عظمة الدين
أما الكلمة: فلا إله إلا الله، محمد رسول الله، الكلمة التي قامت عليها الأرض والسماوات، والتي خلقت من أجلها الجنة والنار، الكلمة التي نصب عليها الصراط وأقيم الميزان، ومن أجلها تتطاير الصحف، دكدكت الدنيا من أجل هذه الكلمة خمس مرات، بالطوفان، والصاعقة، والصرصر، والزلزال، والخسف، لتستقر هذه الكلمة في قلوب الموحدين، فكأن أصوات المدافع في قلوب المؤمنين الروح والريحان.(26/3)
حملة كلمة التوحيد
كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله من حملها؟ إنه محمد عليه الصلاة والسلام، حملها بدمه وبدموعه وبجراحه وبوقته وبجهده، حملها والدنيا كل الدنيا تتحداه، فأوقف قدمه ورفع يده وقال للشرك: {والذي نفسي بيده لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته أو أهلك دونه}.
أمانة الكلمة: يحملها يوسف عليه السلام الصديق ابن الصديق، الكريم ابن الكريم ابن الكريم، في الحبس وداخل الزنزانة يسأل عن فتيا ورؤيا، فلا يجيب عن الرؤيا ولا عن الفتيا حتى يقول: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39].
فإذاً الله معه، وإذا هو ملء جوانحه وملء إدراكه وجفونه ومعتقده، فقبل أن يجيب وأن يفتي فإنه يوضح لمن يسأل عن الرؤيا العقيدة الإسلامية الخالدة، التي ترافق المحبوسين في حبسهم، والمسجونين في سجنهم، وأهل المعاناة مع معاناتهم، والتجار في تجارتهم، والفلاحين في فلاحتهم، والأساتذة في مدارسهم، والعلماء في مجامعهم، وكل أحد ترافقه كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا يوسف وهو محبوس ينبعث منطلقاً مشتعلاً بلا إله إلا الله، وإذا هو ينادي إلى معتقد التوحيد الأول الذي نادى به الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
ومؤمن آل فرعون يكتم إيمانه، ولكنه ينبعث في فجوة من فجوات الغيظ والمعاناة فيقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:28] وهي أمانة لا بد أن يحملها الإنسان يوم أن يشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، يسأل عنها، فإذا هو أمام الله قد أدى أمانته، وقد سلم جهده، وقد برئت عهدته إذا هو قام بها.
ليست الحياة التي يتصورها السادرون المخمورون؛ حياة الأكل والشرب، والشهوة، والظهور، والشبهة، والسيارة، والوظيفة، والقصر، والحديقة، والمنصب، لا:
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
أتى الطفيل بن عمرو الدوسي من زهران إلى محمد صلى الله عليه وسلم يسمعه يشعُّ بلا إله إلا الله، يسمعه يتفجر بلا إله إلا الله، يسمعه يحيي القلوب بلا إله إلا الله، قال: يا رسول الله! ادع الله على دوس، كفرت دوس، عصت دوس يقصد قبيلته، فأتى الرحيم العطوف الحنون صلى الله عليه وسلم ذو الخلق العظيم فرفع يديه، قال الطفيل: هلكت دوس! وظن أنه سوف يسحقها بكلمة يبيدها عن بكرة أبيها، فقال: {اللهم اهد دوساً وأت بهم} فانطلق داعية مؤثراً، فأسلموا عن بكرة أبيهم.(26/4)
مسئولية الجميع
إن الدعوة دور المجاهد المسلم الباحث عن الحقيقة، المستنير بنور الله، لا الخامل الذي يظن أنه أتى هنا موظفاً فحسب، تاجراً فحسب، جندياً فحسب، أستاذاً فحسب، معلماً فحسب، لا.
بل جاء أستاذاً وداعية، جندياً وداعية، تاجراً وداعية، فلاحاً وداعية، موجهاً وداعية، مفتشاً وداعية، وإلا فلا يتبوأ صهوة البراءة الأصلية عند أهل العلم ولا يكون من أهل الميثاق: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران:187] فنبذوا الرسالة وراء ظهورهم: {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187] قال الحسن: [[الثمن القليل الدنيا وما فيها!]]
ماذا تجدي الدنيا عن رجل غضب الله عليه، ونقض ميثاق الله؟! لا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى ولا يوجه ولا يؤثر ولا يوزع ولا يخطب ولا يغار ولا يغضب، إنما هو جثمان يأكل ويشرب ثم يموت، والله ذكر أعداءه أنهم ينفقون الأوقات والأموال والجهد قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] وهم يألمون ويخططون ويعملون ويشتغلون، لكن يقول المولى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:104] ويقول الشاعر:
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ولكننا كنا على الموت أصبرا
فنحن أهل عقيدة ورسالة، حملناها من القدم يوم أعلنها فينا عليه الصلاة والسلام، ووجه كل إنسان ليحمل أمانة الكلمة لا إله إلا الله.
يفور دمي وأنا أطالع تراجم أصحابه، وهم أمامه كالكواكب في المسجد، وهو شاخص على المنبر يتدفق بالكلمات عليه الصلاة والسلام، ثم يثير في قلوبهم لا إله إلا الله من جديد، كل يوم وهو يحرق في قلوبهم عناصر الوثنية.
يقول: {من يقتل خالد بن سفيان الهذلي فله الجنة، فيقول الشاب ابن أنيس: أتضمن لي الجنة؟ قال: نعم.
} فيقتله ويدخل الجنة بإذن الله، فليس عنده إلا الجنة، وهذه هي قيمة الكلمة التي أتى بها عليه الصلاة والسلام، قيمة لا إله إلا الله وثمنها، والبيعة الأولى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].(26/5)
عمر واهتمامه بالدعوة
وانظر إلى عمر وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، مطعون سرى دمه في الأرض، باع الدنيا وترك الخلافة وانتهى، وأسلم روحه إلى الله، ولكن همه في الدعوة ما زال قائماً، يأتيه غلام يجر قميصه أمامه، فقال: [[يا بن أخي! تعال، ارفع إزارك؛ فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك]] فلله دره! أي هم هذا الهم في وقت ينسى الإنسان فيه أخاه وأخته، وأباه وأمه، وابنه وأهله، وكيانه وجيرانه، وإخوانه وخلانه؟! ومع ذلك يأمر في مسألة نظنها نحن جزئية، أية حياة لمن لم يشتغل بهذا الدين؟! أي نفع له؟! وأية خارطة يشكلها؟!
أنا لست مهتماً بأصل قبيلتي ورائي قريش أو ورائي تغلبُ
فليست بلادي بيرقاً أو خريطةً ولكن بلادي حيث أسطيع أكتبُ
فلتؤثر ولتنشر ولتأمر ولتنه، وإلا فتوقع الغضب المقيت، الحال المحتوم من الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160].(26/6)
الهدهد يحمل هم الدعوة
وليستح الإنسان أن يكون الهدهد أعز منه جانباً وأقوى همة وأكثر حماساً لدين الله، هدهد يطير من اليمن من سبأ ويقع إلى أرض كنعان أو إلى فلسطين في كلام بعض أهل العلم، فيتأخر على سليمان، ويريد سليمان أن يأخذ منه ضريبة التأخر، فيجيب: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} [النمل:22] ولكن اللافت للنظر أنه يقول عن المرأة تلك: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:24].
هدهد نقم عليهم عملهم الخاطئ الوثني وأتى يخبرهم بعقيدة التوحيد لا إله إلا الله، ثم قال: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل:25] وانظر إليه كيف التفت إلى الخبء! لأنه هدهد ورزقه دائماً يخبئه، وأعظم معجزة عند الهدهد تخبئة الرزق، فمن يكشف رزقه إلا الله!
فأشار أي: بلسان الوحدانية، وبفم الصمدانية إلى رب السماوات والأرض، ثم أخبر أن هذه العقيدة بائرة خاسرة لا تصلح، وأن الأحسن منها عقيدة التوحيد، أما أدى دوره؟! أما حمل أمانة الكلمة؟! أما قام بها؟!
والله إن منا من هم أبخس حظاً من الهدهد، وأقل حماساً وغيرة، يرون المنكرات والمخالفات والتعديات، ثم لا يغضبون ولا تتمعر وجوههم، ولا يشاركون ولا يؤثرون ولا يتحمسون، فأنى لهم النجاة؟!
كيف ينجون من غضب الله عز وجل والله يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143]؟!
أمانة الكلمة أمانة الميثاق: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].(26/7)
النملة تلقي درساً في الدعوة
قال بعض المتأخرين لما جمع مذكرة في أمانة الكلمة: وأمانة الكلمة التي حملتها النملة فأنذرت قومها، وأنذرت صويحباتها: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18] فأنذرت وبشرت وأخبرت، وأنكرت وحذرت؛ لأنها تعيش مبدأ حماية النملات مبدأ المسئولية وهي أمانة الكلمة.(26/8)
الجن يدعون إلى الله
وفد الجن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة المعاناة، بعد أن أغلقت مكة أبوابها في وجه ابن مكة البار والراشد، والطائف أغلقت أبوابها، فنزل في وادي نخلة يبتهل إلى الله وتصعد أنفاسه:
محمدٌ في فؤاد الغار يرتجف في كفه الدهر والتأريخ والصحفُ
مزمَّل في رداء الوحي قد صعدت أنفاسه في ربوع الكون تأتلفُ
من الصفا من سماء البيت جلله نور من الله لا صُوف ولا خزفُ
والكفر يا ويحه غضبان من أسف لم يبقه القهر في الدنيا ولا الأسف
ولا رعته سيوف كلها كذب في صولة الحق والإيمان تنتسفُ
فماذا قال؟! نادى ربه وشكى إليه وبكى، فاستمع له الجن، ولكن هل كانوا سلبيين؟ هل سمعوا المحاضرة والدرس ثم خرجوا وهم في عزلة وانطواء، وفي نظرة سوداوية وتشاؤم؟! هل تركوا الميدان لأعداء الله من العلمانيين والمنافقين والكفرة والملحدين؟! لا.
بل قالوا: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:31].
وهي مسئولية الإنسان أن يحترم نفسه وأن يحترم مبادئه مستقبلاً، وأن يؤثر؛ وكم نحضر من المحاضرات! كم هي الألوف التي تحف بالمحاضر! وكم هي الألوف التي تحضر الجمعات! وكم هم طلائع الصحوة الذين يزينون شرفات المجامع العامة! أين تأثيرهم؟! أين أمرهم ونهيهم؟! أين توزيعهم للشريط الإسلامي وللكتيب الإسلامي؟! أين دروسهم؟! أين مشاركاتهم؟! أين نصائحهم؟! أين وعظهم؟! لو اشتغل منهم العشر لصلحت الدنيا، لو تأثر منهم العشر وقاموا وأخذوا بحديث: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} لأصلح الله بهم الجيل والأمة.(26/9)
جد أهل الباطل في دعوتهم
وانظر إلى أهل الباطل وأهل الوثنية وأهل الانحراف، كيف يخططون ويقررون وينفذون ويسهرون ويتألقون، ويلمعون بمبادئهم الباطلة ويتحمسون لها ويشاركون، فأين أهل الحق؟!
قال عمر شاكياً إلى الله: [[اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر ومن عجز الثقة]] جلد الفاجر: أن يكون الفاجر جلداً قوياً حازماً داهية في أمره، وأن يكون الثقة كسولاً فتوراً متخاذلاً، إنها قاصمة الظهر! حين تكون الأمة أعداداً هائلة لكنهم كما قال الشاعر:
عدد الحصى والرمل في تعدادهم فإذا حسبت وجدتهم أصفارا
من كل مفتون على قيثارة كلٌ وجدت بفنه بيطارا
أو كاذب خدع الشعوب بدجله عاش السنين بعمره ثرثارا
أو عالم لو مالقوه بدرهم رد النصوص وكذب الأخبارا(26/10)
الأمة بين عهدين
هذه أمة لا تستحق الريادة، ولا تستحق أن تكون الأمة الوسط، أمة الخلافة، الأمة التي تحمل المنهجية والميثاق في العالم، الأمة التي تتسلم قيادة البشرية، فهي قبلة وكعبة.
كعبة للأفكار فتؤخذ أفكار الدنيا من أفكارها، وكعبة للشريعة فشريعة الناس من شريعتها السماوية، من الوحي الصافي الذي نزل من فوق سبع سماوات.
وقبلة في الريادة، وقبلة في الأدب وفي الفن، وفي الطموح وفي الإدراك، وفي التربية وفي التعليم، هذه أمة تستحق، أما أمة عاطلة ينزوي صالحوها بحجة ركعتي الضحى وصيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ فلا يأمرون ولا يدرسون، ولا يتكلمون ولا يخطبون، وعندهم وسوسة الخوف من غير الله فيحجمون، لا والذي لا إله إلا هو حتى يذوق الإنسان الأمرين من غير أن يقول: آح.
إذا سألت الله في كل ما أملته نلت المنى والفلاح
بهمة تذهب ماء الحصى وعزمة ما شابها قول آحْ
فليس في الطريق آه ولا آح، وإنما في الطريق صبر ومواصلة ومصامدة للباطل ومراغمة؛ حتى تكون العاقبة للمتقين، والخاتمة لأولياء الله، والنصرة لمن يهتدي بهدى محمد صلى الله عليه وسلم ومن يحمل الكتاب والسنة ومن يقوم على هذا المبدأ، ويقدم رأسه ودمه وكل ما يملك، ليرضى الواحد الأحد، فإذا رضي الله فهو المغنم.
وأنا أخبركم بكلمة وهي سر بيني وبينكم، والمجالس بالأمانات، والذي نفسي بيده لو دفع أهل الدنيا ذهبهم وفضتهم وقناطرهم المقنطرة وخيولهم المسومة والأنعام والحرث، ثم غضب الله عليهم فإنها لا تنفعهم شيئاً، وهي خزي في الدنيا والآخرة، فوالذي نفسي بيده لو عاش الإنسان فقيراً مسكيناً، شريداً طريداً، حبيساً مقيتاً مريضاً، ثم رضي الله عنه إنها سعادة الدنيا والآخرة، وهي الرضوان، ولذلك منى الله الصحابة ووعدهم بذلك، وكان وعده حقاً، وبشرهم وهم تحت الشجرة يبايعون: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18].
تخيل أني أنا وأنت تحت الشجرة نسمع قول هذا النداء الحبيب، والله عز وجل ينادينا أنه رضي عنا، ثم ننفض ثيابنا من الغبار، ثم نقوم وقد رضي الواحد الأحد عنا، أي فوز وأي مغنم هذا؟!(26/11)
الجهاد والتضحية في عهد الصحابة
كان صلى الله عليه وسلم يقول لأحد أصحابه وقد مات في تبوك: {اللهم إني أمسيت عنه راضياً فارض عنه} ولا يتصور أحد أن رضا الله أمر سهل، من أجل رضا الله سالت دماء الصحابة وهم يقطعون أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، أحدهم يأتيه السهم فيرفع يديه يتلقى السهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الثاني: يضربه الرمح فيمد يده، الثالث: تكسر جمجمته، الرابع: تذهب عينه وتنزل في الأرض، وكلهم يقول: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى:
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا
وقاتلت معنا الأملاك في أحد تحت العجاج فما حادوا وما انكشفوا
فأي جهد بذلناه؟! ماذا قدمنا لديننا؟! أنا أعلم أن فينا استقامة ظاهرية، والباطن خير إن شاء الله، لكن أيظن ظان أن من أطلق لحيته وقصر ثوبه وحمل سواكه واكتفى بالنوافل التعبدية القاصرة اللازمة لنفسه أنه سوف ينجو من المسئولية يوم العرض الأكبر؟! مسئولية أداء الكلمة وأمانة الرسالة وحمل الميثاق؟! أيظن أنه يعفى؟! كلا.
والصحابة قدموا جماجمهم وحملوا دين الله إلى قرطبة والحمراء والسند والهند وكابل وكل بلد من أصقاع الدنيا، يحملون الرماح والسيوف، وينامون الليالي الطوال لا يجد أحدهم كسرة الخبز، ثم يدفنون في الصحراء هنا وهناك.
قرأت قصة لـ عمر وقد أتته بشائر الجيش المنتصر مع الأحنف بن قيس، فوصلوا إلى المدينة فاستقبلهم بشغف، لكنه ما يسر جيوشاً كان يعرفها، قتلوا هناك:
بـ قندهار ومن تكتب منيته بـ قندهار يرجم دونه الخبرُ
خرجوا من المدينة إلى قندهار، بلا طائرة ولا سيارة ولا موكب ولا حشم، خرجوا على أقدامهم يحملون أرواحهم على أكفهم في سبيل الله، خرجوا فتركوا اللذائذ، خرجوا فتركوا الطعام، خرجوا فتركوا الشراب، خرجوا فتركوا البنات والأبناء، فلذات القلوب وشذا الأنفس، خرجوا وتركوها لله، ثم ذبحوا ودفنوا هناك، فقام عمر يعانق الجيش لكنه ما يسر البقية، فأخذ يبكي، القريب الراعي المشغول، قال: أين فلان؟ قالوا: قتل، فترحم عليه، وفلان: قتل، وفلان: قتل، قالوا: يا أمير المؤمنين! وقتل أناس لا نعرفهم، فبكى عمر وقال: [[لكن الله يعرفهم]]، إن لم تعرفوهم أنتم ولم يسجلوا في الدواوين ولم أر أسماءهم في الدفاتر فالله يعرفهم، الله يدري ويعلم من الذي يقتل في سبيله ويجاهد وينفق ويعطي.
ونحن والحمد لله في مؤسسة نافعة، أعضاؤها أهل الخير من الأطهار الأخيار الأبرار الذين يتوضئون لصلاة الفجر، وينحدرون في البرد القارس إلى المساجد، فيضعون جباههم، وأبشرهم أنها لا تخزى يوم العرض الأكبر!
فوالذي نفسي بيده لا نجعل أبداً رجلاً متمرداً جلس ونام على فراشه، وسمع الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ثم أعرض وسكت وخنع على فراشه كرجل مسلم متوضئ متطهر، سمع حي على الصلاة، حي على الفلاح، فانتفض من فراشه.
وفي صحيح مسلم أن عائشة تقول: {كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع الصارخ وثب، قال الأسود: -راوي الحديث- وأنا أعلم ما تعني وثب} لم تقل: قام، ولم نقل: تحرك، بل وثب صلى الله عليه وسلم حتى يسقط فراشه أو لحافه وهو واقف.
والله لا نجعل هذا كهذا الذي يأتي إلى المسجد، فيصلي ويمرغ جبينه للواحد الأحد، هذه المؤسسة أعضاؤها الخيرون وهي مؤسسة محمد صلى الله عليه وسلم أعضاؤها مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وزيد ومعاذ، فمن لم يكن على طريقتهم فليقدم الآن تنازله، ولا يدخل في هذه المؤسسة، وليعلم أنه سوف يندم في يوم من الأيام: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
يسمعني تاجر لعله يظن أنه بدرهمه ووسع بيته وبستانه سوف ينجو، لا.
وقد قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37].
إن الذي يقربكم زلفى عند الله: الإنفاق، بناء المساجد، الإصلاح، أن تدفع مالك سخياً للدعوة وللأمانة وللرسالة، وأن تكون متهيئاً في قبرك بمهاد أحسن من مهادك الذي مهدت في فلتك وفي قصرك، تذهب هناك لكنك تتركه هنا، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] فلا أعطيات ولا سيارات ولا فلل ولا قصور.
وكلامي هذا لأستاذ يؤدي مادةً في فصل فيظن أن معنى ذلك: أن يتعاطى أعطية وأجراً في آخر الشهر، أو يقدم مادة سواء فهم الطلاب أم لم يفهموا، ونسي أنه داعية، وأنه خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الله سوف يسأله عن كلامه وعن عباراته وعن جمله، وهل أثر في الجيل والنشء الذي طرحناه أمامه وبين يديه؟!
وكلامي هذا لجندي استأمنه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وسهرت عينه لمصالح المسلمين، عسى عينه ألا تمسها النار! فيسأل نفسه: هل قمت بالجندية الإسلامية، وكنت حاملاً للا إله إلا الله محمد رسول الله؟ هل صدقت مع الله؟ هل كنت ساهراً في مرضاة الله؟ هل سهرت كما سهر سعد وعمار وعباد بن بشر؟ هل آمنت بهذه الكلمة الصادقة الحقة لا إله إلا الله؟
وكلامي كذلك لداعية أنفق جهده وساعاته في الدعوة إلى الله عز وجل، ألا يتعالى على الله ولا يتعزز ولا يمن على الله؛ فالفضل لله والعطاء من الله، والكلام والتوفيق والعلم منه سبحانه وتعالى فما لنا شيء: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] ويمنون عليك أن أنفقوا، ويمنون عليك أن جاهدوا، ويمنون عليك أن وعظوا وخطبوا، قل لا تمنوا علي خطبكم ولا وعظكم، ولا دراهمكم ولا أموالكم، المنة لله الواحد الأحد، هو الذي أعطى ووهب ثم امتحن الناس: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة:48].
فالإتيان منه، والعطاء منه، والبذل منه، والخير منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فيا أيها الإخوة! لا نبخل بعطاء الله الذي أعطانا فنكون نحن من الخاسرين.(26/12)
من أحوال الأمة في هذا العصر
أمر آخر -أيها الإخوة- وهو: أننا ننطلق من الجمعة إلى الجمعة والجمعات دائماً وأبداً، فنسمع الخطيب الذي يوجه الأمة، ثم نعود بعد أسبوع فما قدمنا في المسيرة شيئاً، ولكني أستثني الشرفاء، حملة الكلمة الحقة، الصادقين الصابرين، أستثنيهم، لكن الكم الهائل من أمة تعدادها مليار، أو مليار ومائتا مليون، أمة إسلامية تسمي نفسها أمة المليار، ثلث سكان الكرة الأرضية، ماذا قدمت للعالم الإسلامي؟ ما هو تأثيرها في القرار؟ ما هي مواقفها؟ وأعراض المسلمين في البوسنة والهرسك والصومال وأفعانستان وبورما وكشمير.
وغيرها تنتهك، والجماجم تفصل عن الأعناق، والأطفال ينصرون ويهودون، ويحولون عن فطرة الله التي فطر الناس عليها، والصيحات والضجات والدموع والدماء، والأسر والفتك في هذه الأمة، أمة المليار ماذا قدمت لأنفسها؟ ما هو موقفها أمام الله ثم أمام التاريخ؟ هل سألت نفسها: هل قامت بجهد؟
إن بعض الناس من أهل الغنى أو الثراء أو الدعوة أو العلم يظن أنه إذا شحذه داعية وطلب منه أن يقدم شيئاً أنه أحسن لهذا الداعية أو أحسن للإسلام، أحسنت أنت لنفسك: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7].
فالإحسان للنفس ليس إلا.(26/13)
المسلمون ودراسة الإسلام
إخوتي في الله! بقي هناك مسائل أعرضها قبل أن ألتفت إلى الأسئلة إن كان هناك أسئلة، ولا أريد أن أطيل عليكم، والحقيقة أن هذا الزواج يباركه الله لأنه زواج إسلامي، وفيه قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، ولسنا بالذي يريد تحويل الزواجات إلى مآتم، فنذكر فيها القبر، وكيف يكفن الميت أو يغسل، وكيف يبكي عليه قرابته، وعذاب منكر ونكير، وموقف أهل السنة والجماعة من عذاب القبر ومن نعيمه، فهذا له مجال، وهذا له مجال، لكننا نفرح بلقاء أحبابنا وإخواننا الذين قد لا نجتمع معهم في صلاة أو في جمعة أو في عيد، فنتكلم لهم بقضيتنا وبهمنا وبرسالتنا الكبرى التي نُسأل عنها دائماً وأبداً.(26/14)
مأساة الضياع والحياة بلا رسالة
يقول أحد الفضلاء: اجعل هم الرسالة في رأسك كالصداع، أتنسى الصداع؟ رجل مصدوع يخرج إلى السوق أينسى صداعه؟ أينسى رسالته؟ أية هامشية يعيشها هؤلاء الذين يعيشون لأنفسهم ولبطونهم ولسياراتهم؟ وأية تفاهة هذه؟ أتعرف عالم التفاهة وعالم الهامشية وعالم الضياع؟ إنه يشكل خارطة كبرى من العالم الإسلامي: خارطة الكرة، والبلوت، والسيجارة، والمقهى، والمجلة، والشريط الكاسيت، والفيديو، خارطة الضياع بأنواعه، والأغنية والمجون والسفه والسقوط، ولا يسقط العبد بهذه حتى يسقط من عين الله، يوم ينظر الله إليه فلا يجد في قلبه مدافعة، ولا يجد في قلبه حباً، ولا تأثيراً بأن يكون عبداً لله عز وجل، لأنه كما قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] لو علم الله في هذا الجيل، ولا أقصد هؤلاء الفضلاء، ولا هؤلاء الشرفاء، ولا هؤلاء الأخيار، لو علم الله في ذاك الجيل الضائع الهامشي أنه يريد الدعوة والصلاح والاستقامة والتأثير في الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليدخل جنة عرضها السماوات والأرض، وليبيض وجهه يوم تسود وجوه وتبيض وجوه، وليعلي كعبه، وليدخل رضوان الله، لو علم الله في هؤلاء خيراً لأسمعهم الرسالة، فوقعت في قلوبهم، فأحبوا لقاء الله، فدفعوا العرق والدم والمال والوقت وكل شيء في سبيل الله.
والله يقول عن أعدائه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] وهذا الزياغ نسبي يزيغ به المنافق والكافر والفاسق، فالفاسق يزيغ، لأنه بدأ الزيغ فأزاغ الله قلبه، زاغ من المسجد إلى الملعب، وزاغ من المصحف إلى المجلة الخليعة، وزاغ من التلاوة الحقة والشريط الإسلامي إلى الأغنية، فأزاغ قلبه، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن أوليائه وأحبابه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] تعبوا فينا، سهروا فينا، أعطوا فينا، تكلموا فينا، أنفقوا فينا، أي: من أجل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ولقد أحسن من قال:
ما أحسن الصبر الجميل بعاشقيك وأجملا
إن تحم عيني أن تراك جعلت قلبي منزلا
وحقك لو أدخلتني النار قلت للذين بها قد كنت ممن أحبهُ
وأفنيت جسمي في علوم كثيرة وما منيتي إلا رضاه وقربهُ
ثم يقول:
أما قلتمُ من كان فينا مجاهداً سيحمد مثواه ويعذب شربهُ
الشباب الآن، هؤلاء الألوف المؤلفة الذي يموت أحدهم وهو على كرة وتسلية وهواية، وحزبية لنادٍ على نادٍ، وتصفيق وزفير وشهيق، ثم يغسل ويكفن ويدفن، أية رسالة قدمها للأمة؟! أي جهد؟! هل كان طياراً؟! هل كان طبيباً؟! هل كان مهندساً مسلماً، داعية مؤثراً؟! أهذا الجهد من أجله خلقت السماوات والأرض؟! من أجله خلق الإنسان، من أجله خلف في الأرض! من أجله بعثت الرسل! أمن أجل هذه الهواية؟: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون:115] عبث صور، وعبث نماذج، وعبث ميادين، وعبث العقول، أحدهم يبلغ الستين وهو ما زال طفلاً عابثاً! وأحدهم يكون طويلاً متيناً قوياً وهو عابث! وأحدهم يدرك ويفهم ويعقل وهو عابث! وأحدهم عنده شهادة ومال ومنصب وهو عابث! فأي عبث؟ أهي رسالة العبث أم رسالة الحق المتلقاة عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم؟(26/15)
البشرية تتعطش إلى الإسلام
إخوتي في الله! إنني أسأل مرة ثانية: ماذا قدمنا للناس في عالم الدنيا وفي عالم الآخرة؟ يتحرون منا أن نقدم لهم الإيمان والعمل الصالح، وأن نعيدهم إلى دين الله، فقد احترقت أوراق الباطل، لا الشيوعية العالمية ولا الصهيونية ولا الرأسمالية، ولا غيرها من الملل والنحل والأطروحات، وبقيت ملة الإسلام، وأصبح الإسلام يسير بنفسه بلا أهل، مسكين هو الإسلام! دين قوي صحيح أصيل ولكن لا يحمله أحد، مسكين هو الإسلام! حق ثابت مؤصل من الله، لكن ما له أحد، مسكين هو الإسلام، كم تلقى من الضربات من أعدائه! سحق مرة ولم ينسحق، استولى التتار على العالم الإسلامي، فعاد الإسلام وانتفض، فإذا هو أقوى مما كان.
وأتى أهل الصليب فسحقوه ولم ينسحق، فخرج أقوى وأعتى مما كان، ووجهت له الشيوعية ضربة فانتفض وانتصر، والرأسمالية ضربة فانتصر، والصهيونية ضربة فانتصر، فسوف ينتصر، سواء نصرناه نحن وإياكم لم ننصره؛ كما قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] أو نكون في ركام قائمة الهامشية، فلا نعد ولا نحسب، وما وفينا وما صدقنا مع الله وما قمنا بشيء.
إن هذا الكلام ليس تنفيساً عاطفياً ليتكلم الإنسان بالكلمات الرنانة، ولكنه يطلب منه أثر وواقع، وأن تكون داعية إلى الله، غيوراً على محارم الله، تقوم بدين الله وبرسالته في الأرض، لتكون صادقاً مع الله عز وجل، وتحمل الميثاق.(26/16)
المستقبل للإسلام
أيها الاخوة الفضلاء: أشكر من شاركنا في هذا المكان الطيب من إخوتنا المشايخ والدعاة، والأخيار والقضاة والأحبة، وأسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجمعنا بهم في دار الكرامة، وقد ذكرنا هذا المجلس بأبيات زهير بن أبي سلمى:
وفيهم مقامات الحسان وجوههم وأندية ينتادها النبل والفضلُ
جزى الله رب الناس خير جزائه وأبلاهم خير البلاء الذي يبلو
وما كان من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبلُ
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه وتغرس إلا في مغارسها النخلُ
أباؤكم هم: معاذ، أُبي، سعد، سلمان، طارق، خالد بن الوليد، فلا عجب أن تنبعث طائفة من المؤمنين تقول:
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا
ونتكلم كما تكلموا، ونقرئ الناس ونعلمهم ونرشدهم كما فعل أولئك، وليس على الله بعزيز! وفي مسند أحمد عن أنس قال صلى الله عليه وسلم: {أمتي كالغيث لا يدرى الخير في أوله أم في آخره} سبحانك ربي! أية أمة معطاءة! أو أية أمة مجيدة! كلما قالوا: خمدت، خرج منها آلاف الشهداء، وآلاف العظماء، وآلاف الخطباء، وآلاف الأدباء، وآلاف الدعاة.
ضجت أفغانستان قبل ثلاث عشرة سنة، وظن الناس أن الشيوعية سوف تسحقها، فخرج الأبطال في شوارع كابل يحملون الكلاشنكوف ويقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
فمن أخرجهم؟ أخرجتهم لا إله إلا الله، وأهل الصومال يخرجون من بين شجر الكاكاو يقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
وفي سراييفو وفي بورما وفي كشمير وفي كل بلد، ميراث محمد صلى الله عليه وسلم ودعاته وجيله وأحبابه الذين يريدون أن يركبوا في سفينته، ولن ينجو إلا من ركب في هذه السفينة.
أما الذي لا يركب في سفينته فلا يطمع مرة من المرات أنه سوف ينجو، بل سوف يأخذه الطوفان ويهلك ويدمر: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد لما كان أرصدا
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(26/17)
الأسئلة(26/18)
الأنانية وحب الظهور
السؤال
نرجو منكم إلقاء كلمة حول الأنانية وحب الظهور؟
الجواب
تتردد قضية بين النسوة والجيل والشباب وهي مسألة الأنانية وحب الذات، والأنا وحب الظهور ونحو ذلك كبار من أمراض القلوب، وإذا وجد في العبد (أنا ولي وعندي) فقد تلف! إلا أن يعصمه الله ويتوب عليه، فتجد بعضهم يحب كلمة "أنا" وأن يكون هو الذي في الصورة وغيره لا، فيتحقر الآخرين ويسخر بهم ويتعالى عليهم ويصادر طاقات الناس، سواء كانوا جماعات أو أفراداً، وتجده بعملية الإسقاط -عند أهل التربية- يسقط الآخرين، إن كان خطيباً أسقط الخطباء، وإن كان داعية سعى لإسقاط الدعاة ليبقى هو، وإن كان منفقاً سعى لإتلاف وإسقاط المنفقين، وهذا ذنب كبير عليه أن يتوب منه.(26/19)
كثرة الوسائل الدعوية
السؤال
أريد أن أشارك في الدعوة لكن ليس لي قدرة على الخطابة فما هي نصيحتكم لي؟
الجواب
هناك من يتصور أن الدعوة فقط إنما تكمن في المحاضرة، والدرس، والندوة، والخطبة، وهذا ليس بصحيح، الدعوة أكبر من ذلك، الدعوة هي الحياة الإسلامية، هي التي تقدم لله عز وجل بأية صورة قدمت، لم يكن الصحابة كلهم خطباء، ولا متفوهين ولا مدرسين، هذا مجاهد بماله، وهذا بدمه، وهذا مخطط، وهذا منسق، وهذا منفق، وهذا يصلح بين اثنين، وهذا يقف مع المنكوبين، فهذا جهاد كبير يتوزع على الأمة، والدعوة فقط بالمحاضرة والندوة والخطبة إنما هي صورة من صور هذه الدعوة الكثيرة.(26/20)
الخوف من العجب
السؤال
أريد أن أدعو وأخاف على نفسي العجب؟
الجواب
على كل حال أيها الأخ! أنت إذا ذهبت إلى الشيطان تستفتيه عن كل خطوة تريد أن تخطوها فإنه يفتيك بالرفض، فلا يريد أن تتكلم ولا أن تخطب ولا أن تدعو، ويأتيك بالورع البارد المظلم، لأنه هو يدخل من هذه المداخل، إن رآك خائفاً من الورع ورَّعك أكثر حتى تخرج بالغلو من الدين، وإن رآك عابداً مشمراً أخرجك بالغلو إلى أن تبتدع في العبادة ما ليس منها، وإن رآك مقصراً قصر بك حتى تجفو، فانتبه له واحذر أن تستفتيه! إنما يُستفتى مثل هيئة كبار العلماء، أما الشيطان فلا يستفتى في هذه المسائل.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {بلغوا عني ولو آية} ويقول: {نضر الله امرءاً سمع مني مقالة فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع}.(26/21)
خمول شباب الصحوة
السؤال
يشكو بعضهم من تقصير وانشغال وخمول شباب الصحوة.
الجواب
عسى ألا يستمر هذا الفتور! وعسى أن يكون فتوراً لا بد منه، لأنه لا بد للسائرين إلى الله من فتور، وقد شكا منه الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الصحابة، وهم أهل بدر وأحد والعقبة، فكيف بنا نحن وليس عندنا قدوة كما كان صلى الله عليه وسلم، وما كان أصحابنا وجلاسنا يوماً من الأيام كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي هريرة وابن مسعود؟! وعندنا من المنكرات والوسائل والأساليب والفتن وما فتح من الخزائن ما الله به عليم؟! لكن ما هو الموقف؟ الموقف أن تكون غفوة، أن تكون غفوة ذئب، لا نوم سلحفاة، فلا تنم ثم تقل: هذا فتور لا بد منه!(26/22)
صلاة الفجر جماعة
السؤال
من مظاهر الفتور أن شباب الصحوة لا يصلون الفجر جماعة، فما قولكم في هذا؟
الجواب
إذا بلغ هذا الحال نسأل الله العافية.
يقول أحد الصالحين: إذا رأيت الرجل وتفقدته فما صلى الفجر معك في جماعة فاغسل يديك منه! أي انفض يديك منه، العلامة الفارقة بيننا وبينهم صلاة الفجر، أن يأتي إلى صلاة الفجر، هذه الشهادة الكبرى، أنك صليت الفجر في جماعة، أما إذا وصل إلى هذا الحال واغتاله الشيطان، فحاول أن تتأخر عنه أو أن تدعوه أو تقيم الحجة عليه، لأن المسألة مسألة عمل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] ليس معناه: أن يحب الدين ويحب الله عز وجل، ويقول: أنا متحمس! ويريد التأثير ثم لا يصلي الفجر جماعة! لا والله حتى يصلي الفجر جماعة!
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم في صلاة العشاء فيقول: استووا استووا، وكان هناك ظلمة في جو المدينة، وظن المنافقون أنهم سوف يبتعدون عنه صلى الله عليه وسلم، ويتخلفون في بيوتهم، فقام صلى الله عليه وسلم مغضباً محمرَّ الوجه، وقال: {والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون العشاء معنا أو الصلاة معنا، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار} ماذا تنفع الرتب العسكرية والشهادات العلمية والمناصب العالية والأموال الطائلة لأناس لا يصلون الفجر جماعة؟ أي شهادة هذه وأي رتب؟! من يرضى عنهم إذا غضب الله عليهم؟!(26/23)
دور المرأة
السؤال
ما هو دور المرأة؟
الجواب
حقيقة الشيخ حمد لفت انتباهي لهذا الجانب، وقال: ليس فيه كفاية لكني أقول: إنها مسئولية الكلمة عند المرأة، والرسول صلى الله عليه وسلم تزوج تسعاً من النساء لا لمطمع، إلا لتبليغ دين الله عز وجل من طريق النساء، إلا لتكون المرأة داعية مؤثرة في بنات جنسها، والمرأة مع الرسول صلى الله عليه وسلم دائماً وأبداً حتى جعل لهن يوماً من نفسه، وعقد البخاري على ذلك باباً، فكان يعلم صلى الله عليه وسلم، فتنتقل هذه المرأة مبلغة ومفهمة حتى يبلغ بـ عائشة أن تكون مجتهدة مطلقة في دين الله، يعود إليها كبار الصحابة إذا أشكل عليهم بعض المسائل.(26/24)
دور المدرسين
السؤال
هل هناك كلمة خاصة للأساتذة؟
الجواب
على كل حال ورد في الموضوع كلمة للأساتذة، ولكن عندي بعض الوقفات لهم:
الأمر الأول: أن علاقة الحب في الله عز وجل هي أقوى العلاقات بين الأستاذ والطالب، لا الإرهاب الفكري وهو أن بعض الأساتذة قد يمارس فرض السيطرة على الطلاب بحجة أن يستمعوا له وأن يهابوه حتى كأنه قيصر أو كسرى في الفصل، وهذه طريقة خاطئة وقد أثبتت عدم جدواها، وأثبتت أن الطالب لن يستفيد أبداً، وإذا وثق فيك الطالب وأحبك في الله استفاد منك ودعا لك.
الأمر الثاني: أن هؤلاء الذين في الفصل هم جميعاً في ميزان حسناتك: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
الأمر الثالث: أن الكلمات تكون هباءً منثوراً إذا لم تكن قدوة ماثلة في شخصك، تكلمهم عن الصدق وأنت صادق، عن إعفاء اللحية وأنت ملتح، عن تقصير الثوب وأنت مقصر، عن ترك الغناء وأنت لا تستمع الغناء، عن بر الوالدين وأنت بار بوالديك، عن حسن الجوار وأنت حسن الجوار، هذه هي القدوة، وليعلم الإنسان الذي يتكلم بشيء يخالف ما هو عليه أنه إنما يوبخ نفسه ويكذبها أمام الناس، فكيف بطلبة العلم الذين أمامه؟!(26/25)
متابعة الأب لأولاده
السؤال
ما هو رأيكم فيمن يترك أبناءه وبناته ولا يسأل عنهم ولا يستفسر عن سلوكياتهم بحجة الثقة؟
الجواب
صار الكلام موجهاً إلى الآباء في كثير من المناسبات من الدعاة والعلماء، ولكن بعضهم ما يزال يترك أبناءه وبناته بحجة الثقة المطلقة، فإذا كلمته في ابنه قال: ابني ما علمت فيه إلا خيراً، ابني لا يفعل شيئاً، وكأن ابنه معصوم، وبنته كذلك كأنها صاحبة ثقة، وأمينة لا يمكن أن يحدث منها شيء، فهذه الثقة أودت بكثير من الآباء أن تركوا أبناءهم وبناتهم، ووقعت دواهي -نسأل الله العافية والسلامة- بحجة الثقة.(26/26)
شمولية الإسلام
السؤال
هل في حياة الإنسان شيء يخرج عن الدين الإسلامي؟
الجواب
لا يخرج عن الدين الإسلامي شيء، المسلم محوط بدين حتى في مزحه وفي نومه وفي يقظته، وفي أكله، وشربه، وفي سفره وحله، ويتصور بعض الناس أن هناك ساعة وساعة، {ساعة وساعة} حديث مروي في صحيح مسلم، ومعناها: الراحة بالمباح وهي من الدين، فبعضهم يتصور أن هناك ساعة للدين وساعة للدنيا أو لغير الله، قالوا: ساعة لربك وساعة لقلبك، وكأن الساعة التي لقلبك لا يدخل فيها لله مدخل، وهذا خطأ لا يصح إطلاقه وقد رد عليه أهل العلم من أوجه كثيرة.(26/27)
تخصيص وقت للتعلم
السؤال
بعض الناس يعتكف في بيته ليطلب العلم ويتخلى عن الناس فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
إن كان هذا في وقت محدد فلا بأس به، وقت يخصص لنفسه، وأنا أشير بذلك على إخواني الطلاب والشباب ألا يكونوا مخالطين في كل وقت ليلاً ونهاراً، وليكن لك وقت لكي تطلب العلم فيه في بيتك وتقرأ وتطالع، لأن الذي يخالط ليل نهار سوف تكون أفكاره بسيطة، يعيش بأفكار الناس ولا يكون عنده جديد، ولكن الذي يعتزل الناس دائماً وأبداً، ولا ينفع ولا يحضر الجمع والجماعات ولا المناسبات والأعياد، ولا يستفيد من أهل الوعي فهذا مخالف لدين الله، ودين الله وسط، فالخلوة لا بد منها، وهذا أمر نسبي، ومن ألهمه الله عز وجل عرف الطريق، فيخالط الناس في الخير، ويعتزلهم في فضول المباحات، فما بالك بالمعاصي؟! فهو من الاعتزال الواجب.(26/28)
حفظ السنة النبوية
السؤال
ما هو انطباعكم عن حفل السنة بـ القصيم؟
الجواب
حضرته والحمد لله، وكان من أسعد الليالي في حياتي ليلة حضرت ذاك الحفل البهيج، وخرجت منه بمسائل، وقد جلست مع حملة السنة -هؤلاء الحفظة- اليوم الثاني من العصر إلى صلاة العشاء في مجلس خاص، فاستفدت فوائد منها:
الأمر الأول: أن الهمة بالإمكان أن تطبع فتصبح طبيعة في حياة الإنسان، وأن الحفظ يمكن أن يطبع، وأن الهيلمان الذي وضع للحفظ، وأن الحفظ مع السلف فقط انتهى والحمد لله، وكسر تلك الليلة في بريدة، فقد رأينا ثمانية شباب يحفظ كل واحد منهم أربعة آلاف حديث، يحفظها كالفاتحة، ويبارونه ويسألونه ويخلطون عليه المخرجين والرواة، ويأتي بهم صباً صباً وتوكيداً توكيداً وحفظاً حفظاً، وهذا نبوغ والحمد لله.
الأمر الثاني: استفدت أن العمل المستمر هو الأثبت من المنقطع، فأخبرني أحدهم أنه كان يحفظ كل يوم صفحة، فأنا أرى أن من أراد أن يحفظ شيئاً فليحفظ كل يوم صفحة، حتى قالوا: كنا نحفظ يوم الجمعة، ونحفظ حتى في الأعياد، وكان أحدنا عنده امتحان اليوم الثاني، فكان يحفظ في اليوم الأول، من الحديث ويواصل هكذا.
استفدت أيضاً: أن على الأمة يجب أن تراجع موقفها من السنة المطهرة، فقد مر بها فترة من الفترات اعتنت بالقرآن وهذا هو الواجب وينبغي أن تزيد، لكنها أهملت جانب السنة حفظاً ومراجعة وتحقيقاً وتنقيحاً، فإن نَفَس الخوارج التركيز على القرآن وترك السنة، ونفس العصرانيين والعقلانيين أنهم يقولون: القرآن القرآن فقط، ولكنهم لا يأخذون بالسنة، حدثنا أحد المشايخ: أنهم دخلوا الحرم بعد صلاة الفجر، فقام أحد العصرانيين من بعض البلدان العربية، فتحلق الناس لما رأوه فكان يلقي كلمة، وقال: عليكم بالقرآن أيها الناس، فقام أحد الوعاظ في هذه الجلسة، وكان حاداً متحمساً مندفعاً، وقال: والسنة؟ قال هذا العصراني المتكلم: القرآن، قال الواعظ: والسنة، قال: القرآن القرآن، فقام هذا الواعظ المتحمس وفصفعه بعد صلاة الفجر، فقام الناس قسمين: البعض يمسك هذا، والبعض يمسك المضروب، فكأنه يعلمه بهذه الصفعة -وهذه من صفعات أهل السنة - أن هناك وحيين: {ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه} هناك قرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهناك سنة مع القرآن تبينه: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] أنت يا محمد! صلى الله عليه وسلم تبين للناس ما نزل إليهم.
فيجب أن نهتم بهذا وبهذا، أيضاً أرى أن من أراد أن يحفظ منكم لا يحفظ تخليطاً ولا سبهللا، يأخذ مختصراً مثل مختصر المنذري لصحيح مسلم، أو مختصر الزبيدي لصحيح البخاري، هذان المختصران مجيدان، وهنا كتابان: رياض الصالحين وبلوغ المرام، ولا يأتي الإنسان بوسوسات يقول: هؤلاء أوتوا عقولاً، لا.
ولكنهم شدوا من هممهم واستعانوا بالله وواظبوا ثم وصلوا.
رأيت في مذكرات مثل طه حسين هذا يقول: أنا رجل عادي لكن عندي همة، وابن الجوزي يقول عن نفسه:
لي همة في العلم ما مر مثلها وهي التي جلب البلاء هي التي
إلى آخر ما قال:
لو كان هذا العلم شيخاً ناطقاً وسألته هل زار مثلي قال لا
والسبب أنه بهمته وبأخذه على نفسه وصل، وما أنزل الله من السماء عباقرة لا يخطئون ولا يسيئون، لكن جعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الأمة من يهتم ومن يحصل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].(26/29)
العنصرية القبلية
السؤال
ما رأي فضيلتكم في العنصرية القبلية؟
الجواب
أنا قد قلت:
أنا لست مهتماً بأصل قبيلتي ورائي قريش أو ورائي تغلب
الإنسان ابن نفسه، ولا يعني ذلك اختلاط الأنساب، وأن الإنسان -كما في الغرب- ينتسب أحياناً لزوج أمه، ولو كان رجلاً آخر، مثل بيل كلينتون، فـ كلينتون هذا زوج أمه وليس أباه، لأن أباه طلق أمه، ولما طلق أبوه أمه تزوجها رجل آخر، فلما تزوجها انتسب إليه وأصبح كلينتون أباه، فنقول: خلط النسب ضياع، وهو من الوثنية والجاهلية، ونحن أهل الإسلام نحفظ الأنساب، ولا نجعل هذه الأنساب كأننا ندخل بها الجنة، أنت من قبيلة فلان، وتتنطع بها في المجالس:
إذا فخرت بآباء لهم شرف نعم صدقت ولكن بئسما ولدوا
فـ أبو لهب تنطع بنسبه، فأكبه الله على منخريه في النار، وأنزل فيه سورة نقرؤها في الصباح والمساء سباً وشتيمة فيه، وبلال من أرض الحبشة وله قصر كالربابة البيضاء في الجنة، من يعرف منكم أباه رباحاً أو يعرف أنسابه أو أجداده؟!
سلمان الفارسي من أبوه؟! يقول:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
هذا هو دين الله، أما القبيلة فهي لا تنفع، والواجب علينا أن نحاصرها في نطاق ضيق، وأنا رأيت بالتجربة والاستقراء أني ما رأيت أحداً يفتخر بهذه القبيلة وهذه العنصرية إلا أحد اثنين:
إما رجل في قلبه مرض، ولا يحب الدين وأهله، وعنده مركب نقص، فتجده دائماً ليس عنده فضل ولا دين ولا ورع ولا حسن خلق، دائماً يتعلق بالأجداد والآباء والقبيلة.
أو رجل جاهل مركب، يظن أن الناس يوم القيامة يدعون بقبائلهم، فلا والله، إنما الإنسان ابن نفسه، قتيبة بن مسلم من باهلة، وباهلة عند العرب لا تساوي درهمين! حتى قيل لأحد الناس: أتريد أن تدخل الجنة وأن جارك في الجنة باهلي؟ قال: نعم.
ولكن بشرط ألا يدري أهل الجنة أن جاري باهلي، ومع ذلك أتى قتيبة بن مسلم فكان فاتحاً مجيداً، وفتح الهند والسند ودكدكها بلا إله إلا الله محمد رسول الله، فتشرفت القبيلة به.
وأيضاً: مثل من يفتخر بجماعته وينتمي لجماعة يتبجح بهم، ويقول: هذه الجماعة هي العامة الشاملة المؤصلة التي يجعل الله فيها النور والخلافة والريادة، وآخر ينكت عليه، وآخر يفتخر بإقليمه أو قبيلته أو بشيخه، أو بأستاذه، فكلها من الجاهلية.(26/30)
السعي إلى الزواج
السؤال
أنا شاب لم أتزوج فادع لي أن يوفقني الله! وما نصيحتكم في هذا؟
الجواب
الله يوفقك! ومن أراد الزواج فلا يظل في بيته حتى تدخل عليه زوجته! فالإنسان يتقي الله عز وجل، وإذا لم يستطع فإنه يصبر، ثم إذا وجد مجالاً فليذهب ويخطب ويتزوج، ونحن لا نعطل الأسباب، لأن بعض الإخوة يقول: أنا لا أحفظ في العلم، فادع لي أن يحفظني الله، ثم تجد الناس يدعون له في المسجد، وهو جالس لا يذاكر، ولا يقرأ، يظن أن صحيح البخاري أو مختصر الزبيدي سوف ينزل في ذهنه، وهذا لا يمكن، لا بد من الإيمان بالأسباب وأخذ الوسائل حتى يحفظ الإنسان ويكون عبداً لله.(26/31)
البث المباشر
السؤال
ماذا عن الدش؟
الجواب
الدش وردت فيه فتاوى من الشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين، والشيخ ابن جبرين، وقد كثر الكلام فيه، والفتوى موجودة، ونحن أحياناً نجتر الكلام، ونجتر الفتيا، ونجتر المحاضرات، فتجد الواحد يعرف الفتيا، فيشرب الدخان، وتقول له: حرام، فيقول لك: والله أنا سمعت ابن باز يقول: حرام، وسمعت ابن عثيمين وابن جبرين، لكن يأتي يسألك لرابع مرة، لأنه يبحث عن رخص أو يريد أن يسمع وجهات النظر.
قرأت في السيرة أن عمر رضي الله عنه أتاه أعرابي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي فسأله وقال: يا عمر! سعيت قبل أن أطوف! قال له عمر: افعل ولا حرج، قال الأعرابي: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك، فقال مثلما قلت، فقال عمر: [[خررت من يدك -أي وقعت من رأسك- تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تسألني]] يعني أن صاحب المنهج موجود، فكبار العلماء أفتوا ونصحوا وأرشدوا وما عندنا يكفينا.(26/32)
الرفق بالمدعوين ومتابعتهم
السؤال
إذا ألقى أحدنا نصحه ولم يستجب له، فهل تبرأ ذمته؟
الجواب
بعض الإخوة فيه حماس وعاطفة، يظن أنه لو ألقى كلمة في مجلس فقد انتهى دوره، وقال: أنا بلغت! اللهم إني أقمت الحجة عليهم! سواء اهتدوا أو لم يهتدوا، وبعضهم إذا أخبر جيرانه أو نبههم للصلاة قال: اللهم اشهد إني أقمت عليهم الحجة! أبرأ إلى الله منهم! هذه ليست بدعوة، فلا بد أن ندعو بالتي هي أحسن ونستخدم الأساليب والوسائل.
لأن المقصود ليس إقامة الحجة فحسب، إنما المقصود: أن تدعو حتى تنقذهم من النار.(26/33)
شروط الداعية والواعظ
السؤال
ما هي الشروط التي لابد أن تتوفر في الداعية الواعظ؟
الجواب
على كل حال كلنا مركب نقص، قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} [النور:21] لكن زكاة الجربان منها، فنحن معور يروي عن معور بنسبة العصر والأحوال والأشخاص، فبعضنا يعظ بعضاً، ولولا أنه لا يعظ الناس إلا من كان معصوماً، ما وعظهم إلا محمد صلى الله عليه وسلم.
يقولون: أبو معاذ الرازي إذا ارتقى المنبر وهو يعظ الدنيا رحمه الله حيث يقول:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو عليلُ
فيبكي ويبكي الناس، وسئل الإمام أحمد: هل يبقى الإنسان حتى يكتمل ثم يدعو الناس؟ قال: ومن يكتمل؟! وصدق! من يكتمل ويسلم من الذنب والخطأ حتى يدعو الناس؟ سدد وقارب، ولعل من نجاتك أنت دعوتك للناس! لعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ينجيك بسبب أنه هدى على يديك رجلاً أو رجلين أو ثلاثة!(26/34)
صرخة فتاة
فتاة تصرخ وتقول: أنتم لا غيركم، أنتم أيها الدعاة والعلماء، أنتم يا شباب الصحوة، أنتم السبب فيما يحدث لنا! أنتم المسئولون أمام الله.
يا ترى لماذا هذه الصرخة؟!
لماذا هذا العتاب القاسي؟!
ماذا حدث لها؟
ماذا تطلب؟
من جنى عليها؟
أين؟ وكيف؟ ولماذا؟
هل هي وحدها أم هناك مئات الآلاف من الفتيات مثل حالتها؟
هذه الأسئلة هي مدار الحديث عنها في هذه المادة.(27/1)
مقدمة في فضل المرأة المسلمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
إخوة الإيمان وحملة العقيدة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عنوان هذا الدرس: صرخة فتاة، فتاةٌ صرخت برسالة سوف أقرؤها وأعلق عليها والله المستعان، ولكن قبل هذا ألتمس منكم أن تتقاربوا حتى يتمكن الإخوة الذين هم خارج المسجد من دخول المسجد.
تقاربوا أيها الجمع الكريم فكم بقربكم يشرق التوفيق والأمل
لقاؤنا بكم للعين قرتها في ساحكم تذكر الأخيار والرسل
نعم، أبدأ مستعيناً بالله عز وجل، مجيباً على أسئلتكم، ومنها هذا السؤال المعضل الداهية الدهياء، وهي رسالة من فتاة كتبتها، ولم أكتبها أنا، فأنا في غنيةٍ عن أن أختلق رسالةٍ لأعبر بها عن فتاة، الرسالة أمامي بخط الفتاة، وهي ثلاث عشر صفحة من القطع الصغير، كتبتها هي بقلمها، وأرسلتها، وسألت في آخرها بالله أن أقرأها على الناس، ولكني أستبيحها عذراً أمامكم في أنني تصرفت فحذفت بعض الكلمات، لم أزد ولو حرفاً، ولكنني حذفت بعض الكلمات؛ لأنني أرى من المصلحة أن تحذف، والحقيقة أن في النساء كثيرات هنَّ خيرٌ من كثير من الرجال، يقول المتنبي وهو يرثي أخت سيف الدولة:
فلو كنَّ النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكيرُ فخرٌ للهلال
ألبي باسمكم جميعاً نداء هذه الأخت، وهي تذكر أن معها المئات والمئات من الفتيات يصرخن من معاناتها ويعشن في مثل ظرفها فالله المستعان:
لبيك صوتكِ في المسامع يصدعُ وصراخك المحزون فينا يسمع
ودموعك الحرى تمزق أضلعي والكل من هذا الندا متوجعُ
وأنا أتذكر وأنا أمضي في الرسالة قوله عليه الصلاة والسلام: {رفقاً بالقوارير} فيطلب النبي صلى الله عليه وسلم الملاطفة في العبارة، والملاطفة في التعامل؛ لرقة شعور المرأة، ولضعف نظرها وبصيرتها، فهذا هو مطلبٌ عام من محمد عليه الصلاة والسلام، يقف عليه الصلاة والسلام، ليعلن يوم عرفة في مائة ألفٍ، وتنصت له الدنيا ويذعن له الدهر، ويتكلم صلى الله عليه وسلم للتاريخ ويقول: {الله الله في النساء فإنهن عوان عندكم} ويقول بكل صراحةٍ ووضوح وصدق وإيمان: {خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي} وصدق عليه الصلاة والسلام، فهو خير الناس وأبرهم وأعظمهم وأصدقهم، ولو قارنا منهجه الحضاري عليه الصلاة والسلام، وطرحه العظيم في حقوق المرأة، لوجدناه هو المتميز الوحيد عليه الصلاة والسلام.
كنفشيوس الصيني، وقد أخطأ بعض الكتبة حيث يقول عنه: النبي الصيني، وممن قال ذلك مثل دايل كارنيجي في دع القلق وابدأ الحياة، ومثل مايكل هارف، في كتاب العظماء المائة، وبعض الكتبة المعاصرين!!
فإنهم يكتبون أي كنفشيوس نبي الصين وهذا ليس نبياً إنما هو منظر للصينيين، قبل ما يقارب ثلاثة آلاف سنة، يقول: " أنا أشك أن المرأة إنسانٌ " هذا تصوره، وهذا وضعه، وهذا سوء نظره، والجاهلية تعاملت مع المرأة كما تتعامل مع الدابة تماماً، والهنود قالوا: " المرأة شيطانة " وإنما هي تجر لفعل الشيطان، فأتى عليه الصلاة والسلام فبين: من هي المرأة؟! وما هو دورها؟! فعاش أباً وأخاً، وزوجاً، ورزقه الله من البنات أكثر من الأبناء، وكان عليه الصلاة والسلام يكن حباً لبناته وزوجاته في ضميره صلى الله عليه وسلم، وفي وجدانه، والحقيقة أن كثيراً من رسائل النساء يقلن: أنتم معشر الدعاة تتكلمون عن حقوق الرجال على النساء، ولا تتكلمون عن حقوق النساء على الرجال، وأنا أقول: إن كنا ما فعلنا ذلك، فأقول باسم الدعاة، اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم.
-أيضاً- لا يفهم كلامي هذه الليلة أني أطالب بوقف نفوذ المرأة النفوذ الشرعي، كما يطلب بعض الناس الذين يكتبون الرسائل، ويقولون: إن النساء طولن ألسنتهن في هذا العصر، وأصبح لهن حقوق أكثر من حقوق الرجل، وأصبحتم تدافعون عنهن فلا إفراط ولا تفريط، فالمرأة لها حق ولكن لا يحمل هذا على غير محمله.
وبالمناسبة يذكر الشيخ علي الطنطاوي، في كتاب ذكرياته قصة من قلب المفاهيم، وهي دعابة وفكاهة، يقول: في سوريا كان عندهم طبيب، وفدَ عليه شابان قويان، فلاحان مزارعان، الواحد منهم يهد الجدار بعضلاته، ومعهم أمٌ عجوز، تدب دبيباً، فشكت آلامها على الطبيب، فأعطاهم الطبيب قارورة فيها علاج، قال: رجوها، -والضمير يحتمل القارورة أو العجوز!! - رجوها رجاً، وهزوها هزاً، ثم اسقوها ملعقة في الصباح، وملعقة في المساء، فذهب الذكيان العبقريان إلى البيت، فأخذا العجوز، وجعلا يخضانها في الصباح، ويخضانها في المساء، فإذا خضاها وهزاها هزاً حتى تولول من رأسها إلى قدميها، سقوها ملعقة، فإذا أتى المساء رجوها مدة خمسة عشر يوماً، تصور يرجونها في الصباح، ويرجونها في المساء، ويهزونها في الصباح، ويهزونها في المساء، كانت تمشي وفي الأخير أصبحت معطلة في البيت!!
فذهبوا إلى الطبيب بعد خمسة عشر يوماً، فقالوا: الله لا يعطيك عافية، كانت أمنا تمشي على الأرض، والآن أصبحت معطلة في البيت، قال: ولماذا؟ قالوا: رججناها خمسة عشر يوماً ومرضت، قال: خض الله رءوسكم، قلت لكم: رجوا القارورة، لا العجوز! فأنا مقصدي هذه الليلة، ألا ترجوا المرأة، إنما المرأة ترجكم، أنا أدافع هذه الليلة عن المرأة، وأبين ذلك والله المستعان!
في الحقيقة تفنن العرب في ذكر محاسن المرأة، وفي وصفها في القصائد، يقول أحدهم:
حورٌ حرائرُ ما هممن بريبةٍ كنساء مكة صيدهن حرامُ
يحسبن من حسن الكلام روانياً ويصُدُهُّن عن الخنا الإسلامُ
فلما بعث عليه الصلاة والسلام، أخرج للعالم محجبات ودينات وعاقلات، ومتعلمات، ومربياتٍ ويتغنى حافظ إبراهيم بهذا المجد للمرأة ويقول:
الأم مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
هذه زينب أخت الحجاج.
يقول: ابن يفعة فيها:
تضوع مسكاً بطن نعمان إن مشت به زينب في نسوة عطرات
تهادين ما بين المحصب من منى وأقبلن لا شعثاً ولا غبراتِ
ثم ذكرهن بوصف المسلمة قال:
يخبين أطراف البنان من التقى ويقتلن بالألحاظ مقتدراتِ
وقصدي أن العرب بعد الإسلام، أقصد أهل الالتزام الأدبي والثقافي كانوا ينبهون على حشمة المرأة، وأدبها وجلالة المرأة في الإسلام، وعندنا في المجتمع آلاف من هذا الصنف كثرهن الله، في الحياء والحجاب والحشمة والخير بل في العالم الإسلامي، وتصوروا أن مسيرة للنساء المتحجبات في الجزائر إلى صناديق الاقتراع بلغت سبعمائة ألف امرأة متحجبة، وبعض المراقبين يقول: مليون امرأة!! كلهن ينادين: نريدُ الإسلام نريد الإسلام نريد الإسلام فلله الحمد.(27/2)
رسالة من فتاة
فهذه رسالتها والله الشاهد، كتبتها ورمزت لاسمها وأنا لا أذكر الرمز، ولكن أقرأ الرسالة، وعفواً قد يكون في أسلوبها هي ركاكة في بعض النواحي لا في أسلوبي، أعاذني الله وأعاذها الله لكني أقرؤها كما كتبت وفيها بعض الكلمات العامية، وبعض التحريفات اللغوية، والنحوية لكن للأمانة أقرؤها كما هي عليه.
قال الجدار للوتد: لماذا تشقني؟! قال: اسأل من يدقني؟! فأنا أقرأ عليكم ما وجدت.
تقول: فضيلة الشيخ فلان بن فلان، حفظه الله وسدد الله خطاه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سمعت محاضرتك الحقيقة أن هذه رسالة -هذا كلامي- تحمل لوعةً وأسى وحرقة، والله لقد تأثرت وكل مسلم يتأثر، وإنها صادقة فيما كتبت من معاناتها، وللعيون دلالةٌ على الصدق وللأقلام وللخطوط وللآثار.
قالت: سمعتُ محاضرتك: رسالة إلى الفقراء، أو من الفقراء، وتلك الرسالة التي كتبتها إليك الأخت الغيورة بل المقهورة، من ظلمٍ واستبداد والدها، فحركت شجوني، الآن هي تشكو المجتمع، وتشكو الشباب، وتشكو والدها، وتشكو زوجها، الذي تزوجها وطلقها، واسمعوا:
قالت: فحركت شجوني التي ما سكنت، وجرحي الذي أبداً ما التأم، وحزني المضني القاتل، فأمسكت قلمي ومداده دم قلبي الممزق، ودمع عيني الباكية أبداً، وكأنما بصيصٌ من الأمل يتراءى لي من بعيد، وإلا فوالله، ثم والله، ثم والله الذي لا إله إلا هو، أنني قد يئست من كل شيء، ومن كل أحدٍ من أهل الدين والدعاة والصالحين وأهل الخير والمروءة، ومن القضاة، والعلماء، وو إلا من رحمة الله
فهي الشيء الوحيد الذي يعزيني فأنا واثقةٌ بل موقنة مؤمنة برحمة الله: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] ذلك أنني أيها الشيخ الفاضل، ووالدي الكريم، وأخي الرحيم، عشت مأساةً وما زلت أعيشها، وأسأل الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، أن يرفع عني عذابه، إن كان هذا عذاباً عليَّ أوقعه الله، ويربط على قلبي إن كان امتحاناً وابتلاءً ويرحم ضعفي وذلي وفقري إنه سميعٌ مجيب
يا أيها الداعية الكريم: إليك مأساتي وأيامي المظلمة السوداء، إليك الظلم والقهر الذي أعيشه، إليك معاناتي، أنا وأخواتي في الله، وإن كان لكلٍ منا مأساة، لكنها في النهاية تصبُ في قالبٍ واحد، وهي أننا بلا أزواج، بلا أطفال، بلا حياة، بلا أرواح، أجسادٌ بلا قلوب، حياة قتلها الألم والحزن، سأطيل عليك ووقتك ثمين، لكن تحمل -فقد تحملت أعباء أعظم من هذه الرسالة الثقيلة الظلم- أعمل معلمةً وفي آخر كل شهر يفتح الجابي (والدي) -يعني يجبي الصدقات، يجبي الراتب- يفتحُ والدي الجابي يده ويقول ادفعي جزية بنوتك وإسلامك، فأنتِ ومالك لأبيك -بعض الآباء لا يحفظ إلا هذا الحديث، وفيه ضعف عند بعض العلماء- قالت: بل الجابي كان يعلم منذُ أن كنتُ طالبة، أن محصولي سوف يُصبُّ عنده، وكلما طرق بابي طارقٌ قال: ليس بعد، يعني: كلما خطبها خاطب رفض الوالد، من أجل الراتب، وأقنعه كثير من أهل الخير ولكن ما اقتنع، فيذهب هذا الخاطب في حال سبيله يقول ما هو خير! هي لا تريدك، لا تقبلك، هذا جواب الوالد.
أما إن كان ممن هو أطول نفساً من هذا الخاطب، ويستطيع الصبر، ويستطيع المعاودة، فسوف ندخل في باب المديح الحار، فيقول له والدي: البنت حادة الطباع وغير جميلة، وو حتى يقول الخاطب: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، وهلمَّ جراً.
وعاطفتي كشابة تريد الزواج والأسرة والمنزل الهادئ السعيد، وهكذا ركبنا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وأريد طفلاً يمنحني الأمومة يطغى على كل مشاعري، فأوسِّط الأعمام والأجداد، ولكن الأعمام يخافون ولا حول ولا قوة إلا بالله، والأجداد يردُ عليهم بردٍ يخرس ألسنتهم، يقول لهم أبي: هل أشتري لها زوجاً؟! ولا يدرون أنه تقدم لي العشرات من الأزواج، ثم يقول أبي: ما يريدها أحد من الناس، وهو يريدُ راتبي ومصروفي ودخلي، ثم تقول: شابةٌ فتاةٌ في مقتبل العمر، لا أمَّ لنا -تقول: أمها مطلقة- لا أخ، كلهم فروا من منزل أبي الجابي لسوء تعامله مع إخواني، وعندي زوجات أبٍ كالسيدات لا يضربن إلا باللَّي -هكذا كتبت باللَّي- هذه الفتاة عمرها يضيع وشبابها يقتل، وحتى قرشها والرزق الذي من الله يؤكل ثم ماذا؟
أنا في بلادٍ إسلامية!! معنا علماء ودعاةٌ وقضاة، أين هم عن هذه المعاناة؟
حدثتُ أبي توسلتُ إليه، وأخيراً، هددته إن لم يزوجني فسأبحث لي ثم ماذا كان رده؟!!
كنتُ أميل إلى الالتزام، وأصارع نفسي، وأجاهد الهوى والشيطان، ونصرني الله عز وجل على كثير من المعاصي، فقد تركتُ الغناء انتصاراً، وداومت على السنن الرواتب والوتر، وانتصرت في أكبر في مواطن يعلمها الله، وسوف يحفظها الله لي
-ثم استمرت في حديثٍ سبعة أسطر حذفته وهذا للأمانة العلمية أخبرتكم أني حذفته- تقول: وأخيراً أحضر أحد أعمامي رجلاً من طرفه، فزوجني والدي وأنا مكرهة؛ لأن هذا الرجل لا يخاف الله، انظر كيف منع الصالحين؟!
وانظر كيف تقدم لها هذا الفاسق فوافق؟!
ولكن والدي لم يكف عن نفث سمومه حولي، لا سامحه الله -أعوذ بالله، والله هكذا كتبت بين قوسين تقول لوالدها: لا سامحه الله- يقول: لا تعطي راتبك زوجك، واعطينيه وو وانظر إلى الجشع، والهلع، والجبن، كأنها نفوس اليهود، تقول: والزوج -هداه الله- فيه من قصور الدين، ومن ضعفه ما الله به عليم، ولكن ماذا تقول؟
كما قالوا: "إذا بليت يا فصيح فلا تصيح" بدأت أحاول معه لعل الله يهديه، فكان يحدث بيننا ما يحدث من شجارٍ أو زعل، خاصة عند صلاة الجماعة، ثم إلى السفر إلى الخارج، وهو يرتكب الكبائر(27/3)
شكوى الفتاة من ظلم زوجها
وقد ذهب الزوج الحكيم إلى الوالد -هذا زوجها يعني تستهتر به- إلى الوالد الرحوم العطوف، يشكو عليه، فوقع الفأس في الرأس، ثم قال والدي له: هذا طبعها لسانها طويل، بذيء، تعال بها عندي لأربيها، أمها ما ربتها، وهذا من أمها، وأنتَ دللتها، وأنتَ خربتها، وما هو بغريب، أمها عملت هذا بي من قبل الخ؟!!
قالت: وأنا أصبر على الزوج، وأدعوه إلى الهداية، وأتحمل الضرب منه والأسى؛ لأنه إذا أعادني إلى والدي، كان والدي أدهى وأمر -تصوروا المعاناة، هذه في بلاد الإسلام-
قالت: ومن ورائه، من بيته ورفاقه السيئين ووالده يملأ رأسه، ويحاول معي، ولكن إذا تركتُ زوجي ماذا أفعل؟! ولمن أذهب؟! أخيراً بعد ما كان الزوج كالعسل المصفَّى، بالنسبة لما سوف أحصله، وإلا فهو كالزقوم أصبح كالمهل يغلي في البطون، كغلي الحميم.
حتى والله صار يكرهني ويفعل ويرتكب المعاصي ليغضبني، ويضيع ما عندي من دين، كي أَفّرَ وأهرب، فإذا قلت: اتقِ الله فيَّ، قال: إذا أعجبكِ أو اطلبي الطلاق، وطلبت الطلاق، فقال: ردي إليَّ مهري، وما مهر له عندي، لقد أذهب شبابي، وصبوتي وبيتي، وخلقي، وحيائي، وقد أسهرني وأزعجني فجمعت من هنا، واستدنت من هناك، ورددت إليه مهره، لا حرمه الله جمرة في جهنم!
فأيّ مهرٍ له؟! وأيّ حق له؟! بعد هذه الأيام الطويلة من الأسى واللوعة!! -ثم حذفتُ ما يقارب خمسة أسطر إلى أن تقول هي-: وحملتُ ثيابي، وهربتُ إلى منزل والدي، فشنَّ والدي عليَّ حرباً هوجاء ضروساً لا هوادة فيها، وسفهني وهددني بالقتل وبالعار، وبالشنار، فقلتُ: حسبي الله ونعم الوكيل!!
والآن يخطبني هذا وذاك، فإما أن أتزوج سكيراً فاسداً، أو عجوزاً في الثمانين، أو السبعين، فبالله أيُّ عدلٍ هذا؟! وأيُّ إسلامٍ هذا؟! وأيُّ رحمةٍ أو إنسانيةٍ هذه؟! إلى من أشكو؟ شكوتُ إلى الله، وبكيتٌ أدبار الصلوات، ورفعت دعائي!! فهل من الناس رحيمٌ ينقذني من هذا الوضع المأساوي الذي أعيشه؟!!
نعم.
يريد أن يزوجني من مسنٍ، قالت: إذا ذهب رجلٌ لأبي سبني وعابني، فإن لم يقتنع الرجل بهذا الكلام، أخرج له البرهان والدليل القاطع، وقال: لا تصلح جربها رجلٌ قبلك، فأفسدت عليه بيته
أنا أفسد البيوت؟! نعم، سيحطم مستقبلي فأنا قد تدمرت وعصيت، وقلت: لا للذل ولا للعبودية للخلق، هربتُ إلى أمي، وهي مطلقة، ورفضت أن أعطيه راتبي فجنَّ جنونه، -انظر الرحمة، أين معنى الصلاة؟ وأين لا إله إلا الله- ثم ذهب يشكوني إلى إدارة التعليم، ووالله ثم والله ثم والله لقد كلمني مدير التعليم في منطقتي، وقال: لقد حضر والدك وتهدد وتوعد بالويل والثبور وطلب مِنَّا فصلك، -انظر العداء، يعني حيات تفح فحيحاً، كفحيح الحيات، سمٌ زعاف، سم ثعابين، لا يفعل هذا أحدٌ بعدوه- قال: فقلنا له -قال المدير له- لا صلاحية لنا، فقال: سأذهب إلى من هو فوقكم إلى الرياض، واعلمي أنه إذا ذهب هناك حصل مراده، فإن تمكن من فصلي لم أجد دخلاً أعيش به، وأساعد أمي وإخوتي وأكف نفسي عن منة الناس ودوائر الأيام.
ثم قالت: ماذا تقول أيها الشيخ الفاضل؟!!
أليس منكم رجل رحيم؟!! ماذا ترى؟! إذا تزوجتُ شاباً فاسداً كسابقه ضاع ديني ودنياي وآخرتي، وإن تزوجتُ هذا الشيخ فأيُّ شرعٍ يجيزه هذا، فتاةٌ في الخامسة والعشرين تتزوج رجلاً في السبعين!! بالله ماذا أتزوج؟ شيبه؟!! أم كحيحه وأنينه؟!! أم حاجبيه اللذين سقطا على عينيه؟!! أم فمه الذي يكون خالياً من الأسنان؟!! لا عاطفة لا حب لا إرادة لا ميل وهل سأطيقُ هذه العيشة؟! أخشى أن أكون أضعف من ذلك فأضيع، وأنحدر في الهاوية التي أهرب منها، أتوب إلى الله من أن أعود إليها، نعم ماذا أفعل؟! ما ذنبي؟! ما جريرتي؟؟!(27/4)
أنتم يا شيخ المسئولون
تقول: أنتم المسئولين عما يحدث لنا من ضياع، نعم، أنتَ وغيرك من المشايخ، والدعاة والقضاة، نعم، في رقابكم نحن أمانة، على أكتافكم أوزارنا!! -نتوب إلى الله-
ذاك أنكم لم تقدموا لنا شيئاً، لم تحررونا من رقِ وظلمِ وقهر آبائنا! أين رحمة الإسلام التي تتحدثون عنها؟! -لا إله إلا الله-
-الحقيقة أنها منجرحة لأبعد ما يكون الجراح، الآن تأتي بكلماتٍ هائلة، ولو أن بعض ما يؤثر لم أقرأه نعم، شيخي الفاضل، ويعلم الله، ويشهد الله، أننا نحب الدعاة والمشايخ والعلماء والقضاة، ولكن ما موقفهم من هؤلاء الآباء الظلمة المجرمين، -هكذا تقول، هي تتكلم بما في قلبها- يقول المتنبي:
لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى يكون حشاك في أحشائه
ولكن عندما تلتزم الواحدة منا، أو تسيرُ على طريق الهدى، تجد من الضغوط ما الله به عليم، حتى الزوج الملتزم لا تجده، بل لا تحلم به، ثم تأتي محاضرتكم عن المرأة، وعن دورها في المجتمع، والتستر والحجاب، وو و، مع أنه لو صلح الرجل الأب والأخ والزوج، لصلحت المرأة، ووالله لو صلح رجالنا، ما وُجِدَتْ امرأةٌ واحدةٌ منحرفة أو ضالة، نعم كلكم ظلمنا!!
فالملتزمون خاصة، وأقولها بصراحة لا يريدون إلا حوريات! طويلات! بيضاء! عنقاء! جميلة! الخ.
فمن إذاً لمتوسطات الجمال؟! فمن لصاحبات الدين؟! لا يهمهن إلا الدين، وإلا الصلاح، وإلا أن تربي الواحدة أبناءها على الكتاب والسنة؟!
ولكن هؤلاء لا يريدون إلا الشروط التي أسلفت، لا تغضب مني، نعم إذا تزوجت رجلاً فاسداً!! فمن سيربي أبنائي؟ من سيكون القدوة لي؟ من سيرد عليَّ آخرتي التي هي أعظم شيءٍ عندي؟ ثم كيف سيكون حال المجتمع، شبابٌ فاسدٌ ضائعٌ وملتزمون لهم شروطٌ لا يستطيعها أحد -ثم تقول-: الملتزم يريد نسباً رفيعاً شابةً صغيرة بنتاً حتى لو كان متزوجاً وله أولاد!!!
-حذفت سطرين- هي تجاوزت العشرين، أعوذ بالله يقول الرجل عنها: هي متواضعة الجمال، هو قد عصى وارتكب الذنوب العظيمة، فهل: تأمل عيوبه التي يأتي بها، لكن ذنوب الرجال صغيرة، أما نحنُ فتشخص سيئاتنا الصغيرة حتى تصبح كبائر.
بالله عليك، قل لي أين الشاب الملتزم الذي خطب فتاةً فرفض والدها لطمعٍ براتبها، وهذا كثير عند الموظفات، أو في مهرٍ يتاجر به، فإما عجوز تتزوجه، وإما تتزوج فاسقاً لا ذمة له، إنما هو في ترك الصلوات والسيئات، وتناول المخدرات
تقول: أين نذهب؟ أنذهب للقاضي؟! أو إلى الشيخ؟! أو رئيس المحكمة؟! ونطلب منه أن يزوج الفتيات اللواتي في البيوت؟! لا، بل هذا الشباب ينفض يده من الموضوع نفضاً، ويبقى بعيداً عن الحياة، وأنتم دائماً تطلبون من الفتاة ألا ترد أو يرددن خاطباً ملتزماً، لكن الآباء هم المشكلة!!
وما هناك امرأةً ملتزمة تخاف الله وترجو وعده، إلا وتجيب للطالب والشاب الملتزم، -ثم تقول: بعد أسطر- ثم يأتي رجلٌ: يخطبها عن طريق والدها، ثم يخرج بحاله، ويقال: إذا رفض والدها، أو أحد محارمها، أو طلب من الشيخ أن يعقد لك، سيقبل بهذا، بل سيقول: اللي هذا أوله إنعاف تاليه -يعني: أنا لا أدري؟ لعلها تريد أنها لو ملك لها أحد أقاربها، وتركت أباها، تقول: ما يرضى الزوج المتقدم، ويهرب هذا الملتزم؛ لأنه يشك من تخلي الوالد -ثم إن هناك شابات ملتزمات في البيت الواحد ستٌ أو سبع، أو أقل أو أكثر ما بين الخامسة والثلاثين والخامسة عشرة ينتظرن رجلاً ملتزماً، فلا يحضر، وكلما مرَّ عام، قيل: كبرت، عجزت ويقول الرجل: لا أريدها.(27/5)
أريد شاباً ملتزماً وأعطيه المهر
هل سأل أحد الملتزمين الذين لا يريدون إلا من هي في العشرين؟! لماذا تجاوزت تلك العشرين! هل علموا أن سبب ذلك هو انتظارها لهم؟! ألا يشفع لها ذلك عندهم؟! ثم إنك قلت جزاك الله خيراً: إن هناك شباباً، لا يجدون مهراً ليتزوجوا به؛ لغلاء المهور!! أين هذا الغلاء الذي تتحدثون عنه؟! نحن نريدُ أزواجاً بخاتم من فضة، بمهرٍ يسير، كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام.
ولكن أين هم هؤلاء الشباب؟ الذين يشهدون الجماعات، ولا يتعاطون المخدرات، ولا يقضون الصيف في أحضان المومسات، والبغايا الفاجرات، في بانكوك وأشباهها؟!!
ثم تقول: أريد أحدهم وسأعطيه المهر أنا!! -هكذا تقول- هذا إذا وصلتك رسالتي هذه، قبل أن أكون دفنتُ في المنزل؛ ذلك المنزل البائس، المنزل الحزين الذي أعيش فيه معاناة، إخوتي يريدون أن أتزوج، من أتزوج؟! لأنهم لا يخافون الله! لا يريدون أي رجلٍ يخاف الله عز وجل، هم يريدون بالعكس، يريدون الفسقة، ثم قالت: الملتزمات الطاهرات العفيفات اللواتي ينتظرن عباد الله الصالحين، يتشوقنَ إلى الأمومة! أين هم؟! أين الشاب الصالح الذي سيتقدم على أبي، ويصم أذنيه عما يقول، ويعمي عينيه عما يعرض عليه أبي، من جرح مشاعري، ومن الإساءة إليه، ثم يقول: إلى منزله على الرحب والسعة، أنا مستعدة أن أبني بيتاً إسلامياً على تقوى من الله ورضوان، وأهيئ الطعام، والسكن، وأربي أبناءه، وأعمل وأعلم أبنائي وبناتي الكتاب والسنة، أنا أريدُ أن أكون من إماء الله الصالحات!!(27/6)
هذه أدمعي قد سكبتها وهذه كلماتي قد سطرتها
هذه أدمعي قد سطرتها لك، لا أشكو إلاَّ إلى الله، فالشكوى إلى الله وحده وأفوض أمري إلى الله، إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، ولكن لتعلم ويعلم من أحبهم في الله، من مشائخي الأفاضل والدعاة والقضاة، حفظهم الله للإسلام، وسدد خطاهم.
تقول: ونفع بهم الأمة، نعم هذه إنني قد بُحَّ صوتي، فما عاد يقوى على الصراخ -معذرةً الخط فيه رداءة قليلة، يمكن من المعاناة- أبثها إليكم هذه أمانة الكلمة، بحتُ بها لتعلموها، ولأحملكم إياها، لتلقوا الله بها غداً يوم القيامة، وقد علمتم حالنا ووضعنا ومآسينا.
ماذا أنتم فاعلون لنا؟ ماذا تقدمون لنا؟ كلام! محاضرات! ندوات! دروس! أشرطة! أين الحل الإسلامي؟! أين إنقاذ المرأة؟! كُن الصحابيات إذا اشتكينَ وجدن لهُنَّ ملجأ بعد الله وهو المعصوم عليه الصلاة والسلام، فكان صلى الله عليه وسلم يحل لهنَّ مشاكلهن، فمن يحل مشاكلنا؟!
والله يا شيخ: إنني أخاف في بعض الأحيان أن أكفر بكلمةٍ من قهر تخرج من فمي من غير إرادة، أو حتى هاجس يدور في خلدي لما أعانيه.
ثم قالت: أليس الإسلام رحمة؟ أين رحمة الإسلام؟! -أستغفر الله- لا زال الإسلام رحمة، وسوف أجيب عن هذا إن شاء الله، حتى لا أقطع رسالتها.
فلو لم يكن إسلامٌ ما استطاع والدي وغيره استعبادي وحرماني من الزوج والأبناء، لا حرمه الله نار جهنم وسعيرها -أستغفر الله- أن أسخط أعترض على قضائه وقدره، ولكنه القهر ثم القهر، ثم القهر!!
شيخي الفاضل: إن شئت فاقرأ رسالتي على حضورك، لا، اقرأها أسألك بالله أن تقرأها؟! فانظر أيهم يقبل القدوم لإنقاذي وإنقاذ أخواتي من المئات اللواتي عشنَ وضعي ومأساتي ومعاناتي!!
فأين الشباب الذين يبحثون عن زوجات ملتزمات؟! وإن شئت فاقرأ للعبرة والعظة، وإن شئت ورفضت أن تقرأ معاناتي على الناس فمزقها والقها في سلة المهملات، وأضف إلى معاناتي معاناةٍ أخرى، لكن أعلنها من على منبرك، منبر محمد عليه الصلاة والسلام، منبر الإسلام صرخةً مدوية لتحرير الفتيات، أو ارفعها إلى سماحة الوالد القدير الشيخ عبد العزيز بن باز، لينظر في موضوعنا عاجلاً، أو حادث من تريد من أهل الخير، من الفقهاء، من العلماء، من المشايخ، من أهل الحل والعقد.
ثم تكلمت بسطرين، ثم تقول: هي أمانة قد حمَّلتها إياك كتبتُ أنا وغيري كثيرات، وها نحن باكيات شاكيات، والله المستعان، لا تنسونا من دعائكم أسأل الله أن يفرج كربتنا.
هذه هي الرسالة قرأتها أمامكم وحذفتُ منها ما استطعت أن أحذف، لكني لم أزد عليها حرفاً واحداً، وهي بخطها، وهي أمامي هنا، والحقيقة أنها رسالة مذهلة، لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.
وأنا أضعها بين أيديكم لما جعل الله فيكم من خيرٍ وإيمانٍ وحكمة، ويعلم الله ليست بغريبة عليَّ لما أسمع من الهاتف من معاناة أمهات، وبنات، وأخوات، ومن رسائل واستفسارات وأسئلة، تبين وخاصةً ممن يخالط الناس، ويسمع لمئات الرسائل، وآلاف الأسئلة، تبين أن في المجتمع شريحة، لا يسمعون ولا يفقهون، ولا يعقلون، ولا يتدبرون ولا يعون.
تبين أن عندنا في المجتمع أناس، نزع الله من قلوبهم الرحمة، أقولها بكل صراحة من هذا المنبر، وأنا مسئول عما أقول، لا رحمة، ولا إخاء، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].(27/7)
موقف الإسلام واهتمامه بالمرأة
كأنهم ما قرءوا سيرة المعصوم عليه الصلاة والسلام وهو يقف مع ابنته عليه الصلاة والسلام، تمرض فيبكي، ويقف معها صلى الله عليه وسلم وإذا سافر مرَّ ببناته يودعهنَّ، ويعود من السفر، فيبدأ ببناته، تقول عائشة: كانت فاطمة رضي الله عنها، وعليها السلام إذا دخلت على الرسول عليه الصلاة والسلام، قامَ واستقبلها عند الباب، وجلس معها صلى الله عليه وسلم، والله إن في الرواية الصحيحة قالت: يجلسها مكانه!!
ابنته يجلسها مكانه -معذرةً استطراد- يقول محمد إقبال؛ وهو شاعر الباكستان، شاعر الإسلام هذا، يقول ل فاطمة واسم القصيدة فاطمة الزهراء، يقول:
هي بنت من؟ هي أم من؟ هي زوج من؟ من ذا يساوي في الآنام علاها؟
أما أبوها فهو أشرف مرسلٍ جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلي زوج لا تسل عنه سوى سيفٍ غدا بيمينه تياها(27/8)
النبي صلى الله عليه وسلم يغضب لبناته
وفي صحيح البخاري أن علياً رضي الله عنه أراد أن يتزوج على فاطمة وله ذلك، وعلي رجل فيه الرجولة، والقدرة، فأراد أن يتزوج بنت أبي جهل وأبو جهل مات إلى جهنم، إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم.
فخطب من عكرمة أخته جميلة بنت أبي جهل، أخت عكرمة بن أبي جهل، فذهبت الشائعة إلى فاطمة، فأتاها الخبر في البيت، ومعاناة المرأة، لا تزال المرأة امرأة، بغض النظر عن دينها، أو عن عفافها، أو عن خلقها، فذهبت فاطمة إلى أبيها المعصوم، سيد البشر، أكبر زعماء الدنيا، محرر الإنسان، وجلست أمامه تبكي، قال: {مالك؟ قالت: يزعم الناس أنك ما تدافع عن بناتك، ولا تغضب لبناتك -تستثيره عليه الصلاة والسلام، تريد أن يغضب وتحركه بكلمات، فما وجدت أكبر من هذا، تبكي- وتقول: يزعم الناس أنك لا تغضب لبناتك -فقام صلى الله عليه وسلم مغضباً وجمع الناس، وصعد المنبر}.
وهو لا يعارض الشريعة عليه الصلاة والسلام، فهو الذي أتى بالشريعة، وأحل الحلال، وحرم الحرام، وبنى منهجاً ربانياً.
{ووقف على المنبر، واجتمع الناس، وعلي بن أبي طالب، في الجماهير.
قال: أيها الناس: إني لا أُحلُ حراماً ولا أحرم حلالاً، ولكن لقد بلغني أن علي بن أبي طالب، يريدُ أن يتزوج بنت أبي جهل، بنت عدو الله} -ثارت ثائرته صلى الله عليه وسلم.
ويقول شوقي:
وإذا رحمتَ فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء
وإذا غضبت فإنما هي غضبة في الحق لا كبر ولا ضغناء
وإذا سعيت إلى العدا فغضنفر وإذا جريت فإنك النكباء
قال: {أيها الناس: إني لا أُحلُّ حراماً ولا أحرم حلالاً، ولكن بلغني أن علي بن أبي طالب، يريدُ أن يتزوج بنت أبي جهل، بنت عدو الله، فوالله الذي لا إله إلا هو، والذي نفسي بيده لا تجتمعُ بنت عدو الله، وبنتُ حبيب الله تحت سقفٍ واحد، إن فاطمة يريبني ما يريبها، ويغضبني ما يغضبها} ثم نزل، فقام علي بن أبي طالب، فطلق بنت أبي جهل في المسجد علي بن أبي طالب الذي يقدم جمجمته في كل معركة من أجل محمد صلى الله عليه وسلم، ويقدم دمه ودموعه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم غضب، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يحرم الحلال ولا يرفض التعدد، وسوف يأتي لكنها بكت، وانهارت أمامه فماذا يفعل؟ هي قطعة منه، تعيش معه عليه الصلاة والسلام.
فكلٌ منا الليلة يتصور أن التي كتبت الرسالة أخته، وأنا أقرأ الرسالة تصورت أختي، وأتاني من الأسى والألم، واللوعة، فالواجب أن تقرأ الرسالة أو تسمعها في الشريط بعد هذه المحاضرة، ثم تتصور أنها ابنتك كتبت لك، وأختك، وكلُ فتاةٍ في المجتمع الإسلامي، وكلُ أختٍ وزوجة، إنما هنَّ أعراضنا ندافع بدمائنا وجماجمنا عنهنَّ، ولا بارك الله في الحياة إذا لم نقدم الرءوس لتبقى البنات والأخوات والزوجات محتشمات محجبات في البيوت، هذا ما أريد أن أقوله.
وأقف موقفاً آخر مع العلماء والدعاة والقضاة والخطباء، ومع المصلحين، وقد ركزت على هذا، وهو الصحيح الوارد، فأين دور العلماء؟ وأين دور القضاة والدعاة؟ وصدقت فلا يكفي الكلام، يقول أبو العتاهية:
العنز لا تشبعُ إلا بالعلف لا تشبع العنز بقول ذي لطف
هو كتبها للخليفة المأمون، يقول: "الناس لا يشبعون بالكلام وإنما يشبعون بالفعال.(27/9)
شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ومساهمته في تزويج الشباب
الناس لا يشبعهم الكلام، ولا يحل أزماتهم المحاضرات والأشرطة، الحل نرثه من محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يزوج، كان يرسل الشاب، ويرسل ويشفع بنفسه، عليه الصلاة والسلام.
مرَّ به جليبيب؛ أحد الفقراء المساكين، لا أهل ولا مال، وإنما عنده ثيابٌ ممزقة من الصحابة، لكن يكفيه أنه من مدرسة محمد عليه الصلاة والسلام، قال له صلى الله عليه وسلم: {يا جليبيب ألا تتزوج؟ قال: يا رسول الله من يزوجني؟ لا أهل، ولا مال، ولا نسب} ومرةً ثانية كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفكر في البيوت ليزوجه؛ لأنه من مسئولية الدعاة أن يزوجوا الشباب، ومسئولية الدعاة أن يزوجوا الفتيات، وأن يعيشوا هموم الأمة، وليس مسئولية القاضي أن يداوم ثم ينتهي، أو مسئولية العالم أن يفتي فقط، أو مسئولية المصلح أن يتكلم فحسب، بل يعيش الهموم، ويقدم أفعالاً، وأطروحات، هذا هو الصحيح، والناس لا يحبون إلا الذي يعيش مع مشاكلهم، ويعيش معهم ويزورهم، ويقوم باهتماماتهم.
فقال صلى الله عليه وسلم مرةً ثانية: {ألا تتزوج يا جليبيب؟ قال: يا رسول الله من يزوجني؟ لا أهل، ولا مال، ولا نسب.
قال: اذهب إلى آل فلان وأبلغهم سلامي، وقل لهم: رسول الله، يأمركم أن تزوجوني}.
أسمعتم شفاعة في الدهر وفي التاريخ أعظم من هذه الشفاعة، والله الذي لا إله إلا هو، لو كان حياً ونحن على إيماننا هذا، ثم طلب منا أن نقطع رءوسنا لقطعت، الواحد يقدم يده، وتقطع في المعركة، ويقدم رأسه، ويقدم دمه.
إن كان سركمُ ما قال حاسدنا فما لجرحٍ إذا أرضاكمُ ألمُ
والله الذي لا إله إلا هو، إنني أودُّ أن أقول عن نفسي وإخواني الصلحاء من أمثالكم: أننا نُسَبُّ في أعراضنا، ولا يسبُ في عرضه، وينال منا نحن ولا يُنال منه، ونجازى ولا يُجازى، وتبقى له القداسة، ونحن له الفداء، يقول حسان:
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاءُ
ثم يقول:
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمدٍ منكم وقاء
فيقول له صلى الله عليه وسلم: {إن الله يشكر بيتك يا حسان}.
ذهب جليبيب فطرق الباب، فقالوا: من؟ قال: جليبيب، ماذا تريد؟ قال: الرسول صلى الله عليه وسلم يقرئكم السلام، قالوا: عليه صلاة الله وسلامه، قال: ويقول زوجوني ابنتكم، وارتبك الوالد والوالدة، قالوا: جليبيب نزوجك بنتنا لا أهل، ولا مال، ولا نسب!! وسكتَ ولم يردَّ، انتظر لا يستطيعا أن يقولا: لا.
للمعصوم عليه الصلاة والسلام، فوقف عند الباب، وسمعت الفتاة المحجبة الدينة المؤمنة من خدرها، ووالله ليست رغبة في جليبيب، لكن لإجابة المعصوم، قالت: الرسول صلى الله عليه وسلم يأمركما وترفضان، سبحان الله! ألا تخافان من غضب الله، أنا أجيب، قالوا: فقد أجبنا.
وتزوج جليبيب، ورزقه الله فتية، ثم حضر المعركة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقتل سبعة ثم قتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم: {من تفقدون؟ قالوا: نفقد فلاناً وما ذكروا جليبيباً ثم أعاد السؤال فأعادوا الجواب فقال: هل بقي أحد؟ قالوا: لا، قال: لكني أفقد جليبيباً وقام عليه الصلاة والسلام، وبحث عنه، ووجده قد قتل سبعة وقد وضع وجهه في التراب، فقلبه صلى الله عليه وسلم وقبله، وهو قتيل شهيد، وقال: قتلت سبعة ثم قتلوك! أنا منك وأنت مني} هذا النسب الخالد.(27/10)
على العلماء المشاركة في حل قضية الزواج
لماذا لا يوجد من أهل الخير، ومن أعيان البلد، والصلحاء، والدعاة والعلماء، من يتبنى هذه الفكرة، كما فُعِلَ في الرياض وجدة والقصيم ومكة، ومعنا الشيخ الفاضل محمد بن محمد البشري، وكثير من المشايخ الذين أراهم، ودكاترة الجامعة، والأساتذة، والدعاة، أنا أعرض عليهم هذا، لماذا لا يفكر فيه؟ فعلاً، أنا أعرف الأسماء التي في الرياض، تقوم بهذا، وفي جدة، وفي القصيم، وفي مكة، وهذه هي من ميراث محمد صلى الله عليه وسلم، وهي مهمةٌ شرعية، وأما أن تبقى المشكلات والأزمات تسير هكذا ونتكلم على المنابر ونسجل أشرطة، فلا يكفي هذا، بل يتبنى من أهل البلد، وممن يعرف الأسر، ويعرف الناس هذه المسألة، ويكون بينهم اتصال، بينه وبين الفتيان والفتيات، حتى يثبتوا أن هذا الإسلام دين عمل، ودين إخاء، ودين تعامل.(27/11)
عقبات في طريق الزواج(27/12)
جشع بعض الآباء
أولاً: باسمكم جميعاً نخاطب هذا الأب الذي أذاق هذه الفتاة المرارة، نخاطب فيه إيمانه إن كان في قلبه إيمان، وأصل الفطرة إن كان لم يخربها في قلبه، فبالله كيف يلقى الله غداً وهو يتعامل مع بنته هذا التعامل؟!
فإن المسلم أصلاً لا يُجوِّز له الإسلام أن يتعامل مع أجنبيةٍ كافرة بهذا التعامل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] ولكن تجد هذا الأب يتعامل مع ابنته، مع المضغة منه، هذا التعامل الجشع فهل سمعتم بجشعٍ أعظم من هذا؟! ما سمعنا إلا جشع اليهود!! يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96].
نكرها، يعني: أيَّ حياة، ولو كانت حياة ذلة وتباب وخسار، لكن أحرص الناس على حياة، ما هو الراتب؟ ما هي الدنيا؟ ما هي قصورها؟ ما هو ذهبها؟ ما هي فضتها؟ جشع في بعض الآباء، الواحد منهم في السبعين من عمره، وتجده يحاسب ابنته، على هذا الراتب طريداً شقياً، لا يشبع جوعه، ولا طمعه، ولا هلعه، لينكد عليها حياتها من أجل هذا الراتب!! ثم تصطلي نارين:
نار الزوج، ونار الأب، وبعض الأزواج لا يتزوج إلا من أجل الراتب!! ولا يساوم إلا من أجل هذا المال، جشع؛ لأنه ما حل هناك الإيمان، وإلا فالدنيا لا تساوي شيئاً، يقول الزبيري:
خذوا كل دنياكمُ واتركوا لي فؤادي حراً طليقاً غريباً
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
ويقول الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] فهذا الأب، من رأى منكم أباً مثل هذا فل يكاشفه، وليفاتحه، وليذهب إليه، إن كان يعرف من جيرانه من هؤلاء الآباء الذين وقفوا حجر عثرة -بجهل، وسوء فهم- في وجوه بناتهم، فعليه أن يتق الله وينصحه، ويصل إليه ويراسله.(27/13)
غلاء المهور
والمهور غالية مهما كانت، نحن نعرف الطلاب، ونعرف الشباب، ونعرف دخلهم، وأربعون ألفاً هذا كثير! صراحة، ووافق على هذا كثيرٌ من العلماء والمشايخ والقضاة، صحيح أن بعض الناس، يمكن أن يكون عنده مالٌ وخيرٌ ودخل، لكن أن يقول صلى الله عليه وسلم لـ عثمان بن أبي العاص: {أنت إمامهم واقتد بأضعفهم} فإذا أردت حل مشكلة اجتماعية فانظر إلى أضعف الناس، انظر إلى أقل المستويات، مثل مبلغ عشرة آلاف أو عشرون ألفاً، وبدون حفل، ولا صالة خضراء، ولا حمراء، ولا صفراء، ولا بيضاء، ولا ذبائح عشرين، ولا ثلاثين، ولا عشر، بل ذبيحتان لتسهيل أمور الزواج، حتى يستطيع الشاب أن يتقدم، وقد فتح صندوقٌ لإعانة المتزوجين في كلية الشريعة، ولكن أتى الناس كالسيل بالملفات، كلهم وقف، بعضهم عقد منذ خمس سنوات لا يستطيع أن يدفع المهر فعليه دين، وبعضهم حل حلاً جديداً اتفق مع أبو البنت، على أن يتزوج ويبقى في ظهره دين، يقضي عليه المهر؛ وبعض الآباء لعسره، وفضاضته، حجر عثرة، في الموعد وفي العزيمة، وفي اللقاء، وفي الكسوة، وفي المهر، وفي كل شيء، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا} ومع ذلك يأتي ليدفع الأربعين وليتها تكفي، لكنها لا تكفي، فيأتي بالكسوة بقائمة من العمات، وقائمة من الخالات، وقائمة من الجدات والأعمام والأخوات، وأهل العصبة، حتى كأنه يغطي شركة، ثم يأتي ليلة العشاء فيدعو الناس ومن هب ودب، وتبذر ولائم ليست للفقراء، وهذه شر الولائم التي يدعى إليها الأغنياء ويطرد منها الفقراء، حتى إذا وجدوا فقراء، يطردونهم ولا يستطيعون استقبال هؤلاء، إلا من رحم ربك: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:47].(27/14)
ترك الزواج بحجة الدراسة
أيضاً: من المآسي عند الفتيان والفتيات مواصلة الدراسة، الزواج ليس حجر عثرة في مواصلة الدراسة، لا عند الشرقيين ولا عند الغربيين، لا عند المسلمين ولا عند الكافرين، فتزوج وواصل الدراسة، وتواصل هي الدراسة، لكن أن تبقى حتى تصبح في الثلاثين والأربعين، وتصبح هي في الثلاثين والأربعين، ثم تتزوج، فقد ذهب وقت الزواج.
تريد عجوزٌ أن تعود فتيةً وقد يبس الجنبان واحدودب الظهرُ
تسير إلى العطَّار تبغي شبابها وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟!
لا يصلح العطار ما أفسد الدهر، هذه مأساة، تسمى طاغوت مواصلة الدراسة، صحيح أن الدراسة للفتاة من أحسن ما يكون، خاصة والحمد لله في مثل المحافظة التي نعيشها في الجملة، وفي مثل الحجاب، ومثل هذه الرسالة الخالدة، والتوجيه لكنها لا تحجم عن الزواج، ولا تكون حجر عثرة على الزواج، بل يتزوج ويواصل، وتتزوج وتواصل، وهذه هي الحياة وقد فعلها الغربيون والشرقيون، وما سمعنا الغربيين يقفون حتى ينتهون، ثم يتزوجون، لا.
لأن هذه هي الحياة.(27/15)
رفض الخاطبين بدون مبرر
أيضاً: من المسائل: رفض المتقدمين، يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه وإلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير} رواه الترمذي، وهو حديثٌ صحيح.
فالفساد الكبير الذي تعيشه المجتمعات بسبب أمثال هذا الأب الذي سمعتموه في الرسالة، هو بكلماته، وطمعه، وجشعه، وحسده، وبفظاظته وغلظته، طرد الشباب عن بيته، لا يصون كريمته، تقول العرب: "لا يحفظ المرأة إلا بيتها، أو قبرها، أو زوجها".
فوالله الذي لا إله إلا هو لو دفع الأب من جيبه على أن يزوج ابنته رجلاً كريماً ديناً خلوقاً، لكان هو الحسن.
وما عندنا في الإسلام إلا شرطان: دينه، وأمانته، أو خلقه ودينه، أن يكون ديَّناً، يخاف الله عز وجل، ولا يكون مروج مخدرات، يسكر في النهار والليل، والله لقد أتت رسائل من هذا القبيل، تقول بعضهن: "ما أراه إلا سكراناً، أوقظه إلى الصلاة وهو من الغافلين، سادر".
فكيف تعيش وتتعامل مع مثل هذا الجنس؟! لكن الأب هو السبب، فتجده يرفض المتدينين، والملتزمين، بحجة أنهم متزمتون، إن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترط شرطين: الدين والخلق، وأنا لا أقول زَوِّج ديِّناً سيئ الخلق، لا، فبعض المتدينين من أسوأ الناس خلقاً، لو سلمت عليه غضب عليك، والرسول صلى الله عليه وسلم رحيم فنبه على حسن الخلق، يعني: رجل يتفاهم، وعنده عقل، أما الشرس سيئ الخلق فلا نريده ولو كان ديِّناً، فالدين هو الخلق؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى زكى رسوله صلى الله عليه وسلم، بأنه صاحب دين ورسالة ثم قال له: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
ذكر صاحب كتاب المستطرف في كل فن مستظرف "أن رجلاً كان شرس الخلق وذكره ابن قتيبة، وعنده أربع زوجات في البيت، فأغضبته زوجة من الزوجات، فطلقها بالثلاث، فقامت الثانية وقالت: لم تطلقها بعجل؟ قال: حتى أنتِ، فطلقها، قالت الثالثة: ما وددت أنك طلقت الثانية؛ لأنها صالحة، قال: وأنتِ طالق، قالت الرابعة: في ساعةٍ واحدة تطلق ثلاثاً! قال: وأنتِ معهم".
فسمعت الجارة؛ لأن كل واحدة منهن قامت تصيح في البيت فسألت: ماذا حدث؟ قال: وأنتِ طالق إذا رضي زوجك.
يوزع طلاقاً، يتبرع بالطلاق، وأنتِ طالق إذا رضي زوجك، فمثل هذا لا يستطاع له.
يقولون: "إن امرأة فرت من زوجها وأتت إلى أبيها، قال: مالكِ؟! قالت: أنا صبرت عليه، قال: ماذا حدث؟ قالت: ما بقيت في رأسي شعرة، إلا أنزلها بالعصا في الأرض".
يعني: من كثرة الضرب، وبعضهم لا يخاف الله أو يتقيه، يضرب بالكرسي وبالكوب وبالهاتف وبكل شيء، وهذا ينتشر في الناس، ونسأل الله العافية!
اعلموا أن هذه الممارسات وجدت حتى في المجتمع المثالي، الذي ما شهد التاريخ مثله.
فقد أتت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس، فقالت: يا رسول الله! أستشيرك: تقدم لي معاوية بن أبي سفيان وأبو الجهم.
وهنا سيقوم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجرح والتعديل لأنه واجب هنا وليس غيبة في مثل هذه، فإذا سألك أهل فتاة، عن فلان فعليك أن تتكلم، ولا تقول: هذه غيبة بل يجوز في هذا أن تبين، إن كنت تعرف عنه شيئاً قالت: تقدم لي فلان وفلان يا رسول الله، ماذا أفعل؟! قال صلى الله عليه وسلم -اسمع إلى المعلم، واسمع إلى الحكمة والعقل- قال: {أما معاوية فرجلٌ صعلوك؛ لا مال له} والحقيقة أن المرأة تريد شيئاً يعني نسبياً، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم استُفْتِي فأفتى: {وأما أبو الجهم فرجلٌ لا يضع عصاه عن عاتقه}.
يقول: إن كنتِ تريدين أن يقطع جسمك فتزوجي أبا الجهم أنا أعرفه {ولكن تزوجي أسامة بن زيد}.
فتزوجته فاغتبطت به، أي: ارتاحت معه، بمشورة محمد صلى الله عليه وسلم.
فلابد أن يختار الدين الخلوق، ويوجد في الفسقه من هو حسن الخلق، فبعضهم يتبسم دائماً وهو فاسق، تجده قد يتناول المخدرات ويترك الصلاة، لكن من أحسن الناس خلقاً، لكن فقد الشرط الأعظم، فلا بد من الشرطين، الدين وحسن الخلق.(27/16)
التشديد في مواصفات الزوجة
أيضاً: يطلب من الشباب المتقدمين، أن يتنازلوا في الشروط الجائرة، فإنهم يشترطون الوسامة، والرسامة، والرشاقة، والرتابة، وأن تكون طويلة، حورية، في عينيها دعج، وشعرها بنفسجيٌ يميل إلى الحمرة، إن جلست على الكنب استقرت، وإن رأت خوفاً فرت، وإن رأت اطمئناناً اسبطرت، هذه وصفة عامر الشعبي لفأرة عنده، وبعضهم يشترط مثل شروط القاضي المجتهد، وتقدم بعض الناس إلى بعض العلماء، قال: "أريد ابنتك، فقال: أعطني شروطك؟ فكتبها، فإذا هي شروط لا توجد في الحياة الدنيا، قال: انتظر حتى ينزل الله عليك حورية من الجنة، أما هذه الأوصاف فليست عندنا" مع أنك تجده مقلب الشكل، وجهه مثل قفاه، وعندما يتقدم يشترط بنتاً مثل الشمس فهلاَّ كان مثل القمر!
يا أخي على وضعك أنت!! زكاة الجرباء منها، كل بلاد لها حد نسبي في الجمال، فالغربيون كالغربيات، والشرقيون كالشرقيات، والجنوبيون كالجنوبيات، والشماليون كالشماليات، وأنت في نفسك لستَ يوسف عليه السلام في الحسن: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف:31].
أيضاً: الظاهرة التي ذكرت في الرسالة كثرة العوانس في البيوت!! صراحة سبع إلى ثمان إلى تسع، إلى عشر لماذا؟! لا يكفي والحل عند المشايخ والدعاة وأعيان البلد هنا، ومن غاب منهم فيه خير أنه لابد أن يجتمعوا ويجدوا حلاً مثل ما وجد في الرياض، عند سماحة الشيخ ابن باز ومثل ما وجد في القصيم عند سماحة الشيخ محمد بن عثيمين، ووجد في جدة ومكة، وهؤلاء أخيار مثل أولئك، فيجدوا حلاً لنا، ماذا يريدون منا؟ نحن أبناؤهم وتلاميذهم، لكن يحلون هذه الأزمة.
الفتاة تقول: عندي مئات من الفتيات، يردن حلاً، أنا أطلب حلاً، ما هو الحل؟ ولا يكفي تحديد المهر، لا يكفي أن نقول: تزوجوا تقدموا بل يجدوا حلاً يعني دائرة مسئولة عن هذا، هاتفاً معروف الاتصال وتنسيقاً كيف يصل إلى هؤلاء؟ هذا الذي تريده الفتاة.
كذلك نبذ الطمع والجشع في المهور، وبعض الناس يبيع ابنته بيعاً، كأنه يبيع سيارة، فليتقِ الله الأب في مثل هذا، أيبيع بنته!! البنت أصلاً: لا توازنها جبال الدنيا لو كانت ذهباً وفضة، لكن المطلوب أن يسترها بشيءٍ يحله بكلمة الله، ولو برمزٍِ بسيط، وما يمنعك أن تزوج بألف ريال؟(27/17)
بعض الأخطاء التي نبهت عليها الفتاة في صرختها
أما أن تتحرى هذا المهر لتكون تاجراً به، والله إن من العيب كثرة المهرِ، اعلم أن تجارة المهر ممحوقة.
أيضاً: في هذه الرسالة مسائل:(27/18)
التفكك الأسري
كمسألة التفكك الأسري الذي تعيشه كثير من المجتمعات؛ لعدم وعيها بدين الله عز وجل، ولعدم معرفتها بالكتاب والسنة، فتجد الأب في جانب، والابن في جانب، لا يعرف أحدهم حقوق الآخر، ولا يقوم بها، ولا يتواصى بها، وعسى أن تكون هناك دروس إن شاء الله مفصلة في التفكك الأسري، وما هو علاجه؟ كي نبني بيوتاً على تقوى من الله ورضوان؟ فالتفكك الأسري هذا عجيب، وانظر إلى هذا الأب!! وأرجو أن تتذكر في ذهنك، ماذا فعل؟ لقد فعل أموراً لا يعلمها إلا الله!! أموراً كباراً كالجبال!! يقطع ابنته، ويغلظ عليها، ويمنع الخطَّاب من أجل راتب، سبحان الله!!(27/19)
قلة الوعي الديني
ثم في الرسالة، هناك ملمح إلى قلة الوعي والتدين في كثير من المجتمعات وسبب هذا هو الجهل، واعلم أن العلم والفقه في الدين، والتعليم، أن يقوم الدعاة بتعليم الناس، وتكثيف الدروس والمحاضرات، وأن تكون هناك ندوات تحل الأزمات كل هذا حلّ لمثل هذه الأزمات.
إنني أطلب من إخواني الدعاة، وطلبة العلم أن يكون هناك ندوات ولو مشتركة -مثلاً- عن العنوسة ويطرح حلٌ للعوانس، ومسألة المهر، ومسألة المتدينين والمتدينات، والتقارب بين الأسر، أو مسائل أخرى، أو موضوعات أخرى؛ لأن الحياة الزوجية مطمح لكل فتاة.
وتصوروا -وقد جرى هذا في كثير من المجلات، العربية والأجنبية- أن إحداهن في مقابلة منها وهي في الخمسين من عمرها، وقد حصلت على الدكتوراه، وعلى مراتب عالية، قالت: خذوا كل ما عندي من مراتب وأوسمة وجوائز، وأعطوني ربع زوج!!
الرجل له أربع زوجات، فهي تقول: ربع زوج، مطمح المرأة أصلاً أن تتزوج، وأن تأوي إلى كنف.
ومن المسائل أن الطلاق في الإسلام حل وليس مقصوداً، فأبغض الحلال عند الله الطلاق، لكن جعله الله حلاً، إذا رأى الإنسان أنه لا يستطيع الاستمرار، أو أنه لا يستطيع أن يقوم بالحق، فهذا حل، لكنه ليس مقصوداً لذاته، فلا ينبغي أن يتسرع الإنسان، وسوف يكون هناك إن شاء الله موضوع منفصل عن الطلاق ومآسيه وما فيه ومتى يكون، ومتى يستحب، ومتى يحرم، ومتى يكره، بأحكامه وأدلته إن شاء الله.(27/20)
لماذا ترفضين التعدد؟
أيضاً: لماذا يرفض التعدد في الناس؟ يعني التعدد وارد، ولماذا النساء أثابهن الله يكرهن التعدُّد، وهو سنة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والله ذكر ذلك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وشرعه، والرسول صلى الله عليه وسلم عدد وأصحابه، وللرجل قدرة؛ لأن هناك مآسي ومشكلات سوف تقع، ووقع بعضها في الأمة، وقد ذكروا للتعدد أسباباً، منها: كثرة الحروب الطاحنة في الأمم، حتى يقل الرجال ويبقى النساء بالآلاف بل بالملايين، وقد وقع في الشعوب هذا، حتى في ألمانيا وقع هذا، في حروبهم الأولى والثانية، حتى بقي آلاف ومئات يلتمسن أزواجاً ولا يجدن.
ومن الأسباب مرض المرأة، عقم المرأة، قدرة الرجل على أكثر من امرأة، وكما سبق كثرة النساء، وقلة الرجال، ففي إحصائية في البلاد عندنا يقابل الرجل ثلاث نساء، وكنتُ أقول: إنه ست نساء، لكن الإخوة من الأدباء ومن قسم الإعلام في جامعة الإمام قالوا: إن ثلاث نساء يقابلهن رجل، فلابد من حلٍ لهذا، لكن العدل، والرحمة، والقيام بالحقوق، هذا هو المطلوب، والرجاء من النساء ألا يتخذن من الدعاة موقفاً، لأن بعضهن يقلن إنهم يحرضون الرجال على التعدد، وأنا فقط أطرح هذا الطرح!
فلماذا لا يكون هناك توعية علمية وإعلامية واسعة لهؤلاء الآباء، فالرجاء من أهل الفكر، وأهل الرأي، وأهل الإعلام، وأهل الدعوة أن يكون هناك توعية إعلامية مكثفة، وندوات ودروس، إلى هؤلاء الآباء لحل هذه الأزمة حتى يعرفوا أنهم في خطأ، وأنا أطالب إخواني من استطاع أن يأخذ هذا الشريط أو غيره ويوصله إلى هذا الأب أو إلى هذا المجتمع، حتى يعي ويستيقظ من هو في غفلة فليفعل.
ومما ينبغي الحذر من تزويج الفسقة العصاة، فلا يحب الأب أحداً من أجل ماله، بل من أجل دينه وخلقه، ولماذا تدخل بيتك، وتمكن ابنتك من عاصٍ فاجر، يغضب الله ليل نهار؟! ولذلك وقعت الطامات، ويعرف المجتمع أن بعض الناس زوجوا بناتهم من فسقة، لا يصلي أحدهم لله صلاة، ويتناول المخدرات، فيعود إليها الثانية ليلاً، فعاشت الجحيم وفي الأخير طلبت الطلاق، فهذا نتيجة حب المال، والفزع إلى المال، لا للدين، فالرجاء أن يعرف الإنسان أين يضع بنته، وأخته وقريبته.
أيضاً: الإسلام يدافع عن المرأة، ولا يبخسها حقها كما تصورت الأخت الفاضلة، وهي من لوعتها ومن أساها ومما في قلبها أخطأت في بعض الكلام، غفر الله لها، ولكن كما يقول المتنبي:
لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى يكون حشاك في أحشائه
أيها الإخوة الكرام: تم الدرس وقد أخذ سؤالاً واحداً وهي رسالة هذه الفتاة، أسأل الله أن يجعل لها فرجاً ومخرجاً، ولأخواتها، وأن يسترها، وأن يحفظها، وأن يرعاها، وأن يتولانا وإياها.(27/21)
رسالة امرأة فقدت ولدها
أيها الإخوة الكرام: هنا رسالة تقول مرسلتها: إلى أهل القلوب الرحيمة إلى أهل الخير والبذل، رسالةٌ من أمٍ جريحة مصابة في دنياها بمصائب عديدة، بدأت هذه السلسلة من المصائب عندما فقدت ابنها الوحيد منذُ عدة سنوات، ولها أربع بنات غيره، ولأنها أمٌ فقدت، فقد بكت على فقد ولدها، حتى كادت أن تفقد بصرها، إن لم تكن فقدته الآن، وعندما ذهبت إلى المستشفيات قيل لها: إنها مصابة بتمزق في القَرَنيَّة، ليس القَرْنِيَةْ نسبة إلى قرْنة لكن القرَنية بالفتح التي في العين، إحدى العينين في القرنية، ومرضٌ في شبكيةٍ أخرى، فسلمت الأمر لله، وحاولت العلاج، فوجدت أنه يكلف مبالغ خيالية، وهي مع زوجها الفقير لا يكاد دخلهما يسد رمقهما، ويكفي حاجتهما الضرورية، رفعتُ أمري إليكم.
أولاً: انظر لمعاناة هذه المرأة مسكينة من بكائها على ابنها، والحقيقة مثلها يعذر، أنا الآن لست في موضع هل يجوز أن تبكي على ابنها؟
لأنها تريد طلباً آخر -أقول له: عَمْرَاً فيكتبه بكراً- هي تريد طلباً آخر، لكن انظر إلى الوله والولع، ولا يحس هذا الفقدان إلا من يعيش لذة الأولاد وحب الأولاد، ولوعة الأولاد، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن يعقوب عليه السلام: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84].
ذهب بصره من كثرة بكائه حتى كانت تقول الملائكة: اتقِ الله واصبر اتقِ الله واصبر فكان يأخذ التراب ويضعه في فمه ويقول: وأسفاه على يوسف!!
قال أهل العلم: "لو علم يعقوب عليه السلام بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] التي أنزلها على أمة محمد؛ لقالها، لكن قال: وآأسفا على يوسف.
هكذا أسلوب القرآن، انظر الاشتقاق، وآأسفاً على يوسف {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] البلاغة العالية، ويقول كظيم، يقول أهل العلم: "أنه يكظم شيئاً ولا يتسخط، ويصبر على أمر الله، حتى بكت الملائكة معه، وطالبته أن يصبر، فأنزل الله على الأمة: {وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].
وبعض الناس يلوم البعض على البكاء، وفي المثل: لا يعرف الخلي حرقة الشجي، يعني: المعافى لا يدري حال المبتلى، يقول الشاعر الإيراني السني:
ما مَرَّ من طيف الهوى بمسمعي ولو سمعت الورق ما ناحت معي
يا معشر الخلان قولوا للمعافى لست تدري ما بقلب الموجعِ
حتى يقول الشاعر القديم لما مات أخوه مالك بن نويرة فرثاه متمم هذا وبكى وما عنده إلا عين واحدة، ومتمم هذا شاعر العرب وكان أعوراً، فبكى حتى ذرفت عينه العوراء من الدموع!! فكان يقول لها:
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معاً
يقول: قلت لهذه العين اليمنى التي تبكي، اتقِ الله واصبري، قال: فبكت اليسرى.
ويقول متمم:
لقد لامني عند القبور على البكا رفيقي لتذراف الدموع السوافك
فقال أتبكي كل قبر رأيته لقبرٍ ثوى بين اللوى في الدكادكِ
فقلت له إن الشجى يبعث الشجى فدعني فهذا كله قبرُ مالك
الله أكبر نحن نعذرها، ولا بأس فرسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد البشر، وإمام الأمة وهو يحتضن ابنه إبراهيم في سنتين، وإبراهيم تتقعقع نفسه كأنه في شن، فتدمع عيناه عليه الصلاة والسلام، ويبكي ويقول: {تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون} لكن الصبر والامتثال لأمر الله عز وجل.
والشاهد أيها الإخوة: هذه امرأة وقعت في مأساة عنوانها: عند أحد المشايخ، في كلية إعداد المعلمين، وتقرير الأطباء والمبلغ باهض وتريد المساعدة، كي تتعالج.
وامرأةٌ أخرى أرسلت رسالة تقول: زوجها عقيم، ولا يستطيع أن يتعالج ولا عنده مال، هل عندكم مالٌ يتعالج؟
هذه المآسي، إنما توجد هذه المحاضرات حلاً للإشكالات.
واسمحوا لنا واعفوا عنا، أنا نجرح المشاعر بهذه المآسي، لكن أنتم الأمة، وأنتم صفوة الناس، وأنتم الأخيار، وما حضر هنا إلا كل خيِّر، وكل صالح.
تصوروا الآن: أنا ظننتُ أن الحضور سوف ينقص بسبب الامتحانات، فإذا الناس يتكدسون، من حبهم للخير وتكثيرهم للسواد الإيماني، ومن حضورهم مجالس الملائكة يحضرون، ويحضرُ الطلبة، بمستوياتهم، ويتركون من المغرب إلى العشاء لنا وللمسجد، بل لهم عند الله عز وجل.
فأسأل الله أن يثيبهم بذلك، وأشكرهم من الأعماق، حتى في الرياض، مساء الثلاثاء الماضي، كانت هناك محاضرة، وظننت أنه لن يحضر أحد من الامتحانات، فما كان من الشباب -أهل الامتحانات- إلا أنهم ملئوا المسجد، وخارج المسجد، وما حول المسجد، وهذه هي رسالة العلم، أن تكثر سواد المؤمنين، وأن تحضر مجالس الملائكة.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، والرشد والسداد، والعون والإلهام، وأسأله أن يحفظنا وأن يسددنا، وأن يرعانا، وأن يحوطنا بعين رعايته، وأن يصلح الراعي والرعية، وأن يكلأنا وإياكم برعايته إنه على كل شيءٍ قدير.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(27/22)
كيف نربي أطفالنا
الأطفال أمانة في أعناق آبائهم، وكثير من الآباء اليوم قد أهملوا أطفالهم، فربوهم على الميوعة، والغناء، والرقص، فخانوا الأمانة التي أئتمنهم الله عليها.
وفي هذا الدرس تحدث الشيخ عن كيفية تربية الطفل المسلم التربية الإسلامية الصحيحة.(28/1)
هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع الأطفال
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، الحمد لله الذي جمعنا بالصالحين ووفقنا لسيرة سيد المرسلين، نسأله رحمة منه فإنه أرحم الراحمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين وحجة الله على الهالكين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،،
عنوان هذا الدرس: كيف نربي أطفالنا
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46] الأولاد زينة للحياة، جعلهم الله عز وجل قرة عين للآباء وللأمهات إذا أصلحهم الله، ولذلك وصف الله الصالحين بقوله في دعائهم أنهم يقولون: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] وقال كثير من الصالحين: لا تحلو الحياة إلا بالولد؛ ولذلك جعل صلى الله عليه وسلم من الأعمال الصالحة التي تلحق الرجل الصالح {ولد صالح يدعو له} -كما في صحيح مسلم - والعقيم في حياته شيء ليس من قبل الله عز وجل؛ فإن الله قد يعوضه خيراً من هذا الولد؛ لكن في سلوته وراحته وفي عزائه وفي حياته، ولذلك كان زكريا يقول: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89] أي: لا تتركني وحيداً بلا ولد وبلا أبناء، ولذلك أرسل الله الملائكة يبشرونه فنادته الملائكة وهو قائم في المحراب يصلي أن الله يبشرك بيحيى، فجعل الله الولد بشارة، وهي من أعظم البشارات لمن أحسن تربية الأولاد، ولكن كيف نربي الأطفال؟ وكيف نحسن تربيتهم؟ وكيف نرضعهم الإيمان والعقيدة الصحيحة التي أتى بها محمد عليه الصلاة والسلام؟
وكلمتي هذه الليلة للآباء وللأمهات، وإن كان من نصيب أوفر فهو للأم، فأقول لها: يا أمنا! يا رائدة الأجيال! يا صانعة الأبطال! يا مدرسة الجيل أرضعي أبنائك عقيدة التوحيد مع اللبن فإن الله سوف يسألك عن أبنائك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ولذلك وصف الشعراء الأبناء بأنهم الأكباد التي تمشي على الأرض؛ كما ذكر ذلك ابن الرومي وغيره، هم أكبادنا التي تمشي على الأرض، وهم شجا قلوبنا، وقرة أرواحنا، دخل عمرو بن العاص الداهية أرطبون العرب على معاوية بن أبي سفيان الخليفة وهو في دار الملك، وعند معاوية فتاة صغيرة نجيبة في الأربع أو في الخمس سنوات.
قال عمرو بن العاص: [[يا أمير المؤمنين ما لك تقرب هذه الفتاة، والله إنهم ليقربون البعيد ويبعدون القريب ويوصمون العار! فغضب معاوية وقال: خالفت وأخطأت، والله إنهم شجا الأرواح، وإنهم ريحان الحياة، وإنهم شفاعة في الآخرة]] وصدق رضي الله عنه وأرضاه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم {كان يحمل الحسن والحسين ويقبلهم ويقول: هذان ريحانتاني من الدنيا} يعني: يكفيني من الدنيا الحسن والحسين، وكان ينظر إليهما ويقول: {اللهم إني أحبهما فأحب من يحبهما} وهذا الحديث يروى عنه صلى الله عليه وسلم بسند فيه ضعف، فنشهد الله أنا نحب الحسن والحسين بحب جدهم عليه الصلاة والسلام.(28/2)
هديه صلى الله عليه وسلم مع الأطفال في الصلاة
الحسين والحسن جدهما محمد صلى الله عليه وسلم، فنحب الأحفاد لحب الجد الكبير العظيم، وإنما الشاهد في القصة أنه صلى الله عليه وسلم تحبب إلى الأطفال، أتى يصلي إما العصر وإما الظهر صلى الله عليه وسلم فأخذ أمامة وعمرها ثلاث وقيل: أربع سنوات وهي بنت زينب، وزينب بنته صلى الله عليه وسلم، أي: أنها بنت بنته، فحملها في الصلاة، صلى بالمسلمين وبعلماء الصحابة وساداتهم وشجعانهم وشهدائهم فحمل أمامة على كتفه عليه الصلاة والسلام، فإذا سجد وضعها وإذا قام رفعها حتى سلم من الصلاة.
وعند النسائي والحاكم أنه عليه الصلاة والسلام: {خرج يصلي بالناس صلاة العصر أو الظهر فلما سجد أطال السجود -بأبي هو وأمي- فلما سلم بالناس قالوا: يا رسول الله! أطلت سجدة.
قال: إن ابني هذا (قيل: الحسن وقيل: الحسين) ارتحلني (أي: صعد على ظهري) -لما رأى المصطفى صلى الله عليه وسلم ساجداً أعجبه المنظر -وكان طفلاً- فصعد على ظهر الحبيب- قال: إن ابني هذا ارتحلني فخشيت أن أقوم فأؤذيه فانتظرت حتى نزل من على ظهري}.
يا للخلق! ويا للطافة! ويا للسماحة! {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
يقول أحد الناظمين في الشباب والأطفال:
يا للشباب المرح التصابي روائح الجنة في الشباب
وهذا البيت لـ أبي العتاهية، يقول: روائح الجنة في الأطفال، وأنت إذا قبلتهم كأنك تقبل شيئاً خرج من الجنة، فهم بريئون، طاهرون، مزكون، لا حقد ولا حسد ولا ضغينة {كل مولود يولد على الفطرة} ولد مسلماً، لا علمانياً، ولا يهودياً، ولا شيوعياً، ولا نصرانياً، وإنما حنيفاً مسلماً، حتى يدخل أبوه وأمه عليه الكفر: اليهودية أو النصرانية أو العلمانية.
يا للشباب المرح التصابي روائح الجنة في الشباب
يا ليتني ما زلت في الطفولة بنفسي الطاهرة المقبولة
لم أحمل الحقد ولم أدر الحسد ولم أنافس في الدنيات أحد
يحب كل المسلمين قلبي وليس في قلبي سواك ربي
هذا منطق أهل الطفل يوم ينشأ عابداً مخلصاً لله، ولذلك كان الأطفال قرة عين الصالحين، قال الله عز وجل: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن تربيتهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].(28/3)
هديه صلى الله عليه وسلم مع الطفل عند الولادة
كيف نربي أطفالنا؟
هنا مسائل: يوم يلد الطفل أمر عليه الصلاة والسلام {أن يؤذن في أذنه اليمنى، وفي لفظ -لكنه ضعيف- وأن يقام في اليسرى} ولـ ابن القيم كلام جميل في تحفة المودود يقول: أمر عليه الصلاة والسلام أن يؤذن، ليكون أول ما يطرق قلب الطفل التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فينشأ على حب الله وعلى حب رسول الله، وتغرس في قلبه شجرة الإيمان، ويطرد منه الشيطان؛ لأن الشيطان يفر من الأذان، إذا أذن المؤذن فر الشيطان فهو لا يقبل الأذان ولا يقبل ذكر الله، فالوصية كما ثبت عند أبي داود والترمذي: أن يؤذن في أذنه اليمنى، كما في حديث أبي رافع وابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم {لما ولد لابنته فاطمة الحسن بن علي أذن في أذنه اليمنى} وينسب إلى عمر بن عبد العزيز أنه قال: [[ويقام في الأذن اليسرى]].
هذه معالم التوحيد، بيوتنا تبدأ بلا إله إلا الله وتنتهي بلا إله إلا الله، أول ما يقع رأس الطفل في الأرض ينبغي أن يعلم بأنه لا إله إلا الله، ويؤذن في أذنه، ويوم تقبض روحه عليه أن يختم حياته بلا إله إلا الله.
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله، دخل الجنة}.
أبو زرعة أحد المحدثين الكبار: رؤي في المنام بعد أن توفي: قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: رفعني ربي في عليّين، قالوا: بماذا؟ قال: كتبت بيدي ألف ألف مرة صلى الله عليه وسلم.
لما حضرت أبا زرعة الوفاة، أتى المحدثون وتلاميذه حوله ليذكرونه بحديث لا إله إلا الله عله أن يقولها، قال: فأتوا يتذكرون أول السند فيقولون: عله ينتبه؛ لأنه أصيب بإغماء فكانوا يقولون: حدثنا فلان فأخطئوا في الاسم فاستيقظ -بإذن الله- من غفلته وقال: حدثنا فلان عن فلان قال: حدثنا فلان عن معاذ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله، دخل الجنة} ثم توفي فهذه هي الكلمة التي ينتهي بها الإنسان من الحياة.(28/4)
تسمية الطفل وآدابها
ومن معالم تربية الأطفال يا موحدون ويا مسلمون: التسمية، وفيها آداب:(28/5)
اختر لابنك الاسم الحسن
أولها: أن تختار لابنك الاسم الحسن، وهذا من واجب الابن عليك، لا تختار له اسماً يعير به وينادى به في الحياة وينادى به يوم العرض الأكبر، ففي السنن عن أبي الدرداء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {أحسنوا أسماء أبنائكم فإنهم يدعون بها يوم القيامة} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، يوم يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وينادى أين فلان بن فلان؟ فيقوم على رءوس الأشهاد، فالواجب اختيار الاسم الحسن.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدق الأسماء همام وحارث} هذه من الأسماء التي يطلب من المسلم أن يسمي بها وأحبها عبد الله وعبد الرحمن.
أما حديث {أفضل الأسماء ما عبد وحمد} فلا يصح عن الرسول عليه الصلاة والسلام، حديث ساقط السند، ولا يصح رفعه إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم.
ومما يجتنب في الأسماء: التعبيد لغير الله مثل: عبد الشمس، أو عبد شمس، أو عبد الكعبة، أو عبد الدار، أو عبد السيارة، أو عبد الفلة فإن هذا لا يجوز وهو محرم، وإنما سموا به أهل الجاهلية فغير صلى الله عليه وسلم ما استطاع أن يغير من أسمائهم.
ومما يستقبح أيضاً الأسماء التي ليس لها معنى مثل: شليويح، وصنيهيد، وعضيدان، وهذه الأسماء التي ليست فعل أمر ولا فعل مضارع ولا ماض ولا اسم ولا حرف، وفيما عندنا من الأسماء غنية -والحمد لله- كأسماء الأنبياء، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {تسموا بأسماء الأنبياء} فأسماء الأنبياء مثل: إبراهيم وموسى وعيسى وزكريا وإدريس ومحمد ونوح عليهم الصلاة والسلام جميعاً، وأسماء الصحابة مثل: طلحة والزبير وعلي وعثمان.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع(28/6)
إياك وأسماء الكفرة
ومما يستقبح كذلك التسمية باسم الكافر مثل: جورج، وبولس، وميشل، وريجن، وبوش، وجورباتشوف، وأعداء الله الذين اندرجوا في سند إبليس وهو إمامهم إلى النار يستظلون بظله في النار يوم لا ظل إلا ظله في النار، فهؤلاء محرم أن يسمي بهم المسلم، وقد انتشر عند بعض المستغربين الذين تأثروا بالحضارة المادية وأصبحوا أذناباً للعلمانية والماسونية يسمي أحدهم ولده جورج أو بوش أو ميشل أو ميكل أو بيكر أو أمثالها وأضرابها، فإن هذا محرم وهو من التشبه بالكفار.(28/7)
إياك والأسماء التي فيها تزكية
ومما يلحق بذلك الأسماء التي فيها تزكية، كأن يسمي ابنه إمام المتقين! أو سيد الأولياء أو خيرة الناس! وقد حدثنا رجل من علماء التفسير -وهو ثقة- أن رجلاً من أهل الهند سمى ابنه "خير البرية" قالوا: ما لك؟ قال: موجود في القرآن.
فجاء له ابن آخر فسماه: شر البرية! قالوا: ما لك؟ قال: موجود في القرآن فهو لا يفهم اللغة.
وحدثنا رجل آخر من الثقات -وهو من منسوبي أصول الدين في الرياض - أن رجلاً من الهند سمى ابنه: وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا!! هو لا يفهم اللغة لكنه أخذ الجملة من القرآن، ولذلك تجد بعض الأسماء أكبر من الجبال على بعض المسمين الذين لا دور لهم في الحياة، كأن يسمى: نور الإسلام وهو عدو الإسلام، أو شمس الدين وهو بغيض الدين، أو صدر الدين، أو نجم الدين، أو شهاب الدين، أو تقي الدين، وهو معرض عن الدين فاجر في الدين مخالف له! فهذه التزكيات ممنوعة؛ ولذلك {سمع صلى الله عليه وسلم أنهم سموا "برة" فغير اسمها إلى "زينب" وقال: تزكي نفسها؟!} فهذا من أبواب التزكية التي لا تنبغي كذلك.(28/8)
إياك وأسماءً فيها حزن وشؤم
ومما يذم في الأسماء وهي المسألة الرابعة: ما فيه حزن وشؤم
كأن يسمي ابنته "مصيبة" أو "فتنة" أو "بلية" أو ما يحلق بذلك، أو ما يسمى الأطفال كأن يسمي "الفتان" أو "العاصي" أو "المخالف" أو "الفاجر" ولا يفعل هذا من عنده عقل أو وعي.(28/9)
من آداب التربية
ومن آداب تربية الأطفال:(28/10)
المطعم الحلال
كثير ما فسد الشباب والأطفال بسبب المطعم الحرام، يوم يؤكلَّون الربا، ويسقون الربا، ويلبسون الربا، ويسكنون في الربا، ويحملون في سيارة الربا، كيف يستجيب الله دعاءهم ويصلحهم؟! جسد غذي بالحرام النار أولى به، فيا من اشتغل بالربا! ويا من أطعم أطفاله من الربا! لقد اقترفت خطيئة عظيمة يوم أطعمت أطفالك الربا.
في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر {الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، ومشربه حرام وغذي بالحرام، فأنَّى يستجاب له؟} ولذلك كان الصالحون يحرصون على إطعام أطفالهم الحلال عل الله أن يستجيب صلاة الأطفال ودعاءهم وأن ينبتهم نباتاً حسناً، ولذلك لما ذكر الله اليتيمين في سورة الكهف قال: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:82] فلما كان الأب صالحاً أصلح الله له في الذرية وحفظ عليه أطفاله وحفظ لهم كنزهم حتى وجدوه، فليتنبه المسلم إلى هذه المسألة العظيمة.(28/11)
مداعبة الأطفال
ومما ينبغي كذلك على المسلم لأطفاله في سن الطفولة أن يلاعبهم، والملاعبة سنة، ومن قال: إنها هجنة فهو خاطئ، ومن قال: إنها ضياع للوقت فهو مخالف، بل هي سنة محمد صلى الله عليه وسلم، أكثر من اشتغل بأمور الأمة، وحوادث العالم محمد عليه الصلاة والسلام ومع ذلك كان يقبِّل الأطفال، كان يجلس في مجامع الناس فيأتي الحسن وهو صغير فيفتح يديه عليه الصلاة والسلام ويضحك ويخرج لسانه للحسن فيأتي الحسن مسرعاً حتى يرمي بنفسه على المصطفى عليه الصلاة والسلام، خلق كالشهد المصفى، ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره: أنه قام يخطب الناس على المنبر فلما انتصف في الخطبة جاء الحسن وعمره ما يقارب خمس سنوات، وعنده ثوب طويل -مسبل وهو طفل لم يبلغ التكليف- فكان يعثر في ثوبه في المسجد بين الصفوف، يقوم إذا عثر ثم يمشي قليلاً ثم يعثر على وجهه؛ فانشغل عليه الصلاة والسلام به عن الخطبة، فترك الخطبة ونزل واحتضنه وقبله وحمله على كتفيه حتى صعد به على المنبر ثم وضعه في جانبه، ثم التفت إلى طفله الحسن وقال: {إن ابني هذا سيد -أي: إنه بطل من السادات- إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين تقتتلان من المسلمين} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وبالفعل أصبح سيداً من السادات، وولياً من الأولياء، وأميراً من الأمراء، وإماماً من الأئمة، وتولى إمرة المؤمنين خمسة أشهر، ولما اجتمع أهل العراق وأهل الشام ثمانون ألفاً مع مائة ألف، السيوف مصلتة وكادوا يقتتلون خرج هو فحقن الله به الدماء وتنازل عن الخلافة وأصلح بين فئتين عظيمتين من المسلمين.
وفي ترجمة الحسين بن علي -وكان شاباً صغيراً- أن عمر بن الخطاب تولى الخلافة -ذكرها الذهبي في ترجمة الحسين - فجلس عمر على المنبر ينتظر الأذان ليؤذن ثم يخطب بعد الأذان، فأتى الحسين وكان طفلاً صغيراً، وكان يعهد المنبر لجده صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر وقال لـ عمر: انزل من على منبر جدي؛ فبكى عمر بن الخطاب حتى دمعت عيناه وقال: صدقت، وهل أنبت الله الشعر في رءوسنا إلا بفضل الله ثم برسالتكم.
يقصد: من بيتكم خرجت الرسالة، الحسين بن علي هذا ابنه علي بن الحسين الذي تجاهله هشام بن عبد الملك لما طاف قال: لا أعرف من هذا.
قال الفرزدق:
هذا الذي تعرف البيداء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا
يغضي حياءً ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم
صح عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قدم عليه وفد من بني تميم من نجد، ووفد بني تميم حديثو عهد بالإسلام وكانوا أهل بادية، والجفاء في أهل البادية، تجد الواحد منهم عنده عشرة أبناء ما قبل أحدهم منذ ثلاثين سنة، ما عنده إلا الضرب أما التقبيل والمداعبة والملاعبة فلا يجيد، عنده أبقاس وملاكمة ومرامحة ومناطحة! لأنه في الغالب لا يرى إلا التيس والكلب، ينطح التيس وينبح الكلب، كما قال شاعر المتوكل علي بن الجهم وهو يمدح الخليفة فقال له:
أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب
فقام الوزراء يريدون أن يبطحوه أرضاً فقال: دعوه، ما عاش إلا مع هذه البيئة، ردوه عند الرصافة في بغداد سنة، فأنزلوه عند النهر وفي الحديقة وعند البساتين الغناء والرياض الفيحاء، فأتى بعد سنة فاستطلع قصيدته بأجمل بيت يقول فيه:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
فالبيئة لها تأثير، والشاهد من هذه القصة: {أن الأقرع بن حابس رأى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقبل ولده الحسن بن فاطمة، قال الأقرع: تقبلون الأولاد عندكم؟! والله إن عندي عشرة من الأولاد ما قبلت واحداً منهم، قال عليه الصلاة والسلام: وهل أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك} يقول: ما دخلي وما شأني، وهل أملك أنا أن أوزع الرحمات، لا.
الذي يوزع الرحمة هو الله.
وقال أهل العلم فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم: {كانت الجارية تأتيه فتأخذ بيده عليه الصلاة والسلام فتذهب به في شوارع المدينة حتى تعيده إلى مكانه عليه الصلاة والسلام} إلى غير ذلك من القصص التي تنبئ أن من الواجب للطفل ملاعبته؛ لأنه في سن لا يقبل العلم، فلو تلقي عليه محاضرات الدنيا أو علوم الدنيا، فلن يفهم، يريد ملاعبة ومداعبة؛ ولذلك إذا أتيت وأنت متعب تجده يلقي بنفسه عليك، هو ينتظرك وينتظر ابتسامتك ومداعبتك ومزاحك وقد جعله الله سلوة لك، فإن كثيراً من الآباء لا يزيل غمومهم وهمومهم ومتاعب أعمالهم وما يجدونه من نكد في الحياة إلا هؤلاء الأطفال، فحق أن تخصص لهم وقتاً في المداعبة والملاعبة كما فعل عليه الصلاة والسلام.
وكان صلى الله عليه وسلم، كما عند الترمذي {ربما مازح الأطفال فيأخذ بأذن أحدهم، أخذ بأذن أنس ففرك أذنه وأرسله} وعند البخاري {أن ابن عباس لما قام عن يسراه أخذ بأذنه ففتلها وحوله على يمينه} قال ابن حجر: وفيه أن يؤخذ بأذن التلميذ ليعلم لأنه أذكى له، قلنا لـ ابن حجر: بشرط أن يكون الأخذ هيناً ليناً لا يفرك أذنه حتى يقطر الدم فإن هذا من التعزير، يعني: فركاً بسيطاً حتى يصيح، فإذا صاح فحسبك بهذا الفرك.(28/12)
المصاحبة
ومن آداب تربية الأطفال: المصاحبة
أما الحديث الذي يقال عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لاعب ابنك سبعاً، وأدبه سبعاً، وصاحبه سبعاً} فلا يصح، وليس من كلامه عليه الصلاة والسلام، ولكن نسب إلى علي بن أبي طالب وأظنه ليس لـ علي، وإنما هو من كلام سفيان الثوري أو أحد علماء السلف، يقول: لاعب ابنك سبعاً أي سبع للملاعبة فقط، وسبع سنوات للتأديب وفيها العصا تتدخل، وسبع سنوات للمصاحبة يكون لك صاحباً يحضر معك المنتديات والدروس ومجامع الخير والحفلات؛ فإذا بلغ الواحدة والعشرين فاتركه فقد بلغ رشده، إن اهتدى فبها ونعمت، وإن ضل فقد سلمت قياده، أصبح ذا فكر وذا بصيرة والله يتولاه.
أحد الناس أتى إلى عالمٍ من العلماء وقال: أشكو إليك، ابني ضربني على وجهي.
قال: أعلمته القرآن؟ قال: لا.
قال: أعلمته السنة؟ قال: لا.
قال: أعلمته آداب العرب؟ قال: لا.
قال: ظنك ثوراً فضربك.
أي: يستحق؛ لأنه هو المسئول ولذلك لماذا يشكو الإنسان العقوق ويقول: عقني ابني؛ لأنك عققت أباك وما علمت ابنك بر الوالدين.
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
ولذلك أحد الرجال في أحد البيوت يقول: مرة تأخرت عن الجماعة فصليت في البيت، وكان هذا الرجل من المداومين على المسجد من أهل الروضة ومن أهل الصف الأول، لا تفوته الصلاة أبداً، لكن يوماً من الأيام فاتته الصلاة فصلى في البيت فقام ابنه الصغير وقال: يا أبي أأنت امرأة يوم تصلي في البيت أم أنت رجل؟ وهذا سؤال طيب ينبئ على أن الابن مربى على عقيدة سليمة ومبدأ خالد.
والمصاحبة كما ذكر أهل العلم لا تأتي إلا بلين الخلق مع الابن وأن تبجله؛ فإنك إذا أظهرت له الاحترام استحيا من الله عز وجل، فإن بعض الآباء يبكت ابنه ويخزيه ويقطعه ويفضحه بالكلام، فيصبح الابن ميت الإرادة لا يستحي أبداً يفعل ما أراد؛ ولذلك قال المتنبي:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام(28/13)
غرس الفضائل في نفسه
ومن الآداب: غرس الفضائل في نفسه
اسمعوا إلى مقطوعة شعرية من أجمل ما سمعت في الأدب العربي، يقولها أحد الشعراء ذاكراً فيها كيف تربى هو على الفضائل، الرجل هذا اسمه المقنع الكندي مسلم، كان يستدين الدين، ويسد حقوق قرابته وينفق عليهم، فكان قرابته دائماً يعيرونه بالدين ويقولون: أنت دائماً مديون مديون! أنت دائماً ذليل لنا! ليس عندك منعة! قال يعتذر إليهم -يقال هذا من باب غرس الفضائل-
يعيرني بالدين قومي وإنما ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
أسد ما قد أضاعوا وضيعوا حقوق أناس ما استطاعوا لها سدا
وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا
يقول: أنا وإخواني وأبناء عمومتي بيني وبينهم فرق.
كيف؟ قال:
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
يغتابونه وهو لا يغتاب، يذمونه وهو لا يذمهم، يقطعونه وهو يصلهم، يحرمونه ويعطيهم، لا يزورونه ويزورهم، يهينوه ويكرمهم، هذه أخلاق النبوة!
إذا هتكوا عرضي حميت عروضهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
لهم جل مالي إن تتابع لي غنى وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا
وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا
يقول: أنا إذا نزل الضيف تحولت من حر إلى عبد، هذه أخلاق المؤمن، كان حراً بطلاً، ولكن لما دخل الضيف تحول إلى عبد بحفظ الله ورعايته، يقدم الطعام والشراب والفراش هذه أشرف الأخلاق؛ ولذلك قال بعض البلغاء: كن حراً في كل موقف إلا إذا نزل بك الضيف فكن عبداً، أنا حر دائماً إلا في الضيافة فإني عبد للضيف، وهذا من أحسن ما يقال في خدمة الضيف! خاصة للمسلم.
هذه مسائل في تربية وغرس الفضائل في النفوس، ولا تأتي -يا معاشر الأحباب- إلا بأن يكون الأب قدوة لأبنائه، كيف يصدق الابن وأبوه كذاب؟ كيف يصلي الابن وأبوه لا يصلي؟ كيف يفي وأبوه خائن؟ هذا لا يكون، والابن أول ما ينظر ينظر إلى أبيه، ولذلك تجده يتأثر، فإنه تحت السابعة كالبغبغاء يقلد ما تقول تماماً، ولذلك أنطقه على لا إله إلا الله ولا تنطقه -والعياذ بالله- على اللعنة أو على الكلام البذيء الذي يغضب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(28/14)
تجنيبه الرذائل
ومن الآداب: تجنيبه الرذائل
ومن الرذائل الكلام الفاحش، وتربيته على الغرام والهيام.
فلم الكرتون الذي يربى عليه الأطفال المسئولة عنه شركة يهودية إيطالية عالمية تريد أن تربي في الأطفال مسألتين:-
المسألة الأولى: حب الجنس، والمسألة الثانية: حب المال من دون الله.
أتظنون أن اليهودية أو الصهيونية العالمية تلقي فلم كرتون على الأطفال فيأخذ أوقاتاً طويلة؟! أتظنون أنهم يصرفون ملايين الدراهم والدنانير ضياعاً وهباءً منثورا؟! لا.
هم أذكى من ذلك، ولذلك يربون في الطفل حب الجنس، يأتي فلم الكرتون -وهذا موجود ومشاهد- فيأتون بفتاة من كرتون وبشاب طفل من كرتون فيطارد الفتاة ويقبلها ويغازلها ويعاشقها ويهاويها فينشأ الطفل في الحي على بنت جاره وقريبته يفعل كذلك! فغرس الرذائل يكون من طريق هذه الأسباب: شريط الغناء، الأغنية الماجنة، المجلة الخليعة، الفيديو المهدم، المسلسلات المتبجحة، المسرحيات الهابطة كلها هدم وغرس للفضائح والرذائل في نفس الطفل حتى ينشأ فاجراً لا يؤمن بالله ولا يعرف الإسلام ويتنكر لهذا الدين {كل مولود يولد على الفطرة}.
ومن الرذائل: تعويده الكسل والخمول والاعتماد على الغير.
لابد أن تنشئه عصامياً بطلاً يعتمد على نفسه حتى في المعيشة، تجد المترف دائما كسولاً تيساً لا يعرف شيئاً ولا يفهم شيئاً.
ثلاث تفسد شباب الإسلام وأطفال المسلمين:
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة!
شاب وما عنده عمل والمال في جيبه كيف ينشأ؟ ينشأ لعاباً لاهياً إن لم يتداركه الله برحمته.
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة!
فإذا اجتمع ثلاثة مع عدم الإيمان وفقد القرآن وهجر المساجد وعدم وجود العلم الشرعي والبعد عن سنة محمد صلى الله عليه وسلم ووجود المغريات والفتن والمجلات الخليعة بأنواعها؛ عاش وليس في قلبه روح من الهداية ولا ومضة من النور وأصبح -والعياذ بالله- أشبه بالدابة فليتنبه لهذا.(28/15)
أن تختار له الأصحاب
ومن معالم تربيته: أن تختار له الأصحاب
الصاحب الذي تختار لابنك لابد أن يكون ولياً من أولياء الله {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] أما أهل جمع الطوابع والمراسلة وصيد الحمام والدجاج ومطاردة الأرانب وأهل الصفير والنهيق والتفحيط فهذا لا يليق بك أبداً أن تترك ابنك معهم، فهم عصابات سوف يؤدون بابنك وينتقلون به من مرحلة جمع الطوابع والمراسلة وصيد الأرانب والدجاج إلى المخدرات والكأس والمرأة ثم إلى الفجور والإلحاد والعياذ بالله.
فحذار حذار من هذه المسألة!! فإنها خطيرة جد خطيرة، لابد أن تعرف مع من ذهب ابنك ومع من جلس ومع من أتى، من رافقك اليوم؟ من اتصل بك اليوم؟ من هو صاحبك؟ من هو جليسك؟
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] اسمع إلى قول ابن المبارك إمام المسلمين يقول:
وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ذا عفاف وحياء وكرم
قوله للشيء لا إن قلت لا وإذا قلت نعم قال نعم
يقاس المرء بالمرء إذا ما هو ماشاه
وللمرء على المرء دليل حين تلقاه
فأنت لا تسأل عن الإنسان واسأل عن قرينه ومع من يذهب ثم احكم عليه.
ذكر ابن قتيبة وغيره من العلماء أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه خرج إلى الصحراء فوجد ابنه عاصم ومولاه أسلم ينشدان، أحدهما أنشد قصيدة في الصحراء فأتى إليهم عمر وهم يرعون إبل الصدقة فقال عمر: من أنشد منكم؟ فخجلا.
قال: عزمت عليكم أن تنشدا.
فخجلا.
قال لابنه: انشد؛ فأنشد، ثم قال للآخر: انشد فأنشد.
قال: أنتما كحماري العبادي قيل له أي: حماريك أخس؟ قال: هذا ثم هذا، وهذه منقولة، والشاهد أنه قال العبادي والعبادي هو تاجر من التجار أحمق كان عنده حماران، قيل له: أي حماريك أخس؟ قال: هذا ثم هذا، أي: كلها في الخساسة سواء لكن بعضها درجات فوق بعض، والمقصود: أن الصاحب هذا أعدى من الجرباء، وأنه تلف لمن يصاحب، وإذا استمر الصاحب مع الصاحب سلخه ورده إما من هداية إلى ضلال وإما من ضلال إلى هداية، يقول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة لأصحابه:
اتخذني خليلاً أو تخذ لك صاحباً خليلاً فإني مبتغ صاحباً مثلي
يقول: أنا لا أريد من الأصحاب إلا صاحباً مثلي وعلى طريقتي، وقال الشافعي:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة(28/16)
الاهتمام بوقت الطفل
ومن معالم تربيته: الاهتمام بوقت الشاب وهي مهمة جداً:
العطل الصيفية تذهب كثيراً على أطفالنا وعلى شبابنا بلا برنامج، لا حفظ قرآن، لا في الجماعة الخيرية، لا في المراكز الصيفية، لا مع علماء ولا مع طلبة علم؛ إنما همهم الأكل والشرب، وفي السكك والشوارع، حتى أبناء الكفرة عندهم برامج، وأبناء المسلمين يبقون هكذا! تنتهي العطلة الصيفية ولا حفظ جزءاً ولا حديثاً، أو طالع باباً أو استفاد فائدة أو تأدب أدباً هذا ليس بصحيح يا مسلمون، ولذلك تكثر الإيذاءات من الشباب الفارغين والأطفال المتفلتين، ليس في الإسلام تفلت {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116] {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:36 - 40].
فيا مسلمون أوصيكم ونفسي بالاهتمام بأوقات أطفالكم وأولادكم وبناتكم، وأن يكون هناك تحصيل وفائدة ونفع، وإلا فوالله، إنهم سيضيعوا إيمانهم ودينهم ودنياهم، ثم يكونون في ميزان حسراتكم وسيئاتكم يوم العرض الأكبر.(28/17)
أمرهم بالصلاة
متى يؤمرون بالصلاة؟
في حديث صح عنه صلى الله عليه وسلم عند أحمد وأبي داود وغيرهم من العلماء أنه قال عليه الصلاة والسلام: {مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع} وهذه آداب ثلاثة:
أولها: في السن السابعة أن تبدأ تأمره بالصلاة لكن لا تضربه، وإذا تخلف عن المسجد لا تعاتبه، وإنما صل معي، فإن أتى فبها ونعمت وإن تخلف فلا تأخذ على يده؛ لأنه في السبع إلى العشر لكن تصطحبه إلى المسجد، أما حديث: {جنبوا صبيانكم مساجدكم} فهذا الحديث ضعيف، ضعفه أئمة مثل: المنذري والبيهقي وابن الجوزي والبوصيري والعسقلاني والإشبيلي والشوكاني والألباني والسخاوي، وقد رواه ابن ماجه والطبراني وغيرهم من أهل العلم كـ ابن عدي، ولكنه ضعيف السند لا تقوم به حجة، والذي يستدل بهذا الحديث ليس بمصيب، بل يؤتى بالصبي وقد أتى بهم عليه الصلاة والسلام، لكن إذا أتى منهم تشويش وضجة وصجة فيجنبون، أن يتحول المسجد إلى روضة أطفال فلا، المسجد يحترم ويقدر ويوقر من باب تعظيم شعائر الله عز وجل، فلا بأس أن يؤتى بهم بشرط أن تشترط عليهم السكوت والأدب والسمت الحسن والإنصات فليتنبه لهذا.
وأما في السن العاشرة فتضربه على ترك الصلاة ضرباً، العصا لمن عصى والعصا من الجنة، فإذا تخلف وهو في العاشرة وقال: إنه صغير.
قل: لا.
بل كبير بإذن الله، فاضرب رأسه بالعصا حتى يخرج الشيطان، وحتى يتوب أن يتخلف عن المسجد وتستصحبه أنت، ومن الأدب أن تلاحظه في المسجد هل صلى أم لا، وهل حضر معك الصلاة أم لا، وأن تتفقده في كل صلاة.
كان عمر رضي الله عنه وأرضاه يوقظ أبناءه لقيام الليل ويأخذ الدرة ويضرب الأبواب ويقول: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] ما دام يا رب أنعمت علي بالاستقامة والعون والتأييد، فوالله، لا أكون عوناً للمجرم ولو كان ابني هذا هو معنى الآية، وقد قالها موسى عليه السلام.
{وفرقوا بينهم في المضاجع} معنى ذلك: إذا بلغوا العاشرة، وقال بعضهم: إن العطف هذا للأول أي: لأبناء السبع، وقال بعضهم: بل العشر، والعشر آكد ولكن الأحوط السبع، فإذا بلغوا السبع أو أكثر إلى العشر فلا يجوز أن ينام الأطفال الأبناء مع البنات في فراش واحد، ويجوز في غرفة واحدة وفي حجرة واحدة لكن بينهم مسافة.
هذا أدب محمد عليه الصلاة والسلام، هذه سنته، ومن لم يفعل ذلك يقع في أخطار لا يتصورها العقل، وفي مآثم وجرائم الله أعلم بها، فليتنبه المسلم لهذه الآداب التي أتى بها صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدب: أن تلاحظهم عند النوم، فتذكرهم بالوضوء إن استطاعوا أن يتوضئوا إذا بلغوا العشر، وتذكرهم بأذكار النوم كالمعوذات وسورة الإخلاص وآية الكرسي؛ ليحفظهم الله ويعصمهم من شياطين الإنس والجن، فإن أكثر ما يصاب الصرع ودخول الجان في الأطفال بسبب أنهم لا يذكرون الله، طفل ينام على الأغنية ويستيقظ على الأغنية يدخله اثنا عشر جنياً، في الصباح جان وفي المساء جان؛ لأنه ما عرف الذكر، لا يطرد الشياطين ولا الجن إلا الذكر {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] والعلماء يحذرون من إدمان الغناء أو إدخال آلات الغناء أو ما يشابهها من مجلات خليعة فإنها سبب لدخول الشيطان في البيت، والملائكة لا تدخل البيوت التي فيها هذه الأمور فعلى المسلم أن يتنبه لهذا ليكون على بصيرة.(28/18)
رجولة الطفل وأنوثة الطفلة
الإسلام يميز بين الرجل والأنثى، والمقبول عند المسلم أن يكون الرجل رجلاً لا يتأنث ولا يتخنث ولا يأتي بأسماء أو بألقاب أو بكلام أو بلبسة تخالف لبسة الرجال، قال عليه الصلاة والسلام: {من تشبه بقوم فهو منهم} وهو عند أحمد وأبي داود حديث صحيح، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح: {لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال} مثل من يسمي ابنه "دلال" هذا اسم مؤنث لا يحق له، أو يسمي اسماً آخر يكسره تكسيراً أو يأتي الابن يتكلم بكلام يثنيه تثنية
فما عرفوا التثني في بنات ولا عرفوا التأنث في بنينا
فلا درب المعالي ضيعوه ولكن العلا صيغت لحونا
كذلك أخرج الإسلام قومي شباباً مخلصاً حراً أمينا
وعلمه المروءة كيف تشرى فخالف أن يقيد أو يهونا
فالمقصود: أنه يمنع الطفل إذا أتى يتكلم بكلام مايع أو يلبس دبلة من ذهب: فتقول له: لا.
حرام، أو يسبل ثوبه نقول له: لا.
هذا لا يجوز، حتى العرب في الجاهلية كانوا يقصرون ثيابهم، ويقول شاعرهم يمدح أخاه البطل:
كميش الإزار خارج نصف ساقه من اليوم طلاع السعود لأنجد
يقول: إنه بطل يقتحم المعارك، ومن علامة شجاعته أن ثوبه فوق كعبيه إلى نصف ساقيه، ولا يسبل الثياب إلا من تعرفون، قال عمر بن أبي ربيعة:
كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول(28/19)
تربية الشعر وحلقه
كذلك مما ينهى عنه تربية شعر رأسه وحلق لحيته، بعض الناس الآن يربي شعره إلى أكتافه فإذا قلت له: لا.
قال: هذه سنة وأنا فعلتها من حبي للسنة، فنقول له: خالفت السنة، لو كنت صادقاً كنت ربيت لحيتك أما أن تحلق لحيتك وتربي شعر الرأس {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]
يا مدعٍ حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبينا
أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تدويناً وتهويناً
خذها جميعاً تجد فوزاً تفوز به أو فاطرحها وخذ رجس الشياطينا
تربية على ثلاثة أقسام، وحلق الرأس على ثلاثة أقسام:-
تربية الرأس تربية سنة، وتربية معصية، وتربية عادة مباحة، فمن رباه مع لحيته لكن لا يقصد به السنة ولا يقصد به التشبه قلنا: أنت على كل حال في أمر مباح وهذه عادة، مثلما تفعل بعض القبائل، يربون لحاهم ويربون شعورهم، لكنهم لا يعلمون السنة في تربية الشعر ولا في حلقه فنقول: أنت في عادة وفي أمر مباح.
وتربية معصية: كأن يحلق لحيته ثم يتشبه بالنساء أو بالكافر نقول: أنت في معصية وقد تشبهت بالمرأة وبالكافر.
وتربية سنة: وهي من ربى لحيته وربى شعر رأسه وقال: سمعت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يربي شعر رأسه قلنا: صدقت وأنت مأجور ومشكور.
وحلق الرأس على ثلاثة أضراب: حلق معصية، وحلق سنة، وحلق عادة.
فمن حلقه ليتشبه بـ الخوارج الذين قال فيهم أبو بكر لـ خالد: [[وسوف تأتي على قوم علامتهم التحليق، يحلقون شعر رءوسهم فاخفقهم بالسيف خفقاً]] فمن تشبه بمثل البهرة الباطنية الذين يحلقون شعر رءوسهم ويتشبه بهم قلنا: هذه معصية وسيئة وجريمة.
ومن حلق رأسه في حج وعمرة كان سنة، وقد دعا صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاث مرات وللمقصرين مرة.
ومن حلق رأسه لا لأنه يقصد بها شيئاً قلنا: أنت في أمر مباح وفي عادة فليتنبه لهذا.(28/20)
رجولة الطفل
أما رجولة الطفل فإنها تبدأ من صغره، والإنسان لا يقول: أنا صغير أو يربي أطفاله على التواكل، وكلما أسند إليه أمر قال: صغير صغير؛ فينشأ وعمره أربعين وهو لا يزال صغيراً هذا لا يصح، بل يشعره بالمسئولية من العاشرة، محمد بن القاسم قاد الجيش الإسلامي يوم دخل الهند وعمره خمس عشرة سنة!
إن المروءة والسماحة والندى لـ محمد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة يا قرب ذلك سؤدداً من مولد
وقالوا عن أسامة بن زيد: قاد الجيش لسبع عشرة سنة، وأرسل صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن وعمره ما يقارب السابعة عشرة سنة، قال الصحابة لـ عمر وكان يدخل عليه ابن عباس، عُمُر ابن عباس ثلاث عشرة سنة قالوا: كيف تدخل هذا الطفل وعندنا أطفال مثله؟ لأن عند عمر مجلس عالمي سنوي لا يدخله إلا من الأربعين فما فوق، أهل بدر، أهل بيعة الرضوان، شيوخ الصحابة، نجوم الهدى، أسياد الأمة، ولا يدخله غيرهم لا من الأعراب ولا من الأطفال إلا ابن عباس مستثنى في القائمة وله حق الدخول، فكان يدخل فوجد الصحابة، قال ابن عباس: [[فجمع عمر الناس وقال للصحابة: ما معنى قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]؟ وهو يلتفت إلى ابن عباس يريد أن يريهم ذكاء ابن عباس، قال الصحابة: لا ندري، الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: إذا جاء النصر والفتح فاستغفر وتب، فسألهم جميعاً فقالوا: لا نعرف إلا هذا.
قال: وأنت يـ ابن عباس؟ قال: معنى الآية: قد اقتربت وفاتك يا رسول الله، فما دام أن العرب قد أسلمت ودخلت في دين الله فترقب الوفاة أو كما قال.
قال عمر: والله ما أعلم منها إلا كما تعلم]] ولذلك أدخلوه معهم في مجلس الشورى.
أتى وفد العراق يبايع عمر بن عبد العزيز بالخلافة وكان فيهم شاب صغير جالس، فقام الشاب يتحدث فقال: يا أمير المؤمنين! مرت بنا ثلاث سنوات (يقصد: قحط) والأمير الخليفة الملك بيده المال؟ يريد مالاً، والمشايخ جلوس، وعيون القبائل ووجوه العرب جلوس وقام هذا الشاب يتكلم: يا أمير المؤمنين! مرت بنا ثلاث سنوات، أما سنة فأذابت الشحم، وأما سنة فأكلت اللحم، وأما سنة فدقت العظم، وعندك مال الله فأخرج ما لله من خزائن الله على عباد الله.
كلام مثل النجوم!! قال عمر بن عبد العزيز: يا بني اجلس ففي الناس من هو أولى منك بالحديث.
فقال الشاب: يا أمير المؤمنين! لو كان الأمر بالسن لكان في الناس من هو أولى بالخلافة منك أنت:
تعلم فليس المرء يولد عالماً وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده صغير إذا التفت عليه المحافل
وهذان بيتان أنشدهما عمر بن عبد العزيز رحمه الله وهو قدوة، فإنه تولى أمر المسلمين وعمره ثمانية وثلاثين سنة فقادهم إلى بر الأمان وكان من خيرة عباد الله، رضي الله عنه وأرضاه.
الخنساء النخعية -لا أعني السلمية- كان لها أربعة أبناء، فلما ربتهم على تقوى الله وطاعته ذهبت بهم إلى القادسية في المعركة، ثم لبستهم الأكفان وكانوا شباباً، ثم قالت: يا أبنائي والله ما خنت أباكم ولا خدعت خالكم، والله إنكم أبناء رجل واحد، والله، ما ربيتكم إلا لهذا اليوم فإذا حضرت المعركة فيمموا وطيسها، واشغلوا أبطالها، ولا أراكم بعد اليوم إلا في الجنة؛ فأخذوا أكفانهم الأربعة فأتوا المعركة فأوقدوها وأشعلوها من أول النهار، وما أتت صلاة الظهر إلا وهم مذبحون في الأرض، فأتى الخبر إليها فضحكت وقالت: الحمد لله الذي أقر عيني بشهادتهم.
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
هذه أسرة عربية مسلمة تربت على تقوى الله، يقال: قتل منها ما يقارب ثمانين شهيداً في سبيل الله، وهي إما من بني خندف أو من قبيلة أخرى الله أعلم بها، لكن مدحهم الشاعر العربي قال:
هم القوم يروون المكارم عن أب وجد كريم سيد وابن سيد
وهزتهم يوم الوغى أريحية كأن شربوا من طعم صهباء صرخد
ويطربهم صوت الصوارم في الوغى بيوم الوغى لا ما ترى أم معبد
يقول: لا تطربهم إلا صوت السيوف لا الغناء ولا الأوتار ولا الأصوات الخليعة الماجنة.(28/21)
تعظيم الله في قلوبهم
ومما ينبغي ملاحظته في تربية الأطفال -أيها المسلمون- أن يعظم الله في قلوبهم، وأن يعظم قدره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ومراقبته، كان كثير من الصالحين إذا حضرتهم الوفاة استدعوا أبناءهم وقالوا لهم: ليكن أعظم شيء عندكم الله.
قال الأندلسي لابنه:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحِ من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
وقال الأندلسي الآخر يوصي ابنه في طلب العلم:
إذا لم يفدك العلم خيراً فليتك ثم ليتك ما علمتا
وإن ألقاك فهمك في مغاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم قرة عين، وأن يثبتنا وإياكم حتى نلقاه.
هذه مسحة بعنوان: كيف نربي أطفالنا؟ وسوف يسألنا الله عن أطفالنا يوم العرض الأكبر، وإنني أعود إلى الأم المسلمة فأقول لها: يا أمة الله! يا مدرسة الأجيال! يا من أنت المسئولة الأولى عن تربية أطفالنا وبناتنا اتق الله في أطفالك، واعلمي أنك مدرسة مؤهلة لإخراج الزعماء والعلماء والأدباء
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم نبت إن تعاهده الحيا بالري أورق أيما إيراق
فنسأل الله لنا ولكم السداد والعون والرشاد وأن يثبتنا حتى نلقاه، كما نسأله ثباتاً في الدنيا والآخرة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(28/22)
الأسئلة(28/23)
دلني على كتاب في السيرة
السؤال
أريد أن تدلوني على كتاب في السيرة يكون عليه اعتمادي في سيرة حبيبنا عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
أولاً: شكر الله لك ألفاظك الواضحة النبيلة الطيبة مع المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويظهر من السائل حبه للمصطفى عليه الصلاة والسلام، وهذا أمر مطلوب في حبه صلى الله عليه وسلم، كان الصالحون إذا ذكروه قال الواحد منهم: بأبي هو وأمي، ويقول الآخر: بنفسي.
ما أعلم كتاباً في السيرة أحسن ولا أجدى بعد كتاب الله عز وجل، والسنن والصحاح من كتاب زاد المعاد لـ ابن القيم، فإني أدلكم عليه أن تقتنوه، وقد خرج محققاً في خمسة مجلدات تحقيقاً جميلاً بديعاً في ديباجة رائعة! ما أحسن منها! بتحقيق الأرنؤوط وهو كتاب جيد، وهناك كتاب عصري جيد اسمه الرحيق المختوم في سيرة النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم.(28/24)
المرأة لا تؤم زوجها
السؤال
هل للمرأة أن تؤم زوجها، وهل لها أن تصلي إماماً وهو مأموم أم لا؟
الجواب
في سنن أبي داود أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر المرأة أم ورقة أن تؤم أهل دارها، والحديث صحيح، لكن فيه عموم، ولا ندري هل في أهل دارها رجال أم لا، لكن ورد عند ابن ماجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى وقال: {لا يؤمّنَّ أعرابي مهاجراً، ولا فاجر مؤمناً، ولا امرأة رجلاً} والحديث ضعيف، لكن قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] وقوله صلى الله عليه وسلم: {لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة} يدل على أنه ليس للمرأة أن تؤم الرجل، ولكن للرجل أن يؤم المرأة مهما يكن، وهذا الصحيح، ولا أعلم -إن شاء الله- إلا هذا الرأي الواضح الراجح، أما حديث أم ورقة فهو عام، وأهل دارها لا ندري أفيهم رجال أم لا.(28/25)
طلاء الأظافر
السؤال
هل طلاء أظفار المرأة عند الوضوء يمنع وصول الماء إلى البشرة؟ وهل في الوضوء شيء إذا كان على الأظفار طلاء؟
الجواب
أقول: الطلاء هذا إن كان له سمك ويحجب وصول الماء إلى البشرة فإنه لا يجوز لها، وعليها أن تزيله قبل أن تتوضأ ليصل الماء إلى البشرة فهذا حائل مثل البوية ومثل ما في حكمها من الطلاءات هذه، وأدوات التجميل التي لها سمك فلا بد من إزالتها حتى يصل الماء إلى البشرة، أما لو كان لون فقط وليس له سمك فلا بأس مثل الحناء وما في حكمه فلا بأس به، وأما ما له سمك فلا بد من إزالته فليعلم ذلك.(28/26)
تحريم القات عند العلماء
السؤال
انتشر القات في بعض المناطق، والسائل يقول: إن بعض العلماء في تلك المناطق البعيدة يتناولون القات، وإنهم يأمون الناس ويخطبون فيهم ويفتونهم، فما حكم شربهم وأكلهم للقات وتعاطيهم لهذا الأمر؟
الجواب
القات على القول الصحيح من كلام أهل العلم أنه محرم لأمور:
أولاً: أنه مفتر، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل مفتر حرام} وقد قال شهود العيان ممن عاشوا وذاقوا وجربوا: إن القات يفتر، ومن علامة تفتيره أن من يتناول القات في مناطقهم يتركون صلاة العصر إلى ما بعد صلاة العشاء أو يؤخرون صلاة الظهر إلى ما بعد صلاة المغرب، ويجمعون بين الصلوات وقد ارتكبوا أمراً محرماً، ولولا أنه يفتر ما فعلوا ذلك.
وإذا تناوله أحدهم أغلق على نفسه وبقي في بيته يتصور التصورات حتى قال بعضهم لما سألناه: ماذا تتصور؟ قال: يذهب الهم والغم، وهذا علامة أنه حدث في عقله شيء وفي ذهنه شيء وأنه فتر ولا نقول أنه أسكر فالله أعلم لكنه فتره وكل مفتر حرام.
القات يذهب المال؛ فإنه لا يبلغ الغصون البسيطة منه والقليلة ولا تؤخذ إلا بمئات الدراهم والدنانير، وكثير منهم افتقر وأصبح مملقاً وهذا لا يرضاه الله ولا رسوله، وهذا من الضرر، قال عليه الصلاة والسلام: {لا ضرر ولا ضرار} وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] والقات يقيناً من الخبائث المحرمة، وقد نص على تحريمه من علمائنا الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي -رحمه الله- وله منظومة وقصيدة رنانة طنانة في تحريمه ومقالة منثورة في تحريمه ورد على المهدي من علماء اليمن، وممن نص على تحريمه سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز بن عبد الله بن باز وغيره من العلماء الأجلاء، فليعلم ذلك فإنه محرم، ومن فعله فقد أساء وتعدى وظلم وأخطأ في حق نفسه.
أما الدخان ففيه فتاوى مكتوبة ومسجلة وتكرر في المحاضرات كثيراً، فيكفي أنه محرم وأنتم تعرفون الحكم.(28/27)
تفسير قوله صلى الله عليه وسلم [فحج آدم موسى]
السؤال
كيف تفسر قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: {فحاج آدم موسى، فحاج آدم موسى}؟
الجواب
هذا الحديث متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {التقى موسى وآدم} موسى عليه السلام نبي بني إسرائيل وآدم عليه السلام الذي هو أبونا، التقيا، أين التقيا؟ الله أعلم، قال بعضهم: في البرزخ، وقال بعضهم: في السماء، وهو الظاهر، لكن المقصود أنهما التقيا، فالتقى آدم وموسى وكان موسى شجاعاً جريئاً دائماً يحاور ويتكلم، ولذلك كلمه الله تكليماً ولم يكلم أحداً من الناس {فقال موسى لآدم: يا آدم! أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته خيبتنا وأخرجتنا من الجنة (يقول له: أكلت من الشجرة فخرجت فخرجنا معك، نحن في حياة المتاعب والذنوب والمعاصي والدموع والآلام والقلق والأرق بسبب أنك خرجت من الجنة) قال آدم: أنت موسى بن عمران الذي كلمك الله تكليماً واصطفاك بكلماته ورسالته وكتب لك التوراة بيده، بكم وجدت أن الله كتب علي الخطيئة؟ قال موسى عليه السلام: وجدتها في التوراة بأربعين سنة.
قال: أفتحاجني على شيء قد كتبه الله علي؟} فأتى محمد صلى الله عليه وسلم يتدخل بعد أن انتهى الحوار قال صلى الله عليه وسلم: {فحاج آدم موسى، فحاج آدم موسى، فحاج آدم موسى} أي: فغلب آدم موسى، فغلب آدم موسى، فغلب آدم موسى.
والقدرية يقولون: فحاج آدمَ موسى.
أي: يجعلون موسى هو الفاعل وآدم مفعول به، أي: أن الغالب موسى وقد كذبوا، حتى يقول بعض العلماء: يجادلون بين موسى وآدم كأنهم يجادلون بين جبري وقدري.
جل الله! وهذا لا نستدل به بالقضاء والقدر إلا في مسألتين:
مسألة المصائب: يقول ابن تيمية: نستدل بالقضاء والقدر في المصائب ولا نستدل به في المعايب.
يسقط ابنك من قصر ويتكسر تقول: بقضاء وقدر، وتمرض ابنتك فتقول: بقضاء وقدر.
لكن يسرق السارق في المعايب لا تقول: قضاء وقدر، ما لك سرقت؟ قال: قضى الله علي أن أسرق.
لا يصلي الفجر مع الجماعة فيقال له: ما لك لا تصلي؟ قال: قضى الله علي وكتب ألا أصلي.
سرق سارق في عهد عمر فقال: لمَ سرقت؟ قال: كتب الله علي أن أسرق، قال: علي بالسكين.
فأتوا بالسكين فقطع يده فقال السارق: لم قطعت يدي وقد كتب الله علي أن أسرق؟ قال: وأنا كتب الله علي أن أقطع يدك! فلا يستدل بالقضاء في المعايب، ويستدل به في ناحية أخرى إذا تاب الإنسان من الخطيئة وأقلع -وهذا ذكره ابن القيم - إنسان كان مسرفاً على نفسه، شاب كان غاوياً ثم اهتدى، قلنا: ما لك كنت غاوياً تتعاطى المخدرات؟ قال: كتب الله علي ثم تبت.
قلنا: صدقت -بعد أن يتوب- أما وهو في الخطأ فلا، فهذا هو معنى الحديث.(28/28)
قطع النافلة عند إقامة الصلاة
السؤال
هل أقطع النافلة للفريضة؟ إنسان دخل المسجد وهو يتنفل ثم أقيمت الصلاة فهل يقطعها أم لا؟
الجواب
لأهل العلم رأيان، فقهاء المحدثين يقولون: يقطعها مباشرة؛ للحديث الصحيح عن أبي هريرة عند مسلم وغيره {إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة} وبعض العلماء من الحنابلة وغيرهم يقولون: إذا أقيمت الصلاة أتمها خفيفة، وأقول: إذا كان في آخر التحيات أو في آخر الصلاة النافلة فليتمها أما إذا كان في أولها فيقطعها ويبدأ في الفريضة؛ لأن حديث {إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة} نص في المسألة، ولا أعلم أن قطع النافلة إذا كان واقفاً له سلام، بعض الناس إذا قطع وهو واقف سلم عن يمينه ويساره، لا أعلم في ذلك دليلاً عنه صلى الله عليه وسلم بل يقطع الصلاة ويدخل في الفريضة.(28/29)
حكم النافلة وقت أذان الجمعة
السؤال
هل لمن دخل يوم الجمعة والمؤذن يؤذن أن يتنفل أم ينتظر حتى ينتهي الأذان؟
الجواب
الأصوب والأقرب للسنة أن يصبر حتى ينتهي المؤذن ليتابع المؤذن على أذانه ثم يدعو بالوسيلة ليكسب الأجر ثم لا يجلس حتى يصلي ركعتين، ولا يجلس ولو كان الخطيب يتكلم يوم الجمعة حتى يصلي ركعتين، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث جابر {أن ابن قوقل دخل يوم الجمعة فأراد أن يجلس قال: أصليت؟ قال: لا.
قال: قم فصل ركعتين -وفي لفظ- وأوجز}.(28/30)
التسوك باليسرى أم باليمنى
السؤال
هل السواك باليد اليسرى أم باليد اليمنى؟
الجواب
هذه مسألة سهلة يسيرة، والمسألة فيها سعة سواءً باليسرى أو اليمنى، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية يختار في المجلد الواحد والعشرين من فتاويه أن السواك باليسرى، ويقول: هو من باب إزالة الأذى، وإزالة الأذى تكون باليسرى، ويختار النووي أنها باليمنى؛ لأنه من باب التكرم والتطيب والتكرم والتطيب يكون باليد اليمنى، ويقول ابن حجر بين الاثنين: إن كان من إزالة الأذى فباليسرى وإن كان من التطيب فباليمنى، ونحن نقول: لا حرج، المسألة فيها سعة، ولو أنه يظهر من حديث عائشة تقول: {كان صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في تنعله وترجله وفي طهوره -وعند أبي داود - وفي سواكه وفي شأنه كله} فالمسألة فيها سعة، والله يتولانا وإياكم لكن لما أورد السؤال أوردت الإجابة.(28/31)
(صدق الله العظيم) بعد التلاوة بدعة
السؤال
قول صدق الله العظيم بعد التلاوة والانتهاء منها هل هو سنة أم بدعة؟
الجواب
بل بدعة، لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف الصالح، ولو أن الكلام في حد ذاته صحيح والمعنى صحيح، والله يقول في سورة عمران {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95] فهو صادق سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ووعده صدق، وكلامه صدق، لكن هل ثبتت سنة بعد التلاوة؟ لا.
{من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} كان يتلو صلى الله عليه وسلم فلا يقولها ولا الصحابة ولا الأئمة ولا السلف فنقف مثلما وقفوا.(28/32)
الحلف بالأمانة
السؤال
ما حكم الحلف بالأمانة؟
الجواب
الحلف بالأمانة شرك، كأن يقول: أمانتك أو أمانتي أو بالأمانة أو والأمانة هذا كله لا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث حسن عند أبي داود {إن الله ينهاكم أن تحلفوا بالأمانة}.(28/33)
قوله (في ذمتي)
السؤال
هل (في ذمتي) قسم أو لا؟
الجواب
نعم.
إذا قصدت به القسم والحلف فهو حلف، وإنما يعرف ذلك بالقرائن، فإن قلت: في ذمتي دين لفلان فليس بقسم وإنما معناه في عهدتي وفي حوزتي وهذا ليس بقسم، أما إن قلت: في ذمتي لأفعلن كذا فهو قسم بغير الله وهو شرك محرم لا يجوز.(28/34)
حكم قول غشك الله ونحوها
السؤال
هل يجوز أن أقول لمن غشني: غشك الله، ولمن ضربني: ضربك الله؟
الجواب
لـ أهل السنة قاعدة في هذه الصفات ونسبتها إلى الله عز وجل: أما ما أطلق الله في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم فنطلقها بهذا القيد، هل الله يستهزئ؟ هل الله يسخر؟ لا يجوز أن نقول بإطلاق: الله يسخر، الله يستهزئ، أو الله ساخر، أو الله مستهزئ لا يجوز، لكن يجوز أن نقيدها كأن نقول: الله يستهزئ بمن استهزأ به، لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14 - 15] وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79] فالله يسخر بمن يسخر به بهذا القيد، وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30] فالله يمكر بمن يمكر به هذا قيد وهذه قاعدة عند أهل السنة، وقوله صلى الله عليه وسلم: {إن الله لا يمل حتى تملوا} فهذا قيد، لكن لما أتت الخيانة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ} [الأنفال:71] هل يقول: فخانهم الله؟ لا.
الخيانة صفة نقص مهما كانت سواءً كانت إطلاقاً أو قيداً فلا يقال هذا، إنما قال: {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} [الأنفال:71] ولم يقل فخانهم {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} [الأنفال:71].
إذاً لا يجوز لك أن تقول لمن غشك: غشك الله؛ لأن صفة الغش نقص سواء أطلقت أو قيدت، ولا لمن خانك أن تقول له: خانك الله.
لا.
هذا محرم سواء بالقيد أو بالإطلاق، لكن لك أن تقول لمن استهزأ: الله يستهزئ بفلان لأنه استهزأ به، أو أن تقول لمن سخر به: الله يسخر به وهذا قاعدة.(28/35)
معنى قوله تعالى: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ)
السؤال
ما معنى قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} [الأحقاف:10] ومن هو الشاهد؟
الجواب
الشاهد هذا هو عبد الله بن سلام من بني إسرائيل وقد أسلم وشهد على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه مكتوب في التوراة فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10] فقد دخل في الدين وآمن، وهو من أهل الجنة.(28/36)
المقصود بقوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي)
السؤال
من المقصود في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49] وما معنى {وَلا تَفْتِنِّي}؟
الجواب
الرجل هذا هو الجد بن قيس، وهو منافق من الأنصار، هو ليس أنصارياً لكنه من الأنصار منافق، يقول للرسول -عليه الصلاة والسلام- وقد خرج إلى تبوك: يا رسول الله! أنا لا أريد أن أخرج إلى تبوك.
قال: ولم؟ قال: أنا إذا رأيت بنات بني الأصفر (يعني: بنات الروم) أفتتن ولا أصبر فقال الله عنه {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49] فهو الجد بن قيس.(28/37)
المقصود بقوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ)
السؤال
من هو المقصود بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة:75]؟
الجواب
المقصود بهذا على الصحيح ابن جميل وليس ثعلبة لأن حديث ثعلبة لا يصح فقد ضعفه الأئمة، لكن المقصود بهذه الآية هو ابن جميل لقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري لما أرسل عمر لطلب الزكاة فمنع ابن جميل {أما ابن جميل فما ينقم إلا أن كان فقيراً فأغناه الله} فهو المقصود بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة:75].(28/38)
حكم قراءة الفاتحة وراء الإمام
السؤال
ما حكم قراءة الفاتحة وراء الإمام؟
الجواب
أما في السرية فتقرأ وهو السنة، وأما في الجهرية فلأهل العلم قولان:
ابن تيمية يقول: لا تقرأ في الجهرية لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] ولحديث {قراءة الإمام قراءة لمن خلفه}.
والصحيح أنه يقرأها المسلم في السرية وفي الجهرية المأموم وراء الإمام لأحاديث منها: {صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج خداج} أي: باطلة، وهو حديث صحيح، ولحديث عبادة كذلك {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب أو بأم القرآن} وهو حديث صحيح، أما الحديث الذي يستدل به ابن تيمية فهو عند الدارقطني ضعيف ضعفه ابن كثير وغيره، والأحناف يقولون: لا في السرية ولا في الجهرية واستدلوا بالحديث الضعيف.
إذاً فلا بد من الفاتحة للمأموم في الجهرية والسرية، ويكتفي في الجهرية بقراء الفاتحة ليس إلا وعليه أن يستمع القراءة، وأما في السرية فيقرأ الفاتحة وسورة بعدها.
وفي الأخير: نسأل الله أن يتولانا وإياكم في الدارين، وأن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت إلى أن نلقاه، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.(28/39)
بريد المستمعين
رَدَّ الشيخ في محاضرته على رسائل متنوعة، منها ما هو في العقيدة، ومنها ما هو في الفقه، ومنها ما يدور حول شكاوى ساخنة عما يحصل من النساء العاملات في المؤسسات وغيرها.
وتكلم عن بعض أحوال البنوك الربوية، وكان أيضاً من ضمنها رسائل لتائبين يتحدثون فيها عن توبتهم.(29/1)
ترحيب وشكر للخطوط السعودية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أسأل الله الذي جمعنا في هذا المكان المبارك، أن يجمعنا بكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن يغفر لنا ولكم ذنوبنا وخطايانا وإسرافنا في أمرنا، وأن يهدينا سواء السبيل، وأن يخرجنا من الظلمات إلى النور، وأن يسددنا ويحفظنا.
اللهم تولنا في من توليت، واهدنا في من هديت، وأعنا واغفر لنا، وتب علينا يا أرحم الراحمين.
أيها الكرام البررة: يا كل مسلم!
ويا كل مسلمة!
يا أبناء العقيدة! ويا حفظة التوحيد!
يا رسل الخير!
يا كتيبة محمد عليه الصلاة والسلام! إني أحبكم في الله، وما جمعنا هنا إلا الحب، فهو السبب القوي الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام، فربط به بين أرواحنا وأفئدتنا.
إن يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
وصلتني أسئلة ورسائل، مقدمة ومتوجة بإعلان الحب في الله عز وجل، وأنا أبادلهم ذات الشعور، وأقسم لهم إني أحبهم في الله، فأسأل الله أن ينفعني وينفعهم بهذا الحب الخالص لوجهه.
وهذه مقطوعة شعرية في انتماء المسلم لأخيه المسلم:
أنا الحجاز أنا نجد أنا يمن أنا الجنوب بها دمعي وأشجاني
بـ الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط جيراني
وفي ثرى مكة تاريخ ملحمةٍ على ثراها بنينا العالم الفاني
دفنت في طيبة قلبي ووالهفي! في روضة المصطفى عمري ورضواني
النيل مائي ومن عمان تذكرتي وفي الجزائر أشواقي وتطوان
فأينما ذكر اسم الله في بلد عددت وذاك الحمى من صلب أوطاني
وهذه كلمة شكر للخطوط السعودية، فقد تبنت خطوة جيدة تشكر عليها، ولو أنها ليست التي نريد، فقد قامت بتحجيب شعور المضيفات ورءوسهن، فشَكَرَ الله لهم هذا التوجه الجيد، وإني باسمكم وباسم كل مخلص وصادق وحامل لهذا الدين، ندعوهم إلى التخلي عن المضيفات اللواتي أصبحن حجر عثرة في طريق الإصلاح، واللواتي يشكلن منحنىً خطيراً في إصلاح البلاد والعباد، ولكن نقول لذلك المحسن بنسبة إحسانه: أحسنت، فقد جعل الله لكل شيء قدراً.
وهذه كلمة شكر لمدير مستشفى عسير المركزي ونائبه، والجهاز الإداري، حيث منع جلوس الأطباء مع الممرضات، كما منع استعمال مساحيق التجميل للممرضات، فأشكره باسمكم جميعاً، وأبعث له سلامي من هذا المنبر الشريف، منبر محمد عليه الصلاة والسلام، وأقول له: مزيداً من الوعي والإيمان، ومزيداً من الصدق مع الله.
فهذا خطابه -أثابه الله- يقول فيه: " من مشرف مستشفى عسير المركزي إلى رئيسة التمريض: فلانة، وبعد:
فنظراً لما تقتضيه مصلحة العمل، ولصدور عدد من الأوامر الوزارية التي تقتضي بمنع وضع أحمر الشفاه ومساحيق الوجه أثناء ساعات الدوام؛ عليه يعتمد التعميم على جميع الممرضات والعاملات بهذا المستشفى بوجوب التقيد بالأوامر الصادرة بهذا الصدد والتي تمنع وضع المساحيق والزينة أثناء الدوام الرسمي، ومن تخالف هذا يتم معاقبتها بما تنص عليه الأنظمة، ولكم تحياتي، المشرف العام على مستشفى عسير المركزي محمد حسن أيوب ".
فنقول له: شكراً لك ولنائبك ولأعضاء الجهاز الإداري.(29/2)
أسئلة واقتراحات
أيها الفضلاء، هذا اللقاء -كما قلت- بعنوان: بريد المستمعين.
فقد وصلت أسئلة واقتراحات ورسائل، منها الخاصة والعامة، ومنها ما تتحدث عن موضوعات ذاتية شخصية، وموضوعات اجتماعية، وموضوعات عالمية.
فهذه نظرة عامة على الأسئلة التي وصلتني عن طريق الإخوة القائمين على المسجد، وهي: ألف وأربعمائة سؤال، منها: سبعمائة وثمانية عشر سؤالاً في المسائل التربوية، وتسعة وعشرون سؤالاً في المسائل العقدية، وثلاثة وخمسون سؤالاً عبارة عن اقتراحات، ومائتان وعشرون سؤالاً في الفقه الإسلامي، وثلاثة وخمسون كتباً شخصية إليَّ، فأربعة وعشرون منها: متفرقة، وعشرون رسالة خاصة فيها إحراجات ومسائل ملتهبة.
وكانت الأسئلة تدور حول قضايا سبق الحديث عنها في محاضرات سابقة، مثل: (اللقاء مع الشباب) ومثل: (أين أنتم أيها الشباب؟) ومنها: (قسوة القلب) و (موضوع قيام الليل) و (القرآن) و (التوبة من الذنوب ثم العودة إليها) و (الانتكاس) و (التذبذب) و (مشاكل الزواج) و (مشاكل النساء من الحجاب) و (عدم طاعة الزوج) و (العنوسة) و (مسائل في الدعوة) سبق الحديث عنها في شريط: فن الدعوة، و (المسائل الفقهية التي تدور حول الأسهم والشركات والبنوك).
وسوف يكون الحديث مستفيضاً هذه الليلة عن ذلك، فستكون هناك مسائل في الصلاة، ومسائل في الرضاع، وسوف نعرضها في المستقبل إن شاء الله.
أما الاقتراحات فتدور حول بعض المحاضرات التي يأمل كاتبوها أن تكون رسالة من القلب إلى القلب، وتكون رسالة للمدرسين، ورسالة إلى الطالب الجامعي، وبعض الدروس خارج المنطقة، كرسالة من أحد وأحد رفيدة ومحايل وقنا والدرب وبعض الضواحي.
أما في العقيدة: فهي حول الإيمان والكفر والسحر والشرك والشعوذة المنتشرة في البوادي، وبعض القرى، وهناك كتب وشخصيات سألوا عن بدائع الزهور، وسألوا عن كتب للشعراوي ولغيره.
هذا أيها الإخوة استعراض عام عن الأسئلة.(29/3)
بيان العلماء حول الخلاف في أفغانستان
وعندنا قضية من هذه القضايا، وهي: بيان العلماء، الذي صدر حول مشكلة كوكنر وقتل الشيخ جميل الرحمن، وقد صدر عن علماء البلاد، ممثلاً في سماحة عالم المسلمين الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وغيره من العلماء والدعاة البالغ عددهم: عشرين داعية.
يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بَعْد:-
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فغير خاف على أحد ما جرى في أفغانستان من الخلاف، وما ترتب على ذلك من تفاقم الأمر في صفوف الأمة من الدعاة، والخطباء، وطلبة العلم، وعموم الشباب، وسائر الناس، من جراء الخوض في هذه المسائل دون تثبت ولا علم ولا بصيرة، ومن نصرة طرف على طرف، وهجومٍ على طرف أو دفاعٍ عن طرف من أطراف النزاع.
إننا نناشد جميع المسلمين، وخاصة الشباب الغيورين على قضايا الأمة بالكف عن الخوض في هذه المسألة بأي صورة تأييداً أو تنديداً؛ لِمَا ينجم عن ذلك من تفرق كلمة أهل الخير في كل مكان، وتشتت آرائهم واختلاف قلوبهم، وربما أدى ذلك إلى التشاحن والتطاحن والتباغض، وأوصل بعضهم إلى الولاء والبراء، والحب والبغض، والاشتغال بتصنيف الناس، على حسب مواقفهم من هذه القضية.
وإن أخشى ما يخشاه العقلاء، أن تكون ثمة أصابع خفية، تهدف إلى زعزعة الأمة لصالح أعداء الإسلام من الشرق والغرب، فأفضل وسيلة لتفويت الفرصة على العدو هي ترك الخوض في هذه المسألة نهائياً والإعراض عنها بالكلية، والاشتغال بما هو أجدى وأهم من ذلك، وهو طلب العلم النافع، والدعوة إلى الله، والإقبال على العبادة، وتهذيب السلوك، وتصفية القلوب من لوثات الحقد والحسد والبغضاء، التي يبذرها الشيطان في نفوس الناس.
علماً أن ثمة جهود طيبة من جهات عديدة تتدخل بهدف الإصلاح بين الأطراف المتنازعة، وقد قطعت بهذا المجال شوطاً كبيراً، ولعل ترك الخوض في هذه المسألة مما يساعد هذه اللجان على أداء مهمتها، وستعلن النتيجة قريباً بإذن الله.
كما أن على الجميع نشر العقيدة الصحيحة في صفوف المسلمين في سائر الأقطار، بالأسلوب الحكيم المناسب البعيد عن التنفير، وبكافة الوسائل المتاحة، كالدعوة، والتعليم، وطباعة الكتب، ونشر الأشرطة المفيدة، وغير ذلك.
وإننا إذ نعتبر هذه مسئولية الجميع فإنها منوطة بصفة خاصة بمن أعطاهم الله تعالى مزيداً من العلم والبصيرة في الدعوة، أو في الجاه والمال، فنأمل من إخواننا المسلمين مراعاة ذلك والسعي في تنفيذه بقدر الإمكان.
كما نناشد إخواننا المجاهدين الأفغان، وقادتهم خاصة، السعيَ لتوحيد كلمة المجاهدين ولَمِّ صفوفهم تحت راية عقيدة أهل السنة والجماعة، والحرص على حقن دماء المسلمين ووحدة الصف امتثالاً لقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103] وقوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] وقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].
ونسأل الله للجميع التوفيق لصلاح القول والعمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على محمد، رسوله ونبيه، وعلى آله وصحبه أجمعين".
التوقيع:
عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
حمود بن عبد الله التويجري.
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين.
عبد الرحمن بن ناصر البراك.
وغيرهم من العلماء والدعاة، بما يبلغ اثنين وعشرين عالماً وداعية.(29/4)
حكم شراء الأسهم والتعامل مع البنوك
وهنا قضية تدور كثيراً وقد أتت أسئلة عنها بالعشرات، وهي: قضية شراء الأسهم من صافولا، أو الاكتتاب في صافولا، وأخذ أسهم منها، والتعامل بين بنك القاهرة والدوائر الحكومية بالقروض الربوية.
و
الجواب
أولاً: لا بأس بالتعامل مع شركة صافولا بشرطين:-
الشرط الأول: أن نتأكد أنها لا تتعامل بالربا، أي أنها لا تبقي الأسهم في البنوك الربوية كبنك الرياض، والبنك الأهلي وبنك القاهرة، والفرنسي والبريطاني، فإذا علمنا أنها تستثمر أموالها والأسهم التي دفعت إليها في الزيوت أو في غيرها من المشاريع؛ فلا بأس بالمساهمة.
الشرط الثاني: أن يكون دفع الأسهم عن طريق غير طريق بنك الرياض أو البنك الأهلي؛ لأنها ربوية بحتة، لا يجوز التعامل معهما، لكن يجوز عن طريق شركة الراجحي، فإنها أسلم وأقرب وأحسن.
وهذان الشرطان يتقيد بهما.
أما كل من أراد أن يساهم فعليه أن يسأل ويتحرَّى ويتحقق ولا بأس في ذلك، فهو خير له.
أما القضية التي وردت في غضون السؤال وهي التعامل بين بنك القاهرة والدوائر الحكومية بالقروض الربوية فهذا محرم؛ لأن بعض الدوائر تقوم بأخذ قرض ربوي من بنك القاهرة، مثل: أن تقترض مائة ألف وتعيدها مائة وعشرين ألفاً، فإن هذا محرم لا يجوز، وهو ربا صرف.
قال عليه الصلاة والسلام، كما في صحيح مسلم: {لعن الله آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء} وعند الحاكم وابن ماجة وأحمد: {درهم من ربا أشد من ست وثلاثين زَنْية} وغيرها من الأحاديث التي نهى فيها صلى الله عليه وسلم عن الربا.
وهذا من جنس ذلك ولا يجوز أخذ هذه القروض، ولا التعامل مع هذه البنوك، ويجب على المسلمين إنكار ذلك بكل ما تقتضيه كلمة الإنكار من حكمة ودعوة ونصح.(29/5)
كلام الغزالي في من حرم العمل في البنوك
وقد وردت فتوى للأستاذ محمد الغزالي المفكر، يقول فيها: على من يحرم العمل في البنوك أن يعيدوا دراستهم للإسلام، وقد ورد هذا في جريدة اللواء الإسلامي، العدد (507) في: يوم الخميس:2/ 4/1412هـ ومعنى هذه الكلمة: أن على هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية أن يعيدوا دراستهم للإسلام من جديد؛ لأن دراستهم مغلوطة؛ لأنهم أجمعوا جميعاً على تحريم التعامل مع البنوك الربوية، فهذا معنى كلام محمد الغزالي.(29/6)
كلام الشيخ ابن باز في البنوك الربوية
واسمعوا إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وهو يتكلم عن هذه القضية، ويبين حكم الله فيها، وهو من تعرفون علماً وصدقاً ونصحاً، قال: "بسم الله الرحمن الرحيم، شراء أسهم البنوك وبيعها محرم وربا".
وهذا القارئ ناصر عثمان الرشود من الخرج، بعث إلينا يقول: "ما حكم شراء أسهم البنوك وبيعها بعد مدة؛ بحيث يصبح الألف بثلاثة آلاف مثلاً؟ وهل يعتبر ذلك من الربا؟
وفي غضون كلام الشيخ رَدٌّ على الغزالي.
و
الجواب
لا يجوز بيع أسهم البنوك، ولا شراؤها؛ لكونها بيع نقود بنقود، بغير اشتراط التساوي والتقابض؛ ولأنها مؤسسات ربوية، أي: البنوك، فلا يجوز التعامل معها ببيع ولا شراء، لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه: {لعن آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء} رواه: الإمام مسلم في صحيحه وليس لك إلا رأس مالِكَ، ووصيتي لك ولغيرك من المسلمين بالحذر من جميع المعاملات الربوية، والتحذير منها، والتوبة إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مما سلف من ذلك؛ لأن المعاملة الربوية محاربة لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أسباب غضب الله وعقابه، كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:275 - 276].
وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 279].(29/7)
المساهمة في البنوك الربوية
أما المساهمة في البنوك الربوية، فهذه وردت في الدعوة، عدد (949) وهي فتوى ابن باز، وسئل الرئيس العام للإفتاء والدعوة والإرشاد هذا
السؤال
هل تجوز المساهمة مع البنوك العاملة في المملكة أمثال البنك السعودي الأمريكي، والبنك السعودي التجاري المتحد -والتي طرحت أسهمها الآن للاكتتاب العام- وغيرها من البنوك، أفيدونا، جزاكم الله عنا ألف خير؟
فيجيب ويقول: "لا تجوز المساهمة في البنوك الربوية، كما لا تجوز المعاملات الربوية مع البنوك وغيرها؛ لأن ذلك من التعاون على الإثم والعدوان، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] "، ثم قال: "بسم الله، والحمد لله، ما ذُكر أعلاه من الجوَابَين في حكم المساهمة في البنوك المنقولين من مجلة الدعوة صحيح، وقد صدر مني ذلك بتوقيع سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارة البحوث والإفتاء والدعوة والإرشاد، وقد وضع رسمه وختمه، سماحته أثابه الله".(29/8)
مشكلة تحويل المؤسسات رواتب موظفيها عبر البنوك
وهناك قضية أخرى تدور في مجتمعاتنا، وبالخصوص في مجتمع أبها وما حولها، وهي أن إدارة الأوقاف والكلية المتوسطة، وغيرها حوَّلت تسليم الرواتب لمنسوبيها بشيكات عن طريق البنوك الربوية، كالبنك الأهلي وغيره، وهذا ليس بجائز، وفيه دعم لهذه البنوك التي تحارب الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام.
وأنا أعرف أن الرواتب تمر على البنك قبل أن تسلم، سواءً أذهب الإمام، أو المؤذن، أو خادم المسجد، أو الأستاذ في الكلية المتوسطة، أو غير أولئك إلى البنك، أم لم يذهب فإنها تمر؛ ولكن الطريقة التي استخدمت الآن أشد تحريماً وهي دعم للبنك وتضامن معه وإضفاء شرعية عليه، وهذه البنوك محاربة لله عز وجل.
فنصيحتي لهؤلاء أن يتقوا الله عز وجل، وخاصة القائمين على الأوقاف والكلية المتوسطة، ونحوها من المؤسسات الحكومية والدوائر، فإن ذهاب الإمام والأستاذ ووقوفه أمام باب البنك, ووقوفه في طابور معناه: تضامن معنوي ومادي مع هذه البنوك التي هي مخالفة لما أنزل الله عز وجل، ولما أتى به رسوله عليه الصلاة والسلام.(29/9)
إعلان الجمعية النسائية الخيرية
إعلانات الجمعية النسائية التي تسمى بالخيرية: وصلنا إعلان رسمي عن جمعية الجنوب النسائية الخيرية، بإشراف وزارة العمل والشئون الاجتماعية، فاسمعوا الإعلان بالعربي، ثم أتلوه عليكم بالإنجليزي، وأنا لا أحمل اللغة، ولكن طلبت من ثلاثة من الدكاترة تخصصهم الإنجليزي ترجمة الجمل حتى نكون على بينة من الإعلان.
يقول: -إعلان: سيدتي! تدعوك جمعية الجنوب النسائية الخيرية بـ أبها للمشاركة مع الترفيه والتعارف، وذلك يوم الخميس الموافق 24/ 4/1412هـ من الساعة العاشرة صباحاً إلى الساعة الخامسة مساءً، بمقر منطقة الجرة بـ تمنية، وسيكون داخل الشبك، حيث يتضمن هذه اليوم العديد من الفقرات الترفيهية، وتقديم أطباق شهية للبيع، والدعوة خاصة بالسيدات والأطفال، تذاكر الدخول كالتالي:-
عشرون ريالاً للصغار.
ثلاثون ريالاً للكبار.
وسيكون هناك تخفيض إذا زاد عدد الأطفال عن ثلاثة أطفال".
ثم ذكر الاستفصال وقال: "مع تحيات لجنة العلاقات العامة".
والآن ليس هناك شيء إلا ما سمعتم، والذي ظهر من هذا الإعلان هو ما سمعتم، ولكم أن تتأملوه لكن ظهر الإعلان باللغة الإنجليزية بنفس المكتب والعلاقات العامة، وأدخلت فيه جمل حذفت من العربية؛ لأن المنطقة لا زالت تتكلم العربية والحمد لله، أو لا يزال المثقفون فيها وطلبة العلم يجيدون بعض العربية.
أعلنوا الإعلان الإنجليزي وسيروه، ولكن وجدنا في الإعلان الإنجليزي بعد ترجمة ثلاثة من الإخوة الدكاترة، كلمات زائدة، هنا يقول: عنوان: ( Terpack in Time) بالإنجليزي، معناه: رحلة عبر الماضي، وهذا إعلان الإعلان: ( Drum Music) بالإنجليزي، أي: موسيقى الطبل، يقول: تفضل معنا في الجمعية فعندنا موسيقى الطبل، اسمها: ( Drum Music).
أنا أرجو أن تجيدوا اللغة؛ لكن خذها كما حوَّلوها أنتم، وهذه موجودة في الإعلان ( dance) بالإنجليزي، أي: عندنا رقص من الدَّنَس، وهذه كلمة (
الجواب
nd Sing) بالإنجليزي، أي: وغناء، وكأنهم يظنون أن الناس صم بكم، ( Sing) يعني: وعندنا غناء، هذا إعلانهم بالإنجليزي ,وإعلانهم بالعربي، ولكن والحمد لله في الملتزمين من يحسن قراءة الإنجليزي، فنحن اكتشفنا في المشايخ من يحسن قراءة الإنجليزي، وهذا من الفتوحات الربانية.
وهذه الرائدة الريفية لابد من معرفتها، ومساءلة القائمين عليها، ماذا تريد هذه الرائدة؟ فإن كانت تريد خيراً قمنا ودعونا الناس للمساعدة والمعاونة، وإن كانت تريد غير ذلك وجب علينا النصح والإرشاد والتوجيه.(29/10)
انتداب الموظف
السؤال
قضية انتداب الموظف أربعة أيام، فيأخذ منها يومين فقط وهذه منتشرة في الدوائر الحكومية والجامعات والمؤسسات.
وهذا لا يجوز؛ لأن فيه تزوير واختلاس.
وقد أفتى كثير من أهل العلم بتحريمه فعلى من انتدب أن يأخذ بقدر انتادبه من الأيام، يوماً، أو يومين، أو ثلاثة، ولا يجوز له أن يأخذ أكثر من انتدابه، هذا هو الحكم الشرعي، وهو الذي تؤيده النصوص والقواعد العامة من الشريعة.(29/11)
دور هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وهنا أسئلة كثيرة بالعشرات، منها:
السؤال
ما دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نحو تبرج النساء في الأسواق، وعباءات النساء الملونة والمطرزة؟
وباسمكم أرفع هذا السؤال لإدارة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحن ننتظر منها جواباً عن موقفها من هذا؛ لأنها المكلفة شرعياً ونظامياً بالوقوف أمام هذه الظواهر البشعة السيئة، التي تهدد المجتمع المسلم المحافظ بالانحراف والتبرج والاختلاط في بعض الأماكن، والتخلف كذلك عن الصلوات في بعض المحلات.
ووُجدت أيضاً رسائل واقتراحات منكم -حفظكم الله- في مراسلة التسجيلات، بما فيها الكاسيت الغنائي، الفيديو المهدِّم المضلِّل، وبعض المحلات, وأنا باسمكم أرفعها إلى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتأخذ موقفها من هذا، وقد وضعناها بمسئوليها وأفرادها أمام الله تبارك وتعالى.(29/12)
من محلات الفساد
أيضاً إعلان من مركز السيدة الأنيقة، بـ الخميس -السيدة الأنيقة هذه: جمعياتٌ ظهرت علينا ظهور التراب، كل يوم مصيبة- وهذا إعلانهم وزعوه في المحلات والمتاجر، ومجمعات الناس، يقول: "بشرى سارة ": قلت: بل بشرى ضارة.
" يعلن مركز السيدة الأنيقة، بـ خميس مشيط، عن افتتاح الأسماء اللامعة البراقة -وراؤها ما وراؤها- عن افتتاح قسم تعليم تصفيف الشعر ": لا إله إلا الله! لا نستطيع أن نصنع الطباشير ونستطيع تصفيف الشعر؟! فالطباشير مستوردة من إيطاليا، والسبورة من النمسا، والأستاذ مستورد من فرنسا، والطالب من الإنتاج المحلي، وبدأنا نصفف الشعر في مصنع.
ويقول الإعلان: " ونعلن عن افتتاح قسم تعليم تصفيف الشعر والقص والمكياج، كذلك تعليم الخياطة، وكذلك قسم رياضي يشمل تمارين سويدية وأدوات رياضية ": قلت: هذا للنساء، فما نقص نساءنا إلا تمارين سويدية، فالذي فات أمهاتنا وجداتنا التمارين السويدية، وسوف يلقين الله والواحدة منهن لا تعرف التمرين السويدي!
قال: " وذلك على أيدي متخصصات ": عجباً! وعن طريق دورات تدريبية أيضاً، ومدة الدورة ثلاثة أشهر، سبحان الله! أي أنها مدة نسبية، قابلة للتجديد إذا رأوا أن الفتاة تقبل التجديد جددوا لها، وإذا رأوا أنها معقدة انتهت دورتها.
" فعلى الراغبة الحضور إلى المركز ": مركز السيدة الأنيقة.
" الشارع العام، بجوار الفران تيري سابقاً ": ما أدري من هو الذي سيكون لا حقاً!
أشكر من أتى بهذا الإعلان ووتحمس وأتى به غاضباً، وقد احمرَّت وجنتاه من الغضب لله ولرسوله، وسوف ينفعه غضبُه، وتَمَعُّرُ وجهِه: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].(29/13)
مشاركات شعرية
وهنا قصيدتان مرسلتان أقرأهما تشجيعاً لصاحبيهما، وأنا قد وصلتني مجموعة قصائد أشكركم عليها، وأنتم أمة ومنطقة شاعرة، وعقولكم شاعرة.
أما قضية أني كل درس أفحمكم وأضخم عليكم القصائد، فسوف أعدكم أنها تكون على توالي الدروس، وأقدم نتاج أبناء البلاد الموقرة، وإنتاجهم البديع، يقول أحدهم:
ارفع جبينك للسماء مجاهداً قد طبت مولوداً وطبت الولدا
ونشأت في حلل الكرامة والوفا طهراً ثيابك لست غِراً مفسدا
تتلو القران صبيحة وعشية وتردد الكتب الصحيحة مسندا
ردد حديثك إن سمعي مرهف عقلي وروحي والفؤاد مرددا
قل للحسود تخطفته يد الردى الحقد يزرع في القلوب ليحصدا
إن الذي دبرته يا حاسداً نار الجحيم بأم رأس الحاقدا
شكراً له وأثابه الله، وقد طلب ألا يُذكر اسمُه، وهذا كما قال عمر عن الشهداء، عندما قال له الأحنف: [[قتل أناس يا أمير المؤمنين!
فقد قتل فلان وفلان وفلان، وأناس لا تعرفهم، فدمعت عينا عمر وقال: لكن الله يعرفهم]] فالله يعرفك، والله يشكر لك أبياتك إن شاء الله، كما قال صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم لـ حسان بن ثابت: {إن الله يشكر لك بيتك يا حسان} قال: ما هو يا رسول الله؟ ثم قال له:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب
سخينة هي: قريش؛ لأنها كانت تحب السخينة فهجاها حسان
وقال:
وقد شكر الله حسان من فوق سبع سماوات.
ويقول الشاعر الآخر مأجوراً:
إلى الله نشكو حالنا وافتقارنا وليس إلى قوم عن الحق عزل
يقولون هيا نحتكم عند روسيا أو الأم أمريكا ففي القدس تعدل
فكيف عدو القدس يرجو نجاته وكيف عدو المسلمين يبجل
فيا أمتي هيا إلى العز والتقى وقومي إلى نيل المعالي وجلجلوا
ويا فتية الإسلام قوموا إلى العلا سراب من الآمال والحق أطول
صلاح أقم من نام منا فإننا غفونا ولم نصح لخطب يجلجل
وأنا أذكر القصائد هذه لما فيها من ملاحة وما فيها من صراحة، ولو أنه يلاحظ عليها بعض الملاحظات لكن في أول الأمر:
سامحن بالقليل من غير عذل ربما أقنع القليل وأرضى(29/14)
دكتور يتهجم على العلماء والدعاة
وهنا دكتور سعودي مشهور بكلية التربية، وهو كثير التهجم على العلماء والدعاة والملتزمين، فانصحوه وادعوا له، أسأل الله أن يهدي قلبه، وأنا لن أذكر اسمه هذه الليلة، لكني أحذره غضب الله وأليم عقابه.
وقد أخبرني عشرات الشباب من كلية التربية أن هذا الدكتور في كلية التربية تطاول، وطوَّل لسانه، واغتر بحلم الله عز وجل، واغتر بعدم وصول صاعقة من الله تبيده، فطوَّل لسانه في أثناء المحاضرات، وفي أثناء اللقاءات الشبابية والأندية؛ على العلماء والملتزمين، وعلى طلبة العلم، يصفهم بالتطرف، ويقلد حركاتهم، ويقلد كلامهم؛ ليضحك الناس عليهم.
يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في الحديث القدسي: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} ألا إنَّا نحذره عذاب الله، ومع ذلك لا أشهر باسمه، ومع ذلك أيضاً: أخاطب فيه بقية الإيمان أو الإسلام، إن كان في قلبه إسلام، أخاطبه أن يتوب إلى الله، وأن يحذر عذاب الله، فإن وقائع الله فيمن عادى العلماء، والدعاة معلومة، وإن أخذه سُبحَانَهُ وَتَعَالى ومآخذه في وجوههم مرسومة، وإن نكاياته سبحانه في جباههم مرقومة.
فإني أدعوه هذه الليلة أمام هذا الجمع الحافل عسى أن تبلغه رسالتي، وأن يتوب ويستغفر ويندم على ما فعل، وأن يعلم أنه سوف يلقى ربه فيحاسبه، فإنه قد ارتكب جرماً عظيماً يوم وجه سهام نقده ولسانه على أشرف فئة في الناس وهم العلماء، وطلبة العلم، والدعاة، والملتزمون، والأخيار.(29/15)
بعض المسائل في الوقف
السؤال
وصلت رسائل كثيرة من القرى المجاورة لـ أبها وغيرها تسأل عن بيع المزارع الموقوفة، أي: مزارع أُوْقِفَت في الأصل، أوقفها أهلُها وقفاً في سبيل الله، فحَبَسوا أصلها وجعلوها لمسجد أو لغيره من مشاريع الخير، لكنها اندثرت أو تعطلت منافعها، فهل لهم أن يبيعوها، ويصرفوا ثمنها في مشروع وقف آخر أو يبنوا بها مسجداً؟
وكذلك وصلني من أحد الإخوة الفضلاء من مدرسة تحفيظ القرآن الكريم سؤال مطوَّل، يقول فيه: إن عندهم مزرعة أُوْقِفَت هناك، واندثر وقفُها، وأصبحت لا يُستخدَم رِيْعُها في منافع الخير، أي: ليس بها نتاج، وبجانب المسجد أرض معروضة للبيع، فهل يجوز لهم مناقلة الأرض التي بجانب المسجد بأرض الوقف، للاستفادة منها في المسجد؟
الجواب
هذا جائز -والحمد لله- فإذا تعطل نفع الوقف، جاز بيعه ونقله في نفع آخر ينفع المسلمين، كأرض أوقفتها، أو مزرعة أوقفها أبوك فتعطلت منافعها، يجوز بيع هذه المزرعة وبناء مسجد بها، بشرط أن يكون ما يباع فيه وقف ينفع المسلمين أو استخدامها ينفع في مسجد، كفرش في المسجد أو جهاز، أو كهرباء، أو غير ذلك مما ينفع في الوقف؛ لأن المقصود من الوقف نفع المسلمين.
وقد أفتى كثير من أهل العلم بذلك وهو الموافق للشريعة؛ لأن الشريعة مبنية على تحصيل المقاصد، ومن تحصيل المقاصد أن يستمر خير الوقف لمن أوفقه، وإذا تعطل ريع الوقف ومنفعته أصبح المقصد لا غياً، وليس هذا من مقاصد الشريعة، ولا من المصالح العامة.
فعلى ذلك ننبه على هذه الفتوى والله أعلم.
وشرط آخر وهو: أن يكون البيع عن طريق الحاكم الشرعي، أو هناك بديل آخر إن لم يتوفر الحاكم الشرعي، كالقاضي، أو كاتب عدل الحي، أو يقوم جماعة من الأمناء العدول الذين يخافون الله فيشرفون على المزرعة، ويكونون اثنين أو ثلاثة أو أربعة ويثمنونها بثمن؛ لأن صاحبها قد يثمنها ببخس أو يُغلِّها مثلاً، لكن تُثَمَّن ممن يُرْضى دينُه وأمانتُه، ويقوم على هذا.(29/16)
حكم الشراء من شركات الراجحي
قضية كبرى كثر السؤال عنها عبر الأسئلة والرسائل والهاتف، وهي بيع شركة الراجحي للسيارات والأثاث والبيوت.
وهذه المسألة الشيء المحرج فيها أن كثيراً من الناس توهموا أن شركة الراجحي تبيع ما ليس عندها؛ فتأتي أنت إليهم والسيارة في وهمنا أنها ليست عندهم وفي ملكهم، والأثاث والبيت كذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام في سنن أبي داود ومسند أحمد لـ حكيم بن حزام: {يا حكيم بن حزام! لا تبع ما ليس عندك} فبيع ما لا يملكه العبد ليس بجائز.
ولكن قبل أسبوعين في مساء الثلاثاء قبل الماضي، وصلت أنا ومجموعة من الدعاة منهم الشيخ سلمان بن فهد العودة والدكتور ناصر العمر والشيخ عبد الوهاب الطريري، إلى الشيخ سليمان الراجحي في بيته وسألناه، فأخْبَرَنا أنه يملك هذه الآن، وأن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بيَّن له ذلك، وأنه أصبح يملك الآن البيوت بعقود عنده، ويملك الأثاث والسيارات، وأنه لا يبيعها حتى يملكها.
فإذا كان كما قال الشيخ سليمان الراجحي فلا بأس بالشراء منه سواء من الأثاث أو السيارات أو البيوت؛ لأنه أصبح يملكها بعقود وأصبحت عنده.(29/17)
حكم الصلاة في جامع بُني من أموال ربوية
خبر جامع الموصلية والبنك الأهلي.
ابن محفوظ بنى جامع الموصلية والحقيقة التي تأكدنا منها: أن البنك الأهلي هو الذي تولى بناءه، وابن محفوظ وراءه، فإن كان الحال هذا هو العمل ليس بصحيح في الإسلام، والمال الخبيث لا تبنى به بيوت الله عز وجل، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267].
وقال عليه الصلاة والسلام، كما في صحيح مسلم: {إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً} وقال عليه الصلاة والسلام: {إذا تصدق العبد المؤمن أو المسلم بصدقة، من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا طيباً}.
الحديث.
فإذا عُلِم هذا فإن المال الربوي لا يجوز به بناء المساجد، ولا شراء المصاحف، فإنه مال خبيث، والله عز وجل لا يُطاع بالمال المحرم، فمثل هذا ينهى عنه.
وأورد بعض الناس احتمالات وقالوا: ماذا نفعل؟! هل يهدم المسجد؟ وإذا تقدم لنا خيرٌ بمال ربوي فكيف نرده؟
نعم يُرَد ولا يُقْبَل؛ لأنه مال الربا، لا يطاع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى به، وهو محاربة له سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
فإن تأكدت أن هذا المسجد -لأن أكثر الأسئلة حوله- إنما أتى مالُه عن طريق البنك الأهلي وابن محفوظ وهو مُرابٍ بالبنك الأهلي، فإن عُلِم هذا فهو عمل شنيع، ولا يجوز بناء المساجد من المال الربوي، وقد أفتي سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز عند الضرورة إذا احتدم الحال، وأصبح هناك ضائقة، أن تصرف هذه الأموال في دورات المياه.
فالمال الخبيث في الخبيث -الحمامات- أما أن يبنى بها مسجد يُعبد الله فيه، ويُسجد له ويُشكر ويُكبَّر، ويُهلل فلا.
وقد قلتُ هذه المسألة لإمام المسجد، فعليهم أن يراجعوا حسابهم في ذلك، والإمام أحمد سئل عن مسجد بناه أبو مسلم الخراساني الجبار السفاك الظالم، فنهى عن الصلاة فيه، وقال: بناه من أموال المساكين، بناه من أموال المساكين.
فعلى كل حال تحرر قضية هذا المسجد، وأرى أن الكتبة الذين كتبوا لي الرسائل، والاقتراحات أن يرفعوا رسائلهم إلى هيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للإفتاء، ليخبروهم حتى يكونوا على بصيرة، عن هذا المسجد وعن نحوه من المساجد.(29/18)
قضية توليد الرجال للنساء
هنا قضية كثر السؤال عنها والاقتراحات، وهي قضية مستشفيات الولادة، كمستشفى أبها العام وغيره لتوليد النساء عن طريق الأطباء الرجال، وهذه المستشفيات منتشرة، وقد كثر السؤال عنها، وهذه مسائل محرجة جداً، قد عانى منها المسلمون عناءً عظيماً، وهو أن يذهب الرجل بامرأته وقت الولادة وهي في حالة من الضعف، فينفرد بها رجل أجنبي ليولدها.
ولكن -سبحان الله! - اسمع العجائب: في الجو مضيفات، ويقال: إن من فائدة المضيفات في الطائرات أن المرأة إذا قربت من الولادة ولَّدَتها المضيفة.
قلنا: سبحان الله! تولدون المرأة في الجو بالمرأة، وفي الأرض تولدون المرأة بالرجل؟!
فما دام أنه يجوز أن تولد المرأة في الجو في السماء بالمرأة، فولدوها في الأرض بالمرأة!
وهذا عجيب! في الجو الرجل مضيفته امرأة، وفي الأرض المرأة مُوَلِّدُها رجل!
وكم هي حالات الولادة في الطائرات؟! فالأصل أن نظام الخطوط لا يسمح للمرأة الحامل في الشهر السادس أو السابع أن تركب وهي حامل.
وأيضاً كم تستغرق الرحلة الداخلية من أبها إلى الرياض مثلاً؟! ساعة ونصف، أو ساعتين.
وكم سمعتم مرة أن نساء ولدن في الطائرات؟!
وكم هي الإحصائيات في هذا؟!
فنصيحتي للقائمين على هذا المستشفى أن يتقوا الله، وألا يتركوا نساء المسلمين في خلوة غير شرعية محرمة، ومع رجال يولدونها، بل عليهم أن يختاروا مولدات من النساء، وعليهم أن يأخذوا بحكم الله لا بحكم الجاهلية: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
وكذلك حال الممرضات؛ فوجود الممرضة في خلوة غير شرعية مع الرجل كما في قسم الأسنان، والباطنية، والحنجرة، والرأس، والركبة، والقدم -أمامك في كل مكان بنو سعد- والعجيب أن الممرضات كأنهن مختارات منتقَيات وكأنهن في عروض الأزياء والتجميل، وهذا أمر مزعج وهو في الشريعة محرم، فنرجو الانتباه لذلك.(29/19)
تحويل مسجد مدرسة إلى صفوف دراسية
المدرسة التاسعة عشرة الابتدائية للبنات في أبها، حوَّلت مسجد المدرسة إلى صفوف دراسية، ولا يوجد الآن مسجد في المدرسة، وحصل هذا عن طريق المدرسات والقائمات على المدرسة، وهذا ثبت بالبرهان والشواهد، فأنا لا ألقِي هذا جزافاً، فإن المنطقة معروفة، وهذه الأوراق أمامي، والرسائل موجودة.
فأنا أرسل أولاً باسمكم شكراً للشيخ الفاضل المبارك النبيل قاسم الشماخي وأنا أعرف فيه الالتزام، والغيرة، فعليه أن يتقي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في مثل هذا، وأن يعودنا ما تعودناه منه، من خير وغيرة وتوجيه، وأن يقوم على هذه المسألة، ويرد المسجد للطالبات حتى يتمكنَّ من أداء الصلاة فيه، أثابه الله وحفظه، وهذه دعوة مباركة له.
وهذه المدرسة -أيضاً- تسمح بدخول بعض عمال الشركات إلى المدرسة وقت الدوام الرسمي، بحجة فرش المدرسة، أو أعمال السباكة والكهرباء ونحوها، وأنا كذلك أدعو فضيلته أن يراعي هذا، ولعل بعض القائمين أو الموظفين من إدارة تعليم البنات معنا، يرفعون هذا لفضيلته، وعلى هؤلاء الأجانب أن يدخلوا في غير وقت الدوام، وهو الأسلم والأحسن والأبرك.(29/20)
حكم الصور المعلقة في المكاتب
وقد كثرت الأسئلة من كثير من الموظفين والأساتذة والطلاب، عن حكم الصور المعلقة في المكاتب والمجالس لغرض التعظيم، وقد أفتى أهل العلم في ذلك بالتحريم؛ لأنها صور علقت لقصد التعظيم لا لحاجة شرعية، وإنما فقط لتعظيم هؤلاء الأشخاص، فلا يجوز تعليقها لا في المكاتب ولا في الفصول ولا في المجالس.
وعلى العبد إذا أتته من الله حجة أو برهان أن يتقي ربه، وأن يتحاكم إلى شرع الله عز وجل، وأن يخاف من ربه سُبحَانَهُ وَتَعَالى والواجب إنزال هذه الصور، حتى تدخل الملائكة هذه المكاتب والفصول والمجالس.
قال عليه الصلاة والسلام: {لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة، وفي بعض الألفاظ: كلب أو صورة}.
وللعلم -أيها الأخوة-: أول ما وقع الشرك في أمة نوح بسبب أنهم صوَّروا صُوَراً لعظمائهم أو لأنبيائهم أو لصالحيهم؛ حتى يتذكروهم، فلما طال الزمن عظموهم كثيراً حتى عبدوهم، فخرجوا من الملة والدين والعياذ بالله.(29/21)
مشكلة الاستهانة بالأوراق المكتوب عليها اسم الله -عزَّ وجلَّ-
أيضاً وردت أسئلة من بعض المدارس وإدارة التعليم تقول: يكتب بعض الطلاب بعض الكلمات المشتملة على ذكر الله عز وجل في الأوراق من أجل الامتحانات، ثم تلقى بعد الامتحانات في مكان لا يليق بها مثل: الحدائق، والأرصفة، فأرجو التنبه لذلك.
وأنا أنبه وأخاطب مدير التعليم، وأسأل الله عز وجل أن يجعله ينتبه لهذه المسألة! وأدعو القائمين على التعليم أن يخافوا الله عز وجل وأن يضعوا حلاً لهذا.
إما أن يأخذوا الكتب بعد انتهاء الدراسة من الطالب مباشرة، ويجبروا الطالب على ذلك، كأن يحددوا درجات لمن يأتي بهذا، أو يحجبوا الدرجات حتى تأتي الكتب، أو نحو ذلك من الوسائل، فهذا أمر.
أو يجمعوها جميعاً فيحرقوها، أو يرسلوها إلى البلاد الفقيرة التي ترسل رسائل، فقد وصلت رسائل من الجزائر والسودان وبعض البلاد الإسلامية، يطلبون كتباً ومقررات؛ لأنهم يعيشون في وضع مأساوي.
فلو أنه أُخِذ الطيب منها وأُرْسل، وما تمزق أُحْرِق بالنار، لكان هذا رأياً سليماً يؤجرون عليه إن شاء الله.(29/22)
إشادة جريدة عكاظ بطه حسين
جريدة عكاظ دائماً تباشرنا بلطخات ولطمات على وجوه المسلمين، فهذه الجريدة في لطماتها ولطخاتها دائماً توجعنا تزعجنا، هدى الله القائمين عليها.
واجهتنا هذه الجريدة بمقالة في عددها (9238) يوم الخميس 1/ 5/1412هـ، وهي تتكلم عن مقولة مطولة عن طه حسين، تقول في العناوين: " عبقرية متجددة، طه حسين جعل العلم كالماء والهواء، هو رجل التنوير الفكر المستنير، وهو مؤسس الثقافة العربية المعاصرة، وشمس منيرة، هذا طه حسين ".
وأنا ليس بيني وبين طه حسين قتال جاهلي، فهو لم يأخذ من ميراثي، وما أخذتُ له مزرعة؛ لكن بيننا وبينه وثيقة لم يحسن التعامل معها، وهي وثيقة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
فقد طعن طه حسين في القرآن، وقال: "إن ذكر إبراهيم عليه السلام، وإسماعيل عليه السلام في القرآن لا يعطينا قناعة أن هناك إبراهيم وإسماعيل".
وقال عن بدر: " إنها معركة افتعلت لحزازات بين الأوس والخزرج وبين قريش، أثارها التعصب الديني".
وقد تناوله بالرد العلمي الموثق بالبرهان والحجة: محمود شاكر رفع الله منزلته، فقد رد عليه في كتاب أباطيل وأسمار وفي كثير من كتبه.
وكتب عنه أنور الجندي مقالات.
فأخْبَرونا من هو طه حسين، وأنزلوه منزلته، وذكروا أنه ليس عميد الأدب العربي ولكنه عميل الأدب العربي -باللام ليس بالدال- وتناوله محمد قطب في آخر محاضرة له بعنوان: كيف نكتب التاريخ الإسلامي؟ التي ألقيت في أبها في مسجد الملك فهد قبل أسبوعين، ورد عليه محمد بن محمد حسين فأجاد كل الإجادة.
إذاً: يا عكاظ! خافي الله، أتضحكين على العقول والأذهان؟! أتقولين أن طه حسين جعل العلم كالماء والهواء؟! وتجعلينه التنوير والفكر، وشمس مشرقة منيرة؟!
إن هذا -والله- ينبئ أن هناك عدم مسئولية أو عدم وعي أو معرفة بنوعية الأشخاص أو الأطروحات أو الأفكار التي تُبَث، ونحن نحذرها، ونحرج عليها؛ لأنها قد عودتنا في صولاتها أنها تحتفي بالحداثيين كثيراً.(29/23)
مشكلة استهزاء جريدة عكاظ بالعلماء
ففي عدد سابق لها أتت بمسألة لا أدري هل هي متعمدة تريد أن تستهزئ بالعلماء وأهل الدعوة والإفتاء، أم ماذا؟
ففي الصفحة اليمنى في الفكر الإسلامي، تسأل عالماً من كبار العلماء في البلاد عن سحَّاب المرأة، هل يجوز أن يكون من صدرها أو من ظهرها؟
انظر سبحان الله! فـ عكاظ دقيقة في هذه الأسئلة تريد النفع للعالم الإسلامي، وتوقفنا! وبقيت معنا قضية السَّحَّاب فقط، فتقول: "يا فضيلة الشيخ! هل يجوز أن يكون سحَّاب المرأة من صدرها أو من قفاها؟ " والشيخ على نيته، وهذا الواجب عليه ألا يكتم وأن يتحدث، قال: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله رب العالمين.
وبعد:
يجوز للمرأة أن تجعل سحابها من على ظهرها أومن على صدرها، وكلا الأمرين جائزان، وما ظهر لي في ذلك شيء إلا إذا كان في ذلك تشبه.
وفي صفحة أخرى لطخ عميق في الإسلام، فهناك كاتب حداثي، يكتب عن التراث القديم، تراث الأجداد والجدات والخالات والعمات، أي: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وصلاح الدين وابن تيمية وابن القيم، والله الذي لا إله إلا هو! لولا أن الله رفع هؤلاء القمم الشوامخ النماذج لكانت أنوفنا في التراب.
يا أمة المجد قومي مزقي الحجبا وأشعلي في ليالي دهرك الشهبا
أتذكرين صلاح الدين سفسطة من غير بذل صلاح الدين قد ذهبا
قبر العظيم إذا ما زاره ذنب رغا وأزبد لا حييت يا ذنبا
لو أخبروا عمر الفاروق نسبتهم وأسمعوه الرزايا أنكر النسبا
أبواب أجدادنا منحوتة ذهباًَ وتي هياكلنا قد أصبحت خشبا
من زمزم قد سقينا الناس قاطبةً وجيلنا اليوم من أعدائنا شربا
فقصدهم أننا نحتاج العلماء في السواك والحيض والسَّحَّاب على الصدر أو من الخلف، أما في الاقتصاد والإعلام وتسيير شئون الأمة، وتوجيه الجيل، ورد كرامة هذه الأمة المسلوبة المنهوبة، وإعادة هذا المد المقدس، مد محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا ليس من تخصص العلماء، وهذا ضحك على الذقون، ولا يمشي إلا على أمثالهم.(29/24)
قضية تنقيع المساويك
وهنا قضية خطيرة -يا أيها الأخوة- فانتبهوا لها، فقد أثارت استغراب كثير من الإخوة، وقد أوقفتني، وهي: أن كثيراً من الإخوة، وباعة المساويك يغشون المسلمين، وينقعون المساويك، فانتبهوا لهذا {لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين}.
يقول: اكتشفنا أن بعض باعة المساويك يأتي بها وهي قديمة فينقعها، فيوهم العالم الإسلامي أنها جديدة، وهي منقعة: {من غشنا فليس منا}.
وأقول:
أولاً: هذه تحية لأهل المساويك، فأنا أشكرهم وأسأل الله أن يعلمهم الأدب، فكم أزعجونا في أثناء خطبة الجمعة: من يشتري الزين، من يشتري الزين؟ وهذا يقع منهم بعد النداء الثاني.
ثانياً: أطلب منهم أن يتأخروا عن أبواب المساجد، فلا يزاحموا المسلمين.
ثالثاً: أطلب منهم ألا ينقعوا المساويك، وأن يأتوا بها جديدةً غضةً طرية، وأن يبيعوها في وقتها، وإن نقعوها فعليهم أن يخبروا بأنهم نقعوها حتى لا يوصلوا العالم الإسلامي في داهية دهياء.(29/25)
حكم التأجير لمن لا يصلي
تأجير البيوت لمن لا يصلي صلاة الجماعة من قِبَل القائمين على مكاتب العقارات، ممن همهم المال وليس مراقبة الله عز وجل، فهو يأتي بأناس لا يصلون، أو لا يحافظون على صلاة الجماعة، فيؤجر لهم بيته، فهم لا يؤجرون البيت على الرجل فقط، بل هم يؤجرون البيت على الرجل وأهله، فيبقى الرجل في البيت ما يقارب السنة، لا يصلي في المسجد، ويشتكي أهل الحارة منه.
وإذا قيل لصاحب المكتب: اتق الله، قال: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] هذا مالي وهذا بيتي.
فهذا من نقص الأمانة وسوف يسأله الله عن ذلك: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته}.
أرى أن يكون في المكاتب العقارية شرط الصلاة في المسجد، يعني: للرجال؛ إلا من عذر شرعي، وعلى المكتب أن يُنبِّه على ذلك، فإن نقض المستأجر الشرط فعليه أن يخرج من البيت؛ لأنه نَقَضَ الشرط، وعند الترمذي وغيره من حديث عمرو بن عوف المازني أنه صلى الله عليه وسلم قال: {المؤمنون على شروطهم، إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً}.
هذا هو المطلوب، فاتقوا الله في ذلك.
كذلك قضية تأجير المحلات التجارية على أهل التسجيلات الغنائية محرم، وقد أفتى بذلك سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وفضيلة الشيخ محمد العثيمين في كثير من المناسبات، ويحرم التأجير أيضاً على من يبيع الدخان، وأصحاب أفلام الفيديو المهدمة المهدِّدة لأمن وسلامة المجتمع الإسلامي، ومن فعل معهم ذلك، فقد تعاون معهم على الإثم والعدوان.(29/26)
حكم العادة السرية
ورد ثلاثون سؤالاً عن العادة السرية، وحكمها، والتوبة منها ثم العودة.
وقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى بأنها محرمة، والواجب اجتنابها، وقد استدل الشافعي على تحريمها بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] فعلى العبد أن يتقي الله عز وجل وأن يبحث عن البديل في الزواج، أو الصيام، أو الاشتغال بالحق، فالعادة السرية محرمة ومسببة لأمراض عدة.
وقد أفتى العلماء الآن بتحريمها، وهو الصحيح المعتبر.(29/27)
حكم التعامل مع الشركة الخليجية للاستثمار
الشركة الخليجية للاستثمار أو دار المال، وردت أسئلة عنها، وهي: أن الشركة الخليجية للاستثمار قد حوَّلت كثيراً من أموالها، وهي تتعامل مع البنوك الربوية، وقد سمعنا أنها لا تتعامل مع البنوك الربوية، أو أنها لا ترصِّد أموالها هناك، وقبل فترة أخبرني بعض الإخوة بذلك، لكن أخبرنا بعض الإخوة ممن تعامل معهم أنهم حولوا له رصيده من بنك ربوي، وأنهم يتعاملون مع البنوك الربوية.
فأنا أطلب من القائم على هذه الشركة -وأنا أعرفه وهو رجل فاضل خيِّر- فعليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يأتي بالبديل، والعجيب أن محمداً عليه الصلاة والسلام الذي أتى بكل ما يتطلبه الإنسان من حاجات؛ حتى أنه ما ترك طائراً يطير بجناحيه إلا أعطانا منه خبراً! ثم يموت صلى الله عليه وسلم ولا يبين لنا حلاً للمال، حتى يقول بعضهم: لا بد من الربا شئتم أم أبيتم، لا نستطيع أن نعيش إلا بالربا؟! وهذا كذب: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5].
فالرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا مصارف الأموال، وهي شريعة جعلها الله للإنسان، أما فيها قسم للمال؟! أما فيها تدبير لدخل الإنسان، كالمضاربة، والشركة، والبيوع الحلال؟! فكل هذه في شريعة الله عز وجل، ولكن كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].(29/28)
مشكلة الملتقى الثقافي في أبها
وردت أسئلة كثيرة ورسائل من الخاص والعام، فهنا يقول: الملتقى الثقافي في أبها ما رأيكم فيه؟ ولماذا يشارك فيه مجلس سعيد السريحي وهو حداثي، ومعه لفيف من الحداثين؟
سعيد السريحي: سماه بعض الدعاة والمفكرين الإسلاميين: سعيدوف السريحي، سموه سعيدوف على وزن سخروف وبرجنيف وجرباتشوف، اسْتُقْبِل هذا وتُرِك له المجال، فأخذ يتهجم، ومُنع الدعاة وطلبة العلم من المداخلة والمشاركة، وهذا في الصيف القريب في أبها، ومعه لفيف آخر، والدعاة لم يسمح لهم بالمشاركة ولم يُدْعَوا أصلاً، ولو حضروا ما استطاعوا أن يتكلموا؛ لكن يسمح لـ سعيدوف وأمثاله أن يتكلم، أما الآخرون فإنهم من منظرهم يمكن أنهم لا يستطيعون الكلام، أو لا يجيدون فن الكلمة.
إذا عَيَّر الطائي بالبخل مادِرٌ وعَيَّر قساً بالفهاهة باقِلُ
وقال السهى للشمس أنت كسيفةٌ وقال الدجى للبدر وجهك حائلُ
فيا موت زُرْ إن الحياة ذميمة ويا نفسُ جدي إن دهرك هازلُ
رواد محمد صلى الله عليه وسلم وأبناؤه وجيله لا يستطيعون أن يعبروا بالكلمة ولا يبدعوا القصيدة، ولا يرتجلوا الخطبة، ومَن أهل الإبداع إلا نحن؟! ومن أصحاب المنبر إلا هؤلاء الجيل الطاهر النظيف البار الراشد؟! لكن ما الحيلة؟!
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتلَّ بالماء
فيجوز لك أن تحضر الملتقى الثقافي، ولكن اجلس على الكرسي ولا تتكلم ولا ترفع إصبعك، اسمع سعيدوف وغيره، ثم اذهب.
السؤال
ولماذا لم تشارك أنت -وأنت من أبناء المنطقة- في النادي ولا في الملتقى الثقافي؟!
الجواب
ما دُعِيتُ، ولو ذهبتُ ما لقيتُ مجالاً، فماذا أفعل؟(29/29)
مشكلة اختلاف المؤذنين واختلاف القبلة
وهنا قضية اختلاف المؤذنين في الوقت في مدينة أبها، واختلاف القبلة.
الجواب
نعم ضربت أبها مثالاً رائعاً في اختلاف المؤذنين، فبعض المؤذنين يتأخر ربع ساعة أو ثلث ساعة، نؤذن ونصلي ونخرج، فيستيقظ الشيخ وهو كبير السن من نومه، فيتوضأ بعد أن يسخن له ماءً، ثم يتمضمض ويذهب إلى المسجد فيؤذن، فيفتح المكرفون ربع ساعة، ويستقبل القبلة فيؤذن، فهذه مأساة.
وأنا أخاطب مدير الأوقاف -وهو رجل راشد خيِّر، فيه طيبة وفضل- أن يوجد حلاً لهذه المشكلة، وهي أصلاً في الجنوب منتشرة في القرى والمدن، لكنها طيبة، فحلت في الرياض ومكة والمدينة، وجدة، أما هنا فلا زالت، فلا بد من وقت منضبط يحاسب عليه المؤذنون حتى يؤذنوا في وقت واحد، أما أن هذا يُفطر وهذا يتسحر، وهذا يصلي وهذا يخرج من المسجد، فتصبح المسألة فوضى فليس بصحيح هذا.
أيضاً اختلاف القبلة، يقول بعضهم: إنهم يستقبلون جهة وادي ابن هشبل وبعضهم جهة وادي الدواسر، وبعضهم في جهة قنا والبحر، وبعضهم جهة مكة.
والإجماع بين أهل العلم أنه لا يجوز إلا استقبال مكة، وأما قنا فليست من القبلة ولا وادي الدواسر، فهذا الإجماع الذي أجمع عليه العلماء، فأنا أدعو الإخوة إلى توحيد القبلة في جهة واحدة فقط، لا في ثلاث جهات.(29/30)
حكم الاجتماع على الاستسقاء
السؤال
هل يجوز للناس أن يجتمعوا فيستسقوا لأنفسهم؟
الجواب
نعم يجوز لهم أن يجتمعوا فيستسقوا لأنفسهم، وأن تجتمع القبيلة وأهل المدينة، وإمام المسجد والخطيب ويتشاورون فيعلن في الناس أن عليكم غداً أن تخرجوا متذللين متخشعين، خائفين لنستسقي، ولذلك يبارك الله في هذه؛ لأنها تأتي عفوية من القلب.
أما إذا خرج الناس بسيارات فاخرة وبشوت لماعة ذهبية، وعقول منكسة أو بلا عقول، فإنهم لا يسقون.
ولذلك استسقينا خمس مرات فباءت بالفشل، بل اشتدت الحرارة أكثر، فقد كان عندنا غيم، فلما استسقينا اشتدت الشمس.
وقد استغاث الناس ربهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى في كثير من المواطن فما خيب رجاءهم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
وقد أخبرنا أحد الثقات من الأعيان والصلحاء في قصة حضرها، يقول: "في القديم -وهو كبير السن- قال: كنا في قبيلة اجتمعنا وبحثنا عن طالب علم، في وقت كان طالب العلم كالكبريت الأحمر، يُبحث عنه ليقرأ الرسالة ويكتبها، قال: فما وجدنا، فقلنا: يا جماعة الخير! هل فيكم من يحسن صلاة الاستسقاء؟ قالوا: لا نعرف، فقالوا: ما رأيكم، قحطنا وأجدبنا واحتجنا للغيث؟
فقال أحدهم: نرى أن نجتمع ونسأل الله في مجلس، فإنه قريب سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
فقالوا: إذاً موعدكم الصباح في الوادي الفلاني، فنزلوا جميعاً كباراً وصغاراً وأطفالاً ونزلوا بمواشيهم، وقام كبارهم فحلَّقوا في حلقة كبيرة.
وقام كبيرهم -شيخ القبيلة- وقال: اللهم إنا نسألك أن تسقينا وتغيثنا، والله الذي لا إله إلا هو! لو كنت مكاننا وكنا مكانك ما نرضى لك هذا الحال -قال: لو كنت في ضربنا ولو كنا في ضربك، هذا من نية ومن صدق- قال: والله ما أتى وقت صلاة العصر إلا والسيل في الوديان".
{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] ولكن بنية صادقة مع الواحد الأحد {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219].
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليلِ
ويرى نياط عروقها في نحرها والمخ في تلك العظام النحلِ
اغفر لعبد تاب من زلاته ما كان منه في الزمان الأوَّلِ
وقال آخر:
لطائف الله وإن طال المدى كلمحة الطرف إذا الطرف سجى
كم فرج بعد إياس قد أتى وكم سرور قد أتى بعد الأسى
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزلْ مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخَطا
وهناك قبيلة من القبائل في الجنوب خرجت فاستسقت قبل أيام، فأمطرها الله وأتى السيل معها، أي في ذلك اليوم أتى السيل، وأنا أعرف الذين حدثونا بهذا، ولله الحمد ولكم أن تجربوا.(29/31)
رباً يتساهل فيه بعض الناس
السؤال
صرف العشرة بتسعة، أو الإجبار على الشراء، وهذا موجود في البوفية أو المطعم أو الدكان، فتذهب إليه فتطلب منه حاجة، فيقول: لا أصرف لك إلا العشرة بتسعة، أو لا أصرف لك حتى تشتري مناديل، فما حكم ذلك؟
الجواب
هذا لا يجوز للآتي:
أولاً: لأن فيه صورة من صور الربا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {مثلاً بمثل، يداً بيد، سواء بسواء} رواه مسلم من حديث عبادة.
وثانياً: فإن فيه بيعاً وشرطاً، وفي سنن أبي داود: {نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط}.(29/32)
اختلاط سكن الرجال بالنساء الأجانب
الاختلاط في سكن العمال والعاملات، مثل: المطارات والشركات وبعض الفنادق، فقد يختلط فيها سكن الرجال والنساء من العاملات والخدم والشغالات ونحو ذلك، وهذا أمر محرم يُنَبَّه عليه، ووصيتي لأهل المؤسسات أو القائمين على هذه الشركات أو المطارات، أن يتقوا الله في ذلك وأن يفصلوا بين هؤلاء وهؤلاء، وأصلاً وجود الشغالات والعاملات ومثل هذا يُعتبر من الأمور المؤسفة التي تبعث الحزن في القلب.
وفي بعض الأسئلة طرائف ونكات وأنا آتي بملح أحياناً من الأسئلة حتى لا نهملها؛ لأن فيها خيراً وتنبئ عن روح مرحة يحملها الكثير منكم، أثابكم الله.(29/33)
طرائف
السؤال
بعض الغتر تسرق الأقلام، فما رأيكم في حل مثل هذه المشكلة في حضور المحاضرات والدروس؟
الجواب
أولاً: أنصحك نصيحة وأنصح غترتك نصيحة أخرى، فعليك بلبس غتر غير مهيئة لسرقة الأقلام، فجرب أن هذه المكتلة عدوة للأقلام، فمثلاً عليك أن تتقي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في ذلك، ولو حصل لك ذلك ووجدت قلماً في غترتك، ولم تعرف صاحبه فبإمكانك أن تبيعه وتتصدق بقيمته على صاحبه أو تعطيه من يحتاج له ولا يستطيع شراء قلم، لكن انتبهوا! من خاف الله عز وجل سدد.(29/34)
عدم الاهتمام بالقرآن
يقول: القضية عدم الاهتمام القرآن الكريم في الثانوية الصناعية والتجارية، والكلية التقنية، وكلية التربية، والمعهد المهني، والمعهد الصحي.
الجواب
كأن هذه خارج الخارطة، أي: كأن قلم التكليف رفع عن هذه المدارس، وكأن أهلها لا يصلون، وهم يصلون، ولا يحتاجون قرآناً، وهم يحتاجون قرآناً.
وأصل القضية أن القرآن لا يعفى منه قسم إسلامي ولا كلية ولا مدرسة، ولا مصنع ولا شركة، لا مهني ولا تقني ولا فني، ولا تكنولوجي ولا طبي ولا هندسي، ولا أي شيء، ولابد للعاملين حتى النزلاء في السجن أن يدرسوا القرآن.
فمسألة المصحف -القرآن الكريم- لا يمكن أن يعتذر أحد من هؤلاء مثلاً، فيقول الصناعي: أنا تخصصي صناعة، كيف تطالبني بالقرآن؟
أقول: نعم، حصة ومحاضرة؛ لأن طلبة المسلمين بين يديك، يصلي الواحد منهم كل يوم خمس مرات، ماذا يقرأ؟ كيف يلقى الله؟ كيف يجود كتاب الله؟ كم يحفظ من القرآن؟
فيا أيها القائمون على الثانوية الصناعية التجارية، والكلية التقنية، وكلية التربية والمعهد المهني، والمعهد الصحي، وغيره؛ اتقوا الله، قرروا حصصاً بدلاً من حصص الفراغ، أو بعض الرياضة التي بُلِيَت بها الأمة واستهلكت أوقات الأمة في مثل هذا، اجعلوها للقرآن، اجمعوا شباب المسلمين على كتاب الله عز وجل، تعاونوا مع الجمعيات الخيرية في المدارس، وادفعوا لهم من الرواتب التي تفيض من صندوق الشاي والقهوة، فاجعلوا لهم ستمائة أو سبعمائة ريال، يدرس أبناء المسلمين حتى يخرج مهندساً قارئاً للقرآن، أو طبيباً قارئاً للقرآن، حاملاً أداة وآلة وقارئاً للقرآن، فقاسمنا المشترك القرآن.(29/35)
مشكلة ظلم العمال
يقول: مسألة نشكو منها إلى الله وهي منتشرة في المجتمعات، وهي ظلم العمال.
كثير من أهل المؤسسات وأهل رءوس الأموال يظلمون عمالهم ظلماً عظيماً، في الرواتب، والتعامل، والإجازات، وغيرها، وسوف أفرد الحديث على ذلك وسوف تكون عنوان الخطبة -خطبة الجمعة المقبلة إن شاء الله-: ظالم من الدرجة الأولى.(29/36)
التعاون على البر والتقوى
السؤال
هنا أخبركم أن قرى بني مازن والعزيزة وبعض قرى ربيعة ورفيدة، قاموا بمشروع مبارك وهو أنهم منعوا بيع الدخان في متاجرهم، ودكاكينهم، فهل من شكر؟
الجواب
أشكرهم من الأعماق، وأسأل الله أن يحفظهم ويرعاهم وقد فعلوا خيراً يؤجرون عليه، وسمعت أنهم أقاموا حفل تكريم لمن فعل ذلك، وأنهم قد جردوا متاجرهم من هذا الخبث وقد أحسنوا بهذا، وقد فعلوا كما فعلت بعض المدن، كـ القويعية الآن ليس فيها شريط غنائي واحد، والزلفي ليس فيها ولا فيديو واحد مهدم، وليس فيها شريط غنائي، كثير من المدن تسلك هذا المسلك، فهم فعلوا الخير ويؤجرون عليه، والواجب أن يشكروا من جميع المسلمين وأن يُدعى لهم.
ثم إنه يطالب كذلك أن تحتذي بقية القرى حذوهم فيما فعلوا.
وكذلك يضيفوا إلى ذلك المجلات الخليعة فإنهم يقاطعوها.
ثم أدعو مثلاً الإخوة أن يقاطعوا البيع والشراء من بعض المحلات، التي تروج المجلات الخليعة والدخان وبعض السلع المحرمة، وأن يشجعوا المتاجر الإسلامية بالبيع والشراء، فهم يؤجرون على ذلك.
السؤال
قضية منتشرة بين الشباب خاصة، وبين كبار السن كذلك، وهي: ترك السنن الرواتب؟
الجواب
وهذا صحيح، نرى كثيراً من الناس يصلي مع الناس الفريضة، ثم يخرج من المسجد، ولا يصلي السنة الراتبة، وقد سئل الإمام أحمد عمن يترك السنن والرواتب والوتر، فقال: رجل سوء، رجل سوء، ويحاسب العبد يوم القيامة على فريضته، فإذا نقصت كملت من السنن الرواتب.
فيا إخوتي! اللهَ اللهَ في السنن الرواتب، وهي عشر ركعات، قال ابن عمر في الصحيحين: {حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات، ركعتين قبل الظهر وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر في بيته} فحافظوا على هذه والوتر معها.
وقضية أخرى أن بعض الشباب أرسل رسائل، يقولون في الرسائل: لم أجد وظيفة؛ ولكن وجدت عملاً؛ ولكن هذا العمل تجسس على المسلمين، فهل يجوز لي هذا العمل وهل يجوز استلام الرواتب؛ لأني أتجسس على المسلمين؟
الجواب: لا يجوز لك ذلك؛ ولا يجوز لك أن تتوظف جاسوساً على عباد الله عز وجل؛ فإن هذا أمر محرم، ودخلك يحاسبك الله عليه، ولا تطعم أطفالك حراماً، وأخاف عليك من دعاء طلبة العلم والعلماء والمسلمين.
فأنا أنصحك وأنصح نفسي ألا تتوظف في هذا العمل فتكون جاسوساً على عباد الله ولك أن تخبر عن الشرور، وعن المفاسد التي تحيق بالأمة والفتن، لكن أن تكون جاسوساً، فإن هذا الاسم الشرعي لا يستخدم في غير ما استخدم له، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لا يدخل الجنة قتات} وهو النمام الذي ينقل الكلام على وجه الإفساد، ومثل هؤلاء الذين ينقلون الكلام ويشوهون صورة العلماء أو الدعاة أو طلبة العلم أو الأخيار، أو أنهم يدخلون الرعب والخوف في قلوب المسلمين؛ لا يكونون أمناء على أعراض المسلمين وأموالهم، وهؤلاء الجواسيس محرم عملهم في الإسلام.
أما قضية التعاون على البر والتقوى، فهذا مطلوب، فإذا رأيت -مثلاً- إنساناً يروج مخدرات أو إنساناً يسعى بالفساد في الأرض، أو إنساناً له مخطط رهيب في معاداة الإسلام والمسلمين، فإن عليك أن تخبر، وهذا من التعاون على البر والتقوى.
فهذا المطلوب وهذا المعلوم، ولا يؤخذ تحت مظلة الخدمة لمصلحة العامة أو الأمن أو غير ذلك، فإن هذا ليس وارداً في دين الله عز وجل والأسماء تعفي أصحابها من الحكم الشرعي.(29/37)
رسالتان من شابين
رسالتان من شابين أرسلاهما:
الرسالة الأولى: يقول: أنا لا أستطيع أن أصف نفسي بعد كلامك، إنني أحقر من أن أتشرف بحضور هذه البشكة -يعني الجلسة يسميها البشكة وكأنه قريب عهد ببشكة، تاب الله عليه وحفظه- قال: لأني شاب من هؤلاء الذين تعنيهم في كلامك والحمد لله الذي تفضل عليّ بالحضور، وأريد أن أتوب، ولكن هل تظن أن الله يغفر لي؟
الجواب
أولاً: حياك الله وهذا مكسب عظيم، وشرف جسيم أن نحتضنك وتحتضننا هذه الليلة، ونسأل الله أن يثبتك على الحق ويشرح صدرك، ويتولانا وإياك.
أما الله فإنه: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3].
أما الله فهو القائل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136].
وأما الله فإنه القائل سُبحَانَهُ وَتَعَالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] ويقول سبحانه في الحديث القدسي الذي رواه الترمذي وأحمد بسند صحيح: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة}.
وهذا الشاب الآخر يقول: يا شيخ! أنا أحد الشباب الذين تتكلم عنهم، وأبشرك فأنا من هذه الليلة سوف أسير معكم على هذه الطريق إن شاء الله، وكنا نراكم ونتمنى أن نصير مثلكم، والله يرحم الحال، ولكن نلعب على أنفسنا، ونحن مرتاحون والله يعلم، ادعُ لنا بالهداية أنا وإخواني الباقين، وأعتبر أن يوم السبت الموافق 26/ 4/1412هـ هو بداية حياتي الحقيقية.
الجواب
حياك الله في فرصة وحياة جديدة لك، وهذا إشراق جديد؛ لأن الإنسان ميت: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] فأنت وأمثالك أمل لهذا الدين ومستقبل زاهر له.
فأنا أدعوك لمواصلة الحضور ومواصلة سماع الشريط الإسلامي وصحبة الصالحين، وحب أهل العلم والدعاة، ثم المحافظة على الصلوات الخمس، وكثرة النوافل ومصاحبة كتاب الله، وسوف تجد أن الله سوف يشرح صدرك ويزيدك هدىً وبصيرة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(29/38)
مَن تاب من إيداع ماله في البنك
السؤال
أنا رجل كان يودع ماله في البنك الأهلي، ثم تاب بعد سماع هذه المحاضرة.
الجواب
جزاك الله خيراً وحفظك، فالآن وصلت رسالتك، وهذه من سرعة استجابة الناس للحق، وهذه الفطرة المعطاءة التي يباركها الله عز وجل لأول طرفة، فكأنهم نهر إذا أحس بالحديد يفجر ذاك المعين، فيتدفق هذا الماء العذب، ماء العطاء والتوبة، وهي الاستجابة الحقة لله ولرسوله، وهذه النوعية مثل نوعية أبي ذر وبلال التي استجابت من أول وهلة.
أما النوعية التي تسمع المواعظ والدروس تُلقى عليها ثم لا تستجيب، فهي من نوعية أبي جهل وأبي لهب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24] شكراً لك ولقلبك واستجابتك وهنيئاً لك، ومن الآن.
الآن ميلادي الجديد به ولدت وعمري أيامي
ويقول آخر
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النار(29/39)
الإنفاق لتغيير الشر إلى خير
وصلتني رسالة من صاحبها يقول: أحبك في الله.
ويقول: إذا وجدتَ رجلاً يدفع تكاليف بناء مسجد الموصلية إلى البنك الأهلي، وأنا أقوم بإتمام المسجد كله، فأنا مستعد؟
الجواب
أولاً: أحبك الله الذي أحببتنا فيه.
ثانياً: المسألة كأنه يقول: ابحثوا لنا عن رجل يدفع ما سلف من التكاليف إلى البنك الأهلي وأنا أتمم الباقي، والباقي من المشروع كثير وأنت مشكور مأجور، ولعلك تتصل بي أو بفضيلة الشيخ جبريل البويصلي إمام المسجد والذي هو مدرس بكلية الشريعة.
وفي ختام هذه المحاضرة أبتهل إلى المولى أن يحفظنا وإياكم، وأن يغفر لنا ولكم، وأن يحفظ ويسدد شباب المسلمين، وأسأله أن يصلح ولاة الأمر، وأن يهديهم سبل الرشاد، وأن يوفقهم لما يحبه ويرضاه وأن ينصر بهم الدين، وأن يهيئي لهم البطانة الناصحة الصادقة، التي تدلهم على الحق وتحذرهم من الباطل.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(29/40)
معاني وبدع الأعياد
ليس العيد لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن خاف يوم الوعيد وللعيد آداب وسنن فصل فيها الشيخ في هذه المادة، ونبه قبل ذلك إلى الأعياد البدعية؛ كأعياد الميلاد ويوم المرأة والمولد النبوي وعيد الشجرة، وأكد أنه لا عيد للمسلمين إلا عيد الفطر وعيد الأضحى، وبين ما فيهما من المعاني الدالة على الأخوة والتكاتف والتآلف بين المسلمين، وختمت هذه المادة بذكر هديه صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان، وبين آداب المعتكف، وتطرق لزكاة الفطر مبيناً بعض أحكامها.(30/1)
الأعياد البدعية
الحمد لله القائل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156 - 157].
والصلاة والسلام على رسول الله القائل: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
أيها الناس: قبل أيام استقبلنا شهر رمضان المبارك وبعد أيام سوف نودعه ليختم حياةً عشناها معاً، ترفع فيها صحفنا إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بحسنات وسيئات، وبعد أيام سوف نستقبل ويستقبلنا العيد وسوف نعيش لحظاته.
ونحن معشر أهل الإسلام: لنا عيدان اثنان فحسب؛ عيد فطرنا يوم أن نفطر من صيامنا، ويوم أن نضحي نسكنا لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ولا نحتاج إلى غيرهما من الأعياد؛ لأن أيامنا كلها أعياد، وليالينا كلها أفراح، وساعاتنا كلها سرور وحبور.(30/2)
عيد الميلاد
ليس عندنا عيد ميلاد؛ لأن عيد الميلاد أضحوكة يضحك بها الإنسان على نفسه، وسخرية يسخر بها الرشيد إذا سفه وضحل عقله على كيانه، كيف يحتفل بميلاده!! وهو لم يولد بعد في عالم الحياة!!
إن المولود حقيقة من ولد لله، وعاش ومات لله، أما هؤلاء الدجالون الخرافيون الذين عندهم عيد ميلاد فلم يولدوا بعد؛ لأن من ولد إنما ولد لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] إنهم لم يخرجوا من الظلمات ولم يولدوا بعد، فكيف يحتفلون بعيد الميلاد!!(30/3)
يوم المرأة
وليس عندنا معشر أهل الإسلام! عيد المرأة، ولا يوم المرأة؛ لأن عيد المرأة عندنا كل يوم، نحن الذين جعلوا للمرأة أعيادها كل يوم وكل ليلة، كرمناها وأهانها غيرنا، وقدمناها وأخرها غيرنا، وحفظناها وضيعها غيرنا، وسترناها كما تستر الشمس بين السماكين، والعين بين الحاجبين، والدر في الصدف، وأخرجها غيرنا وزعموا أنهم هم الذين كرموها، وكذبوا لعمرو الله، فليس لها عندهم عيد ميلاد بعد أن هتكوا كرامتها وحجابها وسترها وديانتها، يهتمون بها إذا بلغت الخامسة عشرة حتى تبلغ الثلاثين، وقبل الخامسة عشرة وبعد الثلاثين لا يهتمون بها؛ لأنهم سفكوا كرامتها، ودعكوا حرمتها وسترها، فأي عيد ميلاد لها؟! نحن أهل عيد المرأة ويوم المرأة، يوم جعلنا ابنها يتقرب إلى الله بحبها، كلما سمع قوله صلى الله عليه وسلم: {الجنة تحت أقدام الأمهات} ونحن الذين جعلنا زوجها يكد ويتعب ويكدح، كلما سمع قوله صلى الله عليه وسلم: {الله الله في النساء، خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي} أو كما قال صلى الله عليه وسلم؛ فمن المظلومة إذن، المرأة عندهم أو عندنا؟!
تقول كاتبة ساخرة، ماحقة، ماكرة: المرأة المظلومة، ونقول: من هي المظلومة يا ظالمة! أهي عندكم يوم أن ظلمتموها، وعطلتم أهميتها في بيتها، وهتكتم حجابها وسترها، أم هي عندنا يوم كرمناها، ورفعناها، وشرفناها؟(30/4)
عيد الشجرة
ليس عندنا معشر أهل الإسلام: عيد للشجرة، لأننا نهتم بالإنسان أكثر مما نهتم بالشجرة، نحن أهل دين جاء للإنسان، وجاء لتربية الإنسان لا لتربية الكلاب والشجر، نربي الشجرة ونزرعها ونسقيها، ثم نقتل الإنسان، ونجلده ونسجنه، ففي أي كتاب هذا؟!! وفي أي أسطورة؟!! {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111](30/5)
المولد النبوي
ليس عندنا معشر أهل الإسلام! عيد المولد النبوي للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن أهل عيد المولد عندنا خرافيون، دجالون، سفهاء، جهلة، لا علم عندهم، ولا عقل، ولا دين؛ لأنهم أحيوا مولده صلى الله عليه وسلم وذبحوا تعاليمه بسكين الدجل والخرافة.
أعيد ميلاده صلى الله عليه وسلم أن نجتمع ونرقص وقد عطلنا تعاليمه في الحياة، ومنهجه في الواقع، وسنته في دنيا الناس؟!!
أعيد ميلاده صلى الله عليه وسلم أن يتراقص الناس كما يتراقص الحمير، وينشدون ثم تتساقط عمائمهم كما تتساقط مبادؤهم من رءوسهم؟!! أهذا عيد ميلاد له صلى الله عليه وسلم؟!
ما هذه الخرافات!! وما هذه الطقوس!! وما هذه التماثيل التي عكف عليها الجهلة!!
أحسبت ديني سبحةً وعمامة وقصائداً أطري بها المختارَا
كلا فديني دعوةٌ أبديةٌ قد أنبتت في العالمين منارَا
رُكزت بصحراء الحنيف وأرضعت بدماء من قد بايعوا المختارَا(30/6)
سنن العيد
من سننا أيها الناس يوم العيد:
أن نخرج إلى الصحراء، والسر في هذا الخروج بعد أن نترك العمارات، والفلل، أن الصحراء تعرفنا ونعرفها، وتحبنا ونحبها، يوم سجدنا على ترابها آلاف السجدات لله، ويوم بنينا عليها آلاف المساجد للحي القيوم، ويوم أدخلنا في ترابها آلاف الشهداء، فحق علينا أن نعود إلى الصحراء مرة ثانية.
ونخرج يوم العيد يا أيها الناس! مهللين مكبرين، نقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، نكبر يوم العيد لتكون العظمة والقداسة والاحترام كل الاحترام لله؛ ولئلا يشعر بعض الناس أننا لا نعظمه ولا نحتفل به في مثل هذا اليوم، فنقول له: لا.
لا كبير، ولا عظيم، ولا كريم إلا الله، فنقول: الله أكبر من كل كبير، وأعظم من كل عظيم، وأكرم من كل كريم.
ونخرج يوم العيد: فنلبس ثيابنا الجديدة الجميلة؛ لأننا أهل الجمال، زرعنا الجمال، وسقيناه، وأنبتناه، وقطفناه، فلا جمال إلا في ديننا، والله ربنا جميل يحب الجمال، طيب يحب الطيب، لا نعترف بالدروشة، ولا نقر بالخرافة، ولا نتحاكم إلى التزمت.
نظهر بالجمال في المبادئ والأفكار، ونظهر بالجمال في العقائد والمنقولات والأخبار، ونظهر بالجمال في الشعار والدثار، فنحن أهل الجمال، ولا يسبقنا إليه حي.
نلبس وقت الفاقة ووقت المجاعة: الصبر والرضا، ونلبس وقت الغنى ووقت الحبور والسرور: الشكر والثناء، ووقت الأعياد: الجمال والحبرات والمظاهر الحسنة، ونلبس وقت الجهاد: الدروع والرماح والسيوف على مبدئنا:
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بوسها
ونخرج يوم العيد فنصلي ركعتين، ويخطب إمامنا يوم العيد ليعلن مبادئنا في الصحراء؛ لا أسرار فيها ولا ألغاز، بل هي واضحة وضوح السماء، صريحة صراحة الصحراء، صافية صفاء الفضاء، فمن أراد أن يسمع مبادئنا فليسمعها في هذا اليوم، ومن أراد أن يستقرئ أخبارنا فليستقرئها يوم العيد وليسمع ماذا سوف يقول الخطيب.
ونخرج يوم العيد جماعات؛ لنعلن المحبة والتآلف والتناصر والتعاون، ونشجب الخلاف والفرقة، فمهما اختلفنا في الفرعيات، فإننا نتفق في الأصول، والمبادئ، والأسس والقواعد، فكأننا نقول لأعداء الإسلام، ولمن يريد الكيد للإسلام: هانحن عدنا مرةً ثانيةً متآلفين، متآخين، متحابين:
إذا اقتتلت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها
ونخرج يوم العيد من طريق ونعود من طريق أخرى؛ لنقول للفقراء: هانحن نلاحقكم في كل طريق، ونتابعكم في كل مكان؛ لنرفع من جوعكم؛ لأن ديننا لا يقر مبدأ التمايز، بأن يسكن إنسان في الطابق العاشر يطاف عليه بصحافٍ من ذهب، ولحم طير مما يشتهون، وفاكهة مما يتخيرون، وينام صنف آخر على التراب لا يجد كسرة الخبز، ففي أي شريعة هذه؟!! أفي شريعة حمورابي! أم في قوانين نابليون! أم في خزعبلات هتلر!
إن محمداً صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يخرجون يوم العيد ومعهم الفقراء، ويعودون ومعهم الفقراء، ويشبعون ويشبع معهم الفقراء، ويجوعون ويجوع معهم الفقراء.
ونحن في يوم العيد: لنا أن نروح عن أنفسنا بشيء من الدعابات، والأشعار، ومن طيِّب الأخبار، ومن نكات السمر مع الإخوان والسمار؛ بشرط أن تكون في حدود الوقار، لا نثلم فيها عرضاً، ولا ننتهك فيها كرامة، ولا نفضح فيها مستوراً.(30/7)
فرق بين عيدنا وعيدهم
هذا عيدنا، أما عيد غيرنا فهم يرقصون على الهزائم، ويفرحون بالفشل، ويصفقون على الخيبة في عالم لم ننصر فيه بعد أن تولينا عن لا إله إلا الله.
أيرقص الذين خرموا حرمة شهر رمضان، وأكلوا فيه، وهزموا فيه، وأسقطوا لا إله إلا الله في رمضان وفي غيره أيرقصون فيه؟! فلماذا يرقصون؟!! أللخيبة أم للفشل!
إن أقواس النصر ورفع الأعلام والعيد أن تنتصر الأمة، وأن يعود كيانها ووحدتها وقوتها ومركزها العالمي، وأن يتأخر كل ذنب متأخر، وأن يتقدم كل صنديد متقدم، فهذا هو مفهوم العيد، لا نقول للعيد كما قال المتشائم الأول:
عيدٌ بأية حال عدت يا عيد بما مضى أم بأمرٍ فيه تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم فليت دونك بيدٌ دونها بيد
ولكن نقول: مرحباً بالعيد، وأهلاً وسهلاً به، ففيه يعود الصفاء إلى قلوبنا، والرحمة إلى أرواحنا، والودُّ إلى نفوسنا.
عيدٌ بأية حال عدت يا عيد بما مضى أم بأمرٍ فيه تجديد
نحن الأشاوس ما شجت أرومتنا وفي حظيرتنا نجبٌ صناديد
نعم.
نحن وإن غفلنا فلن نموت، وإن سكتنا فلن ننتهي، وإن ظن الناس أن هذا الدين قد تأخر فسوف يتقدم، لأنه دين عالميٌ أيها الناس! يعيش في المواسم، وفي الصيام والأعياد وفي الليل والنهار.(30/8)
لمن العيد؟!
فهذا عيدنا إخوة الإسلام! فلمن العيد إذاً؟!
العيد لمن احترم وصام رمضان، وعرف الله فيه وفي غيره
العيد لمن عادت على قلبه أنسام التوبة، وراجع حسابه مع الله.
العيد لمن صفَّى معاملته مع الله، وتاب من الزلل.
نخرج يوم العيد أيها الناس! فنتهم أنفسنا قبل اتهام الناس، ونبش للناس، ونبتسم لهم، ونعانقهم؛ لأن بيننا وبين الأحبة غيوماً تحدث من نقص البشر، ومن ذنوبهم وخطاياهم فنتهم أنفسنا بحدتنا وغضبنا ونقصنا وتقصيرنا، ونعذر إخواننا بصبرهم وإخلاصهم وتضحيتهم فنعود متفوقين ناجحين، فهذا هو عيدنا.
إذاً فإن أعيادنا إنما هي عيد الفطر وعيد الأضحى ويوم الجمعة، وأما أعياد الذي لا يعقلون، الذين أخذ الله سمعهم وأبصارهم وختم على قلوبهم، فعيد الشجرة ينبتونها ويسقونها، ثم يقتلون من يسقي الشجرة.
وعيد المرأة؛ وهم الذين كفنوها ودفنوها وأقاموا على جثتها مآتم.
وعيد ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهم الذين أماتوا سنته، وذبحوا تعاليمه، وعطلوا شرائعه في الأرض.
وأعياد كثيرة تفوق الحصر؛ لا يمكن أن تقال، يفهمها اللبيب، ويعرفها الأريب، ويدركها الأديب.
يا عباد الله! ننتظر العيد بكل فرحة، ونأمل من الله أن يعيد لنا كرامتنا ومجدنا وعظمتنا وسؤددنا؛ حتى نكون دعاة خير، ورسل هداية، ومشاعل حق، وقادة ركب، وأساتذة عالم، ولا نكون متأخرين، ولا فاشلين، ولا ضالين مضلين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم(30/9)
العشر الأواخر من رمضان وأحكامها
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد، أيها الناس: {كان من هديه صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر أن يشد مئزره ويوقظ أهله ويحيى ليله} عليه الصلاة والسلام.
فهو دائبٌ في العبادة أبداً، ولكن إذا دخلت العشر اغتنمها، فهي فرصةٌ لا تعوض؛ لأن فيها ليلة هي خير من ألف شهر.
وكان عليه الصلاة والسلام يعتكف في هذه العشر الأواخر من شهر رمضان؛ فكان ينقطع عن العالم الخارجي، ويجلس مع الله في مناجاة وتبتل وذكر ودموع وخشوع؛ ليعيد لقلبه عليه الصلاة والسلام -وهو المعمور دائماً وأبداً- يعيد له أنسه المعهود، الذي ربما تغير من خلطة الناس، وكلامهم، ومن ممارسة مشاكلهم، فهذه العشر كان يعتكف فيها صلى الله عليه وسلم في مسجده؛ فلا يخرج إلا لحاجة لا بد منها.(30/10)
آداب المعتكف
والمعتكف له آداب منها:
1 - أن يبقى في مسجد تجمع فيه الصلاة.
2 - أن لا يخرج من المسجد إلا لحاجة لا بد منها.
3 - أن يعتزل الجماع وما يدعو إليه.
4 - أن يكثر من قراءة القرآن، والصلاة، ومن الذكر مطلقاً.
فهذا هو هديه صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر.(30/11)
زكاة الفطر
وهنا مسألة أيها المسلمون! ينبه عليها لأهميتها وهي زكاة الفطر التي أمر صلى الله عليه وسلم بإخراجها.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: {أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نخرج زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من بر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من زبيب عن الذكر والأنثى، والحر والعبد، والكبير والصغير} فهذا الصاع يخرج يوم العيد قبل الصلاة بعد الفجر من يوم العيد، ومن أخرجه قبل يومين أو ثلاثة أيام من يوم العيد فحسنٌ جميل.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: {فرض صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طعمةً للمساكين، وطهرةً للصائم من اللغو والرفث، فمن أخرجها قبل الصلاة فهي زكاة متقبلة، ومن أخرجها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات}.
أيها الناس: هذه الصدقة تخرج طعاماً ولا تخرج دراهم ودنانير؛ لأن الحكمة من إخراج الطعام هي إطعام الجائع والمسكين في الحال، فكأن العالم الإسلامي بعدده الضخم الذي يربو على البليون، أو على ألف مليون، إذا أخرج كل واحدٍ منهم -الكبير والصغير، والذكر والأنثى- صاعاً يوم العيد فتصير بليون صاع، ألف مليون صاع؛ فيا لهذه العظمة، ويا لهذه الكثرة الكاثرة، وهو تعليم من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم لئلا تنسينا فرحة العيد جوع الجائعين، وظمأ الظامئين، ومسكنة المساكين.
نخرج يوم العيد لئلا يبقى فقير ولا مسكين، فادفعوا زكاتكم زكى الله عنكم أعمالكم، وطهروا لغوكم ورفثكم طهركم الله؛ فإنها صدقة سنها صلى الله عليه وسلم، تخرج كما قالها في النص عليه الصلاة والسلام، ومن اضطر، أو رأى الحاجة في أن تكون دراهم فلا بأس بذلك؛ نص على ذلك شيخ الإسلام، الجهبذ النحرير ابن تيمية.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى عليَّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة.
اللهم ارض عن آله الأخيار، وصحبه الأطهار من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه يا رب العالمين!
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم أنزل السكينة عليهم، اللهم اجعل عيدهم نصراً أكيداً يا رب العالمين! وتفوقاً باهراً يا أكرم الأكرمين!
اللهم اخز كل عدوٍ للإسلام، اللهم اشغله في نفسه، اللهم فتت كيده، واعم بصيرته، ومزق قلبه، والعنه لعنة فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض يا رب العالمين!
اللهم اجمع كلمتنا، ووحد صفوفنا، وسدد آراءنا، وصوب سهامنا في نحور أعدائنا يا رب العالمين!
اللهم لا تشغلنا بالتوافه في حياتنا، اللهم لا تجعل الفرقة أساسنا ومبدأنا، اللهم لا تمزق صفوفنا يا رب العالمين! واجمع قلوبنا على ما تحبه وترضاه يا أكرم الأكرمين!
اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور، واهدنا سبل السلام، ووفقنا لما تحبه وترضاه.
اللهم أصلح شباب المسلمين؛ اللهم تب عليهم، وكفر عنهم سيئاتهم، وأصلح بالهم، ووفقهم لما تحبه وترضاه يا رب العالمين!
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك، واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين!
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة، حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(30/12)
قل هو الله أحد
سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن في الأجر والمثوبة، يا ترى ماذا تحمل في طياتها من دروس لهذه الأمة؟
وما هي الفوائد التي تستنبط من هذه السورة التي لم تتجاوز السطرين؟
كل هذا ما ستعرفه في هذا الدرس.(31/1)
فضل القرآن
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عنوان هذا الدرس: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ).
حمداً لمن بلغنا المراما وزادنا من فضله إكراما
ثم صلاة الله تترى ما سرى برق على طيبة أو أم القرى
مع السلام يغشيان أحمدا وآله المستكملين الرشدا
شعب إذا لم يعبد الله الصمدْ ولم يردد قل هو الله أحد
لن يعرف النصر ولا لن يعرفه في ذلة وقلة ومتلفة
الله يستثير الهمم إلى كتابه، ويمدح كلامه، ويوجه الأمه إلى هذا الدستور الخالد، ويتحدى أعداءه، ويُبَكِّت خصومه، فيقول مثنياً على كتابه: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1].
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى متحدياً العروبة والعرب، وهم أهل اللسان: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} [الرعد:31] والجواب مسكوت، ومعنى الجواب عند أهل العلم: لكان هذا القرآن.
ويقول الله عز وجل أمام الشعراء والأدباء والخطباء: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88].
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى مقسماً أنه حق: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23].
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى منادياً للتبرك به في العمل والتلاوة والمنهجية والمدارسة والتحكيم: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:2].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29].
وبَكَّتَ سُبحَانَهُ وَتَعَالى أعداءه، ووصفهم بإقفال القلوب، وأنهم لا يفهمون ولا يفقهون ولا يعون: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى مخبراً أن غير كتابه من تأليف البشر ومن تصنيف الناس، عُرضة للنقص إلا هذا الكتاب، فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].
ثم ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن كتابه لا يأتيه الباطل، ولا تلعب به الأهواء، وأنه ليس من صنع البشر، وليس من ولادة الطين، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص:29].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
والآيات في هذا المعنى كثيرة، ولكن الدرس هذا هو في سورة حبيبة إلى قلوبنا، لها أثر خاص، وطعم خاص، وذكريات خاصة، كان يحبها عليه الصلاة والسلام ويعيش معها، وهي تعريف بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الله الناصر، القدير الواحد، المحاسب، الشهيد، يعرف نفسه للبشر، ولم يكن البشر يعرفونه، وما كانت العقول تعرف من هو الله، وما كانت العرب والعجم تتطلع إلى درجة أن تتعلق بالله، حتى علقها به رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.(31/2)
أسباب نزول سورة (الإخلاص)
وفي السورة مسائل:
المسالةالأولى: أسباب نزول هذا السورة:
من أسباب النزول: سببٌ طريفٌ لطيف:
ففي مسند أحمد، وعند ابن أبي حاتم وابن جرير الطبري، وعند البغوي في (معجمه): أن المشركين اجتعموا فقالوا: يا محمد! انسب لنا ربك، نريد نسبته، أباه وجده، من أي عشيرة؟ من أي قبيلة؟ فتوقف - عليه الصلاة والسلام -
حياءً من إلهي أن يراني وقد ودعتُ صحبك واصطفاكا
ويقبح من سواك الفعل عندي وتفعله فيحسن منك ذاكا
ماذا يقول عليه الصلاة والسلام؟ وكيف يجيب عن هذا السؤال المبهم المدهش المحيِّر؟! سؤال من أناس سفهاء وجهلة وأغبياء وبلداء، فتوقف عليه الصلاة والسلام، فأنزل الله عز وجل كلاماً عن النسبة والنسب، وكلاماً عن التعريف: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
من يستطيع أن يَنْظُم مثل هذا الكلام؟! من يستطع أن يرد ويجمع هذه المقالات البدعية الضالة المنحرفة في سطرين، ثم يصبح السطران ثلث القران، في الفضل والأجر والمثوبة.
القرآن ثلاثة أثلاث، ثُلُثُه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]: أجرها تعادل ثلث القرآن، فهي تحمل المعطيات للأمة، والصدارة، والشجاعة، والهوية الروحية لشباب الإسلام، ولأتباع محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين.
وسوف أتعرض بإذن الله في آخر الدرس إلى شرك الخوف، التي عالجته هذه السورة، وطردته، وبَكَّتَت أهله، واستهزأت بأصحابه، شرك الخوف، الذي وقعت فيه الأمة، إلا من رحم ربك، وأصبح الناس أو أكثرهم واقعين فيه.
ومن أسباب النزول:
{أن عامر بن الطفيل ملاعب الأسنة، كان من أشجع العرب، كان فاجراً -يقول: يا محمد! اقسم بيني وبينك الأرض، لك نصف الأرض، ولي نصف الأرض، وأسلِّم لك بالرسالة- وهل الدنيا مناصفة؟! وهل أتى صلى الله عليه وسلم لابتزاز الأراضي؟! وهل كان صلى الله عليه وسلم تاجر قصور؟! وهل كان صلى الله عليه وسلم يريد باستين وحدائق؟! إنه يريد مبادئ يركبها على دماء البشر لترتفع (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) - فرفض عليه الصلاة والسلام، فقال عامر بن الطفيل: (يا محمد! إِلامَ تدعو؟) قال: إلى الله عز وجل، قال: صفه لنا، أمِنْ ذَهَبٍ هو؟ أو مِنْ فضة؟ أو مِنْ حديد؟ -أي: تركيبه الجسماني، أمن ذهب؟ أو من فضة؟ أو من حديد؟ - فأنزل الله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]} رواه البغوي والخازن، عن ابن عباس، وذكره ابن الجوزي في زاد المسير وكثير من أهل العلم.
العرب العرباء بغير {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] لا تساوي شيئاً.
والعروبة التي يدندنون بها بغير إسلام عروبة البعث، أو عروبة الماركسين، أو عروبة العَلْمَنَة الَخوَنَة، أو عروبة المرتزقة، لا تساوي شيئاً بغير {
الجواب
=6006221> قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1].
هم قَتَلَةٌ بغير {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] نَهَبَةٌ، سَرَقَةٌ، خَوَنَةٌ، ويوم يرتفع عليهم تاج {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] يرفعهم الله من الحضيض.
ومن أسباب النزول:
كان العربي قبل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] يأتي إلى الصنم، ويجد الثعلب يبول على الصنم، فيسجد هو للصنم، وقد ذُكِر: أن أعرابياً أتى إلى صنم ليعبده، فوجد الثعلب يبول على رأسه، قال:
أَرَبٌّ يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالبُ
يقول: أهذا الله الذي يرزقنا؟! أهذا الله الذي يوحد مسيرتنا؟! أهذا الله الذي يوجهنا؟! أهذا الله الذي ينزل علينا الدستور؟! أهذا الإله تبول عليه الثعالب؟! لو كان إلهاً صِدْقاًَ ما بالت عليه الثعالب.
وأتى أعرابي آخر إلى صنم آخر، فوجد ثعلباً خرج من وراء الصنم، فخافت راحلتُه ونفرت فسقط الأعرابي على وجهه، وقال:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ففرقنا سعدٌ فما نحن من سعدِ
وسبب البيت: أن هذا الأعرابي طلق زوجته في الجاهلية، فاستفتى أعيان القبيلة: مَن يرد علي زوجتي؟ قالوا: إلهك سعد، في مناة -في أرض ثقيف- قالوا: اذهب إلى سعد بالناقة، وقدم له لبناً، لعَلَّه أن يرد زوجتك، فذهب بالناقة، فلما اقترب واللبن معه على الجمل، خرج الثعلب من وراء الصنم، فنفرت الناقة، فسقط على رأسه، أراد أن يرد الزوجة، ففرت الناقة، قال:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ففرقنا سعدٌ فما نحن من سعدِ
فأنزل الله عز وجل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].(31/3)
النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته إلى توحيد الله
وعند أبي داود وغيره بأسانيد صحيحة، أن حصين بن عبيد الخزاعي، والد عمران، وفَدَ على الرسول عليه الصلاة والسلام والرسول ذاك الإمام المعصوم، والقائد النِّحرير، والشيخ الجليل يضحك من عقول العرب، والله إنها تستدعي أن يضحك الإنسان طويلاً.
فإذا أراد الأعرابي أن يسافر استشار الصنم: هل يسافر أم لا؟
وإذا أرادت زوجته أن تلد أتى إلى الصنم وقدم له لبناً أو دهناً أو سمناًَ.
فأتى هذا الأعرابي، فقال صلى الله عليه وسلم: {كم تعبد؟ قال: سبعة} هذه السبعة ليست من الجن الذين يقولون: سبعة، فسبعة هنا بمعنى: 6+1=7، فهؤلاء يتخيلون في هذه الوثنية الحادثة، أن اسم (7) سوف يضره.
ولا يضر إلا الله، ولا ينفع إلا الله.
لَعَمْرُك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانعُ
دعها سماوية، تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوسِ
سماوية: أي: أن الأمر من السماء.
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] هذه تجري في دماء المؤمنين، تجعلهم شجعاناً، لا يخافون إلا الله، وسوف يأتي حديث عن ذلك.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {كم تعبد؟ قال: سبعة، قال: أين هم؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء -فأوقفه عليه الصلاة والسلام أمام عقله وإرادته، وضميره، وأمام مستواه، وفكره وقال-: مَنْ لِرَغَبِكَ وَلِرَهَبِكَ؟} أي: مَنْ لك إذا اشتدت عليك الضوائق، وضاقت عليك الحيل؟
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرجُ
ضاقت فلما استحكمتْ حلقاتُها فُرِجَتْ، وكنتُ أظنها لا تفرجُ
ويقول أبو العلاء الأعمى، ولكنه -أحياناً- يأتي بأبيات جيدة، يقول حين دخل على ملك المعرة صالح بن عبد الله: أطلق لي أسارى المعرة.
قال: لا.
لا أطلقهم لك.
قال: أطلقهم.
قال: لا.
وفي الأخير قدر الله أن يغلبه ملك آخر يطلقهم، فأطلقهم، فدخل عليه في اليوم الثاني، فقال:
تقضون والفلك المسير ضاحكٌ وتقدرون فتضحك الأقدارُ
يقول: أنت يتيم، ليس عندك شيءٌ، فالذي يقضي وينفع ويحيي ويميت هو الله.
الشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {مَنْ لِرَغَبِكَ وَلِرَهَبِكَ؟}.
يعيشُها الطالبُ في قاعة الامتحان، يوم تُقَدَّم له ورقةُ الأسئلة، وتقدم أمامه ورقةَ الإجابة، فلا أبوه يعطيه الإجابة، ولا أمه قريبة منه تُغَشِّشه، ولا الأستاذ يستطيع أن يلقنه، ولا اللجنة تسمح له، فهنا يتصل بالواحد الأحد، وحينها يأتيه المدد إن كان تقياً.
ويعيشها الفلاح في مزرعته، حين تموت أشجاره، وتذوب أزهاره، وتجف أمطاره، فيتلفت، فلا الزراعة تعطيه، ولا الناس يمنحونه، ولا القريب يثيبه غيثاً أو يعطيه مطراً، فهنا يلتفت إلى الله.
ولذلك أوقف صلى الله عليه وسلم العرب أمام هذه القضية.
فعند أحمد في المسند من حديث أبي تميمة الهجيني، قال: وفدتُ على الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان صلى الله عليه وسلم يعطي كل إنسان بمدده، أو ببيئته التي يعيش فيها، أو بقدرته على التلقي، البدوي يخطابه بواقعه من البادية، والملك يخاطبه بملكه وديوانه، والوزير بوزارته، والمتعلم بعلمه، وأهل الكتاب يخاطبهم بعلم الكتاب، والمنافقون بما عندهم من وساوس وخطرات نفاقية، والمشركون بمعالم الوثنية، كلٌّ يعطيه بحسب بيئته وطبيعته.
يقول أبو تميمة: فلما وفدتُ قلت: يا رسول الله، إلام تدعو؟ قال: إلى الله؟ ثم قال صلى الله عليه وسلم: {إلى الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك، وإذا أصابتك سنة مُمْحِلَة فدعوتَه أمطر عليك أرضك، وإذا ضلت ناقتك في الصحراء فدعوتَه رد عليك ناقتك} لا إله إلا الله! لا يعرف البدوي إلا الناقة، وإلا الأرض إذا أجدبت، وإلا المطر إذا جف، فهذه القضايا التي يعيشها ردها عليه الصلاة والسلام على من يكفله في ذلك.
ولا بد من مخاطبة الناس ببيئاتهم.
ذكر ابن قتيبة في عيون الأخبار قصة، وذكرها أيضاً ابن عبد ربه، وغيره من الأدباء، والقصة معروفة: وفد أعرابي من الصحراء على المتوكل الخليفة العباسي المناصر للسنة - المتوكل هو الذي نصر الإمام أحمد، ووقف معه، وأكرمه، وأعلى قدره- فدخل الشعراء يوم عيد الفطر على المتوكل يمدحونه، فقام الأعرابي الذي أتى من الصحراء، لا يعرف إلا الكلب والتيس، وقال للخليفة:
أنتَ من ماجد وصولٍ كريم من كثير العطايا قليل الذنوبِ
أنتَ كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوبِ
يمدح الخليفة بصورتين اثنتين، فهو يقول له: ما أنتَ بحفظك للود ووفائك للعهد إلا كالكلب الذي معنا في الصحراء، وأحفظ الحيوانات للود الكلب، ومن حفظ الكلب أنه لا ينبح صاحبه، وأنتَ في شجاعتك وفي منازلتك الأبطال وفي قتالك المعارك مثل التيس.
فقام الوزراء والجنود يريدون أن يبطحوه أرضاًَ، ويضربونه ضرباً حتى لا يدري أين القبلة، فقال الخليفة: دعوه، من أين أتيتَ يا أخا العرب؟ قال: من الصحراء، قال: دعوه، هذا لا يعرف إلا الكلب والتيس؛ لكن أنزلوه في الكرخ، فإني أراه عنده موهبة شعرية ثم ليأتني بعد سنة، فأنزلوه في خيمة في طرف بغداد عند الرصافة، بين الجسر والكرخ، فرأى الحدائق، ورأى الحضارة، الدنيا، والأسواق، وبعد سنة أتى ودخل على الخليفة وقال:
عيون المها بين الرصافة والجسر جَلَبْنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري
ثم مدح الخليفة، فعذره وأجازه.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {كم تعبد؟ قال: سبعة، قال: مَنْ لِرَغَبِكَ وَلِرَهَبِكَ؟ قال: الذي في السماء، قال: فاترك التي في الأرض، واعبد الذي في السماء}.
هذه قضيته عليه الصلاة والسلام أن يبين للناس أنه لا ينفع إلا الذي في السماء، {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30].
والله عز وجل يقول: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] والعرب تدري من هو الذي في السماء.
الأعرابي وهو مشرك يعبد الصنم، إذا تَرَجْرَجَتْ به سفينتُه في البحر، التَفَتَ إلى السماء، ودعا: يا ألله! يا ألله! يا ألله! {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] مثل الطلبة الآن، لما طلعت النتائج؛ قليل مِنْهم مَنْ يحضر ليصلي في الجماعة، وقليل مِنْهم مِنْ يقرأ القرآن، ومَنْ يسبح، هل يضحكون على الله؟! الضحك على الله عيب، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] ويقول: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30].
فالذي يضحك على إرادة الواحد الأحد إنما يضحك على نفسه، فالله عز وجل يعلم ما تكنه الصدور، وما تخفيه الضمائر.
فالمقصود: أن الناس يعرفون من هو الله، ويعرفون أنه في السماء.
رأيتُ في ترجمة عيسى عليه السلام أنه مرَّ، وكان يشفي -بإذن الله- من الأمراض، وكان يعالج، وكان -بإذن الله- يحيي الموتى، فمر ببقرة، وقد اعترض ولدها في بطنها، وأصبحت في مشقة، وفي كرب لا يعلمه إلا الله، فالتفتت البقرة إلى السماء وقالت: يا عيسى، يا روح الله، ادع الله أن يفرج عني، فدمعت عينا عيسى، ودعا اللهَ ففرج عنها.
فالكائنات كلها تصمد إلى الله، ولذلك يقول الشاعر:
يا رب حمداً ليس غيرك يُحْمَدُ يا من له كل الخلائق تصمدُ
أبواب كل ملوكنا قد أوصدت ورأيت بابك واسعاً لا يوصدُ
الصالحون بنور وجهك آمنوا عافوا بحبك نومهم فتهجدوا(31/4)
دعاء الله وتوحيده
ترى الجهات والسلاطين، إذا طرقتهم في الثالثة ليلاً أو الرابعة، لا يفتحون لك وقد يغضب عليك وإذا أتيتهم في غير وقت الزيارة لا يسمحون لك، ولا يستقبلون معاريضك، ولا يسمعون بكاءك، ولا شكايتك، ولا يرحمون دموعك، إلا إذا أتيت في وقت خاص، بأمر خاص، وإذن خاص، وشفاعة خاصة، ثم هو على مزاجه، إن شاء أعطاك وإن شاء رفض.
أما الواحد الأحد، ففي كل لحظة، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
ولذلك فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يُدْخل في أي وقت.
قال يوسف بن أسباط: عجباً لك يا بن آدم! خُلِّي بينك وبين الماء البارد، تتوضأ وتدخل على الله متى شئتَ.
قال الصحابة وهم في سفر: {يا رسول الله! أربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟}.
أي: هل هو قريب فنتكلم إليه بالصوت الخافت؟ أم هو بعيد فنرفع أصواتنا؟
{فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]} وهي من أعظم الآيات المؤثرة في حياة العبد، أن تناجي الواحد الأحد في أي وقت، فيسمع دعاءك.
قال بعض المفسرين: إن يوسف عليه السلام لبث في السجن سبع سنين لسبب واحد، لأنه كان يقول لزميله في السجن كما في القرآن الكريم: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف:42] أي: اذكرني عند سيدك، الملك، فإذا دخلتَ عليه وقد أطلقك، فحاول إذا أتى ذكري أن تذكرني عَلَّه يطلقني من السجن، فأوحى إلى يوسف: ذكرتَ ربه ولم تذكر ربك؟! لماذا لم تذكر حاجتك إلى الواحد الأحد؟! ولماذا لم تقل أنتَ: يا الله، يا الله؟! من الذي يمنعك أن ترفع يديك إلى الواحد الأحد؟! إنه قريب سميع مجيب.
خرج الصحابة، فلما أصبحوا في الربع الخالي، تقطعت بهم المياه وتقطعت بهم الأسباب والأنفاق والحبال، وأصبحوا في درجة من الهلاك والظمأ، لا يعلمه إلا الواحد الأحد، قالوا لأميرهم العلاء بن الحضرمي: [[ادعُ لنا ربك قال: يا عليُّ! يا عظيم! يا حكيم! يا عليم! فأرسل الله سحابة، فأمطرتهم، فشربوا واغتسلوا وملئوا أوانيهم.
]] أليس الله هو القريب: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].(31/5)
فضائل سورة الإخلاص
ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد رضي الله عنه وأرضاه: {أن رجلاً كان يردد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] لا يزيد عليها، قام من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، يردد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] حتى الفجر، فأتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وسأله الصحابة في ذلك، كأنهم تقالُّوها، قال: والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن}.
فمن قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فكأنما قرأ ثلث القرآن في الأجر والمثوبة.
وأخرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث أبي سعيد قال: قال عليه الصلاة والسلام: {أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ قالوا: وأينا يستطيع ذلك يا رسول الله؟ قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ثلث القرآن} فمن قرأها حصَّل ثلث القرآن، ومن قرأها ثلاثاً فكأنما قرأ القرآن مرة بالأجر والمثوبة، لا بالمعلومات والقضايا، فإن هذا أمر آخر.
وورد في الصحيح {أن رجلاً جعله صلى الله عليه وسلم أميراً على سرية، فخرج معهم، فكان يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] دائماً، لأنه يحبها، فكان يتأملها ويتعلق بها، فأخبروا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال: سلوه، لم يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]؟ فسألوه، قال: إن فيها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأها، قال عليه الصلاة والسلام: حبك إياها أدخلك الجنة}.
وفي لفظ آخر: {أخبروه أن الله يحبه}.
ما دمتَ أحببتَ كلامه، وما دمتَ تعلقت بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فهذا هو الشرف العظيم.
يا شباب الإسلام! يا جيل محمد! يا كتيبة الإسلام! يا عصابة الحق! إن من المدهش والمذهل والمحزن والمبكي أن تستمع لبعض الناس يقال له في مقابلة: ماذا تحب؟ فيقول: أغنية فلان، بتلحين فلان، وكلمات فلان، فيقال له: إلى من تهديها؟ فيقول: إلى أبي وجدي، وإلى أخي وإخوتي، وإلى أبنائي وبناتي.
قارنوا بين هذا وبين ذاك العصامي الرجل الأول الذي عاش مع محمد صلى الله عليه وسلم المجاهد الشاب الذي تعلق بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وقرأها في كل ركعة.
وفي الصحيح: {أن رجلاً جعله صلى الله عليه وسلم إماماً لقومه في قباء من الأنصار، فكان كلما قرأ الفاتحة قرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ثم أتى بسورة، فقال له قومه: إما أن تكتفي بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فهي تكفي، وإما أن تقرأ غيرها، فقال: إن أردتم أن أؤمكم قرأت بكم في كل ركعة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وإلا فابحثوا عن إمام غيري، وعلموا أنه ليس عندهم إمام غيره، لما فيه من الخير، فأخبروا الرسول عليه الصلاة والسلام فَبَيَّن أن حبه لها أدخله الجنة، وأن الله يحبه} سبحان الله العظيم!!(31/6)
لماذا كانت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن
المسألة الثانية: لماذا كانت ثلث القرآن؟:
قال بعض العلماء: إن القرآن ثلاثة أنواع:
الأول: أحكام.
الثاني: وعد ووعيد.
الثالث: أسماء وصفات.
فـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أسماء وصفات، فهي ثلث القرآن.
فثلثٌ: أحكام، وتشريع.
وثلثٌ: وعد ووعيد، وخبر عن الجنة والنار، وعن الآخرة.
وثلثٌ: أسماء وصفات.
فتكفلت (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) بالأسماء والصفات، فهي ثلث القرآن.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه فيما رواه مسلم وغيره، قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل جزَّأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) جزءاً من أجزاء القرآن} قال القرطبي: وهذا نص، وبهذا المعنى سُمِّيَتْ سورة الإخلاص.(31/7)
إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من قراءة سورة الإخلاص
وكان عليه الصلاة والسلام يحبها كثيراً، ويقرأ بها هي وسورة الكافرون في ركعتي الفجر التي قبل الصلاة، ويقرأ بهما في ركعتي الطواف، ويقرأ بهما في سنة المغرب البعدية، يداوم على هاتين السورتين في هذه النوافل؛ فإنه يبتدئ النهار عليه الصلاة والسلام بركعتي الفجر؛ لأن {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] نفت الشرك، وبينت المفاصلة بين التوحيد والشرك، بين (لا إله إلا الله) وبين لا إله والحياة مادة، بين أولياء الله وبين أعداء الله، بين الكفر وبين الإيمان، بين الظلام وبين النور، أما (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في الركعة الثانية فأخلصت التوحيد لله، وأخلصت الولاء، وذكرته في أجل المحامد؛ فإن الله يحب المدح، الله ممدوحٌ يحب المدح، ولا أحدٌ أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه، ونزَّه نفسه، وأثنى على نفسه، وحمد نفسه، قال الأسود بن سريع: {ركبت مع الرسول عليه الصلاة والسلام رِدْفاً له، فقلت: يا رسول الله! إني نَظَمْتُ أبياتاً أمدح بها ربي، فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: أما إن ربك يحب المدح} ولذلك انظر إلى استهلالية سورة الأنعام، السورة الهائلة التي شيعها سبعون ألف مَلَك، حتى أنزلوها في الأرض، ولذلك سورة الأنعام هذه رهيبة رهيبة، فهي سياط من الآيات تضرب القلوب، وتستولي على الأرواح، وتطارد النفس من كل أقطارها، افتتحها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بهجوم أدبي على أعدائه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].
ونزه نفسه فقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:181 - 183].
وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65].
وأخبر بكلٍّ من حكمته، ورحمته، ولطفه.
وفي صحيح مسلم: عن عمرو بن الشريد، قال: {رَدِفْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدابة -بغلة أو حمار- فقال لي: أتحفظ شيئاً من شعر أمية بن أبي الصلت؟ قلتُ: نعم.
يا رسول الله! قال: هِيْه! أنشدني -كان عليه الصلاة والسلام لا يحفظ الشعر، أتى بشيء أحسن من الشعر، ولو كان يحفظ الشعر لقال عنه الكفار: شاعر، {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69]- فقال: فأنشدتُه بيتاً، فقال: هِيْه، فزدته، فقال: هِيْه، فزدتُه، فقال: هِيْه، حتى أنشدتُه مائة قافية}.
من ضمن الشعر المنشود: أن أمية بن أبي الصلت نَظَمَ قصة موسى لما أرسله الله إلى فرعون.
وأمية هذا مات كافراً، سبحان الله! آمن لسانه وكفر قلبه؛ لأنه يريد أن تكون النبوة فيه، يريد أن يؤتى صحفاً منشرة، فما أعطاه الله النبوة، فكفر بالرسول عليه الصلاة والسلام.
فمن ضمن قصائده: أن الله عز وجل لما أرسل موسى إلى فرعون قال له: أأنتَ يا فرعون رفعتَ هذه؟ أأنتَ يا فرعون نصبتَ هذه؟ أأنتَ أنبت الحب؟ أأنت خلقتَ الزهر؟ فقال نَظْماً:
فقولا له أأنت سويت هذه بلا عمدٍ حتى استقلت كما هيا
وقولا له من ينبت الحب في الربى فيصبح هذا الحب بالحب دانيا
ثم أخذ يقول: وقولا له، وقولا له، وقولا له، فتأثر له عليه الصلاة والسلام وقال: {آمن لسانُه، وكفر قلبُه} {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} [الرعد:36].
وفي صحيح البخاري وغيره: {أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه، أخذ كفيه الشريفتين العادلتين الرحيمتين فقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ثلاثاً، ثم نفث فيهما ومسح ما أقْبَل من جسمِه ورأسَه وما والى من وجهه.
يفعل ذلك ثلاثاً، ثم ينام}.
لماذا؟ ليحفظه الله، وهو محفوظ.
وإذا العناية لا حظتك عيونُها نَمْ فالحوادث كلهن أمانُ(31/8)
النبي يوصي عبد الله بن خبيب بسورة الإخلاص
كان يحب أن تكون آخر كلامه صلى الله عليه وسلم قبل أن ينام.
في السنن ومسند أحمد: عن عبد الله بن خبيب، قال: {كنت أمشي في ظلام، وكان صلى الله عليه وسلم وراءه- ولا يدري أن المعلم والشيخ وراءه في الظلام- قال صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله بن خبيب! قلتُ: لبيك وسعديك يا رسول الله}.
وانظر إلى الشباب المتفتح، وإلى الكتيبة الخالدة، وفتيان محمد صلى الله عليه وسلم، كان الواحد منهم إذا ناداه في المعركة يقول: لبيك، فيقدم رأسه ودمه رخيصاً كالتَّفْلَة في الأرض.
{فقال: لبيك يا رسول الله، قال: (قُلْ) قلتُ: ماذا أقول يا رسول الله؟ قال: (قُلْ) قلتُ: ماذا أقول يا رسول الله؟ قال (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ثلاثاً إذا أصبحتَ، وثلاثاً إذا أمسيتَ لا يضرك شيء} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
معنى ذلك: أنها حرز حريز، وأنها حياطة من الله وسياج، فلا يضرك معها شيء.
وإذا قلتها بعقيدة في الصباح، فمن ذا الذي يضرك، إذا أراد الله ألا يضرك أحد فمن ذا الذي يضرك.
وعن وهب بن منبه وقد ذكر ذلك ابن كثير وغيره -: أن الله عز وجل يقول في الحديث الصحيح القدسي: {وعزتي وجلالي، ما من عبد اعتصم بي، فكادت له السماوات والأرض، إلا جعلت له من بينهن فرجاً ومخرجاً} أسمعتم؟! من الذي يقسم؟ الله! {وعزتي وجلالي ما من عبد اعتصم بي، ثم كادت له السماوات والأرض ومن فيهن، إلا جعلتُ له من بينهن فرجاً ومخرجاً، وعزتي وجلالي ما من عبد اعتصم بغيري، إلا أسخت الأرض من تحت قدميه}.
فالأذلاء الحقراء هم الذين يعتصمون بغير الله، والخونة العملاء هم الذين يلتجئون لغير الله، أما المؤمنون الشجعان فهم الذين يفوضون أمرهم إلى الله قال تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر:44 - 45].
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:36].
وقال تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران:174].
وكان عليه الصلاة والسلام يحب أن يرددها كثيراً، ويقرأها، ويتأملها، وأن يعيش معها، ولكن تعالوا الآن لنعيش مع مفرداتها، وجملها الرائعة البديعة، التي هي تثبت -صراحةً- أن هذا القرآن ما كان له أن يُفْتَرى من دون الله، ومن غير الله ما يُسْتَطاع، وأن من معجزاته أنه ما يُنْظَم على نفسه، ولا يُوْصَل إلى قدره، ولا يُرَتَّل مثله أبداً، لا من شاعر، ولا من كاتب، ولا بليغ، ولا خطيب، أو عالم، أو مفكر.
هذه مسألة.(31/9)
تفسير سورة الإخلاص(31/10)
تفسير (قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد)
أي: الواحد الأحد، الذي لا نظير له، ولا وزير، هكذا يقول ابن كثير، هل تعلم لله سمياً؟! هل تعلم له نظيراً؟! والله يقول: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف:51].
معنى الآية: لا والله لا استشرتُ في خلق السماوات والأرض، ولا طلبتُ إدلاءهم بأصواتهم، ولا كانوا حضوراً، ولا أعانوني في البناء، ولا رفعوا معي هذا السقف، ولا بسطوا معي هذه الأرض، ولا نصبوا هذه الجبال، بل كانوا في عالم العدم، أخِسَّة، حقراء، ليسوا موجودين كما قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الانسان:1 - 3].
يقول فرعون: أنا خلقتُ الخلق، فأتى الشيطان يضحك على فرعون، فطرق عليه الباب، وفرعون في القيلولة نائم، قال: من؟ قال الشيطان: أما عرفتني؟! قال: ما عرفتُك، قال: تخلقني ولا تعرفني؟! أي إنك تقول: أنك تخلق العالم، أفتخلقني ولا تعرفني؟! لأن فرعون يقول: أنا الذي خلق الناس.
وهذه الدعوة قديمة، فـ النمرود الكذاب المجرم، الذي مرغه إبراهيم في التراب، يقول كذلك.
فيأتي جمع من الناس، فيصفقون له في المهرجان، ويقول: أنا خلقتكم.
فيقولوا: يعيش يعيش يعيش، فيقول: ورزقتكم، وأميتكم، قالوا: يعيش يعيش يعيش، فأراد إمام التوحيد وشيخ العقيدة إبراهيم أن يدخل عليه حتى يمرغ وجهه في التراب، فدخل عليه، كما يصف الله تلك الحادثة: {ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].
ويقال: أن الفرق بين فرعون والنمرود: أن إبراهيم هو الذي بدأ بالسؤال، أما فرعون فهو الذي بدأ بالسؤال مع موسى.
فكان النمرود أذكى قليلاً، وإلا فهما كما يقول عمر، قيل لـ عُبادَي: أي حماريك أخس، قال: [[هذا ثم هذا]] فذاك حمار وهذا حمار؛ لكن بعض الحمير أذكى من بعض.
ويقول صاحب (كليلة ودمنة): جمع الأسد الحيوانات وقال: عندي فكاهة، قالوا: تفضل يا أبا حسل، فأورد الفكاهة، فضحكوا جميعاً إلا الحمار لم يضحك وفي اليوم الثالث ضحك الحمار، فقال له الأسد: ما لك؟ قال: فهمتُ الفكاهة الآن.
الشاهد أن إبراهيم قال: للنمرود {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] قال: كيف؟ فأخرج النمرود مسجونين، فقتل أحدهما وأطلق الآخر وقال: هذا أحييه أطلقتُه، وهذا أميتُه ذبحتُه، قال إبراهيم: ما دمتَ أنك أستطعت أن تحيي وتميت -والنمرود بالطبع كذاب فهذه ليست إحياء وإماتة- وهي مسألة أخرى، قال: ماهي؟ {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] قال الله: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].
فالله لا وزير له، ولا نديم، ولا شبيه، ولا عديل.
ولذلك فإن الله لا ينام، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [فاطر:41].
وورد أن موسى عليه السلام، عندما التقى مع الله قال: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143].
ويوم صُعد بالرسول صلى الله عليه وسلم وعرج به قال: يا رب! كيف شرَّفته وقد بُعِثَ بعدي؟! قال ابن تيمية رحمه الله: هذه غيرة محمودة، تنافس في الحق، ليس حسداً.
وفي بعض الآثار أنه قال: يا رب! اجعلني من أمة محمد.
كان يريد أن يتفضل بأمته على الأمم، وفي الأخير يقول: اجعلني أنا من أمة محمد.
وهذا ثابت.
ففي (سنن النسائي) بسند صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {والذي نفسي بيده، لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي}.
اسمع بعض أسئلة موسى إلى الله عز وجل:
قال: يا رب، أتنام؟ -سبحان الله! لقد التقى بالله يكلمه- قال: يا رب! أتنام؟ قال: يا موسى! لا تنم هذه الليلة، فما نام، فأتت الليلة الثانية، فقال: لا تنم، فلم ينم، فأتت الثالثة، قال: لا تنم، فلم ينم، فلما أتت الرابعة قال: يا موسى، خذ قارورتين واملأهما ماءً، فأخذ قارورتين ووقف وملأهما ماءً، فأخذ ينعس، وكادت القارورتان أن تَصْطدمان، فكان ينتبه، ولما أتى في الثلث الأخير من الليل اصطدمت القارورتان، وتكسرت، فقال الله: يا موسى! لو نمتُ لذهبت السماوات والأرض.
وأنزل الله مصداق ذلك: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41] فسبحان الخالق البديع الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت!
اسمع هذه الآية: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33] من القائم على كل نفس؟ الله.
انظر إلى كل إنسان في الزحام وفي الكثرة وفي الملايين، فالله يحاسبه ويراقبه كأنه ليس مشغولاً إلا به، مع العلم أنه كما قال ابن القيم: يُغْني فقيراً، ويُفقر غنياً، ويرد ضالاً، ويهدي عاصياً، ويتوب على تائب، ويخلع هذا، ويولي هذا، وينزع هذا، ويعطي هذا، ويمنع هذا، ويحيي هذا، ويمرض هذا، ويشفي هذا {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29].
ولا يطلق هذا اللفظ على أحد إلا على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله، وقال القرطبي: الواحد: الوتر، والله يحب الوتر فهو واحد لا ثاني له، ويحب من الأفعال الوتر، ولذلك كانت هيئات الوضوء، أو الغَرفات ثلاثاً، والطواف بالبيبت سبعاً، والسعي سبعاً، وأيام الأسبوع سبعاً، وينتهي النهار بالوتر، وهي صلاة المغرب، والليل بالوتر المعروف، فالله وتر يحب الوتر.
قال: لا شبيه له ولا نظيراً ولا صاحبة ولا ولداً، والله عز وجل يغضب من يسمي له صاحبة، قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون:91] وما اتخذ الله من شريك، ولا نديد ولا مثيل يشاركه.
فتعالى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى!
ومما يروى من قصص بني إسرائيل وأهل السنة يروون قصص بني إسرائيل: {حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج}.
فقيل: كان بنو إسرائيل إذا غاب موسى اغتابوه وسبوه وشتموه، فإذا حضر هابوه، فدعا موسى ربه وقال: يا رب! أسألك أن تكف ألسنة الخلق عني.
ولذلك يقول الله عز وجل: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69] وقال الله: يا موسى! ما اتخذتُ ذلك لنفسي، إني خلقتُهم، ورزقتهم، وأعافيهم، وأشافيهم ومع ذلك هم يسبونني.
وورد في الصحيح: {كَذَبَنِي ابن آدم} وفي لفظ: {كَذَّبَنِي ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إياي فيقول: إني لا أعيد الخلق كما بدأتُه، وإعادته عليَّ أهون من بدئه، وأما شتمه إياي فيقول: إن لي صاحبة وولداً، وتعاليتُ وتقدستُ، لا صاحبة لي ولا ولداً}.
وفي بعض الألفاظ: {شتمني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وسبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، أما شتمه إياي فإنه يشتم الدهر، وأنا الدهر، أُقَلِّب الليل والنهار كيف أشاء} والآن الناس يشتمون الدهر، فيسب أحدهم فيقول: فضح الله هذا اليوم وهذا الأسبوع وهذا العام، وفضح الله يوماً عرفتُكَ فيه، ولا بارك الله في زمن لقيتُك فيه، أو صاحبتُك فيه.
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
إن الجديدَين في طول اختلافهما لا يفسدان ولكن يفسد الناسُ
فالليل والنهار لا شيء، ولذلك يقول الشاعر الجاهلي متعتباً على الدهر:
لحا اللهُ هذا الدهر إني وجدته بصيراً بما ساء ابنَ آدم مُوْلَعا
فالدهر لا دخل له، إنما الذي يقلب الليل والنهار هو الله، وهو مسبب الأسباب سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(31/11)
تفسير قوله تعالى: (اللَّهُ الصَّمَدُ)
الصمد لها معانٍ عند أهل السنة من المفسرين، وغيرهم من اللغويين.
فقيل الصمد: هو الذي تصمد له الكائنات، أي: تحتاج له، وتتلهف له، وتتجه إليه، وتطلبه، من هو المستغني عن الله؟ من هو الآن الذي يعيش أو سوف يعيش وقد استغنى عن الله طرفة عين؟ هل تستطيع الدواب أو العجماوات أو الطيور أو الزواحف أو الملوك أو الكفرة أو التجار أن يستغنوا عن الله طرفة عين؟ {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] يسمع دبيب النمل فيعافي ويشافي، وتُرْفَع إليه الحاجات، فلا يمنعه كفر الكافر أن يرزقه، بل يعافيه، ويعطيه، ويبتليه، ويشافيه، وهو كافر بالله، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6].
قال ابن الجوزي: ذهب بعض الصالحين، فرأى عصفوراً يأتي إلى نخلة فيقع عليها، كل يوم، فتعجب هذا الرجل الصالح، قال: العصفور ليس من عادته أن يعشعش في النخل، العصفور لا يبني عشه في النخل، لكنه يبني في الأرض، أو في الشجر القصير، فتسلق هذا الرجل الصالح إلى رأس النخلة، فوجد حية عمياء، نشبت في رأس النخلة، ليس لها طعام، فإذا احتاجت إلى أكل، أتى هذا العصفور بطعام ولحم، فإذا اقترب منها زقزق، ففتحت فمها، فألقى اللحم في فمها.
فمن الذي دَلَّ؟ ومن الذي عرَّف؟ ومن الذي {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]؟
من الذي عَلَّم النحلة أن تذهب المسافات الشاسعة ثم تعود إلى مكانها، والعاملة تشتغل في بناء هذا البناء، ومنها الآخذة والطاعمة والشاربة.
من الذي عَلَّم النمل أنه سوف يمر فصل شتوي قارس البرد كثير الأمطار، لا تستطيع أن تخرج إلى الحب، فتعد وتحسب حسابها من فصل الصيف، فتدخر الحبوب في مخزونها، فإذا أتى الشتاء لا تخرج النمل، ثلاثة أشهر لا يخرج النمل إلا أحياناً؛ لأن عنده مكنون.
وأيضاً لا ينبت الحب في بيوتها كما قاله أهل العلم، وهذا من (مفتاح دار السعادة) لـ ابن القيم، قالوا: لماذا لا ينبت الحب الذي في بيتها؟ فقالوا: تأتي النملة إلى الحبة فتخرقها من وسطها، أو تفلقها فلقتين فتصبح غير قابلة للإنبات، ثم تكدسها، وهذه هندسة علمها الذي {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
ولذلك سوف أعيد وأكرر كثيراً هاتين المقولتين لموسى، فيقول بعض المفسرين: لله در موسى لَكَمَ فرعون على وجهه؛ لأن فرعون يقول: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49] قال: يا مجرم يا بليد يا حقير! {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] أنت يا فرعون لما ولدتك أمك، من الذي هداك للثدي؟ فالطفل أول يوم يخرج من بطن أمه لا يعرف أحداً إلا أمه، فمن الذي هداه إلى أمه وإلى ثديها؟
ومن معاني الصمد: أي: السيد، أتى سعد بن معاذ على بغلةٍ فلما رآه الأنصار قاموا، قال صلى الله عليه وسلم: {قوموا إلى سيدكم} فقاموا، قيل في الصحيح: أقبل على حمار، وفي (السِّيَر) على بغلة، فأقبل على حمار مُنْكَأ الجراح، وكان عظيماً شديداً، اهتز له عرش الله، وقامت الملائكة بأقطاب العرش، تقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
فلما أقبل، قال صلى الله عليه وسلم: {قوموا إلى سيدكم} والقيام للسادة، إذا كان من باب الحب والاحترام فلا بأس به، أما إذا كان من باب التعظيم كالقيام على رأسه، فلا.
كان بعض الفضلاء جالساً فأتى عالم من العلماء أقبل كالفجر، فقام الأديب، فقال العالم: لا تقم، في القيام نظر، وهو مكروه، فقال الأديب:
قيامي -والإله- إليك حقٌ وترك الحق ما لا يستقيمُ
وهل رجل له لب وعقلٌ يراك تجي إليه ولا يقومُ؟
هل يوجد في الدنيا أحدٌ يراك تقوم مقبلاً إليه، ولا يقوم؟
قال: {قوموا إلى سيدكم} قال ابن عباس: [[السيد الذي كمل في سؤددُه، وعَظُم شرفُه والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كملت عظمته، والحليم الذي كمل في حلمه، والعليم الذي كمل في علمه، والحكيم الذي كمل في حكمته]].
وقال أحد الشعراء العرب، يمدح بعض السادة العرب، يقول:
ألا بَكَّرَ الناعي بخير بني أسدْ بـ عمرو بن مسعود وبالسيد الصمدْ
المعنى: فوجئنا قبل الفجر بالصائحة والنائحة والباكية، تبكي سيدين شريفين: عمرو بن مسعود، وبالصمد الآخر.
وكانت العرب تمدح الرجل الملك، فتقول: يا صمد! أي: يا مَن يُصْمَد إليه.
وعند أحمد في المسند من حديث المقداد بن الأسود، أن رسول صلى الله عليه وسلم كان إذا نصب سترة لا يصمد إليها، والحديث فيه: الوليد بن كامل، وهو ضعيف، وبعضهم يحسِّنه، ولكن الظاهر أنه ضعيف.
والمعنى -على فرض صحة الحديث- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يصمد للسترة صمداً، بل كان يجعلها على حاجبه الأيسر، أو حاجبه الأيمن.
فالذي يُصمد إليه هو الله.
والصمد له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على نوعين:
الأول: صمود خاص.
الثاني: صمود عام.
الصمود الخاص: صمود المؤمنين له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الضراء والسراء.
الصمود العام: صمود الكائنات فلا يستغني عن الله أحد.
قالوا للإمام مالك: ما دليل القدرة؟ والظاهر -والله أعلم- أن القائل هو هارون الرشيد -كما ذكر ذلك ابن كثير في التفسير- في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21].
فقال هارون الرشيد لـ مالك: ما دليل القدرة يا مالك؟ قال: اختلاف اللهجات، وتعدد النغمات في شتى الحاجات أمام الواحد الأحد.
أما ترى الناس يوم عرفة يَتَكَلَّمون بأكثر من أربعمائة لغة على صعيد عرفة يتكلمون في ساعة واحدة إلى الحي القيوم، إلى من على العرش استوى، فيفهم لغاتهم، ويجيب طلباتهم، ولا يعييه سؤال عن سؤال، ولا إجابة عن إجابة، هذا يتكلم بالعربي، وهذا يتكلم بالإنجليزي، وهذا بالفرنسي، وهذا بالباشتو، وهذا بالأوردو، وهذا بالفارسي، وهذا بالأطلسي، وهذا بلغة عالمية، وهذا بمحلية، ومع ذلك كلهم يريدون الخير، ويصمدون إليه، فيجيبهم وهم في صعيد واحد.
أليس هو الصمد سبحانه؟! بلى.
وقال الحسن وقتادة: [[الصمد: هو الباقي بعد خلقه]].
الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40].
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88].
فلا يموت سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولذلك يأمر عباده وأولياءه أن يتوكلوا عليه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58]؛ لأن غيره يموت.
تريد أن تتوكل على الذي يموت؟ لا.
توكل على الذي لا يموت سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وقال الحسن: [[الحي القيوم: الذي لا زوال له]] فلا يزول ولا يحول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
يقول أحد الصالحين: سبحانك يا من لا يزول ولا يحول! سبحانك يا من يغير ولا يتغير! أي: يغير غيره ولا يتغير.
الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول لأعدائه وهو يُبَكِّتُهم وقد سكنوا في القصور: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم:45].
فهو يغير ولا يتغير، تعالى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وقال الربيع بن أنس: [[هو الذي لم يلد ولم يولد]] فجعل تفسير الصمد الآية التي بعدها، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد السابع من الفتاوى: قيل لبعض العلماء: ما دليل قدرة الله؟ قال: دليل قدرة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى نَقْضُ الهمم، وإماتة العزائم.
من الذي ينْقُضُ هِمَّتَك؟ إنه الله، تهم بالشيء، وتجزم أن تفعله، وتقسم أن تفعله ثم ينقض همتك، ويشتت عزيمتك.
وقيل للإمام أحمد كما في تفسير ابن كثير: ما دليل القدرة؟ قال: بيضة الدجاجة، أما سطحها ففضة بيضاء، وأما باطنها فذهب إبريز، تفقس، فيخرج منها حيوان سميع بصير، ألا يدل على السميع البصير؟ بلى.
وللعلماء عن القدرة كلام، ففيها أمور عظيمة لا يَفِي المقام ببسطها، وليس هناك مجال لعرضها.
وقال عكرمة: يقول ابن عباس: [[الصمد هو الذي لا جوف له]].
فتَصْمُد له الكائنات، وتسأله المخلوقات، بشتى اللغات، وبتنوع الحاجات، على مر الأوقات، والأزمان في الأرض والسماوات.
فلا يعييه شيءٌ عن شيء.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في كتاب السنة بعد إيراد كثير من هذه الأقوال: إن الصمد هو الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم الظاهرة والباطنة، وإذا أمرٌ لم يسهله الله عز وجل لم يتسهل.
يقول الشاعر:
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
فالاجتهاد مع عدم التوفيق لا خير فيه ولا فلاح، والخيبة والخسران من نصيبه.
قالوا: الصمد: أي: الذي انتهى سؤدده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وعظُم.
وقيل: الصمد: الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب، وقد اختاره البيهقي مع بعض العلماء.(31/12)
تفسير (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)
أما قوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] ففيه قضايا:
من هذه القضايا ما يلي:
القضية الأولى: لا والد لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولا ولد، وليس له صاحبة.
واليهود قالوا: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30].
والنصارى قالوا: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30].
والمشركون قالوا: الملائكة بنات الله، فنفى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عنه الولد والوالد.
{قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30].
القضية الثانية: لماذا بدأ فقال: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] فبدأ بالولد، مع أن الوالد أهم؟
قالوا: لأنه لم يُقَل أحد: إن الله له والد، لم يُقَل هذا، أو لم ينتشر ولم يشتهر، وليس هناك ملة أو نحلة تقول: إن الله له والد؛ لكن اليهود يقولون: إن لله ولداً، والنصارى يقولون: إن لله ولداً، ومشركو العرب يقولون: أن لله ولداً.
ومشركو العرب {وجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} [الزخرف:19].
والمعنى: أشهدوا خلقهم؟! هل حضروا؟ هل رأوا تركيبهم؟
وأما النصارى فقالوا: عيسى ابن الله لعنهم الله.
وقال اليهود: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30].
فرد الله عليهم بنفي الولد أولاً، ثم أتى بالوالد، وإلا فالوالد أهم.
قال: (لَمْ يَلِدْ) فلم يلد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كما ولدت مريم.
(وَلَمْ يُولَدْ) كما وُلِدَ عيسى، وعزير، وقد رد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على النصارى، واليهود، ومشركي العرب في هذه القضية التي أتوا بها.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} [مريم:88]: وهذا القول، ذنبٌ كبير، وليس هناك ذنب أكبر منه.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:88 - 95]
وهذا رد على هذه المقالة الفاجرة الخائنة، وعلى أصحابها، حسيبنا الله عليهم.(31/13)
تفسير قوله تعالى: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً)
والكفو: هو المثيل، والشبيه، والنديد.
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً} [الإخلاص:4] أي لم يكافئه أحد، يقال: فلان كافأ فلاناً، أي: شابهه ونادَّه وأصبح مثيلاً له.
فالله لا مثيل له لا في أسمائه وصفاته، ولا في أفعاله، ولا في جزئية من جزئيات صفاته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا كفء له أحد، أي: لا يوجد أحد.
وقرئت: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2]: قرئت: على التنوين وصلاً وعلى الضم قطعاً، بتفخيم لفظ الجلالة {اللَّهُ} الثانية، وقرئت وصلاًَ بترقيقها.
وقرئت {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أحد} [الإخلاص:4] من غير همزة (كُفُواً) على واو، وقرئت: بهمزة (كُفُؤاً) على الواو، وقرئت: (كِِفُواً) بكسر الكاف، قرأها بعضهم وهي قراءة غريبة، والمشهور: (كُفُواً) من غير همزة، أو (كُفُؤاً) بالهمزة.(31/14)
تفسير قوله تعالى: (أحد)
(أحدٌ)
أي: ليس له هناك نديد، ولا شبيه، ولا مثيل.
{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:158].
قال المفسرون: أي مُحْضَرون للحساب، ولو كان بينهم وبين الله نسب ما أحضرهم ولا حاسبهم، مثلما قالت اليهود والنصارى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18].(31/15)
دروس من سورة الإخلاص(31/16)
الوحدانية في حياة المسلم
1/ وحدانية الحب:
أن تحب الله أعظم من كل شيء، {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] حباً يستولي على مشاعرك، أحب إليك من والدك وولدك والناس أجمعين، حباً لا يوازنه شيء، وعلامة الحب: أن تتمنى الشهادة صباح مساء, يعني: بأن تبيع نفسك من الله، فتكسب هذا الدم الذي يجري في شرايينك، رخيصاً لمرضاة الواحد الأحد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، هذا هو الحب.
والحب: أن تقدم محابَّ الله على محابِّك، فتستيقظ لصلاة الفجر، والجو قارس، والفرش وثير، واللحاف دافئ، والتعب كثير، والنوم عميق، فتنتفض كالأسد وتطير إلى المسجد فتصلي هناك، وفي صحيح مسلم أن الأسود قال لـ عائشة: كيف استيقاظه صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل؟ قالت: [[كان إذا سمع الصارخ يثب]] وإني أعلم ماذا تريد من قولها: يثب، تقصد: يثب كالأسد، كما قال تعالى: {يا يحي خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] أما المنافق فلا يثب، بل يتدحرج إلى المسجد كأنه يجرجر بالحبال، {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] فهم مثبطون، ميتون، كسالى؛ لأن حياة الحب لا تجري في دمائهم، ولا تجري في عروقهم.
2/ وحدانية الرجاء:
ألا ترجو إلا الله، ولا تسأل إلا هو، ولا تعتمد إلا عليه، فالفتوحات والمكرمات منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وإذا لم يرد الله أن ينفعك لا ينفعك أحد، ولا يقدم لك خيراً أحد.
3/ وحدانية الخوف:
الناس اليوم يعيشون في شرك الخوف، عندهم التمائم وهي محرمة، والطواف بالقبور، والشعوذة، والكهانة، وغالب الناس لا يعبدون الأصنام، ولا يسجدون للحجارة، ولا يستقسمون بالأزلام، ولا يعبدون الكواكب، ولا يسجدون للنجوم؛ ولكن أصابهم الله بشرك الخوف، وشرك الخوف من نواقض (لا إله إلا الله) وقد تكلم عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والشيخ محمد بن عبد الوهاب.
شرك الخوف الذي دبَّ، واسأل نفسك، تجد أن شرك الخوف عندك، وأنك تخاف من البشر أكثر من خوفك من الله، وأنك وإن أظهرت الشجاعة فإنك في وقت ساعات الصفر وفي وقت الشدائد تنهار، وليس عندك من رصيد (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ما يقدم رأسك رخيصاً لخدمة لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
واسأل نفسك، ولا تكذب عليها، وقف أمام نفسك خصيماً، واسألها طويلاً: أأنتَ تعيش شرك الخوف؟ نعم.
ستجد نفسك أنك تعيش شرك الخوف، وأن غير الله أهول عندك وأهيب من الله، ومن علامة ذلك: أنك تتحرز وتتحفظ وتحتاط من البشر، أما من الله فلا تحتاط، ولا تتحفظ ولا تتحرز، ومن علامة ذلك أيضاً: أنك تظن أنهم يذهبون برزقك، وسوف يعطلون مصالحك، وسوف يضرونك، وسوف يُذْهِبون عليك حياتك، وأنت ستحذر غيرك، حتى أنك تسمع التحذيرات: الله، الله، خافوا! اتقوا! تحفظوا! احتاطوا! احترزوا! الناس متربصون! أعدوا لك خططاً! درسوا لك دراسة! يريدون توريطكم بورطة! حفروا لكم حفرة!!! لماذا؟! من هو المصرف المدبر؟! من هو القادر الحكيم؟! من الذي بيده مقاليد الأمور؟! من هو الغالب على أمره؟! أنه الله سبحانه: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21] {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران:173] اسمع العبارة: (جَمَعُوا لَكُمْ) أي: رصدوا وخططوا، والله يقول: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79] أي: أننا نبرم قبلهم، هم يبرمون ونحن نبرم قبلهم {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80].
فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران:173] ارتفعت (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في قلوبهم، {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].
أنا أخبركم بتلاميذ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ثم أوقفكم أمامهم، وهم أجدادكم؛ لتروا كيف عاشت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] قذائف في قلوبهم، وكيف عاشت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] على ألسنتنا، نرددها في صلاة المغرب وصلاة الفجر، لكن إذا أتينا إلى التطبيق في الواقع، ما استطعنا.
نحن أشبه الناس برجل يقرأ كتلوج السيارة كيف تُقاد، وكيف تُساق، ثم يركبها ويريد أن يقودها، فلا يستطيع، أو برجل يريد أن يَتَمَرَّن على التمارين السويدية، فيقرأها في كتاب رياضي، ثم يأتي ليطبقها، فما يعرف؛ لأنه قرأها نظراً، أو رجل مريض مصاب بالسرطان، فقرأ في كتاب كيف يعالج السرطان بالحبة السوداء؟ ثم أطبق الكتاب وقال: الحمد لله الذي شفاني يوم قرأت هذا الكتاب.
السلف عاشوا (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في الحياة.
سعيد بن جبير يدخل على الحجاج، فيقول الحجاج: والله لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى، قال: لو أعلم أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهاً.
ودخل أبو نصر التمار على المأمون، قال المأمون: والله، لأذبحنك، وأبو نصر التمار من أئمة أهل السنة، يقول إن القرآن غير مخلوق، والبدعي الضال المأمون يقول: إن القرآن مخلوق، فيقول له: قل: القرآن مخلوق، وإلا ذبحتُك، قال: تذبحني؟! قال: نعم.
فأخذ زرارة من قميصه في يوم شاتٍ وقطعه ثم رمى به على وجه المأمون، وقال: والله، لرأسي في الحق أخف من هذا الزرار.
ومَرَّ بي شاعر نبطي موحد، واسمحوا لي، ولو جعلتها استطراداً أو بين قوسين، ولو أنني لا أحبذ الشعر النبطي ولا أشجعه، لكني عجبت من هذا الصنديد النبطي الموحد، فبعض النبط موحد، وبعضهم ملحد.
بعضهم يتغنى بجنات عرضها السماوات والأرض، ويناجي ربه، ويقول قبل المعركة:
هبت هبوب الجنة وين أنت يا باغيها؟
وبعضهم يتغنى بالخدود والقدود والرموش والخمر والسهر والضياع.
قلتُ: إن شرك الخوف دبَّ في أعراق وأعماق كثير من الناس، فلم يريدوا أن يتخلصوا من شرك الخوف، لا أن يوحدوا الخوف لله عز وجل، فلا يُخف إلا من الله، ولا يُرجى إلا الله، والرسول عليه الصلاة والسلام يقرر هذا لـ ابن عباس، يقول -فيما صح عنه-: {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشي قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفت الصحف}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك}.
والله يقول عن الناس ليقرر لهم: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [آل عمران:145].
هل سمعتم أن نفساً ماتت قبل حينها؟
نشرت جريد الندوة قبل شهر قصيدة بديوي الوقداني، أحد الموحدين الشعراء النبطيين، في قصيدة طويلة، منها ثلاثة أبيات أعجبتني، فيقول:
إن المنايا إذا مدت مخالبها تدركك ولو كنت في جو السما العالي
يقول: أن الموت إذا كُتب عليك، ولو طلعت إلى السماء فسوف يلحقك، فيقول: لا تخف من الموت، الذي يموت في المعركة، مثل الذي يموت في غرفة النوم، والذي يموت تحت الدبابة في سبيل الله مثل الذي يموت تخمة من الكبسة، سواء.
إن المنايا إذا مدت مخالبها تدرك ولو كنت في جو السماء العالي
اضرب نحور الفيافي مع تراقيها واغرب عن الهم تمسي خالي البال
دوس المخاطر ولا تخش عواقبها الموت واحد ولا عند القدر جالي
وهذه الأبيات من عقيدة أهل السنة والجماعة.
وقد قلتُ لبعض الطلاب: أضيفوها في آخر الطحاوية، خاصة البيت الأخير منها في قوله:
دوس المخاطر ولا تخش عواقبها الموت واحد ولا عند القدر جالي
يقول: ماذا تخشى؟ أنتَ ميتٌ ميت، انصر دين محمد صلى الله عليه وسلم، لا تخف إلا من الله، ما دام أن دين محمد صلى الله عليه وسلم ينتصر بهذه الطريقة فانصره، فإنك إن لم تُقْتَل مُتَّ.
يقول الحجاج الطاغية لعجوز ذبح ابنها في أول النهار، وأتى به بعد صلاة الظهر، فدخلت تتوكأ على عصا، قال: هِيْه! يهنأك ابنك الفاجر، ذبحتُه قبل صلاة الظهر، قالت: لو لم تذبحه لمات.
لله درها، تقول: لو لم تذبحه لمات، نعم، هو كذلك.
يقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [آل عمران:145].
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهو يعلن لأوليائه، حَمَلَة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أن عليهم ألا يخافوا إلا منه، يقول: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52].
فيقول النبطي:
دُسِ المخاطرَ ولا تخشَ، ولا تكن جباناً هياباً خائفاً، وكن أشجع من البعثيين، وأشجع من الماركسيين، فهؤلاء البعثيون أقاموا أنظمة في العالم العربي على أكتافهم، ذبَّحوا الشعوب، والواحد منهم يقدم نفسه في متفجرات ويفجر الدبابة وهو بعثي، وتجد شباب محمد - صلى الله عليه وسلم - الواحد منهم يطير من خياله ويُغْمَى عليه إذا دعي للجهاد.
وشرك الخوف ينقض التوحيد، مثل النجاسة التي تنقض الوضوء، فما فائدة أن تحفظ متناً وتحفظ القرآن وأنت تخاف من غير الله أخوف من الله؟!
وشاعر آخر نبطي موحد يقول:
أنا يا كَرى مِثْلَكْ يِحِبِّ العُلا شَجْعانْ يِراهِنْ بْرَاسِهْ ما يْخَافِ الشماليةْ
والشمالية عند الشعراء النبطيين: السجن، فيسمون السجن الشمالية رمزاً.
فيقول: أنا لا أخاف من السجن، فهو ينظر إلى طائر وهو مسجون في قفص، فيلتفت إلى شجرة من النافذة، وإذا الكرى يغني صباحاً، والكرى: طائر مثل الحمام.
فيقول: غنِّ أو لا تغنِّ، حتى أنا في السجن أغني؛ لأني لا أخاف إلا من الله عز وجل.
أنا يا كَرى مِثْلَكْ يِحِبِّ العُلا شَجْعانْ يِراهِنْ بْرَاسِهْ ما يْخَافِ الشماليةْ
أنا بِعْتْ رُوحي من محمَّدْ وَلَدْ عدنانْ قَبَضْتِ الثمنْ، واللهْ يِشْهَدْ على النيَّةْ
يقول: أنا يا طائر بعتُ رأسى، والذى اشترى: الله، والثمن: الرأس، والسلعة: الجنة.
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] هذا من معالم (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وهي أن لا تكون مشركاً في خوفك.
4/ وحدانية الطاعة:
فلا تكن مشركاًَ في طاعتك، بأن توجه بعض طاعتك إلى الناس، وبعضها إلى الله، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].(31/17)
الصمدانية في حياة المسلم
درس الصمدانية يدرسه أولياء الله في بيوت الله، في مثل هذه المجالس، وهي حاجة القلوب إلى بارئها، فلا يهدي القلوب إلا الله، ولا يردها إليه إلا الله, ولا يشرحها إلا هو، والقلوب تفيض إليه بالشكاوى، فيردها سُبحَانَهُ وَتَعَالى سليمة قوية ثابتة بحكمته، قال تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:18].(31/18)
الرزق في حياة المسلم
فلا يرزق إلا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فإذا فتح الله أبوابه فلا رادَّ لما فتح، وإذا أغلق فلا فاتح لما أغلق.(31/19)
تفريج الهموم في حياة المسلم
فإذا أتتك هموم، فأفضها على الله.
يقول عبد القادر الجيلاني: إذا اشتد بي الهم، وضعت خدي على التراب وقلتُ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] فيفرج الله الهم.
الله أكبر! كل هم ينجلي عن قلب كل مكبر ومهللِ(31/20)
الهداية في حياة المسلم
فلا يهدي إلا الله، وحاجة القلوب إلى هدايتها من ربها أحوج من حاجة البطون إلى الطعام، وإلاَّ فالناس الآن كدُّهم من أجل حاجة البطون، أما حاجة القلوب فقليل، حتى أنك تجد أحدهم إذا عرض له عارض بأن يحضر الدرس أو المحاضرة فبها ونعمت، وإن أتاه ضيف ترك؛ لكنه من الصباح إلى الثانية والنصف ظهراً وهو يطلب هذه اللقمة، ويَكُد، ويُضارِب في السوق، ويُسْجَن ويُحْبَس، ويَخْرُج، ويراجع، وينزل، ويطلع من أجل هذا البطن، ثم يموت.(31/21)
معالم الشجاعة في سورة الإخلاص
فإن من مقاصد القرآن أن يربي العباد على عبادة الله وحده، لا عبادة العبيد.
فما الفائدة أن تقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وأنت عبد لغير الله.
فبعض الناس عبدٌ لوظيفته، وبعضهم عبدٌ لسيارته، وبعضهم عبدٌ لملبسه، قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {تَعِسَ عبد الدرهم، تَعِسَ عبد الدينار، تَعِسَ عبد الخميصة، تَعِسَ عبد الخميلة، تَعِسَ وانْتَكَس، وإذا شِيْكَ فلا انْتَقَشَ}.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يريد هؤلاء، فالجبناء لا يربيهم، إنما يربي صلى الله عليه وسلم مثل: مصعب بن عمير، الذي قُطِّعَ في أحد، مثل: عمير بن الحمام، الذي كسر غمد سيفه على ركبته في بدر، وقال: [[بَخٍ بَخٍ -والذي نفسي بيده- إنها لحياة طويلة إذا بقيت إلى أن آكل هذه التمرات، فقاتل حتى قتل]].
ومثل أنس بن النضر، الذي ضرب ثمانين ضربة، فطارت روحه إلى جنة عرضها السماوات والأرض، {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].(31/22)
التعريف بالواحد الأحد
فالله يعرف بنفسه في القرآن، ولا يعرف بالله - عز وجل - أحدٌ كتعريفه بنفسه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فإن الله لما التقى بموسى في المكالمة، قال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14].
وعرف نفسه للناس، فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
ليس تعريف المناطقة أو علماء الكلام الجبناء الذين يقولون: إن الله لا داخل العالم ولا خارج العالم، لا متصلاً ولا منفصلاً، لا جوهراً ولا عَرَضاً.
بخلاف أهل السنة الذين إذا سُئلوا عن التعريف قالوا: {اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [طه:98] وإذا سُئلوا قالوا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].(31/23)
لوازم سورة الإخلاص
هل نقرؤها ونحفظها فقط؟ لماذا لا نعلمها الناسَ ولا نرسلها في القرى والبوادي، ولا نجلس بها في بيوتنا؟ لماذا لا نحررهم من عبودية غير الله عز وجل إلى عبودية الله؟ ولا نعلمهم التوحيد؟
وأقول لكم: ليس عندنا عبودية أصنام، ولا أوثان، لكن عندنا عبودية الخوف من غير الله أعظم من خوفنا من الله.
ووالله إن من المصلين الصائمين من يخاف من غير الله أخوف من خوفه من الله أضعافاً مضاعفة، كيف يقول: سمع الله لمن حمده؟! كيف يقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]؟ كيف يلقى الله يوم العرض الأكبر؟! يقول أعز من قائل: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:175] لا تخافوهم وخافونِ؛ لابد أن نواصي الناس بهذا الأمر، لا يتقدم أحدٌ خطوة، ولا يكتب حرفاً، ولا ينفذ أمراً إلا بيد الواحد الأحد قال تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21].
هذه قضية كبرى من قضايا هذه السورة، أردتها لأمور، منها:
أولاً: أننا نريد أن نرتبط بالقرآن، وسوف نحرص -بإذن الله- على أن تكون الدروس والمحاضرات مرتبطة بالقرآن وبواقع الناس.
ثانياً: أن هذا الوقت وقت اصطياف، وقد وفد إلينا كثير من أهل الخير وأهل الفضل والدعوة، ونريد أن نتذاكر نحن وإياهم واجبنا نحو الدعوة، ونحو البذل والعطاء لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ونحو التضحية بالقول الجميل وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونفي الشرك من القلوب، وإزالته من البيوت.
ثالثاً: أن الأمة طالما عاشت خواء عقدياً، لا يعلمه إلا الله، فهي تتعلق بغير الله، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41] فنعوذ بالله من التعلق بغيره.
ونسأل الله ألا يجعل لنا حاجة إلى غيره، وأن يعلق قلوبنا به، وأن يقطع ما بيننا وبين الناس إلا بسبب يقربنا منه سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
اللهم إن الناس تعلقوا بأسباب وبأنساب وحبال، اللهم لا أسباب عندنا ولا أنساب ولا حبال إلا ما أمدنا بك.
اللهم فاجعل نسبنا وسببنا وحبالنا متعلقة بك.
اللهم إن الناس استعز بعضهم ببعض، ولا عزة لنا ولا قوة ولا عشيرة ولا كياناً يحمينا إلا أنت.
اللهم فدافع عنا، فإنك قلتَ: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38].
اللهم واحفظنا، فإنك قلتَ: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
اللهم من أراد بنا وبالمسلمين وبالعلماء والدعاة وأهل الخير مكراً فأشغله بنفسه، وخذه أخذ عزيز مقتدر، واقتله بسيفه، ودمره تدميراًَ، واجعله يا رب العالمين أُلْعُوبة، وأُعْجُوبة، وعظة وعبرة لمن سواه.(31/24)
الأسئلة(31/25)
دروس للوافدين في العطلة
السؤال
هل في الصيف دروس للمصطافين؟
الجواب
الذي أعرفه: أنه - بالنسبة للدروس عندنا في المسجد - كل يوم بعد الفجر هناك دروس خاصة لطلبة العلم، ومن يريد الحضور، وكل يوم بعد صلاة المغرب، إلا يوم السبت، فإنه درس عام، وهو هذا اليوم؛ ولكن أعتذر غداً، فإن عندي سفر، والعودة -إن شاء الله- صباح الخميس، حيث يكون هنا درس - بإذن الله - ثم تستمر الدروس بعدها.
ووصيتي لإخواني، خاصة الوافدين من مناطق أبها: أن ينفعوا المنطقة بالكلمات الطيبة أدبار الصلوات، وأن ينتشروا في المساجد، وأن يعظوا الناس، ولا يطيلوا عليهم، إنما يشرحوا لهم القضايا الإيمانية، وقضايا الفقه، وما ينفعهم ويفيدهم في أمور دينهم ودنياهم؛ فإن لهم الذكر الجميل والثواب الجزيل عند الواحد الأحد.
{لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} ولا نريد من المسلم أن يكون سلبياً، بأن يأتي يصيف مع أهله، فيبقى في فيلا، أو في فندق، ويذهب إلى المنتزهات، لأننا أصلاً ليست حياتنا لهواً ولعباً، وليست حياتنا حياة طفولية، لماذا المنتزه والنظر إلى الماء والرابية والزهر؟ نحن لا نأخذ هذه الساعة إلا لنستعين بها على ساعة الجد، أما قضية أننا مضَّينا العطلة الصيفية، ورأينا المنتزهات، وذهبنا إلى الحدائق الغَنَّاء، وعدنا فلا ينبغي هذا، نعم، هذه تستعين بها على طاعة الله؛ لكن لا بد أن تكون إيجابياً في عطلتك الصيفية، وفي نزهتك، وأن تقدم شيئاً لأبناء هذه المنطقة، الذين يرحبون بكلمة الحق من أهل الحق، وبكلمة الخير من أهل الخير.(31/26)
الموضوعات التي يفضل أن يطرقها الداعية
السؤال
نلمح تقصيراً في بعض المنتزهات في صلاة الجماعة؟
الجواب
هذه من القضايا التي يطرقها المسلم الداعية، تطرق في المنتزهات هذه الموضوعات:
الموضوع الأول: شرح التوحيد للناس.
الموضوع الثاني: التحذير من الشرك والبدع والخرافات.
الموضوع الثالث: التنبيه على صلاة الجماعة.
الموضوع الرابع: الغناء، وخطره.
الموضوع الخامس: الربا.
الموضوع السادس: حفظ الوقت.
الموضوع السابع: حسن الخاتمة، لقاء الله عز وجل.
الموضوع الثامن: تجديد التوبة.
هذه الموضوعات الثمان هي مدار بحث الدعاة التي يجب أن يتعرضوا لها باستفاضة كثيرة.(31/27)
نصيحة لمن وقع في الخوف المحرم
السؤال
ماذا أفعل وقد أصابني الله بالخوف؟
الجواب
يظهر من كلام السائل: أنه أصابه الله بالخوف من غيره.
فالخوف نوعان:
الأول: خوف طبيعي:-
لا يسلم منه أحد، مثل خوف الإنسان من الأسد؛ فإنَّ من جِبِلَّة الإنسان أنه يخاف من الأسد؛ إلا بعض الصالحين الكبار، مثل: صلة بن أشيم لم يخف من الأسد، بل الأسد خاف منه، ومثل: عقبة بن نافع، فإنه تكلم للوحوش ففرت منه، ودخلت جحورها، ومر بالجيش.
وأما جِبِلَّة الناس وغالبيتهم فإنهم يخافون من الأسد.
فهذا الخوف طبيعي لا يجب أن تتخلص منه؛ لأنه جِبِلِّي.
الثاني: خوف مصطنع:
لكن الخوف الذي سيطر على الناس حتى عطلهم عن معتقداتهم وعباداتهم، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن ممارساتهم لحقوقهم، وإصلاح مجتمعهم وإصلاح أنفسهم، حتى أصبح الواحد منهم يُمِيْتك وأنت حي، فيدخل عليك، فإذا جلس معك أذاب قلبك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ويُوصف لك أن غير الله يحمل الضر والنفع، والإحياء والإماتة، والتقديم والتأخير، فإنه يجرد الله عز وجل من الألوهية، إذاً: ما هو حظ الألوهية في قلبه؟! إذاً: ما معنى لا إله إلا الله، محمد رسول الله؟ إذاً: ما معنى الصلاة؟!
بعض الناس الآن يريد أن يعيش سلبياً، فيقول: أنا مؤمن، لكن خليني في حالي وشأني، أنا من بيتي إلى المسجد، أما أن تدخلني في قضية فأرجوك اتركونا، منكرات ما منكرات، فواحش ما فواحش، أمر ما أمر، منكر ما منكر، هذه كلها أرجوك لا تدخلني فيها، الله يرضى عليك، لكن هذا الضعيف الجبان، تعالَ إليه وخذ متراً من أرضه، فسيأتيك بالفأس ويفلق رأسك.
ففي أمور الدنيا شجعان إلى أقصى درجة الشجاعة، أما أمور الدين فمنهارون إلى آخر درجة الانهيار، وإلاَّ فأهل بدر وأحد وجيل محمد صلى الله عليه وسلم أهل المبادئ هم يحملون ذلك.
إن الإنسان ليخجل.
عندي مذكرة أتى بها بعض الشباب الجيش الذين دخلوا الكويت، مذكرة عن الجيش العراقي البعثي المجرم، كتابه يُقرأ في الصباح حصة وفي المساء حصة، مكتوب على الغلاف: أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة، وتدخل إلى الداخل وإذا هو يعلمك الشجاعة حتى يفور دمك، ولذلك فهم شجعان هؤلاء الأخباث، قدموا أرواحهم كثيراً؛ لكن في الرخص، وإلى النار والعياذ بالله.
ثم تجد الماركسيين الذين أخذوا بعض الأنظمة الفاسدة يحملون هذه المبادئ، كذلك العلمانيين، والشيوعيين واليهود، وتجد المسلم لا يريد أن يقول كلمة، ولا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، خوفاً على بطنه وعلى سيارته، وسوف يلقى الله يوم القيامة ويسأله عن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1].
أيبعثنا محمد صلى الله عليه وسلم جبناء؟! نحن أبناء أحد وبدر يخرجنا للناس جبناء؟!
أنا ابن أنصارك الغر الأُلى سحقوا جيش الطغاة بجيش منك جرار
يخرجنا محمد صلى الله عليه وسلم جبناء؟! أما كان ربعي بن عامر من تلاميذه -عليه الصلاة والسلام- يوم يقول لـ رستم: [[إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].(31/28)
النهي عن تخطي الصفوف في المسجد
هناك ملاحظات أيها الإخوة، قد تكررت كثيراً، منها:
الأولى: تخطي الصفوف:-
الرجاء عدم تخطي الصفوف في خطبة الجمعة أو أثناء الدرس؛ لأن هذا مخالف للشريعة، ومخالف للأدب في الإسلام، ولاحترام الناس كمسلمين، أمامك أناس محترمون، وأنا أجزم جزماً وأقولها في كل مناسبة: أن صفوة البلد هم الذين أمامي هنا، ما تجد صفوة البلد، ولا أخيار الناس إلا الذين يأتون إلى هذه المجالس الإيمانية، والله يرعاهم ويحفظهم بعين رعايته، ويقول لهم في آخر الجلسة: انصرفوا مغفوراً لكم، قد رضيتُ عنكم وأرضيتموني.
فاحترام مشاعر هؤلاء يهمنا كثيراً، وقلبي يُفَجَّع إذا رأيتُ الإنسان يتخطى الرقاب، ويأتي في الصف، وتجده يزحم الناس برجله في رءوسهم وفي أكتافهم، أي أدب هذا؟! وأي نظام؟! وأي احترام للمشاعر؟! الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى أن يشير بالسكين إلى أخيه ولو مازحاً، ولا يبصق أمامه، ولا يمد رجله أمام المسلم، فالمسلم له كرامة واحترام وقدسية.
الثانية: وضع الأحذية في المسجد الخارجي خصوصاً والناس يصلون فيه، فلا ينبغي ذلك.
الثالثة: مزاحمة النساء عند الخروج فللنساء باب خاص، ولكم باب.
الرابعة: تلقي الركبان، وبيع الحاضر إلى البادِ فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان، وعن بيع الحاضر إلى الباد.(31/29)
حكم إسبال الثياب وحلق اللحى
السؤال
إسبال الثياب، وحلق الدقون، الدخان، الغناء، أرجو التعليق على هذا.
الجواب
يا أخي، هذه مفهومة عند الناس، لا أعرف أحداً جالساً الآن إلا وهو يعرف أن حلق اللحية حرام.
من الذي يقول: إن حلق اللحية حلال؟! حتى الذي يحلق لحيته.
من الذي يقول: إن الدخان حلال؟!
من الذي يقول: إن الإسبال حلال؟!
من الذي يقول: إن الغناء حلال؟!
لكن أردتُ أن أتحدث الليلة عن شرك الخوف، فهو شرك يخرج من الملة، أما مثل حلق اللحية فما تُخْرِج من الملة؛ لكن يُفَسَّق بها، وأجمع أهل العلم على تحريم حلقها، ولها موضوع خاص، لكني هنا أتكلم في الأسس والقواعد الكلية للدين؛ لأن شرك الخوف يكون في الإنسان وهو لا يشعر، حتى إنك تجد الإنسان يربي لحيته ويقصر ثوبه وعنده شرك الخوف، أي: ينقض لا إله إلا الله؛ لأن من نواقض التوحيد: شرك الخوف، وهو: أن يخاف من غير الله أخوف من الله.(31/30)
كيفية الاستفادة من العطلة الصيفية
السؤال
ماذا نفعل في العطلة الصيفية؟
الجواب
تجعلها جزءاً من حياتك، وأنت مسئول عنها يوم القيامة، وتنظم لنفسك برنامجاً في أول هذه العطلة، وتجعل لنفسك خطة لا بد أن تنهيها، ولا بد أن تنفذها قبل أن تنتهي العطلة الصيفية.
مثلاً: أنا أقترح اقتراحاً وكثير ممن يسأل هذه الأسئلة، من أهل المتوسط، ويدخل فيهم الابتدائي، والثانوي، والجامعة، ومن يأتي من المثقفين والإخوة من كافة الأعمال والوظائف والمؤسسات والإدارات والشركات والمصانع، كلهم على هذه المستويات الثلاث.
فأنا أقترح -مثلاً- في العطلة الصيفية -وهي شهران أو أكثر أو أقل- لأهل المتوسط ومنهم الابتدائي: أن يقرءوا فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ويقسمون الكتاب على هذه العطلة بفهم ومساءلة ومناقشة، مع حفظ جزئين من القرآن.
وأقترح على أهل الثانوي: أن يقرءوا في العطلة: كتاب (معارج القبول) للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي، أن يقرءوه بتمهل، طيلة العطلة، مع حفظ ثلاثة أجزاء من القرآن الكريم.
وأقترح على أهل الجامعة، ومن في منزلتهم: قراءة: (شرح الطحاوية) وهو معتقد أهل السنة والجماعة، في هذه العطلة، بفهم وتدبر ومناقشة، مع حفظ أربعة أجزاء من القرآن.
ثم وزع هذه طيلة الأيام، خذ العطلة من أولها إلى آخرها، وقسمها أياماً، وقسم الكتاب والأجزاء عليها، واجعل لك حصة يومية، ثم شارك في المخيمات والمراكز الصيفية، واحضر الدروس؛ لكن هذا برنامج ثانوي بالنسبة لك، يسمى: رأس مال، وأما المكسب: فهو ما يأتي من الدروس والحلقات والمحاضرات.
لا نشكو من قلة الوقت، اسمحوا لي أن أقول: إنا لا زلنا بدائيين في مسألة النظام، غلبنا الكافر بتنظيم الحياة، الأمم الأخرى أمم مبرمجة، تعمل ببرنامج، وتنتج ببرنامج، وتدرس ببرنامج.
وأنا أسألكم بالله: أما تلاحظون -مثلاً- الأوربيين والأمريكان في قاعات المطارات، وفي صالات الانتظار، وفي الطائرات، وفي الناقلات، وفي الحافلات، أما تجدون الواحد منهم إذا ركب يخرج كتاباً ويقرأ؟ هذا أمر ظاهر، أصبح ظاهرة مستقرة؛ لكن نحن العرب لا تجد منا من يقرأ، الواحد منا وهو راكب يعدِّد السيارات، الرائحة والآتية، وإذا جلس في المطار ينظر إلى الحقائب التي تدخل بالسلم في الكمبيوتر، فيلمحُها ويوصِّلُها ويأخذ الثانية ويوصِّلُها، والثالثة ويوصِّلُها، حتى أنه لا يصعد الطائرة إلا ورقبته قد أصبحت كأنها ليست منه، وتجد الواحد إذا جلس على الرصيف يعدد الناس، يتعرَّف على النازل والطالع، والخارج والداخل، والإشارات متى تُنَوِّر ومتى تنطفئ، لسنا أمة قارئة، ولا أمة منتجة، لا نقدم للعالم شيئاً، نشكو حالنا إلى الله، وإذا قرأ الكثير منا، فـ (99.
9%) يقرءون جرائد أو مجلات، وقراءتها جائزة، وهي لا تنقض الوضوء! لكن تقرأ بقدر الحاجة، لكن أين من يقرأ القرآن، وكتب أهل العلم؟
هذا الذي نريد أن نقوله لكم.
وفي ختام هذه المحاضرة أشكركم شكراً جزيلاً.
وأسأل الله عز وجل لنا ولكم التوفيق والهداية، وأن يجمعنا بكم في دار الكرامة.
وصلَّى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.(31/31)
التحدي بالمعجزة
مهد الشيخ لموضوع الإعجاز والتحدي بذكر أماكن الخير ومن يشهدها، وذكر لنا مثالين من حياة سلفنا الصالح، ثم شرع بالحديث عن سورة البقرة وآية التحدي للكفار فيها، مبيناً أن رحمة الله هي التي تنال بها الجنة مع ذكر مثال من تاريخ بني إسرائيل على ذلك.
وبعد ذلك بين تدرج القرآن في تحدي معارضيه، وذكر أمثلة ممن حاولوا معارضة القرآن فانتقم الله منهم، وذكر أن القرآن معجز بجملته، واقتبس عبارات مناسبة للموضوع من كلام سيد قطب رحمه الله.
ثم ذكر كلاماً مطولاً عن أهل الجنة ووصف حالهم ونعيمهم، وتطرق في ثنايا الكلام لذكر مزالق أهل الأدب، والكلام عن التقوى ومعانيها في القرآن.(32/1)
مقدمة عن أماكن الخير وأماكن الشر
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً، وتَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
من الوجوه وجوه لا تُرى إلا في الخير، لا تُرى إلا في الصلاة، وفي مجامع الخير، وفي دروس الهدى، وفي حلقات الذكر، وهذه وجوه الذين آمنوا بالله واليوم الآخر، وجوه الذين قال الله فيهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].
ومن الوجوه وجوه لا تُرى إلا في الشر، ولا تُرى إلا في مجامع الفساد، وفي الساعات الحمراء من ساعات البغي والفجور: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [العنكبوت:23].
عمر رضي الله عنه وأرضاه نزل إلى السوق، فرأى سارقاً سرق، ورأى جمعاً من الناس يطاردونه، قال: [[مالكم! ستره الله وتفضحونه، قبح الله تلك الوجوه التي لا ترى إلا في الشر]].
وأبو هريرة دخل إلى المسجد فرأى حلقاً من الناس يتحدثون بالآيات والأحاديث، فأتى إلى تجار الدنيا وهم يبيعون الطعام والحب والزبيب والتمر في السوق، فقال: أتريدون ميراث الرسول عليه الصلاة والسلام؟!
قالوا: نعم.
قال: فإنه يوزع الآن في المسجد، فتركوا تجارتهم وتسابقوا إلى أبواب مسجده صلى الله عليه وسلم، فما رأوا حباً ولا تمراً، ولا زبيباً ولا دقيقاً، وإنما رأوا قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، ورأوا حلقاً للذكر، ووجوهاً ناصعةً مؤمنة، وسجدات تلوح على الجباه، وقلوباً تتحرك بلا إله إلا الله:-
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسرى بها الساري
قال التجار: يا أبا هريرة! أين الميراث؟
قال: ماذا وجدتم؟
قالوا: وجدنا حلق الذكر تفسيراً وحديثاً، قال: [[فهذا والذي نفس أبي هريرة بيده! ميراثه صلى الله عليه وسلم، ما ترك درهماً ولا ديناراً، ولا داراً ولا عقاراً، وإنما ترك العلم فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر]].
كفاك عن كل قصر شاهق عمد بيت من الطين أو كهفٌ من العلم
تبني الفضائل أبراجاً مشيدة نصب الخيام التي من أروع الخيم(32/2)
فضل سورة البقرة
والسورة التي نحن بصددها هي سورة البقرة، وهي عظيمة جد عظيمة، ومذهلة جد مذهلة، أما عظمتها فلأنها أكبر سورة في القرآن، وهي سرادق القرآن، ثم تأتي كذلك من أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {إن بيتاً تقرأ فيه سورة البقرة لا يقربه شيطان} ثم إنها حفلت بالأحكام، فقد تكلمت عن المؤمنين، ثم تكلمت عن الكافرين، ثم تكلمت عن المنافقين، ثم دعت الناس لتوحيد رب العالمين أجمعين، ثم نزلت نزلات استطلاعية -كما يقول سيد قطب - ونزلات نسفٍ وإبادةٍ على بني إسرائيل، فلما انتهى الله من بني إسرائيل أتى بالأحكام، ما بين نكاح وطلاق وقصاص، وما بين صيام وحج، ثم ختمها بالنفقة، وفي غضونها أعاجيب وقصص لبني إسرائيل، فسبحان الله كم حوت من حكم!
عرض له صلى الله عليه وسلم شباب يريدون الغزوة، فقال: {أيكم أكثر أخذاً للقرآن؟ فقال شابٌ: أنا يا رسول الله! أحفظ سورة البقرة.
قال: أتحفظها؟ قال: نعم.
قال: فاذهب فأنت أميرهم}.
فالإمرة بمثل هذا والتصدر والتقدم في الدنيا والآخرة بمثل هذا أيضاً، ولذلك يقول عمر رضي الله عنه -كما في صحيح مسلم -: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين}.
ومع السياق، ومع النور، ومع الروعة والجمال:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:23 - 24] هاتان الآيتان جاءتا بعد أن نادى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الناس جميعاً لعبادته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] ثم ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالى نِعَمَهُ، وما أودعه في الأرض من ثمراتٍ وخيرات، فقد غمرك بالنعم من مشاش رأسك إلى أخمص قدميك.
فأنت تتقلب في نعمة الله، وتمشي في ستره، وتشرب ماء الله، وتأكل رزقه، فأين تذهب من نعم الله؟!
ولذلك قالوا لبعض أهل العلم: كيف نتفكر في النعم؟ قال: تفكروا في الطعام كيف تأكلونه وكيف تخرجونه؟!
وقد قال ابن السماك لـ هارون الرشيد: يا هارون! أسألك بالله لو منعت شربة، أتفتديها بنصف ملكك؟
قال: إي والله، فلما شرب، قال: يا هارون! أسألك بالله لو منعت إخراجها أتفتدي إخراج الشربة هذه من جسمك بنصف ملكك؟
قال: إي والله، قال: ملك لا يساوي شربة ليس بملك.(32/3)
برحمة الله تنال الجنة
وذكر أهل السنن والتواريخ أن من عباد بني إسرائيل، وبنو إسرائيل فيهم عجب عجاب، سوف يذكر الله لنا من أعاجيبهم أموراً تذهل وتشيب الرأس، ويقول عليه الصلاة والسلام: {حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج} فهذا عابد من بني إسرائيل جلس في جزيرة، ليس عنده جليس يؤذيه، ولا امرأة تقليه، ولا عنده جارٌ يؤذيه ويشتمه ويسبه، إنما كان عابداً لله صباح مساء، عنده رمانة يأكل منها، وعنده عين ثجاجة باردة يشرب منها، فلما عبد الله خمسمائة سنة توفاه الله الذي يتوفى الأنفس، فحاسبه ربه، قال: يا عبدي! أتريد الجنة بعملك أم تريد الجنة برحمتي؟ والله أرحم الراحمين.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته} وفي لفظ مسلم: {قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته} فيا من ظن أنه أكثر من الصلاة، كأنك ما صليت، ويا من ظن أنه أكثر من الصيام والجهاد والصدقة والبر والإحسان، كأنك ما تصدقت ولا وصلت ولا بررت ولا فعلت شيئاً، غمرتك نعم الله، فعملك كأنه ذرة في بحر.
إذاً فهو هباء منثور.
فحاسبه الله، ولكن هذا العبد اغتر بعمله، صلاته خمسمائة سنة، وصيامه خمسمائة سنة، وذكره خمسمائة سنه، قال: بل أدخل الجنة بعملي.
ولذلك فإن لـ ابن القيم وقفة عجيبة عملاقة على عادته، وعلى تيقظه وذكائه، يقول: يقول الله عز وجل: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله} فكيف نجمع بين الآية والحديث؟ الله يقول: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] بصلاتكم، بصيامكم، بجهادكم، بحجكم، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام ينفي، ويقول: لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله إلا برحمة الواحد الأحد، قال ابن القيم: ويجمع بينهما بأحد جمعين: أحدهما: أن نزول المنازل داخل الجنة وارتفاع الدرجات يكون بأعمالنا، وأما الدخول الأولي فبرحمة الله.
إذاً فالدخول لا يحصل لك إلا برحمة أرحم الراحمين، وإن لم تدركك رحمته فقد تقطعت بك الحبال، وانتهت بك الأسباب، وتدهدهت عليك الجبال، وضاعت عليك الحيل.
فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
ولذلك ذكر ابن تيمية وغيره المكفرات العشر منها: الحسنات الماحية -أي الأعمال الصالحة- والمصائب المكفرة، ودعوات المؤمنين، وما يجده الإنسان في سكرات الموت، وما تجده في القبر، وما تجده يوم العرض الأكبر، وما تجده عند الصراط والميزان والحوض، وشفاعة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وشفاعة الأخيار من الأولياء، ثم تأتي العاشرة: رحمة أرحم الراحمين، قال: فإن لم تدركك رحمة أرحم الراحمين، فقد شردت على ربك، كما يشرد البعير الشارد على أهله، فمن يرحمك إذا لم يرحمك الله؟!
فـ ابن القيم يرتضي هذا الجمع، قال: الدخول: برحمة الواحد الأحد، ونزول المنازل: بالأعمال، ولذلك بعض الناس يرى في الجنة كالكوكب الدري، وبعضهم في الدرجة الثانية: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران:163].
فأما أبو بكر فلا تسل عن درجته، فهو في قصر كالربابة البيضاء يراه من دخل الجنة، فهو في المنزلة الأولى من الصالحين بعد الأنبياء والرسل، ثم يتلوه عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم يأتي الناس على حسب منازلهم، والمحروم من حرم دخول الجنة: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
وبعض الناس يجمع بجمع آخر، فيقول: عمله من رحمة الله، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {لن يدخل أحد منكم الجنة إلا برحمة الله} يقول: عمل الناس من رحمته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فيرحمهم فيعملون صالحاً، ثم ينزلون منازلهم ويدخلون الجنة بعملهم، هذا جمع آخر.(32/4)
تفسير قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا)
قال الله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23] يا أيها الناس! يا عباقرة الدنيا! يا أذكياء المعمورة! يا من ظن نفسه فصيحاً! أو بليغاً، أو شاعراً مجيداً، أو صحفياً، أو قصصياً! تعالوا إلى القرآن، هذا إعلان التحدي، وهو إعلان لم يواجه ولم يجابه منذ خمسة عشر قرناً، ومن في رأسه شيء فليأت، ومن في رأسه حب لم يطحنه اليقين، ولا التوحيد والعقيدة الصحيحة، فليقاوم ولو بآية أو بسورة {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} [البقرة:23] أي: في شك، وقد سبق في أول السورة أن قلنا إن الريب يطلق على الشك، وعلى التهمة، أما الشك فهو الارتياب في القلب، يقول الله: {َإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} [البقرة:23] أي: من صدق هذا القرآن، أما صدقتم؟!
أما تعلمون أنه حق؟!
أما تدرون أنه صدق كالفجر؟!
إن كنتم شاكين، فائتوا بسورة من مثله، وقيل: إن كنتم في اتهام لهذا القرآن، يقول جميل بثينة في إحلال التهمة محل الريبة:
تقول بثين يا جميل أربتني فقلت كلانا يا بثين مريب
تقول: اتهمتني، فيقول هو: وأنت متهمة، فكلنا متهمون، وهذا جميل أذكره، ومجنون ليلى وكثير عزة والشريف الرضي وأبا نواس، وأمثالهم من شعراء المرأة؛ للاستشهاد بشعرهم، وإلا فليست حياة المؤمن كحياة هؤلاء، حياة ستين سنة في حب امرأة، يحبها ويولول بصوتها، وبشعرها وأسنانها، إنها ليست بحياة حياة الذين لا يعقلون، ولا يعلمون، فليست الدنيا حياة مسرح وأغنية وفن، وقد قيل لأحدهم: كم عمرك في الفن؟
قال: أربعون سنة، بل أربعون صفراً، أربعون في ظلام، وأربعون وأنت ضائع، وأربعون وأنت ما رأيت النور أبداً، وميلادك إنما يكون يوم تتوب توبة نصوحاً.
قيل لأحد الصالحين وهو في الستين: كم عمرك؟ قال: سنتان، قالوا: سبحان الله! أنت في الستين، قال: ما تبت إلا قبل سنتين، أما ثمان وخمسون فكانت في ضياع، فميلادنا يبدأ من يوم نتوب توبة نصوحاً.
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
ولذلك كررت -وسوف أكرر- كلام ابن تيمية في مختصر الفتاوى، قال: "للإنسان ميلادان: الميلاد الأول: يوم أتت به أمه، والميلاد الثاني: يوم تاب إلى الله وأقبل عليه، فأما الميلاد الأول فالخلق كلهم مشتركون فيه، فالثور تَلدُهُ أُمه، والنعجة، والدجاجة، والحمامة، والإنسان، فالإنسان سواء هنا أو هناك؛ الخواجة، الأشقر، الأسود، الأحمر.
فهذا ميلاد.
لكن الميلاد الثاني لا يولده إلا المؤمن: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
عمر كم عمره؟ ثلاث وستون سنة، أسلم وهو شاب! لكنه ألغى عمره الأول، فكان ميلاده يوم قال: لا إله إلا الله.
سعد بن معاذ أسلم وعمره ثلاثون سنة، فشطب على الثلاثين، وألغاها من الحساب، وبقيت له سبع سنوات، وهي عند الله خيرٌ من سبعة قرون.
عمر بن عبد العزيز عاش أربعين سنة، أما ثلاثون شهراً فتولى أمر الأمة، وما قبلها لم يحتسب من عمره.
وقد قال أبو تمام في محمد بن حميد الطوسي وقد مات شهيداً:
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيتُ الكريمَ الحرَّ ليس له عمر
ولذلك بعض الناس يعيش في الإسلام سنة، وهي خيرٌ عند الله من ثلاثين قرناً، وبعضهم يعيش مائة سنة، وهي لا تساوي لحظة واحدة.
فما أطال النوم عمراً وما قصر في الأعمار طول السهر
(يا أيها الناس) قال أهل التفسير: الخطاب للناس عامة.
(مِمَّا نَزَّلْنَا) في القرآن تأتي أنزلنا، وتأتي نزلنا، وللسيوطي وأمثاله لطائف في هذا، يقول: إذا قال: (نزلنا) فهو على التفصيل، أي: (نزلناها) آية آية، سورة سورة، مقطعاً مقطعاً، وإذا قال: أنزلنا، فمعناها: أنزلنا القرآن مرة واحدة من السماء السابعة أو من اللوح المحفوظ -وهو الصحيح- إلى سماء الدنيا.
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] أي: جملة، من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، وإذا قال: نزلنا، فمعناه: آية آية، منجماً مقطعاً.(32/5)
معجزات الرسل من جنس ما أبدع فيه أقوامهم
{وَإِنْ كُنْتُمْ} يا أيها الناس! ويا أيها العرب العرباء!
فالله عز وجل يتحدى الناس والأجيال بما أجادوا فيه من العلم، كل علم يجيدون فيه أو فن يتحداهم به.
فموسى عليه السلام أتى إلى قوم معهم السحر، فقد بلغوا في السحر الذروة، فأعطاه الله العصا، فتلقفت ما صنعوا، وأخذت حتى عصيهم وحبالهم، فأكلتها جميعاً في بطنها، فتغلب عليهم.
وإبراهيم عليه السلام أتى إلى قوم بلغوا الذروة في علم الفلك والنجوم، فتحداهم بذلك، فأعجزهم وأربى عليهم.
وعيسى عليه السلام أتى إلى قوم أهل طب، وتخصص، فأعطاه الله إحياء الميت بإذنه، وإبراء الأكمه بإذنه فيبصر، وإبراء الأبرص بإذنه فيذهب مرضه.
ومحمد عليه الصلاة والسلام أتى إلى العرب العرباء، وهي أفصح أمه أخرجت للناس، العربي البدوي في خيمته تخرجه فيلقي خطبة طنانة رنانة، لا يلحن فيها، ولا يتلعثم، ولا يخطئ، ولا ينسى، فيأتي من عند شاته وناقته، فيلقي قصيدة تقارب مائتي بيت أو مائة بيت، كلها على نسج رفيع، وليس عنده قلم ولا ورقة، يحفظها في ذهنه كأنها قذائف، فأتى صلى الله عليه وسلم إلى مجتمع من أفصح المجتمعات، فأعطاه الله القرآن، فقال صلى الله عليه وسلم: تعالوا، هذا القرآن، وأنتم أفصح العرب وأفصح الناس، وأنتم أفصح أهل الدنيا، هذا هو القرآن فأين شعراؤكم؟
هذا هو القرآن فأين خطباؤكم؟
هذا هو القرآن فأين فصحاؤكم؟
ولذلك لم يسمع أنهم أرادوا أن يتحدوا القرآن، لكن بهتوا!!
يقول جبير بن مطعم بن عدي -أبوه المطعم بن عدي هو الذي أجار الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، وقد مات كافراً- حتى يقول عليه الصلاة والسلام في أسارى بدر: {والذي نفسي بيده! لو كان المطعم بن عدي حياً لتركت هؤلاء النتنى له} أي: عفوت عنهم، ابنه جبير هذا يقول: أقسمت باللات والعزى لا أسلم ولا أومن بمحمد أبداً، لكن القرآن -كما يقول سيد قطب وغيره- نفّاذ، فينفذ ويخترق الجدران.
فلذلك أقسم ألا يؤمن، ولا يسلم، ولا يشهد أن لا إله إلا الله!! والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة يصلي بالناس صلاة المغرب، فأتى بناقته، فسمع صوت الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان في صوته صحالة، وفيه قوة ونبرة تصل إلى القلوب مباشرة، يقرأ: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور:1 - 4] قال: [[فو الله لقد كاد قلبي أن يطير]].
الطفيل بن عمرو الدوسي الزهراني الذي أبو هريرة حسنة من حسناته، وتلميذ من مدرسته، سمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث، فارتحل بناقته من بلاد زهران، سبحانك يا رب! تأتي بـ سلمان من بلاد فارس، ومن كرمان، وتأتي بـ الطفيل من زهران، وتأتي بـ صهيب من بلاد الرومان، وتأتي بـ بلال من الحبشة السودان، ويسلمون ويؤمنون ويدخلون الجنة، وأبو لهب وأبو طالب عند الركن والحطيم يتردون في نار الجحيم.
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عالٍ من الأطم
فأتى الطفيل بن عمرو الدوسي وكان شاعراً مجيداً خطيباً يعرف الكلام، عاقلاً، داهية، فركبت ناقتي وسمعت بمبعث رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: فو الله ما إن نزلت مكة، إلا وتعلقت قريش بناقتي.
كلما أتى إنسان من خارج قريش تعلقوا بناقته، يقولون له: انتبه عندنا رجلٌ مجنون! معنا ساحر في هذا المكان! رجلٌ جالس في الحرم معتوه، يتكلم بلا عقل، فانتبه واحذر!!
قال: فوالله ما زالوا بي حتى أخذت القطن، فوضعته في أذني.
لكن القرآن أقوى من القطن، فهو يدخل ولو كان في الأذن قطن، فيصل إلى القلوب، قال: فدخلت؛ فرأيته في الحرم ما أراه إلا ساحراً أو كاهناً، وهذا الفعل من الدعايات الرخيصة، والشائعات المغرضة، جعلت من الرسول عليه الصلاة والسلام ساحراً وشاعراً، والله يقول: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22].
ويقول: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:4 - 8] فكان ينظر إليه، فقال: فكنت أسمعه يقرأ فلا أسمع شيئاً، فالقطن في الأذن ولكن الله يهدي من يشاء، قال: فما زلت أقترب، فقلت في نفسي: -أراد الله هدايته- لماذا لا أضع القطن، وأنا رجل، لبيب، فاهم، شاعر، أعرف جد الكلام من هزله، فإن سمعت شيئاً أعجبني اتبعته، وإلا تركته! قال: فوضعت القطن، ويوم وضع القطن في تلك اللحظة وإذا بالقرآن يصل إلى أذنه، ويدخل إلى قلبه، فينتفض ويأتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، ويضع يده ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
فهو القرآن الذي يريد الله أن يوصله إلى الناس.(32/6)
سبب الإشارة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: "عبدنا"
يقول: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23] من هو عبده؟ إنه محمد عليه الصلاة والسلام، ولم يقل رسولنا، ولم يقل نبينا، لسببين:
السبب الأول كما يقول أهل العلم: بأن الله نادى الناس في أول المقطع بعبادته، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] فكأنه يقول:
مثل محمد عبدنا، ولم يقل رسولنا، والله إذا أراد أن ينبه الرسول عليه الصلاة والسلام على قضية في بيته قال: يا أيها النبي.
وإذا أراد أن يخبره بقضية من قضايا الرسالة قال: يا أيها الرسول، واسمع إلى قضايا الرسالة: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس} [المائدة:67] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] ثم يتحدث عن الزوجات: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59] فهو يناديه في هذه القضايا الاجتماعية بالنبي، ويناديه بالرسالة للعالمين، ويناديه بالعبودية في موطن التشريف، فيقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] مثلما فعل عبدنا صلى الله عليه وسلم فهو أعبد الناس وأعرفهم.
وإذا أراد الله أن يتحدث عن التوحيد والشرك قال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] وفي صحيح البخاري في كتاب العلم، عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث} ولم يقل: أرسلني، وإنما قال: بعثني؛ لأنه بعث بالتوحيد، فكأنه بعث في أموات، وأحمد شوقي -أمير الشعراء كما يسمونه- يقول:
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
يقول: إن كان عيسى عليه السلام يبرئ ويحيي الموتى بإذن الله، فأنت أحييت شعباً وجيلاً وملايين من الناس، فالناس الذين يحيون الآن، وآلاف مؤلفة ممن ماتوا، وآلاف وملايين ممن سوف يأتون كلهم يحيون بالحياة التي أتى بها صلى الله عليه وسلم.
قال: والسبب الثاني في موطن التشريف له صلى الله عليه وسلم، يقول: أنت عبدنا، فإذا زكاه الله قال: عبدنا، ولذلك يأبى الرسول عليه الصلاة والسلام، أن يرفعه أحد عن درجته: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171].(32/7)
استطراد في موضوع عبودية الرسول صلى الله عليه وسلم
أتى أعرابي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، والأعراب لهم دواهي يأتون بها أكبر من الجبال، فدخل الأعرابي بعصاه المسجد، وقال: {يا محمد! إنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله -واللفظ عند أبي داود وغيره- إنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك، فقال صلى الله عليه وسلم: ويحك إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد}.
وقال له رجل آخر: {ما شاء الله وشئت، قال: قل: ما شاء الله وحده} وجاء وفد بني عامر بن صعصعة -والحديث صحيح- فقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: {أنت سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، وأطولنا طولاً، قال: يا أيها الناس! قولوا ببعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان}.
إذاً: فالكمال لله، والعظمة لله، والإنسان له الفقر والعوز، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله} وأما إطراء المخرفين من الصوفية، ليرفعوه عن منزلته، ويقولون: نحن نحبه، ويقول أحدهم: يا جلاء همومي! يا جلاء غمومي! يا جلاء بصري! يا ذهاب بصري! ويا بقاء سمعي! فهذا ليس بكلام شرعي.
وهذا البرعي شاعر اليمن، وهو شاعر مجيد ظريف في الذروة، ولكنه مخرف متخلف في النهاية، يقول:
يا رسول الله يا ذا الفضل يا بهجة المحشر جاهاً ومقاما
فأقل لي عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاماً
- من يقيل العثرات؟
- الله.
- من يغفر الذنوب؟
- الله.
- من يكشف الكروب؟
- الله.
وهو صلى الله عليه وسلم ميت في قبره، مات ولكنه حي بحياة الله أعلم بها، حياة برزخية لا تأكل جسمه الأرض، ولكنه لا يرفع الحوائج في قبره إلى الله، ولا يغيث الناس، ولا يشفي المرضى، ولا ينجح الراسبين، ولا يقضي الدين عن المدينين، ولا يقرب بين المتباعدين، وإنما يفعل ذلك الواحد الأحد، والله يقول عن المشركين: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3].
والبوصيري له قصيدة البردة، وهي من أحسن القصائد إي والله، لكنه كدرها، وأساء في آخرها إساءة بليغة، وإلا فقد بدأها بمطلع عجيب، وأتى بأبيات مليحة جد مليحة، يقول:
أمن تذكر جيرانٍ بذي سلم مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة وأومض البرق في الظلماء من إضم
إلى أن يقول:
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدم
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم
وليته استمر على هذا الحسن والإشراق والإبداع! لكنه في الأخير قال:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
سبحان الله! يقول: من جودك الدنيا والآخرة، ومن علمك علم اللوح المحفوظ والقلم.
إن لم تكن في مقامي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
وهي إساءة، فلا يغفر الذنوب إلا الله، ولا يكشف الكروب إلا الله.
إذاً: هو عبد يجوع كما يجوع الناس، ويظمأ كما يظمأ الناس، لكن شرفه الله بالنبوة، فلا ينطق عن الهوى فهو معصوم، ولذلك هناك فرق بين أن نقول: عبد وبين أن نظن أنه كبعض الناس يخطئ ويذنب كما يخطئ الناس ويذنبون، فهو معصوم، ثم لا نقول: إنه رسول كذلك ليس فيه بشرية، ولذلك لم يجعل الله الرسول صلى الله عليه وسلم ملكاً، لماذا لم يجعله ملكاً؟ لأنه لو كان ملكاً لما اقتدى به الناس، فلو كان رسولنا ملكاً، وقلت للناس: افعلوا مثلما يفعل الرسول، لقالوا: هو ملك، فإذا قلت لهم: لماذا لا تصومون كما يصوم؟ قالوا: هو ملك، لماذا لا تصدقون كما يصدق؟ قالوا: هو ملك، فجعله الله بشراً، ومع بشريته إلا أنك تقول لأحدهم: لماذا لا تفعل كذا؟
فيقول: وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! نعم أين نحن؟! لكنه قدوتك: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
وأعود إلى قصة الإسرائيلي في أول الكلام، فقال الله عز وجل: {تدخل الجنة برحمتي أو بعملك} قال: بعملي، قال: حاسبوه، فالحساب قبل الدخول: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] فأتى الملائكة فحسبوا النعم التي أعطاه الله، والعبادة التي عبد في كفة الميزان، فوجدوا عبادته في خمسمائة عام لا تعادل نعمة البصر، قال الله: خذوه إلى النار، قال: لا.
برحمتك يا رب.
فالآن عرف، فأدخله عز وجل الجنة برحمته.
إذاً: فلا يدخل الجنة أحدٌ إلا برحمة الواحد الأحد.(32/8)
التدرج في التحدي والإعجاز
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23] فتحدى المشركين من العرب في القرآن على ثلاث مستويات:
بالقرآن كله فما استطاعوا!
قال: بعَشْر سور فما استطاعوا!
قال: بسورة فما استطاعوا! يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [القصص:49] فهذه بالقرآن، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] وهذه بالقرآن، فأخفقوا وفشلوا، فما سمعنا أن جاهلياً أتى ليعارض القرآن.
فقال الله عز وجل: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود:13] فما استطاعوا.
فانتقل بهم في سورة يونس: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:38] فما استطاعوا.(32/9)
محاولة الفيلسوف الكندي وابن الراوندي معارضة القرآن
لكن وجد في القرن الرابع والخامس بعض الملاحدة -نعوذ بالله من إلحادهم- أتوا ليتحدوا القرآن، سمعوا هذه الآيات فقالوا: نحن نأتي بمثله، منهم ابن كندة الفيلسوف الطبيب، دخل بيته وأغلق عليه الباب، وكان زنديقاً ونعوذ بالله من الزندقة، ونعوذ بالله من لعنة الله وغضبه، فقد حوى على قلبه جثمان إبليس فاسود قلبه.
أحد الناس يذكر عنه ابن تيمية أنه قيل له: مالك لا تصدق بالقرآن؟ قال: قلبي ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، قال: عليك أن تصلي وأن تتقي الله، وأن تستغفر عسى الله أن يتوب عليك، قال: لا أستطيع: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54].
فأتى ابن كندة الفيلسوف، وقيل الفيلسوف الكندي، وبعضهم يخلط هذا بغيره، لكن تمييزه أنه الفيلسوف الكندي، فقال له تلاميذه: ماذا تفعل يا شيخنا؟ -هو شيخهم وليس بشيخنا- شيخنا نحن مثل الإمام أحمد، ومالك، والشافعي، وابن تيمية، وابن القيم، فأحمدنا أحمد بن حنبل وأحمد أهل البدعة أحمد بن أبي دؤاد.
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم
فقالوا: ما لك يا شيخنا اعتزلت؟ فقال: أريد أن أكتب كتاباً أبلغ من القرآن؛ ففتح المصحف وهو وحده في الغرفة، فوقعت عينه على قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في أول سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] فتوقف ورفع القلم، وضرب رأسه، وقال: نادى، وأمر، ونهى، واستثنى، وبين، وختم في آية، فأتى ليرد جسمه فوجد نصف جسمه قد يبس وشل: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16].
وابن الراوندي الكلب كما سماه ابن كثير، أتى وألف كتاب الدامغ على القرآن؛ لأنه يهودي ابن يهودي، وتدسس على الإسلام في لباس الإسلامية مثلما يفعل بعض الناس، يتظاهر أنه مسلم ويريد الخير، لكن تراه يطعن في كلامه بالرسول عليه الصلاة والسلام، كنافخ الشمس: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] أتى الخبيث الملعون، فكتب كتاب الدامغ، يقول: أدمغ به القرآن، فدمغه الله في الدنيا والآخرة وأخزاه، حتى لما أتته الوفاة أخذ الدود يتناثر من عينيه وأنفه ولسانه، وأخذ يزوره بعض أهل السنة، قالوا: ما زرناك عواداً لكن زرناك شامتين، نشمت بك، ونرى نَصَف الله فيك.(32/10)
انتقام الله من أهل البدع والظلمة
وأهل البدعة كذلك أنزل الله بهم بأسه في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وقد كررت القصة، لكن لا بد أن تكرر مرة ثانية وثالثة وعاشرة، ابن الزيات وأحمد بن أبي دؤاد، ورجل ثالث تعاونوا على الإمام أحمد، إمام أهل السنة حتى سجنوه وجلدوه بالسياط؛ لأنه يريد الحق، فأما الإمام أحمد فالتجأ إلى الله، ليس عنده حرس ولا سياط في الدنيا، لكن عنده قوة الله.
يا غارة الله جدي السير مسرعة في سحق أعدائنا يا غارة الله
أحد الصالحين ضربه سلطان على وجهه، فدمعت عيناه، قال: لأشكونك إلى من لا يظلم عنده أحد، قال: ومن تشكو في الدنيا؟ قال: أشكوك إلى الله الواحد الأحد، قال: متى تشكوني، أئذا مت؟! قال: بل أشكوك في الثلث الأخير، يوم تذهب الدعوات في الثلث الأخير إلى الواحد الأحد.
قيل لـ علي بن أبي طالب: كم بين التراب والعرش؟ قال: دعوة مستجابة، التراب والعرش لا يقدر بالكيلو مترات ولا بالأميال، فآل البرمكي أسرة سفكوا الدماء، وتبجحوا في الأموال، وظلموا الناس؛ فأتى شيخ كبير السن أخذوا ولده وذبحوه، فرفع يديه في السحر في الثلث الأخير: اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر.
فأصبحوا في اليوم الثاني، فغضب عليهم هارون الرشيد حبيبهم وصاحبهم فقتل شبابهم وأخذ كبارهم فجعلهم في السجون حتى جعل كبيرهم في السجن سبع سنوات، يقولون: طال شعر لحيته، وأظفاره، وشعر رأسه، حتى دخلوا عليه، قالوا: أين أنت؟ قال: لست في الدنيا ولا في الآخرة، قالوا: مالك؟!
قال: ما رأيت الشمس ولا الهواء سبع سنوات، قالوا: من الذي وضعك في هذا المكان بدل الرفاهية وبدل النعيم؟ -بلغ من نعيمهم أنهم أخذوا يطلون قصورهم بماء الذهب- فقالوا: فمن الذي وضعك هنا؟ قال: دعوة ذاك الشيخ في الثلث الأخير.
فهؤلاء الثلاثة الذين دعا عليهم الإمام أحمد استجاب الله فيهم، قال لـ أحمد بن أبي دؤاد: اللهم اسجنه في جسمه؛ فشل جسمه حتى عاده تلاميذ الإمام أحمد، قالوا: يا أحمد بن أبي دؤاد! ما أتيناك عواداً؛ بل أتيناك شامتين، فكيف أنت؟ قال: أما نصفي هذا فلو وقفت عليه ذبابة، فكأن القيامة قامت، وأما نصفي هذا فلوا قرض بالمقاريض ما أحسست به أبداً.
وأما ابن الزيات الوزير، فغضب عليه الخليفة؛ فجعله في فرن مطبق، ثم ضرب المسامير في رأسه حتى خرج نخاعه ودماغه من أنفه، وأما ذاك فتردى وقطعت يداه ورجلاه، فقد غضب عليه سلطان آخر، وهذا في الدنيا.
ولذلك لا يطلب العون إلا من الواحد الأحد.
فالمقصود أنني أتكلم عن أهل الهوى وأهل البدعة ممن يريد معارضة السنة أو القرآن.(32/11)
بم يكون الإعجاز في القرآن؟
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23] أي: تعالوا بسورة من مثله، لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: أي سورة؟ سورة كبيرة أو صغيرة؟ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] هل تستطيع العرب أن تأتي بمثلها؟
تقول المعتزلة: السور التي تحصل بها الإعجاز هي الطويلة، أما مثل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] والتي هي من ثلاث آيات فلا، وكذبوا.
بل أي سورة، معنى الإطلاق لا يستطيع العرب ولا غيرهم من الفصحاء أن يأتوا بسورة من مثله، وحقق ذلك ابن كثير وغيره من أهل العلم رحمهم الله أن أي سورة مثل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فلا يستطيع أحد أن يأتي بمثل هذا أبداً.
وانظر الآن إلى إعجاز القرآن، فالقصيدة تسمعها ستين بيتاً، لا يكون فيها إلا بيت أو بيتان من أحسن ما يكون، وأما غيرها فكذب ودجل وخداع.
وتعال الآن إلى موازنة، ولله المثل الأعلى، ولكلامه المثل الأعلى، فنأتي إلى الوصف، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20] أليس هذا وصفاً حقيقياً، ثابتاً لا فيه عوج ولا كذب ولا تمويه، إي والله!
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى في الوصف الآخر: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:10] لكنه جمال في الأسلوب، ما قال: طويلات، بل قال: (بَاسِقَاتٍ).
(لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) ولم يقل: جيد ولا طيب، بل قال: نضيد.
وتعالوا الآن إلى الشعراء، يقول بشار بن برد يصف الجيش:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
كذب على الله! ما كان هذا، ذلك الأعرابي يصف المرأة بالنخلة، ويصف وجهها بالقمر، ويصفها لرشاقتها بالغزال، ويصف الكف بشيء من اللجين، وهذا كذب وخداع، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:224 - 227].
والله عز وجل إذا أراد التهديد في القرآن اقشعرت الأبدان، وإذا أتى بالنعيم ووصف النعيم ارتاحت القلوب إلى نعيم الواحد الديان، وإذا ذكر الموت أبكى العيون، وإذا ذكر الدنيا وآياتها أتى بالعجب العجاب، وإذا وصف الحدائق والبساتين أتى بشيء تسيل له المقل عجباً، وتندهش له العقول، فسبحان من أنزل هذا القرآن.
قال: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} [البقرة:23] من الشهداء؟
قال ابن عباس: آلهتكم، تعالوا بالأصنام والحجارة، تعالوا بالأوثان وادعوها لتعاونكم في الإتيان بمثل هذه الآيات.
وسبق في أول جلسة من جلسات التفسير أن ذكرت كلاماً جيداً لـ سيد قطب حيث، يقول: القرآن كلام، وكلامنا نحن كلام، وكلها من حروف، أنت تقول: محمد علي سعيد والقرآن فيه هذه الألفاظ، فكلها من هذه الحروف، قال: ولكن الفارق مثل هذا التراب، خلق الله من هذا التراب الإنسان، فالإنسان يشابه القرآن؛ لأن القرآن من الكلام الموجود والإنسان من التراب الموجود، والإنسان لا يستطيع أن يصيغ من التراب إنساناً فيأتي فيصنع الخزف والأواني والصحاف والأباريق، فهذه الأباريق والأواني والخزف مثل كلامنا نحن، والإنسان مثل كلام الله عز وجل، وأصل المادة واحدة، ولذلك يتحدى الله فيقول: {الم} [البقرة:1] هذه الحروف تعالوا بمثلها، هذه المادة الخام موجودة، اصنعوا مثل القرآن، لكن ما استطاعوا.
{وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} [البقرة:23] قيل: آلهتكم، وقيل: شهداؤكم أعوانكم، وأذنابكم، وأقزامكم، وعملاؤكم، ومن يسير في مسيرتكم، ومن يجلس معكم في ظلام الليل، ومن يؤزكم بالكلام، تعالوا أنتم وكل عميل على وجه الأرض، وكل ذنب، وملحد، وائتوا بسورة من مثل هذا القرآن.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23] قيل وهو الصحيح: إن كنتم صادقين أنه ليس من عند الله فتعالوا بمثله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23] وقيل: إن كنتم صادقين أنكم تستطيعون أن تأتوا بمثله، فالمادة معكم والكلام موجود، فتعالوا بمثله، وخسئوا، وخسروا، وخابوا، وما استطاعوا وما فعلوا.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] معجزتان اثنتان:
المعجزة الأولى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) تحداهم الله أن يأتوا بمثل القرآن، فلم يستطيعوا.
المعجزة الثانية: قال: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) قال أهل العلم: تحداهم الله بالقرآن أن يأتوا بمثله، أو بسورة، أو بعشر سور، ثم قال لهم في نفس القرآن: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) وبالفعل قال هذا الكلام بقوة، وورد هذا بغير خوف، وبغير جزع وهلع، وفي الحقيقة ما مر في التاريخ تحدٍّ للقرآن والحمد لله، ولا استطاع أحد أن يتحداه ولا أن يأتي بمثله، وهذا معجزة أخرى أن يقول الله: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) فما فعلوا.
والمعتزلة يقولون: إن التحدي في القرآن والإعجاز، أن الله كتب على الناس ألا يستطيعوا أن يأتوا بمثله، ولو لم يكتب عليهم لاستطاعوا، وقد كذبوا، بل لا يستطيعون، ما استطاعوا أبداً، يقولون: إنه في القدر أن الله منعهم أن يأتوا بمثله، ولو لم يمنعهم لكان باستطاعتهم أن يأتوا بمثله، ولا والله! لا يستطيعون أن يأتوا بمثله أبداً.
يقول الأصمعي: خرجت في البادية فرأيت أعرابية فأخذت أقرأ، وفي بعض روايات هذا القصة أن أعرابية سمعت قارئاً يقرأ يقول: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] وهي لا تدري أهو قرآن أم لا، فهي عجوز أعرابية بدوية، قالت: سبحان الله! كلام من هذا؟ قالوا: وماذا تريدين؟ قالت: أتى بأمرين، وبنهيين، وبشارتين، كلام من؟ قالوا: كلام الله.(32/12)
روعة القرآن يدركها من لا يفهمه
يقول سيد قطب: ركبت أنا وبعض الصحبة من الإخوة سفينة نريد أوروبا فأبحرنا، قال: فحانت صلاة الجمعة، وكنت قد رأيت النصارى يقيمون بعض الطقوس التعبدية، فأخذتني الحمية الإسلامية، والغيرة على الدين؛ فجمعت زملائي، وقلت: أصلي بكم الجمعة في السفينة ليرانا النصارى، قال: فقمت فألقيت خطبة، قال: ومعنا امرأة يوغسلافية من يوغسلافيا -فرت من حرب تيتو -: فأخذت هذه المرأة تنظر إلينا وتسمع الخطبة، لا تعرف من العربية حرفاً واحداً، فأخذت تنظر، قال: وأديت الخطبة، ثم نزلت، فأديت الصلاة، فقرأت في الصلاة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فلما سلمت وإذا دموعها على خديها، فتقول للترجمان: سله كلام من هذا الذي صلى به؟
قال سيد قطب: فأخبرت الترجمان أنه كلام الله، فاندهشت وزاد بكاؤها، قال: ولم تمكنا الفرصة أن نوصل لها الدعوة، وأن نخبرها بالإسلام، فانظر إليها، فهي يوغسلافية لا تجيد حرفاً واحداً، وسرى القرآن إلى شرايينها، ووصل إلى قلبها.(32/13)
رحلة الروح مع كتاب الله
ويقول سيد قطب في سورة النجم: كنت أسمر أنا ورفقة معي بعد صلاة العشاء في القاهرة، وفجأة سمعنا صوت الراديو يرتفع بصوت مقرئ يقرأ بسورة النجم، قال: فسكتنا ننصت، فأنصتوا، قال سيد قطب: فأما أنا فسافرت روحي -وهو يجيدها لأن قلمه سيال بديع- سافرت مع المصطفى عليه الصلاة والسلام في رحلته: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:1 - 3] قال: ففارقت الجلاس، وهذا من باب قول ابن تيمية: "إذا جلست مع البطالين فسافر بروحك واترك جسمك معهم".
أما الجسم موجود، وأما الروح فسافرت إلى بارئها: {دعها فإن معها سقاءها وحذاءها، ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها} قال: ثم أتاني التأثر، وقد رفع القارئ صوته، فحاولت أن أحبس عن زملائي التأثر فبكيت، قال: فلما بلغ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم:57 - 58] قال: والله لقد تحول البكاء إلى هزة عضلية في جسمي، ولم أقدر أن أمسك جسمي أبداً.
ولذلك انظر إلى هذا الكلام في الظلال، كأنه كلام رجل دخل الجنة، ثم أتى يكتب من الجنة، ولو أن لنا كطلبة علم ملاحظات على الظلال -والعصمة لكتاب الله عز وجل- في بعض الصفات وبعض المواقف، لكن الكتاب عجيب، وفيه دفعة قوية وفهم وعمق وأصالة، فرحمه الله رحمة واسعة، ولا يعفيه من أن ينتقد من كثير من العلماء خاصة في بعض المسائل، وهذا أمر له مجال وبسط آخر.(32/14)
توضيح معاني التقوى
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] يا أيها الناس! اتقوا النار، يقولون: التقوى وردت في القرآن باتقاء الله، واتقاء اليوم الآخر، واتقاء النار {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:1] ويقول عز وجل: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} [البقرة:24].
والتقوى هي: أن تجعل بينك وبين الشيء وقاية، يقول النابغة الذبياني:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
فهذه حياة الجاهلية، حياة الربابة والعزف على الموسيقى، لم يكن فيها قرآن، ولا كان فيها أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا صحيح البخاري، ولا صحيح مسلم، بل حياة الضياع والهيام، ولا بأس بالاستشهاد بهذه، فإن فيها ملاحة، وظرفاً، وشيئاً عجيباً من شعر العرب يقول:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
فاتقتنا: جعلت بيننا وبينها وقاية، ولذلك تعريف التقوى: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية.
وعرفها بعض أهل السنة كـ ابن تيمية قال: هي أن تؤدي المأمور، وتجتنب المحذور وتصدق الخبر، وقال بعضهم ونسب إلى علي بن أبي طالب، وكلماته لها طريق إلى القلوب، قال: [[هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل]] وقال ابن مسعود: [[التقوى هي: أن يطاع سُبحَانَهُ وَتَعَالى فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر]] وقال بعضهم: التقوى أن تعمل الحسنة على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك السيئة على نور من الله، تخاف عقاب الله، إلى غير تلك التعريفات.
لكن هنا من نوع آخر قال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} [البقرة:24] انجوا بأنفسكم، وخافوا من الله، وادخلوا في الدين، وأسلموا لله، مادمتم قد عجزتم عن معارضة القرآن؛ فلماذا لا تسلمون؟ ومعجزة رسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن.(32/15)
تفسير قوله تعالى: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)
{فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] ما هي الحجارة؟ قالوا: حجارة الكبريت الأسود، قالها كثير من المفسرين أنها الكبريت الأسود الذي تحرق به النار، وهو أشد هيجاناً، وأشد حرارة وتلهباً، حتى يوم بلغ العلم الحديث ذروته، أصبحت أكبر المصانع في العالم، مصانع الاحتراق وإذابة الحديد تستخدم الكبريت الأسود، لكن لا تستوي الناران:
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها
فأعوذ بالله من نار وقودها الناس والحجارة، حتى يقول بعض المفسرين: سبحان الله! يقرن الناس وهم لحم ودم وعصب وجلد وعين وسمع وبصر، وهم مضغة بحجارة لا تسمع ولا تبصر ولا تعي، وهذا من أشد الإهانات، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24] قيل: يوقدها الناس والحجارة، وقيل: يدخل الحجارة مع الناس من قلة المبالاة بهؤلاء الكفرة.
فرجل أعطاه الله سمعاً وبصراً وقلباً، ثم لا ينقذ نفسه من النار، أليس كالحجر؟ بلى.
رجل لم يعرف طريق الخير فهو مثل الحجر؛ لأنه لا حياة له، له سمع لا يسمع به، وله بصر لا يبصر به، وله قلب لا يفقه به، ولذلك جعل الله منزلته كمنزلة الحجارة: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] لأن الأنعام لا عقول لها تكليفية، وأما هم فأوتوا العقول، ثم تردوا أشد من الحيوان والبهائم نسأل الله العافية والسلامة.(32/16)
بشرى لأهل الإيمان: إنما أعدت النار للكافرين
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] والحمد لله هذه فيها بشرى وفيها إنذار (أعدت للكافرين) قيل: الحمد لله الذي قال: أعدت للكافرين، ولم يقل: أعدت للناس، وقالوا: الحمد لله الذي قال: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:17] ولم يقل: وهل نجازي إلا الناس، فإن الذي يستحق الجزاء هو الكافر، والحمد لله الذي جعلها معدة للكفار.
فيا من أعدها للكفار! يا واحد يا قهار! نشهد أن لا إله إلا أنت، ونشهد أن محمداً عبدك ورسولك، نلقاك بهذه الكلمة تنجينا من نار أعددتها للكفار
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النار
{أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] فيها بشرى لنا أننا مسلمون، مع أننا خطاءون، مذنبون، مسيئون، لكن معنا كلمة نتعلق بها، لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومعنا الصلوات الخمس، والفرائض، ولكننا مرة علينا ومرة لنا، ونحن في الأخير أهل فرائض.
حضرت الوفاة عمرو بن العاص كما في صحيح مسلم، فبكى وكان ابنه يُرجِّيه ويُحسِّن ظنه بالله، فقال: [[يا بني! كنت على أطباق ثلاث، كنت في الجاهلية لا أعرف الإسلام، فلو مت لكنت من أهل جهنم، وأتيت في الإسلام مهاجراً، واستقبلني صلى الله عليه وسلم، فلما أسلمت كان أحب الناس إلي، فلو مت لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم لعبت بي الدنيا ظهراً لبطن وتخلفت بعده، فليت شعري هل يؤمر بي إلى النار أو إلى الجنة، ولكن عندي كلمة أحاج لنفسي بها عند الله.
لا إله إلا الله محمد رسول الله]].
وهذه الكلمة لا تكفي إلا بالصلاة والفرائض، وإلا فقد يقولها المنافق والكافر، لكن ليس مخلصاً من قلبه، أعني ليس مصلياً صادقاً مع الله.
{أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] فالحمد لله الذي أعدها للكفار، والحمد لله الذي جعل المسلم ينجو برحمة الله عز وجل من النار؛ فإنه الواحد الغفار.(32/17)
الكبائر من المسلمين
ولعلمكم -يا أيها الأخيار الأبرار- إن من المسلمين من أهل الكبائر من قد يدخل النار، لكنه لا يخلد في النار، لكن قولوا لي بالله: من يستطيع منا تحليلها يوماً واحداً أو شهراً أو سنة أو مائة سنة أو ألف سنة، فلا إله إلا الله، لحظة واحدة لا يصبر عليها الإنسان.
ذكر ابن تيمية في الفرقان، أن الأحنف بن قيس كان إذا قام من الليل يصلي يضع أصابعه على النار، فيحرقها ويقول: ذوقي قبل نار الآخرة ويبكي، وهي نار سهلة، فهي جزء من سبعين جزء من نار جهنم، غمست في البحر حتى أطفئت وأصبحت ناراً يوقد عليها، فأنقذوا أنفسكم من النار بالفرائض، وأنقذوها بالتوبة النصوح، وأنقذوها بإصلاح قلوبكم وبيوتكم عل الله أن يرحمنا وإياكم.(32/18)
أهل الجنة وبيان حالهم
ثم اسمع إلى أهل الإيمان بعد أهل الكفر وأهل الزيغ والنفاق والطغيان، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة:25] من المبشِّر؟
إنه محمد عليه الصلاة والسلام، يقول: قم بشر هذه الأمة، وبشر المصلين في جنح الليل، والعابدين الصادقين، وبشر الناصحين، والذي رأى الحرام فغض بصره، وبشر الذي سمع الخنى فأعرض بسمعه، وبشر الذي وجد الحرام فرفض أكله، ورفض شربه ولبسه، بشره بجنات تجري من تحتها الأنهار.
فالرسول عليه الصلاة والسلام مبشر ومنذر، لكن إذا أتى التخويف قال له الله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد:7] وإذا أتى النعيم قال: (وَبَشِّرِ) وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب:45] فيقول: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد:7] وهنا يقول: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25] في هذه الآية رد على المرجئة وهي: طائفة ابتداعية تقول: يكفي الإيمان بلا عمل، وهذا خطأ وكذبوا على الله، يقولون: يكفي النطق والاعتقاد بدون أن يعمل الإنسان ولو لم يصل فهو مؤمن، لا: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة:25] وعمل الصالحات كثير يحتاج إلى بسط وعرض طويل، لكن من الصالحات ألا تتقاصر عن كل فعل صالح أن تفعله.
تبسمك في وجه أخيك على قلته صدقة، وإماطتك الأذى عن الطريق صدقة، صلح وإصلاح، نيتك أن تقوم الليل ثم لم تقم عمل صالح يكتب لك، وأن تصب من إنائك في إناء المستقي صدقة.(32/19)
أقسام المؤمنين
قال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة:25] الذين آمنوا ثلاثة أقسام:
سابق، ومقتصد، وظالم لنفسه، وسبق بيان ذلك.
فالسابق: مثل الصحابة رضوان الله عليهم، وهم الذين فعلوا الفرائض والنوافل، وتركوا الكبائر والصغائر.
والمقتصد: هو الذي فعل الفرائض ولكنه لم يأت بالمستحبات، وترك الكبائر ولكنه يأتي بالصغائر.
والظالم لنفسه: من ترك بعض الواجبات، وارتكب بعض الكبائر، فالظالم قد يدخل النار، ولكنه يخرج برحمة الله لأنه موحد، فقد تدركه شفاعة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، أو رحمة أرحم الراحمين.(32/20)
وصف الجنة وأنهارها
{أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة:25] جنات جمع جنة، وما في الدنيا من الجنة إلا الأسماء:
لواحد منهم بدا أساوره أضاءت الدنيا له أو ظفره
لهم من الحرير أعلى ملبس إستبرق فيها وخضر السندس
صفوفهم عشرون بعد المائة أما ثمانون فمن ذي الأمة
الشجرة الواحدة كما في صحيح مسلم، {يطوف الراكب المجد بها مائة عام لا يقطعها}.
وفي الجنة أربعة أنهار ثجاجة، نسأل الله أن يرينا تلك الأنهار، ولا يحرمنا الشرب من تلك الأنهار، وأن يدخلنا برحمته وهو الواحد الغفار لا بعملنا؛ فإننا مسيئون، بعيدون عن أعمال تلك الدار.
نهر من ماء غير آسِنٍ لم يتغير، بل هو ثجاج يثج حلاوةً وخيراً وبراً، ونهر من عسل مصفى لا تشوبه شائبة، ونهر من لبن لم يخالطه شيء، ونهر من خمر لذة للشاربين ليس فيها صداع ولا ذهاب للعقل كخمر الدنيا، قال أهل العلم: هذه الأنهار الأربعة تطوف في الجنة جميعاً، ولكل إنسان في الجنة أنهار خاصة، وهذه الأنهار العامة، أما الأنهار الخاصة فهي لكل إنسان، وأدنى أهل الجنة منزلة يملك -كما في صحيح مسلم - عشرة أمثال الدنيا من ذهب وفضة وقصور وبساتين، ففي الجنة له عشرة أمثال الدنيا: {ولموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها}.
أما شجرها فيتدلى، إن كنت قائماً ارتفع الغصن حتى تناله وأنت قائم: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:23] وإن كنت جالساً أتاك الغصن وأنت جالس، وإذا اضطجعت أتاك الغصن وأنت مضطجع، لا تهتم، ولا تحزن، ولا تغتم، ولا تنصب، ولا تجوع، ولا يأتيك مما يأتي الناس في الدنيا من الغائط والبول والأذى والقذى، هل فيها شمس؟ قال بعض أهل العلم: أما جوها فكالجو الصحو الصافي قبل طلوع الشمس في الفجر، فهذا الجو الزاهي البهي هو جو الجنة.
أما لحمها فهو طير مشوي مما يشتهيه الناس، وفواكهها متعددة الأنواع، أما أسرتها فحدث ولا حرج، للإنسان المسلم المؤمن اثنتان وسبعون حورية، وقال بعض أهل العلم في الأحاديث: زوجتان، وكل حورية وجارية يرى مخ ساقها من وراء العظم.
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
والطير تهفو على الأغصان عاكفة تسبح الله جهراً في نواحيها
ولذلك لا نعيم في الدنيا أبداً بالمقارنة مع تلك، وهذه الحقائق لا بد أن تفهم اليوم، قال رجل للحسن البصري: أشكو إليك بطني، قال: ماذا فعل بطنك؟
قال: إن شبعت كظني، وإن جعت آلمني، قال: التمس لك أرضاً غير هذه الأرض، أي: الجنة، وقال الحسن البصري: [[فضح الموت الدنيا، فلم يدع لذي لب فرحاً، لقد بقي المؤمن مهموماً مغموماً، ولا فرج له إلا دخول الجنة]].
ولذلك رئي الصالحون في الجنة، ولا بأس أن نذكر بعض ذلك، ذكر ابن كثير أن الإمام أحمد رئي على كرسي من زبرجد، فقالوا: بم نلت هذا؟
فقال: بآية من القرآن، ورئي مالك كذلك، فيقول الذهبي: على ناقة من نور، وهو يطير بها في سماء الجنة، ولكن الشهداء أعظم وأعظم، وأحسن وأحسن.
فيا أخي: اجعل لك منزلاً هناك، وإذا أتاك الفقر والعوز ولم تجد سعة في هذه الدنيا فاعلم أن السعة هناك، واعلم أن ما فاتك في الدنيا سهل، بيت الدنيا يخرب، وزوجة الدنيا تفارق، ومال الدنيا يذهب، وصحة الدنيا بعدها السقم، فو الله لا راحة فيها، والمغرور والمخذول والذي لا يملك مسكة من عقل هو الذي قدمها على الآخرة نعوذ بالله من الخذلان.
قال: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة:25] كيف تجري؟
قالوا: تجري من تحت قصورها، ولأنهار الجنة حفيف في الآذان عجيب، ويخرج أهل الجنة كما حقق ابن القيم إلى سوق من أسواقها، فتثور رياح تهب بكثبان المسك، فتدخل في ثياب أهل الجنة، فيعودون إلى زوجاتهم فيقولن: والله لقد ازددتم حسناً إلى حسنكم ونعيماً إلى نعيمكم، ويلتقي أهل الجنة يوم الجمعة يوم المزيد، فيرون الله الواحد الأحد رؤية حقيقة، وهي أعظم المنازل، نسأل الله ألا يحرمنا تلك النظرة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23 - 23] فأول ما توضع الكراسي للأنبياء والرسل، ثم للشهداء، ثم للصالحين، ثم يجلس الناس على كثبان المسك والزبرجد، ويتجلى الله لهم ويكلمهم ويكلمونه.
فهناك قم طرباً بحبك منشداً إذ سوف تكشف دوننا الأستار
فنسأل الله أن يرينا وجهه، وأن يذيقنا لذة النظر إلى وجهه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وفي الجنة زيارة الصالحين، فتزور محمداً صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وحمزة، وأضرابهم، وأشرابهم، فاجعل لنفسك منزلاً هناك، لأنك إن لم تفعل ذلك في الدنيا، فإننا نخاف أن يحال بيننا وبين تلك المنازل نسأل الله العافية.(32/21)
ثياب أهل الجنة وأطعمتهم
للفائدة يقولون: إن ثياب أهل الجنة من أكمام في الشجر، تطلع الشجرة فتأتي بأكمام الثياب بزاً وقماشاً فيلبسونها وهي مفصلة جاهزة، وعرقهم المسك، ومجامرهم الألوة، وأزواجهم الحور العين، الواحدة منهم لو أشرقت على الدنيا لكسفت الشمس من نورها وبهائها {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25].
{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} [البقرة:25] في هذا المقطع مسائل:
قوله: (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنها) أي: من الجنة.
(مِنْ ثَمَرَةٍ) يقولون: من طلع الشجرة الذي يؤكل وكل ما في الجنة يستفاد منه: {رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} من قبل ماذا؟ لأهل العلم رأيان:
الرأي الأول: يقولون: رزقنا هذا في الدنيا، هذا الثمر الذي أعطيتمونا في الجنة قد رزقنا مثله في الدنيا! فتقول الملائكة: ذوقوا فإن اللون والطعم غير الطعم.
الرأي الثاني: وهو الصحيح (هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) يقولون: قبل قليل أعطيتمونا هذا أكلناه، فكيف تعيدون لنا هذا؟ قالوا: اللون واحد ولكن الطعم مختلف، من كثرة ما جعل الله فيها من العجائب والألوان؛ ومن العجب أن جعل اللون واحداً، ولكن يذوقونه فإذا الطعم مختلف تماماً، (قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً) متشابهاً أي: يشبه هذا هذا، ولكنه يختلف في الطعم ولو اتفق في اللون، والمشبه يتفق مع المشبه به في بعض الوجوه، ولكن يختلف من وجوه أخرى؛ فلله الحكمة البالغة.
وورد عن ابن عباس أنه قال: [[ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء]] فالرمان: ذكر في الجنة وهو في الدنيا، لكن والله ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء فحسب: الرسول صلى الله عليه وسلم {صلى بالناس صلاة الكسوف، فتأخر خطوة ثم تقدم خطوة، فقالوا: مالك يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة، ورأيت عنقود عنب فيها فأردت أن آخذه، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار، ورأيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار -لأنه أول من سيب السوائب وأدخل الأصنام جزيرة العرب - ورأيت في النار امرأة تعذب في هرة لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض}.(32/22)
مسألة خلق النار والجنة وعدم فنائهما
وللفائدة يا أيها الإخوة! فاتني مسألة استدل بها أهل العلم في قول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) على أن الجنة والنار موجودتان الآن، وهما مخلوقتان الآن، والجنة مما علم أنها في السماء، والنار الله أعلم، ولكن قال أهل العلم: هي في سجين تحت الأرض، ولكن على كل حال هما موجودتان، باقيتان، مخلوقتان الآن، لا فناء لهما.
والنار والجنة حق وهما موجودتان لا فناء لهما
وهذا قول أهل العلم، وهو قول مستند إلى الكتاب والسنة، فلا تفنى الجنة ولا النار، فنسأل الله أن يجعلنا من سكان الجنة.
سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} [البقرة:25] أي: من قبل قليل في الجنة لا في الدنيا، هذا هو الراجح، (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً) أي: أعطوا هذه الثمار متشابهة: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25] أزواج مطهرة، ولم يقل (أزواجٌ) وسكت، وإنما قال: مطهرة، قال قتادة: [[من الحيض والنفاس، والبول والغائط والبصاق وغير ذلك]].(32/23)
نعيم النساء في الجنة
ووردني سؤال من بعض الإخوة يقول: تنفر النساء كثيراً إذا ذكر النعيم للرجال في القرآن ولا يذكر للنساء؟
أقول: المرأة المؤمنة لها نعيم كنعيم المؤمن في الجنة: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] والمرأة الصالحة يتزوجها زوجها الصالح الذي تحبه في الحياة الدنيا، ولكن أهل العلم اختلفوا في مسألة من تزوج زوجات ثم فارق بعضهن، فهل يخير يوم القيامة في من يحب من زوجاته، وإن أخذهن جميعاً فله ذلك، والتي ليس لها زوج لم تتزوج في الحياة الدنيا، أو مات زوجها عنها، أو فارقها، إما أن ينشئ الله زوجاً لها، وهو الصحيح من الجنة لتتنعم كما يتنعم الرجل: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25] وهذا هو النعيم، فإن أي نعيم تشعر أن وراءه انتهاء ليس بنعيم، لو قيل لك: اجلس في هذا البيت عشر سنوات متنعماً، ثم يضرب رأسك في السوق وتقتل، فلن تحس بالنعيم!! لو قيل لك: اجلس منعماً سعيداً سنة، ثم تقطع تقطيعاً، ليس هذا بنعيم، وإنما يقال لك: (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
فيا من سعى لستين سنة وسبعين وثمانين ومائة ما هي الحياة؟!!
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجات من راح لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي(32/24)
نماذج من العاملين للجنة
الإمام أحمد يقدم له المال من السلاطين والخلفاء في أكياس من الذهب والفضة، فيقول: لا، وهو لا يجد كسرة الخبز، وهو إمام أهل السنة والجماعة، يحفظ ألف ألف حديث، قالوا: مالك لا تأكل أما تجوع مثلما يجوع الناس؟ قال: طعام وطعام، وشراب وشراب، وأيام قلائل، ثم نرتاح إن شاء الله، وبالفعل ارتاح راحة ما بعدها راحة إن شاء الله.
وقالوا للحسن البصري: سبقنا التجار بأموالهم وقصورهم، قال: [[نأكل ويأكلون، ونشرب ويشربون، وننظر وينظرون -أي: ينظرون في قصورهم وننظر نحن في قصورهم- ثم نترك ويحاسبون]] يقصد في المال، وإلا فالحساب على الناس جميعاً.
وهذا إبراهيم بن أدهم جلس يأكل خبزاً على رصيف في ليلة شاتية، قالوا: أنت زاهد الدنيا إبراهيم بن أدهم، وأنت في هذا؟ قال: والله إنا في عيش لو علم به السلاطين لجالدونا عليه بالسيوف.
ويقول ابن تيمية: أنها تمر بالقلب خطرة أو فرصة أو لحظة، أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب.
فسجدة في مجلس واحد أفضل من مُلْك ملوك الملوك
سجدة أو تسبيحه، أو ركعتان واطمئنان القلب، والوصول إلى الله الواحد الأحد، ومعرفة الطريق إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، هو المُلْك الذي ما بعده ملك أبداً، وهذه لها قصص، ولو طال الوقت لكنا عرضنا لبعض قصص الصحابة والسلف الصالح، وإنما نقول: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25] إذا قيل خالدون، فهو خلود أبدي سرمدي، ليس له منتهى، وهذا هو النعيم الذي لا يدرك غوره.(32/25)
علاج أمراض القلوب
فالذي يطلب منا -وهو المطلوب من القرآن قبل أن نعرف الفاعل والمفعول به والحال والتمييز- أن نعرف ما هو حظ قلوبنا من القرآن، وما هو حظ القرآن من قلوبنا، وأن نأتي إلى أمراض هذه القلوب فنضع عليها دواء القرآن، وبلسمه وعلاجه علَّ الله أن يشافينا، فإن قلوبنا أصبحت مريضة.
والمرض ذكر في القرآن على ثلاثة أضرب:
1 - مرض الجسم: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء:43].
2 - مرض القلب وهو على قسمين: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في مرض الشك والشبهة والنفاق، ومرض التكذيب بالرسول عليه الصلاة والسلام: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10] وقال في مرض الشهوة، وحب الفاحشة: {وَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32].
إذاً: فما هو العلاج؟ العلاج القرآن والدعاء والذكر والتسبيح، والعلاج الصلوات الخمس جماعة، والتوبة النصوح، فلو خرجنا -وهذا معلوم- نستسقي وندعو ونرفع أكفنا، لكن أما أكلنا الربا؟! أما فشا الزنا؟ أما انتشر الغناء؟! أما كثر الكذب؟! أما عق الوالدان؟ أما قطعت الأرحام؟! فنعود من المصلى ولم تنزل قطرة، جفت الآبار، وانقطعت الأمطار، وذبلت الأشجار، وذهبت الأزهار، ونشكو حالنا إلى الواحد القهار.
لكن علينا أن نقوم بالإصلاح: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] لا نقل في الدنيا: نفسي نفسي! بل نقول نفسي نفسي في الآخرة، لو قام كل منا بحكمة وبعقل وبروية وبنية وحسن خلق وأرشد، وقدم إلى المجتمع كلمة نصح، لكنا والله في أحسن حال، كم في هذا المسجد في هذه الجلسة، لو تبرع كل واحد منا إذا مر بالسوق أن يقول كلمة حسنة، يرى امرأة متبرجة فينهاها، يرى رجلاً يروج لشريط الأغنية الماجنة الخليعة، فينهاه وينصحه بتقوى الله، يرى مجلة خليعة تباع في الأسواق فينصح صاحبها، يرى المرابين فينصحهم، يرى من يروج للزنا، من يعق والديه، من يقطع رحمه.
ولكان النصح قد تكرر كثيراً، فيتكرر عليه في اليوم الواحد عشر مرات فيتنبه، تمر به أنت فتنصحه، وأمر به أنا فأنصحه، والثالث والرابع والخامس فسوف ينتبه، لكن رضينا بكثير من المنكرات وسكتنا، وقلنا: للدعوة أناس، وأهل العلم مسئولون عن هذا، وأنت والله لا تبرأ ذمتك حتى تقدم كلمة وتنصح وتوجه! ونحن لا نقول: قاتل الناس أو شاتمهم أو سبهم، أو هدِّم بيوتهم، ولكن نقول لك: قُدِ الناس إلى الجنة، وأنقذ الناس من النار، بصر الناس بطريق الواحد الديان سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهم سوف يستمعون لك إذا علموا منك الإخلاص والصدق، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {بلغوا عني ولو آية} ويقول: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان،} {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79].
فيا أيها الإخوة: لا يفوتني في هذه المناسبة التنبيه بأن نستفيد من هذه الدروس ومن سماع آيات الله عز جل، وأتوجه إلى الحي القيوم بأسمائه الحسنى، وأتعلق بكل اسم له، وبكل صفة مثلى له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أن يرحمني وإياكم وكل مسلم رحمة عامة، ورحمة خاصة، وأن يملأ قلوبنا إيماناً ويقيناً ومحبة له ولرسوله، وأن يطهر قلوبنا من الشك والريبة، والنفاق والكفر، والمعصية والفاحشة، ونسأله فتحاً مجيداً، وتوفيقاً، وحظاً سعيداً، وبصيرةً وفقهاً في الدين.
ونسأله رحمةً عامةً وخاصة، ونسأله أن يجعلنا من المؤمنين الذين عملوا الصالحات، الذين تجري من تحتهم الأنهار: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25].
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(32/26)
مقتل طاغية
رئيس رومانيا كان رجلاً مجرماً من المجرمين وظالماً من الظالمين، كان له من الحرس ما يقارب السبعين ألفاً، وقد ظن هذا الطاغية أن قبضة الله لن تدركه، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وقد حكم هذا الطاغية أكثر من ربع قرن، فهل من معتبر!!(33/1)
مقتل طاغية رومانيا
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1]
أشهد أن الله حق، واليوم الآخر حق، والنبيين حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والجنة حق، والنار حق، وأشهد أن هذا الدين حق.
اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، لا إله إلا الله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
{قُل اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:26 - 27].
قبل أيام قتل الله مجرماً من المجرمين، ودكتاتوراً عاصياً ظالماً هو رئيس رومانيا حيث ذبح كما تذبح الشاة وذلك بعد خمس وعشرين سنة أو أكثر، من الظلم الأحمر ظلم الآمنين روَّع الأطفال، وقتل الشيوخ استولى على أموال الناس وظن أن قبضة الله لا تدركه، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، فطرح في الأرض، وديس هو وزوجته على التراب: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45] لقد ظلم وعتا وتجبر واستكبر وذهب بنفسه هو وجنوده، فأخذه الله وجنوده: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81] {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] فالناس حين تركوا منهج الله، وعصوه، وكفروا بلا إله إلا الله، وعطلوا القيم، وخرجوا عن المبادئ، وكفروا كفراً بواحاً، وما اتجهوا إلى الله، فسلط الله عليهم هذا الديكتاتور فعتا في الأرض وأفسد، ولكن قبضة الله نالته وانتهى أمره، وأخذت قصوره التي ليست في الدنيا ما يشابهها إلا القليل، وسار لسان الحال يقول: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل:52] {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
كم حكم هذا الطاغية؟
لقد حكم أكثر من ربع قرن، ولكن حلم الله واسع، فمن الناس من يظلم ويتجبر ويسفك الدماء، ويظن أن الله لا يراه، ولكن الله يقول: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:42 - 43].
ذهب وانتهى، ولذلك قال سبحانه في الطغاة لما قتلهم: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:5] وقال سبحانه: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} [الأنبياء:15].
وهذا المجرم كان قد أخذ من الحراسة سبعين ألفاً من الشرطة السرية، كان ينام كل ليلة في قصر، وتمتلئ الشوراع بالحراسة إذا خرج، ولكن لا حراسة من الله، لأن الذي لا تحرسه عناية الله وعينه، فلا حامي له ولا حارس.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمان
فهو حرس نفسه، لكنه لم يحرسها من المعاصي والإجرام والظلم فانهارت هذه الألوف المؤلفة كان معه سبعون ألفاً ولكن!
سبعون ألفاً كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب
مدججون بالسلاح، يقفون لهذا المجرم بإشارة، ويجلسون بإشارة، ولكنه ما حرس الله فما حرسه الله، لقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام كلمة هي قاعدة في الحياة لكل مخلوق، يقول: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة}.
أيها الدكتاتور المجرم! إن الحراسة ليست بالجنود ولا بالسلاح والعتاد، إنما الحراسة بالعدل.
ويا أيها المجرم الظالم! إن الحراسة ليست بالسلاح والرشاش، ولكنها بأن تحرس حدود الله وتراقب حرماته.(33/2)
رعاية الله لعمر بن الخطاب
جاء رجل أرسله كسرى من بلاد فارس ليفاوض عمر بن الخطاب - عمر العادل الأمين الصادق، عمر الزاهد العابد-:
حسبي وحسب القوافي حين أرويها أني إلى ساحة الفاروق أهديها
فأتى الهرمزان وبه من الخوف ما لا يعلمه إلا الله، لأنهم سمعوا جلجلة وصيت عمر في الأقاليم، فهو قد فضفض الدنيا ودوخ المعمورة، فأتى الهرمزان فقال: كيف أقابل عمر؟ وكيف أدخل عليه؟ وكيف أستطيع أن أتكلم مع هذا الرجل الذي ضربت جيوشه الدنيا؟ قياداته وكتائبه وصلت إلى المدائن، فقال هو والوفد: أين بيت الخليفة عمر؟ قالوا: تلقاه في تلك السكة، فذهبوا إليه، فوجدوا بيت عمر مطروحاً في سكة من سكك المدينة، قال: أهذا بيته؟ قالوا: نعم.
هذا بيته، قال: أين هو؟ قالوا: نطرق عليه الباب، طرقوا فخرج ابن لـ عمر فقال: التمسوا أبي في المسجد، فإن من عادته أن ينام في الضحى، فذهبوا إلى المسجد، فبحثوا فلم يجدوه في المسجد، فخرج أطفال المدينة يبحثون عن الخليفة، فوجدوه نائماً تحت شجرة عليه بردة فيها أربع عشرة رقعة، وقد أخذ حجراً مخدة تحت رأسه واستقبل القبلة وبجانبه عصاً اسمها (الدرة) يخرج منها شياطين الجن من رءوس الإنس، فقال الهرمزان: أهذا أمير المؤمنين؟! قالوا: هذا أمير المؤمنين، قال: أهذا عمر؟! قالوا: هذا عمر، قال: أهذا الخليفة؟! قالوا: هذا الخليفة، فأخذ يرتعد ويقول وعمر نائم: حكمت فعدلت فأمنت فنمت.
سجلها شاعر وادي النيل وتغنى بها للتاريخ، فقال:
وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً بين الرعية عطلاً وهو راعيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها
رآه مستغرقاً في نومه فرأى فيه الجلالة في أسمى معانيها
وعهده بملوك الفرس أن لها سوراً من الجند والأحراس تحميها
فقال قولة حقٍ أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت نوم قرير العين هانيها
واستيقظ عمر وفاوضه.
هذه عظمة الإسلام، وهذه حراسة الله، أن تحفظ الله ليحفظك الله، وإلا فلا عاصم من الله إلا إليه: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8] والعجيب في أسلوب القرآن أنه قال: ملاقيكم، ولم يقل: أمامكم، وإنما تفرون والموت يلاقيكم: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8].
وقال سبحانه: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].
يا باني القصر! الله أعظم منك، يا من طغى وبغى وتجبر! الله أقوى منك، يا من افتخر بالغنى! الله أغنى منك، لا إله إلا هو: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88].
وفي قتل هذا الديكتاتور المجرم درس، وهو أن البنيان المهدم ينهار، والله يقول: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].
فهو أسس بنيانه على ظلم وخيانة وجريمة ومعصية فانهار، ولذلك انظر إلى دول الظلم كالدول الشيوعية، بالأمس روسيا وقبلها ألمانيا الشرقية واليوم رومانيا.
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب
لماذا؟ لأنهم ما امتثلوا أمر الله، وما طبقوا منهج الله، وما أتاهم قبس من الإسلام: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأحقاف:26] وانهارت هذه الخرافة، وكانت للناس آية، ويد الله وراء كل ما حدث في الكون وسبحان من يغير ولا يتغير!: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
فيا من أراد حراسة الله ورعايته! احفظ الله يحفظك، واعلم أن من ضيع الله ضيعه الله: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين؛ فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(33/3)
مميزات الأمة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
نحن نمتاز عن أمم الأرض بأمور:
أولها: التوحيد، حيث وحدنا الله، ورضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فنحن موحدون يجري التوحيد في دمائنا ولا نريد إلا الله، ورفعنا بالأمس لا إله إلا الله، ورفعنا اليوم لا إله إلا الله، ونرفع غداً لا إله إلا الله، سجدنا لله عز وجل وسجد غيرنا لشهواته ومطامعه، أحببنا الله وأحب غيرنا الهوى والضياع والهيام.
فنحن موحدون نرفض كل من يحاول أن يخدش وجه التوحيد، ولذلك أما رأيتنا يوم أن أنكر على أذناب الحداثة يوم حاولوا أن يشوهوا وجه التوحيد، أما رأيت غضبة المسلمين ودماءهم وشجبهم واستنكارهم يوم أراد أذناب أولئك أن ينفثوا سمومهم في أرض التوحيد، لقد غضب الناس وأنكروا، لأن هويتنا لا إله إلا الله محمد رسول الله، نحن مسلمون ولنا تميز على الأمم؛ لأننا أهل شريعة نتعامل بشريعة نعبد الله على شريعة، أخلاقنا بشريعة، وسلوكنا بشريعة، ومعتقدنا بشريعة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3].
شريعتنا من الواحد الأحد: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4 - 5] {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] لا شريعة حمورابي ولا نابليون، ولا قواعد هتلر ولا الكتاب الأخضر، بل كتاب وسنة: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
نحن المسلمين نمتاز على الناس أن لنا قدوة وهو محمد عليه الصلاة والسلام: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] جعلناه في عيوننا وأبصارنا، وفي قلوبنا.
نسينا في ودادك كل غالٍ فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرفاً نلام وما علينا
ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا
زعيمنا ورمزنا وحبيبنا وإمامنا محمد عليه الصلاة والسلام.
نحن المسلمين إذا صلينا تذكرنا صلاته، وإذا حججنا تذكرنا حجه، وإذا تعلمنا، تذكرنا تعليمه، وإذا تخلقنا تذكرنا أخلاقه.
نحن المسلمين أهل أصالة، فنحن لم نولد اليوم، فملة الإسلام لها أكثر من ألف وخمسمائة سنة -خمسة عشر قرناً- وماركس الملعون ما مكثت مذكراته إلا اثنتين وستين سنة، وأخذت تنهار اليوم، يذبح أصحابها وأدعياؤها، ويداسون بأحذية الناس في الشوارع؛ لأنها لعينة قبيحة، أما الإسلام فينتشر كالشمس صادقٌ كالفجر عميق كالحق ثابت كالصدق.
أين ما يدعى ظلاماً يا رفيق الليل أينا إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه
قد مشينا في ضياء الوحي حباً واهتدينا ورسول الله قاد الركب تحدوه خطاه
قد شربنا من كئوس المجد حقاً وارتوينا وكتبنا بدماء العز تمجيد الإله
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة:143] فحيا الله تلكم الأمة التي أخرجت أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وصلاح الدين وطارق وأبيَّ ومعاذ وأحمد ومالك وابن تيمية وابن القيم إنها أمة المجد، ومن أراد السعادة فليسلك هذا المسلك، وليدخل في هذه الأمة، وليعلم أن أمم الأرض جميعاً غير المسلمين على ضلالة: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
أيها المسلمون! صلوا وسلموا على رسولنا صلى الله عليه وسلم، وأكثروا من الصلاة عليه وعلى آله وأصحابه، فإن صلاتنا تعرض عليه في هذه الساعة.
اللهم صلِّ وسلم عليه، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه.
اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور، واهدنا سبل السلام.
اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً.
اللهم انصر المجاهدين المسلمين في أفغانستان وفلسطين.
اللهم ثبت أقدامهم، وأنزل السكينة عليهم، وأيدهم بروح منك.
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا، لنكونن من الخاسرين.(33/4)
هدي السلف في رمضان
لشهر رمضان خصائص تميزه عن سائر الشهور، فهو شهر القرآن، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدارس جبريل القرآن، وكان الشافعي يختم القرآن في رمضان ستين مرة.
والأمة الإسلامية اليوم تعاني قصوراً شديداً في استغلال مواسم الخير، وبدلاً من السمو والارتفاع الذي كانت تحياه في عصر السلف، تقع في أخطاء فاحشة تحرمها فضيلة هذا الشهر الكريم.(34/1)
فضل شهر رمضان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أحييكم هذه الليلة بأبيات ابن القيم الرائدة:
أما والذي شق القلوب وأوجد الـ ـمحبة فيها حيث لا تتصرم
وحملها قلب المحب وإنه ليضعف عن حمل القميص ويألم
لأنتم على بعد الديار وقربها أحبتها إن غبتم أو حضرتم
وشكر الله لفضيلة الشيخ الأخ/ خليل السبيعي على هذه المقدمة، وقد تكلم هذه الليلة بلسان الرضا
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
وعنوان المحاضرة: هدي السلف في رمضان.
بشرى سارة لكم يا معاشر الساجدين، ويا معاشر المصلين والصائمين؛ لقد أظلكم شهر كريم، فهنيئاً لكم ولنا، ونسأل الله جل في علاه أن يجعلنا من عتقائه في هذا الشهر
مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيام يا حبيباً زارنا في كل عام
قد لقيناك بحب مفعم كل حب في سوى المولى حرام
فاقبل اللهم ربي صومنا ثم زدنا من عطاياك الجسام
لا تعاقبنا فقد عاقبنا قلق أسهرنا جنح الظلام
جاء عند الإمام أحمد في المسند والنسائي بسند صحيح، أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول للصحابة في أول رمضان: {أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه، فيه تفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب الجحيم، وتغل مردة الشياطين، فيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم} فنسأل الله ألا يحرمنا خيرها، وأن يعتق رقابنا وإياكم من النار.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النار
أيها المسلمون: يقول -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه ابن ماجة وغيره من أصحاب السنن: {إن في الجنة أبواباً ثمانية باب يسمى باب الريان يدخل منه الصائمون} وفي الصحيح: {أن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون، فإذا دخلوا أغلق فلا يدخل أحدٌ غيرهم} يقول الله تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183].
من الذي كتب؟ ومن الذي فرض؟ إنه الله ومن الذي يجازي على الصيام؟ ومن الذي يثيب؟ إنه الله ومن الذي يطلع على صوم الصائمين؟ إنه الله وفي الصحيحين أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يقول في الحديث القدسي: {كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فأنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي} كيف هذا؟ تصلي فيراك الناس، وتزكي فيراك الناس، وتحج فيراك الناس، إلا الصيام فمن يدري؟! لعلك قد تأكل بين الحيطان، وقد تشرب بين الجدران، لكن علام الغيوب يراك {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219].(34/2)
رمضان شهر القرآن
يقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185] هذا الشهر لنا فيه ذكرى جميلة، وشرفٌ لنا يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فقد رفع الله رءوسنا في رمضان يوم استنقذنا بكتاب خالد، وأنزله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في رمضان، ثم نزل منجماً إلى الدنيا، لكن في ليلة القدر نزل كلام الله وكتابه من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، فنحن نعيش في رمضان ذكرى مجيدة لا تتكرر، وهي نزول هذا القرآن الذي أخرجنا من الظلمات إلى النور، ورفع رءوسنا، وجعلنا سادة الأمم في رمضان.
ونحن نعيش في رمضان ذكريات عظيمة، فقد وقعت معركة بدر في رمضان، وانتصر رسولنا عليه الصلاة والسلام في رمضان، وعاش غزوة الفتح في رمضان {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح:1 - 2] هذا شيء من شهر رمضان الذي ننتظره في هذه الليالي ببالغ الشوق.(34/3)
أقسام الناس في استقبال رمضان
والناس أمام شهر رمضان على قسمين:
قسم فرح به، وأتاه من الفرح ما الله به عليم، وهو مقدم على خير وعلى بر، ينتظر أن يعتق من النار، فسجل اسمك في الأسماء التي تعرض على الله كل ليلة، عل الله أن يعتق رقبتك من النار، فإن الفوز أن تزحزح عن النار {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] ويقول سبحانه: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:192].
أيها الناس: إن بعض الناس يجعل أعلى أمنية له في الحياة أن يحصل منصباً، أو وظيفة، أو مالاً، أو زوجة، أو سيارة، وهؤلاء من أخسر الناس في هممهم ومقاصدهم.
القسم الثاني: الذي يستقبل رمضان استقبالاً بارداً ميتاً، يعيش في غفلة في رمضان وبعد رمضان، قومٌ إذا دخل عليهم رمضان أمضوا ساعاته في النوم، وأمضوا ليله في السهر، في لعب ولهو وغفلة نسأل الله ألا يجعلنا منهم
متى يهديك قلبك وهو غافلٍ إذا الحسنات قد أضحت كالخطايا
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
شهر رمضان موسم للعفو وللرحمة وللعتق من النار كان لبعض العظماء في الجاهلية يومٌ يسمى يوم العفو، ويوم العفو هذا -ولله المثل الأعلى- يشبه شهر رمضان، فقد كان للنعمان بن المنذر يوم العفو، يستقبل رعيته في ذلك اليوم، فمن زاره أعفاه من الإعدام ومن الحبس، ومن الضرائب فمن أراد العفو من الله فلينتظر هذا الشهر الكريم؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر} وقد يخطئ كثير من الناس، فيظن أنه إذا صام رمضان كفِّر عنه حتى الكبائر التي اقترفها بين رمضانين، وهذا فهم خاطئ، فإن التكفير خاص بالصغائر، ولا بد أن تجتنب الكبائر {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31].
فترى بعض الناس يظن أنه إذا ارتكب الكبائر وترك الواجبات والفرائض، وصام رمضان كفَّر الله عنه ذلك، وهذا خطأ في الفهم، وضلال في العقل، حتى أن بعضهم إذا دخل رمضان أحياه، فإذا انتهى رمضان عاد إلى حالته الأولى، وإلى سيرته الأولى يقول صلى الله عليه سلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: {كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه من أجلي، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي الله فرح بصيامه}.(34/4)
إقبال السلف في رمضان
وكان رمضان عند السلف الصالح أمنية، وكان بعضهم يهنئ بعضاً برمضان، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يبشر أصحابه بقدومه، وكانوا يجدونها فرصة لا تتعوض؛ لأنك لا تدري أيها المسلم هل يعود عليك رمضان أم لا، ولا تدري هل يتكرر عليك أم لا أما عاش معنا الآباء؟ أما عاش معنا الإخوة؟ أما صاحبنا قوم صاموا في رمضان المنصرم، ثم لم يصوموا رمضان القادم، أين ذهبوا؟ أخذهم هادم اللذات، مفرق الجماعات، ميتم البنين والبنات {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].
وسيدهم وخيرهم هو رسولنا عليه الصلاة والسلام، فقد جعل رمضان مدرسة روحية يجدد لقاءه بربه تبارك وتعالى، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس -هذا عمومٌ لا خصوص له- وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة} وقد اشتمل هذا الحديث على أمور:
أولها: مشروعية كثرة قراءة القرآن في رمضان.
ثانيها: البذل والعطاء في رمضان.
ثالثها: مدارسة القرآن في رمضان.
رابعها: أن من بركة قراءة القرآن أن تنفق المال، قال الإمام الزهري: [هذا رمضان شهر قراءة القرآن وإطعام الطعام]].(34/5)
الإمام مالك والشافعي في رمضان
وكان مالك إمام دار الهجرة إذا دخل رمضان أغلق كتبه، وامتنع عن الفتيا، وأقبل على القرآن، وذكر ابن حجر بسند صحيح أن الشافعي كان يختم القرآن في رمضان ستين ختمة وأنا لا أتكلم عن سنية ذلك، لكن عن وروده عن الشافعي بالذات، وذكر الحافظ أيضاً عن البخاري أنه كان يختم القرآن في رمضان ثلاثين مرة، وكان الإمام أحمد يختمه في كل أسبوع، فإذا دخل رمضان ختمه في الأسبوع مرتين: في الليل مرة وفي النهار مرة.
وكان عليه الصلاة والسلام يعرض القرآن مع جبريل الذي نزل عليه بهذه الآيات البينات في رمضان مرة، فلما كان آخر رمضان يعيشه صلى الله عليه وسلم عرضه عليه ودارسه مرتين، وكان عليه الصلاة والسلام يجود في رمضان أكثر من غيره، الجود من العدم، والجود من الفقر
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود
يقول: وفي مسند أحمد بسند صحيح عن جابر، قال: سأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {لا، وأستغفر الله، وأستغفر الله} أي: أستغفر الله من (لا) لأنها كلمة صعبة
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
جاء عند البخاري من حديث سهل بن سعد، قال: {أهدت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوباً، فقالت: يا رسول الله! هذا الثوب نسجته لك.
فأخذه صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليه، فعرض له رجلٌ، فقال: يا رسول الله! أعطني هذا الثوب.
فدخل صلى الله عليه وسلم البيت، وخلعه ولبس ثوباً آخر وأعطاه الرجل، فقال الصحابة للرجل: فعل الله بك وفعل، لبسه صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليه، ثم سألته هذا الثوب، وتدري أنه لا يرد أحداً! قال هذا الرجل: والله ما سألت هذا الثوب إلا ليكون كفني، فكان كفنه} وما أحسن الكفن! كفن لبسه صلى الله عليه وسلم، كفن مس بشرته، ووضع على جنبه.
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشية تمشت وجرت في جوانبه بردا
وكان صلى الله عليه وسلم يعيش رمضان دعاءً منقطع النظير، وقد جاء عند أبي داود بسند صحيح: {للصائم دعوة لا ترد} وهي قبل الإفطار، إذا ظمئت كبدك، وجاع بطنك، وأحسست بحرارة الجوع ولمن جعت وظمئت وتعبت وسهرت؟ كل ذلك لله.
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
فقبل الغروب وقبل أن تأكل التمرات وتشرب الماء، ارفع يديك، ثم ادع بما تيسر لك دعوة لا ترد {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].(34/6)
رمضان شهر التوبة وشهر الانتصارات
ورمضان -أيها الأخيار- شهر التوبة، فقد أذنبنا، وأسأنا، وقصرنا، وأخطأنا كيف أذنبنا؟ أكلنا النعم فما شكرنا، ورأينا المنكر فما نهينا ولا ائتمرنا، وتناولنا نعم الله عز وجل، فما قمنا بحقها وما يجب علينا نحوها، وأخطأنا كثيراً، وحان منا في الموسم المقبل أن نعلن استسلامنا لله، وأن نعود إلى الله، والله يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
فرمضان موسم للتوبة؛ أن يعود العاصي من معصيته إلى الله، فالذي كان يرتاد المقاهي لاهياً لاغياً عليه أن يرتاد المساجد، وصاحب المجلة الخليعة عليه أن يقبل على القرآن، وصاحب الأغنية الماجنة عليه أن يقبل على التلاوة، وأن يبكي وتدمع عينه، وأن يسلم قلبه إلى الله فيا رب ها نحن أقبلنا إليك، فاللهم لا تخرج رمضان إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وتجارة لا تبور.(34/7)
أحاديث في التوبة
وبشرى لكم! أبشروا وأملوا في ربكم ما يسركم، فلو كان التعامل مع البشر لما رحمونا، ولما عفوا عنا، ولما قبلوا حسناتنا، ولو كانت الخزائن بأيديهم لما أنفقوا، لكن الله رب العالمين يقول: {يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم} رواه مسلم، وعند الترمذي وأحمد، من حديث أنس وهو صحيح: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لقيتك بقرابها مغفرة} فيا رب غفرانك ورحمتك وإذا نظرت إلى الناس وجدت تعاملهم مع الناس شديداً، ولكن -لله الحمد- أن جعل الحساب بيده، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135].
من يوقع على قرار مغفرة الذنب إلا الله، ومن يملك أن يغفر سيئاتك إلا الله سبحانه وصح عنه -عليه الصلاة والسلام- {أن رجلاً من بني إسرائيل وكان عابداً، كان يقول لأحد العصاة من بني إسرائيل: تب إلى الله.
قال: اتركني وربي.
فقال له مرة ثانية: تب إلى الله.
قال: اتركني وربي.
قال: تب إلى الله.
قال: اتركني وربي.
فقال له: والله لا يغفر الله لك} سبحان الله! ما هذا التألي؟ أيملك خزائن السموات والأرض؟! أبيده رحمة الله؟! أعنده صك الغفران أو الحرمان؟! {فقال الله عز وجل: من هذا الذي يتألى علي؟ أشهدكم يا ملائكتي أني غفرت لهذا العاصي، وأحبطت عمل هذا العابد} ليثبت سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه يغفر ويرحم، وأنه ينفع ويضر، وأنه يحيي ويميت، تبارك الله رب العالمين.(34/8)
ذكرياتنا في رمضان
كانت أعلامنا مرفوعة في رمضان، يوم أن كنا نسجد لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فالرسول صلى الله عليه وسلم في بدر -كما ذكرت- انتصر ورفع لا إله إلا الله، يقول حسان:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
وهذه هي القيادة العليا والفتح كان في رمضان، وصلاح الدين هاجم الصليبية وكسر الصليب في رمضان، وانتصر يوم الجمعة في رمضان.
تلك المكارم لا قعبان من لبن وهكذا السيف لا سيف ابن ذي يزن
قال أهل العلم: أكثر المعارك الإسلامية وقعت في رمضان، فنصرنا الله عز وجل، فنسأل الله أن يرينا نصره الأكيد في رمضان.(34/9)
البيت الإسلامي في رمضان
لا بد للبيت أن يكون بيتاً إسلامياً في رمضان وفي غير رمضان، لكن في رمضان بالخصوص، فلابد أن يعيش البيت الإسلامي معالم رمضان، والبيت الإسلامي هو الذي أسس بنيانه على التقوى، قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].
ومن المسئول عن هذا البيت؟ إنه الأب، والأم، والزوجة، كلهم يشتركون في المسئولية {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] وسوف يأتي -إن شاء الله- ما يمكن أن يلمح عن مواصفات البيت الإسلامي وصفاته، الذي يستحق المغفرة والرحمة من الله رب العالمين.(34/10)
أخطاؤنا في رمضان
ما هي أخطاؤنا في رمضان التي تتكرر؟ نذكر بعض هذه الأخطاء:(34/11)
ضياع الوقت
فإن كثيراً من الناس يضيع الوقت في رمضان وهل سمعت بأمة تلعب البلوت في ليالي رمضان؟ يعتق الله عز وجل الرقاب من فوق عرشه، وهذه الأمة تلعب البلوت في الأرض! الله عز وجل يقول في الثلث الأخير من الليل: {هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأجيبه؟} متفق عليه، وهذه الأمة تلعب البلوت، وتسمع الأغنية والموسيقى، وتعيش الليلة الحمراء في الليل!! فأين رقابتها؟ وأين عودتها إلى الله؟ فقد ضيعنا الأوقات، وأصبحنا أمة لا تقدر الساعات، إلا من رحم ربك.
يقولون -بالاستقراء-: أرخص وقت هو وقت المسلمين، فإن الأمم الأخرى مصانعها ومعاملها منتجة معطية، وهذه الأمة إن لم تهتد بهدى القرآن والسنة ضاعت، وإذا تركنا هذا الدين القيم الذي نحمله، أصبحنا ضائعين؛ لأننا لا نحمل الدنيا، لا ننتج، ولا نقدم للبشرية مصانع ولا منتجات، يقول الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
ورد عن سفيان الثوري أنه جلس في الحرم مع رفقة معه، فقالوا له: اجلس يا أبا عبد الله حدثنا -أي: من حديث مجالسنا، قصص ومجريات الحياة- قال: احبسوا الشمس وأنا أحدثكم.
معنى الكلام: هل تستطيعون أن توقفوا الشمس التي تنقض الأعمار لأحدثكم؟ ومن يضمن لي الدقائق التي أصرفها معكم، ومن يعيدها لي يوم القيامة؟ قال الله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:1 - 2] قال بعض أهل التفسير: نفس المؤمن تلومه، تقول له: فيم صرفت عمرك؟ فيم صرفت وقتك؟ وقال الحسن البصري: [[ما من نفس إلا تلوم صاحبها يوم القيامة]].
وقال:: [[يقول المؤمن لنفسه: لم أكلت هذه الأكلة؟ ولم شربت هذه الشربة؟ ولم جلست هذا المجلس؟ ولم قلت هذه الكلمة؟]].
ويقول عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ} وسيعلم الذين فوتوا أعمارهم في الضياع ما هو الثمن يوم العرض الأكبر ينفقونها من أعمارهم، ويقدمونها من أغلى ما يملكون، وإذا أوقفوا يوم العرض الأكبر قالوا: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] وليته سهر في طاعة، لكن الكثير من الناس جعل رمضان موسماً للضياع، فيلعب البلوت، ويسمع الأغنية، والسهرة، ويشاهد الفلم المهدم المخرب إلى صلاة الفجر، ثم يصلي إن كان بقي فيه لمعة من خير، يصلي الفجر ثم ينام جيفة إلى صلاة الظهر، وبعضهم لا يستيقظ إلا قرب العصر فأين معاني رمضان؟!(34/12)
النوم في النهار
كذلك من الأخطاء: النوم في النهار.
الله سبحانه وتعالى جعل الليل سباتاً والنهار معاشاً، وهؤلاء حولوا الليل إلى النهار، فجعلوا النهار نوماً، والليل ضياعاً، فتجد بعضهم ينام النهار كله، فلا يجد جوعاً ولا ظمأً ولا مشقةً، وقبل الغروب يستيقظ من نومه وكسله وخموله، لا قرأ قرآناً، ولا ذكر ذكراً، ولا تنفل بنافلة، ولا دعا الحي القيوم.
فمن الأخطاء الوخيمة: كثرة النوم في النهار، وقد رأيت لبعض الفقهاء من الشافعية تساؤلاً: من نام النهار كله هل يصح صومه أم لا؟ وهو استفتاءٌ عجيب، والحنابلة يرون صحة صومه، وكأن هذه المسألة مثل مسألة الجرباء: هل يجوز أن يضحى بها أم لا يجوز؟ أما الأجر فشيئٌ آخر.
إنسان ينام من بعد صلاة الفجر، ولا يستيقظ إلا للظهر والعصر، ثم ينام إلى المغرب! أين معاني الصيام؟ لأن من معاني الصيام أن تذوق الجوع كما ذاقه الفقراء، والمساكين، وأن تذوق الجوع كما ذاقه أطفال اللاجئين والمجاهدين.
ومن معاني الصيام: أن يكسر شهوتك وشبهتك، وأن يرد قلبك إلى الحي القيوم؛ لأن الله يقول: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] وهذا لا يحصل إلا بالصيام، وأن تذوق الجوع؛ لأن كثيراً من الناس لا يعرف الجوع، يعيش أربعين سنة لا يجوع، يعيش مدللاً، لا الشمس تمسه، ولا الجوع يذوقه، ولا الظمأ يحس به، في نعيم مقيم، الموائد والأكلات والشراب والثياب والنعيم، فأراد الله أن يذيقه الجوع ليعرف جوع الجائعين.
يذكرون أن ملكة بريطانيا في عهدها قام الناس متظاهرين يطلبون الخبز، -أهل الشارع الجمهور ماتوا ويريدون كسرة الخبز اليابس- فحفوا بقصرها يقولون: الخبز الخبز، فخرجت من النافذة، وقالت: لماذا لا يأكلون البسكويت حتى يأتي الخبز؟ لو كان هناك بسكويت ما طلبنا الخبز فأهل النعيم والترف يظنون أن الناس كلهم مترفون، فلا بد أن يذوقوا الجوع، ولا بد أن يروا الذين ينامون على الأرصفة أطفال أفغانستان، والجائعين في السودان، واللاجئين في أنحاء الأرض الذين لا يجدون كسرة الخبز.
وجاء في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء} فالصوم يكبح جماح الشهوة العارمة، ويحد من طغيان النفس، ويسدد مسالك الشيطان التي يجري فيها؛ لأن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، والصائم إذا صام قلَّ طعامه وشرابه، فضمرت عروقه من الدم، فقلَّ سعي الشيطان فيها.
وقد سمعت كلمة لعالم أعجبتني، وهو عالم مطِّلع، يعرف الإعجاز العلمي، وهذا إنما هو من الورد الذي يشم ولا يؤكل، يقول: إنما جعل -صلى الله عليه وسلم- صيام الثلاثة الأيام البيض؛ لأن المد يكثر فيها، فالبحر يمد في الليالي القمراء بسبب جاذبية القمر -بقدرة من الباري سبحانه- ويصيبه الجزر في الليالي الظلماء، قال: والدورة الدموية مثل مد البحر، تمتد مع الثلاثة أيام، الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر مع القمر، فيزداد ضخ الدم، ويزيد الشيطان من عتوه وتمرده، فطالب صلى الله عليه وسلم المسلم -من باب الاستحباب- أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وهي أيام البيض، وهذا جيد، ولا يعارض النصوص والحمد لله، وفيه خير كثير إن شاء الله.(34/13)
كثرة الأكل ومفاسده
ومن الأخطاء التي نقع فيها: كثرة الأكل في رمضان.
يقول الغزالي في الإحياء: من مقاصد الصيام أن تخفف الوجبات، فإذا جمعت الإفطار والغداء والعشاء بعد صلاة المغرب فكأنك ما صنعت شيئاً، فقد جمعتها دفعة واحدة، والذي يلاحظ على الناس أنهم يذهبون أوقاتهم وأموالهم في رمضان، فيعددون من أشكال الأطعمة ما الله بها عليم، وسوف ترى الأسواق بعد ليال تمتلئ بالمارة والمشترين من كل الأنواع، من أحمر وأصفر، وحلو ومر، ومطعوم ومشروب، ومكسور وملتوت ومفتوت، حتى أنك ترى المائدة ولا تعرف ماذا تقرأ عليها من الأسماء وبعضهم يأكل من كل نوع لقمة كـ المأمون، ثم يقوم إلى الصلاة وقد بقي الطعام بحاله، وهذا فيه نظر حتى في الطب، قال أهل الطب: إذا نوعت المطعومات أصبح الجسم قابلاً للأمراض، وكلها بإذن الله، لكن من أسباب الأمراض تركيب الغذاء الذي أكثرنا منه، كالحلويات والمشروبات والقلويات والحمضيات، وما أدارك وهيهات هيهات، فهذه هي أسباب المرض.
ومن مفاسد كثرة الأكل: أنها خسارة في المال، ونعوذ بالله من قوم أذهبوا أموالهم في بطونهم وأجسامهم، وهؤلاء يأتون يوم القيامة وهم من أفقر الناس، فإن الناس قد دفعوا أموالهم لإطعام المساكين، وإعطاء المحتاجين، وهؤلاء فقط في المطاعم والمشارب، وقد صح عن ابن عباس مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم: {أن الله يقول يوم القيامة للعبد: يا بن آدم! جعت فلم تطعمني.
قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان جاع فما أطعمته، أما إنك لو أطعمته وجدت ذلك عندي، يا بن آدم! مرضت فلم تعدني.
قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان مرض فلم تعده، أما إنك لو عدته وجدت ذلك عندي}.
فعلينا أن ننفق ما زاد من الأطعمة والأموال للفقراء والمساكين، فإنا -والله- نعرف أسراً وبيوتاً كثيرة يعيشون هَمَّ النفقة في رمضان.
الأمر الثاني: أن فيها إرهاقاً للأهل، كالأم والزوجة والأخت، بل إن كثيراً من النساء لا تعبد الله في النهار؛ لأنها مشغولة بالإفطار، فإذا استيقظت من نومها بقيت في المطبخ تشتغل وتحضر وتطبخ وتقلي إلى صلاة المغرب، وعرقها يتصبب من أجل هذه البطون، وهذا أمر معلوم، حتى أن بعض النساء لا تقرأ من القرآن شيئاً، إنما هي في إحضار الطعام، وما بقي إلا أن يستدعى الدفاع المدني في المطبخ (خطر ممنوع الاقتراب) بسبب الشربة والسمبوسة، واللقيمات والطعميات، والرز المحروق والرز المفلفل، والأبيض والأحمر والأصفر، فتبقى في هم، تحضر هذا وتسحب هذا فأين معاني رمضان في حياة المرأة؟
لماذا لا نكتفي بثلاثة أنواع أو أربعة؟ التمر وشيء من الخبز، وشيء من الشربة، وشيء من الرز فقط، هكذا أربعة أنواع، نرتاح ونريح، أما أن نأخذ ثلاثين أو أربعين شكلاً فهذا فيه خطأ في الحسبان، وحتى الكفرة غير المسلمين لا يفعلون هذا من باب الاقتصاد في حياتهم؛ لأنهم أجادوا في الحياة، وأجادوا في الطعام والشراب، كما قال سبحانه: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66].(34/14)
عدم الاستفادة من دروس الصيام
ومن الأخطاء أيضاً: عدم الاستفادة من دروس الصيام فإن البعض أخذ الصيام عادة، يدخل عليه رمضان ويبارك لجيرانه بدخوله، ويخرج رمضان وهو لم يتأثر ولم يتغير في حياته، وإذا هو الذي يشرب الدخان في رمضان وبعد رمضان وقبل رمضان، وإذا هو المغني المطبل في رمضان وفي غيره، وإذا هو عاق لوالديه في رمضان وغيره، وقاطع الرحم في رمضان وغيره، والمغتاب في رمضان وغيره فأين أثر الصيام؟!
يا أيها الأحباب: ليست الحكمة من الصيام أن تجوع وأن تظمأ، فإن الله غني عن جوع العبد وعن ظمئه، والرسول صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه قال: {من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه} إنما المقصود من الصيام ردع النفس، وتربيتها وتهذيبها.(34/15)
برنامج مقترح في رمضان
أيها الفضلاء: هذا برنامج مقترح للصائم، وهو نسبي فلك أن تحول فيه، وليس واجباً عليك، إنما من وجهة نظر ومن باب النصيحة للأحبة(34/16)
بعد الفجر
هذا الوقت مبارك، ولكنه يضيع منا دائماً، فيضيعه كثير من الناس بالنوم، أو بالشرود والغفلة، وقد جاء عند أحمد والترمذي من حديث أبي صخر الغامدي مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم: {بارك الله لأمتي في بكورها} وأبرك وقت هو بعد الفجر، فأنا أقترح للصائم بعد الفجر أن يجعله في المسجد، والمرأة في مصلاها، يذكرون الله عز وجل حتى طلوع الشمس، فإذا ارتفعت الشمس صلى ركعتين، يقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى الصبح في جماعة، ثم جلس في مجلسه الذي صلى فيه يذكر الله عز وجل حتى ترتفع الشمس، ثم صلى ركعتين كان له أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة} رواه الترمذي وهو حديث صحيح فيما أراه، وقد صححه بعض الفضلاء والعلماء، وهذا مكسب عظيم، فإن جلسة ساعة تكسبك أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة، ولكن هذا لمن صلى الفجر في جماعة.
وجاء عند الإمام مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي: {من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فالله الله لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من طلبه أدركه، ومن أدركه كبه على وجهه في النار}.
من خان حي على الصلاة يخون حي الكفاح
ولما تركت صلاة الفجر في جماعة، فتحت الدور للواقعين في المخدرات، ولقاطعي الآباء والأمهات، ولعاصي رب الأرض والسموات، وللساقطين في الأغاني الماجنات والمجلات الخليعات، والمسلسلات المخربات.
ثم بعد ذلك ينام العبد ليرتاح؛ لأن غالب الناس يسهرون في رمضان، في العبادة أو في غير ذلك، فينام الإنسان حتى يبدأ دوامه، ثم يقوم فيتوضأ، والوضوء سلاح المؤمن، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم: {والطهور شطر الإيمان} فيصلي ركعتي الضحى، وذلك إذا استيقظ في العاشرة أو قبلها، وركعتا الضحى خير من الدنيا وما فيها، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: {أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن حتى أموت: ركعتي الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام} وقال صلى الله عليه وسلم: {كل سلامى من الناس عليه صدقة، فكل يوم تطلع فيه الشمس تصلح بين اثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته صدقة، وكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، ويجزئ عن ذلك ركعتان يركعهما أحدكم من الضحى} فالله الله في ركعتي الضحى.
ثم يذهب الإنسان إلى عمله أو كسبه أو دراسته أو سوقه أو دكانه؛ لأن الإسلام حركة وحياة، فالإسلام في السوق، وفي الدكان، وفي المكتب، وفي الفصل وعليه أن يتجنب اللغو، قال الله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3] وأن يكثر من الذكر، وأقترح على المسلم أن يكون مصحفه في رمضان في جيبه، وإن كان حافظاً فليقرأ من حفظه، وإن كان أمياً لا يقرأ القرآن فليكثر من التسبيح والتحميد والتهليل، فهي غراس الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: {الجنة قيعان وغراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر} رواه الترمذي، وليردد ما يحفظ من السور.
ثم يصلي الظهر في جماعة، وحذار حذار -يا أيها الإخوة- من تفويت صلاة الجماعة، فإن بعض الناس يفوت صلاة الجماعة حتى في رمضان، وهذه خطيئة كبيرة، بل يرى كثيرٌ من أهل العلم -وهو القول الصحيح- أن صلاة الجماعة واجبة، وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من سمع النداء ولم يجب فلا صلاة له إلا من عذر} رواه أحمد وابن ماجة والحاكم، وصححه ابن تيمية وعبد الحق الأشبيلي، وهو صحيح فالله الله في صلاة الجماعة خاصة في رمضان.(34/17)
بعد العصر للقرآن
ثم يواصل في عمله أو في عبادته حتى تأتي صلاة العصر فيصلي، أما من بعد العصر فهو وقت القرآن إلى الغروب، وأرى أن تخفف أعمال الدنيا بعد صلاة العصر، وأن يتشاغل الإنسان بالمصحف وفي المسجد أحسن، وكان السلف يجلسون في المسجد في رمضان بعد العصر، وأرى أن تبقى في مسجدك إذا لم يكن لك غرض في بيتك، فإنه: {ما جلس قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم؛ إلا حفتهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وتنزلت عليهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده} وجاء عند أبي داود وهو صحيح فيما أرى، ولو أن بعض الفضلاء يحسنونه، يقول صلى الله عليه وسلم: {لأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس؛ أحب إلى من أن أعتق أربعة} وهذا فضل عظيم، وهو أفضل من عتق أربع رقاب، فاجلس من العصر إلى صلاة المغرب واحتسبها في سبيل الله عز وجل.
فالمطلوب -يا أخي- مني ومنك أن نبقى في المسجد بعد العصر لنقرأ كتاب الله عز وجل، ونردده ونعيش معه ونتأمله، وإذا اقترب الغروب فعليك بالدعاء، وارفع أكف الضراعة، وعليك بجوامع الدعاء المأثورة عن معلم الخير عليه الصلاة والسلام، كأن تقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، أو: اللهم إني أسألك العفو والعافية، أو: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، وغير ذلك من الأدعية.(34/18)
الإفطار
ثم تفطر على الذي ورد في السنة وهو الرطب، فإذا لم يكن رطب فتمر، فإن لم يكن تمر فلتحس حسوات من ماء، ولك دعوة لا ترد، وعليك أن تعجل إفطارك إذا سمعت الأذان وغربت الشمس، فقد جاء في الصحيح: {لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطور وأخروا السحور} وهذا هديه عليه الصلاة والسلام، وكان يقول: {إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم} فعليك أن تبادر بالإفطار، وأن تحمد الله عز وجل على نعمة الإفطار.
يقول أهل العلم: إن من لطائف هذا الدين ومن أسراره أن جعل الإفطار شيئاً حلواً؛ لأن المعدة الخالية لا يناسبها إلا الحلو، فجعل صلى الله عليه وسلم الإفطار رطباً أو تمراً، فأفطر، ثم قم لصلاة المغرب، واحمد الله عز وجل على هذه النعمة {للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه} فإن الصائم الذي يتعب في العبادة، إذا اقترب منه إفطاره فرح به وسر، ويفرح إذا لقي الله يوم العرض الأكبر.
وبعد صلاة المغرب تعود لتناول طعام العشاء، وعليك أن تخفف منه نسبياً؛ لأن بعض الناس يشتغل شغلاً عارماً في الأكل، حتى أنه لا يستطيع أن يصلي التراويح مع الناس، ويصبح مقعداً، وتجده يتدحرج إلى المسجد تدحرجاً، لأنه جعل على بطنه مخلاةً من الطعام من كل ما لذ وطاب، وأفلت يده، وهذا أساس الكسل، والأحسن أن يأكل الإنسان إفطاره على فترات، لا بأس أن يأكل شيئاً، ثم يترك إلى بعد التراويح شيئاً، حتى يستطيع أن يقوم للعبادة نشيطاً؛ ولا يصلي صلاة التراويح جالساً أو مغمىً عليه.(34/19)
صلاة العشاء والتراويح
أما صلاة العشاء جماعة فقليل من الناس من يترك ذلك، لكن صلاة التراويح يتركها كثير من الناس خاصة من الشباب، فيذهبون إلى ملاعب الكرة، أو إلى التنس والطاولة، أو إلى دور السباحة، أو إلى اللهو واللعب فحذار حذار من هذا! وصلاة التراويح فضلها عظيم، يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد وابن حبان: {إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة} حديث صحيح، فلو صلى بك الإمام إحدى عشرة ركعة، وصليت معه حتى ينتهي كتب الله لك كأنك صليت الليلة كلها.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً: {من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} ألا تريدون هذا الأجر؟! والقيام هنا المراد به صلاة التراويح فيما أعلم، والله أعلم.
والأقرب للسنة -وهو نص أهل العلم وعليه كلام الأئمة من المحدثين- أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما زاد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، لحديث عائشة في الصحيحين، فأرى أن الأئمة يقتصرون على إحدى عشرة ركعة بخشوع وخضوع، ويخففون على الناس، ويتدبرون كتاب الله، وهذا هو الأقرب لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ثم يعود إلى بيته بعد التراويح، فإن أراد أن يزور قريباً أو صديقاً زاره أو يستقبل أحد الناس استقبله، وأرى أن يكون له قبل السحر إغفاءة ولو قليلاً ليرتاح جسمه، وأهل الطب يقولون: لا يعوض نوم النهار نوم الليل أبداً سبحان الله! مهما نام الإنسان في النهار لا يعوض نوم الليل؛ لأن الله جعل النهار معاشاً، والليل لباساً وسباتاً، والسر في ذلك -كما يقول بعض الأطباء الجهابذة-: أن الخلايا التي في الجسم لا تنام إلا في الليل؛ لأن الشمس تغرب، فإذا غربت الشمس نامت الخلايا، أما في النهار فلا تنام بل تبقى متحركة ولو نمت أنت، ولذلك يوصون أن يكون لك ولو ساعة من الليل تنامها.(34/20)
وقت السحر
ثم تستيقظ قبل السحر فتتوضأ وتصلي ما تيسر ولو ركعتين أو أربعاً، وتدعو الله عز وجل فإن وقت السحر وقت فاضل.
قلت لليل هل بجوفك سرٌ عامر بالحديث والأسرار
قال لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار
قال الله تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18] قال الحسن البصري رحمه الله: [أمضوا الليل بالصلاة فلما أتى السحر استغفروا]] وقال بعض الفضلاء: عجيب، أنهم كانوا في عبادة وفي قيام، ومع ذلك في السحر يستغفرون.
وإنه لفضل عظيم أن تقوم بعد العبادة والتعب وتقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، وكأنك كنت مقصراً، أو أتيت بمعصية، وهذه علامة التوفيق والقبول بإذن الله.
ثم تتسحر على بركة الله، والسحور فيه بركة، يقول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: {تسحروا فإن في السحور بركة} وبعض الشباب يتعشون ولا يتسحرون، وليس المقصد هو الأكل لذاته، ولكن السحور له مقاصد، منها:
مخالفة أهل الكتاب؛ فقد جاء في السنن من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، وهو حديث حسن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {فصل ما بيننا وبين أهل الكتاب أكلة السحر} فيجب علينا أن نخالف أهل الكتاب، فإذا شرقوا غربنا، وإذا غربوا شرقنا، إلا ما أتت فيه النصوص.
ومنها: أنك تدعو الله في السحور، ومنها: أنك تستعين به على طاعة الله؛ لأنه قد يطول عليك اليوم، فعليك أن تستعين بهذا السحور على طول النهار، ومنها: أنك تحمد الله على النعمة، ومنها: أنك تتبع سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
قيل لـ زيد بن ثابت، والحديث في الصحيحين {كم كان بين سحوره صلى الله عليه وسلم وأذان الفجر؟ قال: قدر قراءة خمسين آية} لله درك! ما أحسن هذه الإجابة! خمسون آية يقرؤها الإنسان بين سحوره عليه الصلاة والسلام إلى أذان الفجر، أي: بقدر ربع أو ثلث ساعة، ومن أكل حتى يؤذن فله ذلك، فإن بعض الناس يبقى يأكل ولا يكف، ثم يأتي يسأل ويقول: بقيت آكل حتى الإقامة، فما الحكم؟
وقد جاء عند أبي داود والحاكم: {إذا رفع أحدكم الإناء في يده وسمع الأذان فلا يضع الإناء حتى يقضي نهمته} وهذا إذا قدر أن الإنسان ضايقه الوقت وهو يأكل فرفع اللقمة فسمع الأذان، فله أن يأكل هذه اللقمة، أو رفع الإناء وسمع الأذان فليشرب، أما أن يستحدث عملاً بعد الأذان فلا لا يرفع لقمة، ولا يرفع إناءً بعد الأذان، لكن يأكل الذي في يده، وهذا رحمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمة، أن رخص لهم في هذا، وهذا هو الصحيح.
لكن أرى أن يكف المسلم قبل الأذان بثلث أو ربع ساعة، يتأمل فيها ويستغفر، ويتوضأ ويبادر إلى المسجد، وحذار أن ينام -وهذا ليس محرماً لكن خشية أن تفوت صلاة الفجر جماعة- بين السحور والفجر، بل يذهب متوضئاً إلى المسجد، وينتظر صلاة الفجر مهللاً مكبراً داعياً مولاه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ويحضر صلاة الفجر في جماعة.
هذا جدول نسبي تقريبي يقبل وجهة النظر، ولعل هناك جدولاً أحسن منه، ولكن هذا إنما هو من باب التواصي.(34/21)
خصائص رمضان
أيها الإخوة الكرام: لرمضان خصائص نذكر بعضاً منها(34/22)
خلوف فم الصائم
قال صلى الله عليه وسلم: {لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك} والخلوف هو الرائحة التي يخرجها الإنسان بعد الجوع، وهي أطيب عند الله عز وجل من ريح المسك، وأنت قد تتأذى لو شممت رائحة صائم ولا تصبر، لكن الله عز وجل جعلها أحسن من ريح المسك، ودم الشهيد في المعركة يأتي اللون لون الدم، والريح ريح المسك فما أحسن ذلك! وما أحسن الرائحة والطعم واللون! أما اللون فلون دم الشهيد في المعركة، وأما الرائحة فرائحة خلوف فم الصائم.
وقد جاء عند ابن ماجة حديث: {استاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي} وهذا حديث لا يصح، بل هو أقرب إلى الوضع، وهو موقوف على بعض الصحابة، ولا يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بل الصحيح أن تستاك أول النهار وآخره، والشوافع يقولون: يسن السواك أول النهار، ويكره بعد الزوال.
وهي رواية للحنابلة، وهذا خطأ مخالف للأدلة، ولهم استنباط في ذلك، يقولون: لو أنك استكت بعد الزوال لأذهبت الخلوف الذي هو أحب إلى الله من ريح المسك وهذا ليس بصحيح؛ لأن الخلوف يأتي من المعدة، لا من الفم، ومهما استاك الصائم فلا ينقطع هذا الخلوف، فبطل ما قالوا سنداً واستنباطاً.
وفي حديث عامر بن ربيعة الصحيح عند الترمذي: {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك ما لا أحصي وهو صائم} وقد علقه البخاري؛ لأنه ليس على شرطه، ويكفي في ذلك عموم حديث أبي هريرة مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة} وفي رواية: {عند كل وضوء} وهذا عموم في رمضان وفي غيره.(34/23)
استغفار الملائكة للصائمين
ومنها: استغفار الملائكة للصائمين، نسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا وإياكم ممن استغفرت لهم الملائكة وقد ثبت هذا في أحاديث كثيرة منها: {إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين} وهذا حديث حسن ثابت، والملائكة تستغفر كذلك للصائمين، وتسأل الله لهم القبول والتوبة.(34/24)
تزين الجنة
ومنها: تزين الجنة لأولياء الله عز وجل في رمضان.(34/25)
تصفد الشياطين
ومن خصائص رمضان: أنه تصفد فيه مردة الشياطين وهناك سؤال لابد منه، وهو: هل تصفد جميع الشياطين، مع العلم أننا نرى بعض الناس يقتل في رمضان، وبعض الناس يزني في رمضان، وبعض الناس يسرق في رمضان؟ أجاب الحافظ ابن حجر، فقال: لا، بل التي تصفد إنما هم المردة، وأما غيرهم فلا.
وصدق -رحمه الله- فإن المردة وهم الشياطين الأقوياء الرءوس الذين لهم مسح شامل وقوة فريدة في إغواء الناس، هؤلاء يصفدون، أما بقية الشياطين الضعاف فيبقون يزاولون أعمالهم حتى في رمضان وهذا استنباط عجيب! ولله در ابن حجر! وقد سبقه بعض الحفاظ إلى هذا، وهذا صحيح، فإنك تجد أن المعاصي والجرائم تقل -والحمد لله- في الناس في رمضان؛ لأن الشياطين تصفد، فتنكسر النفوس وتخشع القلوب.(34/26)
فتح أبواب الجنة وغلق أبواب النار
ومنها: أنه تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار تفتح أبواب الجنة استعداداً لقبول عباد الله عز وجل، وتهيئةً وكرامةً لهم، وتغلق أبواب جهنم، نسأل الله أن يغلق عنا وعنكم أبواب جهنم.(34/27)
ليلة القدر
ومن خصائص رمضان: أن فيه ليلة القدر، قال الله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] وهي في العشر الأواخر، وبالأخص في الأوتار، وفي ليلة سبع وعشرين أرجى، ويوفق لها من وفقه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فنسأل الله أن يوفقنا لليلة القدر، وفي الصحيحين مرفوعاً: {من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} إيماناً بالله، أي أنه لا يحمله إلا الإيمان، واحتساباً: أي أنه صادق النية محتسب الأجر على الله.(34/28)
أمور لابد أن ينتبه لها الصائم
والآن أنبه على بعض الأمور الذي يقع فيها بعض الصائمين:(34/29)
سماع الغناء
فإن الغناء محرم في رمضان وفي غيره، لكن كثيراً من الصائمين يقعون في سماعه، فلا يتغير في بيتهم شيء، فالمعازف، واللهو، والموسيقى، والأغنيات موجودة بأنواعها، وهذا دمار للروح وإفساد للصوم.(34/30)
الغيبة
ومنها: الغيبة فإن البعض لا يتحاشى الغيبة، والذي يظهر -والله أعلم- أنها لا تفطر، لكنها تذهب الأجر، وقد توقف ابن حزم عند هذه كثيراً، وهناك قول ضعيف يرى أن الغيبة تفطر، وأن على الصائم أن يقضي يوماً آخر، ولكن جمهور أهل العلم لا يرون ذلك، ويرون أن الإنسان يستغفر ويتوب إلى الله، أما أجره فقد يذهب بالغيبة.(34/31)
الأفلام الخليعة والرفقة السيئة
ومنها: الأفلام الخليعة فإن بعض الناس صامت بطونهم وما صامت عيونهم، وصامت بطونهم وما صامت آذانهم، وصامت بطونهم وما صامت قلوبهم، فهذا صوم ناقص ليس مقصوداً في الإسلام.
ومنها: أن بعض الناس يرافق رفقة السوء حتى في رمضان، وهل أفسد شبابنا إلا رفقة السوء وعصابة الانحراف، الذين صدوا الناس عن منهج رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، وعن صراط الله المستقيم، وهذا خطر عظيم، نسأل الله أن يكفينا وإياكم شر كل ذي شر.(34/32)
الاهتمام بالعشر الأواخر
ومن الأمور التي ينبه عليها: الاهتمام بالعشر الأواخر فعلى المسلم أن يكثف من عبادته في العشر الأواخر، فيختم القرآن كثيراً، ويصلي في الليل كثيراً، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام {أنه كان إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله} قال بعض الشراح: شد مئزره أي: اعتزل النساء، وقال بعضهم: بل شد وشمر للعبادة، (وأحيا ليله) أي: أحياه بالعبادة حتى صلاة الفجر، (وأيقظ أهله) أي: طلب من أهله أن يصلوا معه، فالعشر لها تميز آخر.
وحبذا لمن استطاع أن يجعل العشر الأواخر في الحرم الشريف؛ فإنه أسكن لقلبه وأخشع، ولم يكن عنده ظروف ولا مشقة، ولا يترك من المصالح أعظم مما يذهب إليه وهنا تنبيه: كثير من الأئمة يسافرون في رمضان ويتركون المساجد خاوية على عروشها، فيوكل في أول رمضان، والوكيل يوكل، ووكيل الوكيل يوكل، فيصبح المؤذن يصلي بالناس، فتنتقل صلاة التراويح إلى الفراش، ثم يذهب الأئمة ويغلق المسجد، وهذا خطأ تترك وأنت إمام وتذهب إلى الحرم! أي أجر تحصل عليه وقد ضيعت أكبر الفرائض وهي إمامة الناس التي كلفت بها؟!
وبعض الدعاة له نفع في بلده وفي مدينته، فيترك هذا النفع ويترك الدروس ويذهب إلى الحرم، وهذا يكون نفعه لازماً، والنفع المتعدي هو الأعظم؛ لأن كونك تدرس وتعلم، أعظم من أن تكون عابداً منزوياً في طرف الحرم، ولو كانت المسألة هكذا لرجع الصحابة من سجستان، ورجعوا من بغداد ومن دمشق إلى الحرم، لكنهم ما فعلوا؛ لأن الأصلح أن يكونوا هناك.(34/33)
العمرة في رمضان
ومنها: أن على المسلم أن يحرص أن يعتمر في رمضان، ففي حديث أم معقل بنت يسار، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لزوجها: {لماذا ما حججت معي؟ قال: يا رسول الله شغلني شاغل -أو كما قال- قال: فاعتمر في رمضان فأن عمرة في رمضان كحجة معي} وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قاله للمرأة، وهذا ثابت في الصحيح، فعلى المسلم أن يحرص أن يعتمر في رمضان، عسى الله أن يتقبل منا ومنه.(34/34)
الإنفاق في سبيل الله
ومن التنبيهات: أن على الناس أن يغتنموا تفطير الصائمين والمحتاجين، يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {من فطَّر صائماً فله مثل أجره دون أن ينقص من أجره شيء} أي: أنك إذا فطَّرت صائماً كتب الله لك كأجر الصائم دون أن ينقص من أجره شيء.
قيل عن الوزير ابن هبيرة الحنبلي: كان يفطر كل ليلة عشرة آلاف لكنه وزير، وعنده ميزانية ضخمة، فهو يستطيع ذلك، وكان مستجاب الدعوة، فقد روي: أنه حج مرة وقد قحط الناس، فقال: " اللهم أغثنا " فنزل الغيث حتى شرب الناس الثلج، فبكى وقال: " يا ليتني سألت الله المغفرة " هذا الوزير ابن هبيرة أمره عجيب، وهو صاحب الإفصاح، كان يفطر في كل ليلة عشرة آلاف، وهذا من ماله الخاص، وإلا لو كان من المال العام لما كتب الله له أجراً، وهذا أمر معلوم لا بد أن ينتبه له.
فاحرص على أن تفطر فقيراً، أو مسكيناً، أو محتاجاً، أو اثنين أو ثلاثة، كل إنسان على قدره، وما تجود به نفسه، وحبذا أن يحضر شيئاً من التمر، وشيئاً من الماء واللبن إلى المسجد؛ لأنه قد يجد فقيراً أو محتاجاً أو منقطعاً في المسجد، ويسأل عن الفقراء؛ علَّ الله عز وجل أن يكرمه يوم العرض الأكبر.
هذا ما أردت أن أقوله في هذه العجالة، مع العلم أن المسألة مسألة عمل، والكلام كثير، وعندنا نحن المسلمين ترف في الحديث، ولكن علَّ الذكرى أن تنفع، وعلَّ الكلام أن يجد قبولاً، جعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.(34/35)
نداء للمرأة المسلمة
وأنبه في آخر هذه المحاضرة الأمهات والأخوات المسلمات أن يتقين الله عز وجل، وأن يحرصن في هذا الشهر القادم الفضيل على استغلاله واغتنامه فيما يقربهن من الواحد الأحد، بالصلاة والذكر والدعاء والحجاب، وأحذرهن من نزول الأسواق في كل وقت وخاصة في رمضان، فإن الكثير من النساء حتى في رمضان بعد التراويح وفي أثناء التراويح ينزلن إلى الأسواق، وهذا دليل على قلة الفقه، وعلى قلة الورع والتقوى، وليس في الأسواق خير، وهذا مما يجر الويلات والسيئات على الأمة وعلى الأفراد والشعوب، من الاختلاط، والأمور التي تسبب غضب الله تبارك وتعالى.
وأوصي الأمهات أيضاً بتربية أبنائهن على الصيام إذا قاربوا البلوغ، وإذا وصلوا إلى العاشرة، فعليهن أن يعودنهم على الصيام كما كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يعودون أبناءهم على ذلك، وأن تكون الأم حصيفة في بيتها، وأن تقوم على شئون بيتها في رمضان أمراً ونهياً، وتستفيد من هذه الدروس والعبر، وألا تشغلها شواغل عن أن تقدم حسنات لنفسها من قراءة وتلاوة وذكر.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية والرشد والسداد، وأشكر الله عز وجل على أن جمعني بكم في هذا المقام، ونسأل الله أن يبلغنا رمضانات عديدة، ويحيينا في الخيرات أياماً مديدة، وأن يجعلنا ممن انسلخ عنهم الشهر وقد رضي عنهم، ونسأله أن يجمعنا بكم في رمضان آخر، فإن عز ففي مقعد صدق عند مليك مقتدر.
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(34/36)
الأسئلة(34/37)
واجبنا نحو المجاهدين الأفغان
السؤال
إن رمضان شهر الجهاد، ولنا إخوان يجاهدون في سبيل الله في أفغانستان وغيرها، فما هو واجبنا تجاه هؤلاء المجاهدين في سبيل الله في هذا الشهر المبارك؟
الجواب
هؤلاء المجاهدون اجتمع عليهم في رمضان جهادان: جهاد الأنفس وجهاد الأعداء الكفار، جهاد بالسلاح وجهاد الجوع والظمأ والمشقة، ونحن -والحمد لله- في أمن واستقرار، أزال الله عدونا، ونحمده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على أن أسبل علينا ثوب الأمن، وعلى أن حمانا من العدو الظالم المعتدي، الذي أراد أن يجتاحنا، فوالله لولا نصر الله ما انتصرنا، ولولا أن الله كتب أن ننتصر ما سحق هذا العدو، وكما قلت لكم: ما أشهاها وما أحسنها أن يعفر وجه البعث بالتراب! يقول أبو تمام:
ما ربع مية محفوفاً يطوف به غيلان أبهى لها من خدها التيب
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب
رمى بك الله جنبيها فحطمها ولو رمى بك غير الله لم يصب
من الذي أصاب؟ إنه الله {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] ولولا أن الله كتب لنا النصر لاجتاحنا العدو، ولصمنا رمضان في بلاد أخرى، لكن لله الحمد على أن حمانا ورعانا ووقانا وكفانا، فنسأله أن يزيدنا أمناً وإيماناً واستقراراً وإخواننا في أفغانستان يحتاجون إلى المدد، فهم فقراء يحتاجون إلى من يطعمهم، وإلى من يعطيهم ويكسوهم، وأنتم قد عودتمونا وعودتم العالم أنكم أنتم الذين تبذلون الأرواح، وليس الدراهم والدنانير فقط، فأبناؤكم هم الذي سحقوا تحت الدبابات في أفغانستان، وقصفوا بالقنابل هناك في الجبال، فليس بعزيز عليكم أن تنفقوا أموالكم في سبيل الله خاصة في رمضان.(34/38)
كلمة للإخوة الكويتيين
السؤال
نريد من فضيلة الشيخ همسة حب، ولفتة محب للأمة بعد انجلاء الغمة، وخصوصاً لإخواننا الضيوف علينا، أعني: الكويتيين، فتفضلوا جزاكم الله خيراً.
الجواب
تكرار الكلام يكلف على النفس، وقبل ليلتين كانت هناك محاضرة في جامع التركي بعنوان: واجب الأمة بعد زوال الغمة، فلا أريد أن أكرر الكلام الذي قيل، ولكن أستغلها فرصة، وأغتنمها مناسبة؛ فأحمد الله عز وجل على أن رد هذا الشعب إلى أرضه، وأهنِّئ هؤلاء الإخوة والجيران الأشقاء على أن عادوا، ولكن مع التهنئة أوصيهم ونفسي بتقوى الله، وأن يحمدوا المنعم سبحانه، وأن يسجدوا له سجود الشكر، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا انتصر سجد لله سجود الشكر، ثم إني آمرهم أن يقيموا أوامر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في أنفسهم وفي مجتمعاتهم، قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] هذا ما أريد أن أقوله.
بقيت مسألة وهي: كيف نعبر عن النصر؟ هناك محاضرة في مسجد الذياب في حي السلي، وسوف يكون فيها لفتات عن التعبير عن النصر، كيف نعبر عن النصر؟ هل نعبر عن النصر بحفلات الاختلاط، وبالسهرات الحمراء، وبالغناء، وبتعدي حدود الله؟ لا التعبير عن النصر يكون بالخضوع لله، والشكر له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وتحكيم شرعه، والانضواء تحت مظلة لا إله إلا الله محمد رسول الله، والتشرف بحمل وثيقة إياك نعبد وإياك نستعين.
وأقول للإخوة الكويتيين: تأملوا وتفكروا في حالتين: تلك الليلة التي شردتم فيها من دياركم، وأخرجتم من أهلكم وذويكم، من الهلع والخوف والمشقة والغربة والأسى واللوعة، وهذه الليلة التي تعودون فاتحين منتصرين راجعين إلى أماكنكم، فاحمدوا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو الذي ردكم وهو الناصر وحده، كما قال عليه الصلاة والسلام: {لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده}.(34/39)
أخاف على نفسي من الانتكاسة
السؤال
أولاً: نقول من صميم قلوبنا: إننا نحبك في الله.
سؤالي: أنا شاب أبلغ من العمر ستة عشر عاماً، قد هداني الله عز وجل منذ أشهر قلائل، ولي إخوة ما زالوا على ضلالهم، ويعيشون من المنكرات ما الله به عليم، وكان لي إخوة في الله ينصحونني، ويوجهونني، ويحثونني على كل خير، ولكن قلت في نفسي: أترك إخوتي في الله لكي أتفرغ لإخوتي من أبي، فتركت إخوتي في الله، وأنا اليوم في حيرة من أمري، وأخشى على نفسي من الانتكاسة بعد الهداية، فما نصيحتك لي مع بداية هذا الشهر الكريم؟
الجواب
أولاً: أحبكم الله الذي أحببتمونا فيه، وهذا الأخ المقبل على الله عز وجل أسأل الله أن يثبته ويثبت كل مسلم، وأن يزيده بصيرة وتوفيقاً، وفي الحقيقة أن هذا السن -سن السادسة عشرة وما يقاربها- سن خطير، والإنسان فيه بين مفترق الطرق، مع نقص نسبي في العقل، ومع كثرة العواطف والاندفاع، ومع قلة العلم، ومع الشهوة العارمة، ويسميه بعض الناس من القدامى: سن الجنون، وقد روي عن عمر: [[الشباب شعبة من الجنون]] وهذا أمر معهود عند كثير من الناس والأمم، أن سن الشباب هو سن الغلطات والعواطف إن لم يعصم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ويوفق.
وتجد الإنسان اليوم يلوم نفسه على فعل فعله بالأمس أو في الصغر، ويرى أنه ارتكب حماقات، وغلطات، وأخطاء، فأقول لك: عليك بأمور، منها: أن تنضوي -بعد التجائك إلى الله عز وجل- إلى شيخ عالم فقيه ورع، أو طالب علم تثق به، فيكون بينك وبينه مدرسة وصلة ونسبة، دائماً تستفتيه وتشاوره وتجلس معه، ثم يكون لك رفقة صالحون من عباد الله الأتقياء البررة.
الأمر الثاني: أرى أن تطلب العلم، فإن سنك يطلب فيه العلم، فالذهن متفتح ومتفتق وقابل، فأرى أن تستعد لحفظ النصوص، وما تيسر من كتاب الله، ومن سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وتدعو الله دائماً: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني.
الأمر الثالث: طاعة الوالدين، وأمرهما بالمعروف ونهيهما عن المنكر بالتي هي أحسن، والقيام على البيت، فإن بعض الشباب إذا اهتدى ترك والده وبيته، واشتغل بالدعوة، وخرج من البيت في المخيمات، وفي اللقاءات، والسمرات والسهرات، مع العلم أنه -أحياناً- ليست هناك دعوة، لكن باسم الدعوة، وإذا أمره أبوه قال: أنا في الدعوة، وإذا نهته أمه، قال: أنا في المحاضرة، أنا مع الشباب، أنا في المخيم، وهذا خطأ كبير، حتى أنك تجد بعض الآباء يصد ابنه عن الاستقامة بسبب هذا الأفعال، ويقول: إذا كان الاتجاه والالتزام والاستقامة يسبب لي ابناً عاقاً لا يقوم معي، ولا يقضي أغراضي، ولا يلبي طلبي، فلا أريد هذا الابن وهذا مسلك خطير، حتى أن الأبناء الذين يفعلون ذلك لا يتقبل منهم أهلهم في بيتهم؛ لأن أهله يرون أنه عاص، وأنه لا يقوم معهم، ولا يحضر عزائمهم ولا ولائمهم، ولا يقضي أغراضهم، ولا يوصل مريضهم إلى المستشفى، ثم يأتي ينصحهم: اتركوا هذا وافعلوا هذا، فلا يتقبلون منه.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
فوصيتي للشاب ألا يكون سلبياً في بيته، بل ولا في حيه، وعليه أن يقدم الخدمات للناس، حتى يستولي على قلوبهم، ويقبلون كلامه، ويعيشون واقعه، وإذا اغترب عنهم تحروه واشتاقوا له، هذا هو الداعية الحق، أما الكلام وحده فلا يكفي، يقول أبو العتاهية:
العنز لا تشبع إلا بالعلف لا تشبع العنز بقول ذي لطف
وهذا فيه حكمة جليلة، يقول: الناس لا يشبعون بالكلام، والمحاضرات لا تشبع أحداً، والرسول صلى الله عليه وسلم لو بقي فقط يتكلم من فوق المنبر بكلمات: افعلوا واتركوا ما أقبلت له العرب، لكنه كان يعطي ثوبه للفقير، ويعطي مائة ناقة لصناديد الناس، ويعطي دموعه، ويسلم خدماته، ويتبسم، ويضيف في بيته، ويذهب إلى المسكين، ويقف مع العجوز، ويمسح رأس الطفل، ويعطي اليتيم، ويحل مشاكل الناس، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويصل الرحم، ويعفو عن الزلة.
فعاش صلى الله عليه وسلم وإذا أفعاله مثل الجبال.
زاد معروفك عندي عظماً وهو في نفسك مستور حقير
تتحاماه كأن لم تأته وهو عند الناس مشهور خطير
{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:62 - 63] فهذه أياديه البيضاء التي طوقت الأعناق عليه الصلاة والسلام، وهي وصية للأخ الشاب.(34/40)
التوبة من الذنوب
السؤال
وقعت في ذنب بدافع الشهوة، وكلما تبت عدت إليه ثانية حتى ملت نفسي وتعبت كثيراً، وأملي في الله كبير، وبقدوم شهر رمضان شهر التوبة أخشى ألا أدركه، فوجهني جزاك الله عني وعن المسلمين خير الجزاء.
الجواب
أولاً: أوصيك ونفسي الآن بالتوبة، الآن وأنت جالس أن تعقد العزم على أن تتوب، ولا تنتظر رمضان؛ لأنه قد تؤخذ نفسك من بين جنبيك قبل أن تصلي العشاء، فالآن اعقد التوبة، وأنا وإياك والحضور نعلن التوبة النصوح عل الله أن يتوب علينا جميعاً.
ثانياً: ما ذكرت من الذنب والخطيئة، فإن هناك رباً يغفر ويرحم، وقد جاء عند ابن حبان عن عائشة {أن رجلاً قال: يا رسول الله! إني أذنب.
قال: تب إلى الله، قال: ثم أذنب، قال: تب إلى الله، قال: ثم أذنب، قال: تب إلى الله.
قال: إلى متى؟ قال: حتى يكون الشيطان هو المدحور} وفي بعض الآثار: {ولو عاد في اليوم سبعين مرة} فأنت ما معك إلا التوبة، وكما يقول ابن عباس: [[اصبحوا تائبين، وامسوا تائبين]] وقال ابن مسعود: [[تحترقون تحترقون، ثم يكشف ما بكم، ثم تحترقون تحترقون، ثم يكشف ما بكم]] فما معي ومعك إلا أن نتوب ونستغفر دائماً، ونجدد توبتنا واستغفارنا علَّ الله أن يرحمنا، هذا ما أطالبك به.
ثالثاً: أرى أن تستغل شهر رمضان في تكفير السيئات الماضية، فتحضر صلاة الجماعة، وتقرأ القرآن، وترافق الصالحين، وتبكي على ما فات منك، وتتأسف وتندم، فإن الندم توبة، وما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة، فاندم على ما فات
تقطعني على التفريط دأباً وبالتفريط نفسك قد قطعتا
وفي صغري تحدثني المنايا وما خطرت بقلبك إذ كبرتا
وتشفق للمصر على الخطايا وترحمه ونفسك ما رحمتا
مشيت القهقرى وخبطت عشوا لعمرك لو وصلت لما رجعتا
إذا ما لم يفدك العلم خيراً فليتك ثم ليتك ما علمتا
وإن ألقاك فهمك في مغاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا
فنسأل الله أن يفهمنا وإياكم، وأن يتوب علينا وعليكم أكرر الشكر لإمام هذا المسجد ولكم، والشكر أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(34/41)
اعرف دينك
كان الأعرابي يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتعلم منه الإسلام في كلمات قليلة، أما نحن فلو جاءنا من يسألنا عن الإسلام حتى يعرفه ويدخل فيه فلربما وقعنا في حيص بيص.
وهنا يحرص الشيخ أن يعطي ملخصاً للدين في كلمات يسيرة مبسطة يفهمها كل من يسمعها أو يقرؤها، وهي مع ذلك تشتمل على أصول الإسلام.(35/1)
سهولة تعلم هذا الدين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
إخوة الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عنوان هذا الدرس (اعرف دينك) في مساء يوم السبت السابع من شهر ذي القعدة لعام ألف وأربعمائة واثنى عشر للهجرة.
(اعرف دينك) موجز مبسط سهل ميسر لهذا الدين الذي بعث به محمد عليه الصلاة والسلام.
من أسرار رسالته عليه الصلاة والسلام أنها ميسرة ومبسطة وسهلة قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17].
ومن خصائص هذا الدين أنه يفهمه الشيخ الكبير المسن، والأمي العامي، والطفل والأعرابي، فقد جعله الله ديناً عاماً للبشر، فكان لزاماً على من يدعو إلى الله عز وجل أن يحاول أن يعرضه وأن يطرحه للناس، علَّ هذا الدين أن يدخل في أهل المدر وأهل الوبر وأن يعيه الناس، ولو قدمنا الإسلام سهلاً ميسراً كما قدمه الرسول عليه الصلاة والسلام لدخل الناس في دين الله أفواجاً، فقد عرضه عليه الصلاة والسلام على الجارية الصغيرة حين تأتي إلى المعلم العظيم عليه الصلاة والسلام فيقول: أين الله؟ فتشير إلى السماء، فقال: {أعتقها فإنها مؤمنة}.
يأتيه الأعرابي يسأله عمن رفع السماوات وبسط بالأرض ونصب الجبال، فيخبره النبي عليه الصلاة السلام فيؤمن ويدخل الجنة، أعرابي آخر يأتي من الصحراء وقد ترك ناقته وغنمه، ويسأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن الدين قال: {أنا أدعو إلى الله الذي إذا أصابك قحط فدعوته كشفه عنك، وإذا ضلت ناقتك في الصحراء فدعوته ردها عليك} فكيف نعرض الدين؟ وكيف نخبر الناس بموجز مبسط.
أما سبب المحاضرة فإني أريد من نفسي وإخواني أن نتنزل في المعلومات والمصطلحات، وأن نقرب الكلمات ليعي الناس هذا الدين بشكل موجز مبسط.
أما فائدة مثل هذا الدرس: فهو مفتاح الجنة، إذا عملت به أخذت المفتاح ودخلت الجنة، وثمرته النجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ومعناه أن تتابع محمداً عليه الصلاة والسلام وتركب سفينته، وسنته كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك.(35/2)
ملخص لدعوته عليه الصلاة والسلام
بعث عليه الصلاة والسلام والعرب لا يفهمون شيئاً عن الله ولا عن الكون ولا عن الحياة ولا عن الإنسان ولا عن اليوم الآخر قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] يخونون يغشون يعبدون الصنم يطوفون بالوثن.
تصور الإنسان العربي قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام بعقله وجثمانه، بدمه، وتفكيره وبصيرته وبصره، يأتي فيجمع حفنة من التمر، فيسجد لها من دون الله، فإذا جاع أكلها، ويذهب إلى الصنم فيرى الثعلب يبول على الصنم فيسجد للصنم، إن حتى أحدهم أنف من هذا فيقول:
أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب
فأتى عليه الصلاة والسلام فعلمنا من هو الله، وكيف خلق السماء، وكيف خلق الأرض، وماذا يستحق، وكيف ندخل الجنة، وكيف نتجنب النار، فأخبرنا أن الخالق هو الله، والرازق هو الله، وأنه لا يستحق العبادة إلا هو سبحانه، وأنه لا يجوز أن يشرك هذا العبد مع الله إلهاً غيره، ثم أخبرنا عليه الصلاة والسلام أنه بشر وأنه يبلغ الدعوة، ولكنه لا يملك ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِك مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً، ولا يشافي ولا يعافي ولا يحيي ولا يرزق إلا الله.(35/3)
معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله
وبعث عليه الصلاة والسلام بلا إله إلا الله محمد رسول الله، أما لا إله إلا الله فمعناها لا معبود بحق إلا الله، فمن ظن أو اعتقد أو فعل شيئاً من العبادة التي يستحقها الله عز وجل لغيره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.
لا إله إلا الله معناها: أنه لا يعبد إلا الله الواحد الأحد؛ لأنه كان هناك آلهة، وكفار قريش آمنوا بالرب سبحانه أنه خالق ورازق، لكنهم جعلوا معه آلهة أخرى، فتوجهوا لها بالعبادات، فأتى صلى الله عليه وسلم يقول: لا إله إلا الله، لا يعبد إلا الله، ولا يسأل إلا الله، ولا يستغاث إلا بالله، ولا يرجى إلا الله، ولا يخاف إلا الله، ولا يرغب إلا فيما عند الله، ولا يرهب إلا مما عند الله عز وجل، حتى يقول لكفار قريش: {قولوا كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم، فقال أبو جهل: وأبيك وعشر كلمات، قال: قولوا لا إله إلا الله.
قال: أما هذه فلا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]} فامتنعوا واعترضوا عليه صلى الله عليه وسلم.(35/4)
شروط لا إله إلا الله
الأول: العلم المنافي للجهل: أن تعلم أنه لا يستحق العبادة إلا الواحد الأحد، لا أن تفعل شيئاً وأنت لا تعتقده، أي تعلمه علم اليقين من قلبك، ولا بد أن تعلم طفلك وأمك الكبيرة وجدتك معنى هذه الكلمة حتى تموت على لا إله إلا الله، لأن بعض الناس يظن أنه إذا قال: لا إله إلا الله نجا، وأنه لا يعذب في الآخرة، ثم تجد لا إله إلا الله في وادٍ وهو في وادٍ، فلا يصرف العبادة لله، ولا يعبد الله، ولا يخلص له ديناً، ويقول: يكفي أن أقول لا إله إلا الله وقد أخطأ؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما سئل عمن هو أسعد الناس بشفاعته عليه الصلاة السلام قال: {من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه} قال أهل العلم: مخلصاً: أي يعمل بمقتضى لا إله إلا الله؛ فأنت تعلم أنه لا إله إلا الله علماً، أي تدرسها دراسة، لا تقلد الآباء، لأن كثيراً من الأجيال والشرائح في المجتمع يقلدون آباءهم وأجدادهم، قالوا: وجدناهم يعبدون فعبدنا، وهذا منطق أبي لهب وأبي جهل، فلا تأخذ الدين وراثة، بل تتعلمه وتدرسه، وتسأل آباءك وأستاذك، وتسأل العلماء عن معنى لا إله إلا الله.
الثاني: اليقين: ومعناه أن تتيقن بقلبك وتعتقد اعتقاداً جازماً بهذا؛ لأن المنافق قد يعلم لا إله إلا الله، ولكن لا يعتقد جدواها، يعلم مثلاً أنه لا يستحق العبادة إلا الله، لكن قلبه يأبى، أما المؤمن فيتيقن يقيناً لا شك فيه.
الثالث: القبول: فبعضهم يعلم ويتيقن، ولكن لا يقبل لا إله إلا الله، ولا يقبل ما بعث به عليه الصلاة والسلام، فلابد أن تقبله وتجعله على عينك ورأسك قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] وبعض الناس يأخذ شيئاً من الإسلام ويترك شيئاً، انظر إليهم في السنن الآن، بعضهم يتضايق من بعض السنن، يقول: يكفي أن أصلى وأن أصوم وأن أحج، أما هذه فثقيلة أو لا أستطيع، فهم من الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، وهم من الذين جعلوا دينهم عضين، ومن الذين فرقوا دينهم، فهؤلاء لا يرضى الله عملهم حتى يتموا القبول من الرسول عليه الصلاة والسلام، فعليك أن تقبل وأن تجعل ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم أغلى عندك من مالك ودمك وأهلك ونفسك.
الرابع: الانقياد: إذا قبلت ما جاء به صلى الله عليه وسلم فعليك أن تنقاد كما ينقاد الجمل لصاحبه، والمؤمن أكرم لكنك تسلم مقاليد نفسك وحياتك للرسول صلى الله عليه وسلم، فتعطيه معتقدك وحياتك وأدبك وسلوكك وأخلاقك، وتلزم كل حياتك على منهجه صلى الله عليه وسلم، فإن بعضهم الآن يأخذ منهج حياته في المعتقد من الإسلام، وفي الأخلاق من الغرب، وفي السلوك من الشرق، وفي الأعمال والمعاملة من فلان وعلان، فخذ أنت منهجك من محمد عليه الصلاة والسلام وحده: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
الخامس: الإخلاص: فلا تقولها رياءً، أو لا تعبد الله عز وجل رياءً بل كما قال تعالى: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] فهو الذي يطلع على السرائر، وهو الذي يعلم ما في الضمائر، فتخلص له العبادة.
يقول الله عز وجل: {من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه} رواه مسلم.
ولو ذرةً، تركه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وما عمل، فلابد أن يكون عملك خالصاً لوجه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
السادس: الصدق: فلا تكن كاذباً في قولك، ولا فعلك، ولا كاذباً في اعتقادك، ويظهر الكذب في بعض الناس، فمن يقل: لا إله إلا الله ولا يصلي الفجر في جماعة فهو كاذب في لا إله إلا الله، ومن يقل: لا إله إلا الله وأمواله في البنوك الربوية فهو كاذب في لا إله إلا الله، من يقل: لا إله إلا الله وهو يوالي أعداء الله على أولياء الله فهو كاذب في لا إله إلا الله!
لا إله إلا الله ليست كلمة فقط، فلو كانت كلمة فحسب لقالها اليهودي والنصراني والبوذي والشيوعي ودخلوا الجنة، لكن حرمها الله عليهم لأنهم ما عملوا بمقتضاها وما صدقوا فيها.
من الكذب في الأخلاق: أن تتعامل مع المسلمين بأخلاق اليهود فتخونهم، وتتعرض لهم، وتضمر لهم الدسائس، وتكيد لهم المكائد، وتطلب لهم العثرات، وتفرح بزلاتهم، وهذا كذب في لا إله إلا الله، وقس على ذلك كثيراً من السنن.
السابع: المحبة: أن تندفع إلى الدين بمحبة وبقلب، أن تأتي للمسجد وصدرك منشرح، لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قال في المنافقين: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] ويقول: {وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54] فالمنافق ينفق وهو كاره، ويأتي للمسجد وهو كاره، ويحضر المحاضرة وهو كاره، أما أنت فتحب وتحمد الله عز وجل على أن أجلسك في المسجد، وعلى أن جعلك تصلي وتصوم وتحج وتعتمر، ولم يجعلك شيوعياً ولا نصرانياً ولا يهودياً ولا بوذياً.
وقد كان في استطاعة الله وبحكمته أن يولد الإنسان كافراً وأن يعيش كافراً وأن يموت كافراً، لكن اختارك الله واجتباك واصطفاك من بين الألوف المؤلفة والملايين المملينة لتكون مسلماً، تقول: لا إله إلا الله بمحبة، وتعتقد لا إله إلا الله محبة، وتعمل السنن بمحبة، بعض الناس يتضايق من السنن، يعمل بعض السنن ويقول: والله في قلبي حرج، ولولا بعض الأمور والمجاملات لما فعلت، فهذا في قلبه حرج، لا يحب ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
الثامن: الكفر بما سوى الله تعالى قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} [البقرة:256] التخلي والتحلي؛ أن تكفر بغير الله عز وجل فلا تتعلق بغيره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من وثن أو صنم أو نجم أو كوكب أو شمس أو قمر أو شيخ أو معلم أو مرءوس، فلا تتجه إلا إلى الله الواحد الأحد قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وصور الشرك كثيرة، منها متطور ومنها بسيط، ومنها أبجدي ومنها عالي المستوى معقد، فكل بحسبه، الأعراب عند المشعوذين والكهنة والسحرة والأنصاب والأزلام إلا من رحم الله، بعض الذين تعلموا وأخذوا نصيباً من العلم عند المشايخ، يقدم رأي الشيخ على كلام الله عز وجل وكلام رسوله إلا من عصم الله عز وجل، بعض الناس عند الكيانات والاتجاه إلى غير الله عز وجل وإلى المصادر التي ما أنزل الله بها من سلطان، هذه صور من صور الشرك، وهي تتطور مع تطور الزمن، ولكن تبقى مظلة لا إله إلا الله محمد رسول الله.(35/5)
معنى محمد رسول الله
ما معنى محمد رسول الله؟ أن تشهد أن هذا الرجل الأمي الهاشمي التهامي عليه الصلاة والسلام بعثه الله خاتماً للرسل، فهو معصوم لا ينطق عن الهوى ولا يقول إلا وحياً، وأنه قدوة للناس، وأن من لم يتبعه دخل النار، وأنه عليه الصلاة والسلام لن يبعث أحد بعده، وأنه صلى الله عليه وسلم ما كتم من الوحي شيئاً ولا خان ولا غش ولا ضل عليه الصلاة والسلام.(35/6)
حق الله على العبيد
لله عليك حقوق ولك حقوق أوجبها الله على نفسه، ولم يوجبها أحد من الناس.
أما حقوقه سُبحَانَهُ وَتَعَالى عليك فمنها ما يلي:(35/7)
العبادة حق الله على العبد
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وهذه لا يختلف فيها الناس: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93] والله يطلب من الإنسان أن يقترب منه بالعبودية، ولا تقترب إلى الله ولا يحبك إلا إذا عبدته، وفي صحيح البخاري أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال عن الله عز وجل أنه قال: {وما تقرب إلي عبدي بأحب مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به الحديث} دل الحديث على أنه كلما اقتربت من الله بالنوافل قربك، وأن أقرب الناس منه العابدون، قال عن الأنبياء: {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73].(35/8)
الاستعانة بالله حق لله على العبد
ثم الاستعانة: ألا تستعين إلا به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قال صلى الله عليه وسلم: {وإذا استعنت فاستعن بالله} وهذا فيه تفصيل لأهل العلم قالوا: يستعان بالبشر فيما يقدر عليه البشر، فلك أن تستعين بالإنسان أن يحمل معك غرضاً في سيارتك أو أن يوصلك مكاناً أو يدلك على مقصد، أو أن يبني معك بيتاً، لكن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله حرام أن تستعين فيها بغير الله كالمشافاة والمعافاة، وطلب الرزق، والإماتة والإحياء، وتسهيل الأمور وتفريج الكرب، لا يستطيع عليها ولا يقدر عليها إلا الله قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] وقال صلى الله عليه وسلم: {وإذا استعنت فاستعن بالله}.(35/9)
الاستغاثة بالله حق لله على العبد
ومنها الاستغاثة قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9] قيل عن معروف الكرخي أنه كان يجلس في المجلس الواحد ويقول: واغوثاه! واغوثاه! أكثر من ألف مرة، فقيل له في ذلك، فقال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9] فلا تستغث إلا به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والناس يظنون أن بعض الناس له يد في نزول القطر والمطر، وأن بوجوده أو بحضوره أو بحصوله أو ببركته ينزل الغيث، وهذا شرك بالواحد الأحد، لا ينزل الغيث إلا الله، ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله.(35/10)
الرجاء حق لله على العبد
ومنها الرجاء: أن ترجو الواحد الأحد، فلا يرجى إلا هو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لدفع المكروه، وتجد بعض من يشرك في مسألة الرجاء يرجو غير الله أكثر من الله، ويقول للناس: أنتم الذي سهلتم هذه المسألة ولو لم تفعلوا ما تسهلت، وهذا شرك بالمولى، فوالله الذي لا إله إلا هو إن لم يسهلها الله ما تسهلت، ويقول لي آخر: أنت الذي فعل وصنع، وأنت الذي قرر، وأنت الذي سهل، وأنت الذي يسر، ونسي الواحد الأحد، فمقاليد الأمور بيد الواحد الأحد، بيده تفل الحبال وتفتل، تبارك الله رب العالمين!(35/11)
الخوف من الله حق لله على العبد
ومنها الخوف قال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] في الرجاء والخوف والرغبة والرهبة: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [الأنبياء:90].
ألا تخاف إلا منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيما لا يخاف إلا منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ليس الخوف الطبيعي، فإن الإنسان قد يخاف من الأسد، ويخاف من الثعبان، فهذا مركب في الفطرة، لكن بعض الناس يخاف من بعض الناس أن يمنعه الرزق أو يعطله من الحياة، أو يغير عليه القضاء والقدر، أو يمنعه من الولد أو غير ذلك، وهذا سوء ظن بالمولى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ويدخل في المسألة: {وإذا سألت فاسأل الله} فلا تسأل فيما لا يقدر عليه غير الله عز وجل إلا الله تبارك وتعالى، فإذا سألت غيره ما كان لك من نصيب، وما لُبِّيَ طلبك وخسرت الدنيا والآخرة.
قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] وفي حديثه لـ أبي ذر: {لا تشرك بالله -هذا حديثه صلى الله عليه وسلم لـ أبو بكر - وإن قطعت وحرقت} وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].(35/12)
عدم الذبح لغير الله حق لله على العبد
ومنها عدم الذبح لغير الله عز وجل؛ ومعناه: ألا يذبح ذبيحته لغير الله عز وجل، كأن يتقرب بها إلى وثن أو مخلوق أو إلى دفع ضر أو جلب منفعة، فإن هناك بعض الصور جائزة، كأن تذبح للضيف بقصد إكرام الضيف، ما ذبحت أنت للضيف معتقداً أن الضيف يشافي ويعافي، أو أنه يدفع المكروه ويجلب الرزق، لا، إنما المقصود بهذا الإكرام، هذه صورة أخرى، لكن أقصد بالذبح لغير الله الذين يذبحون عند الكهنة والمشعوذين أو يوصوهم بالذبح في صور متعددة، وبعضهم إذا بنى البيت ذبح ليخرج الجن، ولئلا يسكن الجن في البيت، وبعضهم يذبح إذا وصف له مرض مريض فقالوا: لا يشفى مريضك حتى تذبح له تيساً أسود أو تيساً أبيض أو ديكاً رومياً مولوداً بعد الحرب العالمية الثانية من مواليد (1411 هـ) في شهر صفر، فيذبحه معتقداً ذلك.
ومما يلحق بهذا الذبح بعض الاعتقادات التي توجد في بعض المجتمعات أن المرأة إذا انتهت عدتها فإنه لا بد أن يذبح لها ذبيحة، وهذا في حد ذاته مخالف لسنة المعصوم عليه الصلاة والسلام، وهو بدعة، ولم يعرف عنه عليه الصلاة والسلام ولا عن أصحابه أنه أمر أو سن الذبح للمعتدة إذا خرجت من العدة.
إن المرأة تكرم في أي وقت، لكن أن تتخذ مراسيم ثابتة دائمة مستمرةٌ، فهذه البدعة التي نهى عنها النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد}.
ومنها عدم صرف أي شيء من العبادة لسوى الله عز وجل: مثل الدعاء أو التوجه أو القصد أو المسألة أو الخوف أو الرجاء، وكلها تنافي معتقد التوحيد.(35/13)
واجب المكلف تجاه هذا الدين
أنا وأنت والمسلمون مكلفون، وواجبنا أربع مسائل لابد أن تحفظ، ولابد أن تلقى الله بها، ولابد أن توقف حياتك عليها، وهي ما يأتي:(35/14)
المسألة الأولى: التعلم
وليس معناه أن تتعلم دقائق المسائل وتفصيل العلوم، فتصبح دكتوراً أو عالماً من العلماء، أو بحراً من البحور، لا! يجب على كل مكلف من مسلم ومسلمة أن يتعلموا أصول المسائل، أن تتعلم الواجبات والمحرمات ثم تعلمها أمك وجدتك وأباك وجدك وكل من تدعوه إلى الله عز وجل، وسيأتي ذكر ذلك في فقرة مستقلة.(35/15)
المسألة الثانية: العمل بما علمت
المسائل التي تتعلمها لابد تعمل بها وإلا فلا تنفعك في الدنيا والآخرة، قال تعالى عن اليهود لأنهم تعلموا وما عملوا: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة:13] والذي يتعلم العلم ولا يعمل به معذب من قبل عباد الوثن.(35/16)
المسألة الثالثة: التبليغ
أن تبلغ ما تعلمت للعالمين، وهي المرتبة الثالثة بعد العلم والعمل، ومن فعل هذه الثلاث فيدعى في الملكوت الأعلى بالرباني، والرباني هو: الذي يتعلم العلم ويعمل به ويعلمه ويصبر عليه قال الله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79].(35/17)
المسألة الرابعة: الصبر على الأذى
ولم نذكر الشكر على الموهبة، وإنما ذكرنا الصبر على الأذى؛ لأن الصبر على الأذى لا بد منه قال: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] قالوا: لأنه إذا أمر ونهى وعلم ودرس ودعا فلابد أن يؤذى وعليه أن يصبر، فمن فعل هذه الأربع فهو رباني، ويشفع في ملأ عظيم يوم القيامة، وهو من أتباع الرسل ومن الفائزين عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال سبحانه: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].(35/18)
العلم النافع
قلنا: ما هو العلم الذي نتعلمه؟ العلم هو: العلم النافع الذي بعث به عليه الصلاة والسلام وقال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث} وقال سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] قال البخاري: فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، والمقصود بالعلم النافع هو علم الشريعة؛ وإذا أطلق العلم في الكتاب والسنة فالمقصود به علم الشريعة، أما إذا خصص وقيد فيقصد به مثل: علم الهندسة علم الفلك علم الطب، فالعلم النافع هو معرفة الله تعالى ومعرفة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومعرفة دين الإسلام، ثلاث مسائل، وهي القضايا الكبرى التي تنجيك عند الله عز وجل.
فتعرف الله معرفة كما عرفها الأنبياء والرسل، والثاني الرسول عليه الصلاة والسلام تعرف من هو هذا الرسول، والثالث: الإسلام.(35/19)
معرفة الله عز وجل
أما معرفة الله عز وجل فإنه لا بد أن تعتقد ثلاثة اعتقادات وثلاث مسائل وهي: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وربما يقول بعضكم: هذا الكلام حفظناه! لا لم نحفظه، بل لابد أن نكرره ونعيده وندرسه ونعمل به ونبسط القول فيه ليل نهار، فقد دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة.
أما توحيد الربوبية فقد أقربه أبو جهل وأبو لهب ومشركو قريش قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38] وأقر أبو جهل أن من خلق الشجر الله والجبال والأحياء هو الله، لكنه خالف في توحيد الألوهية، والأنبياء بعثوا بتوحيد الالوهية، ويقول شيخ الإسلام في كلام ما معناه: الأمم جميعاً تثبت توحيد الربوبية لله، حتى فرعون أنكر الصانع في الظاهر، لكن أثبت الخالق في الباطن، حتى يقول له موسى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102].
ثم توحيد الألوهية: أن تعتقد أن لا إله إلا الله، ولا يستحق العبادة بأنواعها إلا الله من ذكر ودعاء واستعانة ومسألة وخوف ورجاء وحب إلى غير ذلك.
وأما توحيد الأسماء والصفات: فهي أن تقر وتثبت لله ما أثبته له أنبياؤه ورسله عليهم الصلاة والسلام من صفة أو اسم من غير تمثيل ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل؛ كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
وأهل السنة لهم قواعد أربع في الأسماء والصفات: الإثبات المفصل، النفي المجمل، الإثبات المقيد، الاستفصال.
فأما الإثبات المفصل فهم يثبتون صفات الكمال مفصلة، فيقول: كريم، رحيم، عليم، حليم، واسع، بر، لطيف، إلى غير ذلك، فيثبتونها مفصلة.
وأما في النفي فإنهم ينفون مجملاً فيقولون: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فلا يقولون: الله لا يجوع أو لا ينسى، الله لا يضل والله لا يبخل لا يقولون هذا، وهذه طريقة علماء الكلام.
الإثبات المقيد يثبتون لله الصفة مقيدة مثل قوله تعالى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:79] فالله عز وجل لا يقال له ساخر، ولكن تثبت هذه الصفة مقيدة، فيقول: يسخر بمن يسخر به: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:14 - 15] فهو يستهزئ بمن يستهزئ به إثباتاً مقيداً، ومنه: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30] و {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142].
وأما الاستفصال فـ أهل السنة يستفصلون في ألفاظ ليست في الكتاب ولا في السنة، كأن يقال لك: الله مهندس الكون فإن ذهبت تقول: نعم، أخطأت لأنه قد يكون في الكلام أسرار لا تدري بها، وإن قلت: لا، أخطأت لأنك قد تنفي معنى صحيحاً، لكنك تستفصل، فتقول للقائل: ما معنى مهندس الكون؟ فإن قال: خالق الكون والذي صنع الكون فتقول: معناك صحيح، ولكن اللفظ خطأ، قل: الله خالق الكون، هذا استفصال، وإذا قال: مهندس الكون معناه أنه يهندس الكون مثلما يهندس المهندس العمارة فإنك تقول: أخطأت في المعنى وفي اللفظ، فهذه مسائل أهل السنة في هذا.(35/20)
الغاية من بعثة الرسل
اعلم أن الرسل بعثوا جميعاً بتوحيد الله كما قال الله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] بعثوا بلا إله إلا الله، فهي دعوتهم جميعاً عليهم الصلاة والسلام، وقد تختلف شرائعهم في التفصيل، لكن لا تختلف في المعتقد.(35/21)
الولاء والبراء
ومن الأمور المهمة ألا توالي إلا في الله، وأن تتبرأ من أعداء الله، وأن تحب في الله، وتعطي في الله، وتبغض في الله وتمنع في الله عز وجل، فإذا فعلت ذلك فقد استكملت الإيمان، الولاء: أن توالي في الله عز وجل؛ أي: بسبب أن هذا الشخص ملتزم بأمر الله أحببته بحسب ما فيه من طاعة، وتبغضه بحسب ما فيه من معصية، فلا تبغض الرجل؛ لأنه من قبيلة أخرى، أو لأنه من شريحة أخرى، أو من لون آخر، أو من بلد أو شعب آخر، فمن فعل ذلك فقد خان لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وتبغض في الله؛ فصاحب المعصية تبغضه لا لأنه من قبيلة أخرى أو من أسرة أخرى، إنما لأنه عاصٍ، ثم تحبه بحسب ما فيه من طاعة، فقد يجتمع الحب والبغض في شخص واحد، ومنها المنع والعطاء، فتعطي لأنك تريد ما عند الله عز وجل، وتمنع لأن المصلحة في المنع لمرضاة الله عز وجل.(35/22)
معرفة الله عن طريق الكتاب المنظور
يعرف الله عز وجل بآياته ومخلوقاته من ربك؟ ربي الله الذي رباني بنعمه، سؤال لابد أن نجيب عليه بالعمل، بم عرفت ربك؟ بآياته ومخلوقاته: الشمس والقمر الليل والنهار الشجرة والوردة السماء والضوء الماء والجبل الرابية وكل شيء:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحدُ
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحدُ
{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:101] {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:10 - 11] وقال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20].
هذه آياته دلت عليه، كل شيء مكتوب عليه بقلم الوحدانية ويراع الصمدانية؛ لا إله إلا الله، يقرؤها الأمي وغير الأمي، أما تأملت الروض؟ أما دخلت الحديقة؟ أما فتشت البستان؟ كل ورقة من زهرة، وكل نبتة من نامية، وكل لمعة من ضوء وكل قطرة من ماء تدل على الله.
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيونٌ من لجين شاخصاتٌ بأحداقٍ هي الذهبُ السبيكُ
على قُضُبِ الزبرجدِ شاهداتٌ بأن الله ليس له شريكُ
كل الكون كتاب مفتوح؛ بعث الأمي الذي ما حمل قلماً ولا طبشورة، ولا رأى سبورة ولا شيخاً ولا أستاذاً، بعثه فقيل له: (اقرأ) وهو في الغار، وما عنده أقلام ولا دفاتر ولا مراسم ولا طباشير، أين يقرأ؟ قيل: معناها اقرأ في الكون، اقرأ في السماء من خلقها ورفعها وأوجدها.
وكتابي الفضاء أقرأ فيه صوراً ما قرأتها في كتابِ
فلا بد أن نقرأ جميعاً.
ويا أيها الإخوة! تبلد إحساسُنا وماتت عواطفنا، فما أصبحنا نقرأ في الكون، شغلتنا الغسالة والبرادة والثلاجة والحفارة والطائرة والسيارة عن الكون، وعن الجمال في الكون، الزرع بديع، والروض مخضر، والسماء تتحدث، وقلم الصمدانية ويراع الواحدانية يكتب، ولكن من يقرأ؟ لا بد أن نقرأ وأن نتأمل.(35/23)
معرفة دين الإسلام(35/24)
تعريف الإسلام
وهو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك، فجمل مستسلم إذا قيد بزمامه وخطامه، لا تترك في قلبك ذرة، يقول أحد الكتبة العصريين: الفرق بيننا وبين الصحابة أن الصحابة وضعوا ثياب الشرك عند أول عتبات الإسلام وخلعوا كل شيء، وتبرءوا من الشرك، ونحن خلطنا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فتجد الإنسان فيه شيء من الولاء للقبيلة ولو كان فيها جهل، وفيه شيء من الولاء للعنصرية، وفيه ذرة من الدعاء لغير الله، وفيه ولاء لغير من يحب الله عز وجل، فما ميزنا عملنا كما يريد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(35/25)
أركان الإسلام
أما أركان الإسلام فهي خمسة كما تعرفون: لا إله إلا الله محمد رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج، من أتى بها دخل الجنة: كان الرسول صلى الله عليه وسلم واقفاً في عرفات فأتاه أعرابي فأخذ بزمام ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: {يا رسول الله! ما الإسلام؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج دع الناقة} فأطلق الزمام فقال: والله لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص، قال: {أفلح إن صدق} إسلام سهل ميسر.
والإسلام الآن يعبر الكرة الأرضية، فهذا القرن الذي نعيشه قرن الإسلام، هذه الجمهوريات الشمالية انهارت على رءوس الشيوعية وعلى أنقاض الوثنية، وبدأ التكبير على المآذن: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر.
في موسكو العام الماضي خرج منها ثلاثة آلاف حاج يحرمون من موسكو من أرض لينين واستالين، يقولون عند الكرملن: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لأنه دين حق يصل إلى الفطرة، أصيل كالمعدن الأصيل، تقبله العقول، ليس فيه خرافات، وليس أضحوكة مثل دين اليهود أو دين النصارى، لا يضحك على العقل، حتى الطفل لا يضحك عليه، بل يخبره أن هناك إلهاً قديراً، وأن هناك رسولاً بصيراً، وأن هناك مصيراً، فيسلم الإنسان ويصدق لأنها حقائق: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:101] قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23] أصيل يصل إلى القلب ويخاطب الوجدان.(35/26)
أركان الإيمان ومعنى الإحسان
والإيمان ستة أركان، وسبحان من علم هذا الأمي الذي ما قرأ ولا كتب، فرتب المسائل عليه الصلاة والسلام وعلم، ثم ما تُرِكَ الإنسان يوم مات عليه الصلاة والسلام في أية مسألة إلا وعنده من الرسول صلى الله عليه وسلم فيها علم: تقليم الأظافر قص الشارب إعفاء اللحية الصلاة الزكاة النكاح المعاملات أمور الحياة كلها، ما ترك فيها صلى الله عليه وسلم مسألة إلا بينها كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، فمن فعل ذلك فهو مؤمن، وارتفع الدرجة الثانية.
الدرجة الثالثة العليا: الإحسان، وهو: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219] وهذا أغلى وأعلى شيء، وهي درجة أبي بكر الصديق، ذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد عن أبي بكر أنه قال على المنبر: [[يا أيها الناس! استحيوا من الله حق الحياء، فوالله الذي لا إله إلا هو إني لأذهب إلى الخلاء لقضاء حاجتى، فأضع ثوبي على وجهي حياء من ربي]] بلغ منزلة ما بلغها أحد وهي درجة الإحسان، ولابد أن ندرب أنفسنا مع الأيام، ومع التوبة والاستعداد والعمل والمزاولة إلى أن يصل الإنسان إلى هذا المستوى، فهذا ليس خاصاً بالأنبياء، بل يصلها العباد، وربما كان منكم الآن من بلغ درجة الإحسان، فما خلت الدنيا ممن بلغ درجة الإحسان، وربما كان منكم الآن من لو أقسم على الله لأبره.
فالإنسان لا ييئس من روح الله، والإنسان يثق فيما عند الله، ويعرف أن الولاية لا تنقطع، كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] فالإنسان يتأمل ويتشوف وتكون همته عالية.
عجباً من همم بعض الناس كيف تكون محصورة في أمور ضيقة، ثم لا تطمح هممهم إلى المنازل العالية التي تقربهم من الله، يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: عجباً لـ أبي مسلم الخراساني هددنا بهمته وإذا همته منصب وملك، ثم ذبح على الملك، فعلى ماذا حصل؟ لا على جنة عرضها السماوات والأرض، ولا ندري فمصيره إلى الله، والمتنبي يقول عن نفسه:
أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمودِ
يقول: أنا في الأمة المحمدية مثل صالح عليه السلام في ثمود، فماذا قدم لنا؟ قصائد معدودة يطلب بها جدوى ويعطى دارهم، ثم مات مذبوحاً في بادية فزارة، هذا هو المكسب، لكن أعظم الناس همة من يصل إلى درجة الإحسان {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] {أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يرك} والله! لا أعلم همة أعلى من همة الصحابة.
والبراء بن مالك يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في برد ممزق فيقول صلى الله عليه وسلم: {رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك} فكان البراء بن مالك يقف على التراب ويقسم على الله ويقول: والله لتنصرننا هذا اليوم؛ فينصرهم الله، أية درجة؟! لماذا لا نجرب أنفسنا؟! الأبواب مفتوحة، والعطايا ممنوحة، والله كريم سبحانه(35/27)
حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم(35/28)
الطاعة فيما أمر
من حقوقه صلى الله عليه وسلم طاعته فيما أمر، وما أمر به صلى الله عليه وسلم إما واجب وإما مستحب، فلا يأمر عليه الصلاة والسلام بمحرم ولا مكروه، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فإما واجب وإما مستحب، وكل ما أمرك به النبي صلى الله عليه وسلم فهو خير لك في الدنيا أو في الآخرة.(35/29)
التصديق فيما أخبر
وتصديقه فيما أخبر؛ وأخباره صلى الله عليه وسلم على قسمين:
الأول: خبر ما مضى من القرون السابقة فنصدقه صلى الله عليه وسلم، فإذا أخبرنا عن أمة نوح أو عن قوم فرعون أو عن أية قرية صدقناه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا ينطق عن الهوى ولا يكذب على الله، وهو معصوم من الكذب.
الثاني: أخبار الأمور المستقبلة كأن يخبرنا بعلامات الساعة، وخروج الدجال والدابة، وطلوع الشمس من المغرب وغيرها من الآيات، صدقناه عليه الصلاة والسلام واعتقدنا أن ما قاله صحيح، ثم إذا أخبرنا عن الأمور الغائبة كاليوم الآخر والصراط والميزان والعرش والكرسي والجنة والنار صدقناه عليه الصلاة والسلام، ومن لم يفعل هذا فهو كاذب عند الله؛ لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً.(35/30)
اجتناب ما نهى عنه وزجر
اجتناب ما عنه نهى وزجر صلى الله عليه وسلم، والذي ينهى عليه الصلاة والسلام عنه إحدى مسألتين: إما مكروه، وإما محرم، فلا ينهى عن واجب ولا مستحب صلى الله عليه وسلم، فإذا نهاك عن شيء فاعلم أن الفلاح والنجاح والخير في اجتناب ما نهى عنه عليه الصلاة والسلام.(35/31)
الاتباع وترك الابتداع
ألا يعبد الله إلا بما شرع؛ فإن بعض الناس يعبدون الله عز وجل ببدع ويظنون أنهم أحسن، كبعض العباد المجتهدين بجهالة، تجد عندهم طقوساً ومراسيم ما أنزل الله بها من سلطان، قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن من طلبة العلم من سوف يقع فيما وقع فيه اليهود في أن يتعلموا ولا يعملوا، وأن من العباد من سوف يقع فيما وقع فيه النصارى أن يعبدوا الله بغير علم.(35/32)
المحبة والولاء
ومحبته عليه الصلاة والسلام المحبة الشرعية التي تظهر الولاء له صلى الله عليه وسلم، وتقدمه على روحك، وعلى والدك ووالدتك، وعلى أهلك وكل ما تملك، فتحبه صلى الله عليه وسلم، ثم لا تغالِ في حبه، فتعتقد أنه ينفع، وأنه صلى الله عليه وسلم يأتي بالغيث، وأنه يشفي المريض، أو كمن يذهب إلى قبره في الروضة فيقول:
يا رسول الله يا من ذكره في نهار الحشر رمزاً ومقاما
فأقل لي عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاما
من فعل ذلك فقد أشرك، أو من يذهب ويقول: يا محمد يا رسول الله امرأتي مريضة شافها يا رسول الله، فقد أشرك بالله إلى غير ذلك، وهنا قصص طويلة، لكني أحببت أن يكون هذا ملخصاً ميسراً لا استطراد في مسائلة.(35/33)
تحريم إتيان السحرة والكهان
ألا يؤتى السحرة ولا العرافون ولا المشعوذون، وهؤلاء أعداء للأنبياء والرسل، وقد نشروا في العالم القديم خرافات وخزعبلات، وتحكموا في ضمائر كثير من البشر، ولو أنهم أذكياء، لكن الله أضل هؤلاء بهؤلاء، وجعل الله هؤلاء فتنة لهؤلاء، قال تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] وقال: {من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد} وهو حديث صحيح: {من أتى عرافاً أو كاهناً لم تقبل منه صلاة أربعين يوماً} وهو حديث صحيح.
عجباً للإنسان يوم يمرض أو تمرض زوجته أو طفله، فيذهب إلى رجل يقرطس ويشعوذ وينفث ويسمي، ثم يدعي أنه شافيه ومعافيه، ويعود بدون لا إله إلا الله، فيعود بلا دين! وهؤلاء الواجب الأخذ عليهم ومضايقتهم ومحاربتهم ورفعهم، والتنكيل بهم، وتشهير أمرهم والوقوف ضدهم، فهم أخطر من أي مجرم في الأرض.
الساحر عند أهل العلم أخطر ممن يروج المخدرات؛ لأن ذاك شهواني صاحب فجور، وهذا صاحب كفر في الدين ومروق عن الملة وحرب على لا إله إلا الله.
ومن هؤلاء من يدعي أنه يعرف الماء في الآبار، ومن علامة كذبه أنه لا يأتي إلى مكان البئر، فيدعي أن فيها ماء، فإذا حفرت كذا متراً وجدت الماء، فهذا كاذب عدو لله عز وجل، ويجب رفع أمره، ومنهم من يدعي أنه يعرف أسماء المرضى فيقول: اسمها فلانة بنت فلان، واسم أبيها كذا، فهذا كذلك كاذب يستخدم الجن ولا يجوز إتيانه.(35/34)
اجتناب الألفاظ الشركية
الألفاظ الشركية، مثل قول بعض الناس -وهي منتشرة- ما شاء الله وشئت، بل ما شاء الله وحده، وقول بعضهم: الله والنبي، وهذا شرك بالواحد الأحد، بل الله وحده، فالنبي عبد الله عز وجل فكيف تقرنه بالله.
أيضاً من الملاحظات أنني رأيت في بعض المجالس يكتبون اسم الجلالة في الميمنة (الله) وفي الميسرة (محمد) وهذا لا يجوز نبه كثير من العلماء على هذا، اللوحات التي يكتب فيها الله ومحمد لا تجوز، فإن الله إله، ومحمد بشر وعبد خلقه الله، فحتى الموازاة في الاسم لا تجوز، الله وحده لا إله إلا الله!
ومنها ما يقوله بعض الناس: الله والنبي محييك.
وهذا خطأ وشرك، ولا يجوز قولهم: لولا الله وفلان، إنما يجوز لولا الله ثم فلان، أما وفلان فهذه من الألفاظ الشركية المخالفة لما أتى به عليه الصلاة والسلام.(35/35)
تقديس العادات ومعارضة الشرع بها
بعض الناس رسخت في ذهنه عادات من عادات القبيلة والقرية والبادية والأهل والجدة والجد حتى لا يستطيع أن يتنازل عنها أبداً، فإذا أتيت بالدين قال: عشنا عليها، ونشأنا على هذه الأمور، وتأتينا أنت فيما بعد وتريد أن تغيرنا، الآن بصغرك وأنت ما زلت طفلاً تغير أشياء نشأنا عليها منذ خمسين سنة، فهؤلاء ككفار قريش الذين قالوا كما حكى الله عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] وبعضهم يقول: سلوف القبائل، حتى إنهم في بعض المكاتبات يقولون: فإذا اعتدي على واحد من القبيلة قامت القبيلة ضد تلك القبيلة جميعاً ومن تخلف فليس منا.
وهذا شرك، وهذا حلف باطل لا يجوز، فهو ظلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً} فأما مظلوماً فمعروف وأما ظالم فترده، وبعضهم يقول في نصر القبيلة:
ما للواحد إلا رفيقه إما باعه وإلا شراه
ليس للواحد إلا رفيقه في القبيلة فإما أن تبيعه في الدنيا أو تشتريه، سواء في الظلم أو في الباطل، فمهما يكن فأنت معه، وهذا حلف يخالف منهج الرسول عليه الصلاة والسلام، ويخالف الإخاء الإيماني الذي بعث به عليه الصلاة والسلام كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} [آل عمران:103].
ومنهم من يقول: حشرني الله مع قبيلتي ولو في النار، أعوذ بالله! ويقول: لا أريد إلا قبيلتي ولو كانوا في جهنم، أي من حبهم وموالاتهم حتى على الباطل، ومنهم من يقوم فيحلف مع قبيلته على جبل لا يعرفه أو على أرض لا يعرفها، ولا يدري بما قال، وإنما من أجل القبيلة ويظن أن هذا موقف تظهر فيه الرجولة، وهذا من الحلف المبتدع المعاند لما بعث به عليه الصلاة والسلام.
وبعضهم يخالف في مسألة الحجاب، إذا أمرتهم بالحجاب رفضوا وقالوا: ليس في قلوبنا شيء، نشأنا والمرأة عندنا لا تتحجب، والجماعة إخوانها وأقاربها وأعمامها، وليس في قلوبنا شيء، قلوبنا نظيفة وطاهرة وطيبة، أما القراطيس التي أتيتم بها فلا نريد أن نسمعها، قال ابن القيم: يخالفون الشرع الحنيف بعاداتهم، فهي من الطواغيت، وهذا طاغوت يسمى طاغوت القبيلة وطاغوت القرية وطاغوت البادية.(35/36)
دعاء غير الله وتعليق التمائم والحجب
من الكلمات التي قد تفشو في بعض الأماكن دعاء فاطمة: قد يمرض بعض المرضى في عينه، " فيقول: يا فاطمة بنت النبي! أزيلي هذا الذي بي" أو غيره من الكلمات، وقد ذكر ذلك بعض العلماء الذين كتبوا رسائل في أحوال بعض المناطق، ومنهم من يقول: يا فاطمة يا فاطمة! وبعضهم ينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد يا محمد، حتى إن بعضهم خرج بثور يبيعه في السوق، فكاد الثور يتلف من مكان مرتفع، فيقول: يا محمد يا محمد! قال أخوه: خل الثور تتلف والله إن محمداً يحب المرقة! عليه الصلاة والسلام.
فينادي الرسول عليه الصلاة والسلام ولا ينادي الواحد الأحد سبحانه، ومحمد صلى الله عليه وسلم ميت لا يملك ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً، وهو ينادي رسولاً ويترك الواحد الأحد: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219].
ومنهم من يعلق تميمة، قال صلى الله عليه وسلم: {من اتخذ تميمة فلا أتم الله له} أي: لا أتم أموره.
ومنهم من يأخذ فتخة أو خاتماً أو دبلة، ورأيت بعضهم يحزم خيطاً صغيراً قلت: مالك؟ قال: فيَّ عين، والشيخ الفلاني ربط أصبعي، نسأل الله أن يهديه.
صد عن منهج لا إله إلا الله بهذا التصرف؛ خيط بسيط يربط في الكف حتى يشفى من العين! والرسول صلى الله عليه وسلم بُعث لرفع الجهالات والخزعبلات والمضحكات، حتى إن الأمم الأخرى لو رأت مثل هذه الأمور لضحكت علينا، مع العلم بأن ديننا أصيل صادق مبني على حقائق، وتقبله العقول ولا تخالفه.
ومنها تعليق الحجب، والحجب هذه قراطيس يضعونها على المرضى، ورأيت بعضها ملفلفة في مثل الدفتر الصغير، وخيطت بإبرة أو بمخيط، ومكتوب فيها كلمات لا تعرف، فمن علق هذه فلا أتم الله له، ولا شفاه ولا عافاه ولا كفاه، ومنهم من يدفع دراهم ونقوداً ليعلق هذا، ومنها أن العقيم تأخذ خيطاً لتحمل من مقرطس أو مشعوذ، وهذا مخالف لمنهجه صلى الله عليه وسلم.
ومنها أن بعضهم يأخذ شيئاً يمنعه من العين، ويعلقه على باب البيت، ومنهم من كان يعلق بيض الدجاج ويقول: هذه تمنع من العيون والحساد، ومنهم من يتشاءم بأصوات مثل صياح الثعلب، فيقول: أعوذ بالله من البلاء! أعوذ بالله من الشر! فال الله ولا فالك! والثعلب لا يملك ضراً ولا نفعاً، ومنهم من يتشائم بالغراب حتى يقول:
نعب الغراب فقلت نُحْ أولا تَنُحْ فلقد قضيت من الغني ديوني
وقال آخر:
زعمَ البوارحُ أن رحلتنا غداً وبذاك تنعابُ الغرابِ الأسودِ
يقول: ولذاك صاح الغراب، وأخبرنا أننا سوف نرتحل غداً، والغراب لا يعرف شيئاً.
ومنهم من يتشاءم بالأرقام، فإن بعضهم يأتي إلى سبعة يقول: ستة وهو يكيل فيقفز السبعة يقول: موفي ثمانية! فمن فعل ذلك فقد اعتقد في الأرقام وقد أشرك في هذه الأمور، واعتقد أن غير الله يضر، مع أنه لا يضر ولا ينفع إلا الله عز وجل، فلا بد للإنسان أن يقول هذا الرقم معتقداً أنه رقم، لا أنه يدعو الجن ولا أنه يناديهم، فهم لا يضرون ولا ينفعون.(35/37)
الاستغاثة بالجن
ومن الألفاظ الشركية دعوة الجن، فيقول -ونسأل الله عز وجل أن يعافينا- خذوا فلاناً ودمروه وطيروا به وهكذا، فهذه ألفاظ شركية، ومن اعتقدها فقد أشرك، ومن لم يعتقد أنهم يضرون أو ينفعون وقالها لفظاً أذنب ذنباً عظيماً، ولقي الله بعمله.(35/38)
بدع عند الموت
ومنها الحفارة، وهي تذبح عند موت الميت، واتخذها الناس مراسيم؛ كأنه لا بد إذا مات الميت أن يذبح بعده ذبيحة أو ذبيحتين أو ثلاثاً أو أكثر، فإن كان صدقة فلا بأس بالصدقة، ولكن المشكلة أنها أصبحت عند الناس كأنها سنة لابد منها: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}.
قد ترد وتقول: كيف تقول: إنها بدعة وهي صدقة وإطعام للجيران وللضيوف وفيها فعل الخير؟! {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8] أنا أقول لك وأسألك: ما دليلها من الشرع؟ لأنه لو فتحنا الباب الذي تذكر أنت انفتحت المسألة، ما دليل هذه الحفارة على الميت؟ ليس عليها دليل، تصدق عنه، أما أن يكون كلما مات ميت يذبح غنم بعد موته، ويجمع الناس أو يتصدق بها فإنها بدعة، أقولها جازماً بذلك بعد مداولة ومشاورة وتأمل وسؤال أهل العلم.
إن بعض النساء تعتقد أنه لا يجوز لها أن تلبس إلا السواد مدة الحداد، وغيره من الألوان لا يجوز، وهذا لا يصح وليس بثابت، ولها أن تلبس الألوان غير المتشبهة بالرجال.(35/39)
الحلف بغير الله عز وجل
ومنها الحلف بالطلاق وهو منتشر وفاش، يحلفون بالطلاق ولا يحلفون بالله عز وجل، وهذا شرك، وتجد بعضهم يعظم هذا اللفظ أكبر من تعظيمه (والله وتالله وبالله) فتجد بعضهم لا يعزم لك ولا تصدقه أو لا يصدقه الآخر حتى يحلف بالطلاق، وبعضهم إذا حلفت له وأقسمت عليه أن يأتيك أو يزورك لا يوافق، فإذا طلقت وافق، فجعل الطلاق أعظم من اليمين، وهذه من الألفاظ الشركية عند أهل العلم، ولا يجوز الحلف بالطلاق، ومن حلف بالطلاق، فعليه أن يتوب ويستغفر ويكفر كفارة يمين، فإن كفارة الطلاق إذا كان يميناً أو بمعنى اليمين كفارة يمين إطعام عشرة مساكين أو ما ورد في الآية.
ومقصودي من هذا أن كثيراً من الناس يعظمون القسم بغير الله أعظم من تعظيمهم للقسم بالله، وبعضهم بالحرام ونسأل الله العافية، وبعضهم يقول: وحياتي وشرفي ونجاحي والنبي والكعبة، وكلها ألفاظ شركية ما أنزل الله بها من سلطان، والواجب على طلبة العلم إذا سمعوا رجلاً يقول هذا أن ينبهوه في الحال، ومنهم من يقسم بالأمانة، وهذا من الشرك أيضاً، ومنهم من يظاهر بقصد اليمين، وهذا له حكمه لكن أحذر إخواني من استخدام الحرام والطلاق وأن يبقوا على الأيمان الشرعية في وقت الحاجة، يقول الشافعي: ما حلفت بالله صادقاً ولا كاذباً.
وذلك لتوقيره لله عز وجل وحدوده ولتأدبه مع ربه لم يحلف بالله صادقاً ولا كاذباً.(35/40)
ضرورة الإيمان بالقدر وترك الاعتراض على الله
إن بعض الناس يعترضون على القضاء والقدر ويتسخطون عليه، فإذا مات لأحدهم ابن قال: يا رب ما اخترت إلا ابني؟! وبعضهم إذا رسب ابنه قال: يا رب ترسب ابني وتنجح أبناء الجيران؟! يعترض على حكم الله عز وجل، ويلوم الله على قضائه وقدره، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى له الخيرة والأمر أولاً وآخراً، وما لنا إلا الرضا والتسليم، وبعضهم يتشاءم من رزقه حتى يقول: ما هذا الفقر الدائم يا رب؟ وكيف؟ وأين؟
لا تقل كيف ولا أين الوصول واتبع خير الملا ذاك الرسول(35/41)
الاعتراض على الله كفر
وممن تسخط في القضاء والقدر وكفر بالملة من اعترض على منهج الله في قضائه وشرعه وفي كونه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وخلقه، منهم من قيل له: غض البصر، وكان ينظر إلى الحرام، فقال وهو يلتفت إلى السماء:
أيا رب تخلق ألحاظَ حورٍ وأوراق رند وكثبان رمل
وتنهى عبادك أن يعشقوا أيا حاكم العدل ذا حكم عدل
يقول: يا رب تجمل وتزين، ثم تقول: لا تنظروا، فاعترض على الله فكفر بهذا، وهذا يقوله زنديق من الزنادقة.
ومنهم ابن الراوندي كان على نهر دجلة يأكل خبزاً يابساً، وكان فيلسوفاً ذكياً لكنه كلب معفر، يقول الذهبي: الكلب المعفر ابن الراوندي، وقد ذكرت هذا كثيراً، كان يأكل خبز الشعير، فمرت عليه خيل مسومة عليها قناطير مقنطرة من الذهب والفضة قال: لمن هذه الخيل؟ قالوا: لفلان المولى، فالتفت إلى السماء قال: يارب أنا فيلسوف الدنيا وذكي العالم، ولي من الكتب كذا وكذا، وهذا مولى لا يجيد اسمه، وتعطيه الخيل المسومة والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وتعطيني كسرة خبز، إن هذه لقسمة ضيزى، فأخذ الخبز وضرب به في النهر، فكفر وخرج من الملة.(35/42)
ترك الاعتراض الصامت على القضاء
وبعضهم لا يتكلم، لكن من داخل نفسه يعترض على القضاء والقدر، حتى قال ابن الجوزي: قوله حتى يموت: رضيت وسلمت، لكن في داخله لا رضي ولا سلم أبداً.
سمعت أن أحد الناس في بعض البوادي كانت له طفلة صغيرة، ولجاره تسع بنات، فمرضت بنته وَمَرَّضَهَا، وقد كان مشفقاً عليها لأنه رزقها بشق الأنفس، كانت امرأته عقيماً، ثم رزقه الله هذه الطفلة، والله الحكيم هو الذي يأخذ ويعطي ويتصرف في الكون ونحن ودائع عنده، له أن يأخذ الوديعة متى شاء {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] فلا أحد يسأل الله، فيقول له: لماذا قدمت هذا وأحييت هذا، أو نجحت هذا، أو رسبت هذا، أو أفقرت هذا، أو كبرت هذا، أو صغرت هذا، فهو له الحكمة فهو الحكيم نحن عبيد والعبد لا يسأل سيده، بل يسلم ويؤمن ويصدق ويتبع.
فمرضت هذه البنت، ولما أشرفت على سكرات الموت خرج من بابه والتفت إلى السماء وقال: أما فلان لأن عنده تسع بنات فلا تستطيع تأخذ منهن بنتاً، أما أنا فعلي، لأنها بنت واحدة أخذتها، فنسأل الله العافية والسلامة، ونسأل الله أن يتوب علينا.
فبعض الناس لا يتكلم وتراه من داخله يتطاحن.
حتى إن بعضهم الآن يرسب في مستويات حتى جامعية، فيتطاحن من داخل ويغضب، وتجده أحياناً يؤخر الصلاة كالمغضب على الله، في أيام الامتحان يقوم قبل الفجر بنصف ساعة، والآن انظر إلى الطلاب إذا أتت الامتحانات، فهم في صلاة الفجر في الصف الأول مع الدعاء والابتهال: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] فإذا طلعت النتيجة تركوا المساجد إلا من رحم ربك، فقد أثرت النتيجة في عمله فلا يندفع إلى المسجد، وتجده لا يقرأ القرآن، تقول: لماذا؟ يقول: أنت ما قرأت النتيجة! فكأنه يعترض على الله من داخله.
أيها الناس! هذا موجزٌ بسطته للمقصرين من أمثالي حتى يعرف هذا الدين وأسأل الله أن ينفع به.
في المحاضرات السابقة والدروس كنا نتوسع في الجزئيات والمصطلحات والنقولات، ولطلب كثير من العلماء وكثير من الفضلاء عُرض هذا العرض، فإن وفقت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه بريئان، ثم اعلموا أنني أشكر الله عز وجل على أن سهل هذا الاجتماع وعلى أن علمنا ديننا، وأشكركم على حضوركم، ولا أنسى أن أشكر المشايخ الأساتذة في جامعة الإمام بكلية الشريعة وأصول الدين، والأساتذة في مدرسة تحفيظ القرآن الذين نفعوا ببعض الملاحظات وبعض الاقتراحات في هذا الدرس، أسأل الله أن يثيبهم جميعاً وأن يثيبكم، وما بقي من الوقت فللأسئلة، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(35/43)
الأسئلة(35/44)
حكم القسم بآيات الله وبرب المصحف
السؤال
ما حكم هذه الأيمان: أقسم بآيات الله، أقسم برب المصحف؟
الجواب
القسم بآيات الله عند كثير من أهل العلم جائز، فقد جوز كثير من أهل العلم القسم بآيات الله وبكلامه، أما رب المصحف ففيه تفصيل، ولو قال منزل القرآن لما كان هناك بأس، لكن (رب) توقف فيه بعض الأئمة؛ لأن القرآن ليس مربوباً وليس مخلوقاً، بل القرآن كلام الله، وليس من خلقه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فكلمة رب يوهم أنه خلق المصحف أو خلق الكلام، وهو ما خلقه بل هو كلامه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فالواجب الانتهاء وترك هذا اللفظ.
أيها الإخوة الكرام: أسأل الله أن يجمعنا على كلمة الحق، وأن يوحد بين قلوبنا على ما يرضيه، وأن يفقهنا في الدين، وأنا أمامكم أخ لكم ومحب أقدم رسالة متواضعة إلى جنابكم الشريف، والأمة تنتظر منكم كل خير، لأنكم صفوة الناس أن تنقلوا هذه المعلومات المبسطة الميسرة أو انقلوها إن شئتم من أي كتاب، وأكثر ما نقلت من مثل الأصول الثلاثة للشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فأدعوكم أن تنقلوا هذه المعلومات للناس في البوادي والقرى وألا يتخلف كل إنسان منكم عن نقل مثل هذه المعلومات المبسطة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} ويقول: {بلغوا عني ولو آية} وهي مسئوليتكم أمام الله وجهادكم الأكبر في طرد الشرك والشعوذة والسحر وتعليم الناس الدين، وهو الجهاد الأكبر، ولا جهاد أعظم منه، وهو أن ترد الناس إلى منهج الله، وهذه وصية أقدمها لكل واحد، لا أعلم أحداً في هذا المسجد من هذه الوجوه المئات الحاضرة الطيبة مهما قل مستواه إلا ويستطيع أن يبلغ هذه المعلومات للناس جميعاً.
فأسأل الله أن يثبت وينفع بالأسباب، وأن يهدي وأن يسدد وأن يصلح منا الطوية والنية، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(35/45)
أكبر لغز في الحياة
السعادة هي لغز أعجز الأذكياء، وكبت الفلاسفة، وأعيا الشعراء والأدباء، والباحث عنها لا يجدها إلا في هذا الدين، وسورة التكاثر لها علاقة كبيرة في التذكير بالنعيم الحقيقي، وبيان أن ما سواه مسئول عنه يوم القيامة، وفي هذا الدرس نحلق حول هذه المعاني.(36/1)
قضايا في سورة التكاثر
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
في هذه الروضة نجلس هذه الليلة مع ميراث محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، مع القرآن العظيم ومع الهداية المطلقة للبشرية الحائرة، في ظلال آيات بينات نعيش معها هذه الليلة، علّ الله أن يرحمنا ويفتح علينا بهذا القرآن.
يا منزل الآيات والقرآن بيني وبينك حرمة القرآن
يا من سترت معايبي ومثالبي وحلمت عن سقطي وعن طغياني
والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام عليّ من يلقاني
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:1 - 8].
هذه السورة محزنة ومبكية، وفيها من اللوعة، والحرقة ما الله به عليم.
كان يقرؤها عليه الصلاة والسلام متأثراً، ويقرؤها داعية، ومربياً، ويقرؤها عليه الصلاة والسلام عالماً عاملاً بها هو وأصحابه.
هذه السورة لها أهداف جليلة ومقاصد نبيلة، هذه السورة مطلقة الأحاسيس، قوية البنيان، تهز القلب المسلم هزاً عنيفاً.
هذه السورة لها وقائع في قلوب الموحدين، ولها صدى في أنفس العابدين، ولها رجةٌ في أذهان المتوجهين إلى الله
هذه السورة تحدد مسار العبد، وتفصل بين المسلم والكافر، وتوجه العبد توجيهاً تربوياً ربانياً.
هذه السورة تعيش بك بين جو الدنيا الآسن المتخلف العفن، وبين جو الآخرة المشرق الباهر، الرائع البديع، هذه السورة تحددأيامك ولياليك وعمرك وساعاتك وثوانيك.(36/2)
التكاثر بالعلم
فاستمع إلى قضاياها الكبرى يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] هكذا تبدأ السورة -كما يقول بعض التربويين- بهجوم أدبي هجوم أدبي على القلوب اللاهية السادرة المخمورة بخمار الدنيا، إن الدنيا تسكر العبد، وتسكر الروح كما تسكر الخمر العقول، فالله (عز وجل) بدأ بالسورة هكذا ضرباً عنيفاً، وكأنه يوقظ الغافلين؛ انتبهوا، فكروا تدبروا حاسبوا، وراءكم عقاب، وراءكم حساب، وراءكم ثواب، وراءكم جنة ونار ففكروا وتدبروا.
ألهاكم التكاثر فما هو التكاثر؟
ألهاكم: شغلكم وأبعدكم وخلف بكم عن الركب والمسير، فمالكم متخلفين؟
ألهاكم التكاثر، وما هو التكاثر؟ التكاثر في منظوره التجريبي الاستقرائي على أقسام عدة عند أهل العلم منها التكاثر بالعلم، والعلم إذا لم يرزقك خشية وإنابة، فهو ضلال، أرأيت إلى الضلال إذا لم يقربك العلم من الله عز وجل، فليتك ثم ليتك ما علمت.
إذا ما لم يفدك العلم شيئاً فليتك ثم ليتك ما علمتا
وإن ألقاك فكرك في مهاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا
فنادِ إذا اتجهت له اعترافاً بما ناداه ذو النون بن متى
وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
العلم -وهو علم- إذا لم ينفعك ولم يفتح بصيرتك، ولم يجعلك تحضر الصلوات الخمس متوضئاً طاهراً، وتغض بصرك عن المحارم، أو تسمع أذنك حراماً، فلا تجلس الليالي الحمراء مع أعداء الله الفجرة؛ إذا لم ينفعك العلم هذا النفع، فليتك ثم ليتك ما علمت.(36/3)
كالحمار يحمل أسفارا
إذا لم يوجهك العلم توجيهاً صحيحاً، ووجه بيتك وأبناءك وزوجتك وأختك وأمك، فهذه فائدة العلم.
لأن الأجانب يعلمون، لكن يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.
علم الأكل علم القدور والبطون علم الفروج علم الفجور؛ يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66].
أمّا الدنيا فأذكياء، صنعوا الطائرة والصاروخ، وقدموا المصنع والثلاجة والبرادة والسخانة؛ لكن رسبوا في عالم الآخرة، إذا أتيت به في الآخرة فحمار، رياء وسمعة في الدنيا، وأن يكون للمواجهات فحسب، فإذا أصبح العلم في هذا المستوى فقل على صاحبه السلام، عفا عليه الدهر، إذا كان العلم علم شهادة لا يصل إلى القلوب، لا يرزق صاحبه الإخبات والاتجاه إلى الله، والاستقامة في السلوك والأدب؛ فليس بعلم بل هو كثرة، ولذلك نعى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على المتكثرين بالعلم يقول سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارا} [الجمعة:5].
سبحان الله:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
حمار عليه أسفار ومجلدات لكن حمار.
أينفع الحديث للحمار؟!
هل ينفع التفكير للحمار؟!
هل ينفع الفقه للحمار؟! لا.
ولذلك ذكر صاحب " كليلة ودمنة " أن الأسد جمع الحيوانات في الغابة، فحدثهم بفكاهة فكلهم ضحكوا إلاّ الحمار ما ضحك، وفي اليوم الثاني ضحك الحمار.
قال له الأسد: ما لك تضحك اليوم؟
قال: اليوم فهمت الفكاهة من أمس وأنا أتذكر وأتحفظ إلى اليوم، فالله (عز وجل) وصف بني إسرائيل بالحمار، ووصفهم بالكلب فقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوُينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176].(36/4)
العلم والشهادة العلمية
التكاثر بالعلم أن تجد البراويز محملة بالشهادات في البيت؛ لكن تنظر إلى الوجه فلا تجد عليه أثر علم، ما عليه نور ولا سفرة ولا وضوح، تنظر إلى الصلاة فإذا هي مهزوزة، المجلة الخليعة في البيت، مكان المصحف الأغنية الماجنة تدوي في البيت، والموسيقى مكان القرآن، التبرج والسفور، النظرة المسئولة وغير المسئولة التي تطلق على محارم الناس، تهتك أعراض الناس، الملبس من ربا السيارة من ربا الفلة من ربا أكل الأطفال من ربا التخلف عن الجماعات؛ وهذه الشهادة المعلقة لا تشفع له يوم القيامة.
نحن لم نفتح الدنيا بالشهادات لقد كان ابن مسعود من علماء الدنيا، كان رحباً كأنه الميدان الواسع إذا عبئ نسيماً، أو كأنه الوادي المتسع إذا ملئ ماءً، ما كان عنده شهادة، لكنه ظل في الدنيا كالنجم من قمر محمد صلى الله عليه وسلم.
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
ابن عباس أخذ علمه من مناجاته لله في الليل، كان يسجد ويبكي ويقول: [[يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني]] فأصبح حبر الأمة، وترجمان القرآن ولم يحمل شهادة، قال الخطيب البغدادي في كتاب اقتضاء العلم العمل: العلم كالكنز لا ينفعك إلا ما أنفقت منه، فإذا لم ينفعك العلم، فما هي الفائدة إذاً.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن بني إسرائيل جهلة العملاء الظلام: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِه} [المائدة:13].
والرسول عليه الصلاة والسلام نعى على الذين لا يفهمون ولا يفقهون ولا يعملون بعلمهم نسأل الله العافية والسلامة، صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال كما في سنن أبي داود: {من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من أعراض الدنيا، لم يجد عرف الجنة، وإن عرفها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً} أو كما قال عليه الصلاة والسلام {من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة}.
وفي لفظ: {ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً}.
إنسان أتى يتعلم قال الله وقال رسوله للوظيفة، للشهرة، للسمعة، ثم لم يظهر عليه أثر العلم؛ حرام عليه أن يجد عرف الجنة، وهذا الحديث يبكي والله، نسأل الله أن يتوب علينا وعليكم، وأن يمن علينا برحمته وفضله وعطفه وكرمه.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من تعلم العلم ليجاري به العلماء، وليماري به السفهاء، فليتبوأ مقعده من النار} من تعلم العلم ليجاري به العلماء، أي ليدخل في حلبة العلماء وفي صراع مع العلماء، ومشاجرةٍ، ومناظرةٍ ساخنة، ومباحثة ليكون محسوباً على العلماء.
أو ليماري به السفهاء أي: يستهتر به في المجالس، ويماري به كل سفيه؛ فليتبوأ مقعده من النار.
وصح عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يسهر الليلة الكاملة من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر وهو يبكي ويردد قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123](36/5)
التكاثر بالأموال
والتكاثر قد يكون في الأموال، وهذا الذي تشير إليه الآية أصلاً؛ والتكاثر في الأموال هو أن يكون الإنسان تخصصه وعمله في الحياة تزويداً لدراهمه ودنانيره، لكن تضيع حسناته، تضيع قيمته عند الله ثم عند الناس، ولا يشعر بذلك؛ فلا دين ولا استقامة ولا رصيد من العمل الصالح.
فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ويسأل ربنا عن كل شي
الزاد هو العمل الصالح فهذا ثابت البناني أحد الصالحين من التابعين ذهب إلى خراسان جنوب إيران في نزهة يريد مهمة هناك، فمر بالحدائق الغناء، والبساتين الفيحاء، والأنهار المتدفقة والتلال المترعة؛ فكأنه ما رآها، فلما عاد إلى البصرة سأله أهل البصرة: كيف رأيت جمال الطبيعة؟
قال: والله ما كأني رأيت شيئاً، وما أعجبني في سفري هذا إلا أنني رأيت عجوزاً تصلي ركعتي الضحى.
هذا ثابت البناني الذي يقول عنه الذهبي: كان يبكي من خشية الله حتى تكاد أضلاعه أن تختلف، في سفرته كلها ما رأى جميلاً من الأشياء إلاّ رأى عجوزاً تصلي ركعتين.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس}.
فأين أهل القناطير المقنطرة من الذهب والفضة؟
أين أهل البنوك؟
أين أهل الشيكات الذين ظنوا أن المستقبل لهذا الرصيد؟
لا والله لا رصيد إلا لمن له رصيد عند الله عز وجل.
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد لما كان أرصدا
والتكاثر بالمال فلسفة، يعبر عنها بعض الناس بقوله: يترك كل شيء إلا المال، يسبح بحمد المال، وبعض الناس يعبد المال من دون الله، يسجد للريال، ويركع للريال، ويسبح ويحمد الريال، لو سألت بعض الناس عن اسمه ربما يغلط فيقول: الريال.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام وهو يتحدث عن هؤلاء: {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة} هؤلاء عبيد.
لماذا؟
لأن أكبر معنى عندهم في الدنيا هذا المال، فحديثهم في المجالس في المال، وكلامهم في المال، أخذهم وعطاؤهم ومحبتهم وبغضهم على المال.
وهذه عبودية من دون الله عز وجل.
قال ابن تيمية: " أإله غير الله يعبدون" أو " لا بد لهم من معبود غير الله يعبدوه " لا بد، لأن الإنسان كما في الحديث الصحيح: همامٌ حارث؛ قلبه همام، وأعضاؤه حارثة فاعلة تتحرك وتزاول، فلا بد له من مقصود، ولذلك اسم الله لفظ الجلالة قيل معناه: أنه تأله له القلوب، فلا تسكن إلا إلى الله، ولا تطمئن إلا إلى الله، ولا تصمد إلا إلى الله، ولا ترتاح إلا إلى الله، قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]
فإذا عرف هذا، فليعلم العبد أن من التكاثر، التكاثر في المال، وحدُّ المال الكثرة أن يشغلك عن طاعة الله، فإذا أشغلك عن طاعة الله، فاعلم أنه عارٌ ودمارٌ، وشنارٌ ونارٌ في الدنيا والآخرة.(36/6)
التكاثر بالأولاد
ومن أنواع التكاثر عند المفسرين وأهل العلم: التكاثر بالأولاد، وبعض الناس لقلة فهمهم يتصور إذا رزق نفراً كثيراً من الأبناء؛ أن ذلك لحسنه ولمكانته عند الله، وكذلك المال والعلم، وهذه كلها ابتلاءات من الله، قال تعالى: {فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر:15]
{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ) [سبأ:37].
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها أي: نعطيهم منها {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:20 - 21].
والأولاد قد يكونون فتنةً، ولعنةً، وسخطاً، وغضباً، وشقاءً، قد يدخلون عليك البؤس والحسرة واللوعة والحرقة والفتنة، وفي بعض الآثار التي لا تصح مرفوعةً إلى المعصوم بل هو من كلام أحد الحكماء "في آخر الزمان لأن يربي أحدكم كلباً أوجرواً خير من أن يربي ولداً " هذا في بعض الأماكن يوم يرفع القرآن من البيت، يوم تنزك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم من البيت، تتربى الأسرة على غير لا إله إلا الله، على الأغنية الماجنة، على الصورة الخليعة، وعلى السهرة الآثمة، ولذلك ينشأ النشء معوجاً غير مستقيم، الابن ضال مضل، والبنت فاتنة مفتونة؛ لأن غرساً لا يربى على نهر محمد عليه الصلاة والسلام غرس ميت.
ونحن بالخصوص في هذه البلاد بلاد تعيش على ثلاثة أمور: إيمان وطموح وحب، بلاد هواها نشأ على لا إله إلا الله، وهواها سار على لا إله إلا الله، وتدفق ماؤها على لا إله إلا الله، وعلى الإيمان بالله وبرسول الله، كتب اسمها وقدرها -هذه الجزيرة - على لا إله إلا الله، فقدرها الإسلام وهي قدر الإسلام، ولا نزري بغيرنا من البلاد، فأولياء الله عندهم ربما يكونون أكثر من عندنا؛ لكنْ القبلتان، والعقبتان، والبيعتان، والهجرتان هي من هذه الأرض:
بنفسي تلك الأرض ما أحسن الربى وما أحسن المصطاف والمتربعا
فيوم يأتي بيت من البيوت، أو جيل من الأجال في هذه البلاد ليخرج القرآن من البيت، ويحل مكان القرآن الأغنية، أو يخرج المصحف ويحل المجلة الخليعة، أو يخرج حلقات السيرة والسمر مع هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم ليجعل لعب الورقة مكانها؛ معناه يقضي على لا إله إلا الله ويشطب على لا إله إلا الله من مسيرته.
لا حياة للأمة إلا بالإيمان يقول إقبال:
إذا الإيمان ضاع فلا أمانٌ ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دينٍ فقد جعل الفناء له قرينا
أمة بلا إيمان معناها قطيع من البهائم، جيش بلا إيمان هَوْشرة وهوش، فصل بلا إيمان شلة من المشاغبين، بيت بلا إيمان خراب؛ فيه غربان وبوم وعقارب، قلب بلا إيمان قطعة لحم متمزقة، كتاب بلا إيمان صحف ممزقة، قصيدة بلا إيمان أبيات مقفاة، كلمة بلا إيمان وخطبة بلا إيمان حروف مجمعة، والحب تعيش عليه الأمة، وإذا لم تعش على الحب فلا مصدر لها، وهو إكسير الحياة يحول المعدن إلى معدن آخر.
وإذا دخل الحب لغير الله ورسوله القلب فقد فسد، وظن الفنانون والفنانات، والمغنون والمغنيات، والماجنون والماجنات الأحياء منهم والأموات أن الحب عندهم.
ونحن الدعاة أو نحن أهل الدعوة وأهل قال الله وقال رسوله؛ إن كنا من أهل ذلك ما عندنا حب، بل الحب كل الحب والأصالة كل الأصالة في المصحف والسنة، أما حبهم فحب الضياع، حب العشق، حب الهيام، حب الانهزامية والفشل والبعد عن الله عز وجل، هذا أمر لا بد أن يتذكر وأن يفهم.
ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2] حتى زرتم المقابر، قبل أن أنفذ إلى الآية التي تلي هذه؛ أقول: التكاثر بالأولاد تكلم الله عز وجل عن هذا في القرآن كثيراً، وذكر قصة محزنة عن رجل، ضال مضل، عميل، كفر بلا إله إلا الله، هذا الرجل هو الوليد بن المغيرة كان له عشرة أبناء، من أبنائه خالد بن الوليد سيف الله المسلول، خالد الذي قال عنه العلماء وقال هو عن نفسه أنه حضر أكثر من مائة معركة في سبيل الله وفي غير سبيل الله قبل الإسلام، ما فيه موضع شبر إلا أصابه إما طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم.
نعم:-
تسعون معركة مرت محجلةً من بعد عشرٍ بنان الفتح يُحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
أبوه كافر بالله العظيم، وخرج من صلبه هذا المؤمن العظيم، سبحان الله الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.
الوليد بن المغيرة كان يحضر أندية قريش، ويدخل الحرم وعن يمينه خمسة أبناء وعن يساره خمسة، فقد كانوا عشرة، كان يلبسهم الحرير، وأسورة الذهب، وتيجان اللؤلؤ، كان تاجراً، ذهبه يكسر بالفئوس في مكة، فدعاه صلى الله عليه وسلم إلى لا إله إلا الله؛ فكفر بلا إله إلا الله، قرأ عليه القرآن حتى بلغ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] فقام ووضع كفه على فم المصطفى عليه الصلاة والسلام وقال: أسألك بالله وبالرحم -لأنه قطع قلبه- لا تواصل في القرآن، يعلم أنه حق، يعلم أنه مبدأ، يعلم أنه صدق، فرجع إلى قريش وأراد ان يسلم قالوا: لا نتركك.
يا أبا المغيرة حتى تقول، حتى تقول كلاماً، فقال: هذا القرآن سحر، فتنزل له الله بآيات وقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر:11].
أتى وحده، وقع أعمى، أصم، أبكم، جائع، ظمآن على الأرض، والآن يتفلسف في القرآن، يحارب لا إله إلا الله.
{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً} [المدثر:11 - 13].
يشهدون معه الحفلات والمراسيم {وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً} [المدثر:13 - 14] أي: مهدت له أموره، أهذا هو الجزاء؟! وهذا رد المعروف؟! وهذا حفظ الجميل؟! تكبر علينا اليوم، اليوم يعرف شخصيته.
{وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً} [المدثر:14 - 16] وجزاؤه {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر:17] صعود: جبل في جهنم يصعد فيه سبعين سنة إذا انتهى إلى أعلاه سقط على آخره وهكذا {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر:17] لماذا؟ {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} [المدثر:18] تفلسف في القرآن، ما عرف لا إله إلا الله، قلبه آثم مجرم، دماغه ما فهم، ما عنده انفتاح ولا ذكاء ولا فهم {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:18 - 26] أي: جهنم {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر:27 - 28] نعوذ بالله من النار، نعوذ بالله من سقر، نعوذ بالله من الفجور، نعوذ بالله من عدم الفهم لآيات الله عز وجل، هذا في التكاثر بالأولاد.(36/7)
التكاثر بالمناصب والزينة
ومن الناس من يتكثر في الظهور والمناصب والزينة، ويتكثر بالشهرة، وهي أمور مغروسة في الفطر، محببة إلى النفس لا يوجهها إلا الإسلام.
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] أيها الناس! ألهاكم التكاثر، أيها التجار! ألهاكم التكاثر، أيها النائمون! إلى متى والموت قد حضر؟!
{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2] لأهل العلم مسلكان في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أورد ذلك ابن كثير وابن جرير منهم من قال: سبب نزول هذه الآية والسورة: أن قريشاً عددوا الأسر على كثرتهم: أسرة بني سهم، وأسرة كذا، وأسرة كذا؛ فلما عددوا الأسر قالت هذه الأسرة: نحن أكثر عدداً من تلك الأسرة، حتى قالوا: نعد أمواتنا وأمواتكم، فخرجوا يعدون الأموات في القبور، فيقول تعالى:: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2].
والمسلك الثاني: قال المفسرون: معنى قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] أي تكثرتم بالأموال والأولاد والزينة والشهرة والعلم حتى جاءكم الموت فأشغلكم وهذا هو الراجح والظاهر إن شاء الله.
ليس في الزيارة المعروفة الشرعية للمقابر، أو الزيارة العادية الذي يفعلها بعض الناس، لا.
إنها زيارة غير الزيارات، زيارة اضطرار.
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا
زيارة لابد أن ينتقل ويفعلها ويزاولها كل إنسان، الملك والمملوك، الغني والفقير، الكبير والصغير، الأنثى والذكر.
{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2]: زرتم ولكنها على منوالها وعلى ظاهرها، زيارة ولكنها ليست بزيارة، وهي الموت؛ زيارة على النعوش، زيارة في الأكفان، زيارة ونحن جثث نحمل على أكتاف الرجال.
وهذا تلطفٌ في الأسلوب وعجبٌ في الكلام.
{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2]: وعلى ذكر الزيارة لا نستطرد في أحكامها؛ فلها باب آخر، إن هذه الزيارة ليست الزيارة المعروفة التي تزور فيها الأموات ثم تعود إلى بيتك، إنك إذا فعلت هذه الزيارة فلن تعود إلى بيتك مرةً ثانية، إن الله عز وجل كما في الحديث القدسي يقول: {إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون} زيارة تفقد فيها أحبابك، وأصحابك، وأترابك، وإخوانك، وأخدانك، زيارة لن تعود إلا إلى جنة أو إلى نار، زيارة لن ترى فيها بيتك مرةً ثانية، ولا طفلك الوليد الحبيب، ولا طفلتك الوديعة الهادئة، ولا زوجتك الحبيبة، ولا بيتك ولا فراشك، زيارة تنقطع فيها عن أسباب الحياة وعن معالم الحياة.
تنبهوا يا رقود إلى متى ذا الجمود
فهذه الدار تبلى وما عليها يبيد
الخير فيها قليلٌ والشرُ فيها عتيد
والبر ينقص فيها والسيئات تزيد
فاستكثر الزاد فيها إن الطريق بعيد(36/8)
حقيقة الدنيا
وقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه في الليل الدامس، فأخذ لحيته بيديه يبكي، ويقول: [[يا دنيا يا دنية طلقتك ثلاثاً لا رجعة بعدها، زادك حقير، وسفرك طويل، وعمرك قصير آه من وحشة الزاد، وبعد السفر، ولقاء الموت]].
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2].
يا أيها الذين قرب رحيلهم إلى المقابر، ماذا أعدتم للمقابر؟
يا أيها الذين استبشروا بطلعاتهم، وخافوا من وهج الشمس أن تغير بشرتهم، سوف تحشرون في المقابر، يا أيها الذي تظلل في الظل الهانئ الوارف؛ سوف تطرح في المقبرة، يا من تمتع برؤية أطفاله، والجلوس على منابره وكنباته، سوف توسد التراب، يا من تلذذ بالطعام والشراب؛ سوف يأكلك الدود.
ستنقلك المنايا من ديارك ويبدلك البلى داراً بدارك
وتسلب ما غنيت به زماناً وتنقل من غناك إلى افتقارك
فدود القبر في عينيك يرعى وترعى عين غيرك في ديارك
مر عمر بن عبد العزيز -كما في البداية والنهاية لـ ابن كثير - الخليفة الزاهد العابد، المجدد الأول بعد الصحابة؛ مرّ بالمقابر في دمشق فقال: يا موت ماذا فعلت بالأحباب؟ ماذا فعلت بالأحبة؟
ثم بكى حتى جلس، فجلس معه الأمراء والوزراء وهم يبكون قال: [[أتدرون ماذا يقول الموت؟ قالوا: لا.
قال: يقول: ذهبت بالعينين، وأكلت الحدقتين، وفصلت الكفين عن الساعدين، والساعدين عن العضدين، وفصلت القدمين عن الرجلين، والرجلين عن الساقين]].
ساعة الموت -كما يقول أحد الأساتذة العصريين- يذل فيها الجبار، ويذعن فيها المتكبر، ويسلم فيها الكافر؛ لكن لا ينفعه حينها إسلامه.
فإذا أعددت لنفسك زاداً في ذاك القبر آنسك الله، فوالله الذي لا إله إلا هو لا مؤنس في القبر إلا العمل الصالح والتسبيح والذكر والصلاة والقرآن، يا عالم الدراهم والدنانير يا عالم الملابس والمعطيات يا عالم الأكل والشراب يا عالم العمارات والسيارات.
هذه عملة لا تنفع في القبر، صيرفي القبر يقول: هذه عملة بهرجٌ زائف.
لا يدخل القبر إلا عملةٌ عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله، ووقع عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتى بعلامتها جبريل، ورضيها الله، ودخلت بالإخلاص، ووضعت بالتواضع، وسلمت بالقبول، ورفعت إلى أبواب الجنة الثمانية.(36/9)
كلا سوف تعلمون
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:1 - 3] سبحان الله! كلمة (كلّا) كأنها صاعقة في القرآن، لا تأتي إلا في أسلوب وهجوم أدبي، الهجوم الأدبي تستخدم فيه كلا.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:99 - 100] (كلّا) هذه كالجبل، تتحرك كأنها القوارع أو القذائف على الرءوس.
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] أهذا صحيح؟! كلا هذا خطأ؛ أخطأتم في الأسلوب، وأخطأتم في العمل، وأخطأتم في الفهم، وأخطأتم في الإدراك والإرادة.
{كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:3] سوف تظهر، لكم أمور ما ظهرت، كان ابن عمر رضي الله عنهما يقرأ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] فبكى حتى أغمي عليه.
وفي كتاب الزهد لـ وكيع بن الجراح بسند جيد إلى ابن عمر أنه قرأ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] حتى بلغ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] فبكى حتى أغمي عليه ورش بالماء {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].
{كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:3] صلوا وصاموا وحجوا؛ لكن رياءً وسمعة، وظنوا أنها رصيد عند الله، فلما حضروا وجدوها هباءً منثوراً، فبكوا وتضرّعوا ولكن حيث لا ينفع التضرع والبكاء.(36/10)
كلا لو تعلمون علم اليقين
{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:2 - 3] سوف تعلمون غداً يوم العرض الأكبر.
{ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:4] وهذا تأكيد بالتثبيت والإرادة بعد المبادئ، والتفريع بعد التفصيل، وهو منهج استقرائي لأهل التفسير، بل لأهل اللغة العربية قبل أن يكون لأهل التفسير يوم تؤكد الكلام.
{الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1 - 3] {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1 - 2] هذا التأكيد يقرع القلوب لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؛ لكن الذي ليس له قلب لا يفهم، والذي ليس له فكر لا يتفكر، والذي ليس له إرادة أو فسدت إرادته لا يعي ولا يفهم أبدا.
ً
- مراتب اليقين:-
{َكَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمّ َكَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر:3 - 5] كيف علم اليقين؟
في القرآن حق اليقين، وعلم اليقين، وعين اليقين؛ فما هو الفرق بين عين اليقين وحق اليقين وعلم اليقين؟
يقول ابن القيم في مدارج السالكين: علم اليقين: هو أن تسمع بالشيء ولا تراه فهذا علم، ولكنك إذا تيقنت منه فهذا علم اليقين؛ فإذا علمت بشيء فتيقنت منه كان لديك علم اليقين.
وحق اليقين: هو أن يخبرك الثقاة بأمور تواترية تبلغ درجة حد التواتر، فتتيقن دوماً أن هذا الأمر صحيح، فيكون عندك درجة حق اليقين.
وعين اليقين: هو أن ترى الشيء بنفسك.
ثم ضرب على ذلك مثالاً؛ فقال: تسمع من الناس أن العسل لذيذ الطعم، وأنه طيب المساغ، وأنه سلس المذاق، فيكون عندك جزم من استقراء كلام الناس عن العسل أنه طيب فهذا علم اليقين، يخبرك أطباء ومدربون وأناسٌ كثيرون أن العسل من أحسن المطعومات فيكون عندك حق اليقين.
تأتي فتذوق العسل فيصبح عندك عين اليقين.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ثُمّ َكَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر:4 - 5] لو كان عندكم في الدنيا علم يقين يصل إلى القلوب ما فعلتم هذه الأفاعل، بالله هل يترك الصلاة من عنده علم يقين؟
بالله! هل يستهزئ بآيات الله ويستهتر بالمبادئ الخالدة في الدين من عنده علم يقين؟!
بالله هل يقضي وقته باللعب واللهو والغناء والمجون والسفور من عنده علم يقين؟!
بالله هل يخل بفرائض الله من عنده علم يقين؟!
لم تقع هذه الأمور إلا يوم نقض علم اليقين، ومات علم اليقين في القلوب، فلو وصل علم اليقين إلى القلوب، لكنّا وصلنا إلى الله عز وجل.
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتقي الله البطل
أيها اللاهي بلا أدنى وجلْ
اتق الله الذي عز وجل
واستمع قولاً به ضرب المثل
اعتزل ذكر الأغاني والغزل
وقل الفصل وجانب من هزل
- الوصول إلى اليقين عند غلاة الصوفية:
الوصول هو التقوى، وهو علم اليقين، إذا وصل إلى القلب وصلت إلى الله عز وجل، إذا عرفت الله عز وجل، وعملت بأوامر الله، فقد وصلت، لا كوصول الصوفية، فعند غلاة الصوفية إذا وصلوا إلى درجة اليقين بزعمهم لا يصلون ولا يصومون ولا يحجون، قيل لهم: مالكم؟
قالوا: نحن نتعبد حتى نصل إلى درجة؛ فإذا وصلنا إلى درجة أسقط الله عنّا التكاليف، فالصلاة معناها: صلة مشايخنا، قلنا: والصيام؟
قالوا: الصيام حفظ أسرارنا.
قلنا: والحج؟ قالوا: زيارة أحبابنا.
قيل لـ أبي علي الروذباري: يقول الصوفية الذين تركوا الفرائض: أنهم وصلوا.
قال: صدقوا، وصلوا لكن إلى سقر، إلى جهنم.
ما كل من وصل وصل، ولا تصل أنت إلا على طريقٍ قائده محمد عليه الصلاة والسلام، وزادك فيه القرآن -كما سلف التنويه بهذه العبارات في أول المحاضرة-.
{ثُمّ َكَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر:3 - 6]-نعوذ بالله من الجحيم- وهنا أسلوب القرآن ممتع مع فواصل الآيات، وهو أسلوب المد المحزن البكائي في الفواصل التي تمد في حركات.
{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر:5 - 6]
قال: الجحيم ولم يقل: النار؛ لأن النار تمد وهو تناسب سورة [ص] والسور التي مدت فيها الألف ثم جاءت بعدها حروف، مثل المهاد، المئآب، الثواب، العقاب، القرار، لكن هذه كانت تناسب التحزين لأن السورة سورة بكاء ثم {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:6 - 7] الجحيم ترى يوم القيامة.
وصح عن الرسول عليه الصلاة والسلام في أحاديث أنه: {يؤتى بجهنم يوم القيامة يقودها بأزمة سبعون ألف ملك} ولها زمجرة ولها تغيظ وزفير تكاد أن تتميز وتتقطع من الغيظ، وتريد أن تغير على أهل الموقف -نعوذ بالله من ذلك- ولكنها تصبر حتى يدخل فيها المجرمون.
نعم {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:7] أتى هنا عين اليقين الرؤية، ويأتي عين اليقين هنا، وهي الدرجة التي ذكرها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى علم وعين.(36/11)
لتسألن عن النعيم
{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ} [التكاثر:7 - 8] هذه الآية من أعظم الآيات وكل ما أمدنا الله عز وجل به في الحياة الدنيا فهو نعيم، واختلف أهل العلم في أجلِّ نعمةٍ في الحياة، فقال أهل المنطق من الأشاعرة: أجلُّ نعمة نعمة الحياة، وخالفهم أهل الحديث وقالوا: أجلُّ نعمة نعمة الإسلام، ووافق ابن تيمية على هذا القول الثاني وهو الصحيح، فأجلُّ نعمة في الحياة هي نعمة الإسلام.
خذ كل شيء، إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عوضٌ من كلِّ هذه، وليس من الله عوض، من وجد الطريق إلى الله فقد وجد كل شيء، ومن فقد الطريق إلى الله فقد فَقَدَ كل شيء، من نام على الرصيف وما وجد إلا كسرة الخبز وقطعةً يواري بها عورته، ووجد الإيمان فقد ملك الدنيا، ومن ملك الدنيا ثم فقد الإيمان، فقد أصبح في لعنة وأمسى في غضب، قال تعال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126] {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8]
النعيم على أنواع، ما هو النعيم؟
قيل: الماء البارد.
وهذا قول ابن عمر قال: [[تسألون عن الماء البارد]].
يوم تظمأ وتتحرق كبدك، وتريد أن تقدم كل شيء عندك لشربة ماء.
وقيل النعيم: هو السكن إلى الأهل، والرضا بالرزق مع الاستقامة.
وقيل النعيم: هو المدد بالجوراح وبالحواس فلا يطرقك حدث حتى تموت، وهذا من النعيم.
وقيل النعيم: هو ألا تطرقك طوارق الأحداث، وأن يتلطف بك في القضاء والقدر -وهذا من النعيم-.
وقيل النعيم: أن تسلم من فتنة الحياة (التفكير) وفتنة الابتلاء الذي يصل ببعض الناس إلى التسخط -وهذا من النعيم- والصحيح أن كل ما أعطاك الله عز وجل مما أمدك به فهو نعيم، ولكن النعيم قد ينقلب عند من لا يحسن استخدامه واستعماله إلى جحيم.
هذا أبو تمام يقول:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
كتب علي بن أبي طالب أبو الحسن أمير المؤمنين إلى رجل يعزيه في ابنه قال له: [[يا فلان! إن احتسبت موت ابنك آجرك الله، وإن لم تحتسب موته سلوت بعد حين كما تسلو البهائم]].
انظر إلى العقل انظر إلى أستاذ الكلام، رجل العبارة، وأستاذ الكلمة الحارة (علي بن أبي طالب) يرسل الكلمات قذائف تصل إلى القلوب؛ يقول: إذا احتسبت موت ابنك كان نعيماً، وكان ثواباً لك عند الله، وإذا لم تحتسب سلوت بعد حين كما تسلو البهائم، فأخذ أبو تمام هذا المعنى وقال:
أتصبر للبلوى رجاءً وحسبةً فتؤجر أم تسلو سلوَّ البهائم
نعم.
البهيمة بعد حين تسلو عن فصيلها وعن ولدها، وهذا مثل بعض الناس يتسخط وقت موت الأب والابن والأخ، ويبكي، ويتذمر على القضاء والقدر، ويتعدى حدود الأدب، ولكن بعد أشهر يسلو كما تسلو البهيمة، فلا احتسب أجراً ولا جعله نعمةً وذخراً عند الله، ولا سلم من الذنوب والخطايا.
والنعم متنوعة: منها نعمة الابتلاء، ونعمة الرخاء، تليت هذه الآية في مناسبة صحَّ عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] أنه قال: [[لا يرضى محمد وأحدٌ من أمته في النار]].
فأسأل الله عز وجل أن يرضي عينه، وان يقرَّ عينه بدخولنا في الجنة، لأنه رحيم يشفق على هذا الجيل، ويشفق على هذه الأمة يقول في صحيح البخاري عن أبي موسى: {آخذ بحجزكم، وتتهاوون كما تتهاوى الفراش في النار}.
يقول: لا تزنوا ولا تكذبوا ولا تغشوا ولا تخادعوا.
لكن كثيراً منا يخالفون أمره.
- حديث رسول الله: لتسألن عن النعيم:-
خرج عليه الصلاة والسلام ذات يوم جائعاً علَّه أن يجد طعاماً في أحد الأمكنة، يطلب رزق الله، فخرج أبو بكر جائعاَ، وخرج عمر الفاروق جائعاً، فقال عليه الصلاة والسلام: ما أخرجك يا أبا بكر؟ قال: الجوع يا رسول الله.
قال: وما أخرجك يا عمر.
قال: الجوع يا رسول الله.
سبحان الله! العظماء يجوعون، نعم يجوع العظماء، والذئاب والأسود تجوع، والكلاب تشبع من لحوم الضأن.
يقول الشافعي:
تموت الأسد في الغابات جوعاً ولحم الضأن تأكله الكلاب
ليس الحبق والتبجح والسخط من العظمة، إنَّ الحمار يأكل ما يعادل عشرة أنفس من الرجال لكنه حمار، وهذا مقدور ومقدر، الرزق يأتي ويذهب، والأكل يأتي ويذهب.
طول الحياة إذا مشى كقصيرها والعصر للإنسان كالإعصار
لكن العظمة في القلوب، فالعظماء يجوعون، عظماء الأمم جميعاً في المسلمين وغير المسلمين من أجوع الناس.
فخرج قال: والله ما أخرجني إلاَّ الجوع، اذهبوا بنا نلتمس طعاماً، فخرجوا إلىبيت أحد الأنصار الأبطال الأخيار الذين قدموا كل شيء للإسلام، قدَّموا عرقهم، وقدَّموا دماءهم، وقدَّموا أموالهم وأبناءهم، جزى الله الأنصار خير الجزاء! الله أكبر! يا للأنصار من مفخرة في الإسلام {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] يقول بعض المفسرين: كان الأنصاري ينام جائعاً ويذهب بطعامه ويعطيه جاره، فيشبع الجار وينام وهو جائع.
هينون لينون أيسار بنو يسرٍ صيد بهاليل حفاظون للجار
لا ناطقون عن الفحشاء إن نطقوا ولا يمارون إن ماروا بإكثار
فجزاؤهم عند الله خير الجزاء، قالت عائشة المربية العالمة الصديقة بنت الصديق: والله ماضرَّ أحداً من الناس أن ينزل بأهله بجانب بيت من بيوت الأنصار، بكى أبو بكر بعد موت الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: يا معشر الأنصار! جزاكم الله خيراً من جيران، ما وجدنا والله مثلكم من جيران، ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال طفيل الغنوي في أبيات لطيفة ظريفة، يقول:
جزى الله عنَّا جعفراً حيث أشرفت بنا نعلُنا في الشارفين فزلتِ
همُ خلطونا بالنفوس وألجئوا إلى غرفات أدفأت وأظلتِ
أبوا أن يملونا ولو أنَّ أمنا تلاقي الذي يلقون منا لملَّتِ
فخرج صلى الله عليه وسلم وصاحباه الشيخان، الكبيران، الجليلان، اللذان هما قطب الإسلام بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم ودخلوا المزرعة وما وجدوا الأنصاري، كان يذهب يأخذ ماءً من بئر له في المزرعة، فوجدوا أماً وداعيةً، ومستقبلةً، وامرأة عاقلة فهشت وبشت في وجه الوفد العظيم الذي ما دخل البيت أعظم منه، وأخذت ترحب حتى أخذت تبكي من الفرح تقول: والله ما أحسن منَّا ضيفاً هذا اليوم.
طفح السرور عليًّ حتى إنني من عظم ما قد سرَّني أبكاني
وأخذت ترحب ويسألها صلى الله عليه وسلم عن زوجها قالت: خرج يستعذب لنا الماء، ويأتي في هذا الوقت، فأتى الأنصاري، فلما سمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته أخذ يكبر فرحاً الله أكبر الله أكبر الله أكبر والله ما أحد أحسن منا ضيفاً هذا اليوم!!
تصور في ذهنك -أيها المسلم- يا صاحب اللوعة والحرقة على سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم تذكر أنك في بيتك وبين أطفالك ويطرق على بيتك طارق، فتفتح الباب فإذا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وإذا أبو بكر وعمر ضيوفك، أيُّ مكتوب في الأذهان؟! أيُّ كنز يقدَّم إليك إن كنت مسلماً؟! ما سمع في الدهر بجائزة أعظم، ولا وسام أعظم من هذا، فيفتح ويتقدَّم ويأتي بسفرته، ويذبح الشاة وهذا الكرم العظيم:
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
فيشبع بطن المصطفى عليه الصلاة والسلام، بطن الذي ربَّى الأجيال، بطن الذي فتح الممالك بلا إله إلاَّ الله، بطن الذي أخرج الأساتذة والدعاة والعلماء والأدباء والقواد والشهداء، بطن الذي رفع لا إله إلا الله في طاشقند وسمرقند والهند والسند وكل بقعة على الأرض، فلما شبع قال: {والله لتسألن يوم القيامة عن هذا النعيم} هذا عليه الصلاة والسلام شبع مرةً في أشهر طويلة، ويتحرَّى السؤال من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وكم نسمع في اليوم والليلة ما كأن هناك وجبة تمر إلا بلحم، والوجبة التي تمر بلا لحم وجبةٌ نحاسب أنفسنا عليها، ونستغفر من تقصيرنا فيها، ما بقي إلا أن نسجد سجدة السهو إذا فات اللحم من وجبةٍ من الوجبات، كأنه قُرِّر علينا أنه لابدَّ أن يقدَّم اللحم على الموائد؛ حتى أصبحت بطوننا فتنة للحيوانات، تذبح بأصنافها ومطعوماتها من مثلجةٍ، وطازجةٍ، ومذبوحةٍ على الطريقة الإسلامية، والدانماركية، وعلى الإنجليزية، والفرنسية، وظلمات بعضها فوق بعض، والإنسان إذا لم يعرف أنَّ هذه نعم لا يقدرها، ولا يشكر الله عليها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
- مالك بن دينار يعظ رجلاً بالنعيم:-
اللقمة يوم ترفعها يسألك الله عنها لكن سؤال تقرير، يسألك الله يوم القيامة، أما إذا أكلت فشبعت قيل: نعم.
فماذا فعلت بالأكل؟
لأن كثيراً من الناس إذا أكل وشبع قام يرقص ويترك الصلاة، وإذا قيل له: لماذا لا تصلي؟ قال: إن لنفسك عليك حقاً! ألنفسك عليك حق في اللهو واللعب أما الصلاة فليس لها حق؟!
وكثير من الناس إذا أكل وشرب ذهب ليعصي الله عز وجل بطعامه وشرابه، ويمسك حدود الله، ويتجرأ على محرمات الله، ويلعب بآيات الله وقد أكل نعم الله، استظلَّ بسماء الله، ومشى على أرض الله، وشرب ماء الله، وعصى الله.
أتى رجل إلى مالك بن دينار أحد الدعاة الأذكياء أحد الدعاة الواجهات في الأمة الإسلامية فقال: يا مالك بن دينار! أنا تبت من كل ذنب إلا من ذنب واحد.
قال: تب إلى الله.
قال: جربت نفسي فما استطعت.
قال: فتب.
قال: فما استطعت.
قال: أجل، أسألك أسئلة.
قال: سل.
قال: إذا أردت أن تعصي الله فاخرج من أرضه، كيف تعصي الله في أرضه؟
رجلٌ يكرمك في بيته ويدخلك في بيته فإذا تغديت وتعشيت أخذت السوط تضرب أبناءه؛ فإذا قال لك هذا الرجل: أطعمتك وأسقيتك وأكرمتك وتضرب أبنائي؟! تقول: أنا حر أتصرف كما أشاء.
قال: اخرج من أرض الله.
قال: وأين أخرج والأرض أرض الله والملك ملك الله؟! قال: وإذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزق الله.
أتأكل نعم الله وتعصي الله؟! قال: من أين آكل ولا رزق إلا رزق الله.
قال: إذاً فإذا أبيت ذلك فحاول ألا يراك الله، اختفِ في مكانٍ لا يراك الله فيه، وأين يختفي الإنسان بين الجدران من الواحد الديان، بين الحيطان من الرحمن، بين البساتين والأشجار من الواحد القهار.
لا والله.
وإذا خلوت بريبةٍ في ظلمةٍ والنفس داعيةٌ إلى الطغيان
فاستح من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
قال: لا أستطيع، الله يراني في كل مكان.
قال: فإذا أصريت على ذلك عصيت الله فحاول ألا يجدك يوم القيامة، فإنه إن وجدك عذبك عذاباً عظيماً.
قال: لا مفر ولا ملجأ ولا ملتجأ من الله إلى إليه، ثم أخذ يبكي وقال: أشهدك أني أتوب إلى الله.(36/12)
نعيم الابتلاء
{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8] النعيم: نعيم الابتلاء وهذا لا يعرفه إلا قليل من الناس، قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] قال: الفضيل بن عياض: [[اللهم لا تبلونا فتفضحنا]].
بعض الناس إذا ابتلاه الله افتضح، فالستر الستر! ولذلك أحسن الدعاء: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]
ابتلي الصالحون فرفع الله درجاتهم بالابتلاء، وأولهم الأنبياء.
مرض أيوب عليه السلام مرضاً عظيماً سنوات عديدة، فلما أتاه الزوار قالوا: ادع الله أن يشفيك، قال: شافاني الله أربعين سنة، وأمرضي ثماني عشرة سنة؛ فإذا تساوى البلاء والعافية دعوت الله عز وجل.
ونحن يمرض الواحد منا أياماً قليلة فيقول: طوَّل بي البلاء؛ دخلت المستشفى من شهرين وأنا طريح الفراش، وأين وأنت بالعشر، عشرين، ثلاثين، أربعين سنة تأكل صحيحاً معافى، أما حسبت هذا الوقت أما تذكرت هذا الزمن أما حاسبت نفسك على هذه النعم.
وذكروا عن عمران بن الحصين: أنه مرض ثلاثين سنة، فما شكا ولا اكتوى حتى صافحته الملائكة -كما في الإصابة وغيرها- بأياديها، لأنه شكر نعمة الله.
وكثير من الصالحين عدُّوا الابتلاء نعمة قطعت رجل عروة بن الزبير من فخذه، ونشرت وهو في الصلاة فقال: [[اللهم لك الحمد إن كنت أخذت فقد أعطيت، وإن كنت ابتليت فقد عافيت، أعطيتني أربعة أعضاء وأخذت عضواً واحداً، وأعطيتني أربعة أبناء وأخذت ابناً واحداً، فلك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا]].
وابتلي كثير من الناس منهم أبو ذؤيب الهذلي مات له سبعة من الأبناء فيقول:
والنفس راغبةٌ إذا رغبتها وإذا تُرد إلى قليل تقنع
والابتلاء نعمة إذا قدرها العبد لكن إذا تسخط أصبحت نقمة.
فما هي النعم إذاً؟ النعم على ثلاثة أضرب:
نعمٌ توصلك إلى رضوان الله عز وجل وهي الإيمان والعلم الصالح، وهذا لا يعادله نعمةٌ من النعم أبداً، ولا يمكن أن يرقى إليها أحدٌ من الناس، ولا يصل إلى مستواها بشرٌ من البشر إلاَّ المسلمون، وهذا تفوقنا على الأمة الكافرة وعلى أعداء الله بنعمة الإيمان، ونعمة الإيمان لا يعادلها شيء، وقد أسلفت الحديث عن هذا.
ولذلك يقول إبراهيم بن أدهم: نحن في نعمٍ لو علم بها السلاطين لجالدونا عليها بالسيوف، فما هي هذه النعمة؟ هي نعمة الرضا بالله عز وجل رَبَّاً، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً.(36/13)
من قصص الملوك
عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، هذا الرجل الكبير، المنظِّر السياسي لدولة بني أمية؛ حضرته الوفاة فبكي حتى تلبط بالأرض وهو في سكرات الموت، فسمع غسالاً يغني في وقتٍ هو فيه في سكرات الموت في قصره في دمشق، وبالقرب منه وادٍ فيه غسال يترنم بقصيدة فقال: يا ليتني ما عرفت الحياة، يا ليتني ما توليت الخلافة، ياليتني كنت غسالاً، فقال سعيد بن المسيب العالم الزاهد لما سمع هذه الكلمة: [[الحمد لله الذي جعلهم يفرُّون إلينا وقت الموت ولا نفرُّ إليهم]].(36/14)
المعتصم العباسي
المعتصم الخليفة العسكري العباسي، فاتح عمورية، مدمر الروم الذي أحرق جيوشهم فقال أبو تمام:
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب
المعتصم الذي كان المصحف دائماً في حضنه.
ولا بأس أن أورد القصة باختصار حتى نعرف كيف كنا نغضب للا إله إلا اله إذا انتهكت، كنا نعيش للا إله إلا الله، كنا نموت من أجل لا إله إلا الله.
ذهبت امرأة مسلمة تبيع الثياب وتشتري إلى عمورية في بلاد الروم، والبلاد بلادٌ كافرة، فبسطت بضاعتها في السوق ضحى، وهي إمرأة غريبة بين قومٍ كفار؛ مثلما تذهب المرأة المسلمة اليوم إلى بريطانيا أو أمريكا أو إسرائيل، وبينما هي تبيع وتشتري أتى رجل كافر، فربط ثوبها بحجيزتها أو برأسها؛ فقامت فتكشفت عورتها فصاحت بأعلى صوتها في السوق وامعتصماه، وامعتصماه، وامعتصماه! تقول: أين الخليفة المعتصم عن هذا الأمر، أيرضى أن تنتهك حرمتي، وأن يؤخذ عرضي في السوق؟! أيرضى وهو خليفة للمسلمين أن يفعل بي هذا، فضحك الرومي الذي فعل هذا وقال: انتظري المعتصم حتى يأتي على فرسٍ أبلقٍ، وكان مستبعداً الرد، فسمع رجل مسلم في السوق هذا الصراخ العجيب الذي يدخل إلى القلوب ويقرع الأرواح.
وانطلق وركب البحر، ووصل إلى المعتصم في دار الخلافة في بغداد دار السلام، ودخل على المعتصم وكان عسكرياً قوياً متقياً لله.
فأتى هذا الرجل المسلم الذي سمع المرأة الصارخة المستنجدة بـ المعتصم بعد الله، فدخل عليه وقال: كنت يوم كذا وكذا في عمورية، ووقع للمرأة المسلمة تلك كذا وكذا فقالت: وامعتصماه، فضحك منها الروم وقالوا لها: انتظريه على فرسه الأبلق حتى يأتيك ينصرك، فقام المعتصم من على مجلسه وكرسيه واقفاً.
فقال: والله الذي لا إله إلا هو لا يصيب رأسي غسلٌ من جنابة حتى أطأ أرضهم بالخيل.
ثم أعلن الاستنفار في العالم الإسلامي وقال: لا بد من كل بيت من المسلمين أن يخرج منهم مجاهد ومن تخلف يضرب عنقه، ثم توجه وجعل العلماء في قيادة الجيش يفقهون الناس، ومشى حتى وصل إلى عمورية، ثم قاتلهم فكان يفتح كل مدينة بلا إله إلا الله، فإذا فتح المدينة أحرق حصونها حتى أخذت تشتكي هذه المدينة على هذه المدينة، وترى هذه المدينة نار هذه المدينة، ثم دخل عمورية فطوقها حتى استسلم قوادها، وأنزلهم وقال: عليَّ بالرجل، والله لا أغادر مكاني حتى يأتيني الرجل الذي أساء لتلك المرأة، فأتوا بالرجل يسحبونه، فأوقفه عند المرأة فقال لها: هذا الرجل رقيق لك.
إن شئت أعتقتيه لوجه الله، وإن شئت فهو عبدٌ لك قالت: بل أعتقه لوجه الله.
قال المعتصم وقد انتحى: أنا المعتصم، وهذا فرسي الأبلق، وقد جئت أنصرها بلا إله إلا الله.
يقول أبو ريشة.
ربَّ وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتَّمِ
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصمِ
ألإسرائيل تعلو رايةٌ في حمى المهد وظل الحرمِ
أوما كنتِ إذا البغي اعتدى موجةً من لهبٍ أو من دمِ
كيف أغضيت عن الظلم ولم تنفضي عنك غبار التهم
ما كأننا كنَّا أمة نفتح بلا إله إلا الله، ونقدم لا إله إلا الله، ولذلك المناسبة يوم يقول أبو تمام:
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب
إلى أن يقول في القصيدة:
تدبير معتصمٍ بالله منتقم لله مرتقبٍ في الله مرتغب
الشاهد أن هذا الخليفة لما حضرته الوفاة تذكر لقاء الله قال: أموت؟! قالوا: تموت اليوم، وهو شاب.
يظن بعض الناس أنه لا يموت حتى تنتهي فترة العمل، ويتقاعد، ثم يبدأ عملية الموت، ينظر إلى لحيته وهي سوداء.
قال: لا لن أموت، ما دامت اللحية سوداء، فلا يموت الإنسان.
لكن أفتى أهل العلم بالإجماع أنه يجوز أن يموت الإنسان وهو شاب، فيقول المعتصم: أموت اليوم.
قالوا: تموت فنزل من على سريره يبكي ويقول: والله لو كنت أدري أنني أموت في شبابي ما لهوت عن ذكر الله ساعة.
سبحان الله! ولا يتذكر هذا المصرع إلا عند سكرات الموت.(36/15)
معاوية بن أبي سفيان وهارون الرشيد
عن شفي الأصبحي قال: لما حضرت معاوية الوفاة كشف الستار ثم مرَّغ وجهه في التراب وبكى وقال: صدق الله {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
حضرت الوفاة هارون الرشيد الخليفة العباسي، أقوى خليفة، الخليفة الحضاري الذي قدم لخلافته وملكه ما لم يقدمه أحد من أهل عصره، والذي كان يخرج على شرفات القصر ويقول للسحابة: " أمطري أنَّى شئت، فإن خراجك سوف يأتيني " أي: أيَّ مكان أمطرت فيه فهي من بلادي.
حضرته الوفاة في طوس فخرج يبكي وقال: اجمعوا لي الجيش، فجمعوا الجيش، فأشرف على الجيش ونظر إلى السماء وهو يبكي وقال: يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه، فبكى الناس(36/16)
أنواع النعيم
فالنعيم الأعظم -وهو النعيم الأول- هو أن يوصلك إيمانك إلى رضوان الله هو نعمة الإيمان، والتعلق بالله، وبكتاب الله.
النعيم الثاني: ألا تجعل لك إماماً ولا قدوةً ولا هادياً إلا محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21]
فمن لم يجعل الرسول عليه الصلاة السلام إمامه وأسوته وقدوته؛ فلا يزال ضالاً حقيراً لا يساوي عند الله فلساً.
ليس هناك أعظم من الرسول صلى الله عليه وسلم في المربين، ولا في المعلمين، وشريعته تؤخذ كاملة، فأما التجزئة والترقيع فهذا أمرٌ لا يرضاه الله عز وجل قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85].
والنعيم الثالث: -وهو يدخل في النعيم الأول والثاني؛ لكنه ينفصل بجزئيات- نعيم العبودية، نعيم النوافل بعد الفرائض، ولا أنعم ممن وضع وجهه في الأرض ساجداً لله عز وجل.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً
الدنيا كلها والله لا تساوي ركعتي الضحى.
حين تخرج من عملك، من مكتبك أو من إدارتك أو من فصلك، فتتوضأ وتصلي ركعتي الضحى في أربع دقائق أو خمس دقائق، والله إن الدنيا كنوزها وذهبها وملكها لا يساوي تلك الركعتين.
النعيم أن تأخذ المصحف تتلو آيات الله، فإذا لم تبكِ فتباك النعيم هو أن تقوم في السحر إن وفقك الله لقيام السحر والليل، فتقوم فتبتهل إلى الله عز وجل أن يعافيك ويشفيك النعيم: أن تعد بأناملك دائماً وأبداً وأنت في المجالس أو وأنت سائر، بالتسبيح والتهليل والتكبير النعيم أن يصل قلبك بالله عز وجل النعيم أن ترضى بما أعطاك الله عز وجل من الأرزاق، ومن الأولاد، ومن البيوت، وتعدَّ نفسك في رغدٍ من العيش.
وقل لمن أخذ الدنيا: خذها ومعها مثلها إذا بقي الدين فهو الاستقامة والفلاح والنجاح.
فهذا نعيم العبودية نعيم اللذة.
يقول ابن تيمية كما ثبت ذلك عنه: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
إنها لذة العبادة والذكر، ولذلك لما أدخل القلعة أغلق عليه السجان الباب قال ابن تيمية: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] ثم قال: "ماذا يفعل أعدائي بي؟!
أنا جنتي وبستاني في صدري أنَّى سرت فهي معي أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة"
فجنته وبستانه الذكر والعبادة والاتصال بالله عز وجل.
ولذلك انظر إلى المؤمنين الذين يداومون على الصلوات الخمس في الجماعة أهل المصاحف أهل قيام الليل أهل صيام النوافل أهل التسبيح وركعتي الضحى كيف تجد عندهم من السكينة، والاطمئنان، والصلاح، والخير ما لا تجده عند أولئك الذين لا يعرفون هذه الأمور.
يبحثون عن السعادة لكن ما وجدوا طريقها.
هذا الأمريكي دايل كارنيجي في كتاب دع القلق وابدأ الحياة أتى بطرق السعادة، وفي الأخير تنبه واستفاق وسط الليل يقول: اكتشفت أن السعادة أن تجلس نصف ساعة مع الله عز وجل.
أين أنت يا عدو الله ما بحثت عن السعادة إلا في هذه النصف ساعة، نحن إن شاء الله سعادتنا ليل ونهار، أما أنت فتظن أن السعادة في الدراهم والدنانير لأنك ما عرفت السعادة.
رغم أن هذا الكتاب ترجم إلى تسع وخمسين لغة، والحكمةُ ضالةُ المؤمن يأخذها أنَّى وجدها، والشيطان علَّم أبا هريرة آية الكرسي، وهي موجودة في القرآن، ففي الصحيحين قال له الشيطان: اقرأها في كل ليلة فلا يزال عليك من الله حافظ، فقال عليه الصلاة والسلام مقرراً ذلك وهو يتبسَّم: {صدقك وهو كذوب}.
صدق هذه المرَّه وقد كذب مليون مرة، ولذلك لا بأس أن نأخذ هذه الأساليب التجريبية والاستقراءات لنرى كيف وصلوا إليها، وكيف المستوى المنحط الذي وقعوا فيه.
فهو بعد أن ألَّف كتاب (دع القلق وابدأ الحياة) أخذ سكيناً ونحر نفسه في آخر المطاف سبحان الله! يطبب الناس وهو مريضٌ، يقتل نفسه بسكِّين أيُّ طبٍّ هذا؟! لأنه ما عرف المسجد.
من النعيم الثالث، نعيم المسجد، يوم تدل ابنك على المسجد معناه أنَّك تجنبه السجن، والخمارة، ودور الدعارة، والمقاهي اللاهية، والجلسات السيئة يوم تقوده إلى المسجد معناه أنك ترفع وتشرف رأسه في الدنيا والآخرة يوم تعلمه طريق المسجد معناه أنك تؤسس له مستقبلاً متيناً؛ ليس مستقبل الشهادة والمال؛ لأن الذي يعتمد على غير الله ينهار ويكسل وينهزم:
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركانُ
فإذا عرف ذلك فليعرف النعيم أنه القرب من الله عز وجل، والعبودية لله، أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا أن يقرَّ عيوننا وعيونكم بالنعيم الخالد، وبعبوديته سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وأن يرزقنا وإياكم الاستقامة.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنَّا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك.(36/17)
الإنسان المبتلى
الخطاب الرباني يصاحب الإنسان وهو لم يزل في عالم الذر في ظهر أبيه آدم، ثم يصحبه هذا الخطاب جنيناً ووليداً وطفلاً، فإذا ما بلغ السابعة من العمر أمر بالصلاة، فإذا بلغ العاشرة ضرب على تركها، فإذا بلغ الأربعين فإنه غالباً ما يستمر على ما وصل إليه من الهداية والضلال، ثم بعد فراقه للدنيا يبقى الجزاء، فليس الموت نهاية كل حي، بل هناك اليوم الآخر حيث يستمر الخطاب الرباني الذي يتضح به مصير هذا الإنسان.(37/1)
شمول الخطاب الرباني للحياة الإنسانية
الحمد لله ملء الأرض والسماوات، وعدد أنفاس الكائنات، الحمد لله ما وقف الحجيج بـ عرفات، وما باتوا بـ المزدلفة أحسن مبات، والحمد لله ما رموا الجمرات، وسكبوا عند البيت العبرات، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومربياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
{هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:1 - 2].
الله عز وجل يلاحق حياة الإنسان قبل أن تحمل به أمه، وقبل أن يكون نطفة، وقبل أن تضعه أمه على الأرض ناشئاً وصبياً، ثم طفلاً، ثم شاباً، ثم فتياً، ثم رجلاً، ثم كهلاً، ثم شيبة، ثم ينتقل إلى الله.(37/2)
رعاية الله للإنسان وهو جنين
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] هذا هو الميثاق الغليظ، أخذه الله على الناس وهم في أصلاب أبيهم آدم، فدلهم على التوحيد، من هو ربكم؟ من هو إلهكم؟ من القادر الذي يخلقكم؟ من الذي يستحق العبادة؟
تحمل أم الإنسان بالإنسان، فإذا الله يتحدث عنه وهو في بطن أمه، فتضعه على الأرض لا ضاحكاً أو صامتاً أو ساكتاً أو نائماً أو مستيقظاً، إنما تضعه باكياً، ولم نسمع في تاريخ الإنسان أن رجلاً أو أنثى ولدوا وهم ساكتون، إلا عيسى بن مريم فما بكى، أما نحن جميعاً فقد بكينا يوم أن أتت بنا أمهاتنا، قال بعض الفلاسفة: بكى الإنسان لأنه خرج من السعة إلى الضيق.
وقال آخر: بكى الإنسان من هول الابتلاء، ومن عظم المشقة التي سوف يجدها من الضيق والهم والحزن.
وقال آخر: بكى الإنسان لأنه سوف يرى التكاليف أمام عينه والله أعلم، وقد قال: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل:78].
كان أبكماً أصم أعمى، لا يأكل ولا يشرب ولا ينطق، فتولاه الله، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون.
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {كل مولود يولد على الفطرة} ما هي الفطرة؟ أيولد مغنياً مطبلاً؟! أيولد ماجناً ممثلاً؟! أيولد مسرحياً معربداً؟! أيولد كروياً لاهياً؟! أيولد وبيده الكأس في الليالي الحمراء؟! لا.
بل يولد على لا إله إلا الله، يقع رأسه على لا إله إلا الله ومحمد رسول الله، يقول سبحانه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30].
لكن من بدل خلق الله؟ إنهم العملاء، إنهم الخونة، إنهم أعداء الإسلام، بدلوا الإنسان من إنسان إلى كلب، ومن مؤمن إلى خنزير، ومن عبد صالح إلى بهيمة: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] كقلوب الحيوانات تماماً، يحفظون ويدرسون ويقرءون كل شيء إلا الدين، ويفهمون كل شيء إلا الإسلام، ويعرفون كل شيء إلا القرآن والسنة، قال تعالى: {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179] ويؤذن لهذا الطفل كما أذن عليه الصلاة والسلام، في أذن الحسن أول ما أتت به فاطمة الزهراء رضي الله عنها، لماذا؟ لينشأ على التوحيد والإيمان، أخذ أذنه الرقيقة الضعيفة فاقترب منها عليه الصلاة والسلام وقال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر حتى أكمل الأذان ليقع الأذان في قلبه، لينشأ عبداً مصلياً وعابداً ذاكراً.
لكن لما أتت التربية المعكوسة، وولد الابن على الموسيقى الإيطالية، أصبح لا يعرف إلا المجلة الخليعة، والسهرة الماجنة، ينشأ ويشب وهو يحفظ من الأغنيات العشرات، ولا يحفظ من الآيات البينات شيئاً.
ثم يقول الله للإنسان: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6].
من الذي خدعك؟ من هذه الطغمة الفاسدة والجلساء السيئون الذين حرموك من منهج الله؟ من المسئول عنك؟
{يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8] لكنه يوم شب وقوي، وكبر كاهله، ونسي القرآن، أصبح معربداً لا يعرف الله.(37/3)
العاص ينكر إعادة الله للخلق
أتى العاص بن وائل السهمي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والعاص هذا -على اسمه- عاص لله، تاجر رعديد عدو للإسلام، ليله خمر، ونهاره فسوق وإلحاد وزندقة وانحراف، وعداوة أكيدة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، أتى بعظم قديم وفتته في يده وحتحته، وقال: يا محمد! أتزعم أن ربك يعيد هذا العظم؟
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أتى للناس يقول: إن هناك حساباً وعقاباً، وإن هناك يوماً آخر ومصيراً محتوماً نقف كلنا أمام الله فيه، قال: أتزعم أن ربك يعيد هذا العظم؟ ثم حتحته، ونفخه أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، قال عليه الصلاة والسلام: {نعم.
يعيده الله ويدخلك النار} وفي الجواب زيادة "ويدخلك النار" لأنه عدو لله.
واسمع إلى رد الله يقول: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79] ونلاحظ أنه الله لم يسمه لأنه حقير.
إنك أيها المجرم! لو نظرت إلى خلقك وأنت نطفة، ثم نزلت ثم اعتمدت ثم اعتمرت، ثم أصبحت كهلاً، لاعتبرت أن الله هو الخالق، هذه هي مرحلة الإنسان.(37/4)
تسمية المولود
يطالب عليه الصلاة والسلام بحسن الاسم، فإننا ندعى يوم القيامة بأسمائنا وأسماء آبائنا، عبد الرحمن، أحمد، محمد، ليست الأسماء الدخيلة التي حولت أجيالنا إلى جيل رخيص، إلى جيل -إلا من رحم ربك- يأكل وينشأ في أرضنا، ثم يحمل عداوة الإسلام، باسم غربي، أتى اسمه من لندن أو من باريس ولم يأتِ من بلاد الإسلام، من بلاد المصطفى عليه الصلاة والسلام:
من بلادي يطلب الفهم ولا يطلب العلم من الغرب الغبي
وبها مهبط وحي الله بل أرسل الله بها خير نبي
قل هو الرحمن آمنا به واتبعنا هادياً من يثرب
وحينما يصل الطفل إلى السابعة، يقول عليه الصلاة والسلام: {مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع}.(37/5)
سن الأربعين وما بعدها
ثم يصل الإنسان إلى الأربعين، فإذا الله يقول: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [الأحقاف:15].
الأربعون تمام العقل، وتمام القوة والإرادة والعزيمة، الأربعون رقي في الفهم، ونضوج في الإدراك والمعرفة، يقول بعض العلماء: إذا بلغ ابنك الأربعين ولم يهتد فاغسل يديك منه، لأن الله يقول: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} [الأحقاف:15] لكن بعد أن يصل الأربعين ثم لم يهتد، ولم يتعرف على بيوت الله، ولم يسجد لله، ولم يكن عبداً لله، ولم يخلص لله، فاعلم أنه مجرم إلا أن يتداركه الله، ما بعد الأربعين شيء، ويصل القرآن مع الإنسان، فإذا شيبه قد أنذره، قال ابن عباس: وهو يقرأ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] قال: النذير هو الشيب، من شاب رأسه أو شابت لحيته ثم لم يكن له رادع، ولم يكن له منذر وواعظ، فاعلم أنه رجل مخذول أصابه خذلان.
يقول الإمام أحمد إمام أهل السنة لما رأى الشيب في لحيته في المرآة: والله ما وصفت الشباب إلا كشيء كان في يدي ثم سقط، يقول أبو العتاهية:
بكيت على الشباب بدمع عيني فلم يغن البكاء ولا النحيبُ
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيبُ
أتدرون ماذا فعل المشيب؟! الآن الذين هم منا في السبعين والثمانين كلت أظفارهم، وضعفت أسماعهم، واحدودبت ظهورهم، وملوا الحياة، لا نوم ولا هدوء ولا لذة للطعام، قال تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:68] ومن نعمره في الحياة نعيده، فيصبح أكله كأكل الطفل، وإدراكه كإدراك الطفل، أفلا يعقلون؟ يقول أحد الشعراء:
إذا الرجال ولدت أولادُها وأخذت أسقامها تعتادُها
وكثرت من مرض عوادُها فهي زروع قد دنا حصادُها
(إذا الرجال ولدت أولادها) إذا أتى لأولادك أولاد وأصبحت جداً، فانتظر الموت، وانتظر لقاء الله، قال سفيان الثوري: من بلغ الستين فليشتر كفناً.
(وكثرت من مرض عوادها) يعاد في المستشفى وفي البيت وفي الطريق، سعال، وسهر وزفرات، وشكوى من السبعين والثمانين.
نام قيس بن عاصم المنقري وعنده عشرة أبناء، وكان أغنى العرب، لكن كل شيء له دواء إلا الهرم، وكل شيء له علاج إلا كبر السن، كان عنده عشرة من الأبناء، وهو سيد قبيلة بني تميم، وعنده من الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم ما الله بها عليم، لكن ما كان ينام الليل، وكان عمره ثمانين، إذا أتى لينام أتاه السعال والزفرات والهم والغم، فيقول له أبناؤه أزعجتنا، ما تركتنا ننام، فنظم قصيدة:
قالوا أنينك طول الليل يزعجنا فما الذي تشتكي قلتُ الثمانينا
أشتكي الثمانين، وأبكي من ثمانين سنة.
لكن ما هو الختام؟ وما هو التاج الذي يمكن أن يتوجه الإنسان لحياته؟ إنه العمل الصالح، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].(37/6)
سكرات الموت
يأتي الإسلام فيقول للإنسان: إذا أتتك سكرات الموت، فاحرص على أن تموت على (لا إله إلا الله) يقول عليه الصلاة والسلام: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} وهو حديث صحيح، لكن كيف؟ لا يثبت على لا إله إلا الله إلا مؤمن، ولا يقولها في سكرات الموت إلا مؤمن، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
ذكر الذهبي المحدث الكبير: أن أبا زرعة المحدث رحمه الله حضرته سكرات الموت فأغمي عليه، فأراد تلاميذه أن يذكروه بلا إله إلا الله وهو مغمى عليه، ولكن استحيوا أن يقولوا له: قل: لا إله إلا الله، لأنه شيخ المسلمين.
قالوا: نتذاكر سند حديث لا إله إلا الله، فلو ذكرناه بالسند فسوف يتذكر المتن هو، فقال أحد التلاميذ: حدثنا فلان عن فلان -وهذا أبو زرعة يحفظ ألف ألف حديث مليون حديث- فاستيقظ وسمع السند، ولكنهم من هول المصيبة ومن هول الكارثة نسوا السند، فأخذوا يقولون: حدثنا فلان، فيقول الثاني: لا.
بل فلان، فاستيقظ وقال: حدثنا الربيع بن سليمان، قال: حدثنا فلان، حدثنا فلان، عن معاذ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} ثم مات بعد ذكر الحديث.
وأما ابن القيم فيلوم المارقين العابثين الماجنين السفهاء المغنين في سكرات الموت، يقول: قيل لسفيه معربد وهو في سكرات الموت: قل: لا إله إلا الله، قال: أين الطريق إلى حمام منجاب، قال: فمات عليها لأنه عاش عليها، ومن شب على شيء مات عليه، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
يقول أحد العلماء -وذكره ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل وشكر هذه الأبيات- يقول يخاطب الله:
وحقك لو أدخلتني النار قلت للذين بها قد كنت ممن أحبهُ
وأفنيت عمري في علوم كثيرة وما منيتي إلا رضاه وقربهُ
أما قلتم من كان فينا مجاهداً سيحمد مثواه ويحسن شربهُ
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم(37/7)
الإيمان باليوم الآخر
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
في بعض المقررات الدراسية كلمة هي من الإلحاد فهي كلمة زندقة تؤخذ من مذكرة استالين ولينين والإسلام منها بريء، وهي تصادم العقيدة مصادمة كاملة مطلقة عامة، وهي قولهم في عبارتهم التي يحفظونها ويدرسونها: "المادة لا تستحدث ولا تفنى"، ويقيمون عليها قانون الكيمياء ويؤصلونه على هذا المبدأ، وهذه تعارض قول أهل السنة، بل قول أهل الإسلام قاطبة بما فيهم المبتدعة.
ومعنى أنها لا تستحدث: أنها قديمة وأنه لم يخلقها أحد، ولكن الله يقول: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].
قالوا: لا تفنى وقال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:27] وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] ومقصودهم من هذا أن الإنسان إذا مات فقد انتهى، أرحام تدفع وأرض تبلع، وقالوا: إذا انتهى الإنسان عفا عليه النسيان، ولكن الله يقول: لا.
والقرآن يقول: لا.
ومحمد عليه الصلاة والسلام يقول: لا.
قال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} [طه:102] {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] وقال تعالى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52].(37/8)
قصر الحياة الدنيا في نظر أهل الآخرة
إنها الحياة الآخرة، وإنها مرحلة ومسألة حياة الإنسان في الآخرة، يقول سبحانه وهو يسأل الناس يوم القيامة خاصة الغافلين: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112] كم مكثتم من فترة؟ يا أهل الثمانين ويا أهل المائة! كم لبثتم من فترة؟
بعض الصحف وبعض المجلات تجري مقابلة مع بعض الناس، قالوا: بلغ مائة وأربعين سنة، لكن تعال وابحث ما هو المحصول بعد مائة وأربعين سنة؟ لا شيء، يسألونهم ماذا يفطر في الصباح؟ وما هي وجبة الغداء؟ وماذا يجيد من العرضات الشعبية والقصائد النبطية؟ ولكن لا آية ولا حديث ولا نافلة ولا صيام ولا ذكر ولا قيام ليل ولا صلة رحم، كل هذه لا تعرض في الأسئلة، ولا يسألونه ما هو أثره على أسرته؟ أو على نفسه؟ ولا يسألونه ما هي آماله عن اليوم الآخر؟ وما هي تطلعاته؟ إنما هي هذه الأسئلة، فيقول لسان الحال: ليت هذا العمر الطويل لشيخ الإسلام ابن تيمية أو الإمام أحمد {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112] والله يدري والله يعلم بما لبثوا {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113] يقولون: لبثنا يوماً واحداً في الحياة، فأدركهم الورع، وخافوا أن يكذبوا، فقالوا: أو بعض يوم، وليس يوماً كاملاً، ويقولون لله: اسأل الملائكة والكتبة، نحن لا ندري.
قال الغزالي: من هول الموقف لا يدرون كم لبثوا!
لا إله إلا الله! إذا بلغ بك الحال يوم القيامة ألا تعرف عمرك، فكيف هذا اليوم؟! يا له من يوم ما أهوله! قال سبحانه: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [طه:114 - 116].(37/9)
الإنسان بين النسيان والجحود
يقول عليه الصلاة والسلام: {نسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته} والسبب أن آدم عليه السلام نثر الله ذريته أمامه كصورة الذر، فرأى داود عليه السلام وهو يزهو أمامه كالدر، قال: يا رب! من هذا؟ قال: ابنك داود، قال: كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: يا رب! زده من عمري أربعين، فزاده الله: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] فلما حضرت آدم الوفاة عجل الله وفاته قبل أربعين، قال: يا رب! بقي من عمري أربعين، قال: قد أعطيتها ابنك داود، فجحد آدم ذلك، قال: فنسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته، {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [طه:114 - 116] ولكن أمام نسيان الإنسان وجحود الإنسان يخرج الله له كتاباً منذ أن أتت به أمه إلى أن مات، اقرأ كتابك ولا يقرؤه غيره، يستوي الأمي والمتعلم والجامعي والتاجر والفلاح وراعي الغنم كلهم يقرءون، قال تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:14].
فيقرأ الإنسان: يوم كذا فعلت كذا وكذا، ويوم كذا قلت كذا وكذا، فيطوي الإنسان كتابه ويقول: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].(37/10)
دروس وفوائد
من هذه المقالة وهذه الخطبة نأخذ دروساً:
أولها: أن الإسلام معك وأنت في بطن أمك، حتى تدخل الجنة أو تدخل النار.
ثانيها: أنك لست متروكاً هملاً ولا سدى، بل إنه وحي من الله لا ترفع خطوة ولا تنام ولا تستيقظ ولا تأكل ولا تشرب ولا تتحدث إلا والوحي معك: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].
ثالثها: أن الذي لا يضبط حركاته ولا سكناته مع الوحي، فهو سفيه قد سفه نفسه، وهذا الرجل الذي لا يتجه إلى الرسالة الخالدة.
رابعها: أننا لسنا في حاجة لأي مبدأ، أو أي قانون، أو رسالة أو أطروحة غير رسالة محمد عليه الصلاة والسلام.
فإما حياة نظَّم الوحي سيرها وإلا فموت لا يسر الأعاديا
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
أيها المسلمون! فلنعد إلى القرآن والسنة، ولنستهد بهدى الله الذي أُرسل به عليه الصلاة والسلام، فإن كل قلبٍ ملعون إلا قلباً أشرقت عليه شمس الرسالة، وكل أرض مغضوب عليها إلا أرضاً رأت شمس هذا الدين، ومن اعتقد أنه سوف يهتدي بهدى غير هدى الله الذي أُرسل به محمد عليه الصلاة والسلام فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
أيها الناس! صلوا وسلموا على رسول الهداية ومعلم البشرية، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم ارض عن أصحابه الأطهار، وعن المهاجرين والأنصار، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره تدميره، واخذله يا رب العالمين!
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح سرائرنا وظواهرنا وبيوتنا وشبابنا يا رب العالمين!
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(37/11)
الرجاء والدعاء
عبادة الله لابد أن تكون بالخوف والرجاء، والشيخ قد ساق في درسه هذا أحاديث في باب الرجاء، واستنبط منها فوائد جليلة، وذكر أموراً جليلة وقصصاً يتبين منها عظم أثر الدعاء، به نجا الغريق، وبه أصبحت النار برداً وسلاماً، وبه ينصر المسلمون، وبه تهطل الأمطار، وبه ينزل ملكاً من السماء لينقذ رجلاً إلخ.(38/1)
معركة قطز مع التتار
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، معنا في هذا الدرس حديث عظيم، هو قاعدة من قواعد الإسلام، وأصل من أصول الدين، رواه الإمام الترمذي في كتابه السنن يقول: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {قال الله تبارك وتعالى: يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عِنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم! لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً للقيتك بقرابها مغفرة} هذا الحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وهو حديث قدسي؛ أي: أن لفظه من الرسول صلى الله عليه وسلم ومعناه من الله الواحد القهار، وهو حديث تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله.
والترمذي هو صاحب السنن التي قدمها هدية للأمة الإسلامية، وهي من الكتب الأصيلة، فهي من الكتب الستة التي عليها بعد القرآن ومدار رحى الإسلام، والتي نواجه بها أعداء الدين، والتي نفتخر ونتشرف أن تكون من ميراثنا ومن تراثنا، ومن حكمة الله عز وجل أن الله حفظ لنا الوحي الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة بهذه الكتب.
لما قدم التتار -المغول- مع جنكيز خان من صحراء سيبيريا واجتاحوا العالم الإسلامي وذلك حين ضعفت لا إله إلا الله في قلوب المسلمين؛ وتركوا المساجد؛ وتلفتوا إلى المغنين والمغنيات والخمارات، فابتلاهم الله عز وجل بأمة لا تعرف الرحمة، ولذلك في الأثر: {من لم يتعرف إليَّ سلَّطُّت عليه من لا يعرفني} فهؤلاء التتار المغول ما عرفوا الله عز وجل، وهم برابرة القلوب؛ فيهم قسوة لا يعلمها إلا الله، لا يعرفون الرحمة، إنما يعيشون على الدم، وهم أول شعب امتاز بسفك الدم في العالم، فاجتاحوا العالم الإسلامي، ودمروا المساجد، وحولوا بيوت الله عز وجل إلى إسطبلات للخيول، وكان أحدهم يصعد على المنبر ويشرب كأس الخمر والناس جلوس، وكانوا يقفلون باب المسجد، وكلما دخلت جماعة داخل المسجد يدخل أحدهم بالسيف فيقتل من في المسجد جميعاً.
وبلغ من الذلة والقلة والهوان لما هانت الأمة في عين الله عز وجل أن يأتي التتري ويقول للمسلمين وهم جماعات: ابقوا هنا حتى أذهب إلى البيت فآخذ سيفاً وأقتلكم به، فلا يتحركون خوفاً حتى يأتي، ويقول للمسلم -يوم كان الإسلام اسماً-: ضع رأسك على الصخرة حتى آتي، فيضع رأسه فيأتي التتري يذبحه بالسيف، ولكن ما كان الله ليعطل رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان الله لينهي لا إله إلا الله في الأرض؛ لأنه دينٌ عالمي، يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في تفسير قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم:52] قال: يا ألله! إنها دعوة تعلن عالميتها من اليوم الأول.
الرسول صلى الله عليه وسلم وحيد، معه ثلاثة زيد بن حارثة وأبو بكر وعلي، وقريش بالسيوف وبالموت من كل جانب، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى من السماء: {وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم:52]؛ وبالفعل سرت الدعوة العالمية حتى سجد لله أهل السند الذين ما عرفوا الله، وأهل أسبانيا الذين ما عرفوا لا إله إلا الله، فلما أراد الله أن يعيد للأمة قوتها، هل تعود قوتها بالطائرات والدبابات وبالتدريب؟ لا.
إنما تعود قوتها إذا عادت إلى الله عز وجل؛ لأن هذه الأمة مختارة اختارها الله للخلافة في الأرض، واختارها لأداء الرسالة، فإذا تعرَّفت على الله عرف الله الناس قدر هذه الأمة وعظمتها وسموها.(38/2)
قطز ينادي واإسلاماه
فأتى قطز السلطان المملوكي الذي كان يباع ويشترى في السوق فأعتقه كثير من أهل العلم، ثم تولى بقوته وشجاعته الحكم، فعاد إلى الله عز وجل وجمع الأمة الإسلامية، فصعد على المنبر يوم الجمعة في القاهرة، فقطع قلبه بالبكاء، والعالم الإسلامي أصبح ممزقاً، التتار من كل مكان، والناس إذا سمعوا صوتاً أو رجفةً ظنوها تترياً فيكاد أحدهم يسقط، حتى إذا دعت المرأة على ابنها كما يقول المؤرخون تقول: لاقى الله بينك وبين مغوليٍ أو تتري.
فصعد هذا يوم الجمعة، واختطب خطبة شجاعة إيمانية وقطعها بالبكاء، ثم نادى: واإسلاماه، فتحرك الإسلام في القلوب، وتحركت لا إله إلا الله في النفوس، وعادت القلوب إلى بارئها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الذي يكسب القوة، واجتمع المسلمون من كل حدب وصوب في مصر، حتى إن الذهب والفضة أصبح صُبَر -أي: أكواماً- وكانت المرأة تلقي خاتمها وخرصها ولا تبقي عليها من الذهب شيئاً؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] فلا تكفي القوة الروحية؛ لأنها رهبنة، لكن مع القوة الروحية قوة جسمية وفكرية وعلمية وعسكرية؛ فكان قطز يستعرض مع العلماء بعد كل صلاة من القاهرة إلى القناطر يستعرض الجيش الإسلامي؛ فكانوا يتدربون، وكانوا يبارون السهام، وكانوا يتناضلون حتى الغروب، ثم يبدءون من الغروب في صلاة واستغفار حتى الفجر.
وكان يصلي بهم الحاكم قطز، فيدعو ويبكي، ويقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض؛ معنى ذلك: أن الجيش الذي اجتمع في مصر إذا سحق فعلى لا إله إلا الله السلام، سوف تنتهي الدعوة الخالدة والمسلمون من الأرض، واجتمع معه العلماء وأمروه أن يحرم الربا، ويمنع الخمور، وينهى عن المعاصي والفحش فمنعها؛ لأن الأمة كلما عصت الله عز وجل سلط الله عليها من هو أعصى له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من هؤلاء العصاة، فعادوا، وحرم الربا، وحرم الخمور، حتى يقول أحد الزهاد وهو يعظ قطز قبل المعركة:
حرمت كاسات المدام تعففاً وعليك كاسات الحرام تدور
ويقول في أولها:
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
فبكى حتى سقط من على كرسيه، هذا قطز، وفي الأخير اجتمع مع العز بن عبد السلام؛ العالم الشافعي الكبير، واستعرض آخر استعراض للجيش، وأوصاهم بتقوى الله عز وجل، وأمرهم أن يصوموا قبل المعركة ثلاثة أيام؛ لأنها من أعظم المعارك التي عرفها التاريخ، فعرفوا اللجوء والرجوع إلى الله عز وجل حين ضاقت الضوائق وحين قالوا: واغوثاه واإسلاماه.(38/3)
المسلمون يلحقون التتار إلى أبواب دمشق
والتقى المسلمون والتتار بين الشام ومصر في معركة طاحنة، وتقدمت كتائب التتار كالجبال، ابن جنكيز خان الذي كان القائد ما كان يعرف الرحمة أبداً، وظن بعض المؤرخين أنهم لن يهزموا في التاريخ، فلما تقدموا أرسل التتار والمغول الجمال وكان عليها شوك فأخذت تجتاح جيش المسلمين فانهزمت المقدمة، وانهزم القلب، وانهزمت الميمنة، وانهزمت الميسرة، وبقي قطز وسط المعركة يقول: لا إله إلا الله، فلما انهزم الجيش أخذ قلنسوة الجيش المسلم أخذ خوذته التي على رأسه وتحميه من الضرب فوضعها في الأرض وداسها بقدمه وقال: واإسلاماه؛ معنى ذلك: أن الإسلام قد انتهى، ولكن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فلما سمع الجيش (واإسلاماه) رفع الله هذا الصوت، يقولون: ما قالها إلا بكلمة منخفضة لكن رفعها الله حتى سمعها كل الجيش، فعادوا يقاتلون كما يقاتل الإنسان عن ابنه أو عن نفسه، وجاء وقت الظهر وقد ولى التتار أدبارهم، فيقول قطز: لا ترفعوا السيوف عنهم حتى ندخلهم دمشق، فأخذوا يأسرون ويضربون ويقتلون حتى تهاوى العشرات والمئات على وجوههم، وأصبحوا يقتلونهم ثلاثة أيام بلياليها، حتى اقتربوا من دمشق.
يقول المؤرخون: أصبحت الريح تأخذ أظفار هؤلاء التتار من الأموات فيسمع لها خشخشة كخشخشة الأوراق من كثرتها، وأصبحت الأرض منتنة من روائحهم، حتى تهب الريح العاصف فيجدها أهل المدائن وأهل القرى من روائح القتلى؛ مجزرة في التاريخ ما سمع بمثلها.(38/4)
شيخ الإسلام يتصدى للتتار في دمشق
أوشكوا على دخول دمشق فتصدى لهم شيخ الإسلام ابن تيمية، فعندما أرادوا الدخول واجتياح دمشق قام في رمضان وشرب الماء أمام الناس، وهو صائم والناس صيام، وقال: لا صيام لكم والمعتدي الأجنبي قد دخل البلاد، فأفطروا جميعاً.
ثم وقف ابن تيمية وألقى خطبة من سمعها يظن أن القيامة قامت، وكان يقطع صوته بالبكاء، ويقول: والله لننتصرن، والله لننتصرن، والله لننتصرن، فيقول الصف المقدم: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.
والتقوا في معركة شقحب، وسحق بقية التتار وفرَّ قائدهم ومن معه من زعمائهم.
وقبل ذلك وصلهم ابن تيمية يعظهم في مخيماتهم، فقال له قازان حفيد جنكيز خان: ادع لي، فيقول ابن تيمية وقد رفع يديه: اللهم إن كان في حياة هذا العبد خيرٌ لدينك فأحيه، وإن كان فيه شرٌ لدينك فأمته واسحقه واقطع دابره، فكان يقول: آمين، ولا يدري ما معنى الكلام، وفي الأخير هداه الله إلى الإسلام، ودخل كثير من التتار في الإسلام، وعاد الإسلام منصوراً.
والشاهد من القصة: أن التتار لما قدموا على بغداد أخذوا الكتب كل الكتب إلا ما شاء الله ووضعوها في النهر فجعلوها جسوراً تمر عليها الخيول المسلحة.
فيقول أهل التاريخ: الحمد لله ما فاتنا شيء من التفسير، ولا من الحديث، ولا من الفقه،، إنما فاتتنا كتب الخزعبلات، والتراهات، وكتب النفاق، والمنطق، وعلم الكلام التي أدخلها المأمون وأبناؤه وأضرابه التي جاءت بالشقاء والنكد على الأمة، وأبقى الله لنا من ضمن ما أبقى سنن الترمذي، وكذلك يرفع الله المخلصين بكتبهم وكلماتهم، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].
واليوم تؤلف المؤلفات الكثيرة طعناً في الإسلام، ويؤلف أهل الشعر من الحداثيين الذين ينهجون نهج الإلحاد قصائد لكنها سوف تموت؛ لأن الحق حيٌ وأما الباطل فيموت في كل يوم عشر مرات.
فالمقصود: أنه من ضمن هذا التراث سنن الترمذي؛ الذي تسمعونه دائماً على المنابر، وفي المحافل والإذاعات، وفي فصول الدراسة، حين يذكر حديث ويقال: رواه الترمذي؛ لأن الله علم إخلاص هذا الرجل فرفعه بكتابه.
الترمذي رجل بسيط ولكن عظَّمه الإسلام والتقوى والعلم، يقول عنه الذهبي: ثبت عن الترمذي أنه بكى حتى عميت عيناه، فكان أعمى في آخر حياته، يتلقى العلم، ويملي على تلاميذه، فأصبح من أحفظ الناس، تسمعه يورد الحديث بروعة فائقة ثم يقول: حديث حسن صحيح، أو حديث حسن، أو حديث صحيح, أو حديث غريب؛ وهذه مصطلحات تعرف من علم المصطلح.(38/5)
الدعوة بالرجاء والخوف
أما الحديث الذي معنا في هذا الدرس، فإنه حديث بشرى، يزف لكل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر.
والرسول عليه الصلاة والسلام كان كلما أرسل داعية، أو أرسل معلماً، أو مربياً، قال: {بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا} لأن معاذاً لو جاء إلى اليمن رضي الله عنه وأرضاه وأمثاله، فقال: ويل لكم من نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى.
ويل لكم من الله الذي سوف يأخذكم أخذ عزيز مقتدر، مالكم لا تبكون؟! أتضحكون؟! لنفر الناس من الإسلام ولما دخلوا في دين الله، وهذا مجرب، وأنا كطالب عالم -أو طويلب علم- أرى أن من الحكمة أن يقرن الرجاء بالخوف، وأن تخصيص جلسات للخوف مطلقاً إنما هو إرهاب للفكر المسلم، بل لا بد من إقران الخوف بالرجاء.
دخل الفرنسيون الجزائر وحطموا منارات الإسلام في الجزائر، وقام أحد علماء الجزائر - p=1000507>> عبد الحميد بن باديس - ليخاطب شعب الجزائر ليردهم بالخوف من الله عز وجل حتى يتركوا الخمور والزنا والربا، فلما سمعوا هذا الكلام يئسوا من رحمة الله عز وجل، وقنطوا وزادوا في المعاصي، فعاد فدعا الله عز وجل، ما هو المفتاح لقلوب الجزائريين حتى يعيدهم إلى الله، فتذكر أنه لا يوجد مفتاح إلا الرجاء في رحمة الله، ثم قال كلمته المشهورة على المنبر في جنوب الجزائر:
شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب
من قال قد هودته قلب الحقيقة أو كذب
أو كما قال، ثم قال: شعب الجزائر لا يعود إلى الله إلا بالرجاء، فأتى بأحاديث التوبة، ومثل هذا الحديث في الرجاء، فلما سمع الناس أن هناك رباً رحيماً غفوراً وأنه يقبل توبة العبد، ويغفر له؛ دخلوا في دين الله أفواجاً، وما هي إلا سنة واحدة حتى قدموا مليوناً من القتلى، وسحقوا فرنسا بكبريائها وعتوها وغطرستها في الأرض، وأخرجوا المستعمر من بلادهم.(38/6)
الرجاء باب عظيم
فالمقصود أن الرجاء باب عظيم، وأنه مفتاح للدخول على الله عز وجل، حتى مدح ابن القيم كتاب الرجاء، وقال: هو الباب الذي يجنح بالعبد إلى الله، والعجيب أنه في رياض الصالحين أتى بكتاب الخوف فيما يقارب أربع صفحات، ثم أتى بكتاب الرجاء في ثمان صفحات ثم أتى بفضل الرجاء في ست صفحات لتأتي القلوب إلى الله عز وجل.
قال ابن القيم في مدارج السالكين: العاقل لا يبني قصراً ويهدم مصراً.
ثم قال: هناك رجل اسمه الحارث المحاسبي ألف كتاباً اسمه الرعاية، فلما قرأه الناس تركوا المساجد، وكتاب الرعاية كتاب رقائق وأدب وسلوك، لكنه ليس تربوياً؛ لأنه ظن أنه سوف يخوفهم، ويضربهم بسوط الخوف حتى يأتوا إلى بيوت الله، فلما دخل وتعمق، وأكثر من الخوف؛ ترك الناس المساجد وتعطلت بيوت الله عز وجل، وهذا معروف، يقول ابن الوزير في العواصم والقواصم: إن الخوف إذا كثر على النفوس كلت وملت، فإنك لو تقوم في مجتمع صغير أو قرية فتقوم لهم كل صباح وكل مساء: مالكم لا تبكون؟! أين أنتم من كذا؟! ثم تجمع قصص الخوف لقطعت قلوبهم، وقالوا: ما هي أعمالنا؟ إذاً هذه الصلاة لا تنفعنا، والذكر لا ينفعنا، وقراءة القرآن، ونترك الصدقة، ونترك الإخوة، وييئسون من رحمة الله، لكنك إذا أعدتهم إلى الله عز وجل بباب الرجاء مع لذع من الخوف لعادوا بإذن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يستغرب مستغرب أننا نكثر دائماً من أحاديث الاستغفار والرجاء؛ لأن أهل أبها أناس لا يعودون إلى الله إلا بالرجاء مع شيء من الخوف، كما يعود الجزائريون إلى الله عز وجل بالرجاء، فيقول صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي} لا أحلم من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك يحلم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن الكافر الفاجر، تجد بعض الفجرة يقتل المسلمين ويسحقهم سحقاً، يسحق المدينة، ويقتل الأطفال والنساء، ويعذب، ويشنق، ويربط، وينصب الزنزانات، ثم يلتفت المؤمن يقول: أما هناك انتقام؟! أما هناك محاكمة؟! أما يعلم الله ما يفعل هذا الفاجر؟! قال الله عز وجل في سورة إبراهيم: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42] أي: لا تحسب أن الله غافل عنهم إنما هو وراءهم بالمرصاد، لكن: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} [إبراهيم:42 - 43].
حتى يقول سيد قطب رحمه الله في سورة البروج: الحياة ليست طويلة حتى ينتقم الله من أهل الفجور وأهل الظلم، لا تكفي ستون سنة ليعذب الله هذا المجرم، فيدخر الله له العذاب آلاف السنوات.
فالله عز وجل حليم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فكيف إذا كان هذا المخطئ مسلماً في الأصل، ويحب الله عز وجل، ثم عاد فحاسب نفسه وتفكر فيما فعل في شبابه، ثم عاد إلى الله عز وجل يقول صلى الله عليه وسلم: {إن الله أفرح بتوبة العبد من أحدكم ضلت منه راحلته عليها طعامه وشرابه، فبحث عنها، فلما وجدها وقد أيس منها قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح} فالله أفرح بالعبد إذا عاد إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من هذا بناقته.
ولذلك قال أهل العلم: آيات في كتاب الله عز وجل ما نريد أن لنا بها حمر النعم.
وقال ابن مسعود رحمه الله: [[آية في كتاب الله والله ما أريد أن لي الدنيا بما فيها بهذه الآية، قالوا: وما هي؟ قال: قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31]]] قال بعض أهل العلم: من اجتنب الكبائر كفر الله عنه الصغائر.
ثم تأتي الكفارات وسوف أذكرها، فيقول عز من قائل في كتابه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] وقال جل ذكره: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136].(38/7)
بشروا ولا تنفروا
أورد ابن القيم وابن كثير أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لما أنزل كلمات إلى يحيى عليه السلام ليبلغها قومه، والحديث في المسند وفي الترمذي، تأخر فما بلغها يحيى عليه السلام بني إسرائيل، فإن الله كان يبعث في بني إسرائيل في الفترة الواحدة نبيين وثلاثة وأربعة وربما وجد العشرة من الأنبياء في فترة واحدة، فكان يحيى وعيسى عليهما السلام ابني خالة، وكانا مبعوثين في بني إسرائيل فتأخر يحيى فما بلغ، فقال عيسى عليه السلام: إما أن تبلغ ما أنزل الله إليك وإلا فاتركني أبلغ أنا، قال يحيى: أبلغ، فجمع بني إسرائيل وقام فيهم خطيباً فوعظهم.
قال أهل العلم: كان يحيى عليه السلام دائم العبوس، لا يتبسم، وذلك: من حزنه، ومن تذكره للقاء الله، وكان عيسى عليه السلام كلما لقي أحداً تبسم له، ولذلك أخذ صلى الله عليه وسلم من هذا أنه يقول للصحابة إذا أرسلهم: {بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا} وأخوف الناس وأعلمهم بالله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان بساماً، وفي الصحيح أن جرير بن عبد الله قال: {ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي}.(38/8)
مقتطفات من سيرة محمد بن سيرين
قال أهل العلم في ترجمة ابن سيرين رحمه الله: ومن مثل ابن سيرين؟! كنا نلقاه في النهار بساماً ضحاكاً، فإذا أظلم عليه الليل سمع جيرانه بكاءه من خشية الله، كان يبيع ويشتري في الزيت، وورد أنه أتت له جرار زيت، وقع فأر في جرة من الجرار، قيمة الجرار مائة ألف درهم، ووقع فأر في جرة فما درى أين الجرة، فأمر بإهدار جرار الزيت حتى لا يغش بها مسلماً، قالوا: وما وقع الفأر إلا في جرة.
قال: ومن يؤمنني أنه في بعضها، أو أنه تلوث بعضها، ولا أعرف الجرة التي وقع فيها، فأتلف الزيت بمائة ألف، فعوضه الله صبراً وإيماناً ورفع منزلته، ولذلك يسمى التاجر الأمين، ولا يظن الناس أن العبادة ليست إلا بالذكر والصلاة، بل هناك عباد يدخلون الجنة من باب النفقة والصدقة، وهم التجار، ويفتح الله للعلماء باباً، ويفتح للدعاة، ويفتح للمصلين، وللمتصدقين، وللمجاهدين، وللصالحين، وللذاكرين؛ فانظر إلى بابك الذي تريد أن تدخل منه فادخل.(38/9)
معنى: (لو بلغت ذنوبك عنان السماء)
قال عليه الصلاة والسلام: {يقول الله عز وجل: يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عِنان السماء} وفي رواية: {عَنان السماء} العنان هو: الغمام، لو بلغت ذنوب العبد الغمام يعني: من الأرض إلى الغمام فتزاحمت وتراكمت حتى بلغت هناك فلقي الله عز وجل واستغفر لغفر له ولا يبالي سُبحَانَهُ وَتَعَالى، لأن الله لا يريد تعذيب العبد، لكن يطلب الله من العبد أن يذل ويخضع، وأن يرجع إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ليغفر له تبارك وتعالى.
ورد في حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه: لما كان في المسجد بعد صلاة العصر وأراد صلى الله عليه وسلم أن ينتقم من قريش؛ لنقضها صلح الحديبية؛ فإن نص المكاتبة أو مفهومها أن تضع الحرب أوزارها عشر سنوات إلا من ينقض العهد منهم، فإنه يكون المحروب والمنتقم منه، فنقضت قريش عهدها وميثاقها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشاً قتلت بعض أحلاف الرسول عليه الصلاة والسلام، فأراد أن يتثبت حتى يأتيه الخبر، فصلى صلاة العصر، وجلس صلى الله عليه وسلم يسبح والصحابة حوله، فدخل رجل من أحلافه -أتى من مكة - على جمل وقد قتلت قريش إخوانه وأبناءه، غدرت بعهد الله، ثم أتوا على أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في منى وفي الوتير فقتلوهم، فدخل وبيده عصا فقال:
يا ربِ إني ناشدٌ محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا
يقول: أين المحالفة والمكاتبة؟! نُقضت.
فانصر هداك الله نصراً أيدا وادعُ عباد الله يأتوا مددا
في فيلق كالبحر يجري مزبداً إن قريشاً أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا وقتلونا ركعاً وسجداً
فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: {اللهم إن قريشاً نقضت عهدك، اللهم فانصرنا عليهم} فمر السحاب من قبلة المسجد يتقطع كأنه قذائف يمر تجاه مكة، يقول صلى الله عليه وسلم: {هذا العِنان أبشروا بالنصر} قام عليه الصلاة والسلام واستقبل القبلة قال: {اللهم عم عليهم أخبارنا} على قريش، ثم استنفر صلى الله عليه وسلم أصحابه فكانوا عشرة آلاف مقاتل، المهاجرون فيما يقارب ألفاً، والأنصار في ألف، وسعد بن هذي في ألف، وجهينة في ألف، وأسد في ألف، ومزينة في ألف، وجعل صلى الله عليه وسلم على كل كتيبة قائداً، وأراد الخبر أن يكون مكتوماً وألا يصل إلى قريش.
حاطب بن أبي بلتعه كتب إلى قريش فأمسكت الرسالة وقرأها صلى الله عليه وسلم ودعا حاطب بن أبي بلتعه قال: {ما حملك؟ فأخبره الخبر، فقال عمر: يا رسول الله! دعني لأضرب عنقه فقد نافق، قال: يا عمر! وما يدريك لعلَّ الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فدمعت عينا عمر} ولم يدر كفار قريش، وما أتاهم خبر، ولا علموا حتى طوق صلى الله عليه وسلم مكة.
جبل أبي قبيس في ليلة من الليالي يقول عليه الصلاة والسلام للجيش: {إذا وصلتم فليشعل كل واحد منكم ناراً} هم عشرة آلاف يعني: عشرة ألف نار، فنزلوا فاحتلوا جبل أبي قبيس وجبل قينقاع والثنية السفلى والثنية العليا وكديم وكل مكان، وبعد صلاة المغرب أوقدوا النيران وإذا بـ مكة تضطرم ناراً كلها، فخرجوا من بيوتهم لا يعلمون ماذا هناك، فيقول أبو سفيان للعباس عم الرسول عليه الصلاة والسلام: ما هذا؟ قال: لا أدري؛ والعباس لم يدر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا أن يعمي الله عليهم أخبارهم، قال: أظن أنها خزاعة، قال: خزاعة أقل وأذل من ذلك، فأتى الخبر أنه صلى الله عليه وسلم ثم كان الفتح، حتى يقول حسان قبل المعركة بأشهر يقول:
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاء
يقول: اتركونا نعتمر ندخل البيت.
وإلا فاصبروا لجلاد يوم يعز الله فيه من يشاء
عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع مطلعها كداء
يقول: جعل الله خيلنا ما تعود إلينا.
عدمت خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء
ينازعن الأسنة مصعدات على أكتافها الأسل الظماء
تظل جيادنا متمطرات يلطمهن بالخمر النساء
لما دخل صلى الله عليه وسلم الحجون، فإذا بالخيل تأتي من كداء منطلقة وهي خيل خالد بن الوليد لأنه أتى من كداء، وإذا هي تلهث، وإذا نساء مكة يأخذن الخمر من رءوسهن -كأن حسان شهد الوقعة- ثم تمسح المرأة وجه الفرس بالخمار وذلك لعزتها، فيتبسم عليه الصلاة والسلام ويلتفت لـ أبي بكر ويقول: {كيف يقول حسان؟} لأنه عليه الصلاة والسلام ما كان يحفظ الشعر {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] كان يكسر الأبيات، لأنه لو كان يحفظ الشعر كانت قالت قريش: كان ينظم القرآن شعراً.
فيقول صلى الله عليه وسلم: {كيف يقول حسان؟} يقوله لـ أبي بكر وأبو بكر كان نسابةً، علامةً، داهية، قال: يقول:
عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء
فتبسم صلى الله عليه وسلم، وسره هذا.
وفي تفسير قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} [الواقعة:66 - 69] قال عليه الصلاة والسلام: {ما هذا؟ قالوا: غمام يا رسول الله! قال: والمزن.
قالوا: والمزن يا رسول الله! قال: والعنان؟ قالوا: والعنان} فالعنان هو: الغمام، فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: لو بلغت ذنوبك أيها العبد عنان السماء ثم جئت لا تشرك بالله شيئاً -أو استغفرته- غفرها لك سُبحَانَهُ وَتَعَالى.(38/10)
أحاديث فيها بشرى للمؤمن
هنا أحاديث لا بد أن نعيش معها في الاستغفار والتوبة، وهي مبشرات تُدفع لكل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، وصراحة أننا نعلن عجزنا وضعفنا وقلتنا، ونسأل الله ألا يفضحنا على رءوس الأشهاد؛ فإنَّا أهل ذنوب وخطايا وسيئات لا يعلمها إلا الله، لكننا نسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن يكفر عنا سيئاتنا، ويتقبل منا أحسن ما كنا نعمل في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون، {كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون}.(38/11)
حديث من أذنب ذنباً ثم استغفر الله
الحديث الأول: حديث أبي بكر الصديق الإمام المعتبر رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من ألمَّ بذنب -أي: من أصاب ذنباً سواء كبير الذنب أو صغيره- فتوضأ وصلى ركعتين ثم استغفر الله من ذاك الذنب، إلا غفر الله له} روى هذا الحديث الإمام أحمد وهو حديث صحيح عند جماهير المحدثين، ولذلك يقول علي لما رفعت له البشرى من أبي طالب يقول: {كان الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حدثني الحديث استحلفته -يقول: احلف لي- فإن حلف صدقته، وحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر} لا يستحلف أبا بكر، من يستحلف أبا بكر؟!
قال بعض المفسرين: في قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] الذي جاء بالصدق هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، والذي صدق به هو أبو بكر، فكيف يُستحلف أبو بكر!! فقال: {وصدق أبو بكر أن العبد إذا أذنب فتوضأ وصلى ركعتين غفر الله له ذاك الذنب}.(38/12)
دعاءٌ علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر
وفي الصحيحين عن أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه قال: {قلت: يا رسول الله! علمني دعاءً أدعو الله عز وجل به في صلاتي}.
ما أحسن هؤلاء الصحابة! وما أرضاهم رضوان الله عليهم! والذي يريد أن يعرف الإسلام فليقرأ سيرهم، بساطة ويسر وسهولة.
فدله صلى الله عليه وسلم على دعاء قال: {فقال قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم} فكان أبو بكر يقولها دائماً؛ أبو بكر الذي جاهد في سبيل الله وأنفق أمواله ودمه ووقته وكل شيء، يقول: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً.
وبعض الناس مغتر بالله عز وجل، حتى إذا قلت: سدد وقارب وعليك أن تكثر من الذكر، قال: الحمد والشكر لله، نصلي، ونصوم، وكم حججنا! وكم اعتمرنا! وكم تصدقنا! ونعدد على الله؛ وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه خائف من الله، حتى أنه كلما سمع القرآن بكى.
تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها في صحيح البخاري: لما قال عليه الصلاة والسلام: {مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس، فقالت: يا رسول الله! إن أبا بكر رجلٌ أسيف -حزين لا يملك عينيه من البكاء، متى ما يقم مقامك لا يسمع الناس من البكاء- فقال عليه الصلاة والسلام: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فإنكن صويحبات يوسف} فكان من خوفه ومن وجله لا يسمع الناس قراءته من بكائه رضي الله عنه وأرضاه.
فيقول صلى الله عليه وسلم: {قلْ: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً-وفي لفظ: كبيراً-}.
قال النووي في كتاب الأذكار: اجمع بينها في الدعاء قل: كثيراً وكبيراً، والصحيح أنه لا يجمع بينها فقل إما: كثيراً أو كبيراً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ما قال لـ أبي بكر إلا كثيراً أو كبيراً، ومن حسن نية الإمام النووي أن يريد حفظ الروايتين، لكن لك أن تدعو بها مرةً كثيراً ومرةً كبيراً.
{اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم} هذا من الدعاء الذي حفظ لنا، والذي ينبغي على العبد أن يلازمه كثيراً، وأحسن ما يكون في العبد المسلم أن يستغفر من الذنب، وأن يعلن التوحيد؛ ولذلك يجمع إلى الله عز وجل التوحيد كثيراً والاستغفار، يقول جلَّ ذكره: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].
وعند أبي يعلى في المسند قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يقول الشيطان: أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار}.
وورد أنه قال عليه الصلاة والسلام: {جددوا إيمانكم.
قالوا: ماذا نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا لا إله إلا الله} فتجديد الإيمان بلا إله إلا الله، وتصفيته بالاستغفار، فالاستغفار مقرون بالتوحيد، ولذلك يقول يونس بن متى عليه السلام لما وقع في ظلمات ثلاث: ظلمة البحر، وظلمة الحوت، وظلمة الليل، قال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فهو اعتراف مع توحيد.(38/13)
حديث سيد الاستغفار
في صحيح البخاري عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} معنى أبوء: أرجع، يقول العبد وهو ينادي الله: يا رب! أنت الرحيم الغفور أبوء لك أي: أرجع لك بأمرين، من شر ما صنعت ونعمة منك، فمني أنا خطيئة ومنك نعمة وعطاء، فأنت صاحب الجميل والمعروف، فما دام أنك أنعمت عليَّ وكرمتني وخلقتني ورزقتني فكمل من إكرامك وإنعامك بمغفرة ذنوبي، أجل ليس من العبد شيء، النعمة من الله، والتقصير من العبد، يقول: أرجع إليك بإحدى اثنتين بذنب مني ونعمة منك، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: السائر إلى الله عز وجل يسير بنظرين: نظر في جلال النعمة من الله عز وجل، ونظر في عيب النفس والعمل وتقصيرها، فأنت تعود إلى الله بذلك، وقد سبق في كتاب الزهد للإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يقول الله تبارك وتعالى: عجباً لك يا بن آدم! ما أنصفتني! خلقتك وتعبد غيري! ورزقتك وتشكر سواي! أتحبب إليك بالنعم وأنا غنيٌ عنك، وتتبغضُّ إليَّ بالمعاصي وأنت فقيرٌ إليَّ! خيري إليك نازلٌ وشرُّك إليَّ صاعد!} فهذا مفهوم العبد المسلم، يوم يعرض نفسه على الكتاب والسنة يجد أن ما عنده حول ولا طول ولا قدم شيئاً إلا التقصير والذنب والخطيئة.
قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[اجلسوا إلى أفواه التائبين فإنهم أرقُّ أفئدة]] وإذا أراد الله أن يكسر العبد، ويكسر قلبه وكبره وعتوه وجبروته كتب عليه الذنب، فيذنب فينتهي الغرور، والغطرسة، والكبر، والعتو، والجبروت، ويعود ذليلاً، يعرض على ربه وعلى عتبات مولاه نفسه وروحه، فإذا أراد الله أن يترك العبد تركه؛ ولذلك بعض الناس بالطاعات يزهو ويتكبر وتعجبه نفسه، ويرى أن الناس في شقوة دائماً، وإذا جلس في مجلس أخذ يهتك أعراضهم ويقول: نسأل الله العافية، فلان مقصر، فلان نسأل الله أن يعافينا مما ابتلاه، فلان كذا وكذا.
قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: {من قال: قد هلك الناس فهو أهلكَهم} وفي لفط: {هو أهلكُهم} ومعنى هذا: يقول من قال: أن الناس قد هلكوا، وكثرت المعاصي، وأنهم شردوا عن الله، فعلامة ذلك أنه معجب بنفسه، وأنه مغرور، فهو أهلك الناس، أو على لفظة: هو أهلكهم، يعني: هو الذي أهلكهم بهذا الكلام؛ لأن بعض الناس إذا سمع بفاحشة، أو حد أقيم، أو إنسان تناول مخدرات، أو إنسان -نسأل الله العافية- زنا، يجلس في المجلس ويقول: ما سمعتم فلان بن فلان من آل فلان يقولون: إنه ارتكب فاحشة، وينتقل في المجلس هذا، وفي هذا، ويعرض الفاحشة، ليهونها في قلوب الناس؛ لأن الرأي العام كلما تحدث عن الفاحشة هانت الفاحشة في قلوب الناس، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور:19] ولذلك كان من الحكمة ألا يتحدث في ذلك كثيراً، أنا لا أقول: نسكت، ونغلق أعيننا، ونسد على آذاننا، ونقول: الناس ما شاء الله تبارك الله على عصر الصحابة، التفاح والموز والبرتقال يباع في السوق بأرخص الأثمان ونعمة من الله جليلة، لأن بعض الناس يرى الموز والتفاح والبرتقال أفضل نعمة، وهي إذا وجدت في الأسواق وتوفرت بالأثمان الرخيصة فالأمة في الرقي، وفي العظمة، وفي الدرجة الأولى، وهذه نَعْمة ليست بنِعْمة، النِعمة مع هذه النَعمة أن تتصل القلوب، وأن تمتلئ المساجد، وأن ترى الناس في صلاة الفجر، وأن ترى القرآن يُعمل به، وأن ترى مدارس تحفيظ القرآن متجهة ومقومة، وأن ترى الكتاب والسنة يقرأ ويتدارس، وحلقات العلم حية، والدعوة قوية، وأن ترى الفواحش وأهل الضلالة وأهل الباطل مقموعين؛ هذه هي النعمة؛ أما أن نخدع أنفسنا ونطلي أجسامنا بالزيت، ونقول: ما شاء الله تبارك الله وإنما نحن في سلام، لا ينبغي هذا المنهج، والمنهج الآخر أن نكون كلما جلسنا في مجلس قلنا: هذا المجتمع كله في ضلال، ولا يغرك إقبال الناس في المساجد، ولا تغرك الصلاة، ولا تغرك الدعوة، ولا تغرك كذا، لا، بين وبين؛ مثل منهج الكتاب والسنة، ومن قومه الله سدده.(38/14)
استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم
وجاء من حديث أبي هريرة كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إني لأستغفر الله وأتوب إليه أكثر من سبعين مرة} وورد عن الأغر المزني: {يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه فإني أستغفر الله أكثر من مائة مرة} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
قال ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه وهو يجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كان يعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة من قبل أن يقوم: رب اغفر لي وتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم} فإذا عُلم هذا فإنه ينبغي علينا أن نكثر من الاستغفار، وأن نلتجئ إلى الله عز وجل، وأن نطرح ذنوبنا، وأن نعلن عجزنا وتقصيرنا عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(38/15)
من قصص الخائفين من الله
الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقوم الناس بالحدود في المدينة، لم يكن مقصود الحدود أن تنهي المعاصي لأنها مقدرة من الله، لكن أن تقوِّم سلوك الناس وتؤدبهم.(38/16)
قصة الغامدية
فأتي إليه صلى الله عليه وسلم بامرأة قد زنت، ولا يعني ذلك أن المسلم إذا فعل المعصية فقد خرج من الإسلام كما تقول الخوارج نسأل الله العافية! {أُتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشارب خمر، مرات كثيرة، فيقول أحد الصحابة للشارب هذا: أخزاك الله ما أكثر ما يؤتى بك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تقل ذلك، لا تُعِن الشيطان على أخيك، فإني والله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله} فانظر إلى الحب كيف بقي مع المعصية، فهو عليه الصلاة والسلام يعرف أنه سوف يحدث هذا الأمر.
وامرأة ورد في السنة ذكرها وورد حدها في القرآن في سورة النور، أتت هذه المرأة من دون أن تستدعى، ودون أن يُخبر بها صلى الله عليه وسلم فإذا هي مقبلة وهي حامل، وانظر إلى الإيمان كيف ارتقى في قلبها، فسألت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطهرها، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما كأنه سمع، يريد أن يدرأ الحدود بالشبهة، يقول: {ادرءوا الحدود بالشبهات}؛ يعني: تصامم عليه الصلاة والسلام، فأتته من على يساره فطلبت التطهير، فتصامم عليه الصلاة والسلام، يريد أن يستر الناس، حتى يقول على المنبر: {يا أيها الناس! من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله} فأخذت تقول: يا رسول الله! تريد أن تردني كما رددت ماعزاً، ثم حلفت بالله أنها وقعت في الفاحشة، فقال صلى الله عليه وسلم: {عودي حتى تضعي حملك} علَّها ربما تنكر، أو تسكت، أو تنسى، فعادت والإيمان مرتفع عندها، وتقوى الله عز وجل في قلبها، فلما وضعت أتت بابنها في لفائف وعرضته عند الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: {عودي حتى ترضعيه} علَّها تنسى، أو تترك، أو لا تطلب إقامة الحد، فعادت حتى فطمته بعد سنتين وبيده كسرة خبز، فأتت به وعرضته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتفت عليه الصلاة والسلام، وأراد عليه الصلاة والسلام أن يدرأ، ولكنها صمدت وطلبت إقامة الحد والتطهير، ما معنى إقامة الحد؟ ترمى بالحجارة حتى تموت؛ لأنها ثيب، ليس بالسيف، أو بطلقات نارية قد يقتل الإنسان في فترة، لكن تضرب بالحصى حتى تموت، فقال عليه الصلاة والسلام: {من يكفل هذا الصبي وهو معي في الجنة كهاتين} فأخذه رجل من الأنصار، وأرسل صلى الله عليه وسلم الصحابة ليرجموا المرأة، وهم في الطريق صممت، وآمنت بالله، وبموعود الله، وبما عند الله، فنصبوا لها وحفروا لها ثم بدأت الحجارة عليها حتى نضخ دمها على خالد رضي الله عنه وأرضاه، فتكلم عليها، فقال عليه الصلاة والسلام: {مهلاً يا خالد! لقد تابت توبة لو وزعت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم} معنى ذلك: بسبعين من العصاة المردة الفجرة ما هو بسبعين من الصحابة، {لو وزعت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم -وفي لفظ: لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم هذه التوبة} وفي لفظ: {مهلاً يا خالد! فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر الله له}؛ ثم قال صلى الله عليه وسلم: {فوالذي نفسي بيده لقد رأيتها تنغمس في أنهار الجنة} لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136] فما جزاء المذنب إلا أن يستغفر ويعود إلى الله عز وجل.
في كلام لأحد العلماء في ظلال هذه الآية يقول: يا سبحان الله! يثقل الدم واللحم عند بعض الناس فيقع في الفاحشة، ثم يتذكر عظمة الله، وموقف الله، والعرض على الله؛ فيتوب إلى الله عز وجل، فيحببه ويقربه مولاه!! أو كما قال.
المقصود: أن هؤلاء النماذج التي عاشت مع الرسول عليه الصلاة والسلام ما منعهم ذلك إلا أن يتوبوا ويستغفروا إلى الله الواحد الأحد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(38/17)
قصة رجل من بني إسرائيل خائف من الله
في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: {كان في من كان قبلكم رجلٌ من بني إسرائيل أسرف على نفسه} أي: وقع في الإسراف في الذنوب، بقي معه التوحيد والإيمان، أما لو كان مشركاً فهذا خالد مخلد في النار، لن يدخله الله الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، أبداً حرامٌ عليه الجنة، لكن وقع في ذنوب، فلما حضرته الوفاة، وكثير من الناس كما يقول الكتبة العصريون: لا يتذكرون الله، في غفلة وسكار وفي خمار حتى يصرعون في مصرع الموت، ثم يستفيقون، ونقلت لنا أخبار أن كثيراً من الناس لما أتاهم اليقين وأتاهم الموت، استفاقوا قبل سكرات الموت ثم أخذوا يبكون، قالوا: مالكم؟ قالوا: فعلنا، وفعلنا، وفعلنا، فأتى الحساب، قال: الناس في سكار حتى يحضرهم الموت فيستفيقون، ولذلك يقول عبد الحق الإشبيلي في كتابه العاقبة: المعتصم الخليفة العباسي لما حضرته الوفاة، بكى بكاءً طويلاً لا يعلمه إلا الله، فقالوا: مالك؟ قال: كم عمري؟ قالوا: عمرك ثمان وأربعون.
قال: أموت اليوم؟ وكان في سكرات الموت- قالوا: تموت.
قال: والله لو أدري أن عمري قصير ما فعلت ما فعلت؛ سفك الدماء، وفعل ما فعل وأمره عند الله، يقول: لا أدري أني سوف أموت الآن، فالناس كثير منهم لا يستفيق إلا في سكرات الموت، وهذا حدث لـ عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي لما حضرته الوفاة قام يتقلب ويبكي ويقول: يا ليتني كنت غسالاً، يا ليتني ما عرفت الخلافة، يا ليتني كنت في البادية، فسمع سعيد بن المسيب -أحد الزهاد والعباد والعلماء- قال: [[الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا وقت الموت ولا نفر إليهم]].
فالمحاسبة في الدنيا ليست عند سكرات الموت، بل على الإنسان أن يراجع حسابه قبل أن يأتيه الموت؛ قال تعالى: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد:22] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114].
{فلما حضرت هذا الرجل الوفاة استعرض أبناءه فقال: كيف أنا لكم؟ قالوا: خير الآباء} وهذا فعل بعض الناس، تجده مع أبنائه وزوجته ومع جيرانه من أحسن الناس خلقاً، ليناً، سهلاً، بشوشاً، صاحب هداية، وصدقات، وبر، ومعروف، وكرم، يعزم هذا، ويذبح لهذا، ويضيف هذا، ويخدم هذا بماله وبسيارته؛ لكنه فاجر مع الله، لا يصلي في المسجد، ولا يعرف القرآن، ولا يعرف الانصياع إلى كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، يا سبحان الله! من أولى بالإكرام؟ أأهلك، وزوجتك، وجيرانك، أم الحي القيوم؟! الأولى برد الجميل الذي خلقك وأعطاك ما تتمتع به، وهذا كثير في الناس؛ فإنهم عندهم حسن خلق لكنهم لا يعرفون المساجد، ولا الاستقامة ولا الدين، لكنك لو طلبته في شيء سكب لك دمه في إناء من الحب، أما أن تقوده إلى المسجد فكأنك تجرجره بسلسلة محمية بنار، ومقلب القلوب هو الواحد القهار، فلو أراد أن يكمل الله هذا العبد؛ لأعطاه من الإيمان ما يجعله محبوباً عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وعند الناس.
فهذا الرجل لما حضرته الوفاة قال: {يا أبنائي! أيُّ أبٍ لكم؟ قالوا: من خيرة الآباء، قال: فإني ما فعلت مع الله جميلاً -كنت أتظاهر لكم وللناس بالحسن وإذا خلوت مع الله عز وجل انتهكت محارمه- فإذا أنا مت -إذا حضرتني الوفاة- فاجمعوا لي حطباً، وأشعلوا لي ناراً}.
هذا في الصحيحين، وتكلم عنه ابن تيمية في الرسائل والمسائل والرد على البكري والمسائل الماردينية، وهو من أصول المعتقد، فيه مسائل لا بد أن نقف عندها.
قال: {فاجمعوا لي حطباً، فإذا جمعتم لي حطباً فأشعلوه في النار، ثم أحرقوني، ثم اسحقوني، ظن أنه سوف يفوت على الحي القيوم- قال: فإذا سحقتموني فذروني في يومٍ فيه ريح} -يعني: ليس أي يوم، لكن يوم فيه ريح قوية هوجاء تنثر جسمي في كل مكان، أوقدوا له النار، واشعلوها، ثم أحرقوه حتى أصبح حمماً كالفحم، ثم سحقوه فلما سحقوه عرضوه للريح فأخذته في كل مكان -لكن الذي بدأه أول مرة، والذي إذا أراد أن يقول له: كن، فيكون، {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:1 - 3] فجمعها الله بكلمة كن، ما قال للملائكة: اجمعوا لنا رميم هذا العبد، وأحضروه بعد ساعتين، إنما قال: كن رجلاً، أي: مثلما كان فكان كما قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] فإذا الرجل أمامه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد حاسبه وتكلم معه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والله يتكلم بما شاء متى شاء سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال: يا عبدي! ما حملك على ما صنعت؟ سبحان الله! يقرر الله العبد، ويحاسبه، ويكلمه، وكما جاء في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم {ما منكم من أحدٍ إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان} سوف يكلمك الله ليس بينك وبينه ترجمان، ويقول: {أما فعلت كذا وكذا يوم كذا كذا، أما فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا} فإن كنت من أهل الستر -نسأل الله أن يسترنا وإياكم- قال الله: {لقد سترتها لك في الدنيا وغفرتها لك اليوم} وأما إن كان من المجاهرين، المتعدين، المنتهكين للحدود، المنتهكين للحرمات، فهذا أمره لله عز وجل.
{قال: يا عبدي! ما حملك على ما صنعت؟ -وسدده الله للجواب، الجواب كان سليماً جيداً- قال: يا رب! خفتك وخشيت ذنوبي.
فقال الله: يا ملائكتي! أشهدكم أني غفرت له وأدخلته الجنة} وهذا الرجل قصته عجيبة، قال ابن تيمية: قد شك في القدرة؛ لأنه ظن أن الله لن يجمعه، لكن توبته كانت كبيرة عظيمة طغت على هذا الشك وعلى تلك الذنوب التي زحفت.
والذي نطلبه أن نعود إلى الله عز وجل عوداً حميداً، أما أن نأتي ونستعرض ذنوبنا وخطايانا فنحن في ستر الله عز وجل، ونعلن عجزنا وتقصيرنا وما منا شيء أبداً، ومن تصدق أو صلى أو صام فإنما يفعل لنفسه، ومن أعرض عن الله، فالله غني عنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فهذا هو الرجل الذي ذكره عليه الصلاة والسلام، وتلك هي المرأة التي عرضت نفسها على رسول الله عليه الصلاة والسلام.(38/18)
علاقة الدعاء بالعبادة
الشق الثاني في هذا الحديث: الدعاء.
يقول عليه الصلاة والسلام: {قال الله عز وجل: يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني} فالدعاء له آداب، وهو من أفضل العبادة، وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث فيه بعض المقال في الترمذي: {الدعاء مخ العبادة} والذي يصح من هذه الأحاديث: {الدعاء هو العبادة} وإذا رأيت العبد يكثر الدعاء كثيراً كثيراً؛ فاعرف أنه متجه إلى الله، وأنه كثير الإيمان.(38/19)
قصة لرجل في الصحراء
أحد الناس يقول: نزلت في قفرة أنا وأهلي وانقطع عنا الماء وكنا في بادية، فذهبت لألتمس في وديانٍ أخرى فما وجدت شيئاً، فالتمست في مكانٍ يمنة ويسرة فما وجدت شيئاً، فعدت إلى أهلي فوجدت أطفالي كادوا يتلفون من الظمأ، وأوشكوا على الموت، قال: فتفكرت ثم تذكرت أن الحي القيوم بيده خزائن السموات والأرض، وكان مؤمناً {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاه} [النمل:62] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] قال: فانقطعت كل الحيل التي حولي في الوديان، قال: فتيممت وصليت ركعتين ثم رفعت يدي ودمعت عيناي.
قال: والذي لا إله إلا هو -وهو صادق، ويعرف الإيمان، والصدق والنضوج -في وجهه- ما غادرت مكاني إلا وغمامة فوق رأسي وما كان في السماء شيء قال: ثم مطرت على الوادي الذي أنا فيه حتى امتلأت الغدرة.
وهذا لا يحتاج إلى إثبات، والسنة والآثار والتاريخ فيها أكثر من ألف قصة {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاه} [النمل:62].(38/20)
رجل أرسل الله له ملكاً ينقذه
ويكفي كما تعلمون أن كثيراً من أهل العلم أوردوا قصة الرجل الذي خرج في تجارة، فعرض له لص مجرم في الطريق فأخذه معه، وقال: أوصلني إلى ذاك المكان بالأجرة، فصدقه فمشى معه، فلما مشى معه؛ فإذا بهذا المجرم معه خنجر فأخرجه، وقال: والله لأقتلنك الآن، لكن ادفع ما معك من مال؟ قال: أسألك بالله ما مع أهلي إلا أنا، قال: حلفت أن أقتلك؛ لأنه لو تركه وأخذ ماله أخبر الناس بوجود لص في الوادي، فقال: دعني أصلي ركعتين.
قال: صلِّ واستعجل.
قال: فقمت فتوضأت في ذاك الوادي، وقمت أصلي ركعتين، قال: والله لقد نسيت كل شيء في القرآن إلا قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاه} [النمل:62] قال: فكررتها، فلما انتهيت من الركعتين وإذا بفارس على فرس من آخر الوادي بيده خنجر كالمشعف قال: فأطلقه على هذا اللص، فوقع في لبته، فإذا هو يسقط على قفاه مقتولاً.
قلت: أسألك بالله من أنت؟ قال: أنا رسول {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاه} [النمل:62] لما دعوت الدعوة الأولى كنت في السماء السابعة، ودعوت في الثانية فكنت في الرابعة، ودعوت الثالثة فكنت في الأرض، فالله عز وجل يقول: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاه} [النمل:62].(38/21)
رجل يطارده جمل في الصحراء فيرى أمامه ثعبان
هناك قصة وهي من ثقات اشتهرت بين الناس وأوردوها في بعض الأخبار الموجودة العصرية وهي: أن شخصاً كان في البادية طارده جمل، قال: فمشيت في الصحراء والجمل ورائي يطردني -والجمل إذا طاردك فلا يعصمك إلا رب السموات والأرض، إلا أن يكون هناك جبل ترتقي فيه، أو مكان -قال: فأخذ الجمل ورائي، حتى كاد نفسي ينقطع، فإذا هو ورائي ما يغادرني أبداً، قال: فقلت على لساني: يا من يجيب المضطر إذا دعاه! قال: فعرض لي في الأرض شق فنزلت فيه، قال: يكفي الإنسان وزاد شيئاً، قال: فلما دخلت فيه جاء الجمل فجلس على ركبته حتى يلاحقه، قال: فيدخل رأسه فكنت أقول: يا من يجيب المضطر إذا دعاه! قال: وإذا بشيء يضايقني بجانبي، وأنا في هذا الثقب وهذا الشق، قال: فالتفت إليه فإذا هو ثعبان أسود، قال: فإن بقيت فالثعبان معي، وإن خرجت فالجمل فوقي، هذا نتيجة يا من يجيب المضطر إذا دعاه! سبحان الله! بل الله عز وجل أكرم وأجلَّ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال: فبقيت أقول: يا من يجيب المضطر إذا دعاه! قال: فخرج هذا الثعبان، كان يتكي على كتفه وهو يخرج، لكن هنا موت وهنا موت، قال: فخرج ثم أخذ بأنف الجمل، قال: فرأيته يتعاصر هو والجمل، فخرجت أنا بحفظ الله ورعايته، وبعد فترة وإذا بالثعبان ميت والجمل ميت، وأنا أقول: هذه من تجارب الناس التي لا ننقلها حدثنا فلان عن فلان لكنها موجودة وملموسة ومحسوسة يجدها من يتصل بالحي القيوم، قل يا من يجيب المضطر إذا دعاه! وفي القرآن أهول من هذه القصص، فإن إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار بالمنجنيق قال الله تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] فكانت برداً وسلاماً، وصاحب الحوت نجاه الله من البحر وأنبت عليه شجرة من يقطين، فخرج بعد أن دخل في بطن الحوت، وأكلته وابتلعته؛ لأنه قال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].
فإذا رأيت العبد يكثر من الدعاء فاعرف أنه قريب من الله، وأن الله عز وجل سوف يقربه.(38/22)
أوقات يستحب الدعاء فيها
وأحسن أوقات الدعاء يا أيها المسلمون!(38/23)
أدبار الصلوات
سئل عليه الصلاة والسلام كما في مسند أحمد {أيُّ الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الغابر، ودبر الصلوات} ويقول عليه الصلاة والسلام لـ معاذ {لا تنس أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك}.(38/24)
في السجود
في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجداً، فأكثروا من الدعاء؛ فقَمِنٌ أن يستجاب لكم} فإذا وضعت رأسك في الأرض ساجداً بعد أن تقول: سبحان ربي الأعلى، فعليك أن تدعو بما تيسر.
يقول الأندلسي وهو يوصي ابنه:
وناد إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذو النون ابن متَّى
وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
فإذا وضعت رأسك في الأرض فعليك بالدعاء، فإن الله قريب منك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، حتى يقول لرسوله عليه الصلاة والسلام: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] ما قال: إذا سألك عبادي عني فقل: إني قريب؛ لأن (قل) يقولون: تفصل بين القرب من الله والعبد، ولكن للمباشرة والمفاجأة لقربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ترك (قل) وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186].
قال أحد الصالحين: جلست إلى معروف فسمعته يقول في مجلسه: واغوثاه ألف مرة، واغوثاه، واغوثاه، قلت: ما معنى واغوثاه؟ قال: أستغيث بالله، أما سمعته في القرآن يقول: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9] فالإنسان كما يقول الحسن البصري رحمه الله: [[المسلم في الحياة كالغريق.
أي شيء يتمسك به]] الغريق في البحر إن عرضت له خشبة قفز عليها، إن رأى خيطاً ولو لم يكن شيئاً تمسك به، وإن رأى شجرة ولو ضعيفة تمسك بها، فنحن كالغرقى ما علينا إلا أن نتمسك بشيء من ذكر، وصلاة، ودعاء، واستغفار، وعلينا دائماً أن نرفع أكفنا إلى الله عز وجل، والعجيب أن عند الترمذي في السنن عن سلمان رضي الله عنه وأرضاه؛ حين افتخر الناس بآبائهم وأمهاتهم وأجدادهم فقالوا: من أنت؟ قال: أنا ابن الإسلام.
قال الذهبي في ترجمته: سلمان بن الإسلام، أبوه هو الإسلام، ويقول:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم
فيقول سلمان سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله يستحيي من أحدكم إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً} لا أكرم من الله عز وجل، ولا يمكن أن يكون هناك أكرم منه تبارك وتعالى فلا يمكن أن ترفع يديك إليه وتعود بخفي حنين، وبالمناسبة هذه الجملة تسمعونها كثيراً، وكثير منكم يعرف المثل: مرَّ بـ حنين صاحب ناقة، فأراد حنين أن يعطيه الحذاء ويأخذ الناقة، فعرض له الحذاء، فمر صاحب الناقة بحذاء واحدة -وكان طماعاً- فقال: حذاء واحدةٌ لا تنفعني، فمر قليلاً فرأى الحذاء الثانية، فبرك ناقته مكانها وأناخها، وأخذ هذه وعاد يأخذ الثانية، فأخذ حنين الناقة وذهب ذاك بخفي حنين، فإذا قالوا: رجع بخفي حنين، فإنهم يعنون أنه لا يعود إلا بشيء زهيد، والله عز وجل لا يعيد العبد إلا بشيء إذا لم يدع بثلاث: إما ببلاء عام أو بقطيعة رحم أو بإثم، وإذا أخلص الدعاء وأكثر من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم في دعائه، وإذا ألحَّ وأكثر، ودعا من قلبٍ صادق، لأن بعض الناس يبايع ويشاري في السوق، ويقول: اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا، وقلبه ليس في المغفرة ولا في الرحمة ولا في التوبة، ولكن ورد عن ابن مسعود: [[إن الله لا يقبل الدعاء من قلبٍ غافلٍ لاهٍ ساهٍ]] وبعضهم يرفع الحديث، فالواجب القصد والاتجاه والإخلاص وكثرة الدعاء.
أسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يتولانا وإياكم في الدارين، وأن يجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاه، وأن يبيض وجوهنا وإياكم بنور الإيمان، وأن يتولانا في من تولى، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(38/25)
إمام أهل السنة أحمد بن حنبل
الإمام أحمد بن حنبل علم من أعلام أهل السنة، وكما نصر الله الإسلام بأبي بكر في يوم الردة فكذلك نصر الله الإسلام في يوم المحنة -محنة خلق القرآن- بأحمد بن حنبل، فحري بكل من يحب السنة وأعلامها أن يطلع على تاريخ الإمام أحمد حتى يدرك عظمة هذه السنة التي يحبها، وذلك من خلال التضحيات التي قدمها علماء الإسلام في سبيل المحافظة على صفائها ونقائها(39/1)
نشأة الإمام أحمد
الحمد لله القائل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:30 - 33].
والصلاة والسلام على رسول الله؛ أفصح من بلغ عن الله، وأصدق الناس مع الناس، وأنصح الناس للناس، صلى الله على لسان الصدق الذي بلغ الدعوة العالمية إلى الناس، وأذن الخير التي وعت وحي السماء فبلغته بأمانة، صلى الله عليه وسلم ما اتصلت أذن بخبر، وما تعلقت عينٌ بنظر، وما غرد قمريٌ على شجر، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله؛ شهادةً أدخرها لي ولكم ليوم العرض على الله.
أمَّا بَعْد: فيا أيها الناس! إن سير الصالحين مدرسةٌ أسسها القرآن، ووعتها السنة، ومعنا في هذا اليوم صالح من الصالحين، بل إمام الدنيا، وحافظ العصر، أحفظ أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحديث، وعت الدنيا اسمه، وحفظت القلوب رسمه، ما أظن هناك مسلماً يصلي خمس صلوات في اليوم والليلة إلا ويعرف هذا الإمام، حتى أعداؤه من الكفار والمنافقين يعرفونه إلى قيام الساعة؛ هو الإمام أحمد بن حنبل، إمام السنة الواقف يوم المحنة الزاهد فيما سوى الله، المتقن للحديث، فمن هو الإمام أحمد؟! علنا نقتدي بشيء من سيرته، فإن لم نستطع فلنحبه في الله، فإن المؤمن يحشر مع من أحب، والخليل على دين خليله، والله عزوجل يقرن الأصناف مع أصنافهم، والأنواع مع أنواعهم، والأشباه مع أشباههم:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة(39/2)
مولده وطفولته وحفظه للقرآن
ولد الإمام أحمد في آخر القرن الثاني، وعاش في بيتٍ فقير، مات أبوه وهو طفل، فتكفلت أمه الزاهدة العابدة الصائمة القائمة بتربيته، وهذا دور المرأة يوم أن تكون صالحة، ويوم أن تكون عابدة، ويوم أن تكون مستقيمة، ينشأ أطفالها على لا إله إلا الله، ويحبون الله ورسوله، ويحبون كتاب الله، وينقادون إلى بيوت الله.
قال أحمد رحمه الله: فحفظتني أمي القرآن وعمري عشر سنوات، فحفظ كتاب الله واستوعاه في صدره، ففرت الوساوس والشياطين من صدره، فأصبح عابداً لله.
وفي الأثر: {من حفظ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحى إليه}.(39/3)
رعاية أمه له
قال أحمد رحمه الله: كانت أمي تلبسني اللباس، وتوقظني، وتحمي لي الماء قبل صلاة الفجر وأنا ابن عشر سنوات، ثم كانت تتخمر وتتغطى بحجابها وتذهب معه إلى المسجد؛ لأن المسجد بعيد، ولأن الطريق مظلمة، فانظر إلى المرأة الصالحة.
لقد عاش في هذا الجو، وفي هذا البيت، وكان كل همه أن يعبد الله بكلام الله، وأن يكون عبداً خالصاً لله.(39/4)
رحلته في طلب الحديث
قال: فلما بلغت السادسة عشرة من عمري، قالت لي أمي: اذهب في طلب الحديث، فإن السفر في طلب الحديث هجرة إلى الله الواحد الأحد.
قال: فأعطتني متاع السفر.
أتدرون ماذا أعطته من الزاد؟! كم أعطته من الألوف؟! كم أعطته من الدراهم والدنانير؟! ما كانت تملك شيئاً، وإنما صنعت له ما يقارب عشرةً من أرغفة الشعير، ووضعتها في بقشية من قماش معه، ووضعت معها صرة ملح، وقالت: يا بني! إن الله إذا استُودع شيئاً لا يضيعه أبداً، فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.
فذهب من عند أمه من بغداد، عاصمة الدنيا، دار السلام، لماذا ذهب؟! أذهب للسياحة كما يفعل اللاهون اللاغون اللعابون؟! أم ذهب إلى التفرجة كما يذهب السادرون المخمورون المسرفون؟! أم ذهب إلى تزجية الأوقات والتدحرج على الثلج كما يذهب الذين رفعت عنهم أقلام التكليف؟! لا، بل ذهب يبحث عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى جانب المصطفى عليه الصلاة والسلام، إلى مكة والمدينة:
من زار بابك لم تبرح جوارحه تروي أحاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرة والكف عن صلة والقلب عن جابر والسمع عن حسن
فذهب رضي الله عنه وأرضاه.
قال: مضيت من بغداد على رجلي إلى مكة، فضعت في الطريق ثلاث مرات، فكنت كلما ضعت استغفرت الله، ودعوته، وقلت: يا دليل الحائرين! دلني، فوالله ما أنتهي من كلامي إلا ويدلني دليل الحائرين على الطريق.
من هو دليل الحائرين؟ إنه الله، من هو ملجأ الخائفين؟ إنه الله، من هو مناص العارفين؟ إنه الله.
فكان كلما ضاع في الصحراء التجأ إلى الله، ليس عنده علامات، ولا هناك مواصلات، ولا نقلٌ ولا خطوط، صحراء يبيد فيها اللبيد، ويضيع فيها الذكي والبليد، فضاع الإمام أحمد ولكن رد اتجاهه إلى الله: {احفظ الله يحفظك} فلما حفظ الله؛ حفظه الله في سمعه وجوارحه ودينه ومستقبله وسمعته إلى يوم القيامة، وحفظ الله اسمه للملايين، عند مسلمي الصين واليابان والملايو والعراق والجزيرة وسوريا والجزائر، ومسلمي أمريكا، كلهم يسمعون بـ أحمد بن حنبل؛ لأنه حفظ الله.
ثم وصل إلى مكة وأخذ الحديث من أهل مكة، وبعدها سافر إلى اليمن إلى صنعاء، إلى عبد الرزاق بن همام الصنعاني يطلب الحديث، وبينما هو في طريقه ضاع مرة رابعة، قال: وانتهت نفقتي من الخبز، أما الدراهم فما كان عندي دراهم، فماذا فعل؟ قال: نزلت إلى قوم أهل مزارع يحصدون ويصرمون، فأجرت منهم نفسي ثلاثة أيام.
يا سبحان الله! إمام الأئمة الذي يحفظ ألف ألف حديث كما يقول الذهبي وابن كثير، يحفظ مليون حديث، بل ما حفظ أحدٌ من الأمة أبداً كحفظ أحمد، يؤجر نفسه من الحصادين فيحصد معهم!! ووصل بحفظ الله إلى صنعاء، وأخذ الأحاديث النبوية وكتبها.(39/5)
عبادته وعلمه
كان الإمام أحمد يسهر الليل حتى الفجر، ويصوم النهار حتى الغروب، يقول ابنه عبد الله: "كان أبي يصلي من غير الفرائض في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة".
انظروا في تذكرة الحفاظ وسير أعلام النبلاء للذهبي والبداية والنهاية لـ ابن كثير وتاريخ بغداد وتاريخ دمشق، ففيها روايات متواترة على أنه كان يصلي من غير الفرائض في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة.
وكان يسرد الصوم إلا في بعض الأيام، ووصل إلى صنعاء فوهبت له جوائز من السلطان ومن بعض الأغنياء، فرفضها، وقال: أعمل بيدي، فاشتغل في بعض الصناعات بيده حتى أعطاه الله بعض الأموال، ثم عاد إلى بغداد.
أما علمه رحمه الله فهو البحر وحدث عن البحر ولا حرج! {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] العلم ليس بالمؤسسات ولا بالشهادات ولا بالجامعات، العلم تقوى الله، العلم من الحي القيوم.
يقول الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] وقال الله لإبراهيم: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [الكهف:65] ويقول لداود وسليمان: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء:79] ويقول لسليمان: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] فالفَهمُ والعلمُ والفقهُ والذكاءُ من الله.
فيا من اغتر بشهادته أو بمستواه أو بمنصبه، والله ما تغني عند الله جناح بعوضة، العلم أن تتعلم وتعمل وتعلم الناس، ليس إلا، سواءٌ كان عندك شهادة أو لم يكن عندك، سواءٌ تعلمت في مدرسة أو لم تتعلم {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].
فعلم الله الإمام أحمد فحفظ ألف ألف حديث مع القرآن، مليون حديث يستحضرها كما يستحضر الفاتحة، حتى أنه كتب المسند من حفظه وهو أربعون ألف حديث.
أكبر مسند في الدنيا وفي المعمورة وعلى البسيطة هو بين أيدينا، لكن من يقرأ المسند؟ ومن يطالع المسند؟ ومن يتفقه في المسند؟
أأهل الصحف اليومية والخزعبلات، أم أهل الملاهي والملاغي إلا من رحم الله؟ لكن في الناس بقية، أصبح المسند مطبوعاً لنا طبعةً فاخرة، وأصبح معروضاً لنا عرضاً جيداً، وأصبح محققاً في الدواليب لكننا وضعناه ديكوراً وزينة، فيا أمة محمد من يقرأ مسند أحمد؟
إن من يقرأه يجد فيه التقوى والزهد والرفعة، والخوف من الله والخشية.
أفتى الإمام أحمد في ستين ألف مسألة بقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، ذم المنطق، وذم الرأي، وذم الفلسفة والجدل، وقال للناس: نحن قومٌ مساكين اجتمعنا لندرس حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.(39/6)
تواضعه
أما تواضعه فمنقطع النظير، فطالب العلم، والعالم، والمسئول إذا لم يكن متواضعاً لله فلا تنظر إليه، فإن الله قد مقته من فوق سبع سموات، وقد سقط من عين الله، وقد باء بخزيٍ من الله إن لم يتب، كان متواضعاً جد التواضع، قال الحفاظ: رأينا الإمام أحمد نزل إلى سوق بغداد، فاشترى حزمة من الحطب وجعلها على كتفه، فلما عرفه الناس ترك أهل المتاجر متاجرهم، وأهل الدكاكين دكاكينهم، وتوقف المارة في طرقهم يسلمون عليه، ويقولون: نحمل عنك الحطب.
فهز يده، واحمر وجهه، ودمعت عيناه، وقال: نحن قومٌ مساكين لولا ستر الله لافتضحنا.
والعجيب في الإسلام أن العبد كلما ازداد تواضعاً لله، زاده الله رفعة، وكلما تكبر زاده الله حقارة ومهانة ومذلة {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:26].
قال أبو بكر الصديق لـ خالد بن الوليد لما أرسله إلى اليرموك، أخذه بتلابيب ثوبه وهزه، وقال: [[يا أبا سليمان فر من الشرف يوهب لك الشرف، واطلب الموت توهب لك الحياة]] وصدق رضي الله عنه وأرضاه.
أتى رجل يمدح الإمام أحمد، فقال له الإمام أحمد: أشهد الله أني أمقتك على هذا الكلام، والله لو علمتَ ما عندي من الذنوب والخطايا لحثوتَ على رأسي بالتراب.
انظر إلى الإمام العابد! جاءه قوم فقالوا: يا أحمد بن حنبل! إن الله قد نشر لك الثناء الحسن، والله إنَّا نسمع ثناءك في كل مكان، حتى في الثغور مع الجيش وهم يقاتلون العدو يدعون لك حينما يرمون بالمنجنيق.
فدمعت عيناه، وقال: أظنه استدراجاً من الله عز وجل.(39/7)
زهده
أما زهده في الدنيا، فقد عرفه كثير ممن عاش معه، أتته الدنيا راغمة إلى باب بيته فأبى، طُلب منه أن يتولى القضاء فامتنع أبداً، وقال: إن تركتموني، وإلا فوالله لأهاجرن إلى مكانٍ لا تجدوني فيه أبداً.
يقول الذهبي وابن كثير: إن دخل الإمام أحمد كان في الشهر سبعة عشر درهماً، قال: هذه تكفينا، يقول أبناؤه: يا أبتاه! لا تكفينا هذه.
قال: أيامٌ قلائل، وطعام دون طعام، ولباس دون لباس، حتى نلقى الله الواحد الأحد.
يقول ابنه عبد الله بسند صحيح إليه: "بقيت حذاء أبي في رجله ثماني عشرة سنة، كلما خرمت خصفها بيده"، وهو إمام الدنيا.
أرسل إليه المتوكل ثمانية أكياس من الذهب والفضة، حملها الوزراء على أكتافهم مع سرية من الجيش بعد المحنة، فردها، وقال: والله لا يدخل بيتي منها درهم ولا دينار.(39/8)
خلقه
وأما خلقه فأحسن الناس خلقاً؛ لأن من يتعلم صباح مساء من القرآن، ومن يجلس مع القرآن فسوف يؤثر فيه ولو طالت السنوات والأعوام، والذي لا يأخذ أخلاقه من القرآن والسنة، فمن أين يأخذ الأخلاق؟! ومن أين يتعلم الآداب؟! أمن ديكارت وكانت -فئران البشرية- الذين نقلوا ثقافتهم إلينا لنتعلم منهم؟! متى كانوا أساتذة؟! متى كان المجرمون معلمين؟! بل هم أحقر الناس، وأخبث الناس مع الناس، إنما يتعلم من وحي السماء الذي ربى به محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول الإمام أحمد: رحم الله أم صالح -يعني: زوجته وكانت قد توفيت- صاحبتني ثلاثين سنة، والله ما اختلفت أنا وإياها في كلمة واحدة.
زوجته في بيته صاحبته ثلاثين سنة ما اختلف معها في كلمة واحدة.
أتاه رجل من أتباع المعتصم، فسب الإمام أحمد أمام الناس، وجدعه، وشتمه، وأخزاه بالكلام ولكن ليس بمخزي إن شاء الله، فقال الناس: يا أبا عبد الله! رد على هذا السفيه؟ قال: لا والله فأين القرآن إذاً؟! يقول الله عز من قائل: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63].
هذا هو القرآن الذي يمشي على الأرض.
كان يجلس للناس رضي الله عنه وأرضاه، فيتعلمون منه، وينظر إليهم.(39/9)
خوفه من الله ومراقبته لله
قال ابنه عبد الله: دخلت على أبي وهو جالس في البيت متربعٌ مستقبل القبلة، ودموعه تنهمر على خديه، فقلت: يا أبتاه! مالك؟ قال: تذكرت في هذه الغرفة موقفي في القبر وحدي لا أنيس إلا الله.
قال: فأراك متربعاً لماذا لا تتكئ وتريح نفسك؟ -لأنه شيخ كبير- قال: أستحي أن أجالس الله وأنا متكئ، أما يقول الله: أنا جليس من ذكرني.
دخل عليه الأديب الكبير ثعلب، فقال له الإمام أحمد: ماذا تحفظ من الأدب والشعر؟ قال: أحفظ بيتين.
قال: ما هما؟ قال: قول الأول:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيبُ
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ
فوضع الإمام أحمد الكتاب من يده وقام وأغلق على نفسه باباً وبقي في الغرفة، قال تلاميذه: والله لقد سمعنا بكاءه من وراء الباب، وهو يردد البيت:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيبُ
ولا تحسبن الله يغفل طرفةً ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ
ورحم الله القائل:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
كانت أكبر أمنية في حياته أن يحمل السيف مجاهداً في سبيل الله.
نظر إلى قدميه وقت الوفاة فبكى، وقال: يا ليتها جاهدت في سبيل الله! لكنه -والله- جاهد أعظم الجهاد، فقد بذل علمه، وخلقه، وجاهه، وبذل ماله، وكل ما يملك في رفع لا إله إلا الله؛ فكان إمام الدنيا بحق.(39/10)
ثناء الأئمة على الإمام أحمد
قال يحيى بن معين: والله ما رأيت أحداً كـ أحمد بن حنبل، والله لا أستطيع أن أكون مثله ثلاثة أيام.
وقال علي بن المديني: "لو كان الإمام أحمد في بني إسرائيل كان نبياً من الأنبياء".
وقال إسحاق بن راهوية: إذا رأيت الإمام أحمد رأيت كأن الله بارزاً على عرشه، وكأنه يحاسب الناس، فيذكرني بالآخرة.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: خرجت من بغداد، وسكانها ألفا ألف -مليونين اثنين- فوالله ما خلفت رجلاً أتقى لله، وأعلم بالله، وأزهد لله، وأورع عن محرمات الله، ولا أجود من أحمد بن حنبل.
رحم الله الإمام أحمد، وأسكنه فسيح جناته، وحشرنا في زمرته، يوم يوفى الصادقون بصدقهم، يوم يتقبل عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(39/11)
محنة الإمام أحمد
الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وحجة الله على الناس أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد: فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3] ويقول عز من قائل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] لما قرأ الفضيل بن عياض رحمه الله هذه الآية بكى، وقال: اللهم إن بلوتنا فضحتنا!
فنحن في ستر الله، نسأل الله ألا يفضحنا وألا يفتننا، وأن يجعلنا في عافية وستر حتى نلقاه، لكن للفتنة نتائج طيبة يجعلها الله للصابرين، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
والمحنة والفتنة التي تعرَّض لها الإمام أحمد رواها أهل التاريخ جميعاً، وسمعت بها الدنيا شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، فهي مسطرة إلى قيام الساعة، وهي محنة خلق القرآن التي أورثها المأمون في الأمة.(39/12)
سبب المحنة
وسبب هذه المحنة أن المأمون كان مشوباً برأيٍ منطقيٍ معتزلي.
يقول ابن تيمية رحمه الله: إن الله لا يغفل عن المأمون، لما أدخله من علم المنطق على المسلمين.
يقول المأمون الخليفة العباسي ابن هارون الرشيد: إن القرآن مخلوق، وكذب على الله، فالقرآن كلام الله عزوجل، والله يتكلم بما شاء متى شاء، لم يزل متكلماً سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، يقول عز من قائل: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] فالأمر هنا: القرآن، فقال هذا الخليفة: إن القرآن مخلوق.
واستخدم السيف ليثبت هذه القضية في الأمة، وقتل ما يقارب ألفاً من من علماء الأمة من زملاء الإمام أحمد، وملأ بهم السجون، فبعضهم أجاب خوفاً من السيف، وبعضهم رفض، وقال: لا أجيب؛ فقتل في الحال، ومنع التدريس في المساجد، ومنعت الخطابة إلا للمعتزلة، وانتشر الشر الكثير، فنصر الله الإسلام بالإمام أحمد بن حنبل.
وقف وحده، وقال: لا والله، القرآن كلام الله، فاستدعي إلى الخليفة.(39/13)
الإمام يقص خبر المحنة
قال الإمام أحمد: أُخذت من بيتي وسط الليل وأنا أصلي، فوضع الحديد في يدي وفي رجلي حتى كان الحديد أثقل من جسمي -القيود التي حمل فيها أثقل من وزنه هو- ووضع على فرس، قال: فلما وضعت على فرس، أتيت أتمسك فما استطعت أن أتمسك، فكدت أسقط ثلاث مرات، كل مرة أقول: اللهم احفظني! فكان يردني الله حتى أتساوى على الفرس: {احفظ الله يحفظك} وكان الجندي الذي معه يضرب الفرس علّ الإمام أحمد يسقط على وجهه.
قال: فلما أدخلت السجن سحبت على وجهي فنزلت، قال: فكنت أستغفر الله، فنزلت في آخر الليل، قال: فلا أدري أين القبلة؟ ولا أدري أين أنا، في ظلام وفي وحشة لا يعلمها إلا الله، فكنت أقول: {حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] قال: فمددت بيدي فإذا بماء بارد، فتوضأت منه وقمت أصلي إلى الفجر.
انظر إلى حفظ الله، حتى في الساعات الحرجة لا ينسى ربه تبارك وتعالى، لأنه العون تبارك وتعالى:
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركانُ
قال: فلما أصبح الصباح، حملت على الفرس ثانية، وما طعمت طعاماً، وكدت أسقط من الجوع، فأدخلت على المعتصم الخليفة العسكري الثاني، صاحب عمورية بعد المأمون.
قال: فلما دخلت عليه هز السيف في وجهي، وقال: يا أحمد! والله إني أحبك كابني هارون، فلا تعرض دمك لنا.
فقال الإمام أحمد: ائتوني بكتاب الله أو بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم!
حاول المعتصم معه ليجيب ويقول: القرآن مخلوق، فرفض، فدعا بالجلادين، ودُعي بجبار من الجبابرة؛ رأس الحرس الذي يتكون من خمسين ألفاً، يرأسه عجيف.
فقال المعتصم لـ عجيف: اضرب هذا الرجل -أي: الإمام أحمد - قال: فجلده مائة وستين سوطاً حتى غشي عليه، ثم استفاق، وكان يقول: لا إله إلا الله حسبي الله ونعم الوكيل؛ لأنها أقوى الكلمات، إنها قوة هائلة! إنها قوة فتاكة! حسبي الله ونعم الوكيل!
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[قالها إبراهيم فنجاه الله من النار، وقالها محمد فنجاه الله من كيد الكفار]] صلى الله على رسوله وسلم تسليماً كثيراً.
ورفض أن يجيب حتى تملغ وتجلد ظهره من كثرة الجلد، فرفع على الفرس وأعيد، وبقي في السجن ثمانية وعشرين شهراً، وسرد الصيام وهو في السجن في هذه الفترة كما قال ابنه عبد الله، فما أفطر يوماً واحداً، يعرض عليه الإفطار، وكان الخليفة يحبه، يقول: لا تأتوني بالعشاء حتى تعرضوه على الإمام أحمد.
فيعرضون له المائدة ليأكل، فيقول: والله لا آكل لهم لقمة، ولا أشرب لهم شربة.
على ماذا كان يتغذى الإمام أحمد؟ كان عنده جراب فيه سويق، فإذا اقترب وقت المغرب أخرج كفاً منه، ثم وضعه على الماء وشربه، هذا غذاؤه في ثمانية وعشرين شهراً.
ثم في الأخير عرض على السيف مرات ورفض، فلما أعجزهم وأكلَّهم وأملَّهم أعادوه إلى بيته، فأنزلوه وهو جريح.
يقول ابنه عبد الله: دخل أبونا علينا في الليل بعدما أُطلق من السجن، فأنزلناه من على الفرس، فوقع من التعب ومن الإعياء ومن الضعف والهزال والمرض على وجهه، قال: فبقي أياماً، ثم تولى الخلافة المتوكل فنصر السنة، وأتى بالمال والذهب إلى الإمام أحمد، فبكى الإمام أحمد وقال: والله إني أخاف من فتنة النعمة أكثر من فتنة المصيبة والمحنة، فرفض وما أخذ شيئاً، وبقي على هذا الحال.
وكان يقول: يا ليتني ما عرفت الشهرة! يا ليتني في شعب من شعاب مكة لا يعرفني الناس!(39/14)
وفاة الإمام أحمد
لمَّا أراد الله أن يرفع ذكر الإمام أحمد قبضه إليه في يوم من أسعد الأيام، مرض تسعة أيام، ومحص الله ما بقي عليه من خطايا وذنوب وسيئات؛ لا يخلو منها البشر في هذه التسعة الأيام، وفي اليوم الأخير منها عرف الخليفة أنه مريض؛ فأمر الناس بزيارته، فانقلبت بغداد العاصمة؛ عاصمة الدنيا، بغداد، صاحبة المليونين من البشر، انقلبت ظهراً لبطن متجهة في طوابير وفي كتائب إلى بيت الإمام أحمد لتزوره في اليوم الأخير.
قال أبناؤه: والله لقد أغلقت المتاجر حول بيوتنا، وتوقف الباعة، وتوقف حرس المتوكل من ممر الثكنات إلى بيتنا من كثرة الناس، فرفض الإمام أحمد أن يدخل عليه إلا الصبيان والمساكين، فأدخلوا الأطفال عليه، فأخذ يبكي ويقبلهم، ويمسح على رءوسهم، ويدعو لهم، ثم أدخل عليه الفقراء فأخذ ينظر إليهم، ويقول: اصبروا فإنها أيامٌ قلائل، لباس دون لباس، وطعامٌ دون طعام، حتى نلقى الله.
وفي سكرات الموت التفت إلى طرف غرفته، وقال: لا! بعدُ، لا! بعدُ، لا! بعدُ فقالوا: مالك؟! قال: تصور لي الشيطان، ورأيته يعض على إصبعه، ويقول: فتني يا أحمد، فتني يا أحمد! أي: هربت مني، فقد فتنت الناس إلا أنت، فيقول الإمام أحمد: لا! بعدُ، أي: انتظر إني أخاف على نفسي.
فقبضه الله عز وجل، واستودع أبناءه، وأوصاهم بوصية إبراهيم عليه السلام لأبنائه؛ ألا يشركوا بالله شيئاً، وأن يقيموا فرائض الإسلام، وأن يتخلقوا بالخلق الحسن.
أتدرون ماذا كان آخر كلماته؟!
قال: اللهم اعف عمن ظلمني، اللهم اعف عمن شتمني، اللهم سامح من ضربني، اللهم سامح من سجنني إلا صاحب بدعة يكيد بها دينك فلا تسامحه أي: عدو الإسلام لا تسامحه، أما عدوي لنفسي فسامحه.
وقبضت روحه رضي الله عنه وأرضاه، فماذا كان؟
طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ فزعت منه إلى آمالي الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذر
ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعة غداة ثوى إلا اشتهت أنها القبر(39/15)
تشييع جنازته
لما توفي الإمام أحمد أعلن المتوكل في الناس أن عليهم أن يشيعوا الجنازة؛ ففتحت الثكنات العسكرية لجيش الخليفة، وبقي الناس يتوضئون من وقت الضحى إلى صلاة العصر، وحملت الجنازة، وارتفعت في الصباح من بيته، ووصلت إلى مصلاها قريباً من ضاحية بغداد في العصر، من كثرة الزحام.
شيَّعه -كما يقول أهل العلم- مليون وثلاثمائة ألف، وستون ألف امرأة؛ كما أثبت ذلك أصحاب التواريخ، وتوقف اليهود والنصارى من بيعهم ذاك اليوم، وهبت رياح على بغداد حتى قال بعض الجهلة: قامت القيامة وخرج الجيش وقوامه تسعون ألف في مقدمة الناس يرتبون الصفوف، وتراددت بغداد بالبكاء من أولها إلى آخرها، ووصلت جنازته، حتى قال بعض أهل التاريخ: كانت تذهب الجنازة على رءوس الناس تحمل بالأصابع، وتعود إلى المؤخرة وتذهب وتأتي.
فلما وضعت ارتفع البكاء، وقام الناس يصلون عليها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:27 - 29].(39/16)
بشائر فوزه
دفن أحمد لكن ما دفن علمه، ولا تواضعه، ولا زهده، ولا ذكره الحسن، أبقى الله له ذكراً إلى قيام الساعة.
قال ابن كثير: رآه كثير من الصالحين تلك الليلة، قالوا: ما فعل الله بك؟ -بعد أن توفي- قال: ناداني فقال: يا أبا عبد الله، إلحق بـ أبي عبد الله وبـ أبي عبد الله وبـ أبي عبد الله قلت: من هم؟ قال: بـ الشافعي وسفيان الثوري والإمام مالك؛ كلهم أبو عبد الله {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].(39/17)
دروس من سيرة الإمام أحمد
أول الدروس من سيرة الإمام أحمد رضي الله عنه وأرضاه: أن الرفعة من الواحد الأحد، وأن من يحفظ الله يحفظه الله.
الأمر الثاني: أن الدنيا لا تساوي جناح بعوضة، لعنها الله وقد خلقها، وما التفت إليها منذ خلقها.
الأمر الثالث: أن العلم النافع والعلم الصحيح والعلم القويم هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الأمر الرابع: أن من أراد الرفعة، ومن أراد المنزلة، والمكانة عند الله؛ فعليه أن يتواضع وينزل نفسه، ويلغي اعتباراته ليرفعه الله.
الأمر الخامس: أنك كلما سجدت لله سجدة رفعك الله بها درجة، وهذا الإمام يصلي كل يوم ثلاثمائة ركعة؛ لأن كل سجدة بدرجة عند الواحد الأحد.
الأمر السادس: أن في سير هؤلاء أثراً في القلب، وتربية للروح، وهداية إلى الواحد الأحد، فطالعوا أخبارهم، وتلمحوا سيرهم، وكونوا متشبهين بهم، علَّ الله أن يهدينا وإياكم سواء السبيل.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة وارض اللهم عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، ولرفع رايتك.
اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان وفي فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين.
اللهم ثبت أقدامهم، اللهم أنزل السكينة على قلوبهم، اللهم أيدهم بروح منك، وأيدهم بنصرك يا رب العالمين.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بكيد؛ فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره في تدميره، وحطمه ومزقه، والعنه كل ملعنة، وخذه أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(39/18)
أين أنتم يا شباب؟
وجه الشيخ حديثه هذا إلى صنف من الناس لا يحضرون المساجد ولا مجالس الخير، وذكر أنه يحبهم رغم أخطائهم لأن في قلوبهم بقية من الإيمان، وفيهم بقية خير: (الفطرة، والغيرة إلخ).
موضحاً أنهم بعد تعليمهم وإرشادهم سيكونون رصيداً للإسلام والدعوة والجهاد، وألمح إلى المنكرات والمخالفات التي يقع فيها هؤلاء الشباب والشابات، ورأيه فيها، وإسقاط الأحكام الشرعية المناسبة عليها، وعد منها ما يزيد على أربعة عشر منكراً.
ثم شرع يتكلم عن علاج الأمراض السابقة وعن التوبة والصبر على الهداية والنظر إلى معالي الأمور.
ثم تكلم عن الاقتداء بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم ختم بعبارة نفيسة عن الموت وتذكره، والإجابة على أسئلة الحاضرين، وحث على قراءة كتاب (صيد الخاطر) لابن الجوزي.(40/1)
نداء للشباب اللاهي
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عنوان هذا الدرس: أين أنتم يا شباب؟
أيها الإخوة الكرام البررة! كانت المحاضرة السابقة بعنوان (لقاء مع الشباب) وكانت لصنف من الشباب الذين يحضرون الدروس، والذين يواظبون على الصلوات الخمس، والذين يحبون الله ورسوله، والذين يتولون الله ورسوله ولاية خاصة، وهذه الليلة حديث مع صنف من شباب آخر، ليسوا هنا، لكني أبلغهم سلامي وسلامكم من هنا، فسلام الله عليهم ورحمة الله وبركاته.
إن قلبي يحن إليهم وأنا أريد أن يحضروا، وعسى أن نراهم في القريب العاجل، ربما حضر بعضهم، ولكن الكثير لم يحضروا، إنهم هناك على الأرصفة، وفي المقاهي، وفي المنتزهات، وفي أماكن اللهو، يا ليتهم يحضرون ليروا إخوانهم من المؤمنين الصادقين المصلين، أهل الصلوات الخمس، أهل الولاية العامة والخاصة، الذين يحبون الله ورسوله إنني أبلغهم قول القائل:
أهلاً وسهلاً والسلام عليكم وتحية منا تزف إليكمُ
أحبابنا ما أجمل الدنيا بكم لا تقبح الدنيا وفيها أنتم
أهتف من كل قلبي إليهم أن يشاركوا شباب الصحوة في مسيرتهم الخالدة، وفي صلاحهم واستقامتهم.
أيها الشباب الذين لم يحضروا وألهاهم المباح، أو الذي يؤدي إلى المكروه، أو الأمر المحرم عن الحضور، نناديكم لأن بيننا وبينكم عهداً وميثاقاً هو ميثاق: إياك نعبد وإياك نستعين، وعهد: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فحقٌ علينا أن نناديكم، وأن نهتف بكم، وأن نزوركم، وأن ندعوكم إلى رحاب محمد عليه الصلاة والسلام.
إلى هنا؛ حيث البر والعفاف والاستقامة والذكر.
إلى هنا حيث الأمجاد والتاريخ وحيث الحنيفية السمحة والشريعة.
إلى هنا حيث القبسات الإيمانية وإشعاع النور، والانطلاقة التي بثها في الكون محمد عليه الصلاة والسلام، أنادي في قلوب هؤلاء الشباب بقية الإيمان، وفي قلوبهم بقية من إيمان، فلم ينتزع الإسلام أصلاً من قلوبهم؛ بل مازالت بذرة الإيمان في قلوبهم، وأنادي بقية النور نور الهداية في قلوبهم، وأنادي الحب لله ورسوله عليه الصلاة والسلام، الذي في قلوب أولئك الذين يحملونه، ولو كانوا يتأخرون عن الصلاة، ولو كانوا يسمعون الغناء، ولو كانوا يصاحبون المجلة الخليعة، فما زال أصل الإيمان يشع يشع ويذوي يذوي في قلوبهم:
تعالوا تعالوا نكتب الحب موثقاً بدمعٍ غزيرٍ يغسل الحوب والذنبا
تعالوا نعيد العهد بين قلوبنا أتيناكم طوعاً نبادلكم حبا
إنهم أحفاد مصعب، ولكن مصعباً لم يكن لاغياً لا هياً في الحياة.
كان حنيفاً مسلماً ولم يكن من المشركين، قطع جسمه في سبيل الله ليظهر أنه يحب الله ورسوله، أليس هذا دليلاً على الحب؟! أليس هذا برهاناً على ولاية الله؟! أليس هذا شاهداً على حبه لله؟ إي والله لقد قطع في أحد.
فيا أيها الشباب الذين لم يحضروا: شلل، وعصابات، وجماعات، همهم السيجارة والكيرم والسهرة، والضحك الذي لا ينتهي، واللهو، والعبث، إن مصعباً يعتب عليكم أنكم ادعيتم أنكم أحفاده، ولكنكم لستم بأحفاده إلى الآن، نعم بينكم وبين مصعب نسب لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ويا أحفاد معاذ بن جبل لم يكن معاذٌ مضيعاً لأوقاته، كان معاذ يحملُ الكتابَ والسنةَ ويعلم العالمين:
عُبَّاد ليل إذا جن الظلامُ بهم كم عابد دمعه في الخد أجراهُ
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه
يا أحفاد أُبي! لم يكن أبي هاجراً للكتاب، بل كان سيد القراء، يصحب الكتاب كتاب القرآن ربيع قلبه، ونور بصره، وأنيس روحه، كان يحب القرآن، ويعمل بالقرآن، فأين أنتم يا شباب الإسلام من كتاب الله عز وجل ومن قراءته وتدبره؟!
وقِّفَا بي على النقى وقفا بي واتركاني هنيهة وارفقا بي
واعذراني من الدموع فهذي قصةُ الحب صاغها أحبابي
هذه مقدمة، وأنا أعلن أني أحب أولئك كما أحبكم في الله؛ لأن الحب يتجزأ والولاية مع هؤلاء في الله عز وجل وفي رسوله عليه الصلاة والسلام تتبعض، فهو حب نسبي وولاء نسبي، نحبهم لأصل الإيمان الذي عندهم، فعندهم خير كثير.(40/2)
جوانب الخير عند الشباب
أنا أحدثكم عن جوانب الكمال التي في هؤلاء:(40/3)
من جوانب الخير: الفطرة
أولاً: إن عندهم الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله، أنا أعلم أنهم لم يحضروا، وأنا أعلم أن بعضهم يصلي في بيته، وأنا أعلم أن كثيراً منهم يستمع إلى الأغاني الماجنات أكثر من سماعه إلى الآيات البينات، وأنا أعلم أن الكثير يطالع المجلات الخليعات أكثر مما يطالع الأحاديث النبويات الموروثة عن معلم الخير عليه الصلاة والسلام، ولكن عندهم الفطرة، مكتوب في قلوبهم لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقد نزلت رءوسهم من بطون أمهاتهم إلى الأرض وهي تحمل مبدأ التوحيد: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172].
فأنا أخاطب الفطرة فيهم، وكثير من الناس يظن أن هؤلاء يعيشون بلا فطرة أو يعيشون بلا دين اذهب إليه وحرك الفطرة، اسقها بماء الهدى، وابعث فيها الأنوار، واجعلها تنمو وتنمو وتكبر وتكبر حتى تراه بجانبك في الصلاة وفي الدرس، وفي المحاضرة، لكنك أنت أخطأت، وأنا أخطأت، وهو أخطأ.
فأخطأت أنت لأنك لم تشارك في الذهاب إليه، ولم تبعث له بحبك، ولم تقف معه، ولم تبادله الأشواق والمودة، وأخطأت أنا لأنني ما خصصت جزءاً من دعواتي ومحاضراتي لأولئك، وأخطأ هو لأنه لم يلتمس النور، ولم يبحث عن الهداية، ولم يأت مرة ليجرب نفسه في مثل هذه المحاضرات والدروس، إنه جرب نفسه في المقهى، وجرب نفسه في المنتدى، وجرب نفسه على الرصيف، وجرب نفسه مع الكرة، وجرب نفسه مع الأغنية، لكنه ما جرب مرة واحدة طعم الهداية والنور:
أين من يدعي ظلاماً يا رفيق الليل أينا إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه
قد مشينا في ضياء الوحي حباً واهتدينا ورسول الله قاد الركب تحدوه خطاه
أين توجد معالمه عليه الصلاة والسلام؟ في المحراب.
أين توجد أنواره؟ في المحراب.
أين يوجد دستوره؟ في المحراب.
أين توجد مسيرته المباركة؟ في المحراب.
أين يوجد منهجه المستقيم؟ في المحراب.
اذهب إلى أولئك وتعال بهم إلى المحراب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} هذه هي المكاسب الغالية يا شباب الإسلام.(40/4)
من جوانب الخير: الغيرة
ثانياً: أخاطب في أولئك الغيرة، إن عندهم غيرة، إي والله! ابحث عن الغيرة، تجد الواحد منهم أسداً هصوراًً إذا سمع أن عرضه سوف ينتهك، إنه يغار على أمه، ويغار على أخته، ويغار على بنته، فاحيي في قلبه هذه الغيرة، غيرة سعد بن عبادة سيد الخزرج المضياف الكريم الذي كان يضيف المئات في الجلسة الواحدة، يقول وهو يسأل المصطفى عليه الصلاة والسلام: {يا رسول الله! لو وجد أحد منا رجلاً مع امرأته ماذا يفعل؟ قال عليه الصلاة والسلام: يذهب ويستشهد أربعة من المسلمين، قال: يا رسول الله! أتركه معها، وأذهب لأجمع أربعة؟! والله يا رسول الله! لأضربنه وإياها بالسيف غير مصفح} والأنصار إذا قالوا فعلوا، فهم الذين قاتلوا العرب من أجل مبادئ محمد صلى الله عليه وسلم، وقُتل منهم في المعارك ثمانون في المائة حتى يقول حسان:
لنا في كل يوم من معد قتالٌ أو سبابٌ أو هجاءُ
فنحكم بالقوافي من هجانا ونضرب حين تختلط الدماءُ
فضحك عليه الصلاة والسلام، وقال: {تعجبون من غيرة سعد؟! والذي نفسي بيده إني أغير منه، وإن الله أغير مني} هؤلاء الشباب الذين على الأرصفة وفي الملعب وفي المقهى والمنتزهات، الواحد منهم يسلم روحَه رخيصة دون أمه وأخته وزوجته، فأنا أقول لهم: ومبادئ محمدٍ عليه الصلاة والسلام ألا تحتاج إلى غيرة؟! ألا تحتاج إلى دفاع عنها؟! ألا تحتاج حماساً؟!
من ينصر مبادئ محمد صلى الله عليه وسلم؟! أنتم جنده وأنتم كتيبته، فتعالوا هنا لتتعرفوا على سيرته، والله إني أعلم أنكم أشجع من حزب البعث ومن الأنظمة العلمانية في الساحة، ومن الماركسيين الشرقيين والغربيين، ولكنكم خدرتم بالأفلام والمجلات وبالميوعة والضياع، حتى أصبح الأسد كالسنور:
عجبت لدنيا تهضم الليثَ حقَّه وتفخرُ بالسنور ويحك يا مصر
سلام على الدنيا سلام على الورى إذا ارتفع السنور وانخفض النسر(40/5)
من جوانب الخير: حب الله ورسوله
أيها الإخوة! إن في أولئك حباً لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام، أنا أعرف أنه ليس كحبكم لأن حبكم موار، ومن حبكم:
أنكم تصلون الصلوات الخمس، وأنكم تسمعون كلام مثلي إلى صلاة العشاء، وتفرحون بالحكمة والموعظة الحسنة، وبعضكم يأتي بأهله.
وبعضكم يحمل الشريط، فيوزعه على المسلمين.
والآخر يدعو، والآخر يقوم الليل، هذا حب فوار موار.
والرابع: يقوم ويناجي ربه في السحر.
والخامس: يتلو كتاب الله ويبكي، هذا هو الحب المتفوق.
هم عندهم حب، ولكن ليس مثل حبكم؛ حبهم يبرز في المصادمات، تجد الواحد في يده سيجارة وفي اليد الأخرى مجلة خليعة، تجده لاهياً لاعباً، وتجد عنده العود والموسيقى والناي والوتر، ولكنك لو تنال من محمد عليه الصلاة والسلام عنده، لقدم رأسه رخيصاً ليقاتلك ويذابحك، وتجد الواحد منهم عنده حب؛ ولذلك لو قلت له: يا كافر لا يصبر، بعضهم يترك الصلاة، ومن ترك الصلاة في الإسلام فقد كفر، لكنك لو قلت له: يا كافر! لقاتلك وما صبر على ذلك لأنه لا يتفاهم، قل له كل شيء إلا كافر، لأن الكفر عنده أعظم شيء:
فأثبت في مستنقع الهول رجله وقال لها من تحت أخمصك الحشرُ
وقد كان فوت الموت صعباً فرده إليه الحفاظ المر والخلق الوعرُ
ونفس تعاف الذل حتى كأنه هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفرُ
لا يرضى أحد منهم أن تقول: يا فاسق، ولا يا كافر، ولا يرضى أحد منهم أن تأخذ المصحف وتمزقه بينهم، هم أكبر درجات من شباب البعث قاتلهم الله، الذين أخذوا المصحف مع أحمد حسن البكر ومزقوه في شوارع بغداد، وداسوه بالجزمات، عندنا خير من هؤلاء الشباب، عندنا طلائع إيمانية، عندنا كنوز، لكنها تحتاج إلى من يأتي إليها ويبعد الغبار عنها، ويمسح عنها ذلكم الصدأ، لتعود نقية طاهرة طيبة قوية بإذن الله، وأنتم أهل المهمة، اذهبوا إليهم وجربوا.
حدثني أحد الأخيار، وأظنه معنا في هذا المجلس، وهو من أهل الفضل، ولكن لا أذكر اسمه فالله يعرفه، ولا يغيب عن الله هو وأمثاله، قتل بعض الصحابة في قندهار، تبعد أكثر من ألف ميل عن المدينة [[فأتى عمر، فقال للصحابة: من قتل في قندهار؟ قالوا: فلان وفلان وفلان، وأناس لا نعرفهم، فانسكبت دموع عمر على لحيته، وقال: لكن الله يعرفهم]].
هذا الأخ الكريم يذهب مع مجموعات في العطلة الصيفية الماضية، وكان يجلس في حلقة وهم حلقات، والعود مع أكبرهم الذي علمهم الطرب، يجلس في وسط حلقة الذكر، على مذهبهم فيجلس مجموعة من هنا، ومجموعة من هنا، وعندهم أدب في استماع الغناء، كأن على رءوسهم الطير، يجلسون في جلسة حتى كأن الجلسة في الصلاة، وهذا يجلس في الوسط، والثاني يسكب الشاي ولا يقاطعه أحد، حتى لا يقطع عليه الدورة، فيعزف بالناي، ثم يتحرك بالصوت فيما بعد، ثم يبدأ التصفيق، فيأتون يعمدون إلى الكبير هذا فينزعج، ولكنهم يحيونه ويهدءونه لأنه رأس الحية، فيسكتونه ثم يبدءون معه في حوار وفي أخذ وعطاء، فيبدأ أولاً بوضع العود على التراب، وهذه خطوة جيدة، إنها تنازل معك، الثاني يبدأ ويلتفت، ويسألهم من أين أتيتم؟
الثالث: يأخذون معه في الحديث ثم يسألون المجموعة، ثم تبدأ الموعظة، ولا تسأل كم من الاستجابة! ثم يهدون لهم الشريط الإسلامي، من دعا منكم شخصاً فجابهه أو ضربه أو شتمه؟!
هذا نادر! أنا لا أظن أنه يأتي في الألف واحد، الذي يقول لك: إن هؤلاء العصاة يجابهون.
لا يجابهون إلا أحد شخصين، إما جاهل لا يعرف عرض الدعوة، وإما رجل قاسٍ فظ غليظ يتحكم عليهم في الصوت، وهذا لا يرضاه أحد، أنا لو أتاني أحد ونهرني بعنف لا أقبله.
إذاً يا أيها الإخوة! حُبُّ الله وحب الرسول عليه الصلاة والسلام في قلوبهم ثابت، فاستغلوا هذه الفرصة واعلموا أن المرء يحشر مع من أحب، وأن بيننا وبينهم خيط الود.(40/6)
من جوانب الخير: أنهم رصيد الإسلام
أيها الإخوة! إن هؤلاء رصيد للإسلام، لا بد أن نتعرف عليهم، ولا بد أن نهديهم إلى الله، لأنهم سوف يكونون مجاهدين في سبيل الله لو حلت في البلاد فتنة.
أيضاً يكونون عوناً في الأزمات بإذن الله، أيضاً رصيد للدروس والمحاضرات، وطاقمٌ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم يحملون الدعوات الإيمانية والرسالات النبوية، وفيهم خير كثير لكن إذا عرفنا كيف نستغلهم وكيف ندخل إلى قلوبهم.
وكثير من الدعاة أثابه الله أحسن في الدخول إلى قلوبهم من القديمين والمحدثين، وأذكر من الأمثلة التي تحضرني الآن من الدعاة في هذا العصر، ولو أنه توفي قبل سنوات رحمه الله وأسكنه الله فسيح جناته، وهو الشيخ عبد الله القرعاوي وقد دعا في منطقة جيزان، ولكنه ضرب أروع الأمثلة في الصبر والحلم والعطاء والبشاشة، والدخول إلى قلوب الناس، ذكر لنا أحد تلاميذه من العلماء قالوا: أتى مرة يخطب في السوق، واجتمع الناس عليه، وشيخ القبيلة كان غاضبًا، وأحياناً بعض الناس من وجهاء القبائل أو وجهاء البلد، إذا غضب لا تسير الأمور في مسارها الطبيعي، قالوا: فأرسل إليه من أقوياء هؤلاء الذين معه، فأرسل إليه شيخ القبيلة، فأوقفه، وقطع عليه كلامه، فذهب من السوق هذا الداعية، ماذا قال؟ أدعى على هذا؟ لا.
أسب وشتم؟ لا.
هل قال: كفى؛ قد بلغت ما عندي ويكفي إذ قد منعت؟! لا.
إنما أخذ كيساً من الدراهم على وقته، وذلك قبل ثلاثين أو أربعين سنة
وهذه عقاقير طبية نافعة، من جربها عرف أنها فيتامين (واو) والرسول صلى الله عليه وسلم استغلها كثيراً في خدمة لا إله إلا الله، أعطى بعض الصناديد مائة ناقة حتى دخل في الإسلام، وأعطى بعضهم ثياباً وذهبًا وفضة.
ذهب هذا الداعية (ببقشة) وفيها ملابس وشيء من دنانير وكأنه ما عرف شيئاً عن تصرف هذا الشيخ، التصرف الجارح المؤذي، وطرق عليه الباب، قال: من؟ قال: أنا فلان، قال: أنت الذي يتكلم ويجمع الناس ويفعل، وانهد عليه بمحاضرة شاتمة، قال: مهلاً! جئت أولاً أسلم عليك، وقصدتك في هدية، ومعي بعض الثياب، وأنا أردت أن أعرض عليك دعوتي، فإن أحسنتُ في عرض دعوتي فاتركني أحدث الناس وإلا فرأيك، قال: وكانت عنده شيشة.
ونحن لا نؤيد أهل المعاصي في شيشهم ولا في دخانهم، ولا نقرهم عليها، لكنها مرحلة كما فعل عليه الصلاة والسلام، الأصنام كانت حول الكعبة، ومع ذلك ما كسرها أول يوم، حتى أقر في القلوب لا إله إلا الله، لا تبدأ بالمعاصي الصغيرة، فينفر عنك الناس، لا تبدأ مباشرة على الرجل، تقول: ولماذا تحلق لحيتك؟ حتى تغرس في قلبه لا إله إلا الله، لا تناقشه وتشاتمه على إسبال الثوب حتى تزرع في قلبه زهرة: إياك نعبد وإياك نستعين.
فانشرحت أسارير هذا الشيخ، وأخذ البقشة أولاً، وأَخْذُها خطوة جيدة، بمجرد الأخذ انتهى الأمر وقال: اعرض علي، قال: أنا أدعوهم إلى الإيمان، وإلى التوبة النصوح، وإلى الصلوات الخمس، وإلى طاعة من ولاه الله أمرهم مثل طاعتك، وطاعة أمثالك، لأني أسمع أنهم قد يعصونك أحياناً، قال: أثابك الله، قال: يا فلان -لذاك القوي الذي أرسله- اجمع الناس، ومن تخلف فلا يلومن إلا نفسه، فجمعهم وقام الداعية، فقال فيهم كلاماً عجيباً، وأخذهم بالمدارس، وبالدعوة والتحفيظ، حتى ردهم إلى الله، حتى أثبت جدارته في منطقة شاسعة، فيها ألوف مؤلفة من البشر.
هذه هي الدعوة التي تدخل إلى القلوب بدون استئذان، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الحكمة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125].(40/7)
من جوانب الخير: بقاء ملامح الخير
هؤلاء الشباب أيضاً ما زالت ملامح الخير فيهم، فإن الكثير منهم ما أظنهم يتركون الصلوات الخمس، نعم.
قد يؤخرونها عن وقتها، وهذا خطأ كبير، نعم.
قد لا يصلونها جماعة، وهذا خطأ كبير، لكني كنت أرى بعض الرسائل من الذين تابوا ما كانوا يتركون الصلاة، والنادر منهم من يترك الصلاة، لكن تسمع عنهم معاصي، ومخالفات، وكبائر، ولكن يندر أن يتركوا الصلاة، فهؤلاء نستغل أنهم يصلون، وهذا أمر طيب مقبول، ولله الحمد والشكر.(40/8)
منكرات يقع فيها بعض الشباب
بقي هناك مسألة، وهي أن هؤلاء -صراحة- قد لا يوفقون بالصحبة الحسنة من بيوتهم ولا في مجتمعاتهم، فيبقون بعيدين، حتى لا يتصورون الوعي الموجود، ولا الصحوة والمحاضرات، ولا الدروس، فتجد بعضهم كأنه في عالم آخر، قد تجرى أحياناً أسئلة في بعض اللقاءات كبعض المعاهد وبعض المستويات وبعض المؤسسات فتسأل: كم في البلد من دروس؟ فلا يجيبك أحد، ولا يدرون، تعرف للداعية الفلاني اسم شريط، قال: لا أعرف شريطاً له، ما هي الكتب التي تعرفها لـ أهل السنة والجماعة؟، قال: ولا كتاب! فهذا دليل على أنهم يعيشون في عالم آخر، وأنهم قد عزلوا ببرمجة خاصة من اللهو والضياع حتى وصلوا إلى هذا المستوى، فإذا بصروا وعلموا فسوف تراهم إن شاء الله مقبلين على الله عز وجل إقبالاً طيباً مباركاً.
عند هؤلاء الشباب صور ضياع، وكلنا -نحن وإياهم- مقصرون، أنا لا أزكي نفسي، ولا أزكي أحداً على الله، ونحن وإياهم تحت رحمة أرحم الراحمين، نسأل الله أن يرحمنا وإياهم، وأن يتوب علينا وعليهم، وأن يردنا وإياهم رداً جميلاً، وأن يسترنا ويحفظنا وأن يهدينا ويتولانا.
ونشفق عليهم، وإلا فما الداعي لهذا الكلام؟ كان بإمكاني أن أوجه مسار الحديث لدرس في التفسير، أو في الحديث، أو في الفقه، أو قضية اجتماعية، أنا أعرف أنهم طبقة هائلة، إذا حضر هنا ستة آلاف يحضر في مباراة الكرة على الأقل ستون ألفاً، ويسمون هذا (اجتماعاً طبيعياً!) طبيعي أن يجتمع ستون ألفاً، وليس لك أن تنكر بقلبك؛ لأنه أصبح مع طول الأزمان اجتماعاً طبيعياً، بل منهم من يحجز مكانه من أيام، ولهم بطاقات دخول وخروج، وآداب في التشجيع، ومشاركات وحماسات وغير ذلك.(40/9)
الاستهزاء بالعلماء
هؤلاء لهم صور ضياع يعيشونها، وأنا أخبركم ببعضها وهم يعرفونها، ما أصبحت خافية لشهرتها على الناس، منها الاستهزاء بالعلماء والدعاة، والسخرية منهم، وأكل لحومهم، وربما تجدها فاكهة لمجالسهم، فتجد من يستهزئون بشيخ من المشايخ، بلحيته أو بوعظه أو بكلامه في الدروس أو بحركاته أو بصوته أو بسعاله، وهذه خطيئة كبيرة.
الله الله! انتبهوا لها يا شباب الإسلام! فقد قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
رأيت فيلماً كاد قلبي أن يتقطع وأنا أراه، وهو مشهور عند بعض الإخوة، رجل من الشباب من بعض النوادي الرياضية، يمثل المشايخ، يمثل أصواتهم وحركاتهم، كعالم الأمة وعالم البلاد الشيخ عبد العزيز بن باز، وغيرهم من الفضلاء، يمثل الحركات بشيء من السخرية، ومعه جماعة شلل ملء قاعة، يضحكون ويتمايل بعضهم على بعض، ويصفقون له.
سبحان الله! إلى هذا المستوى؟! أي أمة يمكن أن تقدس ولا يقدس علماؤها ودعاتها؟! سبحان الله! ما وجد في نقاط الضعف إلا أن تصل إلى العلماء والدعاة في عقر دارهم وهم صمام الأمان، وهم المسيرة البارة الراشدة، وهم بإذن الله الحبل الوثيق، وما يقوم الأمن ولا الرخاء ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا على العلماء، يقول المولى سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18].
وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات} [المجادلة:11].
وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِين} [الزمر:9].
وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28](40/10)
هجر أماكن الخير
أيضاً من نقاط الضعف وصوره عند هؤلاء الشباب؛ هجر المساجد وحلق العلم والدروس والمحاضرات، شاب يعيش في حارة وتسأله: هل تصلي في مسجدك.
قال: لا.
لا يعرف الإمام! ولا يعرف المؤذن! ولا يعرف أهل الصف الأول! ولا يصلي في المسجد! وإن صلى نادراً ففي الصف الأخير، يدخل آخر الناس ويخرج أول الناس.
أيها الإخوة! كيف يهتدي مثل هذا؟ إن طرق الهداية عندنا هي المسجد، والعالم، والداعية، والمنبر، والكتاب، والمصحف، والشريط، والدعاء، فكيف يهتدي من أغلق النوافذ؟!
وتجدهم تعمر بهم المقاهي، وأماكن اللهو واللغو والأرصفة، والجلسات الخلوية على الضَّياع، ويجلسون أكثر من ساعتين أو ثلاث لا يذكرون الله، ولا يصلون على الرسول صلى الله عليه وسلم، بل في كلام فحش أو غيبة أو نميمة، أو نهش في أعراض المسلمين، فنسأل الله أن يتوب علينا وعليهم، ونسأل الله أن يردهم إليه رداً جميلاً.(40/11)
الاستماع إلى السوء
إن هؤلاء إذا استمر الحال يشكلون على أنفسهم وعلى المجتمع وعلى الأمة خطراً عظيماً، وقد حدث هذا في صور سوف أذكرها فالله المستعان! يحفظون الأغاني المائعة، والقصائد الساقطة الفاحشة، وعندهم أشرطة فاسدة من أشرطة الغناء الفاسد، وقد نبه بعض كبار العلماء عن بعض كلمات الأغاني التي دخلت إلى درجة الكفر، تصوروا أنه ضبطت أغنية لأحد المغنين في بعض البلاد وهو يغني: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1].
وآخر يقول:
حبيبتي حمالة الورد لا حمالة الحطب
وآخر يرنم على سورة: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2].
على مقاطعها ويأتي بقصائد الحب على ذلك، وثالث يأتي بكلمات كفر، يقول:
أيا رب تخلق أغصان رند وألحاظ حور وكثبان رمل
وتنهى عبادك أن يعشقوا أيا حاكم العدل ذا حكم عدل
ويقول:
نصبوا اللحم للبزاة على ذروة عدن
ثم لاموا ريادتي في فتونٍ من افتتن
لو أرادوا صيانتي ستروا وجهك الحسن
يقول: لو أراد الله ألا يفتني ما خلق لك وجهاً حسناً، فنعوذ بالله، وهذه أيضاً منتشرة.
وهناك أفلام هائلة الدمار، فيلم واحد يهدم شعباً كاملاً، يوجد عند الواحد منهم مجموعات، ويجتمعون إليها من بعد صلاة العشاء إلى الثانية ليلاً، ثم ينامون عن صلاة الفجر، وبعضهم يصلي قبل أن يذهب إلى الدوام، وبعضهم قد لا يصلي، وتجد سواد المعصية عليه، تاب الله علينا وعليه.(40/12)
مأساة الرياضة وتقليد نجومها
أيضاً عندهم إسراف في ممارسة الألعاب الرياضية، ومتابعة أخبارها ودوراتها، حتى تصبح شغلهم الشاغل وهمهم الأول، فيعرف الواحد منهم أسماء المنتخب والفريق، وحارس المرمى، والقلب، والمقدمة، والمؤخرة، والجناح، ويعرف أخبارها وأعلامها ونجومها، ومتابعاتها، وأول ما يأخذ الجريدة يفتح على الصفحة الرياضية، وتجده يتحرك مع أولئك، كأنه يرى في هؤلاء أنهم المهاجرون والأنصار، أو العشرة المبشرون بالجنة، أو أهل بدر، أو أهل بيعة الرضوان، فالله المستعان! وصدق الله إذ يقول: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23].
أيضاً يرتدون الملابس القصيرة التي لا تجوز الصلاة فيها، وهي إلى نصف الفخذ، ولا يجوز النظر إليهم، ولا يجوز اللعب معهم، لأن عورة المؤمن من السرة إلى الركبة، وهذا ثابت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام، أيضاً يطيلون الشعور إطالة فوق الحد، تقليداً لما يسمونه بالنجوم الكفرة، نجوم وليسوا بنجوم، يقلدونهم في قصات الشعر، وفي التسريح، لأن ذاك فعل، ولهم صور لأولئك يحتفظون بها، ويعشقونهم ويحبونهم، ويتولونهم، وهذا جرح في العقيدة وفي معالم التوحيد، أيضاً تجد بعضهم يربي شعره تربية مذهلة ويحلق لحيته، فإذا فاوضته في ذلك تكلم لك بذكاء وبخداع، وقال: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يربي شعره، وهو قد حلق لحيته! {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85].
تؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم في الرأس وتكفر به في اللحية، لماذا تؤاخيه صلى الله عليه وسلم هنا، وتتركه هنا، وأصبحنا في درجة من الدروشة أن يضحك علينا بمثل هذا، وبلغ من حرص هذا أن يطبق سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في رأسه، وهو لا يصلي معنا الصلوات الخمس في جماعة، أيضاً تجد بعضهم يطول أظفاره، حتى تخاف منه إذا صافحته أن يخدشك، وقد يقاتل بها أحياناً، وبعضهم يطول ظفراً واحداً، وهذه والعياذ بالله خطورة ما بعدها خطورة، لأنهم يمثلون مسارات خاطئة من المعصية والانخلاع والدمار في الخلق.
تعليق السلاسل في الرقاب، وربط الخيوط في المعاصم، وهي موضة خاصة يفعلها جيل من الشباب وطائفة، نسأل الله أن يتوب علينا وعليهم.
أيضاً إهمال الرياضة الحقيقية: رياضة محمد صلى الله عليه وسلم ورياضة أصحابه، وهي السباحة والرماية وركوب الخيل، ويأتون بهذه الرياضة الأخرى التي تورث الذلة والقلة، والانهيار عند الأمة، أما رياضة محمد صلى الله عليه وسلم التي هي القوة والمناعة والحصافة والرجولة، فيهملونها تماماً، ولا يفعلونها!
أيضاً إطلاق الصرخات والصيحات بالشتم والسب والألفاظ النابية، وبعضهم من يحيي بها بعضاً، وقد سمعتها بأذني، وكثير منكم يسمع هذا إذا لقيه لعنه، أول ما يراك يقول: لعنك الله أعوذ بالله! وقد أتى في الآثار أنه سوف تكون تحيتهم في آخر الزمان اللعن.
وذاك يضحك ويرد عليه اللعنة بأحسن منها، وهذه خطورة والعياذ بالله! ويشتمه شتماً لو تقولها لبعض الناس ذابحك وقاتلك، ويتلقاها ذاك برحابة صدر، فهذا دليل على أنه لا يتصور شيئاً عن الرسالة التي أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم في الخلق، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتابع الألفاظ ولا يمكن أن يجرح، وكان يقول: {لا يقل أحدكم خبثت نفسي، ولكن يقول: قلست نفسي} لأن الخبث لا يذكر في مثل هذا فكيف بالشتم واللعن؟! كيف بالقذف؟! كيف بأمور تشيب لها الرءوس يقولونها ويزاولونها؟! هذا أمر موجود يجده من يذهب منكم إلى المنتديات وإلى أماكن التجمع والأرصفة والملاهي.
نعم.
تخرج الرياضة عندنا وفي البلاد الأخرى عن المنافسة، أو عن شغل الوقت أو عن أمر من المباح، إلى شيء يصل إلى درجة التحريم؛ إلى الحزبيات، فهذا يدعي أنه هلالي إلى آخر قطرة من دمه، فيعيش باسم الهلال، وهذا نصراوي يتعشق نادي النصر في كل حركة، لباسه نصراوي، وسيارته نصراوية، وميداليته نصراوية، ويحب المجلة النصراوية، وإذا أتى مباراة هز كتفه وقلبه، ودموعه وأشجانه، وقام ليله ونهاره، وتبرع بالغالي والرخيص، وحضر وشجع، يسببون إرباكاً في الأمن، وفي مسيرة الأمة، يعرف ذلك من عرفه لولا أن حُد من هذه الظاهرة والحمد لله.
يذكرون أن رجلاً كان هلالياً، قدس الله روحه، وامرأته نصراوية نور الله ضريحها فغلب الهلال النصر، فدخل عليها فرحاً، فأعطته من الشتمات تدافع عن ناديها، كرمها الله وأعز الله قدرها، دفاع خولة بنت الأزور والخنساء وأسماء وزينب، فطلقها!
إنه الهوس التشجيعي، في الملبس والحديث وعند اللقاءات حتى تكون ديدن الإنسان ليل نهار، يشجع ويموت، ويتفانى ويدافع عن ناديه فرداً فرداً، ويأتي بالمحاسن إلى هذا النادي، ويتبجح بفضائل وانتصارات هذا النادي، كأنه أعاد لنا القدس وأفغانستان والأندلس المفقود وعمورية:
لهم شموخ المثنى ظاهراً ولهم هوىً إلى بابك الخرمي ينتسب
وقاتلت دوننا الأبواق صامدة أما الرجالُ فماتوا ثَم أو هربوا
عفواً هديت أبا تمام تسألني كيف احتفت بالعدى حيفا أو النقب
ماذا فعلنا غضبنا كالرجال ولم نَصدُق وقد صَدَق التنجيم والخطب
ناديت بالأمس عمورية اتقدت وللمنجم قالوا إننا الشهب
واليوم تسعون مليوناً وما بلغوا نضجاً وقد عصر الزيتون والعنب
تقليد الغرب في الرياضة والملابس والتمرينات والجوائز والدروع والكئوس والميداليات: {حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} أمة تقلد في كل شيء.
قال أحد المفكرين: لو أتى غربي في لندن أو واشنطن ووضع حذاءً على رأسه، فأصبحت الموضة، لأصبح الناس بعد ثلاثة أيام في البلاد العربية يأخذون أحذيتهم ويضعونها على رءوسهم، فتقول لهم: لم؟ فيقول: موضة! تقليد أعمى.
قلدناهم في القشور فقط كما قال الغزالي والقرضاوي، وقد أصابا في هذا، لا صنعنا صاروخ جو أرض ولا أرض أرض ولا جو جو.
اختلفنا على تحريك الإصبع هل تتحرك جو أرض أم أرض أرض حتى تقاتلنا، ولا بد منها ولكن بحديث واحد، لم نصنع شيئاً الطباشير مستوردة من إيطاليا، والمسَّاحة من النمسا، والسبورة من بلغاريا، والأستاذ من بلد آخر، والطالب من الإنتاج المحلي.
فأنا أقول: يا أيها الكرام! لماذا لا نقلدهم في الإنتاج، وفي الإبداع، وفي التصنيع؛ صنع الطائرة، والميكرفون، والراديو، والمسجل؟ فقط في الخنافس، وفي الغناء، وفي الضياع، والتزلج على الثلج، والإقبال الشديد على متابعة المسابقات الرياضية، حتى أن المدرجات تزدحم بالجماهير، وكأنك في يوم عرفة، وصاحب اللاقط المرئي (صاحب التلفزيون) يظهر لك شباب الإسلام جيل محمد صلى الله عليه وسلم أنهم حضروا، فتمر الكاميرا يميناً ويساراً وتجد شباب الإسلام وهم يتمايلون على التصفيق، وشامير احتل فلسطين، وابتلعها، ونجيب الشيطان ابتلع أفغانستان، ومع ذلك شباب محمد عليه الصلاة والسلام يتمايلون في المدرجات، ألوف مؤلفة، ونقول: ما شاء الله! ما شاء الله، يا الله قويهم، على ماذا؟! على ضياع الأمة، وعلى موت الضمير، وموت الأعصاب! الاهتمام بالرياضة حتى تطغى على المشاعر والعواطف، فترى البعض يبكي لفوز فريق أو لهزيمة فريق، وهذا بكاء لا أجر فيه {عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله} لا لانتصار فريق ولا لانهزام فريق، لدرجة أن يبكي الواحد منهم كالفتاة، وينهد وينكسر أمامك، لماذا؟ قال: غلب الفريق.(40/13)
العزوف عن الزواج
ومن ذلك عزوف الشباب والشابات عن الزواج، وخاصة خريجو الجامعات، ورفض الزواج بحجة إكمال الدراسة، أصبحت الدراسة عندنا طاغوتاً، كأنه صنم يعبد من دون الله، ولا بد أن يكمل الدراسة، ومن يمنع أن تتزوج وتكمل الدراسة، ويتزوج ويكمل الدارسة، إذا أصبحت المرأة جَدَّة فإنها لا تتزوج، أصبح وهو مولود بعد الحرب العالمية الثانية وما تزوج، تجد الشيب في رأسه وفي لحيته، مالك لا تتزوج؟ يقول: ما زلت شاباً! لأنه رسب في المستوى الواحد ثمان مرات، ويقول: إذا تخرجت تزوجت، وهذا سن الفتوة، وهذا عمار الحياة: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].
وبعضهم يقول: الزواج متاعب في الحياة، فإنه يتطلب مصاريف، ويحتاج إلى تكلفات ونفقة، والعجيب أن السلف الصالح على شبه إجماع أن من كان فقيراً فعليه أن يتزوج، كما قال تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32].
قال عمر: [[من كان فقيراً فعليه بالزواج]] كان السلف يرون أن الزواج هذا فاتحة خير، وهذا صحيح ومجرب بالاستقراء، أفقر الناس العزوبيين، حتى تجد براديدهم، وثيابهم ما هي من ثياب الناس ولا براديد الناس مكسرة مقربعة، الفقر معهم أينما حلوا وارتحلوا حتى المكاتب العقارية لا ترحب بهم، ولا تؤجر منهم، إذا دخل عليهم في الحارة سألوا عنه، فإذا قيل: عزوبي، قالوا: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، يذهب في كل مكان، أما المتأهل فالطيب يستقبلك من الشارع الثاني، والبخور والقهوة والشاي والمرطبات، هذه الحياة التي أرادها النبي صلى الله عليه وسلم، إلى متى يكون الإنسان عزوبياً؟! حتى يموت! أو يتزوج في الأربعين ويأتيه الطفل في الخمسين، ويموت وهو في الستين، طبيبة بلغت الثلاثين من عمرها ولم تتزوج، وأخرى بلغت الأربعين، وأخرى تتكلم وهي في الخمسين تقول: خذوا كل شيء وامنحوني زوجاً، ألمانية جلست تواصل دراستها ليست مسلمة، تقول: ليتني رابعة للمسلمين عند رجل مسلم، وتمدح الرسول صلى الله عليه وسلم أنه دعا إلى التعدد عليه الصلاة والسلام، يقول شوقي للرسول صلى الله عليه وسلم:
شعوبك في شرق البلاد وغربها كأصحاب كهف في عميق سبات
بأيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات(40/14)
الإعجاب والافتتان بالمشركين
أيضاً الإعجاب بغير المسلمين والمبالغة في الحديث عنهم وعن حضارتهم، والتشبه بهم في الملبس والهيئة وقص الشعر والتسريحات، وطريقة الأكل والشرب والتحدث وغير ذلك، حتى أصبحنا الآن نقلدهم في الفلل، الفلل الآن بنيت على طريقة الفلل الأمريكية، غرفة النوم يكشفها المطبخ في الدور الأرضي، ويكشف غرفة النوم في الدور الأعلى، درجة في وسط المنزل، فيدخل الداخل والضيف يرى كل شيء في البيت، أنا رأيت فلة كهذه، ودخلتها ورأيت أنها على الطريقة الغربية، وقد نبه بعض المفكرين في الرياض في شريط له عن مسار التفكير عند المسلمين عن هذه الظاهرة فيقول: الغزو الهندسي والمعماري في بناء البيوت، فهي على الطريقة الأمريكية، أو على الطريقة البريطانية أو الإيطالية أو غير ذلك، تجد الواحد منهم إذا سافر لا يتحدث إلا عن تلك الأمة، وعن عدالتهم، وعن حوارهم، وعن نظافتهم، وعن صدقهم، وإخلاصهم، تحدثه عن أبي بكر وعمر قفز لك عند شامير وريتر وبيتر، تحدثه عن المدينة، وهو يحدثك عن دالاس وعن تكساس، كل شيء هناك هناك، حتى إن بعضهم يقول: القوم هناك.(40/15)
متابعة الموضة وملاحقة أخبار الأزياء
أيضاً متابعة مايسمى بأخبار الموضة وملاحقة أخبار الأزياء، والحرص على اقتناء وشراء المجلات الباهضة السعر، يقول هاري فورد اليهودي: إن اليهود من أجل تحقيق غايتهم قد سيطروا على ثلاثة أمور، منها الأزياء.
هذه الأزياء دخلت على المسلمين دخولاً عظيماً، تصور أن المرأة تفصل لها ثوباً بألوف مؤلفة، الشُرْعة تصل بعشرين ألفاً أو بخمسة وعشرين ألفاً في عالم بعضه يموت في الخيام جوعاً، لا يجد كسرة الخبز.
ندعو الناس نقول لهم: تبرعوا يا جماعة الخير لبناء مسجد، الناس يصلون في المطر، ويصلون في الشمس، فيتبرعون من عشرة ريالات، ويشترط الواحد منهم بهذه العشرة فيقول: اللهم أدخلني على يمين الجنة، وابنِ لي فيها قصراً! صراحة يعذر كثير من الشباب أنهم لا يستطيعون الزواج، أنا أعرف أن المهر قد يكون مقبولاً نسبياً، لكن تصور أن هذا الشاب يكون زواجه في الصالة، وسوف يدعو إخوانه، وأقاربه، وجماعته، وقبيلته، وسوف يصنع وليمة تكلفه لحمه ودمه، وسوف يعطي أخوات هذه المرأة، وعماتها، وخالاتها، وقريباتها، والأمهات، والعمات، والجدات الأحياء منهم والأموات، وهو ليس شركة موزعة، إنما عنده مبلغ بسيط يريد أن يتزوج امرأة، أما أن يشتري لمجموعة من النساء فليس بصحيح.
أيضاً هذه فتنة، توزع مجلات الآن في أماكن يراها الكثير منكم، وتشتريها كثير من الفتيات يرسلن لها فتأتي بأسعار باهضة جداً جداً، وفيها صورة الفتيات والأزياء، والخلاعة، نسأل الله العافية والسلامة(40/16)
أخبار النجوم والإصدارات الوافدة
أيضاً من نقاط الضعف ومن السلبيات والدمار عند هؤلاء متابعة أخبار من يسمون بنجوم الفن والموسيقى، وتقليدهم في كل شيء، وتأثرهم بسلوكهم، فتجدهم معهم في كل مراحل حياتهم، يحتفظون بصورهم وتوقيعاتهم وأشرطتهم وأفلامهم وأخبارهم حتى الشخصية منهم، وإذا تاب الواحد منهم لا يتعظون به، بل يتركونه ويسقطونه من الحساب، ويبقون مع القديم منهم ممن بقي على الغواية، يقلدونهم في الغواية، ولا يقلدونهم في الهداية.
أيضاً افتتان الشباب بالصحف والمجلات وخاصة الوافدة، والمجلات الوافدة الآن تقارب ثلاثاً وعشرين مجلة، هذا حسب معلوماتي، وفيها خطورة، وفيها تهديد الفكر والمسار العقدي، ولا يعلم إلا الله عز وجل مدى خطورتها وجرمها، حتى عدها البعض من أخطر وسائل التغريب، وأبرز وسائل الغزو الفكري، وقد جاء في الإحصائيات أن عدد الصحف التي تصل إلى أسواقنا في الشهر تزيد عن أربعين صحيفة ما بين أسبوعية وشهرية، يزيد عدد نسخها عن خمسة ملايين نسخة شهرية، يصل أسواقنا ومدننا وبلادنا أكثر من خمسة ملايين، هذا في قطعة من العالم الإسلامي، فكم يصل مصر والعراق واليمن والكويت والمغرب والهند وباكستان وتركيا؟ وهذه كلها غزو فكري لتحويل جيل محمد صلى الله عليه وسلم عن مساره الطبيعي -الذي هو رفع لا إله إلا الله محمد رسول الله- إلى الانهيار، قرأت في بحث أن هناك حظراً على الجيش الإسرائيلي أن تدخل المجلات الخليعة، والبرامج الملهية التلفزيونية وغيرها، والأفلام الهابطة، إن كان صدق هذا البحث، يبقى الجيش محتفظاً بإرادته وبقوته وبكرامته وتأهبه في مواقع القتال، كل هذا يصرف الجيل عن القراءة المفيدة والاطلاع النافع في الكتب والسير والتراجم من النماذج المضيئة الخالدة التي حفل بها تاريخنا الإسلامي المجيد.(40/17)
الدعايات والإعلانات
والأخطر هي الدعايات والإعلانات التي طغت على إعلامنا ووسائله المرئية والمقروءة بشكل لا يصدق، حتى أصبح الأطفال والشباب والشابات والشيوخ والعجائز يصدقون الدعاية الإعلامية أكثر من تصديقهم لبعضهم، وقد أشارت دراسات إلى أن الفتيات أكثر تأثراً بالدعاية، وأسرع تجاوباً معها.
ومن الأمثلة الواضحة على ذلك ما جرى عليه الشباب والشابات خلف ما يسمى إعلامياً بآخر الصيحات في عالم العطور، والتي طغت على إعلانات الصحف والمجلات والتلفزيون، بل إن هناك لا فتات داخل الشوارع، وفي أطراف السكك، وعلى الأرصفة، وعند إشارات المرور، لوحات بعضها تشتغل بالكمبيوتر، تجلب الأذهان والأفهام إليها بدعاية شركة أو مؤسسة أو صورة أو شيء يجلب انتباه هذا الجيل وهذه الأمة؛ حتى يصبح الشاب والشابة لا هم له إلا ثوبه وشريطه وفيلمه وأغنيته، وتسريحته وموضته وزيه، يضيع مستقبله مع الله عز وجل، وحياته، وصراطه المستقيم، ضياع ألقي على الأمة الإسلامية لا يعلمه إلا الله، ضياعٌ صُب عليها صباً بتخطيط ماكر واستراتيجية عابثة، دبرتها كواليس الماسونية العالمية والصهيونية العابثة بالقيم، حتى خلعت هذه الأمة التي كانت في فترة من فترات التاريخ تقود الركب، وتتكلم على لسان الدهر، وتحكم ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، وأصبحت مفترية مغنية، راقصة، عابثة، متخلفة، فنشكو حالنا إلى الله(40/18)
ارتياد دور التجميل
من نقاط الضعف ارتياد محلات الكوافير ودور التجميل التي انتشرت هنا وهناك، هنا للتزيين، وهناك للقص، وهناك للتسريح، وهناك للدلك، كلها تعلن وتوزع، ورأينا نشراتها، ومعنا منها الكثير، وهذا عبث في مسار الأمة، وخطورة توجه للشباب والشابات، وقد طاوعها كثير منهم، وقد عبثت مثل هذه بشعور المسلمات، ولطختها بالصبغات، وأفسدتها بالمقصات، والعرب تقول:
ليس التكحل في العينين كالكحل
وقال المتنبي:
حسن الحضارة ممزوج بتطريةٍ وفي البداوة حسن غير مجلوب
فالحسن الذي أنبته الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والذي ما تدخلت فيه الأيادي العابثة، هو الحسن المطلوب وهو المقرب، ولذلك لعن الرسول صلى الله عليه وسلم النامصات، والواشمات، والواشرات، والمتفلجات للحسن، والمتشبهات من النساء بالرجال.
إن الجمال الخلاق أحسن وأكمل من جمال الحلاق، وإن الواحد الأحد أحسنَ صورةَ الإنسان وأبدعها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] فله الحمد وله الشكر(40/19)
التدخين
أيضاً من الظواهر عند هؤلاء: التدخين الذي أوله دلع وآخره ولع، وقد نجح الشيطان في جعل أبناء المسلمين يستبدلون السيجارة بالسواك، وقد جاء في إحدى الدراسات أن المدخن إذا كان يستغرق ست دقائق لشرب سيجارة واحدة، فإنه يهدر من وقته ثمان ساعات يومياً، أي: ثلث اليوم، ومائتين وأربعين ساعة شهرياً، وألفين وثمانمائة وثمانين ساعة سنوياً، أي ما يعادل مائة وعشرين يوماً في السنة الواحدة، خلاف ما يهدر من صحته ودينه وماله ومستقبله، فكل حياته عبث بسبب سيجارة واحدة.(40/20)
السفر لغير حاجة إلى بلاد الكفار
أيضاً من نقاط الضعف عند هؤلاء ومن المخالفات: السفر إلى الخارج بكثرة لا لحاجة، بل لغير حاجة؛ فإن بعضهم يسافر لا لدعوة ولا لطلب علم يستفاد من تلك البلاد، ولا لعلاج، وإنما فقط للضياع، بعضهم يجعل هذا مدعاةً للتفاخر في المجالس، وبعضهم يكدس أموالاً من رواتبه للعطل، ليذهب هناك في بلاد يعلم الله عز وجل ماذا يفعل، بل بعضهم جاهر لما نصح في مثل تلك البلاد وقالوا: اتق الله، قال: الله في الجزيرة فقط، سبحان الخالق الأحد الذي يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7].
{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219] {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:18 - 19] مع ما يحدث لهم من مشكلات هناك، وما يعاني أهل هؤلاء من مشقة من غيابهم، ومن ترك بيوتهم، ومن ترك أعمالهم، ومن ترك دراستهم، ومن إذهابهم لأموالهم ورصيدهم الذي كان يمكن أن ينفعهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، يلقونه في المعصية والعياذ بالله.(40/21)
المخدرات
أيضاً إدمان المخدرات، هذا الوباء الذي فتك بالأمة الإسلامية التي دلها رسول الهدى على سبيل النجاة، ولذلك كانت المخدرات أخطر على الأمة من البندقية والدبابة والصاروخ والقنبلة، وقد استعملها المستعمر في الصين عندما عجز في حروبه، قالوا: إن اليابانيين استعملوا سلاح الأفيون ضد الجيش الصيني، فانهزم عن بكرة أبيه، وأحياناً بعض الأمور وبعض الوسائل تهزم الجيوش، ولو لم تكن أسلحة، التقت داحس والغبراء في معركة ما غابت نجومها في ليلة من الليالي، فأتت قبيلة داحس إلى القبيلة الأخرى، وحملوا عطوراً معهم، ثم قالوا: لعطارة اسمها منشم إذا اشتبكت المعركة اذهبي إلى أولئك ووزعي بينهم العطور، فوزعت بينهم العطور، فلما شموا العطور، ماتت أعصابهم وارتخت، وتذكروا بالعطور أشياء أخرى، فانهزموا فأتى لهم هؤلاء بالسيوف، فيقول زهير بن أبي سلمى، يمدح هرم بن سنان وقيس بن زهير:
تداركتما عبساً وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجال بنوه من قريش وجرهم
يميناً لنعم السيدان وجدتما على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبساً وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
كيف تنتصر أمة شبابها غرقى وراء المخدرات، وفي السجون حبسوا من أجل حبوب لاهية عابثة، أرسلها الكافر إليهم في بلادهم؟
هؤلاء أحفاد عمر وخالد وصلاح الدين؛ تحولوا إلى هذا، ولكنا نرجو أن يعودوا وأن يعرفوا مستقبلهم، وليس على الله بعزيز، وأنا أطلب منكم مسألة وهي أمانة لمن يستطيع، وهي أن تهدوا لهم الأشرطة، خاصة مثل هذا أن تعطوه لواحد منهم، علهم أن يسمعوا ويعوا، وقد قال الله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ} [التوبة:6] وهذا للمشركين فكيف بالمسلمين؟!
أسمعه يا أخي الشريطَ، أسمعه المحاضرةَ، أسمعه الدرسَ، أسمعه الموعظةَ، تحدث إليه، ناقشه، حاوره، كن جريئاً، ادخل معه مباشرة، استضفه في بيتك، أركبه سيارتك، أما أن نبقى في عزلة، ويبقى بيننا وبينهم جسر، فهذا ليس بصحيح.
وكلما تذكرنا، قلنا: الله المستعان! ضاع شباب الأمة! ونحن من ضيعَ شباب الأمة، نحن المسئولون عن شباب الأمة، فلنتق الله فيهم.
أيها الإخوة الكرام! إن من الناس من عباد الله من يقاد إلى الجنة بالسلاسل، فاذهب إلى هؤلاء وقدهم بالسلاسل إلى جنة عرضها السماوات والأرض.(40/22)
التلفزيون والسينما
أيضاً مما هو عند هؤلاء مشاهدة المسلسلات التلفزيونية، ومتابعة الأفلام السينمائية، عن طريق أشرطة الفيديو، والتي نعلم جميعاً أنها تخالف تعاليم ديننا، وهدي رسولنا صلى الله عليه وسلم، وعاداتنا وتقاليدنا؛ لأنها تعتمد على الحب والغرام، والجريمة والقتل، والسرقة والرشوة، والاختلاط، وخروج المرأة، فتدبلج وتخرج في صور، وتبرمج مع دعاية، حتى ينشأ الطفل والعياذ بالله سارقاً أو زانياً أو شارب خمر.
حتى فيلم الكرتون أنتجته شركة يهودية إيطالية، يربون به الأطفال الصغار على مسألتين:
مسألة: حب المال، حب يطغى على حب الله، رأسماليين، فيظهر الطفل وقد وضع الدينار والدرهم والدولار على فمه ثم يبتلعه في بطنه ويكبر بطنه بهذا، فينشأ الطفل وأكثر ما يحبه المال.
والمسألة الأخرى: يربونهم على الجنس، طفلة وطفل يطاردها، ويقبلها، ويشاديها، ويناغمها، فينشأ الطفل متعشقاً، لابساً ثوب الجنز وهو لا يزال طفلاً صغيراً.
أيضاً ضياع الأوقات وصرفها فيما لا فائدة فيه: كالسهر لساعات طويلة، على مشاهدة الأفلام أو لعب الورق، أو الشطرنج، أو نحو ذلك من وسائل قتل الوقت، أو المعاكسات الهاتفية التي أزعجت البيوت ودمرت المنازل، وخربت الأسر، أو النوم لساعات طويلة في النهار، حتى تضيع أوقات الصلوات، وتفقد بركة العمر، ومنشأ هذا كله عدم معرفة قيمة الوقت.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوانِ
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثانِ(40/23)
الدواء الشافي
لقد عرضنا الأمراض، والأدواء، فما هو العلاج والشفاء؟
عند محمد صلى الله عليه وسلم صيدلية، يرسل منها عقاقير يحملها أتباعه على مر الدهر لمن أراد أن يتطبب ويتشافى بإذن الله ومنها:(40/24)
الأسئلة(40/25)
المحاسبة علاج لأمراض الشباب
من العلاج أن أوقف هؤلاء أمام ضمائرهم، وأمام إيمانهم، وتاريخهم، وأمام أمتهم، وأقول للواحد منهم: قف تدبر تأمل اتق الله في نفسك وفي مستقبلك، إنك قادم على الله: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8].
أيها الشاب! ألم يجعل لك ربك عينين ولساناً وشفتين وهداك النجدين؟!
أيها الشاب! ألم يقل الله لك ولأمثالك: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:1 - 3].
أيها الشاب! أنا أوقفك أمام تاريخك المجيد، وأمام سيرة الرسول العظيم عليه الصلاة والسلام، وأمام القبر، وأمام النشر، والميزان والصراط، وأمام الجنة والنار، أوقفك في يوم تتذكره أنت: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
يقول سيد في الظلال عند تفسير قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] قال: الجسد مكشوف، والضمير مكشوف، والقلب مكشوف، والصحيفة مكشوفة، والتاريخ مكشوف، أمام الله عز وجل.
أنا أوقف هذا الشاب الذي في الرصيف، والذي في المقهى والمنتدى، أوقفه بجسمه وبلحمه ودمه وشحمه وأعصابه وشعره وبصره وأظفاره، أوقفه أمام رب العالمين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، في يوم يقول فيه: لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6].
إنك متعب سواء تغني أو تصلي، سواء تسمع الموسيقى أو تقرأ القرآن، وكل سيلقى ربه فيحاسبه.
أيها الإخوة! أنا أعلم أن هناك شباباً ما كانوا يحافظون على الصلوات الخمس، أصيبوا بحوادث انقلاب سيارات، وذهبوا ضحيتها، أسأل الله أن يرحمهم، وأسأل الله أن يرحم كل من مات مسلماً، كنا نعزي أهاليهم؛ أمهاتهم وآباءهم، فيقول الأب وهو يبكي: ما علي ليته كان مستقيماً! إذن لهانت مصيبتي، لكن والله أتذكر أنه ما كان يحافظ على الصلوات الخمس، وكأن قلبي يتقطع، أنا أبكي على ابني لأنه يحاسب الآن في القبر عن الصلاة، يتقطع قلبي حسرة لهذا الابن؛ كيف يموت وهو ما كان طائعاً؛ لا أدري هل هو في روضة من رياض الجنة أم في حفرة من حفر النار! هذه مأساة لا يتصورها الإنسان.
الموت سهل، أن يموت لك ابن صالح، يلقى الله وهو صالح، يحافظ على الصلوات الخمس، عنده قرآن، وعنده ذكر، وعنده تسبيح، وعنده خير، وعنده استقامة، لكن أن يموت ابنك وهو عدو لله في صلاته وفي عبادته وفي سلوكه وأخلاقه، هذه مأساة كبرى لا يتصورها الإنسان.(40/26)
التفكر في نعم الله علاج يوقظ الغافلين
أيضاً يتفكر هذا الإنسان في نعمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، حيث أعطاه العينَ والسمعَ والبصرَ والفؤاد والنعم الوفيرة، أعطاه الشباب والقوة والمال، فهل جزاء ذلك أن يذهب ويعبث بهذه النعم؟! هل جزاء الصحة والفراغ والمال أن يذهب في الملاهي والمعاصي؟! أهكذا رد الجميل؟! أهكذا رد المعروف؟! الواحد منهم كالسارية، ولكن عند الصلاة لا يقوم ولا يتحرك: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4].(40/27)
التفكر في السيرة النبوية
أيضاً أوقفك مع رسولك عليه الصلاة والسلام، أيها الشاب الذي هو هناك لا هنا! لأنكم هنا أبرار، ونسأل الله أن يجعلهم أبراراً كما أنتم، أيها الشاب هناك! أمحمد صلى الله عليه وسلم أخرجك للدهر وللتاريخ بهذا المستوى، وأرادك أن تكون هكذا؟! إن محمداً صلى الله عليه وسلم أخرج لنا معاذاً وسلمانَ ومصعباً وبلالاً، نماذج في التاريخ الواحد منهم يساوي أُمَّةً ودهراً وتاريخاً، وأوقفك مع الناس، بل أولاً مع والديك، أوالدك وأمك يرضون هذا المستوى؟!
سلوا من يخالط المجتمع كخطيب الجمعة وإمام المسجد، أو من يكون له دعوة، سلوا كم من المشكلات تُعرض عليه، يأتيني شيخ في الستين من عمره يبكي وتدمع عيناه، قلت: مالك؟! قال: ابني فظ غليظٌ عليَّ يتهددني، تجد الواحدَ من الآباء ربى ابنه بدمه وبدموعه وبماله وبكل ما يملك، وأعطاه كل شيء في حياته، منحه الحب والسهر، وأعطاه المال، وجاع ليشبع، وظمئ ليروى، وسهر لينام، وتعب ليرتاح، وبعدما اكتمل نمو هذا الشاب، وأصبح قوياً، عقَّ أمه وأباه، وأغلظ لهما وطردهما، حتى أنه يوجد في المجتمع من لا ينفق على والديه وهم بحاجة إلى الصدقة والزكاة!
تصور أين شعور هذا الشاب الذي يأكل مع زملائه على الخضروات، وعلى الفواكه والمطعومات والمفروشات، ووالده في حاجة ماسة إليه! تصور أن بعض الآباء لا يبرهم إلا أبناء الجيران، تجده مع أبناء جيرانه إلى المستشفى، وإلى المسجد، وإلى المحاضرة، وإلى الدرس، فتسأله أين ابنك؟ قال: عقني وتركني وعصاني، هذه مأساة أيضاً مع الناس.
تصوروا -أيها الإخوة- كم خسرنا من شباب لو أنا استفدناهم، ولو أني وإياكم كنا صادقين، لذهبنا إليهم وجلسنا معهم، وأهدينا لهم الشريط الإسلامي والكتيب، وزرناهم وتفقدنا أحوالهم، وأتينا بهم، إذن سيكون مع هذا الجمع مثله خمس مرات، لكن قلنا: أنفسنا! وسكتنا، وحضرنا واستمعنا، وخرجنا وما قدمنا شيئاً.
أيضاً أنا أنادي هذا الشاب: هل هو يرضى حياته هذه؟! أيرضى أن يكون ابنه مثله؟! إما مروج مخدرات، أو متعاطياً لها أو سامعاً للأغنيات تاركاً للصلوات، أو نازلاً في الشهوات؟!! والله لا يرضى إذا كان عاقلاً! لكن سبحان الله! الهوى يعمي:
إذا ما لم يفدك العلم خيراً فليتك ثم ليتك ما علمتا
وإن ألقاك فهمك في مهاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا
مشيت إلى الصروح بغير علم لعمرك لو وصلت لما رجعتا
تفر من الهجير وتتقيه فهلا من جهنم قد فررتا
وتشفق للمصر على الخطايا وترحمه ونفسك ما رحمتا
هو يرحم الناس، أنت لو ذكَّرت شاباً برجلٍ يعذب في النار لربما بكى، ولكن نفسه هو لا يتأملها ولا يدعوها ولا يذكرها.(40/28)
باب التوبة مفتوح
أيضاً أقول لهم: باب التوبة مفتوح لي ولكم ولكل مسلم، ولا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، بشرى: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيءُ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها}.
طوبى لمن يأتي إلى الله تائباً! فتوبوا إلى الله جميعاً أيها الشباب، ولا يقل أحدكم: لطخت صحائفي؛ فهذا أدعى لك أن تتوب،؛ حتى تغير الصحائف إلى حسنات، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
تدرون من هو أجرم الناس؟ إنه فرعون الطاغية، أرسل الله له موسى، فقال: لعله يتذكر أو يخشى، يقول أحد العلماء: لا ييأس أحد من رحمة الله؛ فإن الله قد دعا فرعون إلى رحمته، بل قد دعا الله إبليس، إلى أن يتوب، فكيف بك وأنت من أسرة مسلمة، وأنت تحب الله، وأنت تسأل الله التوبة؟ إن الله لا يخيب سعيك.
أيها الإخوة! أدعو نفسي وإياكم ألا نُقنِط الناس من رحمة الله، وألا نجعلهم يائسين من رضوانه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ومن قبوله، يروى في الأحاديث الإسرائيلية أن قارون فعل الأفاعيل مع موسى عليه السلام، حتى دبر عملية، وأرسل زانية أعطاها قنطاراً من الذهب لتدعي أن موسى عليه السلام زنى بها، فلما اجتمع بنو إسرائيل قام موسى خطيباً، فقامت هذه المرأة تضرب وجهها، وتشق شعرها وتصفق وتولول، فوقف موسى عن الكلام، قال: مالك؟! فقالت: موسى زنى بي، فوقف موسى واجماً مذهولاً، ووقف بنو إسرائيل، فقال: أسألك بمن شق البحر لي أفعلت ذلك؟ قالت: لا والله، قال: من أعطاك؟ من أرشاك؟ من دفعك؟ قالت: قارون، قال: اللهم خذ قارون أخذ عزيز مقتدر، وكان قارون في بيت من ذهب في غرفة مشرفة كالمصطبة، وكالدكان المرتفع من ذهب، فأخذ بيته ينزل في الأرض، وقد حبست أقدامه في البيت حتى لا يفر، كما قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:81].
أخذ البيت ينزل تدريجياً تدريجياً في الأرض، يسقط ويغوص، فأخذ يولول: يا موسى! يا موسى! وهو قريب لموسى، يناديه حتى ينقذ الموقف، فسكت موسى، صامتاً مجروحاً يريد أن ينتقم منه، حتى أخفي وبيته تماماً عن وجه الأرض، فقال الله لموسى: يا موسى ما أشد قلبك! وما أغلظك! وعزتي وجلالي، لو دعاني بكلمة مما دعاك به لأنقذته.
وموسى رفض لأنه قد فعل الأفاعيل وذهب قارون إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم.
وكذلك لابد من رد الإخوة إلى الله عز وجل، وتذكيرهم بأن الرب الرحيم يغفر الذنب، ويتجاوز سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عنه.
إن السعادة يا شباب الإسلام في الاستقامة، وفي العمل الصالح، ليس هذا شعاراً، سلوا من كان لاغياً ثم تاب، سلوا من عرف الذكر والقرآن وصلاة الجماعة وحب الصالحين وحضر دروس الخير.(40/29)
الصبر والنظر إلى معالي الأمور
أيضاً أوصي أولئك الشباب إذا اهتدى الواحد منهم أن يستمر وأن يصبر، وأن يواظب، ولا يظن أن الهداية كلمة تقال، يوماً أو يومين: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
فعليه أن يصبر حتى يفرج الله عز وجل كربه، حتى يجعل الله له الإيمان كالغذاء: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
أيضاً على هؤلاء الشباب أن ينظروا إلى معالي الأمور، فليس المقصد عندنا تجارة ولا بلوت، ولا أغنية ولا لهو ولا لذة عندنا مقاصد مهمة، جنة عرضها السماوات والأرض، حب الله ورسوله، ورفع الدين في العالم، وتصحيح مسار الأمم، وإعادة التاريخ من جديد مشرقاً، وحمل الهداية إلى الناس، ورد العاصين إلى الله، وإعمار الدنيا، وإقامة العدل في المعمورة، هذه مقاصدنا و:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
قارن بين هؤلاء وبين مصعب بن عمير , وعبد الله بن عمرو الأنصاري ومعاذ بن جبل، تجد البون الشاسع:
لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعدِ
عندي عواطف وأشواق، ولو أعلم أني أستطيع لذهبت لكل واحد في مكانه، وسلمت عليه وعانقته، صدقوني لا أقوله من باب تزكية النفس، والله أعلم بما عندنا من التقصير، والله إني أفرح إذا رأيت الشاب الذي بدأ لأول مرة في الالتزام حتى لا تظهر عليه علامات الالتزام أنه ملتزم، إذا عانقني وإني أسلم عليه، وإني أفرح أنه يهتدي وأنه يحضر الدرس، وأنه أحب الدعاة، وأنه اقترب من طلبة العلم، حتى كأنه أهداني شيئاً عظيماً، فلله الحمد.
يا إخوة: لا نقابل هؤلاء مقابلة فظة غليظة.
أحدهم يريد الهداية فتقول له: يا عاصي الله ورسوله تأتينا وتسلم علينا، ليس هذا بمجلسك، هذا مجلس غيرك، أعوذ بالله!
بعضهم يشكو في رسائل من الفظاظة والغلظة والمقابلة الباردة التي ليست مقابلة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكسب الناس كالمغناطيس، يقول أحدهم في الرسول صلى الله عليه وسلم:
محاسنه هيولى كل حسن ومغناطيس أفئدة الرجال
يأتيه المشرك وهو يعبد الصنم، فيقبله ويعانقه، ويهش له ويبش، ويجلسه ويطعمه، فيصير جندياً من جنوده، ويجره الأعرابي ببردته، فيضحك ويتبسم له ويكسبه معه، فيعود الأعرابي داعية إلى قبيلته، فتسلم قبيلته عن بكرة أبيها.
دعونا من هذه المواجهات الساخنة مع الناس، أو الكلام الفظ الغليظ الذي يكسر بيننا وبينهم الزجاج، أو يقطع جسور المحبة، اجعلونا نصل الحب ونسكبه في قلوبهم حتى يشعروا أنا إخوانهم، وهم أبناء العمومة، وهم أبناء الجيران، وأبناء الخال، ما فاتوا عنا، وما فتنا عنهم.(40/30)
الحث على الاقتداء بالرسول قولاً وفعلاً
أيضاً أدعو أولئك الشباب، وأسألهم سؤالاً، وأوقفهم أمام التاريخ، وأوقفهم أمام الأيام، أمام الدهر، وأوقفهم أمام الكرة الأرضية بأسرها، من هو قدوتهم؟ أنا أعرف أنهم سوف يقولون لي: إن قدوتهم محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا باللسان وليس بالفعال، لكن الواحد منهم يقتدي بمغنٍ أو بلاعب أو بموسيقار عابث، أنا أدعوهم أن يقتدوا بخير من خلق الله، أنا أدعوهم أن يقتدوا بصفوة الله من خلقه، أنا أدعوهم أن يتأسوا بأصدق من خلق الله، وأكرم من خلق الله، وأبر من خلق الله، وأحلم من خلق الله، بأبي هو وأمي:
يا قاتل الظلم فارت ها هنا وهنا فضائح أين منها زندك الواري
يا صاحب المثل العليا وهل حملت روح الرسالات إلا روح مختار
أنا أسألهم أن يقتدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن يدرسوا سيرته، ليست السيرة الجزئية التي صورت لهم محمداً صلى الله عليه وسلم أنه متعبد في مسجد دعا مرةً في مكة، ومرة في المدينة، وأن عنده بعض الصحابة كان يدرسهم بعض الأحاديث، محمد صلى الله عليه وسلم فجر للأمة، محمد صلى الله عليه وسلم رحمة؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
محمد عليه الصلاة والسلام بركة، محمد معصوم، محمد نعمة لهذه الأمة، أنقذها من الظلمات، وأخرجها إلى النور، قادها بإذن الله، أنا أدعوهم أن يقتدوا به، فهو قدوة الناس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
سيد قطب يقول في الظلال، وقد كان في مصر وهو في الأربعين من عمره، وكان في القاهرة، يقول ذلك في سورة النجم، ونعود إلى الظلال حيث القصة، كان يستمع يقول: فسمعت فجأةً صوت الراديو عند أحد جيراننا، يقرأ المقرئ في الراديو سورة النجم، فسكت أنا وزملائي لأسمع المقرئ وهو يقرأ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] فصحبت الرسول بروحي وعشت معه، وفارقت المجلس الذي أنا فيه، أبقيت شبحي معهم، أما روحي فقد ذهبت وسافرت، فمشيت مع الرسول صلى الله عليه وسلم في رحلة إلى العالم العلوي، وعشت مع الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تفجرت باكياً، وحاولت أن أحبس من هزة جسمي، فتحول جسمي إلى هزات عضلية، هكذا قالها في معاناته، أنا أريد الشباب أن يعيشوا القرآن، وأن يعيشوا حب الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يعيشوا الأشواق والحب الحي الذي يسري في كل ذرة من ذرات دمائهم.
أيضاً من الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم: أن تدرس هديه دراسة واعية، من زاد المعاد ومن أمثاله من الكتب، حتى تكون على بينة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.(40/31)
تذكر الموت
أخيراً: أذكر أولئك الشباب بالموت قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8].
عمرو بن العاص الفاتح المسلم والداهية العظيم، في سكرات الموت، في ساعة الصفر قال له ابنه عبد الله: [[يا أبت! أسألك بالله أن تصف لي الموت، فقد أصبحت أنت في الموت، في ساعة لا تكذب فيها، قال عمرو: والله يا بني لكأن جبال الدنيا أصبحت على صدري، وكأني أتنفس من ثقب إبرة]].
وقال عمر بن الخطاب لـ أبي بن كعب: [[أسألك يا أُبي أن تصف لي الموت، قال: يا أمير المؤمنين! مثل الموت كشجرة كثيرة الشوك في جوف ابن آدم، فليس منه عرق ولا مفصل، وهو كرجل شديد الذراعين، فهو يعالجها وينتزعها، فلا تبقى شوكة إلا انتزعت عرقاً أو مفصلاً حتى تخرج كل شوكة بعرق، فبكى عمر حتى كاد يغشى عليه]].
الموت صعب! السكرةُ الواحدةُ منه تعادل ما يضرب به إنسان سبعين ضربة بالسيف، محمد عليه الصلاة والسلام أبر الناس: لما حضرته سكرات الموت كان يقول: {لا إله إلا الله! اللهم هون علي سكرات الموت، اللهم خفف علي سكرات الموت} أنا أذكر أولئك الذين يجلسون الآن في المقاهي والمنتزهات، الآن يلعبون البلوت، الآن مع الأغنية، ومع المجلة، ومع الضياع، أذكرهم بالموت، فإذا لم يتذكروا فلن يتذكروا أبداً، خوَّف الله حتى اليهود بالموت، وقال: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة:106] {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
هُوَ الموتُ ما منه ملاذ ومهرب متى حط هذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها لعل الردى مما نرجيه أقربُ
ونبني القصور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنا نموت وتخربُ
كان سفيان الثوري إذا ذكر الموت مات كل عضو منه في جهة، وبعض الصالحين حفر له قبراً يراه كل يوم ليتذكر الموت، دخل بعض الصالحين على بعض السلاطين الظلمة فأراد أن يبطش به قال: أذكرك الموت فوقف، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {أكثروا ذكر هاذم اللذات، فما ذكر في كثير إلا قلله، ولا في قليل إلا كثره} آخذ البنين والبنات، مفرق الجماعات، مهدم البيوتات.
أنا أذكر أولئك الشباب ألا يغتروا بالصحة ولا بالسيارة ولا بالفلة، ولا بالوظيفة، أذكرهم بالموت، وكل يوم نحمل شباباً إلى القبر، ونصلي على مجموعة من الشباب، ونسمع أخبار حوادث السيارات، وهي تلقي بأولئك الشباب أقوياء الأجسام، خرجوا من بيوتهم، جيوبهم مليئة بالدراهم والقروش والدنانير، وبطونهم مليئة بأنعم الله، خرجوا وهم يغنون ويطبلون ويرقصون، وعادوا جثثاً إلى بيوتهم، افترستهم الحوادث، فأصبحوا شذر مذر، فلا استطاع أحد منهم أن يقدم أو يؤخر أجله ساعة، ولا يعود ليستأذن والدته ووالده ولا يقبل أهله {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].
خرجوا بساعات في أيديهم، وبملابس جميلة، وخرجوا بعطورات، وخرجوا في شخصيات وبهيئات، وخرجوا ببزات، ثم سلبوا كل ما خرجوا به، ثم حفر لهم في الأرض حفرة، وغسلوا بالماء، وأْرِجوا في قطعة قماش: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
أتيت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقر
وأين المذل بسلطانه وأين العظيم إذا ما فتخر
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا أمالك فيما مضى معتبر
تروح وتغدو بنات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور
أسأل الله أن يغفر لنا ولمن مات من أموات المسلمين، وأن يرد شباب المسلمين رداً جميلاً.
اللهم رد شباب المقاهي إلى المساجد، وشباب المنتزهات إلى الصلوات، وشباب النوادي إلى نوادي الحق والعلم والذكر، اللهم رد العابثين صالحين، ورد المفسدين مصلحين، اللهم ارحمهم بالتوبة النصوح، اللهم وفقهم للعمل الصالح، اللهم ائتنا بهم في مجالس الخير والعلم والطهر والعفاف، اللهم أنقذهم من الظلمات يا رب العالمين، واجمعنا في دار الصالحين في دار الكرامة يا أرحم الراحمين!
أخوة الإيمان! في ختام هذه المحاضرة أرجو أن تكون رسالة تبلغ أولئك مع حبي وأشواقي، وسلامي ودعائي لهم في ظهر الغيب، وأشكر بالمناسبة الذين كتبوا لي رسائل واقتراحات وشاركوا في هذا الموضوع باقتراحاتهم وإرشاداتهم ببعض الملامح، وتحمسوا لهذا الموضوع الحار أشكرهم، وأسأل الله أن يثيبهم على ما فعلوا.
أخ في الله قدم لي رسالة، كنى نفسه أبا البراء، أشكرك يا أبا البراء! وأسأل الله أن يكتب لي ولك وللحضور براءة من النار، أشكرك على رسالتك، وأنا أتيت على أسفلها في المحاضرة، وهو يشكو من ضياع الأوقات عند الشباب ومن اهتمامهم بالمظهر على حساب المخبر، ومصاحبتهم للأشقياء، ومن هممهم الرخيصة التي لا تعدو عن الرياضة، وعالم الفن، وعالم الصور، وعالم الأزياء، وعالم الموضات الجديدة، أشكرك شكراً جزيلاً، وقد أتيت في المحاضرة على ما ذكرتَ.(40/32)
توبة المغنين
السؤال
يسألني بعض الإخوة عن توبة بعض المغنين هل هو صحيح؟
الجواب
ادعوا الله أن يتوب علينا وعليهم، وأن نراهم قريباً في دروس العلماء والمشايخ والدعاة.(40/33)
عقوق الوالدين
السؤال
يقول أحد الإخوة وكتب بالخط الأحمر، أنا دائماً أعق والدتي والعياذ بالله، كلما حاولت أن أبتعد وجدت في نفسي عقوقاً، فأنا عاق، فماذا تنصحني؟
الجواب
أولاً: أسأل الله أن يلين قلبك لوالدتك.
ثانياً: اتق الله في هذه المرأة التي خَرَجتَ قطعة منها، ولا أعرف أن إنساناً قدم جميلاً لإنسانٍ آخر أعظم مما قدمته الأم لولدها، ولا يمكن أن يكافئ الولد أُمَّه مهما فعل.
[[رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلاً من أهل اليمن، يحمل أمَّه عجوزاً على منكبيه يطوف بها في البيت، في حرارة الشمس في الظهيرة، يوم تتوقد الشمس في مكة، يطوف بها حول الكعبة، وهذا الرجل المسلم اليمني يسيل عرقه، وقد بلغ به الإعياء مبلغاً عظيماً لا يعلمه إلا الله، فلقي ابن عمر رضي الله عنه، قال: يا ابن عمر! أسألك بالله هل كافأت أمي بما قدمت لي، وبما فعلت لي من جميل؟ قال: لا والله ولا بزفرة من زفراتها]] فاتق الله! تذكَّر كيف وضعتك، وكيف حملتك، وكيف أرضعتك، وكيف غسلت عنك الأذى، وكيف ألبستك، وكيف أطعمتك، وكيف سقتك، إن الذي عنده دم وعقل، وعنده مروءة ودين، يتفكر، أنا أتركك تتفكر وتتأمل، ولا أزيد على ذلك.(40/34)
مدمن خمر يطلب الهداية
السؤال
أنا كنت مدمن خمر، وأنا جئت من مدينة أخرى خوفاً من العار، فدلوني؟
الجواب
أولاً: حياك الله في هذا المجلس، ولله الحمد أن حضر معنا تائب هذه الليلة، فهو مكسب عظيم، ما هي مكاسب أهل الدنيا مع مكاسبنا، صفقة تجارية، عمارة، أرض، سوق، نحن والحمد لله مكاسبنا أجيال تهتدي، فلك الحمد يا رب، فأنت الهادي، ليس عندنا شيء، ولا منا شيء، ولا عملنا شيء، لكن لله الحمد هذا تائب حضر هذه الليلة ضيفاً عليكم، أسأل الله أن يثبته، وأسأل الله أن يستره، وأسأل الله أن يحفظه وأن يزيده إيماناً.(40/35)
من آثار الرفق في الدعوة
السؤال
أنا شاب كنت في مجلس من مجالس اللهو مع مجموعة من الشباب نسمع الغناء، وأنا أول مرة أراك وأحضر هذا الدرس، عمري الآن حوالي تسع عشرة سنة، وقد سررت بهذا الدرس، وكنت أظن أن الدروس فيها تشديد، ولكن الحمد الله أعجبني الدرس وحضرت، حفظت ستة وثمانين بيت غناء، فأريد أن أمحو هذا، فكيف تأمرني؟ وكيف تدلني؟
الجواب
أسأل الله أن يمحو النفاق والشك والشبهة من قلبك، وأن يقذف في قلبك الإيمان، وأن يهديك سواء السبيل، أنا أقول: واصل الحضور، واستمع الشريط الإسلامي، وصاحب الدعاة وطلبة العلم، وأكثر من الدعاء بدءاً من الآن أن الله يهديك ويردك إليه رداً جميلاً.
خاتمة:
أيها الإخوة! سوف أجعل في كل أسبوع كتاباً أدلكم عليه، لا أقرأ الكتاب، ولا أعرف أفكاره، وإنما أدلكم عليه، كل أسبوع إن شاء الله إذا تذكرت، وهذه مسئولية الإخوة أن يذكروني، كل أسبوع أختار لكم من المكتبة الإسلامية كتاباً لا طويلاً مملاً ولا قصيراً مخلاً، سوف يكون هو مادتكم خلال الأسبوع، اخترت لكم كتاباً بديعاً رائعاً جميلاً مجيداً، هو صيد الخاطر لـ ابن الجوزي، مجلد واحد في ثلاثمائة صفحة، أو ما يقاربها، بسبعة ريالات، فإن غلا فبعشرة ريالات، اسمه صيد الخاطر، أطلب منكم أن تقرءوه، ومن يستطيع منكم أن يقرأه ثلاث مرات، فليقرأه، صيد الخاطر هذا عجب من العجب، كتبه ابن الجوزي بعد أن بلغ السبعين من عمره، فدبجه، وشارك بدمه، وقلبه وعمله وفكره، ليس معصوماً، لكنه أجاد كل الإجادة، كتاب ليس فيه تكلف، كتاب يحدثك ويسامرك ويعيش معك، صيد الخاطر لـ ابن الجوزي، لأن هناك فيض الخاطر لـ أحمد أمين لكن:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم
فهم الفتى الأزدي إتلافُ ماله وهم الفتى القيسي جمع الدراهمِ
فلا يحسب التمتام أني هجوته ولكنني فضلت أهل المكارمِ
ولعلي أراكم بعد أسبوع في كتاب آخر، لكن أنا لا أبيع وليس عندي مكتبة، حتى تقولوا أني أعمل لي دعاية، ولكن أحببت هذا الكتاب حتى جعلته عند رأسي أقرأ منه، حتى يقولون عن كتاب علي الطنطاوي: هذا الكتاب له القصة -لأنه قدم له- أخي ناجي القاضي، كان عند رأسه كل ليلة حتى كاد يحفظه عن ظهر قلب، والحقيقة أني رأيته أكثر مما قاله الأستاذ وأرفع وأجل وأحسن، وليس هذا من المبالغات، وفيه بعض الأمور مما في كلام البشر، أبى الله أن يكون الكمال إلا لكتابه، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].
ففيه بعض الأمور، لكن أنا أنصح طلبة العلم أن يقرءون كثيراً كثيراً، ومن أراد أن يكتب لي عنه ملاحظةً، أو يستفسر قضية فيه، فأنا مستعد أن أفاوض فيه، أو يتصل بي، أو يلقاني.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كبيراً.(40/36)
أيها العاق!
إن الأمة الإسلامية اليوم تعيش في ضياع ونكبات وويلات وفتن عظيمة، وماذاك إلا جزاء من الله سبحانه وتعالى بسبب ماظهر منها من عقوق، فترى الشاب يعق والديه، وتجد المسلمين يعقون خالقهم ونبيهم، ويبتعدون عن منهجه وأحكامه.
فالأمة تعيش في عقوق: عقوق الله، عقوق النبي صلى الله عليه وسلم، عقوق الوالدين، عقوق لعلماء الأمة، عقوق للملتزمين.(41/1)
عقوق الوالدين
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم صلِّ وسلِّم على أذن الخير الذي استقبل وحي السماء فبلَّغه بأجمل عبارة، وأوصله بألطف إشارة، أنقذ الأمة من الهاوية، وكشف الغمة وأخرج الجيل من الظلمات إلى النور، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس! عنوان هذه الخطبة: أيها العاق!
العقوق الذي تعيشه الأمة صوره كثيرة، ومن أبرز صور العقوق:
عقوق الابن لأبيه ولأمه، اكتظ الحرم في الطواف بالحجاج والشمس حارة، والناس واقفون عند الكعبة المشرفة يسألون المولى، وبين الألوف المؤلفة حاج من اليمن، يحمل أمه على كتفيه، تصبب عرقه، واضطربت نفسه، وكلَّ متنه وهو يطوف بها لأنها مقعدة، ويرى أن من الواجب عليه أن يكافئ الجميل، فهذه العجوز المقعدة الجالسة على أكتافه كان في فترة من الفترات جنيناً بين أحشائها، وكان طفلاً في بطنها، أرضعته، وضمته وقبلته، سهرت لينام، وجاعت ليشبع، وضمئت ليروى، فظن أنه كافأها حقاً بحق، ومر هذا الحاج وابن عمر الصحابي الجليل واقف عند المقام، فقال: السلام عليك يا ابن عمر! أنا الابن وهذه الوالدة، أترى أني كافأتها؟ قال ابن عمر: والذي نفسي بيده ولا بزفرة من زفراتها، ولا بزفرة واحدة.
لا يأتي هذا التعب والعرق والجهد والإعياء ولا بزفرة واحدة زفرتها في ساعة الولادة.
هذه صورة واحدة من صور المعاناة التي يقدمها الوالد وتقدمها الوالدة لهذا الإنسان.(41/2)
صورة من عقوق الوالدين
جلس الرسول صلى الله عليه وسلم بين أصحابه وإذا بشيخ كبير يدلف عليهم يتكئ على عصا، احدودب ظهره ورق عظمه واشتعل رأسه شيباً، وقف على رأس المعلم الجليل يشكو إليه مظلمة، فمن ظلمه؟ أيهودي ظلمه؟ أنصراني اعتدى عليه؟ لا.
إنه ابنه، يشكو ودموعه تهراق من رأس لحيته، يقول: يا رسول الله! ابني ظلمني، قال: وماذا؟ قال: ربيته يا رسول الله! حتى أصبح كبيراً، جعت ليشبع، وظمئت ليروى، وتعبت ليرتاح، فلما اشتد ساعده تغمط حقي وأغلظ لي ولوى يدي، قال عليه الصلاة والسلام: وهل قلت فيه شعراً؛ لأن العرب أمة شاعرة تشكو شجونها في أبيات وتخرج مكنونها في عبارات، قال: نعم يا رسول الله! قال: ماذا قلت؟ قال: قلت له:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجري عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا شاكياً أتململ
يقول: إذا زارك المرض وأتتك الحمى أيها الابن! فكأني أنا المريض والمحموم لا أنام كما تنام أنت.
كأني أنا الملدوغ دونك بالذي لدغت به دوني فعيناي تهمل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
فدمعت عيناه عليه الصلاة والسلام، وبكى أصحابه وقال: علي بابنه، فذهب الصحابة فقادوا ابنه، فإذا هو في جسم البغل، فأوقفه أمامه وأخذه بتلابيب ثوبه، وهزه المعصوم وهو يبكي ويقول: {أنت ومالك لأبيك} أي أنك شبه الرقيق لهذا الوالد يبيعك ويشتريك، وما أنت إلا من متاعه ودنياه، وهو من أسباب إيجادك بعد إيجاد الله.
هذا موقف الوالد والولد.
إنَّ هذه الصورة تتكرر في اليوم مرات من أناس شبوا عن الطوق، قويت سواعدهم، واشتدت كواهلهم وكبرت جماجمهم؛ فعقوا ربهم أولاً، فما عرفوا بيوته وأعرضوا عن كتابه، وعن سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ثم عقوا الوالدين في وقت الضعف، وليس الوالد أو الوالدة في وقت قوة لكن في أرذل العمر.
أذهب الوالد شبابه، وفتوته وصحته وقوته من أجل هذا الشاب، فلما أصبح ثمرة الحياة أمامه وأصبح مستقبله يتمثل في هذا الشاب عقه، فما ترى إلا الشيوخ وهم يبكون، وكم رأينا من طاعن في السن يدب على الأرض دبيباً يشكو ابنه، ونحن نرفع شكواه إلى الواحد الأحد الذي ينصف سبحانه ولا تسقط عنده مظلمة.(41/3)
صورة من بر الوالدين
يروي لنا المعصوم صلى الله عليه وسلم قصة ثلاثة خرجوا في الصحراء من بني إسرائيل وأظلم عليهم الليل البهيم، فصعدوا جبلاً ودخلوا غاراً فانطبقت عليهم الصخرة فسدت بوابة الغار، فلا اتصال ولا عشيرة، ولا قبيلة ولا أهل، وهذه ساعة الاضطرار: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62] {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67] وهذه هي وحدانية التحدي عند أهل التوحيد، وهي تعني ألا يجيب المضطر إلا هو، ولا يكشف المكروب ولا يفرج عن المغموم إلا هو، ولا يجيب صاحب الحاجة ولا يكشف الضر إلا هو.
ولقد ذكرتك والظلام مخيم والأسد تزأر في ربا الصحراء
في وحشة لو غبت عني ساعة لحسبتني شلواً من الأشلاء
ضل الرفيق فلست أدعو غير من خلق الوجود مصور الأحياء
هذا هو الله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10] أتوا يدفعون الصخرة فما اندفعت، لا طعام ولا كساء ولا شراب؛ موت محقق!.
فاتصلت حبالهم بحبل الله، الذي يدعوه المظلوم في ظلمات الليل فيسمعه، يونس بن متى في ظلمات ثلاث، ظلمة الليل وظلمة اليم وظلمة الحوت، فهمس في الظلمات بكلمة قوية: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" فأنقذه، قال الثلاثة: والله لا ينجيكم أحد إلا الله، فادعوه بصالح أعمالكم.
فقام الأول -وهو الشاهد- فتذكر أعماله فلم يجد أحسن ولا أرجى ولا أطيب من بره بوالديه، فخاطب الله علاَّم الغيوب، الذي يعلم السر وأخفى، قال: {اللهم إنك تعلم أنه كان لي والدان شيخان كبيران، وكنت لا أُقْدِّمُ عليهما أهلاً ولا ولداً، وقد غبت ورحت عليهما -غاب في غنمه وإبله- قال: فأتيت وإذا هما قد ناما، فحلبت غبوقهما -وهو الشراب من اللبن في المساء- وقمت بالإناء وأتيت به فوجدت الوالدين نائمين -انظر إلى الصورة انتظرا ولدهما ليأتي باللبن فتأخر فناما، فأتى بالإناء مترعاً باللبن ووقف، ومن البر أنه لم يوقظ والديه، لكيلا يزعجهما من النوم، فكيف بالذي أزعج والديه في الليل والنهار؟ وكيف بمن أبكى والديه صباح مساء؟ وكيف بمن أدخل المشاكل في بيت والديه؟ وأذاقهما المر الأمر وقد أذاقاه السعادة والراحة- وقف باللبن فقال: فكرهت أن أوقظهما وأطفالي يتضاغون عند قدمي من الجوع يريدون اللبن -لكن اللبن من نصيب والديه- قال: فلم أقدم أطفالي، ولم يسقِ أطفاله قطرة واحدة، وفلذاته يتقطرون تحت قدميه ويتضاغون كفروخ الطير من الجوع، قال: فقمت بالإناء من صلاة العشاء حتى لمع الفجر، فاستيقظا من نفسيهما، فقدمت الإناء فشربا، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك؛ ففرج عنا ما نحن فيه، فتدهدهت الصخرة} من عظم الخطاب، ومن قوة الجواب، ومن جلالة المقام، صخرة عاتية دهدهها الله بأنه استجاب، ثم تكلم الاثنان.
والشاهد هنا البر وكيف أوصل هذا الرجل إلى درجة أن يزحزح الله الصخرة عنهم.(41/4)
عاقبة قاطع الرحم
يقول المعصوم عليه الصلاة والسلام: {لا يدخل الجنة قاطع} وما له حتى يدخل الجنة؟ ولماذا يدخل الجنة؟ ولماذا يقترب من أبواب الجنة وقد قطع والديه؟!
الرحم خلق من خلق الله؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لما خلق الله الرحم تعلقت بالعرش -بعرشه هو- قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة -معنى الكلام: أشكو إليك القطيعة في الدنيا، أنصفني من القاطع- قال الله لها: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأن أقطع من قطعك، قالت: بلى.
قال: فذلك لك}.
فالقاطع يقطعه الله، قال تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].
والله سبحانه قرن بالوحدانية المتفرد بها حق الوالدين فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً.
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24].
كلمة "أف" لا يجوز إطلاقها على الوالدين، فكيف بمن تنعم في القصور والفلل، وأهان والديه! وكيف بمن قدم زوجته على أمه! وكيف بمن أغلظ لهما في الخطاب! وعصى في الجواب! وفظ في التعامل! إنها صور تحدث في المجتمع، يعرفها من يعيش في المجتمع بآلامه وببؤسه وبمشكلاته، فنشكو حالنا إلى الله.(41/5)
السلف وبر الوالدين
أيها الناس! البارّون لهم قصص عَبر التاريخ، يضربون أروع الأمثلة، منهم الإمام ابن سيرين حيث بلغ من بره بوالدته أنه قال: والله ما ارتقيت سطح بيت ووالدتي في البيت -لئلا يرتفع عليها- كان يقدم لها الطعام فلا يبدأ حتى تبدأ، ولا يأكل من الإناء الذي تأكل هي منه، فقيل له: لمَ؟ قال: أخشى أن تقع عينها على شيء من الطعام فآخذه فأكون عاقاً، وكان إذا جلس أمامها لا يبدُّها بصره، بل كان يخفض البصر كأنه عبد مملوك، وهذا حق الوالدة.
والإمام أحمد جعل من نفسه -وهو إمام أهل السنة والجماعة - خادماً لوالدته في البيت -خادماً بمعنى الكلمة- يغسل ثيابها، ويصنع طعامها، ويكنس بيتها، وهذا تاجٌ على رأسه يلقى الله به: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
ما فائدة العلم والثقافة!؟ وما فائدة التبجح بالإسلام صباح مساء؟! وهذا العقوق الصارخ يدوي في مجتمعاتنا، وفي أسرنا، كل يوم تسمع أماً أو أباً يقطع عباراتهم البكاء، يشكون إلى الله هذا الظلم من العاقين، إنه تحذير لكل من عق أن يتوب إلى الله، وأن يتقي الله في والديه، وأن يخشى أخذ الله الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم(41/6)
صور العقوق كثيرة
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيها الناس! للعقوق صور كثيرة في هذه الأمة، وهي أمة عاشت في فترة من فتراتها الجمود والجحود، جمدت في الإبداع والابتكار والاكتشاف والاختراع، وجحدت حقوق مولاها ورسولها ووالديها، وليس عقوق الوالدين إلا صورة واحدة من الصور التي تعيشها الأمة.(41/7)
عقوق العلماء
فالأمة عاقة -إلا من رحم الله- مع علمائها، ومع رواد الرأي فيها، ومع مفكريها وأدبائها، وهذا الرصيد الضخم والعملة النادرة والكبريت الأحمر يجب أن نضعه تاجاً على مفرق الأمة، أعني العلماء والأخيار والصلحاء والمفكرين والأدباء الملتزمين، نضعه على جبين الأمة، لكن الأمة لم تفعل ذلك، لقد عقَّت هؤلاء في حقبة من حقب التاريخ، وجعلت روادها أهل الهوايات من أساطين الفن وعشاق الكرة وصُرّع التسلية؛ لقد مات النمو والاختراع والابتكار في هذه الأمة؛ لأن العبقري عندها يُكسر قلمه، والأحوذي يُلغى ذكاؤه، والمبدع يُشطب على عقله.
أمة هي ترى الناصح متهَماً، والمخترع مهدَداً، والمكتشف عميلاً، يهددها المخترع فتخافه، ومن يكتشف خيراً عُدَّ عميلاً مظنوناً به السوء.
اكتشف الحمر والشقر وسائل التقدم والترفيه والتقنية لا لأنهم أذكى، ولكن لأنهم وجدوا التشجيع وإلهاب الحماس والتكريم والجوائز.
نجومهم المخترعون والمكتشفون والمبدعون ورواد الصناعة، فمن هم نجومنا اليوم في وسائل الإعلام، وعلى مستوى الرأي العام، وعلى مستوى تجمعات الناس؟ من هم نجومنا الذين نباري بهم الأمم في ثقافتنا وتقدمنا وحضارتنا؟! أتدري من هم؟! إما بطل كرة، أو مغن جماهيري شهير، أو موسيقار أو مسرحي، هؤلاء هم اللامعون في الحقبة الأخيرة من حقب أمة محمد عليه الصلاة السلام، فكيف لا تتخلف، وكيف لا تكون في الذيل، وكيف لا تكون تابعة لا متبوعة، ومأمورة لا آمرة، ومقودة لا قائدة؛ إننا نشكو الحال إلى الله.(41/8)
عقوق رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم
وهي أمة عقت رسالة رسولها عليه الصلاة والسلام، فتنكرت لمبادئه، فشعوب الإسلام اليوم غالبها أنظمة علمانية كافرة لا تحكم بالكتاب ولا بالسنة، يؤدبها ربها صباح مساء بأصناف الويلات والحروب والتمزيق؛ لتعود إليه فما تزيد إلا طغياناً وكفراً: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
يؤدبها فلا ترتدع ولا تتوب، وهذه صورة من صور العقوق، عقوق للرسول عليه الصلاة والسلام ولمبادئه، يأخذون مبادئ الشرق والغرب، ويطرحون مبادئه عليه الصلاة والسلام قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً منها، فالشريعة والقرآن والسنة عند هؤلاء قراطيس، تمائم للمرضى ولصلاة الاستسقاء وللجنائز وللمولد النبوي، أما لتسيير الحياة فعقوق ما بعده عقوق.
يقول شوقي:
شعوبك في شرق البلاد وغربها كأصحاب كهف في عميق سبات
بأيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات(41/9)
عقوق لأمجاد الأمة وعظمائها
الأمة تعيش عقوقاً لأمجادها، لأن هؤلاء الأعداء المغرضين ظنوا أنهم هم اللامعون اليوم، وهم الذين على الساحة، وليسوا بلامعين، ولكن أمجادنا؛ عمر وعلي وصلاح الدين ونور الدين، وتلكم القائمة البيضاء.
إذا تفاخر بالأهرام منهزم فنحن أهرامنا سلمان أو عمر
أهرامنا شاد طه دعائمها وحي من الله لا طين ولا حجر
إن الأمة عقت عظماءها، ولم تجعل لهم الصدارة، حتى في كتب التاريخ المبسطة التي تدرس في الابتدائية والمتوسطة، تجعل لـ سليمان فرنجيه مساحة في التاريخ كمساحة محمد عليه الصلاة والسلام وكمساحة أبي بكر وعمر، ولكل رذيل حقير مكان يعادل مكانة الأنبياء والرسل، فكيف يفهم الجيل أجدادهم، وكيف يعرفون أمجادهم، وكيف يحبون عظماءهم، وكيف يقرءون تاريخهم:
أمتي تاريخها ذو خطر لو تأمنَّاه ما كان الخطر
هذه من صور العقوق.
ولك أن تعدد العقوق ما شئت: عقوق في التاريخ، وعقوق في التربية، وعقوق في منهج الدراسة، وعقوق في الأدب والسلوك والأخلاق والقيم، ولا يصلحنا إلا الواحد الأحد، فنسأله لنا ولكم هداية ورشداً، وتسديداً وتوفيقاً.
أيها الناس! صلوا على المعصوم عليه الصلاة والسلام، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان.
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق، اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم أصلح ولاة الأمور وهيأ لهم البطانة الناصحة الصالحة التي تدلهم على الحق، وتحذرهم من الباطل.
اللهم اهد شباب المسلمين واجعلهم بررة أخياراً، ووفقهم إلى كل خير، وكفِّر عنهم سيئاتهم، وأخرجهم من الظلمات إلى النور.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(41/10)
بر الوالدين وصلة الرحم
بين الشيخ -حفظه الله- منزلة بر الوالدين وصلة الأرحام في الإسلام، ثم ذكر نماذج من العقوق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء، ثم ذكر في المقابل نماذج من البر بالوالدين، وبين أن العقوق مشكلة معاصرة وجدت في المجتمعات وانتشرت في البيوت، ثم تحدث عن صلة الأرحام ودلل على ذلك بأمثلة من تسامحه صلى الله عليه وسلم مع المشركين من قريش لأجل الرحم التي بينه وبينهم.(42/1)
من لوازم العبودية طاعة الوالدين وصلة الرحم
الحمد لله القائل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24] والصلاة والسلام على رسول الله، الذي بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
عباد الله: إن من أعظم المعاصي التي عُصي الله بها في الأرض قطيعة الرحم، وعقوق الوالدين؛ ولذلك توعد الله عليهما بالعذاب الأليم للعاق والقاطع، وهي معصية فظيعة، وجريمة شنيعة، تقشعر لها الأبدان، ويندى لها الجبينُ، أنكرها حتى الجاهليون، واليهود والنصارى في شرائعهم؛ ولذلك يقشعر جلد المؤمن يوم يرى الابن كلما شب وقوي، وكلما تعمر؛ تغمط حق والديه، يوم أذهبا العمر والشباب وزهرة الحياة في تربية هذا الابن، سهرا لينام، وجاعا ليشبع، وتعبا ليرتاح، فلما كبر هو وضعفا هما، ودنيا من القبر وأصبحا منه قاب قوسين، أو أدنى؛ أنكر جميلهما وقابلهما بالغلظة، وجحد حقيهما، وجعلهما في مكان من الذلة والصغار لا يعلمه إلا الله؛ لذلك قرن الله حقَّه بحقهما، وجعل من لوازم العبودية برَّ الوالدين وصلةَ الرحم، يقول جل ذكره: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] قضاؤه وأمره وإيجابه سُبحَانَهُ وَتَعَالى ألا يعبد إلا هو، ومِنْ عبادته تبارك وتعالى: بر الوالدين وصلة الأب والأم وصلة الرحم.
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} [الإسراء:23] وانظر إلى هذه الصورة العجيبة، التي صورها القرآن: صورة الأب وهو محدودب الظهر، قليل الصبر، شاب رأسه وشابت لحيته، وصورة الأم وهي جعداء الشعر، شمطاء الرأس، قد دنت من القبر، وأصبحت تتلهب على شبابها وفتوتها وصباها الذي أنفقته في تربية هذا الابن؛ فلما ترعرع وقوي ظهره واشتد ساعده؛ كان نكالاً وغضباً ونكداً على والديه: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] حتى كلمة أفٍّ من سمح لك؟ ومن عفا عنك أن تقول لهما أف؟!! فقل لي بالله أيهما أعظم: كلمة أف، أم الذين جحدوا حقوقَ الوالدين، ولعنوا الوالدين، وعقوهما وقاطعوهما، وجعلوا جزاءهما السب والشتم والغلظة والنكال والقطيعة؛ حتى وجد في المجتمع من يعيش في الفلل الزاهية البهية، وفي الشقق الضخمة، ويركب المراكب الوطية، ويأكل الموائد الشهية، ووالداه في فقر مدقع، وفي حاجة ملحة، وفي ضنك لا يعلمه إلا الله.
أي قلوب هذه القلوب؟! وأي أرواح هذه الأرواح؟!
ولقد بكت العرب في جاهليتها وفي إسلامها العقوق، وتوجعت له، وتظلمت وتبرمت، واشتكت إلى بارئها منه.(42/2)
صور من العقوق
ورد في الأدب والسير: أن أعرابياً وفد على بعض الخلفاء وهو يبكي، فقال الخليفة: مالك؟ قال: أصبت في مال بأعظم من مصيبة المال، قال: وما هو؟ قال: ربيت ولدي؛ سهرت ونام؛ جعت وشبع؛ وتعبت وارتاح، فلما كبر وأصابني الدهر، واحدودب ظهري من الأيام والليالي، تغمط حقي، ثم بكى، وقال:
وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه
تغمط حقي ظالماً ولوى يدي لوى يَدَهُ اللهُ الذي هو غالبه
قيل: فلويت يد الابن فأصبحت ملوية وراء ظهره.
وفي السير وبعض التفاسير كـ الكشاف بأسانيد فيها نظر: أن رجلاً وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فقال مالك؟ فقال: مظلومٌ يا رسول الله! قال: من ذا الذي ظلمك وأنت شيخ كبير فقير؟
قال: ابني ظلمني، قال: كيف ظلمك؟ قال: ربيته، فلما كبر وضعف بصري، ورق عظمي ودنى أجلي، تغمط حقي، وظلمني وقابلني بالغلظة والجفاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهل قلت فيه شيء؟ قال: نعم.
قلت فيه أبياتاً، قال: ما هي؟ فقال له:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجري عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا شاكياً أتململ
يقول: ما هذا جزائي! وما هذا رد الجميل معي! وما هذا رد المعروف! حتى الليلة التي تصاب فيها بالسقم ولا تنام؛ أشاركك السهاد ولا أنام، أنت السقيم ولكن أخذت السقم عنك، وأنت المريض لكن أخذت المرض عنك.
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا شاكياً أتململ
كأني أنا الملدوغ دونك بالذي لدغت به دوني فعيناي تهمل
ثم يقول: أهذا جزاء الجميل؟! أهذا رد المعروف؟! أهذا حفظ اليد البيضاء؟!
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمل
جعلتَ جزائي غلظةً وفظاظةً كأنك أنت المنعم المتفضل
فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم، وحق للقلوب اللينة، وللعيون الرقراقة بالدموع أن تدمع لهذه المآسي التي وجدت في بلاد الإسلام، والتي شكت قلوب الوالدين إلى بارئها هذا الظلم الفظيع، وهذا الجرم الشنيع، فهل أظلم وهل أكبر، وهل أشنع من أن تربي ابنك؛ فإذا قوي واشتد ساعده، وأصبح في مصاف الرجال -بعد أن أعطيته شبابك، وزهرة عمرك، ولذة روحك، وشجا نفسك- رد عليك الجميل منكراً؟! فإذا صوته صائلٌ في البيت، لا يجيب لك دعوة، ولا ينفذ لك أمراً، ولا يخفض لك جناحاً.
إنها -يا عباد الله- مأساة ما بعدها مأساة؛ ولذلك عدّ الإسلام بر الوالدين من أعظم الحقوق.(42/3)
صور من بر الوالدين
يقول عليه الصلاة والسلام وهو يسأل عن الأعمال الصالحة: أيها أزكى وأيها أعظم؟ فقال: {الصلاة في وقتها، قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله}.(42/4)
من تاريخ الأمم السابقة
ويسافر صلى الله عليه وسلم بالقلوب ليحدثها عن رجل من بني إسرائيل كان باراً بوالديه، ويا عجباً! أن يوجد في اليهود والنصارى من تلين قلوبهم وهم أبناء القردة والخنازير، وهم أعداء الله، الذين لعنهم من فوق سبع سماوات؛ تلين قلوبهم لوالديهم، ويوجد في بلاد المسلمين وأبنائهم، من قسا قلبه، وطمس على فكره، فلا يلين قلبه أبداً.
يقول عليه الصلاة والسلام: {كان فيمن كان قبلكم ثلاثة آواهم المبيت إلى غار في جبل، فلما دخلوا الغار أمطرت عليهم السماء، فأتت صخرة من الجبل فتدحرجت فسدت باب الغار -فأصبحوا في مكان ضيق لا ملجأ ولا ملتجأ منه إلا إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، تقطعت الحبال، وأشرفوا على الموت وتأكدوا من الهلاك- فقال بعضهم لبعض: تضرعوا إلى الحي القيوم فإنه لا يكشف الضر إلا هو ولا يجيب المضطر إلا هو، فتقدم أولهم فتضرع إلى الله بأحسن العمل، وقال وهو يبكي عند فم الغار -والغار مظلم لا يكشف ظلمته إلا الله- قال: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران وإني قد نأى بي طلب الشجر -كان يرعى بغنمه ذاك اليوم فابتعد بغنمه فلم يأتِ إلا في الليل- قال: وأتيت مرة وقد ناما، وكنت لا أغبق عليهما أهلاً ولا ولداً -أي: لا أقدم في إعطاء اللبن ولدي الذي من صلبي، ولا زوجتي ولا أحداً من الناس حتى يشرب أبي وأمي- وإني قد أتيت ليلة من الليالي فوجدت أبي وأمي قد ناما، فحلبت وأتيت باللبن في الإناء فوجدتهما قد ناما فخشيت أن أوقظهما}.
يا للطف! يا للسماحة! يا للبر والجود! حتى وهو قائم باللبن في أول الليل خشي أن يزعجهما من النوم، وهذا فعل الوالد والأم مع الابن يخفضان أصواتهما في البيت حتى لا ينزعج، تلحفه أمه بكسائها، وهي في البرد وهي تنتفض ليتدفأ، ولئلا يجد برداً أبداً، تكسوه في حرارة الشمس وتبقى هي في توقد الشمس حارة ساخنة، فيقول: {فخشيت أن أوقظهما وأبنائي يتضاغون عند رجلي -أطفال يمزق الجوع أكبادهم وأمعاءهم يطلبون اللبن في الإناء، وهو واقف عند رأس والديه وأطفاله لا يستطيعون الوثوب إلى اللبن، وإنما يتدحرجون عند أقدامه- قال: فوالله ما سقيت أبنائي حتى قام والديَّ مع الفجر -فلما لمع الفجر قام الوالد وقامت الوالدة، فقدم الإناء إليهما فشربا، ثم سقى أطفاله، ثم توجه إلى الحي القيوم الذي يعلم الصادق بصدقه- قال: اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء مرضاتك، ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة بقدر ما أجاب الله سؤال هذا السائل}(42/5)
العقوق مشكلة معاصرة
عباد الله: إن العقوقَ مأساة وجدت في المجتمعات، وانتشرت في البيوت، وأصبحت أكبر المشكلات على الآباء، وفي بعض الآثار: يود المؤمن في آخر الزمان أن يربي كلباً ولا يربي ابناً.
نعم، وجد هذا ورأينا ورأى غيرنا الآباء الذين طعنوا في السن وأصابتهم الشيخوخة، وهم يتباكون ويتضرعون ويتوجعون لهذه الذرية الظالمة العاتية، فهل من عودة يا شباب الإسلام إلى الله؟ وهل من عطف وحنان؟ وهل من خفض جناح؟ وهل من بر وجودة مع الآباء والأمهات؟
يأتي رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: {يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحبتي، قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال أبوك.
} فالأم لها ثلاثة أرباع الحق، فهي التي تعبت وحملت، وأرضعت وغسلت، وألحفت وأدفأت، فجزى الله آباءنا وأمهاتنا خير الجزاء، وسقاهما الله من الحوض المورود شربة لا يظمئون بعدها أبداً.(42/6)
ثمار البر وأضرار العقوق
عباد الله: إن من ثمار بر الوالدين: أن يهديك الله سواء السبيل، وأن يصلح الله لك ذريتك، وأن يمدك بعون منه، وأن يرزقك قبولاً في الناس، وأن يمتعك متاعاً حسناً، وأن يسددك في أقوالك وأفعالك.
ومن نتائج العقوق: اللعنة من الله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23] قال بعض أهل العلم: أصمهم فلا يسمعون ولا يستفيدون، وأعمى أبصارهم فلا يتدبرون ولا يعقلون.
ويقول جلَّ ذكره: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25].
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يدخل الجنة قاطع} من قطع رحمه، قطع الله حبله من السماء، وقطع حبله وذمته وعهده؛ ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {لما خلق الله الرحم، تعلقت بالعرش، فقالت: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟! قالت: بلى يا رب.
قال: فذلك لك، فمن وصلكِ وصلته ومن قطعكِ قطعته} فأنزلها الله إلى الأرض.(42/7)
فخر الجاهليين بصلة الرحم
ويفتخرون بصلة الرحم، يقول المقنع الكندي:
وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلفٌ جدا
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(42/8)
هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في صلة الأرحام
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس إلى الله أجمعين؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرق الناس، وأعفهم، وأوصلهم، وأحلمهم؛ ولذلك ذكر الله خُلُقَه ومجد أنفاسه، وذكر مناقبه في القرآن، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقال له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
فقد بلغ في صلة الرحم مبلغاً عظيماً، ضرب به المثل على مرِّ التاريخ، فما سمعت الدنيا بأوصل منه صلى الله عليه وسلم، قام قرابته -أبناء عمه وأقاربه- فأخرجوه من مكة، وطاردوه وشتموه وسبوه وآذوه، حاربوه في المعارك، ونازلوه في الميدان، وقاموا بحرب عسكرية وإعلامية واقتصادية ضده، فلما انتصر ماذا فعل؟
دخل مكة منتصراً، ووقفت له الأعلام مكبرة، وطنت بذكر نصره الجبال والوهاد، فلما انتصر، وقف عند حلق باب الكعبة صلى الله عليه وسلم منحنياً، وهو يقول للقرابة وللعمومة: {ما ترون أني فاعل بكم؟ فيتصورون الجزاء المر والقتل الحار والموت الأحمر، فيقولون وهم يتباكون: أخ كريم وابن أخ كريم، فتدمع عيناه، ويقول: اذهبوا فأنتم الطلقاء!} كأنه يقول: عفا الله عنكم وسامحكم الله.(42/9)
صور من سيرته صلى الله عليه وسلم في صلة الأرحام
ويأتي ابن عمه أبو سفيان بن الحارث، فيسمع بالانتصار وقد آذى الرسول عليه الصلاة والسلام، وسبه وشتمه وقاتله، فيأخذ هذا الرجل أطفاله، ويخرج من مكة، فيلقاه علي بن أبي طالب، ويقول: يا أبا سفيان! إلى أين تذهب؟ قال: أذهب بأطفالي إلى الصحراء فأموت جوعاً وعرياً! والله إن ظفر بي محمد ليقطعني بالسيف إرباً إرباً! فيقول علي -وهو يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم- أخطأت يا أبا سفيان! إن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصل الناس وأبر الناس وأكرم الناس، فعد إليه وسلم عليه بالنبوة، وقل له كما قال إخوة يوسف ليوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] فيأتي بأطفاله ويقف على رأس المصطفى صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله! السلام عليك ورحمة الله وبركاته: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] فيبكي عليه الصلاة والسلام وينسى تلك الأيام، وتلك الأعمال، وتلك الصحف السوداء، ويقول: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92].
فهل من متسم بأخلاقه؟ وهل من مقتد بأفعاله؟ فإنه الأسوةُ الحقة، وإن اتباعه نجاة من العار والدمار والنار.
تأتيه أخته من الرضاعة صلى الله عليه وسلم، وقد ابتعدت عنه ما يقارب أربعين سنة، فتأتيه وهو لا يعرفها وهي لا تعرفه، مرت سنوات وسنوات، وأيام وأيام، وأعوام وأعوام، وتسمع وهي في بادية بني سعد في الطائف بانتصاره، فتأتي لتسلم على أخيها من الرضاع وهو تحت سدرة عليه الصلاة والسلام، والناس بسيوفهم بين يديه، وهو يوزع الغنائم بين العرب، فتستأذن، فيقول لها الصحابة: من أنت؟ فتقول: أنا أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أنا الشيماء بنت الحارث أرضعتني أنا وإياه حليمة السعدية، فيخبرون الرسول عليه الصلاة والسلام فيتذكر القربى وصلة الرحم والوشيجة والعلاقة، التي أنزلها الله من السماء، ويقوم لها ليلقاها في الطريق ويعانقها عناق الأخ لأخته بعد طول المدة، وبعد الوحشة والغربة، ويأتي بها ويجلسها مكانه، ويظللها من الشمس.
تصوروا رسول البشرية، ومعلم الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية يظلل هذه العجوز من الشمس برضعة واحدة، فأين الذين قطعوا عماتهم وخالاتهم، وبناتهم وأخواتهم؟ وهم كثيرٌ! حرموهن من الميراث الذي فرضه الله لهن وقطعوهن من الصلة والزيارة؛ حتى سمعنا ورأينا من العجائز الطاعنات في السن من تقف الواحدة في فقرٍ، وهي تبكي وتقول: ظلمني! أنصفني الله منه، فأين هذا الخلق من ذاك الخلق؟! ويقول لها الرسول عليه الصلاة والسلام: كيف حالكم؟ ويترك الناس وشئون الناس ويقبل عليها ويسألها، ويقول لها أخيراً: يا أختاه اختاري الحياة عندي أو تريدين أهلك؟ فتقول: أريد أهلي، فيمتعها بالمال ويعطيها مائة ناقة عليه الصلاة والسلام، ليعلمِّ الناس صلة الأرحام قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22] معنى الآية: إذا توليتم في الأرض، وأدبرتم عن طاعة الله، وكفرتم بتعاليم دين الله، فأكملوا المعصية بقطيعة الرحم، ليستحق غضب الله، ولعنته وعذابه، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23]
فيا عباد الله: هل من واصل لرحمه علَّ الله أن يرحمنا؛ عله أن يمطر بلادنا وأن يرحم عباده، وإن الله تعالى يقطع من قطع رحمه، وإن الله يغضب إذا انتهكت محارمه؛ ولذلك يقول جل ذكره في الحديث القدسي: {أبي تغترون أم علي تجترئون؟! فبي أحلف لأنزلن فتنة تدع الحليم حيراناً}.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة، وارضَ اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمةَ المسلمين، اللهم وحد بين صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه.
اللهم اصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك، واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم وحد كلمتهم، اللهم خذ بأيديهم إلى كل خير، اللهم انصر المجاهدين في فلسطين، اللهم أعل كلمة الحق بهم يا رب العالمين، اللهم رد على أيديهم أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، اللهم مزق بأيديهم أعداءك إخوان القردة والخنازير: الذين قتلوا رسلك وكفروا بكتابك وأفسدوا في أرضك يا رب العالمين.
اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا، لنكونن من الخاسرين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(42/10)
حبة أنبتت سبع سنابل
أنفع الناس للناس هم حملة القرآن، أما أهل الموسيقى والغناء فلا يمكن أن يكونوا هم الصفوة المختارة.
والذين تلطخت أيديهم بالدماء من الزعماء هم نماذج مخزية من الظلم والفساد والاستبداد.
وإن شهر رمضان هو شهر القرآن، فينبغي لنا الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالسلف الصالح حيث كانوا يكثرون من تلاوته وتدبره في هذه الشهر الكريم.
ومما ينبغي تذكره في رمضان ما وقع فيه من الانتصارات العظمى كبدر وفتح مكة وحطين وشقحب.
والصدقة من أفضل أعمال البر والخير فعلى من يريد فكاك رقبته من النار في هذا الشهر أن يكون أجود الناس بالخير كما كان رسوله صلى الله عليه وسلم.(43/1)
أهل القرآن والتوحيد أنفع الناس للناس
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
تساؤلات تمور في الذهن، ويعيشها القلب، ويفرغ لها الروح، وهي: من هم أنفع الناس للناس؟ ومن هم أهل المنجزات؟ من الذين قدموا أحسن ما يقدم للناس؛ يزعم بعض الناس أنهم أنفع الناس للناس؟
وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
فالفنانون زعموا أنهم تراث الأمة، وأنهم شعبيتها، وأنهم صوتها الحر، قدموا العود والموسيقى والوتر، وقالوا: هذا إنجاز الشرق للغرب، وهذه حضارتنا.
الفنانون من قديم الزمن يقف أحدهم عند الكعبة والمقام يناجي رب العزة ويقول:
أتوب إليك يا رحمن مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوب
وأما عن هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوب
ويأتي فنان آخر عند الجمرات في الحج ويقول:
فوالله ما أدري وإن كنت داريا بسبع رمين الجمر أم بثمان
فهل يُرشح هؤلاء وأمثالهم ليكونوا هم الصفوة المختارة؛ التي تقدم ثقافة الأمة وحضارتها وصوتها؟!
ويزعم بعض الزعماء: أنهم هم محررو الشعوب، الذين رفعوا عن الشعوب التخلف والرجعية، والظلم والاستبداد والطغيان، ولكننا إذا قرأنا التاريخ؛ لوجدنا نماذج مخزية؛ من الظلم والفضيحة والاستبداد.
يسجن الحجاج بن يوسف مائة ألف مسلم ويمر عليهم يوم الجمعة، فيبكون عله أن يخرجهم من السجن فيقول: اخسؤا فيها ولا تكلمون.
ويقتل أبو مسلم الخرساني من المسلمين مائة ألف، وقيل عند الذهبي: ألف ألف مسلم -أي: مليون- وكان الحاكم بأمر الله المصري ينزل إلى السوق فإذا رآه الناس؛ سجدوا له في السوق من دون الله! ومن أمثالهم الخميني وصدام حسين فهذه لافتة الزعماء التي تدعي أنها حررت الأمة الإسلامية ورفعت رأسها، ويدعي القوميون العرب، والمظلة العربية: أنهم هم أهل السيادة في الأرض، وأن النصر سوف يتم لهم.
وحدويون والبلاد شظايا كل جزء من لحمها أجزاء
لو قرأنا التاريخ ما ضاعت القدس وضاعت من قبلها الحمراء
إنهم فضائح في جبين التاريخ، يقولون: القومية العربية، وإخاء عربي، ودم عربي، وحرف عربي، لكن بدون لا إله إلا الله.
هذه العروبة رأيناها في أيلول الأسود، وفي داحس والغبراء، وفي احتلال الكويت، وفي حماة وفي بعاث وفي صبرا وشاتيلا، تأتي جولدا مائير العجوز، فتسحق العالم العربي، وتستحذيهم؛ لأنهم تركوا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فمن هم أنفع الناس؟ من هم البررة في الأمة؟ يوم خرّج الغرب المهندس والطيار والطبيب وخرجنا اللاعب والمغني والموسيقار، فهاهي أمريكا تعلن أنها أجرت ستين بروفة؛ لإنزال أبولو على سطح القمر، ونحن نعلن أننا أجرينا بروفة؛ لإخراج أغنية للجماهير!
منهم أخذنا العود والسيجارة وما عرفنا نصنع السيارة
استيقظوا بالجد يوم نمنا وبلغوا الفضاء يوم قمنا
فمن أنفع الناس؟
إنهم حملة القرآن إنهم حملة لا إله إلا الله إنهم حفظة كتاب الله عز وجل، وهذا شهرنا يعيد لنا ذكر القرآن: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].
هاأنتم تعيشون ذكرى أجدادكم، الذين فتحوا العالم بالقرآن، لم نفتحه بأغنية ولا بوتر، ولا بكرة أو موسيقى، أو ببلوت أو مجلة خليعة، بل فتحناه بهذا القرآن.
سمعتك يا قرآن والليل واجم سريت تهز الكون سبحان من أسرى
فتحنا بك الدنيا فأشرق نورها وسرنا على الأفلاك نملؤها أجرا(43/2)
شهر رمضان شهر القرآن والإنفاق
يقول عليه الصلاة والسلام كما عند الحاكم بسند صحيح: {يأتي القرآن والصيام يوم القيامة فيقول القرآن: يارب! منعت هذا نومه بالليل -أي يتهجد ويقرأ- فيشفع في صاحبه، ويقول الصيام: يارب! منعته طعامه في النهار فيشفع في صاحبه}.
ويقول عليه الصلاة والسلام: {اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه}.
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة}.
إننَّا نستشف من الحديث فائدة كبرى وهي: أن القرآن والإنفاق لهما فضل كبير، وهذا شهر القرآن والإنفاق: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:29 - 30].
وكلكم يعرف الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم ويسمع بجهدها ويطلع على ما تقوم به، أهي مؤسسة غنائية؟ لا.
أو للفنون التشكيلة؟ لا.
أو للكرة؟ لا.
بل هي لكتاب الله، وهي مؤسسة نيرة أخذت على عاتقها أن تأتي بشباب الأمة من المقاهي والنوادي الحمراء، والضياع والمنتزهات والسقوط في المخدرات إلى المساجد.
قد أخذت على عاتقيها أن تحفظ أبناءنا كتاب الله، إنها جمعية يجب أن يصرف لها أكبر قدر من أموال المسلمين، فهي تعيش في ضمائر كل مسلم، سل ابنك، وسل ابن جارك، وسل حفظة كتاب الله ما هي أنعم جمعية مروا بها في الحياة؟ إنها الجمعية الخيرية لتحفيظ كتاب الله، لكنها تحتاج إلى الدعم والتبرع والإنفاق.
ووالله! لقد عجبت وعجب كثير من الإخوة ونحن نطلع على مقالة لمغني مطرب، وهو يخبر بما أتاه من دعم وتبرع في ليلة واحدة، وقدرناه بالملايين، فقلنا: ماذا أعاد علينا هذا الفنان وهذا المطرب؟! ماذا أنتج لنا وقدم لأمتنا وماذا أسدى لنا؟! ثم ننظر بالمقابل وإذا الجمعية الخيرة تقف على أقدامها في الأرض، إنها تحمل تكاليف هائلة؛ لتدريس شباب المسلمين وأطفالهم، وهي تحتاج إلى دور ضخمة، وإلى مدارس، وناقلات، ورواتب أساتذة وجوائز.
وهذا اليوم يوم مشهود؛ يطلع الله على ما تقدمونه -بعد الصلاة- لرواد الجمعية الخيرية، الذين حضروا طالبين لا لأنفسهم ولكن لأولياء الله، ولكتاب الله، ولحفظة كتابه سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
ويظهر لنا هذا مدى عظمة الإسلام حيث يربط بين الصيام والإنفاق، وأعظم ما تنفقه أنت لكتاب الله، أما هؤلاء الذين ينفقون الملايين في الضياع، والألوف المؤلفة في الخسار فاسمع ما يقول سبحانه فيهم: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36].
هل سمعت أن الأمة انتصرت بفنان؟ أو رفع رأسها مطرب؟ أو بيض وجهها موسيقار أو ممثل؟ لا.
لكن بحامل كتاب الله عز وجل رُفع رأسها.
فيا مسلمون يا بررة! كل الأمة تتحرى منكم ما تقدمونه هذا اليوم، فابذلوا سخياً سخياً، بل على القول الصحيح من أقوال أهل العلم: أنها من مصارف الزكاة، فمن عنده زكاة أو من أراد أن يساهم مساهمة عند الواحد الأحد الذي لا تضيع الودائع عنده: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] من أراد ذلك فليساهم وليعتق رقبته وليرفع ميزانه هذا اليوم، أنت صائم في يوم الجمعة وأنت متصدق، وأين تذهب صدقتك؟ إلى حملة كتاب الله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261].
واعلموا أن أجدادكم كـ عثمان وابن عوف هم الذين فتحوا أبواب الجنة بأعمالهم، وصل إلى ابن عوف سبعمائة جمل ودخلت المدينة في حرارة الشمس، محملة بالتمر والزبيب والبر، فقال تجار المدينة: يـ ابن عوف! نشتريها منك، قال: بكم؟ قالوا: نعطيك في الدرهم درهماً -أي: الثمن مضاعف- قال: وجدت من زادني، قالوا: نعطيك في الدرهم درهمين، قال: وجدت من زادني.
قالوا: لا.
نحن تجار المدينة وما زادك أحد علينا، قال: وجدت من زادني في الدرهم عشرة أضعافه إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة؛ أشهدكم أنها بأحلاسها وجمالها وأقتابها وبرها وزبيبها وتمرها في سبيل الله، فتولى الفقراء والمساكين وهم يقولون: سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة.
وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: {من يجهز جيش تبوك وله الجنة، فقام عثمان فجهزه؛ فدمعت عيناه عليه الصلاة والسلام وقال: اللهم اغفر لـ عثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم}.
ولعلكم ترون بإذن الله عز وجل في سيرة أسلافكم الذين ما كان أحدهم يجد ما يسد جوعه؛ من الإنفاق والبذل والعطاء ما يدفعكم أنتم أكثر وأكثر مع كثرة الأموال لدعم هذا المشروع الخيري، وقد شاهدتُ في بعض المناطق كـ الوسطى والقصيم، دعماً هائلاً للجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن، فمن متصدق بعمارة، ومن متصدق بسيارة، ومن متصدق بألوف مؤلفة، وما أظن أن الناس يفوقوننا حماساً وغيرة وحباً لكتاب الله، هذه مسألة علَّ الله عز وجل أن يفتح صدوركم لها، وليس بغريب عليكم؛ فأنتم أبناء الذين قدموا أرواحهم في سبيل الله.
أرواحنا يارب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
أسأل الله أن يتقبل منكم ما فعلتم: {الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار} كما قال صلى الله عليه وسلم، واليوم -بعد الصلاة- تطفئون خطاياكم وسيئاتكم، وتطفئون غضب ربكم؛ بما تنفقون ثم يحفظ لكم في: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
الله أعطاك فابذل من عطيته فالمال عارية والعمر رحال
المال كالماء إن تحبس سواقيه يأسن وإن يجر يعذبْ منه سلسال
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(43/3)
شهر رمضان هو شهر الانتصارات على مرّ التاريخ
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيام يا حبيباً زارنا في كل عام
قد لقيناك بحب مفعم كل حب في سوى المولى حرام
اجتمعت في رمضان مسائل عظيمة لهذه الأمة الخالدة:
أولاً: أنه شهر انتصاراتها على مر التاريخ، فـ بدر والفتح وحطين وشقحب كلها في رمضان.
فهو الشهر الذي ارتفع فيه رأس الأمة وانتصرت بإذن الله، في رمضان كانت ساعة الصفر بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، فقتلهم قتلة ما سمع التاريخ بمثلها، وفي رمضان وفي يوم الجمعة الساعة السادسة، كان اللقاء الرهيب بين العالم الإسلامي وبين العالم الصليبي المسيحي، ومن الذي يقود العالم الإسلامي؟ أهو عربي؟ لا.
إنه كردي صلاح الدين الأيوبي الشافعي رحم الله تلك العظام؛ كما قال ابن كثير.
صلاح الدين ذلك الشاب الذي نشأ على القرآن في المسجد، كان لا يتبسم ويقول: والله لا أتبسم حتى أعيد المسجد الأقصى إلى المسلمين.
وحضر يقود العالم الإسلامي كله في معركة حطين قال له قواده: نبدأ في الصباح، قال: لا.
إذا بدأت الساعة السادسة وارتقى الخطباء في العالم الإسلامي على المنبر، بدأنا المعركة عل الله أن ينصرنا بدعوات المسلمين.
هذه الدعوات الحارة التي مرغت القوى العالمية، وكسرت ظهر الشيوعية بالأمس، ومرغت وجه البعث بالتراب اليوم، وكم سرّنا وأتحفنا وأثلج صدورنا أن يكسر ظهر البعث كسرة لا يقوم بعدها أبداً! البعث الذي داس المصحف وقتل أبناء صلاح الدين في حلبجة والذي ذبح العلماء والدعاة.
حضر صلاح الدين وبدأ الهجوم وأخذ يقول في المعركة: وإسلاماه! وإسلاماه! وإسلاماه! ثم انتصر بإذن الله.
وفي الجمعة الثانية دخل بيت المقدس يصلي، وهو كردي ليس بعربي؛ لأن العرب في فترة صلاح الدين تركوا القرآن والجهاد، وتولوا إلى الموسيقى والأغنية، وإلى السهرة والبلوت والله يقول: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89].
وانتصر، وأذن المؤذن وقام الخطيب، وفي الصف الأول صلاح الدين الكردي، عليه العمامة محملة بغبار المعركة وعليه بعض قطرات الدم في لحيته، كالخضاب من جروح كانت تنز عليه من وجهه، قام الخطيب وأخذ يقول: الحمد لله مجري السحاب، منزل الكتاب، هازم الأحزاب.
من هم الأحزاب؟ بريطانيا وفرنسا وإيطاليا تدعمهم سويسرا وألمانيا في حزب ضد المسلمين، ومع ذلك كسرهم صلاح الدين كسرة ما سمع التاريخ بمثلها.
ثم التفت إلى صلاح الدين وقال:
تلك المكارم لا قعبان من لبن وهكذا السيف لا سيف ابن ذي يزن
وهكذا يفعل الأبطال إن غضبوا وهكذا يعصف التوحيد بالوثن
أمنياتنا في رمضان النصر، وقد نزل القرآن فيه في ليلة القدر، نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.
ثانياً: أنه شهر التقوى، فقد انكسرت فيه القلوب، وذبلت فيه الأرواح، وجفت فيه الأكباد، وتذكر الأثرياء الذين يسكنون في العمارات الشاهقة والذين تتخالف عليهم موائد الطعام، الفقراء والمساكين، وتذكروا الذين ينامون على الأرصفة، ولا يجدون كسرة خبز ولا مذقة اللبن، هذه من الأمنيات.
وأعود إلى الموضوع السابق، يقول صلى الله عليه وسلم: {إذا أنفق العبد صدقة فإن الله يتقبلها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه، حتى تبلغ كـ جبل أحد} ويقول صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {إن لله ملكين يناديان في كل صباح: يقول الأول: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً}.
فنعوذ بالله من البخل وهو من شيم اليهود: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:37].
أيها المسلمون: لا يكفر الخطايا، ولا يغسل السيئات كالصدقات، وإذا كانت لرفع كتاب الله عز وجل، ولدعم هذا المشروع الخيري النير فإنها من أحسن ما تكون، سواء زكاة مفروضة أو زكاة نافلة، والله يتقبل منا ومنكم في: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
أيها الناس: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحب وترضى.
اللهم وفق أئمتنا وولاة أمورنا لما تحبه وترضاه، وأصلح لهم البطانة واهدهم سبل السلام، ووفقنا وإياهم لكل خير.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(43/4)
سلعة الله غالية
تحدث الشيخ عن تأسيس بنيان التقوى، وذكر في هذا الدرس عاملاً أساسياً من عوامل التقوى وهو الجود، وفصّل في أنواع الجود المأمور بها شرعاً: الجود بالنفس، الجود بالعلم، الجود بالوقت، الجود بالجاه ثم ذكر نماذج من جود الصحابة وبذلهم، وختم بقصة طريفة لأحد العلماء.(44/1)
الجود ومنازله
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً وتَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرا، وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، هدى به الله الإنسانية، وأنار به أفكار البشرية، وزعزع به كيان الوثنية، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أمَّا بَعْد:
فيقول الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109] أفمن أسس حياته ومستقبله على تقوى من الله وعلى رضوان من الله وعلى خوف من الله وعلى خشية لله خير أم من أسس بنيانه على معصية وتمرد وعدوان لحدود الله وانتهاك لحرمات الله.
ومن سنن الله الكونية القدرية والشرعية الأمرية: أن ينصر أولياءه وأن يحفظ أحبابه ويؤيد عباده، ومن سننه كذلك: أن يخذل أعداءه وأن يمقت من ضاده وحاده؛ ولذلك أتى صلى الله عليه وسلم من غار حراء خائفاً وجلاً، لما أتاه جبريل ظن أن سيموت أو يهلك أو يخزى؛ لأنه رأى صورة ما رآها قبل، فقالت خديجة رضي الله عنها وأرضاها: {كلا والله لا يخزيك الله أبداً! إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق} فاستدلت بحسن فعاله وبجميل صنعه على أن الله لا يخزيه أبداً.
هل رأيتم متصدقاً أخزاه الله؟! هل رأيتم صادقاً أخزاه الله؟! هل رأيتم صالحاً محسناً أخزاه الله؟! إنما يخزي الله أعداءه ومن حاده، أهل المعاصي وأهل الفواحش وأهل السيئات هم الذين يخزيهم الله، والله عز وجل ذكر أهل البر وأهل المعروف فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261].
ولم أر كالمعروف أما مذاقه فحلو وأما وجهه فجميلُ(44/2)
الجود بالنفس
يقول ابن القيم رحمه الله: الجود والبر منازل ودرجات أعظمها الجود بالنفس.
أرأيت إنساناً يجود بنفسه لمرضاة الله، هل هناك أكرم منه؟! لا والله فيا من بخل بدرهمه وديناره! أصحاب الرسول عليهم الصلاة والسلام جادوا بنفوسهم وأرواحهم في سبيل الله،
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أغلى غاية الجودِ
أتى الصحابة وما عندهم مال ولا عقار ولا درهم ولا دينار، فاستقبلوا القبلة متوضئين، ورفعوا سيوفهم شاهدين ظاهرين مقبلين، وقالوا: يارب لا نملك من الدنيا قليلاً ولا كثيراً، وإنما نملك نفوسنا قد أهديناها إليك فتقبلها منا، {جِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88].
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيءٍ فاشترى
أم من رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا
خالد بن الوليد باع نفسه في المعركة، وذلك جميل ومعروف لنفسه، صلاح الدين، طارق بن زياد، محمود بن سبكتكين، وأحفاد محمود من المجاهدين الأفغان، ومن أمثالهم قالوا لله بلسان حالهم: يا رب نحن فقراء ما عندنا مال ولا عقار، ما عندنا قصور ولا سيارات، ما عندنا ملابس ولا مشروبات ولا مرطبات، لكن هذه نفوسنا قدمناها لك!
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا(44/3)
الجود بالعلم
قال ابن القيم: ومن الجود: الجود بالعلم وهو من أشرف الجود!
فيا دعاة الإسلام! يا طلبة العلم! يا حملة الدكتوراة والماجستير! يا من تفنن في أساليب التفنن العلمية والتخصصات الشرعية! الأمة ماتت جهلاً وشركاً وتخلفاً وعامية، فمن ينقذها بعد الله إلا أنتم! {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187] اشتروا به مناصب ووظائف وتكدسوا في بيوتهم، وتركوا الأمة غارقة في الجهل وفي الخرافة والشرك، فبئس ما يشترون! والله لساعة من التعليم واحدة خير من مناصب الدنيا ومن وظائفها وأموالها.
هو العضب المهند ليس ينبو تصيب به مضارب من أردتا
وكنز لا تخاف عليه لصاً خفيف الحمل يوجد حيث كنتا
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا
والله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160].
كم من القضاة في بلادنا! كم من الأساتذة! كم من العلماء! كم من الدعاة؟ ألوف مؤلفة! ومع ذلك القرى جاهلة، والبوادي تعيش الخرافات، وكثير من الناس لا يعرفون أحكام دينهم ولا أمور شرعهم، وحولهم الماء لكن بخل أهل الماء بالماء، وفي الركاز الخمس، أرأيت البخيل إذا بخل بماله، كيف يكون ممقوتاً مذموماً مسبوباً مشتوماً من الناس! والله إن من بخل بقال الله وقال رسوله أكثر ذماً ومقتاً وبخلاً منه!
وانظر إلى أهل الباطل، كيف بذلوا علمهم الباطل وعلمهم المتخلف، ولعنتهم بذلوها ووزعوها، كتبوا وتكلموا وحاضروا وأنتجوا وطبلوا وزمروا وغنوا ورقصوا، لكن أهل الحق في خجل أن يرفعوا حقهم ويوزعوه.(44/4)
الجود بالمال
ومن الجود ومن منازله الكبرى: الجود بالمال، ونحن في هذه البلاد نعيش رغداً وعيشاً هنيئاً مريئاً، نحن أثرياء بالنسبة للعالم، إن متوسط دخل الواحد منا يعادل دخل كثير من تجار العالم، فهل قدمنا لأنفسنا؟ هل قدمنا للقبر؟ هل قدمنا للصراط؟ هل قدمنا ليوم الكربات يوم الفضائح؟
لقد رأينا ورأيتم كثيراً من الناس يشكون العوز! مدين لا ينام الليل وأطفاله لا يجدون كسرة الخبز، لا يجدون قطعة القماش، يتقدمون بصكوك إلى أهل القصور، ويتقدمون بالدمعات الحارة إلى أهل المطاعم الشهية والملابس الوطية والمراكب الزهية، فيا أيها الناس! من فعل خيراً فإنما يفعل لنفسه، والله يقول: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261].
الخير أبقى وإن طال الزمان به والشر أخبث ما أوعيتَ من زادِ
يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: {إن لله ملكين يناديان كل صباح، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً} فمن أراد أن يخلف الله عليه وأن يبارك في رزقه وفي دخله، فلينفق على الفقراء، وعلى المجاهدين، وعلى المساكين، وفي مشاريع الخير، فهذا من باب البر.
كان الجاهليون وهم وثنيون يعبدون الأصنام والأوثان لا يرضون أن يعيش في مجتمعهم جائع ولا مسكين، كان ابن جدعان جاهلياً ما عرف لا إله إلا الله وما سجد لله، عنده صحاف تعرض كل صباح بلباب البر وبمسيل العسل، فينادي مناديه على جبل أبي قبيس في مكة: من أراد الإفطار فليأت فتمتلئ صحافه من المساكين، فإذا أتى الظهر قدم صحافه لحماً وخبزاً ثريداً، وقال: من أراد الغداء فليأت! يقول أمية بن أبي الصلت في آل جدعان أهل الكرم والجود:
لا ينكتون الأرض عند سؤالهم لتطلب الحاجات بالعيدانِ
بل يشرقون وجوههم فترى لها عند السؤال كأحسن الألوانِ
وإذا الغريب أقام وسط رحالهم ردوه رَبَّ صواهلٍ وقيانِ
وإذا دعا الداعي ليوم كريهة سَدُّوا شُعاعَ الشمس بالفرسانِ(44/5)
الجود بالجاه
ومن الجود: الجود بالجاه -الجود بالوجاهة- بعض الناس آتاه الله جاهاً وواسطة وشفاعة، يعرفه المسئولون، يعرفه الأمراء والوزراء وأهل المناصب في الدولة بوجاهته وبمنصبه وبصدارته في المجتمع، والله يقول: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً} [النساء:85] ما هي الشفاعة الحسنة؟ يعني: يا أهل المناصب! يا أيها المسئولون في هذه البلاد وفي غيرها: أن تشفع للمحتاجين، أن ترفع حاجة المظلومين المضطهدين الأرامل العجائز، تتكلم إلى المسئول تتكلم إلى الأمير، تتكلم إلى الوزير في حاجتهم وفي مضرتهم وفيما أصابهم من ظلم وفيما أتاهم من جوع، وحينها تكون مشفوعاً لك عند الله، والجزاء من جنس العمل، يشفع لك محمد عليه الصلاة والسلام في دخول الجنة وفي الرضى الأبدي السرمدي عند الله: {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْل مِنْهَا} [النساء:85] كما يفعل الذين انتقصت حقوقهم عند الله يسعى في إضرار المسلمين وفي التنكيد عليهم وفي تنغيص عيشهم وفي زلزلة أمرهم وفي تقديم دمائهم وأموالهم للشيخ، وهذا عنده عند الله مرصاد يتحراه: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89](44/6)
الجود بالوقت
الجود بالوقت: أن تجعل وقتك للمسلمين، فتذهب إلى المريض في المستشفى أو في بيته فتواسيه، وكم تعادل زيارتك للمريض من الأجر والمثوبة، إنك تدخل الأنس عليه والفرج بعد فرج الله عليه، إنك تدخل ماء الحياة إلى قلبه، إنك تغرس شجرة الأمل في نفسه وفي روحه، وتعود مأجوراً.
ومنها أن تصل الأرامل وأن تتفقد المحتاجين: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} [التوبة:109] أفمن بنى حياته ومستقبله على بر وخير وأصالة ومعروف.
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة:109] أسس قواعده على المعصية، أسس قواعده على الجريمة، على البغض للمسلمين، على تنكيد حياتهم، على تنغيص عيشهم، على التثلج بدمائهم وأموالهم {عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ_ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].
ما أحسن المعروف! وما أحسن الجميل! يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: [[ما أحسن الجميل! والله لو كان الجميل رجلاً لكان حسناً، ما أقبح القبيح! والله لو كان القبيح واللؤم رجلاً لكان قبيحاً]].
جاءه رجل فاستحيا أن يسأل علي بن أبي طالب، فكتب حاجته في التراب فقال علي رضي الله عنه وأرضاه: أمسكت ماء وجهك وأعفيتنا من ذل سؤالك لألبين مسألتك فقال الرجل:
كسوتني حلة تبلى محاسنها لأكسونك من حسن الثنا حللا
والثناء من أحسن ما وضعه الله للناس في الأرض.
إنما المرء حديث بعده كن حديثاً حسناً لمن وعى
حاتم الطائي نذكره اليوم وهو مشرك، حاتم نتبجح بذكره في المجالس وهو وثني، لأنه كان كريماً جواداً.
فيا عباد الله! قوا نفوسكم من نار تلظى، وقوا وجوهكم من لفح النار، بالمعروف، بالكلمة الطيبة، بالبسمة، بالصدقة، بالزيارة، بالشفاعة لما يرضيه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، غفر الله لي ولكم، وأنقذني وإياكم من النار، وهداني وإياكم سواء السبيل، هنيئاً لكم إقبالكم على الله وتوبتكم إلى الله وثباتكم على ما يحبه الله ورسوله، وصلى الله على محمد وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(44/7)
نماذج في الجود
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
عباد الله: فإن ما ذكرته في الخطبة الأولى عليه نماذج من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وهم القوم المقتدى بهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] لم نقدم للإسلام عشر ما قدموا، وما فعلنا لرفع لا إله إلا الله ولو قيراطاً مما رفعوا- فرضي الله عنهم وأرضاهم وألحقنا بهم، بذلوا نفوسهم رخيصة في سبيل الله.(44/8)
بذل الصحابة لنفوسهم في سبيل الله
أتى حمزة فترك أطفاله وأهله وداره وعقاره وأتى بثيابه الممزقة التي تستر جسمه الطاهر، فقاتل في أُحد حتى قتل، فكان أسد الله في أرضه، وكان سيد الشهداء في الجنة، وأتى أنس بن النضر، فرأى الناس فروا يوم أحد، فأقبل إلى الله وشم ريح الجنة من دون أحد، فقتل وضرب بأكثر من ثمانين ضربة، وأتى خالد وسعد فباعوا أرواحهم من الحي القيوم.
هذه أعظم المنة وأعظم الصدقة والبذل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111].(44/9)
بذل الصحابة في العلم
وبذلوا العلم رضوان الله عليهم وأرضاهم.
وسيدهم وخيرهم وأبرهم محمد صلى الله عليه وسلم أحيا الله به الأرواح من الجهل، حتى يقول شوقي:
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرممِ
معنى ذلك: إن كان عيسى عليه السلام أحيا الأموات بإذن الله، فأنت أحييت الأرواح وأحييت الشعوب الميتة، وعلمت الجاهلين، ورفعت الأميين، وعلمت الذين ما كانوا يتعلمون ولا يفقهون ولا يتدبرون، ويقول الآخر:
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأموات أحياه
كان أبي بن كعب يجلس للناس بعد كل صلاة فيقول: هل من متعلم؟! هل من سائل؟! هل من مستفتٍ؟! فيفر بالعلم كالبحر الثجاج، وكان ابن عباس يجلس للناس من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، إذا انتهى أهل التفسير قال: [[اخرجوا علي بأهل الحديث، فإذا انتهوا قال: علي بأهل الفقه، فإذا انتهوا نازل أهل الفتاوى والأحكام، فإذا خلصوا قال: علي بأهل الأدب والشعر واللغة]] {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].(44/10)
بذل الصحابة أموالهم في سبيل الله
وبذلوا أموالهم في سبيل الله، عثمان شرى بئر رومة من اليهود، وقال له صلى الله عليه وسلم وللصحابة: {من يشتري بئر رومة وله الجنة!} فشراها فكان الثمن روحه إلى الجنة، يقول عليه الصلاة والسلام: {من يجهز جيش تبوك وله الجنة، فجهز جيش تبوك، فكان ثمن روحه، فلما جهزه قال عليه الصلاة والسلام: اللهم اغفر لـ عثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم}.(44/11)
قصة ابن أبي حاتم
ذكر الذهبي في ترجمة ابن أبي حاتم، عبد الرحمن الإمام الورع الحبر: أنه ذهب إلى خراسان، فجلس في مجلس، فأتى قوم يقولون: نريد أن نبني مسجداً، فمن يبني لنا مسجداً؟ فقام هذا الإمام العالم، فقال: من يبني لهؤلاء الناس مسجداً فقد آذاهم الحر والبرد والمطر، فقام تاجر من التجار وقال: يا ابن أبي حاتم! أنا أبني لهم مسجداً، ولكن والله لا أبني لهم مسجداً حتى تشهد لي بمثله في الجنة، وتشهد أن لي بيتاً بمثله في الجنة، فتبسم الإمام وقال: من يتقول على الله؟ ومن يشهد على الله؟ لكن ثبت في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {من بنى لله مسجداً بنى له الله بيتاً في الجنة ولو كمفحص قطاة}.
قال: أما أنا فلا أبني حتى تكتب لي كتاباً أن لي مثله في الجنة، قال: الله المستعان! اللهم اعلم أني أحسنت الظن بك فلا تخيب ظني، علي بورقة وعلي بقلم، فكتب بسم الله الرحمن الرحيم: لقد قاله: ابن أبي حاتم على الجواد الكريم الذي لا تنفذ خزائنه ولا ينتهي معروفه ولا بره أن فلان بن فلان بنى في الحياة الدنيا مسجداً، فإنني أسألك يا ذا لجلال والإكرام أن تبني له بيتاً في الجنة مثله، وقد شهدت على ذلك وشهد فلان بن فلان وفلان بن فلان، ثم وقع الورقة وسلمها الرجل.
قال الذهبي فنام ابن أبي حاتم تلك الليلة، وكان عابداً زاهداً ولياً لله، فرأى في المنام قائلاً يقول: أمضينا لك ما كتبت من صك ولا تعد إلى ذلك، أي نفذنا ذلك الخطاب لك ما دمت أحسنت الظن، ولكن لا تعد إلى ذلك، فإن معروف الله لا ينتهي ورحمته وسعت كل شيء، وهل تُدخل الجنة إلا بالمعروف: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72].
أيها الناس صلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه، فقد قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:6] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا}.
اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، اللهم بلغه صلاتنا وسلامنا وتحياتنا وحبنا، واجعلنا ممن يحشر في زمرته ويظل تحت ظله ويعمل بسنته.
اللهم إنا نسألك من العيش أرغده، ومن العمر أسعده، ومن الوقت أعمه، ومن العمر أتمه.
ونسألك من النعيم منتهاه إنك على كل شيء قدير، اللهم ارض عن الصحابة الموفقين الأطهار من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك ولرفع رايتك، اللهم انصر المجاهدين الأفغان الذين أرضوك بجهادهم يا واحد يا ديان.
اللهم ألف كلمتهم، واجمع شملهم وانصرهم على عدوهم، وأعد عليهم بلادهم ومساجدهم ومصحفهم وعزهم يارب العالمين، اللهم أنصر المجاهدين في فلسطين، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
اللهم أعد لنا المسجد الأقصى وكرامته وقداسته، اللهم العن اليهود ومن شايع اليهود.
اللهم اخزهم، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم اسلب إرادتهم، واجعل تدبيرهم في تدميرهم.
اللهم أنزل الصواعق عليهم، اللهم خذهم من كل مكان، اللهم اجعل أعداء المسلمين غنيمة للمسلمين بأطفالهم وأموالهم إنهم لا يعجزونك يا رب العالمين، اللهم أصلح بيوتنا وشبابنا وأمهاتنا وأخواتنا وبناتنا.
اللهم أصلح قلوبنا ووفقنا لما تحبه وترضاه، اللهم أصلح ولاة أمورنا ومسئولينا ومن تولى ولاية فينا، اللهم اهدهم سبل السلام، اللهم خذ بأيديهم، اللهم وفقهم للعمل بكتابك وللعمل بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(44/12)
عمر بن عبد العزيز
إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا ينقطع فيها الخير، فهي كالسيل لا يدرى الخير في أوله أم في آخره، والله سبحانه وتعالى يبعث على كل رأس قرن مجدداً يجدد لهذه الأمة معالم دينها ويحيي مبادئها ومن أمثال هؤلاء، بل هو أعظمهم على الإطلاق، عمر بن عبد العزيز، وهو ممن عرفوا الله حق المعرفة، فأطاعوه حق الطاعة، ولم تأخذهم في الله لومة لائم.(45/1)
صفات عمر بن عبد العزيز
الحمد لله، الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً.
أحمده الحمد كله، وأشكره الشكر كله، اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثلما نقول، لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت، أشهد أن لا إله إلا الله شهادة أدخرها ليوم العرض على الله، شهادة مبرأة من الشكوك والشرك، شهادة من أنار بالتوحيد قلبه، وأرضى بالشهادة ربه، وشرح بها لبه.
وأصلي وأسلم على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صلى الله وسلم على كاشف الغمة، وهادي الأمة، ما تألقت عين لنظرٍ، وما اتصلت أذن بخبر، وما هتف حمام على شجر، وعلى آله بدور الدجى، وليوث الردى، وغيوث الندى، وسلم تسليماً كثيراً، أمَّا بَعْد:
السلام عليكم يا أبناء الأمة المجيدة، التي اختارها الله واسطة العقد في التاريخ، أنار بها حضارة القرون، ورفع بها كيان الأمجاد، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، الأمة التي تمرض ولكنها لا تموت، وتغفو ولكنها لا تنام، وتغلب ولكنها لا تسحق أبداً، فقد أخرج الله من أجدادكم وأسلافكم منائر التوحيد، ومشاعل الحضارة، ورسل الإنسانية وهداة البشر.
سنقف في هذا الدرس مع علم من الأعلام، ومجدد من المجددين، وعابد من العباد، وزاهد من الزهاد، يجب أن يكون حديث الشيوخ في السمر، وأن يكون قصة تقص للأطفال، وأن يكون حديث البيوت، إنه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، إنه أبو عبد الملك الذي أطاع الملك سبحانه وخافه، وخشيه.
فسلام عليك يا عمر بن عبد العزيز يوم توليت الخلافة فخشيت الله في الخلافة، وسلام عليك يوم خفت الله، فلم يكن أحد من الناس أخوف منك من الله، وسلام عليك يوم لقيت الله راضيًا مرضياً، هذا الرجل بشر به صلى الله عليه وسلم أن يكون مجدداً في القرن الأول على رأس المائة الأولى، تولى الخلافة فكانت خلافته ثلاثين شهراً لكنها خير عند الله من ثلاثين قرناً، أول يوم بويع فيه بالخلافة مضى إلى المنبر، فتعثر من الخوف والوجل من الله:
حياءً من إلهي أن يراني وقد ودعت دارك واصطفاكا
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
وقف على المنبر ليتحدث إلى من في المسجد من الوزراء والعلماء والعباد والفقهاء، والجنود المجندة والجيوش المجيشة، فقال: [[يا أيها الناس! بويعت بالخلافة على غير رغبة مني، فخذوا خلافتكم لا أريدها، فضج الناس بالبكاء، وقالوا: لا نريد إلا أنت، فقال: الله المستعان وعليه التكلان، وحسبي الله ونعم الوكيل]] ولما انتهت الصلاة عرضت له الدواب والبغال ليركبها فأعرض عنها، وقال: ما أنا إلا رجل من المسلمين: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].(45/2)
زهد عمر بن عبد العزيز
عاد عمر إلى بيته، وترك قصر الخلافة الشاهق في دمشق، ونزل إلى غرفته، وجلس على الحصير وقال: هذا حظي من الخلافة، ثم استدعى زوجته الزاهدة فاطمة زوجة الخليفة وبنت الخليفة وأخت الخلفاء، وقال لها: [[إني بعت نفسي من الله عز وجل، فإن كنت تريدين العيش معي فحيهلاً وسهلاً وإلا فالحقي بأهلك]] فبكت وقالت: الحياة حياتك والموت موتك، ثم سلمت له ذهبها وفضتها وحليها إلى بيت المال، وعاد رضي الله عنه وأرضاه ليرد الأمة إلى الله الواحد القهار، عاد ليربيها من جديد مع ربها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فكان يصدق قوله فعله، وكان لا يشغله عن الله شاغل.
أما ليله فبكاء وسجود وتبتل وخشوع مع الله، وأما نهاره فتعليم للناس وعدل وإنصاف وبذل وعطاء، كان بعد كل صلاة ينادي المنادي: أين الفقراء؟ أين المساكين؟ أين المحتاجون؟ أين الذين يريدون الله؟ أين الذين لم يأخذوا من الدنيا شيئاً؟ فيبذل لهم المال، فتقام به قلوب حية وتحيا بهم أرواح كانت ميتة.
رزقه الله الخشية، والذي يجعل الله نصب عينيه دائماً؛ يفتح الله عليه فتحاً لا يدور بالخيال، ولا يخطر بالبال؛ فكان من أخشى الناس لله.
دخل عليه أحد العباد من أهل المدينة، واسم هذا العابد زياد مولى ابن عياش، فقال لـ عمر بن عبد العزيز: "ما دهاك؟ ماذا أصابك؟ قال: وماذا تقول؟ قال: والله لقد رأيتك وأنت من أجمل الفتيان في قريش، تلبس اللباس اللين، وأصبحت في هذه الحالة، والله لو دخلت عليك في غير هذا المكان لما عرفتك، فبكى عمر وقال: والله لو رأيتني بعد ثلاثة أيام من دفني لأنكرتني شديداً، حين تسقط عيناي على وجنتي، وتخلع أذناي من رأسي، ويتغير خدي، وينهش بطني، إذاً لرأيت منظراً فظيعاً؛ فبكى ذاك العابد".(45/3)
عمر بن عبد العزيز يذاكر العلماء
ولما تولى الخلافة أرسل إلى علماء الأقاليم فقال: [[أوصوني فإني قد توليت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم]] فكتب له محمد بن كعب: " يا أمير المؤمنين! والله الذي لا إله إلا هو ما بقي من الخلفاء على قيد الحياة إلا أنت، فاتق الله أن تصرع كما صرعوا ".
وكتب له سالم بن عبد الله من أخواله: " يا أمير المؤمنين! صم هذا اليوم، حتى تلقى الله فتفطر عنده يوم يستبشر الصائمون بفطرهم "، وكتب له مطرف بن عبد الله الشخير: " يا أمير المؤمنين! لو كان لك خصم لديد لأعجزك، فكيف بخصمين؟! فكيف بثلاثة؟! وكيف بك وكل واحد من رعيتك خصم لك يوم القيامة عند الله؟!!
فأخذ هذه الرسائل وطواها ينظر فيها كل يوم، وجمع سبعة من الصلحاء ومن الزهاد والعباد وقال: أنتم جُلَّاسي وسُمَّاري كل ليلة، أشترط عليكم ثلاثة شروط، الأول: ألا تغتابوا في مجلسي أحداً، والأمر الثاني: ألا تتحدثوا في الدنيا أبداً، والأمر الثالث: ألا تمزحوا وأنا جالس، فكانوا يجتمعون بعد صلاة العشاء، فيتحدثون في الموت -وما أدراك ما الموت؟! - وما قبل الموت وما بعده، ثم ينفضون من مجلسهم كأنهم قاموا عن جنازة.
وفي أثناء الخلافة كتب له سالم بن عبد الله بن عمر كتاباً فظيعاً شديداً مدهشاً، يقول: " يا أمير المؤمنين! والله لقد تولى الملك قبلك أناس ثم صرعوا، فها هنا مصارعهم في القبور فانظر إليها لترى، كانوا ينظرون بعيون إلى اللذات فأكلت، وكانوا يأكلوا في بطون فنهشت، وكانوا يمسون بخدود أكلها الدود، فاحذر أن تكون مع المحبوسين يوم القيامة يوم يطلق العادلون ".
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه تولى الخلافة فنام بعد صلاة الظهر في ذاك اليوم، فقال له ابنه الصالح العابد المجاهد عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز -وعمره آنذاك تسعة عشر سنة- قال له: يا أبتاه! أتنام وقد توليت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يسألك الفقير ويشكو إليك المسكين، ويتحاكم إليك المظلوم، فمن لك بهؤلاء إذا أتوا خصومك يوم القيامة.(45/4)
عمر بن عبد العزيز وخوفه من الله
ولما تولى رضي الله عنه وأرضاه خلع كل لباس كان يلبسه، وأبقى ثوباً واحداً، فكان إذا أراد أن يغتسل يوم الجمعة نشف له ثوبه هذا بعد أن يغسل، واغتسل ثم لبسه وصعد المنبر، لم يبق قليلاً ولا كثيراً، يقول رضي الله عنه وأرضاه للناس: أيها الناس! وهو يخطب: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] قال: ما للشمس تكور؟ ثم قال: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير:2] قال: ما للنجوم تنكدر؟ ثم بكى حتى صرع على المنبر.
وحج بالناس فوقف في عرفة فأخذ الناس يتسابقون مع الغروب إلى مزدلفة فقال: [[لا والله.
ليس السابق اليوم من سبق جواده وبعيره، ولكن السابق من غفر له هذا اليوم]] ونزل هو والأمراء في منتزه وبستان من البساتين، فلما جلسوا استأنسوا واستراحوا إلا هو جلس يبكي، قالوا: مالك؟ قال: هذه دنيانا وبساتيننا، فكيف بنا يوم العرض على الله إذا دخل الناس بساتينهم ولا بساتين لنا؟! فبكى الناس.
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر
إذا شجرات العرف جذت أصولها ففي أي غصن يوجد الورق النضر
لما تولى الخلافة قال لأهله: إني قد آنست عقبة كؤداً لا يجوزها إلا المخف.
تقول امرأته: والله ما كان يأوي إلى فراشه إلا كما يأوي العصفور إلى عشه، وإنه ليرتجف صدره كل ليلة، فأقول: مالك؟ قال: أريد أن أنام فأتذكر قوله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] فلا يأتيني النوم.
وكان الخطباء في عهده يسبون أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه وأرضاه، فنسخ هذا وأبدل الخطباء بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].(45/5)
ميزان التقوى هو الحكم عند عمر بن عبد العزيز
كانت موازينه عنده التقوى، يقول: " والله ما رأيت متقياً لله إلا وددت أنني في جلده ".
استدعى يوم تولى الخلافة مولاه مزاحماً، وقال له: يا مزاحم! -وهو مولى- رأيتك تصلي الضحى في شعب من الشعاب، حيث لا يراك إلا الله فأحببتك والله، فإذا رأيتني ظلمت فخذني بتلابيب ثوبي وقل: اتق الله يا عمر بن عبد العزيز.
بينما هو جالس للناس إذا بثلاثة من الشباب عليهم ثياب جميلة، ومنظر بهي، دخلوا عليه في ديوان الحكم، فجلسوا بجانبه، فالتفت إليهم وقال لهم: من أنتم؟ قال أولهم: أنا ابن شريك بن سحماء تولى أبي ولاية كذا وكذا، فأعرض عنه عمر بن عبد العزيز كالمغضب، وقال للثاني: وأنت من أبوك؟ قال: أبي كان والي دار الحسبة في دمشق فأعرض عنه، وأتى إلى الرجل الثالث وقال: أنت ابن من؟ قال له:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد
هذا الرجل أبوه قتادة بن النعمان من الأنصار، شارك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة أحد، فلما قاتل ضرب بالسيف على عينه، فنزلت عينه حتى أصبحت على خده، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها بيده الشريفة إلى مكانها، فكانت أجمل من أختها، فيقول هذا الابن:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فدمعت عينا عمر بن عبد العزيز، وقال:
تلك المكارم لا قعبان من لبن وهكذا السيف لا سيف ابن ذي يزن
فلذلك رضي عن هذا وغضب عن أولئك؛ لأنهم انتسبوا إلى الدنيا وانتسب هذا إلى الآخرة، والذي ينتسب إلى الآخرة أعظم عند الله من الذي ينتسب إلى الدنيا.
كان رضي الله عنه وأرضاه لا يرضى مظلمة، لما تولى دخل عليه الأمراء يبايعونه بالخلافة، فمدوا أيديهم، فقبض يده إلى حضنه رضي الله عنه وأرضاه، فقال أولهم وهو شريك: بايعني، قال: اغرب عني غرب الله بك، والله لا تتولى لي عملاً أبداً، قال: ولماذا؟ قال: جلست أنت وأبناؤك في خيمة في الغزو والشمس تصيب الناس، وجلست تتظلل وتركت الناس في الشمس، والله لا تتولى لي، ثم تقدم له عدي بن أرطأة، فقال: اغرب عني! والله لا تتولى لي، قال: ولم؟ قال: جلدت فلاناً سبعين جلدة؛ لأنه آذى ابنك، فما غضبت لله ولا غضبت لرسول الله، ثم ولى العباد والزهاد فقامت الدنيا.
يقول ميمون بن مهران رضي الله عنه وأرضاه: والله لقد أخبرنا رعاة الأغنام أن الذئب في خلافة عمر بن عبد العزيز ما كان يعدو على الغنم، فلما توفي عمر في ذاك اليوم عدا الذئب على الغنم فعرفوا أنه مات، فسألوا الناس، فقالوا: مات في ذاك اليوم.
وقال ابن كثير: لما توفي رضي الله عنه وأرضاه نزلت في قبره صحيفة من السماء مكتوب فيها: براءة لـ عمر بن عبد العزيز من النار، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32].(45/6)
عمر بن عبد العزيز قدوة لمن بعده
ذلك هو عمر بن عبد العزيز لمن أراد أن يقتدي به، وليس هناك حاجب يحجب المسلم عن الحسنات ولا عن المناقب، وإنما يحجبه الهوى والشهوات والمعاصي، وهذا عمر بن عبد العزيز الذي جلس للناس معلماً ومربياًَ وموجهاً أنفق كل الأموال في طاعة الله، وما أخذ من الدنيا لا قليلاً ولا كثيراً، وكان من أشظف الناس عيشاً، ومن أشعثهم رأساً، دخل عليه ابن سلام فقال: يا أمير المؤمنين! قال: لبيك، قال: حدثني ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وما حدثك ثوبان؟ قال: حدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن حوضي طوله كما بين أيلة، وصنعاء}.
فبكى عمر بن عبد العزيز حتى سقط من كرسي له من خشب، ثم أجلسوه فقال: لمن هذا الحوض؟ ومن يشرب منه؟ قال ابن سلام: يشرب منه الذي لا يتزوج المتنعمات، ولا يجلس على الديباج، ولا يعدد الأصناف ولا يظلم الناس، فجلس وتربع، وقال: لا جرم، والله لا أغسل رأسي حتى يشعث، ولا أغسل ثوبي حتى يتسخ، ولا أجلس على ديباج حتى ألقى الله، علَّ الله أن يسقيني شربة من الحوض لا أظمأ بعدها أبداً.
ولما توفي حلت المصيبة بالمسلمين كافة، وأغلقت الحوانيت، وأغلقت القلوب بحزنها، والعيون بدموعها:
لعمرك ما المصيبة فقد مال ولا شاة تموت ولا بعيرُ
ولكن المصيبة فقد شهم يموت بموته بشرٌ كثير
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(45/7)
وفاة عمر بن عبد العزيز
الحمد لله ولي الصالحين، رب العالمين، عضد المهضومين، التائب على التائبين، محب المنيبين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المتقين وحجة الله على الناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، صلى الله على من ربى هؤلاء الأخيار الأبرار وأخرجهم هداة للناس، فهم ورقات من دوحته، وقطرات من بحره:
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
ولكل حي وفاة، ولكل بقاء نهاية إلا الله؛ فإنه الباقي سُبحَانَهُ وَتَعَالى بقاءً أبدياً سرمدياً قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] وقال عز من قائل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
وتنتهي حياة الأخيار بنهاية حميدة بروضة من رياض الجنة، وتنتهي حياة الفجار بحفرة من حفر النار، فكأن الأخيار ما بئسوا مع من بئس، وما كأنهم سهروا في طاعة الله ولا تعبوا، ولا كأنهم جاعوا بعد أن تنعموا؛ لأنهم صبغوا في الجنة صبغة، فزال كل ألم، وما كأن الفجار تنعموا مع من تنعم، ولا أكلوا مع من أكل، ولا شربوا مع من شرب؛ لأنهم صبغوا في النار صبغة، فزال كل نعيم.
تأتي الوفاة لهذا الإمام والخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، وكان أعظم ما قاده إلى طاعة الله ذكر الموت، والموت مصيبة كما سماه الله في كتابه حين قال: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة:106] وكان الحسن البصري يقول: [[والله ما في الدنيا مصيبة أعظم من الموت]] وكان يقول: [[فضح الموت الدنيا، فلم يدع فيها لذي لب فرحاً]].
فلما حضرت سكرات الموت عمر دخل عليه الأطباء، فقال: هيهات هيهات! لقد تعالج قوم هود وعاد فماتوا بأطبائهم، فجلس حوله الأطباء، وقال: ما هو مرضي؟ قالوا: نرى أنك أصبت بسم -وضع له سم في طعامه- فقال: ما هو علاجي؟ فوصفوا له العلاج، قال: والله لو كان دوائي في أن أرفع يدي اليمنى إلى أذني ما فعلت، والله ما أنا بحريص على الحياة وقد مللتها، ثم استدعى خادمه وقال: أسألك بالله، أسألك بمن شق البحر لموسى، أسألك بمن يجمع الناس ليوم لا ريب فيه، أأنت وضعت السم لي في الطعام؟ قال الخادم: إي والله، قال: فكم أعطوك من المال؟ قال: أعطوني ألف دينار، قال: اذهب على وجهك أنت عتيق لوجه الله والله لا أمسك بسوء، فذهب الخادم ومرض عمر رضي الله عنه وأرضاه، ودخل عليه الناس يعودونه، فكلما عاده أحد، قال له عمر: اعف عني عفا الله عنك، ثم أدخل عليه الأطفال في آخر يوم من رمضان وهو مريض، فقبَّلهم ومسح على رءوسهم وبكى، وفي عيد الفطر يوم يخرج الناس في ثيابهم الجميلة، يوم يخرجون يتعايدون ويتزاورون، يوم تمد المواكب والسرادقات جلس في بيته، وأرسل إلى رجاء بن حيوة أحد العلماء الصالحين، قال: صلِّ بالناس فإني مرتهن اليوم وإني محبوس إن لم يطلقني الله، وخرج رجاء بن حيوة وخرج الناس، لكن ليس معهم الخليفة أمير المؤمنين، بقي في بيته مع ملائكة الرحمن: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] فلما كان الضحى من يوم العيد قال لامرأته: اخرجي من بيتي؛ فإني أرى قوماً ليسوا بإنس ولا جن، أظنهم ملائكة، فخرجت وفاضت روحه إلى الحي القيوم، وكان يقول قبل وفاته لأهله: إذا غسلتموني وكفنتموني ووضعتموني في القبر فاكشفوا عن وجهي فإن ابيضَّ فاهنئوا وامرءوا، وإن اسودَّ فويل لي وويل لأمي، قالوا: ولم؟ قال: والله ما دفنت خليفة إلا كشفت عن وجهه فوجدت وجوههم مسودة.
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:106 - 107].
وصرع ذاك المصرع الذي لا بد لكل حي أن يصرعه: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94] {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذرُ
تردى ثياب الموت حمراً فما دجا لها الليل إلا وهي من سندس خضرُ
لقد مات بين الضرب والطعن ميتة تقوم مقام النصر إن فاته النصرُ
وما مات حتى مات كل موحدٍ من الهمِّ واستولت عليه القنا السمر
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر(45/8)
خاتمة
اللهم أخرج من أصلاب هذه الأمة الموحدة أمثال عمر بن عبد العزيز، اللهم رد شبابنا ليقتدوا بـ عمر بن عبد العزيز، اللهم وفق كهولنا ليعرفوا زهد عمر بن عبد العزيز، وردنا إليك رداً حميداً يا عزيز؛ إنك على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأخيار، عن الصديق السباق الرفيق في الغار، الخائف من الواحد القهار، وعن فاروق الإسلام أبي حفص المنصف العادل، وعن ذي النورين، جامع القرآن، المخضب بدماء الشهداء عثمان بن عفان، وعن الإمام المرتضى سيف الله المنتضى الزاهد في كل شيء إلا في رضا الواحد القهار علي بن أبي طالب، وعن بقية العشرة، وعمن بايع رسولك تحت الشجرة، وعن كل صالح وعابد، وعن كل مجاهد وزاهد، وعن كل خيِّرٍ وعالم، وعنا معهم بفضلك وكرمك ومَنِّك يا رب العالمين.
اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك، اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم ثبت المجاهدين في أفغانستان وفي فلسطين اللهم أنزل عليهم السكينة، وثبت أقدامهم، واربط على قلوبهم، ووحد صفوفهم، واجمع كلمتهم، وسدد سهامهم في نحور أعدائهم.
اللهم العن كل من حادك وحاربك ونازل أولياءك، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أبدهم كل إبادة، ومزقهم كل ممزق، ودمرهم تدميراً، واجعلهم هم وأطفالهم وأموالهم غنيمة للمسلمين يا رب العالمين.
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكون من الخاسرين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(45/9)
كيف يربى الشباب؟
إن لكل صاحب علم، ولكل داعية ومعلم، يهتم بالأمور التربوية ويعمل في حقل بناء الرجال، قاعدة راسخة في أقوال وأفعال مربي البشرية صلى الله عليه وسلم، فهي تربية بالفعل والترك، عقيدةً وإيماناً، أخوة وحباً في الله، مع معرفة عميقة للنفسيات، وتقويم سديد للاعوجاجات.(46/1)
مواقف من تربيته صلى الله عليه وسلم لأصحابه
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فهذه الحلقة الثانية من درس "آداب تربوية" ولعلها تكون بضابط (كيف يُربَّى الشباب؟) ويوم نعرف كيف نربي الشباب، وندعوهم ونوجههم؛ نعرف كيف نكون دعاة، وفي هذا الدرس أمور:
الأول: الاهتمام بجانب الإيمان في حياة الشاب.
الثاني: الاعتناء بالفرائض قبل النوافل.
الثالث: إحياء روح الاقتداء في نفس الشاب، بإيجاد القدوة الحقة التي تعمل بما تقول.
الرابع: ترسيخ معنى الأخوة الإسلامية على ضوابطها.
الخامس: تجنيب الشاب السب والشتم والتجريح والتشهير.
السادس: موقف الشاب من الخلاف، وما هي ضوابط الخلاف؟
السابع: الفتيا، متى يكون مفتياً؟ ومتى يحمل تبعة الفتيا؟ وما هو موقفه منها؟
الثامن: أدبه في دعوة الناس.
أما تربية الشباب فإنه أمر ليس بالسهل، وإن من أعظم مهماته عليه الصلاة والسلام في الحياة أنه كان مربياً، فكانت تربيته صلى الله عليه وسلم أكثر من كلامه، وكان عمله مع الصحابة أكثر من قوله صلى الله عليه وسلم، فكان يربي بحركاته وسماته وصفاته عليه الصلاة والسلام أكثر من خطبه ومحاضراته.
ولذلك فكلامه في المناسبات قليل، لكنه كان صلى الله عليه وسلم يأخذ من الموقف درساً ونتيجة، فجعل ليله ونهاره وقفاً على التربية.
صحيح أنه يوجد في الساحة اليوم دعاة، ولكننا نفتقر إلى مربين، إلى من يأخذون بالشاب إلى طريق الله المستقيم، إلى من يهدونه ويربونه في سلوكه، وفي أخلاقه، وسماته وصفاته، ولذلك تلحظ حماساً عند بعض الناس، ولكنه يفتقر إلى الأدب، وإلى التوجيه والتربية.
لهذا كان لزاماً علينا أن نعود إلى أصول التربية التي أتى بها صلى الله عليه وسلم، فنستعرض كيف ربى أصحابه، وكيف دلهم على الطريق المستقيم.
انظر إلى مواقف أستعرضها معك من تربيته عليه الصلاة والسلام:(46/2)
الموقف الأول: مع الصحابي الذي طلب الإذن في الزنا
صح في الحديث: {أن رجلاً أتى إليه صلى الله عليه وسلم -قيل إنه من ثقيف وقيل من غيرها- فقال: يا رسول الله! أريد الإسلام ولكني لا أستطيع أن أترك الزنا؛ فوجم الصحابة، واستنكروا هذا الكلام بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام - لأنه فعل رجل مستهتر في الظاهر، فماذا فعل عليه الصلاة والسلام؟ -قال: دعوه- ثم أتى إليه بحوار العقل والإقناع، ولم يشهر به، ولم يبكته أمام الناس، ولم ينكر عليه ما قال- فقال: أترضاه لأمك؟ قال: لا.
قال: أترضاه لأختك؟ قال: لا.
قال: أترضاه لابنتك؟ قال: لا.
قال: أترضاه لعمتك؟ قال: لا.
قال: أترضاه لخالتك؟ قال: لا.
قال: فكيف يرضاه الناس؟!
فأتت الرجل غيرة دينية إسلامية، وتذكر مواقف الناس حين يزني بقريباتهم، كموقفه هو يوم يغار على قريباته -فقال: أتوب إلى الله من الزنا، قال صلى الله عليه وسلم: اللهم حصن سمعه وبصره وفرجه}.
ما أسهل الكلام وما أحسن الهدي.(46/3)
الموقف الثاني: مع الأعرابي الذي بال في المسجد
نموذج آخر -وهذا الحديث في الصحيحين - يجلس الرسول عليه الصلاة والسلام مع أصحابه في المسجد، فيأتي أعرابي فتضيق به الدنيا بما رحبت في مسألة البول، فيبول في مسجده عليه الصلاة والسلام، فقد كان مسجده شماسياً مفروشاً بالبطحاء، فقام الصحابة والأعرابي يبول يريدون أن يبطحوه أرضاً.
كل بطاح من الناس له يوم بطوح
والبطح معروف عند بعض الناس، وقد يستخدمه في الدعوة فلا ينتج شيئاً، وبعضهم قد يستخدم الضرب، أو السب والتجريح، فلا يكسب إلا صفراً بيده، تراه يجهد عشر سنوات فما كسب مخلوقاً، ولا رد عاصياً إلى الطاعة، ولا كسب شاباً في حياته، عنده كلمات محفوظة لو وضعت على صخر لفلقه، أو على شعر لحلقه!! فقام الصحابة لضربه، قال صلى الله عليه وسلم: {لا تزرموه -اتركوه- فجلسوا، فتركه صلى الله عليه وسلم حتى انتهى، فقال: علي بذنوب من ماء -المسألة سهلة، ولكن المقاصد أعظم- فأتوا بذنوب، قال: ضعوه على بوله، فصبوا الماء على البول وقال: عليَّ بالرجل فأتى ووضع يده عليه -هذه يد الرتابة والرحمة، يد الأنس، واللطف، يد وضعها هنا لِدرسٍ معناه: تسكين صاحب الخطأ، ما كأنه أخطأ- فقال له: إن هذه المساجد لا يصلح شيء منها للأذى والقذر وإنما هي للصلاة ولذكر الله وللتسبيح والتكبير والتهليل} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وقام الرجل، وقال بعض العلماء في الرواية: صلى قبل أن يفعل ما فعل، فقال في آخر التحيات: "اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً" وسلم عليه الصلاة والسلام وهو يدري من الرجل، ولكن أليس من الحكمة أن يعمي السؤال؟ كان بإمكانه أن يقول: "لماذا قلت ما قلت؟ " لكنه قال: {من القائل آنفاً: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً؟ فقال: أنا يا رسول الله! قال: لقد حجرت واسعاً} والمعنى: لقد ضيقت رحمة الله التي وسعت كل شيء: {ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] وانتهى الجدل والمشكلة التي وقعت في المسجد بفوائد:
أولاً: استفدنا حكم النجاسة، فإنها إذا وقعت على الأرض، أو على التراب فتطهر بإراقة الماء عليها.
ثانياً: أن المساجد إنما هي للذكر ولتلاوة القرآن وللصلاة.
ثالثاً: وهو المقصد العظيم: كيف نتعامل مع المخالفين، ومع العصاة، ومع الذين قللوا من الأدب، أو لم يعرفوا الأدب الحق؟(46/4)
الموقف الثالث: مع الأعرابي الذي قاطعه في الخطبة
جاءه أعرابي فقاطعه -كما في البخاري - في الخطبة، فما نهره، ولا سبه، ولا شتمه، واستمر عليه الصلاة والسلام في حديثه حتى انتهى، ثم قال: {أين أراه السائل عن الساعة؟ فأخبره}.
فالمسألة سهلة كان بإمكان غيره عليه الصلاة والسلام في مثل هذا الموقف أن يقول: يا قليل الأدب! لم تفعل هكذا؟ قاطعتنا قطعك الله! وفعلت بنا فعل الله بك! لكنه سوف يخسر بهذه الكلمة جمهوراً هائلاً من المسلمين.
فإن النفوس تغار، وإنها تغضب إذا لم تنزل منازلها.(46/5)
الموقف الرابع: مع الصحابي الذي تكلم في الصلاة
وفد معاوية بن الحكم السلمي على النبي عليه الصلاة والسلام -والحديث عند مسلم - فسأله سؤالاً، وعند مسلم أنه صلى معه صلاة -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- فعطس رجل من المسلمين، فقال معاوية -في الصلاة، وهو لا يعرف الحكم-: يرحمك الله -يتبرع بالدعاء داخل الصلاة، لشخص آخر عطس داخل صلاة- قال: فضربوا على أفخاذهم، قلت: ويل لأمي ماذا فعلت؟ -زاد الطين بلة، يعني لو اكتفى بالتشميت لكان أسهل ولكنه زاد فتكلم- قال: فلما سلم عليه الصلاة والسلام دعاني، فما نهرني ولا سبني ولا شتمني -أولاً: عَذَرَه وقال بصحة صلاته، لأنه تكلم عن جهل فهو لا يعرف الحكم، وهذا مكسب عظيم، الأمر الثاني- قال له: {إن هذه الصلاة لا تصلح لشيء من كلام الناس، إنما هي للذكر والتسبيح والتكبير} الأمر الثالث: عاد هذا الرجل بهذا الأسلوب داعية إلى قومه بني سليم، فدخلوا في دين الله أفواجاً.(46/6)
الموقف الخامس: مع الأعرابي الذي طلب منه مالاً
نموذج خامس: يأتي أعرابي، فيقول: يا محمد! -لم يقل يا رسول الله! لا يعرفون كيف يتكلمون معه صلى الله عليه وسلم {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور:63] كان الواجب أن يقول: يا رسول الله! يا نبي الله! لكن يقول: يا محمد! فحملها عليه الصلاة والسلام وسكت عنها.
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]- قال: أعطني من مال الله الذي عندك -وليته سكت هنا لكنه أضاف قائلاً- فليس من مالك، ولا من مال أبيك، فقام الصحابة يريدون تأديبه وتلقينه درساً لا ينساه، فأسكتهم عليه الصلاة والسلام وأخذه، وذهب به إلى البيت فأعطاه زبيباً وتمراً وثياباً، قال: {هل أحسنت إليك؟، قال: نعم.
جزاك الله من أهلٍِ وعشيرةٍ خير الجزاء، قال: إذا خرجت لأصحابي فقل هذا الكلام، فإنهم قد وجدوا عليك، فلما أخرجه أمامهم، قال: يا أعرابي! هل أحسنت إليك؟، قال: نعم! جزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خير الجزاء، فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال للصحابة: أتدرون ما مثلي ومثلكم ومثل هذا الرجل؟ قالوا: لا ندري يا رسول الله! قال: مثلنا كرجلٍ كانت له دابة فرت منه -دابة: إما بغل، أو فرس، أو جمل- فأخذ يلحقها ويلحقها الناس، فما زادوها إلا فراراً}.
والدابة إذا رأت الناس يجرون خلفها أعلنت فيهم حالة الاستنفار وطارت، بدلاً من أن تمشي على الأرض، وتصبح في سرعة لا يعلمها إلا الله، قال: {فقال الرجل: دعوني ودعوا دابتي، ثم أخذ شيئاً من خشاش الأرض وخضارها، فأشار به للدابة فأتت فأمسكها، ولو تركتكم وهذا الأعرابي لضربتموه فكفر فدخل النار}.
أتدرون ماذا فعل الأعرابي بعد هذا الموقف؟ عاد ينادي قومه، وهم قبائل من قبائل العرب، يقول: يا قوم! أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فأسلموا ودخلوا في دين الله أفواجاً.
والفيافي حالمات بالمنى تتلقاك بتصفيق مثير
والرمال العفر صارت حللاً عجباً من قلبك الفذ الكبير(46/7)
المسألة الأولى في التربية: الاهتمام بالإيمانيات
كيف نوصل الإيمان إلى قلوب الناس؟
إن التحدث في السلوك قبل الإيمان لا يجدي، وقد يتأدب الكافر، ولذلك -أنا أقول هذا-: قد تجد الكافر أحياناً في باب السلوكيات أكثر تأدباً من المسلم الذي يصوم ويصلي، وتجد الآن بعض الأعراب لا يعرفون من السلوكيات شيئاً، لكنك لو تعاملت مع الأمريكي والفرنسي لوجدته في باب الأدب عنده شيء عجيب، عندهم من أصول الأدب أن يتبسم في وجهك، هذا موجود ومعلومٌ من سيرتهم، ومن رؤيتهم، ومن معاشرتهم، عندهم من الأدب مثلاً: ألا ينظر إليك نظر استغراب، لأنهم يرون في العرف ألا ينظر الإنسان بنظر غير نظر حاجة، فإن هذا يتركك وشأنك، لكن تعال إلى بعض الناس ممن يصوم ويصلي فقد تجده لا يعرف هذا، قد يطؤك برجله في السيارة ولا يعتذر إليك بل يقول: لماذا تطأ رجلي؟ يضربك بكوعه، أو بيده، فيقول: ليس عندك أدب! فيتعامل معك بغلظة وهو يطلب منك العذر، فمسألة الأدبيات قد يفوز بها الكافر، لأنهم يتعاملون بالتعايش السلمي، أو بالنفع المادي، أو بالمقابلة المشتركة، وهذا يريدون به الدعاية، أو يريدون به أغراضاً مادية، أو أنهم جبلوا على ذلك من تربيتهم، فعندهم تربية، ويدرسون التربية في جامعاتهم.
وبعضهم يدعو إلى الأخلاق، ويقول: إن الوحدة المشتركة بيننا وبين العالمين الأخلاق، وهذه خطة ماسونية، يقولون: دعونا والناس، كلنا إذا أصلحنا أخلاقنا صلحنا، مثل بعض المفكرين في بعض كتبهم يقولون: المسلم ليس جراحاً، ولا عياباً، ولا سباباً، وصدقوا في هذا، لكنهم يريدون أن يتوصلوا إلى الوحدة الإنسانية، فيقول: تعامل مع الروسي مثلما تتعامل مع المسلم، لماذا هذه الغلظة؟ لماذا تشوهون الإسلام؟
افعل مع اليهودي مثلما تفعل مع المصلي، وافعل مع العلماني مثلما تفعل مع الموحد، كل الناس سواسية، ولا تجرح مشاعر الناس، حتى إن بعضهم قد جعل في كتاب تربوي له، أو أظنه في علم النفس قاعدة: إن المسلم الحق هو الذي لا يؤذي الناس، ونقول: هذه ليست منضبطة، فإن بعض الكفار لا يؤذي الناس، وليس الضابط والخلاف بيننا مسألة سلوك أو أخلاقيات؛ بل إيمان، فكان صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على الإيمان: الإيمان بالله، والإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالإسلام.
في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام يقول في دعاء الليل: {اللهم لك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق -هذه المبادئ- ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق} ومحمد صلى الله عليه وسلم دعاؤه وكلامه وخطبه إيمان، حتى إن ابن القيم يذكرها في زاد المعاد يقول: كانت خطبه تربي الإيمان في القلوب، لأن بعض الناس يخبر الناس بمسلَّمات؛ يأتي يوم الجمعة على المنبر فيقول: إنكم سوف تموتون يا أيها الناس! وتخرب دياركم، وتهدم أشجاركم، وتجف آباركم، وتنقطع أمطاركم، وهذا تحصيل حاصل، فهو معلوم حتى الكافر يعرف هذا.
الكافر يعرف أنه سوف يموت، وتخرب دياره، وتجف آباره، وتموت أبقاره، لكن ليس هذا هو الضابط، إنما الضابط لقاء الله عز وجل الذي يفرق بالإيمان به بين الكافر والمؤمن، فكان صلى الله عليه وسلم ينشئ أصحابه على مبدأ الإيمان وهو منهج القرآن، فعلى المسلم، أو الداعية، أو طالب العلم، أو الأب في البيت إذا أراد أن يربي أن يبدأ بالإيمانيات، فيرسخ العقيدة.
وإذا قلنا: ترسيخ العقيدة.
فقد يقول بعض الناس: عقيدة عقيدة دائماً! لقد فهمنا العقيدة!!!
فالعقيدة معناها: استواء الله عز وجل على العرش، أو العقيدة معناها: لا إله إلا الله!
فنقول: إن العقيدة بمعناها الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم تصاحب الإنسان منذ أن يسقط رأسه على الأرض إلى أن يموت، ولكنها تتفرع، ويبنى عليها غيرها، فالأدبيات والسلوكيات تبنى على العقيدة، ولا نريد بالعقيدة الأمور المجملة التي ذكرها أهل العلم، بل الأمور العملية المفصلة التي أتى بها صلى الله عليه وسلم.
كان صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى التفكر في آيات الله، كان إذا صعد مكاناً عالياً كبَّر، وإذا نزل سبَّح، والله يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190].
إن الأستاذ المربي يجعل من التاريخ مادة إيمان وعقيدة، كيف؟
هم يدرسون الآن ترجمة زنوبيا الزباء ملكة تدمر أكثر من ترجمة أبي بكر الصديق، ولدت وكان عندها جيش وفعلت وصنعت.
والملك الأبرش (وجدع قصير أنفه).
وعنترة بن شداد أين كان يسكن.
وداحس والغبراء، وهذه الطلاسم، ولكن الأستاذ المؤمن المؤرخ حين يقف عند السبورة أمام الطلاب فإنه يحول درس التاريخ إلى عقيدة، فيتحدث عن آيات الله في الكون، ويأتي بقوله تعالى عن التاريخ: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم:45].
إن المؤرخ المسلم حين يقف عند السبورة يميز بين ترجمة أبي بكر الصديق وترجمة زنوبيا الزباء، فيقول: زنوبيا ملكة كافرة، وعنترة رجل شجاع وثني فلابد أن يذكر التمايز، ويدخل إلى أبي بكر فيتحدث عن أبي بكر ويتحدث عن معركة عين جالوت، ولكن بإسلام، يتحدث عن معركة بدر ولكن بإيمان.
يا أيها الإخوة! أحد المفكرين الذين لامهم الناس ونقدوهم في الساحة، وهو يستحق النقد في بعض الجوانب، وقد أخطأ كثيراً في جوانب كثيرة، لكنه في مسألة أصاب فيها، ولا يعني أنه إذا أخطأ كثيراً ألا يصيب ولو مرة، يقول في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم: أنا لا أكتب السيرة كرجل متجرد من العاطفة، إنني جندي من جنوده عليه الصلاة والسلام، بيني وبينه وشيجة كما بين الجندي والقائد، أنا لا أتجرد من عاطفة الإيمان.
وصدق في هذا، وكلامه صحيح، بل هو من أصح الكلام.
تجد بعضهم الآن يقولون وهم يكتبون في تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم: نحن نتجرد عن عاطفته، وعن حبه في أول الطريق لنكتب ببراءة، ونكتب بعدم تدخل، ولنقول نحن حياديون.
حيادي! ويلك من الله! حيادي عن محمد عليه الصلاة والسلام كأنك متهم أمام العالم باتباعه! أو ربما يقيدون عليك أنك عميل استخبارات محمد عليه الصلاة والسلام، إنك إن لم تكن موصولاً به بعاطفة حية وبإيمان وإلا فإنك أنت المتهم الوحيد، أنت لا تكتب عن نابليون، ولذلك أخطأ العقاد في كتابه عبقرية محمد، وقد فعل سعيد حوى ذلك غفر الله له.
تدرون بماذا أتوا في العسكرية؟ أتوا يقارنون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في العسكرية وبين نابليون، جاء بها سعيد حوى في كتابه الرسول صلى الله عليه وسلم وأتى بها العقاد في كتابه عبقرية محمد، فأخطأ الاثنان، أخطأ ذاك يوم قارن بين عبقرية هذا وهذا في العسكرية، وأخطأ هذا يوم قلده وتوسع في ضرب الأمثلة.
من هو نابليون؟ نابليون يستمد تعاليمه من المحيط الأطلسي من البحر ومن الطين، ومحمد صلى الله عليه وسلم يأخذ تعاليمه من فوق سبع سماوات.
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:1 - 6] كيف تقارن بين هذا وهذا؟ نابليون خرج لسحق العالم ولقتله مثل: هتلر النازي، ومحمد صلى الله عليه وسلم جاء لإحياء العالم، جاء بتوحيد الله وبرد الفطرة السليمة إلى ربها بعد أن انتكست.
فمسألة الإيمان أمرها عجيب، أنا ذكرت وأكرر هذا: أستاذ داعية مشهور وله مذكرة في الساحة غفر الله له، دخل فصلاً من الفصول فسأل الطلاب: ما هي المادة؟ قالوا: رسم -يعني مادة فنية- وأكثر ما يرسمون البط والماعز، والدجاج والحمام، وهل يستطيع الطالب أن يميز بين الدجاجة والبطة في الرسم؟ فأتى هو برسم آخر فرسم زهرة، ثم ألقى محاضرة في العقيدة على الزهرة، من أنبت الزهرة؟ ومن جملها؟ من باين بين ألوانها هذه حمراء، وتلك صفراء، وهذه خضراء، من كل زوج بهيج! فأبكى الطلاب وأدخل الإيمان إلى الطلاب.
أستاذ الجغرافيا حينما يحمل التربية الحقة يحول الجغرافيا إلى مادة إيمان، نحن لا يهمنا معرفة عواصم الدول، ولا منتجاتها، فهي ثقافة عامة يعرفها الكافر مثلما يعرفها المسلم، ولا المحيطات، ولا التضاريس، ولا المناخ، ولا أن الرياح ترتفع في المرتفعات، وتنخفض في المنخفضات، هذا أصغر مما يهمنا.
يهمنا: من سوَّى الكون؟ ومن أرسى الجبال؟ ومن أجرى الريح؟ وقواعد عمل الجغرافيا في القرآن:
{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20] ولذلك أجاد العلامة الشيخ/ عبد المجيد الزنداني -رفع الله منزلته- يوم استنبط من هذه القضايا الكبرى حياةً وإيماناً للإنسان، عندما يأتي بهذه القضايا الكبرى، فيطرقها ويربطها بالقرآن، فإذا الإيمان، وإذا القرآن، وإذا الجمال في الطبيعة التي جملها الله عز وجل كلها تقود الإنسان إلى الواحد الأحد.
مجرى النهر، الماء، الريح، إنها لآية من آيات الله، لكن أن يبقى الإنسان يحفظ كأنه آلة، كأنه كمبيوتر، ويعرض على الطلاب تضاريس الدول ومناخاتها، ومنجاتها وأشجارها، وصادراتها، ووارداتها دون أن يربطهم بالإيمان، لقد أخطأ كثيراً، وما الفرق الآن بين أستاذ مثلاً: فرنسي، أو ياباني، أو صيني وبين أستاذ مسلم وكلهم يتحدث عن الجغرافيا بنفس الطريقة والأسلوب؟!.
إن ذاك المسلم يختلف عن الجميع بأنه مؤمن.(46/8)
المسألة الثانية في التربية: الاعتناء بالفرائض أولاً
إن من التربية التي بناها صلى الله عليه وسلم دعوة الصحابة إلى الفرائض أولاً.
في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في الحديث القدسي: {يقول الله: وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به الحديث} كان صلى الله عليه وسلم يعتني بالفرائض، يأتيه رجل فيسأله عن الإسلام، فيقول: {شهادة أن لا إله إلا الله -والحديث في الصحيحين من حديث طلحة بن عبيد الله - وأن محمداً رسول الله، قال: ثم ماذا؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها؟، قال: لا.
إلا أن تطوع} الحديث، لكن بعض الناس إذا أتى يدعو يسأله عامي: ماذا تدلني؟ قال: أولاً عليك بالصلوات الخمس، والوتر، وأربع ركعات في الضحى، وقيام الليل، وتحية المسجد، فيكثر عليه، فيقول: ما دام أن الأمر هكذا أتركها جميعاً، وإذا سأله سائل عن نافلة: ماذا أفعل في التسبيح؟ -رجل بسيط جاهل، مبتدئ في الإسلام- قال: هلل مائة تهليلة بعد الفجر، وعليك بالأذكار عند الغروب، وقبل النوم قل هذه الأذكار وبعده، ثم يسرد له قوائم من الذكر فيتركها جميعاً.
يقول أبو بكر: يا رسول الله! أخبرني بدعاء أدعو به في صلاتي، قال -وهذا في الصحيحين -: {قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم} حفظه دعاء واحداً فَحَفِظه.
يقول علي: دلني يا رسول الله على دعاء أقوله، قال: {قل: اللهم اهدني وسددني}.
وقال حصين بن عبيد في سنن أبي داود: يا رسول الله! أريد دعاءً، وقيل بل بدأه صلى الله عليه وسلم فقال: {يا حصين! قل: اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي} أدعية محفوظة مضبوطة.
يقول للصحابي الآخر: {لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} ويقول للثالث: {أفلا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قال: بلى.
قال: قل لا حول ولا قوة إلا بالله}.
إنه السهولة في العرض، والتدرج في التربية، ولكن المقصد البداية بالفرائض.
تجد بعض الناس يُغلِّب جانب النوافل على الفرائض، تجده يتحدث إلى الناس دائماً عن قيام الليل بينما لا يصلي كثير من الناس صلاة الجماعة في المسجد، أو تجده إذا أتى في ركعتي الضحى خشع وأحضر قلبه واستحضر ما يقول وما يقرأ، ولكن في الفريضة يهزها هزاً ويفنيها فناءً.
وبعضهم عند تلاوة القرآن يخشع، ولكن في تلاوة القرآن في الصلاة لا يخشع وربما شرد ذهنه، وبعضهم تجده يعتمر كثيراً لكنه لم يحج، أو تجده في نوافل الدعوة في كل مكان يتنقل مع الشباب من مدينة إلى مدينة، ولكن والدته عجوز حسيرة كسيرة مريضة في البيت ولم يقم بخدمتها.
وبعضهم عنده والدان شيخان كبيران ليس عندهم من يقوم بخدمتهما، ولا من يقدم المئونة لهما، ويقول: أريد الجهاد، ولا أقول في هذا الباب إلا أن من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، والبداية بالفرائض، والأولويات في الدين هي منهجه عليه الصلاة والسلام.
أحد الأعراب يقول كما في صحيح مسلم: {يا رسول الله! أرأيت إن أديت الصلوات الخمس، وصمت رمضان، وأديت الزكاة، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام أأدخل الجنة؟ قال: نعم.
}.
انتهى الأمر.
لم يقل له فيما بعد: وركعتي الضحى، وتحية المسجد، والكسوف والاستسقاء، والصلاة على الجنازة، هذه القلوب في قضية العرض تتعب، ولا ترتاح لهذا العرض.(46/9)
المسألة الثالثة في التربية: إحياء روح الاقتداء في نفس الشاب
إن الذي ينقص كثيراً من المسلمين اليوم هو: القدوة: وكيف نبني قدوة؟ كيف نوجه قدوة؟ يلتمس الشاب قدوة يقتدي بها في المجتمع، فلا يجد إلا قليلاً نادراً، أو لا يجد.
القدوة التي تعمل بما تقول، القدوة التي يحس بها الشاب، لأن إلقاء المعلومات على الشباب لا يكفي، محاضرات ودروس دون أن يكون بينهم قدوة، أو رابطة بتعامل، أو رجل يتوجهون إليه فيجدونه مقتدياً برسول الله عليه الصلاة والسلام هذا أمره عظيم.
يقول أحد السلف: كنت إذا وهنت في العبادة، وكسلت فيها ذهبت إلى محمد بن واسع الأزدي، فنظرت في وجهه فتنشطت على العبادة أسابيع.
فقط في النظر هكذا.
ويقولون: كان محمد بن واسع إذا رُئي ذُكر الله.
ويقولون: إنه ما اتكأ، لا اتكأ على اليمين، ولا على اليسار، وإلا فالأمر فيه سعة فقد اتكأ عليه الصلاة والسلام على يمنيه وعلى يساره، لكن انظر العبرة.
قيل له: لماذا لا تتكئ؟ قال: أنا ما جزت الصراط فلا أدري هل أنا من أهل الجنة، أو من أهل النار، ولا يتكئ إلا آمن، وأنا لست بآمن كان إذا جلس وحده تربع وخشع في جلوسه، فقيل له: نراك معنا تتبسم كثيراً فإذا جلست وحدك انضبطت وخشعت، قال: في الحديث: {يقول الله: أنا جليس من ذكرني} فكان يذكر الله وهو جالس، هذا محمد بن واسع، وهو صاحب قتيبة بن مسلم يوم صفوا في حدود كابل، يوم أتى قتيبة بن مسلم -رفع الله منزلته- يفتح تلك المنطقة، وقبل المعركة بدقائق قال لقواده: التمسوا لي محمد بن واسع، العالم العابد خرج يجاهد في سبيل الله.
يقول ابن القيم:
بالليل عباد وعند لقائهم لعدوهم من أشجع الأبطال
خرج يجاهد في سبيل الله، عالم وعابد وزاهد.
قال قتيبة: التمسوا لي محمد بن واسع، ماذا يفعل في هذه الساعة؟ ساعة ضاقت، بلغت فيها القلوب الحناجر، غفر الله لـ قتيبة بن مسلم فأمره عجيب! كان يدخل المسجد ولا يخرج، يقولون: إذا أراد غزوة يدخل المساجد التي في الثغور، ثم يستقبل القبلة ووراءه القادة والجنود، وكان يرفع يديه ولا يخرج حتى يبكي ويُبكي القادة معه، يطلب النصر، ولذلك اجتاح تلك المناطق بإيمانه، ونصره الله، قال: التمسوا لي محمد بن واسع، فأتوا إلى محمد بن واسع، فوجدوه قد ركز الرمح وهو يشير بإصبعه يا حي يا قيوم! انصرنا، فعادوا إلى قتيبة فأخبروه قال: [[والله لإصبع محمد بن واسع خيرٌ عندي من ألف سيف شهير، وألف شاب طرير]] وانتصر المسلمون، وله قصة.
لكن الشاهد هنا: أنهم كانوا يرون وجهه فيتقوون على العبادة أسابيع، فكيف لو كان معهم، يخالطهم ويتكلم إليهم، كانت رؤية الصالحين تنفع في ذاك الوقت، لكن قَلَّ الأعوان، وذهب الإخوان، ولا نشكو حالنا إلا إلى الرحمن.
هذه مسألة أثر الاقتداء في تربية الشاب وأمرها عظيم، وإذا لم تجد قدوة تمشي، فعد بهم إلى القدوة الحقة أعني: محمداً عليه الصلاة والسلام.
تقول عائشة وقد سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم: {كان خلقه القرآن}.(46/10)
المسألة الرابعة في التربية: ترسيخ معنى الأخوة الإسلامية
كثير من يتحدث عن الأخوة، ويدعو إلى الأخوة على المنبر، لكن إذا نزل تعامل مع الناس بالهراوة والكرباج، أخوة بالكلام فقط، لكن عند التعامل لا يسمح لهم في مثقال ذرة من الخطأ، تجده إذا أخطئوا عليه بكلمة ردها عليهم بعشر كلمات، يدعو إلى الأخوة لكن إذا جلس في المجلس بدأ يتكلم في عباد الله، فلان منهجه خطأ، انتبهوا لفلان في العقيدة، فلان أساء الأدب، فلان ليس عنده علم، فلان متهور، فأين معنى الأخوة؟ تريد مني أن أؤاخيك وقد هتكت عرضي، وسفكت دمي، وأذهبت ماء وجهي! تريد الأخوة وقد سببتني وشتمتني، متى نلتقي؟! لا، والله!
أتوا إلى الحسن، فقالوا: اغتابك رجل، فقال: خذوا له رطباً -قالها الغزالي في الإحياء - فذهبوا بالرطب إلى الرجل، وقالوا: أرسل الحسن إليك هذا وقال: [[تهدي لنا حسناتك، ونهدي لك رطباً]] وما سبه ولا جدّعه.
جاء رجل إلى ابن السماك الواعظ قال: غداً نتعاتب -يقول: غداً أحاسبك وتحاسبني- قال: غفر الله لك، بل غداً نتغافر، ولا نتحاسب، غداً نلتقي وأقول: غفر الله لك، وتقول: غفر الله لي.
ومعنى الأخوة ليس بالسهل، ففي الأخوة واجبات، يقول عليه الصلاة والسلام: {حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه} لقد وجد من أبناء الجيل، ومن أبناء الصحوة -وهذا يقين ليس ظناً ولا رجماً بالغيب- من يلتقي مع أخيه المسلم الشاب ولا يسلم عليه، نعم.
وُجد هذا وثبت كثبوت هلال العيد، فأي تربية ترباها هؤلاء؟! وهل يريدون نصر الإسلام؟! لا يسلم عليه، ولا يصافحه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {إذا لقيته فسلم عليه} والبشاشة مع السلام: {ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق} أو طلْق، أو طَلِق، وبعض الناس تراه منبسطاً مرتاحاً، فإذا رأى أخاه قبَّض وجهه، لأنه خالفه في جزئية!
قال: {وإذا استنصحك فانصحه} والبعض يجعل أخطاء أخيه معروضة أمام الناس، مع أنه لم يكلمه أبداً، بل تجده يتشفى فيه في المجالس بقوله: أخطأ حسبه الله في هذه المسألة، فإذا سألته: بالله عليك -وأنت تعرض أخطاءه على الناس- هل نصحته يا أخي؟ هل كلمته؟ أو كتبت له؟ فسيقول: لا.
إن أهل السنة يتناصحون، وإن أهل البدع يتفاضحون.
تعمدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعط طاعة
{وإذا دعاك فأجبه} صعب على المسلم أن يدعو أخاه لمناسبة ليس فيها حرام فيعتذر دائماً، صحيح أن للناس أعذاراً، لكن لا يعتذر معتذر إلا لأحد أمور:
الأول: أن يكون له عذر شرعي، من مرض، أو سفر، أو ارتباط، أو موعد فله ذلك.
الثاني: أن يكون الاعتذار لبدعة، أو منكر عند الداعي، فله ذلك، فإن الإمام أحمد لم يكن يجيب دعوة أهل المنكرات، ولا أهل المعاصي الظاهرة مثل: أن يكون في بيته خمر يدار في المجلس، أو غناء يُضرب ويُستمع إليه في أثناء الجلسة أو أن هذا الرجل يشعر بعلو على إخوانه، فلا يجيب دعوته.
بعض الناس تجده لا يجيب دعوة الناس ويقول: أو كلما دعيت أجيب! أنا فاضل هل أمشي إلى المفضول؟! هم أقل قدراً مني، ولو لم يقله لسانه، ولكن قلبه يقول ذلك، والعجب هلاك محقق والعياذ بالله!
وإن من حقوق الأخوة الإسلامية: أن تدعو له بظهر الغيب، وعلامة الصدق أن تدعو له بظهر الغيب، وهو أمر مطلوب منا، ومطلوب منكم، انظر كيف رفع الله أحمد والشافعي.
أحمد بن حنبل رحمه الله رأى ابن الشافعي -بعد ما توفى الشافعي - فقال: [[أبوك من السبعة الذين أدعو الله لهم في السحر]] سبعة كان يدعو لهم الإمام أحمد من زملائه وإخوانه، يقولون في المثل العامي: (عدوك صاحب مهرتك) ولكنه ليس بصحيح بل أخوك هو الذي ينتهج نهجك، ويسير في مسيرتك.
كان أبو الدرداء يدعو لسبعين من أصحابه بظهر الغيب، وأسرع إجابة؛ دعوة غائب لغائب.
ومن حقوق الأخوة: إذا مرض أن تعوده، وإذا مات أن تتبع جنازته، وإذا عطس أن تشمته إلى غيرها من الحقوق، فترسيخ معنى الأخوة يأتي في الامتثال في أرض الواقع، وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك وفي صحيح البخاري أصل الحديث، ولكن قصته: أن الصحابة اجتمعوا في مجلس، فتكلم بلال - بلال حبيب القلوب، يقول عمر: [[أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا]]- فقال له أبو ذر: [[حتى أنت يا بن السوداء تتكلم]]- أبو ذر هذا الذي تعلم في مدرسته عليه الصلاة والسلام- لكنه أخطأ وزل، فقام بلال، فشكاه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فغضب عليه الصلاة والسلام وتغير، فلما جاءه أبو ذر، لا يدري أبو ذر هل رد صلى الله عليه وسلم عليه السلام أو لم يرد، وقال: {أعيرته بأمه، إنك امرؤ فيك جاهلية -وقعت كأنها صخرة، أو قذيفة، أو صاعقة- قال أبو ذر: يا رسول الله! على كبر سني فيَّ جاهلية، قال: نعم.
إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم} الحديث، فخرج أبو ذر - هذه القصة في غير البخاري - يبكي، ولما مر به بلال، قال: [[لا أرفع رأسي عن الأرض حتى تطأه برجلك، ووضع خده على التراب]].
إن يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
وضع أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه خده على الأرض، وقال: يا أخي! لا أرفع خدي حتى تطأه برجلك، فأبى بلال لكرمه وسموه وأخلاقه وقال: [[أنت أخي]] وقاما وتعانقا وتباكيا.
إذا اقتتلت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها(46/11)
المسألة الخامسة في التربية: تجنيب الشاب السب والشتم
من أسس التربية للشباب المسلم: تجنيب الشاب السب والشتم، والتشهير والتجريح، لأن بعض المدارس تخرج من الشباب من هو مثل: القذيفة، يعبأ مثل الساعة الخراشية، ثم يطلق على الناس، فيهتر عليهم هتراً، أي أنه: يشحن بديناميت في قلبه من السب والشتم، فإذا وقف عند المنبر ينسى كل قضية ويبدأ يسب بعد أن يحمد الله، وقد فعلها فلان، وفعلت الطائفة الفلانية، وصنع وبدَّع، هذا أول خسارة له في الدعوة، لأن هذا استعلاء النفس، وهذا الرجل قد ركَّب على رأسه لافتة: السبَّاب والشتَّام.
لم يكن صلى الله عليه وسلم بذيئاً ولا فحاشاً، ولم يكن سباباً ولا مجرحاً، ولذلك جمع الله له قبائل العرب التي مثل قرون الثوم لا تجتمع أبداً، ولم يكن عنده مُلك، وما اجتمعوا على ملك من العرب أبداً، وكل قبيلة لها مملكة خاصة، كل قبيلة تؤسس حضارة لوحدها هي حضارة السيف والدم، وحضارة الهتك والسلب والنهب، فلما أتى عليه الصلاة والسلام وصفه الله فقال: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
بعد الإسلام والهجرة جلس الأنصار في مجلس، والأنصار كما تعرفون قبيلتان: الأوس والخزرج، كانت القبيلتان في الجاهلية تقتتلان قتالاً ضريعاً لم يسمع الناس بمثله، فلما أتى صلى الله عليه وسلم أصبحوا أنصاراً، وأُلغي هذا الاسم "الأوس والخزرج" إلا من النسب وأصبح مكانه "الأنصار"، ولكن الشيطان دخل وهم في المجتمع المسلم يستمعون القرآن في المسجد، فأتى يهودي اسمه ابن شاس فجلس بينهم، فقال للأنصار: كيف وقعت معركة بعاث بينكم؟ -يعني: الأوس والخزرج، ذكرهم تلك الأيام المريرة- فقالوا: وقعت كذا وكذا، فقال أوسي: نحن غلبناكم، قال خزرجي: لا.
نحن الذين انتصرنا، فقام أوسي يسب الخزرجي، وخزرجي يسب الأوسي، فقال رجل منهم: اللطيمة اللطيمة! موعدنا وإياكم الصحراء -يقول: تعالوا واخرجوا لنا في الصحراء- والوحي نازل والرسول صلى الله عليه وسلم في بيته والقرآن وجبريل صباحَ مساءَ، وانتهت الجاهلية، لكن انظر، وهذه يذكرها ابن جرير الطبري في تفسيره، في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:100 - 101] وهؤلاء أهل الكتاب، فخرج الأوس والخزرج وقد صاح صائحهم: اللطيمة اللطيمة إلى الصحراء، عادوا إلى السيوف فاخترطوها من أغمادها.
إذا خرجت من الأغماد يوماً رأيت الهول والفتح المبينا
أخذوا السيوف من الأغماد وتوافوا في الصحراء -نسوا الآن وطارت من أذهانهم مسألة الإيمانيات- ووقف الأوس في جهة والخزرج في جهة، ووصل الخبر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فخرج خائفاً يجر إزاره ليدرك القوم، ووقف بين الصفين، ثم أخذ يذكرهم، ويدعوهم، ويتلو عليهم من آيات الله حتى سالت الدموع -وكانوا أسوداً من أسود الله، هم أهل بدر وأهل أحد وحنين - فوضعوا السيوف في الأرض وتعانقوا وتضاموا وارتفع البكاء، وهذه يوردها ابن جرير وأمثاله.
إذا اقتتلت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها
فقال الله بعد هذه الآية: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103] {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].
إذاً يا أيها الإخوة! إن من معالم تربية الشاب أن يُجنَّب السب، إذا سمعته يسب وينتقد عالماً فقل له: لا.
لا تقل هذا، فهو خطأ، وعلمه كيف يتأدب مع العلماء، وإذا سمعته ينال من داعية، فقل له: سامحك الله، هذا ليس بأسلوب.
وإذا سمعته يشهر بجيرانه وبإخوانه، فخذ على يديه.
إن من يتعود السب يصبح له نهمة، مثل المدمن على الخمر، لا يستقر باله حتى يشرب الخمر، ومثل المتعود على شيء من الأمور تصبح العادة له مثل العبادة.
فحذارِ حذارِ من هذا الأسلوب فإنه مقيت، وهذا لا يكسب العبد قلوباً، ولا تحبه القلوب ولا ترضاه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] {وليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء} {والرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، والله رفيق يحب الرفق}.(46/12)
المسألة السادسة في التربية: موقف طالب العلم من الخلاف
إن اختلاف أهل العلم له أعذار وهم معذورون ومأجورون ومشكورون، وخلافهم في المسائل الفرعية:
إما أن يبلغ الدليل أحدهم ولم يبلغ الآخر.
وإما أن يكون الدليل ثابتاً عندك وعندي منسوخاً.
وإما أن يكون صحيحاً عندك وهو عندي ضعيف.
وإما أن يكون الحديث ثابتاً وصحيحاً وبلغني وبلغك ولكني أفهم منه شيئاً وتفهم منه شيئاً آخر.
وأدب الخلاف يتمثل في أن يبين المسألة بعضنا لبعض، فإذا توصلنا إلى شيء وإلا فليعمل كل بما رأى، وهذا في الفرعيات.
ولا يعنف المخالف على المخالف، ولا يشهر به، فقد أخذت مسألة تحريك الإصبع اثنتي عشرة سنة من حياة المسلمين، بلاد المسلمين شذر مذر ونهب وسلب، وكثير من الفواحش طمت وعمت: مخدرات، وغزو فكري، وعلمنة في الساحة، وإلحاد وزندقة، بينما فئة من الشباب تقول: هل تحرك الإصبع كذا أم كذا؟ وهل يحركها كلها من أول التحيات إلى آخرها أو لا؟ حتى إن بعضهم -كما تعرفون- يحرك يده كلها، خروجاً من الخلاف، أي أنه قد أدرك التحرك.
ثم يأتيك بعضهم ويقول: هل العمامة سنة؟ وكيف تكون الذؤابة؟ وهل لنا أن نلبسها بالغتر الحمر؟ لأن العصر عصر اقتداء وأظن أننا لا نُعفى من أخذ السنة والعمامة، لأننا قصرنا في باب العمامة، ثم يلقي عليك محاضرة.
والأمر أسهل وأيسر، لكن منافذ الخلافيات من تكثير المسائل التي يختلف فيها.
واليد هل هي على الصدر أم هي تحت السرة، ويتهاجر متهاجران من أجل هذه المسألة!!
يقول شكيب أرسلان كلمة طيبة سأنقلها عنه وما عليَّ من الرجل، فلو سئلت عنه لبينت ما فيه، لكن ربما قال المعرض كلمة حق، والحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها.
يقول شكيب أرسلان: المسلمون اليوم بين جاحد وجامد، فهم بين جحود وجمود.
جاحد يعني: زنديق، حداثي عميل، ذنب لـ استالين وجرباتشوف، وربما صلى مع الناس، لكنه يحمل حقداً وضغينةً وكفراً في قلبه، ويكتب ويغزو بالأفكار، وليس ما يهمه من التحريك بل يضحك علينا نحن، يقول: صحوة تحريك الأصابع، وصحوة تقصير الثياب إلى الركب، وصحوة اللحى والدروشة، هذا جاحد جزاؤه السيف الأملح، ولو كان في عهد عمر لفصل رأسه وعن كتفه.
وقد أصيب المسلمون بهذا الداء.
وجامد أي: جامد فقط، أنا لا أقول جموداً على الحق، فإن الجمود على الحق فضيلة، لكنه جامد على مرئيات في ذهنه، لا يرى أن تتحول الأمور أبداً، إذا تحدثنا في صالة، قال: لا.
السنة في الحديث أو المحاضرات أن تكون في المسجد، وإذا بدأنا بالقرآن مثلاً واستفتحنا أحياناً به، قال: لا.
وينكر علينا ذلك.
وأنا أقول: لا بد أن يكون هناك سنن وأن تُبيَّن البدع، لكن الجمود على شيء رأى الناس مصلحته كوسيلة مثلاً من وسائل الدعوة، مثل هذا الميكرفون، فلو لم يوجد لما سمع آلاف الناس كلامي، لكنه يقول: لم يرد هذا الميكرفون في صحيح البخاري ولا في صحيح مسلم، وما أتى به السلف، وما جُني علينا إلا حينما أتت هذه الوسائل والمسجلات والأشرطة.
لا يا أخي! لماذا هذا الجمود؟ لماذا تُضحِك علينا أعداء الله؟! حتى هؤلاء أهل الجحود يضحكون على هؤلاء ويقولون: إنهم يتساءلون في مجالسهم: هل يجوز النظر إلى المرآة أم لا؟ ويضحك بعضهم ويقهقه بملء فيه؛ لأنه وجد جامداً، ولو وُجد رجل يعرف الدين الذي عرفه صلى الله عليه وسلم فإنه يُسكت هؤلاء وأمثالهم، لأنهم ضحال الثقافة والإيمان، ليس عندهم شيء ولا عندهم نور.
موقف الشاب من الخلاف:
إن كان خلافاً في الأصول فلا يعذر من خالف، وهو ما أجمع عليه الصحابة، فإذا أجمع الصحابة على مسألة فلا يخالفنا فيها أحد، فقد أجمعوا على أسماء الله وصفاته، فلا يأتِ مخالف ويقول: أنا مأجور إذا خالفت، لا.
لست بمأجور ولا مشكور بل موزور.
والمسائل التي اختلف فيها الصحابة يجوز لمن بعدهم أن يختلفوا فيها، أما ما أجمعوا عليه فلا يجوز لمن بعدهم الخلاف فيها.(46/13)
المسألة السابعة في التربية: الفتيا
الفتيا هذه سلم إلى الظهور، وكثير من الناشئة إذا حفظ سورتين وحديثين ومقطعين قام يفتي الناس، فلا يرد أي سؤال، ويأتي أمام الناس فيثني رِجلاً تحت رجل، وعمره خمس عشرة سنة وأربع عشرة سنة ويقول: الذي تطمئن إليه نفسي.
ومن أنت يا شيخ الإسلام! حتى تطمئن نفسك؟! وتطمئن نفسك بعد ماذا؟! كم تحفظ من الأحاديث؟ وكم تجيد من الآيات؟ وكم استقرأت من كلام أهل العلم؟
والناس في مسألة الفتيا طرفان ووسط:
أناس بلغ بهم الورع البارد إلى أن حرموا الناس العلم! والذين في الثانوية الآن باستطاعتهم أن يفتوا في بعض المسائل، كما لو سئل: كم أركان الإسلام؟ يقول: خمسة، لكن بعضهم عنده علم ومع ذلك تجده متحرجاً في كل مسألة -ورع بارد- فهذا اسمه ورع سامج مظلم، يقولون له: كم يتمضمض المتوضئ.
؟ يقول: الله ورسوله أعلم.
أو كم الخلفاء الراشدون؟ يقول: الله ورسوله أعلم.
فهذا ورع بارد.
وبعضهم يقابله بالطرف الآخر وهو من يفتي في كل مسألة، حتى في مسائل لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر، أما هو فيفتي، بل يسابق السائل في المجلس ويفتي في الطلاق والحيض، وتجد بعض الشباب الناشئة يفتون في هذا، رأى حديثاً واحداً فأفتى به في مثل هذه المسائل الصعبة، وحتى بعضهم يفتي في الرضاع، ثم يكتشف في البيت بعدما يعود أن المسألة خطأ، فلا يتصل بمن سأله ويقول: دعها تلحق بأخواتها، لأن له مسائل أخرى أخطأ فيها فقال: لا عليك.
ويسألونه في المجلس، فيقول له الشيطان: حاول أن تجيب لأنك إذا قلت: لا أدري؛ قالوا: ليس عندك علم، وتسقط من عيونهم، قال: على الله، عليك تثور وعليها تدور باسم الله، ثم يبدأ يتكلم.
ألا تدري أن الفتيا منصب الرسالة، وأنك تُوقِّع عن رب العالمين، وأن المفتي يوقف نفسه على الصراط، إما أن يزلق إلى النار، وإما أن ينجو إلى الجنة.
يقول ابن عمر للناس: [[تجعلوننا سلماً إلى النار؟!]] إن المستفتي لا يهمه أن تدخل النار أنت وأهلك وجيرانك، فالمسألة عنده فقط أن ينقذه المفتي ولذلك تجده أحياناً يقول: يا شيخ! أنا كنت غضباناً وطلقت زوجتي، فتفتيه أنت بالرفض مثلاً، وتقول: قد وقعت عليك طلقة، فيقول: أرجوك، والله لو تعرف ظروفي يا شيخ! -أصبحت مساومة وكأن المسألة بيع وشراء- أنا يا شيخ! عندي ظروف، وأنا مسافر، وعندي والدة في البيت، وأنا أحب زوجتي، أرجوك رجاء خاصاً!
أتريد أن تدخلني النار وتدخل أنت الجنة؟! أأرد عليك زوجتك حتى أكون من حطب جهنم؟! أعوذ بالله!!
[[كان علي بن أبي طالب يُسأل فيقول: لا أدري -الأمر سهل- ويقول: ما أبردها على قلبي!]].
أتى سائل من أهل العراق يسأل مالكاً إمام دار الهجرة، فسأله عن أربعين مسألة، فأفتاه في ثمان ورد اثنتين وثلاثين مسألة في بعض الروايات، قال السائل: ألا تعرف هذه المسائل؟! قال: عد إلى أهل العراق وقل: مالك لا يعرف شيئاً.
وكيف يرضي أهل العراق على حساب أن يدخل هو النار؟! نعوذ بالله من النار.
والوسط هم الذين أفتوا بعلم وسكتوا عما لا يعرفون وأولئك عباد الله الصادقون.(46/14)
المسألة الثامنة في التربية: الأدب في دعوة الناس
المسألة الثامنة وهي ختام هذا المجلس، الأدب في دعوة الناس، وقد كان في الحلقة الأولى (آداب تربوية) التركيز على هذه المسألة أكثر، ذلك أن الشاب الذي تربيه مخاطب بالدعوة إلى الله، وبإمكانه أن يكون داعية، لكن لابد من التنبيه على أن هناك فرق بين الداعية والمفتي، فبإمكانك أن تكون داعية، ولا تكون مفتياً، لأن مفهوم الداعية يصل إلى درجة من عنده آية أو حديث، فيدعو إلى هذه الآية والحديث، أما المفتي فلا يفتي حتى يتمكن من علمه، ويعرف أدلته.
إذاً فكلنا دعاة، والمفتون عندنا قليل، والدعوة أشرف، إذ هي منزلة الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والرجل في الجندية وفي العسكرية، والتجارة، والفلاحة، والهندسة، والطب، وفي الخطوط يكون داعية، لكن لا يكون مفتياً، وعليه فلا بد أن توجه هذا الشاب إلى الدعوة وتبين له آدابها وتحثه على التزامها: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(46/15)
لبيكِ أختاه!
إن الدين الإسلامي هو دين العدل، دين شامل ينظم الحقوق والواجبات، وعندما جاء الإسلام كانت المرأة كالسلعة تباع وتشترى وتدفن وهي حية، وكانت محرومة من جميع الحقوق، فجاء الإسلام فرفع من شأنها وجعلها نصف المجتمع ولبنة الأسرة.
وقد تحدث الشيخ عن معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم للمرأة، وعن مكانة المرأة في الإسلام مبيناً المؤامرات التي تستهدف المرأة في دينها وكرامتها.(47/1)
مكانة المرأة في الإسلام
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين، سلام الله عليكن ورحمته وبركاته.
نعم عنوان المحاضرة لبيك أختاه:
يا فتاة الدين يا بنت الحجاب أنت في أوطان أسما والرباب
أنت يا من يحفظ الله لها عرضها بين الأفاعي والذئاب
استري وجهك عن حر اللظى وارتدي في زمن الفسق الثياب
وارفضي كل داعٍ خائن ليس يخشى الله في يوم الحساب
وانعمي في ظل دين خالد رددي يا أختنا أم الكتاب
فرصةٌ سانحة ومباركة، أن نُسمع أختنا كلمة الحق والنور.
وعناصر هذه المحاضرة: منها الإيمان والنور الذي أتانا به معلم الخير عليه الصلاة والسلام، ثم مكانة المرأة في الإسلام، ثم الرسول عليه الصلاة والسلام والمرأة، ثم ما معنى أن تتحرر المرأة؟
وهناك لفتات: هل يراد من المرأة أن تكون مغنية مطربة؟ أو عارضة أزياء؟ أو شرطي مرور؟ أو جندياً في الجيش؟
غزو المرأة وما هي طرقه؟ المجلة الخليعة، الغناء الماجن، كتب الجنس، الفيديو المهدم، الشاشة الخليعة.
موانعٌ أمام هذا الزحف: تقوى الله تبارك وتعالى، الحجاب الشرعي، الدعوة إلى الله عز وجل، الزواج.
أتى عليه الصلاة والسلام بالنور، وهذا النور لا يكون إلا في شرعه، في الوحي المقدس الذي نزل به جبريل على الرسول عليه الصلاة والسلام: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
وشارك في استقبال هذا النور المرأة والرجل جنباً إلى جنب: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء:1].
إذاً فالرجال والنساء يستقبلون نوراً من الله عز وجل، ويتطهرون ويحملون الإيمان ويتعبدون لله عز وجل على طريقة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] إذاً فالرسالة للرجال والنساء، والتكريم للجميع، وحمل هذه المبادئ للذكر والأنثى، قال سبحانه: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195].
فتشارك الأنثى مع الرجل في استجابة دعوة الله عز وجل، وفي الرحمة من الله قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] إن الدين معلمٌ خالد يشارك فيه الصنفان: الذكر والأنثى، ويوم تطمس معالم النور، ولا تهتدي المرأة إلى طريقها الحق، حينها تضل وتصبح لا قيمة لها في الحياة.
يقول زولا رجل الجنس الفرنسي، الأديب المجرم وهو يتهتك بالمرأة، يقول: إنها لا أثر لها في عالم الحياة، ويشكك الناس هل المرأة إنسان أو حيوان.
تعالى الله عما يقول ذاك المجرم، بل هي المطهرة، أم العلماء والقادة والفاتحين والزعماء.
أليست هي أم عمرو وطارق؟
أليست هي أم صلاح الدين وأحمد وأبي حنيفة ومالك والشافعي؟
أليست هي أم ابن تيمية، وابن القيم؟
أليست هي المربية التي يربي بها سُبحَانَهُ وَتَعَالى الجيل، ويحفظ بها الفتوة، ويرعى بها البيت، لكنها لا تكون أماً إلا يوم تحمل لا إله إلا الله وتسجد لله، وتخشى من الله، ويوم تتجه إلى الله متحجبةً طيبةً ورعة!!(47/2)
النبي صلى الله عليه وسلم يرعى المرأة ويوصي بها خيراً
أما الإسلام فقد رعى المرأة أيما رعاية، فالرسول صلى الله عليه وسلم أعلن حقوقها في عرفات، ونادى الناس عليه الصلاة والسلام وهو يقول: {الله الله في النساء فإنهن عوان عندكم} وكان يقول صلى الله عليه وسلم: {خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي}.
فعاش صلى الله عليه وسلم، مع المرأة زوجاً وأخاً، وابناً وأباً، وأكرمه الله عز وجل بأربع بنات، وعشنَ معه كثيراً، بينما أبناؤه من الذكور كانوا يموتون في الصبا، وكانت بناته عليه الصلاة والسلام يسكنَّ قلبه، كان إذا سافر زار فاطمة وإذا عاد بدأ بها، وتقول عائشة كما في صحيح البخاري: {كان عليه الصلاة والسلام، إذا زار فاطمة قامت له وقبلته وأجلسته مكانها، وإذا زارته قام لها، وقبلها وأجلسها مكانه}.
أي عطفٍ وأي حنانٍ، وأي شفقةٍ وأي رحمة، إن هذا المعلم معلم الأبوة والرأفة لا يوجد عند غير المسلمين، ولقد رأينا والله الحالة التي تعيشها المجتمعات الكافرة ومن أراد أن يطلع فليقرأ الولايات المتحدة الأمريكية للكاتب مصطفى الليبي المشهور وهو يتكلم عن ذاك المجتمع المتفكك، ليس فيه أبوة ولا حنان ولا أمومة، لا تجد أسرة مجتمعة في بيت ولا في سيارة؛ لأن بناءهم كان على خواء، قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].
وجاء الإسلام للمرأة ليجعلها متحجبة كالشمس في الغمامة، وكماء المزن، وكالدرة في الصدف، وأبى المجرمون إلا أن يخرجوها سافرةً متهتكة، تبيع الأزياء، وتعرض نفسها، وتكون للدعاية.
أما رأيتن الصحف وهي تدعو بواسطة المرأة للعطور وللأزياء، وللمشتريات، هذه قيمة المرأة عند من لا يؤمنون بالله، أن تكون سلعةً وغرضاً ودعاية.
أقيمتها أن تكون جندية؛ تقاتل الجيوش وتبارز الأبطال؟! أقيمتها أن تكون شرطي مرور تقف في الشوارع، وتصنف سيارات الناس مع المارة؟! لا.
قيمتها أعز وأشرف في الإسلام، وقيمتها كما قال الله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33].
ولكنها تقر في البيت والمدرسة، والجامعة، متحجبة مؤمنة، طاهرة، والعرب قبل الإسلام كانوا لا يعترفون بالمرأة السافرة المتهتكة.
ويروى أن أعرابياً نظر إلى امرأته فوجدها تنظر إلى الأجانب فغضب وفارقها، وقال:
إذا وقع الذباب على طعامٍ رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماءٍ إذا كن الكلاب ولغن فيه(47/3)
العلمانية تغزو نساء الجزيرة
كان هذا حال المرأة يوم كانت مسلمة مؤمنة، كانت أشبه شيءٍ بماء زمزم، أو بماء الغمام، كانت قريبة من الله عز وجل، حتى أتى المجرمون مع الثورة الفرنسية عام 1778م، وكان هناك في فرنسا حجاب ولو أنه مجتمعٌ كافر، لكنهم كانوا يريدون أن ينقذوا بلادهم، فلما أتت العلمنة فسخت الحجاب، ودخلت العلمنة تركيا على يد المجرم الصنم مصطفى كمال أتاتورك، فنزع الحجاب وداسه بقدمه، وبدأ يدوس المصحف معه، وألغى المسجد من حياة الناس، وخرجت المرأة المسلمة العفيفة التركية إلى المجتمعات فأنبتت جيلاً فاسداً واصطدم العهر، وكثر الفساد، وانتشرت الفاحشة، وضلَّ الناس: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
وكنتُ أظن أن الأمر نسبيٌ، وأن هناك بقية، وأنه لا تصل الجرأة بالمجرمين إلى هذا الحد، حتى طالعتُ مقالات وصحفاً وقصاصات جمعت، وخرج في ذلك شريط (الفتاة السعودية والعلمانيون) وهو موثق بالتاريخ والعدد والرقم، ووجدت فيه العجب العجاب، يقصدون المرأة هنا في الجزيرة، المرأة المصلية الصائمة العابدة، التي تتجه إلى الله كل يومٍ خمس مرات، يقصدون بنت زينب وفاطمة وعائشة؛ لأنهم أدركوا المرأة هناك في الجزائر، وفي تركيا وباكستان، فأرادوا أن يلحقوا المرأة هنا بالمرأة هناك.
وكان من ضمن ما طالعته في تلك المقالة، وهي مقالة سيدتهم، أو سيئتهم بالهمز، وهي تتكلم عن المرأة السعودية، تقول في مقالة الافتتاحية: المرأة الكويتية ما شاء الله عليها، ثم تتحدث لنا، وفي جانب هذه المقالة، ستٌ من الفتيات الكويتيات، وهن متبرجات، ناشرات الشعر، وامرأة سعودية بجانبهن، وهي متحجبة عفيفة ساكنة، فيصفونها بالرجعية والتخلف، ويصفون أولئك بالتحرر، ثم تأتي المقالات تتوالى، ولعله أن يأتي في الوقت فراغ حتى تسمعن هذا الشريط إن شاء الله.
على كل حال: ما ظننا أنه يبلغ بهؤلاء المعتدين على شرع الله عز وجل ما بلغ، بل ينادون المرأة، ويخبروننا بمكان الأزياء والعرض في جدة، وأخبروا بالرقم والعنوان والمكان، ويقولون: إنه على مستوى المكان في باريس، ثم يتكلم أحد المحررين وهو يلقي مقابلة مع امرأة، فتخبره بأنها تريد أن تثور على القديم، وأنها عافت حياة القديم والأفكار القديمة، ومعناه أنها عافت الدين، عافت: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] وعافت: (الم) [البقرة:1].
وعافت: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
معنى الثوران هو الثوران على القرآن! والتنكر لشرع الله عز جل، وأنتن تعلمن ماذا حدث، وما حدث ذلك إلا من كفر صراح، ومن زندقة صريحة نعوذ بالله منها، وعلمنة تفتك في جسم الأمة، إن لم نتدارك بناتنا، وعماتنا، وزوجاتنا، وأخواتنا.(47/4)
حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في معالجة جريمة الزنا
وفد على الرسول عليه الصلاة والسلام رجل فقال: {أتوب إلى الله يا رسول الله من كل ذنب، إلا من الزنا، فتأثر عليه الصلاة والسلام، وقال: أترضاه لأمك؟ قال: لا.
قال: أترضاه لأختك؟ قال: لا.
قال: أترضاه لعمتك؟ قال: لا، قال: أترضاه لخالتك؟ قال: لا، قال: أفتريد من الناس أن يرضوه لأمهاتهم، وبناتهم وعماتهم، وخالاتهم؟!! قال: فإني أتوب إلى الله يا رسول الله}.
إن المسلمة تريد أن تحفظ أسرتها، وتحفظ بيتها وعرضها وشرفها، والله إن من المآسي الكبرى، والمصائب العظيمة التي تنتظر الأمة، هي مأساة المرأة يوم تتنكر لشرع الله، وتبتعد عن منهج الله، ويوم تضل المجتمع، إنهم لا يحاربوننا -أقصد الغرب- بالقوات ولا بالصواريخ، ولا بالطائرات، ولا بالمدمرات، إنما يحاربوننا بوسيلة كشف وتبرج المرأة واختلاطها وخروجها وتهتكها -فمعاذ الله- ونسأل الله أن يبقي فينا باقية، قد وجدنا هذه البقية في أمثالكن، من الأمهات الملتزمات المستقيمات العاقلات، اللواتي يردن أن يثبتن في موطن الخطر.(47/5)
تحرر المرأة(47/6)
مجرمو تحرير المرأة في الأمة الإسلامية
دخل تحرر المرأة على يد مصطفى كمال، وليس بتحرر، لكنه استحذاء المرأة، وبيع المرأة في سوق النخاسة، وضياع المرأة، وقد ألف قاسم أمين كتاب: تحرير المرأة، فكان هلاكاً لها، ودماراً لها إي والله
ودخل أحمد بن بيلا في الجزائر، ونادى الشعب الجزائري بعد أن سفك من دم الجزائريين أكثر من مليون قتيل، يريدون الإسلام، ويريدون تحكيم لا إله إلا الله، فلما استقل أحمد بن بيلا الحكم هناك؛ ضيع الإسلام! وطرد الإسلام ورفضه! وامتهن المصحف! وأتى بالحجاب أمام الشعب الجزائري ومزقه تمزيقاً!!
وخرجت المرأة العفيفة الجزائرية باكية مسكينة تصارع هذا الطوفان من العهر والفساد، والسكر والنكر، فوقع المجتمع في ما وقع فيه.
والشعب الباكستاني كن النساء فيه يلتزمن الحجاب، ويردن تحكيم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فلما تولى محمد علي جناح كرسي الحكم تنكر للإسلام، ورفض الإسلام، وأتى بالحجاب ومزقه {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53].(47/7)
بعض المجلات التي تنادي بالفجور
شرع محمد صلى الله عليه وسلم هو شرع الستر والجمال والعفاف إن من تقدير المرأة أن تتحجب، وأن تتوقر، وأن تكون عفيفة لتكون محبوبةً إلى القلوب، فوالله إن الفجرة لا يحبون الفاجرة، وإن الناس لا يميلون إلا إلى العفيفة المحجبة المجلببة التي تريد ستر الله عز وجل.
وباختصار فهم يريدون من تحرير المرأة أن تصبح مغنية، وفي مجلة سيدتهم تقول: المرأة السعودية أصبحت مذيعة، وذكرت لنا قصة بإمكانكم مراجعة تلك القصة في المجلة ومعناه: أنه يجب علينا أن ننتج للناس مطربين ومطربات.
ويا للعجب نحن لم ننتج طياراً، ولا مكتشفاً، ولا مخترعاً، ولم يسمع الناس أننا أنتجنا آلة تنفع الناس، وما اكتشفنا كهرباء ولا طائرة ولا صاروخاً، ولا ثلاجة ولا برادة، لكن اكتشفنا في مجتمعنا مذيعة تعرض خدها للجماهير، وتتكلم بصوتها الرقيق، وتغضب الله ورسوله والمؤمنين صباح مساء، وتعلن الحرب على الإسلام، وعلى المسجد والمصحف.
وكم تتمعر الوجوه بالألوف المؤلفة من هذا الشعب المسلم إذا رأى هذه المرأة المسلمة خرجت من بيت مسلم متحجب وهي تعرض جمالها، وشعرها الفاتن، وسحر عينيها وشفتيها، وتتكلم برقة، والله عز وجل يأمرها أن تستتر، ويأمرها أن تتحجب، وأن تكون درةً مصونة، وشمساً في غمام، كم يتحدى شعور المسلمين، وكم هي والله اللوعة والأسى، وكم هي المصيبة: أن نرى من بناتنا من أمثال أولئك.
ثم تذكر لنا المجلة عن أفنان، وهي اسم لفتاة سعودية أصبحت مضيفة في الطيران، والخبر هناك، ومن أراد أن يعود فليعد، أو يستمع شريط (الفتاة السعودية والعلمانيون) وهو بالعدد والتاريخ، وتعرض المجلة هذه الفتاة المسماة أفنان وكأنها حررت القدس، أو كأنها أتت بشيءٍ عجيب للأمة.
والعلمانيون يريدون من المرأة صراحةً أن تكون كالمرأة في أمريكا وفرنسا وبريطانيا، وأن تشارك في الجيش، وتكون جندية مرور، والأمريكان لم يزجوا المرأة في الجيش كما تعلمن إلا بعد الحرب العالمية الثانية، بعد ما قتل الرجال، وأبيد كثير من الرجال، زجوا بالمرأة لتشارك في الجيش، والله خلقها لوظيفة أخرى، والله أعلم بحال المرأة وبضعفها، وبرقتها وبحنوها وعطفها، ما كان لها أن تمتطي الدبابة، وأن تركب الزورق في البحر، وأن تطلق الصاروخ:
كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول
هكذا يقول عمر بن أبي ربيعة، وهو مبدأٌ يقره الإسلام، فلها وظيفة، وللرجل وظيفة، والله هو الذي خلقها فهو أعلم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وأكرم، ويريدون من المرأة أن تكون عارضة أزياء.
كنا نمر في شوارع لوس أنجلوس وتكساس ودنفر ووانديانا، وإذا على الصابون صورة فتاة، وكذلك الببسي والميرندا، والمجلات، والسيارات، فيعرضون هذه المرأة لتباع السيارة، ولتباع العملة، وليباع هذا الغرض، فأصبحت المرأة من المهانة بهذه المكانة، ولا أنسى والله مهانة المرأة هناك، وهي تعرض للرجال، وتتبسم لتجري له السلعة، ولتباع لها.
أهذا حظ المرأة من الحياة أن تعرض نفسها لكل فاجرٍ وفاسقٍ ومجرم؟ أهذا نصيبها من التقدم والتطور؟! وقد صدق الله حين قال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] وقال: {بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66].(47/8)
تحذير علماء الغرب من دمار الجريمة
إن وليام جيمس: عالم النفس الكبير أنذر أمته، وأخبر شعبه وأنه يهوي وأنها تسعى إلى الهاوية (100%).
واندير كارنيد: يصف الناس هناك أنهم يسعون للقلق؛ لأنهم أعرضوا عن الدين.
كريسي موريسون: يصف المجتمع أنه منهار تماماً، وهذا إنما يقوله علماؤهم، ينادون أنهم قد أصبحوا قريباً من الهاوية والدمار أفيريدون لنا هاوية؟! أيريدون أن نجرب تلك التجربة التي عاشوها؟! وذاك الدمار، الذي صنعوه؟! كنا في أكلاهوما؛ وهي مدينة في شمال أمريكا، فأُخبرنا أخباراً نستحي صراحة أن نعرضها هنا؛ لأن المكان هنا مقدس له شرعية، أمام أخواتٍ مسلمات متحجبات ساجدات، فلا يحق لي أن أتكلم بهذا الكلام، ولو أنه ذكر في شريط: أمريكا التي رأيت، لكن هناك ذكر لمناسبة، وهنا لا أذكره لأني أقدس المكان، وأحمل شرعيةً لهذا الجمع الطاهر الطيب.(47/9)
طرق غزو المرأة(47/10)
المجلة الخليعة
غُزيتْ المرأة، وحوربت بالمجلات الخليعة، أنا أسكن في أبها مدينة في الجنوب صغيرة، مررتُ في بقالة فوجدت فيها ثلاثاً وعشرين مجلة خليعة، كلها من مستوى النهضة والأناقة، مجلة واحدة تكفي لتدمير شعب كامل، صورة المرأة وهي مفتونة، الكلام جنسيٌ منحط، يهدم القلوب، ويُغضِبُ رب الأرض والسماوات.
ما هذا العدوان الصارخ على المرأة، وما هو القصد من ورائه، حتى بائع البقالة يبيع صابونه وسكره ويبيع مجلة خليعة.
ورأيت السائق ترسله الفتاة من البيت، فيجمع هذه المجلات جميعاً ويأخذها في سيارته، ليهدم بها البيت، ويهدم بها الأسرة قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
فالمجلة الخليعة تعرض صورة المرأة، وفي كل عددٍ تعرض ملكة الجمال فيه، فأين الله؟ وأين الشرع؟ وأين الأمة التي تعيش الإسلام؟ وأين العمل بقول الله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]؟(47/11)
الغناء الماجن
ومما غُزيتْ به المرأة الغناء الماجن، وهو من أسهل الأمور عند الناس الآن، والحصول على الشريط الكاست أصبح سهلاً ميسراً وهو يحمل في طياته السم الزعاف، واللوعة للقلوب، والخراب للشعوب، ومع ذلك يستحي الذي يحمل المروءة أن يستمعه، فكيف بالمسلم المؤمن، إنَّ هؤلاء المطربين فئةٌ من الناس خرجوا من المجتمع، وتنكروا للمسجد، وللقرآن، واستمروا في غيهم، وأسرفوا في خطاياهم، أرادوا إغواء الأمة، وتكلموا عن العشق والوله والغرام، ينبح أحدهم أمام الملايين، وهو يصف محبوبته، ويصف هيامه وعذابه، فتلقفت هذه الأشرطة وهذا الكلام وأذاعته في البيوت!!
ولتعلمن أن الغناء حرامٌ ولا يقره الشرع.
يقول الشوكاني في نيل الأوطار: أجمع أهل العلم على تحريم الغناء.
وذكر الآجري إجماع أهل العلم على تحريمه، وإن الغناء فسق، وما داوم عليه عبد إلا سقط في الزنا -والعياذ بالله- وهو وحشةٌ بين العبد وبين الله، وهو الذي يمزق القلوب، ومن استمعه حُرم غناء الجنة عند الله عز وجل، قال ابن القيم:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصانِ
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزانِ
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدانِ
نعوذ بالله من الغناء! فإنه والله ما نبت في قلبٍ إلا نبت معه النفاق، وهو هدمٌ للأسر، وكم رأينا من الملتزمين، ومن المستقيمين من خذل فاستمع الغناء، فسقط سقطة ما بعدها سقطة.
وإننا نخجل أمام الشعوب أن يخرج منّا مغنية أو مغني، وهؤلاء لا يقدمون لنا كسباً، وما اكتشفوا لنا اكتشافاً ولا صناعة، ولا نفعونا بمادة، فمعاذ الله، ونسأل الله الحفظ والرعاية، وإني أنبه هذا التنبيه؛ لأن هذه الأشرطة دخلت البيوت وأخطر منها أشرطة الجنس في الفيديوهات، وشريط واحد يستعد أن يدمر مدينةً كاملة، وهي تتناول بسهولة في البيوت، وتدخل بلا رقابة، وتناولها سهل، وهي عظيمة الأثر، سيئة النتائج، وقد حذر منها أهل العلم، ونحذر منها، وعسى الله عز وجل أن يقينا وإياكم هذه الضلالات والفتن التي هي كقطع الليل المظلم.(47/12)
كتب الجنس
ومما غزيت به المرأة كتب الجنس، وهي كثيرة وموجودة ومتوفرة، والتنبيه عليها من باب العلم بالشر:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر جدير أن يقع فيه
ويقول سبحانه: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
لـ نزار قباني هذا المجرم ثلاثة كتب في الجنس، أحدها اسمه: سمير العاشقين فيه من الخزي والعار والشنار ما يستحي منه اليهود، يقول أحد العلماء المفكرين: يستحي اليهود أن يقرءوه في مجامعهم إذا اجتمعوا!! اليهود الذين صدروا الزنا والجريمة والخيانة في العالم، ربما استحوا عن قراءة هذا الكتاب، يقول في مقطوعةٍ له:
يجوز أن تثوري
يجوز أن تعربدي
يجوز أن تخرجي
عاريةً أمام الناس
هذه مقطوعة له، وهذا يقوله الذين صدوا عن منهج الله الذين قال الله فيهم: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
يقول إذا هذا الذين ما أشرقت أرواحهم، وما رأوا النور، وما أبصروا ضياء محمدٍ عليه الصلاة والسلام: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] وفي بعض الصحف الغربية، يخرج بنات من هنا، ويكتبن ويراسلنَ هناك، تقول: إنها ما رأت النور، ما هو النور الذي فقدته، وما هو النور الذي تريد أن تصل إليه؟ أن تكون سائقة؟! أو تكون جندية مرور؟! أو تصبح مطربةً مغنية؟! أو تصبح عارضة أزياء؟! الإسلام يريد لها أن تكون متعلمة، مربية، منتجة للأجيال، حافظة للغيب بما حفظ الله، أماً محترمةً مكرمةً، محجبةً مستورةً، محبوبةً مكرمةً مشرفة، وهي تقول: لا، أي نورٍ هذا؟! قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257].(47/13)
الدعوات الهدامة
ومما تصاب به المرأة الدعوات الهدامة، ما معنى هذه المجلات وكثرتها، إن معناها التأثير على المرأة بشكلٍ أو بآخر، إنَّ عرض الأفلام والمسلسلات الخليعة، والتمثيليات الباهتة، أمام امرأة متحجبة، وأمام مجتمعٍ ملتزم نسبياً، ماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك أن يفعلوا مثلما فعل أولئك.
وهو نداء لهم: أن اخرجوا وتمردوا على شريعة الله، فلا حجاب بعد اليوم، وقد فعلوا ذلك، فهل حصلت المرأة على السعادة؟ ولعلكن رأيتن ماذا كتبت جريدة الهدف قبل سبعة أشهر، أو ثمانية أشهر، وهي تستفتح الافتتاحية الأولى وتقول:
امرأة فنزويلية تلد كلباً، سبحان الله!! متى كانت المرأة تلد كلباً، لقد لقحت المرأة بمني كلبٍ والعياذ بالله، لأن هذا العلم المتطور لم يحكمه الإيمان، ولم تحكمه العقيدة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6].
لم تتوجه إلى الله، فأتت هذه الكارثة، وأفتى العلماء المسلمون آنذاك بتحريم هذا الفعل، وأنه يعارض الشريعة، لأنه فصل العلم عن الإيمان، يقول سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ} [الروم:56].
وقال عن العلمانيين الذين فصلوا العلم عن الإيمان: {بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66].
وقال سبحانه: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الرعد:19].
وقبل فترة طويلة رأيتن ماذا أخبرت جريدة المسلمون عن ثلاث نساء دخلن بلداً عربياً، وجعلن حبوب المخدرات في أرحامهن في أكياسٍ، أهذا منتهى المرأة أن تصل إلى هذا المستوى وهذه الدرجة؟! ولا نزال نسمع ونرى من الملفات الصحفية التي جمعها بعض الناس، مستوى ماذا يراد بالمرأة، وماذا يخطط لها في هذه البلاد وأي نتيجة سوف تصلها؟ وأي نهاية تنتظرها إن لم تعتصم بحبل الله وتتقي الله؟ وإن لم تخف ربها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى!!
هذه مسائل أردت أن أعرضها في مسألة غزو المرأة.(47/14)
الكتيبات الصغيرة الهدامة
وغزو المرأة كذلك في الكتيبات الصغيرة التي يكتبها الذين لا يؤمنون، ولا يخافون الله عز وجل، وهم يأسفون كلامهم في عموميات: {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].(47/15)
موانع أمام غزو المرأة الزاحف
ما هي موانعنا أمام هذا الزحف؟ وكيف نتقي هذا الزحف الهائل وهذا الإجرام والكفر والزندقة؟ بأمور:(47/16)
تقوى الله عز وجل لمنع الغزو العلماني على النساء
أولها: تقوى الله عز وجل، ولا أجد والله في هذه المناسبة إلا أن أقول: لا حافظَ إلا الله، ولا أجد كلاماً إلا أن أقول: اتقين الله عز وجل، اتقين الله في هذا العصر، وفي هذه الفتنة المدلهمة {يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا}.
يمر العبد، وتمر الأمة في آخر الزمن، على القبر فتتمنى أنها في مكان المدفون، تتطور الأمور حتى يأتي عهد لا يقال في الأرض: لا إله إلا الله، تعطل الشريعة، فلا مسجد، ولا مصحف، ولا تحكيم لشرع الله، ولا قرآن، ولا حجاب، ولا شيء، وتصبح المجتمعات باهتة، إلا فئة يحميهم ربهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، هي الطائفة المنصورة الذين يريدون منهج الله، ويحافظون على دين الله، ويريدون شرع الله، وتقوى الله عز وجل بامتثال أمره واجتناب نهيه.
والمرأة يوم تتقي الله لا تأتينا بالمناظر الباهتة المخزية المخيفة المرعبة، لا تأتينا وتأخذ السائق معها من بيتها، وتنزل إلى السوق، فلا ترجع إلا الساعة الثانية عشرة ليلاً، تمر على بائع الذهب، وعلى بائع الفيديو، وبائع الشريط المسجل، وعلى الخياط، وعلى كل مجرم، وتتصل بفلان وعلان.
أي إيمان هذا؟ أين {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؟! أين: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]؟! أين الحياة الآخرة؟! أين ذكر القبر وضمته؟!
أين تلك الجلسة المخيفة مع الحساب المخيف؟! يوم تجلس المرأة وحدها في قبرها، ويسألها المحاسب عن ربها، وعن دينها، وعن رسولها صلى الله عليه وسلم؟ يسألها عن حياتها، وعن لياليها، وعن أيامها، وساعاتها؟.
والله لو عاش الفتى في عمره ألفاً من الأعوام مالك أمره
متلذذاً فيها بكل لذيذةٍ متنعماً فيها بنعمة عصره
ما كان ذلك كله في أن يفي بمبيت أول ليلةٍ في قبره
وكان بعض الصالحين إذا ذكر أول ليلة في القبر أغمي عليه؛ وهي ليلة مرعبة، تكون المرأة مع أهلها، ومع زوجها، ومع أطفالها، متجملة متطيبة ناعمة ساكنة، فيبغتها الموت، فتنقل إلى أول ليلة في القبر، إلى مكان لا أنيس فيه، ولا حبيب ولا صاحب، ثم يظهر -والعياذ بالله- لبعضهن أنها خانت زوجها وربها، وخانت أسرتها وأمتها، وخانت كتاب ربها وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيا للعار، ويا للدمار، ويا للخسار، ويا للنهاية المؤلمة الأسيفة: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].
والموت فاذكره وما وراءه فما منه لأحدٍ براءه
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّ
هذه قضية كبرى أدعها أمامكن، لعل المرأة أن تتأمل، ولعلها أن تفكر طويلاً، يقول سبحانه: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حيّ
ولكنا إذا متنا بعثنا ويسألُ ربنا عن كل شي
فارتقبن ذاك اليوم، وذاك الحساب، وذاك الموقف، وما بعد الموت أشد منه، لمن لم يعرف منهج الله عز وجل، ولم يتقِ الله، ولتتأمل المسلمة يوم تقف يوم العرض الأكبر أمام الناظرين، فإن فضحت نفسها واشتهرت بالجرم، فضحت أمام الناس، وأمام عرضها، وأمام بيتها، وأهلها وقبيلتها، فمعاذ الله: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23].(47/17)
الحجاب الشرعي
ثانياً: من الموانع الحجاب الشرعي.
هذه السمة العظيمة التي أتى بها صلى الله عليه وسلم، وهذه القيمة للمرأة المتحققة، وسمعتن قبل ما يقارب سنة ونصف أو سنتين أن في فرنسا؛ الفرنسيات ينادين بالحجاب؛ لأنهن وجدن أن الشعب يسعى إلى الدمار والهاوية، وأن الأعراض مزقت، وأن المرأة ما أصبحت لها مكانة، وأن المجرمين يتعدون الحدود، وأن الإنسان أصبح لا يجد مكاناً للعيش، وأصبحت بناته وأخواته وزوجاته نهباً وسلباً، هذا في المجتمع الضال المنحرف عن منهج الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لذلك بدأن ينادين بالحجاب؛ لا خوفاً من الله عز وجل، ولا تقوى لله عز وجل، ولكن يردنَ أن يحافظن على أقل حدٍ من الحياة أو من الأمن!
الحجاب الشرعي الذي أتى به رسولنا عليه الصلاة والسلام هو تغطية الوجه والكفين، وإلا فلو لم تغط المرأة وجهها ظهرت للناظرين، وظهرت زينتها وفتنتها، وإني آسف كل الأسف أن يوجد في هذه المدينة، وفي بعض المدن، من خذلن الحجاب ونبذنه واكتفين فقط بتغطية الرأس، وتعلقن ببعض الأدلة الواهية، وخرجن في الشوارع، وخالطن الرجال، وإن هذه كارثة، ومخالفة لدين الله عز وجل، وهذا أولُ الهدم، وأول الشرود عن منهج الله عز وجل، فحذار حذار من هذا.
ومن كان عندها شك فلتراجع كتب أهل العلم، وتراجع الأدلة والبراهين لتتقي الله في عصر الفتنة، ولو أجيز في القرن الأول لما أجيز في هذا القرن، الذي أصبح الذئاب فيه كُثر، وأصبح المعرّضون والفجرة فئامٌ لا يحصيهم عاد، وإني لأعرف أناساً لا ينزلون إلى الأسواق إلا للمتعة في وجوه الأجنبيات، والنظر والتغزل بالمحاسن، والفسق والفجور، والتعدي على مناهج الله عز وجل، فالله الله في الحجاب، والله الله في الستر، والله الله في لزوم طاعة الله عز وجل، واجتناب نواهيه.(47/18)
الدعوة إلى الله عز وجل
الثالث: مما يحصن المرأة الدعوة إلى سبيل الله: الدعوة إلى منهج الله، أن تكون المرأة داعية مؤثرة، وإني أشكر كل الشكر داعيات كثر في بلادنا، بدأن بإرسال الكلمة، وبالتأثير على أخواتهن بواسطة الهاتف، والمراسلة، والجلسة، والمحاضرة، والدعوة، وإهداء الشريط الإسلامي والكتاب الإسلامي، وهذا أمرٌ محبب، وهذا هو والله الحسن، وهذا هو الأجر والمثوبة، عافا الله من فعلت ذلك وآجرها، وثبتها.
فإنه لا يستمع للمرأة إلا النساء، ولا يؤثر في النساء إلا النساء، ولا يعرف مشاكل وطموحات النساء، ومسائل وخصوصيات النساء إلاَّ النساء.
فوصيتي: أن تنبعث المرأة داعية مؤثرة في بني جنسها، وفي ما حولها، وتكون حاملةً لكتاب الله عز وجل، وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن العلماء أجادوا في جانب الرجال، لكن القطاع المهم والأهم هو المرأة، وهذا النصف الكثير من أمتنا يحتاج إلى داعيات مخلصات منيبات صادقات، يوصلن كلمة الحق والنور إلى القلوب، ويتكلمن عما يراد بهن.
عجيب أن تجد في الصحف بعض الكاتبات المتخليات عن دينهن يكتبن كلاماً، ويدعين إلى أمور تخالف دين الله، فأين المستقيمات الملتزمات الداعيات؟ عجيب!!
هناك داعيات ينادين بنبذ الحجاب وقيادة السيارة، وخروج المرأة، وترك هذا الحياء، فأين الصف المقابل؟! أين داعيات الحق؟! قال تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104].
فولينا ووليكم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وتراثنا خالد من الوحي، وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم، والواجب علينا وعليكن أن ننصح الناس، ولا نخشى في الله لومة لائم؛ لأن الحق معنا.
لماذا لا تخجل المغرضة؟! لماذا لا تخجل المتسممة بالأفكار اليهودية؟! لماذا لا تخجل التي درست في الفرسايد ولوس أنجلوس؟ وهي تلقي علينا في بلاد الحرمين، وبلاد المقدسات سمها وعذابها، وتلقي علينا إفسادها، ولا تخجل!!
والمرأة تخجل أن تقول كلمة الحق، وأن تدعو إلى منهج الله، وإلى سبيل الله، لماذا؟
إنه إحباط، وهكذا يفعل ضعف الهمة والعزيمة، أن تجعل المرأة سلبية، وأن تبقى خائفة محايدة في مكانٍ لا يكون فيهنَّ مفاصلة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
أقول: هذا وقد قرأنا من التجارب الوخيمة التي عاشتها البلاد الأخرى، ووصلت إلى مستواها، يعلم ذلك من رأى، ومن قرأ، ومن أبصر، وطريقة الإنقاذ أن نعود إلى الله عز وجل في أمتنا، وفي جيلنا ونسائنا.(47/19)
الزواج يمنع السفور والفجور
الرابع من الأمور التي أتحدث عنها: مسألة الزواج.
والله عز وجل سن الزواج، بين الذكر والأنثى قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] لتحفظ الأعراض والأنساب، وتحفظ الأسر والمجتمعات، تكون الأمة شريفةً، وتعيش شريفةً عفيفةً مطهرةً، فإنه يوم يترك هذا السياج، وهذه الشريعة الربانية، والسنة الخالدة تضيع الأمة.
لقد وجد في المجتمع تكاسل عن هذه السنة، أو تأخر عنها، وهذا أنتج لنا عنوسةً، وهذه العنوسة لابد أن يقضى عليها، وهي من نتائج عدم تقبل الصالحين، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض}.
والمرأة عليها أن تتزوج إذا وجدت الكفؤ، وكذلك الشاب إذا وجد المرأة الصالحة عليه أن يتزوج، وأن يتقي الله في شبابه، وتتقي الله في شبابها.
عند الطبراني بسندٍ حسن: {من تزوج فقد أتم نصف دينه، فلتيقِ الله في النصف الآخر} ولتتق المرأة ربها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن تسوف لزواجها، وألا تصدق هذه الدعوات التي نسمعها في بعض الجامعات والمؤسسات، من تأمين المستقبل، حتى تنتهي المرأة من الجامعة، أو الدكتوراه، أو الماجستير، وهي لن تتزوج حتى يذهب جمالها، وفتوتها، وشبابها فتصبح غير مرغوبة ولا مطلوبة، فتضيع عمر الحياة الزوجية، عمر البيت، عمر الأطفال، الذي هو من أحسن ما يكون، وهو سر السعادة بعد الإيمان، وبعد العمل الصالح، فوصيتي هذه الوصية، ونشر هذا الفكر في جانب النساء، وفي جانب الفتيات، ألا يتأخرن عن الزواج، فإن العنوسة مأساة لا تصلح، وقد شكى منها الغربيون فكيف بالإسلاميين.
وأسأل الله عز وجل لي ولكن الهداية والثبات، والسداد والاستقامة والرشد والعون، وأسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحفظنا وإياكن من كل مكروه، ومن كل سوء، ومن كل من يريد بنا فساداً، أو بالبلاد والعباد شراً؛ أن يكفيناه بما شاء، وأن يحفظنا وإياكن، وأن يحفظ علينا أعراضنا وبيوتنا وديننا وشرفنا.(47/20)
الأسئلة(47/21)
مفهوم الابتلاء
السؤال
في خضم الأحداث الأخيرة التي نزلت بـ الكويت، يظن بعض الناس أن الابتلاء خاصٌ بأهل الكويت، فهل من كلمةٍ للأخوات عن مفهوم الابتلاء؟
الجواب
أولاً: أشكركن على هذه المشاعر الحية.
ثانياً: ما أصاب أي شعب، فبقضاء من الله وقدر: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] وقد أخبر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن سننه في الناس، وفي الأمم، وفي الأيام، أن من عصاه وانحرف عن منهجه أدبه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} [الطلاق:8 - 9].
ولا يكون العقاب فقط زلزالاً أو بركاناً، بل قد يكون جيشاً جراراً، أو دبابات صارخة، أو طائراتٍ قاصفة، والذي حلَّ بأهل الكويت لابد أن نتأمله كثيراً، وقد جلست مع كثير من علمائهم، ودعاتهم، كالشيخ أحمد القطان، وأخبرنا بما وصلوا إليه، وأنا زرتهم قبل سبع سنوات، ورأيت هناك العجب العجاب، ولسنا بشامتين، فنحن والحمد لله ولا فخر، والمنة لله عز وجل، آويناهم ورأينا أنهم إخواننا وأخواتنا وقمنا معهم، لكن النتيجة: إياك أعني واسمعي يا جارة: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنْ الْقُرَى} [الأحقاف:27].
وصلوا إلى مسألة أنهم تركوا الحجاب وصارت المرأة مشاركة في الحياة، وأصبحت معروضة للناس في الفنادق، ولسنا عارضين لمساوئ الناس، فإنهم إخواننا وجيراننا، لكن ننبه أمتنا ونساءنا وأخواتنا إلى الخطر المحدق، الذي حل بتلك الأمم: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
بل وصل الحال كما أخبرت من بعض الدعاة أن امرأة أخذت مصحفاً وهي حائض، وأخذت أمام البنات تقول: هذا وثيقة التخلف والرجعية، تعني: القرآن.
{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف:5] والذي يظهر والله أعلم، أن هذه الأحداث التي أنتجت لنا أنها ركزت على المرأة كثيراً، الإعلام بأقسامه، والكتب والمجلات، وكل شيء، حتى إن هؤلاء العلمانيين الذين في بلادنا كانوا يتغنون بالوطن، ويتغزلون الوطن وقشرة الأرض، فلما أتت الأحداث ورص على حدودنا آلاف الدبابات، ومئات الألوف من الجيوش المدمرة والصواريخ التي تحمل الرءوس النووية والكيماوية، وغير ذلك؛ تركوا الحدود، وتركوا العدو، وأتوا ينادون المرأة هنا، أهذا وقت لمناداة المرأة؟!! أهذا وقت خروج المرأة؟! أهذا وقت مطالبة المرأة أن تقود السيارة؟!! هذا ينبئنا أنهم كذبوا لعمر الله، وأنهم يريدون الفتك بالعباد والبلاد وأنهم ليسوا بصادقين في وطنيتهم على أن الوطنية لا تجوز، يعني: الميل للوطن وتغليب الوطن على منهج الله عز وجل ليس بجائز، ولا وطنية في الإسلام، لكن انظرن كيف تركنا الأحداث، والخليج يمر بأزمة، والقوات العالمية قد اجتمعت، وأتوا إلى هنا إلى داخل البلاد ينخرون في جسم الأمة عن طريق المرأة وحدها، وهي يوم تصلح يصلح الله الأمة بها، ويوم تفسد تفسد الأمة بعدها، هذا ما عندي في هذه المسألة.(47/22)
الشروط التي يشترطها الشباب في الزواج
السؤال
ما حكم اشتراط كثير من الشباب شروطاً قد لا تتوفر في بعض الفتيات حين الرغبة في الزواج؟
الجواب
سبق أن تحدثت في بعض المحاضرات للشباب عن هذا، وقلت: إن بعضهم يشترطُ شروطاً حتى شروط الترمذي في صحة الحديث، أو شروط ابن حبان لا تصح عنده، أي: لا يمكن أن توافق هواه، وبعض الشباب يشترط شروط المجتهد عند الرازي، وربما ينتظر حتى يعطى حورية من الحور العين، إنه يشترط أن تكون زرقاء العينين، طويلة، إذا مشت تحت البواري فرت، وإذا جلست استقرت، لا هي بطويلةٍ ممشوقة، ولا بقصيرةٍ مرموقة، حاكمة إذا تكلمت، ناطقة إذا تبسمت، كالليل إذا أدبرت، وكالنهار إذا أقبلت، فقلنا له: ينتظر حتى يموت ولا يتزوج في هذه الحياة الدنيا، وهو ينتظر حتى يرضى ببني جنسه، وهو من الطبيعة ومن الجبلة، وموجود معنا من بني جنسنا، فيرضى من إنتاج بلده والحمد لله، وأظن أن هذه ظاهرة عند الشباب ومعلومة، وإذا توفر في المرأة الدين، فإن الدين يصلح كل شيء، وما أظن أنها أصبحت ظاهرة عند بعض الشباب بحيث أنهم يحجمون عن الزواج لهذه الشروط، هم يتساهلون إذا وجدوا الملتزمة المستقيمة التي تفهم أمر ربها، وتكون حسنة الخلق، أما الشروط هذه فما أظن أنها ظاهرة إلا في بعضهم، وهم قليل إن شاء الله.(47/23)
حكم الزواج من تارك الصلاة
السؤال
من أختٍ تقدم لها شابٌ ليتزوجها وتصفه بأنه مستقيم، ولكنه لا يصلي؟
الجواب
بسيط ما دام عيبه فقط ترك الصلاة فهو كافر.
لقد ظننت أنها ستقول: يسبل ثوبه، أو يستمع الأغنية، أما أنه لا يصلي فهذا يلحق بأعداء الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من ترك الصلاة فقد كفر} ويقول: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} {بين المسلم والكافر ترك الصلاة}.
للمرأة المسلمة أن تتساهل في بعض الأمور، حتى تؤثر هي بصلاحها على زوجها، أما إنسان مبتور الرأس، إنسان مريض، إنسان فيه هذه الزندقة والعياذ بالله فلا، ترك الصلاة، لا! لا موافقة، ولا يحق له أن يتقدم لامرأةٍ مسلمة؛ لأن أهل العلم كما تعرفن ينادون بأن المرأة لا تتزوج إلا بمسلم، وأنها لو تزوجت كافراً كان العقد لاغياً، ويلحقون بذلك تارك الصلاة.
بل قال كثيرٌ من المحدثين: لو تزوجت مسلماً ثم ترك الصلاة، لكفر ولأصبح العقد لاغياً، ولا يجوز أن تمكنه أبداً، وتصبح أجنبية عليه، هذا حكم أهل العلم في هذه المسألة، فهذه الأخت لا توافق ولو وافق أبوها وأمها، حتى يكون مصلياً خائفاً من الله، أما بعض المشاكل التي قد يكملها إن شاء الله بالتربية معه، والجلوس معه، فهذه سهلة.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
وكذلك يوجد في جانب البنات، من تتشدد في الشروط كثيراً، فأحياناً تشترط أن يقوم الليل، وأن يحفظ القرآن كله، وأن يكون على درجة من الورع، كدرجة أبي ذر، ومن العلم كعلم مالك، ويكون من الفصاحة كفصاحة علي، فهذه تترك الزواج، ولا تجد لها زوجاً حتى تموت.(47/24)
حكم معاشرة أهل المعاصي
السؤال
امرأة تشتكي من قريباتها اللاتي يلبسن الثياب الشفافة ويزرنها كثيراً، ونصحتهن فلم يستجبن للنصيحة، فما كان منها إلا أن هجرتهن، مما أدى إلى غضب والدتها؟
الجواب
ما فعلتيه أيتها السائلة، هو الصواب، لأنكِ كما ذكرتِ قد قصدت بدعوتهن إلى طاعة الله عز وجل، بواسطة الشريط الإسلامي والكتيب والتأثير فما استجبن فهجرتيهن، وهذه هي أصلاً طريق الدعوة في الإسلام هكذا، الدعوة باللين، المناصحة، إبلاغ دين الله عز وجل، فإذا لم يرتدع هذا العاصي فيهجر، أما غضب الوالدة فلا يضرك بإذن الله، إذا لنتِ مع الوالدة، وطلبت سماحها لأنه {لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق}.
وإذا علم الله عز وجل أن هذا الغضب من أجل طاعته، فلن تجدي أثراً بإذن الله لهذا الذنب، فإنك أرضيت الله عز وجل، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخط الناس برضى الله رضي الله عليه وأرضى عليه الناس}.
وأما قولك: إنهن ذهبن، فلا يعدنَ، إذا كان على هذا المنهج، وهذا التكشف، وهذا التبرج، فلا يعدن:
لقد ذهب الحمار بأم عمرٍو فلا رجعت ولا رجع الحمارُ(47/25)
ظاهرة تعارض الزواج مع الدراسة
السؤال
تسأل عن تعارض الزواج مع الدراسة، فهي إما أن تتزوج، وإما أن تكمل دراستها، التي تستمر ثلاث سنوات؟
الجواب
هذا ليس فيه نصوص شرعية، ولكن وجهة نظر، وأنا أشير على هذه الأخت مثلما أشير على قريبتي لو كانت في موقعها، وأرى أنها تتزوج ولا تنتظر ثلاث سنوات، لأن زواجها وحفظ نفسها، وعصمتها، وحياتها الزوجية، وسعادتها مع الزوج، أعظم من هذه الدراسة المرحلية، هذه وجهة نظر، وأرى هذا وعسى الله عز وجل أن يسددها للأحسن والأقوم، وثلاث سنوات يشيب فيها الغراب لطولها.(47/26)
التشدد في شروط الزواج
السؤال
فتاة تقدم لها شابٌ ملتزم ولكنه يشترط شروطاً تبدو مشددة؟
الجواب
هذه الشروط بعضها فيها إجحاف، وأرى أن يتفاوض معه، ولا يُفَّوت مثل هذا الملتزم، ولكنه يُناظر على منهج الشريعة، وأرى أن هذه الفتاة تحاكمه إلى أحد العلماء، فإن رخص العالم في هذا كان وارداً، مثل أدوات التجميل، لابد منها للمرأة، مثل الثوب الفضفاض الذي لا يبدي الزينة، وليس فيه ريبة ولا تشبه ليس به بأس، فقصدي لا بد أن تحاكمه إلى النصوص، وتسأله هل هذا فيه أثر، هل قال به أحد العلماء حتى يقتنع، أما أن ترفض فلا أرى، وإن استطاعت أن تلبي طلبه، وتقوم بهذه الشروط فهو الأولى، وقد أخذ بالورع والحيطة من أمره، ولو أني أرى فيها شيئاً، لابد أن ينظر من منظار الشريعة، ولسنا بالمتساهلين الذين يفلتون الحبل على الغارب، ويدعون إلى كثير من التساهل حتى تصل إلى المنهيات، ولسنا بالذين يشددون على الناس، ويتنطعون في الدين ما لم ينزل الله به سلطاناً، ولم تؤيده الشريعة، هذا رأيي.(47/27)
مفهوم الابتلاء
السؤال
فتاة تدعو الشيخ إلى مزيد بيان لمفهوم الابتلاء؟
الجواب
شكراًَ لهذه المسلمة، والضيفة القادمة من الكويت، ويعلم الله عز وجل أننا لا نريد جرح مشاعرهم، ولا أعد مثل هذه المتكلمة إلا أختاً، ونشعر باللوعة والحسرة، ويتمثل الإنسان في نفسه، أن يقع بأهله مثلما وقع بأهل الكويت، ولعلها تدرك ماذا فعل الدعاة في هذه البلاد والعلماء وطلبة العلم، لقد ذهبوا والله الشاهد إلى الخفجي وحفر الباطن، والحدود الشمالية، والتقوا الأخوات بالبطانيات والعباءات والماء البارد، والطعام، وبالسيارات، ونقلوا وواسوا، وهذا المنة لله عز وجل فيه، وكنا والله نتأسف كثيراً، ونندم:
ألهفي لشعبٍ بات في خير نعمة وأصبح في ليلٍ من الهول يمرجُ
سيصغي له من عالم الغيب ناصرٌ ولله أوسٌ آخرون وخزرج
وما قصدي الإنالة أبداً، فإنا بلدٌ واحد:
وحيثما ذكر اسم الله في بلدٍ عددت ذاك الحمى من صلب أوطانِي
ومن أحب الناس إليَّ كثير من الأصدقاء من الكويت، طلبة علم، وأخيار وشرفاء ونزهاء، ونستعد أن نقدم دماءنا عن معتقدهم، وعن لا إله إلا الله التي يحملونها، وما كنا شامتين يوماً من الأيام، ولا نفعل والعياذ بالله، كفعل الناس الذين وقفوا متفرجين، وقد قلتها في كثير من المحاضرات: شعب الكويت قدم دعاة من أشهر الدعاة، وقدم العلماء، وطلبة العلم، شعب الكويت عنده جمعية الإصلاح وإحياء التراث التي دعمت المشاريع العالمية الإسلامية في كل بلد، والله لقد تأثر الشعب الأفغاني من احتلال الكويت، وتأثرت هيئة الإغاثة الدولية، وتأثر مجلس المساجد، وتأثرت رابطة الشباب العربي المسلم، وتأثر كل مكان؛ لأن الدعم السخي كان يأتي من هناك، فما أقصدك ولا أقصد أمثالك من الكريمات، فأنا أعرف بأن في كل دار بني سعد، وأنا أعرف أن هناك بيوتاً طيبة بنيت على الحق والعدل والسلام، وما كنتُ شامتاً، لكنك ربما اتفقت معي في مسألة ما ننتظر بذنوبنا، وما نزل عذابٌ إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
وسنة الله عز وجل أن يؤدب، يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] ونحن نعرف أن الكوارث والمصائب تحدث لنا بسبب ذنوبنا، وما هو بسبب الكفر، لكنه تمحيص للخطايا، فأنا معك أنه تمحيص وأن سنة الله أن يؤدب، وأنا أعلم أن هذا الشعب تلقن درساً، وأنه وعى للمرحلة التي سوف يعيشيها، وإذا عاد كان أحسن بإذن الله، ونحن ما حكمنا على شعب الكويت حكماً عاماً، وإنما عشنا معهم وعرفناهم، وعرفنا أن هناك مثل شعبنا، لكنَ ربما تتفق معي الأخت أن الحجاب هناك، ما كانت له تلك المنزلة، والشريعة ما كانت تحكم، ولا تستطيع هي أن تقول: أن الشريعة كانت تحكم هناك، وأنا أحيلها على شريط للشيخ القطان فهو أعرف مني بـ الكويت، وهو قريبها وأخوها من بلد الكويت، فقد تكلم في تدمير الأخلاق عن قصص ما أرويها لكُنَّ، وأنا أعرف أنه في بلادنا بعض القصص، لكن الفرق أن هنا مداً هائلاً للحجاب، وكثرةٌ كاثرة تدعو إلى منهج الله عز وجل.
هذا ربما وجهة نظر، وإلا فنحن ننادي الناس على المنابر! انتبهوا لا يقع بكم ما وقع بجيرانكم، ولسنا في ذلك شامتين، ووافقنا على ذلك جيراننا، ردهم الله سالمين منتصرين غانمين.(47/28)
الحجاب الشرعي
السؤال
عن بعض جوانب مسألة الحجاب، وما يتعلق بحكمه في الإحرام؟
الجواب
هذا السؤال مركب ومتداخل في فقرات، اللباس الشرعي للمرأة: هو ما كان ساتراً لجسمها، وما أعلم في ذلك أي نصٍ يحدد لباساً معيناً، إنما المهم أن يكون ساتراً لجسم المرأة فيستر وجهها وكفيها وقدميها، وقد سألت أم سلمة الرسول عليه الصلاة والسلام، فطلب منها أن يكون سابغاً تطيل ذيلها شبراً قالت: {يا رسول الله: ينكشف.
-يعني: في الأرض ينكشف- قال: فذراع} فأخبر صلى الله عليه وسلم بذلك، (والكاب): عرفته، لا بأس به إذا كان فضفاضاً، لأن الحجاب فقط ليس عباءة فقط، إنما إذا كان أي لباس فضفاضاً ساتراً فلا بأس به مع القفازين، أما في العمرة والحج فلا تلبس المرأة القفازين، ولا تستر وجهها إذا أحرمت إلا إذا عرض لها الأجانب أو كانت في الطواف ورأت الرجال تستر وجهها، لحديث عائشة في الصحيح: {كنا محرمات -نساء يكشفن عن وجوههن- فإذا عرض بنا الركبان أسدلت إحدانا جلبابها على وجهها} أو كما قالت رضي الله عنها.(47/29)
حكم تعلم المرأة لعلوم الدنيا
السؤال
ما حكم تعلم المرأة لبعض العلوم المادية، كالكيمياء والفيزياء؟
الجواب
ليس بإثم، ما أعلم في ذلك نصاً: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116].
أما واقعنا فالرجل بحاجة إلى أن يدرس هذه العلوم؛ لأن المعامل تستقبلهم كالكيمياء والفيزياء، ونحن بحاجة ماسة إلى هذه العلوم، وبحاجة إلى أن نطور أنفسنا، ولنواكب الركب الدنيوي هذا مع ركب الآخرة؛ لأن هؤلاء غلبوا في عالم المادة، ونحن تأخرنا فيه، فمع الإيمان لابد لنا من ذرة، ولابد لنا من إنتاج، وتكنولوجيا، واختراع، لنعيش حياة راقية، والله جعلنا في الأرض نستعمرها، أما المرأة ما أجد لها مجالاً في مثل هذا الأمر؛ لأن لها مجالات أخرى في الإسلام، علم الشريعة، التربية، الرعاية، التعليم، الدعوة إلى منهج الله عز وجل، وليتنا قمنا نحن الرجال بإنتاجٍ واختراع، حتى تقوم النساء بواجبهن، وأنا فوجئت أن امرأة من هذا البلد ذهبت تدرس في بروكسل، لا أعرف أنها هندسة التربة، أو بيطرة البقر، فما أدري كيف تعود لنا من بروكسل نحن ما أنتجنا شيئاً، الطباشير التي عندنا في الفصل مستوردة، كذلك المساحة والسبورة، والكرسي والماسة، والميكرفون، فنحن ما أنتجنا، ونحن الرجال فننتظر من المرأة أن تذهب إلى بروكسل لتدرس لنا هندسة التربة، وتأتي تكتشف لنا ثلاجةً أو جرجيراً لا أدري كيف ذلك؟!(47/30)
مجاهدة النفس
السؤال
كيف تكون مجاهدة النفس؟
الجواب
{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] لو أن الجنة سهلة المآخذ، أو سهلة المطلب أو سهلة المسير لدخل الناس كلهم الجنة، ولكن أبى الله إلا أن يميز من يريد الشهوات، فقد حفت الجنة بالمكارة وحفت النار بالشهوات، وليس للمرأة المسلمة ولا للرجل إلا الصبر والاحتساب في مواطن الصبر، وأما أن يستقيم الإنسان في كل دقيقةٍ وجليلة، فهذا قد يكون صعباً، ولا يشاد الدين أحد إلا غلبه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {سددوا واستقيموا وقاربوا، ولن تحصوا} قال بعض العلماء: لن تحصوا: لن تستطيعوا الاستقامة؛ ولكن الإنسان يسدد بالتوبة والاستغفار والصدقة وإذا أخطأ تاب إلى الله عز وجل، وإذا نقَّص يتصدق، وهكذا حتى يصل إلى الله عز وجل.(47/31)
المحبة والابتلاء
السؤال
يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا أحب الله قوماً ابتلاهم}.
هل يعد ابتلاء أهل الكويت لحب الله لهم؟
الجواب
أولاً: هذا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم: {إذا أحب الله قوماً ابتلاهم} وأنا أسأل الله أن يكون أحب أهل الكويت فابتلاهم بهذا، وأسأله أن يكون كفارة لهم ورفعاً لدرجاتهم وماذلك على الله بعزيز؛ فإني أعرف من العلماء عندهم والدعاة والأخيار من الصالحين من أوذوا، فربما هذا من المحبة، وأنا قد أتفق مع هذا اتفاقاً نسبياً، وقد يكون تأديباً للعصاة، وكذلك نحن لو ابتلينا يقولون: محبةً ورفعة، وتأديباً للعصاة الذين عندنا، والذي ذكرته الأخت الكويتية أنا اتفق معها، وأنا في أول المحاضرة ذكرتُ لها ما يوجد في المجلات عندنا في بلادنا هنا، وذكرت لها شريط: (الفتاة السعودية والعلمانيون) لعلها أن تسمع هذا الشريط لأخبرها ببعض ما تعيشه المرأة عندنا، فلسنا هنا نفرق بين الكويت والسعودية ومصر، ولا السودان ولا باكستان ولا تركيا، البلاد بلاد الله، والدين دين الله، والأمة أمة الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].(47/32)
كيفية القراءة والاطلاع
السؤال
عن كيفية قراءة الشيخ للكتب التي ورد ذكرها في شريط: السيرة الذاتية؟
الجواب
ظروف الناس تختلف، وليس كل من وجد بيئةً أو حيثيات أو ملابسات يجدها الآخر، والإنسان يعيش ظرفه، والمرأة يختلف ظرفها عن ظرف الرجل، ولكن ليس المهم القراءة، ولكن المهم العمل بما يقرأ، ومن رتبت وقتها، واعتنت ببرنامجها اليومي قرأت بإذن الله عز وجل، وأثمرت وأنتجت وتعلمت، وأنتن في مجال العلم بإذن الله أعرف وأحرص، حتى من الأسئلة المعروضة رأيت الثقافة الواسعة، والحمد لله، فلا يلزم صراحةً أن تكون المرأة عاكفة، فتترك الحياة، وتقرأ في هذه المجلدات، لا.
الحياة لها شئون من صلاةٍ، وعبادة، وزواجٍ ودعوةٍ، وحياة، أي: كلٌ فيما يخصه.(47/33)
كشف الوجه والكفين حال الإحرام
السؤال
ما هو مدى تمكن المحرمة من كشف وجهها وكفيها حال إحرامها؟
الجواب
ربما تخلو المرأة في خيمة وهي حاجَّة، أو تجلس وحدها وهي حاجَّة فتكشف، لأن إحرام المرأة في وجهها وكفيها، لكن مع كثرة الناس، وكثرة الأوقات التي يتواجد فيها الناس فلها أن تغطي وجهها.(47/34)
المانع من دراسة المرأة لعلوم الدنيا
السؤال
ما المانع من دراسة المرأة للكيمياء والفيزياء ونحوها؟
الجواب
أنا لا أقول: إن المرأة أقل ذكاءً من الرجل، وأنا أعرف ذلك، وأدرس في جامعة الإمام محمد بن سعود وأكثر الطلاب ذكاء الطالبات، والأولى عندنا في العام الماضي مستوى ثاني أصول الدين طالبة، بتفوقٍ باهر، وهي منتسبة، والثاني من الرجال، وهذا أمرٌ معلوم.
ثانياً: إذا وجدت الضوابط الشرعية التي لا تخل بالدين ولا تدخل في معصية الله عز وجل، وأنا أقول: ليس هناك دليل يمنع، لكن واقعنا الذي نعيشه نحن لا يسمح، وأنا لا أقول: إنه حرام، لكن في الواقع أصلاً ما وجد عندنا رجال ينتجون في الفيزياء والكيمياء، ويكتشفون ويخترعون، فكيف بالنساء! ما دام قصر هؤلاء وأمامهم المجالات، وأمامهم السفر، وأمامهم الفرص المتاحة، فكيف بالنساء، أما التحريم فأنا لا أقول هذا، إذا وجد المكان المناسب في حجابٍ وسترٍ، وعدم وجود ما يؤدي إلى انتهاك حدود الله، عز وجل، أو خلطة بالأجانب فلا بأس، لكن هذا التحفظ لأنه إذا وجدت المرأة ودرست الفيزياء طالبت المرأة بأن تختلط مع الرجال وطالبت بفتح مصانع مشتركة، ثم تطوير الحال، ثم نصبح في حيص بيص.(47/35)
إذا كان الزوج يشرب الخمر
السؤال
فتاة تزوجت رجلاً يصلي، ولكنها اكتشفت بعد الزواج أنه يشرب الخمر، والعياذ بالله؟
الجواب
لا تحتاري، انصحيه أولاً وأنذريه؛ لأنه إن بقي على شرب الخمر فسوف يكون الفراق هناك، وإن استمر فأرى أن تذهبي إلى أهلك فترة من الفترات، وتنذريه بعدم العودة حتى يتوب من هذه المعصية؛ لأنها كبيرة من الكبائر، ولا يجوز لك البقاء معه في هذا، لكنه ليس كترك الصلاة ذاك كفر وهذا فسق، فالفاسق ينذر ويحذر، فإن ارتدع فبها ونعمت، وإلا فاذهبي إلى أهلك من باب التهديد، ومن باب ممارسة حق النقض (الفيتو).(47/36)
حقوق الزوجة على زوجها
السؤال
عن حقوق الزوجة على زوجها؟
الجواب
أنا إذا جلست في محاضرة أمام النساء، تكلمت عن حقوق الرجل على المرأة، وإذا جلسنا مع الرجال تكلمنا عن حقوق المرأة على الرجل، وهناك شريط اسمه: صفات المرأة المسلمة، ربما ذكر فيه شيء من هذا، ومن حقوق المرأة على الرجل: النفقة، وحقوق المعاشرة، والاحترام، وعدم الإيذاء والتقبيح والضرب المبرح المؤذي لغير سبب، وعدم الهجران لغير سببٍ، وإذا كان عنده زوجتان أو أكثر العدل في النفقة، وفي السكنى، وفي الطعام والشراب، ومن حقوق المرأة أيضاً: تعليمها إذا لم تكن متعلمة، وإعطاؤها حقها مثلاً في الزيارة والخروج والنزهة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إن لأهلك عليك حقاً} الجلوس معها، إيناسها والمزاح معها، أي: أن تكون باختصار تعيش عيشةً طيبة، وهذا موجود في كثير من النساء يقلن: أنهن عشن في مثل الجنة من السعادة مع الأزواج المتقين الخائفين من الله عز وجل، هذا أمرٌ موجود.(47/37)
حكم إطالة الأظافر والتشبه بالرجال
السؤال
ما حكم إطالة النساء للأظافر، وقص الشعور كالرجال؟
الجواب
أما قص الشعور كقص الكافرات، فهذا تشبه، ومن تفعل ذلك تشبهاً بالرجال فقد لعنها الله، لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال.
وأما تطويل الأظافر، فلم تأت به سنة ولا آية، وهو من التشويه لخلق الله عز وجل، والاعتداء على حدوده، وهو تشبه بالكافرات، وهو مخيف مرعب، حتى يمثل أن كف المرأة ككف الذئب أو الثعلب، والرسول صلى الله عليه وسلم مدت له امرأة من قريش يدها تريد أن تبايعه، وكان لا يصافح النساء، وكان يبايع، قال: {ما هذه اليد كأنها يد سبع} فعلى المرأة أن تختضب وأن تكتحل، وأن تكون متجملة لكن بالسنة.
وفي السنن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إني أكره أن تكون المرأة سلتاء مرهاء} السلتاء: التي لا تختضب، والمرهاء: التي لا تكتحل.(47/38)
الاحتجاج على المعصية بالقدر
السؤال
فتاة لها صديقة، تحتج بقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] وترد النصيحة، بحجة أن الأعمال مقدرةٌ سلفاً؟
الجواب
هذه الفتاة جبرية، يعني: تقول بالجبر، وإذا لم تقتنع بالشريعة فقد تقتنع بشيء من التأديب من أبيها أو أمها؛ لأبيها أو لأمها؛ لأنها عارضت شرع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وقدره الكوني سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهي قالت شيئاً تتظاهر بأنه حق، وهو في احتجاجها باطل، وقد سرق أحد الناس في عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه، وقال له عمر: [[لم سرقت؟ قال: قدر الله عليَّ أن أسرق، فأخذ عمر السكين فقطع يده: قال: لم قطعت يدي؟ قال: قدر الله عليَّ أن أقطع يدك]].
فقضية أن تضحك علينا وتضحك على الشريعة، وتترك الصلاة، وتترك الحجاب، وتقول: قدر الله عليَّ فهذا خطأ:
أولاً: أسألها: من أخبرها أن الله قدر عليها هذا؟ {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] والهداية مسلوكة ومعروفة، هل تعرف أن الله قدر عليها الغواية؟ {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] هم بدءوا بالمجاهدة فهديناهم، فلما زاغوا وبدءوا بالزيغ أزاغ الله قلوبهم، فأهل العلم يقولون: من أراد الهداية هداه الله ووفقه.
ثانياً: إننا نراها في المصالح الدنيوية حريصة على ما يصلح لها، تأتي مثلاً: لا تأكل الجمر وتأكل التمر، إذا أحست بالبرد تغطت والتحفت، إذا أحست بالظمأ شربت الماء، فمن أخبرها أن هذا ظمأ، وهذا ري، وهذا جوعٌ وهذا شبع، إلا لأنها تفكر بهذا، هذا هداية، وهذا ضلال، أما استدلالها بذاك فليس بصحيح وهي مخطئة، ويدل على قلة علمها، فعليها أن تتوب وتستغفر، وأن تجاهد نفسها وسوف يهديها الله إذا اقتربت منه، وإذا دعت، أما أنها ما بدأت بشيء، ولا دعت ولا صلت، وتريد أن تأتيها الهداية، فلن تأتيها {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23].(47/39)
ترك صلاة الجماعة وهجر الأقارب
السؤال
تسأل عن زوجٍ لا يصل أهل زوجته، ويصلي في البيت؟
الجواب
أما المسألة الأولى: الصلاة في البيت، فمخالفة للسنة ولأمر الله عز وجل، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأرى أن تنصحيه كثيراً، وأن تقومي عليه حتى يصلي في المسجد، وأما أنه في غاية الطيبة، فهذا شيءٌ طيب يشكر عليه، وأما أنه لا يَصِل والديك؛ فهي معصية، وعليك بالمناصحة وعدم المفارقة لكن انصحيه كثيراً؛ عسى الله أن يهديه، وإن حاولت أن تشكيه إلى والديه عسى أن يسمع منهما، أو من أقاربه لعل الله عز وجل أن يصلح قلبه.(47/40)
الاستهزاء بالحجاب
السؤال
عن حكم الاستهزاء بالحجاب؟
الجواب
فيه تفصيل: إن كان قصدها الاستهزاء من الحجاب لأن الله عز وجل سنه أو رسوله صلى الله عليه وسلم سنه، فهو كفر {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
وإن كان لم يبلغها النص الشرعي فيه، وظنت أنه ليس بثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم فأمر آخر، يؤخذ على يديها، وتخبر بالأمر، لكن الذي يظهر لي أن اللواتي يستهزئن بالحجاب، ويدسن الحجاب أنهن يردن الاستهزاء به؛ لأن الإسلام أتى به وهذه ردة كما قالها كثير من العلماء.(47/41)
حكم انتحار المرأة فراراً بعرضها
السؤال
ما حكم انتحار المرأة فراراً بعرضها، أن ينتهك؟
الجواب
لا.
ليس للمرأة أن تنتحر، أو تقتل نفسها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {من قتل نفسه بشيء عذب به في النار} والعياذ بالله، وقتل النفس والانتحار كبيرةٌ من الكبائر من استحله يكفر، لكنه على العموم كبيرة من الكبائر، والله عز وجل ينقذ المرأة ويحميها، لكني لا أرى لها رخصة أن تنتحر أبداً مهما كان، ولا يرخص للإنسان أن ينتحر، فهو محرم بإجماع أهل العلم، ولم يجيزوه حتى في حالات الضرورة.(47/42)
من قتل عبد الله عزام؟
استهل الشيخ خطبته الأولى بالحديث عن فضل الشهادة، وفضل الشهداء، ثم تكلم عن الشيخ عبد الله عزام وعن استشهاده، وأن الموت بهذه الطريقة (الشهادة) هو سنة عظماء الإسلام، وأورد أمثلة على ذلك.
ثم تكلم عن وصية الشهيد عزام، وعن بعض مناقبه، وكرّس خطبته الثانية للحديث عن طبيعة اجتماع الرئيسين الأمريكي والسوفييتي الذي تجلت فيه آية عظيمة من آيات الله.(48/1)
استشهاد عبد الله عزام
الحمد لله، الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.
الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد الزعماء، وصفوة العلماء، وخيرة الأولياء، وأفضل الشهداء، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
إن من أسمى ما يطلبه المؤمن في الحياة الشهادة في سبيل الله، وإن من أعظم ما يتمناه الموحد الصادق مع الله أن يُقتل في سبيله {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].
نحن أمة الشهداء، قدمنا لله ألوفاً مؤلفة من أبنائنا عبر التاريخ، سيدنا وإمامنا وحبيبنا وقدوتنا عليه الصلاة والسلام يقول: {والذي نفسي بيده! لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل} ويقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {والذي نفسي بيده! ما من مكلومٍ يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه كما كان، اللون لون الدم، والريح ريح المسك} وصح عنه عليه الصلاة والسلام: {أن الله -عز وجل- يجمع أرواح الشهداء فيجعلها في حواصل طير تلج الجنة؛ فتأكل من أشجارها، وتشرب من أنهارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش حتى يرث الله الأرض ومن عليها}.
{يتجلى الله للشهداء في الجنة؛ فيقول: تمنوا، فيقولون: أما أرضيتنا، أما بيضت وجوهنا، فيقول: تمنوا، فيقولون: نتمنى أن تعيدنا إلى الدنيا فنقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمنوا، قالوا: نتمنى أن ترضى عنا فإنا قد رضينا عنك، قال: فإني قد أحللت عليكم رضواني لا أسخط عليكم أبداً}
وقبل أيام قليلة فقدنا داعيةً ومجاهداً وعالماً ذهب إلى الله - نسأل الله أن يبدله بمسعاه الجنة، وأن ينزله الرضوان، وأن يجمعنا به في دار الكرامة - {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
فقدنا الشيخ/ عبد الله عزام -عليه رحمة الله- أحببناه حياً وأحببناه ميتاً، حفظنا له العهد حياً، وحفظنا له العهد ميتاً، فسلام عليه يوم جاهد، وسلام عليه يوم كتب بقلمه وبدمه، وسلام عليه يوم قتل، وسلام عليه يوم يبعث حيا.
تردى ثياب الموت حمراً فما دجا لها الليل إلا وهي من سندس خضر
فتىً كلما فاضت عيون قبيلةٍ دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكر
ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعةٌ غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
لقد مات بين الطعن والضرب ميتةً تقوم مقام النصر إن فاته النصر
وما مات حتى مات مضرب سيفه من الضرب واعتلت عليه القنا السمر
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر(48/2)
هكذا يموت عظماء الإسلام
هكذا ليمت العظماء، إذا مات الناس في الليالي الحمراء غارقين في الخمر فليمت الشهداء مرضيين عند الله، إذا مات اللاغون اللاهون اللاعبون وهم يتزلجون على الثلوج، فليمت أحباب الله وأولياء الله برصاص الغدر وبخناجر البغي من الشيوعية والعلمانية والصهيونية العالمية.
عظماء الإسلام شهداء، طلب الشهادة رسول الله عليه الصلاة والسلام قال ابن كثير: فمات مسموماً فهو شهيد، فهو سيد الشهداء وسيد الأنبياء.
وحج عمر بن الخطاب وقد قدم دمه ودموعه، ووقته، وماله ولياليه وأيامه لخدمة هذا الدين، فلما أصبح عند الجمرات في آخر حجة حجها رفع يديه، وقال: [[اللهم إنها ضاعت رعيتي، ورق عظمي، ودنا أجلي، وشاب رأسي، فاقبضني إليك، أسألك شهادة في سبيلك، وموتةً في بلد رسولك، وعاد إلى المدينة، وكان صادقاً، فأعطاه الله ما تمنى، فصلَّى بالناس الفجر، وروحه تتوق إلى الشهادة {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] طعن في المحراب في صلاة الفجر ووقع شهيداً على التراب، يقول من قتلني؟ قالوا: أبو لؤلؤة، قال: الحمد لله الذي جعل قتلي على يد رجل ما سجد لله سجدة، رفعوه إلى البيت ووضعوا رأسه على وسادة، فقال: ضعوا رأسي على التراب علَّ الله أن يرحمني، يا ليتني نجوت كفافاً لا لي ولا علي]]
وقتل عثمان صائماً، وكان قد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العصر حين أغفى إغفاءه، فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كأنهم في روضةٍ في الجنة، فقال له- صلى الله عليه وسلم-: يا عثمان! سوف تفطر عندنا هذا اليوم، وقتل قبل الغروب.
وقتل علي بن أبي طالب والحسين وجعفر وابن رواحة وزيد بن حارثة والألوف المؤلفة كلهم يطلبون الشهادة من الله الواحد الأحد.
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
كنا نرى الأصنام من ذهبٍ فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
أتى ابن رواحة إلى مؤتة مسافراً من المدينة، فبكى أطفاله حوله، فقال: لا تبكوا، قال له الصحابة: ترجع بالسلامة يـ ابن رواحة؟ قال: لا.
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وطعنة ذات فرغٍ تقذف الزبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غازٍ وقد رشدا
وذهب وألقى روحه في مؤتة، ويأتي شهيداً يوم القيامة مع الشهداء.
وصاحبنا هذا اليوم: هذا الشيخ المفضال الذي خرج من فلسطين الجريحة فلسطين الدامية، ترك كل شيء؛ الوظيفة والمنصب، وذهب إلى الجبال المثلجة في أفغانستان، يسهر الليل يكتب ويدعو، ويحمل البندقية والرصاص، ويجاهد ويجمع الشمل، ويؤلف القلوب، ويقول عن نفسه: والله لمال المجاهدين الأفغان عندي كالخمر وكالميتة، ذهب إلى الله ونسأل الله أن يجزل له ما أعطاه، أو ما قدمه لهذا الدين.
عفاءٌ على دارٍ رحلت لغيرها فليس بها للصالحين معرج
كدأب علي في المواطن كلها أبي حسن والغصن من حيث يخرج
وفيه إعلام للعالم بأن هذه الأمة لا تزال صامدة بطلة قيادية، ولا يزال أبناؤها يقدمون أرواحهم لله.
عجباً للكافر، أو المعرض الفاجر! أيظن أن الحياة سيجارة، أو كأس، أو مجلة هابطة، أو أغنية ماجنة؟! لا، الحياة كحياة هذا القتيل الحياة كحياة هذا الذاهب إلى الله الحياة كحياة هذا المجاهد الذي ذهب وما ترك شيئاً.(48/3)
بعض مناقب الشهيد عزام
كتب الشيخ وصيته قبل أن يموت بأيام، فأوصى أبناءه بالتوحيد، وأن يكونوا مسلمين، وأوصاهم بوصية يعقوب التي أوصى بها أبناءه، أوصاهم بطلب العلم النافع، وبالجهاد في سبيل الله , أوصاهم بصيام النهار، وقيام الليل، وصلة الأرحام، أوصاهم بكثرة تلاوة القرآن.
وأنا أعرف هذا الرجل عليه شآبيب الرضوان، كان من أكثر الناس قراءةً للقرآن، يقرأ القرآن قائماً وجالساً وعلى جنبه رأيته في بلاد الكفر وهو يتحدث عن عظمة الإسلام، وقوة الإسلام، ودموعه تسيل من لحيته الطويلة ويختم كلامه ويقول: أسأل الله أن يرزقني الشهادة في سبيله، يدخل القاعة في بلاد الكفر في أمريكا أمامه خمسة آلاف من شباب المسلمين، فتدوي القاعة بالتكبير، فلا يرد عليهم إلا بالسلام ودموعه تذرف، لأنه يتحرى مجد الإسلام، وعظمة الإسلام، وكرامة الإسلام.
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
رحمه الله وجمعنا به في مستقر الرحمة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فأخلصوا له ولإخوانه الدعاء، والهجوا إلى الله أن ينصر هذه الأمة وأن يرزقنا الشهادة في سبيله، وألا يجعلنا نموت حبطاً من كثرة المأكولات والمطعومات، وألا يجعلنا ضحايا للمعاصي والفجور والبعد عن الله.
عجباً للمعرضين عن الله! يتزلق أحدهم من على المسرح، فيقولون: شهيد، يغص بكأس الخمر، فيقولون: شهيد، تصيبه تخمة من كثرة ما أكل من الربا فيقولون: شهيد!! لا، الشهداء أحباب الله.
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].
أيا رب لا تجعل وفاتي إن أتت على شرجع يعلى بخضر المطارف
ولكن شهيداً ثاوياً في عصابةٍ يصابون في فج من الأرض خائف
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وساروا إلى موعود ما في المصاحف
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(48/4)
قدرة الله تتجلى في مالطا
الحمد لله، الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيها المسلمون! لله في كونه أعاجيب، وله في خلقه أسرار، وما حدثت حادثة وما وقعت واقعة إلا بقضاء من الله وقدر، والكون الذي نراه ذرة في ملك الواحد الأحد، فهو الذي يعلم الغيب، وهو الذي يصرف الأمور، وهو الذي بيده مقاليد الأمر، وهو قاصم المتجبرين والمتكبرين، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].
قبل أيام قليلة بثت وكالات الأنباء والصحف خبراً عجيباً سمعه الكافر وقرأه، فظن أنه من الطبيعة، وقرأه المؤمن فعلم أنه بقضاء من الله وقدر.
اجتمع الرئيس الأمريكي والرئيس السوفيتي في مالطا على الساحل، يريدون مكاناً هادئاً يتباحثون فيه، والناس يجعلون هذين الصنمين الطاغيين الكافرين اللعينين سيدين من سادات العالم، ويتصورون أن قوة وبطش وصمود العالم هو في يدي هذين الضالين المنحرفين، جلسا في مكان هادئ لا موج فيه، ولا أعاصير، ولا رياح، جلس هذا في سفينة وهذا في سفينة، عليهم الحراسة وقد هدأ البحر، وابتدأت المباحثات، ولكن الواحد الأحد أراد أن يخبرهم أن الأرض ملكه، والبحر ملكه {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:79 - 80].
الماء لله، والهواء لله، والسماء لله، والكافر لعين دخيل على أرض الله، وكأن لسان القدر يقول: ماذا جاء بكم هنا؟ جئتم إلى أهدأ مكان ما هي قوتكم؟ أنتم لا تملكون شيئاً، القوة قوة الله، والعظمة عظمة الله.
قتل النمرود بن كنعان ببعوضة، وقتل بعض الطغاة بذبابة، وقتل بعضهم بشلقة، وبعضهم أُخِذ جثةً هامدةً، حَوَّل الأرض خمس مرات، ودمرها خمس مرات، مرة بالماء، ومرة بالحاصب، ومرة بالصاعقة، ومرة بالخسف.
هاج البحر عليهم، وأقبلت السحب، يقول من رأى ذاكم الفيلم الذي نُقِلَ حياً على الهواء: أقبلت السحب كالجبال {أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنْ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} [الإسراء:69] أتى الموج كالجبال وضرب السفينتين ففصل هذه عن هذه، وأتت فرق الإنقاذ لتنقذ الضالين المجرمين، وذهب هذا هنا وهذا هناك، وقدرة الله في الوسط.
فكأن لسان الحال يقول: أأنتم أعظم أم الله؟ أأنتم أقوى أم الواحد الأحد؟ من الذي بيده مقاليد الأمور؟ من الذي يرسل من الريح قاصفا؟ من الذي يرسل البحر هائجا؟ من الذي يشعل النار؟ من الذي بيده ملكوت كل شيء؟ هو الله.
انفصلوا على مرأى من العالم، وبشرت بعض الوكالات أنهما نجيا سليمين ولم يصابا بعاهة- وهذه بعض آيات الله- {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ} [إبراهيم:44 - 45].
يا من يطالع الأخبار، يا من يقرأ الصحف، اعلم أن وراء هذا الكون مدبراً حكيماً خبيراً قوياً بيده مقاليد الأمور سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى! ما أقواه! وما أعظمه!
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، اللهم صلِّ وسلم على حبيبنا وقدوتنا وأسوتنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان، وارض اللهم عن أصحابه الكرام، من المهاجرين والأنصار، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين، اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وما ترضاه.
اللهم إنا نسألك بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أن تحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك، برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم رد شباب المسلمين إليك رداً جميلاً، اللهم تب عليهم، واغفر ذنوبهم وخطاياهم، وأعدهم إليك، وحبب إليهم القرآن والإيمان وزينه في قلوبهم يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(48/5)
وقفات مع السبع المثاني
لقد جمع الله في هذه السورة كل ما يحتاجه المسلم في حياته، وجمع فيها القرآن كله باختصار بديع، فجعل الحمد له وحده في السراء والضراء، وله الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأنه مالك يوم الدين، وحصر العبادة له والاستعانة لا تكون إلا به، وأمرنا بطلب الهداية منه والسير على صراطه المستقيم ومباينة غيره من السبل.(49/1)
قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أشهد أن الله حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن النبيين حق، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حق.
أشهد أن الدين خالد، وأن الكفر خاسر، وأن محمداً خاتم.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
جئتُ هذه الليلة وأنا محمل بالشكر للواحد الأحد، الذي أسعد عينيَّ برؤياكم، وقلبي بحبكم، ثم أشكر لأهل الفضل فضلهم، وعلى رأسهم فضيلة الدكتور إبراهيم الهويمل الذي دعاني لهذه المحاضرة، وكان سبباً في هذا الحضور، وأشكر أخي وزميلي فضيلة الشيخ الداعية سعد البريك على هذه الكلمات المباركات.
عنوان المحاضرة: (وقفات مع السبع المثاني) وقبل أن أعبر هذا البحر الخضم، والطريق الطويل أقف مع من أنزلت عليه السبع المثاني محيياً ومرحباً، وكلي لهفة له ولمنهجه، وأنتم كذلك.
محمدٌ عليه الصلاة والسلام، إمام الأمة أستاذ الصحوة شيخ المسيرة، أحييه من بنات القريحة، فأقول له بين يدي السبع المثاني:
محمدٌ في فؤاد الغار يرتجفُ في كفه الدهر والتاريخ والصحفُ
مزمل في رداء الوحي قد صعدت أنفاسُه في ربوع الكون تأتلفُ
من الصفا من سماء البيت جلله نور من الله لا صوف ولا خصفُ
والكفر يا ويحه غضبان من أسف لم يبقه الحقد في الدنيا ولا الأسفُ
ولا رأته سيوف كلها كبدٌ في صولة الحق والإيمان تنقصفُ
أتى الرسول إلينا والربى جثث مطمورة وعليها يضحك القَرَفُ
والمارد المجرم المعتوه محترمٌ جماجم الجيل في أسيافه نُطَفُ
نأكل أموال موتانا وسهرتنا ليل الضياع وليل أحمرٌ دنفُ(49/2)
فضل الفاتحة ووقفات مع آياتها
أيها الإخوة الفضلاء! الكلام في السبع المثاني إنما هو ملخصٌ للقرآن.
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:1 - 7]
في هذه السورة قضايا:
القضية الأولى: (الْحَمْدُ) لِمَن؟ ومن الذي يُحمد في السراء والضراء؟ حمدُ الله لذاته، وأفعاله، وأسمائه، وصفاته.
القضية الثانية: (الله) لفظ الجلالة، وأقوال أهل العلم فيه، وأثر هذا الاسم في الخليقة.
القضية الثالثة: (الْعَالَمِينَ) وما فيها من معاني.
القضية الرابعة: (الرَّحْمَنِ الرَّحِِيم): لماذا صفة الرحمن وصفة الرحمة؟ وأثرهما في الإنسانية.
القضية الخامسة: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وما سر العكوف على يوم الدين بالذات؟ وفيها قضايا:
سقوط ملوك الدنيا في العرض الأكبر -أخنع الأسماء- أثر هذا الاسم في مشاعر المسلم.
القضية السادسة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ملخص دعوته عليه الصلاة والسلام: العبادة تمنع الكبرياء، والاستعانة تمنع الرياء.
القضية السابعة: (اهْدِنَا): ومعالم اهدنا في حياة المسلم، الهداية العامة والهداية الخاصة.
القضية الثامنة: (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ): صفاته الخمس: قربه، اتساعه، استقامته، إيصاله للحبيب الإمام الذي يقود المسير على الصراط، وجود الإمام في أوله.
القضية التاسعة: (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ): مَن هم الذين أنعم الله عليهم؟ وما هي صفاتهم؟
القضية العاشرة: (الْمَغْضُوْبِ عَلَيْهِمْ): مَن هم المغضوب عليهم؟ ولماذا غضب الله عليهم؟
القضية الحادية عشرة: (الضَّالِّينَ): مَن هم الضالون؟ ولماذا ضلوا؟ وكيف نجتنب المغضوب عليهم، ونجتنب الضالين؟
تلكم هي أفكار هذا الدرس، وإن قصر الوقت، فعَلَّ الله أن يأتي بوقت آخر تُكْمَل فيه، أو يكْمِلُها أي داعية، أو يعاد لكتب أهل العلم، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
سامحن بالقليل من غير عزم ربما أقنع القليل وأرضى(49/3)
فضائل سورة الفاتحة وشرفها
افتتح الله عز وجل هذه السورة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] لماذا؟
قال أهل العلم: لأن الله عز وجل يُحمد في السراء والضراء، ولا يُحمد في السراء والضراء إلا الله، وكان عليه الصلاة والسلام يغتبط بسورة الفاتحة، ويفرح بالسبع المثاني، ويُسَر بها أيما سرور.
ففي صحيح البخاري وأبي داود والنسائي وأحمد، عن أبي سعيد بن المعلى قال: {كنتُ أصلي مع الرسول عليه الصلاة والسلام فدعاني، فلم أجبه، فلما سلم أجبته، قال: لِمَ لَمْ تجبني؟ قال: كنتُ في الصلاة يا رسول الله، قال: ألم يقل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]؟ ثم قال عليه الصلاة والسلام لأعلمنك أعظم سورة أنزلت عليَّ قبل أن تخرج من المسجد، فلما أراد أن يخرج من المسجد علمه السبع المثاني} التي معنا هذه الليلة.
وعند مسلم وغيره، أنه عليه الصلاة والسلام قال: {قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي قسمين} يقصد: الفاتحة، فتسمى: الصلاة، وتسمى: الفاتحة، وأم القرآن، والشافية، والكافية، والسبع المثاني، والقرآن العظيم، بل عند أحمد والطبراني والدارقطني، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {أم القرآن، والسبع المثاني، والقرآن العظيم هي الفاتحة} {قال الله: قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي قسمين، إذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمٍ} [الفاتحة:3] قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال: مَجَّدني عبدي، وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال: هذا بيني وبين عبدي، وإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيْمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوْبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّيْنَ} [الفاتحة:6 - 7] قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل}.
كان عليه الصلاة والسلام يسعد بالفاتحة أيما سعادة، ويعدها أشرف سورة في القرآن.
وفي الحقيقة أن تفاصيل القرآن، وقضاياه, وقضايا الأمة وهمومها وأفكارها في هذه السبع الآيات.
وعند أحمد في المسند بسند فيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وقد استشهد به الأئمة الكبار، عن عبد الله بن جابر الأنصاري قال: {أتيت الرسول عليه الصلاة والسلام وقد اهراق الماء، فقلت: السلام عليك يا رسول الله! فلم يجبني، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فلم يجبني، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فلم يجبني، فلما توضأ قال: عليكم السلام ورحمة الله، وعليكم السلام ورحمة الله، وعليكم السلام ورحمة الله، ثم قال:- أما رأيت آيات أنزلت عليَّ لم أر مثلهن، ثم تلا السبع المثاني}.
تلكم هي الفاتحة، وكان عليه الصلاة والسلام يرى الفاتحة كنزاً، وقد بشره بها جبريل، فعند مسلم وغيره، من حديث ابن عباس، بل أصله عند البخاري: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً ومعه جبريل، فسمع نقيضاً في السماء، قال جبريل: هذا باب فتح نزلت منه سورة الفاتحة، وأواخر البقرة، لم تقرأ منهما بحرف إلا أوتيتَه}.
والحقيقة: أنها شافية، وشفاؤها قسمان:
- شفاء معنوي.
- وشفاء حسي.
فالشفاء المعنوي: أنها تشفي من الأفكار الدخيلة، والزندقة، والإلحاد.
والشفاء الحسي: أنها تشفي كذلك من الأمراض الظاهرة، فعند البخاري ومسلم، من حديث أبي سعيد، في قصة الملدوغ الذي قرئ عليه الفاتحة مِن قِبَل أبي سعيد وغيره، وعند مسلم: أن أبا سعيد هو التالي، فلما رآه عليه الصلاة والسلام قال: {ماذا قرأت عليه؟ قال: قرأتُ عليه الفاتحة، فتبسَّم عليه الصلاة والسلام، وقال: وما يدريك أنها رُقية؟} أي: ما يدريك أن فيها شفاء، وأنها تزيل الأوهام والأمراض، والأدواء.
تلكم هي الفاتحة، فمع الفاتحة:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]:
في هذه الكلمة قضايا:(49/4)
وقفات مع لفظ: (الحمد)(49/5)
لماذا يحمد الله عز وجل؟
الله يمدح نفسه في السراء والضراء، ولا يُمْدَح أحدٌ في السراء والضراء إلا الله، وكان عليه الصلاة والسلام إذا أتاه أمر يسوءه قال: {الحمد لله على كل حال} لماذا؟ لأن الله عز وجل لا يُنْسب إليه الشر، فعند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {والشر ليس إليك}.
فقضاؤه سُبحَانَهُ وَتَعَالى وقدره حكمة بالغة، فهي بالنسبة للقضاء والقدر خير، فلذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: {الحمد لله على كل حال}.
ولما قَطع الله دابر المجرمين وأهلك الكافرين قال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].
واستفتح سُبحَانَهُ وَتَعَالى سوراً من القرآن بالحمد.(49/6)
مواطن ذكر الحمد
والحمد يُذكر في ثلاث مواطن:
-الأول: يُذكَر في السراء والضراء.
-الثاني: يُذكَر إذا نفي العيب والوَصْم عنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
-الثالث: يُذكَر عند الخلق والإنعام.
قال سبحانه في أول سورة الأنعام، وهي سورة بُدئت بهجوم أدبي على المشركين، ردَّت على المشركين في مكة، وعلى المانوية العجم في الشمال، يقول سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].
قال بعض الفضلاء: ردَّت هذه الآية على طائفتَين:
الأولى: طائفة المشركين: الذين جعلوا لله شركاء في حكم السماوات والأرض.
الثانية: طائفة المانوية التي قالت: إن للكون إلهين، إله الخير وهو النور، وإله الشر وهو الظلمة.
فأخبر سبحانه أنه هو الذي جعل الليل والنهار، وليست المانوية.
وكانت المانوية ترى أن من قاتل في الليل لا ينتصر، وأن من طلب مطلباً في الليل لا يكسبه، فيقول المتنبي -وهذا من الاستطراد- يمدح سيف الدولة، يقول:
فكم لظلام الليل عندك من يدٍ تحدث أن المانوية تكذبُ
يقول: أنت تنتصر في ظلام الليل، وهذا ردٌّ على المانوية التي تقول: إنه لا يمكن للإنسان أن ينتصر في جنح الظلام، وأنت تنتصر وتدوس خصمك في ليالي الليل وتقطع جماجمهم.
ولما ذكر الله بديع خلقه، استفتح بالحمد، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1].
وكان عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري - كان يقول: {والحمد لله تملأ الميزان}.
فأشرف الكلمات بعد (لا إله إلا الله): الحمد لله.
ضاع فرس لـ جعفر الصادق، فقال: [[لئن وجدتُ الفرس لأحمدنَّ الله بمحامد ما حُمِد بمثلها فلما وجد فرسه، ركبه، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]]].
ويقول الله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182] انظر كيف مَدَح وحَمِد نفسه في ختام هذه السورة لينفي الوصْم والعيب عنه تبارك وتعالى!!
وعند أحمد وأبي داود والترمذي وغيرهم: أن الأسود بن سريع وفد على الرسول عليه الصلاة والسلام وكان شاعراً، فقال: يا رسول الله! عندي محامد، حمدت بها الله، هل أسمعك منها؟ يعني: قصائد حمدت الله فيها، فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: {أمَا إن ربك يحب المدح} الله يحب المدح، فلذلك مدح نفسه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وقدَّس نفسه، ونزه نفسه، ووصف نفسه.(49/7)
أقسام الناس في حمد الله
تفرقت الأمةُ أمام {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] على ثلاثَ فِرَق:
الفرقة الأولى: كَفَرَت بالنِّعَم، ظاهراً وباطناً، لساناً وجَناناً وأركاناً، ولم تقبل حمد الله، ولم تثن بنِعَم الله على الله، واستخدمت نِعَم الله في معاصيه وفي محاربته، وهذه أخطر فرقة على وجه الأرض.
هذه الفرقة ذُكِرَت في الحديث القدسي الذي رواه أحمد في كتاب الزهد بسند جيد: أن الله يقول في الحديث القدسي: {عجباً لك يا بن آدم! خلقتُك وتعبد غيري! ورزقتُك وتشكر سواي! أتحبَّب إليك بالنعم وأنا غني عنك! وتتبغَّض إليَّ بالمعاصي وأنت فقير إليَّ! خيري إليك نازلٌ! وشرك إليَّ صاعد} وهذا هو حال العبد.
الفرقة الثانية: حمدت الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى باللسان، ولم تحمده بالأركان، أما الشكر فباللسان، تقول: الحمد لله، لكن المعاصي التي يفعلونها والمخالفات وانتهاك الحدود، ومحاربة الواحد الأحد تفضح ادعاءهم.
والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياءُ
والله عز وجل لم يقبل قولاً إلا بعمل، وهؤلاء ككثير من الأمة، يمدحون الله إذا أكلوا خبزاً وشربوا ماءً؛ ولكنهم يذهبون بهذا الخبز والماء في غير ما يرضيه، بل يتقوون به على معصيته.
الفرقة الثالثة: المحمديون، الذين أثنوا على الله عز وجل فحمدوه باللسان والأركان والجَنان.(49/8)
أركان الشكر عند المتكلمين
أركان الشكر عند المتكلمين ثلاثة:
الأول: حمد باللسان: أن تثني على الواحد الأحد بلسانك.
الثاني: حمد بالأركان: أن تسخر أعضاءك في عبادة الله الواحد الأحد.
الثالث: حمد بالجَنان: أن تعلم أنَّ مَن أنعم عليك وأعطاك وسلبك ومنعك ووهبك وأحياك وأماتك هو الله، وهذا استقرار لعظمة الألوهية في القلب.(49/9)
الحمد والشكر والفرق بينهما
قرأت في بعض الكتب أن داوُد عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك؟ قال: يا داوُد! أتعلم أن النعم مني؟ قال: نعم.
علمتُ يا رب! قال: فقد شكرتني، فجمع داوُدُ آلَ داوُدٍ! وقال: آتاكم الله النبوة والملك والعلم؛ فاشكروا الله، قالوا: وماذا نفعل؟ قال: تَجَزَّءُوا الليل ساعات وتَناوَبوا، كل ساعة يصلي فيها نفر، فقال الله: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13].
فمهما فعل العبد، فإنه لا يصل ولا يفي بهذه المقامات الثلاث.
فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] في السراء والضراء، وفي الأثر: {نعم عبدي المؤمن! أبتليه بجسده، ويقول: الحمد لله}.
وفي الإصابة لـ ابن حجر والاستيعاب لـ ابن عبد البر: أن عمران بن حصين أصيب بمرض، فمكث ثلاثين سنة، لا يرتفع عن فراشه، وكان يقول: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله رب العالمين، الحمد لله رب العالمين، فإذا قيل له: ماذا أصابك؟ يقول: الحمد لله رب العالمين.
تموت النفوس بأوصابها ولم يَدْرِ عُوَّادها ما بها
وما أنصفتْ مهجةٌ تشتكي أذاها إلى غير أحبابها
وهذا مثل ما قال المتنبي:
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرحٍ إذا أرضاكم ألَمُ
فإذا رضي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فهذا مما يُحْمد عليه في مواطن القضاء والقدر، وهي منزلة الصديقين عند الله عز وجل.
وهو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى محمود لذاته، فليس في صفاته صفات عيب، بل صفاته صفات كمال، فهو محمود لذاته جلَّ وعلا.
قال الزمخشري: الفرق بين الحمد والشكر: " أن الشكر على صنيع، والحمد بغير صنيع ".
فالحمد: أعم، سواءً قدم لك المحمود خيراً أو يداً أو عطية، فهو محمود، ولذلك تحمد الواحد الأحد.
وأما الشكر: فإنه لا يكون إلا على صنيع، فلا تقل للإنسان: شكراً، إلا إذا أعطاك شيئاً، أو قدم لك خدمة.
أما الله فهو محمود سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لصفاته، وأفعاله.
محمود في أفعاله؛ لأن أفعاله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كلها خيرة، ولذلك لا يُنسب الشر إليه، ولما قالت الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الجن:10]: بَنَتْه للمجهول، وأتَتْ بنائب الفاعل، فما أحسن الكلام!
يقول أحد المفسرين: عجيبٌ! حتى الجن يتذوقون اللغة! فلما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} [الجن:1] قال: عجيب! يعرفون أن القرآن عجيب! كيف تذوقوا اللغة؟! فتَعَجَّبُوا منه.
وقال إبراهيم الخليل عليه السلام في القرآن الكريم: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78] فلما بلغ إلى المرض نسب المرض إليه، وإلاَّ فالممرض حقيقةً هو الله، فقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء:80] وهذا تأدب مع الواحد الأحد.
والخليقة أقل الناس فيهم من يحمد الواحد الأحد، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] قال ابن الجوزي: أهل الإسلام أقل أهل الأرض، وأهل السنة أقل أهل الإسلام، وأقول هنا: والمخلصون أقل أهل السنة.
وقد كانوا إذا عُدُّوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليلِ
ويحكى أن عمر كان في السوق، فسمع رجلاً من الأعراب يقول: [[اللهم اجعلني من عبادك القليل، قال عمر: مَهْ؟! -أي: ما هذا الدعاء؟ - قال: يا أمير المؤمنين! يقول الله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] فسألتُه أن يجعلني من القليل، قال عمر: كل الناس أفقه منك يا عمر]] بل أنت الفقيه، وأنت العالِم، وأنت الشيخ العظيم.(49/10)
تفسير قوله: (الحمدلله رب العالمين)(49/11)
لفظ الجلالة وأقوال أهل العلم فيه
(الله) لفظ الجلالة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أبى كثير من النحاة أن يكون مشتقاً، وقالوا: إنه جامد، وهو عَلَم على الله.
وبعضهم قال إنه مشتق مِن: (أَلَهَ) إذا سكن، ولا تسكن القلوب إلا إلى الله، فقد جَرَّبَتِ القلوبُ أن تسكن إلى البشر فرفَضَتْ، جَرَّبَتْ أن تسكن إلى الكراسي فأبَتْ، جَرَّبَتْ أن تسكن إلى المناصب والسيارات والوظائف والوزارات والكيانات والأوسمة والمنظمات فرفَضَتْ وعصَفَتْ وأبَتْ وفَكَّتْ قِيادَها.
إلى أين تسكن؟ إلى الله {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:36] فكل هذه الكيانات كمثل بيت العنكبوت، وبقي الله وحده تسكن إليه القلوب، فقالوا: إذاً الله مِن (أَلَهَ).
وقال بعضهم: إنه مشتق مِن: (وَلهَ) أي: تحير، فتتحير وتندهش من الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وقدرته وعظمته، ولا تستطيع أن تصفه، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
سيبويه في كتابه العظيم الكتاب عندما وصل إلى كلمة (الله) قال: الله عَلَم لا يحتاج إلى تعريف.
يقول ابن يعيش في ترجمته لـ سيبويه: رؤي في المنام، فقيل: يا سِيْبَوِيْه! ما فعل الله بك؟ -ويطلق عليه المحدِّثون: سِيْبَوْيَة، والنحاة: سِيْبَوِيْه- قال: غفر لي، قيل: بماذا؟ قال: بكلامي في لفظ الجلالة.
ورأيتُ ابن القيم في مدارج السالكين نسب كلمات إلى شيخه ابن تيمية رحمهما الله يقول: إن الله دليلٌ على الكائنات، وليست الكائنات دليلٌ على الله.
والحقيقة: أن القول الظاهر عند أهل السنة والجماعة: أن الكائنات دليلٌ على الواحد الأحد سبحانه!
والنحلُ قُل للنحل: يا طير البوادي ما الذي بالشُّهد قد حلاَّكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّهُ فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله: كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
فالحمد لله الكريم لذاتهِ حمداً وليس لواحدٍ إلاكا
فكل الخليقة تدل على الواحد الأحد.
وهذا كتاب الكون، يقول إيليا أبو ماضي -قبحه الله- وقد أجاد في هذا البيت:
وكتابي الفضاء أقرأ فيه سوراً ما قرأتها في كتابِ
ونحن نأخذها ونقول: نعم.
لأن الأمي الذي كان في الغار قيل له: {اقْرَأْ} [العلق:1] فأين شيخه؟ وقيل: {اقْرَأْ} [العلق:1] فأين أستاذه؟ وقيل له {اقْرَأْ} [العلق:1] فأين سبورته وطباشيره؟ يقرأ أين؟ قيل له: اقرأ في الكون، في السماء المرتفعة، والنجوم الساطعة، والشمس اللامعة، واقرأ في الشجرة، وفي التل، والهضبة، فقرأ:
اقرأ فأنت أبو الأيتام رائده من كل جيلك كل الجيل يغترفُ
إن لم تصُغْ منك أقلامٌ معارفها فالظلم ديدنها والزور والتلفُ
فقرأ وأقرأ الأمة، فأصبحت قارئة عليه الصلاة والسلام.(49/12)
أثر كلمة (رب) على الخليقة
وأما {رَبِّ} [الفاتحة:2] فأثرها على الناس: أنه ربانا بالنعم، فهو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى المنعم على الكافر والمؤمن: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] وقال صلى الله عليه وسلم: {ولو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء} حديث صحيح.
ينعم عليهم ويكسوهم ويغدقهم وهم يحاربونه أغدق عليهم العقول، وهم ينحتون العقول لمحاربة وتكذيب الوحي، خلق لهم أفكاراً وشعراً وأدباً ونثراً، فجعلوا الشعر والأدب والنثر محاربة لـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].(49/13)
لفظة (العالمين) وما فيها من معان
أما (العالمين) فأنا أجتزئ الكلام، ولا أدخل في انشقاقات لغوية، مثل: (علامة).
ومن أحسن من تحدث فيها ما قاله الزمخشري، ولو أنه معتزلي غير محمود؛ لكنه داهية في اللغة، قال: والعالمون علامة على وجود الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
قال سفيان بن عيينة في تفسير قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38]: [[هذه الحيوانات تشابه الناس، والناس يشابهون الحيوانات، فما من إنسان إلا وفيه شبه من حيوان، إما حَسُنَ أو قَبُحَ، وكلهم يدلون على الله، فهم عالمون]].
وأستطرد فأقول: من الناس من يشابه الخيول، وهي أجود ما تشابَه.
قال ابن القيم: وهي أجود الحيوانات.
ويقول صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: {الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة}.
فمن الناس مثل الفرس: وهو الرجل الشهم الأصيل صاحب المبادئ.
ومن الناس مثل الضأن: وقد مدحها صلى الله عليه وسلم, وفيها السكينة، والوقار، والهدوء، وذكر صلى الله عليه وسلم أنها من أحسن ما يكون من الحيوانات.
ومن الناس مثل البقر: لا يفهمون أبداً، ولا يعون، {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179] قال الله لبقر بني إسرائيل، وهم بقر: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] وهذه تسمى: (عقدة البقرة) قال ابن عباس: [[لو أخذوا بقرة وذبحوها أغنت]] ولكن قالوا: كم رقمها؟ وكم سنها؟! وما لونها؟ وهاتفها؟ فبقوا في تحدٍّ للواحد الأحد حتى طلسم عليهم فاشتروها بملء جلدها ذهباً، فقال تعالى على لسانهم: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70].
روى البغوي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {والذي نفسي بيده! لو لم يقولوا: إن شاء الله ما وجدوها} ولذلك تعنتوا على الوحي.
ومن الناس مثل الطاووس: وهذا أمام {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ظاهره جميل وليس عنده في الداخل شيء، بل كله رياء وسمعة وتبجح؛ فهذا لا يقدم ولا يؤخر.
لا بأس بالقوم من طول ومن قصرٍ جسم البغال وأحلام العصافيرِ
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى في هذا الطراز: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4].
شعراء، أدباء، ينحتون الفكر، وتصفق لهم الجماهير، ولكن -والله- أجهل عامي أقرب إلى الله منهم! وإن العامي يقدم رأسه لترتفع {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وإن هذا الأديب والشاعر والكاتب، يهتز وينهار أمام كأس من الخمر، أو ليلة سكر، أو موسيقى حالمة في ظلام الليل، فانظر إلى هؤلاء من جواهر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، المجدد والإمام والأصيل أنه يقول: عامي موحد يغلب ألف مُخَلِّط.
وهؤلاء المُخَلِّطون هم النخبة المثقفة صراحةً، ولا أستطرد فسوف يأتون في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؛ لأنهم ينهارون عند {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].(49/14)
تفسير قوله: (الرَّحْمَنِ الرَّحِِيمِ)
ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِِيمِ} [الفاتحة:3].
كيف اختار الاسمين لصفتين؟ ولم يقل: الجبار، ولا القهار؟ وذلك ليطمئن القلب في أول استفتاح القرآن، ولذلك ترى القرآن بدأ بسورة الفاتحة، ففيها الجمال، والتهدئة، والسكينة؛ لكن ادخل قليلاً إلى سورة البقرة تنظر إلى النسف والإبادة، كقوله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].
قال صاحب الظلال: " لا بد من هذا النسف والإبادة في أول سورة البقرة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يعيش معالم لا بد أن يؤسسها في الأرض، وقبل هذه المعالم هذه العثرات من بني إسرائيل.
"(49/15)
معنى (الرحمن الرحيم)
(الرَّحْمَنِ) أي: الممتلئ رحمة، يقال للرجل الممتلئ غضباً: غضباناً، وللمتلئ ندماً: ندماناً، وللممتلئ خزياً: خزياناً، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الرَّحْمَنِ} [الفاتحة:3].
قال عيسى عليه السلام، كما في الإحياء أي: "رحمان الدنيا ورحيم الآخرة.
"
وقالوا: الرحمن: للكفار وللمؤمنين، فرحمته واسعة رحم الكافر: أسقاه، ومهَّله، ولم يأخذه ورحم الناس: فلم يُقِمْ عليهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى طلباً حتى أقام عليهم الحجة، وأعذرهم بالرسل، كما قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33].
ولذلك يقول أهل العلم: "لم يخلق الله خلقاً إلا لحكمة ورحمة، فلا يُعْتَرَض على خلقه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
"(49/16)
أثر (الرحمن الرحيم) على الإنسانية
الفلاسفة لهم مقالة مفادها: لماذا خلق الله الذباب؟ وهذا ابن ابن الراوندي ألف كتاب الدامغ على القرآن -دمغ الله رأسه في نار جهنم- يسميه الذهبي: الكلب المعفَّر، والناس هذا يسمونه: فيلسوف الإسلام، والإسلام منه بريئ، ثوبه مشقوق، وهو صاحب الأبيات التي يقول فيها:
أيا رب تخلق أغصان رندٍ وألحاظ حورٍ وكثبان رملْ
وتنهى عبادك أن يعشقوا أيا حاكم العدل ذا حكم عَدْلْ؟
أستغفر الله! هذا الكلب المعفَّر وقف على نهر دجلة وعنده قرص شعير يريد أن يأكله، فمر خادم من خدم الخليفة، وعنده خيل وجمال وبقر، فالتفت إلى السماء وكأنه يخاطب الله، وقال: أنا الفيلسوف -فيلسوف الإسلام -تعطيني كسرة خبز من شعير، وتعطي هذا العبد الخيول!! ثم رمى بالكسرة في النهر.
هذا الكلب يقول: لماذا خلق الله الذباب؟
وهذا السؤال عرضه أبو جعفر المنصور على ابن السماك، واعظ الدنيا وأبو جعفر - كما قال الإمام أحمد - يذبِّح الملوك كتذبيح الغنم، فقد ذبح أعمامه، وذبح أبا مسلم الخرساني، فلا يقاومه أحد إلا ذبحه بيده.
فيذكرون أن أبا جعفر كان جالساً في اجتماع، جمع فيه العلماء والوعاظ والوزراء والأمراء، وكان أبو جعفر خطيب الدنيا، فلما جلس دخل ذباب في المجلس وأزعجه فخَنْخَنَ عليه في ديوان القصر، فضاقت به الدنيا؛ لكن أراد الله أن يهين أبا جعفر؛ فلما هبط على أنفه، قال: يـ ابن السماك! لماذا خلق الله الذباب؟! قال ابن السماك ليذل به أنوف الطغاة.
وهذا من أحسن ما يقال، وما أملحه! ولا شُلَّ لسانُه ولا شُلَّتْ يمينُه.
دعها سماوية تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوسِ
فالمقصود: أن لله في أفعاله حكم بالغة، لا يعترض عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك قال: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] أي: توقيعه الأخير، وحكمه النهائي، ولا أحد يُوَقِّع بعده، قال سبحانه: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقَاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115] ويقول ابن كثير في تفسيره، وهذا من أحسن ما يقال! قال: (صِِدْقَاً): في الأخبار، و (عَدْلاً): في الأحكام.
أما (الرحيم) فرحمته بالمؤمنين خاصة {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب:43] وهذا بخلاف (الرَّحْمَنِ) التي تشمل الناس جميعاً.(49/17)
تفسير قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)
في هذه الآية ثلاث مسائل:(49/18)
في يوم الدين لا مالك إلا الله
يقول أبو جهل: " يا محمد! تهددنا بالزبانية، لآتين بقريش معي" أي: يوم القيامة يخرج من القبر ومعه قريش، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) [مريم:93 - 95] اسمع الرد الأدبي! لأنه ليس هناك حرس، ولا موكب، ولا ضباط، ولا رواد، ولا جنود، ولا استخبارات كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} [مريم:93 - 94] فلا يضيع أحد بين الجماهير.
يقول بعض المُوَسْوِسِين: يوم القيامة تزدحم الخلائق، إما أن نفر من هنا أو من هنا، أو نتأخر! ولم يعلم أن الله لا يغيب عنه أحد {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) [مريم:94 - 95] أي: وحيداً يحاسبه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وفي الصحيح: {إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إذا أخذ السماوات والأرض بيديه قال: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ فلا يجيبه ملك مقرب ولا نبي مرسل، لكن يجيب نفسه بنفسه، فيقول: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، ثم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أين ملوك الدنيا؟ أين ملوك الدنيا؟ أين ملوك الدنيا؟}.
وفي حديث أسماء بنت يزيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إذا جمع الله الأولين والآخرين نادى: يأيها الناس! إني وضعتُ نَسَباً ووضعتم أنساباً، فرفعتم أنسابكم ووضعتم نسبي، فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم، قلتُ لكم: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فقلتم: أكرمنا فلان بن فلان} انتهى الحكم لله الواحد القهار، فهو الذي يحكم سبحانه، فالصراط صراطه، والميزان ميزانه، والجنة جنته، والنار ناره، ولا معقب لحكمه، قال جل شأنه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].(49/19)
أخنع الأسماء: ملك الملوك
إن الملوك وهم الذين يجعلون لأنفسهم رموزاً وألقاباً يقدسهم البشر بها.
يا صاحب المبدأ الأعلى وهل حَمَلَتْ روح الرسالات إلا روح مختارِ
أعلى المبادئ ما صاغت لصاحبها من الهدى والعلا تمثال تذكارِ
وهذا كما فعله عليه الصلاة والسلام، أبى الشموع واللموع والسطوع في الدنيا، وأبى أن يقدس ويرفع فوق منزلته التي أنزله الله إياها.
أتاه وفد عامر بن صعصعة - كما صح ذلك - فقالوا: أنت أفضلنا وسيدنا وأفضلنا فضلاً وخيرنا، قال: {يا أيها الناس! قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان، إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله} صلى الله عليه وسلم، كلما زاد تواضعاًَ تعلقت به القلوب أكثر، فجعله الله أشرف الناس.
ملك الملوك: أخنع الأسماء عند الله يوم القيامة -كما في الصحيح- قال سفيان بن عيينة: كمثل شاهٍ شاه، وقاضي القضاة، وسلطان السلاطين، ورب الأرباب لا مالك إلا الله، وأقضى القضاة وقاضي القضاة الله، والحاكم على كل حاكم الله، فأوسمة الأرض تنهار، لأنها خلقت من الطين، أما المواهب والأعطيات من الله فسوف تبقى لأهلها.(49/20)
أثر اسم (يوم الدين) في مشاعر المسلم
إذا علم المسلم أن هناك يوم الدين رَضِيَ وسَلًّم، فالجراحات، والآهات، والأحزان، والدموع، والمظالم، والمال الذي اغتُصِب، والجلود التي ضُرِبت بسياط الظلم، والكرامة التي دِيْسَت، والإنسانية التي احتُقِرَتْ، وحقوق الإنسان، وكرامة المؤمن، وحقه في الحوار، وحقه في الكلمة يمكن ألا يحصل له شيء من هذا في هذه الدنيا، متى يحصل له؟ يوم العرض الأكبر.
دمع الليل، وسهام السَّحَر، ودعاء المظلوم، وزفرات المحسور، كلها تُنْصَف يوم العرض الأكبر.
كتب أبو العتاهية للمهدي وهو في السجن، عندما سجنه المهدي، قال:
أما والله إن الظلم شينٌ وما زال المشين هو الظلومُ
إلى ديان يوم الحشر نمضي وعند الله تجتمع الخصومُ
فالمتصف بـ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) هو الله، فإنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي ينصف أولياءه وأحبابه.(49/21)
النظرية الوجودية
يقول الناس: إن الذي اكتسبها هو الأستاذ الألماني المستشرق: كانت.
والصحيح: أن الذي اكتسبها هو المغيرة بن شعبة، وهذا مذكور في السير، وفي دلائل النبوة.
يقول كانت: إن هذا الكون مسرحية، ودوره الأول: هو الدنيا، والدور الثاني: لم يأتِ؛ لأنه لا بد من دور ثانٍ.
فإنا نرى في المسلسل الأول للمسرحية أن هناك ظالم ومظلوم، ثم يموت الناس، فلماذا لا يُنْصف المظلوم؟
قال: لا بد من دور ثانٍ يُنْصف فيه المظلوم.
يقول المغيرة بن شعبة: لما رأيت الناس يموتون وينتهون، علمتُ أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يبعثهم في يوم آخر لينصفهم، فكان ذلك مما دعاني إلى الدين، وإلى الدخول في الإسلام، لأن هذا (مالك يوم الدين).
فيا أيها المظلوم! ويا أيها المتحسر! ويا أيها الباكي! ويا أيها المندوب! ويا أيها المجروح! انتظر (مالك يوم الدين) قال عمر: [[والله لولا أن هناك يوماً آخر لكان غير ما ترون]] والمعنى: لكان بطش القوي بالضعيف، وأكل الظالم المظلوم، واستُبِيْحَت أعراض ودماء الناس؛ ولكن موعدنا ذاك اليوم {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
آخر مقالة قالها سعيد بن جبير للحجاج لما سل السيف عليه، بعد المناظرة الحارة الساخنة بينهما: [[يا حجاج، لا إله إلا الله محمد رسول الله، خذها يا حجاج حتى تلقاني بها غداً]] متى غداً؟ يوم العرض الأكبر.(49/22)
تفسير قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
هذه الكلمة العظيمة الهائلة.(49/23)
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ملخص دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام
قال الحسن البصري، كما عند ابن ماجة: [[أنزل الله مائة وأربعة عشر كتاباً، جمعها في التوراة، والإنجيل، والزبور، ثم جمعها في القرآن، ثم جمعها في المفصل، ثم جمعها في الفاتحة، ثم جمعها في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]]].
فـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] هي سر دعوته عليه الصلاة والسلام، وملخص رسالته.
من هو الملك الذي كانت رايتُه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؟
هذا هو محمود بن سبكتكين، المسلم الساجد لله، فاتح بلاد السند، وما وراء سيحون وجيحون والهند كانت رايته التي يرفعها، والعَلَم الذي يمشي به في الجيش، كانت رايته مكتوب عليها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
ولما قال له ملك الهند: يا محمود بن سبكتكين! خذ الأصنام من ذهب فاستشار مولاه وخادمه إياز، قال: ما رأيك نأخذ الأصنام؟! فقال: كسرها، وأحرقها، أتريد أن تدعى يوم القيامة: يا مشتري الأصنام؟ كسرها ليدعوك الله: يا مكسر الأصنام، فقام عليها محمود بالفأس هو وجيشه، فحياه محمد إقبال بالقصيدة المشهورة، فمن أبياته قال:
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا
محمود مثل إياس كل منهما لك بالعبادة تائب مستغفرا
يقول: المولى والسيد عندنا سيان بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] كلاهما قاتلوا من أجلك، ورفعوا دعوتك، ودينك، واستماتوا لترتفع رايتك.
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فيها مسائل:(49/24)
مسائل وأحكام من قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
انظر! كيف قدم الضمير (إِيَّاكَ) لتنحصر العبادة لله وحده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولم يقل: نعبد إياك.
ومن مسائل هذه الآية: أنها تمنع الكبرياء والرياء، قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: العبادة تمنع الكبرياء، والاستعانة تمنع الرياء.
وهذا صحيح، فإن من سجد لله في الصلوات، ووضع جبينه على الأرض، يمنعه الله من الكبر في العموم الغالب، ومن استعان بالله منعه الله سبحانه وتعالى من الرياء.(49/25)
حال الناس أمام (إياك نعبد وإياك نستعين)
إن الناس، أو الخليقة، أو الأمم، أمام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أربع فِرَق:
الفرقة الأولى: مَن عبدوا الله عز وجل، واستعانوا به، وهم: المحمديون الربانيون الموحدون، أجدادكم أنتم، وأهل الطلائع أهل الصحوة، والمسيرة المباركة، الذين عبدوا الله واستعانوا به، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
الفرقة الثانية: مَن عبدوا الله عز وجل واستعانوا بغيره، وهولاء: مثل عصاة الأمة، وظلمة الموحدين، وهؤلاء {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} [التوبة:102] وهذا من ذنوبهم وخطاياهم.
الفرقة الثالثة: مَن عبدوا غير الله واستعانوا بالله، وهؤلاء: مثل المشركين، الذين يعبدون غير الله، {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [العنكبوت:65] يستعينون -فقط- بالله، ويعبدون غيره.
الفرقة الرابعة: مَن لا يعبدون الله، ولا يستعينون به، وهم: الملاحدة والزنادقة {عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة:161].
فانظر لنفسك أين تضعها من (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ولابد أن تضع نفسك عند أحد هذه المراتب.(49/26)
شرف العبودية
أشرف شيء عبودية الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله كما في المدارج: " من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية.
"
وقال أهل العلم: " أقرب الطرق إلى الله العبادة.
"
وكتب عمر لـ سعد بن أبي وقاص: [[يا سعد! لا يغرنك قول الناس: إنك خال الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فإن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، إن أقربهم عند الله أتقاهم]] {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد} {ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه} {أعِنِّي على نفسك بكثرة السجود} {إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة}.
القرب القرب العبادة العبادة، لا قرب آخر لا المال، ولا الولد، ولا المنصب، لا قرب من الواحد الأحد إلا بالعبادة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5].
أما شرف العبودية: فاسمع إلى الله وحين ذكر عبده في أشرف المنازل.
فيقول في الإنزال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1].
ويقول في الدعوة: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19].
ويقول في الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1].
مرت عجوز كبيرة في السن، وتعريف العجوز: هي من احدودب ظهرها، ويبس بطنها، وجفَّ شعرها، واحضَوْضَلَت عيناها.
تريد عجوزٌ أن تعود فتيةً وقد يبس الجنبان واحدودب الظهرُ
تسير إلى العطار تبغي شبابها وهل يصلح العطار ما أفسد الدهرُ؟
مرت بالرسول عليه الصلاة والسلام فقالت: إنه يأكل كما يأكل العبد، ويجلس كما يجلس العبد.
فقال: {وهل هناك عبد أعبد مني} عليه الصلاة والسلام، نعمْ.
أنت العبد صراحةً، وأنت الذي أخرج العبيد من ظلم العبيد، إلى عبادة رب العبيد، كنا عبيداً قبل أن نبعث، وكانت الأمة في عداد الحيوانات، ولا أقول بتلك الأمة التي أكرمها الله؛ لأنها قبل الرسالة يوم كانت مشركة كانت في عداد البهائم، حتى جاء سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بهذا الرسول عليه الصلاة والسلام، فرفع رءوسها، فأصبحت عابدة لله، فأعتقها، فلم تتعبد إلا له، إلا من شاء أن يكون عبداً لآخر.
ولذلك كان عمر بن الخطاب يرفض عبودية العبد للعبد، فعبودية العبد للعبد حرام بالإجماع.
ففي مصر: كان محمد بن عمرو بن العاص ابن أمير مصر يتسابق ذات يوم مع قبطي مصري، فسبق القبطي فرس الأمير، ويجوز عند أهل العلم أن يسبق فرس بعض الناس فرس الأمير، فسبق هذا الفرس، فنزل محمد ابن الأمير فلطم القبطي كفاً، فقال له القبطي: [[والله لأرفعنك إلى أمير المؤمنين، قال: اذهب، فذهب إلى عمر، وقال: ضربني كفاً وأريد أن تنصفني، قال عمر: مَن ضربك؟ قال: محمد بن عمرو، فأخبره القصة، فاستدعى عمرو بن العاص وابنه محمد، فلما قدما كان الصحابة جلوساً، قال عمر: والله لا يحول بيني وبينهما اليوم أحد، ثم أخذ الدرة، فأخذ محمداً فبطحه، ثم جاء على عمرو بن العاص فوضعه عليه، ثم ضربهما بالدرة، وقال: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!]] من أين هذا؟ لماذا تُبْطَل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] لماذا تلغى (لا إله إلا الله)؟! لماذا تلغى قداسة الإنسان، وقيمته، ومعنويته، وكلمته، ودمه، ودموعه؟!
هذه مصداقية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] في حياة عمر.
كهنوت التصوف ينهار أمام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
الدروشة، واتخاذ المشايخ آلهة، ورسل من دون محمد صلى الله عليه وسلم، هذه من مذهب غلاة التصوف، وهي أن يُنَصَّب شيخ، فيفرِض ويسُن ويُحَلِّل ويحرم من كيفه، وهذا هو الجهل الذي وقع بالأمة، وسوف يأتي ذلك في تفسير (الضَّالِّينَ) وتأتي النخبة المثقفة العلمانية في (الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ).
لكن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] تلغي على هؤلاء أغراضهم، ولذلك لا يحب الصوفية قراءة القرآن، ولا يحرصون على علم الحديث، لكن عندهم رقص، وليلة سهر، وتصفيق، وليلة مولد، يقف منشدهم فيقول -واسمع النشيد الذي يعارض {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]- يقول:
يا رسول الله! يا من ذكرهُ في نهار الحشر رمزاً ومُقاما
فأقل لي عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاما
ويقول أحد الصوفية: نحن نأخذ علمنا من الرزاق، لا من عبد الرزاق؛ لأن أهل السنة يقولون: حدثنا عبد الرزاق.
قال ابن القيم: والله الذي لا إله إلا هو لولا عبد الرزاق وأمثال عبد الرزاق ما عرفتم الخلاق!
وقالوا:: [علمكم علم الورق، وعلمنا علم الخرق] علم الضلالة والمرقَّعات والخفافيش.
ولا علم إلا علم محمد صلى الله عليه وسلم.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] تلغي عصمة الأئمة عند الضُّلاَّل -الأئمة الاثني عشر- فجعلوهم كاثني عشر رسولاً، بل جعلوهم في بعض المقالات أعظم من رسل الله عز وجل.
وليس هناك رسول خاتم إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو خاتم الرسل، وهو المعصوم.
فـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ترد عليهم.
و {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] يقف أمامها الشهوانيون أهل الكأس، والمرأة الخليعة، والمجلة، والسهرة، والضياع، والأماني المتساقطة، والشبهات، واللهو، يقفون أمامها حيارى، ولذلك لا يريدون {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؛ لأنها تلغي ما يمكن أن يقيموه من كيان، أويقيموه لأنفسهم من شهرة.(49/27)
وقفات حول كلمة (اهدنا)
في كلمة {اهْدِنَا} [الفاتحة:6] ست مسائل:
المسألة الأولى: الهداية العامة والخاصة.
المسألة الثانية: هداية الدلالة والتوفيق.
المسألة الثالثة: طُرُق الهداية.
المسألة الرابعة: كيف يطلب عليه الصلاة والسلام الهداية؟! وهو المهتدي، بل وهو الهادي صلى الله عليه وسلم.
المسألة الخامسة: الهداية المجملة والمفصلة.
المسألة السادسة: حاجة الأمة والفرد إلى الهداية.(49/28)
الفرق بين الهداية العامة والهداية الخاصة
أما الهداية العامة: فهو أن الله عز وجل هدى الناس جميعاً -الكافر والمؤمن- إلى هداية عامة، وهذه الهداية مَهْدِي بها حتى الحيوان.
فالهداية العامة أمر مشترك.
فالتبيع -ولد البقرة- إذا ولدته أمه رضع من ثديها، والطفل إذا ولدته أمه رضع من ثديها، والنحلة تذهب فتأخذ رحيق الزهر من على بُعد عشرات الأميال ومئات الكيلو مترات وتأتي إلى الخلية، وهدى النملة أن تأخذ الحب فتدخره في الصيف للشتاء، فمن هو الهادي؟ إنه الله، ويُسَمى هذا: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] وهذا موسى عليه السلام وذلك حين سأله فرعون، وقال له: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49]؟
قال الحسن البصري: [[كان فرعون طياشاً]] لأن المجرم هو الذي بدأ بالسؤال، وإلاَّ فالواجب أن يترك الضيف ليتكلم؛ لأن من عادة الناس أن القادم يتكلم أولاً، أما أنك تلقي عليه الأسئلة، أو محاضرة، فهذا من السفاهة، والسخف {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49]؟
موسى ألهمه الله وعنده ترجمان؛ لكن أعطاه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فصاحةًَ معنوية، فلو قال: ربي العالِم، لقال فرعون: وأنا عالِم؛ لأن العلم قدر مشترك، ولو قال: الحكيم، لقال: وأنا حكيم، ولو قال: الحليم، لقال: أنا حليم؛ ولكن قال: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] قال الزمخشري: لله دره من جواب! كيف لكمه على وجهه!! ولذلك سكت وانتقل إلى سؤال آخر: من الذي أعطى كل شي خلقه ثم هدى؟ هل يستطيع فرعون أن يقول: أنا أعطيت كل شيء خلقه ثم هديت، لا.
فهما صفتان اثنتان تختصان بالواحد الأحد لا توجد في غيره، فـ {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] هذه في الله الواحد الأحد.
انظر لتلك الشجرةْ ذات الغصون النضرة
من الذي قومها حتى استقامت شجرة
ذاك هو الله الذي قدرتُه مقتدرة
ذو قدرة باهرةٍ وحكمة منتشرة
تقرأ {اهْدِنَا} [الفاتحة:6] في النحل حكمته، وفي النمل، والبستان، والحديقة والصحراء، والسماء والأرض.
وأما الهداية الخاصة: فهي للمؤمنين المهتدين إلى الخير خاصة.(49/29)
الفرق بين هداية الدلالة وهداية التوفيق
أما هداية الدلالة: فهي للرسول عليه الصلاة والسلام.
وميزتنا أن لنا على الصراط هادٍ يهدينا، والصراط صراطان: صراط هنا في الدنيا، وصراط هناك في الآخرة.
فالصراط هنا: طوله من هنا إلى الجنة أو إلى النار، وفيه كلاليب، وكلاليبه: الشهوات، والشبهات.
والصراط هناك: كما في الأثر: {طوله شهر، أحد من السيف، وأدق من الشعرة، وأحمى من الجمرة، على متن جهنم، فيه كلاليب} وكلاليبه: مثل شوك السعدان، فمن تخطفته كلاليب الشهوات والشبهات في صراط الدنيا تخطفته الكلاليب في صراط الآخرة.
والناس على الصراط الأخروي مثلهم على الصراط الدنيوي، والله المستعان.
فإن مِن الناس مَن تختطفه الشهوات فتخطفه هناك، ومنهم من تخطفه الشبهات فتخطفه هناك، ومنهم من يسلم قليلاً فيصبح ساعياً، ومنهم من تخدشه فيُجْرَح ويَنْجُو، ومنهم من يُكَرْدَس في جهنم.
والرسول صلى الله عليه وسلم وصف الناس هناك كوصفهم هنا، فقال: {منهم من يمر على الصراط كلمح البصر، ومنهم كالبرق، ومنهم من يسعى، ومنهم من يمشي، ومنهم من يحبو، ومنهم المخدوش الناجي، ومنهم المكردس على وجهه في النار}.
فالناس على الصراط هناك مثل ما هم على الصراط هنا.
قيل في الرسول عليه الصلاة والسلام:
في كفك الشهم من حبل الهدى طرفٌ على الصراط وفي أرواحنا طرفُ
ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله في وصف الصراط المستقيم: أنه يحمل خمس صفات:
الأولى: قربه.
الثانية: اتساعه.
الثالثة: استقامته.
الرابعة: إيصاله للمقصود.
الخامسة: وجود الإمام في أوله.
وقصدي: أن الذي يدل على هذا الصراط محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول أحد الشعراء، يمدح الرسول عليه الصلاة والسلام:
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
أدلجنا: أي: مشينا في الليل.
فإما حياة نَظَّم الوحيُ سيرَها وإلا فموت لا يسر الأعاديا
رضينا بك اللهم رباً وخالقاً وبالمصطفى المختار شهماً وهاديا
فالإمام -إمام الصراط- هو محمد صلى الله عليه وسلم {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
والله على صراط مستقيم، قال أهل العلم: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56] فهو سبحانه على صراط مستقيم، ورسوله على صراط مستقيم.
وفُسِّرَ (الصِرَاطٍ المُسْتَقِيمٍ): بالقرآن, وفُسِّرَ أيضاً: بالإسلام، وفُسِّرَ كذلك: بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قال أبو العالية: [[الصراط المستقيم: محمد وصاحباه]].
قال الحسن البصري: [[صَدَقَ ونَصَحَ]].
والصحيح أن الصراط المستقيم: هو الإسلام، والقرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهو النور كل النور.
وأما هداية التوفيق: فلا يملكها إلا الواحد الأحد.
يربى الشاب في بيت شيخ علم من علماء الدنيا، فينشأ الشاب مارداً فَتَّاكاً لصاً مجرماً مروِّج مخدرات.
وينشأ الشاب في بيت المجرم المروج للمخدرات فإذا هو ولي من أولياء الله، كأبناء الصحابة.
فمن الذي أهدى وأغوى؟ إنه الواحد الأحد {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].
فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مؤمن
فموسى (السامري) رباه جبريل فكفر، وموسى رباه فرعون فأصبح رسولاً.
فالهادي هو الواحد الأحد.(49/30)
طرق الهداية
طرق الهداية لا تكون إلا بالشريعة والرسل عليهم الصلاة والسلام.
يقول أبو المعالي الجويني: طرق الهداية: النظر والاستدلال.
وقد ذكر هذا ابن حجر صاحب فتح الباري، فرد عليه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله في الحاشية، فقال: لا.
لا النظر ولا الاستدلال، بل قول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ومتابعة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: {أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول لله}.
نَظَرُ في ماذا؟ واستدلالٌ في ماذا؟ يقصد: أن تفكر، وأحياناً قد يستغني بعض المتكلمين والمناطقة بالتفكير بالعقل، أي: أن تفكر بعقلك، فما يُقَبِّحْه العقل قَبِّحْه، وما يُحَسِّنْه حَسِّنْه.
يقول الجويني في تفسير قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] يقول: ما حرَّمه العقل وقبَّحه حرَّمه، وما حسَّنه العقل واستملحه حلَّله.
وهذا خطأ، بل عليه الصلاة والسلام مُشرِّع من عند الله، لا ينطق عن الهوى.(49/31)
كيف يطلب عليه الصلاة والسلام الهداية؟!
كان النبي صلى الله عليه وسلم دائماً يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيْمَ}.
والصحيح عند العلماء: أن هناك درجة في الجنة مرتفعة، هي مجلس واحد لرجل واحد، وهو الرسول عليه الصلاة والسلام، ولذلك ندعو له بعد كل صلاة: {اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته} وزاد البيهقي زيادة حسنة: {إنك لا تخلف الميعاد}.
فهذه الدرجة العالية، هي درجة الهداية التي يريدها النبي صلى الله عليه وسلم وقد وصل إليها.
وقال بعض الفضلاء: بل طرق الهداية بعدد الأنفاس، فهو يطلب عليه الصلاة والسلام أن يهديه الله كل الطرق.
وقال بعضهم: يحتاج المسلم والمؤمن في كل نفسٍ من أنفاسه إلى هداية خاصة من الله، لهذا فهو يطلبها عليه الصلاة والسلام.
وأنتَ كل يوم تطلب الهداية، لأنك وأنتَ إما أن تتقدم أو تتأخر، ولا تستقر على حالة {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: العبرة بكمال النهايات، لا بنقص البدايات.
والمعنى: أن المؤمن قد يبدو في إيمانه ناقصاً، فيزداد من الهدى، والنور، والعمل الصالح، ومجالسة الصالحين، وطلب الفقه في الدين، وحب الأخيار، والاستفادة من العلماء، فيزداد نوراً على نور، والإيمان يزيد وينقص بحسب مقتضياته وأسبابه.(49/32)
الفرق بين الهداية المجملة والهداية المفصَّلة
بعض الناس يعرف الدين مجملاً، وتصوُّراً عاماً للإسلام لكنه لا يعرف تفاصيل الإسلام.
وأنا أضرب لذلك مثلاً:
رجلان رأى أحدهما قصراً من خارجه، فرأى أبوابه، وطوله، وعرضه، ولونه، فتصوره تصوراً معيناً، فنقول عن هذا: إنه يعرف القصر معرفة مجملة، ورأى الآخر نفس القصر من داخله، ففتحه، ورأى أبوابه، ودخل مساريبه، وأسيابه، ورأى مجالسه وغرفه، ونوافذه، وطوله، وعرضه، فنقول عن هذا: إنه يعرف القصر معرفة مفصَّلة.
فالناس كمثل هذين الرجلين.
فأما الهداية المجملة: فمثل رجلٌ عرف أركان الإسلام، وأركان الإيمان إجمالاً ولكن لا يعرف دقائق الفقه، ولا فروع الشريعة، ولا الأدلة، ولا يعرف كيف يعبد الله عز وجل في كل مسألة.
وأما الهداية المفصَّلة: فمثل رجلٌ آخر تفقه في الدين، وفي الصحيحين: {من يرد الله به خيراً يفقه في الدين}.
فهذا مثل ذاك، و {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].(49/33)
حاجة الأمة والفرد إلى الهداية
الأمة كلها تحتاج إلى هداية الله أحوج من حاجتها إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب إذا قُطعا عن العبد فقُصاراهُ أن يموت، والهداية إذا قُطعت عن العبد فقُصاراه أن يدخل النار ويخلد فيها.
كل قلب لا تشرق عليه شمس الرسالة فهو قلب ملعون، وكل عين لا ترى بدر محمد صلى الله عليه وسلم فهي عين مغضوب عليها، أو كما قيل.(49/34)
وقفات مع قوله: (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)
الصراط المستقيم له خمس صفات:
الصفة الأولى: القُرْب.
الصفة الثانية: الاتساع.
الصفة الثالثة: الاستقامة.
الصفة الرابعة: إيصال المقصود.
الصفة الخامسة: وجود الإمام في أوله.(49/35)
من صفات الصراط المستقيم: القُرب
ذالصفة الأولى: القُرْب:
وصراحةً: هناك بعض الملاحظة على طنطاوي جوهري في تفسير الجواهر، حيث حوَّله إلى كتاب هندسة، وما بقي عليه إلا المثلث، والفرجار، والمسطرة، ويقول: إنه أنشأ أصول الهندسة من القرآن، والقرآن -كما يقول بعض الفضلاء- ما نزل للهندسة ولا للطب، إنما نزل لهداية الناس، ولا شك أن فيه لُمَعاً من هذه العلوم؛ لكن أن يخصص للهندسة فلا.
فمثلاً: يقول في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} [المرسلات:30] يقول: فيه دليل على أن زوايا المثلث منفرجة أو حادة.
ما شاء الله!
ويقول في {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]: أن فيه دليل على أن أقرب موصِّل بين نقطتين الخط المستقيم.
وهل هو الخط المُعْوَج؟!
والمقصود: أن ابن القيم في مدارج السالكين عندما قال: أقرب خط بين نقطتين الخط المستقيم وهو صحيح؛ لكن ابن القيم لا يريد أن يفسر الصراط المستقيم بأنه نزل ليبين لنا في علم الهندسة هذا الأصل؛ لكن يبين لنا أن أقرب الخطوط الموصلة هو المستقيم.
فالله ذكر خطَّه بأنه مستقيم، وذكر خطوط أعدائه بأنها مُعْوَجَّة، أي: لا توصَّل إلا بعد عناء، وإلى أين توصله؟! توصل العبد المنحرف -والعياذ بالله- إلى نار جهنم، أما هذا الخط المستقيم فيوصل مباشرة ودون عناء إلى الجنة.
من الصراط هنا إلى الصراط هناك ثم إلى الجنة.(49/36)
من صفات الصراط المستقيم: الاتساع
فما أوسع من الصراط المستقيم، فلم يقل: الطريق المستقيم؛ لأن العرب تقول للطريق الواسع: صراط، والصراط هو الذي يبتلع المارة، ولا تقول للطريق الضيق: صراطاً، وهذه من لغة العرب العجيبة الجميلة {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7].
فهو طريق واسع، ووُسْعُه: أن الناس لا يزدحمون فيه، ولا يتحاسدون، فأهل الآخرة لا يحسد بعضهم بعضاً؛ لأنهم في طريق واحد يتعاونون على طاعة الله، مثل: الإمام أحمد، والإمام الشافعي، فمن مقتضيات عقول البشر أن الإمام الشافعي مهنته مهنة أحمد، وهو صاحبه.
ويقال في المثل العامي: (عدوك صاحب مهنتك) فتجد النجار -الآن- عدو للنجار -إلا ما رحم ربك- يريد أن يقدح في صنعته، إذا دخل النجار إلى البيت فسنتقد الأبواب، ويقول: لو ركبها هكذا، ولو أصلحها هكذا، والخياط ينقد الخياط، والشاعر على الشاعر وهكذا.
لكن الإمام أحمد والشافعي هما من أهل الآخرة، يقول الإمام أحمد لـ ابن الشافعي: "أبوك من السبعة الذين أدعو الله لهم وقت السَّحَر" فالطريق واسع.
أما أهل الدنيا فيزدحمون؛ لأن طرق الدنيا ضيقة، إذا ذهبت إلى وظيفة سبقك إليها مائة، وإذا ذهبت إلى سيارة سبقك إليها مائة، وزاحمك على شراء الأرض ألف، أما طريق الآخرة فواسعة.(49/37)
من صفات الصراط المستقيم: الاستقامة
فهو ليس بمُعْوَج، وهذه الصفة تندرج في الصفة الأولى: وهي القُرْب.(49/38)
من صفات الصراط المستقيم: إيصال المقصود
فلا يوصِل أبداً إلى الله تعالى إلاَّ هذا الصراط ولهذا {خَطَّ النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً، وخطَّ خطوطاً عن يمينه وشماله، وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]}.(49/39)
من صفات الصراط المستقيم: وجود الإمام في أوله
فإن الطريق إذا لم يكن له إمام لا يوصل عادة، والإمام هو الدليل.
فمن هوالدليل؟ من هو الماهر الذي يجيد الخط؟ من هو الذي يعرف أسرار وعلامات هذا الطريق نزله منزلة منزلة، هبطه وادياً وادياً، وعرفه جبلاً جبلاً، وساحة ساحة، وأدركه وفهمه؟! إنه محمد عليه الصلاة والسلام.
ولذلك رشحه الله للإمامة، فيقول في الصلاة: {صلوا كما رأيتموني أصلي} كما في صحيح البخاري، ويقول في المناسك: {خذوا عني مناسككم} ويقول: {من رغب عن سنتي فليس مني} ويقول كما في كتاب الحجة ورواه النووي بسند صحيح، يقول: {لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به}.
إذاً: هذه هي الإمامة.
والله لا يرضى منك يوم القيامة عملاً حتى تتبعه {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف:157] النبي الأمي فقط، فلا ثَمَّ إمام ولا شيخ إلا هو، ولا أستاذ إلا هو، وإن أتيت من غير طريقه لا يُفْتَح لك الباب يوم القيامة؛ لأن أول مَن يَقْرَع باب الجنة هو محمد صلى الله عليه وسلم، فيُفْتَح له، ثم يذهب ومعه أتباعه.
وأما الذين تخلفوا عن ركبه، وهم: النخبة المثقفة!!
أشياخه صفر الجباه بـ دنفر هنري كسنجر خير مروياته
أما هؤلاء النخبة المثقفة وغيرهم فما اهتدوا صراحةً بهداه عليه الصلاة والسلام؛ لأن لهم أشياخاً من نوع آخر، فلذلك يراهم صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فيرى أن السنة ليست عليهم، يقولون: يا رسول الله! نحن أتباعُك.
فيقول: لا، لستم بأتباعي؛ لأن أتباعه لهم علامات، صاحب الخيل البلق يعرف خيله البلق، وصاحب الدُّهم يعرف الدُّهم، حتى البدوي الأعرابي إذا ضلت ناقته في الصحراء، يصفها بلونها، ووبرها، وطولها، وسمتها.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يعرف أمته {إن أمتي يُدعون يوم القيامة غُرَّاً مُحَجَّلِين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يُطيل غُرَّتَه فليفعل} فهو يعرفهم صلى الله عليه وسلم.
أما أولئك فيقول لهم: {سحقاً سحقاً} فنسأل الله أن يهدينا وضال المسلمين.(49/40)
تفسير قوله: (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)
من هم الذين أنعم الله عليهم؟
قال تعالى: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] وهذا هو حزب الله وهؤلاء هم أوليائه، وهذه هي صفاتهم، الذين يسلكون معك.
إذاً لست وحيداً في الطريق؛ بل معك حشد هائل يصحبك فيه، ويمشون معك، ويمضون، فلا تستوحش، وهم: الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والصالحون، هؤلاء معك في المسيرة.
ما هي النعمة الحقيقية؟
النعمة الحقيقية هي الهداية ليس إلا، وهي أعظم نعمة، ولو أن النعيم الأخروي من النعم؛ لكن أجلها وأعظمها أن يهديك الله صراطاً مستقيماً.
ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7].
هذا الصراط لا يسلكه المغضوب عليهم، ولا يسلكه الضالون.(49/41)
تفسير قوله: (الْمَغْضُوْبِ عَلَيْهِمْ)
من هم المغضوب عليهم؟ ولماذا غضب الله عليهم؟
المغضوب عليهم: اليهود، والضالون: النصارى، وقد بشرهم بذلك رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيحين.
غضب الله على اليهود لأنهم أهل علم وثقافة، لكن ما أجْزَتْ عنهم، لأن علمهم بغير عمل.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74].
فهؤلاء مغضوب عليهم؛ لأنهم تركوا العمل.(49/42)
تفسير قوله: (ولا الضَّالِّينَ)
الضالون: هم النصارى، لماذا ضلوا؟
لأنهم تركوا العلم.
فأولئك -أي: اليهود- علموا ولم يعملوا.
وهؤلاء -أي: النصارى- عملوا ولم يعلموا.
قال سفيان بن عيينة: [[من فسد من علمائنا، ففيه شبه باليهود، ومن فسد من عبادنا، ففيه شبه بالنصارى]].
وقد شابه كثير من هذه الأمة هاتين الطائفتين, فالأمة فيها الطوائف الثلاث:
طائفة: ((الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] أي: الذين أنعم الله عليهم، وهم: أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم الذين نرجو الله أن نكون منهم ومن روادهم.
وطائفة: (الْمَغْضُوْبِ عَلَيْهِمْ) أي: الطائفة الأخرى المعرضة، ما يُسَمون بالمثقفين ثقافة التي لا توصل أحدهم إلى الإيمان، نعم.
عندهم شهادات عالية؛ لكن لا توصلهم شهادتهم إلى أن يصلوا الفجر في جماعة، أو أن يبروا بالوالدين، أو يصلوا الرحم، أو يخافوا من الله، أو يحترموا أهل العلم، أو يتعاطفوا مع الدعاة، أو يغاروا على انتهاك محارم الله عز وجل، أو يذبوا عن مبدأ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] نعم! مثقف يحمل شهادة، لكنها شهادة للبطن، وللسيارة، وللوظيفة، يأكل بها عرضاً من الدنيا، ولكنها تنفعه في الآخرة، {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
إذا ما لم يفدك العلم خيراً فليتك ثم ليتك ما علمتا
وإن ألقاك فهمُك في مغاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا
فهذا العلم غير نافع، فالذهن بالنسبة له سلة مهملات لا يحمل خشية، ولا استقامة، ولا غَيْرَةً لله ولرسوله، ولا يحمل المبادئ الخالدة التي أتى بها صلى الله عليه وسلم.
هذا القطيع المثقف الذي غُزِيت به الأمة من الغرب، والذي سُلِخ من ظاهره وباطنه، وأصبح ملغماًَ من الداخل بأفكار منحرفة، هذا يشابه (الْمَغْضُوْبِ عَلَيْهِمْ).
نحن نعرف أن منهم من قد يصلي، ويقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] لكن ينقض {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] بعد خروجه من المسجد يلغيها بقلمه، ويشَطِّب عليها بفكره، وبقصيدته، وبسهره، وباستهزائه وسخريته بحملتها.
وطائفة: (الضَّالِّينَ) أي: الجهلة، كغلاة الصوفية، ومن شابههم من جهلة الناس، الذين يعبدون الله على غير بصيرة يجتهدون في العبادة؛ ولكن على غير علم، وعلى غير سنة، أحدهم يهتم بأمور عبادته؛ ولكن لا يهتم بنجاحها، وصلاحها، وقبولها، فإنه لا يُقْبَل عملٌ إلا بإخلاص ومتابعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
لا كهنوت في الإسلام ولا رهبنة، ولابد من إمام إن عمل بهذا عملنا، وإن ترك تركنا، نقف عند حدود شرعنا.
فهذه -الأمة أيها الإخوة- بين {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].(49/43)
لا التقاء بين الهداية والضلالة
قضية كبرى في {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] وهي من الفوائد، وهي أنه لا التقاء مع الصليب، ولا التقاء مع نجمة إسرائيل.
{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] هناك عداء أصيل شرعي، لا يدخل فيه التعايش السلمي، ولا الوفاق الدولي، ولا الحب الإنساني، ولا مجلس الأمن، ولا هيئة الأمم المتحدة، عداء أصيل من القدم، لأن اليهود ماذا يقولون؟ {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] فكيف يلتقي المسلم مع النجمة؟! وكيف يلتقي مع اليهود؟! وكيف يلتقي مع النصارى؟! لا التقاء أبداً.
الصليب والنجمة أعداء لنا لا وفاق دولي، ولا تعايش سلمي معها {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6].
{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فلسنا بالذين يتمسحون على عتبات شامير، أو يتقربون من الصليب، وإنما نحن لنا تميز، وكيان، لنا شِرْعة، وواجهة، وإمام، وإمامنا على الصراط يدعونا ألا ننحرف هنا، حتى لا ننحرف هناك.
هذه من أسرار {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7].
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] تطلب من الأمة مطلباً عظيماً، وهو: أن يتعلموا العلم النافع، والعمل الصالح.
قال رسول الله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين، من حديث أبي موسى: {مثل ما بعثني الله فيه من الهدى والعلم كمثل الغيث} الهدى: العمل الصالح، العلم: العلم النافع.
فلا بد أن تجمع بين العلم والعمل، وعسى الله أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، لا صراط المغضوب عليهم، ولا صراط الضالين.
وهذا هو معلم الولاء والبراء، أن نكون أولياء لله نغضب لله، ونرضى لله، ونجاهد من أجل الله عز وجل، ونقف على الصراط المستقيم.(49/44)
طلب الهداية من الله
ومن قضايا {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] أن العبد بحاجة إلى أن يلتجئ ويمرغ وجهه ساجداً لربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى علَّه أن يقبل في مَن قَبِلَ، وأن يهديه في مَن هَدَى، وكان صلى الله عليه وسلم يعلم الحسن -كما عند أحمد والأربعة وغيرهم- فكان يقول له في الوتر: {قل: اللهم اهدني في مَن هديتَ، وعافني في مَن عافيتَ، وتولني في مَن توليتَ}.
فالهداية في مَن هَدَى: أن تطلب بلهف أن يهديك الله، وإن لم يهدِك الله فلن تهتدي {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [الكهف:17] ولن تجد له هادياً.
فالاستغاثة بالله، والاستعانة به، وصدق اللجوء إليه، والإلحاح في المسألة، هذه من أسرار (اهْدِنَا) والهداية لا تكون إلا من عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
أيها الإخوة الفضلاء! هذه وقفات مع السبع المثاني، أسأل الله عز وجل أن ينفع بها، وأن يجعلها في ميزان الحسنات، وأسأله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن كانت له الفاتحة حجة ومحجة وكافية وشافية وواقية.
وأسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يهدينا وإياكم الصراط المستقيم، وأن يجعلنا وإياكم ممن عبدوه واستعانوا به.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلًَّم تسليماً كثيراً.(49/45)
الأسئلة(49/46)
حكم البسملة في الفاتحة
السؤال
الفاتحة، هل البسملة من آياتها؟ وهل يجب الجهر بها، أم لا؟
الجواب
مسألة: هل البسملة آية من الفاتحة فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم، ذكرها ابن كثير والقرطبي وغيرهما، والصحيح: أنها ليست بآية من آيات الفاتحة، فهي سبع بدون البسملة.
أما الجهر بها فوقع نادراً من الرسول عليه الصلاة والسلام، واختار ابن القيم في زاد المعاد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أسر بها غالباً وجهر بها نادراً، ولو أن بعض العلماء يرون أن الجهر بها بدعة، ولكن هذا القول فيه حيف، بل الجهر يقع نادراً، وأما الإسرار فهو الغالب، والمشهور من فعله عليه الصلاة والسلام.(49/47)
الخروج عن نطاق السنة بقصد اتباعها
السؤال
فضيلة الشيخ! ما رأيكم في بعض الشباب -أسأل الله لهم ولي الهداية- ممن يبالغ بعضهم في تقصير ثيابه أكثر من اللازم، حتى إذا ركع في الصلاة وجدتَ الثوب يرتفع فوق أو قرب ركبته، فهل في هذه المناسبة من كلمة؟
الجواب
مثل هذه الصور التي تقع في الناس تُعالَج من أهل العلم ومن طلبة العلم بالتي هي أحسن، وليس هناك مبرر لأعداء الله عز وجل من العلمانيين وأمثالهم أن يتعدو على شباب الصحوة والاستقامة بمثل هذه التعليقات السخيفة، ويتعرضوا لهم، ودائماً أكرر قول الأول:
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
هؤلاء الشباب ليسو مروجي مخدرات، ولا مسئولين عن بيوت الدعارة، ولاتزلجوا على الثلج، ولا باعوا قيمهم في سوق النخاسة، ولا باعوا مبادئهم، إنما هم أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، يريدون الحرص على اتباع سنته، هؤلاء الشباب قدموا رءوسهم تحت الدبابات في أفغانستان.
جيوش أعزتها بلاد محمد فما عذرها ألا تعز محمدا
ولكن قد يقع التقصير من سوء فهم، أو عدم معرفة تطبيق السنة، فيُفَهَّم هؤلاء بالتي هي أحسن.
صحيحٌ أنني قد سئلتُ في محاضرة سابقة عن الثياب التي إلى الركبة، فقلت: هذه فنائل، وأنا أتكلم عن الثياب، أما الفنائل العلاقية فأنا لم أتحدث عنها.
ولكن على كل حال وما أعرفه أنه إلى الركبة ففيه إجحاف، وبهذه تبدو العورة وقد ثبت عند أحمد في المسند أنه: تحت الركبة بأربع أصابع؛ لكن أرى أن هذا في الإزار، والإزار غير الثوب، الإزار عند السلف مثل الشرشف، أو مثل لفافة من قماش يُلف به الإنسان، ولو لم ترفعه ما استطعت أن تمشي خطوة، أما الثياب فإنك إذا رفعت أكثر؛ شاهَ منظرُك، وأنا أقول: إنه ليس الضابط أن يشُوْهَ منظرُك أو لا، إنما الضابط هو السنة، فالإزار يمكن أن يتحمل إلى تحت الركبة، كالإحرام في الحج إلى تحت الركبة بأربعة أصابع، أما أن تجعل الثوب إلى تحت الركبة بأربعة أصابع فإنه منظر مؤذٍ وقد يعرض الشباب وطلبة العلم للإيذاء والسخرية والاستهزاء من المنافقين، والله حدد من نصف الساق إلى فوق الكعب، وما فوق الكعب كذلك ما زال في السنة، ومجاله واسع، هذا ما لزم في هذه المسألة، والله يعيننا وإياكم، ويهدينا وإياكم سواء السبيل.(49/48)
عدم جواز نسبة الشر إلى الله تعالى
السؤال
فضيلة الشيخ، هل يصح أن يُنْسَبَ الشرُّ إلى الله جل وعلا؟
الجواب
لا ينسب الشر إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، بل قال عليه الصلاة والسلام: {والخير بيديك، والشر ليس إليك}.
وأهل السنة لا ينسبون الشر إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وإلاَّ فالحقيقة: أن الذي قدَّر الخير والشر هو الله؛ لكن تأدباً معه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لايقال: الشر إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أو لماذا قدر الله الشر؟ أو كذا.
وقال بعضهم: بل إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا يقدر إلا خيراً؛ لكنه بالنسبة لبعض الناس شر، وإلاَّ فهو من حيث التقدير والقضاء خير، فالله يقدر الخير والمصلحة المحضة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
والجن تأدبت مع الله حيث قالت: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10].
وقال إبراهيم عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80].(49/49)
النشاط في الدعوة إلى الله
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، أحبك في الله حباً صادقاًَ، والله قد أراد بي خيراً، وجئت لسماع صوتك من المنطقة الشرقية، وهناك إخوة يتمنون سماع صوتك، فأطلب من الله ثم منك زيارة لهذه المنطقة، وأبشرك أن الدعوة الإسلامية على قدم وساق، ووصل عدد المسلمين الجدد من الجنسية الأمريكية بمركز القاعدة ما يقارب (600) مسلم أمريكي، وزيارتك للمركز وللمنطقة الشرقية يزيدنا شرفاً، ويزيد في عزيمتنا، لا سيما وشباب المنطقة بأمس الحاجة إلى توجيهاتكم ونصحكم وتثبيتكم.
أحد المسئولين عن الدعوة بالقاعدة!
الجواب
أثابك الله وحفظك ورفع منزلتك، ونسأل الله أن يعيننا وإياك على طاعته، وسوف يكون هناك زيارات، وأشير لك أن تعمم هذه الدعوة لطلبة العلم والدعاة، وكما قيل: ففي كل واد بنو سعد.
وكلما كثر عرض الخير بأساليب متعددة كان أمكن وأمتن له، فكل داعية له طريقة خاصة في العرض، وطريقة خاصة في التكلم والتحدث، ويفتح الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على يد البعض ما لم يفتح على يد الآخر، فإذا اجتمعت الجهود فهذا طيب.
وهذا سوف يتم -بإذن الله- وهذه بشرى سارة بشرتنا بها، وأسأل الله أن يجعلنا وإياك من مفاتيح الخير، إنه على كل شيء قدير.(49/50)
تركيز العلمانيين على المرأة في كثير من المجالات
السؤال
في هذه الفترة نجد العلمانيين أصبحوا يزيدون تركيزهم على المرأة في كثير من المجالات، حتى ظهرت إعلانات في الصحف تدعو النساء لشراء السيارات، أو تمنح شيئاً من الخصم أو التقسيط للنساء فقط، وذلك عن طريق تسهيلات مميزة! ما دورنا حيال هذه الهجمة الشرسة على المرأة في جميع هذه المجالات والوسائل؟ حتى أصبح الحجاب عندهم ذلك اللثام الذي يخرج عيني المرأة بشكل مغري، أو أخبث من هذا، فبم تنصحون هذه الجموع؟
الجواب
إجابةً على هذا السؤال لا بد أن أبين قضايا:
أولها: جهل العلمانيون بطبيعة وأسرار هذه الجزيرة؛ لأن هذه الجزيرة لا تصلح إلا للإسلام، ولا تنبت فيها إلا شجرة الإسلام، ولا يمكن أن تنبت فيها شجرة أخرى.
صحيحٌ أنه قد يكون في بعض بلاد الإسلام شيء مزدوج مع الإسلام أو تحالف أو تعايش، أما هذا البلد فلا، ولا نقول هذا تعصباً، لكن لتاريخه ولسر أراده الله فيها، ولقداسة بقاعها، لا يصلح فيه إلا الإسلام، فهؤلاء أخطئوا التقدير يوم أرادوا أن يكون مع الإسلام شيء، أو أن يطرأ على الإسلام شيءٌ آخر.
ثانيها: أن هؤلاء العلمانيون يملكون من الوسائل أكثر مما يملكه الدعاة.
أرى ألف بانٍ لم يقوموا لهادمٍ فكيف ببانٍ خلفه ألف هادمِ
نعم! يجتمع أهل الخير والنصح من أمثالكم في المحاضرات، ومهما اجتمعوا وكثر عددهم إلى عشرة آلاف أو إلى خمسة عشرة ألفاً فإن في منتدى الكرة يجتمع ستون ألفاً، وفي الأسواق وفي أماكن اللهو والضياع عشرون وثلاثون وخمسون ألفاً، ولكن {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].
والحقيقة: أنهم يملكون وسائل التأثير ولهم دخول إلى العقول، وينفذون، بينما وسائل طلبة العلم والعلماء قليلة تخاطب مستوىً من الناس، ولكن فمهما يكن فحبل الباطل قصير، قال تعالى: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36].
ثالثها: طبيعة هذا الدين أنه مصارَع دين عالمي، بدأ بالصراع من أول لحظة، فهو لا ينتهي من الصراع، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].
فأنت جند نفسك أن تكون داعية، وأن يكون لك ضد، واعلم أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى معك، ولن يَكِلَكَ، وأن للحق صولة، وللباطل جولة، (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:128].(49/51)
التطبيع اليهودي العربي
السؤال
فضيلة الشيخ: نسمع في هذه الأيام من الصحف العالمية مفاوضات لإتمام صفقة بيع فلسطين المسلمة، فما حديثكم حول هذا تحت ستار التطبيع؟
الجواب
أولاً: بيت المقدس ملك كل مسلم، لا يملكه ياسر عرفات، ولا غيره، وهذا عقد من الله عز وجل أن بلاد المسلمين المقدسة للمصلين، يملكونها بعقد سماوي منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والأرض لله يورثها من يشاء.
أما الخونة والعملاء فهم يستطيعون بيع الأرض، أما استرداد الأرض فلا يجيدونه، والذي يسترد الأرض هم المصلون، أهل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
ثانياً: تحت أي مظلة تُباع فلسطين؟! أين الدموع ودماء الألوف المؤلفة التي ذُبِحَت؟ وأين المقدسات التي أُهينَت؟! وأين العداوات التي استمرت في التاريخ؟!
ثالثاً: لا تعايش مع إسرائيل؛ لأن إسرائيل معنا في القرآن، نصلي في كل صلاة ونقرأ القرآن فإذا القرآن يلعنهم ويهاجمهم؛ لأنهم أعداء الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو تركت الكلاب نباحَها، والخيول صهيلها، والحمام هديرها، ما ترك اليهود عداءهم لـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
ما هو موقفنا أمام الله إذا أتينا نصلي، ونسمع ميثاق الأمم المتحدة في تصالح العرب مع إسرائيل وبيعهم فلسطين، ثم نقول: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]؟
أيا عمر الفاروق هل لك عودةٌ فإن جيوش الروم تنهى وتأمرُ
نساء فلسطين تكحَّلن بالأسى وفي بيت لحم قاصراتٌ وقُصَّرُ
وليمون يافا يابس في حقولهِ وهل شجرٌ في قبضة الظلم يثمرُ>>
تعال إلينا فالمروءات أقفرت وموطن آبائي زجاج مكسرُ
يطاردنا كالموت ألف خليفةٍ ففي الشرق هولاكو وفي الغرب قيصرُ
أيا صلاح الدين هل لك عودةٌ فإن جيوش الروم تنهى وتأمرُ
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا
تغني بك الدنيا كأنك طارق على بركات الله يرسو ويُبْحِرُ
تناديك من شوق مآذن مكة وتبكيك بدر يا حبيبي وخيبر
ويبكيك صفصاف الشام ووردها ويبكيك نخل الغوطتين وتدمر
فوالله لن تستعاد فلسطين إلا بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] لن تستعاد إلا بالمصلين، والأكفان، والتكبيرات، والجهاد المسلح، أما أن يصبح شامير أخي فهذا حرام بالإجماع، يعارض الكتاب والسنة.
الله الذي على العرش استوى جعلهم أعداء لنا، أرادوا اغتيال رسولنا نددوا بنا حاربونا انتهكوا أعراضنا قتلوا شيوخنا قتلوا نساءنا أطفئوا نورنا داسوا مسجدنا الذي صلى فيه رسولنا عليه الصلاة والسلام، لا صلح معهم متى نصطلح؟! نصطلح إذا دخلوا في دين الله {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64].
في جنيف ياسر عرفات الضائع وقف يقرأ الآية، فقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64] ثم (وقف حمار الشيخ في العقبة) أكمِلِ الآية؟ {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].
إن المسلم يوم يراهن بدينه، وبمعتقده، وبأرضه، مفضوحاً أمام العالم لا كرامة له، يصبح ضائعاً، أرض بسِلْم، وسِلْم بأرض، رباً لا يجوز، وانتهاك لمواثيق {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ولا يقرها عالِِم، ولا مسلم، ولا داعية، ولا تدخل الدماغ، ولو كُتِبَت فهي على أوراق، وسوف يأتي المصلون أهل الأكفان يدوسون هذه الأوراق، ويدخلون -بإذن الله - بيت المقدس، كما أخبر عليه الصلاة والسلام.
فليتشرف الإنسان ألا يتقارب مع هؤلاء؛ لأن الفتح قريب قادم -بإذن الله- والفجر آتٍ، {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81].(49/52)
مساعدة أهل تهامة
السؤال
صاحب الفضيلة! سمعنا في أحد أشرطتكم عن فقراء تهامة، ونريد من فضيلتكم بيان حالتهم؛ لمساعدتهم حسب الاستطاعة؟
الجواب
نعم.
يا أيها الإخوة! منطقة تهامة -الساحل- أكثركم يعرفها أو يسمع بها، إنها إقليم واسع، تمتد من الليث، إلى جازان، إلى حدود بلاد تهامة قحطان، هذه المنطقة واسعة، وفيها آلاف القرى ومدن كثيرة، وبوادي شاسعة، وجبال، وسكان كالذر، وهؤلاء ينقصهم أمران:
الأول: أمر العلم: فهم يعيشون جهلاً مطبقاً، بل بعض المناطق لا يعرف بعضهم قراءة الفاتحة وهو في السبعين من عمره، نحن نعرف هذا، فقد وصلنا إليها قرية قرية، وبلداً بلداً، أحدهم لا يعرف قراءة الفاتحة، وأنا أعرف أن بعضكم أتى مصطافاً ونزل هناك، وأتى يكلمني ويكلم بعض الإخوة، ويقول: لماذا لا تدعونهم؟ وأنتَ ألستَ من بلادنا؟ ألستَ مكلفاً؟ ألستَ داعية؟ شاركنا الجهد، وهم ينتظرونك، والإنسان الداعية مهما فعل لا يغطي هذه المساحات الهائلة، أناس يعيشون جهلاً مطبِقاً، بل بعضهم يقع في الشركيات، وبعضهم لا يعرف التوحيد، ولا يتصور الرسالة التي بُعث بها محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف كثيراً من المحرمات.
الثاني: أمر الفقر فهم يعيشون فقراً مدقعاً.
وأنا أدعو التجار والباذلين والمعطين الذين ينفقون أموالهم، أن يسارعوا لهؤلاء؛ لأنهم أقرب، وأنا أعرف أن كثيراً من التجار ذهبت أمواله وأحسن جزاه الله خيراً في الفلبين وسيرلانكا، وهذا مأجور؛ ولكن الأقربون أولى بالمعروف.
وكذلك جانب آخر: وهو الشريط الإسلامي، نفع الله به هناك نفعاً عظيماً، وكان له أثر بالغ في هداية الناس، فهم بحاجة إليه، فأهل التسجيلات والباذلين والدعاة عليهم أن يجتهدوا في إرسال أشرطة: العقيدة، والإيمان، والرقائق، والآداب، والعبادات، والسلوك، وما يخص المرأة، فإنها تُسْمَع ويتحول الناس بها بين عشية وضحاها.
هذا ما لزم في هذه المسألة، وأنا قد بلغتكم، اللهم فاشهد.(49/53)
يا حبذا الجنة!
هل نرى ربنا يوم القيامة؟
هذا السؤال طرح قبل ألف وأربعمائة سنة، وأجاب عليه أفضل الخلق الذي لا ينطق عن الهوى، محمد صلى الله عليه وسلم، وأكده في غير ما موضع من كلامه ليزيد من إيمان الصحابة وشوقهم إلى الدار الآخرة، فلماذا لا نتأسى بهم، ونعد أنفسنا بالأعمال الصالحة، كي نرى ربنا سبحانه وتعالى؟!(50/1)
رؤية المؤمن لربه يوم القيامة
اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق.
اللهم لك أسلمنا وبك آمنا، وعليك توكلنا وبك خاصمنا، وإليك حاكمنا، فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، شهادة ندخرها للعرض الأكبر على الله، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، شهادة نعدها لذاك اليوم يوم الأهوال والنكال، يوم لا ينفع من الأقوال والأعمال إلا ما كان لوجه ذي الجلال والإكرام.
اللهم إنه ليس عندنا من الأعمال ما نعده إلا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
أيها المسلمون: لنستمع إلى أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه وهو يروي لنا حديثاً يصل إلى القلوب مباشرة، حديثاً يخاطب أهل القلوب ولا يفهمه إلا من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
يقول رضي الله عنه وأرضاه: قال الناس للرسول عليه الصلاة والسلام: {يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: أما إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب -ثم استطرد عليه الصلاة والسلام قائلاً- يجمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، فيأتيهم تبارك وتعالى، فيقول لهم: من كان يعبد شيئاً فليتبعه -وهذا في العرصات- فمن كان يعبد الشمس اتبع الشمس، ومن كان يعبد القمر اتبع القمر، ومن كان يعبد الطواغيت اتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى فيقول: أنا ربكم، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فيأتيهم ربهم -وفي صحيح مسلم: على صورته تبارك وتعالى- فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيوضع الصراط -نسأل الله السلامة والعافية- ويقف الملائكة بجنبة الصراط فلا يتكلم أحد إلا الأنبياء والرسل، يرددون: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم، ويقول عليه الصلاة والسلام: وعلى جنبتي الصراط كلاليب مثل شوك السعدان، قال: ألا تعرفون شوك السعدان، قالوا: بلى يا رسول الله! -وفي صحيح مسلم: كأنك رعيت الغنم يا رسول الله! يوم عرفت شوك السعدان، قال: نعم، وما من نبي إلا رعى الغنم- قال: فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم عظمها إلا الله الواحد القهار، فتتخطف الناس فناج مسلَّم -يسلم من شوك السعدان الكلاليب- فذلك الذي لا خوف عليه -نسأل الله العافية- ورجل مخدوش منها ثم يسلم، ورجل مكردس على وجهه في النار- ولا تزال أصوات الأنبياء تردد: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم- فيأمر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الملائكة أن تخرج من النار من كان يعبد الله لا يشرك به شيئاً، فيخرجون وقد امتحشوا -أحرقوا وصهروا -وهم موحدون لله، ولا يخرج من النار مشرك أبداً- وقد أكلتهم النار إلا مواضع السجود، فإن الله حرم على النار أن تأكل موضع السجود لفضل السجود، فيخرجون وقد امتحشوا كالحِبة - بالكسر- في حميل السيل، تخرج صفراء ملتوية، فيغمسون في نهر الحياة، ثم يدخلون الجنة -وفي الصحيح: على جباههم، أسماء هؤلاء الجهنميون عتقاء الله من النار} ثم أخذ عليه الصلاة والسلام ينتقل إلى حديث الرجل الذي أضحك الله تبارك وتعالى، يقول الأعرابي: لا نعدم من رب يضحك خيراً، هذا الرجل هو آخر من يدخل الجنة من أهل النار، يخرجه سُبحَانَهُ وَتَعَالى من النار فيقف ووجهه مقابل للنار، فيقول: {يا رب! اصرف وجهي عن النار فقد أحرقني ذكاؤها وقشبني ريحها، فيقول الله له: يا ابن آدم! هل عسيت إن صرفت وجهك عن النار أن تسأل غير ذلك؟ قال: لا وعزتك وجلالك لا أسأل غير ذلك، فيصرف الله وجهه عن النار قبل الجنة} نسأل الله الجنة.
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
يا من أتعب نفسه في عمارة القصور وفي رفع الدور:
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
{فلما رأى زهرة ونعيمها وسرورها قال: يا رب! قدمني إلى باب الجنة، قال الله: ويلك يا ابن آدم! ما أغدرك وما أظلمك، لئن قدمتك إلى باب الجنة لا تسألني غير ذلك؟ قال: لا، وعزتك وجلالك! لا أسألك غير ذلك، فيقدمه تبارك وتعالى إلى باب الجنة، غير أنه لم يدخل الجنة، فلما رأى أنهارها ودورها، وقصورها، ونعيمها وسرورها، قال: يا رب! أدخلني الجنة، فيقول الله له: ويلك يابن آدم! ما أغدرك وما أظلمك أما أعطيتني العهود والمواثيق ألا تسألني غير ذاك؟! فيقول: يا رب! بعزتك وجلالك لا أكون أشقى الناس بك هذا اليوم، فيدخله الله الجنة، فلما وصل الجنة، قال الله له: تمن} ما أكرم الله وأحلمه وأرحمه، يا من رحمته وسعت كل شيء! ارحمنا برحمتك، يا من فضله عمّ البار والفاجر! تفضل علينا بفضلك، فإنه ليس لنا أعمال ولا صلوات ولا صدقات، ولا أقوال ولا شيء نتقرب بها إليك:
إن لم تجرني برشد منك في سفري فسوف أبقى ضليلاً في الفلا تيهاً
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النار
{فيدخله الله الجنة، فيقول الله: تمن، قال: أتمنى كذا وكذا} وفي صحيح البخاري: {فيذكره الله بالأشياء، يذكره بالقصور والأنهار والدور وبالحور العين، ولا يزال ربه يذكره حتى تنقطع أمانيه، فيقول: ألا تتذكر شيئاً، فيقول: لا يا رب قال: فإن لك ذلك ومثله معه، ومثله معه، ومثله معه ومثله معه} وفي رواية أبي سعيد الخدري {لك مثل أعظم ملك من ملوك الدنيا، وعشرة أمثاله معه -وفي رواية صحيحة- لك مثل الدنيا وعشرة أمثال ملك الدنيا} لا إله إلا الله كل الدنيا، ذهبها وفضتها وقصورها ودورها، وعشرة أمثالها معها، بلا مرض أو خوف ولا حرب أو هم، أو حزن.
ولما قال: {يا رب! أدخلني الجنة، ضحك الله تبارك وتعالى} ضحك يليق بجلاله، له حقيقة لا نكيفه ولا نمثله ولا نشبهه ولا نعطله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] فضحك عليه الصلاة والسلام وفي الصحيح فضحك ابن مسعود لضحكه صلى الله عليه وسلم من تذمر هذا العبد وهذا الحديث صحيح رواه البخاري في باب فضل السجود في كتاب الأذان، وفي كتاب الرقاق باب صفة الجنة والنار، ورواه مسلم في الفتن، وفي صفة الجنة، وفيه قضايا:(50/2)
فوائد الحديث
أولاً: شوق الصحابة وإيمانهم ويقينهم الذي جعلهم يتركون الدنيا وملذاتها وشهواتها، وأتوا يتذكرون ذلك اليوم ويقولون: {يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟} ما أعظم السؤال وما أعظم الإيمان! إننا أصبحنا في مهلة وغفلة وبعد عن الله حتى أصبحنا لا نتذكر هذه القضايا.
هل تساءل أحد منا في مجلس هل نرى الله؟
هل تكلم بعضنا مع بعض في رؤيتنا لربنا وهي أفضل النعيم وأجل القربات؟
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
ورؤية الله تتحقق للمؤمنين في الآخرة ولا يراه المشركون: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] موسى عليه السلام لما أعطاه الله التكليم وكلمه تبارك وتعالى وجد من الإيمان والسرور والحبور ومن اللذة ما لا يعلمه إلا الله، فقال الله عنه: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف:143] ورؤية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للمؤمنين ثابتة لمن حافظ على صلاتين، ولا يفهم منه ألا يحافظ على الثلاث، من حافظ على هاتين الصلاتين وهي صلاة الفجر وهي قبل طلوع الشمس، وصلاة العصر وهي قبل غروب الشمس وهما صلاة البردين، فالمحافظ عليهما يدخل الجنة ويرى ربه يوم القيامة.
يقول الصحابة: كيف نرى الله؟ يقول عليه الصلاة والسلام: {أترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب} ليس المرئي كالمرئي تبارك وتعالى الله، لكن المقصود تشبيه الرؤية بالرؤية: {أترون الشمس في يوم صحو ليس دونها سحاب؟ قالوا: نعم.
قال: سترون ربكم كما ترون الشمس ليس دونها سحاب} فهنا شبه الرؤية بالرؤية قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
ثانياً: أن عصاة الموحدين لا يخلدون في النار، خلافاً لمن ذهب لذلك من أهل البدع، فمن كان موحداً فإنه لا يخلد في النار.
ثالثاً: أن من المصلين من يدخل النار، منهم من يصلي الصلوات الخمس ويدخل النار، كأن يكون عاقاً أو قاطع رحم أو آكل ربا، أو زان أو فاجر أو منتهك لحرمات الله، فهو من الساجدين على جبينه ولكن تصهره النار غير أن الله حرم على النار أن تأكل مواضع السجود.
رابعاً: فضل الله وكرمه وأن الدنيا لا تساوي شيئاً، وإذا كان أقل الناس في الدنيا يملك في الجنة أعظم مما يملكه ملوك الدنيا ومثله عشر مرات، فقل لي بالله يا من امتلك قصراً أو داراً أو ثياباً ما امتلكت مع مرض وخوف وهم وحزن.
ستنقلك المنايا من ديارك ويبدلك البلى داراً بدارك
فدود القبر في عينيك يرعى وترعى عين غيرك في ديارك
فيا من أعد لذاك الموقف إن كنت تريد أن ترى الله وهي أعظم لذة عند أهل السنة والجماعة، وهو يوم الزيادة فعليك أن تكون مستقيماً على أمر الله، ليسكنك الله داراً لا يفنى شبابها ولا تبلى ثيابها، دار غرس الله أشجارها بيده، وبنى قصورها بيده، فقال لها: {تكلمي -والحديث عند البزار بسند حسن- فقالت: قد أفلح المؤمنون} فيا سعدكم أيها المصلون وهنيئاً لكم أيها التائبون العابدون، وتباً وخساراً لمن أنكر ذاك اليوم ونعيمه، وألحد وكفر به.
أيها الناس: إننا نسأل الله ألا يعجل لنا طيباتنا في الحياة الدنيا فنكون من المحرومين، ألا إننا نستجير بالله أن نكون من أناس أكلوا وشربوا وتمتعوا في الحياة، فلما أتوا إلى الله أفلسوا وخسروا، قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ*أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16] {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:20 - 21] {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(50/3)
الشوق إلى الآخرة
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.
الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحةٍ مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيءٍ قدير.
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:(50/4)
زهد السلف في الدنيا والتنافس على الآخرة
أيها المسلمون: أتى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس فدعاهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض، لم يمنهم بملك في الدنيا، أو يعدهم أنهم سوف يجدون مالاً أو نعيماً أو رغداً فيها، ولم يبن لهم قصوراً ولم يهيئ لهم دوراً أو يلبسهم لباساً، إنما يأتي أحدهم ببردته الممزقة لا يجد ما يشبع بطنه من خبز الشعير، ويأتي عليه الصلاة والسلام بحجرين يربطهما على بطنه في حفر الخندق من شدة الجوع، ولكنه يعلم الناس حب الجنة، ويصف لهم الطريق إليها، وأن هذه الدار ليست دار قرار، إنما هي دار عبور، وليست دار للمكث فيها ولا الرضا بها، ومن رضي بها واتخذها سكناً وأخلد إليها فذاك ملعون شقي مبعد عن الله.
وقف عليه الصلاة والسلام يتحدث إلى الجوعى من الصحابة الذين تركوا الدور والقصور والجيران والإخوان والخلان، وباعوا أنفسهم من الواحد الديان، وقف إليهم قبل معركة بدر، والمشركون أمامهم وسيوفهم بأيديهم، لم يخرجوا رياءً ولا سمعة، وقف يتحدث إليهم وهم الذين قال فيهم بعد ذلك: {إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} فيقول لهم قبل المعركة: {والله! ما بينكم وبين الجنة إلا أن يقتلكم هؤلاء فتدخلون الجنة} فيأتي عمير بن الحمام -صحابي فقير من الفقراء وزاهد من الزهاد لا يملك إلا ثوبه وسيفه -فيقول: يا رسول الله! أسألك بالله ما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء فأدخل الجنة، قال: إيه والذي نفسي بيده، ومع عمير تمرات يأكلها من الجوع- لكنه ما استصاغ أكل التمرات- فرمى التمرات وأخذ غمد سيفه فكسره على ركبته واستقبل الجنة، وقال: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى، والله إنها لحياة طويلة إذا بقيت حتى آكل هذه التمرات ثم أخذ درعه فأنزله عن منكبيه- وهذا علامة الخطر والفداء، والشجاعة النادرة- وتقدم فقتل حتى قال عليه الصلاة والسلام: {لقي عمير بن الحمام ربه وهو يضحك إليه} ويأتي مالك بن عامر من الأنصار فيقول: يا رسول الله! وذلك في يوم أحد، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول للصحابة: نقاتل الأعداء هنا داخل المدينة، لأن من الخطة الحربية الرائعة أن يدخل العدو في المدينة فيقصف في زقاق المدينة وفي سككها، لكن قام هذا الشاب وهو في الثانية والعشرين من عمره من الأنصار، من الذين أرادوا الله والدار الآخرة، فقال: يا رسول الله! لا تحرمني دخول الجنة، اخرج بنا إلى أحد ولا تحرمني دخول الجنة، والله لا إله إلا هو لأدخلن الجنة، فتبسم عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر وقال: -والناس يستمعون والأبطال لبسوا دروعهم في المسجد، والمهاجرون والأنصار صامتون ساكتون يستمعون إلى الحوار الحار بين المصطفى وبين جندي من جنوده -فقال: بم تدخل الجنة؟ قال: بخصلتين: أني أحب الله ورسوله، ولا أفر يوم الزحف، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: إن تصدق الله يصدقك -إن كنت صادقاً فأبشر ثم أبشر- وبدأت المعركة في الصباح وأتى هذا الشاب فوضع درعه وأخذ غمد سيفه فكسره على ركبته، وقال: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى.
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أغلى غاية الجود
فقتل وأتى عليه الصلاة والسلام وإذا هذا الرجل وجهه معفر في التراب فمسح الغبار عن وجهه وقبله وبكى، وقال له: {صدقت الله فصدقك الله، صدقت الله فصدقك الله، صدقت الله فصدقك الله} هؤلاء أهل الإيمان والحب والطموح شهداء في الأرض وليسوا شهداء الفن والغناء الماجن والمسرح الذي يموت على أغنية، أو ينزل من المسرح فتنكسر رقبته فيسمى شهيد المسرح، بل شهيد الكذب والرجعية، وشهيد الفكر العفن والتخلف.
يقف جعفرالطيار يوم مؤتة وهو في أرض الأردن وقد ترك زوجته وأطفاله وماله وداره وخرج إلى الله الواحد الأحد، فأتى في مؤتة والصحابة ثلاثة آلاف بينما الروم مائة وثمانون ألف، فوقف جعفر وأخذ يلتفت إلى المسلمين وهم يقولون: كيف نقاتل مائة وثمانين ألفاً ونحن ثلاثة آلاف فقال: أما أنا فقد بعت نفسي يوم أن خرجت من المدينة:
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
أم من رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا
أتى جعفر وقال: [[اللهم اشهد، اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى]] الدم ليس المال ولا الدار ولا العقار، فأقبل على العدو كالأسد الهصور، فقطعت يمينه في أول النهار، فأخذ الراية في يسراه وأعلن لا إله إلا الله محمد ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فقطعت اليسرى، فأخذ الراية بساعديه على صدره، فأقبل الروم بالرماح فدكوا الرماح في صدره حتى وقع شهيداً على الأرض، والرسول عليه الصلاة والسلام يتابع جعفر من المدينة وجعفر في مؤتة قريباً من أرض معان في الأردن وراءها مئات الأميال، فلما قتل جعفر نحب عليه الصلاة والسلام بكاءً عليه، فهذا شوق الحبيب لحبيبه، وجعفر لم يبك يوم قطعت يمينه؛ لأن العظماء لا يبكون في وقت العظمة، وإنما أخذ يتبسم ويقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
عليَّ إن لاقيتها ضرابها
ويأتي القائد الثالث ابن رواحة فإنه تقدم في المعركة زيد بن حارثة فقتل فتقدم جعفر فقتل فتقدم ابن رواحة، وقام عليه الصلاة والسلام يلقي خطبة تأبين وتعزية على الناس ويخبرهم بمصير القواد العظماء الثلاثة فيقول: {والذي نفسي بيده لقد عرضوا عليَّ على ثلاثة أسرة من ذهب وقد دخلوا الجنة، أما جعفر فكلمه الله كفاحاً بلا ترجمان} جعفر الطيار بن أبي طالب كلمه الله، وأبدله بيديه جناحين اثنين يطير بهما في الجنة حيث شاء، من شجرة إلى شجرة، ومن روضة إلى روضة، ومن قصر إلى قصر، سلام عليك يا جعفر! سلام عليك يا من بعت الحياة لأجل أن ترفع لا إله إلا الله في الحياة، سلام عليك يوم نلقاك ونسأل الله أن يجلسنا معك، فلسنا من الشهداء وما قدمنا وما فعلنا للإسلام شيئاً ما قمنا الليل ولا نهكت منا الأعراض، لكن يا جعفر! نحبك والمرء يحشر مع من أحب:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة
أيها المسلمون: هبت نسائم الجنة وظلالها وهواؤها، فهل من مستنشق للجنة؟ يقول أنس بن النضر في معركة أحد -قبل المعركة- وسعد يقول: لا تقدم يا أنس! -أحد شباب الصحابة- قال أنس: [[يا سعد! إليك عني، والله الذي لا إله إلا هو إني أجد ريح الجنة دون جبل أحد]] وفي الضحى قتل أنس وضرب ثمانين ضربة حتى ما عرفته أخته إلا ببنانه وأصابعه وحارثة بن الربيع وأتت أمه تبكي وتقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {ابني في الجنة فأصبر وأحتسب، أم هو في غير ذلك؟ قال: أهبلتِ -أجننتي- أهي جنة واحدة والذي نفسي بيده إنها لجنان كثيرة وإن ابنك في الفردوس الأعلى}
أيها الناس: صلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ على نبيك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين! اللهم ارض عن الصحابة الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، اللهم حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان واجعلهم من الراشدين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم انصر المجاهدين الأفغان، اللهم انصرهم في أرض أفغانستان، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم من قتلته منهم فاجعله شهيداً مع جعفر وزيد، وابن رواحة، اللهم ارفع كلمة الإسلام بجهادهم وثبتهم على الإسلام، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم رد إلينا مقدساتنا وحرماتنا ومجدنا وكرامتنا يا رب العالمين! اللهم أذل اليهود ومن شايعهم وسار في ركبهم، إنهم لا يعجزونك يا رب العالمين!
اللهم رد شباب المسلمين إليك، اللهم حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(50/5)
الجريمة الكبرى
الذنوب خراب الشعوب، وفساد الأمم، وضياع الأخلاق، والصلاة عمود الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، فلذا أعظم الجرم تركها، ومن أفجر الذنوب التكاسل عنها، وأداؤها في جماعة مطلب شرعي ملح.
والإنسان خطاء وخير الخطائين التوابون، ومما يكفر الذنوب عشر خصال ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.(51/1)
خطر الذنوب والمعاصي على الفرد والمجتمع
الحمد لله، الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
صلى الله وسلم على صاحب اللواء المعقود، والحوض المورود، والصراط الممدود.
صلى الله وسلم على صاحب الرسالة الخالدة، والشريعة الرائدة، والقيادة الحكيمة.
صلى الله وسلم على من شرح الله به صدور البشرية، وأنار به أفكار الإنسانية، وزعزع به كيان الوثنية، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله: انقطعت الأمطار، وجفت الآبار، ويبست الأشجار، وذبلت الأزهار، وغضب الواحد الجبار، من كثرة الذنوب والسيئات والأوزار.
عباد الله! الذنوب والخطايا قطيعة بين العبد وربه، ووحشة بين الإنسان ومولاه.
عباد الله! الذنوب والخطايا هدم للحضارات، وضرب لثقافة الإنسان ومعرفته، وغضب من الواحد الديان.
عباد الله! الذنوب والخطايا محق للأرزاق، وفساد للأبناء والأخلاق، وتدمير للبيوت.
فلا إله إلا الله، كم دمرت الذنوب والخطايا من شعوب! ولا إله إلا الله كم أفسدت من قلوب! ولا إله إلا الله كم شتتت من أُسر! ولا إله إلا الله، كم أوجبت من لعنة وغضب على أصحابها ومقترفيها!
وقد نعى الله -تبارك وتعالى- على أهل الذنوب والخطايا خطاياهم وذنوبهم، فأخبر أن سبب تدمير قوم نوح؛ هو الخطايا والذنوب، فقال جلَّ ذكره: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً} [نوح:25] فإغراقهم في الدنيا، وإدخالهم على وجوههم في النار؛ سببه الخطايا والذنوب، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن اليهود وصانعي الصهيونية العالمية، وأهل اللعنة الخالدة الأبدية، والذين نشروا الزنا والدعارة في العالم، قال عنهم: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13].
وقال عنهم في موطن آخر: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً} [النساء:160] حرم الله عليهم الطيبات، وجعلهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى يبوءُون باللعنات، وأغلق عليهم أبواب الرحمات، بسبب الذنوب والسيئات.
وقال الله عنهم في موطن ثالث: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة:66] فباءوا بغضب من الله على غضب.
ولما أفنى الله الأمم، ودمر الشعوب الملعونة البغيضة التي لم تعرف الله، ولا عرفت الطريق إلى الله؛ صنفهم في العذاب: فقوم هددهم بالطغيان، وقوم أبادهم بالريح، وقوم زلزلهم بالمحق، وقوم أغرقهم بالماء، وقال في آخر المسيرة المبكية المحزنة، مسيرة الدمار، والعار، والشنار: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].
تتوسل الملائكة إلى الله في السماء، أن يغفر للمؤمنين، وأن يقيهم السيئات والذنوب، يقول جلَّ ذكره عنهم: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:9].(51/2)
أعظم السيئات المنتشرة ترك الصلاة وحكم تركها
عباد الله: إن من أعظم السيئات التي انتشرت في أمتنا، والتي هي سبب لهزائمنا وفشلنا أمام العالم، وسبب لتكدير قلوبنا، وضياع أرواحنا، وهدم نفوسنا، وفساد أبنائنا، وخراب شعوبنا، وسوء معاملة حكامنا لمحكومينا، ومحكومينا لحكامنا: ترك الصلاة، وتضييعها، وإفساد أدائها، وعدم الاهتمام بها.
ومعنى ترك الصلاة عباد الله: الكفر البواح، والنفاق الصراح، والقطيعة بين العبد ومولاه، ومعناها: اللعنة وقطع الميثاق، وتردية هذا العبد في الشقاء، فلا يسعد بعدها أبداً.
ترك الصلاة -يا عباد الله- معناه: الخروج جملة وتفصيلاً عن الإسلام.
ومعناه: خلع ثوب الهداية، وإعلان الكفر البواح الصراح أمام العالم.
ومعناه المناداة على النفس بالنفاق، والوثنية، والشرك، والعناد، والزندقة.
ومعناه كتابة اللعنة على هذا التارك إلا أن يتوب ويعود إلى الله تبارك وتعالى.
كتب الله على تارك الصلاة اللعنة حتى يتوب، فهو ملعون في السماء، ملعون في الأرض، ملعون مع الماء والهواء، ملعون في الكتب، ملعون على ألسنة الرسل، ملعون على أيادي الملائكة البررة الكرام.
تارك الصلاة -يا عباد الله- مقترف لأكبر جريمة في تاريخ الإسلام، ولذلك لما وصف الله المشركين وتوبتهم، قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] أي: فإذا لم يقيموا الصلاة فلا تخلّوا سبيلهم.
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {أُمِرتُ أن أقاتل الناس} يعني: أمرت أن أسل السيف، وأقطع الأعناق، وأضرب الرءوس، وأندر الأكتاف عن المناكب: {أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله} ولا يكفيهم ولا يخلصهم ذلك، حتى - ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله}.
وقد جعل الله عزَّ وجلَّ تارك الصلاة خارجاً عن الإسلام وإن ادعاه، ولو تجلبب بجلبابه، وتقمص بقميص الهداية، ولو تتوج بتاج الرسالة، فإنه كاذب والله! ومُفْتَرٍ على الله.
أيُّ إسلام بلا صلاة؟!
أيُّ توحيد بلا صلاة؟!
أيُّ رسالة بلا صلاة؟!
يوم تركنا الصلاة ضعنا والله، وأصبحنا على موائد الشعوب، وأصبحنا في فشل، ومذلة، وخزي، وعار لا يعلمه إلا الله.
لما تركنا الصلاة دُخِلَت جيوشنا فسُحقت بقنابل اليهود، وضُربت مدننا بطائرات اليهود، ودمرت كياناتنا ومنتجاتنا بصواريخ اليهود، أرذلُ العالمِ خنازيرُ الدنيا قردة المعمورة ضربونا بالهراوات لما تركنا الصلاة، دخلنا المعركة بلا صلاة فانهزمنا ونحن ملايين مُمَلْيَنَة؛ لأننا ما دخلنا بالصلاة.
لما تركنا الصلاة؛ فسدت مؤسساتنا العلمية، وفسد مدرسونا، ومربونا، وفسد الذين يقولون: "أنهم ينقذون العالم".
يقول صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة كما في صحيح مسلم: {بين المسلم والكافر ترك الصلاة} فهي مرتبة واحدة إذا زل منها الإنسان فقد كفر، ووازِه بما شئت من كفرة الدنيا: بإبليس، أو فرعون، أو قارون، أو هامان، بـ ريغن، أو شامير، أو رابين، بكل لعين في الدنيا.
ويقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر}.(51/3)
صلاة الجماعة(51/4)
وجوب أداء الصلاة في المساجد والأدلة على ذلك
ولا يقبل الله الصلاة إلا في المساجد يا أمة المساجد! ولا تؤدى الصلاة إلا: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:36 - 37] {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:18] {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102].
فلا صلاة إلا في المسجد، يقول رسول الهداية، ومنقذ الإنسان، ومعلم البشرية، المحرر للإنسان من رق التبعية صلى الله عليه وسلم: {أثقل الصلاة على المنافقين: صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا، ومعي رجال معهم حزم من حطب، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً، أو مِرْماتَين حسنتين لشهد الصلاة معنا} وعند أحمد: {والذي نفسي بيده لولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقت عليهم بيوتهم بالنار} يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه البيهقي، وصححه عبد الحق الإشبيلي: {من سمع النداء للصلاة فلم يأت، فلا صلاة له إلا من عذر} وعند البيهقي عن علي: [[لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد]].
ويأتي أعمى إلى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، قيل: هو ابن أم مكتوم الأعمى الذي سماه الله في القرآن: أعمى كما في سورة عبس، لكنه والله ليس بأعمى، والذي لا يعرف هدايته، إن الأعمى الذي لا يعرف مستقبله، إن الأعمى الذي لا يتبع كتاب ربه، ويقطع الصلة بينه وبين الله لكن ابن أم مكتوم أعمى البصر، وليس أعمى البصيرة، أما أعمى البصيرة فهو الذي يقول الله فيه: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19] {أتى ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله! أنا أعمى، بعيد الدار، ليس لي قائد يلائمني، وبيني وبين المسجد وادٍ مسيل وظلمة، فهل تجد لي من رخصة؟ فأرخص له، ثم تذكر صلى الله عليه وسلم عهد الله وميثاقه وفريضته، فدعاه، فقال: هل تسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح، قال: نعم، قال: فأجب، فإني لا أجد لك رخصة} أي: من أين أرخص لك وهذه فريضة الله، والترخيص لا يصدر إلا من الله، أما أنا فلا أجد لك رخصة أبداً، ولذلك:
مَن خان (حيَّ على الصلاة) يَخون (حيَّ على الكفاحْ)
مَن خان (حيَّ على الصلاة) يَخون (حيَّ على الفلاحْ)
هاتوا مِن المليار مليوناً صِحاحاً مِن صحاحْ
لما خنّا حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، خنّا حيّ على الكفاح، وحيّ على الجهاد والتضحية.(51/5)
اهتمام السلف بصلاة الجماعة
وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لم يَعُدُّوا عملاً، ولم يُجْمِعوا على عمل أن تركه كفر إلا الصلاة.
قال شقيق بن عبد الله العقيلي: [[أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن من ترك الصلاة فقد كفر]] ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يشتاق للصلاة دائماً وأبداً في المسجد، تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: {كان صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله -في خدمة أهله- يقطع اللحم، ويخصف النعل، ويرقع الثوب فإذا سمع الله أكبر، قام إلى الصلاة كأننا لا نعرفه ولا يعرفنا}.
هذا معنى لا إله إلا الله، هذا معنى التوجه إلى الله، ليس الإسلام افتراءً ودجلاً وكذباً، ليس الإسلام نفاقاً وخنوعاً في البيوت والناس يصلون في المساجد، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: [[والله لقد رأيتُنا مع رسول صلى الله عليه وسلم وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتي بالرجل يهادى به بين الرجلين، حتى يقام في الصف]].
لذلك كان السلف الصالح رضي الله عن السلف، وسلام على السلف الصالح لا يفتئون إذا سمعوا: الله أكبر، إلا أن يقوموا مباشرة إلى المسجد.
يقول سعيد بن المسيب رحمه الله وهو في سكرات الموت، وبناته يبكين عليه، قال: [[لا تبكين عليَّ فوالله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الإمام أربعين سنة]] وقال الأعمش سليمان بن مهران؛ الزاهد العابد، العلامة النحرير، وهو في سكرات الموت، وابنه يبكي عليه، قال: [[يا بني لا تبكِِ عليَّ، فوالله ما فاتتني صلاة الجماعة ستين سنة]] وكان ثابت بن عبد الله بن الزبير كلما أصبح بعد الفجر يرفع يديه، ويقول: [[اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، فقال له أبناؤه: ما هي الميتة الحسنة يا أبتاه؟ فقال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد في الصلاة.
ومضى عمره، فلما حضرته سكرات الموت سمع التكبير لصلاة المغرب، فقال لأبنائه: احملوني إلى المسجد، فقالوا: يا سبحان الله! أنت في سكرات الموت والله عذَرك، قال: لا والله! لا أسمع حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح وأبقى في بيتي، فحملوه على أكتافهم، فلما صلى صلاة المغرب، وكان في السجدة الأخيرة توفاه الله في سجوده]] هذه هي الميتة الحسنة، هذا هو المصير المحمود، هذا هو المستقبل الرائع.(51/6)
الحض على صلاة الجماعة
يا شيوخ الإسلام! ويا شباب الإسلام! أي إيمان بالله لمن يصلي بالبيت ويسمع داعي الله وليس له عذر، وأي إسلام لمن يتخلف عن المساجد، إنه منافق معلوم النفاق، يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي: {من رأيتموه يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان} فإن الله يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:18] وهذا هو الرسول عليه الصلاة والسلام في لحظات حياته الأخيرة، وفي أنفاسه الأخيرة في سكرات الموت يلفظ الشهادة، ويقول: {الصلاة، الصلاة، وما ملكت أيمانكم}.
الله الله في الصلاة، الله الله في الصلاة.
وطُعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وأرضاه فأصبحت عيونه تهراق بالدموع، وهو لم يكمل الصلاة، فأعانه الله على إكمالها، فأخذ يقول: [[الله الله في الصلاة، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة]].
وقد قال بوجوب الصلاة في الجماعة جمهرةٌ مِن أهل العلم، منهم: عمر ومعاذ وعلي وعائشة وابن عباس والأوزاعي وأبو ثور والشافعي، وحقق ذلك ابن حزم في المحلى، واشترطها ابن تيمية شيخ الإسلام، قال: "هي شرط في صحة الصلاة" أي: الجماعة، فكأنها إذا صُلِّيت فُرادى لا تصح عند هذا الإمام العملاق، ولا تُقبل إلا من عذر.
فالله، الله، يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم في الصلاة جماعة، إن كنتم تريدون وجهَ الله، إن كنتم تريدون المستقبلَ الرائع الطيب، إن كنتم تريدون الثباتَ والخاتمةَ الحسنة، والرزقَ الحلال، والولدَ الصالح، والسعةَ في الرزق، والراحةَ في البال، واليقينَ، والاتصالَ بالحي القيوم، والأمنَ، والسكينةَ فالصلاة في الجماعة.
وإنه -والله- لا تعمر بيوتكم، ولا يصلح أبناؤكم، ولا يبارك الله في رزقكم، إلا إذا عبدتموه في المساجد خمس مرات، فمن صلى معنا خمس مرات شهدنا له بالله العظيم أنه مؤمن، ومن تخلف عنا بلا عذر شهدنا عليه أنه منافق: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] فنحن شهداء الله في أرضه، من شهد له المسلمون بخير فهو خيِّر، ومن شهدوا عليه بشر فهو شرير.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(51/7)
مكفرات الذنوب
الحمد لله، الحمد لله ولي الصالحين، رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وقدوة الناس أجمعين، وحجة الله على العالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماًَ كثيراً.
عباد الله: علمنا ما للذنوب من نكبات، وما لها من خلفيات، وما لها من نتائج، فما هو الحل من هذه الورطات؟ وما هو الحل للخروج من هذه النكبات؟ وما هو الدواء لهذا البلاء؟ وما هو البلسم لهذا الشقاء؟(51/8)
المكفرات العشر للذنوب والخطايا
إن الدواء من الذنوب والخطايا، والحل من السيئات والذنوب يكمن في عشرة أمور، من أدركه واحدٌ من هذه العشرة، أنجاه الله، ورحمه وغفر له، ومن لم يدركه واحد من هذه العشرة فقد خسر الدنيا والآخرة، وقد شرد على الله، وتفلت على حدود الله، كما يتفلت الجمل الشارد على أهله، وهذه العشرة، اسمها: الكفارات العشر، أو المكفرات العشر للذنوب والخطايا، فيجب على المسلم أن يعتني بها، وأن يبادر بها، وأن يحققها، وأن يحاول أن يتشبث بواحدة منها حتى ينقذه الله، وحتى يسلمه الله، وحتى يعافيه الله من البلاء، ومن الضنى، والضنك، والردى.
أول هذه العشر: التوبة:-
فإنها واجبة على عموم الناس، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8] {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:64].
فالتوبة يا عباد الله!
وثانيها: الاستغفار:
قال ابن تيمية شيخ الإسلام في المجلد العاشر من فتاويه وكرر ذلك في الحادي عشر، وفي رسالة رفع الملام عن الأئمة الإعلام: "قد ينفع الاستغفار بلا توبة" والله قد أمر بالاستغفار، فهو العامل الثاني، وهو مطهر من الذنوب.
فأوصيكم بكثرة الاستغفار، فإنه مكفر للخطايا والذنوب.
وثالثها: دعوات المؤمنين لك:-
والتي اكتسبتها بحسن خُلُقِك، وتعاملك معهم، فدعاؤهم لك بظهر الغيب، يكفر الله به عنك الذنوب والخطايا.
ورابعها: ما تجده في الحياة الدنيا من مصائب:
من زلازل، ومحن، وكوارث، فهذه المصائب يكفر الله بها من سيئاتك، كما تَحُتُّ الشجرةُ ورقَها، حتى تخرج نقياً من الذنوب، بشرط أن تكون قائماً بفرائض الله.
وخامسها: الحسنات التي تفعلها:
من الصدقات، والنوافل، وحسن الخلق، وصلة الرحم، وحسن التعامل مع الناس، من الأذكار، من أعمال البر جملةً وتفصيلاً قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114].
سادسها: ما تجده عند سكرات الموت، يوم يأتي الوعد الحق، يوم تأتي ساعة الصفر، يوم يأتي اليقين، يوم يتخلى عنك الأحباب، والأصحاب، والولد، والزوجة، والرحم والقريب، يوم لا يقف معك إلا الواحد الأحد: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] فما يأتيك من سكرات فهي من المكفرات بإذن الله.
سابعها: ما تجده في القبر من منكر ونكير:
من فتنة الفتان أعاذنا الله وإياكم من تلك الفتنة وثبتنا الله وإياكم يوم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27].
والقبر روضةٌ من الجنانِ أو حفرةٌ من حُفَر النيرانِ
إن يكُ خيراً فالذي مِن بعدِهِ أفضلُ عند ربنا لعبدِهِ
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
ثامنها: ما يجده المسلم من أهوال يوم القيامة:-
من المنظر الرهيب الرعيب البهيت، المدهش المذهل، من الصراط، ورؤية تطاير الصحف، ورؤية الشمس وقد دنت، والعرش وقد اقترب من الناس، وكثرة الخلائق، وكثرة الهلع والخوف والفزع، هذا كله مكفر للذنوب.
والمكفر التاسع: شفاعة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم:
لا أحرمنا الله وإياكم شفاعته، ونسأل الله أن يدخلنا في شفاعته:
واستشفعَ الناسُ بأهل العزم في إراحة العباد من ذا الموقف
وليس فيهم من رسول نالها حتى يقول المصطفى أنا لها
فهذا مكفر تاسع: يدخل فيه أهل الكبائر، مَن شاء الله أن يرحمه من أهل الكبائر أدخله في شفاعة سيد الخلق، ومَن شاء أن يعذبه منهم كبَّه الله على وجهه في النار، لكن لا يُخلَّد في النار إذا كان موحداً.
والعاشر: رحمة أرحم الراحمين:
يوم تنتهي التسعة الأسباب، وتتقطع الجبال، وتُوصَد الأبواب، وتنتهي هذه التسعة، يبقى السبب العاشر، تأتي رحمة أرحم الراحمين.
فنسأل الله أن يرحمنا وإياكم برحمته، وأن يتولانا بولايته، فمن فاتته هذه العشر فلا يلومَنَّ إلا نفسه، ولا يبكي إلا على حظه ونصيبه، ولا يندم إلا على كسبه، ولا يعود باللائمة إلا على ذاته، فهو الذي أساء كل الإساءة، وفرط كل التفريط، وضيع كل الإضاعة.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، اللهم اعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة.
يا رب العالمين، اللهم اجزه خير الجزاء، جزاء ما قدم للبشرية، وما أهدى للإنسانية، وما دفع به في نحر الوثنية.
اللهم ارفع مقامه، واكتب له الوسيلة، وارفع درجته عندك يا رب العالمين.
وارضَ اللهم عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تَبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنِّك وكرمك، يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور، واهدهم سبل السلام، وأيدهم بتأييد منك، يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك، برحمتك يا أرحم الرحمين.
اللهم من أراد للإسلام عزاً ونصرةً وتمكيناً فمكنه في الأرض يا رب العالمين، وأصلح باله، واشرح حاله، ووفقه لكل خير، وأيده بتأييد منك، يا رب العالمين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين والصالحين بشرٍ فاشغله بنفسه، واجعله كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(51/9)
حق المسلم على المسلم
استشرى الاختلاف في الأمة الإسلامية بين الدعاة، وتوسعت الفجوة، ولكي تنتهي هذه الفرقة وهذه الاختلافات لابد من العودة إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى غرس الإخاء والمودة بين المسلمين، ومعرفة حقوق المسلمين على بعضهم البعض.
وفي هذه المادة ذكر لهذه الحقوق العظيمة التي لابد من وضعها في الاعتبار.(52/1)
عظم حق المسلم
الحمد لله العلي الغفار، الواحد القهار، مكور النهار على الليل، والليل على النهار، أحمده وأشكره وأستغفره، وأنيب إليه وأتوب إليه من جميع الأوزار، وأشهد أن لا إله إلا هو شهادة تبلغني وإياكم تلك الدار، دار النعيم التي أعدت للأبرار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خيرة البشر، صلى الله عليه وسلم ما تألقت عين لنظر، وما اتصلت أذن بخبر، وما هتف طير على شجر، وما انهمل مطر، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بَعْد:
أيها الناس! إن من أعظم مقاصد الرسول عليه الصلاة والسلام، بل إن من أجل أهداف الإسلام أن يؤلف بين قلوبنا، وأن يوحد بين صفوفنا، وأن يرأب الصدع بيننا، فإذا لم يتم ذلك؛ فلنعلم جميعاً أننا تلبسنا بالإسلام، وما اهتدينا إلى طريقه، وما تشرفنا بحمله، يقول الله تعالى ممتناً على الأمة العربية التي كانت ضائعة ضالة متفرقة، متحاسدة متحاقدة متقاطعة: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
فسبحان من ألف هذه القلوب ووحد بينها، ورأب صدعها؛ فاستقلت بحمل الرسالة إلى البشرية والله يأمرنا بالاعتصام، وينهانا عن الفرقة وموجباتها من بغضاءٍ وحسد وغيبة، ومن هتك الأعراض، ومن تشريح وتجريح، يقول الله سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103].(52/2)
اقتران الإيمان بالمحبة بين المؤمنين
اعلم أيها المسلم أنك لن تنال رضوان الله ولا عفوه ولا رحمته حتى تود لأخيك المسلم ما توده لنفسك، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ قال: أفشوا السلام بينكم}.
وإفشاء السلام معناه: بسمة الوجه وإطلاقه وبشاشته، وحرارة العناق ويوم أن توجد البغضاء بين الأسر والمجتمعات وطلبة العلم، يحل الغضب والمحق واللعنة والعياذ بالله، يقول عليه الصلاة والسلام: {إياكم وفساد ذات البين، فإن فساد ذات البين الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين}.(52/3)
سلامة الصدر
إذا أردت أن تنام وطرحت نفسك على الفراش، وأوكلت نفسك باريها، فتذكر هل تضمر للمسلمين غشاً، هل تحمل لهم حقداً أو ضغينة، إن كنت تحمل ذلك فصحح إيمانك، وجدد إسلامك، فإن في قلبك غشاً وحقداً على عباد الله.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه في المسجد وهو مع الشبيبة الطاهرة التي حملت لا إله إلا الله إلى البشرية، فبينما هو يحدثهم قطع الحديث فجأة، وقال: {يدخل عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنة}.
إذا بهذا الرجل تتقاطر لحيته بماء الطهور والوضوء البارد الذي يشبه برد قلبه ويقينه، وحذاؤه في يده اليسرى، فيدخل ويصلي ركعتين ويجلس، وفي اليوم الثاني يعيد صلى الله عليه وسلم هذا الكلام ويدخل هذا الرجل، وفي اليوم الثالث يكرر الكلام ويدخل ذاك الرجل عجيب بم دخل الجنة؟! أبصيام وصلاة؟! أبكثرة قراءة ومحاضرات؟! أبصدقة وبذل وعطاء؟!
لا.
الأمر أعظم من ذلك، إن من الناس من يدعو ولكنه حقود، ومن الناس من يتصدق ولكنه حسود، ومن الناس من يبذل ويضحي ولكنه يبغض عباد الله، ويرصد لهم.
ولما سمع عبد الله بن عمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، حرص على معرفة سر ذلك، فلازم هذا الرجل، وأمسى عنده ثلاث ليال، انتظر ليقوم يصلي الليل فلم يقم ليصلي الليل، نظر للصدقة فليس هناك صدقة كثيرة، نظر إلى صلاته في النهار فوجده يصلي الفرائض فحسب، فودعه وقال: يا أيها الرجل! ما أمسيت عندك ثلاثاً؛ إلا لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبرنا أنك من أهل الجنة ثلاث مرات، فأسألك بالله ما هو عملك الذي بلغك دخول الجنة؟ فما رأيت عندك قيام ليل ولا كثرة صلاة ولا صدقة! قال: أما وقد سألتني فوالله الذي لا إله إلا هو إنني لا أبيت وفي قلبي لأحد من المسلمين غش ولا حسد كائناً من كان، لا أجد على المسلمين غلاً ولا حقداً ما أبرد قلبه!
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
اليهودية والنصرانية، والصهيونية العالمية، والشيوعية وأهل الحداثة، وأهل الفجور يختلفون، لكنهم في حرب المسلمين يتفقون، أما أهل الإسلام فمتفرقون على أساليب وأطروحات وحقد دفين، وغيبة في الأعراض.(52/4)
حرمة المسلم
جاء في الأثر أن الرسول صلى الله عليه وسلم نظر إلى بيت الله الذي بناه إبراهيم، ثم قال: {ما أعظمك! وما أجلك! والذي نفسي بيده للمسلم أعظم حرمة عند الله منك}.
ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام لنا ولكم، ولمن سلك طريق الإسلام: {المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه}.
يا أيها الذي جلس في المجلس ليغتاب عباد الله المؤمنين! يا أيها الذي انتهك حرمات العابدين المتوجهين! أما تعرف أنك تحارب الدين الإسلامي؟! أما تعرف أنك تقوم بحرب شعواء ضد الرسالة الخالدة؟! اتق الله في نفسك اتق الله في مصيرك وتذكر أننا أمة واحدة، يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] فأكبر صفات المؤمنين أنهم إخوة
إن كيد مُطَّرف الإخاء فإننا نسري ونغدو في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمامٍ واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
إن الذين يسعون إلى الفرقة بدعوتهم وأساليبهم وحقدهم، إنهم يحاربون الرسالة الخالدة التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم عجيب كيف يتحد الباطل صفاً في حربنا، ونحن شيع وأحزاب ومجالس وأساليب لا نتحد ولا نتفق ولا نتآخى؟! إنها قاصمة الظهر!!
حتى الجهاد الأفغاني، جهاد المجاهدين الأفغان وهم على الجبهات يلتحفون السماء ويفترشون الغبراء، لا يجدون كسرة الخبز، سلَّموا لله دماءهم وأموالهم وأطفالهم وهدمت بيوتهم وقعقعت مساجدهم، ودكدكت مآويهم، ثم يدخل فيهم من يفرق الكلمة، وينظر أنه هو المصيب وأن غيره المخطئ فلسطين يقوم الأطفال والنساء بالحجارة الصغيرة يدافعون بها الدبابات والطائرات والقنابل، ومع ذلك يجلس بعض الناس على الكنبات والمأكولات والمشروبات والفلل والسيارات، ولا هم له إلا أن يغتاب عباد الله: أقول لهؤلاء:
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
إن كنتم لا تستطيعون أن تخدموا الرسالة الخالدة، وأن تدفعوا العدو المارد، فنسألكم بالله أن تكفوا ألسنتكم عن عباد الله.
البغضاء -يا عباد الله- شتتت الأسر في مجتمعاتنا، فقد وجد أن من الأرحام من يحقد على رحمه، ومن يتعرض له، ويكيد له المكائد، ولذلك قست القلوب، وجفت العيون، وانقطعت البركة في الأرزاق بذنوبنا وخطايانا {والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم}(52/5)
معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عمر حين استأذنه للعمرة -كما عند الترمذي - يقول عليه الصلاة والسلام وهو يعانقه ويودعه: {لا تنسنا من دعائك يا أُخي.
قال عمر: كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها} وجد من الناس ممن نصب نفسه داعية أو منظراً أو مفيداً من له مواصفات مع الناس؛ يبتسم لهذا ولا يبتسم لذاك، ويهش لهذا ولا يهش لذاك، وليعلم الذي يخسر الناس أنه إنما خسر نفسه؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {تبسمك في وجه أخيك صدقة} ويقول: {ولو أن تلق أخاك بوجه طلِق أو طلْق أو طليق} ويقول جرير رضي الله عنه: {والله ما رآني صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي}.
فيا عباد الله! الله الله في حقوق المسلمين الله الله في أعراض المسلمين الله الله في دماء المسلمين إن الله سوف يسألكم يوم العرض الأكبر {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].(52/6)
من حقوق المسلم
واعلموا أن للمسلم على المسلم حقوقاً كثيرة، نذكر بعضها.(52/7)
نصيحته إذا استنصحك
فمن حقوق المسلم: أن تنصح له فإذا أتاك في قضية، أو شاورك في أمر؛ فأخرج الغل والغش من نفسك، واجعله مكانك، وأحب له ما تحب لنفسك، ودله على ما ترى أنه الصواب؛ لأن من الناس من هو خائن، فإذا استنصحه أخوه أودى به في داهية؛ لأنه يريد به النكاية والنكال في الدنيا والآخرة.(52/8)
تشميته وإجابة دعوته
ومن حقوق المسلم: أن إذا عطس فحمد الله فشمته وهي سهلة عندنا في المنظور، لكنها كبيرة في الواقع.
ومن حقوق المسلم: أن إذا دعاك فأجبه، إلا أن ترى أمراً منكراً، ودعوة المسلم ليست بالسهلة، وبعض الناس لا يجيب إلا طائفة من الناس لكبر نفسه فلا يجيب إلا طائفة الأغنياء والمترفين والسادة، أما المساكين والفقراء والمحرومون فيجد خجلاً أن يذهب إلى بيوتهم، سبحان الله! أأنت أكرم أم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم؟! يقول صلى الله عليه وسلم: {لو أهدي إلي كراع لقبلت ولو دعيت إلى كراع لأجبت}.
تدعوه العجوز على كسرة خبز، فيذهب فيجلس على حصير ويأكل معها، وهو أشرف من طرق الإنسانية وهدى البشرية، ودكدك كيان الوثنية.
توقفه امرأة مسنة في حرارة الشمس فيقف معها حتى تنصرف هي، وتأتي الجارية فتأخذ بيده فيذهب معها فتريه حدثاً في السوق، ولعلها عناق ماتت، وهو حدث سهل لكنه حدث كبير عند الطفلة، فيبتسم معها ويعيش مشاعرها، ويموت طائر لأحد أطفال المدينة، فيذهب يواسيه في البيت سبحان الله! يقول الله له: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فإذا دعاك المسلم فأجبه؛ لأنك تجبر الكسر الذي في قلبه، فما أحسن أن يراك أجبت دعوته، وأكرمته بالحضور، وأريته نفسك في بيته!(52/9)
إلقاء السلام عليه
ومن حقوق المسلم على المسلم: أن إذا لقيته فسلم عليه ومعنى السلام أن تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإذا قلت له ذلك فكأنك أعطيته عهداً ألا تحاربه، وألا تحمل الضغينة عليه، وألا ترصد له المراصد ومن الناس من لا يسلم إلا على المعرفة، وهذا من علامات الساعة، ونمر بالأسواق وعلى مجامع الناس وبقالاتهم ودكاكينهم فلا نسلم إلا على من نعرف، وهذا نقص في مفهوم الإسلام، يقول عليه الصلاة والسلام لما سئل: {أي الإسلام خير؟ قال: أن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف} ويوم أن نسلم على بعضنا يزيل الله الضغينة من القلوب ويخرج الأضغان.(52/10)
عيادة المريض واتباع الميت
ومن حقوق المسلم: أن إذا مرض فعده، وفي الحديث: {من عاد مريضاً مسلماً شيع بسبعين ألف ملك} وجاء عند الإمام مسلم: {من عاد مسلماً كان في خرفة الجنة حتى يعود إلى بيته} سبحان الله! يمرض أخوك المسلم ثم لاتعوده!
وقد أصبحت عيادة المرضى على أوسمة الدنيا ومقامات الدنيا، وبعض الناس لا يعاد إلا رياءً وسمعة، فلا يكتب الله الأجر لمن عاده ويمرض الفقير بجانبك فلا تعوده، ويمرض طفل جارك فلا تنظر إليه ولا تسأل عنه، لكن إذا مرض سيد من سادات الدنيا، فتذهب وتعتذر وتخدمه من أجل الدنيا، سبحان الله! إن ما عند الله خير.
ومن حقوق المسلم: إذا مات أن تتبع جنازته فإن المسلم محتاج إلى أخيه المسلم في الحياة الدنيا بعد الموت؛ محتاج إلى دعائه، وما أحسن أن تقف على جنازته فتدعو له {ما دعا أربعون مسلماً لا يشركون بالله شيئاً لمسلم إلا شفعهم الله فيه} فإذا وقفت على جنازته فأخلص الدعاء له.
يقول عقبة بن عامر: {كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فاقتربت منه حتى مست ثيابي ثيابه، ثم سمعته يدعو للجنازة -انظر إلى الدعاء الحار الصادق، انظر إلى الدعاء الذي ينبعث من القلب، في أعظم مصرع يصرعه الإنسان، وهل تُعَلَمُ كارثة في الحياة أكبر من أن يلف المرء في الأكفان، ويطرح أمام الناس ميتاً؟! - قال: فسمعته يقول: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم أبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراًَ من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، قال عقبة: فوددت والله أني أنا الميت}.
قال ابن مسعود: {أتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي البجادين، فأنزله قبره، فلما وضع التراب تحت رأسه قال: اللهم إني أمسيت عنه راض فارض عنه}.(52/11)
من حق المسلم العفو عنه
ومن حقوق المسلم: أن تعفو عنه، خاصة إذا طرح أمامك في صلاة الجنازة، فكل ما أخذ من حقك، تقول: عفا الله عنه، سامحه الله، انتهك عرضك أو سبك أو شتمك في الحياة، فتعفو عنه؛ لتلقى الله وأنت مرحومٌ، فإنه من يرحم الناس يرحمه الله عز وجل.
أيها المسلمون! أنتم أبناء دين واحد، كتابكم واحد؛ ورسالتكم واحدة، فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم التآخي والتآلف والمودة والصلة والكلمة اللينة، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(52/12)
الغيبة من أمراض المجتمعات
الحمد لله المعروف بالإحسان المحمود بكل لسان {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:1 - 6] والصلاة والسلام على رسول الإسلام، هادي الأنام، أفضل من صلى وصام وطاف بالبيت الحرام، مدكدك دولة الأصنام، صلىالله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المسلمون: لقد انتشر في أوساطنا وفي بيوتنا ومجتمعاتنا مرض الغيبة، والمشتتة للقلوب وهي المفرقة للكلمة، ولا يغتاب إلا أحد رجلين:
رجل نسي الله، ونسي موعوده ولقاءه، فهذا همه أن يتفكه في أعراض المسلمين، وأن يأكل لحوم المسلمين، قال الله: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12].
ورجل آخر ركبه الهوى، وأراد أن يتشفى في الأعراض، وأن ينتقم لنفسه، فشغل نهاره وليله باغتياب عباد الله عز وجل قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: {ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره قيل له: أرأيت إ ن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته}.(52/13)
مواقف للسلف من الغيبة
أتى رجل إلى الحسن البصري رحمه الله فقال: يا أبا سعيد، فلان بن فلان اغتابك صباح هذا اليوم، سبك وشتمك في المجلس، فقال انتظر قليلاً، فذهب فأتى بطبق فوضع فيه رطباً، ثم قال له: اذهب إليه وسلم عليه، وقل له: أهدى لنا حسناته وأهدينا له رطباً، والحسنات أغلى من الرطب.
وأتى رجل إلى جعفر الصادق، فسب رجلاً من المسلمين في مجلسه، فقال له جعفر الصادق -وهو من العلماء الكبار في الأمة: أقاتلت الروم؟! أقاتلت فارس؟! قال: لا.
فقال: يسلم منك الروم وفارس ولا يسلم منك المسلمون!!(52/14)
موعظة لمحمد بن واسع
أتى رجل إلى محمد بن واسع، فأخذ ينتقد عباد الله ويغتابهم، فقال محمد بن واسع: أما ذكرت إذا لففت في الأكفان؟ أما ذكرت إذا وضعت على الخشب وغسلت بالماء بعد الموت؟ أما ذكرت إذا وضع القطن على عينيك وفي فمك؟ قال: نعم ذكرت قال: اتق الله في أعراض المسلمين.
عرض المسلم أمره عظيم، يوم أن يجلس المسلم فينسى الله وموعوده ويتحدث عن أعراض المسلمين بالهوى، ويسب ويشتم استجابة للهوى، ولقد عرفنا وعلمنا واستقرأنا، وعرفتم وعلمتم واستقرأتم، أن من الناس من يسب غيره وهو يعلم أنه أتقى لله منه وأزهد منه، لكنه يعتدي عليه لأسباب دنيوية، إما لأنه ما وافقه في مشربه وهواه وطريقته وأسلوبه، أو لأنه خالفه في قضية، أو لأنه اعتلى عليه في بعض الأمور النفعية الكسبية في الدنيا.
فيا أيها المسلمون: الله الله في حفظ اللسان
لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايباً لقوم فقل: ياعين للناس أعين(52/15)
الدفاع عن المسلم وستر عورته
ومن سنن الله في الكون أن من حفظ أعراض المسلمين حفظ الله عرضه، وأن من جرح المسلمين فضحه الله على رءوس الأشهاد، وفي الحديث: {يا أيها الناس! لا تتبعوا عورات المسلمين؛ فإن من تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في عقر داره}.
ومن سنن الله أنه يدافع عن المؤمنين، فاجعل الدفاع بيده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يدافع عنك قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38].
كان السلف الصالح تسود المودة بينهم فمن منا اليوم يدعو لإخوانه في السحر ويسميهم بأسمائهم؟! يقول أبو الدرداء وهو يؤسس مدرسة الحب والإخاء: [[والله إني لأدعو في السحر لسبعين من إخواني بأسمائهم]] ويقول الإمام أحمد يوم رأى ابن الشافعي: أبوك من الذين أدعو الله لهم في السحر بأسمائهم ولذلك يقول الإمام الشافعي لما عوتب في زيارة الإمام أحمد، والشافعي أكبر سناً:
قالوا يزورك أحمد وتزوره قلت الفضائل لا تغادر منزله
إن زارني فلفضله أو زرته فلفضله فالفضل في الحالين له
ويكتب الإمام الشافعي يكتب للإمام أحمد ويقول له:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة
فالله الله في الدعاء للمسلمين والله الله في حفظ عوراتهم والله الله في العفو عن زلاتهم وخطاياهم، فإن الخلاف في الفرعيات لا يوجب الفرقة ولا التنازع، والذين قالوا: الاختلاف سنة ولابد منه هم مخطئون، والحديث الذي يقول: (اختلاف أمتي رحمة) لا يصح، وابن تيمية يقول: الاختلاف رحمة واسعة، والإجماع حجة قاطعة وقال العلماء: الاختلاف في فرعيات العبادة التي تورث سعة للأمة، أما الاختلاف الذي يوجب الضغينة والحقد والبغضاء فإنه حرام، فإن ذلك يجعل الكافر والمستعمر واليهودي والنصراني يعتلي ظهورنا.
فليتنبه دعاة الإسلام، وليتنبه علماء الإسلام، وليتنبه كل مسلم على وجه الأرض.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].(52/16)
ذئب يتكلم
أرأيتم الذئب؟ إنه حيوان أبكم لا يتكلم، لكن الله الذي أنطق كل شيء أنطقه.
أرايتم إلى جذع النخلة؟ إنه جامد لا حياة فيه، لكنه حن حنين الناقة، وبكى على فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أرأيتم طفلاً في المهد؟ أنى له أن يتكلم وهو لا يعقل شيئاً، ولكن الله الذي أنطق جذع النخلة أنطق ثلاثة أطفال وهم في المهد.(53/1)
الذئب يبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه الله - عز وجل - على فترة من الرسل فبصر به من العمى، وأسمع به من الصمم، أتى إلى أمة ضالة فهداها، وإلى أمة غافلة فوعاها، وإلى أمة عمياء فبصرها، وإلى أمة صماء فأسمعها - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً-.
أمَّا بَعْد:
فلنستمع إلى المنقذ العظيم، وإلى الرسول الكريم , وإلى المعلم النبيل، وإلى الهادي الجليل في كلماته المعطاءة النيرة، وفي حديثه العذب، عليه أفضل الصلاة والسلام.
في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة} يعني في الطفولة والصبا ما تكلم إلا ثلاثة أطفال، ثلاثة يرضعون اللبن من ثدي أمهاتهم، تكلموا وأنطقهم الله الذي أنطق كل شيء، والذي ينطق الحجارة فتتكلم، والجلود ينطقها يوم القيامة فتتحدث، والأعضاء يستشهدها يوم العرض الأكبر فتشهد، ويختم على الأفواه التي كانت تتكلم، فلا تتكلم.
أرأيتم إلى الذئب، الذئب حيوان أبكم لا يتكلم، لكن أنطقه الله الذي أنطق كل شيء، ففي الصحيح {أن رجلاً ذهب يرعى غنماً في ضاحية من ضواحي المدينة المنورة -في عهد المصطفى عليه الصلاة والسلام- فأتى الذئب فأخذ شاة، فطارده الرجل حتى أمسك الشاة وانتزعها من الذئب، فجلس الذئب على أرجله يقول للرجل: أتأخذ رزقاً رزقنيه الله، كيف بك إذا أخذت الشاة ولا راعي لها إلا الذئب، قال الرجل -وقد ذهل-: يا عجباً ذئب يكلمني! قال: نعم، وأعجب من ذاك رسول بين النخل -يقصد الرسول عليه الصلاة والسلام- يخبركم بما سبق وبما أتى هو أعجب من هذا، فترك الرجل غنمه، وأتى بعصاه إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام، وقال: يا رسول الله، وقع لي هذا اليوم كذا وكذا، فتبسم عليه الصلاة والسلام، وجمع الناس وأخبرهم، ثم قال: آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر}.
فالرسول عليه الصلاة والسلام هنا يخبرنا أن الله أنطق ثلاثة في المهد، والله ينطق الخشب وهو جامد، ففي الصحيحين عن جابر قال: {خطب صلى الله عليه وسلم على جذع نخلة، ثم ترك الجذع واتخذ منبراً، فبكى ذاك الجذع وحن كما تحن النوق، وله بكاء كبكاء الأطفال، فنزل عليه الصلاة والسلام إلى ذاك الجذع فدهدهه بيده حتى سكت}.
فمن أنطقه؟! إنه الله الذي أنطق كل شيء.
انظر إلى النملة حشرة لا تكاد ترى، مر سليمان عليه السلام بجيشه فتكلمت في النمل وقالت: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18].(53/2)
ثلاثة تكلموا في المهد
أ- عيسى عليه السلام:
هو الذي أنطق كل شيء، فيقول عليه الصلاة والسلام: {لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة} قبل أن يتكلموا وقبل أن يفصحوا، من هم؟ -قال: عيسى عليه السلام أتت به أمه مريم، وليس له أب عليه السلام، والله خلق الخلق على أصناف ثلاثة: خلق بلا أب ولا أم كآدم عليه السلام، وخلق بأم ولا أب كعيسى عليه السلام، وبقية الخلق من أم وأب، فأتت به من النخل تحمله قال بنو إسرائيل: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28] فلم تتكلم وأشارت إليه، فتضاحكوا، وقالوا: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} [مريم:29] فتكلم بإذن الله، مع أنه لم يمض عليه إلا ساعات، وقيل: ثلاثة أيام، فتكلم بلسان فصيح نصيح مليح، وقال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} * {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} * {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} [مريم:30 - 32] فانذهلوا.
هذا أولهم.
ب- قصة جريج:-
وثانيهم الطفل في قصة جريج، كان جريج عابداً من عبّاد بني إسرائيل، في صيام وصلاة، في ذكر ودعاء، في صدقة وبذل، فقام يصلي، فلما كبر واستقبل قلبته، أتت أمه قالت: يا جريج فقال في الصلاة: يا رب أمي وصلاتي، يا رب أمي وصلاتي، يا رب أمي وصلاتي؟! أي: يا رب! هل أقطع الصلاة وأجيب أمي؟ أم أستمر في صلاتي؟ انظر إلى بر الوالدين.
الآن والداك لا يطالبانك بأن تقطع الصلاة وإنما يدعوانك إلى طلب خفيف، فتجد ممن يعق الوالدين، ويلعن الوالدين، ويقطع الوالدين، ويهجر الوالدين، وهما يقدمان له كل شيء!
وجد في مجتمعنا من الآباء من فعل بابنه العجب العجاب، بنى له بيتاً، وزوَّجه، وملَّكه سيارة، وأعطاه من المال، ثم تجد هذا الابن من أفجر الناس، قلبه من قلوب اليهود والنصارى، فلا يطيع أباه، بل يتنقصه في المجالس، ويستهزئ به، فهذا أفجر من أفجر فاجر في الدنيا.
فهذا الرجل العابد تحير في الصلاة لكن رأى أن طاعة الله مقدمة على ذلك، هو ما عصاها لكن ما أجابها، فغضبت عليه -وكانت عابدة- وقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات -أي لا تحكم عليه بالموت والإعدام حتى يرى وجوه الزانيات- وكان عابداً، والله يحفظ العبّاد.
أرأيتم إنساناً يحافظ على الصلوات الخمس ويشرب الخمر؟ لا.
هل رأيتم إنساناً والمصحف في يده يعتدي على المحرمات، أو يزني ويسرق؟ لا.
احفظ الله يحفظك: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21].
إنسان يحافظ على صلاة الفجر جماعة كل يوم لن يتردى في الكبائر أبداً، وهذا معروف بالاستقراء، أكثر من يدخل السجون الآن بالمخدرات الذين لا يصلون في المساجد.
لماذا؟، لأن الذي لا يعرف طريق المسجد يعرفه الله طريق السجن، والذي لا يعرف القرآن يعرفه السوط، والذي لا يعرف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم يذيقه الله السيف.
فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات -تعني: الزانيات- فمكث فتحدث بنو إسرائيل بعبادته، وصيامه، وصلاته، فقالت امرأة فاجرة -نعوذ بالله من الفجور- والفجور انتشر في بني إسرائيل كما قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] تركوا الحجاب ثم اختلطوا، فوقعوا في الزنا فلعنهم الله ومسخهم قردةً وخنازير.
ولذلك لا يوجد أحد أطهر من موسى إلا من أمثاله من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، أتى قارون إلى امرأةً زانيةً فأعطاها قنطاراً من ذهب، وقال: إذا اجتمعنا نحن والناس وقام موسى يدعونا إلى الله، فقومي وابكي وسط الناس -هذه الإشاعة الباطلة المفتراة ضد الدعاة- قالت: ماذا أقول؟ قال: قولي: إنه صنع بك الفاحشة -سبحان الله! موسى عليه السلام- فلما اجتمع بنوا إسرائيل ومعهم قارون والأغنياء والأمراء والناس؛ قامت تبكي وتضرب وجهها وتنفث شعرها، قالوا: مالك؟ فادعت أن موسى زنا بها، فقام موسى بالعصا، وقال: يا أمَةَ الله أسألك بمن شق البحر لي، وأنزل علي التوراة هل أنا فعلت ذلك؟ قالت: لا والله، قال: اللهم خذ قارون، فخسف به وبداره، فأخذ قارون وداره فزلزل في الأرض يصيح: يا موسى! يا موسى! يا موسى! حتى اختفى صوته وماله وجسمه وداره في الأرض، وفي بعض الروايات الإسرائيلية يقول الله: "يا موسى لماذا لم ترحمه؟ لقد كدت أن أرحمه، سُبحَانَهُ وَتَعَالَى! " أو كما قال الله عز وجل، وهذه من الإسرائيليات.
المقصود: أن هذه المرأة ذهبت إلى جريج، فذهبت إلى بني إسرائيل، فقالت: زنا بها جريج، فأتوا إلى جريج وكان عابداً في صومعةٍ فأنزلوه وضربوه، وهدموا صومعته، فقال: مالكم؟! قالوا: زنيت بتلك المرأة، فأتوا وإذا هي حامل، وقد وضعت وطفلها معها يرضع، قال: يا أيها الطفل! أسألك بالله رب العالمين من أبوك؟ قال: أبي الراعي -راعي غنم كان يدور حول الصومعة زنى بهذه المرأة فكان ابنه هذا الولد- فرجعوا فقالوا: نبني صومعتك من ذهب، قال: أعيدوها من طين، فأعادوها من طين.
جـ- الطفل الرضيع:-
والطفل الثالث: طفل كان مع أمه يرضع ثديها، فمر بها رجل جميل عليه ثياب حسنة على فرس، فقالت: يا رب أسألك أن تجعل ابني مثل هذا الرجل الفارس، فترك الطفل الثدي، وقال: اللهم لا تجعلني مثل هذا الرجل، فانذهلت فقالت: يا عجباً ابني يتكلم! وبعد قليل مروا بجارية يضربونها ويشتمونها، فقالت المرأة: اللهم لا تجعل ابني كهذه الأمة، فترك الثدي ورفع طرفه إلى السماء، وقال: اللهم اجعلني كهذه الجارية، فانذهلت، فسألت ابنها: مالك؟! قال: أما الرجل الأول، فإنه رجل فاجر ملعون في السماء، وفي الأرض، وأما هذه الأمة الجارية؛ فمظلومة، يقول لها أهلها: زنت وسرقت، وما زنت ولا سرقت، وفي بعض الروايات: وهي من أهل الجنة.
وشاهد هذه القصة الاعتماد على العمل، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {احتجت الجنة والنار، فقالت النار: مالي لا يدخلني إلا المتكبرون والمتجبرون؟ وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا الضعفاء والمساكين، فأوحى الله إليهما فقال للنار: أما أنت فعذابي أعذب بك من أشاء، وقال للجنة: أما أنت فرحمتي أرحم بك من أشاء} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
والشاهد من هذه القصص: أن الاعتماد لا يكون إلا على العمل، فزكوا أعمالكم، وانظروا إلى قلوبكم، وأصلحوا أرواحكم، فو الله لا يجدي إلا ما أسلفته من عمل، وما قدمته من تقوى، وما أعددته بين يديك من صلاح.
أسأل الله أن يصلحني وإياكم، ظاهراً وباطناً، سراً وعلناً، وأن يجعلنا من المتقين المهتدين، الذين يسلك بهم الصراط المستقيم، وهداهم إلى البر العميم والأجر العظيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(53/3)
التواضع سبب الرفعة عند الله
اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، لك الحمد عدد الكائنات، وملء الأرض والسماوات، ينطق بها البريات، وتحصيها سبحانك كما تحصي الحسنات والسيئات، اللهم صلِّ وسلم على النعمة المهداة، والمنة المسداة، على من بعثته رحمة للعالمين، وقدوة للسالكين، وإماماً للمتقين، وخاتماً للمرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
يأمر الله تعالى رسوله في هذه الآية بأن يتواضع مع المتواضعين، وأن يجلس مع الفقراء والمساكين، وألا يقوِّم الناس بأموالهم ولا بما عندهم، وإنما يقومهم بأعمالهم وصلاحهم.
مر البراء بن مالك على رسول الله صلى الله عليه وسلم والبراء بن مالك كان رجلاً فقيراً زاهداً من الصحابة، لا يملك من الدنيا إلا بيتاً من طين، وأسمالاً بالية من ثياب، وسيفه المثلم الذي يقاتل به أعداء الله، فقال عليه الصلاة والسلام -وهو ينظر إليه-: {رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره} رب أشعث: معناه متغير الشعر متفلفله، ومعنى أغبر: متغير اللون -ذي طمرين: أي: ثوبين باليين- لو أقسم على الله: أي لو حلف على كرمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لأعطاه من بره وصلاحه.
حضر المسلمون معركة تستر، فقالوا: يا براء بن مالك! قم فقد وعَدَكَ الله خيراً، أقسم على الله أن ينصرنا هذا اليوم، قال: انتظروني قليلاً، فذهب واغتسل ولبس أكفانه وتحنط وأتى، ثم وقف أمام الجيش وقال: اللهم إني أقسم عليك هذا اليوم أن تجعلني أول قتيل في سبيلك وأن تنصر المسلمين، فبدأت المعركة فكان أول من قتل، وكان النصر حليف المسلمين، وهذا لأنه أخلص لوجه الله تبارك وتعالى ولأن الله لا ينظر إلى الصور ولا إلى ما على الإنسان من دنيا، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(53/4)
أويس القرني وبر الوالدين
وفي المسند يقول عليه الصلاة والسلام للصحابة: {سوف يأتيكم وفد من أهل اليمن فيهم رجل صالح له أم هو بها بار، علامته أنه أبرصاً؛ فشافاه الله فبقي في بطنه كالدرهم من البرص اسمه أويس بن عامر القرني، فإذا قدم فمن أدركه منكم فليسأله أن يدعو له, ويستغفر له} فكان أبو بكر كلما قدم وفد من وفود الحجاج من أهل اليمن يسألهم: أفيكم أويس القرني؟ فيقولون: لا.
حتى مات أبو بكر، فلما تولى عمر أخذ يسأل وفود اليمن: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتت حجة، فأتى وفد اليمن يسلمون على عمر رضي الله عنه وأرضاه، فقال: أفيكم أويس بن عامر؟ قالوا: من هذا أويس بن عامر؟ فأخبرهم بوصفه.
قالوا: معنا رجل يرعى لنا الغنم في واد من وديان المدينة تركناه -يعني لعدم النظر إليه، وعدم الاعتداد به، وعدم التهيؤ له، تركوه يرعى الغنم- قال: أله والدة؟ قالوا: نعم.
قال: أصابه برص؟ قالوا: نعم، وشافاه الله.
قال عمر لـ علي بن أبي طالب: قم بنا إلى أويس فركب عمر حماراً، نعم عمر الذي هز دول الدنيا، عمر الذي وفدت كتائبه إلى المحيط الأطلسي، عمر الذي سجل كتب النصر بدماء الشهداء، وهز كسرى وقيصر على منبر الضلالة والعمالة حتى ولاه الله الدنيا، فقام وذهب الصحابة حوله وهو على الحمار، فوصل إلى الوادي وأتى إلى أويس، وإذا أويس يرعى الإبل والغنم وهو يصلي الضحوات، متصل بالله، لا يعرفه إلا الله، لا مال ولا ولد.
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
نزل عمر فرآه فعانقه، وقال: أأنت أويس بن عامر؟ قال: يقولون ذلك -يريد أن يتواضع-.
قال: ألك والدة؟ قال: نعم، قال: اكشف عن بطنك فكشف عن بطنه، فرأى عمر كالدرهم من البرص، فقبَّل بطنه، قال: استغفر لي، قال: من أنت؟ قال: أنا عمر بن الخطاب، قال: لا إله إلا الله، أستغفر لك وأنت عمر، وعمر أفضل منه بلا شك، وعمر أرفع منه، وعمر أمكن منه، لكن هذا لصلاحه طلب منه الدعاء.
قال: استغفر لي، قال: إني أستغفر للمسلمين مع كل صلاة، قال: خصني بدعوة؛ فاستغفر لـ عمر، قال عمر: تعال معي الحياة حياتي، والموت موتي، قال: أسألك بالله أن تتركني أدخل في غمار الناس أجوع وأشبع ولا يعرفني أحد، فتركه عمر، فلما أمسى في الليل ذهب وترك الإبل والغنم، فأخذوا يلتمسونه فما وجدوه، وبعد سنوات وجدوه في خراب من خراب الكوفة وهو يعبد الله ويقرأ القرآن.
وإن أويساً هذا يشفع كما في الحديث وهو حديث حسن؛ يشفع يوم القيامة لمثل قبائل مضر يدخلهم الله الجنة باستغفار هذا وبصلاحه.
هؤلاء هم الصلحاء، وهؤلاء هم الأخفياء، وهؤلاء هم الأغنياء، وهؤلاء هم المقربون من الواحد الأحد.
فيا من قرَّب من شاء من عباده! قرِّبنا، ويا من أسدل الستر على من شاء من عباده! أسدل الستر علينا، اللهم إنا بحاجة ماسة إلى رحمتك، وعفوك، وبرك، وكرمك، اللهم لا تحجب عنا دعاء الصالحين، واحشرنا في زمرة المقربين، واجعلنا من أتباع سيد المرسلين.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن الأصحاب الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين، اللهم ولِّ علينا خيارنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم إلى ما تحبه وما ترضاه يا رب العالمين، اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم انصر المجاهدين الأفغان وثبتهم وأيد كلمتهم، وارفع رايتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم انصر المجاهدين المسلمين في فلسطين، اللهم رد لهم المقدسات وأنقذها من براثن اليهود يا رب العالمين، اللهم وفقنا للعمل بكتابك والاهتداء بسنة رسولك، اللهم رد شباب المسلمين إليك مرداً جميلاً، اللهم فقههم في الدين، اللهم تب عليهم، اللهم أصلح بالهم، وكفر عنهم سيئاتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(53/5)
شعاعٌ في الأفق
إن قراءة القرآن في شهر رمضان من أفضل الأعمال، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان يدراسه جبريل بالقرآن.
وكذلك كان السلف الصالح يخصصون هذا الشهر لقراءة القرآن وينشغلون به عما عداه، ومن الأعمال الصالحة التي تتأكد في شهر رمضان قيام الليل الذي هو دأب الصالحين وشرف المؤمنين.(54/1)
رمضان والقرآن
الحمد لله صاحب الإحسان، الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ.
والصلاة والسلام على النعمة المهداة، والرحمة المسداة، حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، صاحب المناقب والمكارم، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
عباد الله! فهذا شهر القرآن، الكتاب العظيم، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] يوم أنزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، أنزل في رمضان، يوم أنزل القرآن على الأمة الجاهلة الأمية ليقول لها الله انفضي عنك غبار التخلف والتبعية، يوم يقول لها الله انبعثي للدنيا، وفجري الكون بشعاع من التوحيد، واسجدي لله رب العالمين.
الأمة التي نامت ألف سنة، فما عرفت (لا إله إلا الله) أنزل الله عليها القرآن لتستيقظ من جديد، ولتنبعث رسالة خالدة للمعمورة.
الأمة التي كانت تخاف من سوط كسرى وقيصر، فأصبح كسرى وقيصر يخافون من خيالها، الأمة الرائدة القائدة، التي كان يقف خليفتها وعليه الثوب الممزق وهو يأكل كسر الخبز من الشعير في أدم الزيت، وينام في الكوخ، ويهتز منه كسرى وقيصر.
يا مَن يرى عمراً تكسوه بُردَتُهُ والزيتُ أُدْمٌ لهُ والكوخُ مأواهُ
يَهْتَزُّ كسرى على كرسِيِّه فَرَقاً مِن خوفِهِ وملوكُ الرومِ تَخشاهُ
الأمة التي يقول ملكها -وهو يشرف على قصره- للسحابة: أمطري حيثُ شئتِ، فإن خراجك سوف يأتيني.
كانت قبل القرآن جاهلة التعاليم، عقيمة المبادئ، ميتة العزيمة، فأخرجها الله للناس، وقال لها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] فخرجت للناس فملأت الدنيا علماً وفهماً وفقهاً، وأسمعت بالعلم القبلتين والحرمين، والأزهر، والزيتونة، وقرطاجه والزهراء، وجلَّط، ودار السلام وقرطبة.
والصحاري حالماتٌ كلها تَتَلَقَّاكِ بتصفيقٍ مثيرْ
في خطاها ألفُ عامٍ باسمٍ عجباً من قلبك الفذ الكبير(54/2)
قراءة القرآن في شهر رمضان
هذه الأمة ناداها الله أن تقرأ القرآن في شهر رمضان، وأجزل الله لها المثوبة يوم تتدبر القرآن في شهر رمضان، يقول جلَّ ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29] وناداهم - سُبحَانَهُ وَتَعَالَى - بتدبر القرآن في رمضان وفي غير رمضان، فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] وقال سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].
فيا أمة محمد عليه الصلاة والسلام! يا من جاعت بطونهم في مرضاة الله، يا من ظمئت أكبادهم لِذَات الله، يا من حرموا أنفسهم الطعام والشراب والمتعة واللذائذ، هنيئاً لكم، وزيدوا على ذلك بتدبر القرآن، فهذا شهر القرآن.
كان عليه الصلاة والسلام يوم يدخل عليه الشهر يجلس مع جبريل متعلماً ومتربياً من أول إهلال الشهر إلى آخره، فيقرأ معه القرآن آية آية، وكلمة كلمة، وجملة جملة، وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يمضي ساعاته كلها مع القرآن، ويحب أن يسمعه من غيره، وأن يتلذذ بسماعه من سواه.
ففي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اقرأ عليَّ القرآن.
قلت: يا رسول الله! كيف أقرأ عليك القرآن وعليك أُنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري.
قال: فابتدأت سورة النساء، فلما بلغت قوله تبارك وتعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال: حسبُكَ الآن.
قال: فنظرت، فإذا عيناه تذرفان عليه الصلاة والسلام}(54/3)
أحاديث في فضل قراءة القرآن
والنبي صلى الله عليه وسلم ينادي كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر؛ أن يجعل هذا القرآن والصيام شفيعين له عند الله، فعند أحمد في المسند والحاكم في المستدرك؛ أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {يأتي القرآن والصيام يشفعان لصاحبهما يوم القيامة، أما الصيام، فيقول: يا ربِّ، منعتُه طعامه، وشرابه، وشهوته فشفعني فيه، وأما القرآن فيقول: يا ربِّ، منعته نومه بالليل فشفعني فيه} ويقول عليه الصلاة والسلام -وهو ينادي من يريد الله والدار الآخرة- فيما صحَّ عنه في مسلم، من حديث أبي أمامة: {اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} فلا يرد القيامة وارد إلا والقرآن إما أمامه يقوده إلى الجنة، وإما وراءه يدفعه إلى النار.
ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث النواس بن سمعان، عند مسلم: {اقرءوا القرآن} وفي لفظ: {يأتي القرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقْدُمُه سورة البقرة وآل عمران تحاجَّان عن صاحبهما يوم القيامة} ويقول عليه الصلاة والسلام كما عند البخاري ومسلم: {تأتي سورة البقرة وسورة آل عمران -الزهراوان- كغَمامَتَين، أو غَيابَتَين، أو غَيايَتَين، أو كفَرَقان من طيرٍ صواف، تظلان صاحبهما يوم القيامة} وقال وهو يتحدث صلى الله عليه وسلم عن أفضل الناس: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه} فخير الأمة من عاش مع القرآن، وتعلم القرآن، وتدبر آيات القرآن.
وفي حديث عائشة المتفق عليه، يقول صلى الله عليه وسلم: {الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة} والماهر: المنطلق اللسان، والمجوِّد، الذي يقرؤه آناء الليل وأطراف النهار، يجعله الله مع الملائكة في عليين {والذي يقرأ القرآن وهو عليه شاقٌّ له أجران} وفي لفظ مسلم: {يتتعتع فيه} أي: يكسر في بعض سكناته، أو ممدوده، لا حركاته {له أجران أجر التلاوة وأجر المشقة}.
سمعتُك يا قرآنُ والليلُ ساجدٌ سريتَ تهزُّ الكونَ سبحان مَن أسرى
فَتَحْنا بكَ الدنيا فأشرقَ نورُها فصارتْ بعيدِ النصر في حُلة حمرا(54/4)
مضاعفة أجر قارئ القرآن
ويقف عليه الصلاة والسلام ليعلن للأمة قضية لا تغيب عن الأذهان، وهي قضية مضاعفة الأجور عند الله، فعند الترمذي بسند صحيح، عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اقرءوا القرآن، فإنه من قرأ القرآن فله بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (ألم) حرف، ولكن ألف حرفٌ، ولام حرفٌ، وميم حرفٌ} وهو علامة مضاعفة الأجور عند الله.(54/5)
حقيقة من ليس في قلبه شيء من القرآن
بل جعل الرسولُ صلى الله عليه وسلم القلبَ الذي لا يحفظ شيئاً من القرآن قلباً خرباً خاوياً على عروشه، قلباً ما عرف الله.
ففي الترمذي وأبي داود بسندين حسنين، قال صلى الله عليه وسلم: {إن الذي ليس في صدره شيء من القرآن كالبيت الخَرِب}.(54/6)
لا حسد إلا في اثنتين
لا حسد في الدنيا، ولا في مناصب الدنيا، ولا في إمرتها، ولا في ذهب الدنيا، ولا في فضتها.
خذوا كلَّ دنياكمُ واتركوا لي فؤاديَ حُراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
لا حسد إلا في تدبر القرآن، وفي تلاوة القرآن، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار}.
وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم منازل الناس في الجنة على تلاوتهم للقرآن، فعند أبي داود والترمذي بسندين صحيحين، عن ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه وعن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ، وارتَقِ، ورتِّل، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها}.
فيأتي قارئ القرآن في الدنيا، فإن كان تالياً من حفظه تلا من حفظه، وإن كان من مصحفه تلا من مصحفه، فيرفعه الله بكل آية درجة، حتى يصل إلى أعلى عليين، أو إلى درجة تلاوته في الدنيا، والمؤمن هو من يعيش مع القرآن، ويتلذذ بسماعه.(54/7)
تفقد النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الليل
جاء في تفسير ابن أبي حاتم بسند جيد، أن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج ذات ليلة من الليالي، بعد أن أظلم الليل، فمرَّ ببيوت الأنصار يستمع كيف يقرءون القرآن، يوم كانت بيوتهم حية بكتاب الله، حين لم تكن تعج بالأغاني المائعات الماجنات، وبالمغنين والمغنيات، يوم كان ليلهم تعبداً، ونهارهم سجداًَ، يوم كانوا عباداًَ لله في الليل والنهار، خرج عليه الصلاة والسلام يتفقد أصحابه، وينظر ماذا يفعلون في الليل الدامس، فسمع عجوزاً تقرأ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فوقف صلى الله عليه وسلم يستمع إليها وهي لا تدري، تبكي وتردد: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فأخذ يبكي معها ويقول: {نعم أتاني، نعم أتاني} وهو المخاطب بحديث الغاشية، وهو المنزل عليه حديث الغاشية.
وعند البخاري: {أنه صلى الله عليه وسلم سمع أبا موسى الأشعري يقرأ ذات ليلة من الليالي -وصوته حسن يخلب العقول، ويسري في الأرواح، ويجذب الأنفس إلى الله الحي القيوم- فوقف صلى الله عليه وسلم يستمع لتلاوته وأبو موسى لا يشعر، ولما أصبح الصباح قال له صلى الله عليه وسلم: لو رأيتَني البارحة وأنا أستمع إلى تلاوتك، لقد أوتيتَ مزماراً من مزامير آل داود، فيقول أبو موسى: أئنك كنتَ تستمع لي يا رسول الله؟ قال: إي والله.
قال: والذي نفسي بيده لو أعلم أنك كنت تستمع لي لحبَّرتُه لك تحبيراً}.
أي: جوَّدتُه، وحسَّنتُه، وجعلتُه مثيراً.(54/8)
حال النبي صلى الله عليه وسلم والسلف في شهر رمضان
كان عليه الصلاة والسلام يوم يدخل شهر رمضان ينقطع عن العالم الخارجي، إلا عن الله وعن كتاب الله، فكان يجلس مع جبريل، فيتلو معه كتاب الله حتى ينسلخ الشهر، عرف ذلك السلف الصالح، فخصصوا رمضان لتلاوة القرآن، يقول الإمام مالك -وقد أتاه طلبته وتلاميذه يقرءون عليه الدروس والعلم- قال: هذا شهر القرآن، لا دروس ولا فتيا فيه.
وعلق كتبه، وأخذ المصحف.
وكان سعيد بن المسيب يختم القرآن في كل ليلة مرة، صح ذلك عنه.
وليس المقصود من إيراد هذه القصص أن نقتدي بهم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر ألا يُختم القرآن في أقل من ثلاث، ولا ينقص من ذلك، لكن المقصود، أن نرى مقامنا من مقاماتهم، وحالنا من حالاتهم، ولذلك ثبت عن مسروق أنه لما دخل عليه شهر رمضان حمل سريره بيديه، وأدخله في مسجد الكوفة، وقال: [[لا أخرج سريري حتى ينتهي الشهر]] فكان ساجداً راكعاً متعبداً حتى بشره الناس بالعيد.
وكان الأسود بن يزيد إذا دخل الشهر، أما نهاره فصائم، وأما ليله فقائم يبكي حتى السحر، فتقول له زوجته: ما لك؟ والله لو قتلت نفساً لكان أخف من هذا العذاب عليكَ، فقال: [[أنا الذي قتل نفسي بالمعاصي]].
وأورد ابن حجر في ترجمة البخاري في فتح الباري، في المقدمة: أنه قرأ يقرأ القرآن في رمضان ستين مرة، مرة في النهار ومرة في الليل.
وهذا حق يقين لا مرية فيه، ولكن لا يقتدى بهم، إلا فيما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.
وذكر المروزي في قيام الليل بسند صحيح [[أن عثمان رضي الله عنه قام عند المقام في البيت العتيق من بعد صلاة العشاء، فتلثَّم، وبدأ من أول القرآن يقرأ ويبكي حتى انتهى من آخره مع طلوع الفجر]].
عثمان الذي كان ينشر المصحف من بعد الفجر إلى صلاة الظهر، يقرأ ودموعه تنهل على كتاب الله، فيقول له الناس: لو خففت على نفسك، فيقول: [[لو طَهُرَت قلوبُنا لما شبِعنا من القرآن]](54/9)
الحث على تلاوة القرآن
فيا أيتها الأمة! يا من أحياها الله بالقرآن! يا من رفع الله رءوسها بالقرآن! هذا شهر القرآن والتلاوة، هذا شهر مضاعفة الأجور، اقرءوه فإن الله يأجركم بالتدبر وبالتلاوة، وبالنظر في المصحف، وبمعايشة القرآن في بيوتكم، يملأ الله بيوتكم رحمة وبركة وهداية ونوراً، ويملأ صدوركم إيماناً، ويقيناً، وخيراً وبراً، ويملأ مسيرتكم إشراقاً وفلاحاً ونجاحاً.
عاشروا القرآن، جالسوا القرآن، علموه أبناءكم وبناتكم، حفظوه نساءكم ومن تعولون، أحيوه في حياتكم، فإن تلاوته على قسمين:
تلاوة حكمية: وهي أن تؤمن بمن أنزله، وتؤمن بما فيه، بمحكمه ومتشابهه، بوعده ووعيده، بترغيبه وترهيبه، بأمره ونهيه.
وتلاوة لفظية: وهي أن تقرأه بتحزينٍ وخشوع، عله أن يكون معك يوم تفد إلى القبر، ويوم تمشي على الصراط، ويوم تقف في تلك العرصات.
أسأل الله لي ولكم هدايةً ونوراً ورشداً وفلاحاً.
اللهم أعنا على تلاوة كتابك آناء الليل وأطراف النهار، واجعلنا مِمَّن يقرءونه فيقودهم إلى الجنة، لا مِمَّن يتركونه فيقذفهم على وجوههم إلى النار.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(54/10)
قيام الليل
الحمد لله، الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً.
بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين.
أمَّا بَعْد:(54/11)
فضل قيام الليل
قلتُ لليل هل بجوفكَ سرٌ عامرٌ بالحديث والأسرار
قال لم ألقَ في حياتي حديثاً كحديثِ الأحباب في الأسحارِ
قيام الليل: من أفضل الأعمال التي يلقى بها العبد ربه تبارك وتعالى، وصلاة التراويح قيام ليل، وهي إيمان وإعلان بالإيمان، وهي تغلب على النفاق، وهي إعلان على انتصار الإنسان على نفسه الأمارة بالسوء، وهي كذلك إعلان للتضامن مع المسلمين، ويوم تقومُ في التراويحِ مع الإمام يكتب الله لك قيام ليلة كاملة، وقد تكون مسيئاً، ومن يدري؟ قد تكون أسأت كل الإساءة، فلما صليتَ التراويحَ ارتَفَعَتْ دعوةٌ صادقة ممن بجانبك أو عن يمينك أو عن يسارك؛ فقبلها الله عزَّ وجلَّ وأسعدك بسبب سعادة ذاك.
فإنهم إذا اجتمعوا في المساجد باهى الله بهم ملائكته فوق سبع سماوات؛ فتقول الملائكة: {يا رب فيهم فلان، عبد خطاء ليس منهم، إنما دخل المسجد لحاجة، قال: وله غفرتُ، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم}.
ومن يدري؟ قد تكون شقياً في علم الله عزَّ وجلَّ، أو قد تكون مذنباً آثماً فاجراً، فتدخل مع المسلمين، وتضع رأسك مع رءوسهم سجداً لله خاشعين، فيدخلك الله في إحسانهم، (وهَبِ المسيئين مِنَّا للمحسنين).
ومن يدري؟ قد كانت مرت بك صحف سوداء، لطختها بالذنوب، فمرت عليك ليلة من السعادة، فأسعدك الله سعادة لا تشقى بعدها أبداً، كلما سجدت لله سجدة رفعك بها درجة، وحط عنك بها خطيئة، كما صحَّ في حديث ثوبان عند مسلم، {عليك بكثرة السجود لله فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة وحط عنك بها خطيئة}.
فهنيئاً لك وأنت تُتعِب قدميك وساقيك وأنت تسمع كلام الله يتلوه الإمام، وهنيئاً لك يوم تكون ساجداً، وراكعاً، أتظن أن الله لا يدري بك؟! أتظن أن سجداتك تذهب سدى؟! أتظن أن ركعاتك تذهب هباء منثوراً؟! لا والله، لا يقع رأسك على الأرض إلا ويرفعك الله درجة عنده.(54/12)
الثلث الأخير من الليل
وفي آخر الليل -وما أدراك ما آخر الليل، حين يبقى الثلث الأخير من الليل- ينزل الله إلى السماء الدنيا، نزولاً يليق بجلاله، فيقول: {هل من سائل فأعطيه؟! هل من داعٍ فأستجيب له؟! هل من مستغفر فأغفر له؟!} أفلا تريد أن تكون ممن مرغوا وجوههم سجداً لله ولو بركعتين، ولو بسجدتين اثنتين، ولو بتسبيحات قليلة، يحفظها الله تبارك وتعالى عنده.
فيا أيها المسلمون! عليكم بقيام رمضان، وصلاة التراويح مع المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: {من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه}.
فكأني بك وقد كتبك الله في السعداء، في صحيفة من نور، وكأني بك وقد استوجَبْتَ دخول النار، فأعتقك الله مع من أعتق في ليلة من ليالي رمضان.
فالله الله في صلاة التراويح! أعلنوا قوة الإسلام بصلاة التراويح، ومراسيم الدين الخالد بصلاة التراويح مع المسلمين، وأعلنوا التكافل والتضامن في دخولكم صفوفاً وراء صفوف لتقولوا للشيوعية: ها نحن المسلمين انبعثنا للإسلام من جديد، وتقولوا للصهيونية العالمية: ها نحن أجيال محمد جئنا للدنيا من جديد، فيرحمكم الله في من رحم، ويتغمدكم في من تغمد، ويرفعكم عنده درجات.
هنيئاً لكم الصيام والقيام، كتب الله صيامكم في صيام الصائمين، وقيامكم في قيام القائمين، وأعتق الله رقابنا ورقابكم من النار، وجنَّبنا العار والدمار والشنار، إنه على ذلك قدير.
عباد الله! صلوا على المعلم الأول، رسول الهدى، وباني مجد الإسلام، فإن الله أمركم بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، اللهم اعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
اللهم ارضَ عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم وفق ولاة المسلمين لما تحبه، وترضاه، اللهم اجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفق كل مسئول لكل خير، وخذ بيده إلى الصواب والرشد، وجنبه مزالق الفتنة والشر يا رب العالمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، ونصرة رايتك، وتأييد سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، وفي فلسطين، وفي كل صِقْع من بلادك، يا رب العالمين.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم تب على شباب المسلمين، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً، اللهم كفر عنهم سيئاتهم، وأصلح بالهم، وتقبل منهم أعمالهم، يا رب العالمين.
ربنا إنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(54/13)
نور على نور
إن الفطرة وحدها لا تكفي للهداية، ولابد من نور الإيمان معها لكي تستقيم، والنور لا يأتي إلا من عند الله، ومن طلبه من غير الله ضل وأضل، وهذا النور له أقسام بحسب العبد واجتهاده، والنور يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي.
ومثله الظلمة فهي أقسام، وتزيد بالمعاصي وتنقص بنقصانها.
وللنور والظلمة صفات تتعلق بهما، ولكل منهما أهل معلومون قديماً وحديثاً.(55/1)
من معاني النور
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
صلى الله على من أخرجنا من الظلمات إلى النور بإذن ربه.
صلى الله وسلم على من علمنا من الجهالة، وبصرنا من العمى، وأنار عيوننا وقلوبنا بعد الظلمة، وأسمع آذاننا بعد الصمم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
أيها المسلمون: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257] ما أدراك ما النور؟ وما هو النور الذي يذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالى؟ وكيف نصل إلى هذا النور؟ وكيف نحصل على هذا النور الذي امتن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى علينا به.
النور في القرآن يذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالى في مواضع عديدة، وفي سور كثيرة، وفي آيات متنوعة، والنور خلق من خلق الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] فالنور خلقه الله عز وجل، وهو محسوس وملموس، وهو نور معنوي، ونور يتعدد بتعدد ما ينسب إليه، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى في أول سورة البقرة: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة:17].
والنور هنا هو القرآن، وهؤلاء هم المنافقون الذين يتكلم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عنهم، يوم يضيء لهم الوحي والقرآن والسنة، ثم لا يهتدون بها، مثلهم كمثل قوم مشوا في ظلمة الليل، فأضاءت لهم نار، فلما وقفوا ذهب الله بنورهم ولم يقل بنارهم؛ لأن النور أصل وجود الضياء فذهب من أصله.
وهذا مثل المنافق يوم يهجر الإيمان، والقرآن، والسنة، والمسجد، وأهل الخير -والدعوة- والصلاح، يذهب الله بنوره ويتركه في ظلمة، وسوف نعود ونقرر إن شاء الله أصولاً في باب النور.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى في النور: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور >) [البقرة:257] سمى الظلمات جمعاً، وذكر النور مفرداً؛ لأن ظلمات الباطل متعددة، وطرق الباطل متنوعة، والحق واحد، فهو نور واحد.
والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يقول: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:35] سبحانه! قيل: أشرقت بنور وجهه السماوات والأرض، وقيل: قامت بنور وجهه السماوات والأرض، وعلى ذلك دلت السنة.(55/2)
من أنوار النبي صلى الله عليه وسلم
في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، في ليلته العطرة المباركة يوم بات مع خالته ميمونة رضي الله عنها وأرضاها، قال: {نمت في عرض الوسادة، فدخل صلى الله عليه وسلم، فنظر إلي، قال: نام الغليم؟ قالت: نعم نام} ظنت أنه نام ولكنه ما نام، لماذا أتى؟ أتى ليرى الرسول عليه الصلاة والسلام، ليرى سيرته في الليل، وصلاته ودعاءه وبكاءه وخشيته، ليستفيد منه في الليل.
نامت الأعين إلا مقلة تذرف الدمع وترعى مضجعك
فقام عليه الصلاة والسلام، فأتى إلى فراشه، فقرأ، ودعا، وهلل، وكبر وذكر الله، ثم نام، وعند البخاري: حتى سمعت خطيطه، وهو صوت يحدثه النائم من كثرة نومه أو استغراقه في النوم، لكن تنام عيناه ولا ينام قلبه، عليه الصلاة والسلام، فاستفاق من الليل يعرك النوم من عينيه، ويقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191].
ثم قام عليه الصلاة والسلام فذهب لحاجته، فأتى ابن عباس فوضع له ماءً عند الباب، وهذا من الفقه في الدين، يدري أنه إذا انتهى يحتاج ماءً، فوصل عليه الصلاة والسلام، وقال يسأل نفسه: من وضع لي هذا الماء؟ ثم قال: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} فكانت من أعظم الليالي في حياة ابن عباس، بل ميلاده وتاريخه بدأ من تلك الليلة.
فقام يتوضأ ووقف عن ميسرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم يده إلى أذن ابن عباس ففركها في الصلاة؛ لأنه وقف خطأً، وموقف المأموم الواحد عن يمين الإمام، فأعاده عن يمينه، وكان ابن عباس يحفظ الحركات والسكنات والكلمات تلك الليلة.
كانت من كلماته عليه الصلاة والسلام، وهو شاهدنا هذه الليلة: {اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن} انظر نص الكلام، كلام يصل إلى القلوب.
{اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد -وفي لفظ: أنت إله السماوات والأرض ومن فيهن- ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت}.
ثم خرج إلى الصلاة صلى الله عليه وسلم في الفجر، فكان يقول: {اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً} وعند البخاري: {واجعل في شعري نوراً، وفي عظمي نوراً، وفي مخي نوراً، وفي عصبي نوراً، وأعظم لي نوراً} إنه نور الله الذي ينزله في قلب من يشاء من عباده.(55/3)
نور الهداية والفطرة
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35].
{نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] أي: نور الفطرة على نور الحق الذي هديت به، وهو القرآن والإيمان، فطر الله الناس على الإيمان، خلقك الله مؤمناً، يوم أسقطتك أمك من بطنها ولدت مؤمناً موحداً، تعترف بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً عليه الصلاة والسلام
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
يوم سقطت على الأرض سقطت مؤمناً، ويوم وقعت على الأرض وقعت موحداً، ويوم نزلت إلى الأرض نزلت مسلماً، فهذا نور الفطرة، قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: {كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه}.
{نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] المسلم مولود مفطور على النور، على الهداية، لا يعرف إلا الله ربه، فلما عاش في بيت ضال انحرف، ما كان للابن أن يفجر لولا فجور أبيه -في الغالب- وأمه، بعد قضاء الله وقدره، يولد كما تولد البهيمة جمعاء، ثم تجدع البهيمة.
(نُورٌ عَلَى نُورٍ) نور الفطرة، ونور المولد، ونور يوم وقع على الأرض وهو مسلم لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فلما وقع مسلماً آتاه الله عز وجل الوحي، والكتاب، والإيمان، والإسلام: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].
والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر النور، فقال عز من قائل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].(55/4)
وقفة مع نور أبي بن كعب
أحد المترجمين يترجمون لـ أبي بن كعب، وهو سيد القراء، من مدرسة محمد عليه الصلاة والسلام.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] فهو سيد القراء إلى يوم القيامة، وهو رجلٌ من الأنصار دخل الإيمان قلبه، وغرس محمدٌ عليه الصلاة والسلام الإيمان في قلبه، فآتى أكله كل حين بإذن ربه.
تعال يا من نفسه في وبال ونفسه محبوسة في عقال
يا راقداً لم يستفق عندما أذن في صبح الليالي بلال
روض النبي المصطفى وارفٌ أزهاره فاحت بريا الجمال
سوف يموت الإنسان ويبقى ميتاً حتى يصله النور، لكن نقف مع أبي، كان يقول عنه أهل العلم: كان أبيض اللحية، أبيض الجسم، أبيض الرأس، أبيض الثياب: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ٌ} [النور:35].
ورد في السير للذهبي أنه دعا على نفسه بالحمى، فأصابته الحمى سنوات، وذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {ما من مسلم يصيبه هم، ولا نصب، ولا وصب، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه} فقال أبي: اللهم إني أسألك حمى.
كلكم يسمع بالحمى، وهي تفرفر الأضلاع فرفرة، ولا تترك عضواً حتى تدخله، ويقولون: تكفر ثلاثمائة وستين سيئة؛ لأنها تدخل كل عضو.
والحمى من صفاتها أنها لا تأتيك إلا في الليل، أما في النهار فلا تزور، حتى يقول المتنبي:
وزائرتي كأن بها حياء فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي
قال أبي: [[اللهم إني أسألك حمى لا تعطلني عن فريضة ولا حج ولا جهاد ولا عمرة، لتكفر خطاياي]].
فأصابته الحمى فشاب شعر لحيته ورأسه، وكان يلبس الثوب الأبيض؛ لأنه قارئ من القراء، وفي الموطأ للإمام مالك في كتاب الأدب، قال عمر: [[يعجبني أن يلبس القارئ اللون الأبيض؛ لأنه نور]].
وفي صحيح البخاري في كتاب الأدب، باب لبس البياض، من أين يستدل البخاري، قال: " ورأى سعد ملكين نزلا يوم أحد عليهما الثياب البيض ".
فـ أبيٌ هذا كان لباسه أبيض، وقلبه أبيض، وكلامه أبيض، وحديثه أبيض (نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ).
نقف مع أبي صاحب النور قليلاً، يقول له صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: {يا أبي! أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم - وهذا حياء وإلا فهو يدري- قال: أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فأخذ صلى الله عليه وسلم بيده، وضرب في صدره، وقال: ليهنك العلم يا أبا المنذر} فهذا علم تحسد عليه.
وفي الصحيحين أن الله عز وجل لما أنزل سورة: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} [البينة:1] أمر رسوله أن يقرأ هذه السورة على أبي بن كعب، فقام عليه الصلاة والسلام وزار أبياً في بيته، وجلس أمامه، وقال: {إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة، قال: وسماني في الملأ الأعلى؟! قال: وسماك، فأخذ يبكي}.(55/5)
نور المنافقين
والنور -أيها الفضلاء- يأتي بأسباب، لكن نستطرد مع القرآن لنصل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].
وهناك فرق بين بين النور والضياء، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً} [يونس:5] ولذلك سمى الله عز وجل القرآن نوراً، والتوراة نوراً، وسمى التوراة ضياءً.
والله عز وجل يقول: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ} [الحديد:12] نورهم، قيل: ثوابهم وأجرهم، والصحيح أنه نورٌ يمنحه الله عز وجل للمؤمنين، أما المنافقين فكما خادعوا الله في الدنيا خدعهم في الآخرة: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142].
ثم انطفا نور المنافقينا فوقفوا إذ ذاك حائرينا
لأنهم بالوحي ما استضاءوا فكذبوا فذا لهم جزاء
فيظهر الله للمنافق نوراً يوم القيامة، فإذا أصبح على الصراط قطع الله عنه النور، وتركه في الظلمة، فتردى على وجهه في النار، وورد في الحديث: {إن من الناس من يأتي نوره كالقمر ليلة البدر، ومنهم كالكوكب الدري، ومنهم كالمصباح، ومنهم من يكون نوره في رأس ظفره} نسأل الله أن يؤتينا من نوره.(55/6)
النور في الكتاب والسنة
وقد ذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى النور في آيات، قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28].
والنور على ثلاثة أقسام:
نور الفطرة: ولا يكفي إلا بالإيمان.
نور الإيمان.
ونور الصالحات بعد الإيمان.
ولذلك ذكر الله الإيمان، فزاد عليه من أعمال الصالحات ما زاد سُبحَانَهُ وَتَعَالى.(55/7)
نور القبور
وهذا رسولنا عليه الصلاة والسلام، وقد خرج في جنازة -والحديث في صحيح مسلم - فلما وصل المقبرة دعا للموتى وقال: {إن الله ينور عليهم قبورهم بدعائي}.
وعند الترمذي أن الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقف على جنازة فدعا لصاحبها: {اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم عافه، اللهم اعف عنه، اللهم افسح له في قبره ونور له فيه، قال عقبة بن عامر: فوددت أنني أنا الميت،} فالنور هنا معنويٌ وحسي، نور الطاعة والعمل الصالح، ونور يوسع لك في القبر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الفرقان: "وقد رئى قبر الأحنف بن قيس، وهو أحد الصالحين وقد وسع له مد البصر لما دفنه الناس" رأوه بأعينهم وهم أحياء بعدما دفنوه، فوسعه الله عز وجل له، وصح عنه صلى الله عليه وسلم، أن قال: {إن هذه القبور مملوءة ظلمة، وإن الله ينورها بدعائي لهم} فالدعاء نور.
وعند صاحب الحلية من حديث مطرف بن عبد الله بن الشخير، أنه كان يمر بالمقبرة من الكوفة إلى البصرة ليصلي الجمعة، فكان يمر على المقابر فيدعو لهم، ويقول: لا إله إلا الله، فمر ليلة من الليالي فما وقف؛ لأن الجو كان بارداً عليه، فذهب فرأى في المنام قائلاً من أهل المقابر يقول -والمنامات لا يعقد عليها عقائد ولا عبادات ولا حلال ولا حرام، ولكنها مبشرات-: يا بن الشخير حرمتنا الليلة من دعائك، والله الذي لا إله إلا هو إن الله ينور علينا قبورنا بدعائك أسبوعاً كاملاً، وقال له: أكثر من قول لا إله إلا الله فقد حيل بيننا وبين لا إله إلا الله.
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] فهم يشتهون أن يقولوا لا إله إلا الله، ويقولوا: سبحانه الله فما يستطيعون.
أتيت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر
فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ينور القبور بالدعاء، والدعاء نور، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما عند أبي داود والترمذي وأحمد وابن ماجة: {بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة}.
طوبى لك يا من مشيت إلى بيت من بيوت الله في ظلمة الليل بنور يسعى بين يديك يوم العرض الأكبر!
طوبى لك يا من سريت إلى علم أو فهم أو دعوة بنورٍ تام!
طوبى لك يا من وصلت رحمك بنور تام.
طوبى لك يا من بررت والديك بنور تام.
طوبى لك يا من وصلت أرحامك بنور تام!
{بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة}: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد:12] ما أحوجنا إلى النور، وما أفقرنا إلى النور: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] نعوذ بالله أن ينطفئ نورنا، وأن يطمس نورنا، ويذهب.
والرسول عليه الصلاة والسلام ذكر أن النور إذا دخل القلب انفسح وانشرح بإذن الله، وعلى ذكر المرور في الظلمات، قال أبي بن كعب كما في السنن: {كان رجل من الأنصار لا أعلم رجلاً أبعد منه من المسجد، فقال له الناس: لو اتخذت حماراً تركبه في الرمضاء والظلماء، قال: لا والله! إني أسأل الله أن يجعل لي نوراً، وأن يكتب ممشاي ورجوعي من بيتي إلى المسجد، ومن المسجد إلى بيتي، فأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: بشروه أن الله كتب له ذلك كله}.(55/8)
نور القلوب وعماها
والله عز وجل قال في القرآن: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} [الرعد:16] لا تستوي، والنور هنا نور القلب، وليس نور البصر، فبعض الناس مبصر، فترى عيناه لكن لا يبصر قلبه: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
فبعض الناس قلبه أعمى، يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19] فهل الأعمى هنا أعمى البصر؟ لا والله! بل أعمى القلب.
ابن عباس -كلكم يعرفه - عمي في آخر عمره، لكن قلبه ما عمي، فقلبه سراج، قلبه شمس وقمر بالعلم والفقه بالدين وقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، دخل على شبيبة، فاستهزأ به بعضهم، وقالوا: لا أساءك الله في بصرك يا بن عباس، فقال يخبرهم أن النور ليس في العين، وإنما في القلب:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذو عوج وفي فمي صارم كالسيف مأثور
يقول: إذا عميت عيناي فما عمي قلبي، وإذا انطفأ نور العينين فما انطفأ نور القلب، بل قلبي مبصر، وحي عارفٌ بالطريق إلى الله عز وجل.
أتدرون من هو الأعمى؟
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الحجر:19] فالأعمى الذي لا يعلم أن هذا حق، وأن الإسلام خير، وأن المسجد فيه صلاح وبر: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الحجر:19].
من هو الأعمى؟
الأعمى قسمان:
رجل فقد النور من عينيه، فهذا لا يضره، بل هو كفارة له إذا كان من المسلمين، ففي صحيح البخاري عن أنس قال: قال صلى الله عليه وسلم: {يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا ابتليته بحبيبتيه فصبر إلا الجنة} والحبيبتان هما العينان.
وقد قيل لـ يزيد بن هارون الواسطي المحدث الكبير وقد عمي، قال له تلاميذه: أين العينان الجميلتان؟ قال: " أذهبهما والله بكاء الأسحار "، رواه الذهبي في السير، فهذا العمى في العين للمسلم كفارة.
عبد الله بن أم مكتوم أعمى، يخبر الله عنه في القرآن فيقول: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:1 - 2] لكن قلبه ليس بأعمى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:1 - 10] هل تدري أن هذا الأعمى أفضل من ألوف من الذي تبصر عيونهم؟!
قال ابن كثير في البداية وهو يروي قصة عبد الله بن أم مكتوم، حين ذهب إلى القادسية؛ فأخذ الراية، فقال له الصحابة: إنك أعمى والله قد عذرك، قال: والله لأنفرن إلى المعركة؛ لأن الله يقول: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] فسوف أنفر، فلما ذهب، أخذ الراية وهو أعمى ثم قتل في المعركة رضي الله عنه وأرضاه.
والله سمى القرآن نوراً، فقال: {ومَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] فالقرآن نور، وفي صحيح مسلم في كتاب التفسير، قال عليه الصلاة والسلام في حديث جبريل: {قال جبريل: أبشر بنورين أوتيتهما، لا تقرأ بحرف إلا أوتيته، بسورة الفاتحة وخواتيم سورة البقرة}.
والنور -أيها الكرام الأبرار- يذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالى في معرض الامتنان، فيقول عز من قائل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
يقول ابن تيمية: " للإنسان ميلادان: الميلاد الأول يوم أتت به أمه، والميلاد الثاني يوم تحلى بالإيمان "، فالله يقول في الميلاد الثاني: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] أومن كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالإيمان وجعلنا له نوراً من العلم والحكمة يمشي به في الناس.(55/9)
نماذج من الذين أحياهم الله بنوره
ومن الأموات الذين أحياهم الله أذكر نماذج:
عمر بن الخطاب كان ميتاً قبل الإسلام، كان يأكل ويشرب لكنه ميت، لأنه ما وصل القرآن والإيمان إلى قلبه، وروحه، وكل من لم يصل الإيمان إلى قلبه فهو ميت: (قلب لا تشرق عليه شمس الإيمان قلب ملعون، وأرض لم تشرق عليها شمس الرسالة أرض مغضوب عليها، وقلب يعتقد أنه سوف يهتدي بغير هدى الله الذي بعث به محمد عليه الصلاة والسلام فعلى هذا القلب لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).
كان عمر ميتاً: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:26 - 27].
خرج عمر من صلب أب كافر، فلما خرج عاش شطر عمره لا يعرف شيئاً، يأكل ويشرب، لكنه ما اهتدى إلى الإيمان والحب والطموح، فلما أتى عليه الصلاة والسلام ووضع يمينه في يمين عمر انسلخت الوثنية والشرك والتخلف من كل ذرة من ذرات جسمه، وأصبح إنساناً آخر؛ قرآناً يمشي على الأرض: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
عمر كان قلبه قاسياً جلفاً شديداً، فلما أسلم لان قلبه بالإيمان، يصعد المنبر يوم الجمعة كما يقول أهل السير فيقرقر بطنه عام الرمادة من الجوع، فيقول لبطنه: [[قرقر أولا تقرقر، والله! لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]].
عمر رضي الله عنه وأرضاه يمر بـ أبي وهو يقرأ في سورة الصفات: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:24 - 25] قال: فألقى عصاه وبكى حتى أغمي عليه، وبقي شهراً كاملاً يعاد من المرض.
عمر يقول فيما يؤثر عنه: [[والله لو عثرت دابة على شاطئ دجلة -في العراق - لخشيت أن يسألني الله عنها يوم القيامة]] يقول في المسجد يوم الجمعة: [[يا أيها الناس! ما رأيكم لو ملت عن الطريق هكذا، فقام أعرابي فسل سيفه، وقال: يا أمير المؤمنين! لو رأيناك ملت عن الطريق هكذا لقلنا بالسيوف هكذا، فتبسم، وقال: الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من لو قال عن الطريق هكذا، قالوا بسيوفهم هكذا]].
سافر إلى دمشق في طريقه إلى بيت المقدس، فقال: أين أخي؟ قالوا: من أخوك؟ قال: أبو عبيدة، فأتاه وعانقه، وقال: [[مل بنا عن الطريق نبكي أنا وإياك حياتنا مع الرسول عليه الصلاة والسلام]].
قالوا لـ عاتكة بنت زيد زوجته: صفي لنا عمر، قالت: ليله أو نهاره؟ -أي: أصف الليل أم أصف النهار- قالوا: الليل، أما النهار فنعرفه، قالت: كان إذا دنا منه الليل وأتى إلى الفراش، وضع قدحاً رحراحاً فيه ماء بارد، فإذا أقبل عليه النوم أخذ من الماء فغسل وجهه فاستفاق، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، قالت: فيبقى يتململ حتى ينتصف الليل، ثم يقوم يصلي ويبكي حتى الفجر، فتقول له: يا أمير المؤمنين! لو أرحت نفسك، قال: [[لو أرحتها بالنهار لضاعت رعيتي، ولو أرحتها بالليل لضاعت نفسي]] أي إنسان هذا؟! إنسان ولد مع النور، كان ميتاً فأحياه الله.
يرسل كسرى رسولاً، فيصل إلى المدينة، ويسأل عن بيت عمر، فقالوا: بيته هنا، فيذهبون معه، ويشيرون على بيت من طين، قال: أهذا بيت الخليفة؟! قالوا: نعم.
فطرقوا عليه الباب فلم يجدوه، قال: أين هو؟ قال أهله: التمسوه في المسجد، فذهبوا في المسجد فلم يجدوه، فقال: أين هو؟ فبحثوا عنه فوجدوه تحت شجرة في ضاحية من ضواحي المدنية قد نام، فقال هذا الفارسي: حكمت فعدلت فأمنت فنمت.
وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً بين الرعية عطلاً وهو راعيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها
فقال قولة حق أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت نوم قرير العين هانيها
أتته سكرات الموت، فسأل الله الشهادة قبل أن يموت، فأعطاه الله الشهادة في المحراب، صباح يوم السبت في صلاة الفجر: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35].
ووصل إلى بيته وعزاه الناس في حياته، فقال ابن عباس كلمة من الكلمات النيرة التي حفظت له: [[طوبى لك يا أمير المؤمنين! أسلمت فكان إسلامك نصراً، وهاجرت فكانت هجرتك فتحاً، وتوليت الخلافة فكانت ولايتك رحمة، فهنيئاً لك]].
قال وهو يبكي: [[يا ليتني نجوت كفافاً لا لي ولا علي]] يمر به شاب وهو في سكرات الموت وهو مطعون والدم يسري من جسمه، فيقول للشاب: تعال يا بن أخي.
يريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وروحه تقعقع: [[يا بن أخي! ارفع إزارك؛ فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك]] وذلك لأنه يحمل الإيمان والحب والطموح.
ومن الذين أخرجهم الله من الظلمة إلى النور عبد الله بن عمرو، رجل من الأنصار والد جابر، عاش ما يقارب الأربعين سنة في الجهالة والظلمة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] أمة لا تستحق المجد، ظالمة، ضائعة، ضالة، فأتى هذا الرجل فسمع بـ مصعب فأسلم ودخل في الإسلام، فأعطاه الله نوراً: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] وأتى في معركة أحد فباع نفسه في قصة مشهورة، فكلمه الله كفاحاً بلا ترجمان.(55/10)
سعد بن معاذ
وممن هداهم الله سعد بن معاذ، باع نفسه وقتل، مرض في المسجد، ومات شهيداً، واهتز عرش الله له، والحديث حسن.
وما اهتز عرش الله من موت هالك سمعنا به إلا لـ سعد أبي عمرو
أورد الذهبي أنه شيع جنازة سعد سبعون ألف ملك، لماذا؟ لأنه اهتدى إلى النور: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].
والذي يبقى في الظلمة ميت، مثل فرعون، عاش وأكل وشرب، ولكنه ميت: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19].
وممن عاش في الظلمة ومات في الظلمة فهو ميت، أبو جهل؛ كفر بالله، وبالرسالة، وبالرسول عليه الصلاة والسلام، فمات متردياً، وكـ الوليد بن المغيرة {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً} [المدثر:13 - 14].(55/11)