة إلا من الكتاب والسنة، ولذلك لي عودة مع عقيدة أهل السنة وعقيدة أهل الحديث.
وأما شرف أهل الحديث فيأتي من النضرة على وجوههم، فأهل الحديث يتميزون عن أهل النحو -ولا نتنقص أحداً- وعن أهل اللغة، والجغرافيا، والتاريخ؛ بأن على وجوههم نضرة ومهابة، من دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومهابة لهم:
من تلقَ منهم تقل لا قيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
تروى وتشبع من سيماء طلعتهم بذكرهم ذكروك الواحد الباري
فأهل الحديث تلوح على محياهم أنوار الحديث، وسمته، وهيبته وملاحته، وحلاوته.(65/2)
نصائح لطالب العلم
لكن ما هو الطلب الأول لأهل الحديث؟(65/3)
سلامة المعتقد
الطلب الأول: المعتقد، فهم يحرصون على ضميمة معتقد السلف، وهذا هو المعهود، وما أقول هذا إلا لأن الدعاوى قد كثرت:
والدعاوى ما لم يقيموا عليها بيناتٍ أصحابها أدعياءُ
ويقول ابن عباس: [[لو ترك الناس ودعواهم لادعى قومٌ دماءَ قومٍ وأموالهم، ولو ترك الناس ودعواهم لادعى الخليُّ حرقة الشجي]].
ولما ادعيت الحب قالت كذبتني ألست أرى الأعضاء منك كواسيا
أين العلامات؟ أين البراهين؟ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:14] {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].
فأقول: إن الأخذ بمعتقد السلف ومعتقد أهل السنة والجماعة ينبغي أن يكون عملاً، وأن يكون دعوة وتأثيراً.
وأنا أرى بعض العلماء، شكر الله لهم محافظتهم على معتقد السلف، وكتابتهم في ذاك الجانب، وطبع كثير من النسخ وإرسالها وهذا من الجهد المشكور لهم عند الله تبارك وتعالى؛ وأقول هذا: لأنه وجد من العلماء، وأنا على باعي القصير، وعلى قلة بضاعتي، كانت لي رسالة في أهل البدعة الذين رموا بها في أهل الحديث فوجدت في البخاري وفي مسلم تسعة وسبعون راوياً رموا بالبدعة، مرجئة وقدرية وخوارج وشيعة رافضة وغيرهم، لكن ما نقصوا من قيمة الصحيحين؛ لأن هناك أعذاراً لا أتمكن من ذكرها الآن.
فلا يكفي الإنسان أن ينتظم في دار الحديث، أو أن يحمل صحيح البخاري ومسلم، أو أن يجلس مع سنن البيهقي لنقول هذا: سلفيٌّ صِرفٌ لا غبار عليه؛ لأنه وجد من أهل الحديث من كان معتزلياً فشيخ الشافعي ابن أبي يحي؛ معتزليٌ جهميٌ قدريٌ، قال الإمام أحمد: كل شرٍ فيه، وعمران بن حطان له حديثان، بل كان يزعم على نفسه أنه من أهل الحديث، لكنه خارجيٌ صِرفٌ، وداعيةٌ من دعاتهم، وفطر بن خليفة كذلك، وغيرهم كثير، بل قد تجد من دعاة الجهمية من يحفظ عشرة آلاف حديث، وأنا أعرف تسعة وعشرين رافضياً يدعون إلى مذهب الرفض وهم يحفظون عشرات الآلاف من الأحاديث.
فمعتقد السنة لا يأتي فقط بالانتساب إلى أهل الحديث، إنما يأتي بمعرفة القرون المفضلة الثلاثة الذين أثنى عليهم صلى الله عليه وسلم، والذين حافظوا على ضميمة وعقيدة السلف، ولم يلووا أعناق النصوص حتى توافق أهواءهم، وترجم الذهبي لـ عفان الراوية الكبير، فأتى بالحديث الذي في الصحيحين: {أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ينزل إلى سماء الدنيا في الثلث الأخير} نزولاً يليق بجلاله, وقد أجمع أهل المصنفات والمسانيد والسنن على إخراجه، فقال عفان: ينزل بذاته، وكلمة (ذاته) ليست في الحديث، فقال الذهبي: قلت: كلمة (بذاته) من كيس عفان والسلام؛ يعني: أنها ما وردت في اللفظ وفي هذه الطريق، كثرة الكلام، والادعاء، ولي أعناق النصوص لتوافق الأهواء ليست بواردة.
ثم على هذه القضية فأهل الحديث أكثر محاربة لأهل البدع؛ فإن ميزة أهل الحديث أنهم يقفون في وجه أهل البدع، وما رفع الله به الإمام أحمد إلا بوقوفه في وجه أهل البدع، وكذلك البخاري ومسلم والدارمي، وغيرهم كثير.
وأهل البدع يوقف معهم بثلاثة أساليب:
بالكتابة، والمراسلة، فإن لم تُجْدِ فبالهجر والمقاطعة، فإن لم تُجْدِ فبالتشهير في المجالس.
تقدم ثور بن زيد؛ أحد الرواة الذين لهم حديثٌ عند البخاري فسلم على سفيان الثوري بيده، فأمسك سفيان الثوري يده وقال: إنه الدين، ولو كان غير الدين لسلمت عليك، وعرضت جنازته ليصلي عليها الناس، فمشى سفيان الثوري واخترق الصفوف، ثم خرج من تلك الجهة ليري الناس أنه لا يصلي عليه؛ لأنه مبتدع.
والإمام مالك قال: لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تحدثوهم.
وقال ميمون بن مهران؛ المحدث الكبير: [[ثلاث لا تدخل نفسك فيها: لا تجلس مع امرأةً أجنبية وحدك، ولو قلت أعلمها القرآن؛ فإن الشيطان يكون ثالثكما، ولا تفاوض مبتدعاً لترد عليه؛ فإنه يلقي في قلبك من بدعته ما الله به عليم.
ولا تدخل على السلطان لتنصحه؛ فإنه يخاف أن يؤخذ دينك]] أو كما قال.(65/4)
البصيرة في الدعوة
الأمر الثاني: كيف يدعو أهل الحديث إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى؟
ذكر الله أن الدعوة تكون على بصيرة {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] قال أهل العلم البصيرة هي: العلم، وزاد ابن تيمية: والحكمة.
العلم هو البصيرة، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لما أرسل موسى وهارون إلى طاغية الدنيا؛ إلى فرعون، فيوصيهما وهما في الطريق: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] وقد يوجد من أهل الحديث -لأنهم ليسوا معصومين- من يشتد ويغلظ في دعوته، فيكون فظاً غليظاً في رده، وفي كلامه، وأمره، ونهيه، ودعوته، وهذا خلاف دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ويقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
دخل رجلٌ من الوعاظ على هارون الرشيد، فقال: اسمع إليَّ، وتحملني فإني سأقول كلاماً شديداً.
قال: كلامٌ شديد! قال: نعم.
قال: والله لا أسمع، والله لا أسمع، والله لا أسمع.
قال: ولمه؟ قال: أرسل الله من هو خيرٌ منك إلى من هو شرٌ مني فقال له: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
فلماذا القول الشديد؟
ترجم الذهبي لـ قتادة بن دعامة السدوسي؛ راوية الصحيحين، الجهبذ، العلامة، الذي يقول ابن المبارك فيه: إذا أطفأ الدهر حفظ أحدٍ فما أطفأ حفظ قتادة فهو حافظ، بارعٌ من الدرجة الأولى.
جلس عند سعيد بن المسيب، فقال سعيد: اقرأ عليَّ شيئاً من القرآن، قال: خذ المصحف، قال: فسمعت له سورة البقرة، فما نسي حرفاً منها في مجلسٍ واحد.
وكان يسرد الحديث سرداً.
حتى في ترجمة ابن سيرين: أن رجلاً أتاه، فقال: رأيت البارحة في المنام حمامةً، التقطت درةً، فأخرجتها أكبر مما أدخلتها، ثم أخذتها فأخرجتها أصغر، ثم أخذتها فأخرجتها كما أدخلتها، فتبسم ابن سيرين؛ وكان مؤيداً في الرؤيا كما يقول الذهبي، وقال: تدري ما تأويلها؟ قال: لا، قال: أنا وقتادة والحسن البصري؛ أما الحسن البصري فيسمع الحديث فيوشيه، ولا يزيد فيه، ولا يكذب، لكن يشرحه فيخرج أكثر، وأما أنا فأخاف من حفظي، فأقلل وأنقص من الحديث، وأما قتادة فيحفظه كالسهم فيخرجه مثل ما حفظه.
فالشاهد أن الذهبي ترجم لـ قتادة وقال: فيه بدعة؛ وهذه البدعة هي بدعة القدر.
قال: ولكنه رأسٌ في القراءة، رأسٌ في العلم، رأسٌ في الحديث، رأسٌ في الورع، ومع ذلك فلا ننسى بدعته، ولكننا نغمر سيئاته في بحار حسناته.
فالمقصود العدل، لأن الله عزوجل طالبنا بالعدل في الردود، وطالبنا بالعدل في الكلام مع الناس {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]؛ فالعدل في القول، يقول ابن تيمية: إن الإنسان من طبيعته ظلوم جهول، كما سماه الله، فهو يتكلم بلا علم ويتكلم بلا عدل، فحق على العالم وطالب العلم، خاصة طالب الحديث أن يكون عالماً عادلاً، وأن ينزل الناس منازلهم كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم معلقاً عند مسلم وموصولاً عند أبي داود {كان صلى الله عليه وسلم ينزل الناس منازلهم} وصح من قوله: {أنزلوا الناس منازلهم} فهذه مسألة.(65/5)
التطبيق والعمل وأهميته لطالب الحديث
المسألة الثالثة: أن على طلبة الحديث ألا يكتفوا برواية الحديث.
فإن رواية الحديث وحدها لا تشفع عند الله، ورواية الحديث وحدها بلا عمل إنما هي تزيد من الحجج على الكتف، وتزيد من حجج الله على الظهر، وهي علامة الإفلاس والخذلان؛ إذا لم يعمل العالم بعلمه.
وقضية حفظ الأحاديث بدون عمل، كمثل الكنز كما يقول الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل: العلم إذا لم ينفعك كالكنز الذي لم تُنفق منه، ولو أن بعض أهل العلم صحح هذا الحديث مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم، لكن في صحته نظر.
فلا يظن الواحد منا إذا حفظ الصحيحين، أو السنن الأربع، أو مسند الإمام أحمد بدون أن يعمل بما فيها؛ أنه سوف يكون من الأولياء الكبار، أو يشفع لمثل مضر أو لمثل ربيعة، لا والله حتى يعمل بالحديث، فانظر إلى كم يحفظ أبو بكر الصديق؟! كم يحفظ عمر؟! كم يحفظ عثمان؟! كم يحفظ علي؟! رضي الله عنهم أجمعين يحفظون عشرات ومئات الأحاديث، لكنهم مع ذلك سنة تمشي على الأرض، وكل واحدٍ منهم إذا رأيته كأنه قرآن يمشي على الأرض، خلقهم القرآن، وحياتهم الكتاب والسنة، أما المتأخرون فإنهم التفتوا إلى الرواية وغفلوا عن الرعاية.
ذكر الذهبي، أن رجلاً ولا أريد أن أسمي الأسماء يحفظ مائة ألف حديث، قال: وكان فاسقاً لا يصلي.
محدثٌ يحفظ مائة ألف حديث بأسانيدها، ويجرح رجالها، ويعدلهم؛ لكن كان فاسقاً لا يصلي!
وترجم لمحدث آخر شهير، له جلالة في الدنيا، وليس في القلوب إنما في الدنيا، قال: وكان يشرب المسكر سامحه الله؛ يشرب الخمر! أين الحديث؟! أين حدثنا، وأخبرنا، وعن، وسمعت؟!
وترجم لراويةٍ آخر، وقال: كان مبتدعاً صرفاً حاسبه الله بفعله.
بل كثير من رءوس المبتدعة كان لهم مجالس الإملاء؛ يجلس في مجلسهم خمسون ألفاً، أو أربعون ألفاً من الناس.
فيا صاحب الحديث والله لو لم تحفظ إلا حديثاً واحداً، وعملت بما سمعت فإنك أفضل مما لو حفظت أحاديث الدنيا ثم لم تعمل بما سمعت وقرأت.
الحديث عمل وتطبيق، الحديث خشية ومخافة من الله، الحديث أن تظهر السنة على معالمك، وهيئتك، وعلى تطبيقك وسلوكك.
روي عن الإمام أحمد أنه قال: الحمد لله كتبت المسند من أربعين ألف حديث بالمكرر ما من حديثٍ يقبل العمل إلا عملت به؛ يخبر الناس ليقتدوا به، فقال له أحد تلاميذه: وحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام بقي في غار ثور ثلاثة أيام، قال: نزلت إلى غارٍ في الكرخ لما أتت محنة القول بخلق القرآن فجلست ثلاثة أيام، هذا هو التطبيق، وهذه هي السنة.
وسعيد بن المسيب يسأله سائل في حديث وهو في مرض الموت، فقال: أجلسوني، قالوا: أنت مريض، قال: سبحان الله يذكر الرسول عليه الصلاة والسلام وأنا مضطجع!! لا والله حتى أجلس.
وإبراهيم بن طهمان؛ وكان فيه إرجاء، رحمه الله رحمةً واسعة، لكنه كان من العلماء المشاهير، أثنى عليه الإمام أحمد، وكان الإمام أحمد في مرض الموت فسألوه عن إبراهيم بن طهمان، فجلس، وتربع، وقال: لا ينبغي أن يذكر عندنا الصالحون ونحن مضطجعون.
أو كما قال، وذكر القصة الذهبي وابن كثير.
والشاهد هو: كيف كان تطبيقهم للحديث وأثره؛ في سمتهم، وأخلاقهم وصفاتهم وسننهم.(65/6)
أهمية العناية بالعبادات لطالب العلم
ثم إنه ينبغي على أصحاب الحديث أن يكونوا من أكثر الناس نوافلاً، ومن أكثر الناس تقرباً، وأن يكثروا من ذكر الله.
وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتُذكر في السماء إذا ذَكرتا
ونادِ إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذوالنون بن متى
إذا ما لَمْ يزدك العلم فضلاً فليتك ثم ليتك ما علمتا
وإن ألقاك فهمك في مهاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا
فإن العلم: هو مخافة الله عز وجل، وبالخصوص أهل الحديث فإن الناس ينظرون إليهم نظرة أخرى، والناس يحترمونهم، مرَّ أبو حنيفة رحمه الله، فسمع بالجسر قائلاً يقول لصاحبه وهو يحاوره: أبو حنيفة يقوم الليل كله ولا ينام، فقال أبو حنيفة بينه وبين نفسه: سبحان الله! يظن الناس أني خيِّرٌ وأنا أنام الليل، فكان يقوم الليل.
ولكن المقصود أن على صاحب الحديث أن يكون كثير النوافل، وكثير التقرب إلى الله؛ فيحافظ على ركعتي الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن يكون القرآن خدينه ورفيقه.
وقد تكلم الذهبي عن رجلٍ، فقال: ينبغي أن يكون لطالب العلم نوافل، قال: نعم، إذا رأيت طالب العلم منصرفاً إلى العلم، وليس لديه نوافل فاعلم أنه مخذول، وإذا رأيته يعبد الله على جهالة فاعلم أنه محروم.
ولذلك ذكر الله هذين الصنفين في القرآن، فذكر العلماء الفسقة، وذكر العباد الجهلة فقال في العلماء الفسقة: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] وقال في العباد الجهلة: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] الآية.
إذا علم هذا؛ فأدعو نفسي وإياكم يا أصحاب الحديث! إلى كثرة النوافل والعبادات.(65/7)
كيفية طلب الحديث
وفي هذه الفقرة سأتحدث عن كيف يطلب الحديث؟
وأنا ما جئت الآن لأخبركم بوسائل الطلب، فأنا أعرف أن هنا مشايخ قضوا أعمارهم في الطلب، والمعرفة، والتجربة، والاستقراء، وأظن هذه الدار أنشئت قبل أن أولد، سأتكلم من باب أن نتذاكر، ونتواصى، ونتعاون على الخير، وأن يأخذ بعضنا بيد بعض.
فطلب الحديث أمره عظيم، وحفظه يأتي بالاستغفار والخوف من الله، يقول ابن تيمية: إنها تعجم عليَّ المسألة، فأستغفر الله ألف مرة أو أكثر أو أقل؛ فيفتحها الله عليَّ.
انظر! الإمام أحمد كما يقول الذهبي عنه: يحفظ ألف ألف حديث، قال: بالمرسلات، والمقطوعات، وأقوال الصحابة وتفسيراتهم، يحفظ ألف ألف حديث.(65/8)
أثر المعاصي على طلب العلم
وفي ترجمة الشافعي، أن الشافعي كان إذا قرأ كتاباً يضع يده على الصفحة اليسرى فيغطيها لئلا يسبق نظره إليها فيحفظها.
قال لشيخه وكيع بن الجراح؛ الإمام الكبير، الذي يلقب بأمير المؤمنين في الحديث، قال له: يا شيخ! ما هو أنفع للحفظ، فإني سمعت الناس يقولون: اللبان، وناسٌ يقولون: الزبيب.
قال: أنفع شيء للحفظ ترك المعاصي.
ليس أكل الزبيب ولا أكل الباذنجان، ولا البطاطس، إنما أنفع شيء للحفظ هو ترك المعاصي، فقال:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نورٌ ونورُ الله لا يهدى لعاصي
إذاً: فمن أحسن ما يعين على حفظ الحديث: ترك المعاصي.
ذكر الذهبي وابن كثير، وغيرهما عن عامر الشعبي، أن عامر الشعبي قال: إني لأضع إصبعيَّ في أُذُني إذا نزلت السوق لئلا أحفظ أصوات الناس.
وهو في هذا الشأن رجل داهية، لماذا؟ لأنه اتقى الواحد الأحد، عرف طريقه إلى الله، فبصره الله، ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] قالوا: من العلم؛ فإنهم لما عصوا الله، وفسقوا، ونظروا إلى المحرمات، نسوا العلم، فقل لي بالله: كيف يحفظ طالب الحديث الحديث وهو ينظر إلى المرأة الفاتنة؟! وإلى المجلة الخليعة، أو يستمع إلى الأغنية الماجنة، ويجلس مع الفسقة، أو يتخلف عن الصلاة، أو لا يذكر الله إلا قليلاً، أو يغتاب في مجلسه، أو ينم، أو يلبس الذهب والحرير، أو يرائي، أو يعجب بنفسه، أو يتكبر، فكيف يحفظ الحديث؟!!
إذاً، أيها الإخوة الأخيار: إن المعاصي أكثر ما يسقم القلب، فممّا يوصى به طالب الحديث أن يستغفر كثيراً، وإذا أخطأ أن يتوب؛ لأن طالب الحديث ليس معصوماً، قيل لـ الجنيد بن محمد: أيزني الولي؟ قال: سبحان الله! {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب:38] لكن عليه إذا أخطأ أن يتوب إلى الله، وأن يعود إلى الله، فعند الترمذي بسند صحيح، قوله صلى الله عليه وسلم: {يقول الله تبارك وتعالى: يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة} وعند مسلم: {يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم} وعند مسلم: {والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ آخرين يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم} وعند الترمذي بسند حسن: {كلكم خطاء وخير الخطائين التوابون} فالتوبة التوبة، والاستغفار الاستغفار.(65/9)
أهمية إنفاق العلم لحفظه
ثم أقول: إنه لا بد أن ينفق من علمه الذي آتاه الله عزوجل.
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا
وفي الركاز الخمس.
فعلى طالب الحديث أن ينفق ويزكي مما آتاه الله، وأهل الحديث إذا فعلوا ذلك فإن ما يأتي منهم من تقصير في بعض الأمور يتسامح الناس فيهم، وقصدي بالتقصير هنا؛ كمثل الحدة، لأن أقول: أهل الحديث يميزهم الحدة بين الناس، فصوتهم دائماً قوي، وأمرهم دائماً شديد، ويريدون تنفيذ الأمور، وهذا كله من حرارة السنة في قلوبهم، ولكن {إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث} فما داموا قد حافظوا على معتقد السلف، وحافظوا على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعندهم سنة، فلابد للناس أن يتحملونهم، لكن على الداعية أن يكون بصيراً حكيماً.(65/10)
أهمية إعطاء الأمور حجمها لطالب العلم
ثم إن هناك ملاحظة عن أهمية إعطاء الأمور حجمها؛ لأنهم يقولون: وجد في بعض المحدثين من يعطي المسألة أكبر من حجمها؛ مسألة فرعية يقاطع المسلمين عليها، ويقول: لا ينبغي أن نسلم عليه، ونهجره، لأنه خالف الحديث والسنة، كمثل وضع اليدين على الصدر سنة من الرسول عليه الصلاة والسلام؛ وحديث وائل بن حجر صح فيها، وهي المعتمدة عند فقهاء المحدثين، وبعض الفقهاء أتى بحديث علي عند أبي داود وهو ضعيف قال: تحت السرة، فيأتي المحدث ويقول: من السنة وضع اليدين على الصدر، فيقول صاحبه وهو يحاوره: لا، تحت السرة، فيقول: أشهدك وأشهد الله وملائكته وحملة عرشه ألا أكلمك حتى أموت!
وقد وردني سؤال أن بعض الناس يقول ذلك، ويستدلون بكلام ابن عمر في صحيح مسلم أنه قال لابنه بلال: يقول صلى الله عليه وسلم: {لا تمنعوا إماءَ الله مساجد الله} قال ابنه: [[والله لنمنعهن, إذاً يتخذنه دغلاً، فقال: والله لا أكلمك حتى أموت]]؛ وفرق بين هذا وهذا: فإن ابنه عارض السنة بلا تأويل؛ يعني: جهاراً نهاراً رضي الله عنهم أجمعين، وأما ذاك فهو متأول.
يقول ابن تيمية في كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام: إن لأهل العلم أعذاراً يعذر بعضهم بعضاً فيها، ثم قال كلاماً ما معناه: إما أن يكون الحديث وصلك ولم يصل ذاك، وإما أن يكون منسوخاً عنده وهو ثابتٌ عندك، وإما أن يكون ضعيفاً عنده وهو صحيحٌ لديك، وإما أن يفهم منه فهماً وتفهم أنت فهماً آخر.
إذاً فمسائل الخلاف الفرعية لا توجب الفرقة بين العلماء، ولا بين طلبة العلم، مثل: الجهر ببسم الله، ومثل: وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر، ومثل: جلسة الاستراحة وما شابهها فهذه الأمور الجزئية لا توجب الفرقة عند أهل العلم.(65/11)
الاهتمام بالعلوم الأخرى
ثم وصيتي لأهل الحديث: أن يكون عندهم علوم الآلة، وهي ما تقوم به الدار والحمد لله، يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: بعض المحدثين لا يعرف من التاريخ شيئاً، ولا من الفقه شيئاً، وذكر من ذلك أمثلة.
لكنني أنا أعرف أن هذه الدار أصيلة، وعريقة، وتعتني بهذه العلوم، فإنه من النقص على طالب الحديث أن يجلس في مجلس فيقولون: أتعرف هارون الرشيد؟ فيقول: لا أدري، أسمع به، ولكن ها ها لا أدري.
ويسأل عن ولاية الحجاج هل هي ولاية راشدة أم أنه فاسق سفاك؟ فيقول: لا أدري، الحجاج، أظنه من الخلفاء الراشدين، ويسأل عن بعض الأحداث التي لا يعذر أحدٌ بجهلها فيقول: لا أدري، فلا بد له أن يكون له حدٌ أدنى من العلوم تعينه في هذا الطريق كما فعل السلف الصالح؛ حيث أنهم كانوا يطلبون العلم، ولكن كان لهم حدٌ أدنى، أو علمٌ مشترك من العلوم الأخرى يستضيئون به مع الحديث.
فأسأل الله يا أهل الحديث, أن يبصرني وإياكم، وأن يجعلنا وإياكم ممن يعمل بعلمه؛ فإن العمل بالعلم هو المقصود، ثم يجعلنا نوزع من هذا الميراث على الناس؛ فإن الناس والله بحاجة ماسة إلى علم الحديث.(65/12)
مكانة علم الحديث اليوم
وعلم السوق الإسلامي اليوم، وعلم الساحة هو علم الحديث، فقد مل الناس الآن من كتب الخزعبلات الفكريات الطويلة -ونحن لا نذم أحداً وفيها منفعة- وكتب الإنشائيات، والمقالات الموسعة، ورجعوا إلى علم الحديث.
العالم يتحدث في المجلس، فيقولون: ما هذا الحديث؟ من رواه؟ وما درجته؟ وما صحته؟ فالسوق سوق الحديث.
ثم إن العقيدة تؤخذ من الحديث، وأنا أقول وأنتم تعرفون ذلك أنَّا لو أخذنا علم العقيدة من الكتاب والسنة فهذا علم شريف والحمد لله كما فعل بعض الكتبة كفضيلة الشيخ محمد جميل زينو ورأيت كتابه وهو من أحسن ما كتب, أثابه الله على هذا الكتاب، ونريد أن يوسع من هذه المقالات؛ لتشمل كثيراً من القضايا التي اختلف فيها أهل السنة مع أهل البدع والفرق؛ ليكون كتاباً ضميمة، ويدر على الناس، فإن علم السلف وعلم الصحابة والقرون المفضلة كانوا يقولون: هل الرحمن مستو على العرش؟ قالوا: نعم، لقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أما أهل البدع فإذا سألتهم عن المسألة هذه قالوا: العرض لا يستوي؛ لأن الجوهر ما تمَّ إثباته وإنما هو عرضٌ فكيف يستوي العرض؟! وهذا ممن قاله ابن سيناء , يقول ابن تيمية عن علم المنطق، قال: لا ينتفع به البليد، ولا يستفيد منه الذكي، وقال: هو كلحم جمل غثٍ على رأس جبل وعر؛ لا سهلٌ فيرتقى ولا سمينٌ فينتقل، فأغنانا الله من خزعبلاتهم، وشركياتهم، وعن خرافاتهم بالكتاب والسنة.
ولو أن هناك بعض المؤسسات العلمية الآن تدرس بعض الكتب التي فيها شيءٌ من المنطق وعلم الكلام، وهذا إن كان لضرورة ليوصل إلى فهمها فلا بأس، أما أن تجعل على أنها مناهج وأنها هي طريقة أهل السنة في إثبات المعتقد فليس بصحيح، بل هو الخطأ كل الخطأ، والخلل كل الخلل، نسأل الله لنا ولكم الثبات.
ويوجد في الساحة من يأتي بالمعتقد في شكل مسائل فكرية، ويقول: لا توجب خلاف بين الأمة، وهذا يلحق بأهل علم الكلام {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
إذاً، ربما يكون في الأسئلة بعض الإجابات، وأنا لا أريد أن أطيل عليكم، وأنتم من يأتي إليكم كمن يحمل التمر من صنعاء إلى هجر:
من زار بابك لم تبرح جوارحه تروي أحاديث ما أوليت من مننِ
فالعين عن قرة والكف عن صلةٍ والقلب عن جابرٍ والسمع عن حسنِ
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين, وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(65/13)
الأسئلة(65/14)
خطورة الرياء وعلاجه
السؤال
نرجو من فضيلتكم التعرض بشيء من الكلام عن الشرك الخفي؛ الذي هو الرياء المنتشر بين كثير من طلاب العلم، فنجد الطالب يناقش شيخه، وهو أحياناً قد يجادل معه في الكلام عند إحدى المسائل، وقد يفتح باب المراء وهو لا يعلم، فنرجو الموعظة في هذا وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
مرض الرياء والشرك الخفي -كما ورد عن السلف الصالح - مرضٌ خطير، وكثيرٌ من الناس يبتلى به، وكفارته: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم} ولو أنه تكلم في سند هذا الحديث، لكنه عند كثير من أهل السنة مما يقبل العمل به، وهو في درجة الحسن.
وقد شكا الصحابة إليه صلى الله عليه وسلم من هذا المرض -مرض الرياء- فقال: {ليقل أحدكم: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم} وفي الصحيحين من حديث جندب قال: قال صلى الله عليه وسلم: {من راءى راءى الله به، ومن سمَّع سمَّع الله به} فمن طلب بعمله رؤية الناس ليروه راءى الله به على رءوس الأشهاد، وفضحه، ومقته، وكذلك من سمع، وعند مسلم في الصحيح: {من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه}.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم: {أول من تسعر بهم النار ثلاثة: منهم قارئ قرأ القرآن، يقول الله عزوجل له: ألم أعلمك القرآن؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت به؟ والله أدرى، قال: تعلمته فيك، وعلمت الجاهل، فيقول الله تعالى: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: خذوه إلى النار، فيدهده على وجهه في النار -ثم ذكر الصنفين الآخرين- ثم قال: أولئك أول من تسعر بهم النار} ومقصود التوحيد: هو الإخلاص، وثغر الشرك هو الرياء.
فلذلك الفيصل بين الرياء وبين الإخلاص أن تقصد بعملك وجه الله عزوجل {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى}.
إذاًَ: على المسلم أن يتقي الله في إخلاصه، وعلاج الرياء ثلاثة أمور:
أولها: أن يعرف أن الناس لا يملكون ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً، ولا نشوراً، وأن النفع من الله الواحد الأحد، وأنه هو الذي يملك الثواب، ويملك الأجر، وعنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كل نفع.
الأمر الثاني: أن يعرف قدر الناس، وضعفهم وقلتهم {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3] والله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وقال في المرائين والمشركين: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].
الأمر الثالث: من ابتلي بشيء فعليه أن يلتجئ للواحد الأحد، وأن يصدق مع الله، ويستغفر {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] ويقول: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم}.(65/15)
من أحكام البدعة
السؤال
أريد منكم أن تعرفوا لنا المبتدع، وهل الأشاعرة من المبتدعة؟ وكيف نعامل المبتدعة؟ وهل تقبل توبة المبتدع؟
الجواب
المبتدع يعرفه صلى الله عليه وسلم، كما عند مسلم من حديث عائشة: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} فمن أتى بشيء من المعتقدات، في الأقوال، أو في الأفعال لم يأتِ به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت بالكتاب والسنة؛ فهو مبتدع.
والمبتدعة أصناف ودرجات:
فمنها بدعة مكفرة، ومنها بدعة مفسقة.
ومن أحسن من تكلم عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، في المجلد الأول، والمجلد الرابع من الفتاوى، وعرض لهم في بعض المجلدات الأخرى.
وأما الأشاعرة فهم بالنسبة لـ أهل السنة هم من المبتدعة، بلا شك، بل من العجيب أن الذي سجن شيخ الإسلام ابن تيمية هم الأشاعرة، سجنوه في الإسكندرية، آل ابن مخلوف وآل السبكي هؤلاء أشاعرة شوافع، فهم من المبتدعة بلا شك, وبالخصوص في الأسماء والصفات، قد يشتركون مع أهل السنة في بعض المسائل ويوافقونهم فيها، لكنهم إجمالاً خالفوا أهل السنة في المعتقد؛ لأن معتقد السلف إقرار الأسماء والصفات لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كما جاءت من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل، والأشاعرة ما أفلحوا في ذلك، وهم قسمان:
أشاعرة أهل الرأي، وأهل المنطق والكلام كـ الرازي ومن لف لفه؛ وهؤلاء قدموا العقل على النقل، ورد عليهم ابن تيمية في كتاب درء تعارض العقل والنقل فأتى بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم.
وبعض أهل الحديث والأثر يريدون التنزيه لكنهم أخطئوا فيما قالوه، ومنهم ابن حجر وهو صاحب فتح الباري المشهور، وتجده مرة يسكت على معتقد السلف ولا يعلق، ومرة يؤول مع الأشاعرة، ومرة يتلعثم عند أهل السنة:
يومٌ يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ وإن لقيت معدياً فعدنان
فإما أن تكون أخي بصدقٍ فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطَّرحني واتخذني عدواً أتقيك وتتقيني
فإني لو تخالفني شمالي ببغض ما وصلت بها يميني
إذاً لقطعتها ولقلت بيني كذلك أجتوي من يجتويني
لكن بالعدل نقول: الأشاعرة في الإسلام أقرب المبتدعة إلى أهل السنة فالمبتدعة درجات: أقربهم الأشاعرة ثم المعتزلة ثم الجهمية؛ الجهمية هؤلاء في درجة الزنادقة، بل كثير من أهل العلم قالوا: إنهم ملاحدة، لأن معنى أقوالهم أنهم ينفون وجود الله.
والمعتزلة قدموا العقل على النقل، وقدموا آراءهم، ونفوا الصفات جملةً وتفصيلاً.
أما الأشاعرة فتجد فيهم أئمة، فإن ابن الأثير نسب إليهم، والنووي وأبو الحسن الذي رجع فيما بعد عن معتقده، بل قال ابن تيمية: أبو الحسن الأشعري خيرٌ في المعتقد من ابن حزم الظاهري؛ صاحب المحلى وابن حزم محسوب على أهل السنة على كل حال.
لكني أقول: العدل أنهم أقرب الطوائف، ولكنهم على كل حال مبتدعة.
فلا بد أن يقروا بما أقرت به القرون الثلاثة الفاضلة المفضلة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يفعلوا ذلك فبقية بدعتهم عليهم، والله أعلم.(65/16)
هل يعذر الجاهل بجهله
السؤال
هل يعذر الجاهل بجهله بعد أن أرسل الله الرسل وأنزل الكتب؟
الجواب
هذه المسألة أصبحت من فضول المسائل، كأطفال المشركين، وأهل الفترة، والذين ما بلغتهم الدعوة، والجاهل هل يعذر بجهله أم لا، وقد تكلم ابن تيمية بكلام طويلٍ يحتاج إلى تلخيص، ويحتاج إلى تقسيم وتوزيع، فإن هناك جهلاً عاماً مطلقاً وجهلاً خاصاً مقيداً، والله يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15].
فأما الناس الذين أدركوا الرسالة فقد قال صلى الله عليه وسلم: {لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار} فمفهوم المخالفة أن الذي لا يسمع به أمره إلى الله.
إذاً فلا يُعذَر أحد بعدم بلوغه الدعوة وهو في أرض الدعوة، وفي محيطها، فيلزمه أن يتعلم، حتى يعرف أصول الدين.
وأما من كان في البوادي, وفي أراضٍ بعيدة لم تبلغها الإسلام فأمره إلى الله عزوجل كأطفال المشركين، وأهل الفترة.
ولأهل العلم فيهم ثلاثة أقوال:
قولٌ يقول: يبعث الله لهم في العرصات رسلاً؛ وليس على هذا دليل.
وقولٌ يقول: الله أعلم بما كانوا عاملين.
وقولٌ يقول: يعذبون؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أتاه رجلٌ فقال: {أين أبي يا رسول الله؟ قال: أبوك في النار، فلما ولَّى دعاه، وقال: أبي وأبوك في النار} والحديث في صحيح مسلم.
وأنا أعتذر عن كثير من التفصيل، ويعاد إلى أهل العلم في هذه المسألة؛ لأنه لا طائل من البحث والاختلاف فيها على حسب اعتقادي.(65/17)
حكم بناء المساجد على القبور
السؤال
ما حكم المسجد الذي بني على قبر؟ وهل يجوز الصلاة فيه؟ وفيما إذا عزلت عنه؟ هل يكون خلاف بين الناس في ذلك؟ يعني: إذا كان بعيداً من المسجد، أو من القبلة؟
الجواب
تعرفون النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في مرض موته: {اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد} ويقول: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} وفي صحيح مسلم عن بثينة الهذلي قال: {نهى صلى الله عليه وسلم أن يصلى إلى القبر، وأن يجلس عليه} وصح عن عمر أنه رأى أنساً يصلي إلى قبر، قال: [[القبر القبر]] أي: انتبه لا تصلي عليه.
فمسجد بني على القبر لا تجوز الصلاة فيه؛ لأنه أصبح مظنة للشرك، وإنما دخل الشرك في الأمم لأنهم تقربوا من مساجدهم ومعابدهم بقبورهم فدخلوا في الشرك، وهذه مظنة اتخاذ هذا المدفون شفيعاً، أو رفع الحاجات إليه، أو التبرك بضريحه، وهذا هو الشرك الذي حذر منه صلى الله عليه وسلم.
أما إذا كان القبر بعيداً عن المسجد، كأن يكون بينه وبين المسجد حاجزاً، وبعيد فلا بأس، كما في البخاري وغيره: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقبور المشركين فنبشت، فسوى صلى الله عليه وسلم النخل قبلة المسجد، ثم صلى في مسجده عليه الصلاة والسلام}.
فإذا كان القبر بعيداً وهناك حاجز فلا بأس.
أما في القبلة فالأولى أن يكون على مسافات بعيدة عن المسجد بعداً للشرك، وحماية لجناب التوحيد.(65/18)
حكم المجاز والتأويل وحقيقة الصوفية
السؤال
ذكرت في كلامك ما أتى من الكتاب والسنة في فضل أهل الحديث، وأنه ما جاء من غير الكتاب والسنة فضعها في الحش، وقوله تعالى في اليهود: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46] فضيلة الشيخ: نريد أن نعرف رأيك في المجاز والتأويل في القرآن، ما قولكم فيمن يستدل بهذه الأشياء، و (97%) من المفسرين يستعملونه.
السؤال الثاني: هل الصوفية في وقتها الحاضر من أهل السنة والجماعة، نرجو التوضيح، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً مقصود كلمة الأوزاعي: ما أتاك من غير الكتاب والسنة فضعها في الحش؛ أي: مما خالف الكتاب والسنة، وصح عن الإمام مالك أنه يقول: كلٌ يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر عليه الصلاة والسلام.
وأما مسألة المجاز، وما أدراك ما المجاز؟! فهي مسألة خلافية، لكن كثيراً من أهل السنة يرون ألا مجاز في القرآن والسنة، بل إن ابن تيمية يرى ألا مجاز لا في الكتاب ولا في السنة ولا في لغة العرب، ومعه ابن القيم، ومن العلماء المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي وله رسالة في ذلك، وهناك بعض أهل السنة قالوا بالمجاز، ولو أن هذا قولٌ ضعيف، ومقصود من نفى المجاز ألا يترك للمبتدعة طريق؛ لأن مدخل المعتزلة والأشاعرة في الأسماء والصفات أن جعلوه من باب المجاز، فمثلاً يقول: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] قال: جاء أمر ربك، و {يضحك ربنا} قال: ثوابه أو رضاه.
فقلنا لهم: لماذا؟ قالوا: أنتم تستخدمون المجاز، قلنا: مثل ماذا؟ قالوا: جاء الأمير؛ يعني: جاء أمر الأمير، رأيت الأسد؛ يعني: رأيت رجلاً، يقول الله عزوجل في القرآن: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف:82] هل القرية تتكلم؟ قلنا: لا.
قالوا: كيف يقول: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] أي: اسأل أهل القرية.
إلى غير ذلك من الأمور، لكن ابن تيمية يقول: إن الأصل هي لغة العرب هكذا {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف:77] فالعرب تستخدم هذا الأسلوب, وليس من باب المجاز.
أما الأسماء والصفات فإنها تجري على ظاهرها، ولا تكيف، ولا تؤول، ونلزمهم في الصفات التي نفوها بالتي أقروا بها وأثبوتها، مثل صفة الضحك ينفونها، نقول: لماذا؟ قالوا: لأن الضحك من صفات المخلوق، فلو أثبتنا ضحكاً للخالق لشابه المخلوق، قلنا لهم: العلم، قالوا: لا العلم أمرٌ آخر، قلنا كيف يكون أمرٌ آخر؟ قالوا: لله علمٌ يليق بجلاله لا يشابه علم المخلوق، قلنا لهم: قولوا كذلك له ضحكٌ يليق بجلاله لا يشابه ضحك المخلوق {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] وهذه إلزامات باللغة العربية.
وقضية التأويل والمجاز أمرٌ يطول وليس من المصلحة نشره بين الناس، يقول علي رضي الله عنه وأرضاه: [[حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذب الله ورسوله]] ويقول ابن مسعود: [[إنك لست محدثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان على بعضهم فتنة]].
أما الصوفية هل هم من أهل السنة والجماعة؟ فأقول الصوفية درجات، حتى من يتكلم لا بد أن يتكلم بعدل ويفصل، لأن إلقاء الحكم مجملاً عاماً على الناس لا يصلح:
أما إن كانوا لم يبلغوا الضلالات في المعتقد؛ كأن يكون عندهم اجتماعات أو يأتون بطقوس ومراسيم وهيئات ما أتت بها السنن، فنقول: هؤلاء مبتدعة وليسوا من أهل السنة، لكنهم في منزلة المبتدعة.
وثم أناسٌ بلغوا إلى درجة تقديس المشايخ، وعبادتهم، ورفع الحاجات إليهم فهم مبتدعة من البدع المغلظة التي تدخلهم في الشرك.
ثم مبتدعة من درجة أخرى؛ وهم ملاحدةٌ زنادقة، وهم الذين قالوا بالحلول والاتحاد، ومنهم أناسٌ وجدوا في هذا العصر، يقول أحد مشايخهم من الأولين: ما في الجبة إلا الله -جلَّ الله عما يقول- ويقول: الله في كل مكان حالٌّ معنا، حتى جعلوا أنه يحل سبحانه وتعالى في الكلاب والخنازير جل الله سبحانه وتعالى، ولذلك لما رد عليهم ابن تيمية قال: فإن كان صح عن بعضهم ما يقال, فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
ولسنا بحاجة إلى هذا اللفظ، ولسنا بحاجة إلى أن يكون هناك فرقة متصوفة خرافية؛ لأن الله أغنانا بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وبكتاب ربنا، لأن التصوف الآن على ثلاثة أضرب:
تصوف في المعتقد، وتصوف في الأعمال، وتصوف في الأقوال، وقد يجمعه بعض الناس ليكون ظلمات بعضها فوق بعض.
فأنا أقول: يا أيها الإخوة! علينا أن نبصرهم بالتي هي أحسن، وأن نعلمهم بالسنة، وإذا نسبوا لنا عن شيخ عن شيخ عن شيخ نأتي بـ البخاري عن فلان عن فلان عن محمد عن جبريل عن رب العالمين فهذه أسانيدنا وهذه أسانيدهم.
أما أسانيدنا فكالنجوم في الليل، وأما أسانيدهم فكخيوط العنكبوت لا يتعلقون منها بشيء فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.(65/19)
كثرة النوافل عند طالب العلم
السؤال
ذكرتم في المحاضرة أهمية كثرة النوافل عند طالب العلم، لكن كثيراً من أهل العلم اعتبروا أن كثرة النوافل تشغل عن علم الحديث، بل كثير من المحدثين جرحوا المشتغل بكثرة العبادة، حتى يقال في مقام الجرح: شغلته العبادة عن الحديث وغفل، فاعتماداً على هذا نحن نكثر السهر في مطالعة الحديث، فهل يُعدُّ طلبنا للحديث من العبادة، حتى نجمع بين الخصلتين، فما رأيكم في ذلك جزاكم الله خيراً؟
الجواب
قول الأخ: إن كثيراً من المحدثين جرحوا بعض المحدثين بسبب كثرة العبادة، فيا سبحان الله!
وعيرني الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهرٌ عنك عارها
إذا لم تكن العبادة هي المقصود من طلب الحديث فلا حيا الله هذا التشاغل، ولا هذا السهر، ولا هذا الحفظ؛ لأن المقصود من العلم هو العبادة، ترجم الذهبي لـ ابن الراوندي الملحد الزنديق الفيلسوف قال: الكلب المعثر الملعون، صاحب كتاب الدامغ على القرآن، الذي يدمغ به القرآن، وكان ذكياً، وحافظاً، لكن لعن الله الذكاء بلا إيمان، وحيا الله البلادة بالتقوى، مرحباً ببلادة بتقوى وبسجدات وبركعات.
وأما قول الأخ، فينبغي أن يفصل قوله: جرحوه، هم لم يجرحوه بسبب عبادته، لكن هو ترك الرواية وترك التشاغل بالحديث فضعف في الحديث، مثل: رشدين بن سعد وقيس بن الربيع، وغيرهما من الأئمة الأخيار الذين يقومون الليل، لكن تركوا الحديث جانباً، ست سنوات لا يراجع الحديث ثم يسأل عن الحديث فيزيد فيه متراً أو مترين، حتى يقول الإمام مالك: يخرج من عندنا الحديث شبراً ويعود من العراق ذراعاً، فهم يزيدون؛ لأنهم وهموا فيه، فليست كثرة العبادة مما يشغل، بل هي مما يصحح الذاكرة، ويقوي القلب، لكن قد جعل الله لكل شيء قدراً، أنا ما أقصد عبادة الصوفية، يذكرون عن أحدهم أنه صلى في اليوم خمسمائة ركعة ولما أتت صلاة الظهر نام عنها وتركها.
وأحدهم ذكروا عنه أنه سهر، فلما اقتربت صلاة الفجر نام حتى صلاها في الضحى، قالوا: مالك؟ قال: شغلني قيام الليل، فانظر إلى قلة فقهه، ترك الفريضة من أجل النافلة، ولكم أن تعودوا إلى كتاب العزلة لـ أبي سليمان الخطابي ذكر عن بعض الصوفية الجهلة الذين ما استناروا بنور السنة، قال: لصق على عينه اليسرى بلصقة، فقالوا: مالك؟ قال: إسرافٌ أن أنظر إلى الدنيا بعينين، والله عزوجل يمتن فيقول: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8 - 9] فأين عقل هذا؟! وذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة: أن أحدهم قال: أين أنتم مني لم آكل الرطب منذ أربعين سنة، سبحان الله من حرم عليك الرطب؟! والله عزوجل يقول: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون:51] فهذا الجهل ليس من العبادة لكنه من عدم الانصراف للعلم.
فأقول: وازن السنة التي ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم كركعتي الضحى وأربع قبل الظهر وأربع بعدها إلى غير ذلك، وعليك بـ البخاري ومسلم، خذ العبادة من الكتب الستة ومسند أحمد فإنها لا تأخذ عليك وقتاً طويلاً، واحذر من كتاب الرعاية، وهو للمحاسبي، ونحوها من كتب البدع، والتي فيها يذكرون أن فلاناً كان يصلي طول وقته، فهذا متى يتفرغ لصلة رحمه ولمساعدة المساكين! والغزالي رحمه الله قال في الإحياء: إذا طلعت الشمس قام فتوضأ فصلى أربعاً، ثم ينتظر قليلاً حتى ترتفع ثم يقوم فيتوضأ فيصلي أربعاً، أين الأدلة على هذه؟ يمكن عموم {من سجد لله سجدة رفعه الله بها درجة} لكن التوازن بين العلم، والتحصيل، والعبادة مطلوب لتكون عالماً، وعابداً، وزاهداً، وحنيفاً لله، إماماً يقتدى بك في أقوالك وأفعالك.
وأنا أوصيك بتراجم بعض الناس لترى العبادة والعلم؛ انظر إلى سيرة الإمام أحمد، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وابن تيمية، وابن القيم، والمزي، وابن كثير، وغيرهم من الأئمة الجهابذة سوف ترى كيف وازنوا بين العلم والعبادة.(65/20)
حقيقة الجهاد الأفغاني
السؤال
لقد سمعنا بعض الناس يشككون في الجهاد الأفغاني، ويقولون: إن عندهم بدع ولا يجوز الجهاد معهم، ولا مساعدتهم، فهل الكلام هذا صحيح أم ماذا؟ أرشدوا طلاب العلم إلى الصواب، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً من آداب أهل الحديث وأهل السنة ألا يلقوا الأحكام جزافاً بلا تفصيل، وبلا تبيُّن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] فعلى طالب الحديث أن يكون متبيناً، وأن يكون مفصلاً في أحكامه وفي إلقائه لكلامه.
أما الجهاد الأفغاني، فنحن لا نقول: إنهم كالصحابة الذين حضروا بدراً وأحداً، ولا الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، فنحن أنفسنا نحن جوار الحرم وبيت الله عزوجل، ويتلى علينا الحديث جهاراً ونهاراً لا نبرئ أنفسنا من النقص، ولا من الذنوب والخطايا، ففيهم من أهل السنة وفيهم من فيه بدعة، وفيهم مذنب، وفيهم من يرتكب الكبائر، وفيهم من يرتكب الصغائر، ولكن انظروا ماذا فعلوا:
والدعاوى ما لم يقيموا عليها بيناتٍ أصحابها أدعياء
مجملاً: أجادوا كل الإجادة.
وأنا أذكر مجاهدين من أهل السنة المؤمنين الصادقين أنهم رفعوا رءوس المسلمين، وأرغموا الملحد وسحقوه، {الذين قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174] قال لهم الناس: هيئة الأمم، قالوا: آمنا بالله وحده وكفرنا بـ هيئة الأمم:
في فتية من بني الأفغان ما تركت كراتهم للعدى صوتاً ولا صيتا
قومٌ إذا قابلوا كانوا ملائكةً حسناً وإن قاتلوا كانوا عفاريتا
فالمقصود، من كان في رأسه شيء فليدخل أرض الأفغان، نحن مع إسرائيل وشامير أكثر من ثلاثين سنة ونحن نشكو إلى جنيف، وإلى واشنطن وموسكو {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3] إلى غير ذلك من الآيات.
فالمقصود أيها الإخوة! الحمد لله، الآن قد أشرفوا على النصر، فواجبنا إن كنا نريد الإصلاح أن نسافر ونبين لهم السنة، ونعلمهم المعتقد، ما دام أنهم أجادوا في ذبح الروس على الطريقة الإسلامية فعلينا أن نعلمهم الطريقة الإسلامية في المعتقد، ومن عنده حديث فليذهب، بل سمعت من بعض قاداتهم مباشرة يقول: يتهمنا الناس بأنَّا مبتدعة وقد فتحنا صدورنا ومجالسنا وبيوتنا لمن يعلمنا السنة! فليأتوا.
وفيهم والحمد لله خير كثير، والآن أشرفوا على دخول كابول، واقترب فتحها فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين.
فنسأل الله أن ينصرنا وإياهم بالإسلام، وأن يعزنا بالإسلام ويعز الإسلام بنا.
وبالمناسبة هنا مقطوعة في المجاهدين الأفغان، قصيدة أورد بعضها، واسمها: تحية للمجاهدين الأفغان:
مروا بقلبي فقد أصغى لي البانُ لي في حمى الحب أصحابٌ وإخوان
نعم لك الله ما قد تبت من ولهٍ أما لكم صاحبي صبرٌ وسلوان
دع ذا وهات قوافٍ منك صادقةً لأمةٍ مجدها بالأمس فينان
والله لو أنصف التاريخ أمتنا لسجل المدح عذباً وهو سهران
مجالس العلم تروي كلَّ قصتنا إن قلت حدثنا يحيى وسفيان
الساكبو العلم من مشكاة دوحتهم علم ابن عباس ياقوت ومرجان
والصانعو الزهد والدنيا بحوزتهم يروي علاها أبو ذر وسلمان
وإن طلبت مثالاً من أرومتنا يكفيك عن مضرب الأمثال أفغان
يا أمة المجد والأرواح أثمان في شدة الرعب ما هانوا وما لانوا
هم الرعود ولكن لا خفوت لها خسفٌ ونسفٌ وتدميرٌ وبركان
كم ملحدٍ ماجنٍ ظن الحقوق له زفوا له الموت مراً وهو مجانُ
وبلشفي أتى كالعير منتخياً رأى المنايا فأضحى وهو جعلان
ردوه كالقرد لو بيعت سلامته بشعبه لشراها وهو جذلان
فروا على نغم البازوك في غسق فقهقهت بالكلاشنكوف نيرانُ
يسعى فيعثر في سروال خيبته في أذنه من رصاص الحق خرصان
سياف في حكمة شاهٌ بمملكة لها من الدهر طول الحق برهان(65/21)
القصيدة البازية
(طلب من الحضور أن يلقي الشيخ القصيدة البازية)
أنتم يا أهل الحديث قرأتم قوله صلى الله عليه وسلم: {أنه نهى عن تلقي الركبان، ولا يبيع حاضر لباد} فالواجب ألا تتلقوا الركبان مرةً ثانية، وأن تتركوا أصحاب البضائع يردون بها الأسواق.
أما البازية فهي في سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ولكثير من المحدثين أشعار فيه.
مِنْ أمثال تقي الدين الهلالي محدث المغرب له قصيدة للشيخ، يقول فيها:
خليلي عوجا بي لنغتنم الأجرا على آل باز إنهم بالثنا أحرى
وزهدك في الدنيا لو أن ابن أدهم رآه رأى فيه المشقة والعسرى
وشاعر سوري يقول في الشيخ عبد العزيز:
روى عنك أهل الفضل كل فضيلة فقلنا حديث الحب ضربٌ من الوهم
فلما تلاقينا وجدناك فوق ما سمعنا به في العلم والأدب الجمِّ
فلم أرَ بازاً قط من قبل شيخنا يصيد فلا يؤذي المصيد ولا يدمي
وأما قصيدتي في سماحة الشيخ فاسمها البازية، قلت فيها:
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي
لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي
عفواً لك الله قد أحببت طلعتكم لأنها ذكرتني سير أسلافي
يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن أجرى الدموع كمثل الوابل السافي
يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي
أغراهم المال والدنيا تجاذبهم ما بين منتعلٍ منهم ومن حافي
مجالس اللغو ذكراهم وروضتهم أكل اللحوم كأكل الأغطف العافي
وأنت جالست أهل العلم فانتظمت لك المعالي ولم تولع بإرجافِ
بين الصحيحين تغدو في خمائلها كما غدا الطلُّ في إشراقها الضافي
تشفي بفتياك جهلاً مطبقاً وترى من دقة الفهم دراً غير أصداف
أقبلت في ثوب زهدٍٍ تاركاً حللاً منسوجةً لطفيليٍ وملحاف
تعيش عيشة أهل الزهد من سلفٍ لا تبتغي عيش أوغادٍ بتطوافِ
فأنت فينا غريب الدار مرتحلٌ من بعد ما جئت للدنيا بتطوافي
سر يا أبي! واترك الدنيا لعاشقها في ذمة الله فهو الحافظ الكافي
ومنها:
أراك كالضوء تجري في محاجرنا فلا تراك عيون الأغلف الجافي
كالشدو تملك أشواقي وتأسرها في نغمة الوحي من طه ومن قاف
ما أنصفتكَ القوافي وهي عاجزة وعذرها أنها في عصر أنصاف
يكفي محياك أن القلب يعمره من حبكم والدي أضعاف أضعافِ
يفديك من جعل الدنيا رسالته من كل أشكاله تفدى بآلافِ
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(65/22)
عائد إلى الله
باب التوبة مفتوح إلى أن تطلع الشمس من مغربها أو إلى أن يغرغر العبد، والتوبة واجبة من كل الذنوب والمعاصي، والتائبون إلى الله كثير، فكل من أذنب ثم تاب إلى الله تاب الله عليه، وقد ذكر الشيخ حفظه الله قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً ثم تاب إلى الله، وذكر بعض العبر من هذه القصة، وذكر قصة أخرى عن رجل تاب الله عليه من بني إسرائيل.(66/1)
باب التوبة مفتوح
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أمَّا بَعْد:
عباد الله: فتح الله باب التوبة، فلن يغلق إلى أن تطلع الشمس من مغربها، فباب التوبة مفتوح كلما أذنب عبد، وكلما عصى وأخطأ وأساء، قال الله في الحديث القدسي: {إلي يا عبدي! تب أتب عليك}.
قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135].
من يستر العيوب إلا الله؟
من يتجاوز عن السيئات إلا الله؟
من يغفر الخطأ إلا الله؟ {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].(66/2)
توبة الله على الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً
تعال معي -أيها المسلم الوقور التائب المنيب- إلى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وهو يحدثنا عن رجل سلف به الدهر، أذنب ذنباًً بيناً، وأخطأ خطأً فاحشاً، وارتكب جريمة من أكبر الجرائم في تاريخ البشرية، يقول عليه الصلاة والسلام فيما اتفق على إخراجه البخاري ومسلم: {كان فيمن كان قبلكم -أي: من بني إسرائيل- رجل قتل تسعاً وتسعين نفساً}.
فهذا رجل تلطخ بالدماء، لطخ أصابعه وثيابه وأياديه وسيفه بقتل تسع وتسعين نفساً، والنفس الواحدة المعصومة لو اجتمع أهل الأرض والسماوات على قتل رجل مسلم؛ لكبهم الله على وجوههم في النار، فكيف من أتى بسيفه باطشاً فتَّاكاً مجرماً ليقتل تسعاً وتسعين نفساً؟
فهذا الرجل فعل هذه الجريمة وتلطخ بالدم، وأباد هذه الأرواح المعصومة التي عصمها الله، وأزهق هذه النفوس، وبعد أن تلطخ بالجريمة وأخطأ راجع حسابه مع الله، وتَفكَّر في لقاء الله، وتذكر القدوم على الله، وعلم أنه لا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ولا يحاسب على الذنب، ولا يوقف العبد على الذنب إلا الله.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النار(66/3)
ذهابه إلى الراهب
فخرج وثيابه ملطخة بالدماء، وسيفه وأصابعه تقطر، وأتى كالمذهول المدهوش يقول للناس: هل لي من توبة؟
فقال الناس: ندلك على راهب في صومعة، اذهب إليه واسأله هل لك من توبة؟ -لأن المعروف عند الناس أنه لا يفتي إلا مفت، ولا يتكلم في مسائل العلم إلا عالم، ولا يتحدث إلى الناس إلا فقيه- اذهب إلى ذاك الراهب في تلك الصومعة في الكهف، فاسأله: هل لك من توبة؟
فذهب إلى ذاك الراهب -والراهب عابد من عباد بني إسرائيل- ما عبد الله على بصيرة: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] وهذا الدين لا بد له من دليل، لا بد له من علم وتفقه، من جلوس في الحلقات وسؤال أهل العلم، فالدين لا يبنى على الجهل.
ذهب هذا المخطئ المذنب الباكي الحاسر، الذي راجع حسابه مع الله وندم على ما فعل، ذهب بخطاياه وأسفه وذنوبه، فطرق باب الغار، فخرج له هذا العابد الذي حرم على نفسه اللحم، والله لم يحرم عليه اللحم، وحرم على نفسه الزواج، والله لم يحرم عليه الزواج، وحرم على نفسه الراحة، والله لم يحرم عليه الراحة، فتح له الباب فدخل الرجل وإذا ثيابه تقطر بالدماء، فقال الراهب: أعوذ بالله منك!
وهل يفعل العالم هذا؟
وهل يفعل الداعية للمذنبين هذا الفعل؟
باب الله مفتوح، وعطاؤه يغدو ويروح، ونواله ممنوح {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها} فقال هذا التائب: يا أيها الراهب العابد! أنا قتلت تسعاً وتسعين نفساً، فهل لي من توبة؟
أنا راجعت حسابي مع الله، وقد أسأت مع الحي القيوم، فلما تذكرت القبر وما بعد القبر والصراط والميزان والجنة والنار تبت إلى الله، فهل لي من توبة؟
أيهذا الشاكي وما بك داءٌ كيف تغدو إذا غدوت عليلا
أترى الشوك في الورود وتعمى أن ترى فوقه الندى إكليلا
والذي نفسه بغير جمالٍ لا يرى في الوجود شيئاً جميلا
فقال: هل لي من توبة؟ قال: لا توبة لك.
سبحان الله! أتغلق باباً فتحه الله؟! أتسد طريقاً أمضاه الله؟! أتقطع حبلاً أرسله الله؟! أتكف قطراً بعثه الله؟! أتسد أنبوباً فتحه الله؟! الله الذي خلق وقدر، والله الذي يغفر ويحاسب، والله الذي يناجي العبد يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
فما دخلك بين العباد وبين الله؟ أأنت تفتي في هذه المسائل؟!
قال: لا توبة لك فيئس هذا المجرم من الحياة، وأظلمت في عينيه الحياة، وصغرت في عينه الإرادة والعزيمة، وأصبح الجمال في وجهه ليلاً مظلماً، قطع حبل الله الذي بينه وبين عباده، وأغلق باب الله الذي فتحه بينه وبين عباده، فحمل سيفه فقتل هذا المفتي الراهب، فوفى به المائة جزاءً نكالاً.
وانظر إلى فساد الفتوى، الذي يتصدر للفتوى وهو لا يجيدها يهدم أكثر مما يبني، ويخرب المجتمعات، ويفسد القلوب، ويعطل الإرادات، ويغلق الهمم، ويهدم حصون العزائم.(66/4)
سؤاله للعالم
قتله ثم خرج والتفت إلى الناس، بالأمس قتل تسعة وتسعين واليوم قتل مائة، فقال للناس: هل لي من توبة؟ قالوا: ندلك على فلان بن فلان عالم من العلماء، ليس راهباً، لكن عالم فقيه مصداق، كلامه نهل من وحي السماء، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18] {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ} [القصص:80] فهو فقيه متبصر عبد الله على بصيرة.
وبالمناسبة يا أيها الناس! إن من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود -كما يقول ابن تيمية - ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى، يقول الله في اليهود: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة:13] وقال في النصارى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27] إذا أخذت شهادة ومستوىً علمياً ثم لم تظهر آثار العلم عليك، فكأنك من بني إسرائيل، وإذا انزويت في كهف تعبد وتصلي وتصوم وما تعلمت وما تفقهت، فكأنك من النصارى.
فديننا علم وعمل، فقه وإرادة، تقنين واستقراء، تجربة وأخلاق، تعامل وشورى، دين وسع كل شيء، ولذلك دل على العالم، فأتى إلى العالم وهو في حلقة التدريس يربي الأجيال، ويرفع الأرواح، وينمي الأنفس، ويفقه في دين الله.
ما بنى جملة من اللفظ إلا وابتنى اللفظ أمةً من عفاء
والعلم:
هو العضب المهند ليس ينبو تصيب به مقاتل من أردتا
وكنزٌ لا تخاف عليه لصاً خفيف الحمل يوجد حيث كنتا
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا
فطرق عليه بابه، فخرج وهش وبش في وجهه -وهذه عادة أطباء القلوب الدعاة إلى الله- تبسم وأجلسه بجانبه، وعانقه وحياه وقال: ما عندك؟ قال: أنا أذنبت، قتلت مائة نفس معصومة، فهل لي من توبة؟ قال: نعم.
لك توبة، ومن يغلق عليك باب التوبة؟ باب الله لك مفتوح، أبشر بالمغفرة، أبشر بالسعود، أبشر بالتوبة النصوح، سوف يرضى الله عليك إذا تبت، فحيهلاً بك، فقال: أتوب إلى الله وأستغفر الله، قال: أسأل الله أن يتوب عليك.
وانظر إلى حل هذه المشكلة والعقدة، ثم قال له العالم: إنك كنت تقيم في قرية سوء، إنها قرية ظالم أهلها -وبعض القرى والمدن، وبعض الأحياء والحارات والقبائل تعينك على المعصية والجريمة، لا يعينونك على الطاعة، فيحملونك على الغيبة، وعلى شهادة الزور، وعلى القتل، وعلى الزنا؛ لأن هذه البقعة خبيث منتداها، خبيث قوامتها، خبيثة مصداقيتها وعطاؤها- قال: قريتك ظالم أهلها، فاخرج إلى قرية صالحة هي تلك القرية، فأخذ جهازه وتطهر بماء التوبة، وخلع ثيابه الملطخة بالدماء، ووضع سيفه، وأخذ عصاه، وأخذ يستغفر الله ويتوب إلى الله، وأقبل على الله.(66/5)
وفاة هذا الرجل
وبينما هو في أثناء الطريق أتته سكرة الموت، قال الله: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] فلما أتته سكرات الموت وحضره اليقين قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قبضت روحه، ما صلى ولا صام ولا تصدق ولا زكى وما فعل خيراً قط، إنما تاب إلى الله، وأتت الملائكة من السماء بسرعة، ملائكة الرحمة معها السجلات، وملائكة العذاب معها السجلات، وقفت عند رأس الميت، تقول ملائكة الرحمة: هذا عبد مصيره الجنة، هذا تاب إلى الله وأناب، ورجع إلى الله، وتوضأ بماء التوبة.
وقل لـ بلال العزم من قلب صادقٍ أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا
قالوا: مصيره الجنة، قالت ملائكة العذاب: لا.
هذا مجرم قتل مائة نفس، تلطخ بالدماء، ارتكب جريمة لا تغتفر، ولكن ما فعل خيراً قط، ما صلى ولا زكى ولا تصدق وما فعل خيراً قط، فكيف يدخل الجنة؟ ووقف الجدل والحوار الساخن بين الطائفتين، فأوحى الله من فوق سبع سماوات إلى ملائكته في شأن هذا العبد، قال لهم: قيسوا ما بين المسافتين {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] من المكان الذي توفي فيه إلى القرية التي خرج منها، ومن المكان الذي توفي فيه إلى القرية التي خرج إليها، فإن وجدتموه أقرب إلى إحدى القريتين فهو منها، فقاموا يذرعون بالأشبار ما بين القريتين، فأوحى الله إلى تلك القرية الصالحة أن تقاربي.
يا لرحمة الله! وعطائه وفضله وغفرانه! يوم أن يتلطخ العاصي، ويوم أن يجرم المجرم، ويوم أن يقتل القاتل، ويوم أن يسرق السارق، ويشرب الشارب، ويفجر الفاجر، فلا يغفر له الناس، ولا يسامحون ولا يقبلونه، ولكن يقبله ربهم، ويغفر له، فقاسوا فوجدوه أقرب إلى تلك القرية، وأخذوه وهو في سكرات الموت -كما في الروايات الصحيحة- ينوء بصدره ويقترب عله أن يقرب ولو شبراً من القرية الصالحة، لأن قلبه تاق إلى التوبة وإلى العمل الصالح.
فقاسوا ما بين المسافتين فوجدوه أقرب إلى تلك القرية، فغفر الله له وأدخله الجنة.
فيا لرحمة الله! {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [آل عمران:135] هكذا نكرة، فاحشة كبرى تحت أستار الظلام، أو بين الحيطان، لا يراهم إلا الرحمن.
وإذا خلوت بريبةٍ في ظلمةٍ والنفس داعيةٌ إلى العصيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يرانيِ
{{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ}} [آل عمران:135] والعبد تمر به فترات ينسى عقله وإرادته، وينسى صدقه وأمانته، بل ينزع عنه الإيمان فترة من الفترات.
يقول عليه الصلاة والسلام: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب الخمر حين يشربها وهو مؤمن} قال أهل العلم: يرتفع إيمانه كالظلة على رأسه في وقت مزاولة الجريمة، وبعد أن ينتهي يراجع حسابه مع الله، يتذكر القبر حفرة من الحفر يدس فيها كقطعة الطين، أو كقطعة من الحجر، لا أنيس ولا حبيب ولا قريب ولا مال ولا ولد، يتذكر الصراط، ويتذكر موعود الله، ولقاء الله، فيقول: أستغفر الله.
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135] ثم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى متحدياً كبراء ورؤساء الأرض، يقول: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] هل هناك أحد يغفر الذنب إلا الله؟ الناس لا يغفرون، ولا يسترون، ولا يسامحون، ولكن الله يسامح ويغفر ويستر.
{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136].
إلهي لا تعذبني فإني مقرٌ بالذي قد كان مني
فما لي حيلةٌ إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم، وارجوا لقاءه، وتوبوا إليه من الجرائم والفواحش، فقد فتح بابه لكم، وقد رفع حجابه لكم، وقد مد يده وبسطها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، غفرانك ربي أسأنا وأخطأنا وأذنبنا وأجرمنا، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.(66/6)
قصة أخرى لرجل من بني إسرائيل
الحمد لله، الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس إلى الله رب العالمين , وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس! يلاحظ رسول الهدى صلى الله عليه وسلم القصص الحق، قصص التائبين، قصص الذين أذنبوا وأخطئوا وأجرموا ثم عادوا إلى الله.
وفي قصة أخرى يتحدث رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة، يتحدث إليهم عن رجل كذلك من بني إسرائيل-والحديث صحيح سنده كنجوم السماء- يتحدث إليهم عن رجل أذنب ذنباً عظيماً، وهو موحد لم يشرك بالله، ولكن أخطأ وعصى الله وأساء فيما بينه وبين الله، ونحن أهل السنة والجماعة لا نكفر الناس بالذنوب، إنما يكفرهم الخوارج الذين لا يفقهون إلا قليلاً ولا يفقهون.
أذنب هذا الرجل، وما ترك معصية إلا ارتكبها، شرب الخمر وزنى وقتل وسرق، كذب وغش ونم واغتاب، أساء كل الإساءة، ضيع عمره، أعجب بنفسه فتكبر واغتر، فلما حضرته ساعة الصفر، سكرة الموت الذي كنت منه وكان العبد منه يحيد بالطب وبالاستشفاء، حضرته هذه السكرة والجلسة والمصرع -الذي نسأل الله أن يعيننا وإياكم عليه- ساعة الموت يذل فيها المتكبر، ويذعن فيها الجبار، ويستسلم فيها القوي، ويفتقر فيها الغني، ساعة الموت تذهب فيها العزيمة والإرادة، ساعة الموت تتفتت الصخور والعزائم، وتتقطع الحبال ولو كانت من حديد، ساعة الموت ينسى الحبيب حبيبه، وينسى القريب قريبه، والصاحب صاحبه، والولد أباه، والأب ولده، والأم ابنها، ساعة الموت ما أعفي منها أحد، أخذت رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أخشى الناس، وأصدقهم وأعلمهم وأبرهم وأكرمهم وأكرم الناس، فأخذ يقول وهو في سكرات الموت: {لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، لا إله إلا الله، اللهم هون علي سكرات الموت، لا إله إلا الله، اللهم خفف علي سكرات الموت}.
فلما حضرت الوفاة ذاك الرجل جمع أبناءه، وأصبحوا أمامه في ساعة لا ينفع فيها الولد، ولا ينفع فيها المال ولو كانت قناطير مقنطرة، ولا ينفع فيها المنصب ولو كان منصب فرعون، يأتي ويدس الملك كالفقير في قطعة قماش، والحساب عند الله تعالى، يأتي الغني الذي ملك القناطير المقنطرة ويحمل على أكتاف الرجال، لا يحمل درهماً ولا ديناراً ولا خميصةً ولا قطيفةً.
فجمع أبناءه وقال: أي أبٍ لكم أنا؟ قالوا: من خيرة الآباء، قال: فوالذي نفسي بيده، ما فعلت مع الله جميلاً أبداً، عصيت، وتعديت حدود الله، واقترفت معاصي الله، وتطاولت على حرمات الله، فإذا أنا مت، فاجمعوا لي حطباً، ثم أشعلوا هذا الحطب، فإذا أصبحت ناراً عظيمةً فاجعلوني في النار.
هذا على دين الهندوس أهل الهند، حرق الجثث وتذريتها والتبرك بآثارها، فسحقوه، وذروه في الريح، لكنه موحد، إنما اقترح هذا الاقتراح لأنه ظن أنه سوف يفوت على الله.
سبحان الله! أين يفلت من حساب الله؟ الذي أتى بالإنسان من نطفة فجمعه ثم كونه ثم خلقه، ثم أسمعه وبصَّره، ثم رزقه، ثم يحاسبه يوم القيامة، قال الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79].
فلما توفي أخذوا جثمانه وجمعوا الحطب وأشعلوا له ناراً مدلهمة، ووضعوه في النار، فأكلت جسمه حتى أصبح فحماً حمماً فسحقوه ثم اعترضوا به الريح، فأخذته الريح الهوجاء، فتفرقت به في كل مكان ووزعته على الأنهار وعلى رءوس الأشجار وفي الجبال وفي السهول، لكن الذي بدأه أول مرة أمره في قول: كن فيكون {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] فقال الله: كن رجلاً، فكان رجلاً في لحظة، في أقل من طرف العين، جمع وأصبح رجلاً بعيونه وآذانه وسمعه وبصره، بشحمه ودمه وعظامه وأعصابه، وجمع الله ملائكته للحساب، وقال: يا عبدي! ما حملك على ما صنعت؟ لماذا أوصيت بنيك بهذه الوصية؟ لماذا فعلت بنفسك هذا الفعل؟ أما علمت أني أغفر الذنب وأستر العيب وأتجاوز عن المسيء؟ قال: يا ربي -ما أحسن الكلمة! اسمع- قال: يا ربي خفتك وخشيت ذنوبي.
فقال الله: يا ملائكتي! أشهدكم أني قد غفرت له وأدخلته الجنة.
ما دام أنه خاف موعودي ولقائي والحساب بين يدي ونكالي وناري، فقد غفرت له وأدخلته الجنة، فدخل الجنة.
وهذا يعرض لكل الناس، شريعة تبلغ في المجالس وفي الأندية، لأننا في عصر كثرت فيه المعاصي والجرائم، كثر التخلف والإعراض عن رحمة الله، فإذا وقفنا بباب التشاؤم أمام الناس، وقلنا لهم: ويلكم من الله فحسب، وعرضنا لهم النار فقط، ولم نعرض لهم الجنة، يئسوا من رحمة الله، وتمردوا على الله وأعرضوا عن باب التوبة إلى الله، لكن حقاً علينا أن نخبرهم برحمة الله ولطفه ورعايته وحفظه، ولا ننسى أن الله شديد العقاب، ولا ننسى أن الله أعد ناراً وجحيماً، وأعد نكالاً وسلاسل وأغلالاً.
نعم.
إنه رحمان ورحيم، لكنه شديد العقاب.
عباد الله: يقول المتكلم والسامع: من اقترف منا ذنباً فليتب إلى الله، اللهم إنا نشهدك في هذه الساعة الفضيلة المباركة النبيلة أننا تبنا إليك، أسأنا وأخطأنا وتعدينا حدودك وانتهكنا حرماتك، أكلنا رزقك وما شكرناك، وأكلنا عطاءك وما استخدمناه في طاعتك، وأسأنا كثيراً، وضيعنا أوقاتنا، أذنبنا كل الذنب، وأخطأنا كل الخطأ، وأسأنا كل الإساءة، ومن يغفر الذنوب إلا أنت، ومن يستر العيوب إلا أنت، اللهم فاغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وتقبلنا فيمن تقبلت، اللهم تقبل منا أحسن ما عملنا، وتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
من يفتح لنا الباب إذا أغلقته؟ ومن يرفع لنا الحجاب إذا أسدلته؟ ومن يعطينا من العطاء إذا منعته؟ اللهم فارفع لنا باب التوبة واجعله لنا مفتوحاً، وأسدل علينا من منِّك وكرمك واجعل لنا منه عطاءً ممنوحاً، اللهم صل على نبيك وحبيبك الذي بعثته رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس! صلوا وسلموا عليه، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما كانت الوفاة خيراً لنا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(66/7)
صفات المرأة المسلمة
المرأة سواء أكانت معلمة أو مربية أو ملتزمة لبيتها لا بد أن تتعلم من علوم الشرع ما يكفيها، وقد خصص لها هذا الدرس بعنوان: صفات المرأة، فذكرت لها عشر صفات تتحلى بها لتكون امرأة كاملة، وهذه الصفات مجموعة من الكتاب والسنة وأقوال العلماء، تتحدث عن المرأة وإيمانها وتوكلها على الله، ولزوم البيت، وطاعة الزوج، وغض البصر، وصون السمع، وحفظ السان، والتخلق بأخلاق المرأة المسلمة، والدعوة إلى الله سبحانه في وسط بنات جنسها، وقد ذكر صوراً للمرأة المسلمة من نساء الأنبياء وغيرهن.(67/1)
سبب اختيار موضوع صفات المرأة المسلمة
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
عنوان هذه المحاضرة: (صفات المرأة المسلمة) كيف تكون مسلمة؟
وكيف تكون مؤمنة وعابدة؟
تلكم القضايا هي التي يجاب عنها في هذا الدرس وغيرها.
واخترت هذا الموضوع لثلاثة أسباب:
أولها: لكثرة الفتن التي طمَّت وعمَّت ومدخلها النساء، وقد حذر منهن عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح فقال: {اتقوا الدنيا واتقوا النساء}.
ثانيها: تقصيرنا كدعاة وعلماء وطلبة علم في جانب المرأة.
ثالثها: لعل الله أن ينفع بهذا الشريط لمن أدخله بيته أو سمعه أو أهداه.
إذا عُلِم ذلك فقد قال عليه الصلاة والسلام لـ فاطمة في أول أيام الدعوة {يا فاطمة! أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك من الله شيئاً} وأنا أقول لكل امرأة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر: أنقذي نفسك من النار فإنا لا نملك لك من الله شيئاً، وقبل أن أبدأ بعناصر هذا الدرس التي هي عشر قضايا وأصول لا بد أن تفهمها المرأة، معلمة، ومربية، وشابة، ولازمة بيتها؛ لتكون مؤمنة بالله، يرضى الله عنها في الدنيا والآخرة، وإن لم تفعل ذلك فلتعلم أنها سوف تخسر عرضها ودينها ومستقبلها ودنياها وأخراها.
قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {عُرِضت عليَّ النار، فإذا أكثر أهلها النساء.
قالت امرأة: يا رسول الله! ما بال النساء؟ قال: يكفرن.
قيل: يكفرن بالله؟! قال: يكفرن العشير، ويكثرن اللعن} يكفرن العشير أي: الزوج، ينكرن معروفه، وينسين جميله، قال: {لو أحسنتَ إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك معروفاً قط أو خيراً قط} وقال عليه الصلاة والسلام: {اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أكثر فتنة بني إسرائيل في النساء} حديث صحيح، وقال عليه الصلاة والسلام: {أخوف ما أخاف على أمتي النساء} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(67/2)
نماذج من النساء الصالحات
إذا عُلِم ذلك فهناك نماذج أوجدها الله من المؤمنات على مر التاريخ، منذ أن خلق الله آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هناك مؤمنات مسلمات، قانتات خاشعات، حافظات للغيب بما حفظ الله.
منهن -على سبيل العرض قبل أن آتي إلى الموضوع-:(67/3)
سارة بنت هاران
سارة بنت هاران، زوجة إبراهيم عليه السلام، كانت عابدة لله منيبة مخبتة، أسلمت قلبها للواحد الأحد فعصمها وحماها من الفواحش، ذهب إبراهيم عليه السلام مع زوجته سارة إلى مصر وكان على مصر ملك، طاغية من الطغاة، وفاجر من الفجار، وجبار من الجبابرة، كان يغتصب النساء غصباً، فاغتصب سارة من إبراهيم، فلما أدخلت عليه توضأت وصلت ركعتين وأسلمت قلبها إلى الله، وسألت الواحد الأحد أن يعصمها من هذا الفاجر، فأقبل منها الملك فرُكضت رجله ورُفست وخُسفت في الأرض، فرفع عنها، ثم أقبل منها فاستعاذت بالله، فانحدرت رجله في الأرض وأخذت به قشعريرة، ثم رفع عنها، ثم رجع ثالثة فاستعاذت بالله، فحماها وخُسفت رجله في الأرض قال: إنما قربتم لي شيطانة، خذوها -وهو الشيطان- فذهبت، فأعطاها جارية فقالت لإبراهيم: "كفانا الله الفاجر وأخْدَمَنا جارية".
وهذا درس للنساء، أن من اعتصمت بالله واتكلت عليه والتجأت إليه، عصمها الله وحمى عرضها، وأسلم قلبها للواحد الأحد.(67/4)
قصة هاجر وابنها
ومنهن: هاجر، امرأة إبراهيم عليه السلام أيضاً أم إسماعيل، موحدة منيبة قانتة عابدة، خرجت مع إبراهيم إلى مكة، وادٍ قاحل، صحراء، جبال سود، لا شجر ولا حدائق، لا بساتين ولا أنهار، فتركها إبراهيم، وأوحى الله إليه أن اترك هاجر وولدها، واذهب إلى الأرض، قيل: إلى العراق وقيل: إلى فلسطين.
فذهب فقالت: "إلى من تكلنا يا إبراهيم؟ قال: إلى الله، ومن اكتفى به كفاه ومن احتمى به حماه، ومن التجأ إليه آواه، قالت: أمرك الله؟
قال: نعم.
قالت: إذاً لا يضيعنا الله، ترك جواباً من تمر، لا ماء ولا طعام لكن شيء من تمر، ثم التفت، فلما اختفى إبراهيم خلف الجبل دمعت عيناه، إمام التوحيد، وأستاذ العقيدة، وحامل لا إله إلا الله، اختفى عن العيون فدمعت عيناه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37] ما أحسن الكلام! أحسن كلام في تاريخ الإنسان، وبالفعل رزقهم الله الثمرات، ففي مكة الحجاج لا يموتون من الجوع، يموتون من الشمس أما الجوع فلا، ثمرات الأرض تأتي إلى مكة، وتهوي قلوب الملايين المُمَلْيَنَة إلى مكة، يقول ابن القيم: "عجيب تتقطع الأحذية في الطريق إلى مكة، والبغال، والخيول، والجمال، وهدير الطائرات، ومخارات السفن، وجلجلة السيارات كلها تهوي إلى مكة بالملايين، مسلمو الصين ومسلمو اليابان ومسلمو السودان، كلهم يقولون: لبيك اللهم لبيك، أليس دعاء؟
تركهم، فلما ظمئ ولدُها، قامت تبحث عن الماء، سبعة أشواط وهي تبحث في الوادي، فرفس برجله، فخرج الماء فأخذت تحول الماء وتقول: زمزم زمزم، قال صلى الله عليه وسلم -رسولنا حبيبنا يعلق على القصة- قال: {رحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لكانت وادياً معيناً أو نهراً جارياً لكنها حفته فأصبح بئراً} عليها صلاة الله وسلامه، وعلى رسولنا صلاة الله وسلامه، وفيها درس للمرأة المسلمة أن تعود وأن تلتجئ إلى الله.
شبَّ هذا الغلام وكبر، وتزوج بزوجة لكنها قليلة التوكل على الله، لا تلتجئ إلى الله، فقيرة القلب -مثل بعض النساء لو جمعت لها ملاذ الدنيا، وذهبها وفضتها وثيابها، تجدها دائماً فقيرة تتشاءم، وتقول: ليس عندنا شيء، نحن نعيش في فقر، ليتنا في حالة غير هذه الحالة، ماذا جمعني بك؟
متى يتبدل هذا الحال؟
البؤس دائماً في وجهها والفقر في قفاها، تدخل، وتدبر وتولي، وتقوم وتقعد وهي شاكية باكية، ولاجة خراجة- فأتى إبراهيم عليه السلام يزور ابنه من أرض العراق كان يجوب الدنيا ينشر التوحيد، فلما وصل إلى مكة وجد إسماعيل قد خرج للصيد في أرض نعمان فوق عرفات.
ألا أيها الركب اليمانون عرجوا علينا فقد أضحى هوانا يمانيا
نسائلكم هل سال نعمان بعدنا وخب إلينا بطن نعمان وادياً
خرج هناك يصطاد بقوسه وأسهمه، فأتى إبراهيم فطرق الباب فخرجت هذه المرأة.
قال إبراهيم: أين زوجك؟ -لا تعرف هذا الشيخ الجليل، أعظم شيخ بعد محمد صلى الله عليه وسلم في تاريخ الإنسان، ولذلك هو أول من يُكسى يوم القيامة، وهذه تزكية من الله، وليست من يحي بن معين ولا من أحمد بن حنبل ولا من البخاري، لا قال فيه: ثقة، ولا ثَبْتٌ، ولا علامة، إنما الله يزكيه من فوق سبع سماوات {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:120 - 121] أتى هذا الشيخ ولحيته بيضاء؛ لأنهم يقولون وهذا استطراد: أنه رأى المرآة فقال: يا رب! ما هذا البياض يقصد الشيب؟
قال: وقار يا إبراهيم.
قال: اللهم زدني وقاراً- فأتى بعصاه وضرب الباب فخرجت هذه الزوجة، قالت: من؟
قال: أين زوجك؟
قالت: يصطاد.
قال: كيف حالكم؟
قالت: في بؤس وفقر، ومسكنة وضنك وضنى، جائعون، ليس عندنا شيء.
قال: إذا أتى زوجك فأقرئيه السلام -والسلام لا يعرفه إلا الموحدون؛ لأن الجاهلية حوله- وقولي له أن يغير عتبة الباب، ثم ذهب إبراهيم عليه السلام، وأتى في المساء إسماعيل قال: هل أتاكم أحد؟
قالت: أتانا شيخ كبير يتوكأ على عصا، وسألني عنك فأخبرته عن حالنا، فقال: أقرئيه السلام، ويقول: غيِّر عتبة الباب، قال: هذا والدي إبراهيم وهو يعرف السلام، ويأمرني أن أغير عتبة الباب، وأنت عتبة الباب: الحقي بأهلك- لأنه في الحديث: {إن كان الشؤم في شيء ففي ثلاثة: المرأة، والفرس، والدار} بعض الدور -ونحن لا نتشاءم بل نتفاءل- إذا دخلتها أتاك من البؤس والضنك والضنى ما الله به عليم، وبعض النساء، وبعض الخيول أيضاً- فقال: الحقي بأهلك، فذهبت وتزوج غيرها.
وأتى إبراهيم بعد وقت، فأتى إلى باب ابنه فطرق الباب فخرجت المرأة الصالحة المنيبة الذاكرة التي ترى كل شيء كأنها ترى الحياة، التي تقدم لها الخبز اليابس والماء كأنك قدمت لها مائدة كسرى أنوشروان، تكون في عيش ما أحسن منه، تقول: أثابك الله.
يخبرنا بعض الفضلاء أنه عاش في ضنك وضنى وهو كبير السن، وفي فقر مدقع، فكان لا يجد الخبز إلا في بعض الأيام، فإذا أتى بالخبز قبَّلت زوجته يده وقالت: جزاك الله من خير صالحاً، والآن سوف أنقل لكم حقائق عن بعض نساء هذا العصر- فطرق الباب، فخرجت، فقال: كيف حالكم؟
قالت: في أحسن حال، وفي أرغد عيش، في سعة من الله، وفي نعمة ومنه، قال: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له يثبِّت عتبة البيت، فأتى الزوج فسألها فأخبرته، قالت يقرئك السلام، ويقول لك: ثبت عتبة البيت، قال: أنت عتبة البيت وأمرني بإمساكك.
هذه قصة إبراهيم مع إسماعيل، وهم يعيشون حياة المرأة ودورها، وقسم في منزلة بين امرأتين: امرأة لم تتكل على الله ولم ترض بقضائه وقدره، ولم تشكر نعمته، وامرأة انصرفت إلى منهج الله وأحبته، وتوكلت عليه.(67/5)
حنة امرأة عمران
حنة امرأة عمران، امرأة صالحة منيبة، عمران زوجها، كان من عباد بني إسرائيل، والعبد الصالح يرزقه الله على نيته وعلى اتجاهه، كانت حنة هذه عابدة تقرأ وتبكي كل صباح في حديقة بجنب بيتها في أرض فلسطين المحتلة -التي اغتصبها اليهود، وأخذوا دماءها، وشربوا دم أصحابها، الذين أخذوها غصباً من أيادي المسلمين، ولم تزَل وصمة عار في جبيننا، وعلينا العار والدمار والشنار حتى نستعيد فلسطين وبيت المقدس إلى أرض قومي.
أي شرف نتشرف به وفلسطين في يد رابين، وفي يد إسحاق شامير، وفي يد الملاعين أبناء القردة والخنازير.
أو ما كنتِ إذا البغي اعتدى موجة من لهب أو من دَمِ؟!
كيف أغفيت على الذل ولم تنفضي عنك غبار التُّهَمِ؟!
رُبَّ (وا معتصماه) انطلقت ملء أفواه الصبايا اليُتَّمِ
لامَسَتْ أسماعهم لكنها لم تلامِس نخوة المعتصم
في فلسطين اليوم طفل يقول: واإسلاماه! وعجوز تقول: وا إسلاماه! وشيخ يقول: واإسلاماه! ومصحف يقول: وا إسلاماه! ومسجد يقول: وا إسلاماه! فأين بليون مسلم؟! فأتت حنة فرأت هذا الطائر معه ولد، فقالت: "يا رب ارزقني ولداً، والذرية مكسب عظيم، والعقم إفلاس؛ لكن أفضل الولد: العمل الصالح، فرزقها الله، فحملت بحمل فتمنت أن يكون ولداً، ونذرت لله إن أنجبت أن يكون خادماً لـ بيت المقدس، فأتت بـ مريم، أتت بأنثى {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36] اسمع ما أحسن الكلام! {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37] أتت مريم وقالت أمها: ظننتُ أنه ولد، ونذرتُ أن يخدم المسجد؛ لكن أتت بنتٌ فقالت: وأنت أعلم"، فتقبَّلْها يا رب! فأصبحت خيراً من ألوف مؤلفة وملايين مُمَلْيَنَة من الرجال، وأصبحت خادمة للمسجد، وكفَّلها اللهُ زكريا، وأصبحت عابدة، يأتيها رزقها صباحاً ومساء كرامة من الله، وأتت بعيسى ابن مريم، الذي هو من أولي العزم، نؤمن به عليه السلام.(67/6)
أم المؤمنين خديجة
وأما خديجة، زوجة محمد عليه الصلاة السلام فهي أول امرأة في عصر تاريخ الدعوة سكبت عرقها ودمها ودموعها لنصرة هذا الإنسان العظيم، الذي قاد سفينة الحياة إلى شاطئ النجاة، أتى من الغار صلى الله عليه وسلم في أول لقاء حارٍّ مع جبريل، أتاه جبريل فغَتَّه ثلاث مرات، لا يدري محمد صلى الله عليه وسلم ما هذا الحدث، فقد عاش في أمة جاهلية أمية، فغَتَّه وقال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] فأتى يولول ويجلجل ويرتعد، قالت: {لا عليك! كلا والله لا يخزيك الله، إنك تصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف}.
وهذه المرأة عصامية، فإذا وجد في البيت من أمثالها تشد من عضد زوجها، إذا أصيب بنكبة قامت معه وقالت: كلا.
الحياة سهلة.
ويصيبه حادث سيارة فتقول: الأمر سهل ما دام أن الله أبقى علينا ديننا، فلا رعى الله السيارات.
وينهدمُ البيت تقول: الأمر سهل.
ويرسب الأطفال فتقول: قضاء وقدر، معنا الإسلام، معنا الصلوات الخمس.
أما امرأة شاكية، يأتي جرح ويأتي رسوب ويأتي شيء فتولول وتجلجل وتبكي وتجمع المصائب، وتأتي بالأحداث والفتن والمشاكل، فليست على طراز خديجة رضي الله عنها وأرضاها.
هذه امرأة عصامية في تاريخ الإسلام، جعلها الله عز وجل من أهل الجنة، قال عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح: {يا خديجة! إن جبريل أتاني يقرئك من الله السلام، ويبشرك ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب} من قصب: من جوهر ولؤلؤ، يُرى ظاهره من باطنه، وباطنه من ظاهره، لا صخب فيه ولا نصب: لا صوت ولا صياح ولا مشكلة، فرضي الله عنها وأرضاها، ما أحسنها! وما أروعها في تاريخ الدعوة!
ولها قصة ثانية:
قال صلى الله عليه وسلم: {يا خديجة! أرى رجلاً يدخل علي البيت! قالت: تعال، فجعلته عن يمينها صلى الله عليه وسلم قالت: أتراه؟
قال: نعم.
فجعلته عن يسارها قالت: أتراه؟
قال: نعم.
فكشفت عن شيء من رأسها فقالت: أتراه؟
قال: لا.
قالت: هذا مَلَك وليس بشيطان} لأن الملك لا ينظر إلى المرأة.
قالوا: كانت من أعقل النساء في تاريخ الدعوة، كانت تاجرة دفعت مالها لمحمد عليه الصلاة والسلام ليقدم أعظم رسالة في تاريخ الإنسان، ولِتَعْبُرَ رسالتُه المحيطات، ويكون لـ خديجة أجر هذه الدعوة المباركة التي جلسنا نحن وإياكم على مائدتها في هذا الدرس.
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدمِ
لما دعا الله داعينا بطاعته بأكرم الرسْل كنا أكرم الأممِ(67/7)
صفات المرأة المسلمة
صفات المرأة المسلمة عشر صفات، إذا وُجِدَتْ في المرأة فلتبْشِر بالجنة من أول الطريق، ونبشرها من هذه الليلة بجنة عرضها السماوات والأرض، فنحن شهداء الله في أرضه.
{مُرَّ على الرسول عليه الصلاة والسلام بجنازتين: الأولى شهدوا لها بالإيمان قال: وجبت وجبت وجبت، والثانية: شهدوا عليها بالسوء قال: وجبت وجبت وجبت، فسألوه قال: الأولى أثنيتم عليها خيراً فقلت: وجبت لها الجنة، والثانية أثنيتم عليها شراً فقلت: وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه}.
الصفة الأولى: إيمانها بالله تبارك وتعالى:-
إيمان يصاحبها في الليل والنهار، في الحل والترحال، قائمة وقاعدة وعلى جنبها، إيمان يجعل رقابة الله أقرب إليها من حبل الوريد، تتذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في الخلوة والجلوة، في السر والعلن، والضراء والسراء.
وسوف أعود للصفات بشيء من البسط.
الصفة الثانية: لزومها بيتها، وعدم تبرجها، وعدم خروجها إلا لحاجة ماسة:-
فبيتها أمانها، ومعبدها وسترها، وحياؤها ومستقبلها، وهذا مسئوليتها في الإسلام، لا يطلب منها أن تكون موظفة ولا عاملة ولا وزيرة، ولا يطلب منها أن تكون جندية في الجيش، ولا حارسة في الشرطة، وإنما بيتها بيتها.
الصفة الثالثة: غض بصرها وحفظ نفسها وزوجها بظهر الغيب:-
يوم تنام العيون إلا عين الله، ويوم تغفل الرقابات إلا رقابة الله، ويوم لا يستطيع البشر كشف السرائر وما في الضمائر ولا يكشفها إلا الواحد الأحد، فتستر نفسها وتغض طرفها، وتحفظ سمعها وبصرها، فيجازيها الله أن يكسوها يوم العرض الأكبر ويدخلها جنة عرضها السماوات والأرض، وينجيها من نار تلظى.
الصفة الرابعة: حفظ لسانها عن الغيبة والنميمة واللعن والفحش والأذى:-
فهي صائمة في لسانها، صائمة عن الكلام البذيء، عن الغيبة، والنميمة، واللعن، لا تتكلم إلا بذكر الله، صَيِّنَة دَيِّنَة، يحمي الله عليها عرضها كما حمت أعراض المسلمين.
ويا مسلمون: والله الذي لا إله غيره إن من أكثر مجالس اللغو، ومجالس الغيبة، واللعن، مجالس النساء، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {أُرِيْتُ النار فرأيت أكثر أهلها النساء} النساء أمرهن عظيم، وشأنهن إن لم يعصمهن الله بالدين عظيم، المرأة إذا فسقت من النساء، تصبح كالساحرة تفرق بين المرء وزوجه، وبين الإخوان، وبين الرجل وأبنائه، وبين الجيران، وبين القبائل، وبين العشائر، وما أَشْعَلتْ حربَ داحس والغبراء إلا امرأة، وعبس وذبيان سكبوا دماءهم على امرأة، قال زهير:
تداركتما عبساً وذُبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر مَنْشِمِ
وهي امرأة؛ ولكن كم لها من الأجر إذا صلحت.
الصفة الخامسة: حفظ سمعها عن الغناء والخنا وما في حكمه:
هذا عصر الغناء والمسرحيات والمسلسلات والتمثيليات والضياع، إن لم يحفظ الله العبد في بيته.
انظر لعبد يترك بيته، ثم يملأه بالفواحش والغناء والمسلسلات، والمسرحيات والتمثيليات، والمجلات الخليعات، كيف تصلح البنات؟ وكيف يصلح الأطفال؟ كيف يهتدي البيت؟ وكيف تدخله الملائكة؟ وكيف يأتي رغد العيش؟ أي رجل هذا؟! تكفيه الصلوات الخمس في المسجد ويضيع بيته؟! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] عصر فتنة، عصر تنقُلُ لك الشاشةُ فيه ما يحدث في باريس وواشنطن وموسكو، عصر تأتيك فيه المسرحية بما يأتي في بيوت الدعارة والخمارات والبارات، وأنت في البيت، عصر ترى فيه الأشكال، من يهودية، وصهيونية عالمية وشيوعية وماسونية وعلمانية، تأتيك وأنت في البيت، إن لم تتحصن بالإيمان.
الصفة السادسة: على الزوجة احترام زوجها، والقيام بحقه، والحرص على راحته، وطاعته في طاعة الله عز وجل:-
الزوج أوسط أبواب الجنة إن حفظته الزوجة دخلت من هذا الباب إلى الجنة، وإن ضيعته ضيعت طريق الجنة، الزوج يقول عليه الصلاة والسلام عنه في حديث صحيح: {لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها} فلا إله إلا الله كم للزوج من حقوق؟! ولا إله إلا الله كم له من واجبات؟! ولا إله إلا الله كم ضُيعت حقوق الزوج؟! بعض النساء اليوم لا ترى لزوجها عليها فضلاً، بل هي تتأمر في البيت، ترفع صوتها وتفحش عليه، تلقاه بالغضب، تضاربه، تناقشه، تُمَشْكِل عليه الخصومات، تجمع عليه المشكلات، وهو الذي يكدح عليها، وهو الذي حمى عرضها، وهو الذي أخذها من بيت أبيها فعصمها بإذن الله من الفاحشة، وهو الذي أنجبت بواسطته أبناءً، وهو الذي رعاها، وهو الذي قدم عرقه ودموعه ووقته من أجل لقمة العيش، وهو الذي يقوم بكل شيء في البيت، ويصول ويجول من أجل هذه المرأة.
الصفة السابعة: اقتصاد المرأة في المعيشة، وعدم الإسراف في المسكن والملبس، والمأكل والمشرب:
يوم وُجدنا في عصر التبذير وعصر الإسراف، رأينا بعض الناس يغير أثاث البيت كل سنة، ليس عنده وعي، لا يتفكر في القبر، يعيش على هيجان وعلى طفرة هائلة، يغير أثاث بيته كل سنة، فيقدم من الكنبات ويباهي الجيران والجارات، والممثلين والممثلات، والمغنين والمغنيات، مع امرأة لا ترضى إلا بأغلى شيء في السوق، ولا ترضى أن تقدم لها شيئاً رخيصاً، وهذه المرأة لا بد لها أن تراجع حسابها أولاً مع الله، يقول الشيخ أبو بكر الجزائري في كتاب المرأة المسلمة:" امرأة هنا في هذه البلاد ثبت لدينا أنها كلفت زوجها أن يشتري لها ثوباً بثمانية عشر ألف ريال"، وهذه القصة عودوا إليها في كتابه، وهو ثقة لدينا، ثَبْتٌ عالم علامة، ثمانية عشر ألفاً في ثوب واحد، وأخبرنا بعض الثقات أن شرعة في بعض الحفلات من حفلات الزواج بخمسة وعشرين ألفاً.
أين عقل الزوج؟! وأين عقل هذه المرأة؟! يريدون الآخرة! تفكروا في القبر! قال الله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21].
أين هم عن قول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:8 - 12]؟! أين هم عن هذه الآيات؟!
أين هم عن قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94]؟!
أين هم عن قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]؟!
أين هم عن قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]؟!
أين هم عن قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95].
امرأة تشتري ثوباً بألف أو بأكثر!
معلمات في بعض المدارس، كُتِبَ لنا في شأنِهِنَّ أمر عظيم، ونحن لسنا بمتصرفين إنما آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر، معلمة تتطيب وتتجمل وتلبس أحسن اللباس، بثياب تبلغ قيمتها ما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة، والقليل منها من خمسمائة إلى ستمائة، وتذهب لتعلم بنات المسلمين، كيف تُخْرِجُ بناتٍ! كيف تَدُلُّ بناتٍ، تهديهن إلى صراط الله عز وجل؟ ويأتي لهذا بسط.
الصفة الثامنة: الفقرة (أ): عدم التشبه بالرجال:-
{لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال} حديث صحيح عنه صلى الله عليه وسلم، عصر انعكست فيه المفاهيم، كثير من شبابنا ينزل إلى السوق يخط ثوبه بالأرض يمسح الشوارع ويكنس الأرصفة بثيابه، لماذا؟ أسنة محمد صلى الله عليه وسلم هذه؟! أئسبال للرجال وتقصير للنساء! وامرأة تلبس إلى أنصاف الساقين؟! محمد صلى الله عليه وسلم يأمر المرأة أن تسبل إزارها وتستر قدميها حتى يعفي أثرها، ويأمر الرجل أن يقصر ثيابه إلى فوق الكعبين فتقول الأمة: لا.
الرجال يسبلون والنساء يقصرون.
امرأة تنزل إلى السوق وعليها ثياب من هذا الجديد الذي رمتنا به فرنسا والغرب اللعين المستعمر يوم هدموا عقيدتنا وعبادتنا وسلوكنا، ثياب تجدها ممشوقة مشقوقة من الركبة إلى الكعب تلبسها المرأة، ثم عليها شراب شفاف، وتخرج من بيت زوجها متطيبة متعطرة، وأين هذا الزوج؟
عربي جاهلي رأى رجلاً ينظر إلى امرأته فقال لامرأته: الحقي بأهلك، وأقسم: لا تحل له أبداً، قالت: نظر هو إليَّ.
قال:
إذا وقع الذباب على طعامٍ رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماءٍ إذا كُنَّ الكلاب ولغن فيه
يقول: أنا أسأل: الكلاب ينظرون؟ لا.
لا تلحقين بي زوجة.
لكن زوجة تجوب الست والسبع الساعات من أول النهار إلى الظهر، ثم تأتي في الظهيرة وقد مرت بخياط، وبائع ذهب، وفاسق وفاجر ليس عنده إيمان، نشكو حالنا إلى الله، فالمسألة هنا عدم التشبه بالرجال.
الفقرة (ب): عدم تغيير خلق الله:
{لعن صلى الله عليه وسلم الواصلة، والمستوصلة} والواصلة هي: التي تصل الشعر بشعر غيرها؛ لتُظهر أن شعرها طويل.
ومن ذلك {النامصة، والمتنمصة} والنامصة هي: التي تنتف شعر الحواجب فترققه إلا إذا كان الشعر زائداً يشوه الخلقة فيؤذن للمرأة أن تأخذ بقدر الحاجة، أما أن تنتف شعر الحواجب وهي في خلقة طيبة حسنة فلا يجوز لها ذلك.
ومنها: {الواشمة} وهي: التي تغرز الإبر فيها الحبر أو المداد الأسود أو الأحمر في خدها أو في أنفها أو في عنفقتها فهي ملعونة إن فعلته بنفسها أو فعلته بغيرها، و {والمتفلجة} وهي: التي تنشر الثنايا وتوجد فراغاً بين الثنايا والأسنان لتظهر الجمال وكأنها شابة، فهذه ملعونة أيضاً: {والواشرة} وهي: التي تحد أسنانها، كبيرة في السن عمرها مائة وعشرون وتحد أسنانها.
أرادت عجوزٌ أن تكون فتية وقد يبس الجنبان واحدودب الظهر
تسير إلى العطار تبغي شبابها وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟!
هل سمعتم أن العطار يصلح ما أفسده الدهر؟ مائة وعشرون سنة وتحد أسنانها لتظهر كأنها في ستة عشر عاماً! هذا من التدليس وهي ملعونة إن فعلت ذلك، أنا قلت: مائة وعشرون وإلا فإن النساء يفعلنه في الخمسين وفي الستين من أعمارهن, فعلى المسلمة أن تظهر بصورتها الحقيقية، وجمالها في إسلامها، والله يتولى السرائر.
الصفة التاسعة: عمل الطاعات:
عمل الطاعات والتقرب إلى الله في الأعمال الصالحات من صلاة وصدقة وصيام وذكر واندفاع للخير، ما هي حصيلتنا؟ بم نلقى الله إلا بالعمل الصالح أما أن تبقى المرأة تكنس طيلة النهار من الصباح إلى المساء في البيت فلا.
نقول: لا ترمي البيت وتجعله ظهرياً وتهمله لكن نقول لها: كل بقدر، تتوجه بشيء من النوافل، بشيء من التسبيح، تقوِّم بيتها، تغسل ثيابها، تصلح شأنها، تطبخ طعامها، وهي تذكر الواحد الأحد.
قرأت مذكرات قبل مدة عن سيرة المجرمة هذه جولدا مائير اسمها مذكرات أنا أوحياتي، الحقودة اللعينة، أم القردة والخنازير، سيرة -والله- فيها عجب في حياتها الخاصة! والحكمة ضالة المؤمن، والشيطان علم أبا هريرة آية الكرسي فصدق فقبلها، تقول: كانت تكنس البيوت -الثكنات العسكرية- للجيش الإسرائيلي في فلسطين، الأرض المحتلة، وكانت تغسل ثياب الجيش، وتصنع طعامها بيدها، تقول: لأن اعتماد المرأة على غيرها في الخدمة ليس بصحيح، ويدل على فشل المرأة وانهزامها، ولذلك تأتي هذه المرأة الفاجرة فتكوِّن جيشاً ومظليين وصاعقة وطيارين وسفناً، يجوبون العالم الإسلامي.
أليس في هذا عبرة؟! {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2].
الصفة العاشرة والأخيرة: دعوة أخواتها إلى سبيل الله، وأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر:-
لا تزور زيارات أكل وشرب فقط وكلام في مجريات الحياة وسوالف الزمان، هذه عجائز نيسابور يقولون: إنهن يتكلمن في القمر وزحل وعطارد والزهرة، لا.
إذا انتقلت إلى جاراتها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعلم وتدعو إلى سبيل الله، وتحاول أن تصلح من جاراتها ومن أخواتها المسلمات.
هذه صفات عشر إذا اكتملت في امرأة مسلمة، فإنا نسأل الله أن تكون من أهل الجنة، ونبشرها بالجنة ونبشر بيتها بالجنة، وإني أدعوكم لإسماع كل امرأة مسلمة هذا الكلام علَّ الحجة أن تقوم عليها، أو علها أن تكون ولو من هذه العشر خمس خصال ثم يعينها الله في الخمس البقية، أو تبدأ حياة سعيدة.
هذه عشر صفات إذا جَمَعَتْها المرأة اكتملت، جَمَعْتُها من الكتاب والسنة ومن أقوال أهل العلم.
قلت في أولها:(67/8)
الإيمان بالله
الصفة الأولى: إيمان المرأة بالله تبارك وتعالى، قال سبحانه: {إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10] فأفرد المؤمنين رجالاً وأفرد المؤمنات نساءً ليدلل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على أن المؤمنات مخاطبات بهذا الدين.
قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96] قال بعض أهل العلم: " وُدَّاً: خاصاً بينهم وبين الله ودّهم وحبهم، وقالوا: وُدَّاً: في قلوب الناس"، فالمرأة المسلمة يجعل الله لها وداً في قلب كل مسلم، وسمعنا ونسمع دائماً بالصالحات في المجتمع، زاد الله من أمثالهن ورفع الله درجاتهن، امرأة وريثة أبيها الوحيدة، تصلي الليل، متحجبة، عاكفة على تربية أبنائها، مستقيمة، بنت ثلاثة مساجد، وهي الآن في مشروع المسجد الرابع، تختم القرآن في الأسبوع، تصوم الإثنين والخميس، لها أوراد من التسبيح والأذكار، هذه المرأة يمكن أن يصلح الله بها أو يحمي بها مدينة كاملة، وهذه هي المرأة الصالحة.
زبيدة امرأة هارون الرشيد لما توفيت رآها ابنها الأمين هذا الذي تولى الخلافة بعد أبيه، قال: "ما فعل الله بك يا أماه؟ قالت: كدت أهلك وأهلك أي: أدخل جهنم، قال: وأين عين زبيدة التي أجريتها للحجاج؟! وعين زبيدة في الحرم، قالت: هي أضر عمل علي- لم يأتني السوء إلا من هذا الطريق وهذا المشروع، وهي أجرت العين للحجاج يشربون -قال: كيف؟ قالت: أردت بها رياءً وسمعة {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] قال: فماذا نفعك بإذن الله؟ قالت: نفعتني ركعتان كنت أركعهما في السَّحَر في القصر، قصر أبيك هارون فقد كنت أخرج إذا طلع النجم فأطوف بشرفات القصر قبل أن أصلي ركعتين وأقول: لا إله إلا الله أقضي بها عمري، لا إله إلا الله أدخل بها قبري، لا إله إلا الله ألقى بها ربي، لا إله إلا الله يغفر الله بها ذنبي، ثم أصلي ركعتين، فكانت خيراً من هذا المشروع الهائل".
وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30].
فعلى المرأة: أن تتصل بالله دائماً وأبداً، وأن تربي الإيمان في قلبها، وأن تزرعه بالذكر والنوافل، والتفكر والتأمل في آيات الله عز وجل، الحياة ليست ذهباً وفضة! والحياة ليست زوجاً! بإمكان المرأة أن تعيش بلا زوج، بلا ذهب، بلا فلة، بلا فيلا، بلا سيارة، بلا قصر، إذا كان معها إيمان وعمل صالح، فهي السعيدة الناجية بإذن الله، لكن إذا أخلت بالصلوات الخمس وبطاعة الله وبفرائضه وبالحجاب فوالله لو سكنت في قصور الدنيا واستخدمت أفخر السيارات، وأكلت ألذ المطعومات لكانت هذه عليها لعنة ومقتاً وغضباً من الله، قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} اسمع {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] (حياة طيبة) قالوا: حياة الأمن في القلوب {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] حياة لا يجدها إلا المؤمن.
بعض الناس في قرى آمنوا بالله عز وجل على خبز الشعير، وعلى الماء البارد، يجدون اللذة كأن لذة الدنيا جمعت لهم، في رغد من العيش، وفي فرحة وحبور، ونور وسرور، بماذا؟ بالإيمان.
وقوم وُجِدوا يسكنون في ناطحات السحاب وفيهم ضنك وضنى وهَمٌّ وغَمٌّ وقلق ومرض نفسي، لماذا؟ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
عهد من الله أن من آمن وعمل صالحاً أن يحييه حياة طيبة، وأن من أعرض أن ينكد عليه حياته، وأن يغلق عليه الأبواب ويكون خصمه وعدوه الله، والله له بالمرصاد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال سبحانه: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:195] هذا جزاء المؤمنة عند الواحد الأحد، ويناقض ذلك الكفر والنفاق والعياذ بالله، {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} [الأحزاب:73] أخذ الله على نفسه عهداً أن يعذب كل كافر وكافرة، وكل منافق ومنافقة، المنافقة: هي التي تكذِّب بالصلوات أو لا تصلي، وتكذِّب بشيء من الرسالة، أو تخون زوجها في الخفاء، وتظهر بالخشوع والنسك والاستقامة وهي خائنة لله ولرسوله.(67/9)
لزوم البيت
الصفة الثانية: لزوم بيتها وعدم تبرجها.
ماذا يريد منا دعاة العلمانية؟ وماذا يريد منا أهل الهدم؟ يريدون أن تخرج المرأة الإسلامية -خاصة في هذه البلاد التي قامت على الكتاب والسنة، وولاة الأمر يأمرون بالكتاب والسنة- يريدون أن تتبرج وأن تسفك حياءها، وأن تذهب كما ذهبت المرأة في أمريكا وبريطانيا وروسيا سلعة ممجوجة بالأفواه، أدخَلوها الجيش في الحرب العالمية الثانية، أدخَلوها المصنع والوزارة والبرلمان، ففشلت وتركت بيتها وأطفالها ودينها وعرضها، لا.
امرأتنا من نوع آخر فهي دُرَّة مصونة، يقول الله فيها: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] وقرن يعني: لتقر المرأة وتمسك بيتها، فهو أصلها وروعتها وجمالها وحسنها.
قيل لـ فاطمة في حديث يُروَى عنها: [[ما أحسن وصية للنساء؟ قالت: ألا ترى المرأة الرجال ولا يرونها]] هذه أحسن وصية، قال سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم من حديثٍ حسن: {إذا خرجت المرأة من بيت زوجها متعطرة متزينة فهي زانية} وقال عليه الصلاة والسلام -وهذا عند أبي داوُد والحاكم بسند صحيح-: {صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها خير من صلاتها في بيتها}.
ما الحجرة والبيت والمخدع؟
البيت: هو غرفة النوم مثلاً، فصلاتها في غرفة النوم خير من أن تصلي في البيت الواسع، وصلاتها في المخدع: وهو شبه بيت صغير شبيه بالهودج، تدخل فيه المرأة للنوم، لو صلت في هذا المكان فهو خير لها من أن تصلي في الغرفة الخاصة، وصلاتها في بيتها خير من صلاتها في المسجد، ولو أنه قال صلى الله عليه وسلم: {لا تمنعوا إماء الله مساجد الله} ولكن لزوم بيتها وحبسها فيه وسترها وعفافها وحفظ عِرضها أعظم لها عند الله عز وجل أجراً، ويدل على أصالتها وديانتها.
والمرأة التي تلزم البيت يغدق الله عليها من الإيمان والعمل الصالح ويصلح لها ذريتها، أما الخرَّاجة الولاجة فقد ذمها أهل العلم والإسلام، وأنكروا سيرتها، وهذه تأتي بمفاسد، ولا يبارك الله في وقتها.
الخرَّاجة الولاجة التي تجدونها دائماً في كل مكان، لا تهدأ في البيت ولا ترتاح! وبيتها خير لها، فبيتها عصمتها، قالت العرب: "لا يعصم المرأة إلا ثلاثة: زوجها، أو بيتها، أو قبرها" إما القبر أو البيت أو الزوج.
ويوم تخرج المرأة فإنها تضيع والعياذ بالله.
قل لي بربك: هل توجد هناك امرأة تسافر إلى الخارج وحدها؟
شابة في السادسة عشرة من عمرها تسافر لتدرس في بلجيكا؟! أين دينها؟ لقد باعت إسلامَها هنا في الجزيرة وسافرت لتدرس، وما هي فائدة دراستها التي سوف تعود علينا بها؟ لا بارك الله فيها ولا في دراستها! نحن أغنياء عنها وعن دراستها، أتذهب امرأة مسلمة شابة فتية بلا محرم إلى أرض الكفر والدعارة، والخمارات والبارات، أرض المخمورين المسكورين السافرين الفجرة، ثم تعود لتعلمنا هنا؟! لسنا في حاجتها ولا حاجة دراستها، ورجل يفعل ذلك بِبِنْتِه انسلخ تماماً وغسل دماغه، أصبح يعيش بلا مبادئ.
قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23] {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] تسافر تدرس وتعيش أربعة أشهر أو سنتين أو ثلاث سنوات في فندق في بلجيكا أو فرنسا أو أمريكا، أين صَلاتها؟ أين القرآن؟ وأين سيرة محمد صلى الله عليه وسلم، لا إله إلا الله! إنها لقاصمة الظهر {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيراً لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:35 - 37].(67/10)
غض البصر
الصفة الثالثة: غضُّ بصرِها وحفظُ نفسها قال سبحانه: {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25] فليس في الإسلام، بل هو أمر عجيب أن تتخذ المرأة صديقاً لها، ففي البلاد الغربية الكافرة لا بد للمرأة أن يكون لها صديق غير الزوج، انظر إلى القماءة والحقارة، حضارة السفول والانحدار، وحضارة الحديد.
أما الحديد فقد أجادوا فيه، وفي الكهرباء، والطائرات، والصواريخ، وأما الروح فسحقوها، وجعلوا روح الإنسان كروح الحيوان، امرأة تتخذ صديقاً ويأتي صديقها وزوجها جالس -ومن يريد التأكد من ذلك فليقرأ مذكراتهم، وليَرَ أخبار من ذهبوا إلى بلادهم- يأتي الصديق ويجلس معها ويقبلها والزوج ينظر ذلك فإذا قال: مالك؟ قالت: صديقي، وله هو صديقة في الخلاء: {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25].
المرأة إذا اتخذت صديقاً فقد فجرت وخانت رسالة الله، وخانت زوجها، لا صديق لها إلا زوجها ومحارمها، أما أن تتخذ صديقاً من الأجانب فيحرم عليها بعد وقبل عصمة زوجها إلا أن يتزوجها رجل بعقد فهذا أمر آخر: {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25] والأخدان: جمع خدن والخدن هو: الصديق، وقال سبحانه: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] والله يحفظ من يحفظه، فهي تحفظ زوجها إذا غاب عنها، قال صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، يوم أعلن حقوق الإنسان ومبادئه وحقوق المرأة قال: {ولا يجلسن أو يدخلن أو يوطئن فرشكم من لا ترضونه} امرأة تسافر أنت عنها وتغيب، فتأتي ترحب بالضيوف كأنها قهوجية تستقبل الناس، أي كرم حاتمي هذا؟!!
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
قالت العرب: مرحباً بالمرأة البخيلة لا الكريمة، فهذه لا يطلب منها أن تفتح بابها وترحب بالناس، حتى لا يصبح كل الناس أقارب لها، فأصبح المجتمع -ما شاء الله- قرابة وعصبات يرثون، من أين هذا؟! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5].
وأين لحم هذا الرجل ودمه وعقله؟!
رجل أجنبي شاب يأتي إلى زميله وصديقه في قرية أو مدينة أو مكان فلا يلقاه، فيطرق الباب فتخرج الزوجة، قالت: من؟ قال: فلان, قالت: مرحباً يا أبا سعود! الله يحييك، غبت عنا، أتيت بالمطر معك، ثم تفتح الباب وتجلسه في المجلس وتباشر عليه بالقهوة والبخور، أهذا إيمان؟ أهذا من رسالتنا؟ لا.
لا تفتح البيت، فإسلامنا ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: {ولا يوطئن فرشكم من لا ترضونه} والأجنبي لا يُرْضَى.
ولا يدَّعي مدعٍ كبعض الناس الذي يقول: امرأة فلان بخيلة سود الله وجهها، لا ترحب بالضيف ولا تفتح الباب، نعم.
هي على السنة وهم على الجهالة! هي على الحق وهم على الضلال! هي على النور وهم على الظلام، ولا يهمها، فإن الله يقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] فهذا الأصل لا بد أن يفهمه كثيرون، وهذا الذي ينبغي على المرأة ألا توطِئْ فراشَ زوجها غيرَه، قيل -والعياذ بالله- في الفاحشة الكبرى، وقيل: في الضيافة والجلوس والاستقبال، فليس لها أن تدخل إلا المحارم.
وقال سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] أي: عند الريبة والشهوة تغض بصرها ولا تنظر إلى الرجال، وهذه البراقع ليست من الإسلام، وقد تكرر هذا الأمر وهو أمر يجر إلى الفتنة، بل قال بعض الخبراء الذين استقرءوا أحوال المجتمع: إنها أفتن من أن لو كانت المرأة سافرة.
وأحياناً المرأة تكون كبيرة بالسن فلا تُشْتَهَى، لكن إذا لبِسَت البرقع وغطت وجهها ورأى الناس عينيها السحريتين العسليتين الزرقاوتين قالوا: هذا شيء عجيب! فافتتنوا بها وفتنت الناس، والبرقع أمرٌ مستحدَثٌ مخالفٌ للحجاب الإسلامي.(67/11)
حفظ اللسان
الصفة الرابعة: حفظ لسانها عن الغيبة والنميمة، قال سبحانه: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات:12].
وأكثر ما ينتشر بين النساء الرمي والقذف والعياذ بالله، فهو عندهن أمر سهل، يجلسن في المجالس فتقذف الحاضرة منهن الغائبة، وتقول فيها كَيت وكَيت، وتفتري على الله، وتأتي بجريمة كهذا المسجد، وهذا من اللسان الذي يدخل المرأة النار، وما رآهن صلى الله عليه وسلم في النار إلا من كثرة الفحش واللعن وكفران العشير، وكثرة السباب والشتام، والمرأة إذا حبست لسانها فهي المرأة المستقيمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يدخل الجنة قتات} والقتَّات: النمَّام، وفي رواية صحيحة: {لا يدخل الجنة نمام} والنمام: الذي ينقل الكلام، وهذا يشتهر بين النساء إلا من عصم ربك، تأتي المرأة عند زوجها وتقول: سمعنا أن فلاناً يقول فيك كذا وكذا، وهو أخوه أو أبوه أو ابنه أو جاره، فتفسد بين القبائل والعشائر والأسر، وتوجد قطيعة وهجراً وحروباً وخصومات لا يعلمها إلا الله، فإذا فعلت ذلك فقد باعت حظها من الله، وهي كالساحرة التي تفرق بين المرء وزوجه، وهذه أشد خطورة من السحر؛ لأن السحر قد يُتعالج منه، أما هذا فتذهب فيه الرءوس والاكتاف والدماء ولا يكفي شرها إلا الواحد الأحد.
وقال عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {أكثرن من الصدقة فإني رأيتكن أكثر أهل النار، قالت امرأة: ما بالنا يا رسول الله! أكثر أهل النار؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير؛ لو أحسن إلى إحداكن الدهر ثم رأت منه شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط} وقال عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح: {لا يكون اللعانون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة} فمن يكثر اللعن -رجلاً كان أو امرأة- لا يستشهده الله يوم القيامة، ولا يقبل شهادته لأننا شهداء على الناس، ولا يشفعه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لأن الله يشفع الصالحين في أهلهم، فبعض الصالحين يشفع في عشرة من أهل بيته أو أسرته أو حارته أو قبيلته، أما اللعان من الرجال والنساء فلا يستشفعه الله ولا يقبل شفاعته ولا شهادته.(67/12)
الابتعاد عن الحرام
الصفة الخامسة: حفظ سمعها عن الغناء والخنا وما في حكمه: والغناء محرم عند علماء الإسلام، ومن احتج علينا ببعض الفتاوى الهابطة التي لا تستند إلى دليل احتججنا عليه بالكتاب والسنة، وتحريم الغناء مذهب أبي حنيفة والأحناف ومالك والمالكية والشافعي والشافعية وأحمد والحنابلة قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان:6] وقال صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: {ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف} واستحلالها إنما يكون بعد التحريم، وفي صحيح ابن خزيمة بسند صحيح قال عليه الصلاة والسلام: {إني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة، وصوت عند مصيبة}.
وهذا الغناء الرخيص الذي من استمعه عاقبه الله بثلاث عقوبات:
أولاًَ: قطيعة ووحشة بينه وبين الله الواحد الأحد، وقسوة قلب.
ثانياً: لا يحب القرآن أو الذكر أو الحديث النبوي ولا السيرة.
ثالثاً: يحرمه الله سماع الغناء في الجنة، قال ابن القيم:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ إنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
فهذا جزاء من استمع الغناء، ويدخل فيه الموسيقى والوله، وجلجلة المعازف، فوجب على المسلمة بعد أن سمعت هذه الحجة أن تنتهي عن الغناء، ويصف ابن القيم الغناء بأنه بريد الزنا، ولا يدمن عليه عبد إلا وقع في الفاحشة، وهو ينبت النفاق في القلب ويكسل عن الصلاة، ويحبب إلى المرأة التبرج والتطلع إلى الأجانب، وهو مفسد للبيوت، مخرج لذكر الله وللملائكة من البيت.(67/13)
القيام بحقوق الزوج
الصفة السادسة: احترام الزوج والقيام بحقه والحرص على راحتِه، وطاعته في طاعة الله.
ورد في حديث عنه صلى الله عليه وسلم: {إن المرأة إذا صلت خمسها وصامت شهرها وأطاعت زوجها دخلت جنة ربها} وهل تريد المرأة أن تدخل الجنة وهي لم تطع الزوج في طاعة الله؟!
من طاعة الزوج: إراحته إذا دخل؛ الابتسامة في وجهه، تطييب خاطره، عدم إحداث المشاكل عليه، عدم تكليفه التكاليف الباهضة في الإنفاق، عدم تخسيره، حفظه في ماله، طاعته في طاعة الله، حفظه في ظهر الغيب، الرضا معه، السكوت حينما يتكلم، تربية أبنائه على الإسلام، عدم مخالفته فيما يأمر، يقول لها: لا تذهبي إلى آل فلان فإني سمعت أنهم لا يطيعون الله ورسوله، وجب عليها أن تمتنع، أو اذهبي إلى أهل فلان فإنهم مطيعون، وجب عليها أن تطيع، والبيت الذي يصادقه الزوج يعتبر صديقاً لها من الأمهات والبنات.(67/14)
عدم الإسراف
الصفة السابعة: الاقتصاد في المعيشة، وعدم الإسراف في المأكل والمشرب، والملبس والمسكن، قال سبحانه: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:27] وقال سبحانه: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141] وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67] والنفقة المطلوبة على قدر الزوج؛ إن كان غنياً فبحسبه، وإن كان متوسطاً فبحسبه، وإن كان فقيراً فبحسبه، ونحذر من بعض السفيهات في المجتمع، الجاهلات اللواتي شكا أزاوجهن منهن شكاية رهيبة، وتحملوا الديون من أجل هؤلاء السفيهات، تحمل زوجها دائماً سيارة فاخرة، وتكلفه أن يغير ذهبها كل سنة، وأثاث وكنب البيت، وعمولة وأثاث المطبخ كل سنة، أهذه امرأة؟! فيتحمل ديوناً للناس، وراتبه لا يغطي دخله، فيصبح راتبه شذر مذر بين الماء والهواء، والكهرباء والهاتف، والخس والجرجير، واللحم والفواكه، والضيف والملابس، ولعب الأطفال والبسكويت، وهذه المرأة الهرارة الجرارة الخوارة، لا نقول: جرارة من باب الجرارة، لا.
لكنها جرارة الكلام، ونعصم ألسنتنا أن نتعدى على حق امرأة مسلمة، لكن: اللهم مازل اللسان من خطيئة فاجعله حسنات، واعصم أمهات المسلمات واجعلهن مؤديات، فإني أعلم أن نسبة هائلة في المجتمع قد استقمن واتجهن إلى الله.
وإني رأيت في الثانويات، وسمعت من بعض المسئولين خبراً عظيماً: صحوة في جانب النساء، وحجاباً مطبقاً، وسنة هادئة وشريطاً، وكتاباً إسلامياً، ودعوة مخلصة، فلك الحمد يارب! صحوة في الرجال وصحوة في النساء.
لكن أبشر هذا الكون أجْمَعه أنا صحونا وسرنا للعلا عجبا
بفتية طهَّر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غاباتها غضبا
عافوا حياة الخنا والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفه جنبا
فلذلك أُحَذِّر من الإسراف والتبذير وإرهاق شباب الإسلام، خاصة مَن ليس عنده دخل، وليس عنده طائل من المال، وليس عنده مرجع يرجع إليه، أن ترهقه، بل ترضى بمقسوم الله، وتعلم أن ركعتين خير من ملذات الدنيا وذهبها وفضتها.
وشكر الله لامرأة مسلمة سمعنا عنها أنها قدمت حليها للمجاهدين الأفغان، وكنا في أمريكا في أوكلاهوما، فأتت امرأة معها ثلاث بنات، وقد دعا داعية من المسلمين بالتبرع للمسلمين في فلسطين، في هذه الانتفاضة المباركة، فتبرعت المرأة بذهبها وبذهب بناتها للانتفاضة، فبكى الحاضرون، وكان لها دعوة بظهر الغيب.
وهذه من أمثال عائشة بنت أبي بكر الصديق، الصديقة بنت الصديق، قالوا: دفع لها معاوية مائة ألف درهم في يوم واحد فتصدقت بها ونسيت نفسها، وكانت صائمة فما اشترت بدرهم واحد إفطاراً، وأفطرت على التمر والماء: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] هذا هو العالَم الخالد، وهذا هو الإسلام الراشد، وإنما أحذر من بعض الصور، ولا يسمع السامع أنه قد فسد الناس، {ومن قال: هلك الناس فهو أهلكهم} كما عند مسلم في الصحيح.
فهذا الذي يقول دائماً: سمعنا بالفواحش وينثرها في الناس، ويستقرئ الخبر ويستمرئه ليس بصحيح: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] فالناس في خير واتجاه واستقامة؛ ولا يعني ذلك أن الناس خلصوا جميعاً، بل هناك تقصير، ومعاصٍ، وفجور، نشكو حالنا فيه إلى الله.(67/15)
عدم التشبه بالرجال وتغيير خلق الله
الصفة الثامنة: تنقسم إلى أمرين:
الأمر الأول: عدم التشبه بالرجال: تأتي امرأة تتحدث كما يتحدث الرجل، وتمشي مشية الرجل، وتتكلم كلام الرجل، وتجلس جلسة الرجل، فهذه ملعونة، وكذلك بعض الشباب يتحدث كما تتحدث النساء، تستجوبه أنت فيتكلم لك كما تتكلم المرأة، ويمشي كما تمشي المرأة، ويتختم بخاتم الذهب كما تتختم المرأة، ويتحنى ويختضب ويتنمص، وهذا ليس بصحيح، بل أنت رجل وهي امرأة، والعرب لا ترضى من الرجل إلا أن يكون رجلاً.
كميش الإزار خارج نصف ساقه من اليوم طلاع السعود لأنجد
فتكون مثل محمد بن حميد الطوسي وهو بطل عباسي، عمره ثلاثون سنة قاد الجيش للمعتصم، وكان هذا الرجل يحافظ على قيام الليل والنوافل، وكان من أشجع الناس، آتاه الله جسماً من أقوى الأجسام، فلما التقى في المعركة فر الجيش إلا هو، فالتفت إلى السماء وقال: والله! لا أفر حتى أقتل، فأخذ السيف وأخذ يقاتل من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، وفي الأخير كسروا السيوف عليه وقُتِل، فيقول فيه أبو تمام:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
تردى ثياب الموت حمراً فما أتى لها الليل إلا وهي من سندس خضر
فتىً كلما فاضت عيون قبيلة دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكر
وقد كان طعم الموت صعباً فرده عليه الحياض المر والخلق الوعر
ثم يقول:
فأثبت في مستنقع الموت رجله وقال لها من تحت أخمصك الحشر
ثم قال له:
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر
يقول: تفعل هذا وأنت في الثلاثين، فتقبله الله فأصبح شهيداً في الإسلام، أبناؤه لما سمعوا بهذه القصيدة فيه -أعظم قصيدة قيلت في الرثاء في القواد- بنوا على قبر أبي تمام قبة، وقد خالفوا السنة؛ لكن أقول: فعلوها من عجبهم، حتى يقول المعتصم: يا ليتني أنا المقتول، وقال فيَّ أبو تمام هذه القصيدة.
فأقصد من هذا أن شباب الإسلام يخرجون كمثل هذا، جدهم طارق وسعد وعمرو وخالد.
وأحد الناس له قصيدة نبطية تعجبني يمدح فيها شباب الصحوة يقول:
جدهم سعد والفاروق وابن المعلى نصرة الدين يوم الكفر طاغٍ وعات
ما بهم مطرب عن فرض ربه تولى صاحب العود مكسور القنا والقناة
من فتح غيرنا الدنيا وهلا وصلى يوم هتلر ونابليون في الفاحشات
نصرنا يا عرب من ربنا قد تدلى قرب الجيش والبارود والطايرات
وهو يقصد شباب الإسلام يقول: جدنا عمر الفاروق وسعد، وليس جدنا نابليون وهتلر -ربما استطردنا؛ لكن طبيعة الدرس لا بد أن تكون هكذا-.
والأمر الثاني: وهو عدم تغيير خلق الله: وقد مر بنا هذا وفيه خطبة مستقلة في التبرج لمن عاد إليها.(67/16)
طاعة الله والتقرب إليه
الصفة التاسعة: عمل الطاعات والتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة من صلاة وصدقة وصيام وذكر: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وأحسن نوافل المرأة أن تربي أبناءها، وتطيع زوجها، صحيحٌ أن للمرأة ظروفاً غير ظروف الرجل، فهي تَمُرُّ بحيض وحمل وولادة ورضاع، فهي في مشقة عظيمة، فإذا اقتصدت في الطاعة أثابها الله، ولو حافظت على الخمس وشهر رمضان وطاعة زوجها في طاعة الله فهي من أعظم النساء، صحيحٌ ألا نرهقها، ونقول: تصوم الإثنين والخميس، وقد تكون مريضة أو حاملاً أو عليها مشقة لكن تتقي الله في المستطاع، وأنا أدلها على الصدقة وذكر الله، فتكثر من التسبيح والتحميد والتهليل؛ عَلَّ الله أن يتقبل منها ومنا، وتفعل المعروف، وهذا هو نجاتها عند الواحد الأحد، كسرة من خبز، وجرعة من ماء، وحفنة من تمر، ودعوة صالحة، وتسبيحة، وركعتين في ظلام الليل، وذكر لله أسعد من الدنيا وما فيها.
ولكن تقتصد، وأحذر بعض النساء ألا تنقلب في البيت إلى راهبة، يريدها زوجها فتقول: صائمة، والمرأة لا تصوم إلا بإذن زوجها، يأتي في الليل وهي عاكفة مصلية باكية حتى يبكي الزوج من هذه الحالة، فهو تزوج امرأة يسعد بها وتكون مؤمنة، أما أن يأتي في النهار فتقول: اللهم إني أصبحت صائمة لمرضاتك يا رب العالمين! فتقبل مني إنك أنت السميع العليم، يأتي في الليل وهي مصلية حتى الفجر فمتى تجد الحياة، وثيابها قديمة، ومعها مسبحة، وهي مستقبلة القبلة وتبكي صباح مساء، فلا بد للحياة من شيء، ولابد للمرأة أن تكون امرأة، تُقْبِل بقبول حسن إلى زوجها، متطيبة له، متجملة متعطرة كأن البيت معطارة، يقول العربي في زوجته:
ألم تَرَ أني كلما جئتُ زينباً وجدت بها طيباً وإن لم تطيب
وقال آخر يمدح زوجته:
تضوَّع مِسكاً بطن نعمان إن مشت به زينب في نسوة عطرات
تهادينَ من بين المحصب من مِنَى وأقبلن لا شعثاً ولا غبرات
يخبئن أطراف البنان من التقى ويقتلن بالألحاظ مقتدرات
هذا هو الإسلام، ولا ندعو في المحاضرة إلى أن تصبح المرأة لا تعرف الغسل والطيب، ولا تعرف البسمة والمزاح والدعابة، لا.
فمحمد عليه الصلاة والسلام عاش مع زوجاته، يدخل البيت فيحوله إلى كوكبة من نور، بسمة ومزاح وهدوء، حتى تقول عائشة: {كان يقطع معنا اللحم} قيل لها: {كيف كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليكم قالت: كان ضَحَّاكاً بسَّاماً} تكون حائضاً فيضطجع في حجرها ويقرأ القرآن عليه الصلاة والسلام، وكان يخرج رأسه من المسجد فترجل وتمشط رأسه وهي حائض، كان يتحدث ويمزح وتمزح معه، كان يرقع الثوب، ويخصف النعل، ويكنس البيت، وهو أشرف وأورع وأحلم وأكرم خلق الله؛ لكن حياته وقت البكاء فيها بكاء، ووقت الصلاة صلاة، ووقت المزاح مزاح، حياة إسلام متكاملة.
فأنا أدعو لهذا؛ لأن بعض الناس قد يشكو، فيأتي إلى زوجته فلا يجد استقبالاً، يدخل عليها فتظل تغسل الصحون وتنسى نفسها، تكنس البيت دائماً، ولا تلبس الجميل ولا تتطيب له؛ فلذلك قد يصد عنها، فليُعْلَم ذلك، وليُفْهَم هذا؛ فإن ذلك من أعظم ما يقود إلى الحب والوئام، والنفوس مجبولة على الطيب والجمال، والله جميل يحب الجمال سبحانه.(67/17)
الدعوة إلى الله
الصفة العاشرة والأخيرة: وهي دعوة أخواتها في سبيل الله وأمرها بالمعروف، والدعوة ليست حكراً على الرجال فقط، فمن يدعو النساء؟ نحن لا نستطيع أن ندعو النساء، بل المرأة تدعو المرأة، فتتصل بها في الهاتف، وتحاول أن تؤثر عليها، وتزورها أو تجلس معها، وتهدي لها كتاباً أو شريطاً إسلامياً، وتدلها أو تفتيها إذا كانت متعلمة هي وتلك ليس عندها علم، فهذه دعوة في سبيل الله ولا بد أن يوجد في صفوف نسائنا داعيات خيرات مستقيمات منيبات حافظات للغيب.
أيها المسلمون: هذا درس (صفات المرأة المسلمة) وإنه أمانة هو وأمثاله من الأشرطة لدعاة وطلبة العلم والصالحين، أن يصل إلى بيوت المسلمين، في القرى والمدن؛ لأن الداعية والمتكلم لا يستطيع أن يدخل كل بيت ولا أن يتكلم في كل قرية، ولا أن يصل إلى كل منطقة، وأنتم دعاة وفيكم من الفضل ما هو خير منا وأفضل، وأسأل الله أن تكون في ميزان حسناتكم وقد أسمعتكم ما علمنا الله عز وجل ورسوله، فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي، وأبرأ إلى الله من حولي وقوتي.(67/18)
الأسئلة(67/19)
حكم نظر الحمو إلى الزوجة
السؤال
لي أخت رفض زوجها أن تحتجب عن إخوانه، فماذا تفعل؟
الجواب
عليها أن تعصيه وتطيع الواحد الأحد، وتحتجب، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فزوجها أساء وتعدى وظلم نفسه في هذا الأمر فلتعصه في هذا الأمر، ولتطع الله ولتحتجب عن إخوانه، فإن أرادها وإلا تذهب إلى بيت أهلها ويقف أهلها معها لأنها مصيبة وهو مخطئ، وهذا يتكرر في الأسئلة كثيراً من الشاكيات مثل قولهن: إن زوجها يرفض -أو بعض القرابات- يرفضون الحجاب وهؤلاء يعارضون أمر الله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].(67/20)
حكم الحناء للرجال
السؤال
ما حكم الحناء للرجال في الأرجل؟
الجواب
تعلمون أن الحناء للنساء سنة، وقد أورد ابن الأثير في جامع الأصول حديثاً في السنن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى يد هند، امرأة أبي سفيان قال: {ما هذه اليد التي كأنها يد سبع} يعني: ليست متخضبة بالحناء، وقال صلى الله عليه وسلم: {إني لأبغض المرأة أن أراها سلتاء مرهاء}.
والسلتاء هي: التي لا تختضب، والمرهاء هي: التي لا تكتحل، فلا بد أن تختضب المرأة وتكتحل وتتحنى لتخالف الرجال وتكون أجمل، أما أن تبقى سلتاء هكذا كأن يدها يد رجل أو يد سبع أو كأن يدها يد ذئب أو يد أسد، فلا، إن المرأة خلقت للتجمل ولعبادة الله الواحد الأحد، أما الخضاب للرجال بلا داعٍ في غير اللحية والرأس كاليدين والرجلين فمحرم.
وعند أبي داوُد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً مختضباً فنفاه إلى غدير الخضمات جزاء له، ولكن في الحديث مجهولان كما قال النووي في المجموع، وعلى كل حال إن من يختضب بالحناء في أرجله لمرض ووصف له أنه دواء للمرض فلا بأس أما لغير ذلك فلا، وأنا أنصح الرجال ألا يستخدموا الحناء لهم علاجاً، والمستشفيات والحمد لله منتشرة وكثيرة وكذلك الأدوية والعلاجات، فلا يُلجأ إلى الحناء، فنحن لسنا في العصور الوسطى.(67/21)
حكم الغيبة
السؤال
ما حكم جلوس المرأة مع جاراتها وشرب الشاي والقهوة والغيبة؟
الجواب
أنت جمعت بين حلال وحرام، فشرب الشاي والقهوة جائز بالإجماع والحمد لله، وللمرأة أن تزور جاراتها وتفطر عندهن وتشرب شاياً وقهوة، وتكيف معها ولا تغتاب، فالغيبة حرام بالإجماع، فالغيبة شيء والشاي والقهوة شيء آخر، فلها أن تشرب شاياً وقهوةً ولكن لا تغتاب.(67/22)
كيفية رد المرأة على الهاتف
السؤال
كيف ترد المرأة على الهاتف؟
الجواب
ترد بالقول المعروف، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] يعني: لا ترقق وتميع صوتها حتى يطمع المنافق الفاجر، لأن بعض الناس لو وجد فرصة، ولو وجد ثقب إبرة أدخل منها الجمل، مثل البدوي، يقولون: تضيفه أول مرة، فثاني مرة يأتي بأطفاله، وثالث مرة يأتي بالجمل ويدخل به في البيت، وهذا لبعض البدو وفي البدو مؤمنون متقون صالحون كرماء أجلاء أفضل منا.
لكن أقول: هذا مثل شعبي.
فلذلك المرأة لا يجوز لها أن ترقق صوتها أو أن تخضع بالقول، فتقول: حياك الله، يا مرحباً، آنَسْتَنا، أهلاً وسهلاً، يتصل وهي لا تعرفه، ليس بقريب لها ولا محرم فيطمع ويزيد في الكلام، ويتصل مرة ثانية: هل جاء زوجك؟ متى يأتي؟ ما كنيته؟ أين تسكنون؟ ثم يدخل إبليس.
والله سبحانه يقول: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32] ثم لا يحمل هذا بعض النساء أن إذا سمعن قوله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32] أن يشددن أصواتهن، لا.
بل قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32].
وبعضهن إذا كلمت إحداهن تأتي لك بالمصائب لتخوفك، وتقول: ماذا تريد؟ طعنة، وسم، والموت، ورمح، وهذه ليست بِوارِدَةٍ في الإسلام وليست بجائزة، قال سبحانه: {وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] سمعت من بعض طلبة العلم أنه يقول: تضع إصبعها في فمها، وهذا ليس بصحيح، بل لِتَقُل قولاً معروفاً، فتقول: نعم.
وعليكم السلام، يأتي بعد وقت، فهذا قول سديد، وهو معروف ليس فيه فحش ولا ترقيق، بل هو يقول وسط: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] ولا يطلب من المرأة أن تلقي محاضرة إذا اتصل بها رجل، بل تجيب بقدر السؤال.(67/23)
حكم صلاة الرجل في البيت مع الزوجة
السؤال
إذا كان الرجل يصلي في البيت فهل تصلي معه زوجته؟
الجواب
ما شاء الله! هذا الرجل في بيته داجن؛ لأنهم يسمون ما يُرَبى من الحيوانات في البيت داجناً، فهو لا يحب المسجد، أخبرني بعض الصالحين أنه تخلف مرة عن صلاة الفجر وهو حريص دائماً، يريد أن تنزع روحه ولا يصلي في البيت، فيه توقد إيماني لكن النوم غلاب فغلبه فنام، ومحمد صلى الله عليه وسلم غلبه النوم وقال: {ليس في النوم تفريط} وقال في الحديث الصحيح: {من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها} فنام مرة في حياته أو مرتين، ولا يأخذ من هذا بعض الناس أن ينام عن صلاة الفجر دائماً ويقول: ليس في النوم تفريط، ويفتي بهذا.
فقال: الرجل: نمت عن صلاة الفجر ثم قمت وقد صلى الناس فصليت في البيت، فقام طفله الصغير وهو لا يدرس في المدرسة لكن على الفطرة يرى أباه حريصاً، قال: يا بابا! أأنت امرأة حتى تصلي في البيت؟! يقول: كأنك تحولت اليوم إلى امرأة.
فالمقصود هل تصلي زوجته معه؟
إن كان غُلب وفاتته الصلاة من نوم فإنها تصلي معه.
أما أن يتخذها دائماً هو إمام وهي مأمومة أو هي إمامة وهو مأموم فهذا ليس بصحيح، ولا تنعقد جماعته وقد أساء، وهذه علامة النفاق {من سمع النداء ولم يجب فلا صلاة له إلا من عذر} رواه ابن ماجة والحاكم وهو حديث صحيح، وأحاديث أخرى وردت في صلاة الجماعة لا أحب أن أطيل بذكرها.(67/24)
حكم إنفاق المرأة من مال زوجها
السؤال
هل للمرأة أن تنفق من مال زوجها؟
الجواب
للمرأة أن تنفق على نفسها وأولادها وبيتها بالمعروف من مال زوجها، ولو لم يعلم زوجها، أتت هند -كما في الصحيحين - إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، وهو أبو سفيان بن حرب، وبعض الناس شحيح بخيل يمص الذباب، لا يخرج الذباب إلا ويمصه، فتجده عنده مفاتيح وللمفاتيح مفاتيح وللخزنة خزنة، ومفاتيحه معلقة في غترته، يصلي وهو ينظر إليها في الصلاة هل هي موجودة أم لا، فمثل هذا قد تبتلى الزوجة به فلا ينفق عليها، ولا يكسوها ولا يعطيها، يطلب أطفاله دفاتر المدرسة فيقول: لا.
يكفيكم ما اشتريت لكم في العام الماضي دائماًَ دفاتر دفاتر! أو يطلبون أقلاماً، فيقول: اشتريت لكم قبل خمس سنوات طقماً من الأقلام، فهل كل يوم أقلام؟ فهؤلاء من أين يأخذون؟ فأتت هند فقالت: {يا رسول الله! أبو سفيان رجل شحيح لا يعطيني ولا يعطي أطفاله، قال: خذي من ماله لك وأطفالك بالمعروف} فتأخذ بالمعروف، تفتح الدولاب أو الشنطة أو الصندوق وتأخذ بالمعروف، تأخذ شيئاً يكفيها، ما يطعم أطفالها، وكسوتها، وكسوة بناتها، وتأخذ دفاتر وحقائبَ المدرسة لكن دون زيادة.
فلا تأخذ لتتصدق على الجيران والمجاهدين، لا.
بل بالمعروف وكلمة بالمعروف مطلوبة، وليُعلم ذلك.(67/25)
حكم رد المرأة للسلام
السؤال
هل ترد المرأة السلام؟
الجواب
هذا أمر مختلف فيه، والأولى أن إذا سُلِّم عليها من وراء الباب أن ترد بالمعروف، وفي التليفون، إذا قال رجل: السلام عليكم فعليها أن ترد، فلا تقل إذا قال: السلام عليكم ورحمة الله؛ ماذا تريد؟ فهذا ليس برد، قال الله: {أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] يعني التحية.
ترد بأحسن منها أو تردها، وأما نزول المرأة -إذا نزلت مضطرة- أو السلام عليها بكثرة فهذا ليس بصحيح.
سئل الإمام أحمد عن رجل جلس فسمع امرأة تعطس فشمتها فقال: "ذاك رجل أحمق"، يجلس في آخر المسجد فكلما عطست امرأة يقول: رحمك الله، وكلما سلمت امرأة قال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، هذا أحمق، أو يمر في الطريق فيجد النساء، فيقول: السلام عليكن ورحمة الله، كيف أمسيتن؟ عساكن طيبات؟ فهذا أحمق، إلا أن تكون عجوزاً كبيرة؛ لأن هذا السلام أحياناً يأتي بجرائم.
نسأل الله العافية.(67/26)
حكم نقض المرأة لشعرها عند الغسل
السؤال
هل تنقض المرأة شعرها عند الغسل؟
الجواب
تنقض المرأة شعرها عند الغسل من الحيض، أما الغسل من الجنابة فلا، لكثرة تكرره، فيكفيها أن ترش رأسها وتروي أصول الشعر، أما من الحيض فتنقض شعرها لحديث أم سلمة الصحيح.(67/27)
حكم الحمرة للمرأة على الشفتين
السؤال
ما حكم الحمرة للمرأة على الشفتين؟
الجواب
لا أعلم فيها بأساً، وهي من أدوات التجميل، وقد أفتى بجوازها كثير من العلماء.(67/28)
حكم الذهب المحلق للمرأة
السؤال
هل الذهب المحلق محرم على المرأة؟
الجواب
ليس محرماً على المرأة، ولو قاله قائل، بل هو حلال للمرأة تلبسه محلقاً أو غير محلق، فعند أحمد وبعض أهل السنن أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً وذهباً وصعد على المنبر وقال: {إن هذين حرام على ذكور أمتي حلال لنسائها} فلها أن تلبس المحلق وغير المحلق، وتتزين من الزينة التي أوجدها الله لها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فتلبس دبلة محلقة وخاتماً، ولكن أحذرها من صور التمثال التي تأتي على الحلي كالأسد والثعبان، وصورة العقرب والحية والفيل والحمار والأرنب.(67/29)
حكم الزكاة في الحلي
السؤال
هل في الحلي زكاة؟
الجواب
نعم.
على الصحيح من أقوال أهل العلم أن في الحلي زكاة؛ لحديث أم سلمة وعمرو بن شعيب عند أبي داوُد والحاكم وهما صحيحان بسندين جيدين، وليس لهما مُعارض إلا حديث ضعيف، ففي الحلي زكاة ولا يلزمها أن تخلع الحلي كالأساور والمُسَك وغيرها، لكن تثمنها بثمن وتخرج من رأس الثمن.
هذا هو الصحيح إن شاء الله.(67/30)
حكم حضور المرأة للدروس والمحاضرات
السؤال
هل للمرأة أن تحضر الدروس والمحاضرات؟
الجواب
نعم.
تحضرها للفائدة إذا كانت متحجبة متسترة لا متطيبة ولم تخش على نفسها الفتنة ولن تفتن الناس فتحضر، ولها أجر، والنساء حضرن في عهده صلى الله عليه وسلم الدروس والمحاضرات العامة والتعليم، وجعل لهن صلى الله عليه وسلم درساً من أيامه، يوم الإثنين أو غيره.(67/31)
بعض الكتب الخاصة بالمرأة
السؤال
ما هي الكتب التي تنصح المرأة بها؟
الجواب
هناك كتب خاصة بالمرأة مثل كتاب المرأة المسلمة لـ أبي بكر الجزائري، وإليك رسالة لامرأة اسمها أمل العبد الله من أحسن الكتيبات، وهناك رسالة الفتاوى النسائية لسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز وغيره من أهل العلم، وهنا قد ينفعها كتاب اسمه شباب عادوا إلى الله والعائدون إلى الله، ورسائل من هذه الرسائل لأنها خفيفة، ومثل كتيب سِرِّي وخاص للنساء فقط لـ أحمد القطان والشريط الإسلامي أنصح به المرأة أن تخصص شيئاً من مالها فتشتري وتهدي وتتصدق: {لأنْ يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.(67/32)
حكم الإسراف في بعض الأنشطة
السؤال
ظاهرة الإسراف في بعض الأنشطة عند المدرسات والمعلمات قد انتشرت فما حكمها؟
الجواب
أنا سمعت بهذا وأنصح المدرسات والمعلمات بعدم إرهاق الطالبات بالنفقات، دائماً تتبرع، وتأتي الطالبة إلى أهلها -أبيها وأمها- وتطلب تبرعاً ودراهم كل يوم، فهذا إسراف مُنافٍ، في لوحات من النيون ونجارة وملابس فاخرة وجلسات في الفسحة للمدرسات تكلف مئات الريالات، ونحن لا نحرم الجلسة، فلهن أن يجلسن ويفطرن ويأكلن ويشربن لكن في اقتصاد، أما هذه الصناديق الباهضة من جيوب الطالبات فهذا ليس بصحيح، لأن ظروف الناس تختلف وفي الطالبات فقيرات فاتقين الله يا معلمات بنات المسلمين! في بنات المسلمين.(67/33)
حكم إخراج الوجه والكفين في الصلاة
السؤال
هل للمرأة أن تخرج وجهها وكفيها في الصلاة؟
الجواب
نعم هو السنة، فالسنة أن تخرج كفَّيها ووجهها في الصلاة ولا تتحجب في الصلاة، إلا إذا كانت مثلاً في الحرم وخافت من نظر الأجانب فإنها تتحجب، وأما وحدها فإنها تظهر وجهها ويديها، والحجاب الشرعي تغطية ما ظهر من الزينة وفيه الوجه والكفان إلا في الصلاة.(67/34)
حكم التصفيق
السؤال
ما حكم التصفيق في بعض المدارس للرجال وللنساء؟
الجواب
ليس بوارد وليس بجائز، وليس من السنة، والتصفيق لم يأتِ إلا في مورد الذم، قال سبحانه: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35] قيل: صفيق وصفير، والتصفيق أتى من الغزو الاستعماري والغزو الفكري على بلاد الإسلام، ولم يأتِ من بلاد الإسلام أبداً.
فليُعْلَم ذلك.
والمسلمون إذا أعجبوا بشيء يكبرون: الله أكبر، فهذا هدينا، فإن أجاب الطالب أو أجابت الطالبة فنقول: الله أكبر، قال ابن مسعود: {كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما ترضون أن تكونوا نصف أهل الجنة؟ فقلنا: الله أكبر} وقتل علي عمرو بن وُد في الأحزاب فقال الصحابة وقد انجلى الغبار: الله أكبر، هذا تكبيرنا، أما التصفيق فليس من الإسلام وهو أقرب إلى آراء أهل الجاهلية ومذاهبهم الجاهلية فليُعْلَم ذلك.(67/35)
حكم حضور النساء حفلات الزفاف
السؤال
ما رأيك في حضور حفل الزفاف للنساء في هذا الوقت؟
الجواب
الزواج على قسمين: زواج إسلامي خالٍ من الغناء الماجن ومن اختلاط الرجال بالنساء فلا بأس بحضوره، ولا بأس بالدف للنساء أن يجتمعن وحدهن بلا دقَّاقات مستأجَرات؛ لأن الدقَّاقين والدقَّاقات، والمغنيين والمغنيات، والمطبلين والمطبلات ليسوا مرضيين أحياءً ولا حال كونهم أموات، فليعلم ذلك للمسلمين والمسلمات، فلا تستأجَر المطبلة والدقَّاقة، إن أتت فأجرها على إبليس، تدق في الليل وتأخذ أجرها من الشيطان، كل دقة بعشر سيئات، وإلا فيضربن بينهن بالدف، وهو جائز لهن وسنة من سنن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف} فتحضر المرأة وتكون متحشمة مع النساء ولا بأس.
أما زواج فيه مغنٍ مستدعَىً ومغنية متبرجة عندها عود وكمنجة وكوبة فهذا محرم، أو فيه اختلاط الرجال والنساء، أو دخول مجموعة من الرجال مع الزوج على المرأة وهي منصوبة على منصة الإعدام، لبست شرعتها فيدخل الزوج ومعه قرابته وأعمامه وأخواله وأبناء العمومة فهذا محرم، لا يراها إلا الزوج أو المحارم، هذا ما انتهينا إليه.
والأسئلة أكثر ولكن الوقت أقصر.
وأسأل الله أن يجمعنا بكم في دار الكرامة، وهذا الدرس موجه للنساء ولبيوت المسلمين، أسأل الله أن ينفع به وأن يتقبله عنده، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(67/36)
أزمات الشباب المسلم
إن المسلم في مرحلة الشباب ومقتبل العمر يواجه كثيراً من الشبهات والشهوات، وقد تشغله الشواغل عن طلب العلم وذكر الله، وهو يحتاج إلى حلول لهذه المشاكل، وأقل الحلول معرفة هذه الإشكاليات لاجتنابها.
وفي هذه المادة عرضٌ لبعض مشاكل الشباب وحلولها.(68/1)
تساؤلات بين الماضي والحاضر
الحمد لله الذي شرح صدور أهل الإسلام للسنة، فانقادت لاتباعها، وارتاحت لسماعها، وأمات نفوس أهل الباطل بالبدعة بعد أن تمادت في ابتداعها، وتوانت في نزاعها.
والصلاة والسلام على أشرف رسول وأكرم نبي، حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، الذي شرح الله له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
وإن كان من شكر فإني أشكر الله تبارك وتعالى أن أجلسني في هذا المجلس بين أساتذتي ومشايخي وبين زملائي، من أراهم أفضل وأعلم وأفهم، ولكن كما قال أحمد شوقي:
قد يضيق العمر إلا ساعةً وتضيق الأرض إلا موضعا
وللمواضع وللأمكنة وللبلاد سمات في القلوب، وشجىً في الأرواح، وأثر في النفوس، وهذا المكان درجت في رحابه، ونبتُّ في جنابه، فهو معهدي الذي أتشرف بأني درست فيه، وأساتذتي هم أساتذته، ومشايخي هم مشايخه، فمن الحق أن أقضي بعض الدين الذي كلفني الله بقضائه، نصيحةً للمسلمين، وأداءً للواجب.
فهذا الموضوع (أزمات تواجه الشباب المسلم).
الشباب الذين يريدهم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لحمل لا إله إلا الله، وليعيشوا للا إله إلا الله، وليموتوا من أجل لا إله إلا الله.
الشباب الذين حداهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكانوا أكثر كتائبه في الإسلام، وكانوا خطباءه على المنابر، وكانوا أدباءه في الحفلات والأسمار، وكانوا رسله عليه الصلاة والسلام.
كلما قتل قتيل إذا فتشتم عنه فإذا هو شاب، وإذا تكلم متكلم ثم بحثتم عنه فإذا هو شاب.
أولئك الشباب كانوا خياراً، وكانوا نوراً، وكانوا فخراً، وما لشبابنا اليوم تتجاذبهم الشهوات والشبهات، اختفى النور الوهاج الذي أتى به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يقول شاعر البنجاب محمد إقبال وهو يطوف قبل أربعين سنة بالبيت العتيق، ويبحث أين الشباب الذين رفعوا معلم التاريخ؟
أين الشباب الذين قدموا أرواحهم رخيصة في سبيل الله، وقدموا أرواحهم ثمناً لمرضاة الله، أين هم؟
وجد شباباً يطوفون بالبيت لا تبدو عليهم معالم الإسلام، ولا تلوح على محياهم آثار السنة، ولا يتتوجون بتاج لا إله إلا الله.
صحيح أنهم يصلون ويصومون ويزكون ويحجون ويعتمرون، ولكن أين الآثار؟ أين الحياة؟ أين الحماس المتوهج؟ فبكى طويلاً وسجل قصيدته التي نثرها من دمه، وهي: تاجك مكة -أي: مكة البلد الكبير- يقول:
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
إلى أن يقول:
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا(68/2)
شباب النبي صلى الله عليه وسلم بطولات وتضحيات
يا رب! أين الشباب الذين عمروا الدنيا بلا إله إلا الله؟
يا رب! أين الشباب الذين امتطوا البحار حتى بلغوا لا إله إلا الله؟ اللوار ونهر الجانج وصحراء سيبيريا، وحدائق الأندلس.
أين طارق بعد سعد؟
وأين صلاح الدين بعد خالد؟
وأين ابن تيمية بعد ابن عباس؟
وأين أبو تمام بعد حسان؟
أين أولئك الشباب؟
أليسوا بشباب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ بلى والله.
يقول أبو حمزة الخارجي: شباب مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الباطل أعينهم، ثقيلة عن الشر أرجلهم، أنضاء عبادة، وأطلاح سهر، ينظر الله إليهم في جنح الليل يتململون على جنباتهم خشعاً لله وسجداً.
أو كما قال.(68/3)
تضحيات حبيب بن زيد
يوم أتى مسيلمة الكذاب، ورفع راية الإلحاد في أرض اليمامة فوصمه الله بوصمة الكذاب، فهو كذاب إلى يوم الدين، انتدب له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاباً ليبلغه دعوة الله؟ فكم كان عمره؟ حبيب بن زيد في الثانية والعشرين من عمره، قال صلى الله عليه وسلم للناس: {من يذهب إلى مسيلمة الكذاب وأستودعه الله الذي لا تضيع ودائعه؟ أي: أنه لن يعود في الحياة أبداً، معناها: القتل والإبادة، لأن ذلك لن يسلم رسول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فقال حبيب بن زيد: أنا يا رسول الله! فمر بأمه -وكان أبوه ميتاً- فأخبرها بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما من أمر رسوله بد! فاذهب إلى سبيلك؛ فوالله إنك رضيعي ووحيدي الذي تموت نفسي قبل أن يموت} وودعته والدموع تسيل على خديها وذهب، فاستودعه الله من شهيد.
وصل إلى مسيلمة وقلبه يتوهج بلا إله إلا الله
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] لا أحد.
فوصل ودخل سرادق مسيلمة، فقال مسيلمة: من أنت؟
قال: أنا رسول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
قال: أتؤمن أنه رسول؟
قال: إي والله.
قال: أتؤمن أني رسول؟
قال: لا أسمع شيئاً، فأعاد عليه الكلام فأعاد عليه حبيب بن زيد الجواب، فأمر أحد جلاديه أن يتقدم إليه بالرمح فضربه بالرمح، فقطع منه قطعة في الأرض، فأعاد عليه الكلام، وقال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟
قال: إي والله، قال: أتشهد أني رسول الله؟
قال: لا أسمع شيئاً، فلما قال له هذا الكلام أمر جلاديه وجنوده أن يتقدموا من ذاك الشهيد، فتقدموا فهذبوه بالسيوف، فكان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ما زاده هذا الموقف إلا إيماناً وتسليماً، وثقة برسالة لا إله إلا الله، ثم قال: السلام عليك يا رسول الله!
اللهم أبلغ رسولك ماذا فعل بي الغداة.
وبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذ يقول: {عليك السلام يا حبيب بن زيد! عليك السلام يا حبيب بن زيد، عليك السلام يا حبيب بن زيد}.(68/4)
قتل خبيب بن عدي في سبيل الله
وخبيب بن عدي شاب آخر، وقف على مشنقة الموت في ساحة الإعدام وجميع مشركي مكة مطوقوه، نساءً وأطفالاً وشيوخاً، ينظرون إلى، مثلة الإعدام، اعتداء الباطل على جثمان الحق وهو صابر محتسب، ما أراهم خنوعاً ولا خضوعاً، يتبسم تبسم المستعلي بإيمانه، المستظهر بيقينه، حتى يقول أبو سفيان وهو يستهزئ به: يا خبيب! أتريد أن محمداً مكانك؟
قال: والله الذي لا إله إلا هو ما أريد أني في أهلي ومالي، وأن رسول الهدى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصيبه شوكة، فرفعوه، وقبل أن يرفعوه، قال: ائذنوا لي أن أصلي ركعتين، فتركوه، فتوضأ وصلى ركعتين، ثم التفت إليهم وقال: والذي لا إله إلا هو لولا أني أخاف أن تقولوا: أطلت الصلاة جزعاً من الموت لأطلتها، فرفعوه وتقدمت إليه السيوف، وقال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم أبلغ رسولك ماذا لقيت الغداة -يعني أبلغه هذا اليوم ماذا يفعل بي- ثم قال: السلام عليك يا رسول الله.
هذا في سيرة موسى بن عقبة، قال موسى بن عقبة: وصح أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في تلك اللحظة: {عليك السلام يا خبيب! عليك السلام يا خبيب، عليك السلام يا خبيب} وقبل أن تنتهي نفسه؛ قال أغنية المعركة الخالدة:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع(68/5)
ثمار التربية الحقة
فمن أخرج هؤلاء للناس إلا كتاب الله عَزَّ وَجَلّ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تربية رسول الهدى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم يلقى الشاب وعمره ثماني سنوات كـ ابن عباس فيقول له: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
أي كلام هذا الكلام؟! أسمعت أصدق وأنبل -بعد كتاب الله- من هذا الكلام؟! يغرسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القلوب فيؤتي أكله كل حين بإذن ربه.
وأما نحن فكانت تربيتنا للشباب أن نسأل أحدهم: ما هي هوايتك؟
فيقول: جمع الطوابع، ومطاردة الحمام، والمراسلة، والسباحة!!
إذاً تنكست منابرنا، وهدمت حصوننا، وخلت مساجدنا، ولذلك يقول الفيلسوف المسلم:
أرى التفكير أدركه خمول ولم تبق العزائم في اشتعال
وأصبح وعظكم من غير نور ولا سحر يطل من المقال
وعند الناس فلسفة وفكر ولكن أين تلقين الغزالي؟
وجلجلة الأذان بكل حيّ ولكن أين صوت من بلال
منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خالِ
إن الذي يجعل حياته لجمع الطوابع لا يكون عبداً لله؛ بل يكون عبداً لشهوته.
وإن الذي يهتم بمطاردة الحمام والمراسلة والسباحة والتصفيق والتشجيع سوف يكون خاملاً في الحياة.(68/6)
التربية الحقة عند ابن تيمية
ابن تيمية يدخل وعمره عشرون سنة على ابن قطلوبغا فيقول السلطان ابن قطلوبغا: يا بن تيمية! ماذا تريد؟
نسمع أنك تريد ملكنا -يريد وهو في العشرين من عمره- فيضحك ابن تيمية، ويقول: ملكك! والله ما ملكك وملك آبائك وأجدادك يساوي عندي فلساً.
وذلك لأنه عرف الله، وعرف لماذا يعيش، وعرف ما هو مصيره، ولذلك يقول وهو يدخل السجن، وهو يلتفت إلى البواب، ويضحك ضحك المؤمن القوي يوم غرس في نفسه لا إله إلا الله، يقول لما أغلقوا عليه الباب: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:12] ثم يقول: ماذا يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري أنَّى سرت فهي معي، أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة.
فيا سبحان الله! كيف عمّر الله تلك القلوب باليقين والتوحيد، فجعلها نوراً تمشي على الأرض؟!
قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:122] هذا زرع محمد عليه الصلاة والسلام، وهذه تربية محمد عليه الصلاة والسلام.(68/7)
التربية الحقة عند معاذ رضي الله عنه
يأتيه أهل اليمن؛ فيقولون: يا رسول الله! أرسل لنا من أصحابك رسولاً يعلمنا ويفقهنا في الدين، فمن يرسل يا ترى؟
هل يختار الذين بلغوا في السن عتياً، يتلفت فإذا أصحابه شباب، فتقع عينه على معاذ رضي الله عنه وهو في الثامنة عشرة من عمره، فيرسله معلماً إلى اليمن.
يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة معاذ: لما ودعه رسول الهدى عليه الصلاة والسلام بكى معاذ بكاء عظيماً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {ما لك يا معاذ؟ قال: والله يا رسول الله! ما أبكي على الدنيا، ولكني أبكي خوفاً من ألا أراك بعد هذا اليوم إلا يوم القيامة، قال: لا تجزع يا معاذ فإن البكاء من الشيطان} فودعه صلى الله عليه وسلم، ثم قال له: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن، يا معاذ اُذكر الله عند كل حجر وشجر ومدر} فذهب رضي الله عنه وأرضاه، فأصبح سراجاً وهاجاً ينشر لا إله إلا الله في بلاد اليمن، وفي جبال وأرض اليمن ينشر مبادئ الدين الخالد وعمره (18) سنة، ووجد في الأمة من بلغ من العمر عتياً وهو لا يفهم لا إله إلا الله، ولا يحسن أن يتوضأ ولا يصلي.
يعرف كل شيء في حياته إلا الدين، يجيد قيادة سيارته وهندستها وإخراجها وإنتاجها، وثوبه ولبسه وطعامه وشرابه ومسكنه ومدخله ومخرجه، ولكنه أصم أغلف عن الدين، والله له حكمة بالغة؛ ولكنه يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(68/8)
أصناف الناس والأزمات التي يواجهونها إجمالاً
الذين قدموا وحاولوا أن يفهموا فهمهم الله، والذين يريدون أن يفقهوا الدين فقههم الله، والذين يريدون الله والدار الآخرة اجتباهم الله، وهذا مصداق لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث القدسي عن ربه عَزَّ وَجَلّ: {من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها الحديث}.
ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يشرح هذا الحديث في المجلد الحادي عشر وما قبله: هذا الحديث يقسم الأمة إلى ثلاثة أقسام: وقد أغفل قسماً ثالثاً وهو: الظالم لنفسه، وذكر: المقتصد والسابق بالخيرات، لذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32] فقسمهم الله عز وجل هذا التقسيم.
فالظالم لنفسه يقع مسلماً في هذه الأمة، لا يخرجه من الإسلام إلا الخوارج، يفعل الكبائر ويترك بعض الفرائض غير الصلاة، أو يقترف كثيراً من حدود الله عز وجل، لكنه لا يزال مسلماً.
والمقتصد: يفعل الفرائض ويجتنب الكبائر؛ لكنه يترك المستحبات ويفعل بعض المكروهات.
والسابق بالخيرات -نسأل الله من فضله، وأن يحبب إلينا السابقين وأن نحشر في زمرتهم، وإلا فأين الثرى من الثريا- هو الذي يفعل الفرائض والنوافل والمستحبات، ويترك الكبائر والمحرمات والمكروهات: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
أزمات تواجه الشباب المسلم في هذا العصر وفي كل عصر، لكنها تختلف بالبقاع والأزمنة والأمكنة والهيئات والأشخاص:
أولها: مرض الشبهات.
وثانيها: مرض الشهوات.
وثالثها: أزمة جلساء السوء.
ورابعها: الفراغ وإضاعة الوقت.
وخامسها: البيت وانحرافه يوم ينحرف عن لا إله إلا الله.
وسادسها: الضغينة والبغضاء بين شباب الإسلام.(68/9)
مرض الشبهات
فأما الشبهات فهو مرض خطير، ذكره الله عز وجل عن كل ملحد وطاغية من يوم خلق الله الأرض والسماوات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(68/10)
مرض الشبهة عند فرعون والرد عليه
ذكر الله هذا المرض عن فرعون في سؤاله موسى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:49 - 50] فهذا مرض شبهة: شك في الخلق، وفي الخالق تبارك وتعالى.
ولذلك يقول موسى لهذا الخبيث الملحد: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102].
ولذلك يقول هارون الرشيد -كما أورد ابن كثير ذلك في تفسيره في سورة البقرة- يقول وهو عند الإمام مالك: يا أبا عبد الله! ما دليل القدرة؟ -هو لم يشك، لكن من باب ورود الشبهة- قال: ما دليل قدرة الله عز وجل؟
قال الإمام مالك: عجباً لك!! اختلاف الأصوات والنغمات، وتعدد الهيئات دليل على رب الأرض والسماوات.
وأورد ابن كثير أن أبا حنيفة سُئِلَ هذا السؤال، فقال: ذكر لي سفينة تمخر عباب دجلة، وتقف في الشاطئ، ثم تنزل حمولتها ليس لها ربان ولا ركاب ولا حرس، قالوا: هذا جنون!
قال: يا سبحان الله!! أَكَوْنٌ وسماء وأرض ونجوم وقمر وشمس ليس لها مدبر؟! بل هو السميع البصير.
وعرض هذا السؤال أيضاً على الإمام أحمد كما ذكر ذلك ابن كثير، فقال: سبحان الله! هذه البيضة -بيضة الدجاجة، أو بيضة أي طائر آخر- أما سطحها ففضة بيضاء، وأما باطنها فذهب إبريز، تفقس فيخرج منها حيوان سميع بصير، ألا يدل على السميع البصير؟!
ويقول الشافعي كما ذكر ذلك ابن كثير في البداية والنهاية: ورقة الإبريسم تأكلها الدودة فتخرج حريراً، وتأكلها الغزال فتخرجها مسكاً، وتأكلها النحلة فتخرجها عسلاً، ألا يدل ذلك على السميع البصير؟!(68/11)
معنى مرض الشبهة
فيا سبحان الله!! ولذلك يعالج الله عز وجل مرض الشبهة، وقبل المعالجة أذكر معنى الشبهة حتى يتضح لكثير من المقصرين -من أمثالي-!!
مرض الشبهة والتحيل والاضطراب.
إنه مرض يأتي إما من نقص العلم الوارد، أو بالبيئة التي يعيش فيها العبد، أو الخطوات التي تزلزل الإيمان، وهو أقسام:
منهم من يشك في وجود الخالق سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا هو الإلحاد الذي طم وعم في مجتمعاتنا، وأخذ كثيراً من الشباب -نسأل الله العافية- وهو يركب مراكب، منها: مركب الحداثة في الصحف والمجلات، ويستخدم الرموز، ويقود الناس إلى لينين وماركس وهرتزل وأمثالهم من أعداء الله، وهذا المرض خطير جد خطير.
ومنهم من يشك باليوم الآخر؛ يؤمن بوجود الله، لكن لا يؤمن باليوم الآخر!
ومنهم ابن سيناء فإنه كان يشير إلى الكواكب، كما يقول ابن تيمية.
ويقول: إن اليوم الآخر إنما هو لمحات وإشارات وليس بحقيقة، والله عز وجل ذكر هذا الصنف، فقال في آخر سورة البقرة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] ثم ذكر الله ثلاث قصص، أولها قصة النمرود بن كنعان، وقرر الله الحجة عليه وبهت، والله لا يهدي القوم الظالمين.
والقصة الثانية: قصة الرجل الذي قيل: إنه عُزير، وقيل: غيره من بني إسرائيل.
والقصة الثالثة: قصة إبراهيم عليه السلام يوم أراد أن يطمئن قلبه.(68/12)
علاج مرض الشبهات
هذا مرض الشبهة عالجه القرآن بثلاث علاجات:
أولها: النظر والتفكر في الكون؛ يقول الله عز وجل: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:101] وقال تبارك وتعالى لكفار مكة: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20] ولم يدقق الله عز وجل في دقائق الكون، وإنما نصب لهم العلامات والآيات، ولم يأت بالدقائق؛ لأن عقولهم لا تدرك إلا ما يرون، فخاطبهم الله بهذا.
ويذكر الله عز وجل السماء وما فيها من آيات، والأرض وما فيها من عجائب، يذكر خرير الماء، وخلق الطير، ويذكر الشجر، والزهر، والخلق البهيج، ويذكر الشجر صنوان وغير صنوان، والماء كيف كان أصله؟ ويذكر النطفة كيف تدرجت حتى أصبحت إنساناً، ثم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الأخير: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [يونس:3].
إذاً: فالعلاج الأول لمرض الشبهة التي صادفت كثيراً من الشباب، وشكا منها كثير من الشباب حتى ممن صلى وصام وحج واعتمر.
العلاج الأول: النظر في الكون، والنظر في آيات الله عز وجل والتدبر، ولذلك جعل الله عز وجل من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: {رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} وإنما قال: خالياً ليكون بعيداً عن الرياء والسمعة.
ذكر آيات الله؛ يقول كثير من العلماء: لا يقتصر على ذكر الله بالتسبيح، والتحميد والتهليل فقط، بل إذا نظر إلى الجبال والوهاد والتلال، ففاضت عيناه فهو مأجور، وإذا نظر إلى المبتلين والمرضى ففاضت عيناه فهو مأجور، وإذا نظر إلى الأطلال والقبور ففاضت عيناه فهو مأجور، وإذا نظر إلى تعدد الهيئات واختلاف الأصوات والنغمات ففاضت عيناه فهو مأجور، فسبحان الله! من يذكر عبده فيذكره، فيثني عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بهذا.
يقول تقي الدين بن سكير: خرجت وراء شيخ الإسلام ابن تيمية بعد صلاة العصر من الجامع الأموي، فلما اختفى في غوطة دمشق رفع بصره إلى السماء، وقال: لا إله إلا الله، ثم فاضت عيناه، ثم بكى وقال:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
فهذا ذاكر ذكر الله في خلوة، فالنظر والاستدلال على قدرة الله بالتفكر في الكون أعظم ما يقضي على مرض الشبهة.
ثانياً: الذكر؛ فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وصف الذكر مع الفكر، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191].
يقول ابن تيمية وهو يتحدث عن أحد الملاحدة الذين أرادوا الإيمان، ولكن ما أراد الله لهم ذلك وهو أحد الفلاسفة -قد يكون ابن الراوندي، الذي يقول عنه الذهبي: الكلب المعفر الخبيث؛ الذي ألف كتاب الدامغ على القرآن يدمغ به القرآن، شكا حاله على بعض علماء الإسلام- قال: في قلبي ظلمات بعضها فوق بعض، يريد أن يهتدي لكن على قلبه ظلمات وححب وآصار وأغلال وحديد؛ حجب لا يعلمها إلا الله، يريد أن يصلي ويذكر الله فلا يستطيع، فقال له هذا العالم: عليك بكثرة الذكر بعد الصلاة، قال: لا أستطيع، قال: لا استطعت؛ قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5]؛ والله يقول: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
وقد جعل شيخ الإسلام ابن تيمية من العلاجات لهذه الأمراض الذكر، وقال: إن الله يقرن في كتابه بين التوحيد وبين الاستغفار، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] وقال عن يونس بن متى يوم أن يروى قصته: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].
وعند أبي يعلى في مسنده {يقول الشيطان: أهلكت بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار} فأعظم ما يمكن أن يقضي على مرض الشبهة والشك والحيرة والاضطراب في الإيمان بالرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم وبالله عز وجل وباليوم الآخر وبالغيبيات بعد التفكر والاستدلال والنظر هو الذكر.
وثالثها: النوافل، وإنما قدمت الذكر لأنه أهم، بل هو أفضل من كل نافلة، فالنوافل هي التي تنهي الاضطرابات، ولذلك وجد في الشباب من تسمعه يشكو أن في قلبه اضطراباً وحيرة من خلود أهل النار في النار، كيف يخلدون؟ ولماذا يخلدون آلافاً؟ ولا أذكر الشبهات، لأنه لإيراد الشبهات لا بد أن يورد الحلول لها، وهذا المجال لا يتسع له إلى غير ذلك.
فعلاج مرض الشبهة النظر في الكون والتفكر.
ومن ذنوبنا قلة التفكر حتى أصبحت أحاسيسنا باردة من كثرة ما ألفنا، وإلا فو الله الذي لا إله إلا إلا هو إنها لآيات باهرة: الشمس، هذا الفلك، وهذا الجرم الكبير كيف يسير؟ وكيف يذهب باحتساب؟ ويذهب بتؤدة ويذهب بمقدار ثم يأتي وهكذا.
النجوم من جملها؟ الجبال من نصبها؟ الشجر من أبدع خلقه؟ الزهر من نوعه؟
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا
والنحل قل للنحل يا طير البوادي من الذي بالشهد قد حلاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
فالحمد الله العظيم لذاته حمداً وليس لواحد إلاكا
يقول إبراهيم بن أدهم: جلست تحت شجرة فرأيت أحد الصالحين نام، وإذا بالبعوض على وجهه وشيء من الذباب، قال: فوالله الذي لا إله إلا هو إني لبحية خرجت من جحرها فأخذت زهرة بفمها، ثم أخذت تزيح عنه البعوض والذباب.
ويقول ابن الجوزي في صفة الصفوة: رأى بعض الصالحين في أول هدايته -كان سبباً لهدايته- عصفوراً يأتي بقطع من اللحم ويذهب إلى نخلة، فقال الصالح في نفسه: العصفور لا يعشعش في النخل، فلماذا يذهب؟ فتسلق النخلة، فاطلع فرأى حية عمياء -يأتي هذا العصفور بقطعة اللحم، فإذا اقترب منها فغرت فاها فأوقع فيه اللحم، فشهد أن لا إله إلا الله وتاب.
وهذه آيات باهرات من كرامات الأولياء، يطول شرحها في هذا المقام.
وهذا مرض وأزمة خانقة واجهت شباب الإسلام، لكنها حلت بإذن الله، بكثرة علم الكتاب والسنة، وكثرة النوافل عند كثير من الشباب، وكثرة الذكر، وكثرة الموجهين، لأن الأمة تعيش في صحوة؛ نرجو الله أن يسددها ويصلحها ويهديها سواء السبيل.(68/13)
مرض الشهوات
الأزمة الثانية: الشهوات.
الشبهات مرض العقائد والشهوات مرض الأعمال والمعاصي، وهذا المرض وقع فيه بنو إسرائيل، قال تعالى عنهم: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13].
والأمراض في القرآن ثلاثة: مرض الشك والشبهة وهذا يقع فيه ملاحدة العالم حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ومرض الشهوة وقع فيه بنو إسرائيل.
ومرض الجهل وقلة العلم والفقه وقع فيه النصارى.
ولذلك يذكر الله الضلال مع النصارى، ويذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالى الغضب واتباع الهوى مع اليهود.
قال سفيان بن عيينة كما أورد ذلك ابن تيمية في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم قال: من فسد من علمائنا ففيه شبه باليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه بالنصارى.
وصح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن الناس إلا هم} وفي رواية: {فمن إلا هم}.
ولذلك قرر ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم أن كل خطأ سلف سوف تقع الأمة فيه، ولذلك وجد من طلبة العلم والعلماء من لم يعمل بعلمه -نعوذ بالله من ذلك- قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
{كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176].
فالنظر للحرام شهوة، واستماع الأغنية، والنظر إلى المجلة الخليعة، ومجالسة البطالين، واللغو، والكذب، والنميمة والزور والبهتان شهوات، وقد وقع في هذا قطاع عظيم من الشباب.
أعني أن الذين انحرفوا وقعوا في الشهوات لا في الشبهات، لأن مرض الشبهات يحد ويقلص بأمور، أما الشهوات فإن علاجها خفي وإن كان أسهل من الأول، والذي وقع في الشهوات أسهل من الذي وقع في الشبهات، فالذي في الشهوات قصاراه أن يكون مذنباً أو ظالماً لنفسه، وأما الذي وقع في الشبهات فقصاراه أن يكون ملحداً زنديقاً -نعوذ بالله من ذلك-.(68/14)
علاج مرض الشهوات
إذاً فما هو علاج الشهوات؟
ذكر الله عز وجل في القرآن علاج الشبهات باليقين، وذكر علاج الشهوات بالصبر، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] قال أهل العلم: صبروا عن الشهوات، وتيقنوا عند الشبهات، فنصرهم الله وجعلهم أئمة، فمن لم يصبر عند الشهوة فليس بإمام ولن يكون إماماً، وليس بمهتد، ومن لم يتيقن عند الشبهة فليس بإمام ولن يكون مهتدياً.
إذاً: فمرض الشبهة يعالج باليقين، ومرض الشهوة يعالج بالصبر: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127].
قال الإمام أحمد: ما رأيت كالصبر، تدبرت القرآن فوجدت فيه تسعين موضعاً يتحدث عن الصبر.
فالله الله يا شباب الإسلام في الصبر، فهو علاج الشهوات!
علاج الشهوات: أولها الصبر، أن تصبر عن محارم الله، يقول حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله:
وعن محارم الإله فاصبر واستعن بالله وإياه اشكر
ولتك بالخوف وبالرجا ولا تيئس وللنفس فجاهد عجلا
وإن فعلت سيئاً فاستغفر وتب إلى الله بداراً يغفر
وإنما الأعمال بالخواتم لا تحتقر شيئاً من المآثم
إلى آخر ما قال في علاج الشبهة وعلاج الشهوة، هذا أمر.
واعلموا بارك الله فيكم أنه لا يتأتى العلاج إلا بأمور:
أولاً: كما يقول ابن تيمية: إصلاح الصلوات الخمس ظاهراً وباطناً، فإن من أحسن خضوعها وخشوعها، وأحضر قلبه فيها، واستحضر عظمة الله وهو يصلي، وحافظ على أوقاتها عصمه الله من الشهوات، وما طفح نظر من نظر إلى الحرام وإلى المحرمات إلا لأنه أساء في الصلاة، وما استمع من استمع إلى الغناء إلا لأنه أساء في الصلاة، وما نظر من نظر إلى المجلة الخليعة إلا لأنه أساء في الصلاة، فهذا مرض وقد سلف علاجه.(68/15)
جلساء السوء
الأزمة الثالثة: أزمة جلساء السوء؛ وقد ذكر الله عز وجل في القرآن جلساء الخير وجلساء السوء، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:51 - 57].(68/16)
خطر جلساء السوء على الإنسان
هذان رجلان: جليس صالح وجليس سوء، كان السيئ يقول في الحياة للجليس الصالح: أتصلي؟!
أتزعم أن ربك يبعثك إذا كنت عظاماً وتراباً؟!
أتظن أنك تدخل الجنة؟!
أتظن أن هناك جنة وناراً؟!
وهذا موجود في كل طائفة، والله عز وجل من سننه القدرية الخلقية أن يجعل جلساء السوء بجانب جلساء الخير؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] هادياً يهدي القلوب، ونصيراً ينصر بالسيف سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
إذاً فهذا الجليس استهزأ بذاك، ولكنه ما أطاعه، فأسلم هذا وكفر ذاك، فلما توفيا دخل هذا الجنة ودخل ذاك النار، فيقول المهتدي لإخوانه وزملائه وهم على الأرائك -نسأل الله من فضله-: هل أنتم مطلعون؟
يقول: تريدون أن تطلعوا على النار لتروا زميلي وجليسي السيئ الذي استهزأ بي في الحياة: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:54 - 55] أي: وسط النار {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:56 - 57].
يقول: كدت تغويني في الحياة، وأصبحت من الغواية قاب قوسين أو أدنى، وفي بعض الأوقات أكاد أصدقك وأترك طاعة الله، وعبادته، والاتجاه إليه، لكن الله سلم: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] ثم ذكر نعيمه واستقراره: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} [الصافات:58].
ويقول الله سبحانه عن الجلساء: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} الزخرف:67] قال أحد الوعاظ: إياك والجليس السيئ ولو زعمت أنك تهديه فإنه يضرك؛ لأن الجرباء تعدي الصحيحة، ولا تعدي الصحيحة الجرباء.
هل سمعتم أن صحيحة حولت الجرباء إلى صحيحة، لكن الجرباء هي التي حولتها إلى الجرب.
وقال أهل العلم في كلامٍ ما معناه: ليحذر المسلم أن يداخل الناس إلا أن يكون ذا قدم في الصلاح والعلم، لأنه إذا نقص في الصلاح أصابه الفسق، وإذا نقص في العلم أصابته الشبهة.
ولذلك جاء في صحيح مسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه، قال: {لما حضرت أبا طالب الوفاة، دخل عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدخل أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فجلسا عند رأس أبي طالب، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله} الحديث
فلولا دخول هؤلاء الجلساء لقال: لا إله إلا الله، لكنهم ما زالوا به حتى في سكرات الموت، فأدخلوه النار.
والجليس السيئ يدخل بمداخل، منها:
أن يغريك بالمال وهو فتنة، يقول ابن تيمية في المجلد الأول من الفتاوى: من احتجت إليه فأنت أسيره، ومن احتاج إليك فأنت أميره، ومن استغنيت عنه واستغنى عنك فأنت نظيره، فالناس علىطبقات؛ إما أن تكون: أسيراً، أو أميراً، أو نظيراً.
والجلساء على هذه الطبقات، إما أن يجالسك فيصبح أميراً لك، أو أسيراً لك، أو نظيراً لك، فإن احتجت له في معاملاتك الدنيوية من مال أو واسطة أو كسب أو أسرة أو غرض دنيوي؛ فقد تأمر عليك، وبإمرته عليك باستطاعته أن يوجهك إلى الخير أو إلى الشر.
فاحذر أن يكون للناس عليك منّة، ولذلك يقول شيخ الإسلام: من تصفية العقائد ألا تسأل الناس شيئاً، ولما بايع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر وسبعة معه؛ اشترط عليهم ألا يسألوا الناس شيئاً، حتى كان يسقط سوط أحدهم من على الفرس، فينزل ويأخذ السوط، ولا يقول لأحدهم: ناولني سوطي.
ولذلك ماسمع في الحديث ولا في السيرة أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم: ادع الله لي يا رسول الله، مع أن بعض الأعراب يقول: يا رسول الله! ادع الله لي، لكن أبا بكر لأنه لا يسأل شيئاً لم يقل يوماً: ادع الله لي يا رسول الله، مع أنه في حياته صلى الله عليه وسلم، ولم يطلب منه الدعاء.
وصح في ذلك أحاديث كثيرة؛ ولكن لعظم درجة هذا ما طلب رضي الله عنه وأرضاه، وفي الحديث الصحيح: {الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون} وأما رواية: {لا يرقون} فليست بصحيحة، وهي شاذة؛ لأنهم يرقون غيرهم كما رقى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيره، ووجدت في بعض الأحاديث، لكن ابن تيمية قال: هذه الكلمة ليست بصحيحة، فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رقى غيره، والصالحون يرقون غيرهم، لكن لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، لكمال توحيدهم.
الشاهد من هذا: أن الجلساء يدخلون من هذه المداخل، وإذا احتاج إليك كنت أسيره فاتق الله فيه، إذا احتاج إليك في خدمة دنيوية فاجعلها وسيلة لأن تهديه إلى الله عز وجل، وتكون سبباً من أسباب الهداية، أما إذا لم يحتج إليك ولم تحتج إليه فهو نظير لك.
والعجيب أنه وجد جلساء سيئون يسهرون الليالي، ويحبكون المؤامرات والمداخل، وينصبون الشباك لشباب الإسلام، فأين دعاة الإسلام؟ وأين طلبة العلم؟ وأين العلماء؟
أتصدق أن ملحداً يسهر الليل ويصنف المذكرات، وينظم الأمسيات والمحاضرات والندوات والتمثيليات، في كثير من المجتمعات ليضل عباد الله؟!
فأين جهود الأخيار الأبرار الذين يريدون الله والدار الآخرة؟!(68/17)
الجلساء على قسمين
منهم من تستطيع أن تؤثر فيه فخالطه، واستعن بالله واتق الله فيه، فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكبر من خالط جلساء السوء، خالط المشركين والمنافقين واليهود والنصارى، ولكنه كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤثراً لا متأثراً.
وجليس إذا خالطته أثر فيك، فاهرب منه، وفر منه فرارك من الأسد، لأن بعض الناس قوي الشخصية ولو كان ضالاً، إذا دخلت معه في المجلس استولى على الحديث وتكلم، وأخذ الوقت في محاضرة؛ فلا تستطيع أن تتكلم معه بكلمة، يقودك وأنت لا تقوده، يوجهك وأنت لا توجهه، ففر منه؛ لأنه لا قدرة لك عليه، والناس منهم -كما يقولون- مائي وهوائي وسمائي، إلى أقسام كثيرة تدخل في علم النفس لا ندخل فيها.
فمن الناس من يكون هوائياً تأخذه الريح يمنة ويسرة، ومائي ينداح في اليد، وسمائي روحه متألقة، وشفافة لا تطغى عليها الأرض، وهذه فطر فطر الله الناس عليها.(68/18)
الفراغ وضياع الوقت
من الأزمات التي واجهت شباب الإسلام: الفراغ وضياع الوقت؛ وكثير من الشباب حتى ولو اهتدى، ولو صلى وصام وحج واعتمر، أزمته ضياع وقته في غير طائل، وتمر عليه الساعات الطويلة ولم يقدم لنفسه ما ينفعه في الدنيا أو الآخرة، وليس الوقت في الإسلام حظراً على الآخرة فحسب، لكن يعمل الإنسان للدنيا لتكون في خدمة الآخرة.(68/19)
علو همة السلف الصالح في حفظ أوقاتهم
وصح عن عمر رضي الله عنه أنه يقول: [[إني لأرى الرجل ليس في مهنة في الدنيا، ولا في عمل للآخرة فيسقط من عيني]].
وأصل حفظ الوقت من كتاب الله عز وجل قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:61 - 62] أي: جعل الليل والنهار يخلف هذا هذا، ليستخدم ويستغل في طاعة الله عز وجل.
دخل أحد الصحابة وإذا رجل في مسجده صلى الله عليه وسلم، وإذا هو حزين، فقال: مالك مهتم مغتم؟
انظر إلى أسباب الحزن عند السلف الصالح، أسباب حزننا: إما رسوب في امتحان الابن، وإما صدام سيارة وقعت، وإما شجار مع الجيران، وإما غلاء الأسعار، وإما تأخر الأمطار، وأما عمل الآخرة فقليل من يهتم، حتى أمر عادي إذا دخل الإنسان المسجد وخرج الناس من الصلاة ما تجد عليه سفعة الهم ولا الغم.
فيقول: فاتتني صلاة الجماعة في عمري مرة، فما عزاني إلا ثلاثة، ولو مات ابني لعزاني أهل بغداد، والحمد لله أن عزاه ثلاثة، لكن هنا لو تفوته صلاة الجماعة أربعين سنة ما عزاه أحد إلا من رحم ربك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فالأصل في ذلك: {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الإسراء:62] وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116] والمسلم الشاب وغيره إذا عاش بدون حفظ وقت، وبدون تسيير وقته فقد ضل في حفظ وقته.(68/20)
أسباب الضياع
يقول ابن القيم: الضياع على عشرة أسباب، وأعظم ضياع ضياع القلب وضياع الوقت، ولا عوض عنها أبداً، والقلب إذا ضاع فقد انتهى مصير العبد إلا أن يحفظ الله عليه قلبه، والوقت إذا ضاع فقد انتهى العمر ولن يعود عليه أبداً، دقيقة تمر من حياة المؤمن والله لا تعود إليه أبداً:
أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي
إذا ليلة هرمت يومها أتى بعد ذلك يوم فتي
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي
ونسب ابن رجب الحنبلي في كتاب جامع العلوم والحكم للحسن البصري، أنه قال: [[ما أصبح صباح إلا ونادى مناد: يا بن آدم! اغتنم هذا اليوم، فوالله لا يعود إليك إلى يوم القيامة]].
قيل لـ كرز بن وبرة وكان من العباد الكبار: اجلس معنا قال: احبسوا الشمس وأنا أجلس معكم؛ من يمسك الشمس وهي تذهب في فناء الأعمار، واختصار الأوقات؛ لأنها لن تعود مرة ثانية.
يقول ابن عقيل الحنبلي -كما نسب ذلك ابن الجوزي له في صيد الخاطر، وذكر ذلك عنه صاحب طبقات الحنابلة وهو يترجم له- قال: إنه لا يحل لي أن أضيع شيئاً من وقتي، إذا ما أغمضت عيني قبل النوم تفكرت ماذا أكتب في الصباح، وإذا أتيت إلى فراشي لا أنام حتى أكتب ورقات، وإذا استيقظت كتبت، فإذا تعبت استلقيت على ظهري وسبحت الله عز وجل -حتى يتندر ويتلطف ابن الجوزي تلميذه وهو يتحدث عن ابن عقيل، قال: كان يأكل الكعك ولا يأكل الخبز! فقلنا له: لماذا؟ قال: حسبت أن بين أكل الكعك وبين أكل الخبز مقدار خمسين آية، قال: وألف كتاب الفنون وهو ثمانمائة مجلد كلها في أوقات الفراغ والأوقات الخاصة، أما أوقات التدريس وأوقات العبادة فشيء آخر، لكن الأوقات الثانوية الخارجية قد ألف فيها كتاب الفنون ثمانمائة مجلد.
يقول ابن تيمية: إني لأنزل السوق فلا أزال أذكر الله وأسبح حتى يظفرني ربي بحاجتي، وحاجته من الحاجات الأخروية، أو فتح علم حتى يقول: إنها لتعجم علي مسألة فأستغفر الله ألف مرة أو أكثر أو أقل فيفتحها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليّ.
ويروي عن جده عبد السلام؛ لأن ابن تيمية هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام.
يقول الذهبي في ترجمته: أحمد هذا شمس، وعبد الحليم نجم، وعبد السلام قمر، فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة، أي: أن الشمس أحمد بن تيمية هذا، وكان جده قمر، يقول: كان جدي لا يضيع شيئاً من وقته، كان إذا دخل الخلاء قال لأحد أبنائه: اقرأ في الكتاب وارفع صوتك حتى أسمعك وأنا هناك، فأي حرص على هذا الوقت كحرص هؤلاء السلف الأخيار.
ولذلك أنتجوا وقدموا المجلدات التي ما استطعنا أن نقرأها، وهي محققة ومنقحة ومقدمة، وفي الرفوف، ونحن في راحة عظيمة، ولكن لا نستطيع أن نقرأ، فنسأل من الله عز وجل أن يحفظ علينا أوقاتنا.
وهذا العنصر يحتاج إلى كلام طويل وجلسة، لكن لا أريد الإطالة؛ لأن الإطالة معناها الإملال والسأم، وما بقي من الوقت فإن كان هناك حوار أو نقاش أو سؤال فله، وأثني بالشكر على الواحد الأحد الذي وفقنا للاجتماع في هذا المجلس المبارك، ثم أثني بالشكر لمدير هذا المعهد، ولأساتذته ولطلبته، ولكم أيها الحضور، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(68/21)
الأسئلة(68/22)
العادة السرية
السؤال
أما المشكلة الأولى والأزمة التي تواجه الكثير من الشباب فهي قضية شهوة الجنس، والعادة السرية، والشكوى منها، حتى إن كثيراً من الملتزمين أو الذين يخبرون عن أنفسهم أنهم التزموا شرع الله تبارك وتعالى لم يستطيعوا تركها، فما الحل لهذه الأزمة؟
الجواب
الحمد لله؛ إن مسألة شهوة الجنس من أعظم الشهوات التي ابتليت بها الأمم، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قدرها لحكم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر هذا في أكثر من حديث بعدما ذكره الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في القرآن، وأكثر ما تخوفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النساء، فإنها فتنة بني إسرائيل وفتنة هذه الأمة.
فإذا علم ذلك؛ فشهوة الجنس عارمة، وهي تختلف من شخصٍ لآخر بأسباب ومسببات، وبجوامح وبطموحات، ولكن علاجها بأمور منها:
غض البصر وهو أعظمها، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] فغض البصر أعظم ما يمكن أن يعالج به الإنسان شهوة الجنس، فيرد جماحه، وهيجان قلبه، واندفاعه وطموحاته في هذا الأمر والله معه، ومن غض بصره أبدله الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه، وما غض أحد بصره إلا جعل الله له فراسة، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] والمتوسمون هم الذين عندهم فراسة؛ لأنهم غضوا أبصارهم، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل فقال: {غض بصرك، لك الأولى وليست لك الثانية} هذا علاج.
والعلاج الآخر: الصيام؛ ذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للشباب بعد أن ذكره الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في القرآن؛ يقول عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ولم يقل: لعلكم تذكرون أو تعقلون، لأن التقوى سببها الصيام، فهو يكسر النفس ويخضعها ويجعلها منقادة لصاحبها، وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء}.
فأنا أرشد إخواني أن من لم يتزوج أن يكثر من الصوم، بشرط ألا يعطله الصيام عن أمر أوجب منه كطلب العلم، أو الفرائض، أو بعض الأمور المهمة في الدعوة، لكن يكثر من الصيام.
الأمر الثالث: أن يكثر من الذكر؛ لأن هذه الأمور لا تأتي إلا من الفراغ في القلب، فإذا فرغ القلب فكر في هذا الأمر.
والأمر الرابع: أن يشغل نفسه بالنافع المفيد، لأنه إذا وجد فرصة الفراغ وسوس وخطرت له الخطرات.
أما الصحيح في العادة السرية ذكر ذلك ابن تيمية وغيره من أهل العلم، قال: والواجب اجتنابها، واستدلوا على ذلك بقوله سبحانه تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] فحرمت وحرمها كثير من أهل العلم لهذا، ولم يصح في إباحتها ولا في حلها حديث، فليتق الشاب الله عز وجل في هذا الأمر، وليكثر من الذكر وتلاوة القرآن والدعاء خاصة إذا سجد: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) وفي الأسحار وفي أدبار الصلوات، فإذا هداه الله وجهه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وعليه بأن يتخلى ثم يتحلى، فالتخلية قبل التحلية، فهذه المجلة الخليعة سبب من أسباب هيجان الجنس الأغنية الماجنة وجلساء السوء المفاتن كثرة النزول إلى الشوارع والنظر إلى النساء لأن بعض الناس ولو من الشباب المستقيم همه دائماً النزول إلى الشوارع، والطوفان بالبلد، لا لغرض وإنما لأتفه الأغراض، ولو حفظ وجلس في غرفته وقرأ وسبح وهلل لكان أحسن وأقوم سبيلاً، وإذا وجد فراغاً فليذهب إلى المسجد، أو إلى أحد الصالحين، أو أحد الدعاة أو العلماء أو طلبة العلم، هذا ما يحضرني والله أعلم.(68/23)
مجالسة الأمرد والابتلاء بحبه
السؤال
فضيلة الشيخ! إنني -ولله الحمد- شاب مستقيم، ولكني أجلس مع شباب مرد الوجوه، وحاولت أن أترك معاشرة شاب وهو أمرد فلم أستطع، وكلما شاجرته وسببت مشاكل بيني وبينه، يقول: لكني أعود إليه، وأذل نفسي عنده حتى تعود الارتباطات بيني وبينه، وقد نصحت منه ولم آخذ بهذا الكلام، أرجو من الله ثم منكم أن تدلوني على حل، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذا سؤال خطير، وقد ألف في هذه المسألة أبواب كثيرة، ولا يصح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديث الأمرد ذاك، وقد رده ابن تيمية الذي يقول: جعله وراء ظهره.
لكن صح عن السلف أنهم حذروا من النظر والهيجان، والتطلع إلى المحرمات عموماً، ومنها: النظر إلى الأمرد، فالإنسان أعرف بنفسه، والشيطان له مداخل عجيبة على النفوس، فالإنسان مأمور بعموم قوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] فغض البصر يشمل المرأة ويشمل الأمرد إذا وجد، إلا إذا كان الإنسان يجد أن نفسه لا تتحرك ولا ريبة ولا شهوة، والأمرد إنما جعل حراماً لما عليه من سيئات أو ما يتحمل من نتائج سيئة، فهو أدرى بنفسه، وليتق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا كان لضرورة كأن يعلم درس قرآن أو حديث، أو في جلسة أو مركز فعليه أن يغض بصره، وأن يتقي الله، ولا يخلو به؛ فإن هذا أمر خطير.
وأما ما ذكرت وأنك وجدت هذا في نفسك فاتق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وابتعد عنه، وعليك أن تقنعه بهذا الأمر، وإذا حضرت عنده أن تغض بصرك، لأنه لا حياء في الدين، فهذه المسألة ألف فيها رسائل، ونوقشت في مجالس لأهل العلم على مستويات كبيرة من الأئمة الكبار، كـ أحمد بن حنبل فقد كتب وأفتى فيها، والإمام النووي له فتوى، وابن تيمية، فلا حياء في الدين، وقد ذكر الله عز وجل في القرآن ذاك الذنب العظيم الذي وقعت فيه أمة لوط، وسبب التدمير والإبادة التي أوقعها الله تعالى بتلك الأمة، وثنى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وأعاد، فهذا ينتبه إليه، وأنا أقول: على الشباب أن يغضوا أبصارهم، وأن تكون اجتماعاتهم اجتماعات جماعية، ليس فيها خلوة، وأن إذا حضروا في مخيم أو في مكان أن يكونوا على مرأى ومسمع من الناس، ولا يقرب الإنسان من نفسه الشبهة والشك والريبة، فلو سلم منها أحد لسلم منها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الناس قد يتهمون البريء ولو كان من كان.
الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما زارته صفية وخرج يشيعها مر رجلان من الأنصار فأسرعا، فقال: {على رسلكما، إنها صفية بنت حيي -زوجته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! - قالوا: سبحان الله يا رسول الله! قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم} فالإنسان يبتعد عن التهم، وعن مواقع الريب؛ لأن الناس يسرعون إلى الشك والتهمة والله أعلم.(68/24)
مشكلة الغناء والدخان
السؤال
أنا شاب ملتزم -إن شاء الله- ولكني بليت بأشرطة الغناء، ولا أستطيع الصبر عنها، فأفيدوني ماذا أعمل جزاكم الله خيراً؟
مع بيان عقوبة الغناء في الدنيا والآخرة وطريقة علاجه وشكراً؟
والمشكلة الثانية: أطلب حكم الدخان؟
الجواب
الغناء محرم؛ حرمه علماء الإسلام لأدلة منها ظنية ومنها ما يقبل القطع من الأحاديث النبوية، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} [لقمان:6] {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء:64] قال كثير من المفسرين: الغناء، وقال ابن مسعود -ومنهم من رفع هذا الحديث، والصحيح أنه موقوف عليه-: [[والذي نفسي بيده، إن الغناء لينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل]] وعند البخاري: عن هشام بن عمار إلى أبي مالك الأشعري: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف} واستحلالها يكون بعد التحريم، فالذي ظهر أنه محرم، وأن له نتائج وسيئات عظيمة.
منها: أنه يحبب الزنا، قال ابن القيم: الغناء بريد الزنا.
ومنها: أنه يخلي القلب من محبة الواحد الأحد، ومن محبة القرآن والمساجد.
ومنها: أنه يجعل الإنسان ضائعاً يتبع هواه.
ومنها: أنه يعدم عليه وقته.
ومنها: أنه يصب في أذنيه الآنك يوم القيامة وهو الرصاص المذاب.
ومنها: أنه يحرمه الله عز وجل لذة الأصوات، حتى يقول ابن القيم في منظومته:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
فإن من أخذ العود هنا واستمع الغناء حرمه الله سماع لذة الغناء في الجنة، وعند الإمام أحمد في المسند: {في الجنة غوان وجوار، ينشدن ويغنين: نحن الناعمات فلا نبأس، نحن الخالدات فلا نبيد، طوبى لمن كنا له وكان لنا} وهذا جزاء من حرم على أذنيه سماع الغناء، والله يجعل الجزاء من جنس العمل، فمن شرب الخمر في الدنيا سقاه الله من ردغة الخبال من النار، وحرمه الله خمر الجنة التي لا غول فيها ولا تأثيم، وهذا يقاس عليه.
فاعلم أن الغناء محرم، واعلم أنه يجرك إلى سيئات كبرى، وأنه يوقعك في حبائل الشيطان، وفي الفاحشة والجريمة -نعوذ بالله من ذلك-.
وعلاجه أن تتوب إلى الله وتستغفر، وتستبدل أشرطة القرآن والمحاضرات والندوات والخطب، وأن تتقي الله في نفسك، وتعلم أن حياتك وسمعك وبصرك محسوب عليك.
أما المسألة الثانية: الدخان؛ فالذي ظهر من عمومات الأدلة وهي استنباطية من الأدلة ليست نصية حرفية؛ أنه محرم، وبعض الناس لجهلهم بالسنة، وجهلهم بالاستنباط والعلم نصبوا من أنفسهم مجتهدين، الواحد منهم إذا أراد أن يشرب الدخان جعل من نفسه مجتهداً مطلقاً، وقال: ائتوني بآية في القرآن تحرم الدخان أو حديثاً.
عجباً لك!! أتريد أن يكون القرآن قاموساً يتحدث عن كل شيء وقع في الدنيا، فيتحدث عن التفاح والموز والميرندا والبيبسي والدخان؟!
لا.
إن كتاب الله عز وجل كما يقول ابن تيمية والشاطبي وغيرهما: قواعد كلية، وتحت القاعدة تندرج آلاف القضايا، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] فالطيبات عد ولا حرج، كم من طيبة خلقها الله وسوف يخلقها الله تدخل في هذه الكلمة، والخبائث حدها ما ضر في الدين أو المال أو العقل أو العرض والنسب، فهذه الأمور إذا أضرت فهي محرمة، والدخان عرف عند الناس أن فيه ضرراً على المال، وعلى الجسم، وعلى النسل، فهو محرم لهذا الاستدلال فليعلم ذلك.(68/25)
الوسوسة في الصلاة والكسل عن صلاة الفجر
السؤال
من المشاكل التي وصلتنا في الصلاة أن كثيراً من الشباب يشتكون من الوسوسة في الصلاة، والتفكير في أمور خارج الصلاة، وهو في أثناء الصلاة، فما حكم ذلك؟
والمشكلة الأخرى هي عدم استطاعة الشباب القيام لصلاة الفجر؟
الجواب
أما وسوسة الصلاة فهي مشكلة عريقة عظيمة وقديمة من عهد المصطفى عليه الصلاة والسلام، وعند النسائي من حديث عمار: {إن من الناس من يصلي فلا يخرج من صلاته إلا بعشرها} وبعض أهل العلم يجعل الحديث تنازلياً وبعضهم تصاعدياً، بعضهم يقول في رواية الحديث كما عند النسائي: {يخرج من الصلاة وصلاته كاملة، ومنهم من يخرج بنصفها، ومنهم من يخرج بثلثها، بربعها، حتى وصل إلى عشرها}.
وهذه الوسوسة لها أسباب: إما قلة عظمة الله عز وجل في القلب، أو كثرة الشواغل والدواعي والواردات، فإن بعض الناس ترد عليه واردات قبل الصلاة تشغله في الصلاة، وحل ذلك يكمن في ثلاثة أمور:
أولاً: أن تعرف أن الكبير وملك الملوك الذي دخلت بين يديه أولى بالتعظيم ممن تذكر، ومعنى (الله أكبر) أي: من كل مذكور، أو كل ما خطر ببالك، أو كل ما شغلك في الصلاة.
والأمر الثاني: أن تشغل نفسك بتدبر القرآن، فإن كنت قارئاً فتدبر ما تتلو، وإن كنت مستمعاً فعش مع الإمام وهو يتلو عليك الآيات لتشغل نفسك عن الشواغل.
والأمر الثالث: أن تصلي صلاة مودع، وكأنها آخر صلاة تصليها في الحياة الدنيا، ولا تدري هل تعيش بعدها أو تموت.
والناس يختلفون على في هذا درجات.
وشكي إلى أبي حنيفة رحمه الله، فقال له رجل: حفرت لمالي مكاناً وما علمت أين وضعته، قال: قم فصل في الليل؛ فإن الشيطان سوف يذكرك في الصلاة -ما يذكر إلا في الصلاة- فقام الرجل، فلما استفتح بالقراءة بالفاتحة تذكر المال، وقطع الصلاة وفر يبحث عن المال، وليته أكمل الصلاة، لكن خاف أن ينسى بعد الصلاة أين وضع المال.
وأما المشكلة الثانية: مشكلة صلاة الفجر؛ وهذه لها أسباب كسبية من العبد، فالله عز وجل لا ينوم الناس عن الصلاة، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى جعل الأشياء بمسبباتها، فقال في المهتدين: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] وقال في الضُلَّال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] فإن من يسهر السهر الطويل المميت القاتل ثم ينام عن صلاة الفجر، ثم يقول: نام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صلاة الفجر هو وأصحابه، والله المستعان! دائماً يستدل بها، فعلها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرة فيجعلها دائماً ألف مرة.
يقول الغزالي: مثل هؤلاء كمثل أناس سمعوا أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى الحبشة يلعبون الحراب في المسجد مرة في العمر -في تاريخ الدعوة مرة- فأقره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا كلما صلى الصلاة أخذ حربته ولعب في المسجد، وقال اقتداء بالحبشة، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أقرهم!
فالذين يأخذون نوادر المسائل في السنة ويجعلونها اطرادية؛ هؤلاء ضلوا من طريقين: من طريق قلة الفهم، ومن طريقة التعدي بالكسب السيئ في العبادات.
ولنتحدث في صلاة الفجر: كان السلف الصالح يشكون من عدم قيام الليل، أو تأخر قيام الليل، أما نحن فوصلنا إلى أَلا نقوم الفجر، فحله -بارك الله فيكم- أمور ذكرها الغزالي في الإحياء وغيره.
منها يقول: أن يكون لك قيلولة في النهار، رأى الحسن البصري أناساً في سوق البصرة وقت القيلولة لا يقيلون، قال: إن ليل هؤلاء ليل سيئ، ما دام أنه لا ينام في النهار فمعناه أنه سينام في الليل.
ومنها: أن تنام مبكراً، فإن من سهر فإنه سوف يفوته الفجر إلا من رحم ربك.
ومنها: أن تقلل من عشائك، وهذا فيه نظر، وأنت أبصر بنفسك.
ومنها: أن تقرأ الورد الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـ علي وفاطمة في الترمذي: {أن تسبح ثلاثاً وثلاثين، وتحمد ثلاثاً وثلاثين، وتكبر أربعاً وثلاثين، وقال لهما: فهو خير لكما من خادم} فهو قوة بإذن الله لقيامك لليل، وبعض أهل العلم جرب، وقال: إن من قرأ آية الكرسي سبع مرات أيقظه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن توضأ ونم مبكراً واسأل الله عز وجل أن يوقظك.
ثم الوسائل الجديدة، كأن تأخذ لك ساعة موقظة، أو تلزم بعض أهلك بإيقاظك، والله معك.(68/26)
مضايقة الأهل وصعوبة دعوتهم
السؤال
من المشاكل التي تواجه الشباب: قضية علاقة المرء مع أهله، فبعض الشباب يشتكون من مضايقة أهليهم وإخوانهم الكبار، وبعضهم يريد أن يدعو أهله إلى الصلاح، وإلى فعل الطاعات وترك المعاصي، ولكنه يجد في ذلك صعوبة، فما حل هاتين المشكلتين؟
الجواب
أزمة الاختلاف في البيوت موجودة ومشهورة، وقد يكون السبب أن كثيراً من الشباب حينما يهتدون يتحمسون للدين والالتزام فيبدءون مع أهليهم بحدة وعنف، فيريدون أن يطبقوا الإسلام في ساعة واحدة من صلاة الظهر إلى صلاة العصر، ربما أصول الإسلام ما استقرت في أذهان أهله كالصلاة، كأمور الحجاب، كأمور التطلع والاختلاط بالأجانب، كأمور كبرى، فيبدأ هو إذا رأى أخاه يشرب باليسار أقام الدنيا وأقعدها في البيت، وصاح وناح، ويبدأ بإخوانه الكبار في إسبال الإزار، وفي اللفتات والوضوء، ويقول: عليكم أن تبدءوا إذا دخلتم البيت بالدعاء، لأنه ثبت في سنن أبي داود وصححه الألباني، وبدأ بالتصحيح والتضعيف، والتعديل والتجريح، فأقام الدنيا وأقعدها في البيت، وهذا ليس بأسلوب.
أولاً: هم ربما كانوا في غربة ووحشة عن الإسلام الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانثاً: أن التدرج سنة من سنن الله في الحياة حتى في الخلق، فإنه سبحانه تدرج في خلقه، والله عز وجل يستطيع أن يقول للشيء: كن فيكون، لكن تدرج سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في خلق هذا الخلق.
ولما بعث الله الأنبياء نبههم إلى هذا، فقال لموسى وهارون أن يقولا لفرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] وقال عليه الصلاة والسلام لـ معاذ لما بعثه إلى اليمن: {فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله} هل يصح إذا كان إخوانك لا يصلون، أو يتركون الصلاة أن تبدأ معهم بالدعوة، فتقول: ارفع الإزار؟ لماذا لا تربي لحيتك؟
يربي لحيته وهو لا يصلي!! أو يرفع إزاره وهو لا يصلي!! والقضايا قضية قضية، فيبدأ في قضية الصلاة، حتى ينتهى منها، ثم القضية الأخرى وهكذا.
يقول سيد قطب في كتابه في ظلال القرآن: إن هذه الدعوة كشجرة الصنوبر، تعيش نبتة نبتة، ثم تبدو من على الأرض، ثم يصلب عودها، وقد ذكر الله هذا فقال: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] فانظر كيف بدأ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بتدرج الدعوة، أو وصف الإيمان في نفوس الصحابة بهذا الأمر؟!
فعليك أن تكون طويل النفس، وأن تكون صابراً.
ومن الناحية الأخرى فإن كثيراً من الشباب يوم كان سيئاً كان حسن الخلق، فلما اهتدى قطب جبهته وجبينه، ودخل مغضباً، وخرج مغضباً، ودائماً يردد: إنا لله وإنا إليه راجعون حسبنا الله ونعم الوكيل سلط الله عليكم اللهم اجعل تدبيرهم في تدميرهم وحط بهم وزلزهم يا رب العالمين، وهذه ربما تقع، أو شبه هذه، وهذا ليس بأسلوب.
يقول الطفيل بن عمرو الدوسي: {يا رسول الله! طغت دوس فادع الله عليهم، فرفع يديه، فقلت: هلكت دوس؟ قال: اللهم اهد دوساً، اللهم اهد دوساً}.
فالواجب أن يدخل العبد ويقول: اللهم اهد أهلي، اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه، هداك الله يا أخي، أما الكلام النابي المجحف، وتقطيب الجبين، والحرارة الزائدة؛ فإنها تنفر الناس وتبغض، يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] وقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وقال: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].(68/27)
التخلص من قرناء السوء
السؤال
ما هي الطريقة المتبعة لمفارقة جلساء السوء رغم كثرتهم واستهزائهم بمن يرونه محافظاً على الوقت وعدم تضييعه؟
الجواب
أما الاستهزاء؛ فليستهزئ من يستهزئ، فهذا كطنين الذباب لا يأبه به الأخيار، فما تضر أبداً، ولو سلم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أحداً من الاستهزاء لسلم أنبياءه، فقد صح أن موسى عليه السلام لقي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في مكالمة بين موسى وبين رب العزة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فقال الله عز وجل: يا موسى! أتريد شيئاً؟ قال: أريد يا رب أن تكف عني ألسنة الناس، فإنهم يتكلمون في عرضي، قال: يا موسى! ما اتخذت ذلك لنفسي، إني أرزقهم وأشافيهم وأعافيهم، ويقولون: إن لي ولداً، وإن لي صاحبة وأنا الله لا إله إلا أنا ما اتخذت ولداً ولا صاحبة}.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة: {قال الله عز وجل: يسبني ابن آدم، ويشتمني ابن آدم، وما كان له أن يسبني ويشتمني؛ أما سبه إياي، فيقول: إن لي ولداً وصاحبة، وأنا الله لا إله إلا أنا ما اتخذت ولداً ولا صاحبة، وأما شتمه إياي: فيشتم الدهر، وأنا الدهر أقلب الليل والنهار كيف أشاء}.
فهذا في جانب رب العزة تبارك وتعالى، كيف ما سلم من عباده الذين خلقهم حقراء من التراب الذي يوطأ بالأقدام، يخرج كالحشرة، فإذا أبصر وسمع وأكل وشرب بدأ يتكلم في رب العزة تبارك وتعالى؛ يقترح عليه، ويعترض عليه في حكمه، ولذلك موسى عليه السلام كان إذا خلا بدءوا بألسنتهم يهتكون في عرضه، فإذا حضر سكتوا، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69] فلا يزيدك هذا إلا رفعة، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا عنه: ساحر، وشاعر، وكاهن، وسبوه، وهتكوا عرضه، ولكن رفع الله ذكره، وبرأه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فاستهزاء من يستهزئ دليل على حقارته ومذلته ومهانته، وهو في الحضيض، فهو ينظر إليك وأنت في سمو ورفعة، ولا يزيدك إلا ثباتاً واستقامة فليفعل ما شاء، وما عليك ممن شرق أو غرب إذا كنت على الصراط المستقيم.
وهذا حتى عند الأمم الكافرة، يقولون: افعل ما هو صالح، ثم أدر ظهرك لكل جرح سخيف، أو كما قالوا.
أما جلساء السوء، فإذا استطعت أن تؤثر عليهم، فما عليك من الكلام ولو استهزءوا فادخل معهم، مؤثراً بكتاب أو بمقالة أو بمراسلة أو باتصال، لأن الوسائل جدت عند المسلمين، فاستخدم هذه الوسائل.
بعض الناس يستطيع أن يكلم زملاءه بالتليفون أحسن من أن يتكلم إذا حضر، لأنه إذا حضر عرق وضاع الكلام، ونسي الآيات والأحاديث والقصص.
وبعضهم إذا كتب رسالة كتب وحبرها كأنها من رسائل القاضي الفاضل، تصل إلى القلوب.
وبعض الزملاء لا يأتي به إلا الهدايا، فأرسل له شريطاً أو كتاباً، أو اهد له هدية، أو قدم له خدمة، أو ادعه إلى بيتك، هذا إذا أردت أن تؤثر فيهم.
أما إذا جربت نفسك معهم ففر بنفسك وما عليك، والله عز وجل لا يحشرك في زمرتهم، ولا يحشرهم في زمرتك، ولن تحشر في قبورهم، فلكل قبره، ولكل عمله.(68/28)
الخروج من البيت بغير رضا أحد الأبوين
السؤال
إن أمي تمنعني من الذهاب إلى المعهد العلمي لكي أستفيد وأفيد، ولقد جئت إلى هنا ولم توافق، ولكن أبي وافق، وهما منفصلان؟
الجواب
هذه المسألة تمر كثيراً، وفيها تفصيل، إذا منع الوالد والوالدة العمل أو الإذن وهو من عمل الفرائض فلا يطاعون أبداً، ويعصون: {لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق} وإذا منعوا من النوافل ومستحبات الأعمال كطلب العلم، والمشاركة في هذه المجتمعات الطيبة كالمراكز الصيفية والاجتماعات والمحاضرات، ففيه تفصيل.
من أهل العلم من قال: يعصون في الطاعة، وتقدم الطاعة.
ومنهم من قال وهو الصحيح: أن في نوافل الطاعات يقدم طاعة الوالد والوالدة، ففي مثل هذا إن منعتك -مثلاً- من المعهد العلمي، فهذا فيه تفصيل: فإذا كنت تريد الدراسة بالمعهد ومنعتك فلا تطعها، لأن طلب العلم فريضة وواجب، فتذهب وتقنعها بالتي هي أحسن، وتذهب وتدرس وتتعلم ولا عليك.
وإن كانت منعتك من مراكز، أو مخيمات، أو هذه الندوات فلك أن تطيعها حتى تقنعها، فإن اقتنعت فبها ونعمت، وإلا فتجلس معها، ولذلك تساءل الإمام البخاري في كتاب الصلاة، قال الحسن: إذا منعته أمه عن حضور صلاة العشاء فليحضر صلاة العشاء ولا يطعها، لأنها فريضة، ففهم بمفهوم المخالفة أنه لو كان أقل من صلاة الجماعة كان الأمر أيسر، فطاعة الوالدين أعظم، ولكن أقنعها حتى لا تبقى جاهلة بما ينفعك ويقربك من الله عز وجل، وخذها بالتي هي أحسن، علَّ الله أن يهديها.(68/29)
حب الظهور
السؤال
أعاني من مصيبة حب الظهور أمام الناس، فما هو حل هذه الحالة القاصمة؟
الجواب
هذه الأمور التي فطر الناس عليها فيها جوانب تحمد وجوانب تذم، وما جعل الله -عز وجل- خصلة إلا جعل فيها مركباً من مراكب الحق، ومركباً من مراكب الباطل، الكرم وهو كرم من استخدمه في طاعة الله عز وجل كان سبيلاً إلى السعادة وإلى الجنة، وربما كان سبيلاً إلى الرياء والسمعة والتبذير.
الشجاعة تكون نصرة لعباد الله، ونصرة للا إله إلا الله، ولدين الله، وتكون كذلك هجوماً على عباد الله، وتهوراً، وأذية لعباد الله عز وجل، إلى غير ذلك.
يذكر ابن القيم وهو يتكلم عن الأخلاق في مدارج السالكين أن الظهور يمكن أن يوجه إلى الخير، وقد يوجه إلى الشر، غرست في نفسك صفة حب الظهور، وولدت معك فاستخدمها في طاعة الله، واجعل ظهورك يقربك من الله عز وجل، وطلب الشهرة مذموم، وهو من الأمور التي يعاقب عليها العبد إذا كان للشهرة نفسها، أما إذا كان قصدك إعلاء كلمة لا إله إلا الله فأشهر الناس محمد رسول الله وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
وحب الخمول ليس محموداً دائماً، فإن أخمل الناس هم أهل الرهبانية من النصارى، فهم في الصوامع والكهوف، فما حمدوا على ذلك، إذاً فليس كل شيء من الصفات محموداً على إطلاقه ولا مذموماً على إطلاقه، فإذا بليت بهذا فاستغفر الله، واطلب من الله الإخلاص، وليكن ظهورك من أجل إظهار كلمة لا إله إلا الله، ولإظهار الدعوة، ولتنشر هذا الدين ليجعلك الله عز وجل من الشهداء، فـ ابن تيمية استقل المنابر، وحضر المحافل، ودخل على السلاطين، وقاد الكتائب، وحمل لا إله إلا الله والرايات، وحضر المعارك، وهذا من أظهر الظهور، حتى إن ابن كثير في البداية والنهاية نسي التاريخ، ونسي الناس، وأصبح يترجم لـ ابن تيمية من كثرة ظهوره، لكن أخذ ظهوره في ذات الله عز وجل، ولمرضاة الله والإخلاص.
فأنا أنصحك أن يكون ظهورك لذات الله، لكنك تتعوذ بالله من الشيطان، ودائماً تردد في نفسك: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه}.(68/30)
الحداثة
السؤال
ما هي الحداثة؟ وهل الرجل الحداثي مرتد يقتل؟
الجواب
الحداثة طنطنة وشنشنة ودندنة، وكثر التحدث بها، وكثرت الأسماء والألقاب، والحداثة كلمة إن كانت في اللغة فهو الشيء المستجد الجديد، قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2] أي: جديد ما سبق أن سمعوه.
وأهل الحداثة في مفهوم الأدب: هم أناس يدعون إلى الحداثة، بعضهم يقول: الهجوم أو التدمير لكل ما سلف، ويدخل في ذلك الإسلام والكتاب والسنة، وميراث الصحابة، يقول: لا نؤمن إلا بالجديد، كل قديم نفرغ عليه، وهؤلاء ألحدوا في دين الله عز وجل، وحكمهم السيف الأملح الأحمر الأبتر، وعلم من كثير من العلماء أنهم أفتوا بذلك.
ولكن التعميم عرضة دائماً للخطأ.
أما من زعم أن الحداثة معناها أننا نثور على كل قديم ولا نقبله، فهذا حكمه القتل وهو مرتد، إلا أن يتوب ويسلم، ويدخل في دين الله من جديد، وأما من ظن أن الحداثة معناها تغيير قوالب الشعر؛ وأنسجة الشعر، ولكن بغير مساس بالكتاب والسنة والرسالة الخالدة فما عليه، هذه وجهة نظر، وهذا يقبل وله ذلك، ولا يكفر إذا زاد بحراً في البحور الستة عشر، لأنه إذا خالف الخليل لا يكفر، ولا يخرج من أهل السنة والجماعة.
وإذا قال: أريد أن يكون هذا البحر كذا، والقافية تكون كذا، نقول: هذا رأيك ووجهة نظرك، لكن نقول له: لا تتدخل في الدين؛ فدونه خرط القتاد، والسيف الأملح، لا يرضى الله عز وجل ولا رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا المسلمون عامة وخاصة أن تتدخل في هذا، وإن تدخلت فنار تلظى لك في الآخرة، وسيف في الدنيا إذا كان هناك سيف.
ولذلك يقول ابن تيمية وهو يتحدث عن العفيف التلمساني: إن صح عنه ما يقول فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وجزاؤه أن يقتل ردعاً له ولأمثاله، والحداثيون كما سبق لي في بعض المناسبات ثلاثة أقسام.
منهم حداثي ما درى أين يسير؛ فقد سمع الناس يكتبون فكتب، يكتب في البيت، ويرسل لـ عكاظ تنشره، يكفي أن تخرج صورته في الصباح واسمه فلان بن فلان من مدينة أبها، وله قصيدة لا تساوي ريالين أو ثلاثة، فهذا يريد الظهور، وأمره إلى الله تبارك وتعالى، إن شاء عذبه أو غفر له، ويحاسبه الله تعالى.
ومنهم حداثي مجرم عميل ضال -نعوذ بالله منه- فهذا وسوس الشيطان له، ولعب به، ومقصوده هدم الدين، وهذا يتولاه الله في من تولى، ويرديه ناراً تلظى.
وأما الثالث: فمسلم مصلِّ صائم، لكن يحب الشعر الذي لا يكون مقفى، لأنه ما استطاع أن ينسج على المقفى، ما استطاع أن يمسك الراء في ثلاثين بيتاً، فقال: لا، ما دام هذا الشعر بلاش ورخيص؛ فأنا أنظم عليه ليكون شاعراً، فهذا بأجره وبوجهة نظره.
فهؤلاء أقسام ثلاثة: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32] {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:9 - 10].(68/31)
عوامل الاستقامة وحفظ القرآن
السؤال
ما هي الوسائل التي تعين الشباب على الاستقامة؟ وما هي العوامل لتثبيت حفظ القرآن الكريم؟
الجواب
نحن منذ صلاة المغرب ونحن في هذه الوسائل التي تعين على الاستقامة، وأما التي تعين الإنسان على حفظ القرآن فأمور، أذكرها في نقاط:
أولها: تقوى الله عَزَّ وَجَلّ، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].
ثانيها: كثرة الاستغفار، فإن الذنوب تجعل الإنسان لا يفهم ولا يحفظ كثيراً، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لما ذكر: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:48] ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:106] يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: واستغفر الله، قالوا: فمن أسباب الحفظ والفهم كثرة الاستغفار.
ومنها: المراجعة؛ أن تراجع ما حفظت، فإن بعض الناس يتعب فيحفظ ثم يترك المراجعة، ثم ينسى ما حفظ، ثم يبدأ وهكذا، فلا يصلح إلا بمراجعة، ومن أحسن وسائل المراجعة: الشريط، أن تستمعه في سيارتك، وفي بيتك، وأن تسمع قراءة المقرئين في السور وفي الصلاة.
ومنها: أن يكون لك زميل تحفظ معه في أوقات هادئة وطيبة.
ومن أسباب حفظ القرآن: معرفة معاني القرآن (التفسير) فتطلع على المعاني؛ لأنك إذا عشت الأحداث، وعشت تذييل الآيات، وعشت خواتم الآيات حفظته بإذن الله.
بعض الشباب لقلة معرفتهم بالتفسير يأتي إذا أراد أن يختم الآية يقول: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1] ولو فهم المعنى ما ختم بهذا، لقال: لعلكم تسمعون، لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في آيات الليل يذكر السمع، وفي آيات النهار يذكر البصر.
قال الرازي: لأن البصر في النهار هو الآلة، والسمع في الليل هو الآلة، فلو فهم هذا المعنى وتلك النكات واللطائف لأعانته على حفظ هذه المعاني وغيرها، هذا ما يحضرني في هذا الباب.(68/32)
الأكل والشرب مع الكفرة
السؤال
أنا أعمل في إحدى الشركات، وغالب من يعمل في هذه الشركة من الأجانب الكفرة، وأنا آكل وأشرب معهم، فهل في ذلك شيء، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الرسول عليه الصلاة والسلام أكل مع المشركين، وذكر ذلك في أحاديث، ومع المنافقين ومع اليهود، لأنه يدعوهم عليه الصلاة والسلام، فإن كان قصدك الدعوة وقصدك التأثير عليهم فلا بأس بذلك، لأن مقصدك جميل وهذه وسيلة يتنازل بها لما هو أعظم منها.
وأنت إذا أردت أن تدعوهم إلى الله عز وجل فلا يمكن أن تتركهم فلا تأكل معهم، فإذا أتى الأكل تتركهم وتذهب في غرفتك، أو أتى وقت الشرب لا تشرب معهم، وأتى وقت الجلوس لا تجلس معهم، ثم تأتي بعد وقت، وتقول: أدعوكم إلى الإسلام، الإسلام الذي قدمته بأخلاقك لهم، وأنت تجانبهم، وتجافيهم، وتظهر لهم الكره والبغضاء، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما فعل هذا، بل ثبت عنه أنه أكل مع المشركين لأنه داعية.
أما إن كنت رجلاً صالحاً ولست داعية، وليس عندك استطاعة للتأثير، وليس في مقدرتك أن تدعوهم؛ فاجتنبهم في أكلهم وشربهم، وأظهر لهم العزة بالإسلام، واجعلهم صاغرين، ولا تصافحهم، واجتنبهم إلا في حد الضرورة، كأن يكون مرءوسك، ويستطيع الإضرار بك، فلك بحد الضرورة أن تدخل عليه وتسلم وتحيي لأنه يقع عليك ضرر أعظم مما تنازلت عنه، هذا ما يحضرني في هذا.
وأنا أقصد دعوة بأي وسيلة؛ كأن يكون هناك ترجمان، أو تظهر من نفسك الخلق لتمهد الباب لأن تعطيه كتباً فانظر هل من مقصودك أن تدعوه وتؤثر فيه فاعمل بما يليق، وإن كان قصدك أن تعيش في هذه الشركة ولا تدعو فاجتنبه ولا تأكل معه.(68/33)
أسباب السعادة وكيف نحصل عليها؟
إن السعادة في هذه الدنيا هي مطلب كل إنسان؛ ولكن ليس كل من طلب السعادة يجدها؟
هناك من يبحث عن السعادة في المال؛ وهناك من يبحث عنها في الجاه والقوة والسلطان، وهناك من يبحث عنها في الشهرة، وهناك من يبحث عنها في الملذات والشهوات، وفي هذا الدرس بيان لأسباب السعادة، وأنها في طاعة الله وعبادته والعمل الصالح مع شواهد من أخبار الصحابة والتابعين.(69/1)
أهمية موضوع أسباب السعادة
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيرا، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين.
فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
هذه المحاضرة بعنوان (أسباب السعادة وكيف نحصل عليها).
ولأنه موضوع طارئ وجد لبعض الأمور، ولكثرة الأسئلة في هذا الباب، وهو موضوعٌ تجدر العناية به؛ فقد كتب عنه المسلمون والكفار، وتكلم به الخطباء، واعتنى به العلماء والأدباء والشعراء؛ وكانت السعادة هدفاً لكل الأمم مسلمو الأمم وكافروها.
وهذه السعادة هدفٌ يطلبها كل الناس فمنهم من ظن أن السعادة في الملك؛ فسعى في طلبه، وسفك الدماء للحصول عليه، وحاول كلَّ جهده أن يجعل حياته تحقيقاً لهذا المطلب؛ وكان منهم فرعون الطاغية، الذي لما وصل إلى الملك قال: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي.
وظن آخرون أنها في المال فسعوا في طلبه، وبذلوا الأرواح والمهج رخيصةً حتى حصلوا عليه، ولكن ما وجدوا فيه السعادة وكان منهم قارون قال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79].
وظن آخرون أنه في كثرة الأولاد، ومنهم الوليد بن المغيرة قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً} [المدثر:11 - 13] إلى غير تلك المسالك.(69/2)
كتب ومؤلفات عن الموضوع
وأعرف كتباً كثيرة ألفت في هذا الباب -قديمةً وحديثة- وقد تكلم علماء الإسلام عن هذه السعادة وكيف تحصل منهم شيخ الإسلام ابن تيمية في" الفتاوى " وفي غيرها، ومنهم ابن القيم في" مدارج السالكين " وفي" طريق الهجرتين ".
ومن المحدثين الأستاذ/ محمد الغزالي في كتاب " جدد حياتك " وقد جمع هذا الكتاب وأخذه من كتاب دع القلق وابدأ الحياة " لـ دايل كارنيجي.
ومن آخر ما علمت أنه كتب في هذا الباب الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله رحمةً واسعة وأسكنه فسيح جناته.
وألخص ما كتبوا إن شاء الله في بنود وعناصر.(69/3)
قصة علي بن المأمون
ومن القصص عن أهل القرون السابقة القرن العباسي أن علي بن المأمون والمأمون هذا هو الخليفة العباسي الكبير- كان خليفةً من أعلم الخلفاء، لكن علمه ممزوج بالاعتزال والبدعة ما كان علمه سلفياً صافياً، ولذلك اعترض عليه شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: إن الله سيسأل المأمون عما أدخل من الفلسفة في بلاد المسلمين، وهو الذي تزعم القول بخلق القرآن، ونشر هذا المبدأ، وجعل هناك تحالفاً بدعياً مع أحمد بن أبي دؤاد وبشر ومحمد بن جهم وأمثالهم، والشاهد أن ابنه علياً كان أميراً من الأمراء، وكان إذا أصبح الصباح خرج في شرفة القصر -في بغداد دار السلام - وقصور بني العباس كانت تلمع مع إشعاع الشمس من جودتها، وسموها، وسمقها، وورد أنهم كانوا يموهونها بماء الفضة؛ فإذا رأتها الشمس لمعت لمعاناً عجيباً، وبهرجاً غريباً، فكان يشرف على الشرفة -شرفة القصر- وينظر إلى الناس في أسواق بغداد ذاهبين وآيبين من دجلة إلى داخل بغداد، ولفت نظره رجلٌ مسكينٌ فقيرٌ، كان يعمل حمالاً يحمل أكياساً ومتاعاً للناس بأجرة، فإذا أتت صلاة الضحى توضأ من ماء دجلة، ثم صلى أربع ركعات، ثم يعود ليعمل إلى قرب الظهر، فإذا اقترب الظهر ذهب فنام؛ فإذا سمع أذان الظهر قام فتوضأ، ثم ذهب إلى المسجد فصلى، فإذا صلى أتى فأخذ قطعةً من الخبز اشتراها من السوق وشيئاً من البقل، فأتى فغسل البقل في نهر دجلة قريباً من قصر الأمير، وأكل هذه القطعة مع هذا البقل، ثم يقوم ويصلى إلى العصر، ثم يعمل بعد العصر، ثم يأخذ شيئاً ويذهب إلى بيته فأخذ يلمحه طيلة الأيام؛ وما تغير في سيرته، ولا في برنامجه شيء، فلفت نظره! وقال: أهو سعيد أم شقي؟ وما هي نفسيته؟ وأراد أن يتساءل معه؛ فأرسل بعض خدمه إليه
وقال له: الأمير يدعوك.
قال: ما لي وللأمير أنا ما دخلت في حياتي على أمير من الأمراء، ولا أريد شيئاً من الدنيا، أي: ليس عندي من المشاكل، ولا من الطلبات، ولا من الأمور التي أعلمها شيء، وما تكلمت في أمير، وما أظن أنني أعرف أحداً منهم.
قال: إنه يريدك لأمر.
قال: آتيه غداً.
قال: إنه يريدك اليوم فأتى بهيئته، وأسماله البالية، وبثيابه.
وهذه القصة في التاريخ، ومن ضمن من ذكرها صاحب" رجال من التاريخ "، وصاحب" قصص من التاريخ " الشيخ علي الطنطاوي، وهي موجودة؛ لكنه بسطها بأسلوب أدبي، فهو إذا كتب في هذا المجال أجاد وأفاد، فهو صاحب قلمٍ سيال، وقلمه أحسن من لسانه.
فالمقصود أنهم دخلوا بهذا الفقير المسكين على الأمير؛ فأجلسه عنده، فلما رآه قال له الأمير: أأنت سعيد؟ قال: الحمد لله أنا في سعادة ما بعدها سعادة.
قال: أتريد شيئاً من الدنيا؟ قال: لا والله ما أريد شيئاً.
قال: فإني أعرض عليك شيئاً من هذا المال.
قال: أسألك بالله عز وجل إلا تركتني وحالي.
قال: فكن عندنا في قصرنا، قال: لا لا أريد الشقاء، أريد السعادة فيما أنا فيه.
قال: ما هو عملك؟ وما هو دخلك، وأهلك؟ قال: أنا لي زوجةٌ وأخت؛ زوجة مقعدة وأخت عمياء، وليس لي من الدخل إلا ما أقوته في اليوم أذهب في الصباح، فأعمل إلى الظهر، ثم أتغدى بهذه الكسرة التي أجدها من العمل، بعد أن أتوضأ وأصلي الضحى، ثم أنام، ثم أصلي الظهر، وبعدها أصلي إلى العصر، ثم أعمل قليلاً لآخذ إفطاراً لزوجتي ولأختي؛ لأنهما تصومان الدهر.
قال: وهل تخافُ شيئاً؟ قال: لا والله.
قال: هل عليك دينٌ؟ قال: ما عرفت الدَّين.
قال: أعندك مشكلةٌ ترفعها إليَّ؟ قال: ما شاكلت أحداً في حياتي.
قال: ما تريد؟ قال: أن تتركني.
قال: فتركه فنزل.
فلما نزل أخذ الأمير ينظر إليه متعجباً من هذا الصنيع، وفي آخر المطاف أتى هذا الأمير وكان عاقلاً حازماً، فاستدعى بعض المقربين من إخوانه وعشيرته، وقال: إنني سوف أذهب إلى مكان الله أعلم به، فإن تخلفت فأخبروا أبي أنني ذهبت إلى أرض، وأنني بخيرٍ إن شاء الله، فخلع ثيابه في غداةٍ من الأيام، وأخذ خاتماً بيده، وترك أمواله، وأوصى بكل شيءٍ من ذويه، ثم ركب.
قالوا: فنزل واسط وهي بلدٌ في الشمال، فأخذ يعمل، وغير مهنته حمالاً وهذه في ترجمة علي بن المأمون الخليفة العباسي.
وكان يصلي الليل، ويصوم النهار ويقرأ القرآن، وأخذ المأمون يقلب الدنيا ظهراً لبطن عنه، فما وجده، وما ظن أنه سوف يكون حمالاً، يُمر به ولا يعرفه أبداً.
فلما حضرته الوفاة ذهب إلى الذي يعمل عنده، فقال: أنا ابن المأمون الخليفة، فإذا أنا مت فخذ هذا الخاتم، وهذه الدراهم فاشترِ لي بها كفناً، فإنني قد وجدت السعادة في الحياة، وأوصل هذا الخاتم لأهلي.
فلما توفي غسل وكفن من دراهمه وما ترك تركةً، ولا دنياً فقد كان عابداً زاهداً مستقيماً فأتي المأمون بخاتمه بعد أن توفي؛ فبكى وذهب إلى قبره ليزوره، وقال: وجدت السعادة.
وهذه قصةٌ من قصصٍ سوف تمر معنا إن شاء الله، نقلت في التاريخ والسير، ونستعرض الآن أسباب السعادة، وما هي الأمور التي تقرب السعادة للمؤمن؟(69/4)
وسائل وأسباب السعادة
من الوسائل:(69/5)
الإيمان بالله عز وجل
فإن الكافر لا سعادة له مطلقاً بإجماع العلماء والعقلاء، فالكافر لا سعادة له، والفاجر لا طمأنينة ولا سكينة له، كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في المؤمن: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
فالحياة الطيبة في الإيمان والعمل الصالح؛ والناس يتفاوتون بحسب إيمانهم وعملهم الصالح درجات، وبحسبها تكون السعادة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ) [الأنعام:125].
ويتكلم ابن تيمية عن بعض المناطقة الفلاسفة أهل الشك والريبة، الذين شكوا في قدرة الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فأصابهم الله بغمٍ، وهمٍ، وظلامٍ، وقلق، واضطراب، حتى كادوا أن يموتوا.
قيل لأحدهم: بماذا تشعر؟ قال: أشعر أن قلبي ظلمات بعضها فوق بعض.
قالوا: يقول العلماء: ليس لك علاج إلا العبادة.
قال: لا أستطيع العبادة.
وهذا هو الخذلان، والعجيب أن بعض الناس يؤلف في السعادة؛ ولا يدرك السعادة، فإن دايل كارنيجي الأمريكي الذي ألف" دع القلق وابدأ الحياة " الكتاب الذي ترجم إلى تسعٍ وخمسين لغة في العالم، وهو من أكثر كتب الكفار انتشاراً، هذا في آخر عمره أخذ سكيناً ونحر نفسه؛ لأنه ما عرف الطريق إلى السعادة، وما عرف الإيمان، فهؤلاء دلُّوا على طريق العبادة فقالوا: لا نستطيع العبادة، فأعظم الناس سعادةً المؤمن الذي يعمل الصالحات.
وفي صحيح مسلم عن صهيب أنه صلى الله عليه وسلم قال: {عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير؛ إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن}.
قال عمر رضي الله عنه: [[والله ما أبالي أيهما ركبت: مطية الفقر أو مطية الغنى، إن كان فقراً فصبرٌ وأجر، وإن كان غنى فشكرٌ وأجر]].
وقال ابن مسعود: [[والله ما أصبح لي من سعادة، إلا أن أتلمح القضاء والقدر، ففي أي موقع يقع القضاء والقدر فهي السعادة]].
وقال عمر بن عبد العزيز وهو ينظر إلى أبنائه كأنهم الدنانير أمامه: [[والله الذي لا إله إلا هو ما أصبح لي من سعادة إلا في القضاء والقدر، ولو استلب هؤلاء من بين يدي؛ ما شعرت بقلق في أمر الله عز وجل]] ولهذا بلغوا منزلةً عظيمة في الإسلام، ولذلك حاول الناس في الحصول على السعادة، ونجح منهم من حصل على الإيمان.
وبلال رضي الله عنه وأرضاه يوم ذاق حلاوة الإيمان، كان يسحب على الصخور وهو يقول: [[أحدٌ أحد أحدٌ أحد]].
أحدٌ هتفت بها بصوتٍ صارخٍ تثني بقولتها لكل معطل
وهو يوم يسحب على الرمال، ويجر على وجهه، يقول: أحدٌ أحد؛ لأنه ذاق حلاوة الإيمان، وارتفع الإيمان في قلبه إلى درجة أنه لا يشعر بالعذاب.
وخبيب بن عدي أخذوه على مشنقة فرفعوه ثم أخذوا يضربونه بالسيوف، فقالوا له: أتحب أنَّ محمداً مكانك في مكة، وأنك في أهلك ومالك؟ قال: [[والله ما أحب أني في أهلي ومالي، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تصيبه شوكة]] ثم لما رفعوه قال:
ولست أبالي حين أُقتل مسلماً على أي جنبٍ كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أشلاء شلو ممزع
أتي بـ عبد الله بن حذافة الصحابة الشباب -فأخذ أسيراً إلى بلاد الروم فقال ملك الروم: أخرجوا إلي أسرى المسلمين.
فأخرجوه.
قال: هاتوا زيتاً وأغلوه في قدور، فغلوا الزيت حتى أصبح له أزيز في القدور؛ فأمر بالأسرى، وأخذ يوقعهم مكتفين في القدور، فينفصل اللحم عن العظم، فقال الملك لـ عبد الله بن حذافة أتريد أن تعود عن دينك، وأعطيك نصف ملكي؟! قال: والله الذي لا إله إلا هو لو أعطيتني ملكك وملك آبائك وأجدادك على أن أترك دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما تركته قال: خذوه إلى القدور، وألقوه في القدر، فذهبوا به وهو مكتوف الأيدي، فلما رأى الأسارى تغلي بهم القدور وقد انفصل العظم عن اللحم، بكى! فأعادوه وظنوا أنه سوف يذعن لأمر الملك؛ فقال: مالك تبكي؟ قال: والله ما بكيت جزعاً من الموت، وما أتيت أقاتلكم إلا لطلب الشهادة، لكن أبكي لأنه ليس عندي إلا نفس واحدة، وأحب أن لي بعدد شعر رأسي نفوساً تعذب في سبيل الله فعجب منه! قال: لا أُطْلِقُكَ حتى تقبل رأسي، وأطلق معك الأسارى جميعاً -الذي بقي منهم- فاقترب منه، وأوهمه أنه قبل رأسه، وقد تفل على رأسه؛ فأطلق معه الأسارى، فلما وصل إلى المدينة؛ لقيه عمر، فعانقه وعمر يبكي، وقال: حقٌ على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، فقال عبد الله، وكان مزاحاً: أتريد أن يكون رأسي من كثرة التقبيل أصلع كرأسك؟ فقام الناس يقبلونه، وكان أولهم عمر رضي الله عنه وأرضاه (حقٌ على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة.
ودخل ابن تيمية على أحد السلاطين السلاجقة في دمشق، وكان هذا السلطان إما ابن قطلوبك أو سلطان آخر، فقال له ابن قطلوبك يا ابن تيمية: الناس يقولون: إنك تريد ملكنا، وملك آبائنا وأجدادنا، فضحك ابن تيمية -ضحك المستعلي الشجاع المتحدي- وقال: والله الذي لا إله إلا هو ما ملكك وملك آبائك وأجدادك يساوي عندي فلساً، إني منذ عقلت رشدي أريد جنةً عرضها السماوات والأرض فلما سجنوه؛ أخذه السجان فأغلق عليه باب السجن، فتبسم ابن تيمية، وهو يقول: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} ثم يقول: " ماذا يفعل أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري -القرآن والذكر والتسبيح والتهليل والمناجاة- أنا جنتي وبستاني في صدري، أنّى سرت فهي معي، أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة، ثم قال: المأسور من أسره هواه والمحجوب من حجب عن ربه ".
يقول القاضي الزبيري:
خذوا كل دنياكم واتركوا لي فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
وسعيد بن المسيب سيد التابعين، والإمام الكبير للسُنة في عهد التابعين، الذي كان من أعظم عباد الله عبادة، بقي يبكي في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام من كثرة التلاوة والعبادة حتى ذهبت عينه اليمنى، فقالوا: نخرج بك إلى العقيق -والعقيق وادٍ وارف الظلال، وبستان أخضر حول المدينة - علَّ بصرك أن يعود إليك، ثم قال: أتخرجون بي لتفوتني صلاة بألف صلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا والله، ما بقي لي من لذة إلا البكاء من خشية الله، وإلا المشي في الظلمات!!
وقال: [[الحمد لله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الإمام، وما نظرت إلى قفا إنسان غير الإمام أربعين سنة]].
كان رضي الله تعالى عنه وأرضاه سعادته في سماع الأذان! أتته سكرات الموت، فتلي عليه حديث من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: أجلسوني.
قالوا: أنت في سكرات الموت.
قال: سبحان الله! يذكر الحبيب ولا أجلس، وأنا مضطجع والله لأجلسن فأجلسوه، ثم أضجعوه، فمات رضي الله عنه وأرضاه.
ولذلك قال إبراهيم بن أدهم وكان زاهداً عابداً، وما كان يجد إلا كسرة الخبز قال: نحن في عيش لو علم به السلاطين لجالدونا عليه بالسيوف، يعني عيش السعادة، والاطمئنان، والإيمان والرضا بما عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فمن لا إيمان له، ولا عمل صالح فهو في عيشةٍ ضنك، ولو ملك من القصور ما ملك، من الدور ومن العمارات والفلل والمناصب ومن الأموال فوالله إنه في ضنك، وفي عنت، وفي مشقة! لأنه ما اهتدى إلى طريق الإيمان.(69/6)
العمل الصالح
ومن أسباب السعادة: العمل الصالح:
فعمل الصالحات هو من أكبر الأمور التي تحصل لك السعادة، وهي قرة العين، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر قال: {أرحنا بالصلاة يا بلال!} وكان يقول: {وجعلت قرة عيني في الصلاة} يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] قال سيد قطب رحمه الله: إذا انتهى مدد الصبر وطاقة الصبر أتت الصلاة لتكون معيناً وطاقةً وزاداً، فالصبر ينتهي، ولكن تزيده الصلاة.
وفي ترجمة الحافظ ابن حجر أنه خرج للنزهة، فطوقه لصوص يريدون سلبه وقتله، فتوضأ وقام يصلي، فتبدد اللصوص وخافوا وهربوا، فلما سلم قال له تلاميذه: مالك هربت إلى الصلاة.
فقال: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45].
ولذلك كان عباد الله يفزعون إلى الصلاة، ويفرون إلى طاعة الله إذا حزبهم أمر.
ومن أعظم ما يسهل الخاطر، ويزيل الهموم والغموم عمل الصالحات -كما قلت- ومن أجلِّها: الصدقة، وجرب ذلك.
مَرضَ كثير من الصالحين فتصدقوا، فكشف الله مرضهم؛ وأصابتهم كرب فتصدقوا، فأزاح الله كربهم؛ ولذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مثل البخيل والمتصدق مثل رجلين عليهما جبتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما، فكلما هم المتصدق بصدقته اتسعت عليه حتى تعفي أثره، وكلما هم البخيل بالصدقة انقبضت كل حلقة إلى صاحبتها، وتقلصت عليه وانضمت يداه إلى تراقيه، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: فيجتهد أن يوسعها فلا تتسع}.
والبخيل بالمال، والبخيل بالجاه، والبخيل بالبسمة وبالكلمة الطيبة من أضيق الناس نفساً، ومن أسوئهم خلقاً، ومن أقلقهم حياةً؛ لأنه ما عرف سبيل السعة.
ولذلك كان الكرماء أوسع الناس صدوراً، وجرب ذلك! فإنك لا تفعل خيراً للمسلمين إلا ويرزقك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى سعةً في الصدر، فإنه غفور شكور -سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- غفور يغفر الذنب، وشكور يشكر على الحسنات في الدنيا والآخرة.(69/7)
الرضا بالقدر
ومن أسبابها كذلك الرضا بالقضاء والقدر:
ذكر عن ابن قتيبة أنه قال: ما كان يتسلى الجاهليون في جاهليتهم وأهل الشرك في شركهم إلا بالقضاء والقدر، تموت ناقة المشرك فيقول: قضاء وقدر، يموت ابنه فيقول: قضاء وقدر.
قال بعض العلماء: من يؤمن بالقضاء والقدر يتسلى بأجر! وقد قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد:22 - 23].
وهذا عروة بن الزبير وكان عابداً زاهداً من العلماء والفقهاء السبعة، فقرروا قطع رجله من الفخذ، فقالوا: نسقيك كأساً من الخمر علَّ عقلك أن يذهب، فقال: والله لا أذهب عقلاً منحنيه الله، ولكن إذا توضأت ودخلت في صلاتي وناجيت ربي؛ فاقطعوا رجلي فلما دخل في الصلاة، أخذوا المناشير فبتروا رجله، فإذا هو مغمىً عليه! وبقي يوماً كاملاً، فلما استفاق، قالوا له: أحسن الله عزاءك في رجلك، وأحسن الله عزاءك في ابنك؛ فقد رفسته دابة من دواب الخليفة فمات فرفع طرفه وقال: اللهم لك الحمد! إن كنت أخذت فقد أعطيت، وإن كنت ابتليت فقد عافيت أعطيتني أربعة أبناء وأخذت ابناً واحداً، وأعطيتني أربعة أطراف، وأخذت طرفاً واحداً، فلك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
يقول وهو يتمثل:
لعمرك ما مديت كفى لريبةٍ وما حملتني نحو فاحشةٍ رجلي
ولا دلني فكري ولا نظري لها ولا قادني سمعي إليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبةٌ من الله إلا قد أصابت فتىً قبلي
ومرض عمران بن حصين أحد الصحابة الأخيار ثلاثين سنة، فما شكى ولا بكى ولا تذمر، حتى كانت الملائكة تصافحه عند السحر بأيمانها وهذا في الإصابة لـ ابن حجر.
ومرض أبو قلابة حتى قطعوا أطرافه الأربعة، أصابه مرض الآكلة في أطرافه -في رجليه ويديه- حتى قطعوها، وكان يتبسم حمداً لله وشكراً!
قال ابن الجوزي في" صفة الصفوة " مروا بمولى أسود وهو مريض، وهو في زقاق من زقاق المدينة المنورة، وهو يتبسم، فقال له الناس: نمر عليك وأنت تذكر الله وتتبسم وأنت في مرض وفي حالة لا يعلمها إلا الله، فقال: أنا في سعادة، وكلما أصابني قليل بجانب الإيمان الذي أعطانيه الله عز وجل والعمل الصالح.
وذكروا عن أيوب عليه السلام أنه لما ابتلي بالمرض في جسمه قال: اللهم أبق علي قلبي ولساني، قلبي أشكرك به، ولساني أذكرك به فكل شيءٍ دخل فيه المرض إلا لسانه وقلبه، فما كان لسانه يفتر من ذكر الله، وما كان قلبه يفتر من شكر الله.
الرضا بالقضاء والقدر، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن:11].
قال ابن عباس رضي الله عنه: [[هو العبد تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم؛ فيهدي الله قلبه]].(69/8)
الإحسان إلى الناس بالقول والفعل
ومن أسبابها الإحسان بالبسمة، وبلين الكلمة، والشفاعة الحسنة، والصدقة، والبر، والصلة، والزيارة، وبمساعدته بأي نوع من المساعدة كلها تدخل عليك الطمأنينة، في الدنيا، وقد سلف شيء من هذا.(69/9)
النظر في الدنيا إلى من هو أدنى
ومن أسبابها: النظر إلى من هو دونه في الحظوظ الدنيوية؛ لأن الحياة قليلة وزهيدة.
قالوا: " الحياة قصيرة، فلا تقصرها بالهموم والغموم ".
قال: هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي، لأحد أصحابه: ما رأيك نعد الأيام التي سعدنا فيها، ولم يأتنا أمر مكدر فعد الأيام -وكان عمره ما يقارب ستين سنة- فما وجد فيها إلا ثلاثة عشر يوماً ذكر ذلك الذهبي، قالوا: عدوا أيامه في حياته التي سلم فيها من الهم والغم والكدر؛ فما وجدوها إلا ثلاثة عشر يوماً، وأما البقية فكانت هماً وغماً وكدراً فالحياة قصيرة، فلا تقصرها بالهم والغم والكدر.
فمن أسباب السعادة النظر إلى من هو دونك في الحظوظ الدنيوية فلا في الحظوظ الدينية، لا تنظر إلى من هو دونك في الدين والاستقامة، وقيام الليل، وتلاوة القرآن، والعلم، والتحصيل، والذكر، والصيام، بل ينبغي أن تنظر إلى من هو فوقك؛ لكن انظر إلى من هو دونك في الرزق والمال والصحة والسكن والمعيشة، لترى نعمة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليك ولا تزدريها.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:20 - 21].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35].(69/10)
السعادة في طاعة الله
استدعى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه سعيد بن عامر أحد الصحابة الفقراء الشباب المجاهدين العُبَّاد، وما كان له من المال شيئاً كان له صحفة يأكل ويغسل منه ثوبه؛ وعنده إبريق يغتسل فيه، ويتوضأ فيه؛ وعنده عصا، وعنده شملة يفترشها؛ فاستدعاه عمر وسعيد بن عامر هذا من المهاجرين الكبار، قائم لليل صائم للنهار، فاستدعاه عمر، وقال له: [[يا سعيد بن عامر: إني فكرت في أمر حمص وحمص بلدٌ في الشام في سوريا، وفكرت من أولي عليها أميراً، فما وجدت إلا أنت، فقد أرسلتك عليها أميراً.
قال: يا أمير المؤمنين اعفني، لن أتولى، فدمعت عين عمر، قال: تجعلون الخلافة في عنقي، ثم تتركونني، وتتركوها لي، والله لتعينني عليها قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأرسله أميراً، ثم أعطاه عطاءه- لا أدري ثلاثة آلاف درهم، أو ثلاثة آلاف دينار- فأخذ هذا العطاء، وجمع بعض المال معه، وقال لزوجته: ما رأيك في هذا المال نعطيه شريكاً يعطينا، في الدرهم عشرة دراهم وزيادة، فقالت: وهل تجد من يعطيك هذا، قال: نعم، قالت: هذا مالي مع مالك وتاجر فيه ما دام أنه يعطينا ضعفه؛ فأخذه فأنفقه في سبيل الله مرة واحدة، ثم ذهب بصحفته وشملته وإبريقه وعصاه، ووصل إلى أهل حمص ودخل عليهم في نسك وخشوع لا يعلمه إلا الله، فلما رأوه قالوا: من أين أتيت؟ قال: من المدينة، مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، قالوا: هل رأيت أميراً، أرسله عمر سمعنا أنه سوف يصل، قال: هو أنا، قالوا: لست أنت أميرنا، وما هيئتك أنك أمير! قال: إن شئتم أن أدخل دخلت المدينة، وإن شئتم أن أخرج خرجت، قالوا: ادخل؛ فدخل، فاستمر في إمرته فما مرت الأيام حتى جلس عمر بن الخطاب يتتبع أخبار الأمراء، وكان يحاسبهم كل سنة والعصا بيده.
فكان يجمع عوام الناس وأعيان الناس وأعيانهم وعلمائهم وكبراءهم، ويجمع الأمراء، فلما سأل عن سعيد قال: ماذا تنقمون عليه، وماذا ينقم عليكم؟! فقالوا: يا أمير المؤمنين والله ما أخذنا عليه شيئاً، فقد كان من أحسن الناس سيرة وجهداً وعبادة، إلا أربعة أمور، قال: ما هي؟ وقال عمر في نفسه: اللهم لا تخيب ظني فيه، فإني ما علمته إلا من خيرة أصحاب رسولك صلى الله عليه وسلم، قالوا: أما الأمر الأول فما يخرج إلينا حتى يتعالى النهار فيجلس إلينا أي ما يخرج إلينا إلا ضحى.
وأما الأمر الثاني: فإن له يوماً في الأسبوع لا نراه ولا يرانا.
وأما الأمر الثالث: فإنه يغمى عليه أحياناً فيصرع في مجالسنا.
وأما الأمر الرابع: فلا يخرج إلينا في الليل مهما طرقنا.
فقال عمر: أجب عن نفسك يا سعيد! قال: اعفني يا أمير المؤمنين! -لا يريد أن عمله وأوراقه تعلن أمام الناس- قال: والله لتجيبن قال: اللهم إنك تعلم أني ما قمت رياءً أما قولهم: إني لا أخرج حتى يتعالى النهار، فأنا رجلٌ امرأتي مريضة منذ سنوات، فأنا أصلح طعامي، وأجهزه وأهيئه، ثم أفطر، ثم أكنس البيت، ثم أخرج إليهم.
قال: هذه واحدة -ودموع عمر تسيل على لحيته- قال: والثانية؟ قال: أما قولهم: لا أخرج بليل فقد جعلت النهار لهم، والليل لربي، فما أصلي العشاء، إلا وأقوم وأتنفل حتى صلاة الفجر، قال: واليوم الذي لا تخرج فيه؟ قال: وأما اليوم الذي لا أخرج فيه؛ فليس لي خادم وامرأتي مريضة، فأنا أغسل ثيابي وثياب أهلي يوماً في الأسبوع.
قال: وما لك تصرع ويغمى عليك في المجلس؟ قال: يا أمير المؤمنين! إني حضرت قتل خبيب بن عدي في مكة، وأنا مشرك يوم قتل خبيب بن عدي فحضرت قتله، فلما رفع التفت إلينا جميعاً، وقال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحدا، فما ذكرت ذاك الموقف لأني ما نصرته إلا أغمي عليَّ، فبكى عمر حتى كاد يغمى عليه، وقال: [[الحمد لله الذي لم يخيب ظني فيك]].
ذاك الطراز الرفيع الذي أخرجه عليه الصلاة والسلام، من مثل هذا الرجل فرضي الله عنهم، وأرضاهم، وألحقنا بهم في دار كرامته.(69/11)
السعادة ليست بالمال
دخلوا على أبي ذر وهو في سكرات الموت، وهو يبكي، فقالوا: مالك؟ قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن وراءنا عقبةً كئوداً، وأنه لا يتجاوزها إلا المخف وقد جمعت الدنيا فالتفتوا فما رأوا إلا قعباً وصحفةً وشملةً في بيته.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر:15] ومعنى الآية أن بعض الناس إذا أراد الله أن يبتليهم ويمتحنهم أغدق عليهم المال فقال هذا الإنسان -من جهله بالله- أكرمني بكرامتي عنده، وهذا ليس بصحيح! فقد يكون من أفجر الناس، ومن أخبث الناس؛ ولكن يعطيه الله المال فتنة.
وبعض الناس يبتليه الله بالفقر، فيقول من قلة قيمتي واعتباري عند الله؛ ابتلاني بالفقر، وهذا ليس بصحيح! فقد قد يكون المرء من أتقى الناس، وأعظمهم وأرفعهم، ولكن ابتلاه الله بالفقر ليرى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى صبره.
يقول المتنبي:
وفي الناس من يرضى بميسور عيشه ومركوبه رجلاه والثوب جلده
ولكن قلباً بين جنبي ما له سوى المجد مجد الأكرمين يحده
يحاول أن يكسى ثياباً ترفه فيختار أن يكسى دروعاً تهده
وتعالوا إلى المتنبي هذا الذي طنطن ودندن وأشغل الناس بهذه الهمة العالية.
يقول ابن الجوزي: عجبت للمتنبي هذا الذي يقول: أنا مطامحي عظيمة وأنا أريد شيئاً وحتى يقول:
وكل ما خلق الله وما لم يخلق مستصغرٌ في همتي كشعر في مفرق
أو كما قال!
أي أن البشرية كلها شعرة في مفرقة، وكان يقول:
أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود
فما هو مطلبه؟ المطلوب هو الإمارة، حتى يقول لـ كافور:
ليعلم قوم خالفوني وشرقوا وغربت أني قد ظفرت وخابوا
قال ابن الجوزي: خاب وخسر! والله إنها من أخس المطالب في الحياة، وإن الذي لا يطلب رضا الله فليس له من همةٍ في الحياة أبداً، وعجيب أن يطلب هذا الهمة ثم يقع فيما وقع عليه.(69/12)
السعادة ليست في القوة والسلطان
أبو مسلم الخرساني قتل ألف ألف -مليوناً من المسلمين- حتى تولى السلطان، ثم ما أمهله الله، فما بقي إلا سنوات فأخذه أبو جعفر المنصور، فذبحه كما تذبح الشاه.
وذهب الحجاج بن يوسف فقتل مائة ألف، وقتل العلماء، وأهان الصحابة، ثم ابتلاه الله بمرض، فكان يخور كما يخور الثور.
وأتى الوليد بن يزيد الفاسق فأخذ المصحف -وهو خليفة أموي كما يقول ابن كثير - فأخذ يضرب المصحف ويهجوه، ويتكلم فيه، فطورد حتى أُدرك، فأخذوا جلد حمار فأحرقوه في جلد الحمار: (وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) [إبراهيم:45 - 46] وحضرت الوفاة الخليفة المعتصم وهو العسكري الكبير وهو من أشجع الخلفاء فاتح عمورية الذي يقول فيه عمر أبي ريشة:
رب وا معتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
أدركته الوفاة وهو فوق الأربعين، وظن أنه سوف يبقى إلى الثمانين؛ فلما حضرته الوفاة وكان العلماء بجانبه قال: أموت اليوم؟ قالوا: نعم تموت فقال للطبيب: انظر إليَّ -ذكر ذلك عبد الحق الأشبيلي في تذكرته.
كأنه يقول: غير معقول هذا! أنا شاب، فقالوا: ولو كنت شاباً فأخذ يبكي، ويتخبط بالأرض، ويقول: والله لو كنت أعلم أني أموت في شبابي؛ ما فعلت الفعل الذي كنت أفعله سبحان الله! يكون الناس في غفلة، فإذا ماتوا انتبهوا.
يبقى الإنسان في سكار وفي غفلة، وفي إعراض؛ فإذا نزل به الموت؛ انتبه كأنه قام من النوم ولذلك كثير من الشباب -إلا من رحم الله- يرى أنه لا يموت، لماذا؟ لأنه شاب، فكيف يموت وهو شاب؟!
وكثير من الأغنياء من السلاطين لا يرى أنه سيموت - نسأل الله العافية والسلامة- وهذا هو الغرور.
تنبهوا يا رقود إلى متى ذا الجمود
فهذه الدار تبلى وما عليها يبيد
الخير فيها قليل والشر فيها عتيد
والبر ينقص فيها والسيئات تزيد
فاستكثر الزاد فيها إن الطريق بعيد
وهذا هارون الرشيد أدركته الوفاة وهو في طوس وقيل طرطوس، فلما أدركته الوفاة؛ نزل في غدير، فرأى سمكةً كأنها خنجر فمد يده؛ فتسمم جسمه، فقال: أخرجوني للجيش، فأخرجوا الجيش له، وهو في سكرات الموت، فبكى حتى بكى الناس، وقال: يا من! لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه.
وهارون هذا هو ابن المهدي بن أبي جعفر المنصور، وكان يخرج في الشرفات، فإذا رأى السحاب تحداها وقال: أمطري حيث شئتِ فإن خراجك سوف يأتيني.
يقول: سيري حيث أردتِ في أي أرض هطلتِ، فإن تلك الأرض أنا أحكمها، لأنه يحكم إلى مشارف أسبانيا، وإلى السند وإلى طاجكستان.
فبنى هارون الرشيد قصراً فأدخل عليه الناس يهنئونه العلماء، والوزراء، والأمراء، والشعراء، فدخلوا جميعاً، يهنئونه ويمدحونه فهو الخليفة، ودخل في آخرهم أبو العتاهية، -وهو شاعر الزهد والحكمة- فوقف أمامه، فقال هارون الرشيد: ماذا تقول فيَّ وفي القصر يا أبا العتاهية؟ قال:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
قال: ثم ماذا؟
قال:
يجري عليك بما أردت مع الرواح أو البكور
يعني تأتي عليك الأمنيات والمسرات، مع الرواح مع البكور، قال ثم ماذا؟ فرفع أبو العتاهية صوته يبكي وقال:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور
فبكى حتى نزل من على سريره.
نور الدين محمود زنكي من أعدل الحكام في الإسلام.
يقول ابن كثير عنه في البداية والنهاية: " رحم الله تلك العظام! أمر جنوده إذا انتصف الليل أن يضربوا له بالصولجان، فيقوم هو وذريته وأزواجه وبناته، فيصلون حتى الفجر، وكان كثير الصيام وكان متجهاً إلى الله من أعدل العدول في الأرض، وقد ذكروا في ترجمته أنه رأى في المنام أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: أنقذني يا محمود! فقام فزعاً من الليل، فتوضأ وصلى ركعتين، ثم عاد فنام، قال: فرأى الرسول عليه الصلاة والسلام في صورته يقول: أنقذني يا محمود! فتوضأ وصلى، ثم عاد فنام، فرآه عليه الصلاة والسلام يقول: أنقذني يا محمود! وإذا برجلين عليهما من الشعرة والهيئة كلبس المغاربة.
فقام في الصباح، فجمع العلماء وسألهم، فقالوا: كأن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم يؤذى، أو كأنه يحفر حوله، وكأنه يؤذى في روضته عليه الصلاة والسلام، فأدرك الروضة.
فاستنفر الجيش من دمشق، جيشاً عرمرماً وكان هو قائد الجيش، وجعل القواد على الميامن والمياسر في الكتائب، ودلف حتى وصل إلى المدينة، وطوق المدينة، ثم عمل مأدبةً عظيمةً لأهل المدينة، وقال لا يتخلف عنها أحد، ومن تخلف عنها ضربت رأسه.
فذهب الجنود يحضرون الناس من بيوتهم للمأدبة خارج المدينة، وبسطت السفر، ومدت بالأطعمة؛ فلما أصبح الغداء، سأل جنوده: هل تخلف أحد؟ قالوا: ولا أحد، قال: ولا أحد! قالوا: ما تخلف إلا رجلان في المسجد النبوي، يذكران الله يقولان: لا يريدان الحضور، ولا يريدان الطعام فقد سئماه فخشينا من إحضارهما وإحراجهما، فتركناهما قال: عليَّ بهما.
فأُتي بهما، وإذا هما اللذان رأى في المنام، فجلدهما على رءوسهما وقال: ماذا فعلتما بقبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فاعترفا، فقالا: نحن نصارى أتينا من عكا، وركبنا القوارب إلى جدة وقد أعطانا ملك عكا -وكان نصرانياً تابعاً لملك فرنسا الذي زحف بالزحوف الهائلة- وأعطانا مالاً هائلاً لحمل الجثمان إلى القارب في جدة، ثم أخذه إلى عكا.
قال: وهل حفرتم؟ قالوا: نعم نمد البساط في النهار ونجلس عليه ونحفر في الليل، وقد قاربنا القبر فأمر بهما فضربت رءوسهما على مداخل ثنية الوداع في الميمنة والميسرة، وعلقا بأرجلهما وتقدم ورأى القبر قد قارب؛ فصبه قيل برصاص وقيل بفضةٍ رضي الله عنه ورحم الله تلك العظام.
نور الدين هذا كان في حفل عسكري يتهيأ لفتح بعض البلاد، فأعجبته نفسه، كانت الخيول تمر آلافاً مؤلفة وكانت القادات والأعلام أمامها، فأتى أحد العلماء فلبس لباساً، من لباس الزهد، ودخل بيته وتوضأ وصلى ركعتين وقال: اللهم افتح لي قلب هذا الملك، ثم أتى ووقف أمامه بالعصا، وقال: عندي كلمات يا نور الدين محمود! قال: تكلم، قال:
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إن قيل نور الدين جاء مسلِّماً فاحذر بأن تأتي ومالك نور
حرمت كاسات المدام تأففاً وعليك كاسات الحرام تدور
إلى أن يقول:
يوماً يشيب لهوله الولدان من خوفٍ ويأكل عظمه المجبور
هذا بلا ذنبٍ يخاف لهوله كيف المصر على الذنوب دهور
فسقط مغشياً عليه على الأرض من البكاء، ثم أمر بقطع هذا المهرجان، وكان هذا هو الدخول إلى القلوب التي ما وعت إلا بهذه الحكم، وهذه الاستطرادات من الوعظ من نثر وشعر.(69/13)
حفظ الوقت
هذا الذي أخفقنا فيه إلا من رحم الله، حفظ الوقت، الساعات الطويلة تمر علينا بلا استثمار بلا تلاوة وبلا تسبيح وبلا مطالعة في الكتب وبلا سماع للشريط الإسلامي وبلا جلوسٍ مع طلبة العلم، وبلا زيارة للأخيار؛ كل هذا نشكو حالنا فيه إلى الله.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115 - 116] وقال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ}.(69/14)
قصر الأمل
ويعلق على هذا دايل كارنيجي (يومك يومك) فيقول: " لا تعش إلا في حدود يومك " لكن أغنانا الله بما عندنا عن بضاعتهم؛ وبضاعتهم مزجاة وميراثنا يغنينا ويغني غيرنا.
هو يقول: يومك يومك، عش في حدود يومك، قال محمد الغزالي في كتاب جدد حياتك: يغني عن هذا قوله عليه الصلاة والسلام -رفع هذا الحديث مرة ووقف عن ابن عمر - {إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح}.
وفي بعض الآثار: {صلوا صلاة مودع} ونحن لو عشنا في حدود اليوم، لكثرت أعمالنا، ولعظمت موازيننا عند الله عز وجل ولجدينا واجتهدنا في أعمالنا إذا عرفنا أننا سوف نموت.
قال السعدي في الوسائل المفيدة للحياة السعيدة:
الاشتغال بالماضي حمق وجنون، والاشتغال بالمستقبل من السخف، نحن نجني للمستقبل، لكن نشتغل بالماضي فتجد بعض الناس حزيناً، دائماً حزين، تقول له: مالك؟ قال: أخطأت قبل شهر، تكلمت مع فلان في كلمة فأخطأنا فيها؛ قضى الله واستغفر! وتجد الآخر ذاته حزيناً، مالك؟ قال: ماتت ناقتي قبل ثلاث سنوات.
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
قال أهل التربية: " الاشتغال بالماضي تفويت للحاضر الحاضر " وأكثر ما هد الشباب هذه الهواجس والخواطر، حتى تبلغ إلى درجة الجنون.
ولذلك يقول كارنيجي: المستشفيات في أمريكا وجد أن أكثر من نسبة (80%) من الهواجس لا حقيقة لها وأنها أوهام.
ولذلك لما قل الإيمان، وقلت تلاوة القرآن عند كثير من الشباب، وقلَّ الاستغفار، والذكر، وقيام الليل؛ أتت هذه الهواجس والخطرات حتى وصلت إلى درجة الجنون، ولا يمكن التخلص منها إلا بأن نعود إلى الكتاب والسنة، ثم نأتي إلى قصر الأمل فنعيش في حدود اليوم.
{إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح}.
وقد ذكر الذهبي أن ثلاثة من السلف كانوا يوصفون بقصر الأمل، قيل لأحدهم: ما بلغ من قصر أملك؟ قال: والله ما دخلت في صلاة إلا ظننت أني لا أصلي الصلاة الأخرى، قال له صاحباه وهما يحاورانه: أنت طويل الأمل، قالوا للثاني: وأنت، قال: والله ما رفعت لقمةً إلا ظننت أنها لا تبلغ فمي حتى أموت، قال: طويل الأمل.
وأنت أيها الثالث قال: ما خرج نفس من أنفاسي إلا ظننت أنه لا يعود إلا وقد توفيت.
وهؤلاء بلغوا في قصر الأمل مبلغاً عظيما ً، وهو الذي مدحه عليه الصلاة والسلام.
قيل للإمام أحمد: كيف يُحصل على قصر الأمل؟ قال: " هو توفيق من الله " أي ما يوفِّق إليه إلا الله؛ ولذلك تجد بعض الناس طموحاته أكثر من عمره بكثير، ولو تيقن أحدنا أنه لا يعيش إلا سنتين وسوف يموت بعدها قطعاً لرأيت من اجتهاده وعباداته وأذكاره وسموه وأخلاقه ما الله به عليم.
فاستحضر أنك سوف تموت لا محالة.(69/15)
كثرة الذكر
ومن أسباب السعادة: كثرة ذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ودعائه ومناجاته واللجوء إليه: وإذا أردت أن تعرف المؤمن من غير المؤمن، أو زيادة الإيمان ونقصه عند الناس، فانظر إلى يديه، وإلى أذكاره، ولسانه، وشعوره، وإلى اتصاله بالحي القيوم، فإذا رأيته دائماً يقول: يا رب! يا حي يا قيوم! يا الله! أسألك التوفيق.
وإذا رأيته دائماً في التسبيح، والاستغفار، والمناجاة، والابتهالات، وإذا رأيت لمحاته ترتفع دائماً إلى الحي القيوم؛ فاعرف أنه مؤمن.
أما إذا رأيت الإنسان مغفلاً، مصمتاً، مغلقاً عليه يذهب سبهللاً، ويأتي سبهللاً، فاعرف أن قلبه مات! صحيح أن قلبه موجود، لكنه كتلة لحم، ميت ليس فيه حراك.
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرحٍ بميتٍ إيلام
إن ميزان العبادة الذكر، وإن ميزان قوة الإيمان الذكر، فأنا أوصي نفسي وإياكم بكثرة الذكر والابتهال والمناجاة وكثرة الاستغفار، وقد قالوا عنه: يكون كلفة، ثم يكون ألفة أي: يكون كلفة في أول الطريق هي أشهر سوف تتكلف فيها وتحاول أن تجهد نفسك؛ لكنه سوف يكون ألفةً لك؛ لأن من كلف نفسه التسبيح دائماً، سوف تمر عليه أشهر وهو يسبح ولا يشعر بكلفة.
كان أحد العلماء ذكره صاحب روضة الناظرين في ترجمة علماء نجد وعبرها ومن بعدها من السنين يقولون: كان له الذكر كلفة، ثم أصبح ألفة فكان يذكر الله على مر الأنفاس، وكان يقول في المحبة لله عز وجل:
إذا كان حُبَّ الهائمين من الورى بـ ليلى وسلمى يسلب اللب والعقلا
فماذا عسى أن يصنع الهائم الذي سرى قلبه شوقاً إلى العالم الأعلى
قال ابن كثير: سئل أحد العلماء لماذا رفع الله إدريس مكاناً عليا؟ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم:57].
فنقل عن بعض الصحابة كـ ابن عباس وغيره، قالوا: كان إدريس! عليه السلام خياطاً، يخيط الأقمشة، قالوا: ما غرس الإبرة في مكان -يعني ما بين الثقبين- إلا قال: سبحان الله، فقال له الله في ليلة من الليالي عند المساء: يا إدريس، لأرفعنك مكاناً علياً، فبكى وسجد، قال: ولم يا رب! وقد رفعتني في الدنيا رفعةً ما بعدها رفعة- نبي من الأنبياء، ورسول من الرسل- قال: لقد نظرت إلى صحائف الناس كل ليلة فوجدتك دائماً أكثر الناس تسبيحاً واستغفاراً.
كان لا يغرس الإبرة إلا ويقول: سبحان الله، ونحن نتكلم كلاماً من السفه، والسخط، ومن الهذر الذي لا يزن جناح بعوضة في ميزان الحق؛ فلماذا لا نجعل ذلك الكلام في ميزان الحسنات؟!
وفي سنن الترمذي بسندٍ صحيح: {من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلةٌ في الجنة} قال ابن الجوزي: لا إله إلا الله كم يفوتنا من النخلات! إن قلت سبحان الله غرست نخلة.
يقول صلى الله عليه وسلم: {لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس}.
وكان موسى عليه السلام إذا مشى ليكلم الله في طور سيناء؛ يمشي قليلاً ويسجد على الأرض، ويبكي ويقول: [[اللهم إليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك]].
فكان يرفعه الله درجة حتى كلمه.
ويقول ابن كثير في تفسيره وأهل الأثر: كان الله إذا كلم موسى وجد النور على وجهه أربعين يوماً من آثار ذاك الكلام وذكر ابن كثير في سورة طه: أن الله قال لموسى: أتدري لماذا اخترتك من بين الناس رسولاً ونبياً؟! قال: لا، قال: نظرت إلى قلوب الناس فوجدت قلبك يحبني أكثر الناس، ووجدت قلبك أكثر الناس تواضعاً لي.
ولذلك ضرب السلف الصالح في هذه المبادئ السمة العليا؛ ومنهم أبو مسلم الخولاني فقد ترجم له الذهبي في المجلد الرابع من سير أعلام النبلاء، فقال: كان لسانه لا يفتر من ذكر الله أبداً، دخل على معاوية، وهو خليفة، فكان يتمتم، فقال له معاوية: أجنون هذا يا أبا مسلم! قال: جنون يا معاوية!
وقال آخر قيل له وهو يسبح: أجنون هذا؟ قال: هذا طب الجنون.
وفي بعض الآثار وفيها ضعف ذكرها الشوكاني في تحفة الذاكرين في شرح الحصن الحصين لـ ابن الجزري: [[اذكر الله حتى يقول الناس: مجنون]] وهذا لا يتأتى إلا بألا تجعل للناس قيمة؛ لأنك إذا نظرت إليهم فسوف يأخذون عليك وقتك، لأن بعض الناس لا يريد أن يسبح في المجلس؛ لئلا يقولوا: راءى، أو لأنهم ينظرون إليه، أو موسوس، دعهم يقولون ذاك.
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صح منك الود فالكل هينٌ وكل الذي فوق التراب ترابُ
أبيات لـ أبي فراس، ونسبت إلى رابعة العدوية، والصحيح أنها لـ أبي فراس قالها في البشر، قال أحد العلماء: أحسن كل الإحسان في نظم الأبيات، وأساء كل الإساءة يوم جعلها للبشر.
أتى ابن هانئ الأندلسي الشاعر أتى إلى ملك من الملوك فقال:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
نعوذ بالله من الخذلان! فأخذه الواحد القهار أخذ عزيزٍ مقتدر، الذي لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد، عطله بعد القصيدة مباشرة بمرض، فكان ينبح كما ينبح الكلب، ويخور كما يخور الثور، ويتقلب على فراشه، ولما علم أن المرض بسبب هذه الأبيات، قال:
أبعين محتقرٍ إليك نظرتني فأهنتني ورميتني من حالق
لست الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق
فمن علق أمله بغير الله؛ خذله الله في أحرج الأوقات، وجعل كيده في نحره، وسلبه من قدراته، وعطله من معطياته، وجعله طريداً بعيداً، ومن توكل على الله؛ كفاه وسدده.(69/16)
الأسئلة(69/17)
عقد التسبيح باليدين
السؤال
يقول الأخ: ما رأيكم بالتسبيح باليد اليمنى فقط دون اليسرى؟ وهل يترك التسبيح باليد اليسرى، أم هو جائز، أم ماذا؟
الجواب
الأمر فيه سعة والحمد لله؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام مر بنساء فقال: {اذكرن الله -أو كما قال صلى الله عليه وسلم- وسبحن، واعقدن بالأنامل، ولا تغفلن فتنسين؛ فإنهن مستنطقات}.
ولكن ورد عند أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: {أنه صلى الله عليه وسلم كان يعقد التسبيح بيمينه} فلك أن تأخذ باليمين، وهذا يفعله كثير من العلماء والسلف وإن فعلت باليسار فالأمر فيه سعة- والحمد لله- لكن هذه الرواية عند أبي داود.(69/18)
لبس الساعة في اليد اليمنى أم اليسرى
السؤال
ما رأيكم في لبس الساعة في اليد اليمنى؟ هل الأفضل لبسها في اليد اليمنى أم في اليد اليسرى؟
الجواب
هذا والحمد لله من المسائل السهلة، والذي يلبسها في اليد اليسرى فلا يخرج من أهل السنة والجماعة، وكذلك من لبسها في اليد اليمنى، فيجوز لك أن تلبسها في اليد اليمنى، أو في اليد اليسرى، أو في الجيب، أو في الرجل، حتى الرجل من لبسها في رجله فإن شاء الله أنه ما زال على خير، فالمسألة فيها سعة.
أما من يلبس في اليد اليمنى سمعت من بعضهم وجهة نظر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كان يحب التيمن في طهوره وتنعله وترجله وفي شأنه كله} لكن ما ورد في الحديث: (وفي لبس ساعته)؛ لأن الساعة محدثة فالمسألة فيها سعة، فلا ينكر على من لبسها في اليد اليمنى، أو في اليد اليسرى أو جعلها في جيبه، أو جعلها في رجله، إنما المقصود أن تعلم بالوقت؛ لأن بعض الناس يقول: إنها من علامة الاستقامة أن تلبس في اليد اليمنى؛ لأن في السنة التيامن، ونحن رأينا بعض المنحرفين يلبسونها في اليمنى، وبعضهم يلبس في اليسرى قال: لأن اليسرى كذلك ليست مشغولة، واليمنى للعبادة وللأخذ والعطاء، فالأمر فيه سعة والحمد والشكر لله.(69/19)
الخشوع في الصلاة
السؤال
هل يأتي الخشوع والإخبات وشدة الخوف من الله والشوق إلى الدار الآخرة وإلى لقاء الله بالتكلف أم يأتي رزقاً من الله؟
الجواب
يأتي منك ومن مجاهدتك كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] فإذا علم الله أنك تريد ذلك وأنك صدقت، أعطاك الله فوق ما تتمنى، عطاءً لا يدور في الخيال ولا يحظر في البال، فابذل جهدك وسوف ترى الفتح من عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(69/20)
حكم الصفير
السؤال
ما حكم الصفير؟ وهل يجوز إذا كان هناك أحدٌ لا يحب الغناء، فصفر كي لا يسمع الغناء؟
الجواب
لا أعرف نصاً، لكن ورد في التفسير أن من صفات قوم لوط - أعوذ بالله من تلك الصفات - أنهم كانوا يناقرون بين الديكة، يجمعون الذكران من الديكة ويحارشون بينها تتلاطم قبلهم، ويراهصون بين الكلاب، ويناطحون بين الخراف، وكانوا يصفرون، والصفير من قلة المروءة يفعله خفاف العقول، ولا يفعله أهل الرزانة والحكمة وأهل الهدوء.
فأنا أنصحك بتركه؛ لأنه من خوارم المروءة، ولأن فيه رجة، وقد ذكر المفسرون أنه من صفات قوم لوط، ولكني إلى الآن لا أعرف فيه نصاً.(69/21)
حكم تعلم اللغة الإنجليزية
السؤال
ما حكم تعلم اللغة الإنجليزية؟
الجواب
تعلمها من حيث هو جائز مباح؛ لكن إذا بلغت درجة الضرورة، أي إن احتاج المسلمون إلى هذه اللغة، واحتاجوا إلى ترجمة دعوتهم، أو أخذ علوم من العلوم الضرورية في حياتهم؛ أصبحت فرض كفاية، لابد من قيام بعض الناس بتعلمها؛ ليأخذوا هذه العلوم، وينقلوا هذه التكنولوجيا إلى بلاد المسلمين ويستفيدوا من هذه الخبرات والطاقات؛ لأنهم غلبونا وبرعوا في هذا المستوى وفي هذه المادة.
منهم أخذنا العود والسيجارة وما عرفنا نصنع السيارة
أما العود واللهو والموسيقى وهذه الأمور فأجدنا وقلدناهم فيها؛ لكن ما صنعنا شيئاً حتى الطباشير فكلها مستوردة؛ فإذا أتى بعض طلبة العلم أو بعض الأخيار وعنده طاقة فليتعلم، والرسول صلى الله عليه وسلم كلف زيد بن ثابت بتعلم اللغة العبرية، فتعلمها في خمس عشرة ليلة، أما أن يسرف في تعلم الإنجليزية، فليس بصحيح.
ومن استخدمها كما يقول ابن تيمية: من يتعلم اللغات غير اللغة العربية لا لفائدة وإنما للإعجاب والاضرار بالعربية؛ فهي من علامة النفاق، وتجني علامة قصور الإيمان؛ وقلة الاعتزاز بالإيمان، وتجد بعضهم يدخل على المجلس ويقول: (هلو جودمورنينج) ليظهر للناس أنه مثقف، وتجد كثيراً من الناس من هذه الطبقة يجدون في المجتمع فمن فعل ذلك فهي شعبة من النفاق، وإن أردتم البحث فاقرءوا اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية.(69/22)
حكم صبغ الشعر
السؤال
يقول هناك حنا سوداني اللون هل يجوز صبغ الشيب به وهل ورد وعيد شديد لمن صبغ شيبه بالسواد؟
الجواب
أولاً: الحناء فيما أعلم أنه أحمر، إلا إذا كان اكتشف في هذا العصر مع القنبلة الذرية أن هناك حناء أسود، فقد يكون وأما الصبغ بالسواد من حيث هو؛ فهو منهيٌ عنه، وبعض الناس يقولون: زيادة مدرجة لا تصح؛ فيصبغون بالسواد، يريدون أن يدرجوا الزيادة، إذا أراد الإنسان أن يفعل شيئاً قال: زيادة مدرجة، والحديث فيه نظر، وفيه ضعف، والمسألة فيها سعة، ويجوز للضرورة هذه فتاوى جاهزة أصبحت ترفرف في كل مكان، أما الصبغ بالسواد فنهى صلى الله عليه وسلم في حديث ابن أبي قحافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: {غيروا شيب هذا وجنبوه السواد}.
وفي سنن أبي داود بسند فيه كلام: {يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة}.
وهذا فيه تدليس وتغيير لعباد الله، رجل عمره تسعون سنة يريد أن يخطب امرأة، فيصبغ رأسه ولحيته فيصبح كأنه شاب، فيغرر بها، وبعد أن يتزوجها يموت بعد شهر ونصف.
هذا من التغيير ومن خديعة عباد الله، والصحيح في حكم السواد أنه لا يجوز، لكن يصبغ بالأحمر، وبالأصفر، وإن تركها بيضاء فلا بأس لكن الأحسن أن يغير الشيب؛ أما بالسواد فلا يصبغ.
وهناك رسالة للشيخ: مقبل الوادعي جيدة في هذا الباب، ورسالة لـ ابن الجوزي ورسائل في هذا الباب وبحوث طيبة، ورسالة اسمها الاقتضاب في حكم الخضاب نسأل الله أن يسهل طبعها ونشرها.
وفي الختام نسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، والرشد، والسداد، وأعتذر عما بقي من الأسئلة لضيق الوقت.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.(69/23)
آفاق لا إله إلا الله
إن الأمة العربية كانت تعيش قبل الإسلام في جهل وظلام، فجاء الإسلام بـ (لا إله إلا الله) التي رفعت الأمة، وجعلتها أمة قائدة لا مقودة، وأمة متبوعة لا تابعة، فيجب علينا أن نعرف (لا إله إلا الله) ونعرف فضلها ومعناها في حياتنا، ونعرف نواقضها وشروطها ومقتضياتها، حتى نحذر مما يلبسه علينا أصحاب الاعتقادات الباطلة الذين يغالطون في فهمها، ويجب أيضاً أن نعرف ما هي العوامل التي تثبتنا على (لا إله إلا الله) حتى نلقى الله عليها.(70/1)
فضل لا إله إلا الله
إن الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن الاجتماع تحت مظلة (لا إله إلا الله) من أسعد الفرص في الحياة، وإن النسب الذي جمعنا بكم والذي ألف بين قلوب هذه الأمة هو نسب (لا إله إلا الله) وإنني بهذه المناسبة أشكر أهل الفضل على فضلهم، وعلى رأسهم فضيلة الشيخ سليمان الجمعان الذي دعا لهذه المحاضرة ونظَّم لها، فعسى الله عز وجل أن يجعل هذه المحاضرة في ميزان الحسنات، وأن يجعلها عربون مودة نجتمع بها وإياكم في دار المودة، {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55].
وعنوان هذه المحاضرة: (آفاق لا إله إلا الله) وعناصرها هي:
الأول: فضل لا إله إلا الله وحديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه.
الثاني: أحاديث في لا إله إلا الله.
الثالث: الأمة قبل لا إله إلا الله.
الرابع: ومعنى لا إله إلا الله في حياة المسلم.
الخامس: نواقض لا إله إلا الله.
السادس: الفهم الخاطئ الذي يفهمه بعض الناس في لا إله إلا الله.
السابع: لا إله إلا الله والمرجئة.
الثامن: من لوازم قول: لا إله إلا الله قول: محمد رسول الله.
التاسع: أول واجبات المكلف: الشهادة لا النظر والاستدلال.
العاشر: عوامل الثبات بلا إله إلا الله وكيفية الثبات بها حتى نلقى الله.(70/2)
حديث معاذ أصل من أصول التوحيد
جاء في الصحيحين عند البخاري ومسلم وأصل الحديث عند أحمد في المسند، عن معاذ رضي الله عنه، وأنا أذكره بلفظ قريب من لفظ المسند، قال: {ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار اسمه: عفير أو يعفور} هذا اسم حمار الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول بعض الزنادقة: لماذا يذكر المحدثون اسم الحمار؟ وما هي الفائدة من ذلك؟ ولماذا يذكرون لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ركب الحمار؟ وهذا خطأ في فهمهم فإنه يترتب على ذلك فوائد جمة:
منها: جواز الركوب على الحمار.
ومنها: أن ملامسة الحمار لا تنجس.
ومنها: طهارة لعاب الحمار عند بعض أهل العلم وسؤره.
ومنها: جواز الإرداف على الدابة.
ومنها: تواضعه عليه الصلاة والسلام.
هذا الرسول -بأبي هو وأمي- الذي يركب الحمار؛ أنقذ الله به الأمة من النار إلى الجنة؛ وأخرجها من الظلمات إلى النور، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] قال معاذ: {فركب صلى الله عليه وسلم، فقال -لما ركب الحمار- اركب يا معاذ!} وعند أبى داود: {الرجل أحق بصدر دابته} والرسول صلى الله عليه وسلم هو صاحب الدابة، وهذا الحمار أهداه إليه مقوقس مصر، قال: {اركب يا معاذ! قلت: امض يا رسول الله -رفض أن يركب معاذ خجلاً وحياءً من الرسول صلى الله عليه وسلم- قال: اركب، فركبت فمضينا قليلاً، فعثر الحمار فسقطنا}.
هذه رواية أحمد تجدونها في الفتح الرباني في المجلد الأول- قال: {فقمت أذكر أسفاً وخجلاً، وقام صلى الله عليه وسلم يضحك}.
انظر التواضع! وانظر هذا الإنسان الذي عصم الله سمعه وفؤاده وبصره! قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:1 - 3].
قال: {فركبنا مرة ثانية فعثر الحمار فسقطنا، فقام صلى الله عليه وسلم يضحك وقمت خجولاً -يقول معاذ رضي الله عنه- ثم ركبت مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فمضى قليلاً، فقال: يا معاذ! قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله! -وهذه أحسن كلمة يقولها المسلم- قال: أتدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم مضى قليلاً، وقال: يا معاذ! أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حقهم إذا فعلوا ذلك ألا يعذبهم} وهذا الحديث أصل من أصول التوحيد، وهي الكلمة العليا التي أتى بها صلى الله عليه وسلم.(70/3)
فضل كلمة التوحيد
وأما فضلها فإن العبد يخرج بها من الكفر إلى الإيمان، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث معاذ أنه قال: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} والمعنى: من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ فنسأل الله أن يتوفانا وإياكم على هذه الكلمة.
وقد قرأت لـ أبي زرعة قصة عن لا إله إلا الله؛ وهذا المحدث الكبير ذكر عنه الذهبي في التذكرة، وفي غيرها من الكتب: أنه لما حضرته الوفاة أُغمي عليه، فقال أصحابه وتلاميذه: نريد أن نُذكِّر الإمام بلا إله إلا الله، واستحيوا أن يقولوا: قل: لا إله إلا الله؛ لأنه عالم وفقيه، فقالوا: نتذاكر سندها فإذا ذكرنا السند فسيذكر هو لا إله إلا الله، فأتوا يتذاكرون السند فنسوه، قالوا: فاستفاق من إغمائه وكان مغمىً عليه، وقال: حدثنا فلان عن فلان عن فلان، عن معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} ثم مات، وهذا من التثبيت الذي يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عنه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
وقد سمع عليه الصلاة والسلام -فيما يروى عنه- أعرابياً خرج من بيته في ظلام الليل يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام: {نجوت من النار ورب الكعبة} وسوف نذكر الفهم الخاطئ الذي يفهمه بعض الناس، وهو أن يقول: لا إله إلا الله ثم يرتكب المنهيات ويترك الواجبات، فإن هذا فيه تفصيل.(70/4)
أحاديث في فضل لا إله إلا الله
أولاً: اعلم أن القرآن والسنة والرسل -عليهم الصلاة والسلام- إنما جاءوا من أجل لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ بل الأرض ما دمرت إلا بسب الكفر بلا إله إلا الله؛ بل إن الجنة والنار ما أقيم سوقهما إلا من أجل لا إله إلا الله، فهي أعظم كلمة أتى بها عليه الصلاة والسلام، وهي كلمة التوحيد، وليس في الدنيا كلمة أعظم منها، نسأل الله أن يتوفانا عليها.(70/5)
حديث عبد الله بن عمرو في فضل لا إله إلا الله
جاء عند الحاكم وغيره، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قال موسى عليه السلام -وكان موسى يكلم الله كفاحاً بلا ترجمان-: يا رب! أسألك كلمةً أدعوك بها وأناجيك، قال الله عز وجل: يا موسى! قل: لا إله إلا الله، قال موسى عليه السلام: يا رب! كل عبادك يقولون: لا إله إلا الله -يريد كلمة جديدة لم يسمع الناس بمثلها- قال: يا موسى! لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين في كفة، ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله!!}.
الله أكبر كل هم ينجلي عن قلب كل مكبر ومهلل
وقد قدم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أرواحهم من أجل لا إله إلا الله، وقطعت رءوسهم من أجل أن ترتفع لا إله إلا الله، ومزقت لحومهم من أجل بقاء لا إله إلا الله، وهي الكلمة التي من أتى بها يوم القيامة فقد سعد سعادةً لا يشقى بعدها أبداً، ومن أعرض عنها وكفر شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً.
قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] وأنزل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على رسولنا عليه الصلاة والسلام، كلمة التوحيد وقرنها بالاستغفار من الذنب، فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قرن سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بين التوحيد والتنزيه عن الأنداد والأضداد، وبين الاستغفار من الذنوب، فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].
وقرن سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بين ذلك في قصة ذي النون بن متى في قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فانظر كيف اعترف بالوحدانية، ثم اعترف بالذنب، فإنه لما أصبح في ظلمات ثلاث، انقطع حبله عن الأولاد، وعن الزوجة، وعن الأحباب، وعن الأقارب، وما بقى إلا حبل الله، وهذه الكلمة التي تستخدم في وقت الأزمات؛ قالها صلى الله عليه وسلم وهو يعتدى عليه، ويقول: لا تحزن إن الله معنا ويقول: {يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما} وقالها فرعون في غبة البحر، فلم تنفعه، يقول: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] فلم تنفعه: {َ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88].
وورد عن نوح -عليه السلام- أنه جمع أولاده عند الوفاة، وقد عاش ألف سنة إلا خمسين عاماً في صبر وجاهد من أجل لا إله إلا الله، وما أسلم معه إلا رهط قليل، قيل: اثنان، وقيل: ثلاثة، وفي هذا درس للدعاة وطلبة العلم والعلماء ألا يستعجلوا الثمار، وأن يعلموا أن أجرهم عند الله عز وجل؛ سواءً استجاب لهم الناس أم لم يستجيبوا لهم، وسواءً تاب الناس على أيديهم أو لم يتوبوا، المهم أن تُبلِّغ وتدعو وتسمع الناس لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلما حضرته الوفاة قال: يا أبنائي! قولوا: لا إله إلا الله، فإن لا إله إلا الله لو كانت في حلقة من حلقات الحديد لقصمتها لا إله إلا الله، والمعنى: أن لا إله إلا الله تنقذ صاحبها إذا أتى بها صادقاً مخلصاً.(70/6)
أسعد الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم
جاء عند البخاري من حديث أبي هريرة قال: {قلت: من أسعد الناس بحسن شفاعتك يوم القيامة يا رسول الله} ومعني الحديث: يقول: يا رسول الله! من هو السعيد بحسن شفاعتكم؟
وجاء أيضاً في حديثٍ حسن أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي} والظاهر أن الله عز وجل -كما نطق بذلك القرآن- يغفر لهم باجتنابهم الكبائر، ففي سورة النساء قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31] وقد جعل شيخ الإسلام المكفرات للكبائر عشر مكفرات وقد ترد إلى سبع:
منها: المصائب التي يبتلي الله بها العبد.
ومنها: الحسنات الماحية.
ومنها: ما يصيب المؤمن عند سكرات الموت.
ومنها: ما يبتلى به المؤمن في القبر من سؤال منكر ونكير، وهي الفتنة الفتانة.
ومنها: شفاعة سيد الخلق -عليه الصلاة والسلام-.
ومنها: دعاء المؤمنين له.
ومنها: رحمة أرحم الراحمين.
يقول ابن تيمية بعد أن ذكر هذه العشر المكفرات: "ولا يفوت عن هذه العشر المكفرات إلا شارد عن الله عز وجل كما يشرد البعير عن أهله"، والذي لا يريد أن يتوب، ولا يريد أن يُكفر عن سيئاته، لا يمكن أن يحصل له شيء.
قال: {من أسعد الناس بحسن شفاعتك يوم القيامة يا رسول الله؟ قال: لقد ظننت ألا يسألني أحد قبلك يا أبا هريرة -لما رأيت من حرصك على الحديث- أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه}.
كيف يكون مخلصاً من قلبه؟
قالوا: من عمل بمقتضى لا إله إلا الله، هذا هو المخلص من قلبه، ولذا فإننا نجد بعض الناس يقول: لا إله إلا الله، لكن عمله في واد ولا إله إلا الله في وادٍ آخر.(70/7)
فضل قول لا إله إلا الله في اليوم مائة مرة
ومن فضائل لا إله إلا الله ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من قال: لا إله إلا الله وحدة لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يومه مائة مرة، كتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له عدل عشر رقاب، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأتِ أحد بمثل عمله إلا رجل عمل مثل عمله أو زاد عليه} وهذه هي من فضائل لا إله إلا الله.
ولذا فإني أوصيك ونفسي أن تكررها كثيراً، وأن تبعد بها الهموم، وتزيل بها الغموم، وتذهب بها الأحزان، وأن ترددها صباح مساء، فإنها -بإذن الله عز وجل- شافية للأمراض التي يعيشها الناس ويشكون منها وخاصة الشباب لما انحرفوا عن المساجد، والقرآن، واستبدلوا المجلة الخليعة، وعاشروا جلساء السوء، فابتلوا بالهموم والغموم؛ لأن الله أخذ على نفسه أنه من يعرض عن القرآن، والسنة فلا يسعد أبداً، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126] وقال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].(70/8)
العرب قبل لا إله إلا الله
كانت العرب قبل لا إله إلا الله أضعف وأذل وأبعد أمة عن الله؛ أمة تسفك الدم، وتزني، وتخون، وتعبد الصنم، وتسلب وتنهب، فأراد الله عز وجل أن يرفع قدرها، فأنزل لها (لا إله إلا الله).
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمةٍ جبت الكنوز فكسرت أغلالها
فالأمة قبل لا إله إلا الله لا تساوي شيئاً، وسمعت بعض الناس يكتبون في بعض الصحف، وهؤلاء يعبدون القومية من دون الله، ويسمونها وحدة العرب، واشتراكية العرب، وحدة صدام حسين، واشتراكية صدام حسين، وقومية صدام حسين:
وحدويون والبلاد شظايا كل جزء من لحمها أشلاء
ماركسيون والجماهير جوعى فلماذا لا يشبع الفقراء؟
ناصريون والهزائم تترى فلماذا لا ترفع البيضاء؟
لماذا لا ترفع (لا إله إلا الله) إذا كانوا ناصريين؟ لكن هؤلاء لما تولى الناس أتوا يكتبون اليوم عن وحدة ودم ولغة العرب.(70/9)
الإسلام سبب الرفعة
من هم العرب بغير لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ ماذا يساوي العرب بغير الإسلام؟ لا يساوون شيئاً.
فالعرب بغير لا إله إلا الله استذلتهم إسرائيل ذلة ما سمع التاريخ بمثلها، وعاشوا وأنوفهم في التراب، وأصبحت عجوز تسمى جولدا مائير تهجيهم وتحتقرهم لأنهم فقدوا لا إله إلا الله.
إذاً العروبة بدون لا إله إلا الله محمد رسول الله عروبة خاطئة لا تساوي شيئاً، فأريد أن أقول للذين قد يغترون بهذه الكتابات، وأنا سمعت حتى من بعض الملتزمين يقولون: تاريخ العرب، وأمة العرب.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] إذا ترك العرب لا إله إلا الله محمد رسول الله، أعطاها الله الأكراد، وإذا تركها الأكراد أعطاها الأتراك، وإذا تركها الأتراك أعطاها الهنود، وإذا تركها الهنود أعطاها الأفغان، هذا هو التاريخ.
من الذي فتح بيت المقدس؟ من الذي أخذه من الصليبية؟
إنه صلاح الدين.
أهو عربي؟
لا.
بل هو كردي من الأكراد، لكن يعرف لا إله إلا الله محمد رسول الله، يعرف الصلوات الخمس جماعة، ويخاف الله.
صلاح الدين ونور الدين -رضي الله عنهما- ورحم الله تلك العظام.
محمد الفاتح تركي، وإقبال هندي، وبلال حبشي، وسلمان فارسي، وصهيب رومي، قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] أقول: نبهوا المسلمين ألا يغتروا بهذه الصيحات، كـ (وحدة العرب، وعلاقة العرب، وإخاء العرب) ما العرب إلا أمة من الأمم، إذا تركت لا إله إلا الله محمد رسول الله لا تساوي شيئاً؛ بل نحن العرب إذا وازنا أمورنا بمستوى الحضارة والفن ليس لنا قبل الإسلام شيء، فيلس عندنا حضارة ولا فن ولا معارك، وإذا نظرنا في الأمم الأخرى نجد عند اليابانيين فنون، وعند الصينيين فنون، وعند الإنجليز فنون، إلا العرب، فنوننا وحضارتنا لا إله إلا الله، وثقافتنا لا إله إلا الله.
تاريخنا من رسول الله مبدؤه وما عاداه فلا ذكر ولا شان
فهذا هو واقع الأمة.(70/10)
محاربة كفار مكة لدعوة الإسلام
{أتى صلى الله عليه وسلم ووقف على الصفا، فجمع الناس فاجتمعوا جميعاً عند الكعبة، فقالوا: لماذا جمعتنا؟ قال: أرأيتم لو أني أخبرتكم أن خيلاً بهذا الوادي تصبحكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً -يقولون: أنت الأمين الصادق- قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا}
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} [الجمعة:2] هذا الأمي يعلمهم لا إله إلا الله، قال أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا -من أجل هذا الكلام؟ - فأنزل الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1].
وفي السيرة أن أبا جهل جمع رؤساء قريش، وذهبوا إلى أبي طالب -عم الرسول عليه الصلاة والسلام- فقالوا: يا أبا طالب، قال: نعم، قالوا: إن ابن عمك هذا سب آلهتنا -يقصدون الأصنام لعنهم الله- {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:5] سب آلهتنا وسفه أحلامنا، وشتم أجدادنا، فماذا يريد ابن عمك هذا؟ ماذا يريد ابن أخيك؟ إن كان يريد ملكاً ملكناه، وإن كان يريد زوجة زوجناه أجمل فتاة، وإن كان مطبوباً -أي: مسحوراً- عالجناه، فقال أبو طالب: أعرض عليه الأمر، والحديث في سنده نظر لكنه من حديث السير، فعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه}.
الشمس والبدر في كفيك لو نزلت ما أطفأت فيك ضوء النور والنار
أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة يذوب في ساحها مليون جبار
ورجع عليه الصلاة والسلام يقول: أريد كلمة، قال قائل: أهبك عشر كلمات، ما دام أن كلمة واحدة تصلح ما بيننا وبينك قال: (قل لا إله إلا الله محمد رسول الله) قال: أما هذه فلا، أعوذ بالله {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] وقال تعالى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5].
العربي هذا الذي يفتخرون به، كان يجمع التمر ويعبده، فإذا جاع أكله، وقد روي أن أعرابياً ذهب بلبن يريد أن يضعه بنصب من الحجارة يعبده فلما ذهب باللبن أتى وإذا الثعلب قد بال على هذا الصخر فقال:
أرب تبول الثعلبان برأسه لقد خاب من تبول عليه الثعالب
يقول أهذا إله يدفع، وينفع ويضر؟ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف:194] وذكر الله سبحانه وتعالى: أنها ليس لها أسماع، ولا أبصار، ولا تعي، ولا تضر، ويقول سبحانه وتعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3]، وذكر نفسه فقال: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:26 - 27].
وعربي آخر أتى يعبد صنماً اسمه سعد فأتى بأبله حول سعد، يريد أن يصلي لسعد، فلما اقترب خافت الإبل من الصخرة ففرت، قال:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ففرقنا سعد فما نحن من سعد
يقول: أتينا ليجمع علينا الإبل والرحمة، فشردت علينا الإبل منه، أنا لا أريد هذا الإله، عقول ضحكت بها الجاهلية والخرافة.(70/11)
الإسلام دين الفطرة
يقول صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود لـ حصين بن عبيد الخزاعي: {كم تعبد يا حصين؟ -كم عندك من آلهة؟ لأن العربي أحياناً كان عنده خمسة أو ستة أو سبعة من الآلهة؛ إله في الخرج -في خرج الحمار- وإله في السفر، وإله عند مرعى الغنم، وإله عند مربط الثور، وإله عند النوم- قال: كم تعبد؟ قال: سبعة، قال: أين هم؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: من لرغبك ولرهبك؟ -يقول: من الذي إذا اشتدت عليك الضوائق، وضاقت عليك الحيل، وانقطعت عنه الحبال، من الذي إذا دهتك الكوارث؟ - قال: الذي في السماء} وقد ذكر الله ذلك فقال: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67].
هل سمعت أن أحداً في لجة البحر يدعو رئيساً أو عالماً أو أميراً؟ لا.
لا يدعو إلا الله، يقول: يالله، وقد فعل ذلك فرعون وكان ينكر التوحيد في الظاهر، يقول ابن تيمية: "ينكر الصانع في الظاهر" يقول فرعون: [أنا الإله] ويُقال له: قل: (لا إله إلا الله) فيقول: لا.
{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] اسمع الدجال الخبيث، مجرم إلى هذه الدرجة، قالوا: كيف تكون إلهاً؟ قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] فوافقه قومه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] لكن يقول له موسى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102].
يقول: والله -يا مجرم- إنك تعلم في قرارة نفسك أنك ما خلقت السماوات والأرض، ولا خلقت الليل والنهار، ولا شافيت ولا عافيت، ولكنك تكبرت، فلما أتت المحاقة، وساعة الصفر، قال -وهو في آخر نفس-: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90] هل ينفع هذا؟ مثل إيمان بعض الناس -نسأل الله أن يصلح ظاهرهم وباطنهم- يبقى أحدهم في المعاصي، فإذا أصيب بحادث سيارة ثم أصبح في المستشفى، قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90].
فعلى الإنسان يستخدم قوته وشبابه في طاعة الله قبل أن تذهب منه، أما أن يأتي وهو مريض في حالة سيئة؛ فيقول: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90].
فهذا هو واقع العرب قبل لا إله إلا الله، وهو واقع سيء، لا يُرضي، فلما أتى الرسول صلى الله عليه وسلم بلا إله إلا الله محمد رسول الله، خرج لنا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن عباس؛ تلك الأمة التي أخرجتها لا إله إلا الله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].(70/12)
معنى لا إله إلا الله في حياة المسلم
معنى لا إله إلا الله في حياة المسلم أنه لا معبود ولا مقصود ولا مرهوب ولا مرغوب بحق إلا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فوجب على المسلم أن يصرف عبادته إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وأن يتوجه إليه، وأن يدعوه رغبة ورهبة، وألا يخاف إلا منه، ولا ينذر ولا يذبح إلا له، ولا يتقرب إلى غيره سُبحَانَهُ وَتَعَالى بما يخدش لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فمعناها: أن الحياة تصرفها لا إله إلا الله، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163] فهذه معنى الحياة.
وبعض الناس يتصور أن معنى الحياة في المسجد، لكنه يرفض أن يدخل لا إله إلا الله في الأدب، فتجد الأديب وهو يكتب في الصحيفة ينسى لا إله إلا الله؛ يكتب أي كلام، حتى يقول بعضهم: لماذا تدخلون الدين حتى في الفن؟! وما هي علاقة الفن بلا إله إلا الله؟! وما هي علاقة الدين بالغناء؟
سبحان الله!
ما هي حياة المسلم؟ من الذي يسأل عما اقترفته الجوارح -السمع والبصر- إلا الله عز وجل، هل لك حياة غير حياة لا إله إلا الله، في المسجد عبد، وفي خارج المسجد مجرم ومعرض عن الله، وهذا هو الفهم الخاطئ، وهذا هو فصل الدين عن الحياة وجعله طقوساً تعبدية فقط، وهذه قاصمة الظهر.
فمعنى لا إله إلا الله في حياة المسلم أن يكون معتقده، وأخلاقه، وعبادته وسلوكه، واتجاهاته وآماله كلها لوجه الله عز وجل، وقد ورد عند الدارقطني وغيره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به} قال النووي: حديث حسن رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.
فإذا كان الهوى تبع للرسول عليه الصلاة والسلام لا يأمر بشيء إلا وافقته، ولا ينهى عن شيء إلا تركته، فقد آمنت بلا إله إلا الله محمد رسول الله.(70/13)
نواقض لا إله إلا الله محمد رسول الله
لا إله إلا الله محمد رسول الله لها نواقض منها:(70/14)
أولاً ترك الفرائض
من نواقض لا إله إلا الله: ترك فريضة من فرائض الدين التي قام عليها الدليل، وقام عليها الوجوب من الشارع الحكيم، فإن بعض الناس يظن أنه إذا قال: لا إله إلا الله كفته ثم يترك الصلاة، ويقول: لا إله إلا الله ويجحد الزكاة، ويقول: لا إله إلا الله، ويجحد وجوب الصيام، فبعض الناس يؤمنون إيمان المرجئة الذين يقولون: من قال: لا إله إلا الله كفتك، ويستدلون على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: {من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة} نقول: أنت لو كنت مخلصاً لفعلت الطاعات واجتنبت المحرمات.(70/15)
ثانياً الاستهزاء بالدين
الاستهزاء بشيء مما أتى به رسول الهدى عليه الصلاة والسلام من نواقض لا إله إلا الله قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ.
لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66].
فإن كثيراً من الناس يكفر ببعض الكلمات أو بكلمةٍ واحدة، يستهزئ بالدين، أو بالقرآن، أو بالرسول عليه الصلاة والسلام، أو بأهل العلم فيكفر، وسبب نزول الآية السابقة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم -كما ذكر ذلك ابن جرير وغيره- كان في غزوة تبوك فأتى المنافقون وجلسوا في طرف المخيم وأخذوا يتحدثون، فيقول أحدهم لغيره وهم يتضاحكون: ما رأينا كقرائنا هؤلاء أرغب بطوناً وأكذب ألسنة، وأجبن عند اللقاء -والمعنى: أن أصحاب رسول الله من العلماء ما رأينا أكثر أكلاً ولا أكثر جبناً وفراراً من المعركة منهم- فأخبر الله رسوله بهذه المقالة الشنيعة وأتى جبريل فأخبره، فقام المنافقون وأخذوا بزمام ناقة الرسول عليه الصلاة والسلام، وقالوا: يا رسول الله! أعفوا عنا، إنما كنا نخوض ونلعب ونمزح؛ وكنا نقطع الليل؛ وكنا نتحدث، فأنزل الله فيهم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
فحذار -أيها الإخوة- من الاستهزاء بالدين، وكثير من الناس في مزحه يجرح (لا إله إلا الله) ويجرح دينه، وربما يكفر.
وقد رأينا وسمعنا عن بعض الناس أنه يستهزأ ببعض الآيات من القرآن -والعياذ بالله-.
وسمعت عن مجرم من المجرمين، بلغ من عتوه أنه ترك الصلاة، وكان يخرج للفسح ويدرّس في مستوى جامعي فيجلس مع طلابه - مثل ما جمع المنافقون فريقهم في تبوك - يجمعهم ويمزح معهم استهزاءً بالدين، واستهزاءً بالصالحين، واستهزاءً بالأحاديث.
يقول ذات مرة وقد جمع زملاءه عن أبي هريرة قال: جمع رسول الله أصحابه يوماً، فقال: أتدرون ما الببسي؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أتدرون ما السيكل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قوموا عني لا تعرفون لا الببسي ولا السيكل.
قال بعض أهل العلم لما بلغتهم مقالته: كفر بها، وخرج من الملة وأصبح دمه حلالاً وهذا هو الصحيح.
بل مر في التاريخ أن بعض الخلفاء قتل كثيراً من الزنادقة لكلمات أقل من هذه، وقد قرأت عن القاسم بن عبيد الله -الله يتولاه بما هو به أعلم إن لم يكن تاب- وقد ترجم له الذهبي وقال: "إنه كان يستهزئ بالقرآن الكريم"، دخل عليه أحد العلماء، فقال: ماذا قال الله في بقرتكم؟ -أي: في سورة البقرة- وهذا كفر.
وحذار حذار أن يتعرض الإنسان لشيء من الإسلام، أو يستهزئ بشيء من الملة أو الدين؛ كاللحى، وتقصير الثياب، ومشية الرسول صلى الله عليه وسلم، ومشية الصالحين الذين يتبعونه لأجل أنهم يتبعونه، أو شيء مما أتى به صلى الله عليه وسلم.
الحذر الحذر، فإنه قد يترك ويفارق الإنسان الإسلام وهو لا يشعر، وهذه هي الكلمة التي تكب صاحبها على وجهه في النار، ولها أمثلة كثيرة.(70/16)
اعتقاد أن شريعة غير الله أفضل
ومن نواقض لا إله إلا الله أن يعتقد الشخص أن شريعة غير الله أحسن من شريعة الله عز وجل، وأن شريعة الله لا تليق بالزمن ولا تناسبه ولا تواكب الدهر، ولا تستطيع أن تكفل حاجة الإنسان، وهؤلاء في قلوبهم مرض، مثل ما يقول بعض الناس -الآن- ولو سألته: هل تصلى في المسجد الصلوات الخمس الآن؟ يقول: لا.
بمعنى: أن الشريعة كانت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن تطورت الأزمنة الآن، وتطورت المنتجات والتكنولوجيا والصناعات؛ إذا اعتقد هذا الكلام الذي قاله فقد كفر، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47].(70/17)
المساواة بين شريعة الله وغيرها
من نواقض لا إله إلا الله أن يرى أن غير شريعة الله مثل شريعة الله عز وجل، كأن: يساوى بين القرآن وبين قانون نابليون الفرنسي أو قواعده وشريعته التي تُحكم بلاد المسلمين الآن، ويا للأسف! ويا للخيبة! ويا للضياع! أن يأخذوا قوانين نابليون، ويتركون قوانين: إياك نعبد وإياك نستعين.
فهذه بعض النواقض وتركت بعضها لمتابعة العناصر؛ لكي يكون الموضوع في قضية ومسار واحد.(70/18)
الفهم الخاطئ لكلمة لا إله إلا الله
العنصر السادس: مسألة الفهم الخاطئ الذي يفهمه بعض الناس عن لا إله إلا الله، بمعنى أنهم يفهمون أن هذه الكلمات تنجيهم من النار، ولو تركت الأعمال أو ناقضتها، ولو كان كما قالوا لكان الكافر الذي يقول: لا إله إلا الله داخل في الإسلام، والوثنيون يقولون: لا إله إلا الله ولكن لا يعتقدونها، فلا بد -أولاً- من اعتقادها، ولا بد -أيضاً- من النطق بها للمستطيع، ولا بد من العمل بمقتضاها.(70/19)
مقتضى لا إله إلا الله
يعرف أهل السنة الإيمان: بأنه اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان.
والاعتقاد بالجنان -بالقلب-: أن تعتقد أن لا إله إلا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ولا رسول إلا رسوله صلى الله عليه وسلم.
والنطق باللسان: أن تشهد بلسانك أن لا إله إلا الله، وتشهد برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتعمل بالأركان؛ أي: تزاول بجوارحك الأعمال التي تقتضيها لا إله إلا الله محمد رسول الله.(70/20)
لا إله إلا الله والمرجئة(70/21)
بطلان شبهة المرجئة في الإيمان
المرجئة قوم يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، ويقولون: إن إيمان الفاجر مثل إيمان أبي بكر الصديق!! والسبب في ذلك: لأن أبا بكر يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، والفاجر الذي يشرب الخمر ويسرق يقول: لا إله إلا الله -إذاً- فحصل الإيمان عند الجميع.
وقالوا: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وكذبوا وعارضوا الكتاب والسنة؛ بل الإيمان يزيد وينقص، قال سبحانه: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً} [الفتح:4] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] وروي عن الإمام مالك في روايةٍ أنه قال: "الإيمان يزيد، أما النقص فما أدري"، والسبب أن الإمام مالك لم يجد نصاً فيه نقصان الإيمان، لا في الكتاب ولا في السنة، والصحيح أن الإيمان يزيد وينقص، وقال البخاري وغيره: "إن يقبل الزيادة يقبل النقصان بمفهوم المخالفة، وهذا أمر معلوم، أن كل شيء يزيد فهو يقبل النقصان.
ونعلم ونشهد بالله العظيم أن إيمان أبي بكر أعظم من إيماننا، وجهاده أعظم من جهادنا، وإخلاصه أعظم من إخلاصنا، وأن إيمان عمر أعظم من إيماننا.
سبحان الله! نحن الذين نترك صلاة الفجر في الجماعة، نحن الذين أكلنا نعم الله وما شكرناه، نحن الذين نرى المنكر وما غيرناه، وأبو بكر قد دفع دمه ووقته ودموعه وكل ما يملك من أجل لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم نتساوى مع إيمان أبي بكر، فكيف بالفجرة والفساق؟!
فهذا مذهب خطير وقد ألفت فيه رسائل.(70/22)
خطر الإرجاء على الأمة الإسلامية
والمرجئة فرقة خطيرة وهم موجودون في هذا العصر، ولو لم يتسموا بـ المرجئة، بل بعض الناس يقول: لا تحكموا على الناس بالمعاصي، فما دام أني أحب الله عز وجل، وشهدت أن لا إله إلا الله، ولو صليت في بيتي، فما الداعي أن أصلي في المسجد، ويقول: أيجب أن أصلي في المسجد؟ وهو يرتكب المعاصي، ويقول: والله أني أحب الله ورسوله، محبة ماذا؟!
يقول ابن المبارك:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
وهذا هو الصحيح؛ فإن من علامات المحبة موافقة المحبوب، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على لسان اليهود: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ}] المائدة:18] أي: لو كنتم صادقين فلم يعذبكم وأنتم مذنبون.
{أتى اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد! أما الله فنشهد أنه موجود وأما أنت فلا نتبعك، فأنزل الله عز وجل قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]} فليعُلم أن إيمان المرجئة خطير، وهو الذي جعل كثيراً من الناس لا يصلون في المسجد، فتجد بعض الناس -الآن- ربما تمر به أشهر لا يعرف صلاة الفجر في المسجد؛ بينما لو كان دوامه في العمل قبل صلاة الفجر لحضر إلى دوامه، ولو دعاه مسئول قبل صلاة الفجر لحضر، وهذا مشاهد ومعروف، ففي بعض المناسبات بعض الناس طُلب منهم الحضور في بعض الأمور عند صلاة الفجر فقام الذين لم يكونوا يصلون إلا متأخرين وحضروا.
فهذا إيمان المرجئة -والعياذ بالله- ولو كان هناك إيمان والله لما قر للإنسان قرار حتى يقوم ليصلى صلاة الفجر في المسجد.
ومنها: أنك تجد كثيراً من الناس يمر به كتاب الله ولا يقرؤه ولا يتدبره؛ بل يهجره، بينما يقرأ من الصحف والمجلات في الأسبوع ويتدبرها ويبحث عنها أكثر بكثير من قراءته للقرآن، وهذه المجلات والصحف هي كلام فارغ وأكثره زبد: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].(70/23)
قوة دين الإسلام ومتانته
أسلم أحد الغربيين، فقالوا له: ما سبب إسلامك؟ قال: أنظر إلى كل كتابٍ يؤلفه البشر، فأجد المؤلف في أول صفحة يقول: سامحوني على التقصير إن أتى خلل في مؤلفي، ومعذرة إذا أخطأت، والقرآن أتى مخالفاً لذلك، بل تحدَّى الله في أول كتابه فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2].
انظر إلى كتب السنة، وكتب الفقه، والتفسير، والتاريخ، وافتح كلام المؤلف، تجده يقول: فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، والله منه ورسوله، ومعذرةً إن حصل من هذا بيان أو تلعثم لفظ، ومن وجد خطأً فلينبهنا مشكوراً مأجوراً، إلا الله فقال سبحانه: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2] وقال سبحانه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] أي: أن كتبكم هذه التي بين أيديكم فيها اختلاف، فسبحان الذي تفرد بالكمال، وتفرد رسوله صلى الله عليه وسلم بالعصمة، والآن ما هو أصح كتاب بعد كتاب الله هو كتاب البخاري؟ وقد وجد فيه خطأ ليبقى الكمال لكتاب الله، ففيه بعض الأوهام وقد نبه عليها كثير من الحفاظ، وهي مجموعة في بعض المجاميع؛ ليبقى الكمال لله عز وجل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].
قالوا: فأسلم هذا الرجل الغربي، ودخل في دين الله عز وجل؛ لأنه بهذه القوة والمتانة أن يتحدى الله الناس أن يخرجوا خطأً من كتابه، وتحداهم أن يأتوا بسورة، بل بعشر السورة، بل بالقرآن، قال تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] وقال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88].
وأُحذِّر -إخواني- من أن يغتروا بأعمالهم، إذا سمعوا مثل حديث معاذ.
ترك معاذ التحديث به حتى حضرته سكرات الموت، فقال: [[خشيت أن أكتم علماً، ثم أخبر به عند موته تأثماً]].
فبعض الناس إذا سمع حديث (لا إله إلا الله وأنها تدخل صاحبها الجنة) ترك الأعمال الصالحة، وارتكب المحرمات، وقال: أدخل بلا إله إلا الله الجنة، ولو صدق لعمل المأمور، واجتنب المحذور، وصدّق الخبر.(70/24)
لوازم لا إله إلا الله
من لوازم لا إله إلا الله: شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كلمة لا إله إلا الله لا تنفع بمفردها إلا أن تقرنها بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بالشهادة له بالرسالة، فمن شهد أنه لا إله إلا الله قادراً قاهراً محيياً مميتاً ولم يشهد بالرسول صلى الله عليه وسلم، دخل النار، ومن شهد بمحمد رسول الله وآمن بها ولكنه كفر بلا إله إلا الله؛ دخل النار.
فهما كلمتان مقترنتان لا بد للأولى من الثانية، ولابد للثانية من الأولى، ولا يسعد العبد إلا بهذه الكلمة، وبالعمل بمقتضاها -لا إله إلا الله محمد رسول الله- ولا تصح لا إله إلا الله وحدها إلا بهذه الكلمة؛ لأن من عارض محمد رسول الله فما آمن بالله وحده، ولا صدَّق بألوهية الله عز وجل؛ لأن معرفة ألوهيته سُبحَانَهُ وَتَعَالى إنما أتت عن طريق الرسول عليه الصلاة والسلام.(70/25)
أول ما يجب على المكلف
أول واجبات المكلف -أيها الإخوة الكرام-: الشهادة -شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله- فأول ما ينزل الطفل من بطن أمة ينزل على كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، سبحان الخالق! حتى أبناء الخواجات والوثنيين والشيوعيين والبعثيين والناصريين والقوميين أول ما ينزل الطفل من بطن أمة ينزل على التوحيد، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].
وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172].
هذا هو الميثاق، يقول أحد النبلاء:
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
وصح عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: {كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فتجد أول ما المولود يأتي على لا إله إلا الله إلا الله محمد رسول الله، ثم تبدأ الأم والأب بتعليمه الكفر والانحراف، والزندقة -والعياذ بالله- أو الإسلام والتوحيد والهدى والنور.(70/26)
أول واجب على المكلف عند أهل الكلام
أول واجب على المكلف هو أن يشهد أن لا إله إلا الله؛ لأن المناطقة وعلماء الكلام قالوا: يجب على العبد قبل أن يقول: لا إله إلا الله أن يفكر وينظر في السماء والأرض وبتأمل، وهذا خطأ، وتجدون تعليقاً في فتح الباري، لسماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز على كلام الجويني حين ذكره الحافظ ابن حجر يقول: "لا بد من النظر والاستدلال"، فقال الشيخ ابن باز -رحمة الله-: لا.
بل أول واجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن: لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله تعالى} فانظر! كيف بين عليه الصلاة والسلام أنه لا بد للمكلف أن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.(70/27)
النطق بالشهادتين أول واجب على المكلف
وعند مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان: {أن أسامة بن زيد خرج إلى الحرقات من جهينة تجاه ساحل البحر، فتقاتل هو والصحابة مع المشركين، فأتى مشرك فطارده أسامة، فلما أراد أن يقتله قال المشرك: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقتله أسامة، فعادوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فدخلوا عليه، فسبق بعض الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: يا رسول الله! إن أسامة قتل رجل يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم وغضب، فأتى أسامة! فقال: السلام عليك يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله! إنما قالها تعوذاً، قال: أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله! إنما قالها تعوذاً، قال: أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله! إنما قالها تعوذاً، قال: يا أسامة! من لك بلا إله إلا الله إذا أتته يوم القيامة تحاج عنه، قال أسامة: فوالذي نفسي بيده! لقد وددت أني ما أسلمت إلا تلك اللحظة} أي: كأن إسلامه الأول ذهب.
فالمقصود هنا أنه يجب على المكلف أن ينطقها قبل النظر والاستدلال!!(70/28)
عوامل الثبات على لا إله إلا الله
عوامل الثبات على لا إله إلا الله محمد رسول الله، كيف نكون صادقين بلا إله إلا الله محمد رسول الله؟ كيف تبقى معنا لا إله إلا الله؟ وكيف نقيم لا إله إلا الله إلا الله بلا ضعف؟! وهناك عدة عوامل للثبات على لا إله إلا الله منها:(70/29)
أولاً: العبادة
في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: {ما تقرب إلي عبدي بأحب مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به} ومما يُقوي لا إله إلا الله في القلب النوافل مع الفرائض والسنن، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء، والصدقة، وبر الوالدين، وحسن الخلق، وحسن الجوار فهذه تقوي لا إله إلا الله محمد رسول الله.
انظر كيف فترت لا إله إلا الله محمد رسول الله في قلوب المسلمين؟! فالآن تجد الجيران عندهم من المشاكل إلا ما رحم ربك، ترى الجار مع جاره إلى القاضي والمحكمة في خصومة ما، فأين لا إله إلا الله؟
بعض المسنين بلغ من العمر سبعين سنة وهو يشهد شهادة الزور؛ وقد أخبرنا بعض القضاة أن بعض الناس في السبعين من عمره وهو لا يزال يشهد شهادة الزور ليختم بها حياته، فأين لا إله إلا الله محمد رسول الله؟
وتجد بعض الناس ممن يشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله ولكنه يعق والديه سنوات مديدة؛ لا يسلم على أبويه، ولا يتلطف معهما، لا يلين ولا يرحم ولا يجيب طلب، ومع ذلك يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فأين مقتضى لا إله إلا الله محمد رسول الله؟
تجد الغش في البيع والشراء، والمخادعة، وأكل الربا، والتهتك في الحدود، وكلها من مخالفة لا إله إلا الله محمد رسول الله.(70/30)
ثانياً: التفكر في آيات الله الكونية
كل شيء في الكون يدلك على لا إله إلا الله محمد رسول الله:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فوا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
ترى الزهرة، والشجرة، والنهر، والسماء، والأرض، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191].(70/31)
ثالثاً: التفكر في آيات الله الشرعية
ومن لوازم ما يقوي لا إله إلا الله التفكر في الآيات الشرعية، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] وأعظم ما أوصي به نفسي والمؤمنين بالله عز وجل؛ وخاصة المهتدين بهداية الالتزام: أن يكثروا من التأمل في كتاب الله عز وجل، والنظر إليه، وتدبر آياته، ويحرصوا على الخشوع عند تلاوته، ليزدادوا إيماناً، فإن الإيمان الشرعي لا يأتي إلا من السماع الإيماني، والسماع الرحماني، والمحمدي، لا السماع الشيطاني الغنائي، الذي هو من رجس وكلام المغنيين والمغنيات، أعاذنا الله وإياكم منه.(70/32)
متابعة النبي صلى الله عليه وسلم
متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام من عوامل الثبات على لا إله إلا الله، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
فمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في السنن الظاهرة والباطنة تقوي لا إله إلا الله محمد رسول الله، لأنك تجد بعض الناس يخالف السنة، في لبسه، وجلوسه، وأكله، فتقول له: لماذا؟ قال: يكفي لا إله إلا الله.
وأقول: من لوازم لا إله إلا الله أن تتبع الرسول عليه الصلاة والسلام، ومما يصدِّق هذه الكلمة أن تقتفي أثره صلى الله عليه وسلم، فهذا مما يثبت لا إله إلا الله محمد رسول الله في قلوبنا.(70/33)
كيفية الثبات على لا إله إلا الله
هناك مسألة: وهي أن بعض الناس يظن أنه قد يُسدد عند الموت من قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله ويقولها ويموت، فيسعد ويدخل الجنة، مع العلم أنه ليس كل أحد يستطيع أن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله في سكرات الموت، ولو كان يحمل الدكتوراه في العلم، ولو كان من أعلم أهل الدنيا وهو منحرف فلا يكفي، بل لا بد من دافع ومن قول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) في سكرات الموت؛ لأن الله يقول: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] وقد ذكر ابن القيم -رحمة الله- في الجواب الكافي: أن رجلاً حضرته سكرات الموت، وكان عاشقاً مغنياً شارداً عن الله عز وجل منحرفاً، فقالوا له: قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ قالوا: قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال: أين الطريق إلى حمام منجاب، فمات عليها.
والله يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
وذكر ابن أبي الدنيا: أن رجلاً حضرته الوفاة، فقالوا: قل: لا إله إلا الله كان تاجراً منحرفاً عن أمر الله فقال: خمسة في ستة كم تصير؟ قالوا: قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ قال: خمسة في ستة كم تصير؟ لا يثبت بها إلا من اعتقدها وعمل بمقتضاها، أما المخادعة فالله يقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] فنعوذ بالله من المخادعة، ونعوذ بالله من خاتمة سيئة تختم للعبد على غير لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وأسأل الله أن يحيينا وإياكم على لا إله إلا الله، وأن يتوفانا وإياكم على لا إله إلا الله، وأن يدخلنا وإياكم الجنة بلا إله إلا الله، وأن يجعلنا من أنصار لا إله إلا الله، وأن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويوم يقوم الأشهاد، وأن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا، وأن يتولانا وإياكم، وصلى الله على محمد وعلى آل محمد وسلم تسليماً كثيراً(70/34)
الأسئلة(70/35)
الدين الإسلامي دين الثبات والمرونة
السؤال
ما رأي فضيلتكم فيمن قال: إن الدين الإسلامي يتصف بالثبات والمرونة، فالثبات في الأصول والمرونة في الفروع، والقياس على ما يستجد؟ ثم أرجو من فضيلتكم أن تبين كيف يكون الدين الإسلامي مواكباً للحضارة ومستجدات الحياة؟
الجواب
هذا السؤال يحتاج إلى محاضرة، وإلى كلام طويل، وتفريعات، ولكن أذكر بعض الأمور:
أما قضية الثبات والمرونة، فكلمة لا غبار عليها، فالإسلام ثابت في أصوله، مرن في مسألة مستجدات العصر، أما الصور التي وقعت وفقه النوازل التي نزلت على المسلمين، فإن الإسلام أوجد لها حلاً بالقياس، وغيره من صور التشريع، وعلى كل حال كلامك وارد أيضاً، وأما مواكبة الإسلام للزمن فهذا وارد، والشاهد أننا نعيش -الآن- في القرن الثامن عشر والحمد لله، فإن أحسن الناس اجتماعاً وأمناً من حكم شريعة الله عز وجل، وما وجدنا مسألة وجدت إلا وفي الإسلام جواباً لها {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] لكن من يأتي بهذا
الجواب
{ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] فما وجدت مسألة إلا واجتمع العلماء وقالوا: قولهم في المسألة وأفتوا بذلك؛ إلا أن الأصول ثابتة، والشريعة ثرية، والكتاب والسنة موجودان، يقول شوقي:
شعوبك في شرق البلاد وغربها كأصحاب كهف في عميق سبات
بأيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات
فعندنا القرآن والسنة، ولكن كثيراً من الناس في حالك الظلمات؛ لأنه ما عرف كيف يهتدي إلى الكتاب والسنة، ومن قال: إن الكتاب والسنة والإسلام لا يواكب الزمن، فقد افترى على الله عز وجل؛ بل -والله- إن من أسعد الأمم الآن هي الأمم الإسلامية.
كم عمر الشيوعية؟
اثنتان وسبعون سنة، ولكنها انهارت ولعنت وتمزقت، والبعث كُسر ظهره الآن، واحترقت أوراق الشرائع الدنيوية الأرضية، وما بقى إلا الإسلام والمستقبل له، وسوف يطوق الدنيا بإذن الله، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فعلى كل حال هذا يحتاج إلى محاضرة حتى نبين هذه المسألة، وهي: مواكبة الشريعة للزمن، ومرونة وثبات وشمول الشريعة.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبة وسلم تسليماً كثيراً.(70/36)
فن الدعوة
للدعوة إلى الله آداب لا بد أن يلتزم بها الداعية؛ ولأن الداعية المسلم يمثل في شخصيته أمام الناس دين الله.
فلا بد أن يتقن فن التعامل مع المدعوين، فيجتنب ما ينبغي اجتنابه، ويأتي ما ينبغي الإتيان به.
وفي هذا الدرس عرضٌ لهذه الآداب والأخلاق.(71/1)
الإخلاص في الدعوة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
إخوة الإيمان! إخوة الإسلام! إخوة العقيدة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أشكركم شكراً جزيلاً على حضوركم، وأعلن أمامكم أني أحبكم في الله، وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بهذه المحبة، فإن الله يقول في محكم التنزيل: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] اللهم إنا نسألك صدق النية، وصلاح الذرية، والعيشة الرضية، اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، وحب أوليائك وكره أعدائك، اللهم أصلح منا القلوب، واستر منا العيوب، واغفر لنا الذنوب.
وفي الحقيقة أنني مدين بالشكر لكم، إذ إن هذا الدرس وهو بعنوان (فن الدعوة) هو نتاج أفكاركم، ومن الفتوحات التي فتحها الله عليكم في اقتراحاتكم ورسائلكم، ومشاركاتكم، ومثلي ومثلكم هذه الليلة كما قال الشاعر:
كالبحر يمطره السحاب وما له فضلٌ عليه لأنه من مائه
الدعوة -يا معاشر أهل الإيمان، ويا حملة لا إله إلا الله- فنٌ يجيده الدعاة الصادقون، كفن البناء للبناة المهرة، وفن الصناعة للصناع الحذاق، وكان لزاماً على الدعاة أن يحملوا هموم الدعوة، ويجيدوا إيصالها للناس؛ لأنهم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم، ولابد على الدعاة أن يدرسوا الدعوة، ولوازمها ونتائجها، وأساليبها، وما يجدُّ في الدعوة، وكان لزاماً عليهم أن يتقوا الله في الميثاق الذي حملوه من معلم الخير عليه الصلاة والسلام، فإنهم ورثة الأنبياء والرسل، وهم أهل الأمانة الملقاة على عواتقهم، إذا علم ذلك فإن أي خطأ يرتكبه داعية؛ يؤثر في الأمة، ويكون الدعاة هم المسئولون بالدرجة الأولى عما يرتكب من خطأ، أو ما يحدث من فشل؛ بسبب أنهم هم رواد السفينة التي إذا قادوها إلى بر الأمان نجت بإذن الله.
واعلموا -حفظكم الله- أنه ينبغي على الدعاة ويجب عليهم آداب لابد أن يتحلوا بها حتى يكونوا رسل هداية ومشاعل حقٍ وخيرٍ يؤدون الرسالة كما أرادها الله.
وإن مما ينبغي على الدعاة -أيها الكرام- أولاً: الإخلاص في دعوتهم، وأن يقصدوا ربهم في عملهم، وألا يتطلعوا إلى مكاسب دنيوية زائلة، وإلى حطامٍ فانٍ، ولسان الواحد منهم يقول: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء:127] {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47] فلا يطلب الداعية منصباً، ولا مكانةً ولا منزلةً، ولا شهرةً، بل يريد بعمله وجه الواحد الأحد إنك تعلم ما نريد.
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريباً
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
وكذلك يكون مقصود الداعية: إقامة الدين وهيمنة الصلاح، وتقليص الفساد في العالم {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] والداعية -أيها الإخوة- كالمجاهد في سبيل الله، فكما أن ذاك على ثغرٍ من الثغور، فهذا أيضاً على ثغرٍ من الثغور، وكما أن المجاهد يقاتل أعداء الله، فهذا يقاتل أعداء الله من الذين يريدون تسيير الشبهات والشهوات، وإغواء الجيل، وانحطاط الأمة، وإيقاعها في حمأة الرذيلة
{وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] فوجب على الداعية أن يتحلى بما يتحلى به المجاهد، وأن يصابر الأعداء {فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4].(71/2)
طلب العلم النافع
ويلزم الداعية أن يطلب العلم النافع الموروث عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم؛ ليدعو على بصيرة، لأن الله قال في محكم التنزيل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] قال مجاهد: البصيرة: العلم، وقال غيره: البصيرة: الحكمة، وقال آخر: البصيرة: التوحيد، والحقيقة أن المعاني الثلاثة متداخلة، ولابد للداعية أن يكون موحداً للواحد الأحد، لا يخاف إلا من الله، ولا يرجو ولا يرهب إلا الله، ولا يكون أشد حباً إلا لله عز وجل، ولابد له أن يكون ذا علم نافع، وهو علم (قال الله، قال رسوله صلى الله عليه وسلم) ليدعو إلى الله على بصيرة، فيحفظ ما تيسر من كتاب الله، ويعنى بالأحاديث عناية فائقة، فيخرجها، ويصحح الصحيح منها، ويضعف الضعيف حتى يثق الناس بعلمه، ويعلم الناس أنه يحترم أفكارهم، وأنه يحترم تواجدهم، فإنني أعتبر مثل هذا الجمع أولاً: أنه حبٌ لله عز وجل، الثاني: أنه احترام لي، فلولا الحب بيني وبينكم ما حضرتم، فلم تجمعكم رغبة ولا رهبة، فكان لزاماً عليّ وأمثالي من المقصرين من طلبة العلم أن نحترم الجمهور في أن نقدم علماً نافعاً جديداً بناءً، مرسوماً على منهج أهل السنة والجماعة.
كذلك ينبغي على الداعية أن يكون حريصاً على أوقاته في حله وترحاله، في إقامته وفي سفره، وفي مجالسه، فيناقش المسائل، ويبحث مع طلبة العلم، ويحترم الكبير، ويستفيد من ذي العلم والتجربة والعقل، وإذا فعل ذلك سدد الله سهامه ونفع بكلامه، وأقام حجته ورفع برهانه.(71/3)
البعد عن المثاليات
ومما ينبغي على الداعية: ألا يعيش المثاليات، وليعلم أن الناس مقصرون وأنه مقصر، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21] فهو الكامل وحده، والنقص لنا.
ذهب الله بالكمال وأبقى كل نقصٍ لذلك الإنسان
فما دام أن الإنسان خلق من نقص؛ فعلى الداعية أن يتعامل مع المجتمع، ومع الشبيبة، ومع النساء، ومع العامة على أنهم من مصدر نقص، قال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [النجم:32] فما دام نشأتم من الطين والتراب، فأنتم ناقصون لا محالة، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يتعامل مع الناس على أنهم ناقصون ومقصرون، يرى المقصر منهم فيعينه ويساعده ويشجعه، ويأخذ به إلى الطريق، والداعية الذي يعيش المثاليات لا يصلح للناس، فإنه يتصور في الخيال أن الناس ملائكة إلا أنهم يأكلون ويشربون، والخلاف بينهم وبين الملائكة الأكل والشرب، وهذا خطأ، خاصةً في مثل القرن الخامس عشر -الهجري- الذي لا يوجد بيننا فيه محمد عليه الصلاة والسلام، ولا الصحابة الأخيار وقلّ أهل العلم، وكثرت الشبهات، وانحدرت علينا البدع من كل مكان، وأغرقنا بالشهوات، وحاربتنا وسائل مدروسة درست في مجالس عالمية، وراءها الصهيونية العالمية وأذنابها، فحق على العالم والداعية أن يتعامل مع هذا الجيل وهو يتصور أنه سوف يخطئ، وأن الإنسان سوف يحيد عن الطريق، فلا يعيش المثاليات، ولا يغضب إذا سمع شاباً طرح عليه مشكلة، أو أنه وقع في معصية.
فقد {أُتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم برجلٍ شرب الخمر -وهو من الصحابة- أكثر من مرة، فلما أتي به أقيم عليه الحد، قال بعض الصحابة: أخزاه الله ما أكثر ما يؤتى به في الخمر، فغضب عليه الصلاة والسلام وقال للرجل: لا تقل ذلك، لا تعين الشيطان عليه، والذي نفسي بيده، ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله} فلا إله إلا الله ما أحسن الحكمة! ولا إله إلا الله ما أعظم التوجيه! خمسون مرة وهو يشرب الخمر وبعدها يحب الله ورسوله.
ولذلك ينبغي ألا نيأس من الناس، مهما بدرت منهم المعاصي والمخالفات والأخطاء، بل لا بد أن نعتبر أنهم رصيد محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم أمل هذه الأمة، وأنهم في يومٍ من الأيام سوف تفتح لهم أبواب التوبة، وسوف تراهم صادقين، مخلصين، تائبين، متوضئين.(71/4)
عدم اليأس والقنوط من إعراض الناس
ينبغي على الداعية ألا ييأس من الناس، بل عليه أن يصبر ويصابر ويسأل لهم في السجود، وفإنه سوف يفرح بهم غداً، ولا يستعجل عليهم، فإن رسولنا عليه الصلاة والسلام مكث في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى لا إله إلا الله، فلم ييأس على كثرة الإيذاء والسب والشتم، وعلى كثرة ما تعرض له من الصعوبات، التي -والله العظيم- لو جمعت المصائب التي يتعرض لها الدعاة والعلماء، فإنها لا تعادل ذرة أمام المصاعب التي تعرَّض لها النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك صبر وحاسب نفسه، وحبس أعصابه -عليه الصلاة والسلام- ولم يغضب حتى يأتيه ملك الجبال، فيقول: أطبق عليهم الأخشبين؟ قال: لا، إني أسأل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً، فأخرج الله من أصلاب الكفرة القادة: خالد بن الوليد من صلب الوليد بن المغيرة، ومن صلب أبي جهل عكرمة بن أبي جهل.
فما أحسن الطريقة! وما أحسن ألاَّ ييأس الداعية! وأن يعلم أن العاصي قد يتحول بعد المعاصي إلى إمام مسجد أو خطيبٍ أو عالمٍ.
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
تريد مهذباً لا عيب فيه وهل عود يفوح بلا دخان
هذا لا يصلح على منهج الكتاب ولا على منهج السنة.
ومما ينبغي على الداعية ألا يقنط الناس من رحمة الله تعالى، فإن رحمة الله وسعت كل شيء، وهو الرحمن الرحيم، الذي يقول في الحديث القدسي الذي رواه أحمد والترمذي بسندٍ صحيح: {يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة} فلا تقنط شارب الخمر من توبته إلى الله، ولا تقنط الزاني ولا القاتل ولا السارق، بل حببهم إلى الهداية، وقل: هناك ربٌ رحيم، يقول في محكم التنزيل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] قال علي رضي الله عنه وأرضاه: [[الحكيم من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يورطهم في معصية الله]].(71/5)
الداعية ومشكلة تهوين المعاصي على الناس
ومن آداب الداعية ألا يهون على الناس المعاصي، بل يخوفهم من الواحد الأحد، فيكون وسطاً بين الخوف والرجاء، فإن بعض الناس قد يتساهل مع الناس في المعاصي، فكلما فعل عاصٍ معصية قال: ما عليك، وكلما ارتكب كبيرة، قال: سهلة، وكلما أتى بأخطاء، قال: أمرها سهل بسيط يسير، لا.
بل علِّمه أن هناك رباً يغضب إذا انتهكت حدوده، وأن هناك سلطاناً عظيماً على العرش استوى، لا يرضى أن تنتهك محارمه، وقد صح في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {تعجبون من غيرة سعد، فوالذي نفسي بيده، إني أغير من سعد وإن الله أغير مني} وقد ورد من صفاته سُبحَانَهُ وَتَعَالى، كما في الصحيح من حديث ابن مسعود: {أن الله غيور، ومن غيرته سُبحَانَهُ وَتَعَالى أنه يغار على عبده المؤمن أن يزني، وعلى أمته المؤمنة أن تزني}.(71/6)
الداعية ومهاجمة أشخاص معينين
ومن صفات الداعية ألا يهاجم أشخاصاً بأسمائهم، فلا يلمزهم على المنابر بأسمائهم أمام الناس، بل يفعل كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، فيعرف صاحب الخطأ خطأه، ولكن لا نشهر به، وأحب أن أفسر لكم مسألة قد تخفى أو لا تظهر وهي مثلاً: رجلٌ جاهر الله عز وجل بكتاباته، أو بانحرافاته أو بأدبه أو ببدعته أو بدعوته إلى المجون، فهذا لا بأس أن يشهر به عند أهل العلم حتى يبين خطره، فقد شهَّر أهل العلم بـ الجهم بن صفوان، وقال ابن المبارك في الجهم هذا المجرم الذي قاد الأمة إلى الهاوية، وابتدع بدعة في الدين، قال:
عجبت لدجالٍ دعا الناس جهرة إلى النار واشتق اسمه من جهنم
فشهروا به وشهروا بـ الجعد بن درهم وكتبوا أسماءهم في كتب الحديث، وحذروا الناس في المجالس العامة والخاصة منهم، فمثل هؤلاء يشهر بهم، لكن الذين يتكتم على أسمائهم أناسٌ أرادوا الخير فأخطئوا، وأناسٌ زلت بهم أقدامهم، وأناس أساءوا في مرحلة من المراحل، فهؤلاء لا تحاول أن تظهر أسماءهم في القائمة السوداء، فإن ذلك قد يغريهم على أن تأخذهم العزة بالإثم.(71/7)
الداعية وتزكية النفس
وعلى الداعية أن لا يزكي نفسه عند الناس، بل يعرف أنه مقصر مهما فعل، ويحمد ربه سبحانه أن جعله متحدثاً إلى الناس، ومبلغاً عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فيشكر الله على هذه النعمة، فإن الله قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} [النور:21] وقال له في آخر المطاف وهو يؤدي الرسالة كاملة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3].
قال أهل العلم: أمره أن يستغفر، والمعنى قد تكون مقصراً فيما فعلت فاستغفر ربك، وما تدري فإن المنة لله الواحد الأحد، وهو المعطي سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
فلا يأتي الداعية فيزكي نفسه ويقول: أنا آمركم دائماً وتعصونني، وأنهاكم ولا تمتثلون نهيي، وأنا دائماً ألاحظ عليكم، وأنا دائماً أرى، وأنا دائماً أقول في نفسي، وأنا دائماً أحدث نفسي إلى متى تعصي هذه الأمة ربها، فيخرج نفسه من اللوم والعتاب وكأنه بريء، وهذا خطأ، بل يجعل الذنب واحداً، والتقصير واحداً، ويقول لهم: وقعنا كلنا في هذه المسألة، وأخطأنا كلنا، والواجب علينا حتى لا يخرج نفسه من اللوم والعتاب، فما نحن إلا أسرة واحدة، وربما يكون -بل هذا حاصل- في المجموع الجالس من هو أزكى عند الله من الداعية، ومن هو أحق وأقرب إليه، وعلم الله عز وجل أنني لا ألتمس بعد التوحيد الذي أدين الله عز وجل به، مثل حب الصالحين ودعائهم فإنه من أعظم ما يقربنا إلى الله.(71/8)
خطر الإصابة بالإحباط عند الداعية
ومنها: أن يعلم الداعية أن الانحراف في الناس أكثر، وأن المفسدين في الناس كثير، فلا تصاب نفسه بإحباط، ولا يصاب بخيبة أمل، ولا يرى الألوف المؤلفة تتجه إلى اللهو واللغو والقليلة تتجه إلى الدروس والمحاضرات، ويقول: ما هذا؟! أقول: سنة وقضاء، سنة الله {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح:23]؛ لأن الله سبحانه ذكر في محكم التنزيل أن أهل المعصية والضلال أكثر، وأن المفسدين أكثر، وقال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] لست عليهم بوكيل {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] فنحن لا نملك سوطاً، ولا عصى، ولا عذاباً، ولا حبساً، إنما نملك حباً ودعوةً وبسمة، نقود الناس بها إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض، فإن استجابوا حمدنا الله، وإن لم يستجيبوا ورفضوا أوكلنا أمرهم إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الذي يحاسبهم.
قال بعض العلماء: الكفار في الأرض أكثر من المسلمين، وأهل البدعة أكثر من أهل السنة، والمخلصون من أهل السنة أقل من غير المخلصين.(71/9)
ضرورة فقه الواقع للداعية
ومن مواصفات الداعية أن يعيش واقع الناس، ويقرأ حياتهم، ويتعرف على أخبارهم، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] ومن حكمة الله تعالى إحياء رسوله أربعين سنة في مكة، فعاش في شعاب مكة، وفي أودية مكة، عرف مساربها ومداخلها، عرف الأطروحات التي وقعت في مكة، وعرف بيوت أهل مكة، واعترض الكفار وقالوا: لولا نزل عليه ملك، وقالوا: لو كان هو ملك، والله عز وجل ذكر أنه لابد أن يكون بشراً يعيش آمال الناس وهمومهم ومشكلاتهم، واحتياجاتهم، فحقٌ على الداعية أن يقرأ واقعه، وأن يستفيد من مجتمعه، وأن يعرف ماذا يدور في البلد وماذا يقال؟ وما هي مصادر المعلومات، ومن أين تأتي؟ وما هي القضايا المطروحة؟ ويتعرف حتى على الباعة، وعلى أصناف التجار، وعلى الفلاحين، وعلى طبقات الناس، وعلى أن يلوح في طرحه على مجامع الناس، وفي الأسواق والمحلات، وفي الجامعات والأندية، حتى يكون صاحب خلفية قوية يتكلم من واقع يعرفه.
وجعل أهل العلم من لوازم الداعية إذا أتى إلى بلد أن يقرأ هذا البلد، وقد كان بعض العلماء إذا سافر إلى الخارج يأخذ مذكرات عن البلد، عن تاريخه، وجغرافيته، ودراسة علم النفس فيه، وأمزجة أهل البلد، وتربية البلد، حتى يتكلم على بصيرة.(71/10)
أهمية تقديم الصورة الصحيحة للقضية وعدم تهويلها
ومنها: ألا يهول عليهم الوعظ، وألا يبالغ في النقل، ولا يجازف في العبارات، بل يأتي بكتاب الله عز وجل، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يزيد على ذلك، فإن بعض الوعاظ يحملهم الإشفاق والغيرة على أن يزيدوا على الكتاب، فتجده إذا تكلم على معصية جعل عقابها أكثر مما جعله الله عز وجل، حتى إن من يريد أن ينهى عن الدخان وشربه، يقول مثلاً: يا عباد الله! إن من شرب الدخان حرم الله عليه الجنة، وكان جزاؤه جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً، وهذا خطأ؛ لأن هناك موازين في الشريعة، هناك شركٌ يخرج من الملة، وهناك كبائر وصغائر، وهناك مباحات {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:3].
فوضع الندى في موضع السيف بالعلى مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى
فعلى الداعية: أن لا يهول على الناس، كذلك لا يهول جانب الحسنات كالحديث -وهو ضعيف- الذي يقول: {صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاةٍ بلا سواك} وحديث آخر باطل: {من قال: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، بنى الله له سبعين قصراً في الجنة في كل قصر سبعون حورية على كل حورية سبعون وصيفة} ويبقى في سبعين من صلاة العصر إلى صلاة المغرب، مع العلم أن الأجر الذي عليه محدد من الشارع الحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتهويل ليس بصحيح، بل يكون الإنسان متزناً في عباراته، يعرف أنه يوقع عن رب العالمين، وينقل عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم.(71/11)
حكم الاستدلال بالحديث الموضوع
ومما ينبغي على الداعية ألا يستدل بحديثٍ موضوع، إلا على سبيل البيان، فإنه يعلم أن السنة -والحمد لله- ممحصة ومنقاة، وأنها معروضة، وأن أهل العلم نقوها، ولذلك لما أُتي بالمصلوب الذي وضع أربعة آلاف حديث على أمة محمد صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً أُتي به إلى هارون الرشيد ليقتله، فسل هارون الرشيد السيف، قال: اقتلني أو لا تقتلني فوالله، لقد وضعت على أمة محمد أربعة آلاف حديث، قال هارون الرشيد: ما عليك يا عدو الله ينبري لها الجهابذة يزيفونها ويخرجونها كـ ابن المبارك وأبي إسحاق المروزي، فما مر ثلاثة أيام إلا وقد نقاها عبد الله بن المبارك وأخرجها وبين أنها موضوعة، فلله الحمد على منته.
فالأحاديث الموضوعة مبينة، وأنا أحذر إخواني الدعاة ألا يذكروا الناس بحديثٍ موضوع، ولو قال: إن فيه مصلحة ردهم إلى الله، فالمصلحة كل المصلحة فيما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والأحاديث الموضوعة كأحاديث علقمة وما واجه مع أمه، وكأحاديث ثعلبة والزكاة، وكأحاديث أخر بواطل، لا يصح الاستشهاد بها؛ لأن ضررها على الأمة عظيم، وأثرها على الأمة سقيم، لكن يجوز للداعية أن يبين للناس في مثل محاضرة أو درس أو خطبة الأحاديث الموضوعة وينبه الناس عليها.
كذلك الأحاديث الضعيفة لها شروطٌ في الاستدلال، فيستدل بالحديث الضعيف عند بعض أهل العلم بثلاثة شروط:
أولاً: ألا يكون شديد الضعف.
ثانيا: أن تكون القواعد الكلية في الشريعة تسانده وتؤيده.
ثالثاً: ألا يكون في الأحكام، بل يكون في فضائل الأعمال.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله وأسقاه من سلسبيل الجنة- عن الإمام أحمد في المجلد الثامن عشر من الفتاوى أنه قال: إذا أتى الحلال والحرام شددنا، وإذا أتت الفضائل تساهلنا.
وهذا كلامٌ جيد، ولو أنه غير مجمع عليه.(71/12)
عدم القدح في الهيئات والمؤسسات مع تبيين الحق والباطل
ومما ينبغي على الداعية ألا يقدح في الهيئات ولا في المؤسسات بذكر أسمائها، ولا الجمعيات، ولا الجماعات، لكن يبين منهج الحق، ويبين الباطل، فيعرف صاحب الحق أنه محق، ويعرف صاحب الباطل أنه مبطل؛ لأنه إذا تعرض للشعوب جملة، أو للقبائل بأسمائها، أو للجمعيات، أو للمؤسسات، أو للشركات أتى الآلاف من هؤلاء فنفروا منه، ولم يستجيبوا له، وتركوا دعوته، وهذا خطأ.
وفي الأدب المفرد مما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن من أفرى الفرى أن يهجو الشاعر القبيلة بأسرها} وهذا خطأ، فإن من يقول: قبيلة كذا كلهم فسدة وفسقة، مخطئ لأنه لم يصدق في ذلك، والتعميم عرضة للخطأ، فالوصية أن يكون الداعية لبقاً في اختيار العبارة حتى يدخل للقلوب، ولا يثير عليه الشغب؛ لأن الناس يغضبون لقبائلهم ولشعوبهم ولشركاتهم، ويغضبون لمؤسساتهم ولجمعياتهم، فليتنبه لهذا.(71/13)
عدم التكبر على الناس
ومنها: ألا يظهر الداعية بهالة المستعلي على جمهوره وأحبابه وإخوانه، وعلى المدعوين كأن يقول مثلاً: قلت وفعلت، وكتبت، وراسلت، وألفتُ، فإن (أنا) من الكلمات التي استخدمها إبليس، قال ابن القيم في كلامٍ ما معناه: اجتنب ثلاث كلمات (أنا) و (لي) و (عندي) فإن إبليس قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] وقال فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف:51] وقال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78] فاجتنب (أنا) واجتنب (لي) واجتنب (عندي) ولكن قد تستخدم (أنا) في مثل: أنا مقصر، كما قال شيخ الإسلام -سقاه الله من سلسبيل الجنة-:
أنا الفقير إلى رب البريات أنا المسيكين في مجموع حالاتي
أحد الناس مدح الداعية الكبير ابن تيمية الجهبذ، فغضب ابن تيمية وقال:
أنا المكدي وابن المكدي وهكذا كان أبي وجدي
يقول: أنا مذنب وأبي مذنب، وجدي مذنب إلى آدم عليه السلام.
هذا واجب الداعية أن يظهر دائماً بالتواضع وأن يلتمس العذر من إخوانه، وأن يبادلهم الشعور، وأن يطلب منهم المشورة والاقتراح، وأن يعلم أن فيهم من هو أعلم منه وأفصح وأصلح، لكن الله رشحه وكلفه، وكان أكثرهم حملاً، قال بعض السلف: الساكت ينتظر الأجر من الله، والمتكلم ينتظر المقت، فإن المتكلم خطير، فنسأل الله أن يسلمنا وإياكم.(71/14)
الداعية لا يعطي المسألة أكبر من حجمها
ومنها ألا يعطي المسألة أكبر من حجمها، فالدين مؤسس، ومفروغٌ منه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فلا يعطي المسائل أكبر من حجمها، ولا يصغر المسائل الكبرى أو يهونها عند الناس.
ومن الأمثلة على ذلك أن بعض الدعاة يعطي مسألة تربية اللحية أكبر من حجمها، حتى كأنها التوحيد الذي يدخل به الناس الجنة، ويخلد الناس بتركه في النار، مع العلم أنها من السنن الواجبات، وأن من حلقها فقد ارتكب محرماًً، لكن لا تأخذ حجماً أكبر من حجمها، وكذلك إسبال الثياب، وكذلك الأكل باليد اليسرى، وغيرها من المسائل، لا يتركها الداعية أو يقول: إنها قشور فيخطئ، ولكن لا يعطيها أكبر من حجمها، {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:3] فعليه أن يفعل كما فعل عليه الصلاة والسلام، تكلم عن التوحيد في جل أحاديثه ومجالسه، وأعطى المسائل حجمها حتى لا يصاب الناس بإحباط، فإن التربية المعوجة أن تصف له المسألة السهلة فتكبرها عنده، وتصغر المسألة الكبرى.
فأحياناً: بعض الناس يصغر من مسألة السحر واستخدام السحر ويقول: إنه ذنب، مع العلم أنه عند كثير من أهل العلم مخرجٌ من الملة، وحد الساحر ضربةٌ بالسيف، ومع ذلك تجد بعض الدعاة يصغر من شأن السحر.
وأحياناً: بعض الدعاة أيضاً يصغر من شأن الحداثة أو الهجوم على الإسلام في بعض المقالات والصحف والمجلات والجرائد، ويقول: هذا أمرٌ محتمل، والمسألة سهلة ويسيرة.(71/15)
عدم الاشتغال بمسائل لا فائدة منها
أيضاً على الداعية ألا يشغل الأمة في مسائل مفتعلة، لا يحسون بها ولا يعيشونها، فإن بعض الدعاة يختلق مسائل ولم يأتِ وقتها، أو الأمة مشغولة بمسائل أعظم منها، مثل: مسألة المهدي المنتظر، فيؤلف فيها كتاباً، ويرد عليه الآخر، مع العلم أن المهدي ما ظهر، وسوف يظهر في آخر الزمان، وعندنا من المشاكل ومن الدواهي، والمصائب ما يشغلنا عن ذلك.
أيضاً مثل مسألة: أين أدنى الأرض في قول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} [الروم:1 - 3] قال بعضهم: بحيرة طبرية، وقال بعضهم: غور الأردن، وقال بعضهم: أقرب الأرض من جزيرة العرب، وألف في هذه رسالة، ورد عليه ذاك برسالة! وهذا إشغال للأمة، بمثل هذه المسائل التي مر عليها أهل السنة والجماعة، وقالوا: نمرها كما جاءت من دون تعطيل!(71/16)
لين الداعية في خطابه مع الناس
ومنها أيضاً اللين في الخطاب، والشفقة في النصح، كما كان عليه الصلاة والسلام، كلامه ليِّن ووجهه بشوش، وتواضع عليه الصلاة والسلام للكبير والصغير، فتراه يقف مع العجوز ويقضي غرضها، ويأخذ الطفل ويحمله عليه الصلاة والسلام، ويذهب إلى المريض ويزوره، ويقف مع الفقير، ويتحمل جفاء الأعرابي، ويرحب بالضيف، ويوافق الإنسان، وكان إذا صافح شخصاً لا يخلع يده من يده حتى يكون ذلك هو المنتهي، وكان إذا وقف مع شخص لا يعطيه ظهره حتى ينتهي ذاك، وكان دائم البسمة في وجوه أصحابه -صلى الله عليه وسلم- لا يقابل أحداً بسوء.
فإذا فعل الإنسان ذلك كان أحب إلى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ويرسل الله موسى وهارون عليهما السلام، إلى أطغى طاغية فيقول لهما وهما في الطريق: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] فالقول اللين سحرٌ حلال، قيل لأحد أهل العلم: ما هو السحر الحلال؟ قال: تبسمك في وجوه الرجال، وقال أحدهم يصف الدعاة الأخيار من أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
هينون لينون أيسار بني يسرٍ صيدٌ بهاليل حفاظون للجار
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
فأدعو إخواني إلى لين الخطاب، وألا يظهروا للناس التزمت، ولا الغضب، ولا الفضاضة في الأقوال والأفعال، ولا يأخذوا الناس أخذ الجبابرة فإنهم حكماء معلمون، أتوا رحمةً للناس، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فالرسول صلى الله عليه وسلم رحمة، وأتباعه رحمه، وتلاميذه رحمة، والدعاة إلى منهج الله رحمة.(71/17)
مشاورة الآخرين وعدم الاستبداد بالرأي
ومنها: أن يقبل على أهل الخير، قبل ذلك يشاور إخوانه، فلا يستبد برأيه والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يقول: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] فيشاور طلابه في الفصل، ويشاور إخوانه، ويشاور أهل الدين وأهل الخير ممن هم أكبر سناً، ولا بأس أن يعرض عليهم حتى المسائل الخاصة التي تخصه هو حتى يثقون به، ويبدون له النصح، ويكونون على قربٍ منه، ويشاور أهل الحي والحارة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جلب الناس بسبب المشاورة، وكان يشاورهم حتى في المسائل العظيمة التي تلم بالأمة، كنزوله في يوم بدر، ومشاورته لأصحابه في الأسرى والغنائم ونحو ذلك وأمثالها من القضايا الكبرى.
فأنا أطلب من الداعية أن يشاور المجتمع، ولا بأس أن يكتب لهم بطاقات، وأن يطلب آراءهم، وإذا وجد مجموعة منهم يقول: ما رأيكم يا إخوتي في كذا وكذا؟ فإن رأي الإثنين أحسن من رأي الواحد، ورأي الثلاثة أحسن من رأي الإثنين.(71/18)
الثناء على أهل الخير
ومنها: أن يثني على أهل الخير، ويشكر من قدم صالحاً، فإن المسلم والداعية إذا أثنى على أهل الخير، عرفوا أنه يعرف قدرهم، وأنه لا يترك الجميل بلا جميل وبلا شكر، ولا يترك المخطئ بلا إدانة وبلا تنبيه، فكأنك لم تفعل شيئاً، بل لابد أن تقول للمحسن: أحسنت وللمسيء أسأت، فكبار السن يحبون منك أن تحتفل بهم، وأن تعرف أن لهم حق سن الشيخوخة وأنهم سبقوك في الطاعة، وأنهم أسلموا قبلك، وأنهم دخلوا في الدين قبلك بسنوات، فتعرف لهم قدرهم، وكذلك العلماء والقضاة، وأعيان الناس وشيوخ القبائل، ونحو ذلك من أهل الفضل، وأهل المواهب، كالشعراء والكتبة الإسلاميين، ومن له بلاءٌ حسن، والتجار الذين ينفقون في سبيل الله عليك أن تظهر لهم المنزلة وتشكرهم على ما قدموا، حتى تحيي في قلوبهم هذا الفعل الخير.
وكان عليه الصلاة والسلام يقول على المنبر: {غفر الله لـ عثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم} وكان يقول: {ألستم تاركو لي صاحبي} -يعني أبا بكر الصديق - وكان يشكر عمر ويخبر ما رأى عن عمر، وكان يقول: {سمعت دف نعليك يا بلال البارحة في الجنة} ويقول: {دخلت الجنة البارحة فرأيت الرميصاء} ويثني على هذا ويمدح هذا، ويشكر هذا، فإن هذه من أساليب التربية، وليست من التملق في شيء.(71/19)
الإسرار والجهر بالدعوة
ومنها: أن يعلن الدعوة للمصلحة ويسر بها للمصلحة، فمرةً يعلن بها، حيث يكون الإعلان مناسباً كالمحاضرة العامة، والموعظة العامة في قرية أو في بلدة، أو في مدينة، ولكن إذا أتى ينصح شخصاً بعينه فليأخذه على حدة، بينه وبينه، ويتلطف له بالعبارة، وينصح له بينه وبينه، قال الشافعي:
تعمدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوعٌ من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت قولي فلا تجزع إذا لم تعط طاعة
يقول: إذا خالفتني، ونصحت الإنسان أمام الناس، فلا تجزع فسوف يجابهك هذا وينتقم لنفسه، وقد تأخذه العزة بالإثم، وكم شكا لي بعض الشباب -حفظهم الله- أن بعض الناس جابههم في مجمع من الناس، وانتقدهم، فأصابهم من ذلك تذمر وانقباض واشمئزاز، وهذا ليس من المصلحة في شيء.(71/20)
الاهتمام بالقضايا العصرية
ومنها أيضاً: أن يطلع على الأطروحات المعاصرة والقضايا الحالية، ويتعرف -كما قلت- على الأفكار الواردة، فيقرأ الكتابات الواردة، ويقرأ للمؤلفين، وليس بصحيحٍ ما قاله بعض الناس حتى من الفضلاء: لا تقرءوا الثقافة الواردة، ولا تقرءوا هذه الكتب البيضاء العصرية التي وردت من وراء البحر، فإن هذا ليس بصحيح، ولو لم نقرأ هذه لما عرفنا أين نعيش وكيف نعيش؟ وكيف نتعامل مع هؤلاء؟ بل أرى أن على الدعاة أن يقرءوا الصحف والمجلات، لكن بحيطة وحذر، حتى لا تصل بعض الثقافة إلى بعض المجلات الخليعة، فتفسد عليهم قلوبهم، فإني أحذر من هذا، لكن إذا أراد أن يطلع هو فليطلع على انفراد، وليطلع بالتأمل وبحذر، ليعرف الداء في الأمة ويداويه ويعالجه.
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر جدير أن يقع فيه
وقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[تنقض عرى الإسلام عروة عروة من أناس وُلدوا في الإسلام ما عرفوا الجاهلية]] فالذي لا يعرف الجاهلية، لا يعرف الإسلام، ولا يتصور دين الله عز وجل، فحقٌ على الدعاة التنبه لهذا الأمر الخطير.
وأنا أطالب الإخوة الفضلاء، من وجد منهم كلاماً، أو وجد مقالاً فيه شبهة، أو فيه نظر أن يعرضه عليَّ أو على إخوانه من الدعاة، أو غيرنا ممن هو أعلم منا حتى نكون على بصيرة، ونخرج بحلٍ إما بتنبيهٍ أو بنصيحة عامة.(71/21)
مخاطبة الناس على قدر عقولهم
ومنها: أن يخاطب الناس على قدر عقولهم، فإن على الداعية أن يكون حاذقاً، يخاطب الناس على قدر عقولهم، فإذا أتى إلى المجتمع القروي تحدث بما يهم أهل القرية من مسائلهم التي يعيشونها، وإذا أتى إلى طلبة العلم في الجامعة حدثهم على قدر عقولهم من الثقافة والوعي، وإذا أتى إلى أهل الابتدائية حدثهم في مسائلهم مع التبسيط، وإذا أتى إلى أهل البادية نازلهم في مسائلهم التي يعيشونها، فإن لكلٍ مسائل، فمسائل البادية مثلاً: الشرك، والسحر، الكهانة، أو الإخلال بالصلاة، أو السفور أو نحو ذلك، ومسائل أهل الجامعة مثلاً: الأفكار الواردة من علمنة وإلحاد وحداثة وشبهات وشهوات، ومن مسائل أهل الابتدائية مثلاً الجليس، بر الوالدين، حقوق الجار، حفظ الوقت، قراءة القرآن، حفظ المتون، ونحو ذلك من المسائل حتى يكون ذلك على بصيرة، فلابد من مخاطبة الناس على قدر عقولهم ومواهبهم، واستعداداتهم، وانظر إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم يخاطب معاذ بن جبل بخطاب لا يخاطب به أحداً غيره من الأعراب مثلاً، فيخاطبه عن العلم وعن أثر العلم، وعن حفظ الله، وعن حدود الله، ويخاطب الأعراب بالتوحيد، ويقودهم إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض ونحو ذلك.(71/22)
الحذر من رفع النفس بانتقاد الآخرين
ومما ينبغي على الداعية أن لا ينتقد الآخرين ليرفع نفسه، وهو ما يسمى في التربية أسلوب الإسقاط، أن تسقط غيرك لتظهر أنت، ويفعله بعض الناس من أهل حب الظهور والشهرة -والعياذ بالله من ذلك- وأهل الرياء والسمعة، فإنه إذا ذكر له عالم قال فيه كيت وكيت، وإذا ذكر له داعية قال: لا أرضى مسيرة في الدعوة، وإذا ذكر له كاتب انتقده كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -سقاه الله من سلسبيل الجنة-: بعض الناس كالذباب لا يقع إلا على الجرح.
الذباب يترك البقعة البيضاء في جسمك، فإذا كنت تلبس ثوباً أبيض فإنه لا يقع عليك، لكن إذا رأى جرحاً في إصبعك، وقع عليه، فهذا خطير وتجد أسلوب الإسقاط عند بعض الناس، يقول: شكر الله للداعية الفلاني، لكن فيه كذا وكذا، فلا يترك لكن ولا يترك الانتقاد، ولا يترك الاستثناء، ولا يترك الاستطراد حتى يظهر هو كأنه هو الذي لا عيب فيه قط، وتجد من الأساليب المدبلجة التي دبلجها الشيطان على بعض الدعاة أنه يأتي مثلاً ويدعو في قالب النصح للداعية، وهو يريد أن ينتقصه، فإذا ذكر له داعية قال: هداه الله، أسأل الله أن يهديه، فتقول له لماذا؟ قال: أسأل الله أن يهديه فقط، فتعرف أن وراء هذا الداعية شيء، وأنه يريد بها شيئاً، وهذا دعاءٌ لا يؤجر عليه، قال ابن المبارك: رب مستغفر أذنب في استغفاره، قالوا: كيف؟ قال: يذكر له بعض الصالحين فيقول: أستغفر الله، ومعناها أنه ينتقد عليهم فلا يكتب له أجر هذا الاستغفار، بل قد يسجل عليه خطيئة.(71/23)
الداعية قدوة للآخرين
ومنها: أن يتمثل القدوة في نفسه، وأن يسدد ويقارب ويعلم أن أخطاءه تضخم، وأن الخطأ منه كبير، وأن الناس ينظرون له.
قد هيئوك لأمرٍ لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وأنه أصبح أمامهم كالمرآة، كلما وقع فيها نقطة صغيرة كبرت وضخمت، فليتق الله في هذه الأمة، ولا يكون سبباً لهلاك كثير من الناس، فإنا رأينا كثيراً من العامة وقعوا في كثير من الخطايا بسبب فتاوى، أو بسبب تصرفات اجتهادية من بعض الفضلاء، ربما أجروا عليها، وأخطئوا خطأً واحداً، ولكن وقع بسببه عالَم، قال بعض الفضلاء: زلت العالِم زلت العالَم، فعليه أن يدرس القرار، أو التصرف أو الفعل أو الخطوة التي يريد أن يخطوها، قبل أن يقدم عليها حتى لا يكون عرضة لتوريط كثير من الناس، وكم جوبه الإنسان بفتاوى من عامة الناس، يستدلون بفعل الفضلاء والأخيار، وهذا خطأٌ عظيم.(71/24)
الداعية يتألف الناس
أيضاً مما ينبغي على الداعية أن يتألف الناس بالنفع، فيقدم لهم نفعاً، فليس مهمة الداعية فقط أن يلقي عليهم الخطب والتنبيهات والمواعظ، لكن يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يتألفهم مرة بالهدية، ومرةً بالزيارة، ولا بأس بالدعوة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا الناس وتألفهم وأعطاهم وأهدى لهم، بل كان يعطي الواحد مائة ناقة، وكان يأخذ الثياب الجديدة ويسلمها للناس، ويأخذ الإنسان ويعانقه ويجلسه مكانه، فكان يقدم الخير للناس، فهذا من التألف وهو من المحمدة، حتى إني أرشح أن من عنده رأس مال أن يتألف به الناس، وأن يدعو إلى سبيل الله عز وجل، ويا ليت أن هناك صندوقاً لتأليف كثير من الناس وردهم إلى الله عز وجل، مثل تأليف كثير من الشباب العصاة، فإذا رأيت الشاب عاصياً، وعلمت أنه لا يستطيع الزواج، ودفعت له المهر، أو شيئاً من المهر وقلت له: بشرط أن تصلي صلاة الجماعة، وأن تعود إلى الله وتتوب، فكم تساوي هذه؟ أو أن تتألف إنساناً تراه مثلاً: مدمناً على المخدرات، بشيءٍ من المال بشرط أن يتركها وأن يجتنبها، أو أن تتألف إنساناً لا يصلي في المسجد، بتقديم شيءٍ من النفع له، وبإهدائه شيئاً من المال، ولو سيارة، فإنا رأينا أن بعض الناس ممن أجادوا بعض الفنون الدنيوية أو بعض الأمور التي هي لهو ولعب، سلمت لهم بعض السيارات والشيكات والهدايا، مع العلم أنها زيادة في الضياع واللهو واللغو، فأين هذه المشاريع لا تطرح للدعاة ولطلبة العلم؟!
ومنها: ألا ييأس من المدعوين بسبب بعض معاصيهم، فتعايش الشاب وتعايش العاصي، أو تعايش المنحرف وتعلم أنه في يومٍ من الأيام إن شاء الله سوف يكون في رصيد الدعوة، وسوف يكون من أولياء الله، ولا تيأس، وعليك أن تتدرج معه، وأن تأخذه رويداً، وألا تجابهه وألا تقاطعه، بل تحلم عليه.(71/25)
الداعية يشارك الناس أحزانهم وأفراحهم
كذلك على الداعية: أن يشارك الناس أحزانهم ويحل مشكلاتهم ويزور مرضاهم، فإن الانقطاع عن الناس ليس بصحيح، فإن الناس إذا شعروا أنك معهم، تعيش سرورهم، وأعراسهم، وتعيش أحزانهم، ومشاكلهم أحبوك، ولذلك أقترح على الدعاة أن يحضروا الأعراس، وقد يعتذر الداعية أحياناً، من عدم حضور الزواج لما عنده من الإرهاق، أو الالتزام ولا يعني ذلك أنه لا يحب المشاركة، لكن إذا كان يحضر الزواج فيبارك للعريس، ويبارك لأهل البيت، ويفرح معهم ويقدم الخدمات، ويرونه متكلماً في صدر المجلس، ويرحب بضيوفهم معهم، فإنهم يحبونه كثيراً، وأنا أقترح أن يقدم الدعاة أطروحات لمن أراد أن يتزوج ويقول: عندنا الشباب ونريد أن نساعدك وأن نعينك، فماذا ترى وماذا تقترح علينا لنقدم لك ما يساعدك على ذلك،؟ وكذلك إذا سمع بموت ميت، فعليه أن يذهب إلى أهله وأن يواسيهم ويسليهم، ويلقى عليهم موعظة، إذ كيف يراك الناس تدعوهم يوم الجمعة ثم لا يرونك في أفراحهم ولا في أحزانهم.
وكذلك تشارك في حل مشاكلهم، فالداعية مصلح، يذهب في شفاعة حسنة، وما أحسن الداعية مثلاً أن يذهب مصلحاً! وأن يذهب مستشاراً! وأن يذهب حالاً للمشاكل! حينها يكسب ود الناس كما فعل عليه الصلاة والسلام، فإنه قد تأخر كما في صحيح البخاري عن صلاة الظهر مرة؛ لأنه ذهب إلى بني عمرو بن عوف يحل مشاكلهم ويصلح بينهم، وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع عن مريض -حتى من الأعراب البدو في أطراف المدينة - ذهب بأصحابه يزوره، وهذه من أعظم ما يمكن أن تحبب الداعية إلى نفوس الناس.(71/26)
التدرج في الدعوة وتجديد أساليبها
كذلك ينبغي على الداعية أن يتدرج في دعوته، فيبدأ بكبار المسائل قبل صغارها، فلا يقحم المسائل إقحاماً، فإنني أعلم أن بعض الناس من المقصرين من أمثالي، يذهبون إلى نواحٍ في البادية في بعض القرى أو في تهامة، فيريد أن يصب لهم الإسلام في خطبة جمعة واحدة، وما هكذا تعرض المسائل! عليك أن تأخذ مسألة واحدة تعرضها لهم، وتدرسها معهم، كمسألة التوحيد، أو مسألة المحافظة على الصلوات، أو مسألة الحجاب، أما أن تذكر لهم في خطبة أو درسٍ أو موعظة، التوحيد والشرك والسحر، والحجاب والمحافظة على الصلوات وحق الجار، فإنهم لا يمكن أن يحفظوا شيئاً:
أوردها سعدٌ وسعدٌ مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل
إنما تورد ناقةً ناقة، وهاهو الرسول صلى الله عليه وسلم يرسل معاذاً إلى اليمن فيقول: {ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة} هكذا يعرض الداعية كبار المسائل قبل صغارها، فلا تأتي إلى أناس قد لا يصلون وتطالبهم بتربية اللحى، وماذا ينفعنا في الإسلام أن يربي الناس لحاهم وهم لا يصلون في بيوت الله؟ وماذا ينفعنا أن يربوا لحاهم والواحد منهم لا يسجد لله سجدة؟ فلا تطالبهم بصغار المسائل حتى تخرج أنت وإياهم على مسائل كبرى وتتفقون على قدر مشترك؛ لتعلم هل هم معك أو لا؟
ومنها: أن يجدد الأساليب على الناس، مرةً بالموعظة ومرةً بالخطبة، ومرةً بالرسالة، ومرةً بالندوة ومرةً بالأمسية، حتى يسلك كافة السبل، فإن بعض الناس يتأثر من خطبة الجمعة ما لا يتأثر بالدرس، وبعضهم على العكس من ذلك، فتفنن في أساليب دعوتك للمدعو ونوع فيها فأحياناً يكتب له رسالة، وأحياناً يتصل به بالهاتف، وأحياناً يرسل له بعض الدعاة، فأرى أن تجديد الأسلوب مطلوب وفي عصرٍ جُددت فيه أساليب الباطل، في عصرٍ أخذ الباطل كل الإمكانيات، فالأقمار الصناعية في يد الباطل، والوسائل الهائلة في يد المبطلين، ومعظم الإمكانيات الضخمة، مع العلم أن الدعاة لا يملكون شيئاً من هذه الوسائل، يملكون المنبر، ويملكون الدرس، ويملكون الكتيب، لكن أسأل الواحد الأحد الذي بيده كل شيء أن يتمم الأمور، وأن ينفع بالأسباب، والله يقول عن أهل الباطل ويخبر أنهم أكثر مالاً، وأكثر إنفاقاً، وأكثر وسائل قال: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] وعليه فلا ييأس الداعية من قلة وسائله، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كانت ثقافات العالم حوله في جزيرة العرب هائلة، إمبراطورية كسرى، وإمبراطورية قيصر، تملك الميزانيات الضخمة، ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم في بيت طين، ولكن بوسائله مع الإخلاص والصدق، بلغه الله ما تمنى، وبلغ الدين مشارق الأرض ومغاربها.(71/27)
إنزال الناس منازلهم
كذلك ينبغي أن ينزل الناس منازلهم، فلا يجعل الناس سواسية العالم له منزلة، والشيخ الكبير له منزلة، والشاب له منزلة، {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] فلا يكون دائماً ميزان الناس عنده واحد، لا يختلف في مسألة اللقاء، وهذا ليس من التفريق أو التمييز العنصري، بل هذا من أدب الإسلام، يختلف لقاء هذا عن ذاك، ويختلف منزل هذا عن ذاك، وبعضهم لا يرضى إلا بصدر المجلس، وبعضهم يرضى أن يكون طارفاً، وبعضهم من الحكمة ألا تركب أمامه في السيارة أو أن تخرج وتفتح له الباب وتجلسه أمامك، وبعضهم إذا لقيته عانقته عناقاً حاراً، وبعضهم عناقاً من نوع آخر، وهذه من الحكمة التي يتحلى بها الداعية في تعامله مع الناس، كما فعل عليه الصلاة والسلام مع كثيرٍ من أصحابه، ومع المسلمين، وكان صلى الله عليه وسلم ينزل الناس منازلهم، وهذا الحديث في صحيح مسلم ورواه مسنداً وأبو دواد وهو صحيح من كلام عائشة.(71/28)
محاسبة الداعية لنفسه
على الداعية أن يحاسب نفسه محاكماً في ذلك قوله، فيستمع قوله إذا قال، ويحاسب عمله، هل هو يعمل بما قال؟ وهل هو يطبق ما اقترح؟ حتى يكون قريباً، ثم يسأل ربه العون والسداد، وعليه أن يبتهل إلى الله في أول كل كلمة، وأول كل درس، ويسأل الله عز وجل أن يسدده، وأن يفتح عليه، وأن يهديه، ومما يؤثر في ذلك كما ورد في الحديث {اللهم بك أصول، وبك أجول، وبك أحاول} وكان كثير من العلماء إذا أرادوا أن يدرسوا الناس سألوا الله بهذا الدعاء، وبعضهم كان يقول: اللهم اهدني وسددني، وبعضهم يقول: اللهم افتح عليّ من فتوحاتك، وبعضهم يقول: اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين فأهلك، فإن الإنسان لو بقي إلى رشده أو إلى صوته أو إلى ذاكرته وقدراته، لتقطعت به السبل، فليس لنا معين إلا الله، فالداعي إذا أراد أن يصعد المنبر، وأن يمتطي المنبر عليه أن يبتهل إلى الله أن يسدد كلماته، وعباراته وأن يهديه سواء السبيل، وأن ينفع بكلامه وأن يلهمه رشده، فإنه لو شاء الله عز وجل ما استطاع أن يواصل، ولو شاء الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لخانته العبارة، أو أتى بعبارة ربما تورطه وتورط الناس، أو أتى بعبارة خاطئة تخالف الدين، أو أتى بعبارة لا تصلح أن تعرض، فعليه أن يسأل الله السداد والثبات، فإن من سدده الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى سُدد، ومن خذله الله فهو المخذول.(71/29)
التقرب إلى الله بالنوافل
ومنها: أن يكون للداعية نوافل من العبادات، وأوراد من الأذكار والأدعية، فلا يكون عادياً كسائر الناس، بل يكون له تميزٌ خاص، فيحافظ على الدعاء بعد الفجر، وقبل الغروب حتى يحفظه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ولو وقع عليه القضاء والقدر فإنه يتلطف به سُبحَانَهُ وَتَعَالى بسبب دعائه، فيكون له جمعية خاصة -أقصد جمعية من الدعاء- ويكون له وقت إشراق مع نفسه، يحاسب نفسه بكلمات مباركة وبدعاء، وله وردٌ يومي بعيداً عن أعين الناس، يقرأ فيه القرآن ويتدبر أموره، ويكون له مطالعة في تراجم السلف بعيداً عن الناس، لأن كثرة الخلطة مع الناس تعمي القلب، وتجعل الإنسان مشوش الذهن، ملولاً، سئوماً، وقد تقسي قلبه، فلابد من العزلة ولو وقتاً من الأوقات، كآخر الليل، أو العزلة يوم الجمعة، أو ساعة من الساعات، أو بعض الأوقات في اليوم والليلة يعتزل وحده، فلا يجلس مع زائغ، ولا يلتقي بأحد ولا يتصل بهاتف، ولا يقرأ إلا فيما ينفعه، ثم يحاسب نفسه على ذلك.(71/30)
التفكر في الارتحال من الدنيا والتقلل منها
وعلى الداعية أيضاً أن يتفكر في الارتحال من هذه الدنيا، وأنه سوف يرتحل قريباً، وأن الأجل محتوم سوف يوافيه، فلا يغتر بكثرة الجموع، ولا بكثرة إقبال الناس، فإن الله يقول: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95] فليعلم أنه سوف يموت وحده، ويقبر ويحشر وحده، وأن الله تعالى سوف يسأله عن كل كلمة قالها، فليتأمل لماذا يدعو؟ ولماذا يتكلم؟ وبماذا يقول؟ وبماذا ينطق؟ حتى يكون على بصيرة.
كذلك على الداعية: أن يتقلل من الدنيا تقللاً لا يحرجه، لكن عليه بالوسط، يسكن كما يسكن وسط الناس، ويلبس كما يلبس وسط الناس، مع العلم أن هناك حيثيات أريد أن أذكرها، قد تخفى على كثيرٍ من الناس.
فإن بعض الناس يرى أن على الداعية أن يلبس لباس الفقراء، أو يلبس لباساً من أوضع اللباس، وهذا ليس بصحيح، فإنه على مقصده، والله أحل الطيبات، والرسول صلى الله عليه وسلم دعا إلى التجمل {تجملوا كأنكم شامة في عيون الناس} {إن الله جميلٌ يحب الجمال} وقد يكون من الفرضيات المحتومة المطلوبة العظيمة النتائج؛ أن يكون الداعية متجملاً متطيباً، ويكون مجلسه وسيعاً يستقبل فيه الأخيار والبررة، ويكون له مركبٌ طيب، فإن هذا لا يعارض كتاب الله عز وجل، ولا يعارض سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
بل عليه أن يكون له في كل حالة ما يناسبها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعتني بذلك، ففي صلاة الاستسقاء خرج صلى الله عليه وسلم في لباس متبذل -لباس قديم- ليظهر الخشية والخشوع والفقر أمام الله عز وجل، ولكنه في الأعياد لبس بردةً تساوي ألف دينار، وخرج بها أمام الناس، بل أهديت له هدية صلى الله عليه وسلم قيمتها مائة ناقة.
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بوسها
وإن من الإجحاف أن يطالب الدعاة أن يعيشوا في بيوت الطين في هذا العصر، الذي لا تبنى فيه البيوت إلا من الفلل، وفيها من الأشياء التي تعرفونها، أو نطالب الدعاة أن يكونوا على الحصير، مع العلم أن الناس يجلسون على الكنب، أو نطالب الداعية أن يلبس لباساً متمزقاً قديماً ويكتفي بثوبٍ على طول السنة، مع أن الله قد وسع عليه، والله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
لكن مقصودي بكلامي: ألا يتشاغل الداعية بالدنيا تشاغلاً هائلاً يعميه عن طريقته، فإنه من الحسرة أن تجد كثيراً من الدعاة، أو بعض المشايخ، أو بعض طلبة العلم غارقاً في الدنيا إلى أذنه، له من المؤسسات والشركات والدور، ويتشاغل بها عن الدعوة، أنا لا أعارض أن يكون لطلبة العلم تجارة، ولهم عَمَار في الأرض، ولهم دخل، فهذا مطلوب كما فعل عثمان وابن عوف وغيرهم من الصحابة، لكن أن يستغرق طالب العلم والداعية وقته في هذه الأمور، فتجده دائماً في مكاتب العقار، في البيع والشراء، مع الشيكات ويترك الأمة للمهلكات، فهذا ليس بصحيح، وهذا محرج، ومخجل، فإن الله عز وجل استخدمك في أحسن طاعة وفي أجل قربة، ولا بأس أن يكون لك أسهمٌ وأن يكون لك مشاركات وتجارات، لكن وكلها غيرك من الوكلاء، واهتم أنت بالدعوة وبرفع راية التوحيد، وبتثقيف الناس وتعليمهم.(71/31)
اهتمام الداعية بمظهره الشخصي
أيضاً أيها الإخوة! أرى كذلك اهتمام الداعية بمظهره الشخصي، وأن تكون حليته إيمانية، وأن يظهر عليه الوقار والسكينة، وأن يلبس لباس أهل الخير والعلم، فإن لكل قومٍ لباسا، فإن تميز أهل العلم مثلاً بلباس، فيلبس لباسهم ويمشي مشية أهل العلم، ويكون مظهره جميلاً، ويعتني بخصال الفطرة، وقد أكدت على ذلك كثيراً كالسواك وتقليم الأظافر، وإعفاء اللحية، وأخذ الشارب، ومعاهدة أمور الجسم الأخرى من خصال الفطرة، وأن يكون متطيباً، يحافظ على الغسل، ويحافظ على مظهره الجميل حتى يمثل الدعوة تمثيلاً طيباً أمام الناس.(71/32)
الداعية لا يتقمص شخصية غيره
كذلك أرى أن على الداعية ألا يتقمص شخصية غيره، وألا يذوب في بعض الشخصيات، فتجد أن بعض الدعاة إذا أحب داعية أو عالماً آخر، قلده في كل شيء حتى في صوته، ومشيته، وحتى في حركاته فذاب في شخصية ذاك، والرسول صلى الله عليه وسلم يروى عنه وهذا الحديث في سنن الترمذي، لكن في سنده عبد المهيمن بن عباس فيه نظر يقول: {لا يكن أحدكم إمعة إن أحسن الناس أحسن وإن أساء الناس أساء، لكن إذا أحسن الناس فأحسن، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم} بل في هذا الحديث اضطراب عند أهل العلم.
فذوبان الشخصية ليس بجيد للداعية، بل عليك أن تستقل في شخصيتك، وتعلم أن الله خلقك نسيجاً وحدك، وأن الأرض لا تستطيع إلا بإذن الله عز وجل أن تخرج واحداً مثلك، فأنت من بين الملايين التي خلقها الله منذ آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وحدك، صوتك وملامح جسمك واستعدادك وما عندك من مواهب لا يشابهك فيها أحد، فأنت تقدم نفسك وتقدم ما عندك، لكن لا تذوب في الآخرين، ويسمي الغرب هذا ذوباناً وينهون عنه ويقولون: لا تتقمص شخصية غيرك.
قالوا عن الطاووس: أراد أن يقلد الغراب في مشيته، فنسي مشيته وما استطاع أن يقلد الغراب، وهذا يدخل يقع فيه بعض القراء، فإن القارئ منهم يريد أن يقلد قارئاً آخر فيتعب، فلا يحسن صوت ذاك، ولا صوته المعهود الذي منحه الله عز وجل، ويستثنى من ذلك ما إذا كان يستطيع أن ينطق مثل صوت ذاك بدون كلفة، وصوته جميل فلا بأس إن شاء الله.
وقس على ذلك الخطباء، حتى إنه يوجد من الناس من يتنحنح كما يتنحنح ذاك الشيخ، وليس به نحنحة، ومن يسعل كما يسعل ذاك الشيخ وليس به سعال، وهذا ذوبان مفرط، ويسمى انهزاماً نفسياً لا يقره الإسلام، بل الإنسان يبقى على شخصيته.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يتعامل مع أصحابه على أن شخصية عمر قوية في الحق، أثنى عليه بقوته وقال: {مثلك يا عمر كمثل نوح وكمثل موسى} وأثنى على أبي بكر برقته وأبقى رقته له وقال: {ومثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم وكمثل عيسى} عليهم السلام، فالقوي قوي، يبقى على قوته، لكن فيما ينصر به الدين، ولذلك نحتاج نحن -عالم الإسلام- إلى من هو قوي، في رأيه وفي إرادته، ونحتاج إلى من هو رقيق رحيم ونحتاج إلى كل طاقات الناس، فإن هذا له باب وهذا له باب، وقد سلف معنا كثيراً أن الرسول صلى الله عليه وسلم نوع اختصاص الناس وجعلهم على جبهات بسبب مواهبهم، فسيد القراء أبي بن كعب وحسان للشعر، وزيد بن ثابت للفرائض، وأبو بكر للإدارة وعمر للقوة والصرامة والحزم وقس على ذلك.(71/33)
المساهمة في النصيحة للمسلمين
أيضاً أرى: أن الداعية كذلك يساهم في النصيحة لمن جعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عليه واجب النصيحة، لكن بالحكمة، بالمكاتبة الغير علنية، فيناصح بالتي أحسن، ولا يحتقر نفسه مهما كبر ذاك المنصوح، فإن عليك أن ترسل له رسالة دافعها الحب، رسالة من يريد الخير للمسلمين، ولا يقول أنا لست معروفاً، أو أنا نكرة، أو أنا مجهول، بل يكتب لعل الله ينفع برسالته، ويتلطف في الكلام {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].(71/34)
الاهتمام بجانب النساء
كذلك على الداعية أن يهتم بجانب النساء، فلا يغفل هذا الجانب في كلامه ولا في محاضراته؛ لأنهن نصف المجتمع.
والكلام الذي سمعتموه من أول المحاضرة إلى الآن موجهٌ أيضاً إلى المرأة المسلمة؛ لأن الداعية المسلمة تأخذ كما يأخذ الداعي المسلم، ولذلك أكون حريصاً -إن شاء الله- في اللقاء مع الشباب على أن أخاطب الرجال والنساء، والشباب والشابات، والذكران والإناث بمشاكلهم الاجتماعية، وما يدور في استفساراتهم وأسئلتهم وأطروحاتهم.
أسأل الله التوفيق والهداية، والرشد والسداد، كما أنه لا يفوتني في آخر هذا الدرس قبل أن أجيب على بعض الأسئلة أن أقول لكم: ينبغي أن يحتسب الإخوة في إخبار إخوانهم من الشباب وطلبة العلم والجيران وحثهم على الحضور، وأن يساهموا في ذلك حتى نتعاون على البر والتقوى، ونكون يداً واحدة ويرضى عنا سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى نهى عن التفرق والتخاذل، فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].
نسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن يرضى عنا وعنكم، وأن يجمعنا بكم في دار الكرامة، وأن يحفظنا وإياكم من كل مكروه، وأن يسدد منا الأقوال والأفعال، وأن يتولانا فيمن تولى، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(71/35)
الأسئلة(71/36)
مهتدون جدد
هذا أخ كتب يخبر أنه حضر لأول مرة مجموعة من الشباب المهتدي وشرفوا هذا المسجد لأول مرة، وأنسنا بهم ولله الحمد، أقولها يميناً يسألني الله عنها ما أريد أن لي بهداية واحد منهم حمر النعم، ولا مبلغاً مفروحاً به أو دنيا طائلة وإن الإنسان يعتبر أن من يهتدي كأنه أخوه من أبيه وأمه، وإنه فرحٌ لنا عظيم يجب أن يكون كعيد أن يأتي عشرات من الشباب جدد مهتدون أنقذهم الله من عذابه وهداهم إلى صراطٍ مستقيم {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] فليس الفضل في المراتب العالية؛ لأنها منهارة، وليس في المناصب فإنها منتهية، وليس في الأموال، فإنها محسوبة يحاسب عليها العبد، وليس في الكنوز ولا في القناطير المقنطرة، لكن أن يهتدي وأن يقبل إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولله الحمد والشكر.
أسأله تعالى وهو الواحد الأحد أن يثبت هؤلاء، وأن يزيدهم إيماناً وأن يردهم من هذا المكان وقد غفرت ذنوبهم، فإنه في كثير من الآثار أن الله يقول للمجتمعين على طاعته: قوموا مغفوراً لكم، فقد رضيت عنكم.
والشاب الذي حضر هذه الليلة وترك اللهو واللغو، وترك زملاء السوء ورفقة الانحراف أنا أعتبر أنه ولد من جديد، وقد ذكرت لكم أن شيخ الإسلام -سقاه الله من سلسبيل الجنة- كان يقول: لابد للإنسان من ميلادين اثنين: الميلاد الأول: يوم ولدته أمه، والميلاد الثاني: يوم وُلد في هذا الدين.
اليوم ميلادي فرحت لتوه في ليلة الإسراء والمعراج
فليلة الإسراء والمعراج بالنسبة لهذا الشخص، معراج العلوم والفنون والحكم والمعارف هي هذه الليلة، فاشكروا الله على فضله، وكونوا أعضاء خيرين في جمعية محمد صلى الله عليه وسلم وعليكم أن تدلّوا الناس على مرضاة الله عز وجل، يعني إذا وجد أحد منكم مجموعة من الناس أن يدعوهم لحضور مجالس الخير، وقد لا يستفيد مني شخصياً، لكن يوم يراكم ويرى حرصكم وجلوسكم والإيمان فيكم، ويوم يرى سمتكم تكون عنده هذه كمائة محاضرة.
أيضاً أظن أن غداً أول أيام البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، إن كان غداً أو بعد غدٍ فعلى كل حال أنتم أعلم، ومن صامها فكأنما صام الدهر كله، وهناك لطيفة عند بعض الفضلاء يقول: لماذا خص الشارع أيام البيض؟ بعض الأطباء العصريين قالوا: ربما كانت دورة الجسم تزداد وضخ الدم يزداد في ليالي البيض، والشيطان يجري في الإنسان مجرى الدم فيزداد نشاطه في الأيام البيض، فيحاصر في الصيام، هكذا قالوا، ودعها سماويةً تجري على قدرٍ.
وأنبه على كثير من النساء أن بعض الحجاب ليس حجاباً شرعياً، فكشف الوجه في الأسواق، وفي المجامع العامة قد أصبحت ظاهرة، كذلك العباءة المفتوحة من الأمام والتي تظهر فيها مفاتن المرأة وتكون مغرية، وفاتنة وجالبة للنظر، فلتتقي الله المرأة في طاعة ربها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولا تكون عرضة لعيون السيئين أو لتعريض نفسها لعذاب الله ومقته.(71/37)
بعض المحاضرين في الجامعة لهم أفكار منحرفة
السؤال
أنا من طلبة الجامعة الملتزمين الذين يواجهون بعض المحاضرين أصحاب الأفكار المنحرفة، فهل نناقشهم أم لا؟
الجواب
بالمناسبة، اقترح عليَّ كثير من الفضلاء من طلبة الجامعة درسٌ بعنوان رسالة إلى طالبٍ جامعي وسوف أفعل هذا -إن شاء الله- وعدٌ غير مكذوب، وأحضر له بإذن الله مستعيناً بالله ثم بأفكاركم وما تكتبونه إلينا من مسائلكم، لكن أرى أن صاحب الخطأ يرد عليه تواً في خطئه لكن بأدب، فالأستاذ الذي يعرض الكفر عند السبورة لا نسكت عليه، ونقول: سوق نحاوره فيما بعد ولا نزعجه الآن؟ لا.
بل نقوم بأدب ونقول: ما قلته مخالفٌ لكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتورد له الخطأ، على أني أعلم وقد بلغني أن بعض من يتكلم في بعض المحاضرات يسيء في فهمه للإسلام، ويسيء لبعض النصوص وبعض الأحاديث النبوية، ويرد بعض القواعد العامة من الإسلام، ويستهزئ ببعض السنن النبوية، وينتهك حرمة بعض العلماء والدعاة، ويتعرض لهم ولأشخاصهم ولأعراضهم، فهذا لا نحاكمه نحن، فنحن أضعف من ذلك، لكن نحيله للواحد الأحد، ونقول كما قال نوح: رب! {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10] لكنا مع ذلك لا نعلن الاستسلام بأفكارنا؛ لأنا منتصرون أصلاً، والحق حقنا، والأرض أرضنا، وأفكارنا هي الثابتة بإذن الله {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] على ذلك أرى أن يناقش هؤلاء ويحاوروا لكن من أناس يفهمون ويدركون، وإذا لم تستطع مناقشته، فلا أقل من أن تقدم له شريطاً لداعية أجاد في مناقشته، أو تقدم له كتيباً بأدب، أو مقالة أو تدعوه إلى بيتك، وتستضيف أحد الدعاة أو تذهب بأحد الدعاة إليه ليناقشه في مكتبه، أو في إدارته حتى نوقف هذا الطوفان الجارف، حتى لا يؤثر في غيره، لأن الجرباء تعدي غيرها من الصحاح، أما الصحاح فلا تعدي الجرب، فينتبه لهذا الأمر.(71/38)
علاج قسوة القلب
السؤال
أنا أحضر كثيراً وأنا من المواظبين ولكن أشكو إلى الله عز وجل قسوة قلبي؟
الجواب
يقول الشاعر القديم ابن عثيمين رحمه الله في قصيدة يرثي بها الشيخ العجيري أحد المشايخ الكبار من علماء نجد الأبرار يقول:
إلى الله نشكو قسوةً في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب
هو الموت ما منه ملاذٌ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالاً ونرجوا نتاجها وعلَّ الردى مما نرجيه أقرب
ونبني القصور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنا نموت وتخرب
إلى الله نشكو قسوةً في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب
وكلنا ذاك الرجل، لكن يا أخي لا نيأس من روح الله، {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] أتت هذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] ثم طمعهم الله في فضله، وفتح لهم أبواب الرجاء وقال {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] فسوف يحيا قلبك بإذن الله، وسوف تدمع عينك ولا تيأس وأنت في أول الطريق، والعبرة في كمال النهايات، لا بنقص البدايات، وعليك أن تواظب على الدروس وعلى مجالس الخير والمحاضرات وسوف تجد انشراحاً -بإذن الله- لأن الدعوات التي تلقى هنا ليست بالسهلة، الواحد الأحد يرفعها سبحانه، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] وأنا أجزم جزماً أنه بإذن الله في هذا الجمع الحاشد، ولو واحد ممن تستجاب دعوته، فكم من صالح، وكم من عابد، وكم من قائم لليل، وكم ولي من أولياء الله، الأولياء لم ينقطعوا، الأولياء كثير، وأنتم إن شاء الله من أولياء الله عز وجل على ما فينا من المعاصي جميعاً، فإنه لا زال عندنا ولاية مطلقة، ولاية الإيمان، والتوحيد: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] أما روح الإحباط الذي يذكرها بعض الناس يقول: أنا دعوت فلم يستجب لي، فهذا خطأ، أو كم دعونا فلم يستجب لنا، أو نحضر في جامع كبير وأظن كلنا لا يستجاب لنا، فهذا خطأ -والعياذ بالله- وهذا سوء ظن بالله، فلا يظن بالله السوء، بل الله يستجيب والله تعالى يحمي، ودعاء الصالحين مطلوب ومرغوب ومبذول، والذي أرجوه مني ومنكم أن تكثروا من الدعاء بإلحاح، وأن تسألوا الواحد الأحد في صلاح ونصرة هذا الدين، واستقامة الصالحين، وفي نصرة أولياء الله عز وجل، كما أطلب منكم كذلك الدعاء بعضكم لبعض في ظهر الغيب، والتواصي بالمعروف حتى نكون ممن قال الله فيهم: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
أشكركم شكراً، وأسأل الله عز وجل أن يجمعنا بكم مراتٍ عديدة، وأعماراً مديدة، وأن يكون آخر اجتماع بكم في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(71/39)
فتية آمنوا بربهم
إنهم أصحاب الكهف، ما هو سبب انعزالهم عن قومهم في الكهف؟
ولماذا بعثهم الله بعد نومتهم؟
ولماذا ذكر الله هذه القصة؟
تصفح وانظر الفوائد الجليلة من هذه القصة العظيمة.(72/1)
أسئلة اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثلما نقول، لك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بمحمد صلى الله عليه وسلم، عزَّ جاهك، وجلَّ ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت، في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي الجنة رحمتك، وفي النار سطوتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك، أنت رب الطيبين لا إله إلا أنت، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
والصلاة والسلام على صاحب الصراط الممدود، واللواء المعقود، والحوض المورود، صلى الله على أفضل من نطق بالضاد، فوعته أذن البشرية، وعلى من تكلم بالدعوة فهَّد بها كيان الوثنية، وعلى من فتح له باب الفتح، فهدى به الله الإنسانية.
كسَّر الله به ظهور الأكاسرة، وقَصَّر الله به آمال القياصرة، وزلزل به عروش الظلمة الذين طغوا وبغوا حتى أرداهم ظلمهم في الحافرة، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:(72/2)
سبب ذكر الله لقصة أصحاب الكهف
أيها الناس: اجتمع كفار قريش -وقد أورد هذه القصة ابن إسحاق - في الحرم يوم بعث رسول الهداية صلى الله عليه وسلم، فقال قائلهم: ما ترون لهذا الرسول الذي يزعم أنه نبي؟
قال النضر بن الحارث: ما نرى إلا أن نذهب إلى اليهود في المدينة، فنسألهم أسئلة نضعها بين يديه، فإن كان صادقاً اتبعناه، وإن كان كاذباً طردناه، قالوا له: اذهب أنت وعقبة بن أبي معيط.
فذهب الرجلان الكاذبان الآثمان الغاشمان الظالمان إلى أحبار اليهود في المدينة، فعرضوا عليهم نبأ رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم، قالوا: اعطونا من كتبكم شيئاً، فأنتم أهل كتاب نسأله عنه، فإن كان صادقاً اتبعناه، وإن كان كاذباً طردناه، قال أحبار اليهود: إذا رجعتم إليه في مكة، فاسألوه عن ثلاث: سلوه عن شباب سلف بهم الدهر، وفتية مشوا في أول الزمان أين ذهبوا؟ وأين اختفوا؟ واسألوه عن ملك من الملوك ملك الدنيا من شرقها إلى غربها -ذهب إلى المشرق وإلى المغرب- واسألوه عن الروح.
فرجعوا واجتمعوا بالرسول صلى الله عليه وسلم -بالأمي الذي لا قرأ ولا كتب: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:48 - 49].
واستدعوه من بيته، وأتى الصادق الأمين الواضح المبين الوفي -عليه الصلاة والسلام- فجلس معهم، قالوا: نسألك عن ثلاث، قال: اسألوا ما بدا لكم.
فسألوه عن الفتية، وعن الملك، وعن الروح.
فقال: {أنظروني إلى غد، وفي الغد أخبركم} ولم يقل: إن شاء الله، ولو قال: "إن شاء الله" لنزل جبريل غداً بالوحي من السماء، فتعاليمه طاهرة قدسية.
{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:4 - 6] كلامه ومنهجه ومبدؤه وعقيدته تأتي من فوق سبع سماوات، لا من التراب والطين؛ والخرافات والخزعبلات؛ والكهنة والشعوذة، وإنما يأتي وحياً صادقاً واضحاً من السماء، لكنه ما قال: "إن شاء الله" وفي الغد اجتمعوا ودعوه وأتىصلى الله عليه وسلم خجولاً مستحياً متحسراً حزيناً، على أنه لم يأته الوحي، لأنه لم يقل: "إن شاء الله" قال: أنظروني، فاستهزءوا به خمسة عشر يوماً، وبعد خمسة عشر يوماً نزل جبريل بقول الحق من السماء، ولنستمع سوياً إلى الله عز وجل، وهو يخبرنا ويجيب على هذه الأسئلة الثلاثة.
فالله يفتي فيها من فوق سبع سماوات، ويخبر عن الفتية، وعن الملك، وعن الروح.
أولاً: يبتدئ القصة بأسلوب عجيب، وبنبأ غريب، يقول للرسول عليه الصلاة والسلام: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} [الكهف:9 - 12].
قال ابن كثير: هذا مختصر للقصة وسوف يأتي بسطها، أو هذا موجز وسوف يأتي تفصيل الأنباء فيما يأتي.(72/3)
تفصيل قصة أصحاب الكهف
يقول الله للرسول عليه الصلاة والسلام: نحن نخبرك بالحق، فاسمع إلى كلام هؤلاء الفتية، وإلى قصتهم ونبئهم.(72/4)
مجتمعهم يعبد الأصنام
فتية عاشوا في زمن من الدهر مع ملك من الملوك، وهو ملك ملحد ظالم سفاك مجرم لا يعرف الله، وهؤلاء الفتية خرجوا معه يوم المهرجان، ورأوا قومهم يعبدون الأصنام، ويسجدون للأوثان، ويتقربون للحجارة التي لا تنفع ولا تضر، وأراد الله أن يحيي قلوب هؤلاء الشباب، وأن يدخل لا إله إلا الله في قلوبهم.
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122] {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] فأتى شاب منهم عمره يقارب الاحتلام، قال: هذا دجل وكذب وافتراء على الله أن تعبد هذه من دونه، من رفع السماء؟ من بسط الأرض؟ من كوكب الكواكب؟ من جعل النجوم بهية إلا الله؟ فانزوى تحت ظل شجرة وأتاه زميله وقد ألقى الله في قلبه الإيمان كما ألقى في قلب خدنه ورفيقه، وأتى الثالث، والرابع حتى أتوا سبعة، فاجتمع رأيهم أن هذا ضلالة: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف:15] أي: الحجج والبراهين التي تبين أن هؤلاء آلهة من دون الله.(72/5)
اعتزال أهل الباطل
فلما اعتزلوهم وما يعبدون من دون الله، وهب الله لهم فتحاً مبيناً.
وهم قد اعتزلوهم بأرواحهم، قال الله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} [الكهف:16].
عجيب! أصبح الغار في الجبل أوسع من القصور، وأوسع من الدور، والبساتين، والساحات والميادين!! فقصور ليس فيها إيمان، وبساتين ليس فيها يقين وتوحيد؛ مظلمة خاوية ملعونة مسخوط ومغضوب عليها من الله.
أما الغار والكهف والخيمة إذا دخله الإيمان فرحب ووسيع.
سم الخياط مع الأحباب ميدان
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
وأكبر محاولة وأعظم مطلوب عند أهل العقول من أهل الإسلام: أن تكون عبداً لله.
فذهبوا ودخلوا الغار، ولما جلسوا، تبعهم كلب الملك، فالله يريد أن يعلي بصحبة هؤلاء الأخيار الكلب، فالكلب إذا صاحب الأخيار؛ أصبح شريفاً مذكوراً في القرآن، والشريف إذا صاحب الأشرار؛ أصبح كلباً، فدخل الكلب معهم، لكنه ما دخل الغار، ولكنه يحرسهم عند الباب: {والملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب} كما في الحديث الصحيح.
فجلس من أدبه وسكينته عند الباب يحرس هؤلاء السبعة، أما السبعة فألقى الله عليهم النوم.
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13] أسانيدنا موثوقة ليست من اليهود، ولا من النصارى، ولا من القوانين الأرضية إنما هي من السماء.
سند كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} [الكهف:13] شباب قلوبهم متفتحة للا إله إلا الله، وأرواحهم متطلعة للا إله إلا الله، ونفوسهم تحب لا إله إلا الله، ومن الذي رفع لا إله إلا الله في الإسلام إلا الشباب، ومن الذين رفعوا منائر الحق في سيبيريا وفي الأندلس والسند وطشقند إلا الشباب.
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا
فـ أبو بكر شاب وعمر وعلي شاب وعثمان والزبير وطلحة مزقوا في سبيل الله، إما صدِّيق أو شهيد وإما زاهد أو عابد.
فاسألوا التاريخ عنا كيف كنا نحن أسسنا بناءً أحمديا
{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} [الكهف:13] ما هي مواصفاتهم؟
{آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13] وأنت يوم تقبل على الله، يزيدك هدى، ويوم تدبر عنه؛ يزيدك ردى وبعداً عنه.(72/6)
ربط الله على قلوب الفتية
{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الكهف:14] لا خوف على من ربط الله على قلبه، فارقوا الأولاد والإخوة والزوجات والأصدقاء والفرش الوفيرة واللحاف الدافئة، والطعام والشراب، لكن إذا ربط الله على القلب، فقد ربط.
يا حافظ الآمال أنتت حميتني ورعيتني
وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
فربط الله على قلوبهم: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} [الكهف:14].
ثم التفتوا وهم في الغار يديرون حواراً وندوةً عن التوحيد: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الكهف:15] إنه لا أظلم ممن اتخذ من دون الله إله يعبده.
فلما انتهى حوارهم ألقى الله عليهم النوم: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الكهف:14 - 15] وضرب الله على آذانهم النوم؛ فناموا.(72/7)
نائمون كأنهم أيقاظ
{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف:18] عيونهم مفتحة، قال أهل التفسير: لئلا يأكلها الدود.
سبحانك يا رب! ثلاثمائة وتسع سنوات ما أغلقت عيونهم! كانت مفتحة حية تدور، لكن بلا نور: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف:18] لئلا تأكلهم الأرضة في الأرض، ولئلا تبلى أجسادهم {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18] عند الباب، انظر إلى المشهد وإلى الصورة والروعة في الإبداع!!
{وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف:18] ولم تنم عيونهم كما ينام الذئب:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع
{وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} [الكهف:18] لا يقترب منهم مقترب، فقد أخفى الله خبرهم عن الناس، كلما أتى راعي غنم فقرب من الغار؛ صرفه الله، وكلما أتى رجل من آبائهم أو إخوانهم يبحث عنهم؛ صرفه الله كما فعل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى برسول البشرية وهادي الإنسانية وهو مع الصديق الأكبر سيد الأولياء أبي بكر في الغار.
قال أهل العلم: قصة غارنا أعظم من قصة غارهم، وأصحابنا الذين في الغار أعظم من الأصحاب أولئك؛ لأن الله عز وجل حفظهم، فقصة غارنا أعظم وأعجب.
{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40].(72/8)
ما حدث بعد الاستيقاظ
ناموا ثلاثمائة وتسع سنوات كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وانتهت الفترة، وأذن الله أن يقوموا من منامهم، فاستيقظوا وجلسوا: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19].
كان المكثر منهم يقول: لبثنا يوماً كاملاً، والمقل يقول: نصف يوم، لكن سوف يخبرهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فجلسوا، قال أهل العلم: لما ناموا في الصباح واستيقظوا بعد هذه الفترة مع العصر، فظنوا أنه يوم واحد
.
قالوا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} [الكهف:19] أي: بفضتكم يأخذ لنا طعاماً أو إفطاراً من السوق وليتلطف، وقد كانوا أذكياء، فقالوا: ليذهب بخلق حسن، فلا يخاصم الناس، فيأتون بنا مع هذا المجادل للناس، فذهب بالعملة وكانت مضروبة قبل ستة ملوك، فقد أخذ الزمن ستة ملوك وماتوا جميعاً، وتغيرت المدينة والطرقات والميادين والسكك والعملة والناس، فأتى هذا الرجل، فدخل المدينة، وقد تغيرت ملامحها قال أهل السير: كان يقول: أنا نائم أم أنا يقظان؟ فلما ذهب وجد جماعة يبيعون طعاماً، فقال: ائتوني بطعام وخذوا هذه العملة، قالوا: هذه في عهد الملك دقيانوس، وقد مضى عليه ثلاثمائة وتسع سنوات، من أين أتيت؟ قال: أنا في عهد الملك دقيانوس وأنا أعيش معه في مملكته ما مضى علي إلا يوم! قالوا: كذبت! أنت مجنون! فاجتمع الناس عليه حتى رفع إلى الملك، فلما رفعوا أمره، أتى بهم وذهب برعيته إلى الغار، ولما أشرف على الغار، قال صاحب الطعام: انتظروني قليلاً، لأدخل الغار، لأرى أصحابي يتهيئوا لاستقبال الملك، فدخل عليهم، فلما وصل الغار، ألقى الله عليهم الموت فماتوا، ودخل الملك ورعيته، فوجدوهم أمواتاً {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف:21].
فهؤلاء قوم اهتدوا بهداية الله، ووجدوا الهداية في الغار عندما لم يجدوها في الدور والقصور، ولم يجدوها في المناصب والثروة والأولاد، ووجدوها في الغار يوم أنزلها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم، وللحديث بقية.
وأتى عليه الصلاة والسلام ليقص هذا النبأ على قريش فمن مؤمن ومن كافر، ومن مصدق ومن مكذب.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين؛ فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(72/9)
الغار وعدد الفتية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:(72/10)
العلم لا يؤخذ إلا من الأتقياء
كم عدد أهل الكهف؟
سيقولون: ثلاثة، أي: أحبار اليهود، -يا محمد- سوف يتعاطون بين يديك ويكذبون عليك، فاسمع إلى الأسانيد الصحيحة والكلام الظاهر الباهر.
{سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ} [الكهف:22] وهذان القولان ضعيفان وليس عليهما حجة: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22] وهذا الصحيح.
{وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22] قال ابن عباس: [[أنا من القليل الذين يعلمون ذلك، كانوا سبعة وثامنهم كلبهم]].
{قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف:22] أي: لا تسأل اليهود عن هذه الأخبار، فإن اليهود قوم كذبة مردة فسقة فجرة لا يؤخذ عنهم علم، ولذلك قال أهل العلم: لا يؤخذ العلم إلا عن الأتقياء الأبرار الأخيار، الذين يخافون الواحد القهار، ويريدون عقبى الدار، أما الفجار فلا يؤخذ منهم العلم، فالفسقة لا يترك لهم التربية في المجتمع، ولا يسيرون أجيال المسلمين، ولا يقررون المناهج، ولا يشرفون على المبادئ، ولا يقومون على تربية النسل والجيل؛ لأنهم فسقة.(72/11)
تعليق الأمور بمشيئة الله تعالى
قال سبحانه تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً} [الكهف:23] يوم قالوا لك: أخبرنا، قلت: غداً، لماذا لم تقل: إن شاء الله؟
وهل الأمور إلا بيد الله، إذا يسرها تيسرت وإذا عسرها تعسرت؟!
فإذا وعدت الناس، أو أردت أن تقول أو تفعل أو تحدث شيئاً، فعلق أمرك بمشيئة الله، فإن الأمور مقاليدها بيد الله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:23 - 24] في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال: {قال سليمان: لأطوفن الليلة على مائة امرأة كلهن يلدن رجالاً يجاهدون في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن، فما ولدن إلا امرأة ولدت نصف إنسان، والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله لولدن جميعاً رجالاً يجاهدون في سبيل الله}.
{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:23 - 24].
قال بعض أهل العلم: إذا غضبت فقل: "إن شاء الله" واذكره، وقال بعضهم: إذا نسيت شيئاً؛ فتذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لتذكره.
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} [الكهف:24] واستمع إلى النهاية: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} [الكهف:25] ثلاثمائة بالشمسية وثلاثمائة وتسع سنوات بالقمرية.
{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ} [الكهف:26] أي: ما أبصره بكل ما يبصر! وما أبصره بكل موجود! وما أعلمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] جل الله عن الأنداد والأولاد.(72/12)
ما يستفاد من قصة أهل الكهف
ومن هذه القصة تؤخذ دروس:
الدرس الأول: أن ضيق الدنيا وسعتها لا تقارن بالدور، والقصور، والأموال، والأولاد، ولكن السعة بالإيمان الذي يجعله الله في صدر من يشاء، فمن رزقه الله الإيمان، فقد وسع عليه، ومن حرمه الإيمان، فقد ضيق عليه وسخط عليه ولعنه وأذله وبكته وخذله وحرمه.
الدرس الثاني: أن الإيمان يطلب، ومن طلبه وجده، وأنه لا يعلق بملك أو تجارة، أو بولد: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] يعطى الإيمان لـ بلال وهو عبد حبشي من أثيوبيا قدم رقيقاً، ويحرم الإيمان أبو طالب وهو سيد قرشي كان بين الركن والحطيم.
ويعطى لـ سلمان وهو من فارس.
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
الدرس الثالث: أن ضيق الدنيا وسعتها أمر نسبي وإضافي، فمن وجد السعادة في الإيمان، ولو كان في كهف أو في غار، ولو كان على كسرة خبز وينام على الرصيف فهو السعيد.
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
ومن لم يجد الإيمان، فإن الله يضيق عليه ويحييه حياة ضنكاً، ولو جمع الملاذَّ والمطاعم والمشارب.
الدرس الرابع: أن الفرار بالدين من الفتن سنة، وأمر شرعي مطلوب كما فعل أهل الكهف، ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يوشك أن يكون خير مال المرء المسلم غنم يتتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن} فمن وجد فتنة، فليركب رجله وليفر وليذهب في الأرض الواسعة ولا يبقى في القرى الظالم أهلها الذين ينشرون الجريمة والمعصية، ويعينون على المنكر.
الدرس الخامس: أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إذا تولى حفظ، وإذا سدد هدى، ومن استكفى بالله كفاه، ومن احتمى بالله حماه، ومن توقى بالله وقاه، ومن استرعى الله رعاه، ومن ضيع الله ضيعه الله.
الدرس السادس: أن فيها نبأ عجيباً! وهو أن هذا الدين يتلقى بالوحي السماوي فليس بخزعبلات ولا ضلالات، وليس بتقليد وتبعية وإنشاء، إنما هو وحي يوحى، آية أو حديث، كتاب أو سنة، ويرد العلم إلى الله ثم إلى رسوله.
الدرس السابع: أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما أتى بعلم من لدنه، وإنما أتى بعلمه ورسالته من عند الواحد الأحد.
إلى غير تلك القضايا الكبرى التي من تدبر القرآن وجدها وأبصرها وعرفها واهتدى بهدى الله الذي هدى به رسوله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدةً صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على حبيبك ونبيك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، اللهم وفقنا لاتباع سنته، والسير على هديه، والاستفادة بمنهجه، وتعلم العلم الذي ورّثه، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، اللهم اهدهم سبل السلام، اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور يا رب العالمين!
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه، اللهم حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، واجعلهم من الراشدين، اللهم حبب إليهم الكتاب والسنة، واجعلهم خدماً لهما، متشرفين بخدمتهما، رافعين لعلمهما يا رب العالمين.
اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه، اللهم كفِّر عنهم سيئاتهم، وأصلح بالهم، واهدهم سبل السلام يا رب العالمين.
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً، وإن لم تغفر لنا وترحمنا؛ لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(72/13)
الأحاديث الواهية
ذكر الشيخ -حفظه الله- بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، وبين كلام السلف -رحمهم الله- فيها وتضعيفهم لها سنداً ومتناً، وذلك لأنه قد انتشر الكذب بين الناس، حتى تجرأ بعضهم، فأصبحوا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد سخر الله لهذا الدين علماء ينقون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويبينون الضعيف من الصحيح.(73/1)
الكذب من أكبر الذنوب والخطايا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
فعنوان هذا الدرس: الأحاديث الواهية.(73/2)
خطر الكذب على الله ورسوله
ولما كان لزاماً على كل طالب علم أن يبين للناس ما يخشى أن يقعوا فيه، ومن أعظم ما يخشى على الأمة الكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام والافتراء عليه، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار} والله عز وجل يقول: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً} [النساء:50] فبين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن الكذب من أكبر الذنوب والخطايا؛ خاصة إذا كان على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
الكذب على الناس كبيرة، فكيف إذا كان على رسول الناس؟! فكيف إذا كان على رب الناس سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟! قال سبحانه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر:60] مسودة من الكذب؛ لأن الكاذب دائماً خجول ودائماً حقير وذليل.
والمقصود من هذا الدرس: هو بيان بعض الأحاديث التي انتشرت بين الناس وهي ضعيفة أو موضوعة، وسوف أبين بحول الله الموقف من الأحاديث الضعيفة، هل يستشهد بها، وهل يستدل بها؟ ومتى وما شروط ذلك؟
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] ومعنى (لا تقف): قيل: لا تتبع، وقيل: لا تقف على ذلك، وقيل: لا تورده على الناس وأنت لم تتحقق منه، وقيل: لا تشيعه بين الناس فإن بعض الناس يحدث بكل ما سمع.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع} أي: يكفي الإنسان إثماً وخطيئة أنه كلما سمع قصة ومقالة قالها ونشرها بين الناس.
وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، وحرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات} ومعنى قيل وقال: أي كثرة الكلام، قال فلان ورد عليه فلان، وقالوا وقلنا، وهذا معناه: ضياع الوقت والعمر والدين.
يقول سبحانه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] وهذا تهديد لمن يتكلم في غير مرضاة الله عز وجل.
والمقصود هنا من الحديث: أن أبين بعض الأحاديث التي يستدل بها بعض الخطباء وبعض المتحدثين وهي منتشرة بين العوام فيحذر منها؛ لئلا تنتشر، وفي الأحاديث الصحيحة غنية والحمد لله.(73/3)
خساسة الكذب
الكذب ذميمة عند العرب في الجاهلية فكيف بالإسلام؟!
يقول أبو سفيان عند هرقل: فلولا أن يأثروا عني الكذب لكذبت، أي: أخاف أن ينقل عني العرب أني كذبت فتركت الكذب.
وهو يومئذٍ مشرك!
والنابغة الذبياني وفد على النعمان بن المنذر -وهو أحد الملوك في الجاهلية- وكان النابغة رجلاً شاعراً افتري عليه عند النعمان بن المنذر فأمر بقتله؛ فوفد وقال له:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني وشاية لمبلغك الواشي أغش وأكذب
ويقول كعب بن زهير للرسول عليه الصلاة والسلام:
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب ولو كثرت فيَّ الأقاويل
وذلك في قصيدته الرائعة الجميلة التي يقول في مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول
إلى أن قال:
إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول
إلى أن يقول فيه وهو يمدحه عليه الصلاة والسلام:
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب ولو كثرت فيَّ الأقاويل
ثم انتهى منها فأعطاه عليه الصلاة والسلام بردته، وعفا عنه وسامحه.
يقول عليه الصلاة والسلام عن سمرة عند مسلم: {من حدث عني بحديث يرى أنه كذب؛ فهو أحد الكاذبين} أي: أحد الكاذبين على الله؛ لأن الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم ليس ككذب على أحد، ولأن كلامه وأفعاله صلى الله عليه وسلم تشريع، وهو مسئول من الله، ومبعوث لإحياء جيل، ولإقامة شريعة، فمن كذب عليه فقد سنن للناس الكذب.(73/4)
ظهور الكذب في آخر الزمان
وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة عند مسلم في المقدمة: {سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم} أي: يتركون القرآن والسنة، ويتحدثون بالخزعبلات والمضحكات، والقصص الواهية التي ليس لها أساس، وليس لها عمق، وإني في هذا المكان أتعجب كثيراً من جريدة المسلمون! هذه الجريدة التي طالما تأتي بخزعبلات، فما ندري ما هو المقصد من هذه الجريدة؟ هل الذين يكتبون فيها بأقلامهم جهلة؟ أم في قلوبهم مرض؟ أم ارتابوا من هذه الرسالة الخالدة؟
يأتون بقصص واهية، ويظهرون شناعة لهذا الدين، وفي ظاهرهم أنهم يريدون الدفاع عن الإسلام، لكن يزرون بالإسلام وأهله.
قبل أشهر ذكروا امرأة من نجران وصوروا المرأة، وقالوا: هذه تشافي المرضى وتخرج الزجاج من العيون، ثم أظهروها وهي تدخل لسانها في عين مريض، ماذا يقول الغربيون إذا رأوا هذه الجريدة وهي تقرأ في كل بلاد العالم؟! كلما أتت خزعبلة في مكان من الأمكنة من بلاد الإسلام نقلوها للناس، وكأنهم يدافعون عنها وهم يحللونها ويطرحونها، مثل بعض المبتدعة يقولون: يُؤتى بالشبهة فيتوسع فيها كثيراً، ثم يرد عليها رداً ضعيفاً، فتتمكن الشبهة في قلوب الناس، فعلى كل حال عل هذا الكلام أن يبلغ بعض قراءهم أو محرريهم، وقد كتب لهم تنبيه في ذلك عل الله أن يصلح حالهم؛ لأن المسلم مسئول عما يكتب ويقرأ ويقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:24 - 25].(73/5)
جزاء من كذب على الرسول صلى الله عليه وسلم
يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: {من يقل عليَّ ما لم أقل فليتبوء مقعده من النار} أي: من قال عليَّ كلاماً لم أقله فليتهيئ وليتجهز لمقعد في النار جزاء له على فعله الشنيع، بالتشريع للأمة بشيء لم يشرعه عليه الصلاة والسلام، والحمد لله على أن حديثه محفوظ عليه الصلاة والسلام.
عمر الإسلام ألف وخمسمائة سنة وهو محفوظ قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] والشيوعية عمرها اثنان وسبعون سنة منذ أن كتب ماركس مذكراته في سويسرا ودخول لينين موسكو؛ عمرها اثنان وسبعون سنة ثم انهارت، ولكن الإسلام يزداد قوة، والإسلام الآن ينتشر انتشاراً رهيباً حتى انتشر في ولايات روسيا وألمانيا الشرقية، هذه الولايات يدخل أهلها في الإسلام زرافات ووحدانا؛ لأنه الدين الحق {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].(73/6)
تثبت الصحابة والتابعين في قبول الأحاديث
وقبل أن أبدأ في سرد الأحاديث الضعيفة الواهية أو الموضوعة التي أحذر نفسي وإياكم من الاستدلال بها في المجالس، أو في الأندية، أو في المجامع العامة، أذكر فصلاً وهو تثبت الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم في قبول الحديث.
في الصحيحين عند البخاري ومسلم: {أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه أتى إلى عمر بن الخطاب -وعمر خليفة- يريد أن يكلمه في بيته فطرق على عمر الباب فلم يرد أحد، فاستأذن مرة ثانية فلم يفتح له، فاستأذن ثالثة فلم يفتح له؛ فذهب أبو موسى، وفتح عمر الباب ونادى أبا موسى قال: تعال، ما لك عدت؟ قال: سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع، قال عمر رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لتأتينَّ بشاهد لك على هذا أو لأوجعنك ضرباً} وهو رضي الله عنه يعلم أنه صادق ولكن يريد أن يتثبت من الرواية، ولا يكون الإنسان كلما تأتيه قضية يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث وفي الأثر، وهذا خطر عظيم على طلبة العلم فكيف بالعامة؟!
فذهب أبو موسى إلى الأنصار، فاستشهدهم فقام معه أبو سعيد فشهد عند عمر أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال الحديث.
وكان ابن مسعود فيما صح عنه -وهذا يرويه جمع من أهل العلم كـ ابن ماجة وغيره- إذا قام يوم الخميس يعظ الناس، يرتعد وينتفض ويرتعش خائفاً أن يوقع كلمة مكان كلمة أو يخطئ في لفظة، حتى إذا انتهى قال: أو شبه هذا أو نحو هذا أو مثلما قال الرسول عليه الصلاة والسلام؛ حذراً أن يزل في حرف لم يقله عليه الصلاة والسلام.
ويقول الدارمي راوياً عن أنس: [[لولا أن أخطيء على الرسول عليه الصلاة والسلام لحدثتكم بأشياء سمعتها منه]].
وصح أن عروة بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: كان أبي إذا أراد أن يتبرد في الحر وضع ثيابه أي: نزع ثيابه وكنت ألعب في آثار الجروح التي أصيب بها في المعارك.
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
تخيرن من أزمان يوم حليمة إلى اليوم قد جربن كل التجارب
هذا الزبير بن العوام يأتي يوم القيامة والشهادات في آثار جسمه رضي الله عنه وأرضاه مما أصيب به في سبيل الله، يقول له ابنه: ما لك لا تتحدث إلا كالسحابة؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من كذب عليَّ متعمداً فليتبوء مقعده من النار} فكانوا يحذرون أشد الحذر!!
قال الإمامان أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية: إن العالم إذا لم يعرف الصحيح والسقيم والناسخ والمنسوخ من الحديث لا يسمى عالماً.
هذا ذكره صاحب معرفة علوم الحديث، لا يسمى عالماً من يورد السقيم، حتى يقول الشاعر:
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد تورد الإبل
ونصيحتي للإخوة خطباء المساجد وطلبة العلم والأساتذة، إذا أرادوا أن يحضروا موضوعاً أن يراجعوا الأحاديث، وأن يخرجوها أو يسألوا طلبة العلم، ولا يقول قال الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يدري من أخرجه ومن رواه، وهل هو صحيح أو ضعيف أو باطل حتى يكون على بينة؛ لئلا يفتري على الله.
تجد أن بعضهم من أسهل ما يجد عليه أن يورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام أحاديث، وهذا خطر عظيم.(73/7)
بعض الأحاديث الواهية المنتشرة بين الناس
أما الأحاديث التي أريد أن أوردها هذه الليلة ففيها ضعيف وفيها موضوع وفيها ما بينهما، وفيها ما ينجبر؛ لكنني أورد الضعيف والواهي؛ ليتنبه العبد المسلم عند سماعه الحديث؛ لأنها طالما تذكر في كتب التفسير والقصص وبعض المحاضرات.(73/8)
حال حديث: (حسبي من سؤالي علمه بحالي)
الحديث الأول: قال إبراهيم عليه السلام: {حسبي من سؤالي علمه بحالي}
هذا لا أصل له، وقد أورده ابن عراق في تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة والموضوعة، قال ابن تيمية: هذا الحديث موضوع.
وقصة الحديث: أن إبراهيم عليه السلام لما وضع في المنجنيق ليلقى في النار جاءه جبريل عليه السلام، فقال: ألك إلي حاجة؟ قال: أما إليك فلا وأما إلى الله فنعم، ثم قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، وهذا يخالف القرآن والسنة، ويخالف أصول الشريعة، وليس بصحيح.
معنى الكلام يقولون: إن إبراهيم عليه السلام يقول: حسبي من سؤالي علمه بحالي، أي: ما دام أن الله يعرف حالي فلا داعي أن أسأله، وهذا خطأ، لا يكفي أن يعرف الله حالك عن الدعاء، هو يعلم أنك فقير ومريض ومحتاج، فلا يصح أن تقول: الله يعلم أني فقير فلا داعي أن أدعوه.
أو لو كنت مريضاً في المستشفى وقيل لك: ادعو الله أن يشافيك، فتقول: لا، الله يعلم أني مريض نقول: هذا خطأ، وهو خلاف كلام أهل السنة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
والله جل وعلا يذكر الأنبياء في القرآن فيقول: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] إذاً الحديث معناه لا يصح؛ بل هو موضوع، لأن إبراهيم عليه السلام يقول: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37] وكل نبي دعا الله عز وجل، فكيف يقال: إن علم الله يكفي عن السؤال، لا يكفي، ولو كفى لما كتب علينا الدعاء: {الدعاء هو العبادة} لأن أصل الدعاء مطلوب سواء وقعت الإجابة أم لم تقع؛ لأن الدعاء عبادة، فلا يكفي أن تقول: ما دام أن الله يعلم أني فقير، إذاً لا أدعوه، ولذلك غلاة الصوفية يأخذون هذا المبدأ، فمنهم من يقول: أنا لا أدعو قلنا لماذا؟ قال: أستحي أن أذكر مسألتي بين يدي ربي كأن الله جاهل عن مسألتي! سبحان الله! الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو وإبراهيم ونوح وموسى وعيسى عليهم السلام وأنت لا تدعو!
وكان الصوفية هؤلاء يستشهدون ببيت لشاعر عربي وهو أمية بن أبي الصلت يقول لـ ابن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك إن شيمتك الحباء
إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء
يقول هذا الشاعر لعظيم من عظماء الجاهلية: أنا لا أطلب منك سؤالاً؛ لأنك تعرف حالي، وهذا خطأ.
ومن غلاة الصوفية من يذكر الاسم مجرداً بدون سؤال، يأتون في الليل ويقولون: يا كريم! يا كريم! يا كريم! يا كريم! يا كريم! يا كريم! ولا يسأل.
يقول أحدهم وهو جالس عند روضة المصطفى عليه الصلاة والسلام في المسجد النبوي بجانب القبر -صوفي من الغلاة، عنده مسبحة طولها ما يقارب مترين، ما تحمل إلا على حمار- فيقول: يا لطيف! يا لطيف! يا لطيف! يا لطيف! يا لطيف! يا لطيف! من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، فيقول له أحد طلبة العلم: أنت تدعو من العشاء إلى الفجر يا لطيف يا لطيف، ماذا تريد من اللطيف؟ قال أوصاني شيخي -شيخ الطريقة- أن أردد يا لطيف! يا لطيف! سبعة آلاف مرة.
ولله المثل الأعلى لو طرق شخص باباً وقال: يا محمد! فتخرج وتقول له: نعم.
قال: يا محمد! يا محمد! قلت: نعم.
قال: يا محمد! يا محمد! قلت: ماذا تريد؟ قال: يا محمد! يا محمد! هذا ليس بحق، ولا يصح في الأذهان
وكيف يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
وهذا الحديث: {حسبي من سؤالي علمه بحالي} ذكره البغوي في تفسير سورة الأنبياء، وأشار إلى ضعفه، ومعنى الحديث باطل؛ لأنه يخالف الكتاب والسنة.(73/9)
حال حديث: (الصبر نصف الإيمان)
حديث: {الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله} رواه أبو نعيم في الحلية، ومن باب الفائدة: أنبهكم على أن أحاديث الحلية أكثرها واهية، وحلية أبي نعيم مثل السراب والخطيب البغدادي في تاريخه - تاريخ بغداد - يقول: وهو حديث منكر، وعلته محمد بن خالد المخزومي قال عنه ابن الجوزي: مجروح، وقال الحافظ في اللسان: هذا حديث منكر لا أصل له.
إذاً: حديث: {الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله} ليس بصحيح، ولفظه وسنده منكر، ولا يصح رفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
أما قوله: الصبر نصف الإيمان فلا أعرف في ذلك حديثاً لكن ورد {الصوم نصف الصبر} وهذا معناه صحيح.(73/10)
حال حديث: (من خاف من الله خوَّف الله منه كل شيء)
حديث: {من خاف من الله خوَّف الله منه كل شيء، ومن لم يخف من الله خوفه الله من كل شيء} هذا الحديث يذكر في كثير من الأمكنة والمناسبات، وهو ليس بصحيح.
روى هذا الحديث القضاعي، وذكره المنذري في الترغيب من رواية أبي الشيخ، ثم قال: ورفعه منكر، وضعفه العراقي وغيره، فيظهر لنا تضعيفه.(73/11)
حال حديث: المؤمن كيس فطن حذر
أيضاً حديث: {المؤمن كيس فطن حذر} لا يصح بهذا اللفظ، وورد: {المؤمن كيس فطن} أما زيادة (حذر) فلا تصح، بل هي موضوعه عند أهل العلم، رواه كذلك القضاعي عن سليمان بن عمرو النخعي عن أبان عن أنس بن مالك مرفوعاً.
وهو موضوع؛ لأن النخعي هذا وضاع كذاب، وأبان هو أبان بن أبي عياش وهو متروك متهم.
ومن الطرف كما ذكرها ابن الجوزي وغيره- أن أحد الحمقى من المصحفين كان يقرأ على الناس في المسجد: فأراد أن يقرأ: المؤمن كيس فطن، فقال: المؤمن كيس قطن! وهذه يضعفونها كثيراً.
ويذكر ابن الجوزي -أيضاً- عن أحد من الحمقى الذين لا يعرفون القراءة، يقول: كان عنده مصحف قديم، ويدرس الأطفال في المسجد، فقرأ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد:13] فقال هو: فضرب بينهم بسنور له ناب، وهذا من جهله.
ومر ابن تيمية على أحد الجهلة وهو يقرأ: فخر عليهم السقف من تحتهم، بدلاً"من فوقهم" السقف دائماً لا يخر إلا من فوق، وما سمعنا أبداً أن سقفاً خر من تحت، فقال ابن تيمية: لا قرآن ولا عقل، أي: ليس عندك قرآن ولا عندك عقل تعرف أن السقف دائماً من فوق، يقول الله عز وجل يقول: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:26] والسقف لا يأتي من تحت، وخذها قاعدة العرصة من تحت والسقف من فوق.
وأما قوله: حذر، فهي زيادة في الحديث تضعفه في هذا السياق، بل تجعله موضوعاً.(73/12)
حال حديث: الفاجر خب لئيم
وكذلك حديث: {والفاجر خب لئيم} والفاجر أي الخداع؛ ولذلك الآن المصطلحات العصرية تجعل من الفاجر ذكياً، ومن المؤمن غبياً، يقولون: سياسي وداهية، وعنده أفكار دبلوماسية، ويستطيع أن يخدع الناس بسهولة، وهذا يعني أنه منافق، وكذاب، ومخادع، بينما يقول الله عز وجل: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] وكثير من الفجرة يتمدح لإخوانه ويقول: لا عليكم من فلان أنا سأخدعه، وسوف أضحك عليه، وسوف ألعب على عقله، وسوف أجعله لا يدري أين شماله من يمينه، وهو ما ضحك إلا على نفسه! قال تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14 - 15].(73/13)
حال حديث: مفتاح الجنة لا إله إلا الله
7000415وكذلك حديث: {مفتاح الجنة لا إله إلا الله} ذكره الحافظ ابن رجب الحنبلي وقال: خرجه الإمام أحمد بسند منقطع.
وهو على كل حال ضعيف، وقد أخرجه في الجامع الصغير براوية الطبراني عن معقل بن يسار: {لكل شيء مفتاح ومفتاح السماوات قول: لا إله إلا الله} وهو ضعيف، لكن يصح حديث: {من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة} أما: {مفتاح الجنة لا إله إلا الله} فليس بصحيح؛ بل هو ضعيف.(73/14)
حال حديث: توسلوا بجاهي
{توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم} هذا الحديث لا أصل له، نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة فقال: لا أصل له.
وهذا طريق للمبتدعة، فيتوسلون بجاهه عليه الصلاة والسلام، ويتوسلون بمشائخهم وبالأولياء في الأضرحة كـ السيدة زينب وأحمد البدوي والجيلاني.
وهؤلاء إذا قلت لهم: ما لكم؟ هذا شرك.
قالوا: لا، نحن نريد البركة فقط، ونحن لا نعبد إلا الله، وهؤلاء حالهم مثل المشركين، قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] قال لهم صلى الله عليه وسلم: لا تعبدوا الأصنام، قالوا: نحن لا نعبد الأصنام ولا نسجد لها ولكن نتقرب بها إلى الله.
وهذا مثل من يطوف بضريح الحسين والسيدة زينب وأحمد البدوي والجيلاني وأمثالهم في العالم الإسلامي، هؤلاء تماماً مثل من قال: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3].
واسمحوا لي الآن -عفا الله عنكم- أن أقرأ عليكم كلمة مفيدة للشيخ العظيم شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة وهي مفيدة جداً يقول: والأحاديث الواردة في التوسل به صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين: صحيح وضعيف، أما الصحيح فلا دليل فيه البتة على أنه توسل بذات أو بجاه النبي صلى الله عليه وسلم مثل توسلهم به صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء وتوسل الأعمى به صلى الله عليه وسلم؛ فإنه توسل بدعائه لا بجاهه ولا بذاته صلى الله عليه وسلم، ولما كان التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى غير ممكن، كان التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد وفاته غير ممكن وغير جائز.
وأحسن من كتب في هذا الموضوع هو شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه التوسل والوسيلة فلينتبه لذلك.
لك أن تقول: اللهم بحبي لك اغفر لي، اللهم بمتابعتي لرسولك عليه الصلاة والسلام ارحمني، اللهم ببري لوالدي اغفر لي، وهذا نص عليه صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت: {أن ثلاثة انطبقت عليهم الصخرة في الغار، فقام أحدهم يتوسل ببره بوالديه، والثاني، أن بنت عمه دعاها فلما تمكن منها تركها خوفاً من الله والثالث بأنه كان له أُجراء فأعطاهم حقهم إلا أجيراً فر ثم أعطاه حقه، فأزاح الله لهم الصخرة حتى خرجوا} فهؤلاء توسلوا إلى الله بأعمالهم الصالحة فهذا يصح، أما من يذهب إلى قبر صالح ويقول: يا أيها الرجل -وهو في قبره- اغفر لي، أو ادعو الله أن يغفر لي أو افعل بي كذا، كما فعل البرعي وهو شاعر يمني يجيد الشعر، ولكن سيء في العقيدة أتى إلى المسجد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام فوقف عند قبر الرسول عليه الصلاة والسلام وقال:
يا رسول الله! يا من ذكره في نهار الحشر رمزاً ومقاما
فأقلني عثرتي يا سيدي في اكتساب بالذنب سبعين عاما
وهذا شرك وخطأ وابتداع.
ويقول البوصيري:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم
إن لم تكن في قيامي آخذ بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
وهذا شرك وابتداع.
ويقول أحدهم وهو ابن عربي الطائي فيما ينسب إليه -نسأل الله أن يعافينا مما ابتلاه به- يقول وهو واقف عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ يقول في بيتين جميلين لكنه أساء في البيتين:
في حالة البعد نفسي كنت أرسلها تقبل الأرض عنكم وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
قال الخرافيون: فانشق القبر، ومد الرسول صلى الله عليه وسلم يده وقبلها وهذا كذب {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5] وهذه القصة موجودة يذكرها مثل النبهاني وأمثاله من الخرافيين.(73/15)
حال حديث: نية المؤمن خير من عمله
من الأحاديث الضعيفة التي لا يستند إليها: {نية المؤمن خير من عمله} رواه العسكري في الأمثال والبيهقي في الشعب عن أنس مرفوعاً، وقال ابن دحية: لا يصح، وقال البيهقي: إسناده ضعيف.
ولو أن ابن تيمية في مختصر الفتاوى قال: يروى في الحديث، وكلمة يروى في الحديث تشعر بالتضعيف.
وقد يكون معناه صحيحاً؛ لكن من حيث السند لا يصح، وإلا فأحياناً تكون نية المؤمن خير من عمله إذا نوى الخير، ثم لم يدرك هذا الخير، مثلاً: نوى أن يصوم وما وفق للصيام، خير من أن يصوم ويرائي بصيامه الناس {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].(73/16)
حال حديث: من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد
ومن الأحاديث ما يروى: {من تمسك بسنتي عند فساد أمتي؛ فله أجر مائة شهيد} هذا ضعيف جداً، ولا يستشهد به، رواه ابن عدي في الكامل وابن بشران في الأماني، وعلته الحسن بن قتيبة، قال الذهبي في الميزان: هالك، أي: هالك منهار.
لا إله إلا الله! هذه الأمة -الأمة المحمدية- محصت الرجال مثل علم الماس، فبينت الصحيح منهم والضعيف، فحفظت الشريعة، ومعجزتنا عند الغربيين والمستشرقين كما قال جولد زيهر: ليست معجزة المسلمين في الفقه، أو التفسير، أو أصول الفقه؛ فهذه علوم قد يشترك فيها الناس، لكن العجيب في الحديث النبوي: قالوا: فلان ثقة، وفلان ثبت، وفلان ضعيف، وفلان هالك، وفلان كذاب، وفلان متروك، وفلان لين، وفلان سيء الحفظ، كل محدثوا الأمة وضعوا عليه اسماً معروفاً.
ولذلك يخرجون الأحاديث المكذوبة إخراجاً، ويعرفونها تمحيصاً، ويدركونها إدراكاً عظيماً، لا يوضع حديث إلا وفي اليوم الثاني تنبيه على هذا الحديث قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
وقال الدارقطني في الحسن بن قتيبة: هذا متروك الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف، وقال الأزدي: واهي الحديث، إذاً هذا الحديث لا يصح.(73/17)
حال حديث: من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر شهيد
الحديث الذي يليه حديث: {من تمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد} لا يصح هذا الحديث، وهو ضعيف أخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق الطبراني، وأنا أنصح إخواني ألا يعتمدوا على كتاب الحلية لـ أبي نعيم دائماً؛ إنما يعتمدوا على صحيح البخاري وصحيح مسلم.
وأنا أرى يا أخي! أن يكون لك مكتبة ولو مصغرة، واصنع قائمة صغيرة بالكتب التي تكون في مكتبتك مع الأشرطة الإسلامية مثل: القرآن الكريم، وتفسير ابن كثير أو أحد مختصراته، ورياض الصالحين وبلوغ المرام وجامع العلوم والحكم وكتاب الاستقامة ومنهاج المسلم وكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب وشرحه فتح المجيد هذا إن شاء الله خير كثير، أرى أن تقرأ في هذه الكتب لكي تنفعك وتقربك من الله، هذا كحدٍ أدنى من الكتب.
إذاً هذا الحديث: {المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد} لا يصح عنه عليه الصلاة والسلام، أخرجه أبو نعيم في الحلية والطبراني، وقال الهيثمي في المجمع - مجمع الزوائد - رواه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد بن صالح العذري ولم أجد له ترجمة وبقية رجاله ثقات.(73/18)
حال حديث: (اختلاف أمتي رحمة)
حديث: {اختلاف أمتي رحمة} ضعيف، يقول ابن تيمية في مختصر الفتاوى: (والإجماع حجة قاطعة، واختلاف الأمة رحمة واسعة.
لكن ليس الاختلاف مقصوداً، والله لا يحب الاختلاف، وقد ذمه الله ورسوله فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].
فيا أيها الإخوة الكرام! اعلموا أن هذا الحديث ليس بصحيح، ولا بثابت عنه عليه الصلاة والسلام.
وهذا الحديث: {اختلاف أمتي رحمة} ذكره البيهقي في رسالته الأشعرية تعليقاً وأسنده في المدخل من حديث ابن عباس: {اختلاف أصحابي لكم رحمة} وإسناده ضعيف كما قال العراقي في تخريج الإحياء فليعلم ذلك.
لكن أهل السنة يختلفون في الفرعيات ولا يختلفون في الأصول، واختلافهم في الفرعيات رحمة للأمة ليوسع الله على العباد، لكن هذا اللفظ ليس بثابت عنه صلى الله عليه وسلم، فليعلم ذلك ولتكونوا على حيطة.(73/19)
حال حديث: (أصحابي كالنجوم)
حديث: {أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم} لا يصح، وهو موضوع، رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله وابن حزم في الأحكام، وهذا إسناد لا تقوم به حجة؛ لأن الحارث بن غصين مجهول، وقال ابن حزم: هذه رواية ساقطة، أبو سفيان ضعيف والحارث بن غصين هذا هو أبو وهب الثقفي وسلام بن سلمان يروي الأحاديث الموضوعة؛ وهذا منها بلا شك فليعلم، وأظن ممن ذكر هذا الحديث صاحب الروض المربع وهو لا يتحرى رحمه الله في الأحاديث؛ يروي أحاديث بعضها موضوعة وبعضها ضعيفة جداً.
إذاً هذا الحديث لا يصح.(73/20)
حال حديث: (خذوا شطر دينكم عن الحميراء)
من الأحاديث أيضاً حديث: {خذوا شطر دينكم عن الحميراء أو عن هذه الحميراء} وهو حديث لا أصل له.
ومن هي الحميراء؟ هي: عائشة رضي الله عنها؛ وهي من أوثق نساء الأمة، بل هي عالمة الأمة، وكان الصحابة يعودون إليها في كثير من الأحكام.
وقد صح استخدام لفظ الحميراء في ثلاثة أحاديث عنه عليه الصلاة والسلام.
يقول ابن القيم في زاد المعاد: لم يأت في حديث صحيح ذكر الحميراء.
فرد صاحب الحاشية الأرنؤوط وقال: بل ورد في ثلاثة أحاديث صحيحة، وأتى بها وبأسانيدها وقد صدق، أما هذا اللفظ: {خذوا شطر دينكم عن الحميراء أو عن هذه الحميراء} ليس بصحيح.
قال ابن حجر: لا أعرف له إسناداً، وابن حجر إذا قال: لا أعرف له إسناداً فحسبك به:
خذ ما رأيت ودع شيئاً سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
ويقول: ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلا في النهاية لـ ابن الأثير، ولم يذكر من خرجه، وذكر الحافظ عماد الدين ابن كثير أنه سأل المزي والذهبي عنه فلم يعرفاه، وإذا لم يعرف الحديث المزي ولا الذهبي فمن يعرفه؟!!(73/21)
حال حديث: (الخير فيَّ وفي أمتي)
حديث {الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة} معناه: صحيح ولكن لا أصل له، فلا تستشهد به، ولا تقله، مع أن معناه صحيح، ولا يعني أنه إذا كان معنى الحديث صحيحاً فإنه وارد لا، بعض المفكرين العصريين يقولون هذا، وقد نشرته جريدة الشرق الأوسط في عدد لها، ونشرت هذه المقالة في ملحق لها عن معهد المفكرين الإسلاميين يقول: إذا كان معنى الحديث صحيحاً فيكفي، وهذا خطأ فاحش، بل لابد من صحة سنده ومتنه، فحديث: {الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة} لا أصل له، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: لا أعرفه، وقال ابن حجر الهيثمي: لم يرد بهذا اللفظ.
وأورده السوقي في ذيل الأحاديث الضعيفة، ويغني عنه حديث البخاري ومسلم: {لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك}.(73/22)
حال حديث: (ما فضلكم أبو بكر)
أيضاً حديث: {ما فضلكم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره} أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من قول بكر بن عبد الله المزني، ولا أصل له مرفوعاً، قاله العراقي في تخريج الإحياء وأقره السخاوي في المقاصد الحسنة.
هذا الحديث مشهور بين الناس: {ما سبقكم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولا صدقة ولكن بإيمان وقر في صدره} لكنه ليس من كلامه عليه الصلاة والسلام.(73/23)
حال حديث: (من توضأ ومسح عنقه)
كذلك حديث: {من توضأ ومسح عنقه لم يغل بالأغلال يوم القيامة} لا يصح لا معنىً ولا سنداً، ولم يرد فيما أعلم في مسح العنق حديث صحيح، فأنت إذا توضأت لا تمسح عنقك، ولا تستدل بهذا الحديث، فهو حديث موضوع رواه أبو نعيم في أخبار أصبهان، وروي عن الدارقطني وقال: منكر الحديث، وقال الحاكم: ساقط؛ وضعفه العراقي في تخريج الإحياء.(73/24)
حال حديث: (صلاة بسواك أفضل)
ومنها حديث: {صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك} هذا في مسند الإمام أحمد لكنه ضعيف، رواه أحمد وابن خزيمة والحاكم في صحيحيهما والبزار في مسنده وقال البيهقي: إسناده غير قوي؛ وذلك لأن مداره على محمد بن إسحاق عن الزهري ويغني عنه حديث: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة} أو: {عند كل صلاة} أو: {عند كل وضوء} أما هذا الحديث فليس بصحيح؛ بل هو ضعيف فليتنبه لذلك.(73/25)
حال حديث: (الصلاة عماد الدين)
الحديث الذي يروى: {الصلاة عماد الدين، فمن تركها فقد هدم الدين} ليس بصحيح، ولفظ {الصلاة عماد الدين} مشهور، ويذكرونه كثيراً؛ يقولون: قال الرسول عليه الصلاة والسلام: {الصلاة عماد الدين} وهو ليس بثابت، بل هو واهٍ، ولم يقله عليه الصلاة والسلام، وقد رواه البيهقي في الشعب بسند ضعيف من حديث عمر، قال الحاكم: عكرمة لم يسمع من عمر، ولم يقف عليه ابن الصلاح فقال في مشكل الوسيط إنه غير معروف، كذلك في الإحياء.(73/26)
حال حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا)
وحديث: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا، فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه}.
هو من كلام عائشة، ولكن مع ذلك فهو ضعيف، أخرجه الأزدي في الضعفاء من حديث سويد بن غفلة مرسلاً، كذا في تخريج الإحياء، وهو ضعيف لا يصح.(73/27)
حال حديث: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر)
وكذلك حديث: {من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر؛ لم يزدد من الله إلا بعداً} ضعيف سنداً ومعنىً، ومعناه: أن الإنسان إذا كان يصلي ويرتكب الفحشاء مثل أن يصلي ويزني، أو يصلي ويشرب الخمر، أو يصلي ويسرق، أو يصلي ويكذب معنى الحديث: أن الصلاة تزيده بعداً؛ لأنه يرتكب الفاحشة ويصلي، إذاً فليترك الصلاة، معنى الحديث لو أنه يزني ويترك الصلاة أحسن؛ لأنه لو صلى وزنى زادته الصلاة بعداً من الله! وهذا خطأ سنداً ومتناً ومعنىً؛ لأن الصلاة لا تزيد العبد إلا قرباً من الله؛ حتى لو كان يرتكب الفواحش فإنه سوف تمر به فترة إذا داوم على الصلاة بخشوع وخضوع وصدق وإنابة وإخلاص وسوف تدفعه إلى تقوى الله، والخشية منه، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].
وهنا قضيتان من قضايا الساعة عندنا نحن المسلمين، وهما قضيتان مطروحتان:
القضية الأولى: المخدرات، والقضية الثانية: البث المباشر.
أما المخدرات الآن فقد أحدثت ضجة إعلامية في العالم، فـ روسيا تحارب المخدرات، وأمريكا بل كل دول العالم كافرها ومؤمنها، يحاربون المخدرات، ولا نعلم شعباً في الأرض يرضى بالمخدرات، لكن يحاربونها بالحديد والرصاص ونحن نحاربه بالإيمان والإخلاص، يحاربونه بالتنديد والتهديد ونحاربه نحن بكلمة التوحيد، فنحن متى ننجح في منع الناس من المخدرات؟ إذا أتينا بالشباب إلى المسجد، وإلى القرآن، وإذا كان الشاب يسمع الأغنية، ويطالع الصورة الخليعة، ويسهر مع الفيلم، والسهرة، والبلوت، هذا وشيك وقريب أن يقع في المخدرات.
إذا نجحت بإدخال الشاب إلى المسجد، وإجلاسه في مجالس الحديث والدروس والمحاضرات، إذا نجحت في أن تُهدي له كتيباً أو شريطاً فقد قدته إلى الله، وقد جعلت بينه وبين المخدرات حائلاً، نحن لا نستطيع أن نسيطر على الفواحش والمنكرات إلا بالصلاة، وبالإيمان، والقرآن، وذكر الله، وخشيته هذا علاجنا.
البث المباشر أصبح الآن أخطبوطاً في العالم، خاصة العالم المسلم، أما العالم الغربي فهو الذي أنتجه، وبعض الدول العلمانية في العالم العربي التي تريد أن تشوش على الشاشة؛ لئلا تستقبل الصور من الرادار، وبعضها ترى أن تطور شاشتها قبل أن يفد إليها هذا الوافد، وإذا أتى هذا السيل بطلت سيولهم، وبعضهم احتار ماذا يفعل؟
والذي ورد من المحققين، ومن أهل الصحافة والمراقبين أن هذا البث المباشر سوف لا يجدي فيه التشويش، وسيصبح مثل الراديو، ينقل المحطات والقنوات مباشرة، ولا يستطاع أن يشوش عليه.
لا تحدثني عن البث المباشر والعرب سات وأقمار المقامر
أنا بثي دعوة قدسية تطفئ الشمس وتخزي كل كافر
والمذيعون علي والبراء وأبو بكر وعمار بن ياسر
أكبر ما يشوش عليه الإيمان، وعندنا أناس من أبنائنا ومن السعودية، ومن مصر، والكويت، والإمارات، والسودان، واليمن، والعراق يدرسون في أمريكا، لكنهم يعيشون مثل حياة الصحابة، مؤمنون كإيمان أبناء الصحابة وهم هناك!؛ عندهم ثمانية وخمسون قناة، عندهم قناة في الشارع وفي المكتبة وفي الأوتيل وفي الطريق وفي المقهى، ولكنهم بإيمانهم انتصروا عليها، عندهم زوجاتهم وأطفالهم ويعيشون كحياة الصحابة؛ وعندهم قيام ليل وصيام الأيام البيض ويقرءون القرآن وهم في أمريكا!
وعندنا أناس قد يسكنون بجانب الحرم لكنهم فجرة بل من أكبر الفجار!
ذاك في أريزونا وهو مؤمن، وهذا في مكة وهو فاجر، فلا يجدي المكان ولا الزمان، ولا يجدي إلا الإيمان، بأن نأتي بهذا الإيمان ونغرسه في قلوب الناس حتى ننتصر على هذه التخطيطات التي يخطط لها الكافر شرقيه وغربيه.
أنا ذكرت هذا بمناسبة من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر؛ لأن الناس إذا سمعوا مثل هذا الحديث، قالوا: ما دام أنها لا تزيدنا من الله إلا بعداً؛ إذاً نرتكب الفواحش ثم نتوب فيما بعد ونترك الصلاة معها، ثم نقضيها مرة واحدة! وهذا خطأ كبير في الفهم نسأل الله العافية والسلامة.(73/28)
حال حديث: (رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة)
أيضاً من الأحاديث الواهية أو الموضوعة حديث: {رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه} وهذا لا يصح، بل هو حديث موضوع، وقد عزاه السيوطي في الجامع الصغير إلى الحكيم الترمذي في النوادر وقال العراقي في شرح الترمذي: فيه سليمان بن عمر وهو متفق على ضعفه، وقال ابن عدي: إن سليمان يضع الحديث.
هذا من بركة سليمان! سليمان بن عمر من بركته هذا الحديث أن وضعه للناس.
ويقولون: إنه من كلام سعيد بن المسيب رحمه الله، وليس من كلامه عليه الصلاة والسلام.(73/29)
حال حديث: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)
حديث: {لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد} ضعيف، أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي وفيه سليمان بن داود اليمامي، قال ابن معين: ليس بشيء، وقال البخاري: منكر الحديث.
وقال الذهبي: قال البخاري: من قلت فيه منكر الحديث فلا تحل رواية حديثه.
وهذا الحديث على الصحيح أنه من كلام علي بن أبي طالب، وهو موقوف على علي بن أبي طالب، لكن كأنك تفهم أن معنى ذلك ما دام أنه لا يصح هذا الحديث، فإنه يجوز للإنسان أن يصلي في بيته وهذا خطأ؛ بل وردت أحاديث أن صلاة الجماعة واجبة وليست سنة، إذاً واجب عليك أن تصلي جماعة في المسجد مع الناس.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا فأحرق عليهم بيوتهم بالنار} وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام عند ابن ماجة وأحمد وصححه ابن تيمية وعبد الحق الإشبيلي أنه قال: {من سمع النداء فلم يأت، فلا صلاة له إلا من عذر}.(73/30)
حال حديث: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد)
كذلك من الأحاديث حديث: {إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:18]} هذا الحديث رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وفي سنده دراج أبي السمح وهو ضعيف في حديثه عن أبي الهيثم، وقال الذهبي: دراج كثير المناكير.
فالحديث ضعيف.(73/31)
حال حديث: (من صلى بعد المغرب ست ركعات)
أيضاً حديث: {من صلى بعد المغرب ست ركعات لم يتكلم فيما بينهن بسوء؛ عدلن له بعبادة اثنتي عشر سنة} ضعيف جداً، أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب، وفيه عمر بن أبي خثعم قال عنه البخاري: منكر الحديث، وتعرف هذه الصلاة: بصلاة الأوابين، التي لم يرد في فضلها حديث صحيح.(73/32)
حال حديث: (اطلبوا العلم ولو في الصين)
ومن الأحاديث: حديث: {اطلبوا العلم ولو في الصين} لا يصح عنه عليه الصلاة والسلام، وهو باطل، موضوع وكذب، رواه ابن عدي وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله وأبي نعيم في أخبار أصبهان، وعلته أبو عاتكة طريف بن سلمان قال عنه البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة.(73/33)
حال حديث: (من عمل بما يعلم)
حديث: {من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم} لا يصح، وهو موضوع، وكذب، أخرجه أبو نعيم من طريق أحمد بن حنبل عن يزيد بن هارون عن حميد الطويل عن أنس مرفوعاً، وهذا لا يصح لأن فيه وهم عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وبعض التابعين يجعله عن عيسى عليه السلام.(73/34)
حال حديث: (كلمة من الحكمة)
حديث: {كلمة من الحكمة يسمعها المؤمن فيعلمه ويعمل بها خير من عبادة سنة} ضعيف، أخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق من رواية زيد بن أسلم مرسلاً، ونحوه في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة قال العراقي في تخريج الإحياء: سنده ضعيف.(73/35)
حال حديث: (صنفان من أمتي إذا صلحا)
حديث: {صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس: الأمراء والعلماء} لا يصح؛ بل هو موضوع وكذب، أخرجه أبو نعيم في الحلية وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، وفي سند هذا الحديث محمد بن زياد اليشكري قال عنه أحمد: كذاب أعور يضع الحديث، وقال ابن معين والدارقطني: كذاب.(73/36)
حال حديث: (إذا أتى عليَّ يوم)
كذلك حديث: {إذا أتى عليَّ يوم لا أزداد فيه علماً يقربني إلى الله تعالى؛ فلا بورك لي في طلوع شمس ذاك اليوم} لا يصح عنه صلى الله عليه وسلم، وهو موضوع، فليتنبه له، وهو موجود في بعض المذكرات والمدارس، فليتنبه له ويشطب عليه لأنه كذب، وليس من كلامه عليه الصلاة والسلام، أخرجه ابن عدي في الكامل وأبو نعيم في الحلية من طرق كثيرة كلها باطلة.(73/37)
حال حديث: (من حمل من أمتي أربعين حديثاً)
كذلك حديث: {من حمل من أمتي أربعين حديثاً لقي الله عز وجل يوم القيامة فقيهاً عالماً} أخرجه ابن عبد البر، وذكره العراقي في الإحياء، وهو حديث باطل لا يصح، وبعض أهل العلم يجمعون له طرق، ويقولون: بمجموع طرقه يستشهد به، لكن يظهر أنه واهن شديد الوهن، ولا يستشهد به ولا يستدل به.
حمل هذا الحديث بعض الناس أن يضعوا أربعين حديثاً في الفنون مثل الأربعين النووية والأربعين في الجهاد والأربعين في العلم والأربعين في الزهد؛ بسبب هذا الحديث.(73/38)
حال حديث: (من أخلص لله أربعين يوماً)
حديث: {من أخلص لله أربعين يوماً ظهرت ينابيع الحكمة على لسانه} ضعيف، أخرجه أبو نعيم في الحلية وأورده ابن الجوزي في الموضوعات ثم قال: لا يصح، فيه يزيد بن أبي يزيد عبد الرحمن الواسطي كثير الخطأ، وحجاج مجروح، ومحمد بن إسماعيل مجهول، ولا يصح سماع مكحول لـ أبي أيوب.(73/39)
حال حديث: (إنكم في زمان)
أيضاً حديث: {إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به هلك، ثم يأتي زمان من عمل منكم بعشر ما أمر به نجا} حديث منكر، رواه الترمذي وأبو نعيم في الحلية، ولا يصح سنده.(73/40)
حال حديث: (فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة)
حديث: {فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة} موضوع، ذكره ابن الجوزي في الموضوعات.(73/41)
حال حديث: (النظر في وجه العالم عبادة)
أيضاً حديث: {النظر في وجه العالم عبادة} لا يصح، وهذا الحديث أورده الديلمي بلا سند عن أنس مرفوعاً، قال السخاوي في المقاصد الحسنة: لا يصح.
ولو نظر فاجر في وجه عالم أو في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم مائة سنة ما نفعه ذلك، كان عبد الله بن أبي ينظر في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أدخله الله النار، وكذلك أبو جهل نظر في وجهه عليه الصلاة والسلام؛ فهذا لا يصح سنداً ولا متناً.(73/42)
حال حديث: (النظر في الكعبة عبادة)
وكذلك حديث: {النظر في الكعبة عبادة} حديث ضعيف.(73/43)
حال حديث: (ذاكر الله في الغافلين)
كذلك حديث: {ذاكر الله في الغافلين بمنزلة الصابر في الفارين} وهو ضعيف جداً، رواه الطبراني وعنه أبو نعيم وفيه الواقدي ولا يصح حديثه.(73/44)
حال حديث: الدعاء مخ العبادة)
كذلك حديث: {الدعاء مخ العبادة} لا يصح وهو ضعيف، أخرجه الترمذي من حديث أنس وضعفه بقوله: غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام حديث {الدعاء هو العبادة} عند الحاكم وغيره.(73/45)
حال حديث: (أكثروا ذكر الله)
كذلك حديث: {أكثروا ذكر الله، حتى يقولوا: مجنون} ضعيف، أخرجه الحاكم وأحمد، وهو ضعيف بأسانيده، وهذا الحديث لا يصح عنه صلى الله عليه وسلم فليعلم هذا.(73/46)
حال حديث: (ما خاب من استخار)
كذلك حديث: {ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد} موضوع، رواه الطبراني في الصغير عن عبد القدوس بن عبد السلام بن عبد القدوس إلى الحسن مرفوعاً، وعبد القدوس الجد كذاب وابنه اتهم بالوضع، وكذلك ابنه فهي سلسلة كذابين، الأب والولد والجد كلهم كذابون، ورث أبوه عن جده بصك شرعي، ثم ورث ابنه الكذب عن أبيه، فهو سند مظلم فلان عن فلان عن فلان كلهم كذابون؛ فلا يصح هذا الحديث.(73/47)
حال حديث: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)
كذلك حديث: {أدبني ربي فأحسن تأديبي} رواه ابن عساكر وهو حديث باطل لا يصح، معناه صحيح وسنده باطل لا يصح، وابن تيمية يقول في مجموع الرسائل الكبرى: معناه صحيح ولكن لا يعرف له إسناد ثابت، وأيده السخاوي والسيوطي.(73/48)
حال حديث: (الأقربون أولى بالمعروف)
كذلك حديث: {الأقربون أولى بالمعروف} لا يعرف حديثاً؛ وهو مشهور بين الناس، حتى يظن البعض أنها آية، وهي ليست بآية ولا توجد هذه الآية في القرآن من أوله إلى آخره، إذاً هذا الحديث لا أصل له بهذا اللفظ كما أشار إليه السخاوي في المقاصد الحسنة.(73/49)
حال حديث: (اعمل لدنياك كأنك تعيش)
من الأحاديث المشهورة: حديث: {اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً} لا يصح ولا أصل له، وليس مرفوعاً إليه عليه الصلاة والسلام، وأخرجه ابن قتيبة وهو في غريب الحديث، وأخرجه البيهقي في سننه مرفوعاً، ولكنه ليس بصحيح.(73/50)
حال حديث: (أوحى الله إلى الدنيا)
كذلك حديث: {أوحى الله إلى الدنيا أن اخدمي من خدمني، وأتعبي من خدمك} وهو موضوع أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد والحاكم في معرفة علوم الحديث، ولا يصح مرفوعاً أبداً.(73/51)
حال حديث: (رجعنا من الجهاد الأصغر)
كذلك حديث: {رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر} ليس بصحيح لا معنىً ولا سنداً، والجهاد الأكبر هو جهاد الكفار؛ لأن من يجاهد الكفار في الجبهة يجاهد نفسه ويجاهد الكفار، فكيف يقول عليه الصلاة والسلام: {رجعنا من الجهاد الأصغر} هذا لا يصح؛ لأن من كان في الجبهة يجاهد نفسه مثل من هو مقيم، ويزيد على جهاد نفسه مجاهدة الكفار، إذاً هذا لا أصل له، قال ابن تيمية: لا أصل له، ولم يرو أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وجهاده، ثم يقول: وجدت أن البيهقي أخرجه في الزهد من حديث جابر وقال: هذا إسناد فيه ضعف ولا يصح، بل الجهاد الأكبر جهاد الكفار.(73/52)
حال حديث (يا عم! والله لو وضعوا الشمس)
كذلك حديث: {يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك فيه} وهذا مشهور وموجود في السير مثل ابن إسحاق وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم نازله الكفار، وقال: {يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك فيه} وهذا لا يصح، وقد أورده بعض الشعراء في قوله:
الشمس والبدر صوت من الغور أم نور من الغار أم ومضة الفكر أم تاريخ أسرار
يا عيد عمري ويا فجري ويا أملي ويا محبة أعمارٍ وأقطار
تطوي الدياجير مثل الفجر في ألق تروي الفيافي كمثل السلسل الجار
الشمس والبدر في كفيك لو نزلت ما أطفأت فيك ضوء النور والنار
لكن هذا اللفظ لا يصح، بل هو ضعيف الإسناد أخرجه ابن إسحاق من طريق ابن جرير، وكذلك أخرجه ابن جرير عن ابن إسحاق، وهو لا يصح لعلل كثيرة في سنده.(73/53)
حال حديث: (كيفما تكونوا يولى عليكم)
أيضاً حديث: {كيفما تكونوا يولى عليكم} ضعيف الإسناد، ولو أن في معناه صحة لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] فالله يولي على الناس مثل أعمالهم؛ إن كانوا عدولاً وأخياراً وليَّ عليهم عدولاً وأخياراً، وإن كانوا ظلمة وفجرة وليَّ عليهم ظلمة وفجرة.
يذكر في التاريخ: أن عبد الملك بن مروان تولى الحكم، وكان هذا الرجل يحب الإقدام والشهرة، فكان الناس يحبون الشهرة، وتولى الوليد بن عبد الملك بعده فكان يحب العمار والتوسعة، فكان الناس يحبون العمار، وتولى سليمان بن عبد الملك فكان يحب الأكل كثيراً وكان مغرماً بالأكل، وكان أكثر الناس أكلاً رحمه الله، فكان الناس يحبون الأكل، ولا يتحدثون في المجالس دائماً إلا بالأكل، وتولى بعده عمر بن عبد العزيز فكان رجلاً صالحاً عابداً خاشعاً زاهداً ولياً فأصبح الناس يزهدون ويتوجهون إلى الآخرة: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129].
أما لفظ هذا الحديث فلا يصح: {كيفما تكونوا يولى عليكم} أخرجه الديلمي عن أبي بكرة مرفوعاً، قال الحافظ ابن حجر في تخريج الكشاف في إسناده إلى مبارك مجاهيل.(73/54)
حال حديث: (كل إناء بما فيه ينضح)
وكذلك حديث: كل إناء بما فيه ينضح ليس بحديث عنه عليه الصلاة والسلام؛ بل هو مثلٌ ونصف بيت شعر، كما يقال: المعدة بيت الداء، والحمية رأس كل دواء هذا لا يصح، وهو من كلام الحارث بن كندة وهو طبيب من أطباء العرب المشاهير، وعنده فلسفة، وهو طبيب يكتشف العقاقير وكان ذكياً، لكن -سبحان الله- أخفق في عالم الروح، يقول: أنا أستطيع أن أعارض القرآن، وأستطيع أن آتي بكلام مثل القرآن؛ قال له الناس: اتق الله يا حارث! لأنه ذكي، فغره ذكاؤه، قال: لا، أنا آتي بمثل القرآن؛ فدخل في غرفة، وأغلق عليه الباب، وفتح المصحف لينظر وليعارض المصحف بكلام مثل المصحف، ففتح على سورة المائدة وأخذ القلم وأخذ الورقة يكتب مثل القرآن، فقرأ أول سورة المائدة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] فبقي مذهولاً والقلم في يده وقال: سبحان الله! نادى ثم أمر ثم نهى ثم استثنى ثم بين ثم حكم ثم ختم في آية! هذا لا يستطاع له، فلما أراد أن يرد يده وجدها قد شلت؛ وأصبح يأكل بيسراه:
شلت يمينك إن قتلت لمسلماً حلت عليك عقوبة المتعمد(73/55)
حال حديث: (أحب الأسماء ما عبد وحمد)
وكذلك حديث: {أحب الأسماء ما عُبِّد وحُمِّد} لا يصح، ذكره السيوطي، وهو موجود بيانه في كشف الخفاء.(73/56)
حال حديث: (أحبوا العرب لثلاث)
وكذلك حديث: {أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي} موضوع، أخرجه الحاكم في المستدرك والعقيلي في الضعفاء وفي سنده العلاء بن عمر، فلا يصح هذا الحديث.(73/57)
حال حديث: (صوموا تصحوا)
وكذلك حديث: {صوموا تصحوا} سنده ضعيف، رواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الطب النبوي من حديث أبي هريرة بسند ضعيف.(73/58)
حال حديث: (من حج ولم يزرني)
كذلك حديث: {من حج ولم يزرني فقد جفاني} لا يصح، بل هو موضوع، أورده الصاغاني في الأحاديث الموضوعة، وكذا ابن الجوزي ووافقه الذهبي في الميزان، ولا يصح هذا الحديث؛ بل هو موضوع.
أيها الإخوة الكرام! هذه طائفة من الأحاديث، وإذا يسر الله عز وجل وكان في العمر بقية فستعرض إن شاء الله سلسلة من الأحاديث الضعيفة وتبين، وكلام أهل العلم عنها؛ حتى يكون الإنسان على بصيرة من دين الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولأهل العلم آراء للاستدلال بالحديث الضعيف: منهم من يرى الاستدال بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال بثلاثة شروط:
الأول: ألا يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله.
الثاني: ألا يكون شديد الضعف.
الثالث: أن تؤيده قواعد الإسلام.
ورأى قوم من العلماء ألا يستدل بالحديث الضعيف لا في الأحكام ولا في الفضائل، وهذا هو الصحيح والراجح إن شاء الله.(73/59)
الأسئلة(73/60)
مقطوعات من الشعر في الزهد
السؤال
أسمعني مقطوعة من الشعر عن الزهد في الدنيا فقد حيرتنا الدنيا.
الجواب
تكلم الشعراء بكثرة في وصف الدنيا وذموها، وأنا أذكر بعض المقطوعات، يقول أبو العتاهية في جنازة المهدي الخليفة العباسي وقد خرجوا في جنازته، وكان هذا الخليفة شهير بـ ابن أبي جعفر المنصور، وخرج معه بناته في الجنازة، وخرج الناس والأمراء والوزراء والعلماء والجيش، وأخذوا يتباكون، ورأى بناته يلطمن خدودهن فقال أبو العتاهية:
نح على نفسك يا مسكيـ ـن إن كنت تنوح
سرن في الصباح معهن الحرير وعدن من البكاء والندم عليها المسوح
كل بطاح من الناس له يوم بطوح ستر الله بنا إن الخطايا لا تفوح
ويقول المتنبي في مقطوعة عامرة من أجمل قصائده:
أبني أبينا نحن أهل منازل أبداً غراب البين فيها ينعق
نبكي على الدنيا وما من معشر جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
أين الجبابرة الأكاسرة الألى كنزوا الكنوز فلا بقينا ولا بقوا
من كل من ضاق الفضاء بجيشه حتى ثوى فحواه لحد ضيق
خرس إذا نودوا كأن لم يعلموا أن الكلام لهم حلال مطلق
فالموت آت والنفوس نفائس والمستعز بما لديه الأحمق
ويقول الألبيري وهو شاعر من شعراء الأندلس -من أسبانيا - وهو من أشعر الشعراء:
ولم تخلق لتعمرها ولكن لتعبرها فجد لما خلقتا
وإن هدمت فزدها أنت هدماً وحسن أمر دينك ما استطعتا
وتطعمك الطعام وعن قليل ستأكل منك ما منها طعمتا
مشيت القهقرى وخبطت عشوى لعمرك لو وصلت لما رجعتا
تفر من الهجير وتتقيه فهلا من جهنم قد فررتا
وتشفق للمصر على الخطايا وترحمه ونفسك ما رحمتا
ويقول نبطي حكيم -واسمحوا لي أن أذكرها بالنبطية، ولو أن النبطي هذا يحارب العربية لكن نذكره لمن يفهم النبطي -:
لحى الله دنيا تتعب القلب والبصر إذا قلت طابت يخدش العود عودها
صحبنا بها الأخيار في الحضر والسفر فلما تصافينا بكتنا عهودها
بنينا بها بيتاً من الطين والحجر فدكت مبانيها وهزت نوردها
هذه بعض المقطوعات، والكلام له بقية.(73/61)
حال حديث: (اللهم أجرني من النار) سبع المرات بعد صلاة الفجر والمغرب
السؤال
ما صحة قول من يقول بعد صلاة الفجر والمغرب: اللهم أجرني من النار (سبع مرات)؟
الجواب
هذا حديث صحيح يقال به بعد الفجر والمغرب، وهو حديث مسلم بن الحارث التميمي.(73/62)
ضعف حديث: (سووا صفوفكم فإن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج)
السؤال
حديث {سووا صفوفكم فإن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج}.
الجواب
لا يصح بهذا اللفظ، وليس بثابت عنه عليه الصلاة والسلام.(73/63)
نبذة عن الواقدي
السؤال
من هو الواقدي؟
الجواب
الواقدي صاحب السير كذاب وضاع، يقول الإمام أحمد: اغتررت به، وكنت أظن أنه عالم.
فلما اكتشف الإمام أحمد أنه ليس بعالم أخذ الكتب التي كتبها الواقدي كلها، وجعلها مجلدات يجلد بها كتبه تحميها من المطر والشمس، أي جعل كتب الواقدي أغلفة لكتبه.(73/64)
العقيدة أولاً لو كانوا يعلمون
السؤال
عرض سيد قطب رحمه الله بوجوب دعوة الناس إلى العقيدة قبل الخطوات الأخرى، لكن عند دعوة الناس إلى العقيدة فإنهم يتضايقون لوجود هذه المعلومات عندهم.
الجواب
من يتضايق فهو لا يعرف شيئاً في الإسلام، نبدأ بالعقيدة ولا ننتهي عنها، ونكررها في المجالس والمحاضرات وفي الدروس، وهي قضيتنا الكبرى.
ومن خطط العلمانية الآن التهوين من شأن العقيدة، فهم لا يريدون عقيدة ولا سلوكاً، ويقولون: الآن العقيدة مفهومة عند الناس، وبعض الدعاة السذج صدقوهم، ويقولون: انتهى عصر العقيدة، ويقولون: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب انتهى عصرها، وهي تصلح للعوام وللقبوريين الذين كانوا يعبدون القبور وينذرون لها، وقد انتهى عصرها، ونحن الآن في عصر التكنولوجيا وعصر تحديث الناس عن الصناعات وسر الخلق وعن هذه المعلومات لا، قضيتنا الكبرى قضية الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وهي العقيدة، لا بد أن نكررها ونبدأ بها ونعيدها ونقول للناس: لا ينذر ولا يذبح لغير الله، ولا يستغاث بغير الله، ونخبرهم بالوسيلة والتوكل وأحكام العقيدة بكل صيغة وبكل أسلوب وهذا هو الصحيح.(73/65)
تقويم كتاب: المستطرف في كل فن مستظرف
السؤال
ما رأيك في كتاب المستطرف في كل فن مستظرف؟
الجواب
هذا الكتاب غير جيد ولا يليق أن يدخل الدور، يبدأ في أول الموضوع بآية وحديث لكن يلخبط المسألة بشيء يُستحى منه، ولا يليق بالمسلم أن يقرأ هذا الكتاب إلا أن يكون طالب علم حاذق وحذر، يقرأ ما يفيده، ويحذر من مطباته، ولكن يتجنبه، ولو قرأ مثلاً في العقد الفريد كان أسهل وأهون ولو أن فيه مطبات، وعيون الأخبار أحسن منهما، وأحسن منها كلها أنس المجالس لـ ابن عبد البر؛ لأن ابن عبد البر محدث يخاف الله، وأقبح منها كتاب الأغاني لـ أبي فرج الأصبهاني، فيه كلام ماجن تستحي أن يذكر في المجالس -خمر وخمريات وبلاوي وسفاهات وخزعبلات- فعليك بـ أنس المجالس لـ ابن عبد البر وهو من أحسن ما كتب.(73/66)
رأي الغزالي في الحديث المعارض للعقل
السؤال
نشر في جريدة المسلمون أن الغزالي قال: أنه يرد الحديث إذا عارض العقل ولو كان في البخاري.
الجواب
رأي الغزالي معروف، غفر الله له، وقد كتب هذا في كتبه وذكره في مقابلاته، وقد خالف العلماء جميعاً، وهذا رأي المعتزلة الفرقة المبتدعة، وقد رد عليه، وتجدون الرد عليه في كتاب حوار هادئ مع الغزالي لـ سلمان العودة، وهنا كتاب: الغزالي في مجلس الإنصاف.(73/67)
حال حديث (من كان في قلبه مثقال ذرة من الحقد والحسد لن يدخل الجنة)
السؤال
ما صحة حديث: {من كان في قلبه مثقال ذرة من الحقد والحسد لن يدخل الجنة}؟
الجواب
لا يصح هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(73/68)
اختيار الزوج المناسب
السؤال
أنا فتاة أبلغ من العمر عشرين سنة، وقد حال أبي رحمه الله دون زواجي، ثم استلم المهمة بعده إخوتي، وقد أمضيت العمر وأنا أرغب في الزواج، ولكن أبى أهلي من تزويجي؛ حيث يرغبون تزويجي من شاب صاحب دين وخلق حسن، وأنا أرغب الزواج من الشاب الأول؛ لأني أحببته حباً عظيماً دخل في قلبي وعظمي ولحمي، وفي النهاية خسرته وزوجوني أهلي من شاب دين وأخلاقه عالية، ولكن ما زلت متعلقة بالحبيب الأول:
كم منزل في الأرض يعشقه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل
الجواب
أولاً: نسأل الله عز وجل أن يتوب علينا وعليك، وفي هذا السؤال قضايا:
أولها: غفر الله لوالدك فقد أساء لما أخر زواجك وأنت أصبحت في سن الزواج، فهو بذاك أساء إساءة عظيمة نسأل الله أن يغفر له؛ لأن تأخير البنت والقريبة والأخت إذا حان زواجها؛ وتقدم لها الكفء يعتبر من الذنوب العظام والخطايا الجسام، والآثام العظيمة الوخيمة؛ التي يتسبب فيها هؤلاء السفهاء في تضليل المجتمع وإيراث الفاحشة والجريمة وقتل المبادئ.
صدق أو لا تصدق! أن فتاة أصيبت بهستريا لما منعت من الزواج حتى بلغت الثامنة والعشرين، وهذه بأسانيد صحيحه مثل الشمس، أتاها مرض؛ لأن الله عز وجل فطر الناس على أن يتزوج الرجل من المرأة: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49].
القضية الثانية: الخطأ الوارد عندنا وهو كثير في المجتمع أن الأب يريد أن يزوج ابنته بمن يريد هو لا ما تريد هي، كأنه هو الذي سيتزوج!
بعض الآباء كأنه هو الخطيب، إذا أعجبه رجل ذهب وقال لابنته: تزوجيه؟ فتقول البنت: لا أريده.
قال: لا، والمشعاب جاهز والهراوة في يده! أي أنه دكتاتوري، وهذا خطأ عظيم.
بل تتزوج هي بمن ترغب؛ لأنها هي التي ستعايشه في البيت وفي الفراش، أتعطيها رجلاً مثل الصخرة عليها، لأنه قدم ماله أو أعجبتك زيارته ووظيفته!
أنت الذي سيتزوج أم هي؟! أنت ما عليك إلا أن تسحب المال والمهر والسيارة وأول ليلة، ثم تدخلها جحيم ستين سنة! ولذلك فشلت الزواجات التي تسير على هذا الأمر؛ لأن الأب والأخ يريدان أن يكيفا البنت على ما يريدان هما وهذا خطأ، بل لابد أن تعرض عليها وتسألها: هل تريدين فلاناً؟ فلو أرادته فوافق على زواجها ولو كان من أفقر الناس، ولو رفضته فارفضه أنت ولو كان ملك الدنيا.
وهذه الأخطاء تكررت في المجتمع كثيراً، وسببت في الطلاق بعد شهر أو شهرين من الزواج، بمعنى أن الحياة تحولت إلى جحيم!
أتى شاب أخبرني وهو يقول: أبي طلق بالثلاث ألاَّ أتزوج إلا من فلانة، وأنا أريد بنت عمي، فتزوج من فلانة التي أراد أبوه، وبعد ثلاثة أشهر طلقها وكان هذا جزاء والده.
هذا الزواج ليس شراءً ولا بيع سيارات ولا عقارات.
الزواج حياة، والزواج إذا لم يأتِ من الحب لا يستقيم ولا يصلح، ولا يستقيم المجتمع عليه.
وقد سن الرسول صلى الله عليه وسلم رؤية الخاطب للخاطبة قبل العقد، فيراها رؤية أي: يكون أقاربها موجودون في البيت وتدخل هي ويراها الرجل، وتراه حتى يؤدم بينهما، لأنه قد لا يتألف عليها بعد أن يعقد عليها، فتوصف بأنها حوارء شقراء جميلة زرقاء، إذا جلست قرت وإذا قامت استقرت، لا طويلة ولا عريضة، سحراوية العين في الليل، بيضاء في النهار، طويلة الشعر؛ أما إذا دخل بها وإذا بها عكس الأوصاف تماماً فيطلقها! هذا ليس بصحيح.
ويوصف لها الزوج بأنه عنترة في الشجاعة، وحاتم في الكرم وابن تيمية في العلم، وعلي بن أبي طالب في الخطابة، فإذا دخلت وجدته كالصخرة؛ فتبغضه وهذا لا يصح، فلا بد من الرؤية.
إذاً: هؤلاء أخطئوا خطأً بيناً، أما وقد تزوجت من رجل دين ومستقيم فاحمدي الله على ذلك، واسأليه أن يؤلف بينك وبينه.
واعلمي أن تعلقك بالأول ليس له أصل وارضي بما قدره الله لك، والله عز وجل يدري أي الخير لك، وقد كتب لك هذا، فأسأل الله أن يرضيك بهذا، وأن يرضيه عنك، وأن يحييك معه حياة سعيدة فإنه على ذلك قدير، ونسأل الله أن يصرف قلبك عن الأول فقد انتهى وذهب، وكل ميسر لما خلق له.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(73/69)
المسجد المحزون
إن الإسلام هو دين الجهاد والكرامة، فإذا تخلى المسلمون عن هذا الدين وتهاونوا فيه، وتركوا الجهاد؛ سلط الله عليهم الأعداء حتى يراجعوا دينهم.
ويوم أن تمسك المسلمون بالدين، ورفعوا راية الجهاد؛ فتح عمر بن الخطاب القدس، ويوم أن تخاذل المسلمون عن الجهاد أخذها الصليبيون، حتى ظهر صلاح الدين وحررها منهم.
واليوم تخاذل المسلمون وتقاعسوا عن الجهاد فاغتصبها اليهود وهي الآن أسيرة تنادي: هل من صلاح الدين؟! هل من عمر؟! ولكن لا مجيب لها إلا أطفال الحجارة، فإلى الله المشتكى.(74/1)
المسجد الأقصى عبر التاريخ
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
القدس السليب دمعة في عين كل مسلم، وطعنة في قلب كل مسلم، وقضية كل مسلم، فالعرب والمسلمون قضيتهم القدس، والأفغان المسلمون قضيتهم القدس، والهنود المسلمون مصيبتهم القدس، والباكستان والأتراك يعيشون آلام القدس.
القدس قضية إسلامية وليست عربية، القدس مصيبة يحتسبها كل مسلم، ويعيش آلامها وآمالها وجراحها ودموعها كل من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.
مررت بالمسجد المحزون أسأله هل في المصلى أو المحراب مروان
أجابني المسجد المحزون واختلفت على المنابر أحرار وعبدان
فلا الأذان أذان في منائره من حيث يتلى ولا الآذان آذان
مسجد استقبل محمداً عليه الصلاة والسلام، وصلى فيه إماماً بالأنبياء، وأمهم في ليلة الإسراء، مسجد فتحه وصلى فيه وبكى فيه، وأخذ مفاتيحه عمر، مسجد وصله صلاح الدين ورفع سيف العدل فيه، وأذن فيه وصلى، فبيد من هو اليوم؟
ومن يصلي فيه؟
ومن يؤم الناس في محرابه؟
ومن يخطب على منبره؟
يا ألله شامير وبيريز وموشي ديان أعداء الله، وأعداء الإنسانية يلطخون المسجد الأقصى.
مررت بالمسجد المحزون أسأله هل في المصلى أو المحراب مروان
أين عمر؟
أين طارق؟
أين صلاح الدين؟
أين معاذ وبلال؟
أين من فتحوك وطهروك، وسبحوا لله فيك؟
لا أحد، تغير على المسجد الأقصى أحرار وعبدان.
فلا الأذان أذان في منائره من حيث يتلى ولا الآذان آذان
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَولَهُ} [الإسراء:1] أسري بالنبي عليه الصلاة والسلام في ظلام الليل، ليصلي بالأنبياء هناك في مسجدنا، في أول قبلة لنا، وفي أرضنا، في مكانٍ سكبنا فيه دموعنا ودماءنا، أين هو اليوم؟
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم
كنت الإمام لهم والجمع محتفل أعظم بمثلك من هاد ومؤتمم
أين ضاع؟
أين صار المسجد؟
ضيعناه يوم ضيعنا لا إله إلا الله، الأمة أمة جهاد، ولكنها نكلت عن الجهاد.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم} وبالفعل تبايعنا بالعينة، وأكلنا الربا، وسمعنا الغناء، وعشنا على المعازف، وأصبحت سهراتنا على البلوت، ونظرنا إلى الصور الخليعة، وتلهينا في النزوات والشهوات، فسلب منا المجد والكرامة والمسجد الأقصى.
أُبطل الجهاد، فلا جهاد، إسرائيل تعد وتسكت، والعرب لا يعدون ولا يتكلمون.
إسرائيل تبني كل يوم قوة، وتجهز كل شهر جيشاً، وتصنع وتدرب، وتغطي شعاع الشمس عن الأرض بطائراتها؛ لأنها تعلم أنه لا قرار لها إلا بالقوة، ولكن علم الجهاد لم يرتفع! وذهبت القدس، وأصبحت لعبة بين يدي العالم، فطعن كل مسلم في الأرض، وبكى كل مسلم يؤمن بالله في الأرض، من أجل ضياع القدس.(74/2)
عمر يفتح القدس
خرج عمر من المدينة -ورضي الله عن عمر، عمر العدل، والجهاد، والصدق- خرج ليأخذ مفاتيح بيت المقدس، كان بإمكانه أن يرسل نائباً، أو مستشاراً، أو مندوباً، لكن المهمة خطيرة إنه بيت المقدس أولى القبلتين، وخرج بنفسه، فهل خرج بسلاح؟
لا.
وهل خرج بعتاد؟
لا.
وهل خرج بحرس؟
لا.
أخذ ناقة وأخذ مولاه وذهب معه في ثيابه القديمة وعصاه، وقال لمولاه: تركب مرة وأنا مرة، فكان المولى يقود الجمل وعمر يركب، فإذا انتهت مدة عمر، نزل عمر فقاد الناقة وركب مولاه، واقترب عمر من بيت المقدس {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:97] خرج النصارى وخرج الأطفال وخرجت النساء ينظرون إلى عمر، هذا الذي ملأ سمع الدنيا، والذي دوخ رأس المعمورة، وداس الأكاسرة والقياصرة وذبحهم ذبح الشياه، والذي بلغت جيوشه جورجان وأذربيجان والسند وطشقند والهند، يريدون أن يروا عمر أمن لحم ودم أم من حديد؟
ما هو لباسه؟
كيف تاجه؟
كيف جيشه؟
كيف حرسه؟
كيفت كتائبه؟
وكانت جيوشه هناك على مشارف بيت المقدس، لأن الجيوش لما فتحت جاء القائد الأعلى ليأخذ المفاتيح، فأتى عمرو بن العاص واقترب من عمر وقال: فضحتنا يا أمير المؤمنين! قال: ولم؟، قال: أتيت في ثيابك هذه وناقتك ومولاك! أما أخذت قوة ترهب الأعداء؟
فلقد خرج الناس، فانظر إلى الألوف قد جاءوا لاستقبالك، فدمعت عينا عمر، وقال: [[نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]].
واقترب عمر من بيت المقدس داخلاً المدينة، وقد امتلأت السكك بالرجال والنساء والأطفال ينظرون إلى هذا العلم البارز، فكان عادياً، ثيابه مرقعة، لكن إيمانه كالجبال الراسية، صنع الله الذي أتقن كل شيء، فلما اقترب وإذا الطين وبلل الطين في سكك بيت المقدس، فأتت نوبة المولى ليركب على الجمل، قال: يا أمير المؤمنين! وصلنا والعقبة عقبتي لكن أتنازل بها لك لتركب، لأننا أصبحنا أمام النصارى، قال عمر: لا.
والله لا يركب إلا أنت، فركب المولى، وأتى عمر يقود الجمل ويرفع ثيابه عن الطين.
فماذا فعل النصارى؟
بكوا وارتفع البكاء على أسطح المنازل، وفي السكك منظر غريب، أهذا عمر في الطين؟!
أعمر يقود الجمل ومولاه على الجمل!
أعمر بهذه العصا وهذه الثياب الممزقة، وقد خفناه شهراً كاملاً!
نصرت بالرعب شهراً قبل موقعة كأن خصمك قبل القتل في حلم
إذا رأوا طَفَلاً في الجو أذهلهم ظنوك بين جنود الجيش والحشم
فبكى النصارى، وقالوا: بهذا الفعل فتحتم الدنيا، وتقدم وسلم على الصحابة، وقبل أن يجلس في بيت المقدس أخذ المفاتيح، فكانت مراسيم هائلة وبكى الصحابة بنصر الله وبمثل نصر الله يبكي فرحاً المؤمنون.
طفح السرور علي حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
وحانت صلاة الظهر، وقال عمر: [[يا بلال! قم فأذن، قال بلال: يا أمير المؤمنين! قد حلفت ألا أؤذن لأحد بعد الرسول عليه الصلاة والسلام -لأن بلالاً لما مات عليه الصلاة والسلام اعتزل الأذان وأقسم بالله لا يؤذن لأحد بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم- فقال عمر: عزمت عليك أن تكفِّر، وأن تؤذن، فقام وأذن]] ليرفع صوت الحق لأول مرة: الله أكبر، الله أكبر.
الله أكبر، الله أكبر.
فكان عمر أول من بكى من الناس، ثم ارتفع البكاء لمسألتين عظيمتين:
الأولى: ذكرهم بالحبيب عليه الصلاة والسلام، وذكرهم بالأيام الخالدة وبالعهد الأول.
وداعٍ دعا إذ نحن بـ الخيف من منى فهيج أشواق الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بـ ليلى طائراً كان في صدري
والثانية: فتحٌ من الله، ونصر عظيم لهذه الأمة، أن تسترد بيت المقدس، وأن تصلي فيه، وأن تعيش فيه.
ومات عمر واستمر بيت المقدس مع المسلمين، فلما تخاذل المسلمون عن لا إله إلا الله وقاطعوا المساجد، وهجروا المصحف، واشتغلوا بالأغنية، وبالعود وبالكوبة، وبالورقة وبجمع الطوابع، وبالمراسلة وبالنزهات؛ ضاع بيت المقدس من المسلمين، وانهار العالم الإسلامي، ولكن أراد الله أن يعيد لنا بيت المقدس في القرن السادس على يد من؟
أعلى يد العرب؟
لا يشترط أن يكون العرب هم الذين يؤيدون هذا الدين {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89].
إذا كفر العرب، ففي الترك مسلمون.
وإذا أعرض العرب، ففي الهنود مؤمنون.
وإذا نكس العرب، ففي الأفغان مجاهدون.
الدين هذا ليس حجراً للعرب، الدين هذا ليس لـ صنعاء، أو بغداد، أو الرياض، أو جدة، أو مكة، أو تونس، أو الجزائر، الدين هذا للعالم، للكرة الأرضية، من اتقى الله فهو حبيب الله ولو كان مولى، ومن عادى الله فهو عدو لله، ولو كان سيداً قرشياً.(74/3)
صلاح الدين يحرر القدس
أتى الله بـ صلاح الدين وصلاح الدين كردي من الأكراد، وليس بعربي، لكنه مؤمن يصوم النهار ويقوم الليل.
صلاح الدين ولي من أولياء الله، تعلم في مدرسة محمد عليه الصلاة والسلام، كان شاباً لا يضحك ولا يتبسم، قال له الناس: لا نراك تضحك ولا تتبسم!، قال: سبحان الله! أضحك والمسجد الأقصى مأسور، أتبسم والمسجد الأقصى بيد الأعداء، لا والله.
وعاش صلاح الدين، فلما اكتمل نموه واشتد ساعده، حمل السيف، وقال: لا إله إلا الله، والعرب والعجم إذا سمعوا لا إله إلا الله تحركت الفطرة في قلوبهم، وتحرك الإيمان في أرواحهم, كما قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30] فقال: لا إله إلا الله وكبر في المعمورة، فأتى المسلمون وعادوا إليه مهللين ومكبرين، وتابوا من المعاصي، وتركوا الخمارات والبارات، وهجروا الغناء؛ كسروا الأعواد وسبحوا وتوضئوا، وحملوا السيوف.
رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا
نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصر
وليمون يافا يابس في أصوله وهل شجر في قبضة الظلم يثمر؟!
يبس ليمون يافا، وبكت نساء فلسطين يوم أصبح الجهاد قرارات لـ هيئة الأمم الظالمة الملحدة التي عليها كل صهيوني وعميل.
والأفغان كفروا بـ هيئة الأمم، فنصرهم الله، وما قدموا عريضة ولا شكوى، إنما أخذوا الرشاش، وأخذوا السلاح، وذبحوا الروس كذبح الدجاج وداسوهم في الأرض على التراب، وقالوا: لا نعرف هيئة الأمم ولا جنيف ولا مجلس الأمن، وهل هو من عند الله؟!!
{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] أربعون سنة والعرب يشكون على مجلس الأمن، فإذا قتل قتيل مجرم في ناحية قامت الدنيا وقعدت بأسرها، وشعب فلسطين يذبحون بالآلاف، وأطفال فلسطين يكدسون مع القمامات، وشيوخ فلسطين يجرجرون على وجوههم في التراب، ثم لا شكوى ولا اعتراض ولا استنفار، إلى متى؟
فخرج صلاح الدين يوم الجمعة، يوم وقف الخطباء على منابر العالم الإسلامي وأرسل لهم أن ادعوا لنا.
فاليوم يوم التصفية، والملحمة والفرقان، اليوم يشفي الله قلوب المؤمنين وأرواح المضطهدين، ووقف صلاح الدين وصنف الكتائب، وأعد الجيوش، والتقى بالنصارى الصليبيين أعداء الله، وبدأت المعركة مع أذان الجمعة الثاني، وصدق صلاح الدين مع الله، وطلب النصر من الله، وكان صلاح الدين في المعركة يجول ويذبح ويقتل، ثم يعود ويستقبل القبلة ويسجد ويبكي ويمرغ وجهه في التراب، ويقول: نصرك اللهم، نصرك اللهم، ومع الغروب وإذا بأعداء الله يزحفون على الرمال، وإذا بسيوف الله تأخذ في أكتاف أعداء الله وتسحقهم سحقاً، وتفنيهم فناءً، وتبيدهم إبادة، وفي اليوم الثاني يدخل صلاح الدين بيت المقدس، ويؤذن المؤذن مرة ثانية بأذان الظهر، وترتفع الخطبة التي يلقيها أحد العلماء، خطبة ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية ما سمع الدهر بمثلها، وما بقي أحد إلا بكى، ولو كانت الشجر لها مقلتان لبكت من فرح النصر ومن عظمة الدين.
ومات صلاح الدين وعادت الأمة إلى ما كانت عليه، أمة لاهية، أموالها في البنوك الربوية، وشبابها في المنتزهات، وسهراتها مع الورقة والباصرة، وتلاوتها الأغنية الماجنة، ومصحفها المجلة الخليعة، وهوايتها جمع الطوابع والمراسلة، تصفيق وزفير، وشهيق وضياع، وسفر وأغنية ومجون، فضاعت القدس.
مليون يهودي جاءوا من فرسنك وبولندا وهولندا.
ومن أطراف الأرض، فأرغموا مليار مسلم على التخلي عن القدس وأخذوا فلسطين، بل هددوا العالم الإسلامي، وأصبح يسميهم بعض العرب إرهابيين فخفنا منهم وتصورنا خوفهم في الماء، والله يقول: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة:61] لعنهم الله ونحن نقول: شجعان إرهابيون، خفنا وتبددنا، ولكن هل من عودة إلى الله؟ هل من رجوع إلى الله؟
فقضية القدس قضية المسلمين، ولا بد أن تجعلها من أول اهتماماتك في الحياة، دعاءً وبذلاً، وجهاداً وتضحيةً وتوعيةً في الناس.
أقول هذا، وأستغفر الله الجليل لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(74/4)
العزة في الجهاد في سبيل الله
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على قدوة الناس أجمعين وبعد:
أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا
أنتركهم يغصبون العروبة أرض الأبوة والسؤددا
فجرد حسامك من غمده فليس له بعد أن يغمدا
- إلى متى نشكو؟
- إلى متى نصمت؟
- إلى متى نفكر؟
والقدس الحزينة في أيدي أعداء الله، أنجاس العالم أهل الدعارة والزنا والربا في المعمورة يملكون القدس، اليوم يأخذون الشيخ فيسحبونه على الأرض، ويفجرون بطن الحامل بالخنجر، ويقسمون الأطفال بالسكاكين، كسروا عظام الحوامل، وأجاعوا الأرامل، وهدموا البيوت، وداسو المصاحف، نجسوا المساجد، فإلى متى؟(74/5)
مثل للجهاد في فلسطين
ومن أشهرٍ قامت انتفاضة مباركة، يوم عق الآباء وتركوا الجهاد؛ خرج الأطفال يكبرون، خرجوا بالحجارة لا يملكون قنابل ولا طائرات ولا صواريخ.
خرجوا على الأعداء يلقون الحجر ويكبرون وفي حناجرهم عمر
كتبوا على الأرض السليبة بالدما إسلامنا يعلو ويهلك من كفر
فإذا الحجارة كالقنابل في الردى والطفل ليث في المعارك والخطر
أعلامهم رفعت وفي هالاتها الله أكبر كل أمر مستقر
وترى صلاح الدين بين صفوفهم حيَّت معاليه الحدائق والشجر
انتفاضة مباركة بدأت بالإسلام ولها نصر مؤزر بإذن الله، وقودها أطفال متوضئون خرجوا من المساجد فلم يجدوا إلا الحجارة، فقاتلوا بها، شهد العالم باستبسالهم، وحيا الإسلام شجاعتهم، وقال لهم الإيمان: حيا الله بكم أبطالاً، أنتم أبناء عمر وصلاح الدين، آباؤكم تركوا المسجد، وعقوا الرسالة، واشتغلوا بالدنيا، وتبايعوا بالعينة، تبعوا أذناب البقر، فهزمهم اليهود، فحيا الله بكم يا أطفال، أعيدوا ملحمة خالدة من ملاحم عمر، أو صلاح الدين.
اللهم فنصرك وتوفيقك وهدايتك لهذه الأمة، اللهم رد إلينا بيت المقدس والمسجد الأقصى، اللهم رد إلينا بلادنا فلسطين، اللهم إنا لما سلبنا إرادتنا، وظلمنا في العالم ولا ناصر لنا إلا أنت، اللهم فاملأ قلوبنا إيماناً، وبيوتنا يقيناً، وأفئدتنا نوراً، اللهم رد لنا مجدنا الخالد، اللهم إنا نسألك صلاة في ذاك المسجد تشفي بها عليلنا، وتروي بها غليلنا، وتوسع بها أرزاقنا، وتسهل بها همومنا، وتمسح بها على جراحنا.
اللهم انصرنا، اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الكفر والزندقة والبغي والإلحاد، الذين يفسدون في البلاد، ويخربون بين العباد، يا رب الدنيا ويا رب الآخرة.(74/6)
الدجالون في الأرض
تكلم الشيخ عن الشرك وبين أن التعلق بالتمائم والحروز وأمثالها خروج عن منهج الرسل، وأن من يروج هذه الخزعبلات دجال من الدجاجلة، وذلك لا يليق أن يكون في بلاد النبوة ومهبط الوحي.(75/1)
التحذير من الباطل
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.
الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء، إن الله على كل شيء قدير.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، ونصح الأمة، ودعا إلى الله، وأقام الملة، وجاهد في سبيل الله، ورفع راية الحق، ونشر العدل، وصدح بالمعروف صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله! أتم الله لنا الشريعة، وأتم لنا برسالة محمد عليه الصلاة والسلام الملة، فقال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك}.(75/2)
الإسلام دين كامل
ذهب عمر رضي الله عنه وأرضاه إلى قرية من قرى اليهود، فوجد فيها التوراة، فأخذ نسخة من التوراة المحرفة المبدلة، وأتى بها إلى رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، فلما رآها عليه الصلاة والسلام بيد عمر تمعر وجهه وغضب واشتد غضبه واحمر وجهه، وقال: {أمتهوكون فيها يـ ابن الخطاب؟! والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً، لما وسعه إلا اتباعي، يا عمر! أما أتيت بها بيضاء نقية} أما أتى عليه الصلاة والسلام بالقرآن والسنة التي لا يحتاج عبدٌ إلى عقيدة، أو عبادة، أو معاملة، أو أخلاق، أو سلوك إلا وجدها في الكتاب والسنة، أما علمنا لا إله إلا الله أكبر الأمور، وإماطة الأذى عن الطريق من أدنى الأمور، أما علمنا أن كيف نأكل وكيف نشرب وكيف ننام، فما لنا نصد عن منهج الله؟ ولهذا الكلام سبب سوف أذكره الآن.
شعوبك في شرق البلاد وغربها كأصحاب كهفٍ في عميق سبات
بأيمانهم نوران ذكرٌ وسنةٌ فما بالهم في حالك الظلمات(75/3)
المشعوذون والسحرة أعداء الرسل
عندي الآن دفتر صغير منتشر بين كثير من الناس اسمه" حجاب الحصن الحصين " خزعبلات ظلمات بعضها فوق بعض {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] فيه كلام باطل ألفه أحد الكهنة، أو المشعوذين، أو السحرة، عليهم لعائن الله صباحاً ومساءً، فهم أعداء الرسل.
وهو منتشر في كثير من القرى والمدن والبوادي يقول هذا السفيه الأحمق المعتوه الذي ألفه: إنه ينفع من أمور كثيرة إذا وضعته المرأة في حرير ووضعته في رأسها وكانت شابة جاءها الخطاب من كل مكان، وإذا وضعه صاحب الدكان وعلَّقه لا يحترق دكانه، وأتى عليه الزبائن -زبائن الجن- من كل مكان، وإذا وضعه الإنسان في البيت لا يحترق.
نبئوني عن علم إن كنتم صادقين، أفي بلاد الوحي؟! أفي بلاد الرسالات؟
أهنا تأتي الخزعبلات؟! أتحولت الأمة إلى بوذية، أو هندوسية؟! أتحولت الأمة إلى غلاة صوفية لا يعرفون شيئا؟ ماذا سوف يقول النصارى إذا قرأوا هذه الكتب؟ أرسالة محمد عليه الصلاة والسلام هذه الدفاتر، أم أتى بها بيضاء نقية؟!!
أتى بها كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ * بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66] أتى ليقول وليتلو قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3] فلماذا هذه الضلالات؟ ولماذا هذه البدع؟ ولماذا هذا التشويه لوجه الإسلام؟ الإسلام جميل، الإسلام حق وصدق، وسوف أعرض لكم بعد قليل دور الإسلام في اكتساح الشيوعية في العالم، لكن يوم يأتي الغريب ويجد أن في مقدسات البلاد الإسلامية، وفي الأرض التي بعث منها محمد عليه الصلاة والسلام، وفي أرض أبي بكر وعمر وعثمان وعلي في منطقة من هذه الأرض، في أبها، أو حولها وبجانبها من ينشر هذه السخافات على الأطفال والعجائز والجهلة ليردهم عن منهج الله.
صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من أتى عرافاً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً} وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من أتى كاهناً، أو عرافاً فصدقه، فقد كفر بما أنزل على محمد} خيوط وختم ودبل وأسلاك وتمائم وقطع من القماش وأناس من المشعوذين السحرة الكهنة أعداء الرسل، عليهم لعنة الله، يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن منهج الله.
رأى عليه الصلاة والسلام رجلاً في يده حلقة -حلقة من صفر من نحاس- قال: {ما هذه؟ انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهنا، وإنك لو مت وهي عليك، لما أفلحت أبداً} وفي الصحيح: {أنه جاء صلى الله عليه وسلم إلى رجل في يده خيط علقه من المرض فقطعه ونهاه وزجره} وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من تعلق تميمة فلا أتم الله له} التميمة: إما ورقة يكتب فيها غير القرآن وحتى القرآن على الصحيح لا تعلق آيات القرآن على صدر الطفل، ولا الطفلة، ولا المريض، فكيف إذا كان المعلق طلاسم كما يفعل هذا المعتوه المجنون السفيه؟! كلمات أعجمية ليلبس على الناس، ومثله وأمثاله يأكلون أموال الناس بالباطل.
وقبل أيام ذهب رجل إلى كاهن في اليمن ليستشفي لمرض ابنته ودفع أموالاً طائلة، قلنا له: قد خسرت دينك ودنياك وآخرتك إن لم تتب إلى الله، لقد كفر برسالة الرسول عليه الصلاة والسلام تماماً بذهابه إلى هؤلاء الكهان.
صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من تعلق تميمةً فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعةً فلا ودع الله له} لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا أنجح الله مطلوبه، ولا شفى مريضه، ولا نجح راسبه، ولا رزقه، ولا سد دينه، لأنه عادى الله.
والودعة: صدف يخرج من البحر تعلق في بعض البيوت.
فلا ودع الله له أي: لا ودعه ولا حفظه ولا رعاه ولا تولاه لا في الدنيا ولا في الآخرة.
يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام! يا أبناء من نشر التوحيد في العالم! أمثل هذه السخافات والخرافات والخزعبلات تنتشر بين أيديكم؟! من ينشر الإسلام في العالم؟ من يخبر الناس بصفاء هذا الدين وصدقه ووضوحه وأنه دين كالشمس؟ لكن يأتي المشعوذون الكهنة السحرة المتفلسفون أعداء الله، فيشوهونه، {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38].(75/4)
الله قريب من عباده
سبحان الله! ما أجل الله! إذا مرضت شفاك، وإذا طلبت أعطاك، وإذا دعوت أجابك، ليس بينك وبين الله حجاب أبداً فاتصل به مباشرة، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] وإذا سألك المريض أين الطبيب؟ فهو قريب، وإذا سألك المديون أين الذي يسد الرمق والحاجة؟ فهو قريب، وإذا سألك المنهزم المنهار أين العضد والنصير؟ فهو قريب، وإذا سألك الفقير البائس أين المغني؟ فهو قريب، وإذا سألك الضعيف أين القوي؟ فهو قريب، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
سبحانك ما أعظمك! لقد أساءت الأمة، يوم لطخت وجه التوحيد وأساءت إلى هذا الوجه الجميل، يوم عرضت الإسلام للعالم مشوهاً حتى يقول عبدة الكأس والمرأة الداعرة وعبدة الأصنام وأهل الكنائس التي تحولت إلى دور دعارة: الإسلام خزعبلات، والإسلام إرهاب، وهمجية، وبربرية والإسلام براء من ذلك، والإسلام جميل، لكن شوهه بعض أبنائه الذين ما فهموه وما عرفوه حق المعرفة.
أيها المسلمون! حذار حذار من هذه الأمور، فإنها نقضٌ لعقيدة أهل السنة، وضرب للتوحيد وتشويه للإسلام، ومعناها: أن نفقد ديننا وأخلاقنا وسيرتنا.
أيها المسلمون! أنكروا هذا المنكر وانهوا عنه، ومن وجد منكم مثل هذه الأمور، فليرفعها إلى السلطان وإلى القضاة وإلى ولاة الأمر، وليأخذ على يد هؤلاء السفهاء وليعزرهم وليفضحهم أمام الناس، فإن هؤلاء أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام، هؤلاء كهنة، وهم حرب على الإسلام، يوم أتى هؤلاء أتى الجفاف في الأرض والنهب والسلب والقطيعة وقسوة القلوب وفساد الأبناء نسأل الله أن يطهر البلاد منهم.
لقد كان عمر رضي الله عنه وأرضاه إذا سمع بساحر، استدعاه ثم قطع رأسه، ففصل الرأس عن الجسد، ليبقي منار التوحيد ونور الإسلام.
اللهم احفظ علينا إسلامنا وتوحيدنا وإيماننا، اللهم إنا نعوذ بك أن نلقاك مشركين، أو مرتدين، أو ناكصين، أو خونة مارقين، نسألك الثبات حتى نلقاك.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(75/5)
الإسلام قادم
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.(75/6)
الإسلام يدحر الشيوعية وفلسطين تبرق بالأمل
أيها المسلمون! اليوم بل كل يوم والأخبار تتوالى ووكالات الأنباء تتناقل ما حل بـ الشيوعية الملعونة الغبراء القبيحة، فقد دهست في الأرض، وطئت في التراب، ورغم أنفها في الطين.
الشيوعية عمرها اثنان وستون سنة وانهارت ولعنت وسحقت، والإسلام عمره ألفٌ وخمسمائة سنة وهو يزداد علواً ورفعة، والمستقبل له، الإسلام اليوم يطوي روسيا طي الليل للنهار، يدخل في كل بيت، دخل أوزبكستان بعد ولاية تركستان، ودخل إرمينيا بل دخل في قلب موسكو العاصمة، فهناك مركز إسلامي والخطب بدأت تلقى من على المنابر؛ لأن الإسلام حق؛ ولأنه يصل إلى القلوب.
وقد أتى هذا المجرم" جرباتشوف " فلعن الذين من قبله، {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38] فأخرى هذه الأمم تلعن أولاها، يلعن استالين ولينين ويرمي باللائمة عليهم، وما معنى ذلك إلا شيء واحد: أن المستقبل لهذا الإسلام، مسلمون من أستراليا أتوا يحجون ويعتمرون، حجاجهم أكثر من ستة آلاف، وأناس من روسيا -رأيناهم والله يبكون يريدون الإسلام.
وانهارت ألمانيا الشرقية وتشوكوسلوفاكيا وأمثالها وأضرابها؛ لأنها ما وجدت في هذه الشيوعية اللعينة حلاً لها، فهل للعرب أن يتنبهوا؟ هل لليساريين العرب أعداء الله الذين فشلوا أربعين سنة في الانتصار لهذه الشيوعية في الأرض أن يتنبهوا؟ هل لهم أن يعلموا أنهم لن ينتصروا أبداً وأن القلوب لا ترغب في أطروحاتهم، وأن الشعوب قد انتهت من هذه الخزعبلات والكذبات ولا تريد إلا الإسلام؟ هل لليساريين أن يعرفوا تجربتهم في فلسطين يوم دخلوا بأعلام المطرقة والمنجل، بأعلام برجنيف فهزموا وسحقوا؟ والآن الإسلام يدخل فلسطين تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، الفلسطينيون يرفعون لا إله إلا الله ولسان حالهم يقول:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
أمتي هل لك بين الأمم منبرٌ للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي حاسرٌ أسفاً من أمسك المنصرم
ألإسرائيل تعلو رايةٌ في حمى المهد وظل الحرم
أو ما كنتِ إذا البغي اعتدى موجةً من لهبٍ أو من دم
الآن أهل فلسطين يفعلون كما فعل الأفغان؛ لأن نسبتهم إلى خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي وطارق بن زياد، وعمر وسلمان وبلال، أما نسبتهم الخاطئة التي أتى بها جورج بوش وأمثاله من الملاعين إلى جرباتشوف وبرجنيف ولينين واستالين وكارل ماركس فهي لعينة طريدة لن تنجح، وارتقبوا سنوات، ماذا سوف يحل بالعالم من النور؟! وماذا سوف يعيش فيه من الأمن؟! لأن الناس جربوا الرأسمالية فإذا هي ملعونة سحيقة، وجربوا العلمانية فإذا هي بغيضة، وجربوا الشيوعية فإذا هي قبيحة، فعادوا إلى الإسلام {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17].
ذهب بعض الناس ملحداً من بلاد الإسلام، فلما وصل إلى روسيا وجد دعاة الإسلام فعلموه الإسلام فرجع داعية.
سبحانك ما أجلك! وما أعظمك! نسألك أن تشرق بنور هذا الدين على الأرض، وأن تبلغه مبلغ الليل والنهار، فإنك حق، ودينك حق، ورسولك حق، والجنة حق، والنار حق، كل شيء أتى به القرآن والسنة حق، والشيوعية باطل والرأسمالية باطل، والعلمانية باطل، وكل من عارض الدين باطل.
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
أيها المسلمون! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد، اللهم اعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر المسلمين في أفغانستان وفي فلسطين، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم أنزل السكينة على قلوبهم، اللهم أيدهم بروح منك، اللهم اكتب لهم النصر يا رب العالمين.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم ثبتنا على الحق حتى نلقاك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(75/7)
اليوم الخالد
يوم أحد يوم عظيم، استشهد فيه سبعون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قبل المعركة رؤيا فسرها بقتل رجل من أهل بيته ونفر من أصحابه.
وذكر بعض المواقف البطولية، فقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم سيفه على الناس ليأخذوه بحقه فأحجموا إلا أبا دجانة فأخذه وفلق به هام المشركين.
وذكر قصص بعض الذين استشهدوا في هذه المعركة: كمصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وعبد الله بن عمرو الأنصاري.(76/1)
يوم أحد الخالد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس: يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم! يا حملة لا إله إلا الله! نعيش هذا اليوم مع رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في يوم أحد الخالد؛ ذاك اليوم الذي دفع صلى الله عليه وسلم إلى الجنة سبعين من أصحابه، ذبح سبعون من أقرب الأقرباء وأتقى الأتقياء إلى قلب سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165].
قبل المعركة بليلة رأى صلى الله عليه وسلم أن سيفه قد ثُلِمَ ثلمة، وكان تعبير الرؤيا موت سيد الشهداء، ومضى صلى الله عليه وسلم بأصحابه إلى جبل أحد ولما اقترب منه، جلس هناك يستعرض الصحابة ويتكلم إليهم، ثم سل سيفاً في يمينه وقال: {من يأخذ مني هذا السيف يقاتل به هذا اليوم؟ فمد الناس أيديهم؛ كلهم يريد أن يأخذوا سيف الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: من يأخذ مني هذا السيف بحقه؟ -وكلمة بحقه صعبة وضريبة باهظة، من يدري ما هو حق هذا السيف؟ - قالوا: ما حقه يا رسول الله؟ قال: حقه أن يضرب به في الأعداء حتى ينحني -ويعوج في رءوس الكفرة والملاحدة- فنزلت الأيدي وبقيت يدا أبي دجانة مرفوعة، يقول: أنا آخذ السيف بحقه يا رسول الله! فأخذ السيف ووقف ينشد أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل
ألا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول
}.
ومضى إلى المعركة، وابتدأت معركة الإيمان والكفر، معركة بين لا إله إلا الله وبين لا إله والحياة مادة؛ لأن الشهادة في الإسلام لمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، لتكون كلمة لا إله إلا الله خفاقة منصورة وباقية ثابتة.(76/2)
استشهاد حمزة بن عبد المطلب
واستعد الرسول صلى الله عليه وسلم بألف ولكن انخزل المنافقون بثلاثمائة مقاتل، ووقف عليه الصلاة والسلام يقاتل وقتل حمزة، ووقف صلى الله عليه وسلم على عمه سيد الشهداء عند الله وقال: {والذي نفسي بيده ما وقفت موقفاً أغيظ ولا أبغض إلى قلبي من هذا الموقف، والذي نفسي بيده لئن ظفرت بهم لأمثلن منهم بسبعين، فقال الله له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]} لا تتدخل في هذا هو شهيد عندنا ونحن نتولاه والله يصلح من يشاء، ويرجئ من يشاء، ويقبل من يشاء، ويرد من يشاء.(76/3)
استشهاد مصعب بن عمير
وأتى مصعب بن عمير البطل المجاهد الشاب، الذي ترك الدنيا وذهبها وفضتها، وخرج مهاجراً إلى الله تعالى، فأتى يدور بسيفه كالأسد في جبل أحد يقول: [[أين رسول الله؟ قالوا: قتل، ظنوا أنه قتل، فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]]] فأنزلها الله آية بكلام مصعب، ثم قتل، {فأتى عليه الصلاة والسلام فوجده مقتولاً فبكى، وأتى ليكفنه فما وجد إلا نمرة إذا غطى بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطى بها رجليه بدا رأسه، وقال: أنت شهيد وأنا عليك شهيد} أي: أنت شهيد عند الله وأنا أشهد أنك شهيد، وذلك يوم يستشهد الله رسوله صلى الله عليه وسلم.
إنها التضحيات والبذل ودفع الروح رخيصة في سبيل الله، أما ترى الاشتراكيين والوطنيين والصليبيين والشيوعيين يوم يدفعون أرواحهم من أجل الدنيا، ويقولون: "نصنع التاريخ؟! أما أصحاب الرسول عليهم الصلاة والسلام فيدفعون أرواحهم لتبقى لا إله إلا الله".(76/4)
استشهاد عبد الله بن جحش
قال سعد بن أبي وقاص خال الرسول عليه الصلاة والسلام لما التقينا يوم أحد قبل المعركة، والقتال آنذاك ليس كالقتال في هذا العصر، إنه قتال سيف ورمح وخناجر إنها الشجاعة تظهر نفسها، قال: فلما التقينا أخذني عبد الله بن جحش؛ وهو أحد أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، فذهبت معه وراء الجبل وقال: يا سعد دعنا ندعو الله هذا اليوم بما شئنا، قال سعد: فدعوت الله بالنصر والتأييد، قال: فلما انتهيت، رفع كفيه وقال: اللهم إنك تعلم أني أحبك! اللهم إذا بدأت المعركة والقتال فلاق بيني وبين كافر من الكفار؛ شديد حرده، قوي بأسه يقتلني فيك -ولم يقل: أقتله- فيبقر بطني ويجدع أنفي، ويفقع عيني، ويقطع أذني، فإذا لقيتك يوم القيامة! وقلت لي: لم فعل فيك هذا؟! أقول: فيك يا رب! قال سعد: والله ما انتهت المعركة إلا ورأيته مقتولاً مبقوراً بطنه مجدوعة أنفه مقطوعة أذناه، فسألت الله أن يكمل له ما سأل، وكلها رخيصة في سبيل الله.
والله يقول: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169 - 170]:
أرى كلنا يبغي الحياة بعيشه حريصاً عليها مستهاماً بها حبا
فحب الجبان النفس أورده البقا وحب الشجاع الحق أورده الحربا
أتى قتادة بن النعمان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد وسط المعركة، وقد ضربت عينه، فنزلت حتى أصبحت على خده -نزلت عينه بعروقها من مكانها، حتى سالت على خده- وقال: {يا رسول الله! أنظر لعيني! فقال عليه الصلاة والسلام: ادن مني، فدنا منه فأخذ براحته الشريفة ورد عينه مكانها وقال: باسم الله تبارك الله فعادت أحسن من العين الأخرى}.
يقول ابنه:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد
وهذه من الأيام المشهودة في تاريخ الإسلام، التي دفع أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام فيها أرواحهم رخيصة في سبيل الله، لتكون كلمة الله هي العليا.
ولينتصر الإسلام، ولتبقى شعائر الله، ويبقى القرآن، وأنا وأنت حسنات من حسنات جهدهم عبر التاريخ.(76/5)
الصحابي الذي كلم الله
وفي ذلك اليوم المشهود تجلت فيه بطولات الصحابة، وأعظم قصة في معركة أحد هي القصة التي تسمعونها دائماً وأبداً، ولكننا سوف نذكرها ما بقي في الأرض إسلام، وما بقي في الأرض مسلمون.
إنها قصة الشهيد الذي كلم الله! إنها قصة المؤمن الذي تحدث مع الله مباشرة! عجباً لهذه الأمة؛ أمة الصحراء، لما حملت لا إله إلا الله؛ تكلمت مع الله كفاحاً بلا ترجمان، فمن هو؟ إنه عبد الله بن عمرو الأنصاري الفقير الزاهد لكنه غني بالإيمان، قوي بالتقوى، خرج من بيته وقد رأى قبل ليلة: أنه يقتل في معركة أحد فاستودع أهله، واستودع بناته واستودع ماله الله الذي لا تضيع ودائعه:
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
وذهب إلى المعركة؛ فقتل بعد أن ضُرب بأكثر من ثمانين ضربة، وسجي بثوب، وقال عليه الصلاة والسلام لابنه جابر وهو يبكي على أبيه: {يا جابر ابك أو لا تبكِ، والذي نفسي بيده ما زالت الملائكة تظل أباك بأجنحتها حتى رفعته، والذي نفسي بيده لقد كلم الله كفاحاً بلا ترجمان}.
يعني: لم يجعل بينه وبينه مترجم، بل لما قتل في سبيل الله كلمه الله مباشرة، قال: {تمن يا عبدي، قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمن، قال: أتمنى أن ترضى عني فإني قد رضيت عنك، قال: فإني قد أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً}.
فجعل الله روحه وأرواح إخوانه في حواصل طير، ترد الجنة فتأكل من ثمارها، وتشرب من أنهارها، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ومن قاتل لسمعة فلا قبل الله قتاله ولا تضحيته! ولا نفعه جهاده! ومن قاتل لوطنية، أو رياء، أو حمية، أو ليقال: قاتل، أو لمذهب هدام؛ فقد خسر مستقبله وروحه ودمه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
أقول: ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(76/6)
القتال من أجل ماذا؟!
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيها الناس! يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: {أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: رجل آتاه الله شجاعة وجرأة وقاتل في المعركة حتى قتل، فاستدعاه الله على رءوس الأشهاد يوم العرض الأكبر، فقال له: لم قتلت؟ قال: فيك يا رب! -يعني: قاتلت من أجلك- قال الله: كذبت، وقالت الملائكة: كذبت، وقال الله: إنما قاتلت ليقال جريء وقد قيل خذوه إلى النار، فيؤخذ فيلقى في النار}.
هذا صنف خرج رياء وسمعة وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: {جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} من قاتل لبقاء لا إله إلا الله، ولينتصر الإسلام، وليبقى الدين فهو في سبيل الله.(76/7)
قصة قزمان
وفي معركة أحد خرج قزمان؛ وكان من الشجعان، من أهل المدينة خرج يقاتل معه سيف لا يترك فاذة ولا شاذة للكفار إلا عقرها، ثم انتهت المعركة وقد قتل، فقالوا: {هنيئاً له الشهادة يا رسول الله! فقال: كلا! والذي نفسي بيده إنه في النار، قالوا: يا رسول الله! ما ترك شاذة ولا فاذة للكفار إلا عقرها، قال: والذي نفسي بيده إنه في النار، فاسألوا أهله ماذا فعل؟ فذهبوا إلى أهله فسألوهم، قالوا: ماذا فعل قزمان؟ قالوا: أصابته جراحة في المعركة، في رأسه، حتى وصلت عظم رأسه فاشتد عليه الألم، فما صبر؛ فاتكأ على سيفه حتى خرج من ظهره}.(76/8)
قصة البردة المغلولة
وفي غزوة من الغزوات قالوا: {يا رسول الله فلان شهيد، قال: كلا، والذي نفسي بيده؛ إن البردة التي غلها في المعركة لتشتعل عليه ناراً}.
فبحثوا فوجدوه قد سرق من الغنيمة بردة، لا تساوي أربعة دراهم، وقاتل فقتل، وفي الظاهر أنه شهيد، وفي الباطن أنه ليس شهيداً لأنه خرج لمقصد آخر فانتهى.(76/9)
النصر على أعداء الإسلام
ضوالأمة تعيش الآن أزمة، وهي حادثة ما تكررت حتى في تاريخ اليهود، إنها دماء تسيل وأموال تنهب، وإنا نعرف أن الطغاة يجب تأديبهم ويجب الأخذ على أيديهم، ولكنها أزمة وفتنة وقى الله المسلمين شرها، وإن الأنظمة الكفرية التي أعلنت الإلحاد، وأعلنت الكفر بالله، تحتاج إلى تأديب من الله، لطالما عتت ولطالما بغت، ولطالما أعرضت عن منهج الله، والآن أتى وقت تأديبها، ونسأل الله أن يرينا يوماً أسوداً في أعداء الإسلام؛ من اليهود والصليبيين، الذين كان لهم تاريخهم الأسود في حرب لا إله إلا الله، وفي أخذ المسجد الأقصى، وفي تمزيق وحدة المسلمين وضربهم.
ونسأل الله أن يزيل كل طاغية، وأن يمحي أثر كل عاتٍ ومتمرد، وأن ينصرنا بلا إله إلا الله.
عباد الله: صلوا وسلموا على الرسول المجاهد الصادق المخلص، وعلى آله وصحبه والتابعين.
اللهم انصرنا وثبت أقدامنا، اللهم احفظنا واحفظ إيماننا، اللهم من أرادنا بسوء فاشغله بنفسه، اللهم من سل على المسلمين سيفاً فاقتله به، اللهم اهد ولاة الأمر لما تحبه وترضاه، وأصلحهم واجمع كلمة المسلمين وأزِلْ عنا هذه الفتنة وهذه الأزمة، وأخرجنا منها سالمين، واهلك واضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا سالمين غانمين يا رب العالمين.
عباد الله: سلوا الله الثبات، وسلوا الله العصمة، وسلوه النور، يوم يهدي الله الذين آمنوا بنورهم في الظلمات وفي المهلكات.
اللهم إنا نسألك إن أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، ولا مضيعين، ولا مفرطين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(76/10)
زلزال في أمريكا
لله في خلقه شئون، وله سنن كونية لا تتبدل ولا تتغير في هذا الكون، فإنه ما كفرت القرى إلا وأصابها سنة الله في الأولين، كأمثال قوم سبأ، وعاد وثمود.
ونحن اليوم نرى أمريكا وعلى ما فيها من جبروت وطغيان ومحاربة لله وكفر بأنعمه، أصابها تلك السنة ففي خلال اثنتي عشرة دقيقة يسلط الله على واحدة من مدنها زلزالاً يقلب عاليها سافلها بإذن الله: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:102].(77/1)
قصة الزلزال
الحمد لله رب العالمين {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1].
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس: إن في وقائع الله عبراً، وفي أيام الله عظات، وإن الذي لا يتدبر في الحوادث، ولا في الأيام، ولا في تصريف الأمور؛ لهو أحمق بليد.(77/2)
عقاب الله يحل بالأمريكان
وقبل أيام ضرب زلزال عنيف أمريكا، ضربها على أنفها، من الله الواحد الأحد، زارها في الليل، أمست في ليلة هادئة، معها قوادها، وجيوشها، ومصانعها، وطائراتها، ولكن لم يخبرهم الله أنه سوف يدمرهم.
أتاهم العذاب بغتة: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:97] أتاهم فيما يقارب الساعة الثامنة، وهذا موعدٌ (لمن يعرف ذاك التوقيت) بعد أن انتهوا من أعمالهم بساعة ونصف، فلما باتوا بيّتهم الله، لم يخبرهم جهاز الإنذار، ولا الرادار أن هناك جزاءً لهم موعوداً عند الواحد الأحد، بل وصل الموعود من الله بأمةٍ تهتكت في حدود الله، أتاهم في أكبر مدنهم؛ في سان فرانسيسكو، ومن يعرفها يعلم أنها من أكبر المدن، اكتظت بالسكان، وهدرت بالمصانع، فأرسل الله عليها زلزالاً، كم أخذ من مدة؟ اثنتي عشرة ثانية.
ما بين غمضةِ عينٍ وانتباهتها يقلب الله من حالٍ إلى حال
أين القصور التي كانت مشيدة أين العمارات من رئلٍ ورئبالِ
صاروا هباءً منثوراً.
مدته اثنتي عشرة ثانية، فتحولت الجسور إلى الأرض، والقصور إلى الساحات، وارتفعت أصوات النساء العاهرات في الفنادق، وكبكبت الخمور على رءوس المجرمين، وتحطمت السيارات، وتعطلت الطائرات، وفرقعت القطارات، وتوقف الناس يقولون: مالنا؟
مالكم! {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97 - 99].
ماذا فعلت أمريكا، أتدرون ماذا فعلت؟ صنعت الطائرة، قدمت الثلاجة، أنتجت البرادة، صنفت الصواريخ، لكنها أفسدت في عالم الروح: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] ما استعدوا للقاء الله، حياتهم نجاسة، وعهرٌ، وزناً، ورباً، وفحشٌ، ونهبٌ، وسلب.
هذه أمريكا فسدت في عالم الروح: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66].
أمريكا، يقول عالمهم كريسي موريسون مؤلف كتاب الإنسان لا يقوم وحده: إن أمريكا تسعى إلى الهاوية مائة في المائة؛ لأنها لم تعرف الله.
وفي كتاب: الله يتجلى في عصر العلم؛ الذي معنا بين أيدينا، وقد ألفه نخبة من الأمريكان؛ الذين أسلموا يحذرون شعبهم العار، والدمار، والنار، ولكن من يعي؟!(77/3)
أمريكا في الحضيض
أخبرنا مسلمٌ أمريكيٌ من ولاية أكلاهوما أنه ثبت في التقارير أن جامعة أكلاهوما فيها عشرون ألف فتاة كلهن حبلى من الزنا، عشرون ألف فتاة يدرسن في جامعة واحدة كلهن حبلن من الزنا، أي حضارة هذه!!
في بلدٍ أفكاره منكوسه تثقله بصائر مطموسه
يقدسون الكلب والخنزير ويبصرون غيرهم حقيرا
ما عرفوا الله بطرف ساعه وما أعدوا لقيام الساعه
فهم قطيع كشويهات الغنم جدٌ وهزلٌ وضياعٌ ونغم
من دمر العمال في بولندا ومن أتى بالرقِّ في أوغندا
من الذي ناصر إسرائيلا حتى تصب عنفها الوبيلا
استيقظوا بالجد يوم نمنا وبلغوا الفضاء يوم قمنا
منهم أخذنا العود والسجاره وما عرفنا نصنع السياره
إننا مخطئون؛ لأننا لم نصنع كما صنعوا، وإنهم آثمون؛ لأنهم لم يسلموا كما أسلمنا، نقصوا في الإسلام ونقصنا في العمل، ولا يعفينا نقصنا، فأما هم فكفارٌ ملاحدةٌ زنادقة.
في أمريكا تقدم قبل سنتين رجلٌ يشتكي رجلاً اعتدى على كلبه في كلورادو في المطار فضربه، والكلب عندهم آية من الآيات؛ يغسلونه في الصباح، ويقبلونه في المساء، ينام على السرير، ويستيقظ مبكراً على الإفطار، ويركب السيارة مع أكبر أمير أو مسئول منهم.
ضُرب كلب، فقدمت عريضة فيه، قال العالَم: وأين شعب فلسطين؟! ضُربوا بالهراوات، كُسرت رءوس الأباء والأمهات، أُسقط الشيوخ على الأرصفة، هدمت المساجد، سحقت الدور، دمرت القصور؛ ولا احتجاج، تنصفون كلباً -يا أعداء الله- من أنفسكم، ولا تنصفون شعباً كاملاً؛ إن هذا درسٌ للمسلمين عام، ودرسٌ للفلسطينيين خاص، أنَّ هيئة الأمم لن تُصنع لهم، ولن تنتج لهم نصراً ولن تقدم لهم طائلاً.
ولقد ظن الروس أن أفغانستان سوف يتقدمون إلى هيئة الأمم، لكن كفروا بهيئة الأمم، لم يقدموا شكوى، قدموا الصواريخ، لم يقدموا عريضة، حملوا الكلاشنكوف:
يا مجلس الأمن هدَّ الله ركنك ما تزل للظلم دوماً غلت مغتصبا
أنت الذي حرم المسلوب دمعته وأنت أرضيت أهل الفحش والغربا
هذا لمن يحكم بالطاغوت.(77/4)
أخذ العبر من زلزال أمريكا
درسنا اليوم كيف نأخذ عبراً من ذلك الزلزال الذي ضرب أمريكا على أنفها، قام جهاز ريختر فسجل سبعة وواحد من عشرة، ولو كان عشرة من عشرة لدمرت أمريكا، قوةٌ عظمى ولكن الله أعظم، صواريخ ولكن {أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] قدرة الواحد الأحد! فمن الذي يعترض على الله؟! ومن الذي يريد أن يحارب الله؟! وكيف حاربوا الله؟
حاربوا الله يوم كفروا.
حاربوا الله يوم أخرجوا الفتاة عاهرةً، زانيةً، سافرةً في الجيش، في المصانع، في الوظائف.
حاربوا الله يوم سيروا الدعارة، والخمر، والزنا، والربا في العالم.
حاربوا الله يوم قاموا مع الأقوياء، فسلبوا حقوق الشعوب، وتراث الشعوب، وجاه الشعوب، قال سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
يقول أحد التقارير من هناك: خرج كبار الموظفين في المدينة، وأخبروا أهاليهم بالهاتف أنهم يصلون بعد دقائق، لكن الله لم يمكنهم، وكتب ألا يصلوا، وضربهم بالزلزال فدمر الآتي، ودمر المستقبل، فأصبحوا شذر مذر.
وقف رئيسهم قبل أيام بوش، فنظر إلى العمارات وهي منكسة، وقال: لقد أخطأ علماء الهيئة يوم لم يقرءوا تقارير التربة والقشرة الأرضية، قلنا: يا ويلك من الله! الأمر أعظم من ذلك، القدرة من السماء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] أنتم الذين تسببتم في هذا، وهذا قليلٌ من عقاب الله {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16].
وقال سبحانه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} [الطلاق:8 - 9] والله يقول وهو يصنف الأقوام على مسرح الحياة كما يقول بعض المفكرين: كلما كشفت ووقفت على المسرح أهلكها، ثم يرفع الستار عن أمة أخرى فيهلكها، ثم يقول الله في الأخير، استمعوا يا أمة محمد!
يا أمة الإسلام!
يا أيتها الأمة الخالدة!
اسمعوا إلى العقوبات: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:45 - 46].
{وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} [العنكبوت:38] انظروا إلى الأحقاف، انظروا إلى سواحل اليمن، انظروا إلى قرى قوم ثمود، انظروا إلى أراضي المؤتفكات {وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ * وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} [العنكبوت:38 - 39].
هذا موجز، وإليكم التفصيل: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].
يا مسلمون من ينجينا من الزلازل والفتن؟!
من ينجينا من البراكين والمدلهمات؟!
من ينجينا من عذاب الله، ومن لعنة الله؟! ومن عقاب الله؟! وأخذه، ومن ينجينا من نار تلظى؟!
لا ينجينا إلا الإيمان، والمساجد، والصلوات الخمس، والقرآن، وسنة محمدٍ عليه الصلاة والسلام، والتواصي بالمعروف والنهي عن المنكر، فعل الخير؛ هذا النجاح، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30].
ولكن نسأل الذين ينهارون، وينهمرون، وينسحقون، ويسرعون إلى حضارة الغرب في أرواحهم، نقول لهم: أتريدون أن يتحول المجتمع المسلم إلى مجتمعٍ كمجتمع أمريكا؟! أو فرنسا؟! أو إسرائيل؟!
أتريدون أن يبقى الإنسان نهباً، وسلباً، وخوفاً، وتمزقاً، والله لقد عاشوا الويلات في قلوبهم؛ فاضطربوا، ومرضوا، واهتّموا، واغتّموا، ومن أراد الوثائق فليراجع كتاب الأمريكي (دع القلق وابدأ الحياة) فوالله لقد عاشوا التوتر في أعصابهم، وعاشوا الانهيار الخلقي العجيب.
امرأةٌ تستقبل رجلاً مع زوجها يفعل فيها الفاحشة في بيت زوجها، وهو يعلم ولا ينكر!
فتاةٌ تسافر من عند أبيها، وتعود حبلى إلى أبيها بلا زواج!
وخمرٌ يشرب كما يشرب الماء!
وزناً يعلن، والفحش، والعهر في الصحف، والمجلات والمسلسلات!
وأشرطة الفيديو، وأفلام الجنس تعرض على العالم! وبعض الناس طمس الله على قلبه:
وقل للعيون الرمد للشمس أعينٌ تراها بحقٍ في مغيبٍ ومطلع
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها بأبصارها لا تستفيق ولا تعي
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
يا من طالع الصحف وسمع الأحداث! يا من استمع إلى الأخبار! اعلم أن كل ما تم في العالم فبقضاءٍ وبقدرٍ من الواحد الأحد، وفيه عظاتٌ ودروس، ولكن (مِن الناس) كما قال الله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37].(77/5)
من أخبار الأمم الماضية
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد:(77/6)
قصة قوم سبأ في القرآن الكريم
عباد الله: إن الله يذكر لنا ما فعل بالقرى يوم كفرت بأنعم الله، ويوم عطلت حدوده، وتنكرت لشرعه! اسمع إلى قول الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:15 - 19] سبأ: قبيلة تسكن في اليمن، معهم سدٌ عظيم، يملؤه الله كل سنة بالماء، أنبت لهم أنواع الثمرات؛ مثل ما أنبت لنا اليوم أنواع الخيرات.
سلْ العالم كيف نعيش من رغد، سلوا الدنيا أي بلدٍ أسعد من بلادنا؛ أمنٌ ورخاء، سهولةٌ ويسر، فواكه الدنيا، وثمراتها، وملابسها، وأدواتها: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37].
عاشوا في سبأ كما عشنا {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} [سبأ:15] لكل رجلٍ من أهل سبأ بستانان عظيمان عن اليمين وعن الشمال، ذكر المفسرون أن عذق النخلة في سبأ كان لا يحمله إلا فرسان اثنان، النخلة تثمر في السنة مرتين، وكان الماء ينهمر كالسلسال تحت أرجلهم، وظلل الله عليهم الغمام، فلا يرون الشمس إلا نزهة، والمرأة تأخذ المكتل، وتضعه على رأسها، وتذهب من تحت الشجر فيمتلئ المكتل من كثرة ما يتساقط فيه، والطيور التي ترفرف على الرءوس، والعليل مع النسيم، والرخاء مع السعد.
لكن ماذا فعلوا؟ عطلوا أمر الله، الله يقول: آمنوا بالله، فيقولون: كفرنا، يقول: واسمعوا، قالوا: سمعنا وعصينا؛ كما يفعل بعض الناس، له بيت فخم، وسيارة فاخرة، ومنصب مرتفع، ومالٌ وشيكات، وأولاد، جار للمسجد لا يصلي في المسجد، طبع الله على قلبه، مجرم، بل يعين على فساد قلبه بقلبه:
يقال له: استمع القرآن، فيقول: لا، بل أستمع إلى شريط غنائي.
يقال له: انظر إلى آيات الله في الكون، يقول: لا، بل انظر إلى الأفلام الماجنة.
يقال له: استمع التلاوة؟ يقول: بل أستمع إلى أغنية ماجنة.
يقال له: اقرأ في كتب الإسلام، يقول: بل أقرأ في مجلة هابطة.
سبحان الله! لأنه لا يرى إلا بعينه التي يرى بها الحيوان، {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] قال الله: آمنوا، قالوا: كفرنا، فماذا أرسل الله عليهم؟ أأرسل عليهم جيشاً من السماء؟ لا، هم أقل وأذل من ذلك، ماذا فعل الله بهم؟ أرسل عليهم فأرة.
يقول المفسرون: أراد الله أن يخوف قوم فرعون؛ فأرسل عليهم قملاً وضفادع وجراداً.
وأراد أن يهلك نمرود بن كنعان فأرسل عليه بعوضة فدخلت في دماغه فقتلته.
وأراد أن يهلك سبأ فأرسل عليهم فأرة، ثم قال سبحانه: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:73 - 74] نخرت الفأرة سدهم، وفي الصباح تدكدك السد، واجتاح الماء الهائل بأمواج كالجبال مزارعهم وبيوتهم، ومطارحهم وأشجارهم، وأصبحوا يولولون ويبكون في رءوس الجبال، لماذا؟ {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ:16] ويقول سبحانه: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ:19].
معظم القبائل من اليمن وأجدادكم الأزد كانوا في سبأ فتفرقوا أربعة أقسام؛ لأنهم عصوا الله، فلا نريد نحن أن نعصي ربنا، فمنهم أزدٌ في عمان، ومنهم الغساسنة في الشام، ومنهم أزد شنوءة وهم نحن في الجنوب، ومنهم الأوس والخزرج أنصار محمد صلى الله عليه وسلم.
أنا ابن أنصارك الغرِّ الألى سحقوا جيش الطغاة بجيشٍ منك جرار
نحن اليمانيين يا طه تطير بنا إلى روابي العلا أرواح أنصار
نريد أن ننتسب إلى الأنصار، لا إلى جدنا الظالم الأول الكافر الذي كفر بنعم الله.
نريد أن نكون مؤمنين مصلين، وصائمين صادقين؛ ليحشرنا الله مع أبناء عمومتنا؛ سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وحسان بن ثابت؛ لا أن يحشرنا الله مع الظلمة الذين حاربوا شريعة الله.
فصلتنا بالله الواحد الأحد أيها المسلمون! {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
اللهم صلِ على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الأطهار، وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أصلح الملك، وولي العهد، والأمراء، والمسئولين، والقضاة!
اللهم أصلح الطلبة والأساتذة! اللهم أصلح البيوت! اللهم أصلح القلوب، اللهم أصلح الشعوب، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم لا تعم أبصارنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك، واتقاك، واتبع رضاك، برحمتك يا أرحم الراحمين!
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(77/7)
عيش النبي وأصحابه وتخليهم عن الدنيا
إن هذه الحياة الدنيا قد ذكر الله عز وجل حقارتها في كتابه الكريم، وذمها النبي صلى الله عليه وسلم واستصغر من شأنها كما ورد في سنته، لذلك لابد أن نزهد فيها، ونعلم أننا راحلون منها وملاقو الله عز وجل، ونقتدي في ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهم خير مثال.
وقد تعرض الشيخ حفظه الله في هذا الدرس لحديث أبي هريرة مبيناً حال النبي صلى الله عليه وسلم وزهده في هذه الحياة، ومبيناً اقتداء الصحابة بالرسول صلى الله عليه وسلم وتخليهم عن الدنيا، ثم أورد فوائد مستنبطة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وختم بها هذا الدرس.(78/1)
نص حديث أبي هريرة في زهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
اعلموا بارك الله فيكم أنه لا بد للعبد المسلم كل يوم من نقلة يعيشها مع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وكل ما أتانا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو سنة، لابد أن نعيش معه في حاله صلى الله عليه وسلم وفي أعماله، وفي جهاده وهجرته، وفي طعامه وشرابه، وفي قيامه وقعوده، وفي يقظته ونومه؛ لأن الله جعله أسوة لنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا تفتح أبواب الجنة إلا من بابه، ومن أتى من غير طريقه فحرام عليه الجنة.
إذا علم ذلك فإن الله يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
ومعنا هذه الليلة حديث طويل نعيش فيه مع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، والذي يروي هذا الحديث هو حافظ الأمة وحامل لواء السنة أبو هريرة رضي الله عنه، يقول الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل: (باب: كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم من الدنيا) ثم قال رحمه الله: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عمر بن ذر، قال حدثنا مجاهد أن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه كان يقول: {آلله الذي لا إله إلا هو لقد كنت أعتمد ببطني على الأرض من الجوع، آلله الذي لا إله إلا هو لقد كنت أربط على بطني الحجر من الجوع، وإني صليت صلاة المغرب في ذات ليلة في عهده صلى الله عليه وسلم، فلما صليت خرجت في طريق الناس وهم يمرون علي -وسوف يمر عليه من هذا الطريق الصحابة من المهاجرين والأنصار- قال: فوقفت وبي من الجوع ما لا يعلمه إلا الله، والله ما أوقفني إلا الجوع، قال: فمر بي أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فسألته عن آية من كتاب الله، والله الذي لا إله إلا هو ما سألته إلا ليطعمني ويشبعني في بيته، قال: فأخبرني ثم مر ولم يدعني إلى بيته، ثم مر عمر رضي الله عنه فسألته عن آية من كتاب الله، والله الذي لا إله إلا هو ما سألته إلا ليطعمني فما فعل، ثم مر رسول الله صلى الله عليه وسلم -وعند البخاري من طريق مجاهد - ثم مر أبو القاسم بأبي هو وأمي، فلما رآني واقفاً قبل أن أتكلم تبسم في وجهي، وقال: يا أبا هر! حيهلاً بك.
قال: فأخذ بيدي فتبعته، فدخل بيته عليه الصلاة والسلام، فلما دخل استأذنت فأذن لي فدخلت، فقال عليه الصلاة والسلام لأهله بعد صلاة المغرب: أعندكم شيء؟
قالوا: لا.
إلا شيء من لبن.
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هر! قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله! وظننت أنه سوف يدفع لي هذا اللبن لأسد به رمقي من الجوع.
قال: يا أبا هر! قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله! قال: انطلق إلى أهل الصفة في المسجد -وأهل الصفة قوم فقراء من الصحابة الأخيار من خيرة الصحابة، اجتمعوا في المسجد وتخلوا عن الدنيا، لا أهل معهم ولا مال ولا ولد، في النهار يحتطبون من الجبال ويبيعون، وفي الليل يتعبدون الله في مسجدهم ويستمعون ما أنزل على رسول الهدى صلى الله عليه وسلم- قال: فقلت في نفسي -هكذا في رواية البخاري - قلت: يا سبحان الله! إذا دعوت أهل الصفة ثم أتوا وشربوه ماذا سوف يبلغني منه؟ أفما كان بدأ بي فأسقاني ثم أرسلني؟ قال: فما كان من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بد، قال: وأهل الصفة كانوا قوماً فقراء لا أهل لهم ولا مال ولا ولد يسكنون في المسجد، فإذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة دفعها إليهم، وإذا أتاه هدية أشركهم معه في الهدية -لأنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة- قال: انطلق إلى أهل الصفة ادعهم لي، قال: فذهبت إليهم وقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكم.
فقاموا وذهبوا معي، فاستأذنت لهم فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوا مقاعدهم في البيت، فلما جلسوا سلمني صلى الله عليه وسلم القدح في يدي، وقال: اسقهم يا أبا هر! هو أبو هريرة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يتلطف معه.
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب
كذاك أدبت حتى صار من أدبي أني وجدت ملاك الشيمة الأدب
قال: فأخذت القدح وأخذت أسقيهم واحداً واحداً، كلما شرب أحدهم دفعت القدح إلى الآخر، فإذا شرب عدت إلى الآخر، وهكذا حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -الرسول صلى الله عليه وسلم هو صاحب الضيافة، وهو صاحب المنزل، وهو في آخر الضيوف- قال: فلما وصلت نظر إلي وتبسم في وجهي، وقال: يا أبا هر! بقيت أنا وأنت.
قال: قلت: صدقت يا رسول الله! قال: اقعد، فقعدت، قال: اشرب.
فشربت، ثم قال: اشرب.
فشربت، ثم قال: اشرب.
فشربت، ثم قال: اشرب في الرابعة، قلت: والله يا رسول الله! ما أجد له مسلكاً.
قال: فأخذ الإناء من يدي وفيه فضلة ثم قال: الحمد لله، ثم سمى وشرب، عليه أفضل الصلاة والسلام}.(78/2)
وقفات مع حديث أبي هريرة في زهد النبي وأصحابه
في هذا الحديث قضايا تعرض لها ابن حجر وغيره من الشراح ومن المحدثين الجهابذة.(78/3)
سند الحديث وتفنن البخاري في التبويب
أولها: سند هذا الحديث.
البخاري رحمه الله تعالى تفنن في كتابه، مرة يعيش معك في الأحكام، وهذا هو أسلوب الكتاب الكريم، فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى تعرض للأحكام والأخبار، وللقصص والآداب والسلوك، يتحدث القرآن معك في الطلاق، وأنت في موضوعات الطلاق وإذا به ينتقل بك إلى اليوم الآخر، ويوم أن يعيش بك في اليوم الآخر والعرض والحساب والحوض والصراط والميزان، والناس يهرعون، أعمالهم شتى، فريق في الجنة وفريق في السعير، وإذا بالقرآن يعود بك إلى الحدائق الغناء في الدنيا، ويتحدث لك عن البساتين ومن خلقها، وعن النجوم ومن أبدعها، وعن السماء ومن رفعها، وعن الصور ومن صورها.
وأنت معه في هذه الصور والملامح وإذا به ينتقل بك إلى ساح الجهاد، وعن المجاهدين والشهداء وماذا أعد الله لهم، وبعد أن ينتهي يتحدث عن أهل العلم وماذا ينبغي لهم، وعن الصلحاء والأخيار.
وأتى البخاري فتناول كتابه على أسلوب القرآن، فعندما بدأ بدأ بالإيمان، ثم العلم، ثم الأحكام، ثم أتى بالرقائق والزهد والسلوك والفتن والملاحم واليوم الآخر، فكان بحق أعجب كتاب بعد كتاب الله عز وجل، حتى أن ابن تيمية سأله سائل: دلني على كتاب قال: لا أعلم كتاباً ينفعك بعد كتاب الله كـ صحيح البخاري.
فيقول البخاري: (باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم من الدنيا) ثم يقول: حدثنا أبو نعيم وأبو نعيم شيخ البخاري، اسمه: الفضل بن دكين وأبو نعيم إذا ذكر في السيرة وفي السنة فهما رجلان: أبو نعيم الفضل بن دكين صاحبنا هذه الليلة، وأحمد بن عدي صاحب الحلية، وهو في القرن الرابع، أما هذا الرجل فهو ثبت خير زاهد عابد، سرد الصيام ما يقارب أربعين سنة، وعمي في آخر عمره من كثرة ما بكى من خشية الله في الليل، ومع حفظه للحديث وزهده وعبادته كانت فيه دعابة ومزح، وكان خفيف الروح؛ ولذلك يقول ابن كثير: إن المحدثين فيهم خفة روح.
يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء: طرق على أبي نعيم طارق ذات يوم، فقال أبو نعيم: من؟ قال: أنا رجل.
قال أبو نعيم: ممن؟ قال: من ذرية آدم، ففتح أبو نعيم الباب وقال: ما ظننت أنه بقي لآدم ذرية، فحياك الله يا ذرية آدم.
وعمر بن ذر هو الزاهد، شيخ أبي نعيم، ومجاهد بن جبر أكبر من فسر كتاب الله عز وجل بعد ابن عباس، ولذلك يقول: عرضت القرآن ثلاث مرات في الحرم على ابن عباس من أوله إلى آخره، أوقفه عند كل كلمة أسأله عن معناها.
قال سفيان الثوري: إذا أتاك التفسير عن مجاهد فحسبك به.
أي: إذا سمعت أن مجاهداً فسر آيةً فلا تتجاوز تفسيره إلى غيره في الجملة.
يقول أحد أهل العلم: رأيته فرأيت في وجهه كأنه يريد الله والدار الآخرة، وتذكرت بوجهه خوف الله عز وجل.
أو كما قال.
كان مغرماً بالأسفار، ما سمع ببلد ولا بأعجوبة في الأقطار إلا سافر لها، ولذلك طاف أكثر البلاد الإسلامية، ووصل إلى عدن وإلى آبار هناك، ووصل إلى بابل وإلى البئر التي فيها هاروت وماروت، فإنهم في بابل كما ذكر الله في كتابه {بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة:102] قال: فلما دخلت وجدت خازنها عند الباب فقلت: ائذن لي أن أدخل.
قال: أدخلك بشرط ألاَّ تتكلم.
قال: فدخلت وأطللت على بئر -وهذا في ترجمته- فوجدت اثنين معلقين بقدميهما ومنكسة رءوسهما في قعر البئر.
قال: فلما رأيت هذا المنظر قلت: سبحان الله! فأغمي عليَّ وعلى صاحبي، ثم استفقت بعد برهة فقال الخازن: أما قلت لك لا تتكلم؟ قال: نسيت.
هذا مجاهد يروي الحديث عن أبي هريرة وساق لنا الحديث، وأبو هريرة يتحدث عن تلك الحال التي عاشها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأورد الحديث هذا لأنه تولى الإمارة في عهد معاوية، أو في عهد مروان بن الحكم، فلما تولى الإمارة كان يأتي في ثياب القطن، وكان يقول: أفطر الخمير، وألبس ثياب القطن، وأنا كنت أهوي بين المنبر وبين المسجد من كثرة الجوع.
فكأنه كان يتذكر تلك الأيام ليقمع عجبه ونفسه أمام الناس.
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن
وإن أولى الموالي أن تواليه عند السرور الذي واساك في الحزن
ولذلك يقولون: من عادة الكرماء أن الله إذا أنعم عليهم ذكروا أيامهم الخالية في الفقر وفي الخشونة والمشقة.
فهو يتحدث للناس عن هذه الأيام التي مرت به رضي الله عنه، وبعض المهاجرين والأنصار على فقرهم كانوا يجدون ما يسدون به رمقهم، لكنه حتى الأكلة الواحدة ما كان يستطيع لها، حتى يقول: [[والله لقد كنت أؤجر ظهري -يحمل الحطب- على الأكلة الواحدة]] وقد مرت هذه بكثير من الصحابة، مرت بـ أبي الحسن أمير المؤمنين، الذكي النابه التقي الزاهد علي بن أبي طالب، يقول وهو يتحدث عن نفسه تواضعاً لله على منبر الكوفة وهو خليفة للمسلمين: [[لقد مر بي يوم من الأيام جعت أنا وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما وجدنا ولو دقل التمر -رديء التمر- قال: فقالت: اذهب فالتمس لنا أكلاً وطعاماً.
فلبست في البرد جبة معي من صوف، وذهبت أسأل الله عز وجل وأستغفره أن يرزقنا -لأن الاستغفار يأتي بعده الرزق- رزقاً حلالاً في ذلك اليوم، فذهبت فتذكرت رجلاً تاجراً من اليهود، له مزرعة في خيبر، فانطلقت فإذا هو يسوق على سانية له، فجمعت نفسي فدخلت مع قائد الماء -المجرى الذي يجري منه الماء- قال: فلما دخلت رآني اليهودي وقال: من أدخلك؟ قلت: أتيت أعمل.
فقال: انزح كل غرب بتمرة.
قال: فقمت أنزح على الجمل كل غرب واحد بتمرة، فلما نزحت ما علم الله من الغروب دعاني فملأ كفيه لي وأعطاني إياه على عدد الغروب.
قال: فذهبت فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الخبر فتبسم ودعا لي، ثم أكل منه بعض التمر، وذهبت إلى ابنته عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنها، فبارك الله في ذلك التمر فكفانا ردحاً من الزمن]] أو كما قال.(78/4)
قدوم أبي هريرة المدينة وإسلامه
قدم من دوس من أرض زهران من جبال السراة، وليس عنده شيء من مال ولا متاع، وإنما يريد الله والدار الآخرة، فأبدله الله ذكراً جميلاً في الدنيا، وأبدله جنة -نسأل الله أن يجمعنا به في مستقر رحمته- وجعله حافظ الدنيا للحديث النبوي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكان قدومه يوم قدم ومعه مولىً له، فضاع عليه المولى في ظلام الليل، فلما قدم أتى والرسول صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه، فلما رآهم قال:
أيا ليلة من طولها وعنائها على أنها من دارة الكفر نجتِ
يقول: ما أطول هذه الليلة وما أشد عناءها! لكنها بحمد الله نجتني من دار الكفر.
فأسلم وشهد أن لا إله إلا الله وآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ورأى هذا الوحي والنور يخرج من ثنايا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ طمع أن يحفظ شيئاً من هذا الوحي العظيم، وأخذه الحرص الشديد على أن يتلقن من فم الطاهر المطهر شيئاً من هذه التركة والميراث.
قال: {قلت: يا رسول الله! إني أسمع منك حديثاً كثيراً فلا أعيه.
قال: يا أبا هريرة! ابسط رداءك.
قال: فخلعت ردائي وبسطته، فحثا لي عليه الصلاة والسلام حثوات بيده هكذا ودعا لي وقال: ضم رداءك عليك فضممته، فوالله ما نسيت بعد هذا حرفاً واحداً} فهو يحفظ خمسة آلاف وسبعمائة وستة وعشرين حديثاً، ما بين طوال وقصار لا يفلت منها حرفاًُ واحداً كالفاتحة، ولذلك كان ليله ثلاثة أجزاء: الجزء الأول يتهجد، والجزء الثاني يدارس الحديث، والجزء الثالث ينام.
ولما وصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أتت أمه ولحقته من أرض دوس، فدخلت فسلم عليها وحاول أن يدعوها إلى الإسلام فأسمعته كلاماً غليظاً فيه وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يبكي ويقول: {يا رسول الله! ادع الله لأمي فإنها أسمعتني فيك وفيَّ كلاماً غليظاً.
فرفع عليه الصلاة والسلام يديه ودعا لأمه بالهداية، قال: فعدت إليها في البيت وإذا هي قد أغلقت بابها عليها، وسمعت خشخشة الماء، فقلت: يا أماه مالك؟ قالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وهو لم يأتها ولم تر الرسول صلى الله عليه وسلم فعاد يبكي من الفرح.
طفح السرور علي حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
فقلت: يا رسول الله! والله لقد أسلمت، فادع الله لي ولأمي، قال: اللهم حبب أبا هريرة وأمه إلى صالح عبادك وحبب صالح عبادك إلى أبي هريرة وأمه، قال أبو هريرة: فوالله ما رآني أحد أو رأى أمي إلا أحبنا في الله ونحن نحب كل صالح في الله}.(78/5)
حال أبي هريرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم
واستمر أبو هريرة على هذا الحال، وبقي ثابتاً على العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحفظ ويتلقن ويبلغ وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم، ويخرج الأجيال تلو الأجيال من المسجد العامر، مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أسس على التقوى.
قال شفي الأصبحي: دخلت المدينة المنورة فسمعت لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم دوياً في الحديث، فلما دخلت وجدت أبا هريرة وسط الحلقات يحدث، فشققت الحلقات حتى بلغته فجلست عنده، فقلت: يا أبا هريرة! أسألك بالله أن تحدثني بحديث سمعته أنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بينك وبينه واسطة.
قال: فبكى حتى نشغ -أي: حتى غشي عليه- ثم رفع رأسه وقال: والله لأحدثنك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه واسطة، ثم نشغ من البكاء ثم رفع رأسه وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة -نعوذ بالله أن نكون منهم- أولهم: عالم علمه الله العلم وأقرأه كتابه، يستحضره الله يوم القيامة ويقول: أما علمتك العلم؟ أما فهمتك؟ فيقول: بلى يا ربي، فيقول: ماذا عملت؟ -والله أعلم وأدرى- قال: علمت الجاهل وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر.
فيقول الله: كذبت، إنما تعلمت ليقال: عالم.
خذوه إلى النار.
فيسحبونه على وجهه حتى يلقى في النار، ويؤتى بالجواد فيفعل به هكذا، ويؤتى بالشجاع المجاهد في سبيل الله في الظاهر فيفعل به هكذا} فذهب هذا الرجل فدخل على معاوية وهو خليفة في دمشق، وحوله الوزراء والأمراء، وعلى رأسه الجنود بالسيوف، فقال: يا معاوية! قال: نعم.
قال: أحدثك بحديث.
فحدثه بالحديث، فبكى معاوية حتى سقط من على كرسيه، ثم رفع الفراش ومرغ وجهه في التراب وقال: صدق الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].(78/6)
قصة لأبي هريرة
ومجمل القصة -كما مر معنا- أنه مر به الجوع حتى كان يعتمد على الأرض من شدة حرارة الجوع، وربما ربط على بطنه الحجر، وفي السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حفر الخندق ربط على بطنه قطعة حجر، ولكن في هذه الرواية ضعف.
قال الخطابي: إنما ربط أبو هريرة الحجر على بطنه لئلا يجد حرارة الجوع.
وقيل: ليلتصق ظهره ببطنه فيستطيع أن يقوم ويتحامل على أرجله.
والجوع تعوذ منه صلى الله عليه وسلم حيث يقول: {اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة} والجوع يصيب الإنسان بدهش، وتتساقط أقدامه وعظامه فلا تستطيع أن تحمله، فيقول أبو هريرة: كنت أربط على بطني من شدة الجوع فأقوم.
هذا وهم خيرة الله، ولكن لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، كسرى وقيصر يتمتعون في الديباج ويلعبون بالذهب والفضة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين فتحوا الدنيا وعلموا الإنسانية ورفعوا منائر الإسلام ما يجدون كسرة خبز من شعير.
ولذلك يقول عمر كما في صحيح البخاري في الفضائل وفي غيرها، وأورده في الإيلاء وفي أزواجه صلى الله عليه وسلم قال: {دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة، فسلمت عليه فرد علي السلام وهو مغضب حزين، فقلت: يا رسول الله! أما تسمع من عاتكة بنت زيد -يعني امرأته- قال: ماذا فعلت؟ قال: تسألني النفقة.
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أضحك الله سنك -فـ عمر يريد أن يضحك الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه وجده مغضباً وحزيناً، يقول: انظر إلى امرأتي، ما نجد كسرة خبز الشعير وتسألني أن أحليها بالذهب والفضة، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: فلما استأنس جلست عنده عليه الصلاة والسلام، فحولت نظري} لأن للرسول صلى الله عليه وسلم هيبة، نعم.
هو من أسهل الناس وأرق الناس، وأيسر الناس، ومن أشد الناس تبسماً، لكنه مع ذلك من أشدهم هيبةً وحشمةً، فكان الصحابة من أشد الناس له توقيراً، ولذلك يقول شوقي:
وإذا سعيت إلى العدا فغضنفرٌ وإذا جريت فإنك النكباء
قال: {فحولت نظري في غرفته صلى الله عليه وسلم فرأيت شيئاً من شعير معلق، ثم تربع عليه الصلاة والسلام وجلس فنظرت فإذا حصير قد أثر في جنبيه} والرسول صلى الله عليه وسلم كان رقيق البشرة، يقول أنس: {مسست كفه صلى الله عليه وسلم -وهذا في الصحيح- فوالله ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كفه صلى الله عليه وسلم حتى إذا صافحه الرجل تبقى أصابع الرجل مؤثرة في يده، وكان وجهه كالبدر ليلة أربعة عشر، قال: فلما جلس رأيت الحصير أثر في جنبه فدمعت عيناي فانتبه لي} وقد كان عمر رقيقاً رغم قوة قلبه وشجاعته في الإسلام كان رقيق الدمعة حتى أثر البكاء في خديه، قال: {فلما رأى الدموع في عيني تهمل على خدي قال: مالك يا عمر؟ قلت: يا رسول الله! كسرى وقيصر في النعيم الذي تعلم وأنت في هذا الحال.
فالتفت إلي صلى الله عليه وسلم وقال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ قال: بلى يا رسول الله} فكان عمر دائماً يتذكر هذه الكلمة قبل خلافته وفي خلافته حتى لقي الله عز وجل.
فيقول أبو هريرة: فلما أصابني ما أصابني.
وعند أحمد قال: {فوالله لقد كنت أسقط بين المنبر وبين بيت النبي صلى الله عليه وسلم من الجوع، فيأتي الناس فيقولون: جُن أبو هريرة وصرع، قال: فيأتي الرجل منهم فيبرك على صدري فيقرأ علي شيئاً من القرآن، والله ما بي شيء من المس وما أصابني إلا الجوع}.
فلما أصابه ما أصابه ليلة من الليالي صلى المغرب، وخرج قبل الناس يتصدى لهم، لعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يفتح على رجل منهم فيدعوه إلى بيته، وفتح الله عليهم جميعاً، فخرج أبو بكر رضي الله عنه وهو لا يدري بالسر، وإلا فهو من أكرم الناس، ولن تجد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم من أبي بكر، فإنه كالريح المرسلة، جعل أمواله كلها للإسلام، فلما خرج أبو بكر لقيه أبو هريرة وقال: يا أبا بكر! ما معنى قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وما هي تكملة هذه الآية؟ فكملها أبو بكر وذهب إلى بيته، وأبو هريرة يحفظ الآية، فذهب والتفت إليه حتى دخل بيته، ثم أتى عمر فسأله عن الآية فأخبره بالآية ثم ذهب ودخل، فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يتكلم أبو هريرة لمح صلى الله عليه وسلم في وجهه، فضحك عليه الصلاة والسلام وأخذه بيده، وعلم أنه ليس السؤال مفاده على ظاهره، وإنما هناك حاجة في نفس يعقوب قضاها، فدخل معه، فلما دخل عُرض عليه شيء من لبن، فيقول أبو هريرة: ففرحت علني أصيب من هذا اللبن.
قال: اذهب إلى أولئك النفر فتعال بهم إلخ القصة، فلما أتى بهم شربوا فشرب رضي الله عنه بعدهم، ثم شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأخير.(78/7)
فوائد الحديث
وفي هذا الحديث مسائل:(78/8)
جواز الحلف بدون استحلاف
أولها: جواز الحلف بدون استحلاف، فلك أن تحلف إذا تكلمت في قصة أو حديث ولو لم يستحلفك أحد، قال جل ذكره: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] مع أنهم لم يستحلفوه هنا، ويقول جل ذكره: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي} [يونس:53] وهم أيضاً لم يستحلفوه، ولكن الله أمره أن يحلف في ثلاثة مواطن، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: لا ومقلب القلوب.
وهو لم يستحلف، فلك أن تحلف للحاجة ليتأكد حالك، ولتقوم حجتك ودليلك، ولو لم يطلب منك أحد أن تحلف.(78/9)
الإخبار عن حال الضر ليس لأجل التشكي
المسألة الثانية: الإخبار عن حال الضر لا على وجه التشكي، فلك أن تخبر عن أيامك السالفة في الجوع والمشقة، ولك أن تخبر عما أصابك من أمراض، لا على أن تشكو الرحمن الرحيم إلى الناس، فإنك إذا شكوت الرحمن الرحيم كأنك تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم.
ولا تشيم إلى شخص لتشمته شكوى الجريح إلى الغربان والرخمِ
فالذي يشكو إلى العباد كالجريح الذي يشكو إلى الغربان والرخمِ، يقول: أنا جريح فانظروا إلى جرحي.
فهذا الأمر جائز إذا لم يكن على وجه التشكي، وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم، {أن الرسول صلى الله عليه وسلم زار بقيع الغرقد، ثم عصب رأسه عليه الصلاة والسلام، فقالت عائشة رضي الله عنها: وارأساه -كان بها صداع ذلك اليوم- قال: بل أنا وارأساه، والله لقد هممت أن أدعو أباك وأخاك فأكتب لهم كتاباً} لأنه مرض الموت، فشكا عليها لا لأنها شكوى، ولكن أخبرها إخباراً عليه الصلاة والسلام، لا على وجه التسخط والتذمر لكن على وجه الإباحة.
ولا بد من شكوى على ذي قرابة يواسيك أو يسليك أو يتوجع
فهذا جائز، ولذلك أخبر الصالحون عن أحوالهم، وللعبد أن يخبر بما مر به من نكد عيش وفقر؛ ليقمعه هذا وليرده عن الكبر والعجب، ولأن بعض الناس إذا ترأس أو اغتنى أو كان له أولاد أو أملاك نسي ما قدم في الأيام؛ فأخذه الجموح والغلو ونسي ما عند الله وما أعد وما كان فيه، ولذلك يقول ابن عمر رضي الله عنه: [[جمع أبي الناس -يعني عمر - فنصبنا له منبراً فجلس عليه، فقال: أيها الناس! من أنا؟ قالوا: أنت أمير المؤمنين.
قال: أنا عمر بن الخطاب، كنت أدعى في الجاهلية عمير، كنت أرعى الغنم لـ ابن أبي معيط على حفنة من تمر.
قال: فلما انتهى المجلس قلت: يا أبتاه! ما حملك على ما صنعت؟ قال: زهتني نفسي وأعجبتني فأردت أن أكسرها أمام الناس]] فهذا هو الأدب، وهذه هي التربية، وهذا هو الوصول والاتصال بالحي القيوم.
وسعد رضي الله عنه سوف يتحدث وسوف نسمع كلامه بعد قليل عن نفسه وعن حاله، وعلي كذلك وغيرهم من الصحابة الأخيار، لكن هناك مسألة استثناها أهل العلم وهي: من كان في معاصي وفي سيئات فتاب الله عليه، فليس له أن يتحدث للناس بمعاصيه ولا بماضيه الغابر، بل عليه أن يتوب إلى الله ويستغفر، وأن يستر ما بينه وبين الله عز وجل، فإن الله يستر على العبد في الدنيا إذا ستر على نفسه، ويغفر له في الآخرة، وفي الحديث الصحيح عن ابن عمر قال: {حدثنا صلى الله عليه وسلم عن النجوى.
قيل له: كيف حدثكم عن النجوى؟ قال: يدني الله عز وجل عبده يوم القيامة حتى يضع كنفه على كنفه، ثم يقول: يا عبدي! أما فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ قال: بلى يا رب.
قال: أما فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ قال: بلى يا رب، قال: فإني سترتها عليك في الدنيا وغفرتها لك اليوم} فليس للعبد أن يقوم أمام الناس أو في المجالس ويقول: فعلت كذا وكذا في الجاهلية، وفعلت كذا وكذا في وقت الجهل، وفعلت كذا وكذا في شبابي.
بل عليه أن يستتر بستر الله، وإذا ابتلي العبد بشيء من الفضائح فليستتر، فإن الله يغفر الذنب ويتجاوز عن السيئات ويعلم ما تفعلون، والله ستير حيي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال عليه الصلاة والسلام لما سئل عن الغسل والإنسان متكشف قال: {إن الله حيي يحب من عبده أن يتستر} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وفي حديث سلمان عند الترمذي: {إن الله عز وجل حيي يستحيي من أحدكم إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً}.
إذا علم هذا فليس للإنسان أن يتحدث بالأخطاء ولا بالمعاصي ولا بالذنوب، لكن يأتي بوابل من الاستغفار، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: في الدنيا ثلاثة أنهار، فمن لم تطهره ثلاثة أنهار أو واحد منها فسوف يدخل يتطهر في كير جهنم ثم يخرج إلى الجنة.
ثلاثة أنهار في الدنيا لابد للعبد أن يحرص أن يتطهر فيها، لأننا كلنا أهل سيئات وخطايا، فمن لم يتطهر بنهر من الأنهار الثلاثة فلا بد له من كير جهنم يتطهر فيها ثم يخرج ويدخل الجنة، النهر الأول: نهر التوبة، وهو أعظم الأنهار، والله عز وجل ما أغلق باب التوبة ولن يغلقه حتى تطلع الشمس من مغربها، ولا يزال الله يتوب على العبد مهما اقترف من السيئات والخطايا إذا تاب وأناب وصحت التوبة.
النهر الثاني: الحسنات الماحية، فإن بعض الناس كثير الإساءة، ثم يأتي بأعمالٍ صالحةٍ من قراءة وذكر وصيام ونوافل ودعوة إلى الله وعمل صالح، فتغمر هذه الأنهار جبال السيئات وتمحوها فلا تبقي لها أثراً ولا عيناً.
والنهر الثالث: المصائب المكفرة، فإن بعض الناس يبتلى بالسيئات والخطايا فيسلط الله عليه المصائب والمحق، ويسلط عليه الفتن والمحن والهموم والغموم، حتى يلقى الله وهو طيب مطيَّب، طاهر مطهَّر.(78/10)
جواز التعريض بالسؤال
المسألة الثالثة: التعريض بالسؤال دون التصريح.
فقد استحيا أبو هريرة رضي الله عنه أن يقول لـ أبي بكر: أطعمني هذه الليلة إني جائع، ولم يقل لـ عمر، ولكنه عرض ولم يصرح، ولمح ولم يوجه الخطاب، وهذا من عفته وحيائه، ولذلك كان العرب يستحيون من السؤال، ومن مروءة الرجل ألاَّ يسأل إلا في حاجة ملحة؛ لأن الذين يسألون الناس ولهم ما يغنيهم يأتون يوم القيامة ولا لحم على وجوههم بل عظام فقط، {إن الذي يسأل الناس وله غنى يغنيه يأتي يوم القيامة ووجهه خدوش من المسألة} وفي رواية الزبير {يأتي وليس في وجهه مزعة لحم} فاستحيا أن يسأل وأن يعرض بنفسه فعرض بالكلام، وهذا أسلوب وارد عند العرب.
يقول ابن كثير وغيره من أهل العلم والسير: كان قيس بن سعد بن عبادة جالساً في مجلس، وهو من سادات العرب ومن أغنى الأغنياء ومن أجواد الإسلام، فدخلت عليه عجوز فقالت: يا قيس! قال: نعم.
قالت: أشكو إليك قلة الفئران في بيتي.
ليس في بيتي فئران، قال: والله لأملأن بيتك فئراناً، ثم دخل بيته وأرسل جمالاً محملة من تمر وحبوب وزبيب.
ثم عادت بعد وقت فسلمت عليه ودعت له وقالت: لقد امتلأ بيتي فئراناً.
فقال الناس لـ قيس بن سعد: ما هذا الخطاب؟ قال: إنها شكت من قلة الفئران والفئران لا تأتي إلا مع الطعام ومع الغنى، ومعناه الفقر، قال: فأعطيناها ما فتح الله علينا، فأتت تخبرنا أن في بيتها فئراناً.
وهذا من التعريض.
وذكر صاحب العقد وصاحب عيون الأخبار أن علياً رضي الله عنه دخل عليه رجل فاحمر وجه الرجل، فقال علي: مالك أخجلت؟ قال: في نفسي مسألة وأستحي أن أسألك عنها.
قال علي: اكتبها على الأرض، فكتبها بأصبعه، فقضاها علي رضي الله عنه، فقال الرجل:
كسوتني حلة تبلى محاسنها لأكسونك من حسن الثنا حللاً
يقول: أنت كسوتني حلة ولكنها سوف تبلى في الدنيا، لكن والله لألبسنك من الثناء العاطر والدعاء المسموع ما لا يبلو أبداً.
ولذلك يقول إبراهيم لما كان كريماً مضيافاً للناس: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84] قالوا: هو الذكر الحسن.
وإنما المرء حديث بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى(78/11)
دقة فهمه صلى الله عليه وسلم
المسألة الرابعة: دقة فهمه صلى الله عليه وسلم.
فإن أبا بكر وعمر لم يفهما مراد أبي هريرة، والرسول صلى الله عليه وسلم علم أن أبا هريرة يريد طعاماً، وإلا فإن الإشارات: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] وسيماء الحديث، ومقارنة القصة تبدي هذه الأمور أنه يريد شيئاً، وإلا فكيف يخرج سريعاً من المسجد ويقف في طريق الناس يسألهم عن الآية؟ هل ضاقت به الدنيا بما رحبت وضاقت به الأوقات إلا بعد صلاة المغرب يسأل عن هذه الآية؟ ثم هو رجل فقيه وعالم بإمكانه أن يسأل في أحد الأوقات، فعرف صلى الله عليه وسلم وأدخله بيته.(78/12)
الاستدلال بالعلامات
المسألة الخامسة: الاستدلال بالعلامات.
فإن بعض الناس لما رزقهم الله من الفطنة والفهم يعرفون بالعلامات والإشارات، فإن إبراهيم عليه السلام قرب الأكل للملائكة فما اقتربوا للأكل {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود:70] يقول: لماذا لا يأكلون طعامي؟ لابد أن فيهم شيئاً، ثم خاف منهم؛ لأنهم إما أعداء فالعدو لا يأكل طعامك، وإما أنهم ملأ آخر خلقهم الله عز وجل ليس من حقهم الطعام.
فعلم أنهم ملائكة، فأخبروه في الأخير أنا لا نأكل الطعام؛ لأنهم جسم نوراني، لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب.
وهكذا خلق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى خلقه وتصرف فيهم، فنحن خلقنا من الطين، نمشي على الطين، ثم ندس في الطين، وقوم خلقهم من النار، فهم دائماً في نار أحرقوا العالم ودمروا المعمورة وهم الشياطين، وقوم خلقهم من نور، فكلامهم نور، ويأتون بالنور، ويذهبون بالنور، ويسجلون النور، ويشهدون على أهل النور، وهم الملائكة، فلله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في خلقه شئون.(78/13)
استحباب الشرب جالساً
المسألة السادسة: استحباب الشرب جالساً، قاله ابن حجر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أتى أبو هريرة بالإناء وانتهى وفرغ من سقي الناس؛ أخذ الإناء وقال: اقعد، فقعد فقال: اشرب، فشرب، ومن أدب أبي هريرة أنه ما قال للرسول صلى الله عليه وسلم: اشرب أنت يا رسول الله! لأن أمامه رسول البشرية صلى الله عليه وسلم، ولأن أمره واجب أن ينفذ فالسنة الشرب من قعود إلا لحاجة ملحة، كأن تكون في زحام ما تستطيع أن تجلس فلك ذلك، كما فعل صلى الله عليه وسلم يوم شرب من زمزم وهو واقف، أو تكون على عجلة ما يتسنى لك أن تشرب جالساً، أو يكون المكان مرتفعاً وليس عندك إناء فلك أن تشرب قائماً، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.(78/14)
خادم القوم يتولى المناولة
المسألة السابعة: خادم القوم يتولى المناولة.
فمن كرم ضيافته صلى الله عليه وسلم أن جعل أبا هريرة يدور بالإناء، ما قال للضيوف من أهل الصفة: قوموا أنتم وخذوا اللبن، بل جعله هو يدور عليهم، ويأخذ الإناء ويسلمه للآخر تلو الآخر، وإلا كان بإمكانه أن يسلم الإناء ثم يقول: أنت سلم للذي بجانبك، لكن من كرمه أن يأخذ لئلا يمتهن الضيف كما قال ابن حجر، قالوا: ومن لؤم الرجل أن يستخدم ضيفه، أن يدخل عليك ضيفك في المنزل فتقول: بارك الله فيك ناولني هذا الصحن، قرب لي هذا الإدام.
فقد أصبح طباخاً ولم يصبح ضيفاً، وهذه الضيافة ليست في الكتاب ولا في السنة ولا في أخلاق العرب، أما الضيف فلابد أن يحترم، وبعض الناس إذا دخل عليه الضيف جلس في صدر المجلس واتكأ وجعل الضيف في آخر المنزل، فكلما أتوا بالفنجان بدأ ويبدأ بكل شيء، ويجعل الضيف في خبر كان وربما ينساه، فهذا ليس من الضيافة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قدم أهل الصفة، وهم تلاميذ له وأعراب، وجلس عند الباب وأخذ يقول لـ أبي هريرة: ناول الناس، فأخذ يناولهم حتى انتهى إليه صلى الله عليه وسلم.(78/15)
معجزة النبي صلى الله عليه وسلم
المسألة الثامنة: معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم في بركة اللبن.
لبن قليل يسير في إناء يكفي أكثر من مائة رجل كلهم بحاجة إلى هذا اللبن، وفضل منه فضلة وبقي لأهله صلى الله عليه وسلم، وما ذلك إلا من بركته صلى الله عليه وسلم، فإنه مبارك أين ما كان، فكلامه وفعله ولحظاته كلها مباركة، وكلما جلس في مكان أثر فيه البركة عليه الصلاة والسلام.(78/16)
جواز الشبع في الأكل
المسألة التاسعة: جواز الشبع ولو بلغ أقصى غاية.
قاله ابن حجر وأيده ابن القيم على هذا؛ لأن بعض الناس من المغالين في التصوف يقول: إنه لا يجوز الشبع، وإن الإنسان حرام أن يشبع، ويلقون محاضرات في الشبع، هذا غير صحيح فـ أبو هريرة شبع حتى حلف بالله العظيم أنه لا يجد له مسلكاً.
دخل أبو دلامة على هارون الرشيد الخليفة العباسي، فقال هارون الرشيد: يا أبا دلامة! سمعت أنك تطلب الحديث في هذه الأيام -وأبو دلامة رجل مزاح فكاهي، يرافق الخلفاء في الجهاد والغزو والسمر- قال هارون الرشيد: سمعت أنك تطلب الحديث في هذه الأيام.
قال: نعم.
تعلمت الأحاديث فنسيتها كلها إلا ثلاثة أحاديث.
قال: وما هي؟ قال: قوله صلى الله عليه وسلم: {إذا حضر العِشاء والعَشاء فابدءوا بالعَشاء قبل العِشاء} وقوله عليه الصلاة والسلام: {اشرب يا أبا هريرة! قال: والله لا أجد له مسلكاً} وقول الصحابي: {كان صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل} فضحك هارون الرشيد حتى ترح برجله.
فهذه الأحاديث تحفظ والحمد لله، ولذلك سوف ننسى كل هذه القصة ونحفظ قوله: فشبعت حتى ما وجدت له مسلكاً.
قال ابن القيم: شبع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم مرة من المرات.
لماذا؟ لأنهم ما يجدون الطعام دائماً كما نجده نحن، وإلا فنحن والحمد لله الوجبات تلو الوجبات بالساعة والدقيقة ما تختلف، والصحابة قد تمر بهم وجبة اللحم في الشهر أو الشهرين أو الثلاثة، وبعضهم أكثر من ذلك، فإذا حصلت هذه المكرمة أكثر منها؛ لأنه لا يدري ماذا سيحدث له فيما بعد، فهذا وارد.
لكن يقول ابن حجر: ورد عند الترمذي بسند حسن: {إن أكثر الناس في الدنيا شبعاً أكثرهم جوعاً يوم القيامة} وهذا يقصد به أهل الشهوات الذين لا يستخدمونها في طاعة الله عز وجل، ولا يستعينون بها على مرضاته تبارك وتعالى، وإلا فالله يقول: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون:51] وأمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين، فلو أن الإنسان إذا أكل طيباً وعمل صالحاً؛ لكان صالحاً عند الله، كلامه وأكله طيبٌ وفعله، لكن أن يأكل طيباً ويفعل القبيح، يأكل نعم الله ثم يعصيه ويتمرد عليه، هذا ليس بلائق.
وهل من المروءة أن يضيفك رجل في بيته فكلما أكلت طعامه قمت تضاربه في البيت؟ ولله المثل الأعلى.
فمن يأكل طيباً ويعمل صالحاً فهو مأجور ومشكور، ولو احتسب أكله عند الله لآجره الله في الدنيا والآخرة.(78/17)
كتمان الحاجة أولى من إظهارها
المسألة العاشرة: أن كتمان الحاجة أولى من إظهارها، يقول تعالى: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة:273] فتكتم حاجتك بينك وبين الله، تفتقر فلا يشعر الناس أنك افتقرت، وتمرض فلا يشعر الناس أنك مرضت.
ذكر أهل القصص أن أبا بكر رضي الله عنه أصابه وجع في ضرسه حتى اسود جانبه، ما كان هناك مستشفيات ولا أطباء ولاخدمات، وإنما عاشوا في تلك الفترة يوجهون البشرية حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأراد الله من حكمته أن يعيشوا في تلك الفترة، لئلا يشتغلوا بهذه المشغلات والملهيات، والأمور التي جدت؛ ليتفرغوا لإبلاغ الوحي إلى الناس، فلما مرض زاره الصحابة وقد أسند ظهره على الفراش، فقالوا: يا خليفة رسول الله! نراك وجع.
قال: الحمد لله.
قالوا: ألا ندعوا لك طبيباً؟ قال: الطبيب قد رآني.
قالوا: ماذا قال لك؟ قال: إني فعال لما أريد.
كيف أشكو إلى طبيبي ما بيا والذي قد أصابني من طبيبيا
قال أحد الصالحين -لما حضرته الوفاة- لابنه: يا بني! لا تشكو على أحد مصابك إلا على الله، فوالله لقد فقدت عيني هذه منذ أربعين سنة ما أبصر بها وما أخبرت بها أحداً إلا الآن.
ذكر صاحب طبقات الحنابلة وغيره من أهل العلم عن الوزير ابن هبيرة الحنبلي الكبير، صاحب كتاب الإفصاح، وهو قد تولى الوزارة في عهد الخلافة العباسية وكان من الصلحاء الأخيار عند الله عز وجل، وعظ وهو جالس على منبره فسقط على وجهه من كثرة البكاء وحج بالناس هو وجعل نفقات الحجاج من بغداد على حسابه وتركته، فلما وصل إلى منى عطش الحجيج وأصابهم من الظمأ ما لا يعلمه إلا الله، فتوضأ وصلى ركعتين وقال: اللهم ارحمنا، اللهم اسقنا.
قالوا: فوالله ما نزع من مكانه حتى تساقط الثلج والماء على الناس، فبكى، فقالوا: مالك؟ قال: يا ليتني دعوت الله بالمغفرة.
قال أحد أهل العلم: كنت جالساً مع ابن هبيرة في ديوانه، وبينما أنا جالس إذا برجل فقير دخل عليه، فقام ابن هبيرة فاستقبل الفقير هذا، وهو وزير، دولة الإسلام كلها في وزارته، بل هو من أعظم الناس، كان يملي الحديث وهو وزير، يملي صحيح البخاري وصحيح مسلم.
قال: فلما دخل هذا الفقير عليه قام له وحياه وأجلسه ثم أعطاه حلةً، وأعطاه شيئاً من المال وقام ومسح على رأسه، ثم خرج الفقير، فقال له الناس وهم في ديوانه جالسين: مالك -أطال الله بقاءك- مسحت على رأسه؟ قال: أتدرون ما قصتي وهذا الرجل؟ لقد عرفته وما عرفني.
قالوا: كيف؟ قال: كنت أنا وإياه شباب فضربني على رأسي فأبطل عيني هذه، فما أرى بها منذ ثلاثين سنة، فلما دخل عليَّ الآن تذكرته وعرفته فمسحت على رأسه وعفوت عنه؛ ليعفي الله عني يوم يجمع الله الأولين والآخرين، فتباكى الناس، وهذا من كتمان المصائب والبلايا.
كيف أشكو إلى طبيبي ما بيا والذي قد أصابني من طبيبيا
ودخلوا على شيخ الإسلام وهو مريض فقالوا: ماذا أصابك؟ قال:
تموت النفوس بأوصابها ولم يدر عوادها مابها
وما أنصفت مهجة تشتكي أذاها إلى غير أحبابها
فالشكوى إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولذلك كان الأنبياء والرسل إذا بلغ الحزام الضبيين، والسيل منتهاه، وانتهى الأمر إليه، فوضوا الأمر إلى الله، قال إبراهيم: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في حالة -يوم أحد - لا يعلمها إلا الله، وقد قتل سبعون من أقاربه وأعمامه وأصحابه، وبعدها يأتي يهودي استؤجر بشعير فيقول: إن الناس قد جمعوا لكم، فرد الرسول صلى الله عليه وسلم رشده ودعواه والتجاءه إلى الله وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
فكان ماذا؟ {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران:174].
وقال يعقوب وقد بكى حتى -كما في بعض التفاسير- كان يوصيه جبريل بالصبر على يوسف فما يستطيع أن يصبر، فيجعل كفه على فمه ويقول: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86] ولذلك قالوا في ترجمة أبي بكر رضي الله عنه أنه كان إذا وصل إلى هذا المقطع في صلاة الفجر خار من البكاء: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] ويقول قبلها: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] فمن أصابه شيء أو ضر فليلتجئ إلى الحي القيوم، فإنه هو الرزاق، والنافع والضار، وإن مقاليد الأمور بيده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لا يتصرف في ذرة متصرف إلا بأمره وقدرته تبارك وتعالى.(78/18)
كرم النبي صلى الله عليه وسلم
المسألة الحادية عشرة: وفيها كرم النبي صلى الله عليه وسلم، وإيثاره على نفسه وأهله وخادمه.
فلن تجد في الأمة أكرم من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في مسند أحمد عن جابر بسند جيد قال: {ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إلا مرة، سأله أعرابي شيئاً فقال: لا.
وأستغفر الله} أي: أستغفر الله من كلمة (لا) فالمؤمن إذا كان في موجوده شيء فلا يقل: لا؛ لأن الله ذم الذين يمنعون الماعون، وهم الذين يمنعون القدْر عاريةً، أو الإبرة أو الخيل أو الخيط أو الخدمة، حتى ذكر أهل العلم أن من يمنع البسمة عن الناس فهو من أبخل الناس.
والناس عيال لله عز وجل أحبهم إلى الله عز وجل أنفعهم لعياله، والله عز وجل جعل أسباب بعض الناس ببعض، فإنه هو الغني، والله قادر أن يغني كل أحد عن أحد، لكنه جعل هذا ليبتلي به هذا {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان:20] قيل: (جعلنا بعضهم لبعض فتنة) ابتلى الغني بالفقير، وابتلى الصحيح بالسقيم، وابتلى هذا بهذا؛ ليرى الله من الذي يؤدي حقوقه تعالى.
وفي حديث ابن عباس الصحيح: {يقول الله يوم القيامة للعبد: يابن آدم! مرضت فلم تعدني.
قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته وجدت ذلك عندي.
يابن آدم! جعت فلم تطعمني.
قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته وجدت ذلك عندي} الحديث.
فالرسول عليه الصلاة والسلام كان من أكرم الناس، يجود بكل ما ملك، ولو استغنى عن قميصه لجاد به، بل حدث -كما في صحيح البخاري - أنه جاد بقميصه الذي عليه، يقول سهل بن سعد في الصحيح: {أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! خذ هذا الكساء، فقد نسجته لك بيدي بأبي أنت وأمي، فأخذه عليه الصلاة والسلام ولبسه محتاجاً إليه، فلما لبسه تعرض له رجل من الناس، فقال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي أعطني هذا الكساء.
قال: انتظر قليلاً، فدخل بيته عليه الصلاة والسلام وتأزر بأزرة وخلع له الكساء وأعطاه إياه.
فقال الصحابة: بئس ما صنعت، لبسه صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليه ثم سألته وتعلم أنه لا يرد أحداً.
قال: والله! ما أخذته إلا ليكون كفناً لي بعد أن لامس جسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال سهل بن سعد: فوالذي نفسي بيده لقد كان كفنه ودفن فيه}.
ولذلك قال ابن المبارك: أرى أن يكفن المسلم في ثيابه التي كان يكثر فيها الصلاة وقيام الليل؛ لأن الله يقول: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] أي: الآثار التي كانت عليهم، وممشاهم وقعودهم، والله يقول في محكم كتابه: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29] قالوا لـ ابن عباس: [[أتبكي السماء على الصالح؟ قال: نعم.
والذي نفسي بيده إنه ليبكي ما يماثله من السماء، ويبكي عليه مصلاه ويبكي ممشاه إلى المسجد]] والله أعلم كيف الحالة، فهو الذي خلق وتصرف، فنحيلها على علمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فالرسول صلى الله عليه وسلم من أجود الناس.
وفي صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم كان أجود بالخير من الريح المرسلة، ما يمسك شيئاً، فإذا دخل رمضان دارسه جبريل القرآن فيكون صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، ولذلك ذكر أبو نعيم وابن كثير والذهبي في ترجمة زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عموداً
قال تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:34] علي بن الحسين سمي زين العابدين؛ لأنه كان يصلي حتى أخذ السجودُ في أنفه وجبهته وسمة، فإذا خرج إلى الناس ورأوا وجهه تذكروا الله عز وجل، فقالوا: لا إله إلا الله.
ولما حضرته الوفاة أتوا يغسلونه -كما يقول أبو نعيم الأصفهاني والذهبي وابن كثير -فوجدوا في كتفه أثر الحبل، كأنه حبل أثر في كتفه، فسألوا أهله فقالوا: والله إن هذا وسم ما كان يحمل للفقراء، كان يصلي فإذا أظلم الليل قام فأخذ حمول التمر والزبيب والحب وحمله إلى فقراء المدينة حتى يأتي الفجر.
فهذا هو علي بن الحسين الذي يقول فيه الفرزدق:
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعمُ
لما رآه داخلاً الحرم وقد ازدحم الناس، وما استطاع هشام بن عبد الملك أن يطوف، فتأخر إلى زمزم وجلس على كرسي وهو خليفة، فلما رأوا علي بن الحسين وأقبل بوجهه كأنه فلقة قمر وبيده خيزران وعليه ثيابه، فلما رأوه انقشعوا عن وجهه وأخذوا يفسحون له الطريق ويدعون له ويسلمون عليه، فأخذ يطوف فقال أهل الشام لـ هشام بن عبد الملك: من هذا ما عرفناه؟ قال: ما عرفته.
مع أنه يعرفه، لكنه حدسه وغمط حقه، فقام الفرزدق، فقال:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا
إلى أن قال:
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
يقول: أنه ما يعرف (لا) إلا في لا إله إلا الله، أما في غيرها فلا يعرفها.(78/19)
ضيق الحال عند الصحابة
المسألة الثانية عشرة: ما كان عليه بعض الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من ضيق الحال.
فقد كان الصحابة في أول الإسلام في ضيق حالٍ حتى آخر خلافة عمر رضي الله عنه، فكانوا لا يشبعون في غالب الأوقات من التمر، حتى وقف عمر رضي الله عنه في آخر خلافته فجلس على المنبر وبكى ثم رفع رأسه وقال: أيها الناس! أما يُغدى على أحدكم بجفنة مكللة بالثريد، ويراح بجفنة مكللة بالثريد؟ قالوا: بلى.
قال: والله الذي لا إله إلا هو لقد كنا نتلوى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجد أحدنا ما يملأ بطنه من رديء التمر.
وكان يمتنع عن الملاذ رضي الله عنه؛ لأنه عاش في شظف عيش.
فلما أطل عصر عثمان أقبلت الدنيا والموائد والمطاعم والمشارب، وتوسع الناس، وبقي أهل العهد على عهدهم، ومنهم من توسع وأراد بتوسعه وجه الله عز وجل، ولذلك ذكروا في سيرة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه: أنه ذهب يعتمر، فلما أصبح في عسفان قدم له إفطاره، وكان إفطاره طير مشوي وشيء من اللحم، فلما قدموه قال: يا سبحان الله! يقتل حمزة ولا يلقى ما يكفن به، ويقتل مصعب ولا يلقى ما يكفن به، وأفطر على هذا! ثم بكى حتى رفع إفطاره ولم يفطر.
ويقول سعد رضي الله عنه وأرضاه، وهذا في صحيح البخاري في كتاب الرقاق، باب (كيف كان عيش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم عن الدنيا) قال سعد: [[والله الذي لا إله إلا هو لقد مر بي زمن يوم أسلمت ما كان لي من طعام إلا ورق الشجر، وإن أحدنا ليأكل ثم يضع كما تضع الشاة ماله خلط، ثم أصبح بنو أسد يعزرونني على الإسلام، خبت إذن وخسرت]].
يقول: أسلمت وأكلت أوراق الشجر، وأنا صابر محتسب على الإسلام، وأدخلت الناس من هذه القبيلة في الإسلام بهذا السيف، ثم يأتي أهل هذه القبيلة الذين أدخلتهم في الإسلام ويقولون: أني لا أحسن أصلي.
والسبب في ذلك: أن أهل الكوفة -بني أسد- ذهبوا إلى عمر فقالوا: نشكو إليك سعداً.
كلما ولى عليهم عمر والياً شكوه، ما يبقى فيهم إلاّ أسبوعاً ويقدمون فيه شكوى.
فقال عمر: ماذا حدث؟ قالوا: ما يحسن يصلي.
قال عمر: سبحان الله! أبو إسحاق ما يحسن يصلي! قالوا: نعم.
لا يحسن يصلي.
فـ عمر رضي الله عنه ما استخدم ظنه، وإنما أراد أن يتبين بالدلائل والحقائق والعلم، فأتى بـ سعد وأجلسهم أمامه وقال: إنهم شكوك في كل شيء حتى في الصلاة، فكيف تصلي؟ قال سعد: يا سبحان الله! والله لقد مر بي زمن ما كان لي من طعام إلا ورق الشجر، والله لقد كنت ربع الإسلام -أي: رابع أربعة في الإسلام- والله لقد أدخلتهم -بني أسد- في الإسلام بسيفي هذا، ثم يعيرونني أني لا أحسن أصلي، أما أنا فأركد في الأوليين -أي: في الركعة الأولى والثانية- وأحذف في الأخريين.
فقال عمر: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق! ثم قام أهل العراق فقالوا: أرسل معنا من تسأله عنا وعن سعد -والقصة لا بأس بإيرادها- فأرسل معهم محمد بن مسلمة، فلما وصل ما ترك مسجداً من مساجدهم إلا ويسألهم عن سعد، فيثنون عليه خيراً ويدعون له، حتى وصل إلى رجل معثر شقي في مسجد من مساجد بني عبس في طرف الكوفة فسألوه، فقال: إن سألتمونا فوالله! إن سعداً لا يمشي مع السرية، ولا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية.
فرفع سعد يديه واستقبل القبلة وقال: اللهم إن كان قام رياءً وسمعةً كاذباً علي فأطل عمره وعرضه للفتن.
وفي روايةٍ عند عبد الملك -أحد الرواة- وأكثر ماله وولده وعرضه للفتن.
فطال عمر هذا الرجل حتى سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وأخذ يتعرض للجواري في سكك الكوفة يغمزهن بيديه، ويقول: شيخ مفتون أصابتني دعوة سعد.
لأن الله علم أن سعداً صادق وأنه يريده، وأن دعوته مستجابة، فكان سعد على هذه الحالة، وغيره من الصحابة كثير يتحدثون عن هذا.
يقول أبو موسى رضي الله عنه: [[والله لقد رافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع فكنت ألف القماش على قدمي حتى تساقطت أظفاري في الأرض]] ثم ترك هذا الحديث في آخر عمره فما أصبح يحدث به، وخاف أن يكشف للناس عملاً يريد أن يكون بينه وبين الله عز وجل.
إذن فالصحابة إلى آخر عهد عمر رضي الله عنه كان غالب وقتهم الشظف في العيش والخشونة والفقر، ولكن يغنيهم الله عز وجل من خزائنه لما أعد لهم من ثواب وأجر عميم عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(78/20)
فضل أبي هريرة
وفي هذا الحديث، فضل أبي هريرة رضي الله عنه وتعففه، فإنه ما أظهر حاجته، ولكنه تعفف وصبر وتحمل، وذلك من حسن أدبه الذي أدبه الله به.(78/21)
فضل أهل الصفة
وفي هذا الحديث: فضل أهل الصفة، وأهل الصفة -كما قلنا- قوم من الصحابة فقراء مساكين، لا أهل لهم ولا مال ولا ولد، جلسوا في المسجد يتعلمون ويتفقهون في الدين، وسوف يأتي معنا مسألة بهذا الخصوص.
والصوفية يقولون: إنهم نسبة إلى الصفة، وهذا خطأ، فإن النسبة إلى الصفة (صفي) لا (صوفي) وقد رد هذه النسبة شيخ الإسلام في المجلد العاشر والحادي عشر من فتاويه، وأهل الصفة وصلوا إلى أربعمائة رجل، ثم نزلوا إلى ثلاث مائة يجتمعون ويفترقون.
ومن أهل الصفة عمرو بن تغلب، وقف عليه الصلاة والسلام والمسجد مكتظ بالناس فقال: {يا أيها الناس! إني أعطي بعض الناس من الدنيا لما جعل الله في قلبه من الجشع والطمع، وأترك أناساً لما جعل الله في قلوبهم من الإيمان والخير، منهم عمرو بن تغلب، قال عمرو بن تغلب: والذي نفسي بيده! ما أحب أن لي الدنيا بما فيها} أي: في هذه الكلمة.
فهو من أهل الصفة، الذين كانوا يحتطبون في النهار ويبيعون ويكتسبون ويقعدون في المسجد يتفقهون، وسوف يأتي حكم هذا الفعل عند المسلمين.(78/22)
ضرورة استئذان المدعو
المسألة الخامسة عشرة: أن المدعو إذا وصل إلى دار الداعي فلا يدخل بغير استئذان، فـ أبو هريرة لما ذهب مع الرسول صلى الله عليه وسلم استأذن ودخل.
وهناك حديث في السنن: {إذا أرسل الرجل رسوله فهو إذنه} والمعنى: أنك إذا أرسلت إلى أحد الناس ابنك أن يأتي، فإنه يدخل مع ابنك ولا يستأذن مرة ثانية، والجمع بينه وبين هذا الكلام أنه يختلف باختلاف الحال، فإذا علمت أن هذا الرجل دعاك وليس قبله أحد يهيئ المكان ولا يصلح الشأن، فلا يحق لك أن تدخل مباشرة، بل تقف بعيداً عن الباب، وهذا من أدب الإسلام، وتدعه يدخل ويأخذ راحته ويهيئ المكان، وينظم المجلس، فربما يكون البيت في حالة لا يحسن أن تدخل عليها، فإذا علمت أنه تهيأ وقال: ادخل، وأذن لك أن تدخل فادخل، أما أن تدخل معه مباشرة فإنه قد يستحي منك ولا يقول لك: انتظر.
فهذا من أدب الإسلام، فـ أبو هريرة انتظر حتى قال له صلى الله عليه وسلم: ادخل، وهذا أمر واجب.
وقد مر معنا باب الاستئذان، ومن فقهه الله في دينه تفقه.(78/23)
جلوس الضيف في مكانه اللائق به
المسألة السادسة عشرة: جلوس كل واحد في المكان اللائق به؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه المضيف جلس في آخر المجلس، وقدم ضيوفه عليه الصلاة والسلام، فلا ينبغي للإنسان أن يدخل ضيوفه، ثم يتربع وسط المجلس ويجلسهم في أطراف المجلس، ويستخدمهم، فليس هذا هو اللائق به، بل يجلس في مكانه.
وكذلك إذا دخل العالم الكبير له أن يجلس وسط المجلس وكذلك السلطان فلا يأتي ويقول: أظهر التواضع وأجلس على الأحذية.
فهذا غير صحيح فإن الله قد جعل لكل شيء قدراً {أنزلوا الناس منازلهم} فإن الذي يجلس في مكان غير لائق به سخيف، والذي يجلس في مكان أكبر من قدره متكبر، فالإنسان يعرف قدره ويعرف أين يجلس.(78/24)
ملازمة أبي بكر وعمر للنبي صلى الله عليه وسلم
المسألة السابعة عشرة: ملازمة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم دائماً يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر، فأكثر القصص يذكر فيها أبا بكر وعمر؛ لأنهما شيخا الإسلام، وفي سنن الترمذي يقول عليه الصلاة والسلام: {اقتدوا بالذَين من بعدي أبي بكر وعمر وتمسكوا بعهد ابن أم عبد} أي: ابن مسعود.
فالشيخان الجليلان عينا الإسلام ويداه، اللذان امتهنهم الرافضة نسأل الله أن يفعل بهم فعائله بالقوم الفجرة، فإنهم أساءوا إلى الشيخين، وقد دافع عنهم ابن تيمية بأكثر من مائتي صفحة في كتاب منهاج السنة، فهم أجلة الإسلام، وهم أهل المواقف المشهودة، وأهل الحالات المعروفة الظاهرة التي لا ينكرها إلا كل كافر زنديق.(78/25)
مناداة الخادم بالكنية
المسألة الثامنة عشرة: دعاء الكبير خادمه بالكنية.
فالرسول صلى الله عليه وسلم تلطف مع صاحبه أبي هريرة وقال: {يا أبا هر!} ومن الأدب عند المسلمين أن يدعى بالكنى ولا يتنابز بالألقاب، فالواجب أن تختار أحسن اسم لأخيك المسلم فتقول: يا فلان! أو يا أبا فلان! والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: يا أبا بكر! يا أبا حفص! يا أبا هريرة! فهذا من الإكرام والتبجيل، وهو يورث لك المحبة في صدر أخيك.
فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا هر! وهذا الأسلوب يسمى (ترخيم) والترخيم هو: حذف آخر المنادى، أن تنادي ثم تحذف آخر الاسم، قال ابن مالك في الألفية:
ترخيماً احذف آخر المنادى كقولهم في يا سعا سعاد
وقد قيل لأحد الصالحين من التابعين: ما معنى قوله تعالى: (وقالوا يا مال ليقض علينا ربك)؟ والقراءة المشهورة (يا مالك) وهو خازن النار، يناديه أهل النار أن يقضي عليهم، يقولون: قل لربك يقضي علينا فقد سئمنا الحياة.
نعوذ بالله من النار ونستجير به منها.
وقد قرأ بعض الناس بقراءة (يا مال) بحذف الكاف للترخيم، فسئل ابن عباس فقال: أهل النار في مشغلة عن الترخيم.
أي: هم في عذاب ونكال، لا يستطيعون أن يرخموا في تلك المنزلة، فهذا هو الترخيم.(78/26)
قبول النبي صلى الله عليه وسلم للهدية ورده الصدقة
المسألة التاسعة عشرة: قبوله صلى الله عليه وسلم الهدية ورده للصدقة.
وهذا من خصائصه؛ فإنه لا يأخذ الصدقة؛ لأنها أوساخ الناس، ولكنه صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، فقد أهدي إليه خميصة أبي جهم فصلى بها فرأى أعلامها -كما في البخاري - فشغلته في الصلاة، فخلعها وقال: {اذهبوا بها إلى أبي جهم وائتوني بإنبجانية أبي جهم} لماذا يقول: ائتوني بها؟ لئلا يجد في نفسه، فالإنسان المسلم لا يرد الهدية؛ لأن المسلم يجد في نفسه، إلا إذا كانت الهدية هذه ثمناً لدينه أو رشوة عمل فإنها لا تقبل، أو غرضاً ليدخل به في حرام فلا تقبل، والمسلم على بصيرة.
والرسول صلى الله عليه وسلم قبل جبةً من ديباج أهداها له وفد بني تميم، فلما صلَّى بها صلى الله عليه وسلم أخذ الصحابة يتعجبون منها ويمسكونها ويتمسحون بها، قال: {أتعجبون منها؟ والله لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها} وقد قرئ هذا الحديث على محمود بن سبكتكين فبكى حتى أغمي عليه، وهو سلطان المشرق الذي هدم ألف صنم في أرض داهر والهند والسند، وهذا السلطان العظيم ترحم عليه علماء الإسلام لما توفي، وقد وقف أملاكه كلها في خدمة الإسلام والمسلمين، وأتى إلى صنم فإذا هو من أوله إلى آخره من ذهب وياقوت وزبرجد، فقال له الملك داهر: خذ هذا الصنم واشتره مني واترك لي هذه الرعية.
فقال: والله لا أفعل، أتريد مني أن أدعى على رءوس الأشهاد يوم القيامة يا بائع الأصنام؟ بل أريد أن أدعى يوم القيامة يا مكسر الأصنام.
فقال محمد إقبال:
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا
يقول: نحن نكسر الأصنام ونهدم فوقها الكفار، أما غيرنا فيبيع ويشتري الأصنام.(78/27)
جواز السكنى في المسجد للحاجة
المسألة العشرون: جواز السكنى في المسجد للحاجة، فلك أن تسكن في المسجد لحاجة، إما لطلب علم، أو تفقه في الدين، أو لأن الله ما فتح عليك فلم تلق بيتاً لا شراءً ولا بيعاً ولا بالإيجار، فعليك أن تنتقل بما معك وتسكن في المسجد ولا عليك، وإذا اعترض عليك معترض فأخبره بهذا الحديث من صحيح البخاري بسنده وقدمه له، فلا يعترض معترض، بل المساجد تسكن للمسلمين وينام فيها، وهناك عشرات الأحاديث تبين هذا الأمر للمصلحة، لكن إذا وجد الإنسان غنية عن المسجد فله أن ينزح عن المسجد.(78/28)
جواز التخلي عن الأهل والولد إذا كانوا مشغلة
المسألة الحادية والعشرون: جواز التخلي عن الأهل والولد إذا كانوا مشغله.
فإن بعض الناس لا يستطيع أن يجمع بين الإيمان والعمل الصالح وكثرة الطاعات مع كثرة العيال، وهم المشغلة، فهؤلاء تخلوا عن الدنيا وجلسوا في المسجد، ولكن غيرهم ممن قام بشئون العيال والمال كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي خير منهم وأفضل عند الله.
قيل للإمام أحمد: يا أبا عبد الله! لو تركت الزواج كان خيراً لك.
قال: ولم؟ قالوا: لأن إبراهيم بن أدهم ترك الزواج.
قال: أوه! يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] أبمحمد نقتدي صلى الله عليه وسلم أو بـ إبراهيم بن أدهم؟ فلذلك كان فعله صلى الله عليه وسلم أجمل من كل فعل، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يتخلَّ بل جمع بين العمل الصالح وبين هذا.
وقال الإمام أحمد لما قيل له في الزواج والأهل والأطفال، قال: والله! لبكاء الطفل عند رأسي يطلب مني كسرة خبز خير من قيام ليلة.
لأنه يهديهم للإسلام ويربيهم، ومن أصلح جاريتين كن له حجاباً من النار.
فالأهل بركة ونور، وما يأتي من مشقة وهموم وغموم فهو تكفير للخطايا والذنوب، ورفعة في الدرجات، وثواب عند الله عز وجل، فليحتسب العبد ذلك عند الله.(78/29)
التقلل من الدنيا
المسألة الثانية والعشرون: فيه ما كان عليه الصلاة والسلام من التقلل، فإنه تقلل حتى لقي الله عز وجل وليس عنده من الدنيا لا قليل ولا كثير، وترك ما تركه صدقة وما ورث أهله شيئاً.(78/30)
أيهما أفضل: الغني الشاكر أم الفقير الصابر
المسألة الثالثة والعشرون: مسألة أوردها ابن تيمية في الفتاوى، وهي هل الغني الشاكر أفضل أم الفقير الصابر؟ قال ابن تيمية: ألف بعض أهل العلم كتباً في هذا، والمسألة يسيرة والحمد لله، فبعضهم قال: الغني الشاكر أفضل؛ لأنه ينفق ويضيف ويعطي ويمنح.
وقال بعضهم: الفقير الصابر أفضل لأنه صبر وأخذ وجاهد وتحمل.
قال ابن تيمية: وليس بصحيح هذا الجواب.
و
الجواب
أن أتقاهم لله هو أفضلهم، إن كان غنياً شاكراً وهو أتقى من الفقير الصابر فهو أتقى وأفضل، وإن كان الفقير صابراً وأتقى من الغني الشاكر فهو أتقى عند الله وأفضل.
ولذلك تجد أن بعض الناس عنده ملايين، وهو أتقى لله عز وجل من الفقير الذي لا يجد عشاء ليلة، وتجد بعض الفقراء تقياً لله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فلا تسأل عن مال الإنسان ولا عن أولاده ولا عما عنده من تراث، ولكن اسأل عن تقواه لله عز وجل، فقيراً كان أو غيناً.(78/31)
انبساط الدنيا لا يكون على حساب الآخرة
المسألة الرابعة والعشرون: من بسط له في دنياه لا يكون ذلك على حساب ثوابه.
فإن المطاعم والمشارب والملابس التي نأخذها في الدنيا تنقص من أجرنا عند الله، ولا يزال العبد يهدب من ثمرته حتى ينهيها أو يبقيها.
ولذلك دخلوا على خباب بن الأرت وهو يبني مزرعة له بالطين في المدينة، وهذا في الصحيح وقد اكتوى على بطنه سبع كيات، فقالوا: مالك؟ قال: كل شيء يؤجر فيه العبد إلا ما وضع في هذا التراب.
أي: في البناء، ثم قال: والله لقد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كنا نجد شيئاً، ثم مات مصعب فما وجد كفناً، ومات حمزة فما وجد كفناً، ثم بكى كثيراً حتى نشغ، ثم قال: أما نحن فتدلت ثمرتنا فنحن نهدبها من ذاك اليوم.
أي: أجرنا تدلى لنا فنهدب منه.
فالأولى بالإنسان أن يأخذ الشيء الطيب ولكن لا يسرف فيه، يقول سبحانه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] ولا يعتدي، ولكن يبحث عن مسترة حاله ويكون وسطاً في الناس، ليس بالملح ولا الذي يظهر التفقر والتمسكن وهو غني، وليس من الذي يظهر الترف والتعالي على الناس، وخير الأمور أوسطها، وليستتر بستر الله عز وجل.(78/32)
أفضل الطعام
المسألة الخامسة والعشرون: اللبن أفضل الطعام، ولذلك كرره البخاري في أبواب، والرسول صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه سلم إليه إناء من لبن فشرب منه حتى قال: {رأيت الري يخرج من تحت أظفاري، ثم سلمت فضلي عمر بن الخطاب.
قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم}.
{ولما عرج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء قدم له إناءان، إناء من خمر وإناء من لبن، فقالوا: اختر واحداً واشربه، فشرب الذي فيه اللبن، فقال جبريل: أصبت الفطرة، لو شربت الخمر غوت أمتك، ولكن شربت اللبن فصلحت أمتك بإذن الله}.
فالحمد لله الذي أصلح هذه الأمة، وجعلها خاتمة الأمم، كما جعل محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء.
نسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كما جمعنا على ذكره وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجمعنا هناك مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يسقينا من حوضه، وأن يتقبل منا أعمالنا، وأن يتجاوز عن سيئاتنا، وأن يصلح سرائرنا وعلانيتنا وظاهرنا وباطننا، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(78/33)
شطر الإيمان
إن الوضوء معلم من معالم الدين, فقد وردت فيه أحاديث كثيرة بعضها يبين فضائله، وبعضها يبين كيفيته، وأخرى تذكر ما يقال بعده من الأذكار.
وفي هذه المادة الحديث عن هذه المسائل والأحكام.(79/1)
فضل الوضوء
الحمد لله رب العالمين, الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء، إن الله على كل شيء قدير، ما يفتح الله لناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم.
والحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور، والصلاة والسلام على رسول الإسلام, مكسر الأصنام, علم الأعلام، خير من صلى وصام، وحج البيت الحرام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم, ما غرد على الأيك الحمام، وما تدفق بالودق الغمام، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
أيها المسلمون! فيا لسعادة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدثهم عن الجنة ونعيمها وراحتها، لأن من أخذ هذه الدنيا داراً ومستقراً فقد أصابه الله بالحرمان، وكتب عليه الخذلان.
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت نفسك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
خرج عليهم صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث لهم عن نعيم الجنة, ثم قال: {دخلت الجنة البارحة فسمعت دفّ نعليك يا بلال! فما كنت تصنع أو تفعل؟ قال: يا رسول الله! والله ما كنت كثير صيام ولا صلاة ولا صدقة، ولكن ما توضأت في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بعد الوضوء هذا ركعتين}.(79/2)
الوضوء معلم من معالم الدين
إن الوضوء معلم من معالم هذا الدين، وليس في الدين قضايا سهلة ولا بسيطة، وليس فيه ورق ولا قشور، بل هو كله أصل ووحي من عند الله عز وجل.
أعظم قضايا الإسلام هي: لا إله إلا الله، وأيسرها إن كان فيه يسير: إماطة الأذى عن الطريق، لكن من قصد بكل قضية وجه الله أدخله الله الجنة، والعجيب أن لهذه الجنة أبواباً ثمانية.
يقول عقبة بن عامر رضي الله عنه وأرضاه: {روحت إبلي عند المساء -وهذه رواية أحمد في المسند - قال: ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصليت معه العشاء فتأخر عن العشاء حتى ابهارّ الليل -أي: انتصف- ثم خرج عليه الصلاة والسلام فصلى بنا، ثم تلبثت ليلة أخرى وقال لنا في تلك الليلة: أما ترون البدر؟ قلنا نعم يا رسول الله! قال: أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، قال: ثم جئت ليلة أخرى فروحت إبلي وأتيت فإذا الناس سكوت وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يتحدث للناس، قال فسمعته يقول: من قال: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً كان حقاً على الله أن يرضيه -أن يرضي قلبه وأن يشرح صدره ويرفع ذكره ويتولاه فيمن تولى- قال: فضربت بكفي اليمنى على اليسرى وقلت: ما أحسن هذا! فسمعني عمر رضي الله عنه وكان جالساً بجانبي، فقال: التي قبلها أحسن منها، قلت: ما هي يا أبا حفص؟ قال: أما كنت معنا من أول هذه الليلة، قلت: لا.
ما أتيت إلا متأخراً، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء} زاد الترمذي بعد الشهادة: {اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين} فهنيئاً لكم أيها المتوضئون! وهنيئاً لكم أيها المتطهرون! أبشروا وأمّلوا في ربكم ما يسركم، هنيئاً لكم, تتوضئون وغيركم من الملايين تمر عليهم السنوات لا يعرفون الوضوء، وهنيئاً لكم الطهارة وغيركم من الملايين يعيشون كعيشة الكلاب والخنازير لا يتطهرون، وهنيئاً لكم يعرفكم رسولكم صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بوضوئكم متطهرين متجملين يوم العرض الأكبر على الله.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: {مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ بقيع الغرقد -بالمقبرة- فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ثم التفت إلى الصحابة صلى الله عليه وسلم فقال: وددنا أننا رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا نحن إخوانك يا رسول الله؟ قال: لا.
أنتم أصحابي، ولكن إخواني قوم يقتدون بسنتي وما رأوني، قالوا: يا رسول الله! كيف تعرفهم بين الأمم يوم القيامة -يقصدون بين الملايين، بين أمم يحشرهم الله كالتراب في عدد الذر, أمة إبراهيم، ونوح، وموسى، وعيسى، والألوف من الرسل عليهم الصلاة والسلام- قالوا: كيف تعرف أمتك يا رسول الله! بين الأمم يوم القيامة؟ قال: أرأيتم لو كان لرجل خيل غر محجلة -أي: فيها بياض في وجوهها وأرجلها ويديها- بين خيل دهم ألا يعرف خيله؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: فإن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء} فيعرفك صلى الله عليه وسلم وما قد رآك، لكن يعرف أنك من أمته، وأنك من أهل حزبه وملته، وأنك من الذين يَردون حوضه ويشربون من كوثره بعلامة الوضوء، وجهك يبرق كالقمر، وتبرق يداك ورجلاك كأسارير النور لأنك توضأت في الحياة الدنيا.
فقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا(79/3)
الوضوء سبب للمغفرة
في الأثر {أن الله عز وجل ينظر لعبده المؤمن إذا قام من فراشه في صلاة الفجر ينتفض, ويقوم خائفاً وجلاً من فراشه, فيعمد إلى الماء البارد فيتوضأ به في شدة البرودة، ثم يأتي إلى الصلاة فيقول الله لملائكته: يا ملائكتي! انظروا لعبدي المؤمن ترك فراشه الدافئ، ولحافه الوثير، وقام إلى الماء البارد يتوضأ, وقام إلي يناجيني ويتملقني أشهدكم أني غفرت له وأدخلته الجنة}.
فيا لعظمة المسلم يوم يقوم من فراشه مع صلاة الفجر، وأهل النفاق والفجور والإعراض عن الله والغفلة في فرشهم متغمصون بنفاقهم وفجورهم! فيقوم إلى الماء البارد فيتوضأ ثم يرفع سبابته ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
وفي حديث حسن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {عجب ربك من ثلاثة - ولله أن يعجب من عبده يوم خلقه، وسواه في أحسن صورة وعدله، ويوم حفاه وكفاه وهداه، فإذا منحه الهداية عجب منه عجباً يليق بجلاله -قال: يعجب ربك من ثلاثة: أحدهم كان في قافلة, سافر مسافة طويلة حتى أتى آخر الليل، فأتى أهل القافلة إلى الأرض فقالوا: ما رأيكم لو نمنا، فألقوا أنفسهم على الأرض في نومة ما أحسن على المسافر منها, إلا أحدهم رفض النوم, وعمد إلى الماء البارد, فتوضأ منه فقام يصلي حتى الصباح فيقول الله لملائكته: يا ملائكتي! أشهدكم أني غفرت له وأدخلته الجنة، ترك النوم وقام يناجيني ويتملقني، ورجل ثانٍ: كان في سرية قاتلت الأعداء الكفار فانهزمت السرية عن بكرة أبيها إلا هذا الرجل لما رأى أصحابه انهزموا دعاهم إلى الله -ودعاهم إلى القتال, وإلى الرجوع- فأبوا عليه، فخلع درعه وسل سيفه ثم أقبل إلى العدو حاسراً فقاتل حتى قتل فيقول الله: أشهدكم أني غفرت له وأدخلته الجنة، ورجل ثالث: كان مع قوم فمروا بفقير مسكين -ليس معه إلا ما عند الله من الصبر واليقين- فمد يده إليهم يسألهم فتخلف أحدهم عنهم ومشى ذاك الركب، فلما تخلف -هذا الرجل الثالث- أخرج من جيبه ما يسر الله، فأعطاه هذا الفقير ومسح على رأسه, قال الله: أشهدكم أني غفرت له وأدخلته الجنة}.(79/4)
فضل الوضوء
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الطهور شطر الإيمان, وسبحان الله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض, والصلاة نور والصبر ضياء, والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها} رواه مسلم، وإنما جعل صلى الله عليه وسلم الطهور شطر الإيمان؛ لأنه طهارة للظاهر، والباطن أمره عند صاحبه إذا طهره فقد استكمل الطهارة، فجعل صلى الله عليه وسلم الطهارة أو الوضوء نصف الإيمان لأنه علامة اليقين، والله ثم والله، ثم والله، لا يحافظ على الوضوء إلا المؤمن، فإنه سر بين العبد وبين ربه الحي القيوم، ولا يعلم السر وأخفى إلا الله، ولا يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور إلا الله، ولا يعلم ما بينك وما تضمر, وما تسر إلا الله، بإمكان الرجل أن يصلي وعليه جنابة فلا يعرف الناس أن عليه جنابة، وبإمكانه أن يدخل المسجد وهو منتقض وضوؤه ولكن الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور هو الله، فإذا توضأت علم الله أنك مؤمن, وإذا حافظت على الوضوء علم الله أنك مسلم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال صلى الله عليه وسلم: {ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قلنا: بلى.
يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط} رواه مسلم، ومعنى إسباغ الوضوء على المكاره أن تسبغ وضوءك في شدة البرد، يوم ألا يمس المنافقون الماء البارد, ويتأذون به, فتقوم فتشرشر بالماء البارد على أعضائك الدافئة طلباً للفضل والأجر من الله، فيحت الله عنك الخطايا كما تحات الشجرة ورقها في شدة البرد, أو في الرياح الهائجة.
وقال أبو هريرة: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق -واستمعوا لطلاوة الحديث وحسنه- قال عليه الصلاة والسلام: {إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت خطاياه من عينيه حتى تخرج مع آخر قطر الماء} وفي رواية عند مسلم {خرجت خطاياه التي نظر بها -أي: نظر بعينيه في خطأ أو في حرام خرجت من الوضوء مع آخر قطر الماء- فإذا تمضمض خرجت خطاياه مع آخر قطر الماء، فإذا غسل وجهه خرجت خطاياه مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرجت خطاياه مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت خطاياه مع آخر قطر الماء، ثم إذا أتى المسجد ما مشى خطوة إلا رفع له بها درجة, وحط عنه بها خطيئة, فإذا جلس ينتظر الصلاة جلست الملائكة تدعو له وتقول: اللهم اغفر له، اللهم اغفر له، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث}.
فهل يطلب المسلم أجراً بعد هذا، أو يريد نشاطاً بعد هذا الترغيب لينشطه على عبادة الله.
فيا من أراد أبواب الجنة! دونك أبوابها ثمانية فتحت لك، فتوضأ وادخل على الله من أقرب الأبواب وأيسرها، وتعال إلى المسجد طاهراً مطهراًَ من الذنوب والخطايا, فما أعظمك أيها المسلم! وهنيئاً مريئاً لك يوم تتوضأ كل يوم خمس مرات، وهنيئاً لك يوم تتطهر بالماء البارد فتخرج خطاياك من أعضائك، هنيئاً لك يوم تطلب رضوان الله، وجنته.
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك تربتها والزعفران حشيشٌ نابت فيها
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(79/5)
الوضوء سبب في تكفير الخطايا
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة السلام على سيد المرسلين وإمام المتقين وحجة الله على الناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فإن من السعادة التي نحمد الله عليها سُبحَانَهُ وَتَعَالى: أن رزقنا الإسلام، فنسأله كما رزقنا وإياكم الإسلام أن يسترنا، وألا يفضحنا، وأن يصلح بواطننا وظواهرنا، وإن من النعيم كل النعيم أن تتلذذ بطاعة الله وبذكره بالوضوء لأداء فرائضه بتلاوة كلامه سُبحَانَهُ وَتَعَالى بالصيام له بمناجاته في غلس الليل بالصدقة بطلب مرضاته بحسن الخلق لرفع الدرجات عنده ولقد كان العلم عند السلف الصالح سهلاً يسيراً، عند أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كان علمهم مسهلاً لم يعرفوا هذا التنظير العلمي الذي شغل أوقاتنا، وهذا الجدل العقيم الذي ضيع ساعاتنا، علمهم سهل يعلمون المسألة فيعملون بها؛ فيرزقهم الله علماً إلى علمهم؛ ولذلك أثر عنه صلى الله عليه وسلم وقد حسن هذا الحديث: {أن من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم}.(79/6)
كيفية الوضوء
ولذلك دعا عثمان رضي الله عنه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا جميعاً فجلسوا عنده وهو خليفة، خارج المسجد، أتدرون لماذا دعاهم؟ هل يلقي عليهم محاضرات تستغرق الساعات الطويلة فيحدثهم عن مسائل غامضة لا يمكن أن يعملوا بها؟ لا.
حدثهم في مسألة سهلة -فلما اجتمعوا قام فدعا بماء وضوء فلما أحضروه عنده توضأ فقال: {باسم الله -في بعض الروايات، وفي بعضها- غسل يديه ثلاثاً، ثم تمضمض، واستنشق ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه: اليمنى ثلاثاً واليسرى ثلاثاً، ثم مسح رأسه فذهب بيديه إلى قفاه، ثم أعادهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاثاً ثم اليسرى كذلك، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا، وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول: من توضأ مثل وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه إلا غفر الله له خطاياه} هذا هو الإسلام، وهذه هي المسائل العلمية وهذا هو عرض الصحابة للعلم وللإسلام، لا تكلف, توضؤ وتطبيق عملي, ثم استشهدهم على هذا الوضوء فشهدوا له، ثم أخبرهم أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من توضأ كوضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه إلا غفر الله له}.
ويقول أخوه وزميله وقرينه سيف الله المنتضى أبو الحسن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه: {كان الصحابي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا حدثني بالحديث عنه صلى الله عليه وسلم استحلفته فإذا حلف صدقته فنفعني الله بذاك الحديث ما شاء، وحدثني أبو بكر الصديق وصدق أبو بكر -أي: لا يستحلف أبو بكر لأنه صادق مصدق من عند الله- قال: حدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ألمَّ بذنب أو من ارتكب فاحشة أو من ظلم نفسه فتوضأ وصلى ركعتين ثم استغفر الله من ذاك الذنب غفر الله ذاك الذنب}.
وهذا الحديث صحيح فاستبشروا به، فإذا ألمَّ أحد منكم بخطأ أو فاحشة, أو بظلم كبير فليذهب إلى الماء البارد وليتوضأ به وليطفئ نار الذنب, والخطيئة, وغضب الله, وليصل ركعتين ثم ليستغفر الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] ومن يغفر الذنوب، ويستر العيوب، ويتجاوز عن السيئات إلا الله، ومن يغفر للعبد ويرحمه، ويمجده، ويهديه إلا الله، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر53] فاستبشروا بسنة الوضوء واستصحبوا السواك، وإذا توضأتم فارفعوا سباباتكم إلى الله، وأصابعكم إلى الحي القيوم, وأعلنوا الوحدانية قوية رائعة، وأعلنوها حية طلقة، قولوا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله, يفتح الله لكم أبواب الجنة الثمانية, وتسلم عليكم الملائكة, ويدعو لكم المقربون, ويشهد لكم الأنبياء والرسل.
فسلام على كل من توضأ, وأتى إلى بيت من بيوت الله منيباً، وسلام على من تطهر لله ظاهراً وباطناً.
اللهم اجعلنا من التوابين والمتطهرين، اللهم كما طهرت أعضاءنا بالماء البارد فطهر قلوبنا من النفاق، والكفر، والغش، والكبر، والحقد, والرياء والحسد, والغل, يا رب العالمين.
اللهم كما سترت ظواهرنا من العيوب، والجروح، والأمراض فاستر بواطننا.
اللهم كما أغفيت عنا لباس الستر في الدنيا, فلا تفضحنا على رءوس الأشهاد يوم نأتيك حفاة عراة غرلاً بهماً تسمعنا بالداعي وينفذنا بالبصر.
عباد الله! وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه, فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد, واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم إلى ما تحبه وترضاه يا رب العالمين، اللهم اهدهم سبل السلام، اللهم تب عليهم وكفّر عنهم سيئاتهم وخطاياهم.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، ولرفع رايتك، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان وفي فلسطين، وفي كل أرض من بلادك يا رب العالمين، اللهم ثبت أقدام المجاهدين، اللهم أنزل السكينة عليهم، اللهم اجعل لهم مدداً من توفيقك ونصرك، اللهم اجعل كلمتك مرفوعة على بنادقهم، اللهم سدد سهامهم في نحور أعدائهم، اللهم من أراد بالإسلام مكيدة فالعنه كل لعنة، واشغله بنفسه، ودمره تدميراً، ومزقه كل ممزق إنك على كل شيء قدير.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(79/7)
المعتدون على حرم الله
إن الله سبحانه وتعالى أنزل كتاباً مباركاً متضمناً للأحكام والعبر والعظات، فتارة يأتي عن طريق الترغيب، وتارة عن طريق الزجر والوعيد وذِكر أخبار الأمم الماضية وما حل بها من عذاب الله.
واليوم أخي الحبيب هلم بنا لنعش مع القرآن ونتدبر بعض هذه الأخبار والقصص في سورة الفيل وما فعل الله بأصحابه.(80/1)
وقفات مع سورة الفيل
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.
الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير.
الحمد لله الذي كسَّر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ظهور الأكاسرة، وقصّر بمبعثه آمال القياصرة، الذين طغوا وبغوا حتى أرداهم ظلمهم في الحافرة.
والصلاة والسلام على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، المبعوث بالخُلق الجميل، وبالدين الجليل، الذي كان مولده يوم رد الله أصحاب الفيل، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
نقف اليوم وقفةً مع سورة عظيمة، وهذه السورة تروي قصة تاريخية وحدثاً عظيماً يمتن الله بها على أهل الجزيرة العربية، وكأن لسان الحال يقول:" يا أهل الجزيرة! أما رددنا عنكم المعتدي وحميناكم من الظالم؟
يا أهل الجزيرة! أما منعناكم من المستعمر الأجنبي فكيف تقابلون نعم الله، ودينه ورسالتة؟!
وملخص القصة: أن أبرهة الأشرم -الملك الحبشي الذي تولى الملك في اليمن، وكانت عاصمته صنعاء - غضب من وجود بيت الله الحرام، فبنى في صنعاء كعبة عظيمة هائلة طويلة شاهقة، زخرفها وبناها وليته اكتفى -هذا العميل الضال المجرم- بهذا الفعل فقط، بل دعا الناس لحج هذا البيت الذي بناه، وصرف وجوه الناس إلى كعبته التي أسست على الظلم والفجور وعلى المكر والعناد، وكانت تسمى: القُلَّيس، إذا نظر إليها الناظر، سقطت قلنسوته من على رأسه، فلما دعا الناس لحجها؛ غضبت العرب قحطانية وعدنانية، وأرسلت قريش شباباً في ظلام الليل، فدخلوا كعبة أبرهة وأضرموا فيها النيران، فغضب وأرسل جواسيسه لأخذ الخبر، فأخبروه أن قريشاً هي التي أججت بيته وأحرقته، فأعلن الحرب على بيت الله، سبحان الله! يحارب الله!
أيها المعتدي رويداً رويداً إن بطش الإله كان شديدا
إن بطش الإله أهلك فرعون وعاداً من قبلكم وثمودا
وتهيأ لهدم الكعبة، وسمعت العرب أنه سيخترق الجزيرة العربية من جنوبها إلى شمالها ليصل إلى مكة، وقامت قيامة العرب، لكن ماذا يستطيعون أن يقدموا؟
خرج بجيش قوامه ستون ألفاً معهم اثنا عشر فيلاً أكبرها وبطلها وشجاعها: محمود، ومهمته أن يتقدم الجيش وعلى متنه أبرهة الأشرم الظالم الضال، وسمعت قبائل اليمن بذلك، فغاضهم هذا، وإلا فهم وثنيون مشركون لكن العرف العربي سرى في أجسادهم، فاستنفروا قبائلهم واعترضوه، ولكنه سحقهم وقطع دابرهم، وأخذ يخترق جبال السروات والصحيح أنه أتى من الجبال المطلة على تهامة، وسمعت خثعم بقدومه، فأعلنت الحرب عليه، وقاد قائدهم نفيل بن حبيب الخثعمي - كما قال أهل السير -ونازلوه في جبال خثعم وبالخصوص قبيلة شهدان وناهس، فسحقهم لأمر أراده الله، ليري الله أهل الجزيرة كيف حماهم ووقاهم ورعاهم، وأخذ يخترق الجبال حتى وصل إلى الطائف فاستقبله أهل الطائف وقدموا له الخدمات - وهذا شأن العميل الذنب، الذي يحب المستعمر الأجنبي ويقدم له الخدمات على دماء قومه وعلى شرفه وعرضه وملكه وملك أجداده- وما اكتفوا بذلك؛ بل قام أبو رغال أحدهم، فدل أبرهة على طريق مكة من الهدى، ولذلك لما مات أبو رغال كان العرب يرجمون قبره غضباً لبيتهم ولدين آبائهم، ونزل أبرهة الأشرم وأتى موعود الله ونصره فأخذه.
وتمركز أبرهة في المغمّس قريباً من الحرم، وقريباً من وادي محسر وأخذ جيشه الظالم يغير على سوارح مكة وعلى إبلها وغنمها فيسبيها.
ولما سمع عبد المطلب جد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وكان رجلاً شهماً سيد مكة وابن سادتها، وكان له مائتان من الجمال أخذها أبرهة وجيشه، لبس لباسه وتوجه إلى أبرهة، وسمع بقدومه أبرهة، فلما رأى عبد المطلب وجلالته وسمته ووسامته نزل من على كرسيه وعانقه وأجلسه معه على البساط، فقال يا عبد المطلب! - بواسطة الترجمان-: ماذا تريد؟ قال: أريد جمالي التي أخذها جيشك، فقهقه أبرهة وضحك مستعلياً مستهزئاً، قال: لما أتيت ظننت أن فيك عقلاً، فأنا أتيت لآخذ بيتك وبيت أجدادك وآبائك، فلما كلمتني في الجمال احتقرتك واستصغرتك.
قال عبد المطلب: أنا رب الجمال، وللبيت رب يحميه.
أنا رب الجمال آخذها وأمنعها ولو أن ربها هو الله، لكن البيت لا نحميه، وإنما يحميه الذي أمر ببنائه، والذي أمر خليله أن يدعو الناس لحجه يحميه الذي سوّى سمكه ورفع بنيانه، فأخذ جماله وولى وترك المشهد هكذا.
وفي الصباح أراد عدو الله أن يتقدم ليهدم الكعبة -أول بيتٍ أسس على التقوى على لا إله إلا الله، وبعثت منه الرسالة الخالدة، وانطلقت منه الأجيال، لترد أهل الطاغوت إلى الحق، وأهل الظلام إلى النور، وأهل الغي إلى الرشد- وأراد أبرهة أن يذهب بجيشه وفيلته فإذا أصبح عند الكعبة، ربط الجدران بالفيلة، ثم زجرها ليهوي البيت مرة واحدة، لكن الذي في السماء يرى ويبصر، والذي فوق سبع سماوات لا يغلبه غالب، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52].
أما عبد المطلب جد الرسول عليه الصلاة والسلام وكان مشركاً، وكانوا إذا اشتدت بهم الأزمات، هربوا إلى الله، وإذا حلقت بهم فزعوا إلى الله، وإذا أدركهم الخسف والموت والهلاك دعوا الله، قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65].
أتى عبد المطلب في الصباح، فأخذ بحلق الكعبة وأخذ يهزها، ويقول:
لاهم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبداً محالك
ثم ولَّى ودعا القرشيين إلى أن يخرجوا إلى الجبال، فأخذوا أطفالهم وقد اختلط صوت بكاء الرجال والنساء والأطفال، وأخذت المواشي تهرب من مكة، والحمام يهاجر ويفر خوفاً وهرباً من اعتداء الظالم، وأخذوا يستعصمون بالجبال، ولا عاصم من أمر الله إلا الله.(80/2)
حماية الله لبيته
أعلن أبرهة القدوم إلى الكعبة، فلما أصبح في وادي محسر قال للجيش: وجهوا الفيل "محمود" إلى الكعبة، فكلما وجهوه رد رأسه إلى غير الكعبة، فيضربونه فيلزم مكانه، فيوجهونة يمنة ويسرة وخلفاً فيعود ويمشي، فإذا وجهوه إلى البيت العتيق برك مكانه، ضربوه ووخزوه بالسيوف والرماح فأبى، لأن الله أنزل في خَلَده أن هذا البيت بيته، وأن هذه كعبته لا يمكن أن يتجرأ عليها معتدٍ أو يهجم عليها غاشم، سبحان الله!
وبينما هم يحاولون مع الفيل في وادي محسر في المغمس وإذا بالله عز وجل من فوق سبع سماوات لم يقاتل أبرهة بجنودٍ ولا بملائكة؛ فـ أبرهة أقل وأذل وأضل من أن يقاتل بجنود، ولم يرسل عليه طوفاناً فهو ذليل خسيس حقير، ولم يأمر الجبال أن تصطدم عليه فهو حقيرٌ وصغيرٌ، ولم يزلزل عليه الأرض لأن سنة الله في الجبابرة والكفار أن يحاربهم بأصغر الحشرات، فقد حارب فرعون بالجراد والقمل والضفادع، وحارب النمرود بالبعوض، وأما أبرهة فأمر الله طيراً أتت من البحر كالخطاطيف واحدها أبيل، وهي طيور كثيرة خرجت من صباح ذاك اليوم الذي أعلن فيه أبرهة الهجوم على بيت الله، وأخذت ترسم طلعات على سماء مكة لترى مواقع العدو الفاجر وأعداء الله الخاسرين، وعادت لتقصف مواقع الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.
قال ابن عباس: [[كانت طيراً خضراً يحمل كل طائر ثلاثة من الحجارة: حجرين في أرجلها وحجر في منقارها، فإذا أصبح فوق الجيش أطلق وصاح بصوت له أزيز في السماء فتقع الحجارة وعليها أسماء جنود أبرهة لئلا يأخذ أحد غير نصيبه]] كل بقسطه وحظه وجائزته التي ألحقت به العار والشنار واللعنة والمقت، وأخذت الطير من البحر تقف كالخطاطيف، وأهل مكة يصيحون مذهولين مما رأوا من العجب العجاب! وأخذت الطيور تغطي الشمس عن الناس حتى أصبحت كالسحب المتكاثفة أو كالغمام، وأما الحجارة فأخذت تنزل بعمق.
يقول مجاهد: [[لا تنزل في رأس الكافر إلا نزلت من دبره، ولا تأتي من جنبه إلا نزلت من الجنب الآخر]].
سبحان الله! ما أعظم الله وما أجله يا أهل الجزيرة! كيف منعكم وحماكم؟ كيف أعلى بيتكم ورد المعتدي على الكعبة فلماذا لا تشكرونه؟
أبعد هذه المنة من منة؟! لاوالله.
وقتل الجيش وأصبح بعضه على بعض كالعصيف -وهو الزرع إذا عصف وأكل وديس بالأرجل- أما أبرهة الأشرم فعاد وأصبح يتقطع في الطريق إصبعاً إصبعاً وقطعةً قطعةً حتى ما وصل اليمن إلا وهو كفرخ الطائر، ولما وصل صنعاء أخذ المرض ينخر قلبه حتى مات وهو كالعصفور.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] ألم تر قوة الله وعظمته؟
ألم تر يا محمد! ويا كل مكلف مسلم! ماذا فعل الله بالأعداء؟ كيف دمرهم وقطع دابرهم؟
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] ولم يقل: أصحاب أبرهة، فـ أبرهة حقير لا يذكر في مثل هذه المواطن، إنما جعلوا رئيسهم الفيل فهو صاحبهم وقائدهم، وقد ضل من كان قائده فيله وحماره وثوره؟ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:1 - 2] في تباب وضلال وخسار {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:4 - 5].
هذه قصة من قصص التاريخ التي أثبتها القرآن وذكر الله بها المسلمين وأهل الجزيرة، وكأن الله يقول لهم:" الله هو الذي بنى لكم البيت، ورد عنكم المستعمر، وقتل الأجنبي الكافر، فلماذا لا تعبدونه؟! ولماذا لا توحدونه؟! ولماذا لا تشكرونه؟!
فيا أهل البيت العتيق! ويا خدمة بيوت الله! ويا من عاش في مهبط الوحي! ويا جيرة بيت الله! اتقوا الله في أنفسكم، واذكروا نعم الله عليكم ولا تخافوا على هذه المقدسات فالله يحميها، لكن احموا أنفسكم بالطاعة، ووحدوا الله واشكروه فلا خوف على بيوت الله، فإنه يحميها، لكن الخوف عليكم أنتم من معاصيكم وتعديكم لحدود الله، واقترافكم لمحرمات الله.
أسأل الله لي ولكم الهداية والثبات، والرشد والسداد، والتوفيق والعون.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(80/3)
وقفة مع سورة قريش
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذِّكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسلمياً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فإلحاقاً لهذه السورة يقول الله تبارك وتعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:1 - 4].
يقول الله من أجل اجتماع قريش وائتلافهم واستيطانهم وأمنهم وعيشهم: جعلنا لهم رحلة الشتاء والصيف، وأمنَّاهم من العدو، وأشبعناهم من المجاعة، فلماذا يشركون بالله قاتلهم الله؟! ولماذا يريدون إلهاً غير الله أنى يؤفكون؟! كيف ينعم الله عليهم ويؤمنهم ويعبدون غيره؟! عجباً للإنسان ولعقله يوم ينعم الله عليه ويرزقه الأمن في الأوطان، والصحة في الأبدان، والعافية والشباب، والمكانة والرغد والسعادة، ثم يعبد غير الله!
وقد ورد في كتاب الزهد للإمام أحمد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله تبارك وتعالى: عجباً لك يابن آدم! خلقتك وتعبد غيري، ورزقتك وتشكر سواي، أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك، وتتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إليَّ، خيري إليك نازل وشرك إلي صاعد} عجباً للإنسان الذي لا يذكر نعم الله عليه!
ولذلك يقرر الله العباد بنعمه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فيقول: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ} [قريش:1 - 2] لاجتماعهم وأمنهم ورغدهم جعلنا لهم رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3 - 4] ومكة خالية من الثمار والزروع، قاحلة جافة، لا بساتين ولا حدائق ولا أعناب ولا نخل، ولكن إبراهيم عليه السلام أخذ من الله سبحانه وتعالى عهداً أن يشبع جائعهم، ويطعم فقيرهم، ويكسو عاريهم: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37].
أما رأيتم يا أهل الجزيرة! نعم الله عليكم وبلادكم قاحلة جافة صحراوية؟! ولكن لدعوة إبراهيم أتت كل الثمار من أنحاء الدنيا، وكل الخضروات والفواكه تأتي طازجة تحملها الطائرات من مدن العالم لتغذيكم في جزيرتكم علَّكم تعرفون نعم الله وتشكرونه، وعلَّكم تعودون إلى أمر الله تبارك وتعالى.
والحجيج ملايين مملينة ما شكى أحدهم قلة الخبز أو الفاكهة أو الماء، وهذا لدعوة إبراهيم، لكن يوم أن نترك أمر الله، ونتعدَّى حدوده، وننتهك حرماته، يسلب الله عنَّا النعم، ويزيل عنَّا الأمن، فليس عندنا عهد من الله ألا يأخذنا أخذ عزيز مقتدر.
قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
إن معنى بقاء الأمن والعيش ورغد الحياة والستر والعافية هو أن نبقى مع الله عز وجل، وأن نقوم بأوامره، وأن نعرف بيوت الله ونتلو كتابه، ونكون على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدةً، صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على حبيبك ونبيك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه.
اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور، وأرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه، وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً، اللهم كفِّر عنهم سيئاتهم، وأصلح بالهم، واهدهم سبل السلام يا رب العالمين.
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(80/4)
العلمانيون في كتاب الله
العلمانيون هم منافقو هذا العصر، ولهم علامات ذكرها الله عنهم في كتابه، ولهم أفكار يطرحونه في الساحة، ولهم معتقدات يريدون بها هدم الدين، وهم من أخطر أعداء الإسلام في هذا العصر.(81/1)
العلمانيون في مجتمعاتنا
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ:
وشكر الله لمن كان سبباً في هذه الدعوة، وأشكر عميد الكلية وهيئة التدريس.
عنوان هذه المحاضرة (العلمانيون في كتاب الله عَزَّ وَجَلَ) وهي المحاضرة الثالثة عشرة بعد المائة الثالثة.
وقد اختير هذا الموضوع لاعتبارات كثيرة:
من هذه الاعتبارات: أننا نعيش مأساة العلمانيين الذين تربوا على موائد الغرب، وتلقوا علومهم هناك، وأتوا ينفثون سمومهم هنا.
ومن هذه الاعتبارات: أنه بدأ يلوح لنا في الأفق سيف العلمنة يريد أن يقصم ظهر الإسلام، وأن ينهي المسجد والمصحف والصلاة والتسبيح.
ومن هذه الاعتبارات: أن من الحكمة أن نتكلم عن المقام الذي يتحدث فيه، ولعل الله أن يهيئ من الوقت والطاقة ما نتحدث بإذنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن موضوع (المفكرون في القرن الحالي من المسلمين)
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257] ويقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [البقرة:161 - 162].
أيها الأبرار: العلمانيون قوم يمثلون المنافقين في عهده عليه الصلاة والسلام، ولو كان عدونا يهودياً لكنا حذرناه وعرفناه، ولو كان نصرانياً لكنا أبصرناه، ولو كان شيوعياً لكنا أدركناه، لكن هذا العدو الذي أتكلم عنه هذه الليلة يلبس عقالاً ومشلحاً، وقد يصلي يوم الجمعة، وقد يصلي صلاة العيد، ويحضر صلاة الاستسقاء، ولكنه في داخله وفي نفسه يحمل ناراً تلظى على لا إله إلا الله، ويكره عباد الله، ويريد أن تهدم الكعبة، وفي زعمه أن القديم من الدين الإسلامي هو سبب تأخر المسلمين وتخلفهم ورجعيتهم.
هذا الصنف سافر إلى الخارج، ولكنه ما أتانا ليصنع طيارة، ولا سيارة، ولا بنى عمارة، ولا هندس لنا قاطرة؛ وإنما أتانا وقد حلق لحيته وفي زعمه أن هذه اللحية تخلف، وأنها تمثل وجه أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وصلاح الدين وابن تيمية.
وأتانا وقال: إن الثوب القصير رمز الرجعية التي ما زال يعيش عليها الناس في الجزيرة العربية، وأتانا يضحك على جده الذي يقوم الليل ويصوم الإثنين والخميس والثلاثة البيض من كل شهر.
وأتى يضحك على الناس يوم يجتمعون في صلاة الاستسقاء، ويقولون: اللهم اسقنا اللهم أغثنا.
درس هناك في دنفر أو لوس أنجلوس أو باريس أو لندن، ولكنه ما أتانا بتلك الحضارة التي قدموها للإنسان.
نعم قدموا لنا كهرباء، ومكبر صوت، وطاولة وكرسياً، وأسباب المادة، وليته أتانا وقدم لنا ما قدم أولئك للعالم من أسباب مادية، ولكنه أخذ القشور وترك اللباب.
منهم أخذنا العود والسيجاره وما عرفنا نصنع السياره
استيقظوا بالجد يوم نمنا وبلغوا الفضاء يوم قمنا(81/2)
نشأة العلمانية
والعلمنة مذهب ونزعة فكرية نشأت في فرنسا مع الثورة الفرنسية عام (ألف وسبعمائة وتسعة وثمانين ميلادياً) وهذه الثورة استهدفت أول ما استهدفت الكنيسة.
وكانت الكنيسة آنذاك ظالمة آثمة عقيمة متخلفة تعادي العلم، فثاروا عليها، وقد اكتشفوا بعض الكشوفات، فقررت الكنيسة إحراق المكتشفين وشنقهم، وبدأت العلمنة تبني أصولها على فصل الدين عن الدولة حتى تصبح لا دينية؛ والعلم هو السيد، والإله الذي يعبد من دون الله.
وقالوا: إن الدين سبب التخلف؛ لأن الكنيسة منعتنا من الاكتشاف والعلم، وهي كلمة حق أريد بها باطل، لأنهم أجروا هذا القياس على كل دين حتى الإسلام، وقد أخطئوا في ذلك.
ومن أساتذة العلمنة في العالم دوركايم وفرويد ودارون -صاحب النظرية- وماركس صاحب المذكرة في المبدأ الاشتراكي الإلحادي الذي بنيت عليه سبع دول من الحلف الشرقي، وسار على منهجه سوهارتو ووسوكارنو وأبو رقيبة ومصطفى كمال أتاتورك وثلة كثيرة من العالم الإسلامي، فقد تبنوا الفكرة وأدخلوها إلى البلاد، ودخلت العلمنة في الجزائر بعد الثورة الجزائرية على المحتلين، وكان عبد الحميد بن باديس يريد أن تكون لا إله إلا الله و: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] هي التي تسيس الأمة، ولكن أبى أحمد بن بلا المنافق الذي يدعي الآن أنه يعود إلى الإسلام ويتشبث بلا إله إلا الله، وقالوا عنه: إنه يحفظ القرآن في السجن، وكذب عدو الله! لو كان يحفظ القرآن لكان عرف نور القرآن.
ودخلت العلمنة في مصر على يد الخديوي إسماعيل وقد أساء كل الإساءة للمسلمين في مصر.
ودخلت في تركيا على يد الرجل الصنم أتاتورك، ثم قس على ذلك بقية البلاد، وعندنا الآن طابور سادس في بلادنا لهم مكانات، وهم يحملون الفكر الإلحادي، ومنهم من يحمل الفكر البعثي، ويجتمعون في أن الدين لا يصلح أن يقود الحياة.(81/3)
أهم مبادئ العلمانية
وللعلمانيين علامات سوف أتعرض لها وأمور، ولكن أفكار العلمنة تبنى على مسائل:(81/4)
إنكار وجود الله
أولاً: بعض العلمانيين ينكرون وجود الله أصلاً، ولم يسبقهم أحد في هذا حتى فرعون، فهو يثبت وجود الصانع تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أما بعض العلمانيين فيرى أن الله ليس موجوداً وأن الحياة مادة على مذهب الإلحاد.
وأخبرتكم أن ماركس اليهودي هو الذي تزعم هذا الفكر المنشطر، بعضهم يؤمنون بوجود الله لكنهم يعتقدون عدم وجود أي علاقة بين الله وبين حياة الإنسان، وهذه المسألة يتبناها جرباتشوف الآن، وقد نص عليها في البروسترويكا بعد الصفحة الخمسين، فهو يرى أنه يعتنق المسيحية، ولكن لا دخل لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في نظام، ولا في قوانين، ولا في قواعد الدنيا.
وأبو رقيبة كان يخرج على الناس بالكأس في رمضان في التلفزيون التونسي ويشرب أما الناس ويقول: وما علاقة الله في الشعب التونسي أن يصوم؟! نعم كان الصيام يصلح للأعراب في عهد محمد عليه الصلاة السلام، ولكن الآن لم يعد صالحاً.(81/5)
قيام الحياة على أساس العلم المطلق
ومن مبادئهم أن الحياة تقوم على أساس العلم المطلق وتحت سلطان العقل والتجريب، يقولون: العلم إله يعبد من دون الله، وسبب تقدم الشعوب العلم وسبب تأخُرِنا نحن المسلمين تَرْكنا للعلم، وقد أنذر بعضهم أنه سوف تكون دولته دولة علمانية في الساحة وهو كفر بالله عَزَّ وَجَل وإلحاد وزندقة.
وسوف أخبركم وأنتم تعرفون ذلك أن الإسلام أتى بالعلم، وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي فجر كما أمره الله بقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] وقال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] وأن خلفاء الإسلام كانوا يعطون جوائز لمن يكتشف أمراً أو يجيد فناً أو يؤلف كتاباً.
هل العلم في الإسلام إلا فضيلة وهل أمة سادت بغير التعلم
فكان روتينياً عند أهل الإسلام أن يكون العلماء هم المنتجون والمكتشفون والمخترعون وقد قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] وحق على المسلمين أن من اكتشف عندهم اختراعاً أن يبجلوه، ويكرموه، ويحترموه ويعطوه من الجوائز ما يليق به، لكن ضلت العقول.(81/6)
فصل الروح عن الجسد
ومن مبادئهم: إقامة حاجز سميك بين عالم الروح والمادة، والقيم الروحية لديهم قيم سلبية، المادة شيء، والروح شيء، فعندهم فصل المسجد عن الكلية، والمعمل عن حلقة التدريس، والكتاب والسنة عن السوق والشارع والمصنع والمعمل؛ حتى يكون الإنسان إذا أراد أن يصلي يأتي يسبح وحده، فإذا خرج إلى المصنع فلا بأس أن يخرج ملحداً مرتزقاً.
يقول أبو الأعلى المودودي -جمعنا الله به في دار الكرامة- ذاك الأستاذ الخطير الذي سجن وعذب في سبيل الله:
نفسي فدتك أبا الأعلى وهل بقيت نفسي لأفديك من أهل ومن صحب
أما استحى السجن من شيخ ومفرقه نور لغير طلاب الحق لم يشب
يقول: إن الدين الذي أتى به محمد عليه الصلاة السلام يدخل مع الإنسان في المسجد والمعمل والسوق، إنه يلاحق الإنسان ما دام حياً، ويلاحقه ما دام ميتاً؛ حتى يدخله جنة عرضها السماوات والأرض، هذا هو دين محمد عليه الصلاة والسلام قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].(81/7)
فصل الدين عن الدولة
ومن مبادئهم: فصل الدين عن السياسة وإقامة الحياة على أساس مادي، يقول أحدهم وهو أحد حكام العرب الهالكين: (لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة) وللبرلمان يقول إذا اجتمع مجلس الشعب ومجلس الشورى ومجلس الوزراء لا تأتوا بلفظ الإسلام، وكان يمزق الأوراق إذا رأى عليها بسم الله الرحمن الرحيم.
وكان يقول لأحد وزرائه لما أتى يقرأ وقال: الحمد لله قال: اخسأ، وهذه حرب وطعنة نجلاء في ظهر كل مسلم على وجه الأرض، فنسأل الله أن ينصفنا من هؤلاء المرتزقة الزنادقة.
فعندهم فصل الدين عن السياسة، وسير أمور السياسة بكل شيء لكن لا يجوز لك أن تتكلم في السياسة إذا كنت دَيِّناً، ولا يجوز للسياسي أن يتدخل في الدين إذا كان سياسياً، ما لله لله وما لقيصر لقيصر.(81/8)
نشر الإباحية
ومن مبادئهم: نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية وتهديم كيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الاجتماعية، وقد سلف يوم السبت أن ذكرت في محاضرة (الفتاة السعودية والعلمانيون) بعض ما ينشره في صحافتنا المحلية والعالمية بعض أبنائنا الذين كتبوا عن المرأة، وكان أحدهم يقول: أبشركم أن أفنان أصبحت مضيفة الطيران في الخطوط الجوية العربية السعودية، وهذه أفنان سعودية، ويبشرنا أن هناك دوراً للأزياء فيها اختلاط في جدة، ويخبرنا أن المرأة السعودية أصبحت تتكلم مع الرجل، وأصبحت تريد الحرية -الحرية المزعومة في ذهنه- حرية أن تكون عارضة أزياء وأن تكون خادمة، وأن تكون متعرضة في الليالي الحمراء والسكر وفي الدكاكين والمحلات، وأن يكون لها ألف عاشق وألف حبيب.
رضينا بك اللهم رباً وخالقاً وبالمصطفى المختار شهماً وهاديا
فإما حياة نظم الوحي سيرها وإلا فموت لا يسر الأعاديا
ومن معتقداتهم تكثير الإباحية، ولذلك الدول العلمانية في الدول العربية أنشأت دوراً للدعارة، وجعلت على ميمنة المسجد وميسرته دارين للدعارة، وسمح للزنا ببطاقات وبإذن رسمي من تلك الدول التي يحكمها دين العلمنة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.(81/9)
معتقدات العلمانية في العالم العربي والإسلامي
أما معتقدات العلمانية في العالم الإسلامي والعربي التي انتشرت بفضل الاستعمار والتبشير فهي:(81/10)
الطعن في حقيقة الإسلام
الأول: الطعن في حقيقة الإسلام والقرآن والنبوة، طعناً مباشراً أو غير مباشر، وكم جلسنا معهم، وسمعنا أفكارهم في الغرب، وكانوا يرون أن القرآن للعبادة وللصلاة وللتراويح، لكن لا يجوز للقرآن أن تطوره إلى المادة، ويضحكون على الشيخ عبد المجيد الزنداني حين يتكلم في الإعجاز العلمي للقرآن، ويضحكون على بعض العلماء عندما يستنبطون من القرآن أحكام الحياة وأحكام الحاكمية، وكانوا يستهزئون بـ سيد قطب يوم أخرج الظلال تلك القنبلة الذرية التي حركت الآلاف من الناس لتردهم إلى منهج الله عَزَّ وَجَلَّ، وتخبرهم أن الإسلام هو المعهود.
لقد بلينا بعلمانيين يقولون: الإسلام لا يتدخل في شئون الحياة أو النظام أو المعمل أو المدرسة، وإنما الإسلام في التمائم، وزيارة القبور والغسل للجنابة والحيض والمسبحة، أي: أن الإسلام للدراويش فقط وللمتطرفين المتزمتين، أما أن تطور الإسلام حتى تخاطب الدكاترة في الجامعات والمعامل والمصانع والكليات، فقد أخطأت نصيبك: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227].(81/11)
شبهة أن الإسلام قد استنفد أغراضه
الثاني: الزعم بأن الإسلام استنفد أغراضه، وهو عبارة عن طقوس وشعائر روحية، وسمعت زعيماً يتكلم مرة في الراديو بعد صلاة العشاء وهو يقول: الإسلام أخذ حقبة من التاريخ وأدى دوره الكامل، وهو مشكور في تلك الحقبة، فكانوا يصفقون له، ومعنى كلامه أنه قد انتهى دور الإسلام وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو والصحابة قد أدوا دور الإسلام وانتهى، فهل تريد أن تأتي بالإسلام من عند محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تضعه في عصر الذرة والاكتشاف والتكنولوجيا؟! وهل تريد أن تحدثنا بالإسلام حتى اليوم؟!(81/12)
شبهة أن الفقه الإسلامي من القانون الروماني
الثالث: الزعم بأن الفقه الإسلامي مأخوذ من القانون الروماني، بل بعضهم يقول: كثير من زاد المستقنع من قواعد حمورابي ومن شريعة حمورابي، سبحان الله! الله عَزَّ وَجَلَّ يأخذ أحكام كتابه وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الرومان؟! ومن الذي خلق الرومان؟! ومن الذي بدأ صناعتهم وثقافتهم إلا الواحد الديان؟!(81/13)
شبهة أن الإسلام لا يتلاءم مع الحضارة
الرابع: الزعم بأن الإسلام لا يتلاءم مع الحضارة، ويدعو إلى الخلف ويمثلون التخلف في مظهر المسلم، ويرون أنه لا يستطيع أن يؤدي دوره في الحياة، وأنه لا يستطيع أن يكتشف ويتعجبون إذا اكتشف مكتشف وعنده لحية، قالوا: سبحان الله! يكتشف وعنده لحية؟! كيف يستطيع وعنده مسواك أن يكتشف؟!(81/14)
رمي الزي الإسلامي بالتخلف
الخامس: يزعمون أن الزي الإسلامي يمثل التخلف، أي: أنه زي الدول النامية، بحيث يلبس غترة وثوباً، ويكون قصيراً وعنده سواك ومسبحة، وهذا لا يستطيع إلا أن يصلي، أو يصلي الاستسقاء، ويصوم رمضان، أما أن يكتشف فلا يستطيع، وبالفعل نحن الملامون وليس الإسلام، فإننا الذين تركنا للعالم بأن يسمونا دولاً نامية، وأهل رجعية وتخلف، وجلسنا في هيئة الأمم ومجلس الأمن في المجالس الأخيرة، ومندوبونا كانوا ينامون في وقت انعقاد القمة وانعقاد مجلس الأمن، وكانوا يوافقون برءوسهم فقط، وإذا اعترضوا لا يقبل اعتراضهم ولا نقدهم.
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستشهدون وهم شهود
وأصبحت الدول التي تملك حق النقض (الفيتو) خمس كافرة كلها بالله، وليس فيها دولة إسلامية: أمريكا وفرنسا وبريطانيا والصين والاتحاد السوفيتي، وكانوا يضحكون ويقولون: بعض ممثلي الدول العربية كان نائماً في آخر الجلسة في مجلس الأمن، فقد كان ساهراً في السباحة، وفي المرقص، وأتى وحضر فنام، فقام من الجلسة فقال: موافق موافق، ولم يصوت على القرار الآن، لكن أخذها عادة أنه يوافق سواء سمع له أو لم يسمع، لذلك تسمع في الأخبار قالوا وأجمع مجلس الأمن على كذا وكذا، وخالفت دولتان ولكن هذه المخالفة ليس لها أثر، ولكن حينما يأتي الرد على إسرائيل يجمع مجلس الأمن وتخالف دولة ممن يملك حق النقض الفيتو فلا يسري القرار ويعتبر لاغياً.
ومليار مسلم في الهند وباكستان وأفغانستان وتركيا والعرب والأكراد والمصلون والصائمون ليس لهم نقض ولا فيتو إنما جزاهم الله خيراً الذين أدخلونا مجلس الأمن! ودعونا نرى المباني وناطحات السحاب، وأجلسونا هنا، فهذا: {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4]!!
أما الجذور الفكرية فتعرفون أنه العداء المطلق للكنيسة، تلك الكنيسة المتخلفة التي لا نقرها، وكان لليهود دور بارز في جعل العداء بين الدين والدنيا، حتى ينفصل الدين بما فيه الإسلام عن مسيرة الناس، حتى يأتي الإنسان كافراً ملحداً يكتشف الذرة ويصور الضوء وهو لا يؤمن بالله تعالى.
متعجب مني بأن خالفته وأنا على أخلاقه متعجب
أخشى أراه لأن جلدي ناعم يسبى إذا والاه جلد أجرب(81/15)
أوصاف العلمانيين
أيها الأحباب:
جمعت لأهل العلمنة وللعلمانيين عشرة أوصاف أو اثني عشر وصفاً في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، وأنتم تأخذون هذه الأوصاف وتفصلون هذه الثياب على أجسامهم، وسوف تجدونهم في الساحة، وإذا رأيت آيات المنافقين في القرآن، فهم أهل العلمنة، فهم أناس لا يستطيعون مجاهرتك بسب الدين.
قد يحضر المجلس، ويأخذ معه مسبحة، ويسبح أمامك إذا نظرت إليه، ويمدح أبا بكر وعمر وعثمان، ويقول: إن الصلاة طيبة، والمسجد فيه خير وهناك صحوة والحمد لله، ولكن في باطنه نار تغلي على الإسلام، وهو يريد أن يهدم المسجد ويمزق المصحف.(81/16)
اللمز والسخرية
{يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ} [التوبة:79] يلمزون الشباب، وهيئة الإذاعة البريطانية بين الفينة والأخرى ترشق علينا بالمتطرفين، وأستاذها مايكل هو من أصل أمريكي يهودي من دنفر من كلورادو وأظنه أزيل الآن، ولكن أتى بعده يهودي -إن مات عير فعير في الرباط- وهو الذي يتولى نشرة الأخبار.
ولذلك إذا قام شباب الصحوة يطالبون بحقوق في بعض الشعوب الإسلامية يقول: وقام بعض المتطرفين وضربوا بغازات مسيلة للدموع وبهراوات، شباب في تونس ما توا جوعاً وأرادوا الخبز فطردوا فقال: وقام بعض المتطرفين، حتى الذين يلاحقون الخبز وحتى من يطلب بيع الخيار، والسُكَّر متطرف!
وهذه مسئولية الصهيونية العالمية.
وأتى السذج في بلاد المسلمين فنقلوها، حتى إن كبير السن الذي عمره سبعون سنة كان يصلي ويصوم ولا زال يصلي ويصوم لكن من تموج الإعلام ومخلطات الإعلام أصبح بعضهم يعادي ابنه إذا تطوع، وقال: سوف تصبح متطرفاً! لا تقصر ثوبك كن وسطاً كذا لا تأخذ الدين بعروقه؛ لأن الدين هو أن تمشي حالك وتكون مناسباً، لا تجرح مشاعر الناس، أما أن تشدد في الدين، فلا أريد أن تتشدد في الدين صل مثل الناس واخرج مثل الناس واستمع الغناء والله غفور رحيم (ومع الخيل يا شقرا) (وحط رأسك مع الرءوس) وقد دخل هذا في أذهان العامة ممن يسمع إذاعة لندن، حتى العجائز عندنا، وذلك من عدم مصداقية الإعلام، وأصبحت العجوز تأخذ حبر قلم وتحطه على الإذاعة -إذاعة لندن- وهذا أمر معروف، والعجائز لا يسمعون الآن إلا إذاعة لندن، لم يعودوا يثقون إلا في هذه الإذاعات، فيسمعون ويثقون، ويقولون: هذا هو الخبر الصحيح، وتأتي العجوز في الصباح مع العجوز وكالة يونايتد برس، وتنشر عليها أخبار احتلال العراق والكويت، وتحلل تحليلاً سياسياً، وتقوم هي وإياها عن المشكلة وقد أنهتها والحمد لله.
فهؤلاء يلمزون ويسخرون، يقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79] يقول أهل السنة: لا يسمى الله ساخراً، لكننا نطلق هذه الصفة بقيد، الله يسخر ممن يسخر منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فماداموا يسخرون فالله يسخر منهم، يقول أبو الطيب المتنبي في رجل كان أبكم وأبو الطيب هذا فصيح وشاعر عجيب يملك الكلمة ويسير الحرف، وهو صاحب الأبيات التي يحفظها رعاة الغنم عندنا التي يقول:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
وهو القائل في قصائده المشهورة:
تحملوا حملتكم كل ناجية فكل بين علي اليوم مؤتمن
إلى آخر ما قال لهذا الأبكم:
تعيرنا لأنا غير بكم وتهجونا لأنا غير عور
يقول: تعيرني وتسبني لأني غير أبكم، تريد أن أكون مثلك، وتسبني لأني غير أعور، تريد أن أكون أعور، وهذه مشهورة عند الناس وعند العرب، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر أن هؤلاء فيهم صيغة اللمز، قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1] وهو الذي يهمز ويلمز، والهمز: تكسير الحاجب، وكم رأينا في مجلس من مجالس هؤلاء العلمانيين إذا دخل شاب عليه سيما الخير والصلاح والصدق مع الله عَزَّ وَجَلَ؛ غمز لأخيه في المجلس، انظر تفرج انظر للشكل رقم سبعة عشر، وهذا موجود، ونقول لهم:
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
وأقول:
إن الشكل سبعة عشر هو الذي يفتح الدنيا إن شاء الله، وهم الذين كان منهم صلاح الدين الذي دمر الصليبيين، وفتح بيت المقدس، ومنهم قطز الذي دمر رءوس التتار، ومنهم أبو بكر الذي قاتل المرتدة، ومنهم طارق.
ولكن هؤلاء العلمانيين لما وقفوا أمام جولدا مائير فروا وتركوا أحذيتهم في سيناء، وكانت تضحك عليهم، وأرجوكم راجعوا مذكرات جولدا مائير وهي موجودة اسمها الحقد، وانظروا من صفحة مائة وثمانية وستين، تضحك علينا وتضحك على العرب؛ لأنها كانت تقود مليونين والعرب كانوا مائة مليون.
واليوم تسعون مليوناً وما بلغوا نضجاً وقد عصر الزيتون والعنب(81/17)
الاستهزاء بالإسلام وأهله
فهم يستهزءون بالثياب، والشكل، والديكور، والصلاة، والحركة والمشية، والدين حتى الذكر، ووجدت أحدهم -عليه من الله ما يستحق- يستهزئ بعلماء الحديث، وهو حداثي مشهور يقول: حدثتني عمتي أن خالتها حدثتها عن جدتها قالت: يعني: الحديث النبوي، عندما يقول: البخاري: حدثنا فليح، فهذا السند، هو السنة والقوة والعمق والأصالة ويقول البخاري حدثنا علي بن المديني، قال: حدثنا سفيان، أو كما قال، فيستهزئ من هذا الطريق ومن هذه الأحاديث.
وكان هناك فاسق في المدينة المنورة من العلمانيين جلس في الفسحة مع الطلاب -درس في أمريكا - فقال: حدثنا صنيهيت، قال: حدثنا شليميح أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -هذه من الفكاهات التي يتزندق بها- جلس مع أصحابه فقال: أتدرون ما البيبسي؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أتدرون ما السيكل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: قوموا غربت وجوهكم لا تعرفون السيكل والبيبسي، وهذه يستباح بها دمه في الإسلام، ولا يصلى عليه ولا يكفن ولا يدفن في مقابر المسلمين.
ويقول الله في العلمانيين عن هذه المسألة: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14 - 15] إذا جلسوا مع المؤمنين والمشايخ وكبار السن في القرية قالوا: نحن مؤمنون، والحمد لله، والله يغيثنا ويرزقنا وإياكم الصلاح والتوفيق، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ويهز رأسه عند الموعظة وتدمع عيناه ويعصرهما، ولكن ليس فيهما دمع، وإذا أتى إلى زملائه في المقهى ومع البلوت والكيرم، قالوا: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] بهذه الشلل المتخلفة: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:15 - 16].
وهذا هو الغبن، فأكبر غبن في الحياة هو غبن هؤلاء؛ لأنهم فقدوا أكبر شيء في الحياة -الدين- وأكبر شيء يعتز به الإنسان.
يا أيها الإخوة: شباب البلاشفة الحمر الروس يسحقون تحت الدبابات والمجنزرات في أفغانستان، وتشدخ رءوسهم على جبال أفغانستان من أجل مبادئ لينين واستالين، واليهود يقتلون في سيناء، والصليبيون شذر مذر في العالم من أجل مبادئهم، وأنتم يا حملة الرسالة ألستم أولى أن تتحملوا الاستهزاء والسخرية في سبيل إقامة لا إله إلا الله؟! يقول أبو الطيب:
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
وعاد هؤلاء من الغرب ناقمين على الأجداد والجدات وعلى الأخوال والخالات، وسبب نقمتهم عليهم أنهم متمسكون بالقديم الذي تركه هؤلاء.
من دنفر قد أتى في دينه قد عتا
إلى متى ذي الصلاة إلى متى هل أتى
{هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان:1]؟! وبعضهم له مقولة كفرية يقول إلى متى: تبت يدا أبي لهب وتب، يعني متى تنتهي.
مازال هذا السجود من عهد تلك الجدود
متى يزول القديم فقد سئمنا السكوت(81/18)
الإعجاب بحضارة الكفر
اجلس مع المسمومين فكرياً المنهزمين روحياً، وقل حدثني عن أمريكا أو بريطانيا أو فرنسا، أتريد أن يحدثك عن الانفصام الأسري الذي يعيشه الغرب؟! الانفصام الأسري الذي تحدث عنه سيد قطب وأبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي في ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ أتظن أنه سوف يتحدث لك عن قيمة رخص الإنسان هناك وعن ارتفاع قيمة الكلب؟
أصبح الكلب يغسل ويطيب وتعلق السلاسل في عنقه ويجلس مع السائق في السيارة! أيحدثك عن المسارح التي أصبحت المرأة فيها أقل من الحذاء، وأرخص من الصفر، وأصبحت زانية عاهرة في كل مكان؟ أيحدثك عن الانتحار؟ قرأت وما أزال أقرأ، وأنا معجب بذلك الكتاب، وعسى الله أن يعينني أو بعض طلبة العلم على أن أنسج على منواله، مذكرة وهو كتاب دع القلق وابدأ الحياة الذي ألفه دايل كارنيجي اللماح الذكي، فهو كتاب أعجب من العجب، بيع منه ثمانية ملايين نسخة، وطبع ست عشرة طبعة، ويتحدث عن المأساة التي يعيشها الغرب هناك وعن حالات الانتحار، أظنه يقول: في كم ثانية تحصل حالة انتحار في أمريكا، وعد في ولاية تكساس كم عدد الذين ينتحرون، وبإمكانكم أن تراجعوا هذا الكتاب، وهو يدعو إلى الإيمان، لكن على طريقة المسيحيين.
ومحمد الغزالي المفكر العصري له كتاب اسمه جدد حياتك حاول أن ينسج على منواله وللشيخ عبد الرحمن السعدي العلامة الكبير -رحمه الله- كتاب اسمه الوسائل المفيدة للحياة السعيدة.
وفي نظري أن كتاب دع القلق، يحتاج هذا إلى أن تؤخذ الأحكام التي فيه والقواعد والتجارب التي أتى بها علماء الغرب مثل وليم جيمس وألكسس كارل، وغيرهم وتوضع مع الأحاديث النبوية والقصص والآيات ثم تقدم في كتاب، وإن شاء الله يحصل هذا.
ومقصودي من هذا: أن هؤلاء لا يتحدثون عن الانتحار، أو الزنا، أو الفحش، أو التدمير الذي بلغه أولئك، لكن يحدثونك عن ناطحات السحاب.
يقول: في تكساس عمارة ارتفاعها مائة وستة وخمسون دوراً، وهناك في الأرض ممرات أرضية، وضغطنا لأحد الأزرار فنقلنا مرة واحدة أربعين دوراً، وننزل في عربية وتحملنا إلى القطار، وهناك الطائرة لا تحجز من قبل، تأخذ أنت كأنك في سيارة تذكرة وتركب.
وحضاراتهم من أكثر من مائتي سنة، ويذيع أنهم تطوروا تطوراً عجيباً.
لكن لماذا يعجب بحضارة الكافر المادية، ولا يخبرنا بما بلغوا إليه من التردي في الروح؟ يقول الله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] والله يقول عنهم: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] ويقول سبحانه عن حضارتهم: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35].
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
يعجبون بحضارة الكافر، والله يقول: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} [التوبة:55]؟! أتعجب من إنسان ما عرف مصيره؟! يعملون هم لستين سنة فقط لكن عالم الغيب لا يعرفونه، فهم محجوبون عنه تماماً، فأي حضارة تنبني على كفر وإلحاد لا خير فيهما.
ومن أحسن الكتب التي ألفت في هذا الباب كتاب أبي الحسن الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين فهو من أروع ما كتب! على يد رجل جرب الثقافة الغربية وعرفها، ومن أحسن من يتحدث عنها رجلان؛ أديب شاعر ومفكر كاتب؛ أما المفكر الكاتب فـ سيد قطب في الظلال، وأما الأديب الشاعر فـ محمد إقبال، وكلا الرجلين توافقا حتى يقول سيد قطب: ربما توافقنا حتى في الألفاظ، وكلا الرجلين سافر إلى الغرب ودرس هناك وحضّر شهادته من هناك، ولكنه عاد بقضية أن الإسلام هو دين الله الحق في الأرض، وأنه لا سعادة للإنسان إلا بالإسلام.
أخبرنا بعض الأساتذة الدعاة الكبار أن رجلاً إنجليزياً من بريطانيا كلف بأن يبحث بحثاً للدكتوراة في كتب التفسير، وأخذوا عليه موثقاً ألا يقرأ الظلال لـ سيد قطب، يقولون اقرأ التفاسير كلها: تفسير الخازن وفتح القدير لـ الشوكاني وتفسير ابن كثير وتفسير ابن جرير وتفسير الطبري، لكن احذر الظلال فهو ليس من مهمتك، وأحب شيء إلى الإنسان ما منع منه، فأنت إذا منعت الطالب أن ينظر إلى النافذة في وسط الحصة جلس دائماً ينظر إلى النافذة كلما غفلت عنه، اترك طفلك في الغرفة، ولا تقل له: لا تخرج فسوف يبقى، لكن قل له: لا تخرج، ولئن خرجت لأضربنك فسوف يخرج.
يقول علي بن أبي طالب: [[لو منع الناس من فت البعر لفتوه]] يعني: لو أتيت الناس تخطب يوم الجمعة تقول: لا تفتوا البعر فهذا حرام؛ لخرجوا من المسجد وفتوه، وقالوا: ماذا فيه؟ أي أن الإنسان مغرم بالمخالفة فأتى هذا الرجل، فقال: لماذا منعوني من سيد قطب في الظلال وذهب إلى القاهرة، وأتى أول ما أتى المكتبة قال: أين الظلال لـ سيد قطب؟ قالوا: هذا هو، وكان يجيد اللغة العربية فقرأ لرجل يستفيض إلهامات، فقد درس سيد قطب ثقافة موسكو بل جلس فيها فترة، وفي دنفر فترة، وفي أوروبا فترة، فتكلم معه وحاوره في الكتاب -وسيد قطب قتل كما تعرفون- وبعد ما وصل سورة الأنفال أعلن هذا الرجل إسلامه، وألغى رسالته، وأنا أدلكم أن تقرءوا هذا الكتاب كثيراً.(81/19)
فرحهم بالدنيا
العلمانيون يفرحون بمقدراتهم الدنيوية ومعطياتهم الأرضية: الشهادات، التخصصات، السيارات، القاطرات، لكن لا يفرح أحدهم بركعتين في الليل، ولا بقراءة القرآن، ولا بالتأمل في آيات الله، ولا بالصدقة، يقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] ويحبون الدنيا حباً جماً أكثر من الدين قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58] لا يحبون إلا المادة فقط، ويموتون للريال، ويعبدون الدينار من دون الله، لكن مسألة العبادة ليس لها ذكر، ولذلك لا تسمع في مجالسهم فضل قيام الليل، أو فضل السواك، أو الذكر، أو التسبيح، يقول: حدث بهذا في المسجد، حدثنا الآن عن الحياة، وهذا لأن الإسلام مفصول عندهم عن الحياة.(81/20)
الاهتمام بالمظهر دون المخبر
الاهتمام بالمظهر على حساب المخبر، أي: أنك ترى الإنسان منهم في أحسن الثياب في الليل والنهار، حتى ربما إذا نام نام وهو كذلك، لكنه من الداخل مهدم لا يحمل عقيدةً ولا مبدأً ولا نوراً، فهو كالبيت المطرز من الخارج، ولكنه من الداخل خرابة، قال تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].
قال سبحانه في العلمانيين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4].
وتجد أن أهل الجهاد والتضحية، والبذل، وقيام الليل فيهم ضمور، وربما يظهر عليهم الجهد والإعياء، لكن هؤلاء الفرد منهم، كالبغل يهد الجدار، لكن قلبه ممسوخ، تموت طفلته فينهار مثل الصبي، وينقل إلى المستشفى مباشرة، ليس عنده رصيد من الإيمان، لا يعرف كلمة إنا لله وإنا إليه راجعون.
يقول سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4] يخافون من الحروب؛ لأن الحرب لو قامت عنده في الخليج لا تتركه يأكل بطاطس، ولا يشتري خياراً من السوق، ولو وقع بركان في الفلبين فإنه ينتفض ويتابع الأخبار: يا الله سترك، يا الله حوالينا ولا علينا، ومن أجل ماذا؟ لأن عنده عشرين عمارة وعشرين سيارة وعشرين مرتباً، وعشرين دخلاً، أما المؤمن فقد باعها بجنة عرضها السماوات والأرض، ومعنى ذلك يقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا} [التوبة:52]
أحد المفكرين وصل إلى الصحراء المغربية ووجد جماعة من المسلمين البربر يرعون الغنم هناك، وهو يريد أن يدفع القلق، وقد ذكره دايل كارنيجي في آخر كتابه دع القلق، قال: فعشت معهم سنة طعمت الإيمان، وطعمت الاستقرار، وذهب عني القلق، قالوا: كيف؟ قال: رأيت بعضهم تمر عليه الريح فتأخذ نصف الغنم، وتموت نصف الغنم، يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويواصل يرعى البقية، تموت طفلته فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون حسبنا الله ونعم الوكيل، ويدفنها، ويعود وهو سعيد يتبسم.
فأقول: إن هؤلاء يخافون: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4] الأحداث تزعجهم، ولذلك لا يريدون أن يفادوا بأرواحهم، ولا بمقدارتهم، وهم خائفون من كل ما يسمعون، ويريدون أن تبقى الأمور هكذا بدون تحرك، على خلاف المؤمنين، فالمؤمنون أمرهم سهل.
وليس على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما(81/21)
موالاة أعداء الله ومعاداة أولياء الله
ومن صفاتهم: تولي أعداء الله عَزَّ وَجَلَّ ومعاداة أولياء الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وقد ذكر هذا عنهم في القرآن، يقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [النساء:51 - 52] فالعلماني يتولى الكافر ويقول: هو أحسن من المؤمن سبيلاً، وكم نسمع من التعليقات، ينظر إلى الشارع فيقول: الشارع في واشنطن أحسن من شارعنا هذا المكروه، وشبكة الكهرباء هناك أحسن من هنا، والناس مشيهم هناك أحسن، وهؤلاء لا يعرفون المشي ولا يعرفون الجلوس، الناس والعالم يتطورون وهؤلاء مازالوا على حالتهم القديمة، كلما تكلمنا له بشيء نقلنا إلى الغرب، ويرى أن منهج الغرب أسد وأحسن، حتى تجدوا الآن أنهم يدعون إلى أن تقود المرأة السيارة، ولعلكم سمعتم بالأخبار الأخيرة التي وقعت، وأخذوا لا فتات، وكان من الكلمات المؤسفة التي أصبحت منهجاً لبعض المتخلفين كلمات نزار قباني -حاسبه الله- يقول للمرأة:
يجوز أن تثوري
يجوز أن تعربدي
يجوز أن تخرجي إلى السكة
كسلة السيف عريانة
وتولي أعداء الله عَزَّ وَجَلَّ هزيمة نفسية أصبنا بها في العموم الغالب، والآن انظر وأنت في المطار، تريد أن تركب -مثلاً- ومعك في السير خواجة أو أي غربي أو أي كافر تجد حتى الجندي من الهزيمة النفسية التي يحملها قد يقدم عليك الخواجة: هلو مستر خواجة، بينما إذا أتى إليك أنت -وأنت ابن لا إله إلا الله وأنت معه وحبيبه وأخوه- يتقطب جبينه في وجهك، ولا يتعامل معك بالتي هي أحسن، ورأينا بعض الناس قدم علينا نساء غربيات في الطابور، فقلت له: على الأقل هم نساء، إذا كنت لا تعاملنا بلا إله إلا الله وتعاملنا بلا إله والحياة مادة، على الأقل نحن رجال فأدخلنا، قال: هؤلاء الأجانب لهم علينا حق الاحترام والتقدير، فنحن ننظر إلى المستعمر أنه الذي لا يغلب، وكأن هذا الأشقر ملك نزل من السماء، ويقول سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء:139] {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8] لا يدرون بهذا، ولا يدري بها إلا أهل المسجد من أمثالكم يا طلعات الخير ويا سيما الفضيلة ويا منائر الحق.(81/22)
الكذب في الأقوال
ومن صفاتهم: الكذب، فتجده يحلف لك خمسين يميناً وهو كاذب ولا يكفر ولا يستغفر؛ لأنه نقض عهده مع الله، والله يقول للرسول عليه الصلاة السلام وقد كذب بين يديه ثلة من الناس: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43] وقال سبحانه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] فالكذب وحلف الأيمان عندهم سجية، وعجباً تسمع بعض الناس يطلق طلاقاً، ثم لا يسأل عالماً ولا يستفتيه، وتبقى زوجته معه في البيت، أي: أن بعضهم أصبحت معاشرته لزوجته زنا ولا يسأل، وهذا من اندثار الإيمان ومن الغزو الفكري المرسوم في ذهنه الذي أحبط مسعاه، وأغطش نوره.(81/23)
الكسل عند أداء الصلوات
ومن صفاتهم: عدم التحمس في النوافل والعبادات وعدم وجود محبة لما افترض الله عَزَّ وَجَلَّ، يقول الله عنهم في القرآن: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] فربما صلى ولكنه كسول وبه إعياء وتذمر، وغضب حتى من الصلاة، ومن المسجد، ودائماً يتخذ أعذاراً، مرة يتكلم عن المؤذن أنه أخر الأذان أو الإمام أنه طول أو قصر، أو المسجد ليس على القبلة، فيأتي بمشكلة في المسجد، لأنه متضايق من المسجد، وقد يصلي أحياناً للمناسبات وللظروف {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] فالمؤمن قوي وله إرادة.
عندنا شاب سافر إلى بريطانيا يحمل لا إله إلا الله، ويحمل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] له تخصص يدرس هناك، لكن أسكنوه مع عائلة، وفي هذه العائلة عجوز بريطانية، فكان هذا الشاب مع صلاة الفجر يأتي إلى الصنبور في الثلج والجليد ويصلي الفجر، فتقول العجوز: لو تأخرت قليلاً قال: لو تأخرت ما قبل الله صلاتي، لا بد أن أصلي في هذا الوقت، قالت: هذه إرادة تكسر الحديد.
دعها سماوية تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوس
فهكذا تكون الهمم، وهذا هو انتصار الإرادات، وهذا هو الاكتساح العارم الذي يخشاه الغرب والشرق من الإسلام، فهم يسمونه المارد، ويسمونه العملاق، لأن هذا الإسلام لا يرضى فقط أن يكون في الزاوية.
إسلامنا لا يستقيم عموده بدعاء شيخ في زوايا المسجد
إسلامنا نور يضيء طريقنا إسلامنا نار على من يعتدي
فهذا الإسلام أراهم النجوم وسط النهار، دخل الفرنسيون الجزائر وحاولت الثورات: ثورة علمنة، وثورة شيوعية أن تخرج الفرنسيين فما استطاعت، فأتى عبد الحميد بن باديس -العالم الكبير السلفي- وأقام دعوة على لا إله إلا الله، والمصحف، وأخرج شباب الجزائر من المساجد، وقامت المعركة وقدم الجزائريون مليون شهيد، وأخرجوا فرنسا.
ولذلك الآن الصحوة في الجزائر لما سمع بها ميتران هذا رئيس فرنسا قال: سوف نوقفها عند حدها، فقال له: قائد الصحوة الجزائرية هناك: إن كنت شجاعاً فأت إلينا، فسوف نريك أياماً مثل أيامك الأولى، فقال لسان حاله: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.
والإسلام رأوه في أفغانستان ماذا فعل بالروس؟ وكيف ردهم خائبين؟ ونحن نحتاج الإسلام أن يأتي إلى فلسطين مرة ثانية ليخرج اليهود خارج المرمى.(81/24)
الرياء
ومن صفاتهم: أنهم يراءون الناس بأعمالهم حتى إن بعضهم ما تراه يصلي -والعياذ بالله- إلا ليراه إمام المسجد والجيران.
وقد ذكروا في بعض الأماكن أن بعض الناس كانوا متحمسين للصلاة، وكانوا يحضرون عند صلاة الفجر في سجل عند الإمام، فإذا سلم قال: فلان، قال: حاضر، فلان قال: حاضر، فأتى في صباح جمعة فحضر هذا الإمام، وغاب أحد المصلين، فلقيه مع صلاة الجمعة في الظهر، قال له: أين أنت يا فلان لم تصل معنا؟ قال: والله قال لي فلان جاري: إنك لن تحضر صباح الجمعة، أي لك لو كنت تحضر لكنت حضرت.
أي: أن ذكر الله عليهم ثقيل، ولذلك إذا أتى إلى المسجد يقول: سبحان الله! ثم يجلس ربع ساعة، ويقول: الحمد لله يلتفت إلى الناس، فلا يعجبه الوضع في المساجد ولا في المجالس أو الطريق أو السيارة أو الطائرة، ولذلك تشاهد كثيراً من الناس -وهذا من الغزو الفكري- إذا استقل الطائرة أخرج الجرائد فيقرأها ظهراً لبطن من أولها إلى آخرها حتى إعلانات الأسمنت، ومن ضيع تابعية، ومن غير اسمه، وإعلانات العطور، والأزياء، ودرجات الحرارة، والصيدليات المناوبة، والسهرة هذه الليلة، ثم يطويها ويأخذ الثانية، وهكذا حتى تصل الطائرة، وما فتح مصحفه، وما تأمل كتاب الحديث، أو استغفر أو كان له ورد من الأذكار، وأنا لا أقول: لا تقرءوا الصحف والجرائد بل لابد من قراءتها، حتى نعرف الواقع، لكن أين الإيمان؟ أين الرصيد؟ أين القرآن؟ أين دستور الحياة؟
محمد إقبال شاعر الباكستان دخل على نادر شاه حاكم أفغانستان وقال: والله يا نادر! لن تجد طعم السعادة والحياة حتى تقود أفغانستان بهذا المصحف، فهو وثيقة سماوية.
فتحنا بك الدنيا فأشرق نورها وسرنا على الأفلاك نملؤها أجراً
سمعتك يا قرآن والليل واجم سريت تهز الكون سبحان من أسرى(81/25)
قلة الفقه في دين الله تعالى
ومن صفاتهم في القرآن قلة الفقه في دين الله، قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7] لا يفقهون دين الله، وليسوا مستعدين أن يفقهوا، فهم تعلموا كل جزئيات الحياة وكل تخصصات الدنيا، ولذلك بعضهم عنده موهبة في أمور الدنيا، ولكن لا يعرف من الدين شيئاً، حتى المسح على الخفين والتيمم، فلا يعرفها ولا يجيدها، وليس له استعداد أن يستفتي أو يسأل؛ لأن من علامة الإيمان الفقه في دين الله عَزَّ وَجَلَّ، ومن علامة الإقبال على الله عَزَّ وَجَلَ أن تسترشد في أمور دينك وأن تسأل أهل العلم والفضل والخير، يقول عليه الصلاة السلام كما في الصحيحين من حديث معاوية: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} ومفهوم المخالفة في الحديث أن الذي لا يريد الله به خيراً لا يفقهه في الدين.
فإذا رأيت الإنسان لا يتفقه في الدين فاعلم أن الله لا يريد به خيراً، ولا يريد هو خيراً لنفسه.
فهؤلاء العلمانيون ليسوا مستعدين للتفقه في الدين، أما علوم الدنيا فقد امتلئوا منها وقد توسعوا فيها، وقد أجادوها كل الإجادة، لكن علم الفقه في الدين علم الصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة لا يعرف أحدهم في ذلك شيئاً لا قليلاً ولا كثيراً، بل بعضهم الآن يحمل شهادة دكتوراة، وهي معلقة في بيته، ولكنه لا يعرف مدة المسح على الخفين -وهذا موجود- وبعضهم لا يعرف سنية التيمم ولا أقل جزئية في الإسلام، فهذا قاسم مشترك بين العلمانيين أنهم قليلو الفقه في كتاب الله ودينه وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(81/26)
السرور بمصائب أولياء الله والتنغص بمسراتهم
ومن صفاتهم السرور بمصائب أولياء الله والتنغص بمسراتهم، فهم يُسَرُّون إذا أصيب أهل الفضل والتقوى والدين والعلم والدعوة، ويضحكون ملء أفواههم، ولكنهم يتنغصون إذا سمعوا بخير ومسرة لهم: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ * قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:50 - 52] فنحن على منهج رباني، إن عشنا فسعداء، وإن متنا فشهداء، وإن أصابتنا بلية فأجر ومثوبة ورفعة وحسن وحط من الخطايا، ولكن أنتم إن متم فكالميتة التي ما ذكيت، وإن عشتم فكقطيع من البهائم.
ولذلك يسر هؤلاء لمصائب المؤمنين والموحدين والمصلين الصادقين أيما سرور، ولكنهم يتنغصون بما يسرّهم.
فإما أن تكون أخي بصدق فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني عدواً أتقيك وتتقيني
فإني لو تخالفني شمالي ببغض ما وصلت بها يميني
إذاً لقطعتها ولقلت بيني كذلك أجتوي من يجتويني(81/27)
الاعتراض على أقدار الله
ومن أوصفاهم: الاعتراض على القدر والتسخط منه، فلا قضاء ولا قدر عندهم، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] {وما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك} {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] لكن هؤلاء يتسخطون.
ويقول الله في القرآن عن هؤلاء العلمانيين: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168] يقولون في معركة أحد لبعض المؤمنين: اجلسوا هنا فسوف تقتلون إذا ذهبتم، فتركهم المؤمنون وخالفوهم وعصوهم وذهبوا، فقتلوا شهداء في سبيل الله، فقال المنافقون: نصحناهم، ولكن رفضوا النصيحة، حذرناهم من القتل ولكن رفضوا أمرنا، يستحقون ما أتاهم، فيقول سبحانه: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا} [آل عمران:168] أي: في المدينة: {لَوْ أَطَاعُونَا} [آل عمران:168] أي: في الجلوس: {مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168] هناك، فقال الله متحدياً لهم: {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168] فأنتم سوف تموتون لكن وأنتم أذلاء على الفرش، تموتون وروائحكم منتنة، وأما أنس بن النضر وعبد الله بن عمرو ومصعب بن عمير والشهداء، فماتوا ولكنهم أخيار مرفوعون عند الله عَزَّ وَجَلَّ، فكلمهم الله بلا ترجمان.
يقول أحد المسلمين من المهتدين في الشهادة:
أيا رب لا تجعل وفاتي إذا أتت على شرجع يعلى بخضر المطارف
ولكن شهيداً ثاوياً في عصابة يصابون في فج من الأرض خائف
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف
وإقبال شاعر الباكستان يقول: نحن أمة رفعنا أرواحنا بين أكفنا لنسلمها لك شهداء:
أرواحنا يارب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا
وكأن ظل السيف ظل حديقة خضراء تنبت حولنا الأزهارا
أليس هذا هو الإيمان؟ أليست هذه هي الأصالة التي تركها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نفوس محبيه وأتباعه؟!(81/28)
إقصاء الإسلام عن الحياة
ومن مبادئهم: إقصاء الإسلام عن الحياة.
يريدون أن يبقى الإسلام في المسجد، وأن يبقى الإسلام مسألة شخصية تتعلق بالإنسان فقط، أما إدخال الإسلام في الحياة فهذا لا يجوز عندهم، ويفصلون الإسلام كما ذكرت عن المصنع والمعمل والمدرسة والسوق والشارع، وهذا هو الكفر بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فالإسلام دين ودولة، والإسلام مدرسة ومسجد، ومصنع ومعمل، وصلاة واستشهاد: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] ويسميها سيد قطب ولله درّه: (جاهلية الفن) وجاهلية الفن هي مخالفة أمر الله في الرسم، لأن: رسم الأرواح محرم عندنا، فلنا في الإسلام أن نرسم الشجر والمدر والحجر والزهر والليل إذا أقبل، وأن نرسم النجوم والقمر والنهر، إذا تدله بالماء، والأغصان، والروضة الفيحاء، ولكن لا يجوز لنا أن نرسم ذوات الأرواح، لكن جاهلية الفن تقول: يجوز هذا.
وهناك جاهلية الأدب ولنا أن ننشد الشعر، وأن نسمع جميل القول، وأن نتأثر بالكلمة الطيبة المؤثرة، وهناك شريط اسمه (دور الأدب في معايشة النكبات) على من وجد فرصة أن يستمع إليه لمواصفات الأدب المسلم، وهناك محاضرة بعنوان (الأدب الذي نريده) ومحاضرة بعنوان إقبال شاعر الحب والطموح؛ وقصدي بهذا أن نعرف مسارات الأدب الملتزم لئلا نعيش جاهلية الأدب.
ما هي جاهلية الأدب؟
جاهلية الأدب أن يأتينا أديب كافر مثل نزار قباني أو أدونيس قطع الله دابره، فكثير منهم سب الله عَزَّ وَجَلَّ، وأحفظ نماذج من ذلك، أو رجل يدعو إلى الفاحشة والجريمة، فهذا أدب جاهلي، وهذا أدب محرم، فالأمة لابد أن تعيش الإسلام في الأدب والفن والصناعة والهندسة والاقتصاد والسياسية؛ لأن الإسلام يحكم مسار الأمة، فليس إسلام المسجد فقط، وليس إسلام الخطيب يوم الجمعة فحسب، بل إسلام الحياة وإسلام كل شيء، يقول سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:44 - 45] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] والله يقول مُقْسِماً سبحانه جل قَسمه وجل اسمه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] فوالله لا يهتدون ولا يجدون طعم السعادة حتى يتبعوك أنت أيها العظيم.
وأنا كررت في محاضرات أن مايكل هارف الأمريكي صاحب العظماء المائة جعل الأول محمداً عليه الصلاة السلام، وهذا حق رغم أنفه.
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول
فهذا المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد منك أن تعيش الحياة، والله يقسم أنك لا تجد طعم السعادة والإيمان حتى تتبعه وتحكمه في كل شيء، فتحكمه في لا إله إلا الله، وتحكمه في الصلاة، واللحية، والثوب، وتقليم الأظافر والاقتصاد، والإعلام والأدب والحياة كل الحياة، إن كنت تريد أن تكون متبعاً للرسول عليه الصلاة والسلام.
ولكن العلمانيين قالوا: الإسلام في المسجد، وليس في المصنع، وقالوا: الإسلام عند صلاة الجنازة، وقالوا: ليس له حكم في الإعلام، وقالوا له: نعم.
عند الرقية على المصروع، وقالوا له: لا.
عند الاقتصاد، وقالوا للإسلام: نعم.
عند المسبحة، وقالوا للإسلام: لا.
عند الحاكمية، فبتروا الإسلام من مصدره وصلته وطريقه وعمقه؛ فحسبنا الله ونعم الوكيل.
أيها الفضلاء: أقول لهذا المرتدي لهذا الثوب والذي نحت فكره من أفكار الآخرين وتنكر لعقيدة المسلمين:
أحاكم عقلك المنهوب جهدي إلى قاضي الهداية والمعالي
أشرع محمد فيه التباس ومنزله عظيم ذو جلال
أو كما قال الآخر:
تركت الردى خلفي لمن قل دينه ويممت قلبي في حماك فيمما
وخالفت من قد خالف الله جهرة وفارقت من قد لابس الحق مسلما
وعسى الله أن يرينا وإياكم الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
والمقصود من هذه المحاضرة أمور ثلاثة:
الأمر الأول: إظهار الجاهلية وتعرية أهل الجاهلية كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
الأمر الثاني: أن نغرس اعتقاداً جازماً عند الناس أن القرآن يلبي حاجة الناس، وأنه يعايش المشكلات العصرية التي يعيشها الناس والتي دائماً تعيش ظروفهم ودائماً تلابسهم.
الأمر الثالث: أن نكون على بصيرة ممن يعايشنا، وممن نعيش معه، حتى نعرف عدونا من صديقنا.
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر جدير أن يقع فيه
وما بقي من وقت فللأسئلة، وشكر الله لكم اجتماعكم وإنصاتكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(81/29)
الأسئلة(81/30)
غزو الطفل المسلم
السؤال
كما حرص الأعداء على هدم الأسرة المسلمة لم يغفلوا عن الطفل المسلم، وإن في دعاية البسكويت وأفلام الكرتون وغير ذلك في التلفزيون ما يندى له الجبين مما رأيناه ولاحظناه، فنرجوكم أن تتكلموا عن مثل هذه الأمور وتنبهوا عليها، أو تخصصوا لها محاضرة؛ لأنها من الأمور التربوية الخطيرة التي أتتنا من الغرب؟
الجواب
الحمد لله، قد تُعرض لهذا قبل فترة بمحاضرة بعنوان (الرسول عليه الصلاة والسلام مع الأطفال) وما ذكره الأخ ذكر هناك، وذكر في كثير من المحاضرات، ونبهنا الأخ على بعض المسائل لا بأس أن أعيدها هنا، وهي مسألة (غزو الطفل المسلم) ومن أدواتهم في ذلك فيلم الكرتون، ومنتجته شركة إيطالية يهودية، وهو يربي الأطفال على ناحيتين:
الناحية الأول: ناحية عبادة الدولار والدرهم من دون الله عَزَّ وَجَلَّ، وتحبيبه إلى المال، حتى تجد في القفز والأخذ والعطاء درهماً أو ديناراً في فمه، ويصعد ويأخذه ويجتذبه من ذاك، ثم يطارد زميله، ثم يقاتله من أجل هذا الدرهم والدينار؛ لأن هذا الفكر ماركسي، وهي تربية الإنسان على عبادة المادة من دون الله.
الناحية الثانية: تربية الطفل على الجنس، فهناك طفل وطفلة، تقبلها وتقبله، غرام وعشق وهيام ومطاردة، والطفل لم تكن عنده الغريزة وما نشأت إلا الآن، فيصبح في ذلك متذكراً متلهفاً، وتغرس مع الأيام في هذا، ولو لم يكن فيه إلا تضييع وقت الطفل عن تربيته بالآيات، وبالآداب الشرعية، وبالأشرطة الإسلامية، وبالأناشيد الطيبة، وبتثقيف لسانه باللغة الحية، لكان أعظم خسارة من هذا الضياع.
وأما الإعلانات والدعايات فهي سموم كثيرة طمت وعمت، كتشهير أعداء الله عَزَّ وَجَلَّ بزعيم مجرم كان قد حارب الإسلام يشهر به في بعض الإعلانات، أو رجل معتوه، أو رجل صاحب فن في فن الغرام والطرب، ولا عب كرة مشهور فيجعل دعاية في شركة أو مؤسسة أو منتدى أو على لعبة أو سلعة تباع، وهذا كله هدم لمؤسسات العقيدة وتشويه لمسار الإسلام في قلوب الأمة.(81/31)
المؤامرة على المرأة
السؤال
الرجاء أن تحدثنا عن المؤامرة التي تحيط بالمرأة السعودية في الوقت الحاضر، وقد كان هناك عدد من الأسئلة يسأل عن صحة ما أذاعته بعض الإذاعات الغربية مثل لندن حول مظاهرات في مدينة الرياض؟
الجواب
الذي وصلنا من هذا كما وصلكم، أن هناك ما يقارب ثلاثة وأربعين امرأة علمانية خرجن في شوارع الرياض يقدن السيارات وينشرن منشوراً هناك يطالبن فيه أن المرأة تقود السيارة، وأذيعت هذه في الإذاعات الأجنبية، ولكن أسأل الله عَزَّ وَجَلَّ أن يكف الشر، وقد تكلم كثير من العلماء والدعاة في المسألة، وأرى أن هذه الفترة فترة تمايز بين أهل الحق وأهل الباطل، ولا يكون هناك فريق ثالث إما يمين وإما يسار، إما أهل لا إله إلا الله، وإما أهل الطاغوت والكفر بمبادئ الله -عَزَّ وَجَلَّ - التي أنزلها على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فواجبنا أن نعود بالأمة إلى لا إله إلا الله وإلى مصداقية لا إله إلا الله في القلوب والميدان.
وقد سلف كما قلت في محاضرة (الفتاة السعودية والعلمانيون) بعض الحقائق عمّا يراد بالمرأة هنا، يراد بها أن تكون مضيفة في الطائرة، ومغنية ومهرجة وتظهر للناس، يراد أن تكون في المصنع، وجندية تحمل السلاح، وتقود الدبابة، وتغامر مع الجيوش والطوابير إلى غير ذلك، ويراد منها أن تكون عارضة أزياء، وخادمة، ووسيلة للدعاية، ولقمة سائغة لكل مهرج ومروج وفاجر.
على كل حال فيما سمعت أن الفتنة انتهت بطريق جيد إن شاء الله، وقد تفاهم ولاة الأمر في هذه المسألة مع هيئة كبار العلماء، وأوقفوا هذا المد، وأخذوا تعهدات على هؤلاء الخاسرات، وأظنها أول نغمة يفعلنها بعد نغمات كثيرة كانت من وراء الستار ليروا أهل الفضل والعلم والصحوة ما هي ردود الفعل هناك؛ وأنا أعرف أن أولئك النساء لسن بحاجة ماسة لقيادة السيارة، ولكن مقاصدهم أعظم وأعظم، وهي أطوار مرت بها المرأة في بعض البلاد الإسلامية.
وكما تعرفون قصة الميدان هدى شعراوي وقصة سعد زغلول مع النساء ومصطفى كمال أتاتورك في أنقرة وغيره بدءوا بهذا، ولكن عسى الله عَزَّ وَجَلَّ أن يوفق القائمين حتى يوقفوا هذا الخطر، وأن يرشد طلبة العلم والدعاة والعلماء أن يقفوا بحكمة أمام هؤلاء الذين يهددون مقدراتنا ومسيرتنا.(81/32)
العلمانيون في بلادنا
السؤال
هل يوجد في بلادنا علمانيون، وهل تنصحنا بعدم قراءة بعض كتبهم؟
الجواب
بلادنا لا تسلم بل عدد العلمانيين كثير، وهؤلاء يتميزون بما ذكرت في المحاضرة من صفات تعرفونها، وهم يسمون في علم الكتاب والسنة المنافقون، ولكنهم هنا يتدبلجون لنا، وقد يلمعون أنفسهم بحضور المحاضرات أو مدح الإسلام في العلانية وقتله في الخفاء، ومدح الدعاة أمامهم وقتلهم في الخفاء، والتهوين من شأن الإسلام أو تحجيم الإسلام بأي وسيلة، وهؤلاء هم قوم كثر.
ولهم كتب في الساحة، ولكن كتب الغرام والهيام والحب والفن عندهم أكثر من الكتب الفكرية؛ لأنها لا تجد رواجاً في هذه المرحلة؛ لأن المسيرة ما زالت والحمد لله قائمة، وأهل الخير وأهل الفضل لهم مسار صحيح ومقدر بإذنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(81/33)
مقالات العلمانيين في المجلات
السؤال
ذكرت في المحاضرة السابقة مقالات في مجلات متعددة مثل مجلة سيدتي وغيرها، وهي مقالات غير طيبة للعلمانيين، فلماذا لا تصادر تلك المجلات؟
الجواب
لا تسألني أنا، بل السؤال يوجه إلى من بيده الحل والربط، أما أنا فلا يطاع لي أمر (لا يطاع لقصير أمر) فأنت اكتب للمسئولين، وقل: أريد أن تُصَادر هذه المجلة لأنكم حريصون على إقامة التوحيد، وعلى حماية الإسلام، ومما يحارب الإسلام والتوحيد هذه المجلات، وسوف يستجيبون لك إن شاء الله.(81/34)
فرق شاسع بين الديمقراطية والشورى
السؤال
يقول أحد الكتاب في إحدى الجرائد اليومية بعد أن تكلم عن الشورى وأنها من الدين الإسلامي: إن الشورى كما نفهمها الفهم الصحيح الذي نؤمن به أنها ديمقراطية الرأي التي نريدها أن تقوم على مبدأ الإسلام بزعمه، فماذا تقولون؟
الجواب
هذا خطأ! وما صدق في هذا؛ بل الديمقراطية تختلف عن الشورى باختلافين اثنين:
أولاً: الشورى في الإسلام هي احترام الرأي: أن يكون لك رأي محترم يسمع منك، وتكون لك مكانة في المجتمع ولا يقتل صوتك، فهذا معنى الشورى، فالشورى كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] أن تضاف الآراء جميعاً إلى أن تكون رأياً واحداً أو بالأغلبية.
أما الديمقراطية فهي تعلن التحرر حتى بين الإنسان وبين الله فيقولون: ليس لله عليك هيمنة، ولا ألوهية، ولا لله عليك حق، وإنما لك حرية حتى مع الله عَزَّ وَجَلََّ.
ولذلك يقول محمد إقبال في بعض رسائله: أرفض الديمقراطية الغربية بوضعها؛ لأنها تخرج الإنسان بهيمة مع الله، أي تجوز الكفر بالله حتى تقول له: صلِّ، يقول: أنا حر مع الله، فهذا معنى الديمقراطية عندهم، فهذا جانب.
ثانياً: أن الشورى في الإسلام تختار أهل الرأي وأهل الحل والعقد، فتختار الفضلاء، وطلبة العلم والعلماء، والصالحين الناصحين المثقفين، ومن له دور في المجتمع وله تأثير.
أما الديمقراطية فهي على حسب الرءوس، ولذلك يقول محمد إقبال: مخ مائتي حمار يساوي عندهم رأساً، وقال: ولكن رأس مائتي حمار لا ينتج لك رأس إنسان.
فهذا ريجن كان ممثلاً -كما تعرفون- من كالفورنيا من روفر سايد أتى حتى أصبح رئيس جمهورية بالأصوات، قد يكون جديراً أو قد لا يكون جديراً فهذه هي الديمقراطية، وهذا كارتر كان يزرع فولاً في جورجيا وأتى حتى صعد، وقد يكون جديراً أو ليس جديراً حتى أصبح رئيساً.
لكن في الإسلام لا بد أن يكون هناك أهل حل وعقد وعلماء وفضلاء وأخيار لا يساوون بغيرهم، يقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] ولذلك كان الصحابة يختارون صفوة هم الذين يدبرون شئون الأمة، لكن تأتي بمعربد وبمتفلت على شرع الله وأهوج وأحمق ومتزلف ومطرب ضائع، وتجعله مثل هذا، وتقول: هو صوت وأنت صوت، وهو مقعد وأنت مقعد، فهذا ليس بصحيح، وهذا هو اختلاف الشورى في الإسلام عن الديمقراطية.(81/35)
الترابي، وعباس مدني، وراشد الغنوشي
السؤال
ما رأيك في الترابي وعباس مدني وراشد الغنوشي من مبدأ العلمانية؟
الجواب
أنا أرجو الله عَزَّ وَجَلَّ أن يكون هؤلاء الثلاثة بعيدين من العلمانية، عليهم ملاحظات، وقد يكون الحديث عن كل واحد على حده، وأما الترابي فقد قرأت له بعض الكتب، وعتبت عليه كثيراً لقلة ثقافته الحديثية والسنة عن الرسول عليه الصلاة السلام، وقلة اطلاعه على السنة، حتى رأيته يرى أن الغناء لا بأس به، والحجاب متساهل فيه، والموسيقى وأمور كثيرة، فعتبت عليه من هذا الجانب.
ومما نعتب عليهم أيضاً موقفهم من العدوان الذي جرى على الكويت فقد أجمعت الأمة على أنه عدوان وبغي، وظالم اعتدى على مظلوم، فالواجب أن يعلنوا أن صدام قد ظلم واعتدى، هذا الذي نريده منهم، وما سمعنا تصريحاً منهم يشير، وقد تكلمت عنهم بعض أجهزة الإعلام وعن بعض كلامهم، وما أدري هل هو ثابت لهم أم لا، لكن ما زلنا نطمح بأن نسمعهم ينددون بالعدوان والطغيان والبغي خاصة أن عباس مدني في الجزائر له كلمة في وسط الناس هناك.
وراشد الغنوشي في تونس له كلمة في الصحوة والترابي في السودان له كذلك مكانة فنريد من هذه الجزئية، وما أريد أن أتكلم بتفصيل؛ لأنه -أحياناً- قد ينقل الكلام إلينا وليس بصحيح ونحتاج إلى تثبت ومجالسة معهم.(81/36)
مؤلفات مصطفى محمود العقاد
السؤال
ما رأيك في مؤلفات الدكتور مصطفى محمود، وخاصة كتاب رحلتي من الشك إلى الإيمان؟
الجواب
مصطفى محمود رأيت له مما يقارب ستة كتب، وبعضها ما يساوي الحبر الذي كتب به، ورأيت منها مقالات كثيرة ولكنها هراء، وكلها في عالم الخيال، ويتكلم عن مسائل تافهة، وقد أغرق في كتاب اسمه الحب في مسألة الجنس إغراقاً عجيباً، وجعل المرأة كأنها مقصودة، وهذه أظنها في فترة حياته؛ لأنهم يقولون: إنه تحسن وضعه فما ندري، لكن على كل حال: كتبه غالبها: {كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] وهو يقول مثلما يقول عمر لابنه حين مر بابنه ومولاه وهم ينشدون شعراً فلما سمعوه سكتوا قال: من الذي أنشد منكما فقالا: ما أنشدنا، قال: لتنشدان، فأنشد الأول ثم أنشد الثاني ليرى صوتيهما، فقال: أنتما كحماري العبادي له حماران قيل له: أي حماريك أحسن؟ قال: هذا ثم هذا.
وأحياناً قد يجيد في عالم المادة، لكنه يخلطها بشكوك وارتياب، وأنا قرأت كتابه هذا فيشكك الإنسان، هو يريد أن يخرج من الشك لكنه يرسب في الشك.
لأن طريقة المناطقة التي سلكوها للإيمان بالله ليست بصحيحة عند العلماء وهي تورث الشك والحيرة، وطريقة القرآن هي الطريقة الصحيحة، التفكر في آلاء الله والذكر والتسبيح وكثرة العبادة، والاهتداء بنور محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].(81/37)
تأثير العلمانيين على التعليم
السؤال
هل ترى أن للعلمانيين دوراً مؤثراً في مؤسساتنا التعليمية؟ وماذا تنصح من يقوم على هذه المؤسسات التعليمية؟
الجواب
أنا أرى ذلك وأرى أن لهم كلمة في هذا ولهم تأثير، ومن تأثيراتهم: تقليص حصص الدين، وإضعاف منهج القرآن، بينما تكثف المناهج الأخرى، والاعتناء بها كما ترون، حصة القرآن الخامسة والسادسة بعد أن ينام الطلاب وينعسوا، تخريج دفع من الثانويات والمعاهد لا يجيدون قراءة القرآن، صرف أوقات القرآن في الحصص الرياضية وأشباهها، جعل المادة الفنية (الرسم) حصتين أو ثلاث حصص والقرآن حصة، اختصار التاريخ الإسلامي وسيرة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخلفاء الراشدين في خمس عشرة صفحة، بينما زنوبيا وسليمان إفرنجية في تاريخه ثلاث وعشرون صفحة، وإظهار الإسلام أنه دين طيب للصلاة والصيام والحج والعمرة، لكن ليس بإظهار الإسلام في الثقافة بأنه الدين الحي الذي يفرض هيمنته في العالم، ويسيطر على الوجود، وبإمكانه أن ينقذ الأمة إلى غير ذلك.(81/38)
ضرورة الإخلاص في العمل
السؤال
أنا موظف على بند الساعة، ولكن عملي لم أخلص فيه نظراً لظروفي القاسية، حيث إني طالب، وعندي أسرة أعولها، وقد حاولت مراراً أن أخلص ولم أستطع أبداً، فهل أترك هذا العمل أم ماذا؟
الجواب
أدعوك أولاً إلى أن تخلص في عملك عل الله أن يثبتك وأن يكون رزقك حلالاً، ولكن إن لم تستطع فأنت أمام خيارين: إما أن تقدم استقالتك من العمل، وهذا الأسلم والأتقى والأنقى لك عند الله، والله يرزقك ما تستطيع، وإما إن لم تستطع هذا فتفاوض مع المسئول المباشر عليك في هذه المسألة، وتخبره بظروفك ليكون على بصيرة، ويعرف الساعات التي تغيبها، ويعرف كيف يتصرف معك، فإن أذن لك فلا بأس في تلك المرحلة.(81/39)
حكم كشف الطبيب على المرأة
السؤال
امرأة مصابة بمرض ويتطلب هذا المرض الكشف على أعضائها التناسلية، وليس هناك امرأة طبيبة متخصصة في مستشفى أصيل، فما هو رأيكم أن يكشف عليها رجل؟
الجواب
لا بد من أن يكون هناك طبيبة مسلمة، ولكن في مرحلة الضرورة القصوى، التي هي مرحلة الضرورة التي ما بعدها إلا الموت فلا تأت بمسألة زكام، وتقول: يكشف عليها الدكتور؛ لأن الزكام ليس ضرورة أو صداعاً في الرأس، أو حرارة أو حموضة، ولا يجوز أصلاً للطبيب أن يكشف على المرأة، فكيف بالأجهزة التناسلية التي هي من أحرج ما يمكن؟! ولكن إذا وصلت قدر الضرورة التي تصل إلى درجة الموت، ولم توجد امرأة وبحث عنها، ولم توجد طبيبة، فإن أهل العلم جوزوا ذلك من باب الضرورات لقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] وحد الموت، مرض مهلك، أما غيرها من الأمراض فلا.(81/40)
حكم الصور في مادة الأحياء
السؤال
تكلمتم عن رسم الكائنات الحية، فما حكم رسم الكائنات الحية في كلية العلوم أو في المدارس كمادة الأحياء، مع العلم أنه في الأبحاث يجب أن تستخدم الرسم في الشكل الخارجي والداخلي سواء، كما تحت المجهر والكليات المختلفة؟
الجواب
أنتم تعرفون تحريم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للصور الحية، ولكن للضرورات هناك بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعض الوسائل التي قد تعفينا من التحريم، وهي مثل: قطع الرأس حتى يكون كأنه شجرة، لحديث النسائي، فإذا أردت أن ترسم بطة لك أن تقطع رأسها، ولا يلزمك أن يكون الرأس موجوداً، وبعض العلماء يقول: يكون هناك فاصل حتى لا تستطيع الحياة لو كانت حية، فأرى قطع الرأس أو رسم جزئية من الحيوان أو رسم الحيوان على أجزاء أربعة مثل الرأس وحده والجناح وحده والرجل وحدها وهكذا، فهذا الذي أراه.(81/41)
كتب حول الواقع
السؤال
هلا ذكرتم لنا -جزاكم الله خيراً- أبرز المؤلفات التي تعين الشاب على معرفة ما يدور حوله، ونرجو من السامعين جزاهم الله خيراً هذه المؤلفات وقراءتها؟
الجواب
الكتاب الأول بعد كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ: (في ظلال القرآن) لـ سيد قطب.
(ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) لـ أبي الحسن الندوي.
(واقعنا المعاصر) للأستاذ المفكر محمد قطب.
(تذكرة الدعاة) لـ أبي الأعلى المودودي.
(مبادئ الإسلام) لـ أبي الأعلى المودودي.
(حصوننا مهددة من الداخل) لـ محمد محمد حسين.
(الغارة على العالم الإسلامي) لمجموعة من الكتبة، وقد ترجمه مجموعة من العرب وهو موجود في الأسواق.
(دمروا الإسلام أبيدوا أهله) كتيب لـ جلال العالم لا بد أن تقرءوه.
(جند الله ثقافة وأخلاقاً) لـ سعيد حوى.
(معالم في الطريق) لـ سيد قطب رحمه الله.
(الإيمان والحياة) للدكتور يوسف القرضاوي، وفي هذه المرحلة أنصحكم بكتاب (عودة الحجاب) لـ محمد إسماعيل وهو من أحسن ما كتب.
وهناك (الحجاب) لـ مصطفى العدوي.
(معالم الانطلاقة الكبرى عند أهل السنة والجماعة).
فهذه تكفي إن شاء الله مع كتب السلف وبالخصوص كتب ابن تيمية وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله رحمة واسعة.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(81/42)
الاستغفار
شهر رمضان شهر التوبة والغفران، ومتى يتوب من لا يتوب في رمضان؟!
ويلي رمضان عيد يفرح فيه الطائعون لله، ويسن في العيد التكبير وصلاة العيد ولبس الجديد والمعاودة للأهل والأقارب إلى غير ذلك من الأحكام في العيد.(82/1)
شهر رمضان شهر الاستغفار
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، ومثلما ما نقول، وفوق ما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالصيام، ولك الحمد بالقيام، عز جاهك، وجلَّ ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت، في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي الجنة رحمتك، وفي النار سطوتك، وفي كل شيء حكمتك وآياتك.
من تقرب إليك قربته، ومن أحبك أحببته، ومن توسل إليك قَبِلته، ومن عصاك أدبته، ومن حاربك كبته.
لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
والصلاة والسلام على من رفعت به منار الإسلام، وحطمت به دولة الأصنام، وفرضت به الصلاة والصيام، والطواف بالبيت الحرام، خير من أفطر وصام، وخير من سجد وقام، رسول البشرية، ومعلم الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
أيها الناس! فإنكم تعيشون الأيام الأخيرة من هذا الشهر المبارك.
شهرٌ رضي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عمن صامه وقامه.
شهرٌ فتح الله به أبواب الجنان، وأوصد فيه معامل الشيطان، شهرٌ أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتقٌ من النار.
شهرٌ أنفاس الصائمين فيه خيرٌ عند الله من المسك.
شهرٌ يعتق الله في كل ليلةٍ منه مائة ألفٍ ممن استوجبوا دخول النار.
شهرٌ جعله الله عز وجل صلةً بين المذنبين وبينه تبارك وتعالى.
والله عزوجل طلب من المكلفين أن يستغفروه بعد كل عمل صالح، فقال للرسول عليه الصلاة والسلام في آخر عمره: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى للحجيج بعد أن قضوا مناسكهم، وانتهوا من أعمال حجهم: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199].
فواجبك في هذه الأيام والليالي، أن تعود إلى الملك العلام، وأن تختم هذه الساعات القريبة الوجيزة، التي بقيت من هذا الشهر الفضيل، ومن هذا الموسم الجليل، أن تختم هذا الشهر بالاستغفار والتوبة، علَّ الله أن يقبلك في من قبل، وأن يعفو عنك في من عفا عنهم، وأن يردك سُبحَانَهُ وَتَعَالى إليه.(82/2)
استغفار الأنبياء
إن الأنبياء عليهم السلام سلفاً وخلفاً استغفروا الله عزوجل على حسناتهم وبرهم وصلاحهم، قال نوح عليه السلام لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10 - 12].
وقال آدم وزوجه لما أذنبا: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
وقال عز وجل: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3].
وقال سليمان عليه السلام وقد رأى ملكه وجيشه: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [صّ:35].
وقال إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82].(82/3)
الله الغفور الرحيم
والله عزوجل وعد المستغفرين ألا يأخذهم بنقمة في الدنيا إذا استغفروا الله، فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33].
ونادى الله الناس جميعاً، فقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مادحاً من استغفر يوم يذنب، ومن تاب يوم يسيء, ومن راجع حسابه مع الحي القيوم، فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136].
ومن صفات الله عزوجل الحسنى أنه تواب رحيم: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25].
وقال لبني إسرائيل: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مخبراً أن من اجتنب الكبائر غفر الله له الصغائر، فقال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31] وقال جلَّ ذكره: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:64] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:110].
فسبحان من بسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار! وسبحان من بسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها! والله يقول في الحديث القدسي: {يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم}.(82/4)
رمضان والتوبة
متى يتوب من لا يتوب في رمضان؟
ومتى يعود إلى الرحمن من لا يعود في رمضان؟
ومتى يراجع حسابه مع الواحد الديان من لا يراجع حسابه في رمضان؟
ينسلخ الشهر ولا يمحى الذنب.
ينسلخ الشهر ولا تسارع في فكاك رقبتك من النار.
أليس من الحسرة والندامة أن يعفو الله عن مئات الألوف ثم لا يعفو عن البعيد؟!
أليس من العار والخزي والخسار والتبار أن ينسلخ الشهر ثم لا تكون من الذين رضي الله عنهم -ونعوذ بالله من ذلك- والأعمال بالخواتيم؟!
فسارع في فكاك رقبتك في هذه الليالي، واغتنم كثرة الصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكثرة التوبة والاستغفار، وبادر بالحسنات؛ فمن يدري لعلك أذنبت ذنباً كبيراً لا يغفر إلا في هذه الليالي، ولعلك أسأت إساءة كبرى لا يمحوها إلا التوبة في هذه الأيام، فبادر في فكاك رقبتك، وارفع يديك إلى الله عزوجل فإنك لا تدري لعل رمضان لا يعود إليك مرة أخرى.
فوداعاً يا شهر الصيام والصلاة! ووداعاً أيتها الأيام العطرة التي عشناها في ذكرٍ وتلاوة! لا ندري أتقبل منا فنخرج يوم العيد في فرح وسرور وحبور ونور، أم ردت أعمالنا علينا -والعياذ بالله- فنخرج في ويل وثبور، وفي حسرة وندامة.
فإن السعيد من أسعده الله وكتبه في صحائف الخلود والسعادة، والشقي من أخزاه الله وغضب عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
إذا عُلم ذلك -يا عباد الله- فأوصي نفسي وإياكم بالتوبة النصوح، وكثرة الاستغفار في هذه الليالي، ورفع يدي الضراعة إلى الحي القيوم علَّ الله أن يغفرلنا؛ فوالله! ليس لنا من الأعمال ما نتقدم به إلى الله، كل أعمالنا خطيئة وذنب، كلنا فقرٌ ومسكنة، كلنا عجز وتقصير، نخشى من أعمالنا أن يشوبها الرياء والسمعة فيبطلها الله أولاً وآخراً.
ليس منا شيء، إن فعلنا من الحسنات فقد قابلها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بنعمٍ مدرارة ٍغزيرة لا نقوم بشكرها أبداً.
يظن العبد يوم يصلي ساعة، أو يقرأ، أو يذكر الله؛ أنه فعل شيئاً عظيماً.
وأين ساعات النعيم؟!
وأين ساعات الأكل والشرب؟!
وأين ساعات اللهو واللعب؟!
وأين ساعات الترح والمرح والذهاب والمجيء؟!(82/5)
الله الله في بقية رمضان
فيا أيها المسلمون! يا من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً الله الله في هذه الليالي! بقي ليلتان أو ثلاث وما أدراك ما يكتبك الله فيها، من يدري لعلك أن تكون شقياً فيمحوك الله ويكتبك سعيداً، لعلك أن تكون بعيداً فيقربك الله ويجعلك سعيداً، لعلك أن تكون من المغضوب عليهم -نعوذ بالله من ذلك- فيتولاك الله في من تولى.
وإنما الأعمال بالخواتم لا تحتقر شيئاً من المآثم
ومن لقاء الله قد أحبا كان له الله أشد حبا
وعكسه الكاره فالله اسأل رحمته فضلاً ولا تتكل
ولتك بالخوف وبالرجا ولا تيئس وللنفس فجاهد عجلا
وإن فعلت سيئاً فاستغفرِ وتب إلى الله بدار يغفرِ
وبادرن بالتوبة النصوحِ قبل احتضار وانتزاع الروحِ
تالله لو علمت ما وراءكا لما ضحكت ولأكثرت البكا
قد حفت الجنة بالمكارهِ والنار بالذي النفوس تشتهي
مع كون كل منه ما لدينا أدنى من الشراك في نعلينا
فسبحان من بسط ميزان العدل للعادلين! وسبحان من نشر القبول للمقبولين! وسبحان من فتح باب التوبة للتائبين!
فمن مقبل ومدبر، ومن سعيد وشقي، ومن تائب وخائب.
فنسأل الذي بيده مفاتيح القلوب، أن يفتح على قلوبنا وقلوبكم، وأن يعتق رقابنا ورقابكم من النار، وأن ينقذنا من عذاب جهنم، وأن يجعلنا ممن قبل صيامه وقيامه وذكره وتلاوته.
ربنا تقبل منا أحسن ما عملنا، وتجاوز عن سيئاتنا: {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين؛ فاستغفروه وتوبوا إليه.
إنه هو التواب الرحيم.(82/6)
مع قدوم العيد
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً وشاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله! في صباح يوم العيد، يوم تطل شمس العيد، ويبزغ نورها، وترسل أشعتها، في ذاك الوقت الباكر السافر الساحر، تتنزل الملائكة من السماء زرافات ووحداناً، تتنزل ملائكة الرحمن في ثوبٍ مهيبٍ، جميلٍ بهيج، تتنزل الملائكة في صباح عيد المسلمين ومعها الصحف، فتقف على السكك والمنحنيات والطرقات ومداخل الشوراع تسجل الذاهبين والآيبين إلى المصلى، وترسل إليهم الهدايا المعنوية، والجوائز الرمزية التي كلفهم الله بإعطائها العباد، فمن آخذٍ جائزته بيمينه فمقبول ومدخول ومستأذن، ومن مطرود خائب خاسر نادم.
والملائكة يوم ينصرف الناس من المصلى يشهدون للمقبولين بالقبول، وللمردودين بالرد، فلا إله إلا الله كم من مقبول يوم العيد فرح مسرور! ولا إله إلا الله كم من مطرود يوم العيد خائب مثبور!
فمن قضى الشهر في الصيام والقيام والذكر والتلاوة والعبادة والخشوع؛ قبله الله يوم العيد، وألبسه جديد التوبة مع جديد الثياب، وجعله من أهل دار المغفرة والرضوان.
ومن خيب أوقاته، وضيع عمره في رمضان، وعصى الله واجترأ على حرمة الشهر، وتعدى حدود الله وانتهك محارم الله، لا ينفعه -والله- لبس الجديد، بل يعود خائباً نادماً حاسراً فاشلاً.(82/7)
ماذا في يوم العيد؟!
يوم العيد سرٌ من أسرار هذه الأمة، ففيه تخرج الأمة الإسلامية معلنة تضامنها وخلودها وانسجامها وتكافلها.
يوم العيد يكون ترنيمنا ونشيدنا الخالد: الله أكبر كبيراً، والله أكبر من كل قوة، والله أكبر من كل هيئة، والله أكبر من كل كيان، الله أكبر له البقاء والرفعة، الله أكبر له الثناء والمجد، الله أكبر له البقاء أبداً سرمداً.
والتكبير يوم العيد سنة سنها صلى الله عليه وسلم في المناسبات وغيرها، فكأننا نقول للناس: يا من تكبر وتجبر! الله أكبر منكم، ويا من عتا واستكبر! الله أكبر منكم، ويا من غفل وسها وتمرد على الله! الله أكبر منكم.
ويوم العيد نلبس الجديد؛ ومعناه: أن نظهر النعمة التي أنعم الله بها علينا، فنقول بلسان الحال: يا رب! هذه نعمك علينا، يا رب! هذا اللباس الذي ألبستنا، ونقول للناس: انظروا لنعم الله علينا، وانظروا إلى فضله وكرمه فعند البيهقي بسند حسن قال صلى الله عليه وسلم: {إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده} وخرج صلى الله عليه وسلم يوم العيد ليصلي بالأمة الإسلامية، وليقود الجماهير لخطبة عاطرة رضية؛ فلبس حلة حمراء من أحسن الحلل؛ ليظهر جمال الإسلام.
ويوم العيد نتوضأ ولا بد، ويغتسل من أراد منا، وبعض أهل العلم جعل الغسل سنة؛ لنخرج طيبين ونقول: يا رب! طهرنا الأعضاء فطهر المعنويات، طهرنا الظاهر فطهر الباطن، طهرنا ما كشف للناس فطهر ما خفي عنهم.
ويوم العيد نخرج من طريق والأحسن أن نأتي مشاة؛ لنقول لكل عدو في الإسلام: ها نحن الأمة المسلمة خرجنا تائبين إلى الله، منيبين إليه، شاكرين نعماءه، ونمشي على الأرض وهو الأفضل؛ لنعلن التواضع لله عزوجل، ولنقول: عليك أيتها الأرض نمشي، وعلى ظهرك نأكل ونشرب، وفي باطنك نقبر، فنحن العباد من تراب.
ونعود يوم العيد من طريق ليرانا الذين لم يرونا من الطريق الأولى، فكأننا حشود منظمة، أو كتائب منسجمة، أو أطلال من إطلالات الفجر، أو شعاعات من شعاع النور.
وفي يوم العيد أمرنا صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر؛ لنغني الفقراء، فلا يصح أبداً أن نلبس الملابس الغالية، ونركب المراكب الضخمة، ونسكن القصور الشاهقة، والفقراء يموتون على الأرصفة جوعاً وعرياً وعطشاً.
في أي ملة وأي دين؟! أن يسكن بعض المسلمين بالشقق العامرة الفخمة الفاخرة ويموت بعضهم عرياً وجوعاً وعطشاً.
في أي ملة وأي مبدأ نأخذ ما لذ وطاب من الثياب والطعام والشراب، والأكباد تتمزق جوعاً وعرياً وعطشاً وندماً وبكاءً؟! فقال عليه الصلاة والسلام للفقراء: {أغنوهم في ذاك اليوم} لنظهر الشعائر.(82/8)
من معاني العيد وأسراره
يا أمة العيد! يا من لبسوا الجديد لمولاهم وأعلنوا أنه أحق بعبادة العبيد! من أجلَّ سمات ومعاني العيد، وأسرار العيد؛ أن نعود للحي القيوم، فمن لا يعود إلى الله، ولا يعلن العودة إلى الله فليس له عيد.
لماذا يفرح وقد ابتعد عن الله؟!
لماذا يفرح وقد قطَّع حباله بينه وبين الله؟!
لماذا يفرح وقد أوصد أبواب التوبة بينه وبين الله؟!
فمعنى العيد: أن تعود إلى الله، وتعلن توبتك كما يأبق العبد فيعود إلى مولاه.
ومن معاني العيد: أن نقف صفوفاً في المصلى، وكأننا نقول: يا رب! إن قبلت فزدنا قبولاً، وإن غضبت فأتنا رضاً، وإن أذنبنا فتب علينا.
ومن أجلَّ أسرار العيد: أن نتعاود فيما بيننا ونتزاور، يأتي القاطع الذي قطع أرحامه السنوات المديدة، واستوجب اللعنة العتيدة، فيمحو لعنة الله بزيارة أرحامه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25] فحينها تأتي يوم العيد فتزور أباك وأمك، وأخاك وأختك، وعمك وعمتك، وخالك وخالتك، وكل قريب يقرب منك ووصلك الله بوصيلة منه: {فإن الله لما خلق الرحم وتعلقت بالعرش قال: تكلمي، قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى.
قال: فذلك لك} فأنزل الله الرحم، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله.
فالذي لا يصل رحمه يوم العيد كأنه ما فعل شيئاً.
فإن من أسرار العيد المعاودة؛ أن تدخل السرور على من جعل الله بينك وبينهم وشائج قربى، وأن تريهم نفسك، وأن يسمعوا حديثك وتسمع حديثهم؛ لأن الحياة قصيرة فلا تقطعها بالقطيعة.
ومن أسرار العيد: أن تعود إلى صف المسلمين في الجمع والجماعات، والمناسبات، والأعطيات، والتبرعات، وأن تقف صفاً معهم واحداً، فأنت عضو حساسٌ من أعضائهم، وأنت مضغة من جسمهم، وأنت ذرةٌ من هذا الكيان الخالد.
فمن أسرار العيد أن تعود مع المسلمين في صلاة الجماعة والجمعة، وأن تتوب إلى الله.
بئس قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان.
بئس عبدٍ أتى رمضان فصام وقام وتلا آيات الواحد العلام، فلما سمع إعلان يوم العيد رجع على ما كان عليه من الفرقة فإنه هو البعيد، لما سمع إعلان يوم العيد تمرد على رب العبيد، أليس رب رمضان رب شعبان وشوال؟!
أليس رب رمضان هو الذي يدرك السر وما يدور في الخلدان؟!
أليس رب رمضان هو المطلع على ما تخفيه الضمائر في الوجدان؟!
فيا عباد الله! من عرف الله في رمضان فليواصل معرفته كل آن، ومن تاب إلى الله في رمضان فليواصل توبته إلى الله في كل زمان ومكان.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقنا من النار
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
وارض اللهم عن أصحابه الأطهار؛ من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بكرمك ومنِّك يا أكرم الأكرمين!(82/9)
الظلم ظلمات
بدأ الشيخ خطبته بتلاوة آيتين عن الظلم، وحديثين منهما حديث أبي ذر الذي فيه أن الله حرم الظلم على نفسه وعلى الناس، ثم تلا آياتٍ أخرى عن الظلم، ثم ذكر أربعة أمثلةٍ من حياة الأولين، رأى أنها مناسبة لموضوع الظلم، ثم أورد أثراً عن محاسبة الله للظالمين، وإنصافه للمظلومين.
وفي خطبته الثانية، تكلم عن التوبة، وحث عليها، ثم ختم كلامه بالدعاء.(83/1)
ظلمات الظلم
الحمد لله القائل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
والحمد لله القائل: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].
والصلاة والسلام على رسول الله القائل: {إن الظلم ظلمات يوم القيامة}.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، أمَّا بَعْد:(83/2)
تحريم الظلم
فعن أبي ذر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: {يقول الله عز وجل: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضالٌ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحدٍ منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أوفيها لكم ثم أجزيكم بها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه} رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجة.
وهذا حديث شريف، وهو أشرف حديث لأهل الشام وأهل سوريا، وهذا الحديث قاعدة من قواعد الإسلام وأصل من أصول الدين، وكان التابعون إذا حدثوا به جلسوا على ركبهم من عِظَمِه.
وأكبر قضية في هذا الحديث أن الله عز وجل حرم الظلم على نفسه وجعله بين الناس محرماً، فقال عز من قائل: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:108] وقال تبارك وتعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
فالظلم حرمه سبحانه على نفسه، فلا يظلم ولا يهضم، والظلم أن يزيد في سيئات من لم يسئ، والهضم أن ينقص من حسنات من أحسن، قال عز من قائل: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} [طه:112] والظلم من شيم العبد.
والله عز وجل حذر العباد من الظلم، فأظلم الظالمين هو العبد الذي يشرك بالله، قال الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] قال الصحابة: {يا رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق، فأينا لم يظلم نفسه؟! قال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]} وعلم الله عز وجل لقمان أن يقول لابنه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] ووصف الله العبد بأنه ظالم، فقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] فالعبد ظالم مع الله وظالم مع نفسه وظالم مع الناس.
أما مع الله فصح من الحديث القدسي أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قال: {عجباً لك يا بن آدم ما أنصفتني! -أي ما عدلت بيني وبينك- خلقتك وتعبد غيري، ورزقتك وتشكر سواي، أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك، وتتبغض إليَّ بالمعاصي وأنت فقير إليَّ، خيري إليك نازل وشرك إليَّ صاعد} وصح في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله تبارك وتعالى: يسبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، ويشتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، أما سبه إياي فيدعي أن لي صاحبة وولدا وما اتخذت صاحبة ولا ولداً، وأما شتمه إياي فإنه يشتم الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار كيف أشاء}.
وحذر صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من الظلم بين الناس فقال صلى الله عليه وسلم: {من اغتصب مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان، قالوا: ولو كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: ولو كان قضيباً من أراك} أي ولو كان سواكاً وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من ظلم من الأرض قيد شبر طوقه يوم القيامة من سبع أرضين}.(83/3)
أمثلة على الظلم
وأحد العشرة المبشرين بالجنة وهو سعيد بن زيد شكته امرأة وتظلمت إلى مروان بن الحكم منه، وقالت: غصبني أرضي، فحاكمه مروان بن الحكم، وقال: لم غصبتها أرضها، فدمعت عيناه رضي الله عنه وهز رأسه وقال: والله ما كان لي أن أظلمها بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من اغتصب شبر أرض طوقه من سبع أرضين} فلتأخذ أرضي إلى أرضها، وبئري إلى آبارها، ونخلي إلى نخلها، فإن كانت كاذبة فأعمى الله بصرها، وقتلها في أرضها، فاستمر بها الحال ثم عميت في آخر حياتها وذهبت إلى بئرها لتستقي الماء فتردت ميتةً على وجهها: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
قال أحد التابعين: إذا مررت بأرض قد خربت، وبأهلها قد تفرقوا، وبأنس قد تشعب، وببهاء قد ذهب، وبمال قد فني، وبصحة قد سقمت، فاعلم أنها نتيجة الظلم، ولذلك روى ابن كثير في تاريخه أن البرامكة الأسرة الشهيرة الخطيرة التي كانت تتولى الوزارة لـ هارون الرشيد في بغداد، بلغوا من الترف والرقي أن أحدهم كان يصبغ قصره من الداخل والخارج بماء الذهب والفضة، فكانت تلمع قصورهم مع الشمس، فلعبوا بالأموال وسفكوا الدماء وبغوا وطغوا؛ فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، والرسول صلى الله عليه وسلم كما صح عنه يقول: {إن الله يمهل للظالم فإذا أخذه لم يفلته ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]}.
فسلط الله على هذه الأسرة أحب الأحباب إليهم، وأقرب الأقارب إلى قلوبهم، وأصدق الأصدقاء، وهو هارون الرشيد الخليفة، فأخذهم في ليلة واحدة، فجلد كل واحد منهم ألف سوط ثم قطع بعض أياديهم وأرجلهم وقتلهم شر قتلة، واستولى على أموالهم، وهدم قصورهم، وسجن نساءهم، فدخلوا على شيخ منهم من البرامكة وهو يعذب، ويبكي تحت السياط، فقال له بعض العلماء: ما هذه المصيبة التي حلت بكم؟ قال: دعوة مظلوم سرت في الليل نمنا عنها والله ليس عنها بنائم.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: {دعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين} ويقول عليه الصلاة والسلام -وهو يوصي معاذاً لما أرسله إلى اليمن {اتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب} ولذلك لما أهين الإمام أحمد إمام أهل السنة رضي الله عنه، كان الذي سعى في سجنه وظلمه وجلده أحمد بن أبي دؤاد أحد الوزراء المقربين من الخليفة المعتصم؛ فرفع الإمام أحمد يديه إلى الحي القيوم ثم قال: اللهم إنه ظلمني فاحبسه في جسمه، وعذبه وشرده أيما مشرد، قال العلماء: فوالله ما مات حتى أصابه الله بالفالج في نصفه، فنصف مصاب بالفالج قد مات ويبس نصف جسمه، وبقي نصفه حياً، دخلوا عليه وهو يخور كما يخور الثور، فقالوا: مالك؟ قال: دعوة الإمام أحمد أصابتني، أما نصفي الأيمن فوالله لو وقع عليه ذباب لكأن جبال الدنيا سقطت عليه، وأما النصف الآخر -فوالله- لو قرضتُ بالمقاريض ما أحسست ألماً.
وهذه سنة الله في الأرض، فإن الله دمر الديار، وأهلك الأمم، وأفنى الشعوب لما ظلموا، وهذه سنة محكمة منه تبارك وتعالى.
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: دخل أحد المشايخ الصالحين الأولياء العباد على أحد الطغاة المتكبرين فنازعه في بعض الكلام، وأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، فقام إليه هذا الطاغية فضربه على وجهه، فقال: لطمتني، أسأل الله أن يقطع يدك، قال: اعف عني، قال: لا والله حتى نحتكم عند الله، قال الذهبي: فأثر أنه ما مر عليه أسبوع إلا وقد استولي على ما عنده، وأخذ من قصره، وقطعت يده، وعلقت أمام الناس.
إن الظلم ظلمات يا عباد الله! إن الظلم مسخطة ومغضبة ولعنة، ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لعن الله من غير منار الأرض} ومنار الأرض حدودها التي تقتسم في المزارع والأراضي والأملاك، فمن غيره بغيبة شريكه وعدم رضاه فهو ملعون عند الله عز وجل.(83/4)
عاقبة الظلم
وفي الأثر أن الله إذا جمع الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، حفاة عراة غرلاً بهماً، قد وقفوا في صعيد واحد، وتجردوا للحساب، وتجلى الله تبارك وتعالى على عرشه يحمله ثمانية، فنادى بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد فيقول عز من قائل: {أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ ثم يقول: لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل؛ فيجيب نفسه بنفسه تبارك وتعالى ويقول: لله الواحد القهار، ثم يقول: إني حرمت على نفسي الظلم وجعلته بينكم محرماً، فوعزتي وجلالي لا تنصرفون اليوم ولأحد عند أحد مظلمة، فينصب الموازين، وترفع الصحف، ويحضر الملائكة، ويأتي الظلمة يعض كل ظالم على يده حتى يأكلها؛ فيقتص الله للمظلوم ممن ظلمه، بحكمه العدل كما قد علمه حتى يؤتى بالبهائم فتحشر كالجبال، ما بين الإبل والبقر والغنم والعجماوات والطيور، فيتجلى الله لها فيقتص لبعضها من بعض، حتى يقتص للشاة الجماء من ذات القرن، فإذا انتهى من المحكمة بينها تبارك وتعالى قال لها: كوني تراباً، فتكون تراباً، فيقول الكافر عندها: يا ليتني كنت ترابا!}.
فالله الله! يا عباد الله! فما جف القطر، وما نزعت البركة، وما تباغضت القلوب، وما فسد الأولاد؛ إلا من الظلم.
إن الظلم ظلمات في القلب، وفي القبر والحياة والآخرة.
إن الظلم لعنة ومسخطة.
فالله الله أوصي نفسي وإياكم باتقاء الظلم، في المعاملات والأقوال والأخلاق، فإنكم سوف توقفون عند ربكم في العرض الأكبر: {ولَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
والظلم يدخل في البيع والشراء، ويجمع الله المتماكسين الغششة ليوم لا ريب فيه؛ فينصف الناس منهم، والظلم يدخل فيه ظلم الولد لوالديه وهو العقوق، وقد حرم الله العقوق، ولا يدخل الجنة قاطع رحم، وقال الله عز وجل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].
والظلم يدخل على القضاة والمسئولين؛ فيأتي كل قاض ومسئول -كما صح الحديث في ذلك- مغلولة يده اليمنى خلف ظهره، فإن عدل أطلق الله يده، ونور وجهه، وبشره بالنعيم المقيم، وإن ظلم وفجر كبه الله على وجهه مغلولاً في النار، فنعوذ بالله من الظلم.
سجن هارون الرشيد أبا العتاهية فأرسل له من السجن رسالة يقول فيها:
أما والله إن الظلم شينٌ وما زال المشين هو الظلوم
إلى ديان يوم الحشر نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
فبكى هارون الرشيد حتى فحص برجله، وأمر باسترضائه وأطلقه، ولذلك يقول:
أيا رب إن الناس لا ينصفونني فكيف ولو أنصفتهم ظلموني
سأمنع قلبي أن يحن إليهمُ وأحجب عنهم ناظري وعيوني
ولكن الأسلم لمن ظلم أن يستغفر الله، فما أصابه الظلم إلا بذنوبه، وأن يرجو الثواب والجزاء والأجر عند الله، وأن يتصدق بعرضه على الناس، قال عليه الصلاة والسلام للصحابة: {من منكم مثل أبي ضمضم؟ قالوا: وما فعل يا رسول الله؟ قال: قام البارحة فناجى الله وبكى وقال: اللهم إنه ليس عندي مال أتصدق به، ولا دنيا أنفق منها، اللهم إني قد تصدقت بعرضي على المسلمين، اللهم من سبني أو شتمني أو ظلمني، فاغفر له وارحمه، واجعلها لي أجراً ومثوبة}.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(83/5)
فاستغفروني أغفر لكم
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على نبي الرحمة إمام المتقين، وحجة الله على الناس أجمعين، وهداية السالكين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:(83/6)
الكلام عن التوبة
ففي الحديث المتقدم يقول الله تبارك وتعالى: {يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم} وهذا دل عليه الكتاب والسنة قال عز من قائل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] وقال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] ولذلك أثر عند كثير من أهل العلم أن عابداً من بني إسرائيل عبد الله أربعين سنة، ثم رجع على عقبيه وعصى الله أربعين سنة، ثم نظر إلى المرآة فإذا الشيب قد غطى لحيته ورأسه فبكى، وقال: يا رب! أطعتك أربعين سنة، وعصيتك أربعين سنة فهل لي من توبة؟ فسمع هاتفاً يقول: أطعتنا فقربناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك.
فالله الله في العودة إلى الله دائماً وأبداً؛ فإننا كلنا أهل ذنب وخطيئة، وأهل فحش وفجور، كما قال صلى الله عليه وسلم: {كلكم خطاء، وخير الخطائين التوابون} وقال عليه الصلاة والسلام: {والله لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ آخرين يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم} فما حلنا من ورطة الذنب والخطايا، إلا بالتوبة النصوح والاستغفار صباح مساء، وأن ندرأ بالحسنة السيئة فإن الله مدح قوماً فقال: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد:22] وقال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين فإنكم في الذنب والخطيئة صباح مساء]] وصدق رضي الله عنه فإن عيوننا تذنب وقلوبنا تذنب، وأبصارنا وآذاننا وأرجلنا وأيدينا ولا يغسلها إلا التوبة والاستغفار، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] واستغفروا الله يغفر لكم وقدموا من الحسنات ما يكفر عنكم السيئات، ومن فعل منكم في سابق العمر ذنباً مهما بلغ من الكبائر، ولو كانت كالجبال، فليعلم أن الله يغفرها بعد التوبة، وأن الله لا يتعاظمه شيء، وأن الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم أضل راحلته في الصحراء، ثم وجدها عليها طعامه وشرابه.
فيا فرحة التائبين، ويا قرة عيون المنيبين، ويا سرور المستغفرين لله تبارك وتعالى!
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا}
اللهم صلِّ على حبيبك ونبيك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة، يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم إلى ما تحبه وترضاه، اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم أرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه، وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه.
اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان وفلسطين وفي كل بلد من أرضك يا رب العالمين.
اللهم ارفع رايتهم وثبت أقدامهم، وأنزل النصر والسكينة عليهم، اللهم وحد صفوفهم واجمع شملهم، واجعل سهامهم في نحور أعدائهم، يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلّم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(83/7)
الرحمن على العرش استوى
بعض الناس اليوم إذا خلا بنفسه في مكان ما، ورأى الجدران من حوله والسقف من فوقه ظن أنه ليس هناك أحد يراه، وينسى الله عز وجل الذي يعلم السر وأخفى، وقد بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ليزرع في قلوب الناس مراقبة الله عز وجل، حتى يطيعوه في السر كما يطيعونه في العلانية.(84/1)
عظمة الله
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً، وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السموات والأرض، ولم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، واتخذوا من دون الله آلهةً لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً؛ بلغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، صلى الله عليه وسلم ما هطل المطر، وما غرد البلبل على الشجر، وما اتصلت عينٌ بنظر، وما تألقت أذنٌ لخبر، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى نياط عروقها في نحرها والمخ في تلك العظام النحل
اغفر لعبدٍ تاب من زلاته ما كان منه في الزمان الأول
{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62] من هو الله؟ وما هي أسماؤه؟ وما هي صفاته؟ وما هي آثاره في الأرض؟
سأل موسى عن ربه فقال: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
وسأل إبراهيم عن مولاه، وعن مميته ومحييه، فقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78] {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:81] والله يقول لرسولنا عليه الصلاة والسلام في سورة بالغة التأثير: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:1 - 8].
يعرف الله بنفسه لرسوله صلى الله عليه وسلم، أنه الله الذي لا إله إلا هو {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:6] ما هي آياته؟ وما هي بيناته؟ وما هي علاماته؟
الكون كل الكون، السماء، والأرض، والجبال، والزهرة، والغدير، والجدول، والشجرة، والهواء، والضياء، والسناء تشهد أن لا إله إلا الله.
{طه} [طه:1] من هو طه؟
حرفان متقطعان وليس اسماً له صلى الله عليه وسلم، ليس من أسمائه {طه} [طه:1] ولكن {طه} [طه:1] كـ {حم} [الأحقاف:1] وكأن المراد من هذه الحروف نسج الله القرآن، ومن هذه الحروف تكلم الله بالقرآن، فتعالي يا أمة الضاد، يا أمة الشعر الرقراق، ويا أمة البيان البراق، تعالي أيتها العرب العرباء! تعالي فانسجي من مثل {طه} [طه:1] كلاماً؛ كما يأتي بعد {طه} [طه:1].
{مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} يخرجك بالقرآن من الظلمات إلى النور، ونخرج أمتك بالقرآن؛ من الظلمات إلى النور، ونرفع رءوسكم بالقرآن من أمة كانت تسجد للوثن، وتعبد الصنم، وتقدس الخرافة، وتسجد للوثنية، وتتقلد التقليد، وتركن للأمم، وتقاد بالحبال كما تقاد الشياه، إلى أمة ترفع رءوسها وتسجد لله.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
{مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} لكن والله لتسعد، وليشرح بالك، وليستنير قلبك، وليرتفع رأسك.
وكل مخلوق لا يهتدي بهذا القرآن فهو ملعون القلب، خائن الضمير، فاشل الإرادة، مهزوم العقيدة، متخلف الركب، يتردى في نار جهنم.
وقلب بلا إيمان كتلة لحمٍ ميتة، وعينٌ بلا إيمان مقلةٌ عمياء، وأذنٌ بلا إيمان إشارةٌ خاطئة، ومجتمع بلا إيمان قطيع من الضأن.
كنا أمة عربية ضائعة، لا تعرف شيئاً؛ إنما تعرف الوثن والصنم والزنا والسرقة، والخنا، والغدر، والخيانة، والفحش، والتفلت على أمر الله، فأتى محمد عليه الصلاة والسلام بالقرآن فبعثها من جديد:
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعبٌ من الأموات أحياه
أتى ليقول: إن الربا حرام، والزنا حرام، والكذب حرام، والغناء حرام، وضياع الوقت حرام، والانهزام حرام، والتخلف والتبعية لأعداء الله حرام، وإعطاء الولاء لغير الله حرام.
فماذا فعل؟
في خمسٍ وعشرين سنة ترك أمة رائدة، يأتي علمها ويرفرف على المحيط الأطلنطي بقيادة عقبة بن نافع، وعلمها الآخر يدخل كابول مع قتيبة بن مسلم، والثالث مع محمد بن القاسم في الهند والسند، والرابع مع طارق بن زياد في أسبانيا.
من الذي أخرج العرب؛ أمة الشاة والماعز، وأمة البقر والإبل، وأخرجهم الله من الظلمات إلى النور.
والمقصود: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:1 - 3].(84/2)
خشية الله تعالى
ولكن من يخشى؟!!
الذي يقرأ القرآن، ويعمل بالقرآن، ويعيش مع القرآن، هو الذي يخشى ويسعد، أما من يعرض عن القرآن ويستبدله بالأغنية الماجنة، وبالمجلة الخليعة، وبالتخلف في سمرات اللهو على الشواطئ، وفي الساعات الحمراء، وفي البلوت والزفير والشهيق والتشجيع والتطبيل؛ فهذا مجتمع مدمر، وهذا شباب متخلف، وهذا جيلٌ ما عرف الله ولا عرف مهمته في الحياة.
تعال يا من حاله في وبال ونفسه محبوسةٌ في عقال
يا راقداً لم يستفق عندما أذن في صبح الليالي بلال
روض النبي المصطفى وارفٌ أزهاره فاحت بريا الجمال
هذا الجيل الذي بعثه -سُبحَانَهُ وَتَعَالى- من الظلمات إلى النور هو الذي يهتدي، لكن قل لي بالله، في جيلٍ ما عرف الله؛ لا يعرف القرآن، لا يحفظ من القرآن شيئاً، تلاوته الأغنية الماجنة، ومصحفه مجلةٌ خليعة، وسواكه السيجارة، يتشبه بأعداء الله الكفرة، بأذناب الشعوب، بأقزام المعمورة، بمدمري البشرية، فكيف يسعد؟ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
{إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} [طه:3 - 4] ألا سألت الأرض من خلقها، والسماء من رفعها، والجبال من أرساها، والزهرة من جملها، والنسيم من أجراه، والليل من كساه، والتل من غطَّاه، والغدير من أجراه ووسعه، والمجتمع من حماه؟ إنه سوف يقول: الله.
يقول الله للرسول في أول سورة: {اقْرَأْ} [العلق:1] وهو أميٌ فأين يقرأ قال أهل العلم: يقرأ في الشمس الساطعة، وفي السماء اللامعة، وفي النجوم المتوهجة، وفي التل، وفي الجدول والغدير، وفي الماء النمير؟!
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فيا عجباً كيف يُعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد(84/3)
الإيمان بأن الله مستوٍ على العرش
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] انظر إلى القرآن كيف يصل القلوب بالرحمن، عقيدة لا تعقيد فيها، ولا أحاجي، ولا ألغاز، ولا صعوبات.
عقيدة سهلةٌ كالماء، خفيفةٌ كالهواء، أصيلةٌ كالصدق، واضحةٌ كالفجر.(84/4)
رقابة الله سبحانه وتعالى
الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين على العرش، الذي يعلم نيتك وخطراتك وسكناتك، على العرش.
الذي يعلم صدقك، ويرى نظرتك، وتحركك، على العرش.
الذي يعلم صدق الصادقين، وخيانة الخائنين، وربا المرابين، وزنا الزانين، وكذب الكاذبين، وغش الغشاشين، على العرش.
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل
{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].
جاء عمير بن وهب إلى صفوان بن أمية -جاهليان، مشركان قبل أن يسلما- جلسا عند الكعبة تحت الميزاب، والرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة، وهما في مكة، جلسا يدبران جريمة اغتيال المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ أكبر جريمة في تاريخ الإنسانية، جلسا تحت الميزاب عند الكعبة يتشاوران في قتله صلى الله عليه وسلم، لكن الذي على العرش استوى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] وخطتهم، فكشف مخططاتهم، وأخبر رسوله في المدينة صلى الله عليه وسلم.
قال صفوان لـ عمير بن وهب: اذهب إلى المدينة فاقتل محمداً، دمك دمي، وهدمك هدمي، وأنا أتولى أطفالك ومالك.
فأخذ عمير سيفه، فسمه بالسم الأزرق شهراً كاملاً، ثم ذهب إلى المدينة، ولكن الله يحمي الله رسوله؛ لأنه على العرش، فلما وصل المدينة رآه عمر مقبلاً فيه خيانة وغدر، وحقد دفين، وموت أحمر، فأخذه بتلابيب ثيابه وبسيفه، وأدخله المسجد بالقوة وبالجبروت، وبالصمود والتحدي، وأجلسه عند الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: يا رسول! الله هذا الشيطان أتى لأمر، فقال صلى الله عليه وسلم، وهو يتبسم: {ما جاء بك يا عمير بن وهب؟ قال: جئت لأسلم على إخواني من أسارى بدر وأفديهم بالمال، فتبسم صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذي على العرش استوى أعلمه، قال: بل جلست أنت وصفوان تحت ميزاب الكعبة ليلة كيت وكيت في الليل، وقال لك: كذا وكذا، وقلت له: كذا وكذا، وأتيت لتقتلني وما كان الله يسلطك عليّ قال عمير: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، وأسلم}.
ذهب فضالة أحد العرب، وأخذ خنجراً ليقتل المصطفى عليه الصلاة والسلام، فطاف معه في الطواف، وظن أن الذي على العرش لا يعلم رسوله، لكنه أخبره وقال له: انتبه من فضالة، غادرٌ يريد قتلك، فأتى عليه الصلاة والسلام إلى فضالة وهو يطوف، قال: {ماذا تقول يا فضالة؟ قال: أستغفر الله وأتوب إليه، أسبح وأهلل، قال: تب إلى الله يا فضالة، بل أتيت بخنجرك لتقتلني، وما كان الله ليسلطك عليّ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله}.
جاءت امرأة أوس بن الصامت تشكو زوجها، دخلت على المصطفى عليه الصلاة والسلام وهو في بيت عائشة، فأخذت تخفض صوتها لئلا تسمع عائشة الصوت، ولكن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] سمع الصوت، قالت عائشة: [[والله ما سمعت صوتها، ولا أدري ما قالت، وهي بطرف البيت بجانبي]] وأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1].
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] يراك وأنت وراء الحيطان، والجدران:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها: إن الذي خلق الظلام يرانِ
أتى أحد الأدباء إلى الإمام أحمد، فقال له الإمام أحمد: من أنت؟
قال: أنا أديب أحفظ أشعار العرب، قال: أسمعني بعض الأبيات، الإمام أحمد؛ إمام أهل السنة والجماعة، الذي إذا جلس في الغرفة وحده كفكف جسمه، وتهيأ، وانضبط في جلسته، وخشع لله.
فيقول له أبناؤه: إذا جلست مع الناس جلست مستريحاً منبسطاً، وإذا جلست وحدك كفكفت نفسك، قال: أما يقول الله: {أنا جليس من ذكرني فهو معي}.
قال له الأديب هذا، اسمع يا إمام، يقول الشاعر:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل: عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب
فترك كتبه ومحفظته وقلمه وقام، وأغلق غرفته، قال هذا الأديب: والله لقد سمعت بكاءه من وراء الباب، وهو يردد البيت:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل: عليَّ رقيب
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(84/5)
مراقبة الله لعباده
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وحجة الله على الناس أجمعين، خيرة المتقين، وصفوة الأولياء الصادقين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد: فكما يقول الناظم:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل: عليَّ رقيب
أورد أهل العلم أن رجلاً خلا في غابةٍ بمعصية، وظن أنه لا يراه أحد، رأى الشجر قد غطَّاه فنسي الله، ورأى الليل قد حماه وتكنفه وآواه ونسي الله، فيقول في نفسه وقد أقبل على المعصية: لا يراني أحد، ولا يعلم بي أحد، فسمع هاتفاً يقول: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
مرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه براعي غنم في طريق المدينة، راعٍ يرعى ضآن لكنه يحمل عقيدة الإيمان ويخاف الرحمن، قال له عمر: [[بعني شاةً من غنمك؟ قال: الغنم لسيدي، وأنا مولىً عنده، قال: إذا سألك عن الشاة فقل: أكلها الذئب -يريد أن يختبر إيمانه- قال: لا إله إلا الله، كيف أقول: أكلها الذئب، فأين الله؟!! فجلس عمر يبكي ويقول: أين الله]].
فهل سأل كلٌ منا نفسه أين الله؟
هل سأل المسئول نفسه في الدائرة، وفي العمل، وفي المؤسسة أين الله؟
فحاسب نفسه على الساعات، وحاسب نفسه على المعاملات، وحاسب نفسه على الإجراءات، وهل سائل نفسه عن الناس الذين أوقفهم، وعذبهم على معاملاتهم، وقطع أوقاتهم، وأتعب أحوالهم، أتوا من القرى والبوادي فترك معاملاتهم وإجراءاتهم، وأوراقهم، عذبهم؛ لأنه نسي الذي على العرش استوى.
وهل سأل الموظف نفسه، يوم يأخذ مالاً حراماً، ومرتباً حراماً، ويكدس معاملات الأمة، فيخون الله، ويخون ولاة الأمور، ويعذب الناس والشعب، هل تذكر أن الرحمن على العرش استوى سوف يسأله عن هذه المعاملات، وعن هذه المسئوليات، وعن هذه المرتبات، وعن هذه الأوقات؟ يخرج من على كرسيه فيهيم في السكك والشوارع، أو يأخذ انتداباً فيزيد في الأيام، ويأكل الحرام، ويأتي وما أدى عمله؛ فيطعم زوجته حراماً، وأطفاله حراماً، ويبني بيته من الحرام، ويشتري سيارته من الحرام، هل تذكر أن الرحمن على العرش استوى؟
ويأتي الأستاذ إلا من رحم ربك فيدخل على طلابه، لا يحمل رسالةً، ولا يحمل إيماناً، ولا يحمل مادةً علمية؛ فيزجي الحصص، ويضيع السنة، ويفسد في المادة، ويضيع القلوب، ويخرج وهو لم يقدم لأبناء المسلمين إيماناً ولا علماً ولا نفعاً ولا فائدة، فلماذا لا يتذكر أن الرحمن على العرش استوى.
وقد يوجد من القضاة من يرى الباطل يدندن في محكمته، والزور يُعمل في قضائه، والرشوة تتناول، والظلم والحيف، والاعتداء على الضعفاء والمساكين منتشر، فهل تذكر أن الرحمن على العرش استوى.
ويأتي البائع فينسى الرحمن الذي يعلم السر وأخفى فيغش في بيعه، ويدجل في أخذه وعطائه، مرابٍ، مدلسٍ، مزور، ظن أنه فات عن الله، فوالله ما ذهب عن قبضة الله.
ومقصود رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام أن تعلم الأمة بباريها تبارك وتعالى، وأن تقود القلوب إلى فاطرها، وأن تقيم العدل والحق والسلام في العالم.
وإذا تذكر الناس مولاهم، وتذكروا أنه يراهم، وأنه يعلم سرهم ونجواهم؛ صلح الحال، لكن غابت مراقبة الله وخشيته؛ فأكل الحرام والربا، ووجد الزنا، وانتشر الغناء، وغش في البيع والشراء، وخان الموظف -إلا من رحم ربك- في وظيفته، ودجل في عمله، ونقّص الأستاذ من مهمته، وتفلت الطالب على حصته ودراسته، وذهبت العيون إلى المحرمات، وكثر الفساد، وضاع العباد، وقحطت البلاد.
سددنا ما بيننا وبين السماء بالمعاصي، ثم قلنا: يا رب! يا رب! يا رب! اسقنا، فما كان لدعائنا رداً، وما كان لدعائنا نجاحاً وفلاحاً؛ لأن معاصينا تغدو وتروح، ولأن ذنوبنا تفوح، فنشكو حالنا إلى الله، إلى الرحمن الذي على العرش استوى.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى عليَّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلَّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسانك إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وما ترضاه.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور، ووفقنا للحق، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، ولا فاتنين ولا مفتونين، ولا مضيعين ولا مفرطين يا رب العالمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، ولرفع رايتك.
اللهم انصر المجاهدين الأفغان؛ اللهم ثبتهم، وانصرهم، وارفع كلمة الحق بهم.
اللهم انصر المجاهدين في فلسطين؛ اللهم انصرهم على اليهود، أعدائك وأعداء المرسلين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم رد شباب المسلمين إليك رداً جميلاً، كفِّر عنهم سيئاتهم، وأصلح بالهم، وتقبل منهم أحسن ما عملوا، وتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(84/6)
شهيد القسطنطينية
إن الأمة الإسلامية يجب عليها أن تتبع سيرة نبيها محمد عليه الصلاة والسلام والصحابة الأخيار؛ لأنهم خير قدوة وخير مثال لهذه الأمة في دينها وقيمها وأخلاقها، ولذا فإن في هذه المادة سيرة صحابي جليل، ألا وهو أبو أيوب الأنصاري شهيد القسطنطينية، وقد اشتملت سيرته على بعض المواقف الدالة على محبته للنبي صلى الله عليه وسلم وبيان علو همته في الجهاد في سبيل الله مع كبر سنه رضي الله عنه.(85/1)
هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستقبال الأنصار له
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المصلون: أيها الساجدون! أيها المؤمنون! عنوان هذه الخطبة (شهيد القسطنطينية) من هو هذا الشهيد؟ إنه رجل مؤمن ولد في الجزيرة، قتل في الثمانين وقد اشتعل رأسه شيباً، قتل في سبيل الله تحت أسوار القسطنطينية والمسلم ليس له أرض واحدة، البلاد كلها بلاده لأنها بلاد الله، كما يقول الأول:
أنا الحجاز أنا نجد أنا يمن أن الجنوب بها دمعي وأشجاني
بـ الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط جيراني
وفي ثرى مكة تاريخ ملحمة على ثراها بنينا العالم الفاني
في طيبة المصطفى روحي وا ولهي في روضة المصطفى عمري ورضواني
النيل مائي ومن عمَّان تذكرتي وفي الجزائر آمالي وتطوان
فأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
فمن هو هذا الرجل الشهيد؟ إنه الذي استقبل الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة من الإرهاب فر من السيوف التي تقطر حقداً ودماً، باع أهل مكة أملاكه وحاصروه وآذوه وشتموه ووضعوا الشوك في طريقه وسلى الجزور على ظهره، وضاقت به الدنيا بما رحبت، فخرج يحمل مبادئه معه أبو بكر الصديق.(85/2)
خروج الأنصار مع الظهيرة ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم
استمر عليه الصلاة والسلام سائراً إلى المدينة، إلى الأنصار إلى أحباب الله إلى كتيبة الإسلام، أخذ عليه الصلاة والسلام عشرة أيام في السفر يقتلع أقدامه من حرارة الصحراء، وقد امتلأ جوعاً، وتعباً، وظمأ، وسهاداً، ومشقة، لكن كلها في سبيل الله، كان الأنصار يخرجون مع الظهيرة جميعاً عن بكرة أبيهم ليستقبلوا أعظم فاتح عرفه التاريخ، وأعظم رجل مشى على الأرض، أما الرجال فيخرجون السيوف والرماح ليحيون الرسول المنتظر، وأما النساء فكن يصعدن على أسطحة المنازل علهن أن يظفرن بنظرة ولو واحدة إلى وجه العظيم، وأما الأطفال فكانوا ينتشرون كالدرر والجواهر على الأرصفة ينشدون ويرددون:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحباً يا خير داع
وفي ظهيرة من الأيام الخالدة التي لا تنسى أبداً وإذا بالصائح على أسطحة المدينة قدم الرسول عليه الصلاة والسلام، فخر الأنصار بسيوفهم كأنهم خرجوا من المقابر، بعثوا من جديد وسال الحب في دمائهم من جديد، وعادت لهم الحياة من جديد، يقول أحد الناس في الرسول عليه الصلاة والسلام:
سافرت نفسه الكريمة فيضاً فالليالي محسودة بالليالي
وعلى يثرب أهازيج نصر طلع البدر نظمة الأطفال
واستفاقت على صباح جديد ملء آذانها أذان بلال
وصل عليه الصلاة والسلام على ناقته يقول أنس: [[والله الذي لا إله إلا هو ما كنت أظن أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت الأنصار يبكون من الفرح لما قدم الرسول عليه الصلاة والسلام]].
طفح السرور علي حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني(85/3)
النبي صلى الله عليه وسلم يحيي قبائل الأنصار
ووقف الرسول عليه الصلاة والسلام يحيي القبائل قبيلة قبيلة، يأخذون زمام ناقته ليكون ضيفهم فيقول: {دعوها فإنها مأمورة فإذا هبطت الناقة في مكان فأنا معها، فيمر ببني بياضة فيخرجون بالسيوف والموت يقطر من عيونهم نصرة لله ولرسوله، فيقولون: أنت ضيفنا قال: دعوها فإنها مأمورة، ويشير لهم ويتبسم لهم، ويشكرهم، ويمر ببني عمرو بن عوف وقد اصطفوا على جنبات الطرق يحيونه قالوا: أنت ضيفنا قال: دعوها فإنها مأمورة، وتخترق الصفوف وتمر إلى أن تأتي بني النجار فيخرج أطفال بني النجار يقولون:
نحن بني النجار يا مرحباً بالجار
أو كما قالوا في نشيدهم، فيتبسم صلى الله عليه وسلم، ويُرفع له الأطفال على ناقته فيقبلهم ويتركهم صلى الله عليه وسلم -لكنه أسر قلوبهم فلا تعود لهم أبداً- ثم أناخت الناقة في مكان مسجده الآن، ولما أناخت انتظر قليلاً ولم ينزل من على ظهرها، فقامت ثم مضت قليلاً ثم رجعت إلى مكانها فناخت وبركت ونزل عليه الصلاة والسلام}.(85/4)
شهيد القسطنطينية مع النبي صلى الله عليه وسلم
ولما نزل سارع هذا الشيخ الذي قتل في أرض الروم إلى متاع الرسول عليه الصلاة والسلام وإلى ملابسه وما عنده من شيء على الناقة فأخذه، فقال بنو النجار: عندنا يا رسول الله أنت ضيفنا قال: لا.
الرجل مع رحله فذهب وراء الشيخ الذي هو أبو أيوب الأنصاري ووصل معه إلى البيت فقال: يا رسول الله! عندي هذا البيت سفلى وعليه، اسكن في الأعلى وأنا هنا في الأسفل قال صلى الله عليه وسلم: أريد أن أكون قريباً من الناس وقريباً من المسجد فأريد هذا، يريد الأرضي فأسكنه وصعد أبو أيوب الأنصاري وزوجته الطاهرة النقية الشريفة إلى الدور الأعلى، وأتى وقت النوم فأخذ يتقلب أبو أيوب الأنصاري كأنه يتقلب على الرمضاء لا ينام قالت له زوجته: مالك يا أبا أيوب لا تنام؟ قال: والله ما أتاني النوم كيف أنام في العلو والرسول عليه الصلاة والسلام تحتنا، وفي الصباح حاول أبو أيوب أن يقنع الرسول عليه الصلاة والسلام فأبى، كان الطعام يقدم لـ أبي أيوب فيرفع يده وترفع زوجته يدها ويقولان: والله لا نأكل حتى يأكل الرسول عليه الصلاة والسلام فينزل بالصحفة ويقدم الثريد، ويشوي اللحم، ويضيف النبي صلى الله عليه وسلم أحسن ضيافة عرفها التاريخ.
وفي ليلة من الليالي يقوم أبو أيوب ليصلي فيقع في جرة الماء فتنكسر فينصب الماء في الأرض وينسكب في الأرض، فيأخذ شملته وينشف بها الأرض لئلا يتصبب الماء على المصطفى عليه الصلاة والسلام، ثم يقول: يا رسول الله! أسألك بالله أن تصعد في العلو وأنا في السفلى فصعد عليه الصلاة والسلام، قدم له من الإكرام ما لم يقدمه عربي لعربي، ولا مسلم لإمام عظيم ولا مضيف لضيف، إذا أراد صلى الله عليه وسلم أن يخرج قدم أبو أيوب حذاءه وألبسه في رجليه، يقف ليستقبله ويقف ليودعه، حول نفسه إلى طباخ في البيت يقدم جهده وعرقه وكل ما يملك ليفي بالضيافة، وحفظها له عليه الصلاة والسلام ولم يضيعها أبداً فكان يدعو له، ويتفقده، وكان يرى أنه الشيخ المبارك الذي أصبح فيه كل شيء أبيض، دينه ولحيته ورأسه ومبادؤه.(85/5)
يجوع النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه فيأتون إلى أبي أيوب الأنصاري
وتستمر الأيام وفي بعض الروايات أنه المقصود بالقصة الآتية: يجوع عليه الصلاة والسلام لما انتقل إلى بيته ويحاصره الجوع فلا يجد في بيته عليه الصلاة والسلام لقمة ولا تمرة ولا قطعة تُؤكل، فيخرج عليه الصلاة والسلام إلى الطريق وإذا بـ أبي بكر وعمر واقفان أمامه عليه الصلاة والسلام قال: ماذا أخرجكما الآن؟ قالا: والله يا رسول الله ما أخرجنا إلا الجوع قال: وأنا أخرجني الجوع -الذي حرر الجزيرة العربية وما جاورها وفتح الدنيا يجوع فلا يجد تمرة، ولا لقمة، ولا خبزة في بيته، الذي سلم مفاتيح الدنيا لأتباعه لا يجد كسرة في بيته!! قال: هيا بنا، وذهبوا جميعاً ودخلوا على أبي أيوب في مزرعته وكان غائباً وامرأته حاضرة، قال عليه الصلاة والسلام وهو يعرفها: أين أبو أيوب؟ قالت: ذهب يستعذب لنا الماء، فأتى أبو أيوب وإذا الرسول عليه الصلاة والسلام وصاحباه على البساط.
هل هناك ضيوف في الدنيا أعظم من الثلاثة؟ هل سمعتم أن ثلاثة اجتمعوا منذ أن خلق الله السماوات والأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أشرف من الثلاثة؟ لا.
ماذا فعل أبو أيوب؟ ألقى الماء والقربة وأخذ يبكي من الفرح وقال: مرحباً والله ما أحد أسعد مني ضيوفاً هذا اليوم، ثم ذهب يأخذ عذقاً من النخل ويذبح شاة ويشوي ويطبخ ويقدم فهو مضياف الإسلام، حظه في الضيافة أن يشبع خير بطن خلقها الله، وأن يروي خير كبد خلقها الله؛ كبد وبطن محمد عليه الصلاة والسلام.(85/6)
خروج أبي أيوب لقتال الروم
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يموت كما يموت البشر، ومبادئ أبي أيوب لم تمت أبداً، بقي شاباً وهو في الثمانين، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن أصحابه سوف يركبون البحر غزاة في سبيل الله {دخل صلى الله عليه وسلم عند عجوز هي أم حرام بنت ملحان فنام عندها في الظهيرة ثم استفاق صلى الله عليه وسلم وهو يضحك قالت: ما لك يا رسول الله! أضحك الله سنك؟ قال: أناس من أمتي عرضوا علي يركبون البحر غزاة في سبيل الله كالملوك على الأَسِّرَةِ قالت: ادع الله أن يجعلني منهم قال: أنتِ منهم} وتستمر الأيام وينادي المسلمون كتائب الإسلام أن تجاهد في سبيل الله لتفتح القسطنطينية لتغزو بلاد الروم ولتوسع دائرة الإسلام، ولما سمع أبو أيوب الجهاد والإعلان لبس سيفه، ورمحه، وركب بغلته.
قال أبناؤه: أنت شيخ كبير في الثمانين.
حملت الثمانين الطوال مجاهداً كأنك في العشرين تقرا وتكتب
قال: لا.
قالوا: عذرك الله أنت شيخ كبير، ومريض، ولا تستطيع القتال قال: لا والله.
إن الله يقول: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41] وأنا ثقيل والله لأنفرن، وذهب إلى الجهاد وانظر إلى هذا العمر المبارك، أين كثير من أهل الثمانين الآن الذين حولوا آخر المطاف إلى شهادة الزور أو الاستيلاء على أراضي الفقراء؟
ويقبح بالفتى فعل التصابي وأقبح منه شيخ قد تفتى
إذا مالم يفدك العلم خيراً فليتك ثم ليتك ما علمتا
هب الشبيبة تبدي عذر صاحبها ما بال أشيب يستهويه شيطان
شيوخ كبار وما تابوا، والله عز وجل يوم القيامة لا ينظر إلى ثلاثة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم منهم {أشيمط زان} شيخ كبير ويزني، وتفاجأ بشيخ كبير ويسرق، وشيخ كبير ويحلف أيمان الغموس، وشيخ كبير يقطع الأرحام، وشيخ كبير يؤذي الجيران، وشيخ كبير يمشي بالنميمة بين الناس.(85/7)
استشهاد أبي أيوب ودفنه تحت أسوار القسطنطينية
أما أبو أيوب فجعل الثمانين طاعة لله وركب مع الجيش وصعد على السفينة، وعبرت به البحر وهو ينشد نشيد الخلود: لا إله إلا الله محمد رسول لله، وتبدأ المعركة فيغتسل ويلبس أكفانه ويتطيب ويتحنط ويقول للمسلمين: أسألكم بالله إذا قتلت اليوم فالتمسوا آخر أرض من أراضي المسلمين تجاه الروم فادفنوني تحت أسوار القسطنطينية علَّ الله أن يبعثني يوم القيامة مؤمناً بين كافرين، يبعث يوم القيامة وحيداً مؤمناً بين كافرين، إذا قامت القيامة {بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:9 - 10] خرج أبو أيوب من قبره ينفض التراب عن رأسه وهو يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة لك والملك لا شريك لك.
وبدأت المعركة فقاتل قتالاً مستميتاً وهو في الثمانين حتى قطع رأسه.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
قتل ودفن هناك، ومن وصل منكم هناك فليسلم عليه، وليبلغه سلام الأمة الإسلامية، وليقف على قبره طويلاً وليشكره على حسن الضيافة والاستقبال، وعلى حسن الحياة، وعلى حسن العطاء والفداء والتضحية، سلام عليك يا أبا أيوب الأنصاري من جزيرة العرب وجزاك الله خير ما جزى ولياً عن أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وأحسن الله إليك أحسن ما أحسن مضيف إلى ضيفه، وجمعنا الله بك في دار الكرامة.
ذلكم هو شهيد القسطنطينية وهو من أجدادنا ومن أراد أن يمشي على منواله فما ذاك بعزيز، وإنه ليسير على من يسره الله عليه.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(85/8)
الإسراف في الأعراس وصوره
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيها الناس! إنما وضع المنبر في كل جمعة لنتدارس أخطاءنا، ولنعود إلى حساباتنا، ولنرى مشاكلنا أمام العين، نحلها بكتاب الله عز وجل وبسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وقد أخطأنا جميعاً خطأً اجتماعياً مرت عليه سنوات، وقليل من ينبه عليه، وقليل من يستنكره، وقليل من يلاحظه، حتى كان سائداً بين الناس، وكأنه من الكتاب والسنة، وقد أضر هذا الخطأ الجم بكثير من الناس ألا وهو الإسراف في الزواج، ومن صور هذا الإسراف الذي لا يرضاه الإسلام الإسراف في صالات الأفراح، وفي الولائم التي يقوم بها الناس في وقت الزواج، وقد علمت من شباب كثير كيف أثقلهم هذا الفعل وكيف جعلهم يستدينون أموال الناس، عندهم قلة ذات يد وحاجة ملحة ولكن يرفض العرف الجاهلي إلا البَطَر والرياء والسمعة والإسراف.
تصوروا إلى شاب مقدم على حياة جديدة وبيت جديد، راتبه زهيد ودخله حقير، يريد زوجة يسكن إليها ويربي بيتاً إسلامياً، فأول ما يواجهه من العقبات صالة الأفراح، عشرون ذبيحة إلى ثلاثين، إلى أربعين، إلى خمسين من أين يدفعها؟ يذهب إلى الناس يستجدي من أجل العرف الجاهلي الذي ما أنزل الله به من سلطان، فأين العقلاء وأهل الرأي، وأهل العلم، وأين القضاة والدعاة، وأين العلماء الذين يقفون أمام هذا الخطأ الفادح؟(85/9)
مضار الإسراف
إن هذا يجر أموراً خطيرة في الأمة منها: الإسراف الذي نهى الله عنه، {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:26 - 27] ثلاثون ذبيحة ترمى والفقراء في البادية وفي تهامة لا يجدون كسرة الخبز، ثلاثون ذبيحة ترمى والشعوب الإسلامية بعضها يأكل أوراق الشجر، ثلاثون ذبيحة ترمى للقطط والكلاب وكثير من المساجد لم تعمر من عشر سنوات، أليس هذا هو البطر بعينه قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال:47].
في العطلة الماضية في أبها وقع أكثر من اثنين وستين زواجاً كلها مغالاة، ومفاخرة، ومرءاة في صالة الأفراح، وعلمت من كثير ممن تزوج أنهم اقترضوا ديناً لتلك الوليمة، فهل يرضى الإسلام بهذا؟ وهل يقره المسلمون؟ إن العالم الكافر الآن أصبح يتعامل بالعقل في أموره الاجتماعية والاقتصادية، ويقننوا مساراته، ويعرف دخله وما يخرج ويعرف أموره النافعة من الضارة، ونحن أمة بالكتاب والسنة، فينا العلماء وأهل الرأي والأخيار والأبرار ونسكت بالإجماع عن هذا الخطأ.
ثم إن ذلك يورث -أيضاً- إحجام كثير من الشباب عن الزواج، إذا كانت هذه التكلفات من الشرعة، والوليمة، وإيجار الصالة، وكثرة الذبائح والحلي والمهر، فمن يجمع هذه لهذا الشاب حينها تقع العنوسة ويتوقف الشباب والشابات عن الزواج، وتقع أمور لا تحمد عقباها ولا يرضاها الله.(85/10)
الحلول المقترحة تجاه الإسراف
إن الحل الأكبر هو فعل محمد عليه الصلاة والسلام، أن نفعل كما فعل -بأبي هو أمي- فهو أغلى الناس وأبرهم وأحلمهم أن نقتصد، ولا تساير الناس في أفكارهم ولا آرائهم بل عليك بما يرضي الله عز وجل، ففي الحديث {من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخط الناس برضى الله رضي الله عنه وأرضى عنه الناس} وأما الرسول عليه الصلاة والسلام فتزوج تسعاً من النسوة أو أكثر بعضهن لم يجد ذبيحة واحدة، وإنما قدم زبيباً وشيئاً من شعير، وشيئاً من سويق فأكله الصحابة وتمضمضوا وقاموا يصلون، وزواج آخر وجد ذبيحة واحدةً جمع عليها أكثر من ثمانين من الصحابة، وكذلك أصحابه، لماذا ما تعمل هذه الحفلات في البيوت؟ لماذا لا نكتفي بالقرابة وبالزواج العائلي فقط؟ لماذا نأخذ أموال الناس ديناً في ظهورنا؛ لنباهي الناس ونرائيهم ونفاخرهم؟ أما تكفي الذبيحة والذبيحتان فحسب؟ أليس هذا هو العقل؟ أليس هذا هو الدين؟ وأليس هذا هو الترشيد؟ ومن عنده فائض من المال فمشاريع الخير وأبواب الجنة ثمانية يدخل بماله من أيها شاء من أي باب شاء، أما هذه الأموال التي يصرفها للرياء والسمعة فلا يكفي أن ينجو كفافاً لا له ولا عليه، بل يحاسب بها عند الله يوم القيامة {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36].
أيها المسلمون: لابد على أهل العقل من الناس أن يضعوا حداً معيناً، ويبدأ فيهم الرشيد منهم، فإنه من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
أسأل الله أن يحفظنا وإياكم من المتالف ومن الأخطاء والمخالفات الشرعية.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا} اللهم صل على نبيك وحبيبك واعرض عليه صلاتنا، وسلامنا في هذه الساعة المباركة، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين ووحد بين صفوفهم وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم أصلح ولاة الأمور، اللهم وفقهم إلى الحق وإلى العمل بكتابك وبسنتك نبيك يارب العالمين، اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك ولرفع رايتك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(85/11)
أهل الشبهات وأهل الشهوات
القلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، وأمراض القلوب ترجع إلى قسمين رئيسيين هما: مرض الشبهة، ومرض الشهوة.
هذا الدرس علاج لهذين المرضين، وقد تخلل هذا ذكر عدة نماذج ممن أصيبوا بمثل هذه الأمراض، ومنهم عبد الله بن أبي ابن سلول، والجد بن قيس.
كما قارن الشيخ بين هؤلاء المصابين بهذين المرضين، وبين نماذج من الأصحاء الذين امتلأت قلوبهم بحب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وذكر من هذه النماذج الصادقة: عبد الله بن جحش، وعمر بن الخطاب، وسعيد بن المسيب، وغيرهم.(86/1)
أمراض القلوب
الحمد الله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض، ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، المؤيد بجبريل، المعلم الجليل، صلى الله وسلم عليه كلما تضوع مسك وفاح، وكلما غرد حمام وصاح، وكلما شدا بلبل وناح، وعلى الطيبين الطاهرين من المؤمنين، والصالحين الصائمين المصلين.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
يا أيها الصحب في الزلفى سررت بكم وحبكم في سبيل الله يكفينا
آخيتمونا على حب الإله وما كان الحطام شريكاً في تآخينا
إن السلام وإن أهداه مرسله وزاده رونقاً منه وتحسينا
لم يبلغ العُشر من قول يبلغه أذن الأحبة أفواه المحبينا
نسلم عليكم ثانية وثالثة ورابعة، حتى نلقى الله، ونسأل الله كما جمعنا بكم في هذا المكان، في روضة من رياض الجنة، أن يجمعنا مع المقبولين في الجنة، يوم يتقبل الله منا أحسن ما عملنا، ويتجاوز عن سيئاتنا، في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
عنوان هذه المحاضرة أهل الشبهات وأهل الشهوات.
والقلوب تمرض كما تمرض الأجسام، وتصيبها الحمى كما تصيب الأجسام، ويأتيها السقام كما يأتي الأجسام.
ومرض القلب على قسمين:(86/2)
مرض الشبهة
القسم الأول: مرض الشبهة:
وهو إما كفر أو نفاق، أو شك وريبة، نسأل الله العافية من ذلك كله.(86/3)
مرض الشهوة
القسم الثاني: مرض الشهوة:
وهو حب المعصية والفاحشة.
وقد ذكر الله المرضين في القرآن، فقال عن مرض الشبهة: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10].
وقال في مرض الشهوة: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] فهو مرض حب الفاحشة، وذاك مرض الشبهة والنفاق، والريبة والشك والكفر.(86/4)
مرض الشبهة
وقال الله في أهل الكفر بعد أن ذكر أخبارهم كالمنافقين وأمثالهم وأضرابهم وهو يذكر حال المنافقين وأهل الريبة والشك وهم أهل الشبهات قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:8 - 10].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: مبنى النفاق على الكذب.
فذكر الله الكذب لأنهم يكذبون، فكلما ذكر الله النفاق ذكر الكذب، وكلما ذكر الكذب ذكر النفاق، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:8 - 11] فكلامهم فساد، وفعلهم فساد، ونظرهم فساد، وحركتهم فساد: {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة:11 - 13].
قل لهم -مثلاً-: صلوا كما صلى المصلون، وصوموا كما صام الصائمون، وأقبلوا كما أقبل الشباب الملتزمون: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة:13] أنفعل كما فعل المتطرفون والمتزمتون؟! {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:13 - 16].(86/5)
نماذج ممن أصابهم مرض الشبهة
عاش صلى الله عليه وسلم مع هذه الفئة التي أصابها المرض في القلوب، ومنهم عبد الله بن أبي بن سلول، سمع لا إله إلا الله، وطرقت سمعه لا إله إلا الله، ورفرفت على رأسه لا إله إلا الله، لكن ما دخلت قلبه لا إله إلا الله، من الذي يهدي إلا الله.
ومن الذي يسدد إلا الله.
ومن الذي يوفق إلا الله؟ {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:23 - 24] {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
فيا من هدى قلوب الصالحين! نسألك هداية قلوبنا وأن تردها إليك، وألا تورثها شكاً ولا شبهةً ولا نفاقاً يا أرحم الراحمين.
عبد الله بن أبي يجلس مع الرسول عليه الصلاة والسلام في مجلسه، ويصلي معه، ويذهب معه في الغزوات، لكن على قلبه ظلمات النفاق: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] ولذلك ألا ترى أن بعض الناس يصلي ويصوم مسلماً مقلداً إسلاماً ساذجاً تقليدياً؟! لكنه يطعن في العلماء، ويستهزئ بالرسول عليه الصلاة والسلام، ولا تعجبه الصحوة الإسلامية، ويبغض السنن والصالحين، ألا ترى أنه منافق بينه صلى الله عليه وسلم؟!
عبد الله بن أبي صدرت منه كلمات تثبت أن الرجل فيه دسيسة وشبهة ومرض، والله أعلم بمرضه، يقول -وقد تقاتل رجل مهاجري وأنصاري-: صدق الأول إذ يقول: سَمِّن كلبك يأكلك.
وهو يقصد إكرام الأنصار للمهاجرين، ويقول: أكرمناهم فأكلونا، ولو جوعناهم وطردناهم لتبعونا، ساءت كلمة! وساء معتقداً! وساء خبثاً ونفاقاً!
سمع الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الكلمة فحاكمه إلى الله، قال له الصحابة: يا رسول الله نقتله، قال: {لا.
لا تتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه} وأتى ابن هذا المنافق، ابنٌ امتلأ قلبه بـ (لا إله إلا الله) وأصبح عبداً لله.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
سمع أن أباه يقسم إذا عاد من الغزوة ليخرجن الأعز منها الأذل، يعني بالأعز هو، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، فتصدى له ابنه بالسيف عند مدخل المدينة، وقال: [[والله الذي لا إله إلا هو، لا تدخل حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنك الأذل وهو الأعز]] {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:27].
انظر إلى بعض الآباء، رأيناهم واستقرأنا أحوالهم في بعض المجتمعات، فتجده يكره أن يرى ابنه مصلياً، أو ملتحياً أو مستناً بسنة محمد صلى الله عليه وسلم، أو ذاكراً، أب فاسد وابن صالح، يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي.
تجد أباً ناسكاً عابداً باكياً خاشعاً داعياً، وابنه فاجر من الفسدة الكبار فسبحان الله! نوح نبي عليه السلام وابنه ضال، وإبراهيم رسول نبي وأبوه ضال فاجر عميل، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إلى لا إله إلا الله، فيسمعها أبو طالب فلا تدخل قلبه، ويسمعها أبو لهب فيتصدى لها ولا يرتاح لها! فيتدهده على وجهه في النار.
ويأتي بلال من أرض الحبشة -من إثيوبيا - ليقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، فيدخل الإسلام، ويقول فيه عمر: [[أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا]] ويقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين (صحيح البخاري وصحيح مسلم): {دخلت الجنة البارحة، فسمعت دف نعليك يا بلال في الجنة، فماذا كنت تفعل؟ قال: يا رسول الله! والله لست بكثير صيام ولا صلاة ولا صدقة، ولكن ما توضأت وضوءاً في ساعة من ليل أو نهار، إلا صليت بعده ركعتين} ما أحسن الركوع! وما أحسن الوضوء! وهذه أسباب دخول الجنة، ففرق بين هذا وبين ذاك الملحد والوثني الذي رانت الشبهة على قلبه.
أحد الزنادقة أتي به إلى عالم من علماء المسلمين، فقال العالم: تب إلى الله، قال: لا أستطيع أن أتوب، قال: ادع الله لعل الله أن يرزقك توبة، قال: قلبي ظلمات بعضها فوق بعض.
إذا علم هذا -أيها المسلمون- فإن قضية الشبهة مرض خطير، وقد تجدد في عصرنا هذا في مركب الإلحاد والحداثة، وتجدد في صور أذكر بعضها إن شاء الله، لكن لنأخذ نماذج ممن عاش الشك والريبة.
العاص بن وائل -ابنه عمرو بن العاص - أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وهو ملحد، فأخذ عظماً ففته ونفخه، وقال: يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذا العظم بعد أن يميته ويفنيه؟ قال: نعم، ويدخلك النار، فقال الله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79] فسبحان من يحي العظام وهي رميم! وسبحان من يحيي الأرض بعد أن تموت! وسبحان من يحيي القلوب بعد أن تقسو وتصيبها الشبهات!
يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في القلوب: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] ثم قال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] فيا من أحيا الأرض بعد موتها بالأمطار! ويا من بث فيها الورود والأزهار! ويا من أخرجها للنظار! نسألك أن تحيي قلوبنا بالإيمان يا واحد يا غفار!
الجد بن قيس منافق، وحديث قصته صحيح: {ضاع جمله في البيعة عند الشجرة، فقالوا: تعال وبايع رسول الله صلى الله وعليه وسلم، قال: والله لئن ألقى جملي الأحمر خير لي من بيعتي لمحمد، فقال عليه الصلاة والسلام: كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر}.
وهذا عبد الله بن أبي قال له: تب وعد إلى الله، وراجع حسابك مع الله، وتعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ يلوي رأسه ولا يتكلم، خوفاً أن ينقل الله كلامه للرسول عليه الصلاة والسلام، فنقل الله صورة حركة رأسه، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون:5 - 6] فلا إله إلا الله! كم هدم النفاق من حصن للإسلام!
ولا إله إلا الله كم دمر من أعلام!
ولا إله إلا الله كم أدخل قلوباً، وملأها بالظلام!
نشكو حالنا وقلوبنا إلى الواحد الأحد؛ فإنه الذي يخلصها تبارك وتعالى.
هذه مسألة هؤلاء أهل الشبهة.(86/6)
علاج مرض الشبهة
ما هو علاج الشبهة؟
قيل لشيخ الإسلام ابن تيمية: بم تنال الإمامة في الدين؟
قال: بالصبر واليقين، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فعلاج الشبهة اليقين وهو العلم، وعلاج الشهوة الصبر عن محارم الله عز وجل.(86/7)
نماذج من المؤمنين الصادقين
فتعال وقارن بين أهل الشبهة، الذين في قلوبهم شك من اليوم الآخر والرسول عليه الصلاة والسلام ومن البعث والنشور وعذاب القبر وبين المؤمنين الصادقين.
في السير بسند جيد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قام يخطب في الناس، يوم معركة أحد فقال للصحابة: ماذا تريدون؟ أنقاتل الأعداء في المدينة، أم نخرج للقائهم؟ فقال الكبار: نقاتلهم داخل المدينة يا رسول الله.
فقام شاب وهو نعيم بن مالك بن ثعلبة وقال: {يا رسول الله! لا تحرمني دخول الجنة، فوالله الذي لا إله إلا هو لأدخلن الجنة، فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: بم؟ قال: بخصلتين اثنتين، أولها: أني أحب الله ورسوله، والثانية: أني لا أفر يوم الزحف}.
يقول سعد بن أبي وقاص -والحديث في مسند سعيد بن المسيب من روايته وذكر ذلك الإمام أحمد وأبو يعلى - قال: [[لما حضرنا معركة أحد وقف بجانبي عبد الله بن جحش]] أحد الشباب الذين باعوا أنفسهم من الواحد الأحد.
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
أم من رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
فيا من باع نفسه بامرأة حسناء أو بسيارة فاخرة، أو بفلة بهية، أو بوظيفة أو بمنصب! والله لقد خسرت الدنيا والآخرة.
ويا من باع نفسه بمجلة خليعة، أو بأغنية ماجنة، أو بكأس أو بحبوب مخدرة، أو بمجلس آثم! والله لقد خسرت الدنيا والآخرة.
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
يا ساعياً لخراب الدهر مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
أما القصور فزيناها، وأما المجالس فوسعناها، وأما السيارات فتفاخرنا بها، وبالأموال والمناصب، ولكن نشكو أحوالنا وقلوبنا وأعمالنا إلى الله! والله لا منجى ولا ملتجأ من الله إلا إليه.
فيأتي عبد الله بن جحش أحد الشباب، أتى بثيابه وسيفه لا يملك من الدنيا شيئاً، باع كل شيء لوجه الله، فوقف فقال: [[يا رب! اللهم إنك تعلم أني أحبك، اللهم إني أسألك هذا اليوم أن تلاقي بيني وبين عدوي فيك، فيقتلني فيك، فيبقر بطني، ويجدع أنفي، ويفقأ عيني، ويقطع أذنيّ، فإذا لقيتك يا رب قلت: يا عبد الله لم فعل بك هذا؟ فأقول: فيك يا رب]] قال سعد: [[فوالله الذي لا إله إلا هو! ما انتهت المعركة إلا وقد رأيته مقتولاً مبقور البطن، مجدوع الأنف، مفقوء العينين، مقطوع الأذنين، قلت: فأسأل الله أن يلبي له ما سأل]].
وفي صحيح البخاري وهو أصل الحديث وأورده ابن كثير في تفسيره وغيره، وزيادته حسنة، أن عبد الله بن عمرو الأنصاري، والد جابر بن عبد الله، رأى في المنام قبل معركة أحد بليلة، أنه قتل في المعركة، فقام في الليل وصلى ركعتين، وأيقظ جابراً ابنه وقال له: [[يا بني! إني رأيت أني ممن يقتل غداً، فأوصيك بأخواتك خيراً]] ثم خرج إلى المعركة.
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أغلى غاية الجود
فيا من بخل على نفسه بصلاة الجماعة! أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام قدموا أنفسهم رخيصة في سبيل الله.
ويا من حرم نفسه صدقة في سبيل الله! أصحاب الرسول عليهم الصلاة والسلام قدموا قلوبهم وأنفسهم في سبيل الله.
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
فلما قتل عبد الله بن عمرو في المعركة، قال جابر -والرواية في البخاري -: {فأتيت أبكي، والناس ينهوني، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني}.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا جابر! أتدري ما فعل الله بأبيك؟ قال: لا والله يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده لقد كلمه كفاحاً بلا ترجمان، فقال: تمن يا عبدي، قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا، فأقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمن، قال: أتمنى أن ترضى عني فإني قد رضيت عنك، قال: فإني أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً، فجعل الله روحه وأرواح إخوانه في حواصل طير} وهذا الحديث حسن بزيادة: {طير ترد الجنة فتشرب من مائها، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، حتى يرث الله الأرض ومن عليها}.
وأنزل الله مصداق ذلك: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169 - 170] فهؤلاء أهل البطولات، وهؤلاء أهل الصدق مع الله تعالى.(86/8)
عمير بن الحمام
عمير بن الحمام يأكل تمرات من الجوع قبل معركة بدر، فيقول عليه الصلاة والسلام: {لا يقاتل أحد في هذا اليوم، فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، إلا دخل الجنة} فسمع عمير بن الحمام ذلك فقال: بخ بخ، ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء.
وألقى التمرات من يده، وأخذ السيف وقاتل القوم.
فهؤلاء هم أهل الصدق مع الله.(86/9)
آثار الشبهات في حياة المسلمين
لكن انظر ماذا فعلت بنا الشبهات؟!
كيف نأتي متخلفين عن الصلوات؟!
يؤذن في آذاننا صلاة الفجر فيثبطنا الشيطان في الفراش، وداعي الله يتحرك في قلوبنا؛ لكن جذوة الإيمان منطفئة، وحرارة الإيمان ضعيفة، وحبل الإيمان يتقطع كل حين.
في صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من صلى الفجر في جماعة، فهو في ذمة الله} وأورده أحمد بلفظ آخر: {من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فالله الله، لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فإنه من طلبه من ذمته بشيء أدركه ومن أدركه كبه على وجهه في النار}.
قال بعض أهل العلم: مما علم بالاستقراء أن من صلى الفجر في جماعة، وحافظ على ذلك، حفظه الله من الكبائر.
لماذا يدخل شبابنا السجون في المخدرات؟
لماذا يرتكب الزنا؟
لماذا يؤكل الربا؟
لماذا يؤتى بالأمور الشاذة والأمور الكبيرة؟
لأنه ترك صلاة الفجر في جماعة! ولأنه ترك الوضوء بالماء البارد، فلما تركوا المساجد، أتى بهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى ليؤدبهم بالسجون: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36].(86/10)
سماحة الإسلام ويسر تعلمه والعمل به
والإيمان -أيها المسلمون- سهل يسير لا يحتاج إلى كثرة تفكير، بل الإسلام بسيط قريب سهل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2] فالإسلام سهل كما يقدمه صلى الله عليه وسلم، وليس هو كما يقدمه من في ذهنه شبهات عن صعوبة وتعقيد هذا الدين، وهم يلقون هذه الكلمات في الساحة.
في الصحيحين، عن أنس بن مالك قال: {كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم علينا رجل فعقل ناقته في طرف المسجد، ثم أتى يتخطى الصفوف، والرسول عليه الصلاة والسلام متكئ بين الصحابة، فأخذ الرجل يقول: أين ابن عبد المطلب؟ -أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهو ابن عبد الله، لكن يسميه بجده لشهرته بين العرب- قال الصحابة: هو ذاك الرجل الأبيض الأمهق المرتفق، فتقدم حتى وقف أمامه، والرسول صلى الله عليه وسلم متكئ على يسراه، قال: يا بن عبد المطلب.
قال: قد أجبتك، قال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، قال: سل ما بدا لك -ظن عليه الصلاة والسلام أن السؤال سهل في فرعية أو في جزئية، لكنه يسأل عن النجاة، ويسأل عن الأصول، ويسأل عن الدين- فرفع صوته وقال: يا رسول الله! من رفع السماء؟ قال: الله، قال: من بسط الأرض؟ قال: الله، قال: من نصب الجبال؟ قال: الله، قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال، آلله أرسلك إلينا رسولاً؟ فتربع عليه الصلاة والسلام وقال: اللهم نعم -هذا أعظم سؤال في تاريخ الإنسان، وأعظم أطروحة في تاريخ البشرية- قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال، آلله أمرك أن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم، قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال، آلله أمرك أن تأمرنا بزكاة تؤخذ من أغنيائنا وترد على فقرائنا؟ قال: اللهم نعم -فأخذ يسأله حتى انتهى من أركان الإسلام- قال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، والله لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص، أنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر، ثم يتولى ويفك عقال ناقته ويركب الناقة، فينظر عليه الصلاة والسلام ويقول: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا} ما أسهل طريق الجنة! وما أقرب الجنة! وما أسهل السلوك إلى الجنة! لكن أين الذي يريد الجنة؟
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النار
في جامع الترمذي ومسند أحمد عن معاذ قال: {كنت مع الرسول عليه الصلاة والسلام في غزوة -وعند أحمد في غزوة تبوك - قال: فاقتربت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله! دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار، فقال: يا معاذ! لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، يا معاذ! ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر: الإسلام، وعموده: الصلاة، وذروة سنامه: الجهاد في سبيل الله، يا معاذ! الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا عليه الصلاة والسلام: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] يا معاذ ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: كف عليك هذا؛ وأخذ بلسان نفسه، فقلت: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم} والحديث صحيح، ولا إله إلا الله ما أسهله وما أيسره! هذا الطريق، فأين السالك؟ ووضحت الجادة فأين المسافر؟ وفتح الباب فأين الداخل؟ فيا من عطاؤه ممنوح! ويا من بابه مفتوح! ويا من خيره يغدو ويروح! نسألك أن تدخلنا مع عبادك الصالحين.(86/11)
انتشار مرض الشبهات
هذا مرض الشبهات وهو ينتشر في الكلمات، لماذا يستهزأ بالدين في بعض الأوساط الإسلامية؟ لمرض الشبهة، يستهزأ بالمستقيمين ويسمون متطرفين ومتزمتين، مطاوعة رجعيين ومتخلفين، لأن هذه الكلمات صدرت عن شبهة.
أبو العلاء المعري هذا الشاعر ظريف في شعره وقوي في شعره، لكنه مظلم القلب وما زكاه الله، وإلا فشعره في الذروة، وهو الذي يقول، ويستحسنها ابن القيم وابن تيمية:
يا ساري البرق أيقظ راقد السمر لعل في القوم أعواناً على السهر
يود أن ظلام الليل دام له وزيد فيه سواد السمع والبصر
لكن ليته كف وليته سكت على جودة الشعر، لكن حارب الله بشعره، واستهزأ بالشريعة، يقول:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض ما لنا إلا السكوت له ونستعيذ بمولانا من النار
يا للخيبة والخسارة!
أوردت نفسك النار!
وتأتي الآن لتستعيذ من النار!!
فأين مذهبك عن النار؟
يقول: لم دية الكف خمسمائة دينار ذهب وإذا سرقت ربع دينار قُطعت؟
فرد عليه أحد علماء السنة عبد الوهاب بن المالكي رحمه الله فقال:
قل للمعري عار أيما عار جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عاري
لا تقدحن بنود الشرع عن شبه شرائع الدين لا تقدح بأشعار
فأخذه أعني الله نكال الآخرة والأولى، وله قصة عند ابن كثير في البداية والنهاية.
وعندنا في الأوساط، رجل يستهزئ بالحجاب، ويقول: هذه خيمة تركب على النساء، ورجل آخر يقول: هؤلاء الشباب المقصرو ثيابهم، والمطيلو لحاهم لا يفقهون ولا يعلمون شيئاً: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] والله! إن ذاك هو السفيه والمتخلف ومريض القلب: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10] ورجل آخر يقول: الدين لا يواكب العصر، والقرآن قد ذهب وقته، والسنة مشكوك فيها، ورواة الصحابة يروون المرويات ليتشفوا بها من غيظهم: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].
ومرض الشبهة أكثر ما يصيب من عنده علم، وليس العلم إذا أطلق، فإنه لا يكفي العلم بلا إيمان، فهذا أتاتورك أتى بعلم لكنه طاغوت عبد علمه من دون الله، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وإنما نعني بالعلم: قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم، علم القرآن والسنة، وقد ورد في مختصر الفتاوى لـ ابن تيمية أنه قال: "من اعتقد أنه سوف يهتدي بهدى غير هدى الله الذي أرسل به محمداً عليه الصلاة والسلام؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".
وهذه قد يحملها ويعتقدها بعض الناس، حتى من المثقفين، ومن خريجي الجامعات، والمؤسسات العلمية وحملة الشهادات، ولذلك قد أصبنا ببعض الفسقة من طلبة العلم، طالب علم ربما حمل الماجستير والدكتوراه، ولكنه فاسق أعمى، قلبه ظلمات بعضها فوق بعض، لا يعرف الصلاة في المسجد، ولا يفتح المصحف، ولايعرف بر الوالدين، والذكر، ولا يدعو إلى الله، ولا يعين عباد الله على ما يرضي الله، فهذا مثل عابد بني إسرائيل، ولذلك يقول سفيان بن عيينة: كما ذكر ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: "من فسد من علمائنا ففيه شبه باليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه بالنصارى".
قال الله في فاسق وفاجر بني إسرائيل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176].
ونحن لا نحتاج إلى كثرة المتعلمين، كحاجتنا إلى كثرة المؤمنين المتعلمين: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ} [الروم:56] فعلم بلا إيمان لعنة، وكتاب بلا إيمان كلام مصفف، وقلب بلا إيمان قطعة لحم، وعين بلا إيمان مقلة عمياء، وكف بلا إيمان إشارة خاطئة، وبيت بلا إيمان ثكنة متهدمة، ومجتمع بلا إيمان قطيع من الضأن الضائع، فالمسألة مسألة لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأقول: إنه يكثر مرض الشبهة في المثقفين، ولكن الثقافة التي لا تصل إلى القلوب، ثقافة الماجريات، وثفاقة التخلف؛ خير منها الجهل وهي جهل بحد ذاتها.(86/12)
مرض الشهوات
وأما الشهوات، فإن الله عز وجل ذكر في آياته أهل الشهوات وقال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35].(86/13)
عاقبة مرضى الشهوات
ولذلك تجد أهل الشهوات ماذا يفعلون؟ والله! إن أحدهم يريد أن يجلس مع أفسق فاسق ولا يجلس مع عالم من علماء المسلمين أو رجل صالح أو داعية، أحدهم يجلس ويثبطه منصبه وكرسيه وسيارته وطفله وزوجته، عن بيت من بيوت الله وفريضة من فرائض الله، وجزاؤهم من جنس العمل، يموتون على سوء الخاتمة، لأن الله عز وجل جعل على نفسه أن يثبت من تثبت وأن يضل من ضل: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] يقول ابن القيم: من أحسن ما قالت العامة: "من شب على شيء شاب عليه" وهذا مثل معروف: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(86/14)
نماذج من مرضى الشهوات
يقول ابن القيم في كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: أحد الناس أغرم بجارية، ذهبت إلى حمام منجاب فكان يتغنى في حياته: أين الطريق إلى حمام منجاب؟
فأتته سكرات الموت وأتاه الوعد الحق، وأتاه يوم لقاء الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:19 - 21] قيل لهذا الرجل المفتون قل: لا إله إلا الله، قال: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ قالوا: قل لا إله إلا الله، قال: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ فمات عليها لأنه عاش عليها.
وفي كتاب المحتضرين لـ ابن أبي الدنيا بسنده قال: كان أحد التجار في الحياة الدنيا شغله المزاودة، وبعض التجار يدخل في تجارته بالصلاة ويدخل بها في الحج والعمرة والصيام، فدكانه وتجارته وخبزه وفواكهه ورزه معه في الصلاة، وفي التحيات والسجود والركوع، قيل في سكرات الموت لهذا التاجر: قل لا إله إلا الله، قال: خمسة في ستة كم تصير؟
تصير إلى سوء الخاتمة والعياذ بالله!!(86/15)
نماذج من حسن الخاتمة للطاهرة قلوبهم
حدثنا بعض الدعاة من الجزائر ذلك البلد والشعب المسلم، قال: والله لقد أشرفت بنفسي على حادثة، شاب جزائري عرف الطريق وهداه الله: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213] مصحفه في جيبه، لا يغادر عينه إلا في أوقات لا يستطيع أن يقرأ فيها، والصلوات الخمس لا يؤذن إلا وهو في المسجد؛ لأن بعض الناس حتى من شباب الصحوة، والمقبلين على الله، تجدهم مع حرصهم قد تفوتهم ركعات أو يصلون في الصف الأخير فأين نحن من السلف الصالح.
ترجموا للأعمش سليمان بن مهران راوية الصحيحين، فقالوا: بكى أبناؤه عليه وهو في سكرات الموت، فقال: ابكوا أو لا تبكوا، والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الإمام ستين سنة، فهذه مؤهلات الجنة، وهذه مفاتيح الجنة.
وسعيد بن المسيب صح عنه أنه قال وهو في سكرات الموت: الحمد الله، والله! ما أذن منذ أربعين سنة إلا وأنا في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، قبل أن يؤذن المؤذن هو على مأدبة الله في روضة من رياض الجنة.
وعامر بن ثابت بن عبد الله بن الزبير كان إذا صلى الفجر رفع يديه وقال: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، قال له أبناؤه: ما هي الميتة الحسنة؟
قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد، فأعطاه الله ما تمنى، وصدقه الله كما صدق مع الله، صلى المغرب وفي السجدة الأخيرة قبض الله روحه؛ لأنه صدق مع الله.
فهذا الشاب الجزائري عرف طريقه إلى الله، هجر جلساء السوء، وترك المجلات الخليعة، وقاطع الأغنيات الماجنة، حفظ عمره مع الله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116] فأتته سكرات الموت بحادث بين العاصمة الجزائر ووهران، فانقلبت به السيارة، وفقد وعيه أربعة أيام، قال هذا الرجل الذي يروي القصة وهو من الصالحين: والله! لقد أغمي عليه أربعة أيام، ما جفت لسانه من قراءة الفاتحة، كلما أنهاها بدأ من أولها، لماذا؟ لأنه عاش على الفاتحة وسوف يموت على الفاتحة، ويدخل قبره على الفاتحة، ويحشر على الفاتحة، ويدخل الجنة إن شاء الله على الفاتحة.
وعندنا في بعض المناطق شاب وقع في حادث وهو في سكرات الموت، تحت سيارته مسجله يرفع صوته بالأغنية والمغنية تقول: هل رأى الحب سكارى مثلنا؟
وهو يردد وهو في سكرات الموت: هل رأى الحب سكارى مثلنا؟
ما رأى أفشل منك، ولا من صاحبك في الحياة، فمتى نسير إلى الله؟
ومتى نتجه إلى الله؟
ومتى نحاسب أنفسنا مع الله تبارك وتعالى؟(86/16)
مظاهر مرض الشهوات
مرض الشهوات هو الذي نشكوه كثيراً، فإن علائم التوحيد ظاهرة، والعلم منتشر، وعلم الكتاب والسنة مبذول، والدعاة متواجدون، والعلماء متوفرون، فهذا يخفف من مرض الشبهة إن شاء الله، لكن أصبنا بالشهوات.
امرأة سافرة تركت دينها ونسيت ربها، وعصت زوجها، وتطيبت وخرجت من بيتها؛ فأخذت لعنة الله، ففتنت نفسها وفتنت غيرها، والرسول عليه الصلاة والسلام صح عنه أنه قال: {ما تركت على أمتي فتنة أشد من النساء} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ومجلة خليعة يروج لها، تحمل صورة فتاة فيراها الشاب، فيذهب لبه وعقله وحياته وذكره وتوبته مع الله، وأغنية ماجنة أشرطة متوفرة ومغنون لا يخجلون، وهل سمعتم أن مغنياً خجل واستحى أن يظهر على المسرح؟
المغني الآن يستطيع أن يقف أمام الجماهير ليغني، وما سمعنا بمغنٍ خجل، لكني أعرف رجلاً في قرية من قرانا، تخرج من كلية الشريعة، أتوا به ليصلي بهم صلاة المغرب، قال: لا، أنا لو صليت في صلاة المغرب تورطت في صلاة العشاء، مقيم مع أهل القرية لا يجيدون قراءة الفاتحة، ولا يعرفون الوضوء، ولا التيمم، ولا غسل الميت، ولا تكفين الميت، ولا الصلاة على الميت، ومع ذلك يخجل، أما دعاة الباطل
أما المغنون
أما الفسقة
أما المطربون
أما الراقصون
فما سمعنا بأن أحداً منهم خجل أو استحى، كيف يستحي داعية الإسلام؟!
كيف يخجل طلبة العلم؟!
وأهل الفساد والفسق لا يخجلون! سبحان الله! انقلبت الموازين، فلذلك سرى الغناء، ودمر من القلوب ما لا يعلمه إلا الله، وكما يقول الشيخان ابن تيمية وابن القيم: "الغناء بريد الزنا" فلا يسمعه القلب إلا ويتوله ويضيع في كل الشعاب، ويتفلت على صاحبه.
وصاحب الغناء يصاب بأربع عقوبات:-
العقوبة الأولى: قسوة القلب، فلا يعي ولا يفهم.
العقوبة الثانية: وحشة بينه وبين الخالق سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
العقوبة الثالثة: ينسيه الله ذكره.
العقوبة الرابعة: يحرمه الله الغناء الذي في الجنة.
وفي مسند الإمام أحمد بسند جيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن في الجنة جوار، يغنين وينشدن، يقلن: نحن الناعمات فلا نبأس، نحن الخالدات فلا نبيد، طوبى لمن كنا له وكان لنا}.
قال ابن القيم يعلق ويدبج بمقطوعة مليحة ظريفة، يقول:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ إنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
يا من أراد الغناء والنعيم في الجنة! حرم على نفسك هذا الغناء الماجن، غناء الفاحشة، غناء الدعارة والمعصية والفجور، والعياذ بالله!(86/17)
الصالحون وحياة الزهد والعبادة
ولكن هناك نماذج للذين انتصروا على الشهوات، وهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.(86/18)
حياة عمر بن الخطاب
يقف عمر بن الخطاب على المنبر يوم الجمعة، وكلكم يسمع ويعرف عمر بن الخطاب، فيقف وهو خليفة المسلمين، تحت يديه ذهب، وفضة الدنيا، وأموال الدنيا، فيقرقر بطنه من الجوع فقال لبطنه: [[قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]] وذلك في عام الرمادة، يقول: لماذا تشبع وأطفال المسلمين ما شبعوا؟ ثوبه مرقع، ومع ذلك يهتز كسرى وقيصر من عظمته وذكره.
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
قال البخاري في الصحيح في كتاب الرقاق: باب الرقاق، وقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36] وقال علي بن أبي طالب، أبو الحسن، أمير المؤمنين الذي ما ملك من الدنيا لا قليلاً ولا كثيراً، عنده ثوب وسيف يقطع به رءوس أعداء الله، ومصحفه في صدره، وعنده طريق إلى الجنة، وعنده ثوب يواري به جسمه، وكسرة خبز، يقول في صحيح البخاري: [[ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل]].
قال معاوية لـ ضرار بن الحارث الصدائي كيف رأيت علي بن أبي طالب؟ -بعد ما مات- قال: [[والله الذي لا إله إلا هو لقد رأيته في ظلام الليل، وهو يبكي بكاء الفطيم، ويتململ تململ السليم، ويمسك لحيته بيديه، ويقول: يا دنيا يا دنية طلقتك ثلاثاً، غري غيري زادك حقير وعمرك قصير، وسفرك طويل، آه من وحشة الزاد وبعد السفر، ولقاء الموت]].
ونسبت إليه مقطوعة يقول فيها، هي مقطوعة لمن يريد الجنة:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الموت نبنيها
فا عمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها(86/19)
ربيعة بن كعب والهمة العالية
في صحيح مسلم والحديث بقصته عند الإمام أحمد في المسند لكن رواية مسلم مختصرة، عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: {قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل تعط فقلت: أريد مرافقتك في الجنة، قال: أوَ غير ذلك؟ قال: هو ذاك يا رسول الله، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود}.
وعن ثوبان في مسلم: {فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة} كلما سجدت قربت من الله، وكلما ذكرت الله قربك إليه، وفي الصحيحين: {وما تقرب إلي عبدي بأحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل، حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها} إذا علم هذا؛ فإن هذه هي النماذج التي تركت الدنيا لوجه الله.(86/20)
ابن أدهم ولذة العبادة
إبراهيم بن أدهم أحد الصالحين ينام على الرصيف، يأكل الخبز اليابس، ولا يجد مشروباً إلا الماء، فيقول له أحد الناس: أترضى بهذا العيش؟ قال: والله الذي لا إله إلا هو! إنا لفي عيش لو علم به الملوك لجالدونا عليه بالسيوف.(86/21)
ابن تيمية والزهد في السلطة
مسكين من عاش لغير الله، فقير من لا يعرف السجود لله، فقير من لم يغنه الله عز وجل بتقواه.
ابن تيمية شيخ الإسلام -رحم الله تلك العظام- دخل على أحد السلاطين، ابن قطلوبغا فقال له ابن قطلوبغا: يا بن تيمية يزعم الناس أنك تريد ملكنا، فتبسم ابن تيمية، وقال: سبحان الله، ملكك؟! قال: نعم، يزعم الناس أنك تريد ملكنا، قال: والله الذي لا إله إلا هو ما ملكك وملك أبيك وجدك يساوي عندي فلساً واحداً.
ابن تيمية يريد جنة عرضها السماوات والأرض، يريد النظر إلى وجه الأحد الواحد، ويريد النعيم المقيم، أما دنيا البطون والسيارات، ودنيا المظاهر الكاذبة، والشهرة الآثمة، فلا يريدها: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].(86/22)