رسالة إلى فنان
الغناء بريد الزنا، والغناء ينبت النفاق في القلب.
وهذه رسالة قصيرة إلى كل فنان ليسمعها ويقرأها، ويعرف حكم الغناء ومفاسده؛ ويعرف هل يستحق هؤلاء الفنانون كل هذا التلميع أم لا.(1/1)
قضايا مع الفنانين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس! هذه رسالة إلى فنان، يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] هذه الأمة كانت فيما مضى تُخرِّج للناس العلماء والزعماء، والشهداء، والأدباء، في حين كان الغرب يُخرِّج للناس قُطاع الطرق ومروجي الجرائم، ومهربي المخدرات، وسفكة الدماء، فتغير الحال، والحمد لله على كل حال.
أصبحت هذه الأمة تخرج الفنانين والفنانات، والمغنين والمغنيات، وأصبح الغرب يخرج المخترعين، والمكتشفين، والأطباء، والمهندسين، فماذا فعل الفن بنا؟ وماذا فعلنا مع الفن؟
أطل سهر العيون فكل نوم لغيرك أيها المولى حرام
وأسمعني حديث الوصل سبعاً رضيت لك السرى والناس ناموا
تغير الحال بهذه الأمة؛ فأصبحت في المؤخرة بعد أن كانت رائدة، وأصبحت في الحضيض بعد أن كانت في القمة، وأصبحت مقادة بعد أن كانت قائدة.
كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه(1/2)
كفى تلميعاً للساقطين
وهنا قضايا مع الفنانين:
أولها: يسمون الفنان: الصاعد.
لقد صعد لكن إلى أسفل، ويسمونهم: النجوم! النجوم اللامعة بلا نور، ويسمونهم: أساتذة الاختراع، وشيوخ الإبداع، تحييهم الوسائل صباح مساء وترحب بهم، وتعلن إنجازاتهم، في حين تطفئ أنوار العلماء وطلبة العلم والدعاة.
ما هو مردود الفن على الأمة؟
يا مسلمون!
يا عقلاء!
يا فطناء!
هل رفع الفن عن العالم الإسلامي الفقر، والتخلف، والجوع، والبدع، والخرافات؟!
هل علم الفن الجهلة في الضواحي وفي البوادي؟!
هل أطعمهم من جوع وألبسهم من عري وسقاهم من ظمأ؟
هل نفعت الملايين التي تهدر للفنانين والفنانات في بناء البرادات، والمساجد، والمدارس، والمستشفيات؟!
هل رد الفن فلسطين، والألوف المؤلفة من العرب تتحلق على الفنان الواحد والفنانة الواحدة؟!
هل أعاد لنا الفن أفغانستان؟!
هل رد لنا الأندلس؟!
ماذا فعل بنا الفن؟
هل ملأ الفن مصانعنا بالطائرات؟
وهل ملأها بالبرادات، والسخانات، والثلاجات؟
كلها مستوردة، أكبرها الطائرة وأصغرها الطبشورة، إلا الفن فنصدره إلى غيرنا؛ لأن الأمم مشغولة بالمصانع والإنتاج، ما عندها فراغ لكي تغني، وترقص، وتطبل، ونحن عندنا فراغ ضيعناه في العزف، والرقص على الناي والعود وما يطلبه المستمعون.
فعندنا من الفنانين ما يمكن أن نصدرهم على العالم ويبقى معنا احتياط!
جيش من الفنانين ممن بلغ الثمانين، ولا يزال يعزف على الناي حتى يدخل القبر، وممن هو في الخامسة عشرة، وكل يوم تقول الوسائل: بشرى بالفنان الصاعد الذي خرج إلى النور بفنه وصوته الجميل!!
الصوت الجميل من الذي وهبه؟ من الذي خلقه؟
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام:2] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر:64] قال مجاهد: [[الصوت الجميل]] فمن هو الذي منح الصوت الجميل؟ إنه الله.
ولمن منحه؟
للعاشقين!! للمسارح! للمغنين!! لا.
بل لحكمة، والصوت منحة كقوة الجسم وقوة الذاكرة والمال والولد، وإذا لم يصرف في طاعة الله فلا خير فيه، وسوف يحاسب عليه العبد، يقول عليه الصلاة والسلام: {ليس منا من لم يتغن بالقرآن} والمقصد أن يصرف صوته الجميل في ترتيل القرآن.
كان أبو موسى رضي الله عنه وأرضاه جميل الصوت، يسلب الألباب بصوته، فهل جعله عليه الصلاة والسلام يردد قصائد الغزل والمجون؟
لا.
بل جعله قارئاً للقرآن، مر عليه في الليل فسمع صوته، فوقف صلى الله عليه وسلم ليلاً طويلاً يستمع له، وقال: {يا أبا موسى! لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود، لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لصوتك.
قال: يا رسول الله! أإنك كنت تستمع لقراءتي؟ قال: إي والذي نفسي بيده.
قال أبو موسى: والله الذي لا إله إلا هو يا رسول الله! لو علمت أنك تستمع لصوتي، لحبرته لك تحبيراً} أي: حسنته، وجملته، وجعلته بديعاً.
فالصوت الحسن يصرف في كلام رب الأرض والسموات، والصوت الحسن يرتل به القرآن، ويتغنى بكتاب الله ولا يتغنى بغيره.(1/3)
مهمة الفنان
ماهي مهمة الفنان في الحياة؟
هذا العمل الذي ما عرفنا أوله من آخره، ولا عرفنا مصدره ولا أثره.
المهندس عرفنا جهده، والطبيب، والعالم، والتاجر، والفلاح، والجندي، إلا هذا الفنان الذي لا يعرف عمله أبداًَ إلا في هدم المجتمع، ولا يعرف شغله إلا في تدمير الأخلاق، هذه هي مهمة الفنان دغدغة المشاعر استثارة الغرائز تحطيم المجتمع تحبيب الفاحشة، فإن الغناء بريد الزنا، وكذلك غرس النفاق في القلوب، والتهجم على الأعراض، وتضييع شباب الأمة، وتهييج فتيات الأمة هذه هي مهمة الفنانين في الحياة.
مات موسيقار قبل أيام؛ فقامت الدنيا وقعدت من أجل موته، وقام زعماء الأنظمة الأرضية يعزون في موته هؤلاء الزعماء الذين قتلوا العلماء، وحبسوا الدعاة، واضطهدوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومشى العالم في جنازته، وقامت الصحف الصباحية تقول: أصبح الفن الآن بلا أب، وأصبح يتيماً بلا أم!! أيتمهم الله، وقصم الله ظهور مروجي الفتنة في مجتمع الإسلام.
وهل كان محمد عليه الصلاة والسلام مسئولاً عن إخراج جيل فنان لاهي لاعب لا يعرف أثره، ولا مهمته، ولا شغله في الحياة؟! لا والله، ما بعث إلا لإعزاز بلاد التوحيد ولنصب الفضيلة في العالم.
بلاد أعزتها جنود محمد فما عذرها ألا تعز محمدا
دماء المسلمين في فلسطين وفي أفغانستان وفي كل بلد من بلاد الرحمن تُسال، والعزف والناي في البلاد الأخرى!
دم المصلين في المحراب ينهمر والمسلمون فلا رجع ولا خبر
إذا تفاخر بالأهرام منهزم فنحن أهرامنا سلمان أو عمر
أهرامنا شادها طه دعائمها وحي من الله لا طين ولا حجر
هذه أهرامنا، وهذا فننا، وهذه نجومنا أبو بكر وعمر، ابن تيمية، مالك، أحمد، ابن القيم، أما هؤلاء السقطة فليسو نجوماً لأمة الإسلام، وإنما هم عملاء ومخربون في دار الإسلام.
في العالم الإسلامي شيوخ فنانون، بلغوا الثمانين من العمر ويغنون، يقول الأول:
ويقبح بالفتى فعل التصابي وأقبح منه شيخ قد تفتى
ويقول الآخر:
هب الشبيبة تبدي عذر صاحبها ما بال أشيب يستهويه شيطان
قدر أن الإنسان في العشرين يكون فناناً، فكيف يكون فناناً في الثمانين؟!
وكثير من أهل العلم ومن الصالحين لبسوا الأكفان في الستين من عمرهم، قال سفيان الثوري: من بلغه الله ستين سنة فليلبس كفناً وليتهيأ لدخول القبر.
وهذا في الثمانين ويغازل، ويصف الخدود والنهود، ويصف أيام الهجر والوصال، وهجر العاشقين ومحبة الوالعين، والليالي الحمراء، وقد أشرف على الثمانين!
لماذا الآهات؟!
اسمع الوسائل صباح مساء وإذا الصوت (آه) فلماذا (آه)؟ آهٍ على الحب، وعلى الهجر، وعلى عدم مراعاة الوداد، وعلى العشق والوله والغرام، فالآهات تصرف في هذا وإذا سمعته في الوسائل كأنه مطعون بخنجر.
هل تذكر يوم تأوه {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]؟
وهل تذكر {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:1 - 3] وهل تذكر {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى} [النازعات:34 - 35] وهل تذكر القبر؟
والقبر فاذكره وما وراءه فمنه ما لأحد براءة
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
هل تذكر الصراط؟ هل تذكر تطاير الصحف؟ هل تذكر الميزان؟
هذا هو التأوه، والوله، واللوعة، والأسى الذي يعيشه الفنانون.
أموال المسلمين تصب على الفن، فنان واحد في البلاد أحيا ليلة بل أماتها، ضيع بألوف المسلمين ليلةً صلاة العشاء وصلاة الفجر، يغني ويطبل، فحصل على شيك بخمسمائة ألف، من غير الهدايا التي انهالت عليه من الحاضرين، ولماذا هذا كله؟
إنه أحيا قلوبهم أمات الله قلبه، قالوا: أحييت ليلتنا، والحقيقة أنه أماتها، أما كان أولى أن يدفع هذا الشيك إلى الذين يأكلون التراب، وإلى الذين يشترون كيس البر، والسكر، والأرز ديناً؟ ما يجد أحدهم ما يشتري به، فيبقى في ظهره سنة حتى يبيع تيسه في السوق ويقضي هذا الدين، ومن شك في كلامي فليجعل يده في يدي وأذهب به وأوقفه على ألوف من هؤلاء الذين لا يجدون كسرة الخبز، فالكماليات لا يريدونها، وزيادة الملابس لا يريدونها إنما يريدون خبزاً للبيت، والملايين والألوف تصب على هؤلاء الذين لا يخافون الله ولا يرجون لقاءه.
فوا عجباً كم يدعي الفضل ناقص ووا أسفاً كم يظهر النقص فاضل
إذا عير الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهاهة باقل
وقال السهى للشمس أنت كسيفة وقال الدجى للبدر وجهك حائل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل(1/4)
العلماء هم الأحق بالتكريم والتمجيد
من أولى الناس بالتكريم؟
إنهم الذين يقدمون العلم، والإنتاج، والإبداع للناس، ويسعون في إراحتهم والذب عن مصالحهم، ويسعون في استقرار الأمن في البلاد، وطرد الجرائم والفواحش من حياة الأمة، هم أولى الناس بالإكرام والتبجيل، لا هؤلاء السقطة.
إن الجموع الهادرة، والألوف التي تقف في المدرجات، وتحيي الفنانين وتصفق لهم، وتضيع الليالي والصلوات، ولا تحضر الدروس ولا المحاضرات، ولا الجمع ولا الجماعات، هذه الألوف تدعي نسبتها إلى محمد عليه الصلاة والسلام.
والوسائل المختلفة تلمع السقطة، وتبرز المغمورين، وتطمس هوية الأمة، فإنك تجد أربعة ملاحق فنية للفن، وإذا طلبت منهم أن تنشر كلمة في السيرة في عمود صغير قالوا: لا مساحة لهذا.
فلماذا هؤلاء لهم مساحة؟! ولماذا أربعة ملاحق فنية صباح مساء؟! لماذا وجد لهؤلاء أمكنة، وما وجد لشرح آية أو حديث، أو مشكلة اجتماعية، أو إصلاح أفكار الأمة، أو تعليم الناس أمور الدين مساحة؟!
اشتغلوا بحياة الفنان، وأغنية الفنان، وماذا يأكل الفنان؟ وماذا يشرب؟ وماذا يلبس؟ ومتى ينام؟
مقابلة مع الفنان، وكأنه ابتكر لنا واخترع مفاعلاً نووياً، أو طاقة، أو اكتشافاً ما عثر عليه الغرب، أو اكتشف لنا جهازاً يخدمنا، أو قدم كتاباً!! لا والله، إنما كانوا سبباً لإضعاف الأمة في اقتصادها، وقوتها، ومالها، ونموها.
هذه كلمات، وهي رسائل علَّ الفنانين أن يسمعوها ويعوها، وأن يعلموا أنهم إذا أرادوا الانتساب لأمة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ؛ فليراجعوا حسابهم مع الله، وليعلموا أن أوقاتهم تحسب عليهم {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116] {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182].(1/5)
حكم الفن في الإسلام
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد:
فالغناء والفجرة منذ القدم، منذ فجر التاريخ والفجرة يصاحبون الصالحين سواءً بسواء، والدين مناوى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] ولد الفن والضياع مع إبليس، ورواه عنه فرعون، وانتقل إلى أبي جهل، ثم صحب الضيعة على مر التاريخ حتى وصل إلينا، وسوف يستمر إلى أن يصل إلى النار، فأول حباله في يد إبليس، وآخر حباله في نار تلظى.(1/6)
أقوال الفنانين قديماً وحديثاً
اسمع إلى كلمة الفجرة في فجر التاريخ أو قبل مئات السنين وهم يعارضون الله في قدره ويستهزءون بشرعه، ويقفون في المناسك يتغزلون ببنات المسلمين.
يقول أحدهم في أغنية ذكرها ابن الجوزي في صيد الخاطر اسمع الكلمات.
أيا رب تخلق أغصان رند وألحاظ حور وكثبان رمل
وتنهى عبادك أن يعشقوا أيا حاكم العدل لا حكم عدل
ما معنى الكلام؟
يقول: يا رب! لماذا تخلق أغصان الرند والشجر الجميل؟ ولماذا تخلق الألحاظ الجميلة والعيون الناعسة؟ ولماذا تخلق النهود والخدود ثم تنهانا أن ننظر إليها وأن نعشق؟!
هذا ظلم وليس بعدل!
قال أهل العلم: من قال هذا واعتقده فقد كفر وخرج من الإسلام.
هذا نموذج للغناء من قديم.
قيل لأحدهم وهو عند المقام يدعو: تب من الهوى.
قال:
أتوب إليك يا رحمن مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوب
وإما من هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوب
ما حكم من رفض أن يتوب وأعلن لله أنه لن يتوب؟
قال أهل العلم: من حارب الله ولو بصغيرة وأصر عليها فهو ظالم {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11].
وعند المقام والبيت يتحدى الله، ويقول: وأما هوى ليلى وزيارتها ليلى فلا أتوب فافعل ما بدا لك!
حج الناس في القرن الثاني، وأخذوا الناس يطوفون بالبيت، تتنزل عليهم الرحمات، وتسكب دمعاتهم عند الحجر الأسود، وأتى رجل من الفنانين الذين يشكلون هذا الطراز الذي نعيش معهم اليوم، فترك مخافة الله، وخشيته، ومراقبته، ونظر إلى فتاة عند زمزم فقال:
قف في الطواف ترى الغزال المحرما حج الحجيج وعاد يقصد زمزما
لو أن بيت الله كلم عاشقاً من قبل هذا كاد أن يتكلما
هذا يغنى، والكثير منكم سمعه، وأهل العلم استتابوا صاحب هذه الأبيات لكنه الآن يغنى في الوسائل، والبينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وبينتي أنه بلغ درجة التواتر؛ أن يبث مثل هذا على الملايين من الأمة.
أما كلمات المغنين الحادثة ففيها كفر وفسق ومعصية.
من كلماتهم يقول أحدهم: "قسماً بمبسمك البهي"، والقسم بغير الله لا يجوز بل هو شرك، ويقول الثاني: "لنا الله"، والله يقول {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة:107] وهذا المطرب على مسرحية المعصية وعلى مسرح الجريمة يقول: لنا الله، وثالث يقول بلغته لا يعرف أن يذهب وهو موسيقار يقول: " ولا عاوزين إيه ولا عارفين إيه ولا رايحين إيه"، يقول الله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] وهذا يقول: لا أدري أين أذهب؟
ولأهل العلم ردود عليه، وهو الذي شهدت الملايين موته، وقامت الدنيا وقعدت من أجل موته، ويموت آلاف العلماء والصلحاء والزهاد ولا يقوم لهم بنت شفة ولا يتكلم عنهم.(1/7)
حكم الغناء
أما حكم الغناء فقد نقل الشوكاني الإجماع على تحريمه، ونقل الآجري في كتاب الشريعة عن أهل العلم إجماعاً أنه محرم، وهذا مالا يمتري فيه مسلم إلا من في قلبه شبهة، ولا عبرة بمن حلله، فهؤلاء ليس لهم من العلم الشرعي قدم، وإنما هم أشبه بالمثقفين والمفكرين، والله يقول: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].(1/8)
مفاسد الغناء
أما مفاسده فقد ذكرها ابن تيمية وابن القيم، منها: هدم الأخلاق، وغرس النفاق، والوحشة بين العبد وبين الله، وقسوة القلب، وضياع العمر، وحرمان سماع غناء الجنة الذي هو ألذ من كل لذيذ -أسمعنا الله إياه- وهذا لمن لم يسمع الأوتار والعيدان في الدنيا، قال ابن القيم ناظماً:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
ومن أراد أن يستمع إلى تفصيل أقوال أهل العلم ونقولاتهم والأدلة فليرجع إلى شريط (رسالة إلى المغنين والمعنيات) وهو موجود.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يارب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم لما تحب وترضى.
اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور، واهدهنا سبل السلام، اللهم رد شباب المسلمين إليك رداً جميلاً، وكفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم.
اللهم رد لنا بلادنا المسلوبة وأراضينا المنهوبة، وانصر من جاهد لإعلاء كلمتك يارب العالمين.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182].(1/9)
رسالة إلى مسئول
المسئولية في الإسلام أمانة، وليست مكاسب، لذلك إذ أخذها المؤمن يأخذها بعد أن يضطر إليها اضطراراً ليحملها وليأجر عليها.
والأمانة هي كل ما ائتمن الله العبد عليه من قليل أو كثير، فالبيت أمانة، والولاية أمانة، والأولاد أمانة، فمن قصر في أمانته أثم ومن وفى بها أجر.
وإن الله يردع بالسلطان ما لا يردع بالقرآن، وهو ظل الله في الأرض من أهانه أهانه الله، وطاعته في غير معصية من طاعة الله.
وينبغي للمؤمن إذا تولى ولاية أن يستعين بالأعوان الصالحين، ويخلص لله عز وجل في عمله، ويرفق بالمسلمين، ويكون حسن الخلق بشوشاً، ويقضي حوائج المسلمين.(2/1)
من قصص السلف مع الأمانة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
شكر الله لكم حضوركم، وشكر الله لفضيلة الشيخ تقديمه، وأسأل الواحد الأحد أن يفتح علينا وعليكم من فتوحاته.
قال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران:193].
عنوان هذه المحاضرة: رسالة إلى مسئول، المسئول المسلم أبي وأخي، والمسئول المسلم صديقي وحبيبي، فمن واجب النصيحة أن أنصحه، ومن واجب الحق وقبول الحق أن يستمع لي، فإن أصبت فمن الله الواحد الأحد، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، والله بريء من الخطأ، ورسوله بريء من الزلل.
لهذه المحاضرة عناصر ثمانية:
الأمانة: ما تعريفها وما حدها.
كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.
إثم من قصر في عمله.
أجر من أتقن عمله.
طاعة المسئول في طاعة الله الواحد الأحد.
عدم الحرص على المنصب والوظيفة إلا لمقصد صالح.
الحرص على الأعوان الصالحين والإخوان الناصحين.
آداب المسئول المسلم.
ولكنني أفتتح محاضرتي، بثلاث قصص من قصص السلف من قصص أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، من قصص القوم الذين رباهم الله بالكتاب والسنة:
هم القوم يروون المكارم عن أب وجد كريم سيد وابن سيد
وَهَّزتْهمُ يوم الندى أريحية كأن شربوا من طعم صهباء صرخد
ويطربهم وقع الصوارم والقنا بيوم الوغى لا ما ترى أم معبد
إذا وعدوا الباغين بالبأس أرعبوا فإن أحسنوا الحسنى فعن غير موعد
سلام عليهم، ورضي الله عليهم، وجمعنا بهم في دار الكرامة:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
قال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].(2/2)
أبو بكر الصديق
أبو بكر المسئول والخليفة الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعالوا، لننتقل إليه في عاصمة الإسلام في المدينة؛ لنرى يوماً من أيامه مع الرعية، وكيف عاش الخليفة أبو بكر؟!
ينطلق من المسجد كل صباح بعد صلاة الفجر مع المسلمين ويذهب إلى خيمة في الصحراء فريدة وحيدة، فيدخلها وعمر الوزير والمستشار المفوض لـ أبي بكر، يتابع الخليفة في خطواته ولا يدري أبو بكر أن عمر يتابعه ويريد أن يرى أين يذهب أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما دخل أبو بكر وخرج من الخيمة؛ دخل عمر بعد أبي بكر، فوجد عجوزاً كبيرة كسيرة عمياء في الخيمة، معها أطفال أبوهم قد مات، لا عائل لهم إلا الواحد الأحد، قال عمر: يا أمة الله! من أنت؟
قالت: امرأة من المسلمين حسيرة كسيرة، عجوز لي أطفال، مات أبوهم من زمن، قال: فمن هذا الشيخ الذي يأتيكم؟
قالت: والله ما أدري من هو.
لكن الواحد الأحد يدري من هو، الذي يعلم السر وأخفى، الذي يعلم صدق الصادقين وإنابة المنيبين.
قال عمر: ماذا يفعل هذا الشيخ الذي يأتيكم، قالت: يأتينا بعد فجر كل يوم، فيكنس بيتنا، الله أكبر أبو بكر يكنس البيت؟!
نعم.
لأنه يريد الجنة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] وقال تعالى أيضاً: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63].
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من تواضع لله رفعه، ومن تكبر على الله وضعه}.
قالت المرأة: يكنس البيت، ويصنع لنا طعامنا -يتحول الخليفة إلى طباخ للمساكين، يقدم لهم وجبة الإفطار- ويحلب لنا شياهنا، ثم ينطلق.
فماذا يرد عمر على هذه القصة؟ جلس عمر يعلق على القصة بالبكاء.
إذا اشتبكت دموع في خدودٍ تبين من بكى ممن تباكى
أحاذر أن يشق على المطايا فلا تمشي بنا إلا سواكا
ثم يقول عمر: [[أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر]] أتعبت يا أبا بكر المسئولين، أتعبت يا أبا بكر الموظفين؛ لأنك مشيت في طريق لا يستطيع أحد أن يمشي فيه، ولذلك ابن القيم إذا ذكر أبا بكر الصديق قال له:
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجى الأول(2/3)
عمر بن الخطاب
عمر بن الخطاب الخليفة الصادق صاحب الجبة المرقعة، الذي يأكل خبز الشعير في الزيت، والذي يموت خوفاً منه كسرى وقيصر:
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
يصعد المنبر يوم الجمعة، وعليه جبة عليها أربع عشرة رقعة، ويقول لبطنه وأحشائه عندما تقرقر جوعاً: [[قرقري أو لا تقرقري، والله لا تشبعي حتى يشبع أطفال المسلمين]].
ذكر ابن كثير في تاريخه بسند جيد عن أسلم مولى عمر قال: قال لي عمر في ظلام الليل
وعمر لا ينام، تقول له امرأته: يا أمير المؤمنين لا تنام في النهار ولا تنام في الليل، قال: [[لو نمت الليل لضيعت نفسي، ولو نمت النهار لضاعت رعيتي]] يخرج في الليل والناس نيام يجوب الشوارع، يسأل عن الأمن، يطرق البيوت، يدافع الإجرام، يفضح المجرمين، يسري كالبدر، معه درة في يده، يخرج بها وساوس الشياطين من بعض الرءوس.
قال أسلم وهو مولى: فقال لي عمر انطلق معي هذه الليلة.
ليلة من ليالي أهل الجنة، قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: {عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله}:
نامت الأعين إلا مقلة تذرف الدمع وترعى مضجعك
قال: فانطلقت معه، فأتينا إلى خيمة بها امرأة في الولادة وهي تبكي، فأخذ عمر يشاركها البكاء -لله دره، قلب وعى القرآن وعرف الإيمان- فقال أسلم: مالك يا أمير المؤمنين تبكي؟
قال: يا أسلم ما تدري ماذا تجد من ألم الولادة وألم النفاس، ثم انطلق إلى بيت المال، وأتى بجراب من شحم ومن دقيق ومن تمر وحمله على كتفه.
فقال أسلم: أنا أحمل عنك هذا يا أمير المؤمنين! قال: إنك لا تحمل خطاياي يوم القيامة، وذهب فدخل البيت، واستأذن على المرأة، فتحجبت وقام يشعل النار، والدخان يتخلل لحيته الكثة التي نصرت لا إله إلا الله في الأرض، فصنع الطعام وقدمه للمرأة فقالت: والله إنك خير من عمر بن الخطاب، وهو عمر بشحمه ولحمه ودمه، وإرادته وصدقه وعزيمته.(2/4)
سعيد بن عامر
أختار عمر من الصحابة رجلاً فقيراً زاهداً مصلياً عابداً ليكون والياً على حمص.
وحمص بلد للمشاغبين، كل يوم ترتفع منها شكاية لـ عمر يشكون فيها العامل، يثلمون في العامل ولو كان ملكاً من الملائكة، أمة تحب الشكايات طبعاً، فأراد عمر أن يسكتهم في رجل لا مطعن فيه، فقال: يا سعيد بن عامر اذهب فقد وليتك على حمص.
قال: لن أتولى حمص لك، إني أخاف من الله.
قال عمر: هيه! تضعونها في عنقي وتتركونني! والله لتتولين حمص.
يعني: تجعلون الخلافة في عنقي مسئولية وأمانة وغرماً وكلفاً ثم تركونني، فهي ليست سعادة، إنها لمن لم يحسنها خيبة وندامة يوم القيامة.
فذهب، أتدرون ما هو متاعه، قالوا: صحفة وعصا وشملة، صحفة يغتسل ويتوضأ ويأكل طعامه فيها، وشملة ينام فيها ويجلس عليها، ويضيف ضيوفه على هذا الفراش، وعصا يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه وله فيها مآرب أخرى.
ذهب إلى حمص، فاستقبله أهل حمص -يظنون أنه يبشر بالأمير، فأتى هذا ومعه صحفة وعصا وشملة وزوجته وراءه- قالوا: هل رأيت الأمير؟
قال: أنا الأمير.
قالوا: لا تستهزئ بنا! الأمير الذي أرسله عمر هل رأيته في الطريق؟
قال: أنا والله الذي لا إله إلا هو.
قالوا: وثيابك ثياب أمير!
قال: إني خرجت مأموراً من عمر ما أردت إمارة وما طلبتها.
وأتى إلى زوجته وقال: هل لك أن نتاجر في مالك وفي مالي؟ لأنها كانت تاجرة، قالت: وهل تعلم شريكاً يربحنا في التجارة؟
قال: نعم، وجدت بعض الشركاء يعطوننا في الدرهم عشرة أضعاف إلى سبعمائة درهم.
قالت: خذ مالي إلى مالك، ولا يفوتك هذا، فإنه مكسب عظيم، فأخذ ماله ومالها، فتصدق به في سبيل الله، وتولى الإمارة ومكث فيهم راضياً زاهداً صادقاً، فأتى عمر يبحث عن الأمراء -كان عمر له جولة استطلاع لاكتشاف المواهب، واكتشاف الدسائس، ويحاكم الأمير والوالي أمام الناس في مجلس شورى مفتوح- فيقول: ما رأيكم فيه، وما رأيه فيكم.
فلما وصل دور سعيد بن عامر وهو جالس، قال: يا أهل حمص ما رأيكم في أميري عليكم سعيد بن عامر، قام الناطق الرسمي بلسانهم، قال: فيه كل خير إلا أربع خلال فيه.
قال عمر: الله المستعان! اللهم لا تخيب ظني فيه، ما هي الأربع؟ قال: أولها: لا يخرج إلينا يوماً في الأسبوع ولا نراه، قال: هذه واحدة، والثانية؟ قالوا: من بعد صلاة العشاء مهما طرقنا عليه لا يخرج إلينا، قال: هذه ثانية، والثالثة؟ قالوا: لا يخرج علينا حتى يرتفع النهار ضحى، قال: هذه ثالثة -يعني يتأخر في الدوام- والرابعة، قالوا: إذا جلس في الحكم وفي دار الإمارة يغمى عليه، قال: هذه الرابعة، قال عمر: أجب يا سعيد.
فقال سعيد: ما أردت أن أظهر شيئاً من عملي بعد أن كتمه الله، ولكن ما دام أنك قد سألتني يا أمير المؤمنين فاسمع.
قال: الأولى: أما أني لا أخرج لهم يوماً في الأسبوع، فإن امرأتي مريضة، وليس لي خادم، فأنا أغسل ثيابي وثيابها يوماً من الأسبوع، فدمعت عينا عمر وشكره.
وأما أني لا أخرج عليهم حتى يتعالى النهار، فامرأتي كما قلت مريضة ولا خادم لي، فأنا أصنع الطعام وأفطر أنا وزوجتي، ثم أتوضأ وأخرج إليهم.
وأما أني لا أخرج لهم من بعد العشاء ولا أفتح الباب، فقد جعلت النهار لهم والليل لربي.
وأما قولهم إنه يغمى علي في المجلس، فإني حضرت قتل خبيب بن عدي في مكة وكنت مشركاً، وكان خبيب مسلماً، فاجتمع المشركون حوله ليقتلوه، فرأيته يرفع على الخشبة وهو يقول: [[اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً]].
ثم قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
فكلما ذكرت ذاك الموقف وأني ما نصرته أغمي علي، وغشي علي، فبكى عمر وبكى الناس، وقال: الحمد لله الذي لم يخيب ظني فيك، فقام سعيد بن عامر وقال: خذ إمارتك يا أمير المؤمنين، والله لا أتولى بعدها لك ولاية.
وجاء عمر يحاسبه بعد هذا الكلام والمحاضرة قال عمر: نحاسبك على ما أعطيناك من عطاء وعلى ما عندك، أدخلني بيتك، فدخل بيته فوجد شملة وصحفة وعصا، قال: أسألك بالله ما عندك من الدنيا إلا هذا، قال: والله الذي لا إله إلا هو ما أملك من الدنيا إلا هذا، فجلس في ركن البيت يبكي، وجلس عمر في ركنه الآخر يبكي، يقول عمر: غرتنا الدنيا إلا أنت يا سعيد.
سلام الله عليهم، ورضي الله عنهم، أمة أخرجها الله للناس.(2/5)
تعريف الأمانة وحدها
المسئولية في الإسلام أمانة وليست مكاسب، والكافر يطلب الإمارة ويطلب الولاية والمنصب ظهوراً وشهرة واستغلالاً، والمؤمن يأخذها بعد أن يضطر إليها اضطراراً، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].
قال بعض العلماء: الأمانة هي: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وقال آخر: الأمانة هي الإسلام.
وقال ثالث: الأمانة هي رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، والصحيح أن الأمانة: كل ما ائتمنك الله عليه من قليل أو كثير، فهو سائلك عنه يوم العرض الأكبر: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58].
فالأمانة هنا ما ائتمن الله العبد عليه، وظيفة قلَّت أو جلَّت، كبرت أو صغرت، يؤديها عند الله يوم القيامة، قال بعض السلف: " الفروج ومن تولى عليها في عقود أمانة، والأموال ومن كلف بها أمانة، والولايات أمانة، والرجل في بيته مؤتمن، والمرأة في بيتها مؤتمنة"، وسوف يأتي في ذلك عنصر.
ولما فتح المسلمون القادسية ونصرهم الله، ورفعوا لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في القادسية سلم لـ سعد بن أبي وقاص ذهب وفضة، واستولى على خزائن كسرى، ولما رآها دمعت عيناه وقال: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:25 - 29].
فماذا فعل؟ جمع الجيش وقال: هذه أمانة فما رأيكم؟
قالوا: نرى أن تدفعها لـ عمر بن الخطاب الخليفة فما أخذوا منها درهماً ولا ديناراً.
قوم ممزقة ثيابهم، مكسرة رماحهم، بهم من الظمأ والمجاعة ما الله به عليم، فدفعوا الأموال لـ عمر، فلما رآها بكى وقال: والله الذي لا إله إلا هو إن قوماً دفعوها إليَّ لأمناء.
ولما جاء معاذاً من اليمن كان معه بغال أتى ببغال معه وأتى ببعض المال -والقصة صحيحة- فقال عمر: سلم ما عندك من مال أحاسبك، قال: أنت الخليفة، أو أبو بكر، قال: أبو بكر الخليفة ولكن أنا هو وهو إياي، يعني أنا أقول بلسانه وهو يقول بلساني.
فقال معاذ: والله ما أخذت هذا المال إلا متاجرة وما أخذته من أموال المسلمين، فتركه عمر ونام معاذ تلك الليلة، فرأى في المنام أنه يريد أن يهوي إلى نار عميقة، وأن عمر يسحبه بثيابه على شفى حفرة من النار أي يرى أنه يكاد يهوي على وجهه في نار، وعمر يجره -فذهب معاذ إلى عمر في الصباح، قال: أحسنت، أصاب بك الله الخير، رأيت كيت وكيت، قال عمر: هيا بنا إلى خليفة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإن أحلك في مالك فهنيئاً مريئاً، وإلا فرده، فذهبوا إلى أبي بكر فأخبره، قال: أحللته لك خذه هنيئاً مريئاً.
إن عبادتهم كانت أمانة، ومراقبتهم لله عز وجل لا تفارقهم ليل نهار، وهم الذي بلغوا درجة الإحسان.(2/6)
كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته
أما عنصر {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته}: فهذا كلام الحبيب عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من حديث عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيتها ومسئولة عن رعيتها، ثم ذكر الولاة، ثم قال: ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته}.
إذاً: يا أيها الأب في البيت أنت راع، يا أيها المسئول، يا أيها الأمير، يا أيها الوزير، يا أيها القاضي، يا أيها الأستاذ، يا أيها العميد، كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، البيت مسئولية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة -المجدد في القرن الأول، الزاهد الأموي، رضي الله عنه وأرضاه- فأتى لينام الليل، فذهب النوم، قالت له زوجته فاطمة بنت عبد الملك: يا أمير المؤمنين ألا تنام، قال: كيف أنام وقد ولاني الله أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر الضعيف والمسكين، وأمر الشيخ الكبير والمرأة العجوز، وأمر الهرم والعجوز والفقير، فبكت معه.
ونستخلص من هذا:
أن المسئولية في الإسلام مغرم لا مغنم، فاصرف نظرك أن تظن أن المنصب وسيلة لك إلى السعادة، فلن يكون إلا إذا جعلته طاعة لله.
وربما رددت علي وقلت: ربما يسعد بعض الناس بالمنصب أو بالمسئولية في مال من غير وجهه أو في شهرة أو في ظهور.
قلت: هذا مكسب فقده خير منه، وهو الموت والقتل والذبح، وهو الذي يجعله الله وبالاً على صاحبه، وهل أهلك فرعون إلا المنصب يوم جعله لعنة، يوم جعله معصية، يوم جعله محاربة لله، وهل أهلك قارون إلا المال، فجعله سلاحاً هداماً في وجه رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وهل أهلك أبا جهل إلا الجاه يوم جعله عقبة في وجه لا إله إلا الله محمد رسول الله.(2/7)
إثم من قصر في عمله
اسمع إلى الحبيب عليه الصلاة والسلام يقول في الصحيحين: {ما من عبد يسترعيه الله عز وجل على رعية، يموت يوم يموت غاشاً لرعيته، إلا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة} وفي لفظ صحيح: {ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته؛ إلا حرم الله عليه الجنة} غاش ما أعطاها حقها، ولا أنصف مكلومها وما رد ظالمها، وما قضى حوائج أمة محمد عليه الصلاة والسلام.
إنه حديث عظيم وفي العموم ما من عبد قلت مهمته أو كبرت إلا يسأله الواحد الأحد يوم العرض الأكبر: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:24 - 25] والجندي واللواء، والقائد، والموظف، والداعية، والأستاذ، كلهم مسئولون:
إذا قيل أنتم قد علمتم فما الذي عملتم وكل في الكتاب مرتب
وماذا كتبتم في شباب وصحة وفي عمر أنفاسكم فيه تكتب
فيا ليت شعري ما نقول وما الذي نجيب به إذ ذاك والأمر أصعب
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب
حضرت الخليفة عبد الملك بن مروان الوفاة، فلما أصبح في سكرات الموت، ذهبت الجنود والجلود، والرايات والعلامات، والفضة والذهب، والدور والقصور قال: لا إله إلا الله! يا ليتني ما عرفت الخلافة، يا ليتني ما توليت الملك، يا ليتني كنت غسالاً، قال: سعيد بن المسيب يعلق على القصة: -ذكرها الذهبي الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا في سكرات الموت ولا نفر إليهم]].
وصح عنه عليه الصلاة والسلام عند مسلم في الصحيح أنه قال: {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به}.
ومعنى ذلك: يا رب من شق على أمتي، فحبس صاحب الحاجة، وأخر صاحب الطلب، وغلظ في الخطاب وأتعب المسلمين؛ فأتعبه يا رب يوم العرض الأكبر يوم لا حاكم إلا أنت، ولا منصف إلا أنت، ولا حكم إلا لك.
ويا رب! من تولى أمراً قليلاً صغيراً أو كبيراً، فرفق بالأمة ورحم ضعيفها، وقضى حوائجهم، وحنَّ عليهم، وتلطف معهم، وصبر على أذاهم؛ فارفق به يوم العرض الأكبر، يوم تتطاير الصحف، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وقال عليه الصلاة والسلام: {إن شر الرعاء الحطمة} حديث رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح، والرعاء جمع راعي، وهو ولاه الله مسئولية على المسلمين، ولو في مكتب، ولو على اثنين، ولو على دائرة، ولو على مصلحة صغيرة، هذا من الرعاء.
والحطمة معناه: ما استخدم قائداً للإبل أو راعياً لها إذا حطم الإبل ولم يحسن سياستها ورعيها، فحطم بعضها ببعض وأهلكها، فهذا من شر الرعاء.
دخل عائد بن عمرو على عبيد الله بن زياد الوالي فقال: يا أيها الأمير ارفق بالأمة، فإني سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {إن شر الرعاء الحطمة} وهو الذي لا يرفق بالأمة، وهو الذي يعصف بالناس، وهو الذي لا يقضي حوائج الناس على الوجه المطلوب.
اسمع إلى حديث عظيم رواه أبو داود والترمذي قال عليه الصلاة والسلام: {من ولاه الله شيئاً من أمر أمتي، أو من أمر المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم؛ احتجب الله دون حاجته وفقره وخلته يوم القيامة} حديث صحيح.
معنى الحديث: من ولاه الله مسئولية الأمة فاحتجب، وقطع الطرق إليه، وعطل المسئولية، ولم يقم بالواجب، وأخر المراجعين، والمحتاجين، وكبت المساكين، احتجب الله دون حاجته وخلته -يعني مشقته- وما يحتاجه يوم القيامة، أو حاجته الداخلية وفقره يوم العرض الأكبر.
واحتجب هنا بمعنى أن الله له حجاب خاص يليق بجلاله، يحتجب عمن احتجب عن حوائج المسلمين، ومقصود هذا عذاباً وجزاءً ونكالاً، والجزاء من جنس العمل، فكما احتجب عن الأمة، وكما عطل معاملات الأمة، يعطله الله يوم العرض الأكبر، ويؤخره الله في العرصات، ويحتجب دون حاجته، فلا يرفع حاجته، ولا يجيب دعوته، ولا يسد عوجه، ولا يغني فقره، ولا ينجي مقصده، فيبقى في الأذلين الخاسرين.
يا لخسارة من ظلم يوم العرض الأكبر، يوم يقول الله: لمن الملك اليوم؟ فيجيب نفسه بنفسه: لله الواحد القهار.
إلى ديان يوم الحشر نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
أما والله إن الظلم شينٌ وما زال المشين هو الظلوم
هذه قالها أبو العتاهية -وقيل أبو نواس - أرسلها في رسالة للأمير عندما حبسه في سجن، فدمع في ظلام الليل، وكتب هذه الأبيات في قصيدة طويلة إلى الخليفة، فأبكاه حتى بلَّ الرسالة بالدموع.(2/8)
دعوة المظلوم
قيل لـ خالد بن يحيى البرمكي، والبرامكة أسرة عباسية تولت الوزارة في عهد هارون الرشيد، فعاثت في الأرض فساداً، كان تطلي القصور بالذهب وماء الفضة، زرعوا حدائق وبساتين، عسفوا وظلموا، ثم أغضب الله عليهم أقرب الناس لهم - هارون أُغضب في دقيقة واحدة- فأخذهم فقتل شبابهم وأخذ شيوخهم فأودعهم السجون، منهم خالد الذي ما رأى الشمس سبع سنوات -ذكر القصة ابن كثير - صار الشيخ الوزير الكبير، عجوزاً هزيلاً، وقد طالت أظافره -ما وجد مقراضاً يقلم أظافره- وقد سقطت حواجبه على عينيه، وقد شابت لحيته ورأسه، وأصبح في ثياب ممزقة وفي بأس، قال له ابنه وهو معه: لا إله إلا الله! بعد النعيم والوزارة أصبحنا إلى هذا المكان! لماذا؟!
قال هذا الرجل وهو يبكي: دعوة مظلوم سرت في ظلام الليل، غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها، وقال: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين:
جاءتك تمشي رافعاً ذراها أولها ردت على أخراها
دعوة المظلوم أسبق من الضوء.
قيل لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ كم بين العرش والتراب؟! أيجيب بالأميال، أو بالكيلو مترات، قال علي: وحسبك بـ أبي الحسن، قال: [[بين العرش والتراب دعوة مستجابة من مظلوم يرفعها الله على الغمام، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين]] وفي الصحيحين أن الرسول عليه الصلاة والسلام أرسل معاذاً إلى أهل اليمن فقال له في آخر الحديث: {إياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب}.
الإمام أحمد ظلمه ولاة السوء وأهل البدعة، وتولى ظلمه أحمد بن أبي دؤاد أحمد أهل البدعة، وأحمد أهل السنة أحمد بن حنبل وابن الزيات ورجل آخر.
قال الإمام أحمد لـ ابن الزيات: اللهم عذبه في دنياه، اللهم اسلب نعمته، وقال لـ أحمد بن أبي دؤاد: اللهم احبسه في جسمه.
فـ أحمد بن أبي دؤاد أصابه الفالج، وكان يبكي ويقول: أما نصفي هذا فلو قرض بالمقاريض ما شعرت به، وأما نصفي هذا فلو وقع عليه الذباب ظننت أن القيامة قامت.
وأتى ابن الزيات فأغضب الله عليه الخليفة فقطع يديه، وأدخله فرناً حاراً وسمر المسامير في أذنيه، وهذا إثم من قصر في علمه، فإنه يستوجب دعاء المظلومين ودموعهم الحارة، فكم وراء الأبواب من مظلوم، ومن محتاج ومقصر لا يستطيع رفع حاجته، ولا إيصال معروضه ولا كتابته، وهذا واجب المسئول الذي يعلم أنه سوف يحشر عرياناً يوم العرض الأكبر على الله.
قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94].
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمورُ
يوم يشيب لهوله الولدان من أسف ويأكل كفه المثبورُ
هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف الذي مرت عليه دهورُ
كيف الذي مرت عليه سنوات وهو ظالم، ظالم في عمله لا يؤديه على أكمل وجه، لم ينصح لولاة الأمر، ولا نصح للرعية، ولا نصح في الوقت، ولا نصح في الراتب الذي يأخذه، ولا نصح بينه وبين علام الغيوب الذي يعلم السر وأخفى من السر.(2/9)
أجر من أحسن عمله(2/10)
إتقان العمل
أما العنصر الرابع: فهو أجر من أحسن عمله، قال عليه الصلاة والسلام كما عند البيهقي بسند حسن من حديث كليب وعائشة: {إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه} ما أحسن هذا الحديث! وهو يدخل في كل جزئية من جزئيات العمل، وفي لفظ: {إن الله يحب العامل إذا أحسن} هذان لفظان صحيحان، وهو مقبول على كل حال.
والإتقان عند أهل العلم أن تؤدي العمل على أكمل وجه، الإتقان في التعليم: أن تعلم تعليماً يقبله الله عز وجل، ويستفيد منه المسلمون، وتلقى به الله عز وجل وأنت صادق.
الإتقان في التجارة، والوظيفة، والمنصب، والمتجر، والمزرعة، فالله يحب من العبد أن يتقن العلم، أما إذا قدمت العلم معوجاً في الوقت، ومعوجاً في الأداء، ومعوجاً في الحسن؛ فلن يقبله الله عز وجل؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: إمام عادل}.
وكل راع استرعاه الله رعية فعدل بينهم فهو من الأجناس الذين يظلهم الله عز وجل يوم يشتد الكرب على النفوس، وتدنو الشمس من الرءوس، ولا حكم إلا الله، فينادي الله عز وجل أين ولاة الأمر العدول؟ فيقوم المسئولون، فيظلهم الله في ظل العرش؛ لأنهم صدقوا مع الله الواحد الأحد، ولذلك يقول أهل العلم: نرجو أن يكون عمر بن عبد العزيز من الخلفاء الراشدين؛ لأنه من أئمة العدل، ومن الذي صدقوا ما عاهدوا الله عليه في مسئوليته وفي ولايته رضي الله عنه وأرضاه.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم عند مسلم في الصحيح أنه قال: {إن المقسطين عند الله على منابر من نور، الذين يعدلون في عملهم وأهليهم وما ولوا}:
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
والمقسط: هو العادل {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين َ} [الحجرات:9] أي: العدول.
{على منابر من نور} وإذا كانت منابر، وكانت من نور، وكانت في الجنة، وكانت على يمين الرحمن، فماذا تكون، لا إله إلا الله من نعيم ما أحسنه! ولا إله إلا الله من مصدر ما أجمله! ولكن من يعمل لهذه المنابر، {إن المقسطين على منابر من نور عند الله عز وجل الذين يعدلون في عملهم وأهليهم وما ولوا} قال ابن تيمية: حتى العدل بين التلاميذ في التعليم.
وأقول: حتى العدل بين الطفلين فهو من العدل، حتى القيام بالمسئولية في البيت، والعدل بين الأطفال، والعدل في التصحيح بين التلاميذ والطلاب، إذا فعلت ذلك أجلسك الله على منبر من نور على يمينه في الجنة، وما أحسن المجلس وما أحسن المقام.
قالت امرأة فرعون آسية: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] قال ابن القيم: انظر إليها سألت الجار قبل الدار، فسؤال الجار قبل الدار أحق للعبد أن يسأله من الواحد الغفار.
أستطرد في الجار: التهامي وهو شاعر عربي فصيح، توفي ابنه فرثاه بمرثية تبكي العيون، يقول من ضمن أبياتها:
إني وترت بصارم ذي رونق أعددته لطلابة الأوتارِ
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
يقول: أنا بقيت للحساد في الدنيا، وهو ذهب إلى جوار الله.
قال ابن كثير: توفي أبو الحسن التهامي -هذا الشاعر- فرئي في المنام، قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة، قالوا: بماذا، قال: بقولي في القصيدة المشهورة:
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
وهي من أحسن ما قيل، والمقصود هنا أن العدول والمؤتمنون والقائمون بأعمالهم على منابر من نور.(2/11)
السلطان العادل من أهل الجنة
وقال عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم في الصحيح: {أهل الجنة ثلاثة: سلطان مقسط موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال} والشاهد قوله: ذو سلطان مقسط موفق، أي المؤتمن العادل، الذي قام بالأمانة على وجهها، فهو من أهل الجنة، وفي بعض الآثار: [[عدل يوم خير من عبادة سبعين سنة]].
فكم يؤجر العبد الذي يوليه الله أمراً من أمور المسلمين، فَيحكِّم في الأمة الشريعة، ويقيم سيف العدالة، ويحرس طرق الناس ومدنهم، وانظر إلى آثار تطبيق الشريعة في بلادنا والحمد لله، ننام ونهدأ ولا طارق يطرقنا ولا سارق يسرقنا، ولا ناهب ينهبنا، ولا سالب يسلبنا، هذه آثار العدل، والله أقولها بجدارة من قلبي؛ لأنني رأيت أمم الغرب التي أعرضت عن منهج الله، وتطبيق كتاب الله، وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] لما أعرضوا عن تحكيم الشريعة، عاشوا الرعب القلق والاضطراب، هنا سلب، وهناك نهب وقلق، وهنالك قتل وسفك للدماء، لكن لما حكم عندنا الشرع الشريف والكتاب والسنة؛ أصبحت الجزيرة العربية شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً يسير السائر فيها لا يخاف إلا الله، يحمل المال والذهب وأهله معه ومحارمه في سيارته؛ لأن اللص والسفاك والمجرم يعرف أن هناك سيفاً مسلولاً بجانب المصحف إذا اعتدى:
السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179] حياة وأمن ورغد، تذهب إلى البنك وتأخذ مالك في حقيبتك في الشارع والناس يرونك، ولا يجرؤ أحد أن يتعدى بخطوة، لكن جرب هذا في نيويورك أو في لوس أنجلوس والله ما تجرؤ، وإن الليل هناك يتحول إلى العصابات والإجرام، وإنك تمسك يدك على قلبك من السفك والسلب والنهب:
دعها سماوية تمشي على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوس
شريعة خالدة تجعل الإنسان في ظل الأمن يعيش الرخاء، يذهب بزوجته وبأخته وبفتاته إلى كل مكان، ويعلم المجرم أن وراءه سوطاً وسيفاً وسجناً، وأن وراءه كتاباً منزلاً وسنة مقروءة من محمد عليه الصلاة والسلام:
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركنا غير منهدم
لما دعا الله داعينا لدعوته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم(2/12)
طاعة المسئول في طاعة الله
المسألة الخامسة: طاعة المسئول في طاعة الله عز وجل: {من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله} حديث من الرسول عليه الصلاة والسلام.
ويقول عثمان رضي الله عنه وأرضاه: [[إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن]] ومعنى ذلك: أن الله يردع بالسلطان ما لا يردع بالقرآن، أتظن أن الناس يرتدعون بالآيات البينات كلهم، المجرم لو قرأت عليه القرآن ثلاثين مرة يبقى مجرماً، لكن إذا وجد سلطاناً وسيفاً وحديداً ارتدع، وهذا يردع كثيراً من الناس، فالسلطان ظل الله في الأرض من أهانه أهانه الله.
وعند أحمد في المسند: {ثلاثة حق على المسلم توقيرهم: حامل القرآن غير الجافي فيه ولا الغالي، وذي الشيبة المسلم، والسلطان العادل} هؤلاء يكرمهم الله، وحق أن توقرهم، لأنهم اتقوا الله، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] أي: في طاعة الله عز وجل، فإذا عصي الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وفي الصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا بايع الصحابة قال: {فيما استطعتم}.
وقال أبو بكر الصديق في أول خطبة رنانة له في أول يوم تولى فيه الخلافة: [[أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم]] وهذه من الكلمات النيرة لـ أبي بكر الصديق.
قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: {من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني} أي: في طاعة الله عز وجل وفي طاعته عليه الصلاة والسلام، وهذا أمر لابد أن يعلم، فما قلته من نفسي وإنما قاله أبو القاسم عليه الصلاة والسلام، ونحن ليس لنا قول معه يحتج بقوله على الأقوال، ولا يحتج بالأقوال على قوله، فقوله إذا ذكرت الأقوال ميزة، وفعله إذا ذكرت الأفعال برهان، وحاله إذا ذكرت الأحوال عرفان، فهو الذي عصمه الله سراً وظاهراً، غيباً وشهادة، صلى الله عليه وسلم.
قال ابن مسعود: {يا رسول الله، إذا أدركنا ولاة لا يعطوننا حقنا قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم، فإن الله سوف يسألكم عن حقكم ويسألكم عن حقهم} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وهذا الحديث متفق عليه بنحوه.(2/13)
عدم الحرص على المنصب إلا لمقصد شرعي
المسألة السادسة: عدم الحرص على المنصب إلا لمقصد شرعي.
المنصب عندنا في الإسلام مسئولية وأمانة وتبعة ومغرم، كان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يبكي ويقول: يا عمر تول، يا أبا عبيدة نبايعك، وتولى عمر فبكى.
بكى الصالحون من المسئولية لأنها خزي وندامة يوم القيامة إلا من خاف الله واتقى الله فيها، أما لمقصد صالح فإني أستثنيكم في ذلك؛ لأن أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية قال: إذا رأى المسلم أنه يتعين عليه أن يتولى هذه الولاية فعليه أن يبادر بذلك أو كلاماً يشبه هذا، واستدلوا على ذلك بقول يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] فطلب المنصب لأنه يرى أنه أحق الناس، فالقاضي إذا رأى أن القضاء سوف يضيع من المسلمين، ويتولاه من ليس كفواً له فعليه وجوباً أن يطلب القضاء، والأستاذ والمدير كل بحسبه إذا أراد الله بهذا العمل رزقه الله الصدق والثبات والتوفيق.(2/14)
النبي صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه من الحرص على الإمارة
عبد الرحمن بن سمرة قرشي من آل شمس، أغر كغرة الفرس، رآه عليه الصلاة والسلام فرأى عليه مسحة الإمارة فقال له: {يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إلى نفسك، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها} يعني إذا أجبرت، وعلم الله أنك لا تريد المنصب فأوتيتها، أعانك الواحد الأحد عليها، أما إذا حرصت عليها فإنك لا تعان، لأن عند أهل السنة أن الحرص على الولاية وطلبها لغير مقصد شرعي ينبئ عن مقاصد الله أعلم بها، إما للسلب والنهب أو للمال أو للسرقة أو للتشفي من المسلمين.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي موسى أنه قال: {إنا لا نعطي هذا الأمر من حرص عليه} هذه الولاية لا نعطيها رجلاً يحرص عليها، وإذا رأيت الرجل يجري وراءها فاعرف أنه يريد شيئاً، (كاد المريب أن يقول خذوني) في قلبه أسرار، وله مقاصد غير معروفة، أما إذا ظهر مقصده الصحيح وعلم الله صدقه، أعانه الله على هذا المنصب، قال سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ الشرعي عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] فيجعل الله العاقبة لمن اتقى الله في المنصب وسدد وقارب.
أول مرسوم أخذه عمر وفعل به في الخلافة أتدري ما هو؟
أول ما تولى الخلافة، قال: بسم الله الرحمن الرحيم؛ من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح أمَّا بَعْد:
فتول إمرة الجيوش واعزل خالداً.
خالد بن الوليد سيف الله! خاض مائة معركة ما هزمت له راية:
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشرٍ بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلها ولا رمى الروم إلا طاش راميها
فأتت الرسالة إلى أبي عبيدة فبكى، لأنه سمع بموت أبي بكر وسمع البيان -هذا المرسوم- فلف الرسالة والمسلمون في المعركة، فما أخبر خالداً، فلما انتهت المعركة أخبره، قال: أنا لا أريد الإمارة وأنت أحق مني، فإن تريد الإمارة فابق عليها، وإنما هي أيام قلائل حتى نلقى الله، حتى دمعت عينا خالد وقال: أنت أحق بالإمارة مني، وقبل رأس أبي عبيدة وقال: أنا لا أعمل لـ عمر أنا أعمل لله أميراً أو جندياً، وسوف أقاتل لله اليوم مثلما قاتلت لله في الأمس، فبقي في الجيش من عرض الجنود: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].(2/15)
ليس كل تقي مؤهلاً للإمارة
وعند مسلم في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: {يا أبا ذر! إنك رجل ضعيف، وإنها أمانة، وإنها خزي وندامة يوم القيامة} والسبب أن أبا ذر قال: يا رسول الله وليت فلاناً، ووليت فلاناً وتركتني، يعني ما هو السبب؟!
لماذا تولي فلاناً على نجران مثلاً، وفلاناً في اليمن، وفلاناً في مكة، وأنا تتركني، ظن أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه أن الرسول عليه الصلاة والسلام يولي بسبب حبه للناس، قال: {يا أبا ذر إنك رجل ضعيف}.
قال بعض المحدثين: ضعيف التصريف، لأن بعض الأتقياء لا يصلح في الإدارة، لو وليته الإدارة ضاعت الإدارة، وضاعت الكراسي، وضاعت الماسات والمكتب والدبابيس والخرامات، وكل شيء يجعله فوضى، تصبح المسألة مخربة، وهو تقي يقوم الليل ويصلي الضحى، ويصوم النهار، ويقرأ القرآن لكن لا يعرف.
وبعض الناس فيه قليل من التقوى لكنه يجيد الولاية، لذلك سئل الإمام أحمد -والسؤال هذا صحيح، ذكره ابن تيمية في كتاب الجهاد من الفتاوى - أيولى على المسلمين القوي الفاجر، أم التقي الضعيف؟
قال: "بل يولى عليهم القوي الفاجر"، لأن قوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الضعيف التقي فضعفه على المسلمين وتقواه لنفسه، وابن تيمية يرى هذا ويقول: قد ولى الرسول عليه الصلاة والسلام في بعض الولايات خالد بن الوليد، وفي الصحابة من هو أفضل منه، كـ أبي ذر، وفلان وفلان، وخالد أجدر بالإمرة، وأقوى في تنفيذ الأوامر، وأحسن سياسة، فولاه عليه الصلاة والسلام وهذه فائدة، فـ أبو ذر قال له صلى الله عليه وسلم: {إنك ضعيف} وفي بعض الروايات الصحيحة: {وإني أحب لك ما أحب لنفسي}.
أبي بن كعب هو أبو المنذر سيد القراء، يصلح للقراءات، فهي تخصصه ولا يصلح في الإدارة قال لـ عمر: يا أمير المؤمنين! تولي الصحابة جميعاً حتى الأنصار وتتركني، ماذا رأيت فيَّ؟ قال عمر: [[يا أبا المنذر! والله الذي لا إله إلا هو إنك من أحب الناس إليَّ؛ ولكني لا أريد أن أدنسك بالدنيا]] أريد أن تبقى نظيفاً.
ولذلك يصفون أبي بن كعب فيقولون: كانت لحيته بيضاء وجسمه أبيض، ورأسه أبيض، وثيابه بيضاء {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35].
قال: [[والله إنك من أحب الناس إلي؛ ولكني لا أريد أن أدنسك بالدنيا]].
وعند البخاري أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {إنكم لتحرصون على الإمارة، وإنها خيبة وندامة يوم القيامة} لا إله إلا الله! ووقع والله، كان أحد الصحابة إذا ذكر هذا الحديث يبكي ويقول: [[والله حرصنا عليها حتى قتل بعضنا بعضاً عليها]] ولذلك كان في جبلة العرب الحرص على الإمارة.
الآن الطلاب في المركز الصيفي أو في المخيم إذا أركبتهم في (أتوبيس) وتقول: العريف عليكم فلان، قاموا يضاربون يريدون العرافة.
يقول أحد المفكرين: العرب مثل قرون التوت، يسافر ثلاثة منهم فيختلفون في الأمير، يريد كل منهم أن يكون أميراً، ويريد أن يكون إماماً، بكى ذاك الصحابي وقال: [[والله الذي لا إله إلا هو لقد حرصنا عليها حتى قتل بعضنا بعضاً]] نعوذ بالله من حرص على المسئولية، فإنها والله ندامة وخزي إن لم يحسن العبد التعامل ويراقب الله في ذلك، وقال رسول الهدى عليه الصلاة والسلام: {إنا والله لا نولي هذا الأمر أحداً سأله أو حرص عليه} وهذا الحديث زادنا فائدة وهي: أن من سأل الأمر أو حرص عليه ففيه نظر، إلا إذا ظهرت القرائن أنه يريد أن ينصر الإسلام من هذا المنصب، فجزاه الله خير ما جزى والياً عن أمة محمد عليه الصلاة والسلام.(2/16)
الحرص على اتخاذ الأعوان الصالحين والناصحين
العنصر السابع: الحرص على اتخاذ الأعوان الصالحين والإخوان الناصحين.
لكل مسئول جلاس، ولكل موظف سمار، ولكل أمين مؤتمنون حوله، يجلسون معه، ويعطيهم سره، وأمره، وفي صحيح البخاري يقول: الرسول عليه الصلاة والسلام: { h=7001566>> ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة، إلا قيظ له بطانتين: بطانة تأمره بالخير وتنهاه عن السوء، وبطانة تأمره بالسوء وتنهاه عن الخير، فمن أراد الله به خيراً قيظ له من يأمره بالخير وينهاه عن السوء، ومن أراد به السوء قيظ له من يأمره بالسوء وينهاه عن الخير} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
والبطانة: خاصة الرجل.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] وقال عليه الصلاة والسلام عند الترمذي بسند لا بأس به: {لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي} لا تجعل جليسك يا مسئول إلا مؤمناً يخاف الله، أمين السر، أمين المكتب، السكرتير، المسئول، المراقب، صاحب الاتصالات، الكاتب، الموزع، السائق، اجعلهم ممن يتقون الله.
عندما تولى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه جاء فحجب الحاجب وقال: [[اعزل نفسك، قال: ولم؟! قال: رأيتك تتستر في ظل الخيمة، والناس في الشمس في عهد الوليد بن عبد الملك، والله ما تكون لي حاجباً أبداً، تعال يا مزاحم أنت حاجبي، فقد رأيتك تكثر من قراءة القرآن وتصلي الضحى في مكان لا يراك إلا الله]] وكان عمر يقدر الناس بقدر تقواهم.
وفد عليه ثلاثة شباب، قال للأول: ابن من أنت؟ قال: أنا ابن الأمير الذي كان في عهد الوليد، قال عمر: اغرب عني وأبيك، فإن أباك كان يجلد المسلمين.
قال للثاني: وأنت ابن من؟ قال: ابن والي الكوفة قال: دعني منك ومن أبيك.
وقال للثالث: وأنت ابن من؟ قال: أبي هو قتادة بن النعمان الذي ضرب في عينه يوم أحد -ضربه مشرك فسالت عينه على خده- فردها محمد صلى الله عليه وسلم فكانت أحر من الأخرى ثم قال الفتى:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فبكى عمر بن عبد العزيز وقال:
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
يقول: من أراد أن يفتخر فليفعل مثلك، أنت النسب، أنت البطل، أنت التقي، فلذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {المرء يحشر مع من أحب، فمن أحب الصالحين حشر معهم}.
تولى علي رضي الله عنه وأرضاه الخلافة، فتفرقت الأمور وما ضبطت كعهد أبي بكر وعمر فجاء رجل إلى علي وقال: يا أمير المؤمنين! ما للناس أطاعوا أبا بكر وعمر وما أطاعوك؟!
قال علي -وكان ذكياً- قال: أتدري لماذا أطاعوهم وعصوني، كانت الرعية في عهد أبي بكر وعمر، الرعية علي وطلحة والزبير وعثمان ومعاذ وأبي وسعد، ولما توليت أنا أصبحت الرعية أنت وأمثالك.
وجاءه رجل يمدحه فقال علي: خفف من كلامك، فإني أعظم مما في نفسك ودون ما تقول.
يعني كأن الرجل في الظاهر يمدح علياً كرم الله وجهه، وفي الباطن لا يرى حق علي، قال: أنا أعظم مما في صدرك وأنا دون لا تذكر من غلو المدح.
إذا عرف ذلك فقد عرف عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل}.
يقال في بعض أسباب الحديث -ولو أن السند ضعيف إن امرأة أتت من أهل مكة -كانت مزاحة تضحك النساء- فنزلت على امرأة مزاحة في أهل المدينة، فقال في الحديث الآخر: {الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف} ولذلك تجد الصالح يأنس للصالحين، سائقه صالح، والسكرتير عنده صالح، وأمين المكتب صالح، والمتصل صالح، والموزع صالح، فيأنس لهم بخلاف الذين تولوا عن منهج الله.(2/17)
آداب المسئول المسلم
العنصر الثامن والأخير: آداب المسئول المسلم.
للمسئول المسلم آداب لأنه يمتاز بميز عن المسئول الكافر، نعم.
هذا مسئول وذاك مسئول؛ لكن هذا وهو يذهب إلى عمله يتذكر الواحد الأحد، ويتذكر لقاء الله عز وجل، ويتذكر المحاسبة بين يدي الله عز وجل بخلاف الآخر، وللمسئول المسلم أربعة آداب:(2/18)
الإخلاص في العلم وإرادة وجه الله بالعمل
قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ} [البينة:5] وقال: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] جلوسه على المكتب؛ في الفصل والمعمل والوظيفة أمانة وعبادة، وإذا احتسبها عند الله عز وجل هي من أعظم العبادات، فإن الصحابة ما خرجوا كلهم يتنفلون في بقية أوقاتهم، بل كانوا يؤدون الفرائض، ثم يذهب هذا أميراً، وهذا والياً، وهذا خليفة، وهذا راعياً، وهذا مسئولاً، فيأجرهم الله على ذلك.
فالله الله في الصدق، وفي طلب ما عند الله من الأجر، فإن الله يعظم الأجر بقدر ما يصدق العبد معه في العمل، فيا مسئولاً خف الله.
ويا مسئولاً في بلاد الله، ويا مسئولاً مع ولاة الأمر الذين يحكمون بشرع الله، أوصيك بمخافة الله، والصدق مع الله، وبمحاسبة نفسك قبل أن تحاسب في العرض الأكبر، حاسب نفسك في أداء الأمانة في الوقت، وفي إعطاء العمل حقه.(2/19)
الرفق بالمسلمين
أنت تتعامل مع موحدين، أنت تتعامل مع عباد الله، وفي بعض الآثار التي يحسنها بعض العلماء: {الفقراء عيال الله، فأقربهم إلى الله أنفعهم لعياله} فهؤلاء عيال الله، هؤلاء أمة الله، وهؤلاء يحتاجون إلى حنان منك فلاطفهم، كلمة توجه لرجل المرور الذي هو منا، أخونا وابن عمنا، الجندي، الحارس، المسئول، الأستاذ، العميد، الموظف أن يتعامل برفق، قال عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه} وقد سبق معنا الحديث الصحيح: {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق به} فالرفق الرفق! الحنان والعطف عليهم، قبول ما يبدر منهم، المعاونة لهم على متطلباتهم والسعي في مهماتهم: {والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه} {ومن سهل على مسلم سهل الله عليه في الدنيا والآخرة} وفي لفظ الصحيح: {من يسر على مسلم يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله، ومن قضى حاجة لأخيه قضى الله حاجته يوم القيامة}.(2/20)
حسن الخلق والبشاشة
نطالب المسئول المؤتمن أن يبش لوجوه المسلمين، صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} إذا سلم رد عليه السلام، قم للشيخ الكبير، أنزل التقي منزلته، فرحب به وحيه، كن داعية في مكتبك وفي وظيفتك لتثني عليك الألسنة، وتدعو لك القلوب، وتحبك الأرواح، ويجعلك الله ولياً من أوليائه.
أحسن إلى الناس تستبعد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
كن رائق البشر إن الحر شيمته صفيحة وعليها البشر عنوان
تبسم؛ هز راحتك، قدم يدك، احتف بالداخلين عليك لأنك داعية، ما أحسن المسئول يوم يحيي الداخلين والمراجعين! ما أحسنه حين يتواضع! ما أحسنه يسأل عن أخبارهم! كان عليه الصلاة والسلام إذا وفدت عليه الوفود يقول: {ممن القوم؟} وكان يسأل ويقول كما عند الترمذي بسند فيه كلام: {إذا عرف أحدكم أخاه، فليسأله عن اسمه وعن نسبه فإنه يواصل المودة}.
قال العربي الأول الكريم؛ صاحب المروءة وهو وثني:
أُحادث ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب
وفي حديث: {إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم حسن الخلق} أنت لا تنفق على الناس من جيبك، إنما تنفق عليهم بالبسمة، وبالرحمة يحببك الله إلى الخلق، ويجعلك قريباً منه، وبقدر ما يفعل الإنسان يفعل الله له يوم القيامة، والجزاء من جنس العمل.(2/21)
قضاء الحوائج والحرص على إنهاء متطلبات المؤمنين
فإن صاحب الحاجة مجنون بها حتى تقضى، وهو مشغول بها ليل نهار، أما تدري أن صاحب الحاجة يظن أن الدنيا ومشكلة الشرق الأوسط في هذه الحاجة، ينام الليل وهي في ذهنه، ويقوم النهار وهي في ذهنه، فإذا قضيتها قضى الله لك حوائجك، ويسر لك أمورك، التسويف أو المماطلة للمسلمين -تعطيل المسلمين- ليس بوارد عند من يخاف الله ويريد الدار الآخرة، شيخ كبير عجوز هرم أو شاب عنده من الأمور ما يعطله فاقض حاجته وفرج كربته، وفي الحديث: {من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا؛ فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة} يوم الكربات، يوم الهموم والغموم، يوم الأحزان، فرج كربة عن صاحب حاجة، عن مراجع، عمن عنده مسألة، والله إن من المكسب لك أن تنهي له الحاجة.
وفد رجل على علي فطلب له حاجة، فقال: الحمد لله الذي جعلك صاحب الحاجة ولم يجعلني صاحب الحاجة، لأقضينها إن شاء الله.
قال الرجل:
كسوتني حلة تبلى محاسنها لأكسونك من حسن الثنا حللا
الثناء الجميل
ولم أرَ كالإحسان أما مذاقه فحلو وأما وجهه فجميل
كاد الجميل أن يكون رجلاً، ولو كان رجلاً لكان حسناً، وكاد أن يكون نبتاً، ولو كان نبتاً لكان ورداً.
قال أبو جعفر المنصور لجلاسه وسماره: ما أحسن بيت قالته العرب؟
قالوا: ما ندري.
قال: قول القائل:
الخير يبقى وإن طال الزمان به والشر أخبث ما أوعيت من زاد
وقال الحُطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
جاء إعرابي إلى ابن عباس، وهو في الحرم ينثر على الناس العلم كالدرر وينثر والمال كما قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] قال الإعرابي: يا ابن عباس! قد أحسنت إليك إحساناً فكافئني، قال: ما فعلت يا أخا العرب، قال: رأيتك العام الأول تشرب من زمزم وأصابتك الشمس فظللتك عن الشمس، قال: يا غلام أعطه مائة دينار، واكسه حلة، وقد قصرنا لكن يكافئك الله على ما قدمت لنا.
فما أحسن الجميل! فقضاء الحوائج ولو بالميسور من اللفظ، والشفاعة إن استطعت أن تقوم بها فافعل، توسط واتصل واكتب، وسوف ترى ذلك في سجل الحسنات: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].(2/22)
الأسئلة(2/23)
أسباب عدم التأثر بسماع القرآن
السؤال
السلف كانوا يبكون بكاءً شديداً من سماع القرآن، ولكنا نسمع الآيات ولا نبكي ولا نتأثر كما تأثر السلف فما هو العلاج؟
الجواب
أقول كلنا ذاك الرجل، ونسأل الله عز وجل أن يتوب علينا وعليكم، وأن يلين قلوبنا لذكره، ولا نيئس من روح الله، فإن نفحات الله تمر بالعبد، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، وقسوة القلب تأتي من أمور:
منها: مرض الشبهات: فإنه فتاك، وهو السم الزعاف، وهو يقتل القلب قتلاً.
ومنها: الشهوات: فإنها مرض خطير وعضال، وهي حب المعاصي والفاحشة والعياذ بالله.
ومنها: المباحات: وكثرتها وكثرة الكلام بغير ذكر الله، وكثرة الخلطة خاصة خلطة من لا يقربك من الله، وكثرة النوم، وكثرة الأكل كلها من المباحات التي إذا كثرت قسا القلب، وقد بينها ابن القيم.
ولكني أوصيك ونفسي بكثرة الذكر، وبتدبر القرآن، وبصيام بعض الأيام على السنة، وبمجالسة الصالحين، وبحضور حلق العلم والمحاضرات والدروس، ولا تقل إنك عالم أو إن المحاضر لا يأتي بجديد، الجديد رحمة الله التي تظلك وأنت في المجلس، الجديد تنزل الملائكة عليك، الجديد غشيان السكينة، الجديد حفوف الرحمة، الجديد أن يقول الله في آخر المحاضرة: {انصرفوا مغفوراً لكم فقد رضيت عنكم وأرضيتموني، فتقول الملائكة: يا رب معهم فلان ليس منهم -أي: مر في الطريق هو يريد طريقاً آخر لكن رأى المحاضرة فدخل- قال: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم} رحيم:
فلما جلسنا مجلساً طله الندى جميلاً وبستاناً من الروض غانيا
أثار لنا طيب المكان وحسنه منى فتمنينا فكنت الأمانيا
أمنيتنا نرفعها هذه الليلة إلى الحي القيوم أن يجمعنا بكم في دار الكرامة، اللهم لا تخيب ظننا فيك، اللهم إننا ظننا بك الظن الجميل والحسن، ظننا أن تغفر لنا، وأن تتوب علينا، وأن تقول لنا في آخر هذه المحاضرة انصرفوا مغفوراً لكم، نتحرى هذه الكلمة فيا سميع ويا عليم ويا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم! أسألك أن تقولها لنا هذه الليلة، وأن تجمعنا بـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة مع الأنبياء والمرسلين: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] يا رب العالمين.
أيها السائل سؤالك ينبئ عن خير، وحضورك معنا شهادة لك أنك من أهل الخير، غيرك في البارات وفي الخمارات، غيرك مع الكمنجة والعود والموسيقى، غيرك مع البلوت والباصرة، غيرك يطارد الدجاج والحمام، وأنت جلست مع قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام، أنت من الصالحين، زادك الله توفيقاً وبصيرة وإيانا.(2/24)
حكم لعب الكرة
السؤال
هل يجوز لعب الكرة بعد صلاة العصر مع العلم أنها لا تضيع المغرب؟
الجواب
ما علمت عالماً يحرم لعب الكرة بعد صلاة العصر أو بعد الظهر أو بعد الصبح، ولكن هذه القضايا تؤخذ بملابساتها، أهل العلم إذا وجدوا عملاً لم يكن عليه السلف كيفوه بالكتاب والسنة؛ فأتوا بصلاحيته وبمحاذيره وبأضراره ثم جعلوه على قواعد الإسلام، يحذر من هذا العمل إذا لابسه بعض المعاصي كتأخير الصلاة أو تضييع العلم، والإسراف بهذه الكرة حتى يصبح لاعباً لا يعرف شيئاً من أمور دينه ولا يتفقه، ولا يقرأ القرآن، أو يتحزب لهذه لكرة ويوالي ويعادي عليها، أو يلبس لباساً غير شرعي، فإذا خلت من هذه الأضرار والمحاذير، فلا بأس بها.
فليلعب مع إخوانه إذا لم يضيع الصلاة، ولم تفوته من طلب العلم، وكان لباسه لباساً شرعي من السرة إلى الركبة ساتراً، ولم يوال ولم يعاد على الكرة، فلا بأس بها، يلعب بقدر، وإن لنفسك عليك حقاً، وهي من باب الترويح ولا حرج من ذلك إن شاء الله.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية.
وصلى الله على محمد وعلى صحبه وسلم تسليماً كثيراً.(2/25)
رسالة إلى أهل البادية
من صفات الأعراب وأهل البادية؛ الكرم، الشجاعة، الرجولة.
ولذلك كان ولابد من أن يخصهم العلماء بالحديث، وهذا الدرس موجه إلى أصحاب البادية، عما يلزمهم من أمور الدين كالإيمان والتوحيد والصلاة.(3/1)
إقامة الحجة وتبليغ الأمانة وأداء الحق
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، المعلم الجليل، المؤيد بجبريل، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
ما أروع البناء! وما أحسن المسجد! وما أجمل العمار! {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109] ما أحسن هذا المسجد! وما أحسن من بناه! وما له عند الله من أجر {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18] وقبلها يقول جلت قدرته: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة:17].
لا إله إلا الله ما أحسن عمارة المساجد! لا إله إلا الله ما أروع البناء!
أيهما أحسن! ذاك الذي دفع ماله ليعمر مسجداً {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37].
أم ذاك الذي دفع ماله فبنى خمارة وبارة ودار لهوٍ ومسرحاً مهدِّماً، وداراً للشياطين؟ هذا يبني روضة من رياض الجنة ليسجد فيها عباد الله، ويبني بناءً ليذكر فيها اسم الله جلت قدرته، فما أحسن البناء ولكن ليس العمار فحسب أسمنت وخرسان وحديد وبلك، لا.
بل عمار قلوب، ندوات ودروس وذكر وعلم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، يقول إقبال:
أرى التفكير أدركه خمول ولم تبق العزائم في اشتعال
وأصبح وعظكم من غير نور ولا سحر يطل من المقال
وعند الناس فلسفة وفكر ولكن أين تلقين الغزالي
وجلجلة الأذان بكل حيٍ ولكن أين صوت من بلال
منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خالي
أشكركم يا أهل هذه المنطقة شكرين اثنين:
الشكر الأول: نحبكم في الله الواحد الأحد، والشكر الثاني: شكراً خاصاً، فما أتى لكم داعية إلا واحترمتموه واستقبلتموه، بالأمس أتى إليكم القرعاوي يحمل لا إله إلا الله ومعه حافظ فقدمتم النفس والنفيس والدماء والأموال والأرواح، وكل يوم تقدمون؛ لأنكم لا تصلحون إلا بلا إله إلا الله، فطرتم على لا إله إلا الله، ونشأتم على لا إله إلا الله، وابنكم رضع لا إله إلا الله، فأسأل الله أن يميتني أنا وإياكم على لا إله إلا الله.
نعم.
عنوان الدرس: رسالتي إلى أهل البادية، صمم خططها ونظم أفكارها فضيلة الشيخ عبد الله بن عائض الجهري -حفظه الله ورعاه- وإنها لرسالة من رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
الرسول عليه الصلاة والسلام أحب البادية، وحسنت به البادية وعاش فيها، واستنشق هواءها، ورضع لبنها، يبدو وإخوانه بادية بني سعد، والبادية فيها رجال، وتغرس فيها الشجاعة، وتنبت فيها غصون الكرم، والبادية فيها المثل العليا، والعرب يحبون البادية، والقرآن تكلم عنها وعن عيشها وعن سكناها، وعن أين يسكنون وأين ينتجعون وأين يرتحلون.
وسبب هذه المحاضرة أمور ثلاثة:(3/2)
لإقامة الحجة
السبب الأول: بلاغ مني إليكم وحجة أضعها من عنقي في أعناقكم، ثم عدم كتمان العلم {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:160] {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].(3/3)
لأن الدين أمانة
السبب الثاني: أنها أمانة في عنق كل داعية يتكلم بها في الحاضرة والبادية، يتكلم بها للملك في ملكه، ولصاحب الدكان في دكانه، وللقاضي في محكمته، وللأستاذ في فصله، رسالة محمد عليه الصلاة والسلام الرسالة الخالدة التي عبرت المحيط والبحر والنهر، وسارت على الجبال، ذهبت مشرقة إلى السند ومغربة إلى الأندلس.(3/4)
لتقصيرنا مع أهل البادية
السبب الثالث: أننا قصرنا مع أهل البادية، لقد عشنا في المدن المحاضرات والدروس، والندوات واللقاءات، والمواعظ والخطب، أما أهل البادية فقد قصرنا معهم تقصيراً عظيما، وأنا بين يدي قضاة وعلماء وطلبة علم ودعاة ووجهاء وصلحاء فعلهم أن ينقلوا الكلمة لأهل البادية الذين ما سمع بعضهم عن كثير من هذا الدين، عرف ناقته وشاته، وخيمته وخبزته، لكنه ما تفقه في الدين؛ لأنه لم يجد من يفقهه في دين الله عز وجل.(3/5)
عليكم بتوحيد الله
المحاضرة على مسائل:
أولها: ما هي رسالته عليه الصلاة والسلام ملخصة؟
إن رسالته أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، رسالته في أن يهدي العبد إلى طريق الجنة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
رسالته أن يأتي بالعرب العرباء أهل الجعلان والجرابيع والضباب ويجعلهم فاتحين للدنيا وسرجاً لها ومشاعل فيها.
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
رسالته عليه الصلاة والسلام: أتى ليخبرنا أن للسماء وللأرض إلهاً واحداً، وأنه هو الذي يرزق ويعافي ويشافي، وأنه الذي ينجح ويرسب، وأنه هو الذي يحيي ويميت تبارك اسمه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:26 - 27].
رسالته: يقول للأعرابي في البادية: لا تعبد الحجر، لا تعبد الشجر، لا تعبد الوثن، اعبد الله الذي لا إله إلا هو، من هو المحيي، من هو المميت؟
من هو الرازق، من هو الخالق، من الذي يستحق العبادة؟
على من تعتمد؟
من الذي يشافي مريضك، من الذي يعافي مبتلاك؟
من الذي يقضي دينك؟ الله الذي لا إله إلا هو: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66].(3/6)
ديننا سهل ويسر
يأتيه عليه الصلاة والسلام أعرابي من بني سعد من أخواله من الرضاعة اسمه ضمام بن ثعلبه والحديث في الصحيح فيقول: {يا رسول الله! من رفع السماء؟ -أعرابي بدوي يسأل عن رافع السماء، من الذي رفعها؟ - قال: الله، قال: من بسط الأرض؟ قال: الله، قال: من نصب الجبال؟ قال: الله، قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال آلله أرسلك إلينا رسولاً؟ وكان متكئاً -بأبي هو وأمي- فجلس وقال: اللهم نعم، قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال آلله أمرك أن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم، فتولى بعد أن سأل عن الإسلام وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله والله لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص أنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر فيقول عليه الصلاة والسلام: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا}.
دين سهل وبسيط ويسير، دين تقبله الفطرة تفهمه العجوز يفهمه الطفل يعشقه البدوي دين محبب: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] وأنا لا أستطيع أن آتي على أبواب التوحيد، لكنني أعالج المسائل التي تخص بابنا ورسالتنا.(3/7)
التحذير مما يعارض التوحيد
مما يعارض توحيد الباري أن تجعل معه شريكاً آخر، إما وثناً، أو حجراً، أو شجراً، أو كاهناً، أو ساحراً، أو مشعوذاً، تذهب إليه فيعالج ابنك، أو يداوي مريضك، أو يتسبب في نفعك؛ فتشرك به مع الله إله آخر فيحبط الله عملك، هذا من الشرك، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد} وقال عليه الصلاة والسلام: {من أتى عرافاً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً} حديث صحيح.
من الذي يشافي؟ من الذي يعافي؟ من الذي يمرض إلا الله عز وجل، فاطلب الشفاء والرزق والحياة والخير والنفع منه، واستدفع الضر من الواحد الأحد.
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعد ما عجزت فنون الطب من عافاكا
دخلوا على أبي بكر وهو مريض قالوا: أمريض أنت؟ قال: نعم، قالوا: ألا ندعو لك طبيباً؟ قال: الطبيب قد رآني، من هو الطبيب؟ الله يراك، الله الذي أمرضك والذي يشافيك، {لبيك وسعديك والخير كله بيديك أنا بك وإليك لا إله إلا أنت}.
كان عليه الصلاة والسلام إذا قام من الليل يصلي ولحيته الطاهرة الشريفة تتقاطر بالماء من الوضوء قال: {اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، اللهم إنك حق ووعدك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد عليه الصلاة والسلام حق} قالوا لـ أبي بكر: [[ألا ندعو لك طبيباً؟ قال: قد رآني الطبيب، قالوا: ماذا قال لك؟ قال: قال: إني فعال لما أريد]].(3/8)
أركان الإيمان
معاني التوحيد كما قال علي بن أبي طالب لما سئل عن التقوى قال: [[هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل]] واعلم يا أخي المسلم! يا من يسمع الرسالة من مسلم ومسلمة أن هناك أموراً لابد أن تعرفها:(3/9)
الإيمان بالله
أولها: الإيمان بالله، وما معنى الإيمان بالله؟
أن تؤمن بالله خالقاً وكلمة "خالقاً" لا تكفيك لأن فرعون يعرف أن الخالق هو الله، وأبو جهل يعرف أن من خلق السماء والأرض هو الله، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] ويقول موسى عليه السلام لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102].
فلا يكفيك أن تعرف أن الخالق هو الله، فهذا يعرفه أبو جهل والمشركون، لكن لابد أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنه لا يستحق العبادة بحق إلا الله الواحد الأحد الصلاة، الصيام، الحج، الذكر، الخوف، الرجاء، الرغبة، الرهبة، الاستغاثة، والذبح كل هذه الأبواب لابد أن تعلم أنه لا يستحقها إلا الله تبارك وتعالى.(3/10)
الإيمان بالملائكة
ثم تؤمن بالله وملائكته تؤمن أن لله ملائكة سمى بعضهم ولم يسمِ بعضهم، فأهلاً وسهلاً بمن سمى، وأهلاً وسهلاً بمن لم يسم من الملائكة.
أنت جالس معي الآن ومعك ملكان عن اليمين وعن الشمال، ولك إذا قمت ملائكة أمامك وخلفك يحفظونك {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
فلا إله إلا الله ما أشد جند الله! وما أعظم جلال الله! ذكر ابن القيم -وهذا من باب الاستطراد- في الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: أن رجلاً من الصالحين خرج ببغلته، عليها طعامه وشرابه وتجارته، فذهب مسافراً، وكان هذا الصالح يحفظ الله في الليل والنهار نهاره صيام وليله قيام، والله يحفظ من حفظه، فلما أصبح في الطريق عرض له لص فقال: أوصلني إلى تلك البقعة فصدقه فأركبه معه على بغلته، ولكن {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] فلما اختفيا في الغابة أخرج اللص خنجره وقال للرجل الصالح صاحب البغلة: والله لأقتلنك، قال: أسألك بالله الذي قامت به السماوات والأرض أن تتركني لأهلي، ورائي أطفال وأهل وأسرة، قال: والله لأقتلنك، قال: أسألك بالله أن تتركني فأتوضأ لأصلي ركعتين لتكون آخر عهدي من الدنيا، قال: استعجل، فتوضأ وقام واستقبل القبلة وأراد أن يصلي ركعتين ولكن كيف يصلي، سيف مشهور، وكفن منشور، وقبر محفور، يصلي والخنجر على أذنه، قال: فنسيت كل آية حتى الفاتحة ما ذكرت إلا قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]
قلت: يا من يجيب المضطر إذا دعاه! يا من يجيب المضطر إذا دعاه! يا من يجيب المضطر إذا دعاه! قال: فوالله ما أتممت كلامي إلا وأنا بملك على فرس مقبل معه خنجر رمى هذا اللص فقتله، قلت: أسألك بالله من أنت؟ قال: أنا رسول من يجيب المضطر إذا دعاه، لما دعوت الدعوة الأولى كنت في السماء السابعة، ولما دعوت الثانية كنت في السماء الرابعة، ولما دعوت الدعوة الثالثة كنت في هذه الأرض؛ لأقتل هذا المجرم {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31].
الله كل يوم هو في شأن، ملك ينزل وملك يصعد، كتبة يكتبون الحسنات وكتبة للسيئات، مرابطون في صلاة العصر، ومتعقبون في صلاة الفجر، وصاعدون بالأعمال ونازلون بالأرزاق، هذا للقطر وهذا للمقادير وهذا للموت وهذا يكتب على النطفة (شقي أو سعيد) عمره كذا، أجله كذا، لونه كذا، صفته كذا، ملك ينفخ في الصور، يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {أَطَّت السماء وحق لها أن تئط} أي: ثقل ما عليها كالرحل على المركوب على الجمل {أَطَّت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موطن أربع أصابع إلا وملك ساجد أو راكع} {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38] وفي آية {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20].
لا إله إلا الله ما أعظم خلق الله!(3/11)
الإيمان بالكتب
وتؤمن بالكتب، وأولها القرآن، وذكر التوراة والإنجيل والزبور وصحف موسى وصحف إبراهيم وبالكتب التي نزل الله علينا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، نزل القرآن لهدايتنا -والله- لا سعادة إلا بالقرآن، ولا فلاح إلا بالقرآن، تؤمن بمحكمه ومتشابهه، تؤمن به جملة وتفصيلا، فهو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، وهو المحجة الواضحة الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: {اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].(3/12)
الإيمان باليوم الآخر
ومن الإيمان بالله عز وجل إيماننا باليوم الآخر: أن الله يجمعنا حفاة عراة غرلاً بُهْماً كما قال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] يعيدنا -سبحانه- فلا إله إلا الله من يوم ما أصعبه! ولا إله إلا الله من يوم ما أهوله! ولا إله إلا الله من يوم ما أشده! هو الطامة، والقارعة، والحاقة، والواقعة، والصاخة، وسماه الله بأسماء عديدة، يقول عالمكم رحمه الله الشيخ حافظ:
واستشفع الناس بأهل العزم في إراحة العباد من ذي الموقف
وليس فيهم من رسول نالها حتى يقول المصطفى أنا لها
وتؤمن أن قبل ذلك حياة برزخ، إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، فتعلم أن ما فعلت في الحياة تجده في هذا القبر، إن أصلحت وصليت وصمت وزكيت وراقبت الله وخشيته وتصدقت ووصلت رحمك وجيرانك وحجبت زوجك جعل الله قبرك عليك روضة من رياض الجنة، قال عالمكم:
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
وإن كانت الأخرى: أعرضت عن صلاة الجماعة، ما تعلمت الطهارة ولا الصلاة، أعرضت عن القرآن عن الحجاب عن تربية البيت عن رعاية الجار عن صلة الرحم عن بر الوالدين؛ فحفرة والله من حفر النيران، هم وغم وسجن وكرب ونكد.
ذكر أبو نعيم في الحلية وغيره أن مطرف بن عبد الله بن الشخير أحد الصالحين مر على المقبرة في الليل يسلم عليهم، قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم دعا لأهل القبور، فذهب فنام في بيته فرأى في المنام أهل القبور، فقالوا له: يا مطرف! والذي لا إله إلا هو إن الله يوسع علينا بدعائك قبورنا أسبوعاً كاملاً وينور الله علينا قبورنا بدعائك أسبوعاً، يا مطرف! تزود من لا إله إلا الله، فوالله ما وجدنا كلا إله إلا الله، يا مطرف! حيل بيننا وبين لا إله إلا الله، نريد أن نقول لا إله إلا الله فما نستطيع أن نقولها {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54].
هنا اعمل فالعمل هنا، هنا دار البذل، هنا الصلاة والصيام والزكاة، أما هناك فحساب، يقول علي فيما علقه البخاري في كتاب الرقاب كلاماً كالذهب والدرر والجواهر يقول أمير المؤمنين أبو الحسن علي -رضي الله عنه وأرضاه-: [[ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل]] ويقول علي في الجنة:
واعمل لدار غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
فيا مسلم! أمامك قبر إما أن تحوله إلى روضة من رياض الجنة بصلاحك، أو تحوله إلى حفرة من حفر النار بفسادك وفجورك وإعراضك.(3/13)
الإيمان بالقضاء والقدر
اعلم أن من أركان الإيمان عند أهل السنة والجماعة الإيمان بالقضاء والقدر، كل شيء بقضاء وقدر، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:49 - 50] وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:22 - 23].
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك} يموت ابنك بقضاء وقدر، ينجح بقضاء وقدر، يرسب بقضاء وقدر، صح عنه عليه الصلاة والسلام عند أحمد وغيره أنه قال: {كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة} فهو في كتاب عنده، فلا إله إلا الله! في ذاك الكتاب سعيد وشقي، غني وفقير، أصفر وأحمر، يموت يوم كذا أو يوم كذا، يموت في بلدة كذا وانتهى الكتاب، {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39].
وفي الصحيحين وغيرهما عنه عليه الصلاة والسلام قال: احتج آدم وموسى، واسمع إلى المناظرة الحارة، مناظرة ساخنة بين نبيين اثنين التقيا، هذا آدم قبل موسى عليه السلام بآلاف السنوات، ولذلك بين أهل السنة خصومة أين التقوا، أين كانت الندوة، قال بعضهم في حياة البرزخ، وقال بعضهم في الجنة، والراجح أنها كانت في السماء، فالتقيا: أي آدم أبونا الذي خرج من الجنة بمعصية، والله أخرجه بذنب واحد يقول:
تأتي المعاصي أنت أكبر آثم ترجو الخلود بعيش ظل خالد
ونسيت أن الله أخرج آدماً من جنة المأوى بذنبٍ واحد
يقول: تأتي بآلاف الذنوب والخطايا وتعصي الله وتفجر، تسمع الغناء، وتشرب المسكر -والعياذ بالله- أو تتعامل بالربا، وتغش، وتشهد الزور، وتكذب، وتؤذي الجار، وتقطع الرحم، وتعق الوالدين، وتأتي بهذه الحملة من الذنوب وتدخل باب الجنة وآدم أكل فقط من شجرة فخرج من الجنة.
نعود للقصة، قال: {احتج آدم وموسى -التقيا- قال موسى: وكان جريئاً شجاعاً دائماً يتكلم حتى مع الله يقول: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]- قال موسى: أنت أبونا، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، قال: أنت موسى بن عمران الذي اصطفاك الله على الناس بكلماته، وكتب لك التوراة بيده، بكم وجدت الله كتب أن آكل من الشجرة قبل أن يخلقني؟ قال: بأربعين سنة -وجدها في التوراة- قال: فتلومني على شيء كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة -فيتدخل محمد عليه الصلاة والسلام يحكم- قال: فحج آدمُ موسى، فحج آدمُ موسى، فحج آدمُ موسى} أي: غلبه، وبعض القدرية يقولون: فحج آدمَ بالنصب موسى، أي: يجعلون موسى الفاعل والمفعول به آدم كأن المحجوج آدم وكذبوا لعمر الله، الشاهد أن تؤمن بالقضاء خيره وشره، وحلوه ومره من الله الواحد الأحد، فإذا أتتك مصيبة موت أو فقر أو جوع أو رزق أو غنى أو نجاح أو رسوب أو رعد أو برق أو مطر أو ريح قل: قدر الله وما شاء فعل، هذا معتقد أهل السنة والجماعة.(3/14)
إقامة الصلاة
يا مسلمون: اعلموا أن من أعظم أركان الإسلام الصلوات الخمس لا إله إلا الله ما أعظمها! الإسلام هو الصلاة، والصلاة هي الإسلام، هي عمود الدين، يوم كان محمد صلى الله عليه وسلم في سكرات الموت يقول: {الله الله في الصلاة وما ملكت أيمانكم} ويقول: [[لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة]] ويقول عمر: [[من حفظ الصلاة حفظه الله، ومن ضيع الصلاة ضيعه الله]] ويقول سبحانه: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] من ترك الصلاة فقد كفر، أتى بذلك الأثر.
قال عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله} وصح عنه عليه الصلاة، والسلام أنه قال: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {بين المسلم والكافر ترك الصلاة}.(3/15)
حكم مخيف في ترك الصلاة
من ترك فريضة واحدة ظهراً أو عصراً أو مغرباً أو عشاء أو فجراً عامداً متعمدا؛ ً فقد خرج من الدين وارتد وكفر بالله العظيم، واستوجب النار وأصبحت زوجته لا في عقد صحيح بل في سفاح وزناً إن مكنته من نفسها كما قال ذلك علماؤنا مستنبطين ذلك من النصوص.
واعلم أن في الصلاة قضايا ثلاث:
أولها: لا يقبلها الله إلا في جماعة إلا من عذر، حيث ينادى بها في مسجد، أو في جماعة عندما يجتمع الناس في بادية سواء عند شجر، أو في وادٍ، أو في مسجد، يؤذن بالصلاة فيجتمعون، فلا يقبلها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلا في جماعة حيث ينادى بها إلا من عذر، قال عليه الصلاة والسلام: {لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا، فأحرق عليه بيوتهم بالنار} وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من سمع النداء فلم يأتِ فلا صلاة له إلا من عذر} حديث صحيح، وعن علي موقوفاً عليه وقال: [[لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد]].
وقال ابن مسعود: [[ولقد رأينا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق معلوم النفاق]] الذي يتخلف عن الصلاة بلا عذر، منافق مطبوع على قلبه، تائه مدهوش الفكر، لا نور ولا حياة ولا إيمان، أتظن أن رجلاً عنده إيمان يسمع "الله أكبر" "الله أكبر" ثم لا يجيب داعي الله بلا عذر، والله ما أصبح فيه إلا النفاق والعياذ بالله!
ثانيها: أن تكون بخشوع، تصلي صلاة تصلك بالواحد الأحد قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2] خشوع.
كان أبو بكر إذا قام في الصلاة كأنه إسطوانة كأنه عمود، بعض الروايات تقول: يأتي الطير فيقع على رأسه من خشوعه، كان كثير من السلف لا يتحرك، لأن قلبه مع الله؛ لأنك تناجي الواحد الأحد، الصلاة لابد فيها من خشوع ليقبلها الله، وإذا خشعت في الصلاة نهتك عن الفحشاء والمنكر، {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].
ولعلك تسألني فتقول: ما للناس يصلون ويقعون في المخدرات؟ مالهم يصلون ويرابون؟ مالهم يصلون ويزنون؟ مالهم يصلون ويسرقون؟ هذا يغش، وهذا يكذب، وهذا يسرق، وهذا يخون، وهذا يغدر، وهم يصلون؟ والجواب كما أجاب أهل العلم: إن الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر هي الصلاة التي فيها الخشوع والخضوع والإقبال على الله، والصلاة الحقيقية: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(3/16)
السلف والصلاة
نقل عن بعض التابعين أن الأعمش قال لابنته وهي تبكي عليه وهو في سكرات الموت، ساعة الصفر سكرات الموت التي سأذوقها أنا وإياك، وابني وابنك وكما ذاقها أبي وأبوك وجدي وجدك {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] ساعة الصفر.
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعل الردى مما نرجيه أقرب
ونبني القصور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنا نموت وتخرب
فبكت ابنته وهو في سكرات الموت فقال: يا بنتي، لا تبكي علي، والله، ما فاتتني تكبيرة الإحرام في الجماعة ستين سنة وفي رواية خمسين، وقال سعيد بن المسيب وهو في سكرات الموت لأطفاله: لا تبكوا علي فإني آمل من الله خيراً، والله، ما أذن المؤذن من أربعين سنة، إلا وأنا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/17)
وقفات مع الوضوء
اعلم أن الصلاة لا يقبلها الله إلا بوضوء إذا أحدث العبد لقوله عليه الصلاة والسلام: {لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ} وفي حديث صحيح {مفتاحها الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم}.
وأقف عند الصلاة لأنتقل إلى الطهارة في مسائل:(3/18)
كيفية الوضوء
الوضوء الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقبله الله حتى يكون كوضوء الرسول صلى الله عليه وسلم، تبدأ بعد ما تنتهي فتغسل كفيك ثلاثاً، وإن استيقظت من نومك فلا تدخل يدك في الإناء حتى تغسلها ثلاثاً، ثم تتمضمض وتستنشق وتستنثر ثلاثاً ثلاثا، ثم تغسل وجهك ثلاثاً أو مرتين أو مرة إن كفت وتخلل لحيتك أحياناً، والوجه من منابت شعر الرأس إلى ما استرسل من اللحية، ومن وتد الأذن اليمنى إلى وتد اليسرى، ثم تغسل يدك اليمنى حتى تشرع في العضد فوق المرفق، ثم تغسل اليسرى ثلاثاً، وتخلل بين الأصابع حتى تشرع في العضد فوق المرفق ثم تأخذ ماء أو بماء الوضوء فتمسح رأسك تأخذ بيديك الاثنتين وتدبر بيديك إلى آخر رأسك ثم تعيدها من حيث بدأت ثم تدخل سبابتيك الإصبعين الاثنتين هاتين في الأذنين وتحرك الإبهامين على الأذنين ثم تغسل قدمك الأيمن ثلاثاً حتى تشرع في الساق أو مرتين أو مرة وتخلل بين الأصابع وكذلك تفعل بالرجل اليسرى، فإذا انتهيت فقل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، من فعل هذا ما هو أجره؟ أمال؟ أفلة من فلل الدنيا؟ أسيارة؟ إنه أعظم من ذلك.(3/19)
جزاء من أحسن الوضوء
اسمعوا، في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء} لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، وضوء في دقائق وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله تفتح لك أبواب الجنة الثمانية تدخل من أيها شئت.
وفي سنن الترمذي بسند صحيح يقول بعد {أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين}.
وقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا
والعجيب أن في الوضوء أحاديث صحيحة منها: {أنك ما توضأت فغسلت وجهك إلا تتحات الخطايا من عينيك ومن أنفك ومن وجهك مع آخر قطر الماء، وتغسل يدك اليمنى فتحات واليسرى مع الأصابع مع آخر قطر الماء ثم القدمين} حديث صحيح، رحماك يا رب! حتى في صحيح مسلم قال: {فيغفر الله له خطاياه -يعني السيئات الصغار- وصلاته وذهابه إلى المسجد نافلة} لك الحمد والشكر ما أوسع حلمك! وما أعظم كرمك!
واعلم يا مسلم! أن من أصابته جنابة من احتلام أو من جماع، فإن الله لا يقبل صلاته ولا قراءته للقرآن حتى يغتسل الغسل الشرعي الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، والغسل الشرعي الكامل أن تبدأ فتتوضأ وضوءك للصلاة مثل الوضوء الأول، ثم تبدأ فتفيض الماء على رأسك حتى تروي أصول الشعر، خلل الشعر وأنق البشر وتدخل أظافرك بين شعرك حتى يصل الماء إلى البشرة، والمرأة في الجنابة ليس عليها واجب أن تنثر ضفائرها وجدائلها وما لفت من شعرها بل في الحيض فقط، إذا حاضت وطهرت واغتسلت تنقض شعرها، أما في الجنابة فتغتسل هكذا وتبقي جدائلها على حالتها ولكنها تحرك أصول الشعر، فإذا انتهيت من إرواء الرأس فخذ ثلاث حفنات وأروه فإن تحت كل شعرة جنابة، فإذا انتهيت فابدأ بميامين جسمك وما تياسر وما علا قبل ما سفل حتى تتطهر ثم تتشهد، فتخرج من الجنابة، فالغسل من الجنابة واجب وهي أمانة بين العبد وبين الله، لا يدري أنك اغتسلت من الجنابة إلا الله، من يدري؟ لعل من يجلس في بعض المساجد عليه جنابة، لعل من يقرأ القرآن عليه جنابة، لعل من يضحك على المسلمين عليه جنابة لكن الذي يعلم السر وأخفى لا يقبل صلاة المجنب ولا قراءته للقرآن حتى يغتسل الغسل الشرعي الذي ذكرت لكم، إلا إذا كنت في البادية فلم تجد ماء وعليك جنابة فتيمم، اضرب الصعيد بيديك ضربة ثم امسح يدك اليمنى واليسرى بوجهك ثم امسح اليمنى باليسرى واليسرى باليمنى ضربة واحدة، فاضرب الصعيد ضربة، أو كان بك جروح لا تستطيع استخدام الماء، أو كان الماء في درجة برودة وليس عندك وقود ولا نار تدفئ الماء وتحميه وخفت على نفسك من الموت، لم تخف من ضرر البرد لا.
لا يكفي هذا، خفت من الموت فتيمم كما فعل عمرو بن العاص وأقره عليه الصلاة والسلام، هذا في أمر الصلاة وأمر الطهارة.(3/20)
وقفات مع الزكاة
هناك أمور لا بد أن يعلمها الإنسان وهي متعلقة بالركن الثالث من أركان الإسلام الزكاة، وهذه الزكاة فريضة من تركها وترك أداءها مثَّل الله له بماله يوم القيامة -كما في الصحيح- بنحو ماله، إن ترك زكاة الذهب جعل الله الذهب والفضة صفائح فأحماها في نار جهنم فكوى بها جبهته وظهره وجنوبه حتى يفصل بين الناس، {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:35].
ومن ترك زكاة الإبل مثلها الله وأتى بها كما كانت في الدنيا على أحسن هيئاتها بقوتها وسمنها وضخامتها فأوصده الله عز وجل وبطحه وطرحه في العرصات، ثم يأتي بإبله فتمر عليه تطؤه ذاهبة آيبة حتى يقضي الله بين الناس في العرض الأكبر، فإن كانت بقراً جعلها الله بقرونها وأظلافها وضخامتها وسمنها ثم طرحه وبطحه فمرت أولها على آخرها.
جاءتك تمشي رافعاً ذراها أولها ردت على أخراها
حتى يقضى بين الناس، والضأن كذلك والماعز فاختر لنفسك أي السبيلين أردت، إما أن تنجو من هذا المال بأن تدفع زكاتك للمستحقين وهم ثمانية أصناف، وإما أن تبوء بسخط وغضب وعذاب في اليوم الأكبر -فنعوذ بالله من الخذلان- والأنصبة يسأل عنها القضاة لأن هذه المحاضرة لا تستوعب ذكر الأنصبة، لكن يعاد إلى قاضي المحكمة وإلى الأستاذ والمعلم فيسأل عنها فسوف يخبر بإذن الله تبارك وتعالى.
وزكاة حلي المرأة، وحلي المرأة فيها زكاة على الصحيح من أقوال أهل العلم، وقد صحت فيها أحاديث وقد أفتى بذلك سماحة والدنا وشيخنا وعلامتنا الشيخ/ عبد العزيز بن باز وهو حجة.
إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام
فتزكي المرأة زكاة الحلي تقدر ما في يديها من بناجر وما فيها من فِتَخٍ وحلق وخُتَّم بمال ثم تدفع زكاة هذا المال في المائة ما يقارب الريالين والنصف، وفي الألف خمسة وعشرون ريالاً، هذا في الزكاة.(3/21)
وقفات مع الصيام والحج
اعلم أخي المسلم! يا من لم يأته بصيص من العلم أو قصر الدعاة في تعليمه! أن هناك شهراً كتبه الله على العباد هو: شهر رمضان.(3/22)
صيام رمضان
إن صيام رمضان واجب على المكلف إلا من عذَره الله إلى فترة، فالحائض لا تصوم فإن الله عذرها ولكن تقضي ما فاتها من الشهر، المرأة إذا حاضت لا تصوم مدة الحيض ولا تصلي، أما الصوم فتقضيه، وأما الصلاة فلا تقضيها، إذا طهرت تغتسل فتقضي الصيام ولا تقضي الصلاة، ومن ذلك النفساء، من ولدت أو أسقطت جنينها تدخل في حكم النفساء لا صيام عليها ولا صلاة مدة النفاس وخروج الدم، فإذا طهرت واغتسلت قضت الصيام ولم تقض الصلاة، والمريض الكبير إذا لم يستطع الصيام أطعم عن كل يوم مسكيناً، والمسافر إذا شق عليه أولم يشق عليه عند بعض العلماء، فعليه أن يؤجل الصيام لأيام أخر.
وأما حد المكلف فهو من استطاع الصيام، وقد كان السلف يأمرون أبناءهم بالصيام حدود العشر، وكانوا يعودون أبناءهم على الصيام من الثمان إلى التسع، فلا بد من الصيام لأنه فريضة من الله وركناً من أركان الإسلام، ومن أقام بلا مرض ولا سفر ولم تكن المرأة حائضاً ولا نفساء فلم تصم فقد خسر نصيبه من الله، وقد استوجب عذاب الله وغصبه تبارك وتعالى.(3/23)
حج بيت الله
اعلم أيها المسلم! أيتها مسلمة! أن الحج ركن من أركان الإسلام يجب في العمر مرة، أن تحج إن استطعت إلى البيت سبيلاً بما قدرك الله والسبيل: الزاد والراحلة، أن تمتلك مالاً يكفيك إلى مكة بزادك وراحلتك، فعليك الحج في العمر مرة، ومن لم يحج فليحج عنه وليه: ابنه أو أخوه أو أبوه أو قريبه أو خاله أو من تبرع عنه من المسلمين، والشيخ الكبير العاجز عن الحج يرسل قريبه ليحج عنه لحديث الخثعمية وغيره من الأحاديث.(3/24)
أنت مسئول عن أسرتك
أتينا إلى باب الأسرة المسلمة، كم قصرنا في الأسر وكم قصرنا في حياة البيوت، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] الابن في البيت، البنت والمرأة ماذا تُدخل في البيت وماذا تُخرج منه؟ تدخل في البيت الإسلام وتخرج الكفر، تدخل في البيت النور وتخرج الظلام، تدخل الهداية وتخرج الشقاوة، إن كنت تريد لبيتك الجنة، تريد أن تؤسس بنيانك على تقوى من الله ورضوان، {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].
يا أخي المسلم! الصلوات الخمس في البيت، الحجاب للنساء، ذكر الله، سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، إدخال الشريط الإسلامي، والكتيب الإسلامي، تعلم أهلك الطهارة، الحجاب، الصلاة، الذكر، الخوف من الله، التوحيد، تحذرهم من الشرك، من الفاحشة، من الزنا، من الكذب ومن كل ما يغضب الله، هذا هو البيت المسلم، لكن كيف يحيا بيت فيه غناء؟! فيه شاشة مهدمة؟ فيه فيديو مخرب؟ فيه مجلة خليعة؟ فيه سيجارة؟ فيه شيشة؟ فيه كل ما يغضب الله عز وجل؟ فيه دخان وبلوت، وفيه ورقة كيف يصحو؟! كيف يهتدي؟! كيف يسلك طريق الجنة؟!
يا عباد الله: البيوت التي تسلك هذا المسلك بيوت تقود أهلها إلى النار: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10].
فواجبك أنك راع، ووالله، الذي لا إله إلا هو أنها أمانة في عنقك، البيت أمانة بأطفاله بالزوجة وبالبنات وبالأخوات وبالقريبات، {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته} أنا أعرف أو أسمع عن بعض الناس عن بيوتهم ماذا فعلوا، يصلي في المسجد ولا يأمر أهله بالصلاة، والله ذكر إسماعيل فقال: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:55].(3/25)
عمر بن الخطاب مع أبنائه
كان عمر يأخذ الدرة -عصا- فيقوم في صلاة الليل -رضي الله عنه وأرضاه- فيضرب أبواب بيوت أبنائه فيقول: قوموا صلوا {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] تصلي وابنك في البيت! تصلي وما علمت زوجتك الصلاة! تصلي وما علمت بناتك الصلاة! أي منكر هذا؟ أي فاحشة هذه؟ أي إدراك هذا؟ أي عقل تحمله؟
ثم اعلم أن بعض الآباء ترك أبناءه سوائب، ابنه في المقهى، ملئت المقاهي في بعض الأمكنة ممن لا يعرف عن الإسلام شيئاً، عنده سيارة، ولكنه لا يعرف إلا السيجارة، ولا يعرف إلا البلوت، ولا يعرف إلا الورقة والشيشة والدخان والغيبة والزنا والفحش، لا إله إلا الله! أظلمت القلوب بالمعاصي كما أظلمت الأودية من ظلام الليل {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].(3/26)
من المنكرات خروج المرأة سافرة
ومن الآباء من ترك زوجته ما علمها الصلاة، وما حجبها، وما علمها ذكر الله، خرجت سافرة من بيته تبيع وتشتري في السوق كاشفة، سافرة لا حجاب عليها، تقف تبيع الغنم والإبل والسمن والعسل وتبيع الرياحين والأجانب ينظرون إليها وقد أبطلت حشمتها وهتكت حجابها، والمرأة إذا خرجت من بيت زوجها بغير إذنه سافرة متطيبة متعطرة لم تزل الملائكة تلعنها حتى تعود إلى بيتها، فهل وعت العقول وهل أبصرت العيون؟
ومن المنكرات: أن تذهب المرأة فتخالط الأجانب في الأسواق فيكلمها فلان، وتركب مع فلان، وتأتي مع فلان وتخلو مع فلان قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {ما خلت امرأة برجل إلا كان الشيطان ثالثهما} فاحذروا رجالاً ونساءً من أن تغضبوا الواحد الأحد فإن الله إذا غضب، غَضِب غَضَب عزيز مقتدر، وعند أحمد في كتاب الزهد {يقول الله تبارك وتعالى: عجباً لك يا بن آدم خلقتك وتعبد غيري، ورزقتك وتشكر سواي، أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك، وتتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إليّ، خيري إليك نازل وشرك إلي صاعد} فاعلموا هذا الباب فإنه باب عظيم.(3/27)
حرمة الأغاني
واعلم أيها المسلم! أن الأغاني حرام، حرمها علماء الإسلام وإن قلت بالإجماع ما أبعدت القول، وقد دل على ذلك آيات وأحاديث وقال عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} وقال عليه الصلاة والسلام عند ابن خزيمة وغيره بسند صحيح {إني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة، وصوت عند مصيبة} الدف والطبل حرام للرجال، والموسيقى والعود والكمنجة، حرام للرجال وللنساء، وإنما الجائز للنساء فحسب الدف في الأعراس، أن يضربن بالدف وحدهن بلا خلطة، مع رجال، وبلا نظر إلى رجال، وبلا قول فحش.
أن يضربن بأيديهن بالدف لحديث أبي داود في ذلك.
الغناء أفسد الشباب، وخرب البيوت، وأورث النفاق، وأتى بالزنا، وبغض القرآن إلى القلوب، وأخذ قطاعاً هائلاً من المسلمين وطردهم عن المسجد، وقطع الحبال التي بين العباد وبين الله.(3/28)
في الغناء ثلاث مصائب
قال أحد العلماء: للغناء ثلاث مصائب:
أولها: قسوة القلب، فلن تجد مغنياً وقلبه لينٌ أبداً بل قلبه أقسى من الحجر {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74].
ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في بني إسرائيل {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13].
والمصيبة الثانية: وحشة بين العبد، بين المغني وبين الله، المغني لا يقبل الذكر، لا يحب الندوات، لا يحب ذكر الله، لا يحب الدروس، أعرض وامتلأ من الفاحشة، قال ابن تيمية: " الغناء بريد الزنا وما داوم عبد على الغناء إلا وقع في الزنا والعياذ بالله " والمصيبة الثالثة: أنه يحرم غناء الجنة، من أدمن الغناء في الدنيا، صاحب أشرطة الكاسيت، صاحب العود، صاحب الكمنجة، صاحب الفيديو المهدم، صاحب الموسيقى، حرام عليه غناء أهل الجنة، قال الإمام أحمد في المسند بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن في الجنة جوارٍ يغنين يقلن: نحن الناعمات فلا نبأس، نحن الخالدات فلا نبيد، طوبى لمن كنا له وكان لنا} دبجها ابن القيم ونظمها فقال:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصوات تلذ لمسمع الـ إنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
فمن حرم على نفسه الغناء؛ سمع غناء تطرب له القلوب حتى تتحرك أشجار الجنة من الغناء هناك نسأل الله من فضله.(3/29)
حكم السيجارة والشيشة والقات
واعلموا أن الدخان محرم نص عليه علماؤنا واستدلوا بعموم قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في حق رسوله عليه الصلاة والسلام: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] فالدخان حرام تعاطيه وبيعه وحمله وإهداؤه وتناوله، فمن يفعل ذلك دخل في الحرمات، والشيشة كذلك والقات محرم نص عليه علماؤنا الحاضرون وسبق إلى ذلك علماء هذه المنطقة على رأسهم الشيخ الإمام حافظ بن أحمد الحكمي له منظومة ورسالة في ذلك وهو الصحيح؛ لأنه مفتر والعياذ بالله.(3/30)
ثلاث جرائم في شهادة الزور
ومن المحرمات الغيبة والنميمة وشهادة الزور.
شهادة الزور قرنها الله بالشرك: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30].
شهادة الزور: كادت تتشقق لها السماء، شهادة الزور: تزول لها الجبال، شهادة الزور: ضُلِّلَ بها القضاة، قضاتنا وعلماؤنا في المحاكم ضُلِّلُوا بواسطة شهادة الزور، شاهد الزور: أخذ من الظلم كالجبال، كان عليه الصلاة والسلام يقول: {ألا أخبركم بأكبر الكبائر ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئاً ثم جلس قال: ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت}.
شهادة الزور فيها ثلاث مآثم وجرائم:
أولها: تضليل القاضي: القاضي يحكم على حسب ما رأى، بعض المخذولين --والعياذ بالله- أخذ في القضية عشرة آلاف وأخبر صديقه أنه شهد شهادة زور بعشرة آلاف، قال صديقه: والله الذي لا إله إلا هو لو ملأوا لك السماء والأرض ذهباً وفضة لأنت الخسران الطريد البعيد من رحمة الله إن لم تتب، عشرة آلاف، مائة ألف الدنيا وما فيها، الذهب، الفضة كاد شاهد الزور أن يكون طريداً بعيداً مغضوباص عليه من الله.
ثانيها: سلب حقوق المسلمين.
ومن المنكرات يا عباد الله! الرشوة:
قال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله الراشي والمرتشي} وفي لفظ يروى {والرائش} لعن الله الراشي والمرتشي والرائش، الراشي: الذي يدفع الرشوة للمسئول من أمير أو شيخ أو نائب أو قاض أو أحد من الناس عنده حكم ونفع وضر فيدفع القضية عنه فملعون من دفعها ومن قبلها.
والرائش: هو الذي يسعى بالواسطة -قبحه الله- أي واسطة قبح الله وجهه في أخذه للمال وفي إعطائه للآخرين فقد خسر خسراناً مبينا، والرشوة منتشرة يوم ضعف الإيمان، ويوم ضعف أثر الصلاة في القلوب، ويوم قلت رقابة الواحد الأحد في نفوس الناس.(3/31)
احذروا الربا
اعلموا أن من المنكرات التعامل بالربا، وذلك بالزيادة في الجنسين أو التأجيل فيهما، وعند أهل العلم الربا قسمان: ربا فضل، وربا نسيئة، فربا الفضل هي: أن تزيد في الجنس على جنسه ولو كان يداً بيد، وربا النسيئة هي: أن تؤجل الجنس بجنسه ذهباً بذهب مؤجلاً، أو أن تؤجل من غير الجنس لكن تشترط الزيادة كما سوف أوضحه، قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {الذهب بالذهب، مثلاً بمثل، سواء بسواء هاءِ وَهاءَ -يعني يداً بيد- والفضة بالفضة مثلاً بمثل سواء بسواء هاء وهاء -يداً بيد- والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء هاء وهاء -يداً بيد- والبر بالبر مثلاً بمثل سواء بسواء -يداً بيد- الشعير بالشعير مثلاً بمثل -يداً بيد- هاء وهاء} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فهذه الأصناف يشترط في بيعها شرطان اثنان:
أولاً: المساواة: الذهب بالذهب لا تزد غراماً على غرام، الشعير بالشعير لا تزيد على هذا كيلة ولا وزناً على هذا.
والشرط الثاني: يداً بيد: لا يجوز أن تبيع براً ثم تأخذ قيمته براً بعد شهر أو أسبوع فهذا ربا.
وربا النسيئة من صوره ما يفعله بعض الناس في البنوك: يستودع ماله في البنك بفائدة، يحددون له الفائدة الربوية فيقول: لك عشرة بالمائة، أو يقترض من البنك الربوي فيقترض مائة ألف فيأخذون عليه عشرة آلاف ويقضيهم مائة ألف هذا ربا، قال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم في الإثم سواء أو قال: هم سواء} وعند الحاكم وغيره من العلماء عن ابن مسعود من حديث يحسنه البعض قال عليه الصلاة والسلام: {الربا ثلاثة وسبعون باباً أدناها مثل أن ينكح الرجل أمه} فنعوذ بالله من الربا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:130] ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279].
واعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم ذكر الرجل العابد: {أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء ومطعمه حرام، وملبسه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام ويقول: يا رب يا رب يا رب! فأنى يستجاب له!} كيف يستجيب الله له وماله غش؟! أوصيكم يا إخوتي! بالدخل الحلال، بأن تتأكد من مكسبك ومطعمك وملبسك ومشربك ومسكنك أن يكون دخلاً حلالاً ليتقبل الله منك، يروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لـ سعد بن أبي وقاص خاله مزعزع دولة الكفر والطغيان، دولة العمالة والضلالة دولة فارس، قال: {يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة}.(3/32)
حقوق المسلم
واعلموا -حفظكم الله-: أن هناك ثلاثة حقوق: حق للمسلم، وحق للوالدين، وحق للرحم.(3/33)
التسليم
المسلم حقه إذا لقيته أن تسلم عليه، تبدأه بالسلام، ولا يغني أهلاً ولا مرحباً ولا صباح الخير حتى تبدأه بتحية الله التي أنزلها في كتابه وفي سنة رسوله عليه الصلاة والسلام: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) فهي التحية الحقة التي أتى بها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، ثم ترد إن بدأك بالسلام فعند أحمد عن أبي أمامة: {أولى الناس بالله، من بدأهم بالسلام} فإن بدأ هو فرد عليه بأحسن مما قال، فإذا فعلت ذلك فلا بأس أن تقول: مرحباً أو أهلاً أو سهلاً أو صبحك الله بالخير أو مساك الله بالخير.(3/34)
التناصح
ومنها: أنه إذا استنصحك أن تنصح له، أي: إذا طلب منك النصيحة أن تنصح له، تخلص له النصيحة كأنك تنصح لنفسك {الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم} وقال صلى الله عليه وسلم لما بايع جرير بن عبد الله البجلي: {والنصح لكل مسلم}.(3/35)
التشميت
ومنها: أن إذا عطس فشمته، فإذا عطس وقال: الحمد لله، فقل: يرحمك الله، ثم يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم.(3/36)
الزيارة
ومنها: أن إذا مرض أن تعوده، ومن عاد مريضاً كما في صحيح مسلم: {من عاد مريضاً لم يزل في خُرفة الجنة أو كأنما يمشي في خُرفة الجنة} وورد في حديث صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {من زار مريضاً بالغداة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى العشي} وفي حديث صحيح عن ابن عباس قال: قال صلى الله عليه وسلم: {يقول الله تبارك وتعالى يوم القيامة -وهو يحاسب الناس-: يا بن آدم! جعت فلم تطعمني، قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان جاع فما أطعمته، أما أنك لو أطعمته وجدت ذلك عندي، يا بن آدم! مرضت فلم تعدني، قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته وجدت ذلك عندي} إلى آخر ما قال عليه الصلاة والسلام.(3/37)
اتباع جنازته
ومنها: أن إذا مات مسلمٌ موحدٌ أن تشيع جنازته وأن تحضر الصلاة عليه، وأن تدعو الله له، وأن تواسي أهله بالعزاء، وأن تقف معه بالدعاء الخالص والاستغفار حتى يدفن في قبره، فلك إذا فعلت ذلك من الصلاة والدفن قيراطان من الأجر كل قيراط كـ جبل أحد من أعظم جبال المدينة.(3/38)
عدم إيذاء الجار
ومنها: حق الجار، قال عليه الصلاة والسلام: {ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه} وقال سبحانه: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء:36].
اعلموا: أن الجار حقه عظيم، (الجار ولو جار) والعرب جعلت ذلك مثلاً، قالت آسية امرأة فرعون كما قال ابن القيم: سبحان الله! طلبت الجار قبل الدار قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] فطلب جوار الله قبل تلك الدار، قال أحد الشعراء يوم دفن ابنه:
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جاره وجواري
الجوار تعامل، وذوق، وأخلاق، وإيمان.
من حق الجار: ألا تؤذيه، وألا تتعرض لحرمه، ولا تنظر إلى عوراته، ولا تكشف ستره، ولا تنهش عرضه، وإن احتاج إليك أن تواسيه، وإن طلبك مالاً وعندك مال فاعطه، وأن تسر لسروره وأن تحزن لحزنه، وأنا أذكر نماذج في حديث حسن ويضعفه بعض العلماء: {أن رجلاً أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! جاري آذاني، قال: اصبر واحتسب، فصبر فزاد جاره من الإيذاء، قال: يا رسول الله! جاري آذاني، قال: خذ متاعك وأهلك وانزل إلى السكة في الطريق، فنزل بأهله فمر الناس على ذاك الرجل فقالوا: مالك؟ قال: أخرجني جاري من داري، قالوا: لعنه الله، فكان المصبح يلعنه والممسي يلعنه، فلما سمع جاره أتى إليه قال: عد والله لا أعود}.
كان جار ابن المبارك يهودياً، ابن المبارك المجاهد الزاهد العابد الرائع العلامة الذكي الغني، الباذل نفسه في سبيل الله صاحب القصيدة الجميلة: (يا عابد الحرمين لو أبصرتنا) كان جاره يهودياً، كان ابن المبارك إذا اشرى لحماً بدأ بجاره اليهودي، وإذا اشرى فاكهة أعطى أطفال اليهودي، وإذا اشرى ملابس كسا أطفال اليهودي، وفي الأخير أتى تجار لليهودي قالوا: نشتري دارك التي بجوار دار ابن المبارك، قال: داري بألفي دينار، ألف قيمة الدار، وألف قيمة جوار ابن المبارك، قال ابن المبارك لما سمع: لا تبعها وهذا ألف دينار، ثم رفع ابن المبارك يديه ودمعت عيناه وقال: اللهم اهده إلى الإسلام فأتى في الحال وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم يقول: والله إن ديناً أخرجك لدين حق، إي والله، الدين المعاملة، أجدادنا فتحوا كثيراً من الدنيا بالمعاملة، إندونيسيا وماليزيا لم تفتح بالسيف، بل فتحت بالجوار، بالمعاملة، بالصدق، فيا أخوتي في الله! الله الله في الجار، (الجار ولو جار) يقول عنترة الوثني يمدح نفسه:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى تواري جارتي مأواها
يقول: من كرمي ومن شيمتي أن جارتي إذا خرجت من بيتها أغض طرفي حتى تعود إلى بيتها، هذا هو الجوار: ألا تفتح نافذة تكشف بها جارك إذا تضرر منها، ألا ترفع صوت المذياع على جارك، ألا تنهره، ألا تسبه، ألا تتسخط على أطفاله، ألا تكون حرباً له، ألا تضايقه في سكة أو طريق، أو شارع أو ممشى، أو بيت أو نافذة أو ما في حكمه.(3/39)
بر الوالدين
اعلموا -حفظكم الله- أن من القضايا الكبرى في حياتنا: بر الوالدين، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23].
الوالد والوالدة، للوالدة ثلاثة أرباع الحقوق من الاحترام والتقدير لقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح لما سأله رجل: {من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك}.
من حقوق الوالدين: أن إذا دخلت أن تسلم، وأن تقبل أياديهما، وأن تجلس مكسور الجناح أمامهما، لين الكلمة متواضعاً مستجيباً سهلاً كأنك خادم.
عق ابن أباه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما يفعل بعض الناس في هذا العصر، وكما تعلمون أن بعض الناس تطاول به الإجرام إلى أن يضرب أباه وأمه، فذهب هذا الأعرابي وقد لوى ابنه يده، فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: {يا رسول الله! ابني ظلمني عقني ضربني، أطعمته فكبر، وأسقيته فروي، ونومته فنام فلما أصبح هكذا تغمط حقي، قال: هل قلت فيه شعراً، قال: نعم -يذكر ذلك الطبراني وغيره- قال: ماذا قلت؟ قال: قلت لابني:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجري عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا شاكياً أتململ
كأني أنا الملدوغ دونك بالذي لدغت به دوني فعيناي تهمل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفضاضة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكى الصحابة، واستدعى ابنه فأخذه بتلابيب ثوبه وهزّه وقال: أنت ومالك لأبيك} أنت لأبيك، أنت ملك له، أنت كالمتاع والبيت، هو سببٌ في إيجادك فلا تكن سبباً في عدمه وإعدامه، هذا من حقوق الوالدين، ولو كان الوالدان عاصيين أو كانا فاجرين أو كافرين فصاحبهما في الدنيا معروفاً، وكلمة المعروف: اللين، أطعهما في طاعة الله ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.(3/40)
صلة الأرحام
اعلم أن صلة الرحم من أعظم الأعمال، قال سبحانه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23] قال عليه الصلاة والسلام: {لما خلق الله الرحم تعلقت بالعرش قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: نعم.
قال: فذانك لك} قال عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {لا يدخل الجنة قاطع}.
ومما اشتهر من قطيعة الرحم: حرمان القريبة الوارثة ميراثها، الأخت، العمة، البنت، بعض الناس يحرمونها الميراث، ومنهم من يقطعها الزيارة، ومنهم من لا يزورها ولا يسلم عليها، ولا ينفق عليها إذا احتاجت، هذه من المسائل، ولعل في الأسئلة ولخوف الإطالة ما يكون تكملة لهذه الرسالة التي بعنوان: (رسالتي إلى أهل البادية) وعذراً إن كان الأمر مفهوماً أو أن كثيراً من المصطلحات محصلة، فإنني أعرف أين يتجه هذا الشريط وإلى أين يذهب ومن أكلم، ومن عندي يزدادون -إن شاء الله- بصيرة إلى بصائرهم، ويتذكرون معلوماتهم، ولعل في الإيرادات ما يكون سداً للخلل الذي وقع، فإن أصبت فمن الواحد الأحد، وإن أخطأت فمن الشيطان ومن نفسي وأستغفر الله العلي العظيم.
فإن تجد عيباً فسد الخللا فجل من لا عيب فيه وعلا
إن السلام وإن أهداه مرسله وزاده رونقاً منه وتحسينا
لم يبلغ العشر من قول يبلغه أذن الأحبة أفواه المحبينا
آخيتمونا على حب الإله وما كان الحطام شريكاً في تآخينا
اللهم اجمع بيننا وبين هؤلاء الصلحاء في دار الكرامة في مقعد صدق عند مليك مقتدر، تحيتي مع هذا الشريط لكل مسلم ومسلمة وأطلب منهم الدعاء بظهر الغيب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(3/41)
قضايا مهمة
وهنا قضايا أحب أن أنبه عليها:(3/42)
ألفاظ شركية
من القضايا المهمة التي أنبه عليها وهي منتشرة في بعض النواحي: ألفاظ الشرك التي يستخدمها بعض الناس متساهلين في ذلك، مثل: ما شاء الله وشئت، وهذا لا يجوز بل ما شاء الله وحده، أو يقول: لولا الله وفلان، أو لولا الله والقاضي، وهذه ليست بجائزة؛ لأن واو المعية والتشريك ليست بواردة، ومثل ألفاظ الشرك التي يدعيها بعض الناس وأشركوا بها وهو نسبة الضر والنفع، والعطاء والمنع، والأخذ والهلاك إلى الجن، كخذوه للجن أو شلوه أو اقتلوه إلى غير ذلك من الألفاظ فهي شرك.(3/43)
لا تسأل بوجه الله إلا الجنة
ومن الألفاظ وهي المسألة الثانية استخدام وجه الله كقولهم: وجه الله عليك أن تفعل كذا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة} وعند الطبراني {ملعون من سأل بوجه الله وملعون من لم يجب} فلا يجوز للمسلم أن يعرض وجه الله لكل قضية صغيرة أو كبيرة، جليلة أو دقيقة.
فهذا -والعياذ بالله- من الخذلان وهو من المعصية الظاهرة.(3/44)
إحياء السنة
ومن القضايا: مسألة إحياء السنة، المسلم يقتدي بمحمد عليه الصلاة والسلام سراً وعلانية، ظاهراً وباطناً قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21]
والرسول عليه الصلاة والسلام صح عنه أنه قال في صحيح مسلم: {والذي نفسي بيده، لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار} فليعلم هذا.
من إحياء السنة إعفاء اللحية، وحلقها حرام عند أهل العلم، وجعلوا من يفعل ذلك فاسقاً، وقد صح في إطلاقها وإعفائها أكثر من عشرة أحاديث عن المعصوم عليه الصلاة والسلام، وتربيتها واجب بالإجماع، وحلقها محرم بالإجماع فليعلم ذلك.
من المخالف للسنة: إسبال الثياب، قال عليه الصلاة والسلام: {ما أسفل من الكعبين فهو في النار} وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، يدخل في ذلك إنزال الملابس إلى تحت الكعبين كالثوب والبنطلون والبشت والسروال وما في حكمه.
ومن المسائل كذلك المخالفة للسنة: لبس الذهب والحرير للرجال، فهو حلال للنساء حرام على الرجال لقوله عليه الصلاة والسلام عند أحمد والنسائي: {هذان -وأخذ حريراً وذهباً- حلال لإناث أمتي حرام على ذكورها} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ومما أدعو إخواني إليه: التأكد عند الصلاة من ستر العورة، فإن عورة الرجل من السرة إلى الركبة، فالأزر وما في حكمها من الملابس القصيرة والفوط وما في حكمها على صاحبها أن يتأكد من لبسها وأن يتأكد ألا تظهر الفخذ فإنه قد صح في حديث جرهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {يا جرهد! غط فخذك فإن الفخذ عورة} فمن السرة بل يجعل السترة فوق السرة مما يلي البطن ويجعل من السرة إلى الركبة مستوراً في الصلاة وفي غيرها، فإن عورة الرجل من السرة إلى الركبة، والمرأة كلها عورة إلا وجهها وكفيها في الصلاة.(3/45)
غلاء المهور
من المسائل المهمة التي أنوه إليها: مسألة تسهيل الزواج، فقد علمنا والله بالمعضلات، وسمعنا بالمنكرات في أمر غلاء المهور عند الزواجات، بعضهم أوصلها إلى المائة، وبعضهم إلى المائتي ألف، وبعضهم إلى ثلاثمائة ألف، والذي يفعل ذلك فإنما هو متاجر في عرضه بائع لبناته، لو كان يتقي الله لستر كريمته برجل صالح، صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {خيرهن أيسرهن مئونة} أو كما قال.
وبعض العلماء يصحح هذا الحديث، وعند الترمذي قال عليه الصلاة والسلام: {إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} فليعلم أيها المسلمون! أن تسهيل الزواج بأمور:
أولها: ألا ترد مستقيماً حسن الخلق إذا تقدم لكريمتك، فإن فعلت ذلك وقدمت صاحب دنيا لا تظفر لا في الدنيا ولا في الآخرة ويصيبك الله برجل فاجر لا يعرف الله.
ثانيها: أن تسهل مئونة المهر، بعض السلف كان يأخذ أربعة دارهم تعادل أربعة ريالات، خذ يا أخي! مئونة سهلة، والله، لو دفعت أنت المهر وتزوج ابنتك أو أختك أو قريبتك رجلاً صالحاً وكفلها وحفظها وسترها؛ لكنت أنت الفائز في الدنيا والآخرة، والله، ليس وراء المهر المغالى بركة ولا خير ولا طائل، وإنه يعقب صاحبه حسرة وندامة.
وإن زواجاً يترتب على مشقة وصعوبة وتكاليف إنه زواج صعب وزواج لا خير فيه إلا أن يشاء الله، وإني أدعو القضاة وشيوخ القبائل، والنواب، والعرائف إلى أن يلموا شملهم فإن كان هنا سهولة فالحمد لله وقد حصل، وإن لم يكن فلينظروا إلى هذه المأساة التي أدمت القلوب وندى لها الجبين، مسألة غلاء المهور، عوانس في البيوت، ست وسبع وثمان في كثير من البيوت ما تزوجن، شباب ما تزوجوا، حواجز وضعت من المال.
الله حسيب من فعل ذلك! الله يتولاه بجميل عدله ويكفينا شره وأن يصلح حاله لعله أن يرتدع.
شرب الشمة يا أيها الإخوة! أمر لا تقره الشريعة لأنه يدخل في عموم الخبائث، فقد ثبت ضرره عند أهل العلم، وما ثبت ضرره وزادت مفسدته على مصلحته فهو محرم بلا شك فليعلم ذلك.(3/46)
النظر المحرم
من المسائل: النظر المحرم وانتشاره بين الناس، إطلاق النظر في الأسواق وفي بيوت الناس وفي الصور الجميلة الخليعة هذا محرم، والنظر سهم من سهام إبليس من كتمه أو غضه أبدله الله حلاوة إيمان يجد حلاوته في صدره.
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل
غض طرفك، {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30].
وأنت متى أرسلت طرفك رائداً إلى كل عين أتعبتك المناظر
أصبت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر(3/47)
ضياع الوقت
وبقيت مسألة وهي خطيرة: ضياع الوقت عند كثير من الناس، رأينا بعض الناس يجلس في المقاهي بلا قرآن، بلا طلب علم، بلا تفقه في الدين، بلا ذكر لله، بلا حفظ لوقته، يجلس في الغيبة مع الشيشة والدخان والبلوت والباصرة والورقة، فأضاع دنياه وآخرته: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ} وصح عنه أنه قال عليه الصلاة والسلام: {لن تزولا قدما عبد يوم القيامة، حتى يسأل عن أربع وذكر عمره فيما أبلاه} أين صرفت عمرك، لياليك وأيامك دقائقك وثوانيك؟
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني
يا شبابنا! مالكم والمنتزهات التي تشغي وتلهي.
يا شبابنا! مالكم وما للإعراض.
يا شيوخنا يا كبار السن! مالكم وما للغيبة -إلا من رحم ربك- العود الجميل محاسبة الأنفاس: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
غداً يظهر العمل، غداً يظهر الحساب، ويرجح الميزان قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94] هذه رسالة أحببت أن أبعثها لأهل البادية جزى الله خيراً من أرسلها، أو ساهم في توزيعها، أو بلغها لتبلغ منا الحجة، وتوضع عنا المئونة، ولئلا نكون كتمة للعلم ولنبرئ ذممنا فقد أسأنا وقصرنا وأخطأنا مع أهل البادية، فيا طلبة العلم! يا قضاتنا، يا دعاتنا! هذه البادية قد رحبت بكم وقد مدت ذراعيها مستقبلة لكم فهل من داعية وهل من محتسب يذهب يعلم الناس الفاتحة، الصلاة، الغسل من الجنابة، التوحيد، يحذرهم من الشرك سوف يلقى الله بخير إن شاء الله كثير.
وفي الختام أشكر من بنى هذا المسجد وأشكر إمامه ومؤذنه وأهل العلم والحضور وأشكركم شكراً جزيلاً وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(3/48)
رسائل من الداخل والخارج
هذا الدرس عبارة عن قراءة بعض الرسائل التي وصلت إلى الشيخ من داخل الوطن ومن خارجه، ومن دوافع قراءة هذه الرسائل: أن وطن المسلم الأرض جميعاً، فليس بين المسلمين حدود، ومنها: معرفة أن هناك مسلمين خارج الجزيرة العربية وليس في الجزيرة فقط.
وليست هذه الرسائل رسائل شخصية، وإنما هي وقفات ينتفع بها عباد الله المؤمنون.(4/1)
وقفة مع النبي صلى الله عليه وسلم في يومين من حياته
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
هذه الليلة الرابعة من شهر محرم لعام (1413هـ).
وعنوان هذا الدرس: رسائل من الداخل والخارج.
وقبل أن أبدأ في دوافع هذه الرسائل، وفي قراءة بعض الرسائل والاستنتاجات منها، أقف معكم لحظة مع المعصوم عليه الصلاة والسلام -صاحب المنهج، وأصدق من تكلم، وأوفى من عاهد، وأشجع من قاتل، مع البر الرحيم الوفي عليه الصلاة والسلام- في يومين اثنين:
اليوم الأول: يوم يسجد عليه الصلاة والسلام فيؤتى بسلا الجزور ويوضع على رأسه، ويرفع رأسه ولا يملك من الحول والقوة ومن أسباب الدنيا شيئاً.
اليوم الثاني: يوم طرده أهل الطائف إلى مكة ورجم بالحجارة، فسالت قدماه الشريفتان دماً، وهو لا يملك من أسباب الدنيا ولا من قوتها شيئاً ويأتيه ملك الجبال، ويقول: مرني أن أطبق عليهم الأخشبين، فيقول: {لا.
إني أسأل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً}.
ويؤذى ويُحاصر ويُطرد ويجوع، ويتهم وتمرغ سمعته في التراب، وتباع أملاكه، وينفى من دياره ومن مسقط رأسه، ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون}.
فما هي العاقبة ليوم الحق، ولرسول الحق، ولمعلم البشرية عليه الصلاة والسلام؟ في نفس المكان الذي وُضع على رأسه فيه السلا يقف بعد سنوات فيأخذ حلق أبواب الكعبة، ويهز الباب، وحوله عشرة آلاف مقاتل يلبسون السلاح، كل واحد منهم يجري في دمه لا إله إلا لله، فيقول: {الحمد لله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده}.
ثم يتكلم عليه الصلاة والسلام للناس وهو منتصر.
بل ذكر ابن كثير وابن القيم أنه لما دخل منتصراً وأعلامه تخفق في مكة، نكس رأسه تواضعاً لله، حتى أن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل، ودمعت عيناه، وماذا فعل بالناس؟
هل فعل بهم كما يفعل الأقزام الطغاة يجرون الماء بالدماء حتى تصل الركب؟
لا.
بل قال: {ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم.
قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء عفا الله عنكم}.
هذه رسالة منه عليه الصلاة والسلام، ووالذي نفسي بيده إن الحق منتصر، وإن العاقبة للمتقين، وإن كلمة الله باقية، وإن الذين يؤسسون مجدهم أو نصرهم على غير الثقة بالله، إنما هو كما قال تعالى: {عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].
وكم رأينا من متبجح يهدد أهل الإسلام، ويهدد العلماء في البلاد الإسلامية، بذبحهم كما قال فرعون: {فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى) [النازعات:23 - 25] بينما هو يهدد بالذبح والقتل، وإذ هو يقتله من أقرب الناس إليه، ويؤتى من مأمنه، ويلدغ من المكان الذي وضع يده فيه، لِيِعُلِمَ الله الناس أنه غالب على أمره، والله عز وجل يقول: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21](4/2)
دوافع قراءة الرسائل
أما الرسائل التي أريد أن أذكر لكم بعض فصولها وجملها، ولن أذكر لكم الرسائل الشخصية الخاصة؛ وإنما سأذكر الرسائل التي فيها بعض اللمحات والوقفات، لعل الله أن ينفع بها عباده المؤمنون.
والدافع لي لقراءة هذه الرسائل أمور:
الأول: أن وطن المسلم هذه الأرض جميعاً، فليس بين المسلمين حدود ولا أقاليم، بل بلاد المسلمين واحدة، كان الوطن في عهده صلى الله عليه وسلم وطناً واحداً، الرب واحد، والرسول صلى الله عليه وسلم واحد، والملة واحدة:
وطني كل تراب شع فيه نور أحمد
وطني الأرض جميعاً لا تجزأ أوتحدد
وقال الآخر:
فأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
وخلفاؤه الراشدون كانت بلادهم واحدة، والأئمة الفاتحون كانت بلادهم واحدة، والقادة الظاهرون وطنهم واحد.
فهذا عمر ينام تحت الشجرة ببردة ممزقة، فيها أربع عشرة رقعة، وهو يحكم رقعة شاسعة من الأرض، وطن واحد، وأما قصدي بالعنوان الحدود من الداخل والخارج، إنما أقصد هذه الحدود المصطنعة التي وضعها المستعمر، وإلا فلا حدود، وكل وطن في الأرض هو للمسلم، والكافر إنما هو دخيل.
الثاني: لتعلموا أن لكم أحباباً وراء البحار والمحيطات والصحاري يحملون لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بالناس الفجر ثم قال: {إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها} أي: أن ملك أمته سوف يصل إلى هناك، وأنه سوف يصلي في القارات الست أناس يتبعون الرسول عليه الصلاة والسلام ويقتدون به.
والدليل هذه الرسائل: رسالة من أوزبكان، ورسالة من فنزويلا، ومن واشنطن، من أناس يصلون هناك ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحج ينطلق من موسكو ما يقارب ثلاثة آلاف -من معقل الإلحاد والكفر والخيانة- حجاجاً محرمين يقولون: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).(4/3)
فوائد في المراسلة
وقبل أن أبدأ في الرسائل هنا فوائد:(4/4)
أبلغ رسالة في التاريخ
أبلغ رسالة في التاريخ رسالة سليمان عليه السلام إلى بلقيس: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:30 - 31]
هل سمعتم أفصح من هذا الكلام وأشجع منه؟
فالقادر والمرسل والوالي والمعبود حقيقة هو الله.
وقد حدثنا أحد المفكرين من المشايخ الثقات: أن الشيخ حسن البنا رحمه الله في مصر جاءه السفير البريطاني في القاهرة بهدية، ووراءها ما وراءها، فهم يشترون الذمم والعهود والمواثيق بالمال يشترون المبادئ بالشيكات، فوصل الشيك إلى حسن البنا مع السفير.
قال: ما المطلوب؟
قال: خذها، هذه هدية من الحكومة البريطانية.
فقلب حسن البنا الشيك وكتب على ظهره بقلمه بالعربية- وهي تترجم هناك- {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:36 - 37].
يقول له حسن البنا: ارجع إليهم فسوف نأتيهم بجنود محمد صلى الله عليه وسلم، كتائب حكمتيار.
الحق أبلج والسيوف عواري فحذار من صولات حكمتيار
وحذار من جيش خميس بعده يصلي العدو بغيمة من قار
جيش محمد صلى الله عليه وسلم الشباب الموحدون الذي يحملون لا إله إلا الله {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37].(4/5)
أقصر رسالة عند أهل التاريخ
أقصر رسالة عند أهل التاريخ والأدب رسالة خالد بن الوليد، لما التقى في اليرموك -انظر هذه الهمم العالية- بجيش الروم، وكان جيش الروم عند كثير من المؤرخين أنه مائتين وثمانين ألفاً، وجيش خالد ما يقارب ثلاثين ألفاً، فلما رآهم في الصباح أقبلوا كالجبال، تدلف كتيبة وتستقر في الصحراء، وكتيبة بعدها، وكتيبة أخرى.
فقال أحد الناس لـ خالد: اليوم نفر إلى جبل سلمى وأجا في حائل -فدمعت عينا خالد وقال: [[لا والله لا نفر إلى سلمى وأجا ولكن إلى الله الملتجأ]] ثم قال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم أرسل رسالة -وهو في المعركة- إلى عياض بن غنم، وكان عنده جيش الاحتياط في الصحراء، تركه عمر على بعد وقال له: [[أنت بالذراري والنساء، فإن طلبك خالد فلب طلبه]] وكان يظن خالد أن الجيشين متقاربين أربعون مقابل ثلاثين لكنهم مائتان وثمانون ألفاً.
فكتب: [[بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد إلى عياض إياك أريد]] فلما أتته الرسالة حشد قبائل العرب ولقي بها العدو مع خالد وكان النصر العظيم: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:174].(4/6)
السنة في إرسال الرسائل
السنة في إرسال الرسائل كما قال أهل العلم:
أولاً: أن تبدأ بـ (باسم الله) قال ابن تيمية: كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يبدأ في الرسائل بالبسملة، وفي الخطب بالحمدلة.
ولذلك كانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم لا تبدأ بالبسملة، بل كان يقول: (إن الحمد لله) في الجمع والأعياد والاستسقاء والكسوف، أما رسائله فتبدأ بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) من محمد صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم.
ثانياً: اسم المرسل يتقدم دائماً، إلا ما استثناه أهل العلم -كما قال ابن حجر - فإذا أرسلت إلى عالم كبير أو والي عادل فإن بعضهم يرى أنك تقول: إلى فلان من فلان بن فلان، والرأي الصحيح: أنك تبدأ باسمك، سواء كان هذا أفضل منك أو أعلى.
ثالثاً: السلام في الرسالة؛ أن تبدأ الرسالة بالسلام، فإن كتبت إلى كافر تقول: والسلام على من اتبع الهدى، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما قال موسى لفرعون.
وأذكر هنا رسالتين لـ ابن كثير وغيره من العلماء:
كان هارون الرشيد حاكماً على الأمة الإسلامية يوم أن كانت الأمة عزيزة، ويوم أن كانت جباهها في السماء، وكانت لا تسجد إلا لله، فكانت ملكة الروم تدفع الجزية لـ هارون، إما الإسلام وإما الجزية وإما السيف، فلما ماتت هذه المرأة وتولى نقفور ملك الروم، فجمع مستشاريه وقال لهم: ما رأيكم؟
قالوا: امرأة ضعيفة كانت تدفع الجزية، ونحن أقوياء فتورط إلى أذنه.
فكتب إلى هارون الرشيد يقول: إن التي كانت قبلي كانت عاجزة، وكانت تدفع لكم الجزية، أما الآن فلا جزية لكم ولا حق.
فأخذ هارون الرشيد رسالته وكتب على ظهرها:
بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، أمَّا بَعْد: فالجواب ما تراه لا ما تسمعه.
فلا كُتْب إلا المشرفيات عنده ولا حق إلا للقنا والقنابل
فجهز مائة ألف مقاتل، وبعد أيام هجموا عليه فقادوه بأذنه وضاعفوا عليه الجزية، كان على الواحد اثنا عشر درهماً، فأصبحت أربعة وعشرين درهماً، هذا جواب هارون الرشيد.
وذكر ابن كثير أن علياً ومعاوية رضي الله عنه الله عنهما لما التقيا في صفين، كتب ملك الروم إلى معاوية يقول له: إني سمعت أن ابن عمك ناقم عليك، فإن أردت أن أنصرك عليه فعلت.
فكتب معاوية إليه ما معناه: يا عدو الله! والذي لا إله إلا هو لو سمعت أنك اقتربت من بحار المسلمين -يوم كان للمسلمين بحار- لأقوم أنا مع ابن عمي عليك، فإنك عدو لله ولرسوله.(4/7)
عرض الرسائل
والآن نبدأ في الرسائل.(4/8)
حقائق الصوفية
السؤال
أخ من السودان يذكر في رسالته أني هاجمت الصوفية في رسائلي، وعيرتهم بالفقر، ويقول: الفقر ليس بعار، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر فقراء، فلماذا تعيرهم بالفقر؟
الجواب
الأمر الأول: ما قاله الأخ أطلب منه أن يتثبت فيما قلته أنا، والأشرطة موجودة.
الأمر الثاني: إذا تنازعنا في أمر فإننا مأمورون أن نرده إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، إلى الكتاب والسنة، لا نرده إلى منظمة، ولا إلى كيان، ولا إلى بشر، ولا إلى عقول وأفكار، بل نرده إلى الكتاب والسنة.
الأمر الثالث: نقدت في الصوفية جوانب خالفت منهج الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} فمنهم من كان يذهب إلى المقبرة ليستشفي بدعاء هؤلاء، وقد بين أهل العلم أن هذا هو عين الشرك، ومنهم من قال أشعاراً شركية، وهي مثبتة معي في كتب الصوفية وفي طرقهم، وقد ذكرت نماذج منها.
ومنهم من وقف عند روضة الرسول عليه الصلاة والسلام -كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - سواء في السودان، أو الجزيرة، أو الشام أو العراق، أو أي مكان؛ لأن البلاد لله عز وجل، إنما نحكم على أفكار الناس بحسب الشرع، قال: فوقف أحدهم عند القبة يقول:
يا رسول الله يا من ذكره في نهار الحشر رمزاً ومقاما
فأقلني عثرتي يا سيدي في اقتحام الذنب في سبعين عاما
ومما يفعلونه: الأدعية الغير مأثورة التي يقولونها، وكذلك العبادات التي ليست من الشرع، كأن يحتجب أحدهم أربعين ليلة لا يخرج إلى الناس، أو يجوع نفسه ليلاً ونهاراً، ولا يغتسل ولا يتنظف، ولا يراعي خصال الفطرة.
أما قوله: أني عيرتهم بالفقر! فلا والله، فإن الفقر شرف لأهله، وقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم فترة من حياته فقيراً، والذي قاله الأخ أقحمه في الكلام، فعليه أن يعود إلى الشريط ويسمعه، وأبين له أن عليه أن يقرأ مذهب أهل السنة والجماعة وأن يرد ما يقول وما أقول إلى الشرع الحنيف، وسوف أدله على بعض الكتب في ذلك، منها:
المجلد العاشر والحادي عشر من فتاوى شيخ الإسلام وكتاب التوحيد للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومعارج القبول للشيخ حافظ حكمي والطحاوية للشيخ الطحاوي وزاد المعاد في هدي خير العباد لـ ابن القيم أقدم له هذه الكتب ليقرأها ولينظر هل هم مصيبون أم أنهم مخطئون.
ويقول أيضاً: ويزعم أننا ندعي أننا أهل العقيدة الصحيحة وغيرنا ضلال.
من قال هذا؟ من الذي تبجح منا وقال: إننا أهل الحق وغيرنا أهل الباطل؟
بل نحن نقول: إننا إن شاء الله على الحق، وغيرنا إن شاء الله فهم من هو على الحق، ومنهم من ضل، أما قضية أننا نختص بالحق ونحوزه لنا فقط، فما قال ذلك أحد، وما سمعت عالماً ولا داعية ممن يوثق بكلامه يقول: إنه محق وغيره مبطل، فليتأكد الأخ من الكلام، ويتأكد مما قال، ونسأل الله عز وجل أن يتوب علينا وعلى جميع المسلمين.(4/9)
معنى الحب في الإسلام
السؤال
أنتم تقولون: الحب في الإسلام، وأسمعها في بعض ما تسجلون، وأقرؤها في بعض الكتيبات، فما هو الحب؟
الجواب
هناك حب أغلى من كل حب، والحب هذا الذي يهذي به المغنون والمغنيات، والفنانون والفنانات، والمطربون والمطربات هو ركام وقمامة وسخافة ومقت، الحب الأعظم تحت مظلة: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] وقد تعرضت في خطبة عنوانها: بطاقة المسلم يحبهم ويحبونه.
يقول عليه الصلاة والسلام لـ علي: {لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه} قال ابن القيم: " ليس العجب من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى (يحبونه) ولكن العجب من قوله (يحبهم) فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من أحبابه ومن أوليائه وأنصاره.
فإن الإنسان ليس له إلا إحدى منزلتين: إما حبيب، وإما عدو إما مناصر، وإما مخاصم وهذه المسألة الكلام عنها يطول وهناك محاضرة بعنوان: مفهوم الحب في الإسلام.
بينت بالآيات والأحاديث وكلام السلف ما هو الحب الشرعي السني الذي يجب على الناس.
أيضاً أنبه على أمور: رأيت رسائل في الأسواق مكتوب فيها (العشق الإلهي) وهذا ليس وارداً في السنة، يقول ابن تيمية: " كلمة العشق والهجر والوصال، لا تليق به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وليست من كلام أهل السنة " كأن يقول: إني عاشق، أو قد بلغ بي السكار في الحب، ومنزلة العشق والوله هذه كلها ليست عند أهل السنة، فهناك المفهومات الشرعية النبوية المحمدية السنية موجودة في الكتاب والسنة.
وأحد الإخوة قد كتب إليَّ ثمان أوراق كرسالة واحدة، أكثرها نظرة سوداوية وتشاؤم إلى الجيل مما رأى هناك، يقول: رأيت إنساناً يستهزئ بالقرآن، وآخر بالرسول صلى الله عليه وسلم فيحكم على أن الأمة قد ذبلت، وأنها لا تستحق النصر، وأنه ليس هناك نصر إلخ.
أقول: لا، أطمئنك بأن الخير كثير، وأن الدين هو المنتصر، والعاقبة للمتقين، وأبشرك أن الألوف المؤلفة كلهم يريد أن يسيل دمه ليبقى دين الله ويرتفع في الأرض، فلله الحمد والشكر، وعلى الإنسان أن ينظر بعينيه ولا ينظر بعين واحدة، نعم هناك فساد في الأرض وهناك مجرمون، ومحاربون لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكن بالمقابل أيضاً هناك أولياء لله ولرسوله وللمؤمنين، فلابد من الاعتدال في النظرة، فإنك تجلس مع من ينقل لك الأخبار، خاصة من يرى هذه الأمور ويباشرها، ينقل لك نظرة سوداوية عن الناس، وهناك من يتفاءل ويفرط في التفاؤل، فالعدل هو الوسط؛ لأن الأمة شهادة وحاسبة وقائمة.(4/10)
جهود الشيخ عبد المجيد الزنداني في الدعوة
هناك رسائل كثيرة تخبر عن جهود الشيخ/ عبد المجيد الزنداني في اليمن، وطريقته في التعليم والتربية، وبعض الرسائل تشير إلى حكمته في الدعوة، وأنه ليس بفظ ولا غليظ.
وأقول: هذا ظننا بالشيخ الجليل والعلامة النبيل الشيخ/ عبد المجيد الزنداني، وأبشركم بشرى خذوها عني، وقد سمعتها من الثقاة، وقد جلست مع فضيلة الشيخ عبد المجيد قبل الحج بثلاثة أيام.
تصوروا عدن التي كانت أرض عبد الفتاح إسماعيل، الذي قيل له: من ربك؟ قال: لينين.
قيل له: من نبيك؟ قال: استالين.
قيل له: حشرك الله مع الملاعين.
قال: آمين.
وهو الذي درس الإلحاد في عدن، فما كان يؤذن في عدن مؤذن، ولا يخطب خطيب، ولا يوجد كتاب ولا شريط، وقد ألقى الشيخ عبد المجيد الزنداني محاضرة في عدن يقولون: حضرها أكثر من خمسة وسبعين ألفاً ليسمعون لا إله إلا الله محمد رسول صلى الله عليه وسلم.
الشيخ عبد المجيد الزنداني لا يجهله أحد في حكمته وفي طريقته وعرضه للكتاب والسنة، وقوته العلمية خاصة في الإعجاز العلمي، ويسلم على يديه أساطين الكفر في فرنسا وأمريكا وبريطانيا، أناس بلغوا علم الذرة، ويتكلمون في الأشعة وفي دقائق العلم، ثم جلس معهم وقدم لهم الوثيقة الربانية (القرآن الكريم) الذي نزل قبل ألف وأربعمائة سنة، فيدخلون في دين الله، فهذا العالم ألا يستطيع لأناس بدائيين على الفطرة أضلهم الشيوعي لفترة من الفترات أن يردهم إلى الله؟
بلى، وذلك الظن بالشيخ عبد المجيد مع حفظ الله ورعايته له، فأسأل الله أن يزيده علماً وتوفيقاً وهداية، وأن ينصر الحق على يديه، وعلى يد إخوانه من الدعاة في اليمن وفي غيرها، ولكني أبشركم بخير كثير يجرى على يد هؤلاء الدعاة، فالأمة مقبلة وقد سئمت الباطل والكذب، وأصبحت ذكية، تابت إلى الله، واتجهت إلى القمم تعلن ولاءها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.(4/11)
دعاوى واهية على الملتزمين
أحد الأساتذة الكرام من القنفذة قبل فترة أرسل رسالة فيها شيء من الطرح الغريب، والحقيقة أنني أجبت على بعض الرسالة في القنفذة في محاضرة هناك، ولكن لما وصلت إلى هنا لحقتني الرسالة، وهي طويلة وفيها طرح غريب عن الشباب الملتزمين، وفيها بعض التجني والدعاوي العريضة.
يذكر ويقول: إن الإسلام عند هؤلاء الشباب هو اللحية وتقصير الثوب، ووضع اليدين على الصدر.
وأنا أسأله بالله من أين أخذ هذه المعلومات؟ هل ادعى أحد أن الإسلام فقط هو اللحية وتقصير الثوب ووضع اليدين على الصدر؟ هل استقرأ أحوال الشباب وما يحملونه من أفكار؟
إننا عندما نسمع هذا الكلام لا نسمعه من هذا الأستاذ الفاضل، بل نسمعه من العلمانيين والمنافقين، يقولون: ما يحسن هؤلاء إلا اللحية وتقصير الثوب ووضع اليدين على الصدر، الإسلام ليس هذه القضايا فحسب، وبالمقابل أيضاً فإنهم يناقضون أنفسهم، فإذا تكلمت عن الإسلام في مسارات الحياة، قالوا: إن الإسلام معناه أن تصلي في المسجد وتصوم رمضان وتحج البيت، أما أن تدخل الإسلام في شئون الحياة فهذا ليس بصحيح.
وأقول للأخ: إن هذا ليس بوارد، والواجب أن تتثبت مما تقول، واللحية من الإسلام، وقد أتى بها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وحلقها حرام بإجماع أهل العلم، وهي من شعار أهل الملة، وتقصير الثوب من السنة، ووضع اليد اليمنى على اليد اليسرى على الصدر من السنة، وقد صحت بهذا الأحاديث، لكن ليست هي كل الإسلام، بل هي من الإسلام، والإسلام ليس فيه قشور، بل كله لباب، فإن البعض يدعي أن هذه الأمور قشور، لا.
الإسلام كله لباب والحمد لله.
وبعض الدعاة يضخم هذه المسائل ويعطيها أكبر من مساحتها، وأقول: أعطي اللحية مساحتها ولا تضخمها، وحاول أن تكون معتدلاً مع الكتاب والسنة، وهذا هو منهج الصالحين من عباد الله عز وجل، فإنهم يضعون الأمور مواضعها، وقد جعل الله لكل شيء قدراً.
وقال -أيضاً-: هؤلاء الشباب يحرمون الغناء، وأقول: صدقوا فيما قالوه، والغناء محرم، وقد أفتت بهذا هيئة كبار العلماء، ولجنة الإفتاء، وأفتى به الأئمة الأربعة، وهو شبه إجماع بين أهل العلم إن لم يكن إجماعاً، وهناك رسائل مثل تنزيه الشريعة عن الأغاني الخليعة للشيخ/ أحمد النجمي، وكتيب لـ ابن القيم خرج من كتاب إعلام الموقعين، في تحريم الغناء، وهناك رسائل كثيرة، وأشرطة، منها: رسالة للمغنين والمغنيات.
وقال -أيضاً: ويقعون في بعض الدعاة كـ الغزالي وغيره.
أقول: لا يجوز التجني في أعراض الدعاة أو من يحمل الدعوة مهما كان، والواجب أن يقوم الإنسان بحماية أعراض هؤلاء، وأمثالهم ممن ينصر الإسلام بشيء، ولكن لابد أن يبين خطؤه، والغزالي كانت له أخطاء -نسأل الله أن يغفر لنا وله- كتحليل الغناء، وكإنكاره أحاديث الآحاد، وهناك كتيب كتبته اسمه: الغزالي في مجلس الإنصاف كتبته وبينت ما يقارب ثمان عشرة مسألة مع الشيخ الغزالي بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، وعرضته على بعض العلماء واستصوب ما فيه، وهناك كتاب للشيخ الفاضل/ سلمان العودة حوار هادئ، بين فيها بعض المسائل، وكتاب للشيخ/ صالح آل الشيخ المعيار لكتب الغزالي، بين فيه الحق، فالواجب على الأخ أن يطالع هذه الكتب وينظر فيها.
ويقول أيضاً: ويتنطعون في الدين وعندهم تطرف.
هذه كلمات عامة {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] وأقول: ما هو التنطع؟ وما هو التطرف؟ فإن كثيراً من الناس -وهم عامة أصلاً- يتحدثون في هؤلاء المهتدين ويقولون: إنهم متطرفون، فنقول: ما هو التطرف؟
وهل أنتم من أهل العلم ومن حملة الشريعة حتى تحكموا على هؤلاء؟
وهل أنتم متوسطون حتى تحكموا على هؤلاء بالتطرف؟!
إلى ردود أخرى، ولا أريد أن أكرر الكلام الذي سبق في الأشرطة.
ثم ليعلم الأخ أني لست محامياً عن أحد بذاته، لكن الواجب علينا الحمية لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن ندافع عن الحق، وأن نحمي الحق لذاته؛ لأن الله عز وجل استأمننا على حمل رسالته، فنسأل الله عز وجل ألا نكون ممن يخون هذه الرسالة.(4/12)
حكم التهنئة بدخول العام الجديد
- بعض الرسائل تصل بتهنئة دخول العام الجديد، معايدة بدخول العام.
وليس من السنة المعايدة بدخول العام الجديد، وهذا شرعنا أمامنا، ونحن لا نستورد شرعنا من أجهزة ولا وسائل ولا أناس جهلة، عندنا كتاب وسنة، قال تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] وقال عليه الصلاة والسلام: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} وقال: {تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها.
وقد كره الإمام أحمد في بعض المناسبات أن يقال له: تقبل الله منا ومنكم.
ولكن الإمام أحمد يقول في كتبه: ما هي مناسبة أن تقول لي هذا؟ فيا أيها الإخوة! لا بد أن تكون المعايدة في الأعياد الشرعية.
قال عمر على المنبر: [[عيدنا أهل الإسلام عيدان]] وقد قال عليه الصلاة والسلام: {عيد الفطر وعيد الأضحى} فلا نأتي بعيد ثالث وبأيام وأعياد ما أنزل الله بها من سلطان، فإن هذه مخالفة لدين الله عز وجل.
وأنبه على مسألة أخرى: بعض الناس في آخر العام المنصرم صام آخر يوم، وإن داوم عليه وظن أنه وارد فقد ابتدع في دين الله، ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم صيام آخر يوم في السنة، فليس للإنسان أن يصوم أياماً لم يحببها الرسول صلى الله عليه وسلم أو لم يرد فيها صيامها أصل، أو يصومها بنية أنها سنة فيبتدع في دين الله، إلا رجلاً كان يصوم صوماً اعتاده، كيوم إثنين أو خميس، فصادف هذا اليوم فلا بأس، أما بهذا الاعتقاد بحد ذاته فلا يجوز.(4/13)
الفرح بتوبة العاصي
هذه رسالة من أحد الشباب يقول: أنا مقصر ومذنب، وكنت منحرفاً، وجئت مسجدكم في أحد الأيام لأحضر المحاضرة، فقال لي أحد الملتزمين: لماذا تدخل المسجد أنت تنجس المسجد؟ فانصرفت.
أستغفر الله! وإن كان هذا الأخ قال هذا فقد أذنب وأخطأ وقد أسرف على نفسه، فعليه أن يتوب إلى الله، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام: {أن عابداً من بني إسرائيل رأى رجلاً مسرفاً على نفسه فاسقاً فقال له: تب إلى الله.
قال: دعني وربي.
قال: تب إلى الله.
قال: دعني وربي.
قال: والله لا يغفر الله لك.
قال الله: من الذي يتألى عليَّ؟! أشهدكم أني غفرت له وأحبطت عمل ذاك}.
من الذي يحاسب الناس ويغفر الذنوب إلا الله؟ ومن الذي يملك النواصي ويطلع على صحائف الناس ويطلع على مكنونات القلوب إلا الله؟
وقد قرأت في سيرة عيسى عليه السلام أنه ذهب إلى بيت المقدس، ومعه رجل مقصر من بني إسرائيل، فلما اقترب الرجل المقصر من الباب، قال الرجل المقصر: أنا مثلي لا يدخل المسجد إني أنجسه.
فأوحى الله إلى عيسى: كلمة هذا المقصر -أو العاصي- خير من عبادة فلان العابد سبعين سنة؛ لأن روحه انكسرت وذل لله عز وجل.
فأوصي هذا الأخ أن يتقي الله، وألاَّ يكرر هذه الكلمات، أما الأخ الذي وفد فنقول له: حياك الله على الرحب والسعة، ولست بأول مذنب يتوب، ولست بأول داخل من باب العبودية: {فإن الله عز وجل أشد فرحاً بالتائب من العبد الذي ضلت راحلته في الصحراء، عليها طعامه وشرابه فوجدها، فقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح} فهنيئاً لك التوبة والإقبال، وما معك إلا محب، وغالب الناس بل جل الأخيار يفرحون بتوبة المقصر، وما سمعت أحداً عرَّض بهم، لكن هذه سقطة من واحد أو عثرة لقلة عمله وفقهه، نسأل الله أن يتوب علينا وعليه.(4/14)
المصارعة في الإسلام
الأخ عبد الباسط عز الدين كتب في الصحف المحلية معلقاً على مقابلة لي مع مجلة اليمامة العدد (1173) بعد أن أثنى، يقول: لماذا تذكر الرياضة وتتمنى أن تكون رياضياً أو تتمنى الملاكمة؟
أقول:
أولاً: هذا الأمر كان على طريقة المزاح، ولو أنها لم تصل كثيراً ما ذكرتها.
ثانياً: أن مسألة الرياضة في حد ذاتها كالمصارعة والمسابقة والرمي من سنته صلى الله عليه وسلم، وقد صارع عليه الصلاة والسلام؛ فإن أهل السير يروون عنه: أن ركانة كان أقوى العرب، وكان صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل من جنس قوته، أو من جنس ما يملك، أو من جنس موهبته.
فلما جاء ركانة قال له: أسلم يا ركانة أنا رسول الله أعلن الإسلام قل لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: لا أسلم لك حتى أتصارع أنا وأنت- وهذا بطل المصارعة في العرب- فإن صرعتني آمنت بك، فقام صلى الله عليه وسلم وقال: استعنت بالله عليك ومن كان الله معه، لا يصرعه أحد، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173] وقال أيضاً: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21] فقام صلى الله عليه وسلم فحمله كالريشة ثم بطحه أرضاً، ثم قام مرة ثانية فأنزله أرضاً، فقام مرة ثالثة فأنزله أرضاً، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله}.
وصح أن أبي بن خلف -هذا المجرم الوثني- قال: أنا أقتل محمداً وكان يعلف فرسه بالبر، ويسل سيفه، ويسقيه السم الأزرق، ويقول: أقتل به محمداً.
فوصل الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بل أنا أقتله إن شاء الله.
وجاءت معركة أحد - كما صح عند أهل العلم- وانحدار أبي بن خلف على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس العصر، وقد أثخن بالجراح، وقتل من أصحابه وأقاربه سبعون قتيلاً، وانكسرت إحدى ثنيته، ودخل المغفر في حاجبه وهو في حالة لا يعلمها إلا الله، وبعد صلاة العصر يقول: صفوا ورائي أثني على ربي، أي: أشكره على هذه النعم.
ولما جلس صلى الله عليه وسلم وإذا بالرجل أقبل منحدراً من الجبل، معه سيفه وسلاحه، وقد طوق نفسه بدرعين، ما ترك منه إلا مثل الدرهم؛ حتى لا يصيبه شيء من سيف ولا رمح، فقال الأنصار: نحن نقتله يا رسول الله! فقال: دعوه، ناولوني حربة، فناولوه حربة- يقول الشاعر في رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة أدبت في هول الردى أبطالها
وإذا وعدت وفيت فيما قلته لا من يكذب فعلها أقوالها
فأخذ الحربة وقال: باسم الله، يقول الواحد الأحد الفرد الصمد: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] أنت ما رميت، والرامي الحقيقي هو الله.
قال ابن تيمية: هو لم ينكر له الكسب، لكنه أنكر له القدرة، فالقدرة قدرة الخالق، والكسب منه، رمى فوقعت الرمية في ذاك الدرهم، فنزل منه قطرة دم، فقالوا له: لا بأس عليك.
فقال: أقسم باللات والعزى لو أن ما بي بأهل الحجاز وأهل عكاظ لماتوا جميعاً، فمات!
يقول خالد بن سفيان الهذلي: أنا سوف أقتل محمداً وجند جنوده ألف مقاتل في عرفة، فوصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة فقام الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: من يقتل p=1000332>> خالد بن سفيان الهذلي وله الجنة.
وهذا عهد من الأمين صلى الله عليه وسلم.
قال عبد الله بن أنيس وهو في الرابعة والعشرين من عمره: أنا أقتله يا رسول الله، لكن ائذن لي أن أقول في غيابك كلاماً.
قال: قل.
قال: أنا لا أعرف خالد بن سفيان أين هو؟
قال: هو في عرفة.
قال: فكيف أعرفه؟
قال: إذا وجدته تتذكر الشيطان وتجد في جسمك قشعريرة.
فذهب ووصل إليه وخالطه فوجد القشعريرة في جسمه، ثم أخذ يلاطفه في الكلام حتى تمكن منه، فلما تمكن منه ذبحه، فقطع رأسه وأتى يحمل رأسه -لأن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر- ولما اقترب من الرسول صلى الله عليه وسلم ورأى الرأس قال: أفلح الوجه قال: ووجهك يا رسول الله.
قال: أقتلته؟
قال: نعم يا رسول الله، وهذا الرأس.
قال: خذ هذه العصا وتوكأ بها في الجنة معي، والمتوكئون في الجنة بالعصا قليل.
فأخذ العصا ودفنت معه، وعودوا إلى ترجمته.(4/15)
ما يجب على الدعاة تجاه قضايا الأمة
رسالة أتت من الدكتور/ طه جابر العلواني، مدير معهد الفكر الإسلامي بـ واشنطن، وهذه الرسالة وصلت قبل فترة، وفيها شكر جزيل، وهو داعية مفكر، وجهده مشكور فيما يقوم به وما يؤديه، وكل على حسب نيته واجتهاده، ويقول: استمعت إلى شريطك (رسالة إلى الكويت) وأثنى على جوانب، ولكنه ذكر مسائل لم يتعرض له الدعاة: كمسألة الظلم الذي يقع في العالم الإسلامي؛ فالواجب على العلماء والدعاة أن يتعرضوا له في أشرطتهم، وفي ندواتهم ومحاضراتهم، حتى يكون عند الأمة رؤية إسلامية.
ومنها: ما هي أسباب تقهقر الأمة وتأخرها؟ ثم يذكر ويقول: كانت الأمة عزيزة ومعطاءة، ثم تخلفت وأصبحت في آخر الركب.
ثم يذكر قضايا: ويقول لابد أن نتخطى بقضايا الأمة من الإقليمية إلى العالمية.
وصدق فيما قال، وهو أنه ينبغي أن يكون الإنسان عالماً ربانياً يتكلم في مسائل الأمة جميعاً.
وهذه الملاحظات طيبة وجديرة بالاهتمام، وأوصي نفسي وإخواني من الدعاة والخطباء وطلبة العلم أن يهتموا بقضايا العالم جميعاً، فقد قال عليه الصلاة والسلام: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} ثم أقول: من المسائل التي تطرح قضايا الأمة الكبرى، مثل قضايا الربا التي انتشرت في العالم الإسلامي، وقضايا الولاء والبراء، وأن بعض الأمة أصبح يوالي أعداء الله على أوليائه، ويتخذ منهم بطانة، إلى غيرها من القضايا.(4/16)
قصيدة للدكتور سعد بن عطية الغامدي
الدكتور سعد بن عطية الغامدي من الرياض، الشاعر المعروف، أرسل قصيدة موحية حافلة، ومن الوفاء أن أذكره ليحصل على دعوة في هذه الليلة المباركة، وقد عرفته، وقد سافرت معه إلى بعض البلدان؛ فوجدته شهماً وداعية وصاحب غيرة، أسأل الله أن يحفظه ويثبته، وقصائده لها طعم خاص، وآخر قصائده في اليمامة عن سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك، وهذا هو المسلم الذي يهتم بقضايا الإسلام، بفكره وماله ودمه وقلمه ليكون ولياً لله ومن أنصار الله.
أرسل رسالة فيها قصيدة أبياتها أخاذة موحية من أروع القصائد، بل هي تعادل أروع قصائد المتنبي، يقول دامت لسانه:
دهتك هموم فانتظر فرجاً غداً كريم السجايا طاهر الثوب سيدا
وخانك من لم يحفظ الله ساعة ولم يعرف المعروف يوماً ولا الندى
وغر أخ السوء القديم احتياله وأن له مجداً قديماً وسؤددا
فأهوى إلى الحصباء يلتقط الحصى عليك ويهوي للنذالة مزبدا
وهذه في جريدة المسلمون، وهي طويلة، ولكنها من أمتع ما قيل، وهي على وزن قصيدة المتنبي التي يقول فيها:
لكل امرئ من دهره ما تعودا وعادة سيف الدولة الطعن في العدا
هو البحر غص فيه إذا كان ساكناً على الدر واحذره إذا كان مزبدا
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
لكن شتان ما بين الدكتور/ سعد بن عطية والمتنبي، فـ سعد بن عطية الغامدي فاضل صاحب مبدأ، مؤمن، يعيش لقضية لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتنبي يعيش لقضية إمرة، يريد أن يكون مسئولاً في مقاطعة من المقاطعات، ويموت تحت كرسيه، وهذا ما حدث:
ألا بلغ الله الحمى من يريده وبلغ أكناف الحمى من يريدها(4/17)
صرخة من فتى
الأخ عبد الرحمن زيد آل ثويم من الرياض، كتب رسالة بعنوان: (صرخة فتى) على غرار: (صرخة فتاة) التي في الشريط.
يقول: لا يخفى عليكم أن الفتى هذه الأيام يواجه انقلاباً عارماً في مضمار حياته، ألا وهو بلوغ سن المراهقة أو سن الرشد، ولكنه يواجه برصيد أو بكم هائل أو بركام من الزيف الذي يشاهده ويطالعه ويقرؤه، فيصبح في ولائه وتربيته وأخلاقه وسلوكه ومعتقده منحرفاً، فلا يدري أمام هذه المسارات أي مسار يتبع.
فالواجب أن ينبه على مسار الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى صراطه المستقيم، ليكون الشاب من أول وهلة يقيم حدود الله، ويجتنب حرماته، وليكون ولاؤه وبراؤه لله عز وجل، ولتكون نفسه وحياته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين، فإن الإنسان بينما يسمع لحظات الحق وإذا هو يسمع ساعات طويلة كلها هراء وباطل، فيصبح في حيرة، بل يبرمج هذا الإنسان مما يرى ويسمع ويشاهد على مسارات قد لا ترضي الله عز وجل.
ثم تكلم في الرسالة بكلام طويل يحتاج إلى وقفات، وقد ختمها بقصيدة ماتعة أمتع الله حياته، ولو أني أشح بالوقت لبعض الفقرات لقرأت بعض القصيدة، لكني أدعو الله أن يثبته، ولعلها سوف تكون وقفة مع رسالته (صرخة فتى).(4/18)
نصائح لمن أراد الزواج
هنا رسالة مختصرة من مشفق أتت هذه الليلة، يقول: أناشد كل شاب يريد الزواج، أصر على أن يكون زواجه غير إسلامي، يحضره المغنون والراقصون، والسقط من الناس، أنصحه:
أولاً: أن يتقي الله في زواجه، وأن يعلم أن الله تعالى يقول: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].
ثانياً: من مبدأ الغيرة: هل يرضى أي إنسان عاقل أن تسمع زوجته وأخته وأمه وخالته وعمته وزوجات إخوانه، وزوجات جيرانه، ويكون هو السبب في سماعهن هذا الغناء والمجون والغزل، في صورة قد تكون على هيئة إجبار وإرغام.
ثالثاً: من مبدأ الرحمة والشفقة بهذه الأمة، فكم من أموال أُنفقت وأسرفت وذُهِبَ بها في الحفلات الراقصة اللاهية، التي يحضرها الشياطين، ولا يحضرها أولياء الله.
رابعاً: من مبدأ الجوار؛ فلا يؤذي جيرانه في الحفلات الراقصة واللاهية، وبعضهم يركب مكبرات الصوت من بعد العشاء حتى الساعة الثانية من بعد منتصف الليل، فكم أزعج من المسلمين، وهل هذا زواج إسلامي؟! وماذا ينتظر أن ينتج من هذا الزواج؟ وما هي الذرية المرتقبة؟
خامساً: من مبدأ الرجولة: فكيف يليق بالرجل أن يضيع عشرة آلاف ريال لهؤلاء المطبلين والشعراء الدجالين، بينما يموت إخوانه المسلمون في أفغانستان وفلسطين والبوسنة والهرسك وغيرها جوعاً وعرياً وقتلاً.(4/19)
رسائل من علماء الأمة
هذه ثلاث رسائل من علماء الأمة: رسالة من سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ورسالة من من فضيلة الشيخ/ ابن عثيمين، وأخرى من فضيلة الشيخ/ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين.(4/20)
رسالة ابن باز في حكم شرب الدخان
أما رسالة سماحته فهي مشتهرة، ولكن ذكرها في مثل هذه المناسبات وتكرارها مما ينفع ويجدي إن شاء الله.
السؤال
ما حكم شرب الدخان؟ وما حكم بيعه والاتجار به؟
الجواب
وقد أجاب على هذا السؤال فقال: الدخان محرم لكونه خبيثاً ومشتملاً على أضرار كثيرة، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إنما أباح لعباده الطيبات من المطاعم والمشارب وغيرها، وحرم عليهم الخبائث، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [المائدة:4] ويقول سبحانه في وصف نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة الأعراف: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157].
والدخان بأنواعه ليس من الطيبات، بل هو من الخبائث، والدخان لا يجوز شربه ولا بيعه ولا الاتجار فيه، كالخمر.
والواجب على من كان يشربه أو يتجر فيه البدار بالتوبة والإنابة إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والندم على ما مضى، وأن يعزم على ألا يعود إلى ذلك، ومن تاب بصدق تاب الله عليه، كما قال الله عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].(4/21)
رسالة من ابن عثيمين في حكم سفر الناشئين إلى الخارج للرياضة
وهنا رسالة وفتوى من فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين.
السؤال
أعلنت شركة (بيبسي كولا) عن عزمها على إقامة دورة في كرة القدم أكاديمية لتكون للناشئين من سن الثانية عشرة إلى السادسة عشرة -والناشئون- هؤلاء هم أحفاد مصعب بن عمير ومعاذ بن جبل وخالد بن الوليد، هؤلاء هم الجيل الذي ينصر به الدين، وهو المرشح لقيادة البشرية في القارات وهم من طلاب الابتدائي والمتوسط، وسوف يكونون تحت إشراف فريق من البريطانيين، وهي تطلب من الجميع المشاركة لتنتخب منهم بعد اختبارهم مجموعة للسفر إلى بريطانيا، فما رأيكم هل يشجع الإنسان أبناءه على الالتحاق بهم ليسافر إلى بريطانيا؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وأصحابه ومن تبعه إلى يوم الدين.
لقد سمعت الخبر وقرأته، وفيه أنهم سوف ينتخبون من النشء الصغار ثلاث فرق: فرقة إلى حد السنة الثانية عشرة، وفرقة إلى حد السنة الرابعة عشرة، وفرقة إلى حد السنة السادسة عشرة، ليختاروا منهم من يرون أنه صالح للمشاركة، في هذه الأكاديمية التي سيجري عليها التمرين في بريطانيا، وأنا لا أظن أن أحداً من الناس سيسمح لولده فلذة كبده وثمرة فؤاده أن يسافر في هذا السن إلى بريطانيا أو غيرها من بلاد الكفر، لما في ذلك من الخطورة العظيمة على دين الولد وأخلاقه وعبادته.
ويحرم على الإنسان أن يمكن لهذه الشركة من السفر بهذا النشء إلى بريطانيا أو غيرها من دول الكفر، لأنه مؤتمن على أهله وأولاده، وراع عليهم، وسوف يسأل عنهم يوم القيامة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] ولقوله صلى الله عليه وسلم: {الرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} أسأل الله أن يحمي بلادنا وشبابنا من كيد أعدائنا، وأن يحفظ حكومتنا بالإسلام ويحفظ الإسلام بها، وأن يجعلها خير راع لأبناء شعبها وفلذات أكبادها؛ أن تجترفهم مثل هذه الأفكار السيئة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.
بتوقيع فضيلة الشيخ، وقال: هذا الجواب عن سفر الناشئين لكرة القدم، من إملائي.
قاله كاتبه محمد الصالح العثيمين 21/ 11/1412هـ(4/22)
رسالة من ابن جبرين عن حكم البث المباشر
وهذه فتوى من الشيخ ابن جبرين عن البث المباشر:
السؤال
فضيلة الشيخ: بدأ يظهر في الآونة الأخيرة جهاز استقبال تلفزيوني، يستطيع الإنسان من خلاله استقبال بث محطات التلفزيون العالمية، ولا يخفى عليكم ما تبثه تلك المحطات من سموم وحرب لدين الله، حيث إن القائمين عليها من أعداء الإسلام، ويُعرف هذا الجهاز باسم الدش، فما رأي فضيلتكم في بيع هذا الجهاز أو شرائه أو الدعاية له؟ مع توجيه النصيحة للمسلمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فهذا الجهاز إذا حصل به استقبال ما تبثه الدول الكافرة كاليهود والنصارى أو الرافضة، وحصل بسبب بثه فتنة وشك وميل للحرام، وفعل للجرائم من الزنا والسرقة والاختلاس، ومن إفساد المال في سبيل الحصول على الحرام من المسكرات والمخدرات، ومن الشكوك في العقائد الإسلامية، ونشر الشبهات التي توقع المسلم في حيرة من دينه ومن تعظيم دين الكفار، وتمجيد أفعالهم وإنتاجهم ونحو ذلك من المفاسد، فهو حرام بيعه وشراؤه والدعاية له، وإيراده ونشره؛ لدخول ذلك في التعاون على الإثم والعدوان، ولكونه يتعاطاه فعلاً ويجره إلى الفساد.
فننصح كل مسلم أن يبتعد عن هذا الشر وعن أسبابه وأن ينجو بنفسه.
قاله عبد الله بن جبرين عضو الإفتاء، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(4/23)
قصيدة للدكتور عبد الرحمن العشماوي
هنا رسالة وهي قصيدة من الدكتور/ عبد الرحمن بن صالح العشماوي، بعنوان: خضراء الدمن B=4000211>> جريدة الشرق الأوسط، يقول فيها:
تجيء إليك فاقدة الصواب مهتكة العباءة والحجاب
مصبغة الملابس باخضرار ملونة المبادئ باغتراب
رأينا في الجزائر راحتيها وقد حملت شعارات اضطراب
وفي أرض الجهاد لها حديث مريب في الحضور وفي الغياب
تروح على تنكرها وتغدو خداع في الذهاب وفي الإياب
تشوه وجه صحوتنا جهاراً وتطعنها بآلاف الحراب
وتغلق باب إنصاف وعدل وتفتح للتحامل كل باب
تقول عن الأصوليين قولاً تميَّز بالتحامل والسباب
لها كف مخضبة ولكن بأسوأ ما تراه من الخضاب
جريدة شرق أوسطهم مقر لأصناف الزواحف والذباب
فكم وصفت بإرهاب دعاة إلى نهج الشريعة والكتاب
برئت إلى إله العرش منها كما برئ المشيب من الشباب
أقول لمن يدير الأمر فيها أما لك بعد هذا من متاب
أمالك رجعة للحق تبدي بها للناس أحكام الصواب
تذكر أيها المخدوع أنا سنلقى بعضنا يوم الحساب
أثابه الله ولا شلت يمينه ولا رأيه ولا فكره.
أقول: إن هذه الصحوة المباركة تحمل في طياتها علماً شرعياً مباركاً طيباً، وقد قام كثير من الدعاة وطلبة العلم بتدريس كثير من المتون العلمية النافعة، فلله الحمد والمنة والفضل والثناء الحسن، من ضمن هؤلاء المشايخ: الشيخ وحيد عبد السلام بالي أثابه الله، قام بتدريس الفقه المقارن وكان يدرس -ولا يزال- في بلوغ المرام، وقد نفع الله بدرسه طلبة العلم، وحصلوا فوائد منها حفظ المتن، ومعرفة الشرح، ومدارسة المسائل العلمية، وإني أدعو إخواني من الأساتذة والمشايخ أن يهيئوا دروساً في هذه الكتب، مثل: بلوغ المرام، وفي كتب العقيدة وكتب التفسير، وأن يبذل كل منهم مما عنده ولا يكتم، فإن الكتمان حرام وغش للأمة، وخيانة للمبدأ، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 161].
أسأل الله أن يتولانا وإياكم في الدارين، وأن يحفظنا وإياكم بحفظه، وأن يرعانا برعايته، وأن ينصر كل من نصر الإسلام، ويخذل من عادى هذا الدين، اللهم من سل على المسلمين وعلينا وعلى الدعاة والعلماء والأخيار والصالحين سيفاً فاقتله بسيفه، وأرنا فيه عجائب قدرتك، واجعله عظة للمتعظين، وعبرة للمعتبرين يا رب العالمين، اللهم من حارب أولياءك ودبر لهم المكايد، فأبطل بأسه ونكس رأسه وشرد بالنوم نعاسه يا رب العالمين، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(4/24)
رسالة من الفقراء
إن الفقر منتشر في أوساط المجتمعات, وبالمقابل هناك الغنى المفرط عند بعض الناس, وهناك من لا يدرون كيف يصرفون أموالهم, وفي هذا الدرس حث وترغيب في الصدقة وفي البذل والعطاء, وبيان أسباب وجود الفقر, ثم ذكر الحلول لهذه المشكلة الموجودة في المجتمعات للتقليل من آثارها.(5/1)
العطف على الفقراء
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
إخوة الإيمان! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عنوان هذا الدرس "رسالة من الفقراء"، وهذه الرسالة مرفوعة من الفقراء الذين يلبسون الثياب الممزقة، والأحذية المرقعة، ولا يجدون كسرة الخبز اليابسة، يجوعون إذا شبع الناس, ويسهرون إذا نام الناس, ويبكون إذا ضحك الناس، أرسلوها إلى المترفين الذين ينامون في القصور المنيفة؛ المذهبة الملمعة المزخرفة, ويدوسون الفرش الوثيرة بالأحذية الناعمة, لا يعرفون البرد ولا الجوع ولا الضمأ ولا العري.
وهذه الرسالة سوف نبحث فيها مسائل مهمة، وسوف نخبر من لم يكن عنده علم أن عندنا فقراء, وأن هنا أسراً فقيرة تعيش الفقر المضني، والديون الباهضة، واليتم والبؤس، أقولها تبرئة للذمة، ولا ينكر هذا إلا رجل لا يعرف المجتمع, ولم يسبر أغواره، ولم يداخل أسراره، يعرف هذا الوضع إمام المسجد والخطيب والداعية الذي يخالط الناس، فكان لزاماً على الدعاة وطلبة العلم أن يقفوا في صف هؤلاء الفقراء, يرفعون حوائجهم، ويتكلمون عن معاناتهم، ويقدمون ويقضون طلباتهم؛ ليرحم الله عز وجل هؤلاء برحمته الواسعة، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الراحمون يرحمهم الرحمن}.
لا بد للعبد أن يكون رحيماً بعباد الله عز وجل، وأن يتقرب إلى الله بالشفاعة لهم، جاء عند البخاري ومسلم من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اشفعوا تؤجروا, وليقض الله على لسان نبيه ما شاء} فالواجب على المسلم أن يرفع حاجات هؤلاء, وأن يتفقد أمورهم, وأن يقف معهم وأن يشفع لهم، وأن يسعى بكل ما أوتي من قوة وبسالة من أجل إسعادهم.
ولا يصح -أيها الإخوة- أن تعيش طبقة منا مترفة غنية؛ تلعب بالأموال في بذخ لا يعلمه إلا الله، وطبقة أخرى تنام على التراب، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس أنه قال: {يقول الله عز وجل يوم القيامة وهو يحاسب الإنسان: يابن آدم, جعت فلم تطعمني، قال: كيف أطمعك وأنت رب العالمين؟ قال: أما تعلم أن عبدي فلان بن فلان جاع فما أطعمته، أما إنك لو أطعمته وجدت ذلك عندي، يابن آدم, ظمئت ولم تسقني.
قال: كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان ظمئ فما أسقيته, أما إنك لو أسقيته وجدت ذلك عندي.
يابن آدم, مرضت فلم تعدني.
قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما تعلم أن عبدي فلان بن فلان مرض فما عدته, أما إنك لو عدته وجدت ذلك عندي}.(5/2)
أحب الناس إلى الله
وفي بعض الآثار يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الناس عيال الله, أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله} فأحبهم إلى الله عز وجل الذي يسعى في نفع الناس، وبعض الناس أناني ذاتي, لا يعيش إلا لبطنه ولبيته ولمصالحه الشخصية، فلا ينظر في هموم الناس ولا مشكلاتهم ولا ديونهم ولا معاناتهم, ولا يقف على المستضعفين، ولا يشفع لهم، ولا يجمع التبرعات لهم، ولا يدخل الإسعاد عليهم، وهذا خطأ, فقد يوجد من الأغنياء من يسكن في حي وبجانبه فقراء, وأبناء هذا الغني مترفون بذخون, وأبناء الفقير لا يجدون كسرة الخبز.
يروى أن ابن المبارك -رحمه الله- أمير المؤمنين في الحديث -كان إذا اشترى فاكهة بدأ بأبناء جاره اليهودي فيوزع الفاكهة عليهم، وإذا اشترى لحماً بدأ بأبناء اليهودي فوزع عليهم اللحم, وبعدها أسلم اليهودي؛ لأن ديناً أخرج مثل ابن المبارك دين صحيح وثابت، ومعقول، أما أن تكون المشاركة بالكلمات والخطب الرنانة فقط, ثم نترك هؤلاء، فلمن نتركهم؟
أقول هذا من تجربة، أيها الإخوة! وما يمر يوم إلا وعشرات من المديونين ومن اليتامى ومن المساكين, ومن الذين لا يستطيعون الزواج يقدمون أوراقهم، وقد أحرج مثلي وأمثالي من هذه المسائل والقضايا، ماذا يفعل بها؟ أيبقى دائماً يجمع تبرعات؟ أم يذهب فيشفع دائماً عدة مرات، حتى سال ماء الوجه عند كثير من الناس، فالحل أن نتبنى قضية المستضعفين والفقراء والمساكين جميعاً.(5/3)
فضل تفريج الكربات بالصدقات
قال عليه الصلاة والسلام: {والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة}.
أيها الإخوة! إن تفريج الكرب أعظم -عند علماء السنة- من بعض النوافل اللازمة، فأنا أرى أن من يذهب للشفاعة عند مسئول لفقير أو مسكين أو محتاج أفضل ممن يصلي ركعتي الضحى في المسجد، وأحسن ممن يصوم النوافل.
فإنك إن تفرج عن مكروب، أو تقف مع يتيم، أو تكفله، أو تنظر إلى معاق فترفع حاجته، أو تقضي الدين عن مدين، أو تساعد من يريد الزواج أو تجمع له المال, أو تنشئ صندوقاً في قريتك أو في حيك, وتساعد هؤلاء جميعاً خير لك من كثير من النوافل.
قال صلى الله عليه وسلم في فضل الصدقات وفي عظم أجرها وعظم الباذلين, كما صح عنه عليه الصلاة والسلام: {كل امرئٍ في ظل صدقته يوم القيامة حتى يقضى بين الناس}.
فالمعلوم أن العبد سوف يستظل بصدقته، فمنهم من تكون صدقته كالجبل, ومنهم من تكون كالرابية أو كالنخلة أو كالكف، ومنهم من لا ظل له، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {إذا تصدق المرء المسلم أو العبد المسلم من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا، فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون كـ جبل أحد} وفي الصحيح -أيضاً- أنه عليه الصلاة والسلام قال: {إن لله ملكين يناديان كل صباح، يقول أحدهما: اللهم أعط ممسكاً تلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط منفقاً خلفا} قال الله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261] وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {صدقة السر تطفئ غضب الرب} وفي الترمذي: {والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار} فمن ارتكب خطايا أو مخالفات فليطفئها بالصدقة، فإنه لا يسترضى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بمثل الصدقة.(5/4)
نماذج للمتصدقين
كان علي بن الحسين زين العابدين يخرج في الليالي الظلماء, يحمل الزبيب والدقيق والتمر ويوزعها على فقراء المدينة، فلما مات وجاءوا ليغسلوه وجدوا أثر الخيوط التي كان يحملها على جسمه، وهو الذي يقول فيه الفرزدق:
يغضي حياءً ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته هذا التقي النقي الطاهر العلم
ودخل رجل على علي رضي الله عنه, والرجل فقير وعلي كان يملك ميزانية الأمة الإسلامية في الكوفة، ومع ذلك كان أفقر الناس، يلبس المرقع ولا يجد حفنة من الزبيب, ويوزع بيت المال ويصلي ركعتين ويقول: [[اللهم اشهد أني ما أمسكت لأهلي حبة ولا تمرة ولا زبيبة]] فأتى الفقير فخجل أن يتكلم بحاجته أمام أمير المؤمنين علي فكتب حاجته على التراب بأصبعه، يقول أريد منك شيئاً، فما وجد علي إلا حلة جميلة غالية من بيت المال؛ فأعطاها لهذا الفقير, وهي تساوي آلاف الدنانير, فقال الفقير:
كسوتني حلة تبلى محاسنها لأكسونك من حسن الثنا حللا
يقول: حلتك سوف تبلى، لكن والله لأكسونك ثناءً يبقى أبد الدهر، ولذلك بقي هذا الثناء إلى اليوم، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبناء هرم بن سنان لما قدموا عليه: ماذا فعل بكم زهير بن أبي سلمى الشاعر؟ قالوا: مدحنا وأعطيناه.
قال: ذهب والله ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم.
يقول زهير في مدح هرم بالكرم والصدقة والإنفاق:
وأبيض فياضٌ يداه غمامةٌ على معتفيه ما تغب فواضله
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك معطيه الذي أنت سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته فدرته المعروف والجود ساحله(5/5)
معاناة الفقراء
واعلموا أيها الإخوة! أن المعاناة العظيمة التي يعيشها الفقراء معاناة لا يعيشها إلا من ذاق الفقر، فهم يحسون بها ولا يحس بها غيرهم، وبعض الناس يستبعد هذا الكلام ويقول: أين الفقراء؟ أنت تتكلم من فراغ.
وأقول: مثل هؤلاء كمثل ملكة بريطانيا , يروى عنها في التاريخ أن قومها فقدوا الخبز وما وجدوه, لا في الأفران ولا في البلد ولا في الدكاكين ولا في غيرها، فخرجوا متظاهرين، فخرجت لهم من نافذة القصر وقالت: ما لهؤلاء؟ قالوا: يريدون خبزاً، قالت: يأكلون بسكويتاً حتى يأتي الخبز، هم لو وجدوا البسكويت لما خرجوا متظاهرين أصلاً! لكن الشبعان والمثخن بالنعم وبالترف لا يشعر بهذه المعاناة، كما قال الشاعر:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
وقال المتنبي:
القلب أعلم ياعذول بدائه وأحق منك بجفنه وبمائه
لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى يكون حشاك في أحشائه
يقول: لا تعذل الجائع في جوعه حتى تجوع كما يجوع، ولا الضمآن حتى تضمأ، ولذلك فرض الله الصيام على الملايين كلها؛ ليذوق الملك والوزير والأمير والغني الجوع، وليعلموا أن الناس يجوعون، وبعض الناس يعيش اثنى عشر شهراً وهو جائع دائماً.
ولذلك تعوذ النبي عليه الصلاة والسلام من الفقر وقال: {اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر} وفي بعض الآثار يقول: {كاد الفقر أن يكون كفراً} أحياناً يصل بالإنسان إلى أن يتسخط على الله عز وجل، فقد يصبح الإنسان فقيراً وإذا لم يكن عنده إيمان ولا يقين ولا علم راسخ؛ يتسخط على الله ويرفض القضاء والقدر، فهذا ابن الراوندي الزنديق الفيلسوف الكلب المعفر كان فقيراً مملقاً وكان من أذكياء الناس, لكنه فقير ومع ذلك مظلم القلب، ما يجد كسرة الخبز، وفي الأخير بحث فوجد -بحفظ الله ورعايته- كسرة خبز، فوقف على نهر دجلة يبلها في الماء ويأكلها، فمرت صفوف من الخيول عليها الذهب، فقال: لمن هذه الخيول؟ قالوا: لفلان العبد, عبد من الناس.
قال يخاطب الله: أنا ابن الراوندي فيلسوف الدنيا ما أعطيتني إلا كسرة من خبز الشعير، وهذا البليد الغبي تعطيه الخيول من الذهب، ثم رمى بالكسرة في النهر وقال: هذه قسمة ضيزى، ثم ألف كتاب الدامغ على القرآن يدمغ به القرآن دمغ الله رأسه في النار.
فتجد أن بعض المعاناة تشتد بالإنسان إلى أن يكفر -والعياذ بالله- بسبب الفقر, وتجده إذا تكلمت أنت في العدالة والتآخي والمواساة قال: أين العدالة؟ أين الإسلام؟ أين القرآن والسنة؟ ونحن جوعى ونأكل التراب!!
ويقول آخر:
يمشي الفقير وكل شيء ضده والناس تغلق دونه أبوابها
وترى الكلاب إذا رأت رجل الغنى حنت إليه وحركت أذنابها
وإذا رأت يوماً فقيراً بائساً نبحت عليه وكشرت أنيابها
وبعض الناس يتسخط على القضاء والقدر، فلو قيل له: راجع في وظيفة.
لقال: الأبواب مغلقة, ولو كان هناك ألف وظيفة لمنعوني، ولو قيل له: اذهب واعمل.
قال: لو أبيع الذهب ما يمكن أن يباع وغيري لو باع التراب لبيع له.
فتقول له: حاول.
فيقول: حاولت فأصبت بحالة من الإحباط من كثرة المعاناة.
إلى أن ييأس من روح الله, ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
لطائف الله وإن طال المدى كلمحة الطرف إذا الطرف سجى
كم فرج بعد إياس قد أتى وكم سرور قد أتى بعد الأسى(5/6)
أسباب الفقر
ما هي معالم الفقر في المجتمع؟ ما هي الخطوط العريضة التي يعيشها الفقراء في أمورهم وفي أحوالهم؟ وما هي أسبابها؟ وما هو الحل لهذه المشكلات؟
هذا ما أريد أن أقوله باختصار في هذه الليلة، وأنتم رسل خير وصفوة المجتمع، لكم أن تطرحوا حلولاً أخرى ولكم أن تشاركوا، وليس للواحد أن يبقى سلبياً منزوياً يعيش لذاته ولأسرته ولأطفاله؛ بينما أسر المسلمين يعيشون الجوع والعري، والفقر والديون الباهضة, ويبقى شباب الإسلام بلا زواج ولا يجد أحدهم مهراً يسدده، فهذه سوف أطرحها, وفيكم من هو أذكى وأفطن وأعلم فليشارك بالحلول.
لماذا الفقر؟(5/7)
قلة الدخل
الأمر الأول: قلة الدخل بالنسبة للمصروف.
فإن كثيراً من الناس لا يغطي دخلهم مصروفهم، وتصور ماذا يفعل الذي راتبه ألف ريال وبعضهم أقل، أمام حاجات العصر المتطورة, من لحوم وفواكه وخضروات ومأكولات ومشروبات؛ لأنه يريد أن يعيش العصر والمجتمع والمدنية التي يسكنها.
وبعض الناس يصرف الراتب كله في ضيفة واحدة؛ لأنه لا زال هنا الالتزام ولا زالت المروءة ولا زال الكرم موجود، والإنسان إذا دخل عليه ضيف فباستطاعته أن يضيفه بألفي ريال في ليلة واحدة.
أيضاً هناك مصروفات كمصروفات الهاتف والكهرباء والماء ولوازم السيارة والذهاب والإياب والعلاج، ولوازم الطيران من تذكرة وغيرها، هذه كلها لوازم باهضة، فيكون المصروف أعظم بكثير من الدخل، ولا مقارنة بين هذا وهذا.
فلا بد للإنسان أن يوازن بين مصروفه ودخله، (وما عال من اقتصد) , وعليه ألا يماشي الناس في أهوائهم؛ لأن بعض الناس تجده يباري الناس وتجده يظاهر الناس، والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور، فهو يريد أن يكون من كرماء الناس وأغنيائهم؛ في العزائم والحفلات والأخذ والعطاء وأثاث البيت ومشترياته لأهله ولباس الأهل, وهذا لا يلزمه أصلاً؛ لأنه ليس مكلفاً من الشرع، إنما قد جعل الله لكل شيء قدراً، وفي الحديث الصحيح: {لينظر أحدكم في الدنيا إلى من هو دونه} فأنت انظر إلى من هو أفقر منك ولا تنظر إلى هؤلاء الذين يرون المليون الواحد عندهم كالريال عندك، فأنت إذا أذهبت ريالاً من عندك خسرك وأنقص ميزانيتك, وهو يذهب بالمليون في لحظة ولا يحس بشيء، فمثل هذا لابد من معرفته مع حلول أخرى, وهذه الحلول لا تهمنا لكنها تهم أناساً آخرين عليهم أن يقوموا بها.
أيضاً الإيجار الباهض للبيوت, فليس كل الناس سواء في المدن أو في الضواحي يملكون بيوتاً فقطاع كبير من الناس من الفقراء والمساكين والأيتام يسكنون بيوتاً بالإيجار، فتجد الإيجار باهضاً قد يصل أحياناً إلى عشرة آلاف أو خمسة عشر ألفاً إلى عشرين ألفاً وهذا كله مضن, فإن البعض يجمع هذا الإيجار في سنة كاملة من أهل الخير ومن المتصدقين والمحسنين، فعلى أهل العقار أن يتصدقوا وأن يراعوا أحوال هؤلاء، وأن يتقوا الله فيهم.
ولماذا لا يقوم الأغنياء -مثلاً- بتوقيف بعض الفلل والعمارات الضخمة والشقق على هؤلاء الفقراء، والطلاب الذين لا يجدون مأوى؟ طالب في الجامعة عنده أسرة وستة أطفال أو سبعة، وراتبه ثمانمائة ريال, ماذا يفعل به مع الإيجار والمصروف والنفقة, ومع تكاليف العصر؟ فهو لا ينفعه ولا يغطي شيئاً من حاجته.(5/8)
كثرة الديون
الأمر الثاني: الديون المضنية من البنك العقاري والزراعي.
وقد تورط كثير من الناس في هذه، فعليهم ديون كثيرة، وأنا أحس بهذا من خلال الأسئلة والكتابات والرسائل التي وصلتني، وهذا الأمر لا يكتشف إلا إذا مات الميت فيأتي أبناؤه فيقولون: على أبينا مائة وخمسون ألفاً أو مائتا ألف، أو نحو ذلك للبنك, ونحن لم نستطع سدادها ولم يترك شيئاً فماذا نفعل؟ وكثير من الناس يحتاج إلى هذا في مثل مساعدة في زواج أو في ترميم بيت أو في زراعة, فما حصل محصولاً وما أنتج منتوجاً غطى دخله فأصبح في ورطة.
وأنا أرجو من ولاة الأمر باسمكم جميعاً أن يخفضوا على هؤلاء الفقراء والمساكين والمستضعفين، وأن يسامحوهم ويعفوا عنهم, وهذا -إن شاء الله- لا يضر, وهو في ميزان حسناتهم, وسيكسبون الدعاء من المسلمين والتسديد من الله والهداية.
وما الذي يمنع من أن يعفى الناس عفواً تاماً من مقتضيات البنك العقاري والزراعي؟ وهذا الأمر يكسب الدعاء والحب والرجاء لهم من الله بالتمكين السداد والرعاية والحفظ وهو أحسن ما يكون.
وقد فعل بعض الخلفاء ذلك؛ فإنه ذكر أن هارون الرشيد كان في يوم عيد الفطر يرسل نفقات للناس ما يكفيهم سنة، وكان عمر بن عبد العزيز يوزع الذهب والفضة في المساجد, حتى يقول عمر بن سعيد أحد وزرائه: والله الذي لا إله إلا هو لقد درت من دمشق إلى أفريقيا فما وجدت فقيراً أعطيه الزكاة.
لقد أعطاهم وأغناهم عمر بن عبد العزيز، كان يقوم على المنبر ويقول: "يا أيها الناس! من وجد منكم فقيراً فليرفع إلي أمره، أو مسكيناً أو مديوناً" فمثل هذا لو عفي لا يضر أبداً, لأنهم لا يستطيعون أن يجدوا دخلاً يغطي مائتي ألف أو مائة ألف أمام مقتضيات العصر.(5/9)
عدم صرف الزكاة
الأمر الثالث: عدم صرف الزكاة صرفاً صحيحاً سليماً شرعياً.
جعلت الزكاة -يا أيها الإخوة- لأصناف ثمانية لترفع الحاجة في المجتمع، وأنا أقول -جزماً-: لو صرفت الزكاة صرفاً صحيحاً ما بقي فينا فقير، لكن الزكاة لا تصرف صرفاً صحيحاً، إما أن تصرف في مناطق نائية الأقرب أولى منها، أو أنها تذهب إلى صناديق أخرى, والصناديق تصرف في مصارف قد تنفع لكن ليست هي مصارفها الشرعية, فلماذا لا تؤخذ هذه الملايين؟ أن بعض التجار يقول: بقي من زكاتي ستة مليين عندي، من غير التي سلمها, لكن بقي ستة ملايين, فكيف بالزكاة الأخرى الباقية في الصندوق؟ وبعضهم يملك مليارات, وتصوروا أن بعض التجار يكسب في اليوم الواحد 12 مليون دولار، كسباً وربحاً وليس رأس مال، في اليوم الواحد؛ في الأربعة والعشرين ساعة.
فمثل هذا لو أنفق صدقاته ووجهها وكان له لجان يقومون لحالة المتزوجين والفقراء والأيتام لكان أنفع, وأنا أقول هذا الكلام؛ لأنه سوف يبلغ أهل رءوس الأموال والتجار وأثرياء البلاد، وسوف يكون له ردة فعل إن شاء الله.(5/10)
غلاء المهور
الأمر الرابع: غلاء المهور على هؤلاء، فإن كثيراً من الشباب تركوا الزواج وكثرت العنوسة في المجتمع بسبب غلاء المهور، وأنا أعرف أنه حدد في بعض المناطق بأربعين ألفاً ويتساهلها الناس مع أنها باهضة، وقد زرت بعض القرى فقالوا: لا نستطيع أن نجمع أربعين ألفاً.
فيبقى هذا الذي راتبه ألف ريال -مع المصروفات والنفقات والحاجات- يجمع طوال السنة أربعين ألفاً ثم يدفعها، ثم بعد ذلك يدخل زوجته بلا مأوى ولا أثاث ولا طعام ولا شراب ولا بيت ولا سيارة ولا شيء.
وبعض الناس الآن يريد أن يخفض لكن يقول: لو كان هناك تحديد لأخذت خمسة آلاف أو عشرة آلاف أما والتحديد أربعين فسآخذ أربعين! وأقول: ما يمنع -أيها الإخوة- أن يكون أقل، والواجب أن ينظر في هذا، وقد قال بعض العلماء الكبار: إن أربعين ألفاً كثيرة على كثير من الشباب.
فعلى آباء البنات أن يتقوا الله عز وجل, فإن من يرضى دينه وأمانته لا يبايع على سلعة, إنما هو يتشرف برحمه وبالقرب منه, والواجب أن يدفع الإنسان من جيبه؛ ليستر ابنته وكريمته, وليكسب رجلاً مسلماً يخاف الله ويرجو لقاءه، هذا هو الواجب.
أما قضية لابد من أربعين ولخالتها عشرة ولعمتها خمسة ولجدتها كذا ثم يورث أهل القرية في هذا المهر: فهذه الأمور لا يستطاع لها, وتأتي منها مشكلات -يا أيها الناس- في مجتمعنا, وتأتي منها كوارث يعلمها الله عز وجل، فالواجب أن تكون عشرة آلاف بقدر النفقة والتكلفة.
وهناك منكر آخر وهو ما يفعله الناس في صالات الأفراح؛ فإنهم يأتون بأمور صراحة أنها تخالف منهج الإسلام في الإسراف وفي المظاهر الكاذبة، كلها فقط مظاهر كاذبة للناس ورياء وسمعة, يقول الله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:47] ويقول صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: {من راءى راءى الله به ومن سمع سمع الله به} وبعض الناس يكون فقيراً ومع ذلك يرائي, فيجمع حشفاً وسوء كيلة, يتدين أموال الناس ويذبح أربعين أو ثلاثين أو عشرين ذبيحة، ثم يرمي لحومها للقطط والكلاب, ثم يبقى في سنة يرد ديون الناس, ولا يجد المهر ولا يجد المصروف ولا الأثاث ولا الحلي، فلماذا لا يكون الزواج مخفضاً؟ ولماذا لا يتم في بيت عائلي لا يحضر إلا عشرة وتكون ذبيحة أو ذبيحتان؟ وليس من الضروري أن يكون في صالة الأفراح.
وفي العطلة الماضية حصل في أبها في صالة الأفراح -التي أعرفها بواسطة الإخوة- 62 زواجاً, وذبائحها بالعشرات, ولو وزعت هذه الذبائح على الفقراء لأغنت أسراً كثيرة تنام ولا تجد كسرة الخبز, ثم يلحق ذلك بالتشريعة التي تبلغ عشرة آلاف إلى خمسة عشر أو عشرين ألفاً، وهذا من سفه الناس، ومن قلة فقههم وقلة خوفهم من الله عز وجل.
فلماذا لا يتزوج الإنسان في بيته ويدعو ثلاثة معه وأهله فقط؟ ولماذا لا تحدد هذه الأمور ويقتصد فيها؟ سواء أرضي عنه الناس أم غضبوا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يروى عنه أنه قال: {من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس}.(5/11)
استنزاف الأموال
الأمر الخامس: أبواب الاستنزاف.
فإن الناس الآن مستنزفون كثيراً في أرزاقهم، فهناك دخل عند كثير منهم لكنه ما يغطي الاستنزاف كما ذكرت، فتكاليف الهاتف باهضة على كثير من الأسر، وبعضهم يستدين ما يغطي به الهاتف, وكذلك الكهرباء والماء ونفقاتها, كذلك تذاكر الطيران فهي غالية على كثير من الناس, حتى إن بعضهم يسافر بالبر، فتبلغ قيمة التذكرة مئات, وبعضهم مضطر لأن يسافر، وأنا أعرف رجلاً بأسرته يراجع كل شهر المستشفى التخصصي في الرياض، فيسافر في كل شهر بتذكرة، فكم يغطي من التكاليف؟ وكم هو راتبه؟ وكم يحتاج في النزول في الفندق والسكنى وفي إيجار السيارات وفي الأخذ والعطاء؟ وهذه الأمور بشتى أنواعها التي تخص البلدية أو الجوازات أو المرور أو غيرها من النواحي والمنافذ، فكلها رسوم باهضة على كثير من الناس.
فالواجب أن يُنظر إلى المستويات الضعيفة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ عثمان بن أبي العاص في الصلاة كما في سنن أبي داود: {أنت إمامهم واقتد بأضعفهم} فالواجب أن يقتدى بالأضعف وأن ينظر إلى أقل الناس معيشة ومستوى.
أيضاً تعقيد الحياة المعيشية، وارتفاع متطلبات الأسرة، فإن المتطلبات -الآن- ليست كما كانت قبل عشرين أو ثلاثين سنة, وعندنا كبار السن يعرفون هذا، وهم مذهولون من هذه النعم، فالشباب الآن لا يرضى الواحد أن يبقى بالثوب الواحد سنة، وكان كبار السن الواحد منهم يبقى في ثوب واحد سنة وسنتين حتى يرقع الثوب جميعاً, فيكون كله رقعاً, ويذهب الثوب الأصلي الأول، وكانوا في وجباتهم لا يجدون اللحم إلا في السنة مرة في الأضحية فقط، أو إذا جاء ضيف نادر فيجتمع مائة من أهل القرية على ذبيحة واحدة وعندهم الخبز، ولا يعرفون الفواكه ولا اللحوم، ولا الخضروات ولا المعلبات, ولا الثلاجة ولا البرادة، ولا السخانة ولا الدفاية، ولا الحراثة ولا الحفارة، ولا الطيارة ولا السيارة ولا يعرفون شيئاً من هذه، فلذلك كانت مائة ريال تكفيه، أما الآن فأمام مقتضيات العصر لا يمشيه إلا أمر كبير لا بد له من رصيد ولا بد له من مال وإلا أصبح محرجاً أمام مجتمعه.(5/12)
عدم اهتمام الأغنياء بالفقراء
الأمر السادس: عدم اهتمام الأغنياء بالفقراء.
فبعض الأغنياء لا يبالون بالفقراء, وقد وجد أن بعض التجار يقال عنهم: إنهم لا يزكون، وأنا لا أتهم أحداً بعينه، لكن نقل هذا حتى في مجالس العلماء والدعاة أن بعضهم لا يزكي, وأمرهم إلى الله ونحن لسنا برقباء ولا محاسبين للناس، فالله هو الذي يحاسبهم قال الله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُون} [التوبة:34 - 35].
وبعضهم تجده ينفق أمواله في دول قاصية قد لا يكونون مسلمين, وتجده يوزع أمواله على فقراء النصارى أو فقراء الوثنيين أو الهندوك أو فقراء المبتدعة, ولا يراعي فقراء المسلمين في الدول الإسلامية, ولا فقراء أهل السنة الذين هم الأقربون والأولى بالمعروف، أو يراعي أحوالهم، أو تجد له مصارف في الأموال ليست بصحيحة وغيرها أحسن منها، فالواجب مراعاة مثل هؤلاء الفقراء.(5/13)
ارتفاع نسبة البطالة
الأمر السابع: ارتفاع نسبة البطالة عند كثير من الناس.
فكثير من الناس الآن لا يستطيع أن يتعلم وعنده عقدة من العلم، فهو أخفق في الدراسة وأخفق في العمل ولا يستطيع الدخول في الجيش، فالجيش عنده تعب والدراسة مضنية والعمل شاق، والنوم صحيح وجيد؛ وتجد شاباً يهد هذا الجدار فتقول له: اتق الله, لماذا لا تتوظف؟ ادخل الجيش.
قال: والله ما أستطيع، دربونا حتى سالت دماؤنا من ركبنا.
إذاً أدرس.
قال: لا أستطيع أن أداوم, أنا ما أفهم إذا درست.
إذاً اشتغل.
قال: ما أعرف أشتغل، مثل هذا ما يعطى، لابد أن يعمل حتى لو يبيع المساويك في الجمعة بعد الصلاة، أو يذهب في ورشة، ولو أدركه عمر بن الخطاب لبطحه على بطنه وظهره؛ لأن عمر دخل فوجد شباباً أقوياء يسبحون في المسجد, فدخل وقال: السلام عليكم، ماذا تعملون هنا؟ قالوا: نعبد الله وكأنهم أعبد من عمر، قال عمر: كلنا يعبد الله, ولكن من الذي يرزقكم ويأتي لكم بالطعام؟ قالوا: الله.
قال: أنا أدري أن الله هو المطعم، لكن من يأتي بالطعام ويقدمه لكم؟ قالوا: جيراننا.
قال: جيرانكم أعبد منكم, انتظروني.
ثم أغلق الباب وذهب وأتى بالدرة -وحيا الله عمر - ودخل عليهم فبطحهم أرضاً وضربهم حتى عرفوا القبلة، ثم قال: [[اخرجوا فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة]] فلا بد من العمل، وأنا أرى أنه ليس من الصحيح حتى شرعياً عدم السماح للموظفين بالعمل، لماذا لا يسمح للموظفين بالعمل؟ بشرط ألا يخل بالوظيفة, لكن إذا انتهى دوامه الثانية والنصف أو الثالثة ظهراً فلماذا لا يذهب ويشتغل, فيفتح ورشة أو دكاناً أو متجراً, وهذا في الإسلام لا يضر، ولا بد للناس من عمل.
وأحياناً الموظف الذي راتبه ألفان أو ثلاثة آلاف عنده أسرة أو أسرتان أو ثلاث أسر، وهذا لا يغطي دخله أمام مقتضيات الحياة، فلماذا لا يسمح له بالعمل يعمل ما شاء؟ لكن عليه فرض ألا يخل بالعمل في الدوام الرسمي, فإذا انتهى من عمله فليذهب أينما شاء, يخرج أصدافاً من البحر, أو يكسر الأخشاب ويبيعها, أو يبيع مساويك أو يفتح ورشة, ما دام بيعاً شرعياً فهو مطلوب، وكان السلف الصالح يفعلون ذلك، وكان لهم أعمال يحضرونها ويداومون فيها وفي آخر النهار يتاجرون, والله يقول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] يقول إذا انتهت الصلاة وسلم الإمام وسبحتم فاخرجوا اطلبوا الرزق واعملوا واشتغلوا، وأنا سوف أقرأ لكم مقالة في جريدة الندوة عن هذا الأمر.
الكاتب بالعدد والرقم أظهر أن العمال كلهم ليسوا من هذه البلاد، وأنا لا أتحيز لفئة ولا لبلد ولا لشيء, لكن لا يصلح أن يكون هناك أمة عاطلة لا تعمل ولا تؤدي ولا تشتغل ولا تبذل ولا تعطي, فالواجب السماح لهؤلاء بالعمل، ولذلك لما منع هؤلاء الموظفون من العمل زوروا, فهذا يأخذ رخصة باسم أمه وهذا باسم زوجته وهذا باسم أخته ويأخذ أعمالاً، وهذا تزوير, والواجب أن يتركوا على أعمالهم وعلى نياتهم وعلى متطلباتهم.(5/14)
الخمول والكسل
الأمر الثامن: الخمول والكسل, والذي أصبح ظاهرةً عند الكثير، فإن هذه البلاد فيها كسل وخمول، وبعضهم يأنف من بعض الحرف، فإذا قلت له: لو عملت في ورشة.
لقال لك: أنا أعمل في ورشة! وكأنه ابن علي بن أبي طالب! فهذا علي رضي الله عنه اشتغل وعمل ورفع الماء ليهودية من البئر, وأخذ أجره حفنة من التمر رضي الله عنه, وعمر عمل في المزرعة وأبو بكر وعثمان , وباع أبو بكر الجمال في السوق وباع السمن والعسل رضي الله عنه، وكلهم عملوا، فالعمل والمهنة شرف، لكن كثيراً من الناس يأنف أن يعمل عملاً ويقول: أنا لا أستطيع لهذا, وتجده فقيراً معدماً لكنه يتظاهر متشبع بما عنده من كيان, ومن تواضع لله رفعه ولا أزيد على ذلك.(5/15)
عدم الالتفات للفقراء
الأمر التاسع: عدم الالتفات لمثل هؤلاء الفقراء في مثل توزيع الأراضي أو الصدقات والأعطيات.
فتجد الفقير مبخوساً في كل شيء, ملفه في آخر الملفات، وما تضيع إلا ملفات الفقراء، أما ملفات المترفين فلا تضيع أبداً, ولو سقطت أرضية من السماء لوقعت على صاحب الأرضيات الأولى، فالذي يأخذ عشر أو عشرين أرضية دائماً تسقط عليه، سبحان الله! ما أسهلها عنده! أما هذا المستأجر والذي ما عنده أرض، فيذهب بملفه فيضيع في المكتب, ثم يضيع في الصادر، ثم تضيع أوراقه في الوارد, ويجلس في الصالة ولا يجد كرسياً يجلس عليه, ويقولون له: تعال غداً, وفي عطلة الربيع -إن شاء الله- وفي الصيف ننهي معاملتك, فيبقى هذا المسكين محروماً, وما عنده من يشفع له وصوته ضعيف, وما يعرف يكتب معروضاً، ولا يرحمه أحد.
فمثل هؤلاء الواجب العدل معهم ومراعاتهم، والواجب أن تتخذ فقط أمور الفقراء ولا يدخل أحد معهم, ومن عنده فقر وتنطبق عليه الأمور فله كذا وكذا، وكذلك الصدقات والأعطيات، وأنا أعرف أنها تأتي إلى بعض الجهات صدقات وملايين لكن يتولاها أناس -نسأل الله العافية- أحياناً تقل أمانتهم، وقد سمعت أن أحدهم استلم مبلغاً هائلاً؛ ليوزعها على أفراد القبيلة, فأخذ أعمامه وخالاته، وأخواله وأبناءه وبناته وجعلهم في القائمة، ووزع عليهم الأموال وترك الفقراء الآخرين، وهذا ليس بصحيح؛ لأن الواجب أن يعطى هؤلاء الأمناء، وأهل العلم وأهل الدعوة، والذين يخافون الله عز وجل, وتكون هناك لجنة مشكلة لا يستأثر بها أحد؛ لأن بعض الناس يضيع عند المال، تجده صائماً باكياً نادماً، فإذا استلم الملايين ضيع أمانته.(5/16)
ضرب الأسواق التجارية
الأمر العاشر: ضرب السوق التجاري بمستغلين استحوذوا على الساحة التجارية ولا يستطاع مزاحمتهم، فيوجد أحياناً شركات ومؤسسات في هذا البلد هي دائماً التي لها المال، ولها السوق التجاري، ولها الصادر والوارد, فما يستطاع مزاحمتهم.
فماذا يفعل الفقير الذي رأس ماله مائة ألف؟ لا يستطيع أن ينازل هؤلاء أو يزاحمهم, وتجدهم هم المستحوذون على الأماكن, ودائماً يسابقون على المناقصات, ولهم من الأيادي الخفية ولهم من المساعدات والواسطات ما يستطيعون أن يأخذوا بها، حتى يقال: إن في المناقصات أموراً من وراء الكواليس, لتسقط هذه المناقصة على تلك المؤسسة ولا يأتيها غيرها، ويأتي من العوارض للفقراء والمعوزين أو الذين لا يملكون واسطة ما يحجبهم عن هذا الطريق فلا يستطيعون المواصلة، والواجب النظر إلى مثل هذه القضايا وتقنين السوق والقيام عليها, وتخويف الناس من بطش الله عز وجل ومن الظلم؛ فإن عاقبته وخيمة والظلم ظلمات.
وأنا أعتقد أن كلامي هذا ليس تدخلاً في شئون الآخرين، وأن من حقي ومن حق غيري من طلبة العلم والدعاة أن يتكلموا بهذا، فقد تكلم به أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والأئمة, حتى ابن تيمية أفرد له مصنفاً اسمه: السياسة الشرعية والحسبة , وله رسالة في المكوس أرسلها إلى السلاطين, ورسالة في الضرائب وله رسالة في الصدقات, والشوكاني له رسالة في ذلك أرسلها إلى السلاطين، فهذه من خصائصنا ومن مهماتنا, وهي من الكتاب والسنة، أن نتكلم عليها في كل مناسبة, وأن ندعو الناس إلى التراحم، ونبين لهم ماذا يجب لهم وماذا يجب عليهم.(5/17)
كثرة أفراد الأسرة
الأمر الحادي عشر: كثرة أفراد الأسرة على العائل الواحد، فإن كثيراً من الناس رزقه الله أبناءً كثر، وأنا أعرف رجلاً عنده زوجتان ومعه أربعة عشر طفلاً، وراتبه ألف وأربعمائة ريال، وعليه ديون عظيمة ويسكن في بيت شعبي في ضاحية من ضواحي أبها , معه سيارة هايلوكس يذهب الصباح فيوصل بناته وأبناءه, فلا بد أن يربي أربعة عشر طفلاً وزوجتين, وحقوق الضيوف، وحقوق البيت، ومتطلبات الحياة وضرورات العصر، فمثل هذا دائماً يقول: ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ وبعض الناس يلوموننا إذا طلبنا من الناس أن يتصدقوا عليهم, ويقول: لا تشحذوا في المسجد.
وما علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب على المنبر, وأمر أصحابه أن يطلبوا وقال: {اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء} وبعض الناس لا يجد منافذ, ولا يعرف الفقراء ولا المحتاجين وإنما يعرفهم الذين يخالطونهم.
فمثل هؤلاء الفقراء يضربهم الفقر والجوع؛ لكثرة أطفالهم ومستلزماتهم, خاصة الآن في كثير من المدارس -مدارس البنين والبنات- تفرض على الطلاب أمور منها أن يكون الزي في بعض المناسبات خاصاً، وأن يشتري بعض الثياب والغتر والجزمات, ومدارس البنات تطلب -مثلاً- زياً خاصاً وتفرض عليهن موديلاً خاصاً, ودفاتر وشناط وحقائب, فيبقى في ديون.(5/18)
تورط الناس في الديون
الأمر الثاني عشر: تورط الناس في الديون أيام الطفرة ثم المفاجأة بالجفاف، فقد مر بالناس أيام رخاء وأيام سعد في المال، فقالوا كلها أيام بني سعد, فتورطوا وبنوا وعمروا واشتروا من السيارات وبذخوا؛ حتى وجد في بعض البيوت أربع وخمس سيارات, ثم فوجئوا بالجفاف فأصبحوا كالّين مالّين ما عندهم شيء يسددون به حاجاتهم أمام متطلبات العصر, وهذا أمر موجود.(5/19)
الإسراف في النفقة
الأمر الثالث عشر: الإسراف في النفقة وعدم ترشيد النفقة.
فإن بعض الناس فقير ويناقر, لا يعرف كيف يصرف, فتجد دائماً في بيته ذبيحة وهو فقير، ويقدم الموائد الشهية ويستضيف الناس وهو فقير، مد رجلك على قدر فراشك, وهذا مثل شعبي, بمعني قدم ما عندك, ولا تتكلف مفقوداً ولا ترد موجوداً، ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فاتقوا الله ما استطعتم, لا تماشِ الأغنياء ولا تجعل مشيتك كمشية الآخرين, فعلى قدر دخلك فلتكيف حاجتك.
وبعض الفقراء إذا حصل مالاً -من قلة تصريفه ومن ضعفه- يشتري أجهزة لا حاجة له بها, أو أموراً للزينة أو أموراً كمالية وهو يحتاج إلى ضروريات.
فأوصي هؤلاء بالاقتصاد في النفقة, والتخفيف والتقليل من النفقات التي لا حاجة فيها.(5/20)
غلاء الأسعار
الأمر الرابع عشر: غلاء الأسعار.
فإن الناس يعيشون غلاء صريحاً مهما كان, وعلى المسلمين أن يراعوا هؤلاء وأن يتقوا الله فيهم, وأن ينظر إلى أضعف الناس الذي لا يستطيع أن يماشي الناس, فإن بعض الناس لا يهمه أن تغلى الأسعار أو تنقص، وقد سمعنا أن بعض التجار يرسل عماله وصبيانه يشترون فيقولون: غلت السلعة.
فيقول: اشتروا بأي ثمن كان, المهم أن تكون موجودة, فما يبالي سواء زاد أو نقص ولو ضوعفت عشر مرات فهي سهلة عنده لا تساوي شيئاً، لكن الآخرين العشرة الريال تضرهم.
هذه بعض المسائل التي أردت أن أقولها هنا.
ويجدر أن نذكر قول الشاعر الذي يقول:
فقير في المجاعة لا ينام ومسكين ببؤس مستهام
ومبخوس المعيشة فهو صب على علاته أبداً يلام
ويفترش الثرى والناس ناموا على ريش الأسرّة قد أقاموا(5/21)
الحلول لمشكلة الفقر في المجتمع
ما من مشكلة إلا ولها حلول، فلنذكر بعضاً من تلكم الحلول:(5/22)
إحياء روح التكافل الاجتماعي
أولاً: إحياء روح التكافل الاجتماعي.
لماذا لا نتعامل بالنظام الإسلامي الذي أنزله الله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؟
ولماذا لا ننفق الأموال إنفاقاً شرعياً؟ ولماذا لا نتكافل بأوجه التكافل التي فرضها الله عز وجل في كتابه وجعلها سنة في مبدأ رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فهذه المدينة المنورة يقولون: في كتب التاريخ مر بهم حالة فقر فما وجدوا لحماً مدة طويلة, حتى قالوا: أهدي لبيت فقير رأس تيس ليطبخوه ويتعشوا عليه، فأتى هذا البيت الفقير فقالوا: جيراننا أولى منا بهذا الرأس {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] فأهدوا هذا الرأس لجيرانهم، وجيرانهم أهدوه لجيرانهم وجيران الجيران أهدوه لجيرانهم, ودار في المدينة حتى عاد لمن أهداه أول مرة.
وفي عام الرمادة عام (18هـ) كما عند ابن كثير والذهبي , أن عمر رضي الله عنه وقف على المنبر فقرقر بطنه من الجوع يوم الجمعة, لأنه لم يجد إفطاراً يفطر وفي استطاعته أن يأكل, يقول: [[والله إني أعلمكم بأجود البر وبنسير العسل وبلحم الماعز، لكن أخشى أن أعرض على الله يوم القيامة فيقال لي: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20]]] وقف على المنبر وبطنه تقرقر فقال: [[يا بطن قرقر أو لا تقرقر, والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]] ويقولون: إنه ما أكل سميناً ولا سمناً, وكان يوزع ما يأتيه على الفقراء, ويطوف والصحفة على رأسه, تصنع الثريد امرأته أم كلثوم بنت علي ويطوف وهو يوزع على الفقراء ويقول: أواه يا عمر , كم قتلت من أطفال المسلمين.
وكان يضع خده على التراب ويبكي ويقول: لا أرفع خدي حتى ينزل القطر، وصلى بالناس الاستسقاء فما خرج من المصلى إلا والسيول ترزف من المدينة رضي الله عنه.(5/23)
جمع التبرعات
الثاني: جمع التبرعات من أئمة المساجد وتوزيعها على الأحياء.
ليست مهمة إمام المسجد فقط أن يصلي ويخطب يوم الجمعة وينصرف، بل مهمته أن يراعي أهل الحي والقرية، وأنا أدعو كل إمام وكل خطيب أن يتقي الله في المصلين معه, وأن يراعي أهل الحارة, وأن ينظر إلى الفقراء فيهم وأن يجمع التبرعات, ويذهب إلى الأغنياء وإلى التجار، ويذهب إلى الصناديق التي خصصت للتبرعات مثل جمعية البر مثل إعانة المتزوجين وغيرها ويشفع، فهذا هو إمام المسجد الذي جعله الله إماماً وقدوة في الناس، فيجمع ويعطي، فإذا فعلوا ذلك أصلحوا, ولو أن هذه الخطة فعلت لما بقي فقير في المجتمع.(5/24)
صرف الزكاة
الثالث: صرف الزكاة صرفاً سليماً, فليتق الله التجار والأغنياء في صرف زكواتهم, وليعلموا إلى أين يصرفونها, ولو صرفت صرفاً صحيحاً سليماً لما بقي في البلد فقير، لكن عُلِم أن في الصرف شيئاً من خلل وليس فيه صحة, وأن هناك اعوجاجاً في صرف هذه الأموال, وأنه قد لا تبرأ ذممهم أمام الله بصرف أموالهم صرفاً غير شرعي، ولو صرفوها في مواضعها لكان أحسن وأمكن.(5/25)
التخلص من الربا
الرابع: التخلص من الربا, فإن الله يقول: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] ويوم رأينا البنوك الربوية رأينا الفقر والبؤس والمجاعة وإتلاف أموال الناس, والديون الباهضة على الأفراد, ولو سلَّمنا الله من هذه البنوك لنزل علينا القطر من السماء, ولامتلأت الوديان عشباً ورياً وخيراً وامتلأت البيوت سعادة؛ لأنها محاربة لله، والرسول صلى الله عليه وسلم قال في صحيح مسلم: {لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبة وشاهديه وقال: هم سواء} فلا بد من التخلص من الربا وعدم المعاملة به، ولله الحمد أن أرانا الله العجائب في كثير من المرابين لقد أفلس الكثير منهم الآن، لأن الله يقول: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276].(5/26)
دعم صناديق مساعدة المتزوجين
الخامس: دعم صندوق مساعدة المتزوجين في أي منطقة أو في أي بلد أو في أي شعب لمساعدتهم ولإعانتهم، فالواجب على هؤلاء أن يدعموا هذه الصناديق التي تساعدهم، وأنا أذكر أن في أبها في منطقة الجنوب صندوق في كلية الشريعة وأصول الدين، وهذا الصندوق يأتيه كل يوم عشرات الملفات من الشباب, لا يجد أحدهم ما يقدم وقت العقد, وبعضهم يستدين حتى يكتب له العقد ليكون له مشهداً عند هذا الصندوق، فلا بد أن يدعم هذا من المال، ومساعدة المتزوجين من أحسن ما يكون وهو مقدم على كثير من مشاريع الخير.(5/27)
تشكيل لجان للاطلاع على المناطق
السادس: تشكيل لجان من الجهات المختصة للاطلاع على الأوضاع في بعض المناطق كـ تهامة ومنطقة البادية، وهذا واجب شرعي، ليروا الأمر عن كثب، ولهم ألا يسمعوا من داعية أو خطيب أو عالم حتى يروا الأمور بأنفسهم؛ كما رأينا نحن في عشرات القرى من الحاجة والعوز والفقر والمشقة, وهذه كلمة نسأل الله أن ينفع بها وأن يأجرنا عليها ويأجر جميع من سعى لذلك، فتقوم لجان لتستكشف الوضع وتكتب التقارير إلى الجهات المختصة، ثم تغطى هذه المناطق بحاجات الناس، ويرفع الضر عنهم ويوقف معهم.
هذه بعض المسائل في هذه المحاضرة التي هي رسالة من الفقراء, رفعوها إلى طلبة العلم والخطباء وأئمة المساجد وإلى المسئولين وإلى أهل الخير من الأغنياء والتجار ومن أعطاه الله مالاً، أن يقف وأن يعطي.(5/28)
دعوة للإنفاق في سبيل الله
أيها الإخوة! لا يتصاغر ولا يحتقر أحد منا أن يقدم ولو ريالاً واحداً، فقدم ما عندك يأجرك الله عليه، والله الذي لا إله إلا هو ليمر بك يومٌ يوم يجمع الله الناس ليوم لا ريب فيه تتمنى أنك زدت ريالاً من إنفاقك لوجه الله، فإنه لا يذهب إلا ما أخذنا في ملابسنا وما صرفنا في بيوتنا أما الباقي فهو عند الله، {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] وهناك صنف من الناس وطبقات يعيشون ثراءً لا يتصور، تصوروا أن بعضهم يفصل مرة واحدة عند خياط واحد أربعين ثوباً، والمفتري عليه غضب الله، وأحياناً لولا الحرج لقلت أرقاماً أعرفها لكنهم يفعلون ذلك, أربعون ثوباً مرة واحدة بشيك، فكم يلبس هذا؟ وهل يتذكر الموت والقدوم على الله؟
إن عمر بن الخطاب والله ما تصل أن تكون خادماً له، كان عنده ثوب واحد فيه أربع عشرة رقعة, وهو يملك اثنتين وعشرين دولة، والذهب والفضة يحمل على أكتاف الأبطال الذين فتحوا فارس والروم، ويوزع بين يديه, ومع ذلك تدمع عيناه ويقول: والله لا أشبع حتى يشبع أطفال المسلمين.
وهذا يفصل أربعين ثوباً من أغلى الأقمشة, وبعضهم عنده أكثر من سيارة جديدة، لمناسبة الزواج سيارة، وللخروج إلى العمل سيارة، وللتمشية سيارة، وللأطفال سيارة، وللخادمة والشغالة سيارة، هذا ترف وضياع, والواجب أن يتعامل بالكتاب والسنة أمام هذا, وأن يتقى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وأن يخاف الناس من القدوم على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ لأن المسألة ليست فوضى، الله قرر للناس كتاباً وسنة يكونون عليهما سائرين, لا يحيدون عنهما، ولا ينحرفون.
أما أن يكون هناك رجل لا يجد كسرة خبز ورجل يفصل أربعين ثوباً بألوان متعددة, بنفسجي وفوق الأحمر وتحت الأشعة الحمراء وأخضر وأصفر وأبيض ومبرقش فهذا ليس بصحيح، بل باطل، وبعضهم أيضاً عنده عشرون بشتاً، والبشت قيمته خمسة عشر ألفاً، وبعضهم عنده ثلاثون حديقة وثلاثون قصراً وثلاثون خادماً وثلاثون سائقاً وهكذا, لماذا هذا الترف؟ والمسلمون من لهم؟ والفقراء والأيتام من لهم؟(5/29)
الوقوف مع الفقراء والمساكين
فلا بد من نفع الناس والوقوف معهم, والخوف من الله والقدوم عليه, وملاحظة مسار الإسلام الخالد العظيم، الذي نريد أن نقدمه للناس، دين إذا قدمناه للناس تكون رءوسنا مرفوعة, ونتكلم ونحن واثقون من أنفسنا صادقون مع الله مخلصون لمبادئه، ولذلك كان ابن تيمية يعلن هذا كثيراً ويكتبه في رسائله, وقد دخل على الناصر قلاوون وتحدث له في هذا, وطلب منه أن يضع المكوس ويتركها عن الناس, والشوكاني دخل على المتوكل وأخبره بهذا وكتب له رسالة, وجمع القضاة وحدثهم وخطب بهم الجمعة, وكتب ابن القيم في ذلك رسالة ودخل إلى دمشق وخطب فيها الجمعة ونادى الناس بذلك؛ لأن هذا أنفع ما يكون.
أما أن نبقى نحدث الناس عن الخارج من السبيلين وعن عدة الحائض والمستحاضة ويبقى الناس تالفون في فقر ومشقة ويتم وعوز فهذا لا يصلح، فلابد أن نقف معهم وأن نرحمهم علَّ الله أن ينصرنا، ووالله إن دعوة من فقير خير من الدنيا وما فيها، وفضل عظيم إذا دفعت مالاً لمسكين ثم قال لك: رحمك الله أعتقك الله من النار، بيض الله وجهك يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.
ومن صور الوقوف مع الفقراء تخصيص صندوق في البيت لجمع الصدقات, فنحن والله أسرفنا في مصروفاتنا, في أكلنا وشربنا ولباسنا, فالواجب أن نخصص من دخلنا الشهري لفعل الخير، وهذا يسمى صندوق الجنة الذي يدخلك الجنة، فـ عثمان بن عفان ما دخل الجنة لأن اسمه عثمان، إنما دخل الجنة بماله فقد كان تاجراً, وأنا أعرف من الأغنياء حتى ممن يحضر هنا ممن أسعدهم الله بالمال، ونعم المال الصالح في يد الرجل الصالح, نجاهم الله من كربات يوم القيامة من كثرة فعلهم للخير، ووالله إنا نتمنى أن يكون المال في يد مثلهم وأمثالهم, وليتهم يملكون مليارات, ونتمنى أن تكون جبال الدنيا ذهباً وفضة فإنهم يعرفون كيف يدفعونها، فهم ينفقونها في المساجد وفي تحفيظ القرآن وفي مساعدة المحتاجين وفي دعم المتزوجين وفي إعطاء الفقراء والمساكين, وهؤلاء هم من جنس أبي بكر وعثمان وابن عوف , حتى يقول المسلمون: سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة، فقراء المدينة اجتمعوا فأتت قافلة قدرها سبعمائة جمل من الشام , محملة زبيباً وبراً وألبسة وأعطيات فدخلت المدينة , فخرج الفقراء وخرج التجار, التجار يريدون شراءها والفقراء ليس لهم إلا أن يتفرجوا، الفقراء دائماً يتفرجون في القصور والمشاريع ويقولون: ما شاء الله, ويفركون أصابعهم ثم يعودون بيوتهم.
فقال ابن عوف للتجار: بكم تشترون مني هذه القافلة؟ قالوا: نعطيك في كل درهم درهمين, أي: قيمة التجارة مرتين، قال: وجدت من أعطاني أكثر.
قالوا: نعطيك في الدرهم ثلاثة.
قال: وجدت من زادني.
قالوا: نحن تجار المدينة حاضرون, وما زادك أحد.
قال: لا والله لقد وجدت الله زادني وأعطاني في الدرهم سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، أشهدكم أنها بجمالها وأحلاسها وزبيبها وقمحها وثيابها لفقراء المدينة.
فولى الناس يبكون ويقولون: سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة.
وذهب ابن عوف وذهب الفقراء, وذهبت الجمال وذهب القمح والزبيب والثياب وهم عند الله غداً واقفون، قل لي بربك: الذي جمع هذه الأموال والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والقصور ماذا تنفعه إذا مات؟(5/30)
الدنيا فانية
أعرف تاجراً -وهذه قصة ومعي عليها شهود- تاجر شهير توفي في غير المدينة التي كان فيها, أصابه مرض ونقل إلى المستشفى ومات وهو بعيد عن أهله، والله لقد أخذ له كفن من أهل الخير، وهو صاحب ملايين وقصور ومزارع وبساتين وأمور عظيمة, وما وجد كفناً من ماله الخاص، لأن أمواله كلها في البنك وما أخذ شيئاً منها؛ ومات فجأة في المستشفى، فأتى أهل الخير فشروا له كفناً من السوق ثلاثة أمتار من القماش وكفنوه ودخل قبره.
خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك إلا راحة البدن
فانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير اللحد والكفن
يقول عمران بن حطان , وهو خارجي لكنه شاعر مصقاع:
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها على أنهم فيها عراة وجوَّع
أراها وإن كانت تسر فإنها سحابة صيف عن قليل تقشع
وكثير من هؤلاء الأشقياء الذين ما سعدوا بها لا في الدنيا ولا في الآخرة ولا نفعتهم؛ تجدهم مصابين بالأمراض، وأكثر مرض السكر عند التجار، وإذا انخفضت الأسهم ارتفع ضغط الدم عند كثير منهم، ولا تجد آثار المال عليه, والفقير ربما يأكل دجاجة كاملة وينام وعنده أطفاله بالبيت, وهذا بالتلفون يتصل وبالبورصة العالمية ويتابع العمال والسكرتير والمستوردين والمصدرين والأسواق, وهو مشغول البال حتى في الصلاة، يقول أحد الشباب: أنه صلى بجانب أحد التجار فقال: بسم الله الرحمن الرحيم كذا مرة، لعلَّ صفقة عرضت له فتذكرها عند دعاء الاستفتاح فأعادها!
أيضاً يقولون: أحدهم مصاب بمستشفى في جدة أصابه مرض تعقد في الأمعاء, التصقت أمعاؤه من سوء التغذية وهو تاجر مليونير، لأنه مسكين لا يجد الكبسات ما عنده وقت, هو يستطيع أن يجعل عمارات من الكبسات لكن ما عنده وقت ليأكل, عنده خبز سندوتش يفطر بها الساعة العاشرة وهي غداؤه وعشاؤه, ويتصل بالهاتف ويكتب الشيكات، حتى التصقت أمعاؤه ثم مرض, فمثل هؤلاء أشقياء نسأل الله السلامة، فيقول عمران بن حطان:
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها على أنهم فيها عراة وجوَّع
أراها وإن كانت تسر فإنها سحابة صيف عن قليل تقشع
وقال آخر:
دنياك تزهو ولا تدري بما فيها إياك إياك لا تأمن عواديها
تحلو الحياة لأجيال فتنعشهم ويدرك الموت أجيالاً فيفنيها
عارية المال قد ردت لصاحبها وأكنف البيت قد عادت لبانيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها(5/31)
البذل وعدم الخوف من العواقب
إني أشكر من أعماقي هؤلاء الباذلين الكرماء من أمثالكم, الذين كلما صادفت مناسبة خيرة تجد الواحد منهم يخرج الخمسمائة والألف حتى صاحب الريال نشكره, ونسأل الله أن ينفعه برياله، يوم لا ينفع أصحاب الملايين ملايينهم عند الله، فيا سبحان الله! فبعضهم في أي مكان وفي أي بذل تجد ماله تضحيات، والحقيقة أن الواجب علينا أن نبيع أنفسنا وأموالنا ودماءنا من الله، والواحد منا لسان حاله كما عن ابن تيمية , أنه كان يستشهد بهذين البيتين, عندما كانوا يخوفونه ويقولون: إن بعض الكلمات سوف توديك في داهية فيقول:
لترم بي المنايا حيث شاءت فإني في الشجاعة قد ربيت
فإن الماء ماء أبي وجدي وبئري ذو حفرت وذو طويت
فقد علمنا محمد صلى الله عليه وسلم أن نبيع أنفسنا ودماءنا من الله, لا يرد رءوسنا إذا ما قطعت في سبيله، ولا بارك الله في دمائنا إذا لم تسِل في مرضاته، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} [التوبة:111] وهناك قصيدة لـ محمد إقبال اسمها: "إن الله اشترى" يقول:
نحن الذين استيقظت بأذانهم دنيا الخليقة من تهاويل الكرى
يقول: كان الناس في أحلام وفي غناء وفي لعب ورقص حتى بعثنا الله.
نحن الذين استيقظت بأذانهم دنيا الخليقة من تهاويل الكرى
حتى هوت سور المعابد سجداً لجلال من خلق الوجود وصورا
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
أم من رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيّرا
ومن الذي دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا
احفظ هذه الآية آيتك الوحيدة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} [التوبة:111] كلما أتاك تخويف قل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] لذلك يقول ابن القيم: هذا عقد مكتوب السلعة الجنة، والثمن أرواح المؤمنين, والله المشتري، والبائع المؤمنون، والذي أتى بالعقد جبريل والذي وقعه محمد.
أنا قصة من بدر أرسلها الهدى محمد يرويها وجبريل يكتب
هذه قصة المؤمنين وهذه بيعتهم، فالمال والوقت والتعب والدم لله، وأنت عليك أن تعيش لله، والله إني أعرف أن كثيراً من الأشخاص يعيشون للأشخاص ولا يعيشون لله، فيا أسفاه! ويا ندامتاه! ويا خزياه! ويا عاراه! إذا ذهبت ترضي البشر بإغضاب رب البشر! والله لو أعطيت الدنيا وما فيها فلا تعادل غضب الله عليك، فلا تخف إلا من الله, ولا ترجو إلا الله, ولا تتوكل إلا على الله, ولا ترهب إلا الله, ولا تعمل إلا لله, ولا تطلب إلا رضا الله, ولا تخف إلا من عذاب الله؛ فإن الله إذا عاملته كفاك من كل شر، وأما غيره فلن تجد لك من دون الله سلطاناً ولا نصيراً.(5/32)
الأسئلة(5/33)
حكم الاجتماع للتعزية
السؤال
يسأل بعض الناس عن حكم الاجتماع في بيت الميت وقت التعزية وجلوسهم ثلاثة أيام في هذا البيت, سواء أصنع لهم طعام في بيت الميت أم لا, فهل هذا من السنة؟ وهل ورد فيه شيء عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
الحمد لله، السنة تعزية المصاب من المسلمين بقولك: آجرك الله وغفر لميتك ونحو ذلك، والسنة إرسال الطعام من الناس إلى أهل الميت لاشتغالهم بالمصيبة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن جعفر: {اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم} رواه الخمسة وصححه ابن السكن والترمذي , وأخرجه أحمد والطبراني من حديث أسماء بنت عميس , وهو حديث صحيح.
فلا يجوز اجتماع الناس في بيت الميت لاستقبال الناس, سواء أصنع لهم طعام أم لا؛ لحديث جرير بن عبد الله البجلي قال: {كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة} رواه أحمد وابن ماجة وهو حديث صحيح.
فالسنة تعزية صاحب المصيبة عند القبر أو في الطريق أو الذهاب إلى بيته بدون تجمع أو الاتصال به، وليس من السنة ذهاب القبيلة أو غالبها أو جماعة إلى القبيلة الأخرى من أجل التعزية، فهذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا التابعون لهم بإحسان, وهذه من البدع المخالفة للشريعة الإسلامية، وأشد منها وأخطر نصب الخيام وصنع الطعام واجتماع الناس في بيت الميت, مع ما في ذلك من المفاسد كتعطيل الناس عن أعمالهم, وكثرة الكلام بغير ذكر الله, وحصول اللغو والمزاح والضحك, فالواجب النهي عن هذا من قبل أئمة المساجد وخطباء الجوامع ومشايخ القبائل, لأنهم القدوة، فإن هذه بدعة لا يجوز أن تنتشر فينا ولا أن ننشرها بحضورنا نحن، لأننا نضفي عليها شرعية وقداسة.
فمن جاءته حجة من الله فانتهى فهذا هو الواجب عليه وهذا هو الدين, ويقول صلى الله عليه وسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}.(5/34)
رسالة من فتاة حائرة حزينة
السؤال
هنا رسالة من شابّة فتاة تقول: "صرخة محزونة" أرسلت هذه الرسالة بعد صلاة العصر, تقول: آه آه يا شيخي الكريم، هذه رسالة غيورة إي وربي, إنها صرخة غيورة أحب أن ألقي صرختي إلى والدي وإلى كل والد من أمثاله، إنني بلسانك الذي يهتف دائماً بالحب والنصح أريدك أن توجه هذه اللوعة وهذه العبرة وهذه الحرقة وهذا الفيض الغزير إلى والدي وأمثاله من الآباء، إنني أشكو والدي إلى الله في كل يوم وليلة, إن هذا الأب لا يصلح أن يكون أباً، إنه يتجول من مدينة إلى مدينه ومن دولة إلى دولة ويتركنا ويترك والدتي المسكينة تعاني آلاماً عظاماً ومصائب جساماً, وهي تحاول رعاية إخواني وأخواتي الذين ضيعهم والدي, يأتي لهم بالفديو والمعاصي التي انقطعت رحمة الله من بيتنا بسببها، آهٍ آهٍ آهٍ إنك لا تعلم يا شيخي مدى حرقتي, لا تعلم كيف تعيش والدتي المحزونة دائماً، إن والدي هو السبب, يا شيخ! كثير هم أمثال والدي, كم سجن إخواني, كم فعلوا من الفواحش بأنواعها ووالدي غائب عنا, ضحى بنا وكنا ضحية لما فعل بنا, وما رعانا حق الرعاية التي أمر الله بها، يبقى مع والدتي حتى تنجب طفلاً ثم يذهب ويعود ليقضي وطره والله أعلم ما هي حياته هو, ويزيد الحزن عمقاً واللوعة والحرقة شدة عندما أحدثك عن أخواتي العوانس اللواتي لم يرض والدي أن يزوجهن, وقد تقدم لهن رجال أخيار صالحون ولكن رفض, وحياتهن الآن في جحيم قتل شبابهن وفتوتهن، كلنا يا شيخ فاشلون في الدراسة، هل تتوقع أن والداً يرسل ولده إلى الخارج يعبث بحياته هناك، إن والدي الذي أشكوه إلى الله صباح مساء، والدي ذو مال كثير, ولو أراد أن يملك ربع أبها لملكها, ولكننا والله اليومين والثلاثة لا نتناول إلا الماء والخبز القليل جداً, إن لسان حالي وحال والدتي وحال كل ابنة من أمثالنا يقولون لوالدهم حرمك الله الجنة يوم حرمتنا لذة الإيمان والاطمئنان, وحرمك الله الجنة يوم حرمتنا حياة الخير والسعادة، إن جيراننا ملتزمون بأمر الله مستقيمون نغبطهم على ذلك.
آهٍ آهٍ آه الكلام حول صرختي يطول جداً, ولكن دموعي لن تدعني أكمل بقية حياتنا, فأسألك بالله يا شيخ أن تعلنها من على منبرك عسى والدي أن يسمع الشريط أو أي والد من أمثاله, وعسى أن يكثر عنده النصح والتهديد والتوبيخ والتذكير بالله, وعساه أن يخاف الله وأن يعود إلى أهله وزوجته وأطفاله وأن يتقي الله فينا.(5/35)
مشاركة شعرية
السؤال
هذه مشاركة شعرية يقول صاحبها: شاعر بني شهر يهديكم قصيدة بعنوان: تحية واعتذار, يقول فيها وهي طويلة لكني أجتزئ منها أبياتاً:
عذراً دعاة الهدى مما جنيناه عن كل شهم أصوغ اليوم معناه
عذراً رأيت التقى والعذر صاحبكم والفخر دوماً لعبد طاع مولاه
عذراً فأنتم من القرآن مبدؤكم وغيركم من نصوص الغرب فتواه
عذراً فأنتم إلى الرحمن وجهتكم وغيركم نحو ميخائيل عيناه
عذراً فما راعكم ما قال جاهلنا كلا وذل المعاصي في محياه
وهي قصيدة طويلة بديعة, فأشكره وأشكر قبيلة بني شهر, القبيلة الماجدة الوفية التي عودتنا كل خير.(5/36)
ظاهرة البطالة والكسل
السؤال
من الأشياء الطريفة في جريدة الندوة العدد 9998 الخميس 15/ 5/1412هـ والتي تؤكد لك رحابة صدورنا واتساع مجالات العمل الشريف البناء في بلادنا, ومن ثم إتاحة الكثير من الفرص أمام الإخوة العاملين والوافدين شرقاً وغرباً؛ لمساعدة أبنائنا واستكمال بعض أوجه النقص المؤقت في العمالة الموجودة, نلاحظ -مثلاً- أن سائقي وايتات الماء من الإخوة السودانيين, وأن أعمال الورش وتصليح السيارات من الأتراك, وعمال ورش والحدادة والألمنيوم من الباكستانيين والهنود, وأن نجار الأبواب والشبابيك من الفلسطينيين, وعمال الحفر من الصوماليين, بينما عمال الإنشاء المعماري معظمهم من بنجلاديش، ويسيطر الإخوة المصريون على أعمال النجارة والحدادة المسلحة والبناء, في الوقت الذي يتخصص فيه الإخوة اللبنانيون في أعمال الديكور والمطاعم الراقية، أما المطاعم الشعبية فهذه من اختصاص الإخوة اليمنيين هي والعمل في المقاهي، الشيء الطريف والجديد أن باعة السمك والخضار وشرط معارض السيارات معظمهم من المصريين والسودانيين، المعروف أن أصحاب كل هذه الأعمال هم السعوديون في الظاهر, لكنهم لا يعملون ولا يقدمون شيئاً.
الجواب
أقول: هذا مصداق لما أقوله إننا أمة عاطلة, وإلا فإن هؤلاء الإخوة من مصر واليمن والسودان والصومال ولبنان وفلسطين إخوان لنا في العقيدة والإسلام, وكلنا بلد واحد وشعب واحد، لكن نحن في هذه الرقعة أمة كسل، أحياناً بعض الناس يرى في العمل عاراً، وهذا لا يصح, علينا نحن أن نعمل كما عملوا.(5/37)
خطر السينما والإعلام الفاسد
السؤال
" الفلك يدور" هذا من كتابات محمد صلاح الدين , وهو كاتب مسلم جيد فيه خير, وقد نشر في المدينة العدد 8965 في 25/ 5/1412هـ يقول: هذه كلمات صادقة بل هي صيحة نذير أطلقها كاتب معروف هو الأستاذ ثروة أباضة في الأهرام (18/ 11/1991م) وهو ممن لا يمكن اتهامهم بالتطرف ولا حتى بالمعارضة؛ لأنه من رجال الأدب ومن الروائيين والكتاب المعروفين، يقول الأستاذ ثروة عن السينما والمسرح في مصر: الله وحده يعلم كم ترددت أن أكتب هذا المقال عن السينما المصرية في أيامنا هذه, فقد أصبحت أعتقد أن الكتابة عن سينما اليوم مهانة للقلم ومضيعة للوقت وامتهان لشرف الكلمة، فقد بلغت السينما حضيضاً هي فيه متفردة غير مسبوقة, فلو أن هناك جائزة للسفول والانحطاط والكذب والتشويه والعبث الوضيع، وقلب الحقائق وإفشاء الفساد والتغني بالفسوق؛ لكانت السينما في أيامنا هذه هي أولى الفنون بالحصول على تلك الجائزة، لست أدري ماذا يريدون أن يصنعوا بـ مصر وبتاريخها وبكرامتها وبعراقتها وقيمها الدينية والإنسانية؟! وما أدري لماذا يتآمرون على مستقبل أبنائنا وعلى سمعة حاضرنا؟! وعلى ماذا يسحقون الأمل في نفوسنا والصدق في حياتنا والشرف في أخلاقنا؟!
إن مأساة الانحطاط الخلقي الذي انحدرت إليه فنون السينما والمسرح في مصر؟ والتي صورتها كلمات الأستاذ ثروة أباضة في جريدة الأهرام خير تصوير, لم تعد تخص مصر فحسب, بل العالم العربي والإسلامي التي تشكل الأفلام والمسرحيات المصرية جزءاً كبيراً من برامجه التلفزيونية، ومعروضات أسواقه التجارية من أفلام السينما والفديو، ومهما حاولت إدارة التلفزيون في بعض الدول الإسلامية كـ المملكة أن تفرض شيئاً من الالتزام على العروض التلفزيونية, بما في ذلك الإعلانات التجارية التي تبدو فيها النساء محجبات؛ فإن الأفلام والمسرحيات المصرية تظل كما وصفها الأستاذ ثروة أباضة , حتى في ملابس ممثلاتها وتصرفاتهم ومجمل المحتويات الهابطة والمضامين المتردية لهذه الأفلام.
وإن تعجب فعجب أن يأتي النقد المرير من كاتب روائي مصري, ليس من دار الفتوى ومراكز التوجيه الديني التي يفترض أن تشن على كل ذلك حرباً شعواء, وأن تكون هي رأس الحربة للإصلاح.
إن الكثير من أجهزة الحكم في عالمنا العربي تتعاون اليوم تعاوناً واسع النطاق مع شتى معاهد العلم ووسائل الإعلام ومراكز البحوث والمؤسسات الدينية؛ لدراسة التطرف الديني ومحاربته واستنقاذ الشباب من الانخراط في صفوفه -أي: في صفوف الالتزام- والمطلوب الآن قبل أي شيء آخر أن تضع كل هذه الأجهزة على جدول أعمالها مواجهة تطرف السفول والانحطاط والفساد والفسق قبل فوات الأوان.
لا شلت يمينك، وصح لسانك وأثابك الله، يقول: هذه الأجهزة التي سلطت جهودها على شباب الصحوة والمتطرفين, ويسمونهم متطرفين من الدعاة والأخيار وطلبة العلم والخطباء والقضاة والعلماء, يقول: لماذا لا تشن حملة على هؤلاء المتطرفين من الجانب الآخر أهل الفسق والسفول والانحطاط والجريمة والفاحشة وإشاعة الدمار في العالم؟ هذا هو الواجب.(5/38)
حكم كتابة الآيات على شكل صورة
هنا أيضاً في جريدة عكاظ العدد9246 الإثنين 12/جماد الأولى/1412هـ أتت بصورة ولا يجوز أن تعرض فقد رسمت جمجمة الإنسان بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5] خطاط خطها فرسم الفم والأنف والعينين والجمجمة والعنق بهذه الآية, وهذا تبذل لكتاب الله, وقد حرم أهل العلم فعل ذلك؛ أن نصور الرأس بسورة من القرآن، أيضاً رسموا ساعة بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] فرسموها في برواز وصورة الساعة والعقارب وغير ذلك وهذا لا يصح، أيضاً ما شاء الله رسموها بصورة طائرة.
ورسموا الدلة بـ بسم الله الرحمن الرحيم, ورسموا البراد بجانبه بقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31] وهذا تبذل وامتهان لكتاب الله, وقد حرم أهل الفتوى فعل هذا، فعلى من وجد مثل هذا أن ينبه, ولعل هذا الكلام أن يبلغ جريدة عكاظ لئلا تفعل هذا، لأنهم الآن سوف يتصلون ويقولون الواجب أن تناصحونا سراً ما دام وقع هذا.
ونقول: سبحان الله! يطبع من عكاظ في اليوم المئات وتنتشر في البلاد ونحن نقول لكم سراً! ليس من منهج أهل السنة أن يرد على القول المكشوف بالسر، بل المكشوف بالمكشوف والسر بالسر, كما فعل صلى الله عليه وسلم في كثير من خطبه ومواعظه عليه الصلاة والسلام.(5/39)
معرفة أحوال الفقراء
السؤال
بعض الفقراء الواجب أن تعلن دعاويهم أو معاريضهم على الناس حتى نعرف أحوالهم.
الجواب
وجود هؤلاء ومعاريضهم موجودة لا يمر يوم إلا وطالب يطلب، وأحياناً ترى الكثير من الأفراد، يعرف ذلك من يتصدر في المجتمع, أو أن يكون له مهمة كخطابة أو إمامة أو ندوة أو درس أو محاضرة, أو من له تعلق بالناس يعرف هذه الحاجة المضنية، والعجيب أن الإنسان أحرج كثيراً.(5/40)
توزيع الصدقات
السؤال
أنا في قرية فقيرة ولكن ما عندنا أغنياء يدفعون الصدقات, وأنت تأمر بتوزيع الصدقات, فمن أين الصدقات هذه؟
الجواب
لا يلزم أن في كل قرية غنياً, بعض القرى من أولها إلى آخرها فقراء حتى يلقوا الله، يحيون فقراء ويموتون فقراء ويحشرون يوم القيامة فقراء، فالقرى الأخرى والمدن الأخرى والتجار الآخرون يعطونهم مما أعطاهم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من فضله.(5/41)
حكم تخطي الرقاب يوم الجمعة
السؤال
ما حكم تخطي الرقاب يوم الجمعة؟
الجواب
سبق وأن نبهت كثيراً ألّا تتخطى الرقاب يوم الجمعة, من أتى متأخراً فليبق متأخراً وليتق الله ولا يؤذ المسلمين، وفي بعض الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتخطى الرقاب فقال: {اجلس فقد آنيت وآذيت} أي: تأخرت وآذيت, فقد جمعت حشفاً وسوء كيلة.(5/42)
اقتراحات للخطباء
أيها الإخوة! أشكر خطباء المساجد شكراً جزيلاً على خطبتهم, وقد خطب الكثير منهم عن مسألة الدفاع عن أعراض الصالحين, وعن طلبة العلم والأخيار من أمثالكم وعن الشرفاء, فأشكرهم شكراً جزيلاً, وأرى أن على هؤلاء الخطباء أمور عظيمة وهي اقتراحات منها:
أولاً: مراعاة أوضاع الناس.
فإن كثيراً من خطباء الجمعة لا يخدمون المصلحة العامة, ويخطبون خطبة ميتة, إما من كتاب قديم من عهد السلطان عبد الحميد , فتجده إذا جاء يدعو قال: اللهم أيد السلطان عبد الحميد وأيد جنوده.
أو خطباً ميتة أو مسجوعة سجعاً متكلفاً, فالواجب عليه أن يجدد في أسلوب الخطابة, وأن يأخذ أنفع الأساليب, وألّا يطيل على الناس، وعليه أن يحفظ الوقت فلا يزيد في الخطبتين عن نصف ساعة إلى ربع إلى ثلث إلى خمس وعشرين دقيقة.
أيضاً عليه أن يتحدث إليهم عن أمورهم ومشاكلهم التي تمر في الأسبوع ويعيش قضاياهم، وعليه أن يحسن من إلقائه، فبعض الناس تجده يكسر في النحو والعربية والآيات، عليه أن يتقي الله في الأحاديث فلا يأتي بأحاديث موضوعة, وقد أخبرنا بعض الناس أن بعض الخطباء أورد أحاديث باطلة ليست من كلامه عليه الصلاة والسلام وهي تغرير بالناس, فعليه أن يتقي الله في مسألة معرفة الحديث الصحيح من الضعيف.
وأيضاً الخطبة هي توجيه للناس وتربية لهم, وحل لمشاكل الناس التي يعيشونها، وليست الخطب في قضايا محددة، بل هي فيما يهم الناس في ردهم إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، في أسلوب عصري مثلما يعيش الإعلام الآن طموحاتنا ومشاكلنا وأمورنا, بغض النظر هل يعيشها عيشة طيبة أولاً؟ وهل الإعلام موفق أو غير موفق؟ فهذا أمر معروف، لكنه يعيش على كل حال مشاكل الناس، بغض النظر عن عرضه هل هو سليم أو لا، فالمطلوب من الخطيب أن يتقي الله.
وليس بلازم على الخطيب أن تكون خطبه في كل المناسبات التي تعلن كأسبوع المرور فيتكلم في المرور، أو أسبوع الشجرة فيتكلم في الشجرة, أو أسبوع المرأة أو النظافة أو غيرها، فمثل هذا له أن يتحدث, لكن بمنطقٍِ إسلامي وبكلام إسلامي تحت مظلة الكتاب والسنة، أما مسألة معالجة القضايا في إطار محدود وأمور باردة لا تنفع الناس فهذا لا يصلح، والإسلام قد كفل هذه الجوانب، لكن أيضاً يتكلم في جميع جوانب الناس, في اقتصاد الناس وثقافتهم ومشكلاتهم, وفي اهتماماتهم التي تهمهم في الدنيا والآخرة.
أيضاً التثبت وأخذ الحيطة, ورجائي من الخطباء أن يتثبتوا في كثير من المعلومات التي تصلهم, فإن بعض الخطباء يقول: سمعت وقالوا وقلنا, ويعلق على "وكالة قالوا" فيقع في ورطة, فالواجب عليه أن يتثبت من كلامه وألّا يتكلم إلا بوثائق وبراهين, وأن يتقي الله فيما يقول وألّا يصدق كل أحد يخبره قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
أيضاً عدم التجريح, فأدعو ألّا يجرح أحداً، وليس من مبدئنا في الإسلام التجريح, ولا يجوز لنا أن نجرح ولا أن نسمي الأشخاص على المنابر، ولا نتناولهم باللمز ولا بالاستهزاء والسخرية, ولكن علينا أن نعرض الكتاب والسنة على الناس عرضاً مستقيماً, فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: {ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا} فيعرف صاحب الخطأ خطأه.
وأيضاً إذا أخطأ الخطيب في جمعة في مسألة فالواجب إحالته إلى القضاء والعلماء والدعاة؛ حتى يحاكموه على خطئه ويردوا له بالأحسن ويؤدبوه ويوجهوه, فالبشر عرضة للخطأ, وليسوا بمعصومين وليسوا بأنبياء ولا رسل، هم يريدون الخير لكن يخطئون أحياناً في عبارة أو في لفظة، وأحياناً تزل معهم مع الارتجال كلمة لا يريدونها.
فالواجب -وقد طالب بذلك العلماء- الواجب إحالتهم على القاضي يسألهم تحت مظلة إياك نعبد وإياك نستعين ويحاكمهم إلى الشرع, فإن أخطئوا فعليه أن يردهم إما أن يعزلهم من الخطابة إذا رأى عدم صلاحيتهم للناس -إذا كان القاضي عالماً- أو يرى أن يستمروا مع التنبيه, أو يرى أن الخطأ لا يوجب التنبيه عليه ولا يوجب توقيف الخطيب ولا يوجب التعزير به فهذا هو الواجب الشرعي, وهذا هو الذي يرضي الله تعالى ورسوله ويرضي المؤمنين.
أسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لنا ولولاة الأمر الصلاح والحيطة والرعاية, وأن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه, وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم, وأن يصلح الراعي والرعية, وأن يؤلف بين قلوبنا على الحق, وأن يجعلنا متآخين متحابين تحت مظلة الأمن والسلام, وألا يجعل فينا شقياً ولا محروماً.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبة أجمعين, والحمد لله رب العالمين.(5/43)
رسالة إلى المصطافين
الكون مليء بالأسرار والعجائب، والسفر والنزهة والاصطياف وسيلة إلى معرفة أسرار الكون، والتفكر في مخلوقات الله عز وجل، وللسفر آداب وأحكام، لابد على المسافر أن يعرفها ويفقهها.
وفي هذه المادة عرض لآداب وأحكام السفر.(6/1)
من آداب الاصطياف
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً؛ بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المصطاف الكريم! حللت أهلاً، ووطئت سهلاً بين إخوانك ومحبيك، سعدنا بك وسعدت بنا يوم جمعتنا بك لا إله إلا الله وقد قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
أيها المصطاف الكريم! إنك في رحلتك هذه إلى أماكن النزهة تحمل رسالةً ربانيةً خالدة، إنها رسالتك التي شرَّفك الله بها؛ رسالة الإيمان والتوحيد والطهر والعفاف، رسالة لا تغيب عنك أبداً إلا يوم تغيب أنت عن إيمانك وتوحيدك وإسلامك، يوم تشتري الدنيا بالآخرة وتقبل على غير الله.
هذه الرسالة هي معك وأنت في المسجد، والمكتب والحانوت والحديقة والجبل والبستان، إنها أمانة لا إله إلا الله ولقد قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].
أيها المصطاف الكريم! إن للاصطياف آداباً وأخلاقاً لعلها لا تغيب عنك، فمن هذه الآداب:(6/2)
التفكر في مخلوقات الله
اغرس في نفسك توحيد الباري تبارك وتعالى، وأنت تنظر في بديع صنعه ولطيف خلقه.
قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60].
من الذي أنبت الشجر؟
من الذي جعل القُمري يهتف على الأغصان؟
من الذي أسرى بالنسيم على الماء؟
قال تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] إنه كتاب الكون.
وكتابي الفضاء أقرأ فيه صوراً ما قرأتها في كتاب
{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:10].
من الذي رسم هذا الجمال؟ وأبدع هذا الكمال؟
من الذي جعل الرابية تشكو إلى الجبل، والماء يتمتم بالإسرار إلى الزهر، والبلبل ينشد قصيد الشكر على أغصان الشجر؟
انظر لتلك الشجرة ذات الغصون النضرة
من الذي أبدعها من حبة مندثرة
ذاك هو الله الذي أنعمه منهمرة
ذو حكمة بالغة وقدرةٍ مقتدرة
أيها المصطاف! إن الدرس العظيم الذي تستفيده وأنت تجوب بسيارتك في هذا الإقليم الجميل، أن تتزود من التوحيد في كل ما ترى وتشاهد قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20].
مالهم لا ينظرون؟!! مالهم لا يتفكرون؟!! مالهم لا يعتبرون؟!!
ما للناس يعجبون من صنع الناس، ومن إبداع الناس ولا يعجبون من صنع رب الناس؟!
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
بم عرفت ربك؟ بالآيات، بالعظات، بالعبر في الكون، بالجمال، بالجلال.
إن عليك أيها المصطاف أن تقرأ أسماء الله عزوجل في سمائه وأرضه، وإبداعه وتصويره.
إن أول سورة نزلت على الأمي الكريم صلى الله عليه وسلم هي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] فأين يقرأ الأمي الذي ما كتب، ولا قرأ؟
إنه يقرأ في الكون؛ في الشمس الساطعة وفي النجوم اللامعة، في الليل والنهار، في الجدول والغدير والماء النمير.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد(6/3)
حسن الخلق والكف عن أذى الآخرين
أيها المصطاف الكريم! إن من حقوق الإنسان التي أجمع عليها عقلاء العالم قاطبة: احترام مشاعر الآخرين، وتقدير مكانة المسلمين، والاعتراف بحقوق المؤمنين، فلا يضايق المسلم بكلمة نابية؛ بل لا يضايق غير المسلم، فكيف بالمسلم؟!
ولا بتصرف أهوج، ولا بأذىً متعمد، قال سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58] يقول ابن المبارك:
إذا صاحبت قوماً أهل ودٍ فكن لهم كذي الرحم الشفيق
ولا تأخذ بزلة كل قومٍ فتبقى في الزمان بلا رفيق
وإن من احترام مشاعر الآخرين: صون أعراضهم عن النظر الحرام، وعدم الإزعاج بالتصرف الأهوج من مضايقة في أماكن النزول، أو رفع صوت، أو منعهم من مرفق عام أو منفعة مباحة مشتركة ليست خاصة بأحد.(6/4)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أيها المصطاف! إن من فرائض الله عزوجل على عباده: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل زمان ومكان، ويوم تترك الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تصبح أمة أشبه شيء بالدواب؛ أمة بهيمية لا قداسة لها ولا روح، حينها ينزع عنها الله جلباب الوحي، ويخطب الدجالون من على منابرها، وتضيع كرامتها، ويتهدم تاجها، ويتزلزل بنيانها، وتصبح في آخر الأمم، وفي سياق الركب قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] لكن متى؟! قال تعالى: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
وقد نعى الله على قوم خسروا وخابوا، إنهم اليهود، عملاء الخيانة، بنو إسرائيل، كانوا لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فلعنهم الله بصنيعهم الخائن الخائب قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
إنك أيها المصطاف في رحلتك هذه داعية إلى الله، تدعو من ضل إلى سبيل الله، وتُبصر من عمي عن منهج الله، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] قل يا محمد للعالم وللدهر وقل للإنسانية، وللتاريخ {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] هذه طريقي، ما هي؟
{أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] قال أهل العلم: البصيرة: العلم، وقيل: الحكمة، وقيل: اللين، وقيل: التدرج، والصحيح: أن الجميع هو البصيرة، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] تدعو من في أماكن الاصطياف وفي النزهات، تدعو من تهاون عن الصلاة؛ إذ كثير من الناس أصبحت الصلاة في حياته ثانوية، بل بعضهم أكل نعم الله وكفر بفرائض الله، فلا يسجد ولا يركع ولا يسبح ولا يقرأ القرآن؛ كأنه دابة في مسلاخ إنسان.
تدعو من رفض الحجاب الشرعي؛ وأذعن لنعرات وصيحات الغرب وعملاء الضلالة، فرفض الحجاب وكفر به، وآمن بالاختلاط، وسفك مروءته وصيانته واحترامه وعرضه أمام الآخرين.
تدعو من شغل وقته وعمره بالغناء الماجن؛ فهو لا يعيش إلا على اللهو، قد امتلأ قلبه من اللهو والعبث، وقسا قلبه، وأعرض عن ربه.(6/5)
تقدير نعم الله
ومن الآداب أيضاً: أن تقدر نعم الله، فلا تصرفها في غير ما تصرف له، ولا تسرف في الإنفاق، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:26 - 27] {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67] إن الموائد التي تعرض تكفي عشرات الناس.
إن بطون المجاهدين والفقراء واللاجئين بحاجة ماسة إلى ما يلقى في القمائم من الفضلات.
فيا مسلمون! يا مصطافون! ويا أهل الدار! أنتم مدعوون لشكر نعمة الله، فإن نعمة الجو نعمةٌ امتن الله بها على من سبق، قال عن بني إسرائيل: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ} [الأعراف:160] فلا تحرقهم الشمس، ولا يلهبهم النسيم، وإنما يعيشون في رغد من الجو، وفي سعادة من العيش.
وامتن الله عزوجل على قوم بالحدائق والبساتين قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15].(6/6)
حقوق الضيف على المضيف
وإن من حقوق المصطافين علينا: أن نحسن ضيافتهم بالاستقبال الحار بالإكرام، بالمعاونة {والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه} بأن ندلهم على أماكنهم وأماكن راحتهم، بأن نقف معهم في وقت نزولهم المحرج ونستضيفهم في الأوقات التي يرتاحون لها، ونعرض عليهم الخدمات؛ لأنهم قطعة من شريحتنا، وجزء من أجسامنا، جمعتنا بهم لا إله إلا الله.
وإن من حقوقهم أيضاً: أن نعلي منزلتهم احتراماً لهم؛ لأنهم تركوا بلاد الغرب وبلاد الاصطياف الكافرة العاهرة، وبلاد الخمر، وأتوا إلى بلاد الصلاة؛ بلاد لا إله إلا الله، بلاد القرآن، فنعلي منزلتهم احتراماً لهم وتقديراً لهم يوم آثرونا بزيارتهم على الآخرين:
ضيوف الخير قد شرفتمونا بلقياكم ربوع الجو طابا
فـ أبها من زيارتكم تباهت بثوب الخلد أطلقت الضبابا
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(6/7)
أحكام المسافر
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وحجة الله على الهالكين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
إن من عظمة هذا الدين؛ أنه يصاحب العبد في حله وترحاله، فللمقيم أحكام وللمسافر أحكام، للصحيح أحكام وللمريض أحكام، للرجل أحكام وللمرأة أحكام، دين يسع كل أصناف الناس وكل أقسام البشر وطبقات العالم، دين يعيش مع المسلم في ليله ونهاره، في السراء والضراء، بل يصحبه وهو حمل في بطن أمه إلى أن يدخل إما إلى الجنة أو إلى النار، وما دام المصطاف مسافراً فله أحكام السفر، أقولها تكراراً لمن عرفها، وتعليماً لمن جهلها:(6/8)
الجمع والقصر في الصلاة
من أحكام المسافر التي يحتاج لها المصطاف: الجمع والقصر؛ وقد رخص عليه الصلاة والسلام في الجمع لكن في مواطن، وأما القصر فسنة، وحدُّ السفر الذي يقصر فيه ما يسمى في اللغة والعرف سفراً، فما تعارف الناس أنه سفر فيقصر فيه ويجمع، لا أن الله حد حداً أو رسوله عليه الصلاة والسلام كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: لا بالأميال، ولا بالفراسخ، ولا بالبرد، بل أطلق سُبحَانَهُ وَتَعَالَى السفر على ما سمي سفراً في عرف الناس وفي لغة العرب، وما لم يسمَّ سفراً فلا يقصر فيه.
وأما قصر الصلاة فتقصر الرباعية إلى ركعتين، وأما المغرب والفجر فلا قصر فيهما، وأما النوافل الراتبة في السفر فمن هديه عليه الصلاة والسلام ألا يتنفل، لكن لا يسقط الوتر؛ بل يصلى الوتر حضراً أو سفراً.
يقول ابن تيمية: ومن أراد أن يصلي الضحى وهو مسافر فله ذلك لعموم الأحاديث المطلقة للمقيم والمسافر.
وأما الجمع، فكان هديه عليه الصلاة والسلام ألا يجمع إلا إذا جدَّ به السير، إذا كان على جناح السفر، وإذا مشى براحلته، أو انتقل المسافر بسيارته، فإن له أن يجمع الظهر مع العصر إما تقديماً أو تأخيراً، والمغرب مع العشاء إما تقديماً أو تأخيراً، أما إذا نزل المنزل وهو مسافر، فيصلي كل صلاة على حدة قصراً لا جمعاً، ومن اضطر لمشقة النزول، أو كان متعباً فله أن يجمع، لكن السنة المطلقة منه عليه الصلاة والسلام قصر الصلاة في أماكن النزول بلا جمع.(6/9)
مدة الزمن الذي تقصر فيه الصلاة
الأحوط للعبد وهو الأقرب للنصوص، أنه إذا علم أنه سوف يقيم في بلد أكثر من أربعة أيام أن يتم صلاته، فإذا أنك علمت أنك سوف تقيم في هذا البلد أكثر من أربعة أيام فأتم صلاتك، أما إذا نزلت ولم تدرِ متى ترتحل، فإنك تقصر دائماً وأبداً مهما أقمت، فقد أقام عليه الصلاة والسلام في تبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة؛ لأنه لا يدري متى يرتحل عليه الصلاة والسلام.
والمسافر إذا ائتم بمقيم، صلى بصلاته الحاضرة وهذه هي السنة كما قال ابن عباس عند البيهقي، لكن جوَّز كثير من المحدثين والعلماء للمسافر إذا أدرك من الرباعية الثالثة والرابعة أن يكتفي بها، ويسلم مع الإمام، وهذا هو الصحيح إن شاء الله.(6/10)
المسح على الخفين
ومن المسائل والأحكام التي تهم المسافر: المسح على الخفين؛ وقد جعل صلى الله عليه وسلم مدة المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن كما في حديث علي في صحيح مسلم فالبس الخفين على طهارة، واحسب مدة المسح من أول حدث، والخف هو ما سمي خفاً في اللغة والعرف، وهو: ما ستر القدمين، ولا يشترط كما قال بعضهم: أن يكون مخروزاً أو جلداً أو يقوم بذاته أو يواصل المشي عليه، إنما يسمى خفاً كل ما ستر القدمين، فهذا الذي يمسح عليه، فقد كان الصحابة يلفون لفائف ربما كانت مشققة ويمسحون عليها.
قال ابن تيمية: ومن اشترط هذه الشروط التي ليست في كتاب الله عزوجل ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنما قد وضع الآصار والأغلال التي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برفعها عن الأمة قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157] فإذا انتهت مدة ثلاثة أيام للمسافر ويوماً وليلة للمقيم، فعليه أن يضع الخفين ويتوضأ ويغسل القدمين ويبدأ مدة جديدة، ومن خلع الخف في أثناء المدة فالأحوط أن يعيد وضوءه من جديد.(6/11)
التيمم
ومن الأحكام: التيمم لفاقد الماء، والمتضرر باستعمال الماء، وصفته: أن يضرب الصعيد الطيب -وهو التراب الذي له الغبار- بكفيه ثم يمسح وجهه وظاهر يده اليسرى بباطن اليمنى، وظاهر يده اليمنى بباطن اليسرى كما فعل محمد عليه الصلاة والسلام في حديث عمار.(6/12)
دعاء السفر
ومن السنن في السفر: دعاء السفر الذي كان يدعوه عليه الصلاة والسلام، كان يقول: {اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا، واطوِ عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل} وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام في سنن أبي داود أنه قال: {من نزل منزلاً فقال: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) لم يصبه سوءٌ حتى يرتحل من ذاك المنزل}.(6/13)
المحافظة على المكان الذي تنزل فيه
ومن الآداب أيضاً: أن يتجنب بالأذى طرق الناس وسبلهم ومياههم ومتحدثهم، فلا يقضي حاجته في تلك الأماكن فإن من فعل ذلك، فقد استحق اللعنة، وقد لعنه عليه الصلاة والسلام وهو أحد اللعانين اللذين يستوجبان لعنة الناس، وقيل: لعنة الملائكة والناس، وهو الذي يتخلّى ويلقي حاجته في طرق الناس أو في ظلهم، زيد في أحاديث: أو نقع الماء، أو المكان الفسيح الذي يجتمع فيه الناس، أو تحت شجرة مثمرة، أو على مكان مرتفع ينظر إليه أو نحو ذلك.
إنه دين نظيف راقٍ يرتقي بالإنسان ليكون عليه رداء الطهر والقداسة، فكأن الإنسان يشابه الملك، هذا هو دين محمد عليه الصلاة والسلام.
وإنما نبهت على هذه الأحكام؛ لأن المصطاف وهو مسافر يحتاج إلى مثل هذه الأحكام، وإني أوصي إخواني من المصطافين والمقيمين بكثرة ذكر الله عزوجل، وكثرة التوبة والاستغفار وفعل الصالحات.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى عليَّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون لإعلاء كلمتك في أفغانستان وفلسطين؛ اللهم أيدهم بكلمتك، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم زلزل أعداءهم، اللهم أنزل السكينة عليهم يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(6/14)
رسالة إلى المغنيين والمغنيات
يتحدث الشيخ حفظه الله عن هذا الموضوع، مبيناً الدوافع والأسباب التي دفعته لطرحه، ثم شرع في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة المطهرة الدالة على تحريم الأغاني، ثم أخذ يورد أقوال الصحابة والتابعين وعلماء الإسلام في تحريم الغناء وفتاويهم في ذلك، مع ذكره لبعض شبه من أباح الغناء والرد عليها، وأتبع ذلك ببيان بعض كلمات المغنين وأشعارهم الكفرية والإلحادية، مبيناً أضرار الغناء.
واختتم الدرس بكلام بعض التائبين من الغناء، وأقوال بعض الشعراء في ذم الغناء.(7/1)
الأسباب الدافعة للحديث عن الغناء
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء، إن الله على كل شيء قدير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أكرم هادي، وأفصح من نطق بالبوادي، وأجل من تكلم في النادي، وأحدى من حدا به حادي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
فعنوان هذه المحاضرة: (رسالة إلى المغنيين والمغنيات) رسالة مزجتها بالحب، وصبغتها بالمودة، وأرسلتها بالمحبة، ودفعني لقول هذه الرسالة ثلاثة أسباب:
السبب الأول: ما أخذ الله على أهل العلم أن يبينوا الحق، ويوضحوا للناس ما اختلفوا فيه، ويقيموا على كل مسألة دليلاً، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160] لذلك كان لزاماً عليَّ وعلى كل داعية وكل طالب علم أن يبين الحق لأهل الحق، ولمن يقبل الحق ولمن لم يعرف الحق، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
السبب الثاني: الإشفاق على من وقع في براثن الغناء، ومن ضيع عمره في هذا اللهو، ومن لعب بساعاته ولياليه وأيامه، والرحمة به، فوالله لا نريد أن تصيبه حرارة الشمس، ولا الشوكة؛ لأنه مسلم في الجملة، ولأنه قريب وأخ وحبيب وصديقٌ، فرحمةً به أردنا أن ننصحه، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم} وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} فأحببنا لهم ما أحببنا لأنفسنا؛ لأنا ذقنا القرآن وحلاوة الذكر، والطاعة والعبادة، ومجالس الخير والدروس، والكتب الإسلامية واتباع السنة، فنحب لهم ما نحب لأنفسنا، ونريد لهم أن يذوقوا كما ذقنا، وأن يعيشوا كما عشنا، وأن يحيوا كما حيينا، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
السبب الثالث: ما لُبِّس على بعض الناس من الذين تزعموا الفتيا؛ فأفتوا بغير علم، وشُبِّه عليهم، فأباحوا الغناء، فنقول: من أين أبحتموه والله يقول: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116]؟! من أين أبحتموه؟! وما هو دليلكم؟! ومن أين برهانكم؟! {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن الله لا ينتزع العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا} أين الدليل؟ وأين البرهان؟
فهذه الرسالة إلى المغنين والمغنيات لها عناصر:
العنصر الأول: أدلة تحريم الغناء من الكتاب والسنة.
العنصر الثاني: أقوال علماء الإسلام في تحريم الغناء.
العنصر الثالث: شبهة من قال بإباحة الغناء والرد عليه.
العنصر الرابع: بعض كلمات المغنين في غنائهم التي يقولونها صباح مساء، وتبث في الآذان، وتصل إلى القلوب.
العنصر الخامس: أضرار الغناء وأخطاره في الدنيا والآخرة.
العنصر السادس: تائبون من الغناء منّ الله عليهم بهجر الغناء، وعادوا إلى رحاب الإيمان، فأهلاً وسهلاً بالأحباب، وحياهم الله وبياهم من خيرة أصحاب على سنن الهدى.
يا خير ساعٍ لقيت الحظ في يوم المعاد
العنصر السابع: ماذا قال شعراء الإسلام عن الغناء في ذمه وفي تحقيره وفي التحذير منه؟(7/2)
أدلة تحريم الغناء(7/3)
أدلة تحريم الغناء من كتاب الله
أما الكتاب والسنة فقد نطقا بتحريم الغناء، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الإسراء: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء:64] قال المفسرون كما ذكر ابن جرير وابن كثير وغيرهما: " صوته الغناء " واستفزز -والخطاب للشيطان- أي: استفزز اللاغين اللاهين بصوتك الذي هو الطرب والغناء، وما صاحبه من موسيقى ووترٍ وناي وكمنجةٍ، وغيرها من المعازف، استفززهم بذلك وأزهم أزاً، وحركهم إلى المعصية، وذكرهم الفاحشة، ومرسهم على الفجور.
وقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان:6 - 7] قال ابن مسعود: [[أقسم بالله أن لَهْوَ الحديث لَهُوَ الغناء]] وقاله غيره كـ جابر، ونقل عن مجاهد ذلك، وعن ابن مسعود كما أسلفت وعن غيرهم من الأئمة كما سوف أذكره إن شاء الله.
وقال سبحانه: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام:70] قال بعض العلماء: اللهو هو: الغناء، بل هو أسه وأساسه ورأس حربته، فهو من أعظم اللهو الذي يلهي القلوب عن باريها سبحانه وتعالى.
وقال سبحانه: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146] وأغوى الغي ما دلك على الفاحشة وما قادك إلى المعصية، فهذا عقبة بن نافع القائد العظيم الشهير المسلم الذي وقف بسيفه على المحيط الأطلنطي يخاطب الماء ليرفع لا إله إلا الله وراء الماء، يقول لأبنائه: " يا أبنائي! إياكم والغناء! فوالله ما استمعه عبد إلا وقع في الفاحشة ".
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون:9] فإذا كان اتخاذ الأموال والأولاد مباحاً، لكنه إذا ألهى حرم، فكيف الملهيات التي هي أصلاً وفصلاً ونصاً من الملهيات والمغريات للقلب، ومما يحجبه عن خالقه ومولاه؟!
وقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23] قال أحد علماء السلف: " كل من أحب شيئاً وتعلق به وشغله فهو إله له من دون الله " (اتخذ إلهه هواه) أي: أحب هذا الهوى فغلبه.
قال سبحانه: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] والهوى: كل ما شغلك عن طاعة أو حجزك عن ذكر، قال البخاري في صحيحه: باب ما يذم من الشعر إذا كان الغالب على الإنسان حتى شغله عن القرآن وعن الذكر وعن طلب العلم، ثم أتى بالحديث الصحيح المرفوع: {لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير من أن يمتلئ شعراً} فإذا كان هذا الشعر وهو مباح في أصله إذا لم يصاحبه غناء مذموماً إذا شغل عن الذكر والقرآن وطلب العلم؛ فكيف بغناء مركب يشغل الإنسان عن طاعة الواحد الأحد كما تشغله الخمر؟! فلا إله إلا الله كم أفسد الغناء من قلب!! ولا إله إلا الله كم جفت بسببه عين!! ولا إله إلا الله كم أغوى من شباب وكم أورث من فاحشة وكم دعا إلى فجور!!
اتق الله الذي عز وجل
واستمع قولاً به ضرب المثل
اعتزل ذكر الأغاني والغزل
وقل الفصل وجانب من هزل
كم أطعت النفس إذ أغويتها
وعلى فعل الخنا ربيتها
كم ليال لاهياً أنهيتها
إن أهنا عيشة قضيتها
ذهبت لذاتها والإثم حل
وقال سبحانه: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] وأغفل الغافلين وأكثر الناس صدوداً من شغل وقته بالغناء مزاولةً أو سماعاً أو مشاركةً، فحينها يقسو قلبه، وتكثر حجبه، ولا تسيل دموعه، ولا يذكر ربه، ولا يتهيأ لمعاده.(7/4)
أدلة تحريم الغناء من السنة
أما سنة المختار عليه الصلاة والسلام فاسمعوا إلى الحبيب، يا أيها المغني! يا أيتها المغنية! اسمعوا إلى رسول الإنقاذ عليه الصلاة والسلام، اسمعوا إلى المصلح الكبير، اسمعوا إلى المعلم النحرير، اسمعوا إلى البشير النذير، اسمعوا إلى من لم يترك لنا خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا حذرنا منه، اسمعوا إلى الذي لو خالفنا طريقه فلن نعرف الجنة، ومن اتبعه نجا وأفلح في الدنيا والآخرة.
فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم عند البخاري أنه قال: {ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} حديث صحيح سنده كالشمس، ومعناه: أنه سوف يأتي قوم يستحلون محرمات منها المعازف، فيقولون: مباحات ويعزفون ويطبلون، ويرقصون ويغنون، فإذا جابهتهم، قالوا: مباحٌ، وقد صحت نبوته في ذلك، والحديث في البخاري.
وقد قال عليه الصلاة والسلام عند أبي داود بإسناد حسن، بل صححه بعض الفضلاء: {يبيت قوم من هذه الأمة على طعام وشراب ولهو ولعب، فيصبحون وقد مسخوا قردة وخنازير} رواه أبو داود بسند حسن.
وبعض علماء السنة قال: "سوف يقع المسخ في آخر هذه الأمة".
قالوا: "من استغوى وغوى، وأحدث الخمر والمعازف والغناء، وترك رب الأرض والسماء، يوشك أن يصبح وقد مسخ خنزيراً أو قرداً " والعياذ بالله.
وقال عليه الصلاة والسلام، والحديث في الترمذي وقال عن الحديث: غريب: {ليكونن في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، قال رجل: متى ذاك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت القيان والمعازف} قيل: القذف بالحجارة من السماء، والخسف: أن يخسف بهم في الأرض ويسيخوا، وقد أورد بعض المؤرخين أن بعض اللاغين اللاهين الفاجرين في بلاد الإسلام باتوا على زنا وغناء، فخسف الله بهم وبدارهم، والقصص معروفة، وقذفوا بالحجارة، ومسخٌ: يمسخون قردةً وخنازير والعياذ بالله!
وقال عليه الصلاة والسلام والحديث عند ابن خزيمة بسند صحيح: {إني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة، وصوت عند مصيبة}.
قال أهل العلم: الصوت عند النعمة: هو صوت العزف والغناء في مناسبات الطرب إذا حصلت النعمة، وجزاء النعمة شكر الواحد الأحد لا الغناء، ولا الرقص، ولا المعازف، والصوت عند المصيبة هو: صوت النائحة، ودلت على ذلك النصوص، وعند أبي داود يُروى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه خرج لما سمع زمارة راعٍ فوضع إصبعه في أذنيه، ثم قال: يا نافع! هل تسمع شيئاً؟ قال: نعم.
فأبقى إصبعيه، فلما سأله هل تسمع شيئاً؟ قال: لا.
فأنزل إصبعيه من أذنيه، وقال: {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع زمارة راعٍ، فوضع إصبعيه في أذنيه كما فعلت} فهذه زمارة راعٍ ليس فيها من الإغواء كهذا الغناء الذي تكلف فيه، وأصبح مركباً، وأصبح له تخصص، وأصبح على دراسة، وأصبح فتاناً للقلوب ومشغلاً للأرواح أهو أولى بالتحريم أم هذا؟(7/5)
أقوال علماء الإسلام في تحريم الغناء
فهذا ابن عباس يحرم الغناء، وابن مسعود يحذر منه، وجابر بن عبد الله يصفه باللهو، وعلماء الإسلام يفتون بتحريم الغناء، وعقبة بن نافع يحذر أبناءه، ومكحول ينكر على من يغني وعلى من يستمع، وكذلك مجاهد، وميمون، وعكرمة.
يفتي شيخ الإسلام ابن تيمية بتحريم الغناء، وسوف أورد فتواه، وابن القيم يحبر مقالةً في ذم الغناء وتحريمه، وعلامتنا وشيخنا سماحة الوالد ابن باز له فتوى في ذلك بتحريمه.
إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام
الألباني: يجمع النصوص، ويحرر الأحاديث، ويفتي بتحريم الغناء، فهل بعد هذه القائمة من علماء؟! وهل يجابه فتوى هؤلاء فتوى؟
خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
واسمع إليهم الآن:(7/6)
أقوال الصحابة والتابعين والأئمة في تحريم الغناء
قال ابن عباس رضي الله عنهما كما في تفسير ابن جرير في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6] قال: [[هو الغناء]].
وقاله مجاهد، ومكحول علامة الشام، ومجاهد بن جبر -كما أسلفت- مفسر المسلمين، وميمون بن مهران العدل الثقة، وقاله الثوري زاهد التابعين، وقاله أبو حنيفة علامة العراق، وقال مالك: " لا يستمع الغناء ولا يغني عندنا إلا الفساق ".
، وقال الشافعي: خلفت بـ بغداد شيئاً أحدثته الزنادقة، يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن أو كما قال، وأفتى الإمام أحمد بتحريمه وحذر منه، وتبعه أصحابه، وصنف في ذلك أبو الطيب الطبري رسالةً، وكذلك كثير من العلماء ألفوا فيه رسائل.
قال ابن مسعود فيما صح عنه وبعضهم يرفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام: [[الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت البقل من المطر]] وقال عقبة بن نافع لأبنائه وقد تقدم نحوه: " إياكم والغناء فما استمعه عبد إلا وقع في الفاحشة "، وقال عمر بن عبد العزيز لأبنائه: [[أُحذركم الغناء، فما استمعه عبد إلا أنساه الله كتابه]] أي: القرآن.
وابن مسعود في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6] يقول: [[والله الذي لا إله إلا هو إنه الغناء]] ونقل الآجري العالم الكبير المحدث إجماع أهل العلم بتحريم الغناء، وهو قول الليث بن سعد وعلماء مصر، وعلماء الكوفة، وأفتى به حماد وأبو عبيد، وإسحاق بن راهويه، وإبراهيم النخعي، وغيرهم كثير.(7/7)
فتوى شيخ الإسلام في تحريم الغناء
واسمع إلى حبيب العلماء، الثقة العدل، الزاهد الصادق، شيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين ابن تيمية يقول في كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: " ومن أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية -يقصد الصرع- وما ينتاب العبد من خبائث، ومن واردات شيطانية ووساوس وأمراض قلبية سماع الغناء والملاهي، وهو سماع المشركين، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35] قال ابن عباس وابن عمر: [[التصدية التصفيق باليد، والمكاء: الصفير]].
وقال شيخ الإسلام: فكان المشركون يتخذون هذا عباده، وأما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر ونحو ذلك، ولم يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على سماع غناءٍ قط، لا بكف ولا بدف.
ثم قال عن مستمع الغناء: " وحالة خوارقه تنقص عند سماع القرآن، وتقوى عند مزامير الشيطان، فيرقص ليلاً طويلاً، فإذا جاءت الصلاة صلى قاعداً، وقد حدث هذا ".
قال الشافعي: رأيت في المدينة قيناً يدور على الناس يعلمهم الغناء طيلة النهار، فإذا أتت الصلاة صلى جالساً، أو ينقر الصلاة نقر الديك، وهو يبغض سماع القرآن وينفر منه ويتكلفه، ليس له فيه محبة ولا ذوق ولا لذة عند وجده، ويحب سماع المكاء والتصدية، ويجد عنده مواجيد، فهذه أحوال، وهو ممن يتناوله قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36] ".
انتهى كلام ابن تيمية.
وأقول له:
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا(7/8)
كلام ابن القيم حول الغناء
وقال تلميذه ابن القيم -غفر الله له ورفع درجته- في إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان وهو كتاب عظيم: " ومن مكائد الشيطان ومن مكائد عدو الله ومصائده التي كاد بها من قل نصيبه من العقل والعلم والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة، الذي يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى، كاد الشيطان النفوس المبطلة، وحَسَّنَ الغناء لها مكراً منه وغروراً، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه، واتخذت لأجله القرآن مهجوراً، فلو رأيتهم عند ذياك السماع، وقد خشعت منهم الأصوات، وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابةً واحدةً، فتمايلوا له كتمايل النشوان، وتكسروا في حركاتهم ورقصهم كتكسر النسوان، والعياذ بالله ".
ثم قال: " وهو خمارة النفوس، يفعل بالنفوس أعظم من فعل الكئوس، فلغير الله بل للشيطان قلوب هناك تمزق، وأموال في غير طاعة الله تنفق، قضوا حياتهم لذة وطرباً، واتخذوا دينهم لعباً ولهواًً، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن، لو سمع الواحد منهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكناً، ولا أزعج له قاطناً، حتى إذا تلي عليه قرآن الشيطان، وولج مزموره سمعه، تفجر ينابيع الوجد من قلبه على عينه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله الواحد الديان عليه توكلت وهو حسبي ونعم الوكيل ".
انتهى كلامه رفع الله منزلته، وغفر ذنبه، وهو من المحققين العظماء.(7/9)
فتوى ابن باز والألباني في تحريم الغناء
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله قال السائل: ما حكم الأغاني؟ هل هي حرام أم لا؟ رغم أني أسمعها بقصد التسلية فقط؟ وما حكم العزف على الربابة والأغاني القديمة؟ وما حكم الطبل في الزواج؟
فأجاب سماحته: " الاستماع إلى الأغاني حرام ومنكر، ومن أسباب مرض القلوب وقسوتها وصدها عن ذكر الله وعن الصلاة، وقد فسر أكثر أهل العلم قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6] بالغناء، وكان عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل رضي الله عنه يقسم على أن لهو الحديث هو الغناء، وإذا كان مع الغناء آلة كالربابة والعود والكمان والطبل صار التحريم أشد.
وذكر بعض العلماء أن الغناء بآلة لهو محرم إجماعاً، فالواجب الحذر من ذلك، وقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: {ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} وهي: آلة الطرب".
ثم قال: " أوصيك وغيرك بالإكثار من قراءة القرآن ومن ذكر الله عز وجل، كما أوصيك وغيرك بسماع إذاعة القرآن وبرنامج نور على الدرب، ففيهما فوائد عظيمة، وشغل شاغل عن سماع الأغاني وآلات الطرب، أما الزواج فيشرع فيه ضرب الدف مع الغناء المعتاد، الذي ليس فيه دعوة إلى محرم ولا مدح محرم، في وقت من الليل للنساء خاصة؛ لإعلان النكاح، والفرق بينه وبين السفاح، كما صحت السنة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما الطبل فلا يجوز ضربه بالعرس ولا في غيره، بل يكتفى بالدف خاصة في العرس فقط، وللنساء دون الرجال ".
انظر مجلة الدعوة العدد (902).
وهذه فتوى من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، انتهت وهو من هو علماً وحفظاً وتقوى وفهماً.
واسمع إلى محدث العصر والعلامة الكبير محمد ناصر الدين الألباني وقد أورد حديث: {ليكوننَّ أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} قال في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 144) قوله: " (يستحلون) فإنه صريح بأن المذكورات ومنها: المعازف هي في الشرع محرمة، يستحلها أولئك القوم ".
وقال: " وقرن المعازف مع المقطوع بحرمته، مع الزنا والخمر، ولو لم تكن محرمة لما قرنها معها، وقد جاءت أحاديث كثيرة بعضها صحيح في تحريم أنواع من آلات العزف التي كانت معروفة يومئذٍ كالطبل والعود وغيرها، ولم يأتِ ما يخالف ذلك أو يخصه؛ اللهم إلا الدف في النكاح والعيد، ولذلك اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم آلات الطرب كلها، ولا تغتر -أيها القارئ الكريم! - بما قد تسمع عن بعض المشهورين اليوم من المتفقهة من القول بإباحة آلات الطرب والموسيقى، فإنهم والله عن تقليد يفتون، ولهوى الناس ينصرون.
ومن يقلدون؟ إنما يقلدون ابن حزم الذي أخطأ فأباح آلات الطرب والملاهي، لأن حديث أبي مالك الأشعري لم يصح عنده، وهو صحيح ".
انتهت فتوى هذا العالم الجهبذ العلامة غفر الله له ورفع منزلته.(7/10)
شبهة من قال بإباحة الغناء والرد عليه
ورد في الساحة ونشرت بعض الصحف أن بعض المفكرين سئل عن الغناء هل تستمعه؟
قال: نعم أستمعه، ولا بأس به وهو حلال، ولم يأتِ فيه حديث صريح يحرمه.(7/11)
مواقف في الرد على شبهة من أباح الغناء
ونحن نقف منه ثلاثة مواقف:
أولها: أن نقول له: كيف افتريت على الكتاب والسنة؟ أما أوردنا الآيات؟! أما أوردنا الأحاديث؟! أما ذكرنا كلام أهل العلم؟! فأين دليلك الذي يعارض دليلهم؟! ما هو دليلك الذي تبيح به الغناء؟
قال سبحانه: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116].
ثانيها: أن نقول له: إن كتاب الله قد بين المحرمات وما أحل سبحانه، فإن الله قد فصل في الكتاب كل شيء، وقال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] فسألناهم كـ ابن عباس وجابر وابن عمر وعائشة، وجل الصحابة وعلماء التابعين، والفقهاء الأربعة، وابن تيمية وابن القيم وابن باز والألباني فقالوا بتحريمه، فأين العلماء إلا هؤلاء؟ أين نذهب؟ بتحليله إلا قوم ليس لهم دليل.
ثالثها: ألم ينظر هذا المفكر إلى ما حدث في المجتمع من فساد؟ ألم ينظر إلى ما طم من بلاء؟ ألم ينظر إلى المنكرات؟ ألم ينظر إلى الفجور؟ ألم ينظر إلى ما أحدثه الغناء؟ ألم ينظر نتائجه الوخيمة في المجتمعات؟ ألم ينظر إلى الفاحشة والتسيب؟
فتاة في السادسة عشرة وفي العشرين تكشف صدرها وذراعيها، وتمشط شعرها وتتجمل وتتطيب وتتمكيج، ثم تظهر أمام الجماهير وأمام الألوف المؤلفة، فتنقل في الشاشات، وعلى الصحف، وفي وجه المجلات بصوت رخيم، فتفتن القلوب وتعدم الأرواح، فلا إله إلا الله أي ذنب اقترفت!! وأي خطيئة ارتكبت!! وأي رب أغضبت!! وأي شرع خالفت!! نسأل الله أن يهدي هؤلاء، فما اجتمعنا إلا لنقول النصيحة، ولندعو لهم بظهر الغيب علَّ الله أن يسعدهم في الدنيا والآخرة.(7/12)
بعض كلمات المغنين في غنائهم
الغناء بالآلات -كما قلت- محرم، لكن زادوا على ذلك وطمُّوا وعمُّوا، فأتوا يتفننون في منكر القول وفاحشه؛ بل بعضهم وصل إلى درجة الكفر بشعره وبغنائه.(7/13)
أمثلة من شعر الغزل الكفري والإلحادي
فهذا خليفة من الخلفاء طلب شاعراً من الشعراء ليسفك دمه، وهذا الشاعر يقول في أغنية أو قصيدة:
قف بالطواف تر الغزال المحرما حج الحجيج وعاد يقصد زمزما
لو أن بيت الله كلم عاشقاً من قبل هذا كاد أن يتكلما
فسمعها بعض العلماء فبكى وقال: سبحان الله، والله ما دخلت الطواف والمسعى ووالله ما ذكرت إلا الله وما ذكرت غيره، ومع العلم يقول هذا الشاعر: كاد أن يتكلم البيت لمحبوبه، وحسيبه الله!
ويقول آخر:
فوالله ما أدري ولو كنت داريا بسبع رمين الجمر أم بثمانيا
لما رأى النساء عند الجمرات نسي العدد، وتوله قلبه، ونسي مراقبة الله عز وجل عند الجمرات التي وقف عندها المصطفى يبكي ويدعو، ووقف أيضاً عمر عندها يبكي ويقول: [[اللهم إنه شاب رأسي، ورق عظمي، وضاعت رعيتي؛ فاقبضني إليك غير مفرط ولا مفتون، اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتةً في بلد رسولك]] وأما هذا فيقول:
فوالله ما أدري وإن كنت داريا بسبعٍ رمين الجمر أم بثمانيا
ويقول غيره وهو مجنون ليلى الذي ضاع قلبه وأعرض عن القرآن، وعن المسجد، وأمره إلى الله، يقول:
أتوب إليك يا رحمن مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوبُ
وأما من هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوبُ
لا إله إلا الله!!!
والله يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] وقال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].(7/14)
غزل أحد المغنين المعاصرين وإلحاده
وفي مجلة اليقظة قالوا: بعد توقف خمسة وثلاثين عاماً يعود الموسيقار الكبير الفنان، يعود ليتحف الجماهير -أقول: ليضل الجماهير- ويتحفنا بالجديد، وأقول: الجديد من المعصية، عله أن يتوب ويراجع حسابه مع الله، اسمع إلى كلمات الأغنية، وأنا أقرؤها بلهجته؛ لأنها لهجة عامية متبذلة، وعفواً إذا أخطأت في ضبط اللهجة، وهي تخالف المعتقد وتعارض الكتاب والسنة، وتلغي قرارات القضاء والقدر التي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم، وأفتى كثير من العلماء بتحريم قولها واستماعها، وأن من اعتقد ما فيها فقد كفر، وحقه أن يقطع رأسه بالسيف الأملح؛ لأنه اعتقد عقيدة الشرك والعياذ بالله، يقول:
جايين الدنيا ما نعرف ليه ولا رايحين فين ولا عايزين إيه
مشاوير مرسومة لخطاوينا نمشيها في غربة ليالينا
يوم تفرحنا ويوم تجرحنا واحنا ولا احنا عارفين ليه
وزي ما جينا جينا ومش بأيدينا جينا
ولقيت بيتي بعد الغربة قلبك ده وعيونك ديه
ولقيت روحي في أحضان قلبك باحلم واصحى واعيش على حبك
حتى في عز عذابي بحبك عارف ليه يا حبيبي بحبك من غير ليه(7/15)
قضايا مهمة في مقطوعة غناء
أولها: قوله: (جايين الدنيا ما نعرف ليه) أي: أتيت إلى الدنيا لا أعرف لماذا أتيت؟ قال سبحانه يرد عليه ويخبره لماذا أتى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:1 - 3].
(جايين الدنيا ما نعرف ليه) أتى بك الله كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].
قال: (جايين الدنيا ما نعرف ليه) أتيت لتعبد الله فإلى جنة أو تعصي الله فإلى نار.
ثم يقول: (ولا رايحين فين ولا عايزين إيه) رايح إلى دار المستقر، إلى يوم يجمع الله الأولين والآخرين يرد الله عليك فيقول: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] وقال تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:1 - 3] وقال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:34 - 41] والله يقول لك: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
يقول: (ولا رايحين فين ولا عايزين إيه) رايح إلى الواحد الأحد، قال سبحانه: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] وقال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} [طه:102] وقال سبحانه: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:1 - 2] وقال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:33 - 37].
ويقول:
مشاوير مرسومة لخطاوينا نمشيها بغربة ليالينا
كأنه يمشي على غير قضاء وقدر، والله يقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:49 - 50] ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8] ويقول الله: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:8 - 11] ويقول الله: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] فاعرف أنك سوف تلقى الله.
مقطوعةُ كفرٍ تُغنى، ويستمعها مئات الألوف، ونحن نحذره وننذره، وكل من سار مساره وأدمن الغناء، شفقةً بهم ورحمةً قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة، والكافرون هم الظالمون، قبل أن يجمع الله الأولين والآخرين ثم يقولون: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام:27] ولكن هيهات.
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد لما كان أرصدا
واسمع إلى بعضهم يقول في أغنية مشهورة:
هل رأى الحب سكارى مثلنا
ما رأى في الحياة سكارى مثلكم، سكرى الأرواح وسكرى العقول اجتمعت فهو سكار عظيم، فما رأى الناس كسكران من الغناء، وسكران من الخمر، وندعوك مع ذلك إلى الله، واعلم أنك مهما شربت من كأس، ومهما استمعت من وتر، ومهما عصيت الله ثم عدت ورفعت يديك إلى الحي القيوم، وتبت إلى الله وقلت: أستغفر الله، غفر الله لك.
صح عنه عليه الصلاة والسلام أن الله عز وجل يقول: {يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم} وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الحديث القدسي الصحيح: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة}.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقنا من النار
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
وقال الرابع:
يا من هواه أعزه وأذلني كيف السبيل إلى وصالك دلني
لقد أذلك هواه، ولقد أبعدك هواه، ولقد صدك هواه، أبعدك عن المسجد، وعن القرآن، وعن طريق الجنة، أذلك في الدنيا والآخرة، إن لم تتب إلى الله، وهذا اعتراف منه يقوله أمام الناس.
وقول الخامس: (قسماً بمبسمك البهي) لا إله إلا الله!! القسم بغير الله شرك، وهذا يقسم بشفتي محبوبه، والله له أن يقسم بما شاء من خلقه، والله يقسم على أمور تشيب الرءوس، وتجعل الولدان شيباً، وتجعل الدمع يتصبب، وتجعل القارب يتحدر، قال سبحانه: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:1 - 2] وقال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:1 - 2] وقال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] وقال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] وقال تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2] قسم عظيم من الواحد الأحد، ولا نقسم إلا بالله فلا أعظم من الله، وهذا يقول: (قسماً بمبسمك البهي).
ويقول آخر وهو يغنى هذا الكلام:
لبست ثوب العمر لم أستشر وحرت فيه بين شتى الفكر
لا إله إلا الله! تعتب على أنه ما استشارك الواحد الأحد، فتقول: ما استشارك الله الذي خلقك، قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] له الحكمة البالغة يخلق ما يشاء ويفني ما يشاء، ويغني من يشاء ويفقر من يشاء، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3].
وقصيدة وأغنية أخرى، نقلت عن مطربة كتبها أحد الناس، تقول وهي قد كلَّت في الحياة وملَّت: (أروح لمين ومين سيرحم أساي) تروحين إما إلى جنة أو نار، قال تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] وقال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] هذا طريق الخير وطريق الشر، محمد عليه الصلاة والسلام في الطريق الأيمن، والشيطان في الطريق الأيسر، فإن أجبت محمداً عليه الصلاة والسلام فالجنة، وإن بقيت مع الشيطان فالنار.
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ويسأل ربنا عن كل شيء
ويغني أحدهم أغنية الفاسق المجرم إيليا أبو ماضي النصراني الذي يقول:
جئت لا أعلم من أين! ولكني أتيت!!
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت!!
ولماذا لست أدري؟!! لست أدري!!
وأقول: والله لتعلمنَّ: {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:9 - 10].
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:106 - 107].
هذه بعض المقطوعات، وتركتُ الكثير وعندي قوائم وقصاصات وملحقات ونشرات، بعضها كفر، وبعضها فسق، وبعضها معصية، فنطلب من الجميع أن يتوبوا إلى الله، وأن يراجعوا حسابهم، وليعلموا أن هناك رقيباً.
كأن رقيباً منك يرعى خواطري وآخر يرعى مسمعي وجناني(7/16)
أضرار الغناء
ذكر بعض العلماء أن للغناء أكثر من ثلاثين ضرراً، وأكثر من ثلاثين خطراً:
- منها: أنه يقطع الحبل بينك وبين الله، لأن حبلك مع الله هو الذكر، وقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والقرآن وعمارة المسجد، وتذاكر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- ومن أضرار الغناء: أنه يوجد وحشة بينك وبين الله الذي لا إله إلا هو {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] وتقسو القلوب بذكر الشيطان، والغناء قرآن الشيطان، ورقية إبليس وبريد الزنا، ما أدمن عبد عليه إلا استوحش من المساجد والقرآن والحديث والدروس والدعوة وذكر الله الواحد الأحد.
- ومن أضراره أنه يحبب الزنا، قال ابن القيم: " هو بريد الزنا"، وهو يقود العاشق إلى المعشوق، وهو يجمع بين العاصين لله والفاجرين في مكان يوم يكشفهم الله، وظنوا أنهم غابوا عن عين الله، فيوصلهم الغناء إلى الفاحشة الكبرى، قال الأندلسي:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
يقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7].
- ومن أضرار الغناء: أنه يلهي عن ذكر الله، ويصرف عن الفرائض.
- ومن أضراره: أنه يحدث وساوس وهواجس في القلب وواردات خطيرة.
- ومن أضراره: أنه سلم للشيطان لزرع الفاحشة والفجور.
- ومن أضراره: أنه يخلع ثوب الحياء الذي بين العبد وبين الله، فيصبح المغني بلا حياء، يستقبل الجماهير بعوده وسخفه وفسقه، وتقوم المغنية الفتاة من بيت الحشمة، فتقف شبه عارية أمام الجماهير، فلا إله إلا الله كم هتك من حجاب! ولا إله إلا الله كم أوصد من باب! ولا إله إلا الله كم أغضب الواحد الوهاب سُبحَانَهُ وَتَعَالى! وكم خولفت به السنة والكتاب! ولكن مع ذلك نقول: تعالوا تعالوا.
شباب الحق للإسلام عودوا فأنتم فجره وبكم يسود
وأنتم سر نهضته قديماً وأنتم فجره الباهي الجديد
أيها المغنون في بلاد الإسلام: أجدادكم الصحابة، أجدادكم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، أجدادكم هم الذين رفعوا لا إله إلا الله، أجدادكم هم الذين قدموا الإسلام للناس، فتحوا البلاد، أسسوا منارة العدل في أسبانيا، وبنوا منبر العدل في كابول، وفتحوا الدنيا: باسم الله، سجدوا بالجباه في أفريقيا، سلوا عنهم اللوار، والجنج ودجلة والفرات والنيل.
سلوا عنهم كل صقع في الأرض، هم أجدادكم، أفيتحول النسب والنسل والابن على منهج غير أبيه؟ الجد يحمل المصحف، والابن يحمل العود! الجد يحمل السيف والابن يحمل العود! الجد يتلو القرآن في الليل ويبكي والابن يتلو الأغنية ويضحك الجماهير! يقول الأول من الصحابة:
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
واعلموا أن بلاداً رفعت على علمها لا إله إلا الله محمد رسول الله وقامت على نصر الدين -وسوف تنصره وتمضي في رحابه- لهي كفيلة أن ترفع هذه الكلمة في قلوب الناس، وأن تحث هؤلاء على التوبة وعلى إصلاح مسارهم، وعلى إسعاد هذا الشعب الذي آنسه الله وآنس وحشته، وأرغده وكل بلاد المسلمين بما أنعم سُبحَانَهُ وَتَعَالى وبالخصوص هذه البلاد التي حظيت بالحرمين، وحظيت بالكتاب والسنة تشريعاً، فأسأل الله أن يوفق ولاة الأمر على تبصير هؤلاء إلى الطريق المستقيم، وتبصيرهم إلى الدعوة، وإلى التحاكم إلى هذه الكلمة التي رفعت على العلم الأخضر لا إله إلا الله محمداً رسول الله.(7/17)
تائبون من الغناء
وهناك مغنون تابوا معنا في هذه الجلسة، وسوف يتحدثون بعد صلاة العشاء، وتاب كثير من الناس، وهنا وثائق أقرؤها عليكم ممن قرروا العودة إلى الله، وأول هذه الوثائق في جريدة الجزيرة بتاريخ9/ 4/1410هـ (عودة العودة) يعود إلى الله، عودة العودة، كان يغني ويطبل ويرقص، ثم كان له من اسمه نصيب فعاد إلى الله، وليس بغريب عليك يا عودة! أن تعود، فأجدادك قد عادوا قبلك إلى الواحد الأحد، فأنت شاب مسلم خلقك الله للذكر والعبادة، ولمعرفة طريق محمد صلى الله عليه وسلم، قالت الجزيرة: " قرر الفنان: عودة العودة اعتزال الفن نهائياً ".
أحسن كل الإحسان، بيض الله وجهه، لا شلت يمينه، وذلك بطوعه واختياره، إي والله، فقدْ فَقَدَ الشعبية عند اللاهين وأهل الغناء، وفَقَدَ الجماهير، لكنه سوف يكسبه الله محبة وعملاً صالحاً: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96].
ثم قالت الصحيفة: " وبعد دراسة وتأنٍ وقناعة كافية يقول العودة للجزيرة: إن ذلك تمخض بعد صراع مرير مع النفس، وقد كتبت لوزير الإعلام من أجل منع تداول إنتاجي الفني؛ ومسح جميع الأشرطة المسجلة" {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16] قال: ومسح جميع الأشرطة المسجلة سواء مرئية أو مسموعة، وقال: إنني أرجو عبر الجزيرة إلغاء كل ما سجلته.
أولاً: أقول: حياك الله يا عودة! وأعادك الله إلى رحاب الإيمان، وإلى جنةٍ هي جنة الواحد الديان.
ثانياً: أطالب كل من سمع صوتي، وعنده شريط للعودة أو صورة أن يتخلى عنها، وأن يتلفها فقد تاب هذا العبد، وأراد ما عند الله ورضوان الله، وأعلن توبته في الناس؛ ليكفر الله عنه أسوأ ما عمل، ويقبل توبته، ويحسن عاقبته.
قالت الجزيرة بتاريخ 7/ 5/1410هـ " مشاري يعتزل الفن بلا رجعة " الإسلام اشترى مشاري وحياه الله وبياه.
ومن الذي باع الحياة رخيصةً ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
إن مشاري من قوم عرفوا الطريق، كان يعيش في حلم، اسمع إلى التقرير الصحفي: " كان يعيش في حلم لم يستيقظ منه إلا بعد مراجعة النفس، طلق الفنان مشاري الفن بلا رجعة، ويودعه نهائياً حيث أعلن اعتزاله نهائياً للفن، وقال للقناة الثالثة: إنه يحس بألم وحسرة على ماضيه السابق".
أقول له: أبشر بتوبة تملأ قلبك، ومغفرة وسكينة، ورغداً وأمناً، ووقاراً ونوراً، وعلى ما قدمه بصوته في شريط كان يا ما كان، لكن انتهى ما كان، وسوف يبدلك الله بدل العصيان إحساناً وإيماناً ويقيناً وقرآناً.
وأردف الفنان مشاري أن طريق الفن كله مشاكل وتعب -صدقت- وأن القرار الذي اتخذه هو نهائي وجاد بعد قناعة تامة بأن الفن حالياً أصبح لا فائدة منه بتاتاً، وأضاف طالباً من جميع الاستوديوهات عدم بيع أشرطته، وإلغاءها والتسجيل عليها، وهي: زين يا مملوح، والحب المثالي، وكان يا ما كان، وقال مشاري في ختام حديث للجزيرة: " توبة توبة يا رب! " {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
قالت الجزيرة: " ومما هو جدير ذكره، أن الفنان مشاري يعتبر الفنان الثالث الذي ابتعد عن الفن، بعد إعلان حسن مسعود وعودة العودة اعتزالهما الفن والغناء ".
قال المحرر: " صراحة ووضوح مشاري مع نفسه، وصراحة ووضوح بقية الفنانين وابتعادهم عن الغناء ".
وهنا عكاظ بتاريخ 14/ 6/1409هـ تقول: " بالخياط يعتزل الفن ويتحول إلى داعية " مرحباً بالخياط، وأهلاً وسهلاً بك من سادات المؤمنين إن شاء الله لمستقبلك العامر، " يتواجد في مكة المكرمة حالياً الفنان المغربي الكبير: عبد الهادي بالخياط بعد اعتزاله مؤخراً الفن نهائياً، وانضمامه لـ جماعة الدعوة الإسلامية، حيث بدأ بالفعل هذا المشوار بأداء العمرة والزيارة، ثم الاتجاه إلى بعض دول أوروبا في سبيل نشر الدعوة، مثل بلجيكا التي كانت محطته الأخيرة ليمحو السيئ بالحسن، يقف فيهم ليقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أني تبت، أشهد أني عدت إلى الله، قال: " وإلى باكستان ودول مجلس التعاون الخليجي ".
الفنان السابق بالخياط يقول: " إنه يتمنى من الإذاعات العربية عدم عرض أغانيه، وأعماله العاطفية وأفلامه؛ لأنه عاد إلى الله ".
وهذا محمد البيتي يعتزل الفن، حياك الله يا محمد! وجعلك ممن يبيتون في نعيم مقيم، وفي خلود مستمر، وجعل لك من اسمك قسماً ونصيباً، وحمدك في الدنيا والآخرة.
عكاظ في يوم 17/ 6/1410هـ تقول: " إثر الكلمة التي كتبتها في الأسبوع الماضي وطرحت السؤال من خلالها عن الفنان المطرب الشاب: محمد البيتي وسر اختفائه عن الساحة، تلقيت اتصالاً هاتفياً منه " انتهى إلى قوله: " لقد اعتزلت الفن ليس بسبب قلة الفرص أو المادة أو الحظ أو غيرها من الأسباب؛ ولكن لأنني اتجهت اتجاهاً آخر أتمنى أن يسلكه زملائي من المطربين والفنانين، لقد أدركت أني أسلك طريقاً شائكاً صعباً وعراً لابد من الحذر منه، سألت نفسي كثيراً: ماذا تعني الموسيقى؟ ماذا يعني الغناء؟ ماذا يعني الفن؟ تأملت في الأغنيات التي قدمتها ولحنتها وغنيتها، وقلت لنفسي: وماذا بعد؟ هل أبحث عن شهرة وعن مال؟ هل هذه هي السعادة التي أنشدها؟ هل هذه هي الطمأنينة التي كنت أبحث عنها؟ ما هو دواء هذا القلق؟
لا أريد لطفلي أن يكبر على أنغام العود والموسيقي، لا أريد أن يستيقظ فجراً إلا على صوت المؤذن للصلاة -أثابك الله وبيض الله وجهك- والحمد لله! أشعر الآن بالسعادة وبالثقة وبالأمان، ما زلت أحتفظ بالعود في بيتي ولكني أهملته، بل قد تركته، بل قاطعته، بل نسيته بإذن الله، بل سوف أحطمه " {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].
وفي مجلة يكتب هذه المقولة الحمدان بعنوان: التائبون، يقول: " كنت مطرباً وانتهى بي المطاف إلى إمامة المصلين، شباب الكويت كانوا في بداية الطريق إلى الله، الغناء كان ديدنه وحبه وعشقة، كيف لا وهو يطرب الليالي الملاح بوصلاته المشوقة، والذي أحب أن يرمز لاسمه من أرض الكنانة من مصر، اختلط مع شباب من الكويت اجتمعوا به وحثوه على الصلاة، فكان يتهرب منهم ومع مرور الأيام واظب على الصلاة، واستمر في نفس الوقت في إشباع رغبته من الغناء وعاد تائباً إلى الله.
يقول: " وبعد أن التزمت ببعض أوامر الله كانت الرفقة الصالحة حولي لا يفارقونني حتى وصلت إلى هذه البلاد للعمل بها، وزادت الرفقة وكثر الأصدقاء حولي يدفعون بي إلى طاعة الله عز وجل، عاهدت نفسي وأعطيت ميثاقاً لربي أن أكون من الطائعين له، وإن عصيت فأستغفره سبحانه ".
غفر الله لك وردك إليه سليماً معافى!
ثم ذكر اعتزاله للفن وعودته عن الموسيقى وعن أمثالها من مجالس اللهو، وأنه قد أصبح اليوم مؤمناً بعد أن ذاق مرارة الحرمان، والآن ذاق حلاوة الإيمان، زادك الله إيماناً ويقيناً، وسكينة وعرفاناً، وشكراً لك أيها الكاتب الحمدان.
يقول في عنوان (التائبون) أيضاً: " نصيحتي للشباب الابتعاد عن اللهو وعن الرفقة السيئة " أغلقت دونه أبواب التوفيق وسدت جميع الطرق في وجهه، كان غارقاً في قضاء أوقاته في اللهو والغناء وحضور ليالي السمر، تقدم للعديد من الأسر طالباً للزواج وإحصان نفسه ففشل عدة مرات، كانت هذه الحوادث بداية نقطة تحوله إلى الحياة، عرف الحياة وعاد إلى الله وأحب المسجد، تاب من الأغنية، هجر العود، انتهى من الموسيقى، عرف الله واستمر، قبله الله فيمن قبل، وغفر ذنبه.
وفي الأخير أعلنت عكاظ قبل ما يقارب ثمانية أيام توبة الفنان الشهير العالمي مايكل جاكسون عاد إلى الله، ونقول: ليس بغريب أن يعود إلى الله، فمثله يعود، فما لهم لا يؤمنون؟ ما لهم لا يعودون إلى الله؟! فما لهم لا يستغفرون؟!
ونقول للمغنيين والمغنيات في البلاد الإسلامية: ذاك غربي عاد إلى الله، فما لكم لا تعودون وأنتم أهل الرسالة، وقد شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟(7/18)
ماذا قال الشعراء في ذم الغناء
يقول محمد إقبال شاعر الإسلام الفيلسوف الكبير:
أرى الفقراء عباداً تقاة قياماً في المساجد راكعينا
هم الأبرار في صوم وفطر وبالأسحار هم يستغفرونا
وليس لكم سوى الفقراء ستر يواري عن عيوبكم العيونا
أضلت أغنياءكم الملاهي فهم في ريبهم يترددونا
وأهل الفقر ما زالوا كنوزاً لدين الله رب العالمينا
ويقول في الغناء وذمه والطرب:
لقد سئم الهوى في البيد قيس ومل من الشكاية والعذاب
يعني: مجنون ليلى قيس بن الملوح:
لقد سئم الهوى في البيد قيس ومل من الشكاية والعذاب
يحاول أن يباح العشق حتى يرى ليلاه وهي بلا احتجاب
يريد سفور وجه الحسن لما رأى وجه الغرام بلا نقاب
فهذا العهد أحرق كل غرس من الماضي وأغلق كل باب
لقد أفنت صواعقه المغاني وعاثت في الجبال وفي الهضاب
يقول ابن القيم ذاماً الغناء ومحذراً منه، ومخبراً أن في الجنة غناءً لمن اتقى الله، وتاب من مزاولة الغناء ومن استماعه، وهو يشير إلى حديث عند أحمد بسند جيد في المسند: {إن في الجنة جوارٍ يغنين، يقلن: نحن الناعمات فلا نبأس نحن الخالدات فلا نبيد، طوبى لمن كنا له وكان لنا} نظمها ابن القيم لأن ابن عباس قال: [[إذا أراد أهل الجنة أن يستمعوا الغناء، أرسل الله لهم في الجنة ريحاً طيبة، فهزت أغصان الشجر، فيسمعون الغناء، فلا يتلذذون بمثل ذاك الصوت]] قال ابن القيم:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ إنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
وقال ابن القيم في قصيدة بديعة له يذم الغناء ومحترفيه:
فدع صاحب المزمار والدف والغناء وما اختاره عن طاعة الله مذهبا
ودعه يعش في غيه وضلاله على تنتنا يحيا ويبعث أشيبا
ففي تنتنا يوم المعاد نجاته إلى الجنة الحمراء يدعى مقربا
سيعلم يوم العرض أي بضاعة أضاع وعند الوزن ما خف أو ربا
ويعلم ما قد كان فيه حياته إذا حصلت أعماله كلها هبا
دعاه الهدى والغي من ذا يجيبه فقال لداعي الغي أهلاً ومرحبا
وأعرض عن داعي الهدى قائلاً له هواي إلى صوت المعازف قد صبا
يراع ودف والصنوج وشادنٌ وصوت مغنٍ صوته يقنص الظبا
فما شئت من صيد بغير تطاردٍ ووصل حبيب كان بالهجر عذبا
وشاعر عصري اسمه: القاضي، ماتت فنانة من الفنانات وذهبت إلى الله بأعمالها وما قدمت، فرثاها بعض الناس فرد هذا الشاعر بقصيدة يقول:
من غادة الفن هذي أنت تبكيها ومن بها كلف إياه تنعيها
مضت بما قدمت والله سائلها عن الذي كان يجري في نواديها
إن التراث الذي أبقت لَكُمْ فَلَكَمْ أشقى البلاد وأشقاكم ويشقيها
كم غادة خلعت ثوب الحياء غدت في حضن مسعور تغويه ويغويها
صرعى على نغمات الناي قد ذهلت كدمية بصق الشيطان في فيها
من قال إن الذي أسدت لأمتها مجداً فقد قال بهتاناً وتمويها
هَبْها بَنَتْ جَيْشَ شَعْبٍ من مكاسبها أو الأرامل قد باتت تواسيها
ألم يكن من حرام كلُّ ما جمعت وأنت بالشعر ترجو أن تزكيها
إن الرسول الذي قامت لتمدحه ذكراه قد رفعت إن كنت ناسيها
لا يرتضي أن يراها في غوايتها تغري بألحاظها من كان يغريها
ما بال أحمد لم تحفل به بلد أهدى لها النصر فاهتزت روابيها
كأنه لم يكن بالأمس في لجب يزجي الكتائب في سيناء يفديها
وأقول لكم -أيضاً- أنا:
يا رب نفسي كبت مما ألم بها فزكها يا كريم أنت هاديها
هامت إليك فلما أجهدت تعباً رنت إليك فحنت قبل حاديها
إن لم تجرني برشد منك في سفري فسوف أبقى ضليلاً في الفلا تيها
فإن عفوت فظني فيك يا أملي وإن سطوت فقد حلت بجانيها(7/19)
البديل عن الأغاني
وبقي من العناصر في آخر هذه المحاضرة: ما هو البديل -إذاً- من الأغاني ما دام أنها يحرم استماعها، ومزاولتها وحضور جلساتها واصطحاب شريطها مرئياً أو مسموعاً، وكذلك آلاتها بيعاً وشراءً واستئجاراً وإيجاراً ومعاونةً، البديل في ذلك ما أحل الله وما أباح من الكتاب العظيم الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] وقال سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].
وذكر الله البديل، فقال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] وقال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وقال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191].
والبديل: الكتاب الإسلامي، وسنة المختار عليه الصلاة والسلام.
والبديل: الشريط الإسلامي الذي شفى الله به وكفى ونفع وجعل له تأثيراً بالغاً.
والبديل: مجالس الخير والمحاضرات والدروس ومساءلة أهل العلم، وزيارة الصالحين.
والبديل: التفكر في آيات الله وقيام الليل، ومدارسة كتب العلم علَّ الله أن يهدينا وإياهم صراطه المستقيم.(7/20)
كلمة موجهة للنساء
يا معاشر النساء! سلام الله عليكن ورحمته وبركاته، أنتن المؤثرات في البيت، أنتن الأميرات في البيت، أنتن المسئولات في البيت، اتقين الله في رعاية الأطفال، وفي الحرص على إدخال القرآن والشريط الإسلامي والكتاب الإسلامي، واملأن البيت نوراً بإذن الواحد الأحد، قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].
فوصيتي يا أمة الله: أن تخرجي الغناء مرئياً ومسموعاً وآلاته وكل ما يدعو إلى اللهو، وأن تدخلي القرآن والحديث وما يملأ القلب رضاً، وأن تكوني أنتِ راعية على الأطفال، ربيهم على لا إله إلا الله، واغرسي في قلوبهم لا إله إلا الله، إياك أن تربيهم على الأغنيات، إياك إياك أن تجعلي بيتك مسرحاً للهو وللعبث وللعب.
وكلمة لأهل الحفلات والزواجات، وسائقي السيارات الأجرة وأهل الصوالين والمقاهي والمنتزهات: أن تتقوا الله، فأنتم في بلاد المسلمين، وسوف يسألكم الواحد الأحد يوم لا ينفع مال ولا بنون عما تقدموا للناس من مادة، فأخرجوا الغناء من محلاتكم ومن أماكنكم، وأدخلوا القرآن والحديث والشريط الإسلامي، وكونوا دعاة إلى الله، فإن كسباً أتى من حرام لا يبارك الله فيه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ومصيره إلى النار، وآخرته وبال، والرجل قد يكون أشعث أغبر، يرفع يديه إلى السماء، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، ومشربه حرام، فأنى يستجاب له، فلا يستجيب الله له، فلا تجعل طريقك من الكسب هذا، ويا صاحب السيارة! ضع شريطاً في سيارتك تنفع به نفسك ومن يركب معك، ويا صاحب البوفية! كن داعية بهذه الوسيلة وأسمع الناس القرآن وأسمعهم الذكر، وكذلك يا متزوجاً يريد الزواج! ابن زواجك على تقوى الله، وعلى ذكره وطاعته، وأسمعهم ذكر الله ولا يكن في زواجك الغناء المحرم فإني أخشى من الزواج الذي يبدأ بهذه المعصية ألا يستمر، وألا يوفق أصحابه، وألا ينجحوا في الدنيا ولا في الآخرة.
أيها الإخوة: بعد صلاة العشاء سوف يقوم بعض الإخوة من الأساتذة الذين كانوا مغنين وفنانين، ثم تاب الله عليهم فعادوا وذاقوا حلاوة الإيمان، وأسعدهم الله بحلاوة هذا الدين، وتشرفوا بذكر الله، سوف يقومون هنا، ويتكلمون لكم ويسمعونكم أشجانهم وأخبارهم.
تسائل عن أخيها كل عين وعند جهينة الخبر اليقين
ولا ينبئك مثل خبير، فسوف تسمعون ماذا يقولون بعد صلاة العشاء، فأنا أدعوهم بعد الصلاة.
أما المجاهدون الأفغان فغناؤهم نوع آخر، خرجوا بسيوفهم -وقد أخبرت بذلك حتى هيئة الإذاعة البريطانية- قبل عشر سنوات لما احتلوا بلادهم خرجوا من المساجد يرفعون الكلاشنكوف والسلاح، ويقولون في غناء المعركة غناء خالد بن الوليد وغناء عبد الله بن رواحة، وغناء جعفر الطيار، يقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
وفي ختام رسالة إلى المغنين والمغنيات أكرر أنها ممزوجة بالحب وبالود، وعلَّ الله أن يهدي بها فما قلتها إلا من شفقة ورحمة.
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(7/21)
رسالة إلى كل مسلم ومسلمة
رسالة إلى الطبيب والمهندس، رسالة إلى العالم والمتعلم، رسالة إلى كل طبقات المجتمع، رسالة تزيدك قرباً من الله؛ لأنها تعرفك بالتوحيد، وتحثك على العمل الصالح، رسالة تزيد الترابط في المجتمع لأنها بينت مالك وما عليك نصائح وعبر وعد ووعيد علامات وأمارات، وللمرأة في هذه الرسالة نصيب افتحها وابدأ بالقراءة.(8/1)
التوحيد الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وأفضل الخلق أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
أيها المسلمون: فقد أشار إليَّ بعض الأحباب -أثابهم الله- أن أقدم شريطاً فيما يهم كل مسلم ومسلمة، شريطاً يخاطب المسئول والموظف، شريطاً يهدى للرجل والمرأة، شريطاً يهم المهندس والطبيب، والأستاذ والفلاح والتاجر.
شريطاً للطفل الصغير وللشيخ الكبير، فاستعنت بالله عز وجل وتأملت أفكار هذا الموضوع، فوجدت أنه من أهم ما يهم المسلم، أصولاً لا بد أن ينبه عليها في كل مناسبة، وهي دائماً تهم الدعاة وتتعلق بكلامهم، ولا ينبغي لهم أن يقدموا عليها شيئاً من الأمور، فجمعت هذه الأصول على أمل أن ينتفع بها، وعل مهدٍ لهذا الشريط أن يؤجر وأن يثاب.
فإن هذه الرسالة إلى المسئول فهو بحاجة إليها حاجة ماسة أحوج من الماء الذي يشربه، ومن الهواء الذي يستنشقه.
وهي رسالة توجه إلى الأستاذ، فهي تناديه وتخاطبه أن يتقي الله في الجيل.
وهي رسالة توجه إلى الأب المسلم والأم المسلمة في البيت، وإلى الطفل الدارس، وإلى التاجر في أمواله وتجارته، وإلى المزارع في مزرعته، وإلى العامل في عمله، وإلى الطبيب في طبه.
فأسأل الله أن ينفع، وأن يشفع لهذه الرسالة حباً في الله، وحرصاً على الفائدة والمصلحة العامة لتنفع من سمع؛ عل الله ألا يحرمنا أجرها ومثوبتها، وأعلم علم اليقين أنني ما أعلم مسلماً يسمع هذا ويوجه له الخطاب إلا وبيني وبينه رابطة من الود، وهي تقوى الله، والحب في الله، والنسب الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول لكم:
أما والذي شق القلوب وأوجد الـ ـمحبة فيها حيث لا تتصرم
وحملها جهد المحب وإنه ليضعف عن حمل القميص ويألم
لأنتم على بعد الديار وقربها أحبتنا إن غبتم أو حضرتمُ
كل من سجد لله وأحب الله نشهد الله على محبته، وعلى التقرب بوده، مسئول، أو موظف، أو تاجر، أو جندي، أو فلاح، أو طبيب، أو مهندس، أو أخ كبير، أو طفل صغير؛ لأننا أمة مؤلفة وهذه الرسالة تدور على مسائل وهي:
1 - التوحيد الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام.
2 - عظم الصلاة.
3 - تحريم قتل النفس المعصومة.
4 - تحريم عقوق الوالدين وقطيعة الرحم.
5 - حق الجار على جاره، حق المسلم على أخيه المسلم.
6 - التوبة النصوح.
7 - التزود بالنوافل بعد الفرائض.
8 - أمور توجه إلى الأم المسلمة في البيت.
9 - شيء في التربية.
على أنني أقول لكم: سوف يصدر قريباً -إن شاء الله- سلسلة من التربية النبوية للمصطفى عليه الصلاة والسلام، قام بجمع مادتها أحد الدعاة ألا وهو الأخ الأستاذ/ صالح أبو عرّاد الشهري، وسوف أقدمها في أشرطة تجدونها -إن شاء الله- في التسجيلات الإسلامية على أعداد منها:
- شريط في الذكر.
- شريط في أدب الطعام.
- شريط في أدب الشرب.
- شريط في أدب النوم.
لتكون على تصور تام بالقدوة العظيم محمد عليه الصلاة والسلام.
فلعل الله أن ينفع، ولعله أن يلي هذا الشريط شريط في " رسالة إلى أهل البادية " والله المستعان وهو حسبي ونعم الوكيل.
في أول هذه الرسالة أقول كما ورد في كتاب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وهي وصية الله للأولين والآخرين؛ أوصى بها الكبار والصغار؛ والعلماء والتلاميذ؛ والسلاطين والرعية، وهي الزاد في الرحلة، حرص على تبليغها الأول للآخر.
قال سليمان بن داود عليه السلام: تعلمنا مما تعلم الناس ومما لم يتعلم الناس فما وجدنا كتقوى الله قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
واعلموا -بارك الله فيكم- أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لـ معاذ: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن} حديث صحيح.
وقال لـ ابن عباس رضي الله عنهما: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء؛ يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك؛ فلن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك؛ فلن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} حديث صحيح.(8/2)
بداية ظهور التوحيد
بُعث محمد عليه الصلاة والسلام والدنيا مظلمة، شوهاء عمياء، لا تجد طريقاً ولا مسلكاً ولا نوراً ولا هداية، فهدى الله به الناس، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] فلا إله إلا الله كم بصر به ربه من العمى! وكم أسمع به من الصمم! وكم هدى به من الضلالة! وكم علم به من الجهل! ولا إله إلا الله ما أعظم منته على الناس! لا إله إلا الله ما أشهر نوره! وما أذكر صيته! علم العجوز والطفل والشيخ الإسلام.
دخلت رسالته إلى الملوك، وخاطبت الفلاحين، وذهبت إلى البادية، فمن اهتدى بهدي محمد هداه الله وكفاه وشفاه ورعاه.
ومن أعرض عن محمد وعن رسالته، لعنه الله وأخزاه وأضله: {عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة:161] لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.
كل عين عمياء إلا عين رأت هديه، وكل أذن صماء إلا أذن سمعت بدعوته، وكل قلب ملعون إلا قلب استنار بنوره، وكل أرض مظلمة إلا أرض أشرقت عليها شمس رسالته:
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
أتى إلينا وكان أجدادنا يعبدون الصنم، ويسجدون للوثن، يزنون، ويخونون، ويغشون، ويغدرون، ويفجرون، ويكذبون فأخرجهم من الظلمات إلى النور، وعلمهم توحيد الباري فارتفع على الصفا يقول: {يا أيها الناس! قولوا لا إله إلا الله تفلحوا}.
وقال عليه الصلاة والسلام: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله} فجرد السيف وأخرج أصحابه كتائب، ودعا إلى طريق الجنة فمن عصاه قاتله، فإن انتصر عليه فالمقتول في النار، وإن هداه الله فإلى الجنة، فقام سوق الجنة وسوق النار، ونصب الميزان، وامتد الصراط على متن جهنم، وتطايرت الصحف، ونزل جبريل، وشهر سيف العدالة وأنشئ منبر العدل فما مضت خمس وعشرون سنة إلا والدنيا على حزبين كما قال الله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] فاسأل الله الذي جعلنا في هذا المكان الطاهر أن يجعلنا من حزبه، وأن يحشرنا تحت لوائه، وأن يجمعنا في زمرته، وأن يوفقنا لسنته، وأن يجعلنا من أتباع سيرته، وألا يضلنا بعد إذ هدانا، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هداها، وأن يوجهنا وإياكم وجهة حسنة.(8/3)
التوحيد الصافي الجميل
التوحيد الصافي الجميل أن تعبد الواحد الأحد، وأنا لا أدخل في مصطلحات أهل العلم، ولا في خلافهم لكني أريد عبارة مبسطة يفهمها العالم وطالب العلم، والعامي والأعرابي عل الله أن ينفع بما نقول ونسمع.
أتى صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، وسره أن تتعلق بالباري، وأن تعتقد أنه لا ينفع إلا الله، ولا يضر إلا الله، ولا يشافي إلا الله، ولا يعافي إلا الله، ولذلك لام الله من اتخذ الأنداد فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3] فأتت العقيدة سهلة مبسطة، عرضها الله في القرآن، يعرفها العامي يوم يقرأها، والأعرابي والبدوي والعجوز.
يقول سبحانه وهو يضرب أمثلة على قدرته: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20] ويقول الله عز وجل وهو يضرب لنا الأمثلة عن البعث والنشور: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258] فكانت عقيدة سهلة.
صح عنه عليه الصلاة والسلام أن أعرابياً سأله: ما هو الدين؟! ومن هو الله؟! فقال: {الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشف عنك الضر} هذه العلامة للواحد الأحد دليل قدرته، فلم يعطه مصطلحات، وما ملأ ذهنه معلومات، بل بسَّط له -وهو الذي إذا مرضت فدعوته كشف عنك الضر قال: وهل نبعث بعد الموت؟ -لأن مشكلة العرب وأزمتهم وجريمتهم في الجاهلية أنهم: ما اعترفوا بالبعث بعد الموت، هضموا كل شيء إلا البعث بعد الموت، أتى العاص بن وائل ففتت العظم أمام المصطفى صلى الله عليه وسلم ونفخ هذا الفتات قال: يا محمد! أتزعم أن ربك يبعث هذا؟ قال: {نعم.
ويدخلك النار} قد تولى الله الرد عليه، وأدحض حجته، وكذب مقالته فقال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79] وقال أيضاً: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:1 - 2].
والله عز وجل ضرب بإنزال الغيث وإخراج النبات ما بين ورد أحمر، وأصفر، وأخضر، وبقع جميلة، وأغصان فيحاء في حدائق جميلة، ضرب المثل على البعث، فقال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:9 - 11].
قال: {يا رسول الله! وهل يعيدنا الله عز وجل بعد أن نموت؟ قال: إي والذي نفسي بيده، قال: كيف يعيدنا؟ قال: أما مررت ببقعة قد مات نباتها؟ قال: بلى} انظر إلى العقل، انظر إلى الدين الصادق الذي يصل إلى القلب قبلته المعمورة، وسرى في الناس لأنه يخاطب الفطرة: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30] قال: {أما مررت بأرض قد مات نباتها؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: أما مررت عليها بعد فترة وقد حيت واخضرت؟ قال: بلى.
قال: فمن أحياها؟ قال: الله.
قال: فإن الذي أحياها يحييك بعد أن تموت} فأسلم الأعرابي.
جاء أعرابي إلى رسول الله فقال: {يا رسول الله! من خلق السماء؟ قال: الله، قال: من خلق الأرض؟ قال: الله، قال: من نصب الجبال؟ قال: الله، قال: أسألك بمن رفع السماء، وبسط الأرض، ونصب الجبال، آلله أرسلك؟ قال: نعم.
كان متكأ فجلس -سؤال لو وضع على الجبال لدكدكت، أعظم سؤال طرح في الدنيا- قال: أسألك بمن رفع السماء، وبسط الأرض، ونصب الجبال، آلله أمرك أن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم، فأخذ يسأله حتى انتهى من أركان الإسلام- الدين السهل البسيط الرائع- قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، والله لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص، أنا ضمام بن ثعلبة أخوه بني سعد بن بكر، ثم ولى، فقال عليه الصلاة والسلام: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا} حياه الله وحيا دينه، ما أسهله! وما أبره! وما أرحمه!
قال تعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2] وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] وقال أيضاً: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
التوحيد جميل، التوحيد أبيض كالثوب الأبيض، أي شيء يتدنس به يظهر، التوحيد فيه صلاح أي شيء، لو قلت: ما شاء الله وشاء فلان خدشت توحيدك، لو قلت: وأبي خدشت توحيدك، لو قلت: وحياتي خدشت توحيدك، لو قلت: وشرفي ونجاحي خدشت توحيدك، التوحيد أبيض.
لو اعتقدت في شخص أنه ينفع ويضر من دون الله ثلمت توحيدك، التوحيد شفاف، لو زعمت أن رجلاً يشافي ويعافي ويمرض، وينجح ويرسب من دون الله ثلمت توحيدك؛ لأنه لا ينفع إلا الله، ولا يضر إلا الله قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:66](8/4)
أهمية التوحيد وفوائده
التوحيد يصلك بالله، فيجعل في قلبك أن كل شيء بيد الله، التوحيد يجعلك تقول: (حسبي الله ونعم الوكيل) فإذا الدنيا أمامك أسفاط، وإذا هيئاتها وأشخاصها وكياناتها لا شيء.
قال ابن عباس في صحيح البخاري: [[حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم لما أوقدوا النار له فجعلها الله برداً وسلاماً]] وحسبنا الله ونعم الوكيل قالها محمد عليه الصلاة والسلام في أحد لما قيل له: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].
(حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها خالد بن الوليد لما أقبل عليه جيش الروم كالجبال، كتائب مجندة، وجيوش مجيشة، مقيدون بالسلاسل، يحملون السيوف، وهم أضعاف مضاعفة على أعداد المسلمين، فإذا جيش المسلمين حفنة أمام الجبال من أهل الروم، فقال مسلم لـ أبي سليمان خالد بن الوليد قبل المعركة، يا أبا سليمان! انظر ما أكثرهم وما أقلنا، نفر اليوم إلى جبل سلمى وآجا فدمعت عين خالد -حامل القلب الذي فيه (حسبنا الله ونعم الوكيل) حامل القلب الذي فيه (لا إله إلا الله) خالد الذي تخرج من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، خالد الذي تعلم في المسجد، وحمل القرآن، وتوضأ كل يوم خمس مرات.
وما أتت بقعة إلا سمعت بها الله أكبر تسعى في نواحيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
فدمعت عين خالد وقال: [[لا والله، بل ما أقل الروم وما أكثرنا، ثم قال: لا نفر إلى جبل سلمى وآجا ولكن إلى الله الملتجأ، حسبنا الله ونعم الوكيل]] فانطلق في المعركة فسحق أعداء الله، قال تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].
(حسبنا الله ونعم الوكيل) خرج بها الأفغاني الفقير في ثيابه البالية، وبندقيته المجردة البسيطة يقاتل قوة الأرض العاتية الحمراء الروسية بدباباتها، وطائراتها ومدافعها، وهي تقصف الجو، والأرض وهي تهدم المساجد ويقول: (حسبنا الله ونعم الوكيل) فانتصر.
(حسبنا الله ونعم الوكيل) يخرج بها الضعيف أمام القوي فينهزم القوي، والفقير أمام الغني فيغتني الفقير ويفتقر الغني إذا تجرد عن (حسبنا الله ونعم الوكيل).
التوحيد جميل يجعلك وأنت على فراش الموت تتصل بالله، دخلوا على أبي بكر الصديق الموحد الكبير، نحيف الجسم لكنه قوي الإرادة، هزيل البنية لكنه كبير القلب، همته تمر مر السحاب {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] قالوا: ألا ندعو لك طبيباً، قال: الطبيب قد رآني، قال: فعَّال لما يريد، أخذه الشعراء فقال أحدهم:
كيف أشكو إلى صبيبي ما بي والذي أصابني من صبيبي
دخلوا على عمران بن حصين -أحد الصحابة وقصته في الإصابة - قالوا: يا عمران! مرضت ثلاثين سنة ألا تدع الله، قال: [[ما دام الله يحب هذا المرض فأنا أحبه]]:
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
هذا التوحيد هو الذي جعل هذه النماذج تظهر للناس، التوحيد أتى بـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه على المنبر يوم الجمعة ببردة مرقعة أربع عشرة رقعة، فيصرف الدنيا وذهبها وفضتها الدنيا، ويقول في أول الخطبة: [[إنك تعلم ما أريد]] وصدق، نعلم ما تريد يا أمير المؤمنين، تريد جنة عرضها السماوات والأرض، ولذلك قرقرت بطنه في الخطبة من الجوع، فقال لها: [[قرقري أولا تقرقري والله لا تشبعي حتى يشبع أطفال المسلمين]] كل هذا توحيد وهو من معاني التوحيد، ولن تدرك أسرار التوحيد إلا إذا قرأت تراجم الصحابة؛ لأن الصحابة علموا التوحيد.
يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بن كعب والحديث صحيح قال: يا أبي: {! إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة -الله من السماء يأمر محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقرأ على أبي سورة البينة - قال: أوسماني في الملأ الأعلى؟ قال: نعم إن الله سماك، وقال: الحمد لله أو كما قال، ثم اندفع صلى الله عليه وسلم يقرأ}.
التوحيد أخرج من هذه النماذج أمماً وأجيالاً، يأتي أحدهم إلى جبل أحد فيقال له: عد من المعركة والكفار أمامه صفوف قال: [[إليكم عني، والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة من دون أحد]]
التوحيد يأتي بـ جعفر فتقطع يده اليمنى فيأخذ الراية باليسرى، فتقطع اليسرى فيضم الراية ويقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها(8/5)
حق المسلم على إخوته وجيرانه
ولما نقص توحيدنا تعطلت المساجد عن الصلوات، الكثير منا جار للمسجد ولكن لا يصلي؛ لأن توحيده ضعيف، ولما ضعف التوحيد في قلوبنا كثرت المعاصي، أموال الكثير من الربا؛ يأكل الربا، ويشرب الربا، ويبني من الربا، ويشتري سيارته من الربا ويقول: {يا رب! يا رب! يا رب! ومطعمه حرام وملبسه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟}
لما ضعف التوحيد في قلوبنا، قطعنا الجار الذي وقف عليه الصلاة والسلام مع جبريل، وجبريل يوصيه بالجار، قال صلى الله عليه وسلم: {ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه} وأكثر خصومات الناس -إلا من رحم ربك- بين الجيران، لأن التوحيد ما رسخ في القلوب.
جار يعتدي على جاره يسبه فلا يأمنه، إذا غاب ينتهك حرماته، يقف له في كل مرصد، يغير الحدود ومنارات الأرض، فأين حق الجوار؟! يجلس معه عند القاضي مشاكساً مخاصماً مدعياً، مغتاباً نماماً فاحشاً.
ورد في الحديث: {أن جاراً اشتكى جاره، فأتى صلى الله عليه وسلم إلى الرجل وقال: اصبر واحتسب اصبر واحتسب، لكن ذاك لم يتعظ، قال: يا رسول الله! آذاني وسبني وشتمني، قال: خذ متاعك وانزل إلى الطريق، فنزل بأطفاله وزوجته ومتاعه ومر الناس عليه، فقالوا: ما لك يا فلان؟ قال: أخرجني جاري من داري، قالوا: لعنه الله} فلعنه المصبح، والمغدي، والممسي، وبعدها تاب ذاك الجار لكن بعد أن أخذ لعناً.
ولذلك يقول ابن القيم: من سعادة الحياة أن يرزقك الله جاراً صالحاً، أما رأيت امرأة فرعون إذ قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] فقدمت الجار قبل الدار، فقالت: (عندك في الجنة) ولم تقل (في الجنة عندك) ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه} فمن ضعف التوحيد في قلوبنا وعدم اتصالنا بالباري كما اتصل الصحابة؛ ضعف هذا الكيان.
كان عليه الصلاة والسلام وهو معلم التوحيد جاره يهودي، فإذا اشترى الرسول صلى الله عليه وسلم لحماً أو فاكهة أو تمراً أو لباساً فإنه يبدأ بإعطاء اليهودي، وفي الأخير اضطر اليهودي أمام هذا الواقع أن يسلم، أتى إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن دينك الذي جعلك تتعامل معي وأنا خصمك، وأنا يهودي بهذا التعامل لهو دين حق.
عبد الله بن المبارك سكن مع جار يهودي في خراسان، وكان ابن المبارك مع اليهودي كالأخ مع أخيه، إذا اشترى لحماً لأطفاله قدم اللحم لأطفال الجار، إذا كسا أبناءه كسا أبناء اليهودي، كان اليهودي يؤذيه بنفاياته وزبالاته على بيته، فيسكت ويضمها ويقول لأهله: لا تخبروا اليهودي، وبعد فترة أتى التجار إلى اليهودي قالوا: نشتري بيتك، قال: بيتي بألفي دينار، أما ألف فقيمته، وأما ألف فقيمة جوار ابن المبارك، فأخبر ابن المبارك فدمعت عينه وقال: " اللهم اهده إلى الإسلام " وما هي إلا لحظات ويأتي اليهودي ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، إن ديناً جعلك تتعامل معي هذا التعامل لدين حق.
أجدادنا وصلوا إلى أندونيسيا وماليزيا ينشرون الجوار والتوحيد فعلم الناس أن دينهم حق، فانتشر بهم الإسلام، فيوم ضعف التوحيد في القلوب؛ وقع هذا التشاكس بين الجيران وهذه الخصومة.(8/6)
تحريم عقوق الوالدين
فيا أيها المسلمون! إن مما ينبغي أن نعظم به التوحيد في قلوبنا: تعاملنا مع الناس.
ومن نقص التوحيد وضعفه عقوق الوالدين، ولا إله إلا الله كم من شيخ بكى من عقوق ابنه! وكم من أم اشتكت وبكت وناحت من ظلم ابنها! واعلموا إن لم تكونوا قد علمتم أن هناك أمهات بكين -والله- من ضرب أبنائهن لهن، ابن نقص توحيده، ما عرف الباري، ما استنار بنور محمد عليه الصلاة والسلام حمله موت التوحيد ونقص التوحيد، ومرض التوحيد، أن يضرب أمه.
شيخ كبير يقف ودموعه تسيل على لحيته، ويشكو من هذه المصيبة، ابن رباه وغذاه، وأطعمه وسقاه، وكساه وآواه ثم انقلب هذا الابن بعد أن كبر رعديداً فاجراً مخاصماً لأبيه، كما يقول الأول في ابنه العاق:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجري عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك في السقم لم أبت لسقمك إلا شاكياً أتململ
كأني أنا الملدوغ دونك بالذي لدغت به دوني فعيناي تهمل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24] وقال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15].
ولذلك قال صحابي: {يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك؟ قال: ثم من؟ قال: أبوك} فسبحان الله كم للوالدين من حقوق!! تقبيل اليد، الطاعة، الكلمة الطيبة، تلبية الطلب، الدعاء.
قال أنصاري كما صح: {يا رسول الله! هل بقي من بري أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما قال: نعم.
بالاستغفار لهما، وبالدعاء لهما، وبالصدقة، وبصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فالبر البر يا مسلمون! بر الوالدين وطاعتهم من طاعة الباري سبحانه وتعالى.(8/7)
تحرم قتل النفس المعصومة
لما نقص التوحيد من القلوب سمعنا بقضايا القتل والنهب والسلب والاعتداءات على الأرواح المعصومة، والمصطفى عليه الصلاة والسلام صح عنه أنه قال: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة} ولكن يوم أن ضعف التوحيد أخذ ذاك السيف أو الخنجر، أو الرشاش أو المسدس، واعتدى على أخيه المسلم فقتله، اسمع إلى قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93]
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:68 - 70]
ويروى في الأثر:" لو اجتمع أهل الأرض وأهل السماء على قتل امرئ مسلم بغير حق كبهم الله جميعاً على وجوههم في النار".
ويروى في الأثر: " ما من جريمة إلا وتهون بعد الشرك إلا قتل النفس المعصومة، ولزوال الدنيا بأسرها أهون عند الله عز وجل من قتل امرئ مسلم " والعجيب أنه لما قتل أحد أبناء آدم أخاه ما جف الدم من ذاك الوقت إلى اليوم، فدم المعصوم ودم المسلم لا يجف من الأرض وإليكم شاهداً عليه:
جاء رجل عند ابن عمر يبكي ويقول دلني على الجنة قال: [[إن استطعت ألا تجعل بينك وبين الجنة حفنة من دم فافعل]] {من حمل علينا السلاح فليس منا} وهو تحت المشيئة، ولكنه استوجب غضب الله ولعنته.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه}.(8/8)
تحريم قطيعة الرحم
واعلموا -أيها المسلمون- أن من أعظم نتائج نقص التوحيد من نفوسنا قطيعة الرحم، وقطيعة الرحم جريمة ما سمع الناس بمثلها، أما رأيت القطر كيف جف؟! أما رأيت البلبل سكت وغاب عن البستان؟! أما رأيت الزهر كيف مات من القحط؟! أما رأيت قلة البركة في الأمطار بقطيعة الرحم! أما رأيت قسوة القلوب وجفاف الأرواح بقطيعة الرحم! أما رأيت البغضاء والحسد، والحقد والغل بقطيعة الرحم أما رأيت فساد بعض النشء بقطيعة الرحم قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]
يقول عليه الصلاة والسلام: {لا يدخل الجنة قاطع رحم} ونروي هذا الحديث على ظاهره {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
أخت تشكو أخاها حرمها ميراثها، أخت تشكو أخاها لم يزرها منذ عشر سنوات.
أخ يبكي من أخيه هجره وقطعه، ما سلم عليه عشرات السنوات من أجل أرض، من أجل تراب، من أجل سيارة، من أجل حمار، من أجل شيء حقير لا رد الله عز وجل هذه الأرض، ولا رحم من شاجر من أجلها إلا أن يتوب.
قطيعة الرحم أمرها عجيب، يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها} يعني: ليس المعنى أنك المواصل، إذا وصلك أخوك وصلته، إنما المقصود: الواصل من إذا قطعك وصلته أنت، أو حرمك أعطيته، أو ظلمك رحمته، ولذلك روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن الله أمرني أن أصل من قطعني، وأن أعفو عمن ظلمني، وأن أعطي من حرمني} وصدقت والله، لقد وصلت من قطعك، وأعطيت من حرمك، وعفوت عمن ظلمك.
قطعك الأقارب فأتيت إليهم يوم مكة فقلت: {اذهبوا فأنتم الطلقاء} وقلت: {عفا الله عنكم} بعد أن أخرجوك وضربوا بناتك، وقاتلوك، وشتموك، وباعوا ديارك، فعفوت عنهم فقال الله لك: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
يقول أحد الشعراء:
وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن يهدموا مجدي بنيت لهم مجدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لما خلق الله الرحم تعلقت بالعرش، قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فذلك لكِ، فأنزلها الله على ذلك} فهو شرط من الله وعهد من الله من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله.
وفي صحيح مسلم أن رجلاً قال: {إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني} وهذا الصنف يوجد في القرى والقبائل، وفي المدن والبوادي تجد قريباً رحيماً بأقاربه وهم وراءه بالفئوس والشتائم والأحقاد والأحساد والمشكلات والعقبات، قال: {يا رسول الله! إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم فيسيئون إلي، وأعفو عنهم ويظلمونني، قال: إن كنت كما تقول؛ فلا يزال معك عليهم من الله ظهير، وكأنما تسفهم المل} والمل: هو الرماد الحار، يقول: لا يزال الله معك، والله نصيرك، والله في حزبك لأنك المصيب وهم المخطئون.
فوصيتي بصلت الرحم، بالزيارة والعدل وإعطاء الميراث، والكف عن الأذى، وإذا قطعوا فصلهم، وإذ ظلموا فاعف عنهم، وإذا منعوا فأعطهم، هذه أخلاق الإسلام.(8/9)
تحريم شهادة الزور
ويوم أن ضعف التوحيد أتت شهادة الزور حتى أصبحت ظاهرة في المجتمع المسلم، ولم تكن من قبل فيه ظاهرة؟!
يوم ضعف التوحيد، وضعفت مراقبة الباري يأتي الشيخ الكبير في السن، في الستين أو في السبعين وقد شابت لحيته، ورق عظمه ودنا أجله وأصبح بينه وبين القبر قاب قوسين أو أدنى، فيذهب إلى القاضي ليبيع دينه وذمته وعهده في شهادة الزور، شهادة الزور التي قرنها الله عز وجل بالشرك فقال سبحانه: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30].
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك بالله، وعقوق بالوالدين، وكان متكئاً فجلس وقال: ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت}.
في بعض المجتمعات يأتي مسلم لم يحمل التوحيد فيبيع شهادته بآلاف، بعضهم يأخذ عشرة آلاف، وبعضهم مائة ألف، والله الذي لا إله إلا هو لو ملئت له الدنيا ذهباً وفضة في شهادة زور لهو الخسران الممحوق البركة سبحان الله! أتعادل أمانتك وذمتك بشيء من المال؟! قال سبحانه في أوليائه: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72].
شهادة الزور فيها ثلاث مصائب:
1 - تضل القاضي فتجعله أعمى يحكم وهو معذور، ويكتب بقلمه ويوقع بخاتمه ولا يدري.
2 - أنها تحرم المسلمين حقوقهم وتصرفها إلى هؤلاء الظلمة.
3 - أنها تحبط سعي هذا المثبط وتوقعه على وجهه في نار جهنم والعياذ بالله.
ويوم ضعف التوحيد في القلوب أتت اليمين الغموس واقتطعت الأموال، وحلف الفاجر على أراضي الناس وأموالهم وممتلكاتهم ولو راقب الباري؛ لعلم أن بينه وبين الله خيطاً من التوحيد ولكنه قطع هذا الخيط.
جلس رجل عند القاضي شريح يريد أن يشهد، أحد الخصوم وهو يبكي ودموع الخصم تسيل على لحيته، قال: " يا أيها القاضي يا شريح! والله الذي لا إله إلا هو، والله الذي شق البحر لموسى إن هذا الشاهد يشهد علي زوراً ويأخذ بالزور أموالي" فقال شريح -وكان حكيماً ذكياً فطناً- للخصمين: اخرجا، فخرج الخصمان فأغلق الباب، وقال لشاهد الزور: يا شاهد الزور! سمعنا والله الذي لا إله إلا هو أن الله إذا جمع الأولين والآخرين في يوم لا ريب فيه، أسقطت الطيور ما في حواصلها من الخوف، ووضعت الحامل ما حملت، والمرضع ما أرضعت، ولا يفصل بين الناس حتى يصلى شاهد الزور النار " فبكى الشاهد وقال: أشهدك أني أعود عن شهادتي ثم خرج.
هذا في شهادة الزور؛ ويدخل فيها اقتطاع أموال المسلمين ظلماً وعتواً، يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {من اقتطع مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان، قالوا: ولو شيئاً يسيراً يا رسول الله، قال: ولو كان قضيباً من أراك} راوي هذا الحديث سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، وقد أتت امرأة من ضواحي المدينة في العقيق تشكوه إلى أحد الأمراء إلى مروان بن عبد الملك، قالت: غصبني مزرعتي سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، فحاكمهما مروان في المسجد، قال: رد لها مزرعتها، قال: أنا أصبتها، قال: رد لها مزرعتها، قال: والله الذي لا إله إلا هو ما كنت أغصبها مزرعتها وقد سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {من اقتطع مال امرئ مسلم؛ لقي الله وهو عليه غضبان} اللهم إن كانت كاذبة فاعم بصرها واقتلها في مزرعتها، ثم أعطاها المزرعة، فبدأت هذه الأمور: عميت ثم ذهبت تريد الماء فانزلقت فوقعت على رأسها في البئر فماتت.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوَّقه الله من سبع أرضين يوم القيامة} حديث صحيح، قال بعض العلماء: طوَّق، والطوق من كل أرض بمقدارها، حتى يصبح في عنقه كالحديد لا يخرج ولا يلوس، والأرض طبقات بعضها فوق بعض متلاصقة، فالله يطوقه في هذا الشبر يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.(8/10)
النفاق والمعاصي
يوم ضعف التوحيد في القلوب، التوحيد الجميل الرائع البديع، التوحيد الحي الناصع أتت علامات النفاق، فكثر النفاق في الناس، والذي لا يخاف النفاق منافق، فالصالحون بكوا من النفاق وخافوا منه، أتى عمر رضي الله عنه وأرضاه إلى حذيفة وقال: [[سألتك بالله يا حذيفة! أسماني صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟ قال: لا والله، ولا أزكي أحداً بعدك]]
قال الحسن: [[ما خافه إلا مؤمن وما أمنه إلا منافق]] فليحذر العبد النفاق فإن له علامات:
منها: الكذب في القول، وخيانة الأمانة، وخلف الوعد، والفجور عند اليمين، والغدر في العهد.
ومنها: الاستهزاء بقيم الدين الإسلامي ومبادئه من الكتاب والسنة، والاستهزاء بالصالحين والأخيار.
ومنها: التكاسل عن الصلاة، وما أعظم نفاق من ترك المسجد وهو جواره وترك الصلاة فيه!
ومنها: مراءاة الناس بالعمل، وطلب السمعة.
ومنها: قلة الذكر -والعياذ بالله- إلى غيرها من الأمور، وهناك شريط بعنوان ثلاثون علامة للمنافقين، أو نحو ذلك؛ فاحرصوا على استماعه.
اعلموا أنه لما ضعف التوحيد في القلوب خوطب كثير من الناس بتحريم الربا لكنهم ما استفاقوا، تخمرت العقول وأصابها سكر المعصية فما أصبحوا يسمعون قولاً، ولا يجيبون دعوة.
ضعف التوحيد والمراقبة فجعلوا أموالهم ربا، وأكلوا ربا ولبسوا ربا قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:130] وقال سبحانه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:275 - 276].
ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 279].
قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء} وعند الحاكم وصححه، وابن ماجة في السنن من حديث عبد الله بن مسعود: {الربا ثلاث وسبعون باباً، أهونه مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه المسلم} والربا قسمان: ربا فضل، وربا نسيئة.
فربا الفضل يدخل في أجناس الذهب والفضة والبر والشعير، والمأكولات، والموزونات فلا بد فيها من شرطين: التطابق والمساواة والحلول؛ فالبر بالبر رباً، والذهب بالذهب رباً، إلا مثلاً بمثل سواء بسواء، والفضة بالفضة رباً، إلا مثلاً بمثل سواء بسواء، هاء وهاء، وكذلك الذهب والملح وقس عليها المكيلات، والموزونات، لا يجوز التأجيل فيها، ولا تجوز الزيادة في هذه الأصناف.
وربا النسيئة: وهي المزايدة كأن تعطيه ذهباً بذهب ديناً ثم يكون فيه زيادة، وهذه الأصناف سواء كان فيها زيادة، أو بدون زيادة ففيها الربا.
ومن ربا النسيئة ما يفعله المرابون في البنوك، يقدم ماله لتصرف له فائدة على هذا المال، فإذا كان هذا الشرط فهو رباً، أو يأخذ قرضاً فيأخذون من هذا القرض مائة ألف، أو عشرة آلاف فيسدد على أنه مائة ألف فهو رباً، فليحذر المؤمن هذا الأمر، فإنه من أعظم ما يستوجب به غضب الله ولعنته، وقلة البركة من الله، ويدخل به النار، وقد توعدهم الله عز وجل بالحرب في الدنيا والآخرة.
وصاحب الربا لا بركة له، ولا ثمرة، ولا مستقبل، ولا نور، ولا هداية، نعوذ بالله من الربا.(8/11)
أمور توجه للمرأة المسلمة
واعلموا -أيها المسلمون- أن من ضعف التوحيد في القلوب: عدم الاهتمام بالمرأة، ونسيان المرأة في البيت، وعدم تربيتها على الكتاب والسنة.
وإن للمرأة المسلمة صفات وهناك محاضرة اسمها: (صفات المرأة المسلمة):
فهي تؤمن بالواحد الأحد، وزوجها وابنها وأخوها يربون في قلبها الإيمان حتى يكون كالجبال، يغرسون في قلبها لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي مؤمنة بالله، حافظة للغيب بما حفظ الله، تحفظ زوجها في نفسها، وفي ماله، وفي أطفاله، وفي عرضها فهذه هي المؤمنة الصالحة المنيبة.
التزود بالصالحات والتزود بالنوافل، وألا يخلو بيتها من ذكر الله، بيتها سليم من الآثام، بيتها خال من الأغاني، ليس فيه ملاهٍ، بيتها نير، بيتها يستفيق على لا إله إلا الله، ويمسي على لا إله إلا الله، القرآن يدوي في بيتها، الحديث والسيرة، تربية الأطفال قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].(8/12)
الملعونات من النساء
المرأة المسلمة لا تتشبه بالكافرات، فقد قال عليه الصلاة والسلام: {من تشبه بقوم فهو منهم} المرأة المسلمة لا تتشبه بالرجال، صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال} فخلقها الله امرأة، مواصفاتها امرأة، ومؤهلاتها امرأة، وفطرتها امرأة، فإذا حرفت فطرتها لتكون رجلاً بعملها، ومشيتها، وفي كلامها ولبستها؛ فهي ملعونة، وقد لعن في النساء أصناف:
الواشرة: وهي التي تحد أسنانها لتتظاهر بأنها فتاة.
النامصة: هي التي تقلع حواجبها لغير حاجة.
الواشمة: وهي التي تغرز الحبر وما أشبهه في خدها، أو في أنفها، أو في وجنتها.
المفلجة: وهي التي تفرق بين ثناياها وأسنانها لغير حاجة.
الواصلة: وهي التي تصل شعر غيرها بشعرها، فهذه ملعونة على لسان محمد عليه الصلاة والسلام وجميع من سبق ملعونات.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: {أنه سوف يأتي صنف من النساء في آخر الزمان، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، مائلات مميلات، فاتنات مفتونات، لا يرحن رائحة الجنة} يركبن الشعر على الرأس، ثم ينزلن إلى الأسواق، ويلبسن كل موضة تخالف اللباس الشرعي من قصير، أو شفاف، أو ضيق، أو ما يبدي الزينة، ثم تتعرض لعيون الأجانب فتمر على الخياطين، وعلى باعة الذهب، وعلى كل فاجر تعرض نفسها وتستوجب غضب ربها ولعنة الملائكة.(8/13)
صفات المرأة المؤمنة
المرأة المسلمة تحيا بحياة الله، وتنقل حياة الإيمان إلى أخواتها، داعية تتصل بأخواتها، تدعوهن بالهاتف، بالكتيب، بالشريط، بالكلمة الطيبة، وبالنصيحة.
المرأة المسلمة تحفظ زوجها في أطفاله فتربيهم على سنة محمد صلى الله عليه وسلم منذ أن يصبحوا إلى أن يمسوا؛ في لباسهم وطعامهم، تسمي على الطفل في غسله، في لباسه، وفي طعامه، وفي نومه واستيقاظه، تعلمه الصلاة، تعلمه القرآن، تعلمه آداب الإسلام، تذكر له سيرة الصحابة الأخيار، هذه المرأة المسلمة فلا يضعف توحيدها ويقينها، نسأل الله أن يصلح نساءنا وأن يجعلهن من المؤمنات الصالحات، فإن الله قال بعد أن ذكر الصالحين: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195].(8/14)
التوبة النصوح(8/15)
دعوة إلى التوبة
واعلموا أن التوحيد لما ضعف قل ارتياد المسلم للتوبة.
التوبة أمر عظيم، ولولا وجود التوبة لي ولك لمتنا يأساً.
التوبة حبل، التوبة باب، التوبة طريق، التوبة كالماء البارد، تقسو قلوبنا، تنقطع حبالنا، تيأس أرواحنا، تدمع عيوننا فنتذكر باب التوبة المفتوح: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
يا موظفاً أسرف على نفسه في وظيفته وأساء! باب التوبة أمامك مفتوح لتكون كالأخيار من صحابة محمد صلى الله عليه وسلم يوم رعوا الله في وظائفهم ومسئولياتهم، وفي إمرتهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} وقال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ َالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].
يا أستاذاً أساء في تدريسه، لم يحضِّر مادته، ولم يدع إلى الله، وما صدق في تدريسه، ولا أخلص ولا راقب الله! أنت مدعو لكي تتوب وتراجع حسابك مع الله، وأن تكون معلماً كما كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم معلمين: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
يا معلماً أتى إلى أبناء المسلمين لكي يعلمهم! أدعوك إلى أن تطهر مسيرتك منذ اليوم.
يا تاجراً تعامل بالربا يا تاجراً ما صدق في بيعه وشرائه! يا تاجراً ما أنفق وما قدم لنفسه! يا تاجراً ما مهد لقبره! أنت مدعو اليوم للتوبة، وإلى مراجعة حساباتك في تجارتك، وطلب الحلال، والإنفاق منه، واعلم أنك إن لم تتب كان مالك وبالاً عليك، وكان الشجاع الأقرع رفيقك ولادغك في قبرك.
ويا أعرابياً ما تعلم السنة في البادية! تجيد قيادة السيارة، ولبس الثوب، وأكل الطعام، وبناء البيت، وركوب الطائرة، لكنك ما حفظت الفاتحة! أنت مدعو لطلب الفقه في الدين، واجب عليك أن ترتحل، ولو كلَّ جوادك وتعب جسمك، ولو أنفقت من مالك، إلى أن تتعلم وتتثبت من طلبة العلم والدعاة فتتعلم كل ما يهمك.
يا أعرابياً أشرك بالله! أنت مدعو إلى أن تتوب، وأن تعرف أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله.
الذهاب إلى الكاهن شرك، وإلى العراف شرك، وإلى الجاحد شرك، صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من أتى عرافاً أو كاهناً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً} وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من أتى عرافاً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد}.
يا امرأة مسلمة! أنت مدعوة اليوم إلى التوبة، وإلى العودة إلى الواحد الأحد.
ويا طالب علم، طلب العلم للدنيا وللظهور والشهرة وأساء بطلب العلم، ولم يعمل بعلمه! أنت مدعو إلى أن تتقي الله بعلمك:
إذا ما لم يزدك العلم خيراً فليتك ثم ليتك ما علمتا
وإن ألقاك فهمك في مهاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا
ويا طبيباً في مستشفيات المسلمين! اتق الله في أمور: أولاها أن تخلص في علمك؛ لينفع الله بك، وأن تحتسب الأجر على الله.
ثانيها: عندما تحاول أن تعالج الأجسام، حاول أن تعالج الأرواح، فإن المريض بين يديك كالغريق في البحر يتعلق في القشة، فأدنى كلمة منك وهو في المرض تدعوه فيها إلى الله تنفعه بإذن الله، لقنه مع إبرتك وحقنتك، ومع أدواتك ومع علاجك التوحيد، اغرس الإيمان في قلبه قل له: لا إله إلا الله، قل له: اعلم أني أنا الطبيب لا أنفع ولا أضر، الطبيب هو الله:
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
قل المريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا
ثالثها: أن اتق الله في أعراض المسلمين، لا يجوز لك أن تخلو بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا يجوز لك أن تنظر نظر ريبة ومعصية، فلتتق الله عز وجل، ولتعلم أنك في مسئولية عظيمة، وفي أمر جسيم، وأنت معرض لأمرين: إما أن تنقذ نفسك؛ فتكون من أحسن الناس إلى الجنة، وإما أن تعرض نفسك للبوار في الدنيا والآخرة نسأل الله العافية.(8/16)
التزود بالنوافل بعد الفرائض
ومما يجب على المسلم أن يعلمه وأن يفعله دائماً؛ أن يحافظ على الفرائض؛ فإنها رأس ماله، ليس معه إلا الفرائض، والله لا مال، ولا تجارة، ولا منصب، ولا وظيفة:
زيادة المرء في دنياه نقصان وربحه غير محض الخير خسران
وكل وجدان قوم لا أساس له فإنما هو في التحقيق خسران
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يقول الله عز وجل: وما تقرب إلي عبدي بأحب إليَّ مما افترضته عليه} إذا ضاعت فريضتك فأين رأس مالك؟! بالله قل لي: من ضيع الصلوات في أوقاتها بخشوعها، وركوعها أين رأس ماله؟! الصلوات التي هي الإسلام، والإسلام هو الصلاة، الصلاة التي من تركها فقد كفر ويصبح كالبهيمة، يقول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: {بين المسلم والكافر ترك الصلاة} يوم يترك الصلاة يكفر، يوم يترك الصلاة يحل دمه، يوم يترك الصلاة يلعن، يوم يترك الصلاة يحل عرضه، يوم يترك الصلاة يحل ماله، يوم يترك الصلاة تخرج زوجته من عصمته ولا يجوز لها البقاء معه، يوم يترك الصلاة لا يصلى عليه، ولا يكفن، ولا يغسل، ولا يدفن في مقابر المسلمين، قال الحبيب المصطفى: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر}.
واعلم أن من آثار التوحيد الجميلة أن تتزود بالنوافل، وكما قال عليه الصلاة والسلام: {قال الله: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به} جاء رجل قال: {يا رسول الله! أريد مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قال: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة}.
وعليك بالذكر فقد قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] وقال أيضاً: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وقال أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41].
التسبيح، التحميد، وأكثر من ذكره في الأرض دائماً لتذكر في السماء:
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس
أيها المسلمون: هذه وصايا وأنا أردت من هذا الشريط كل طبقات الناس؛ فإنه رسالة لكل مسلم، لعل الله أن ينفع به، لعل رجلاً صالحاً أن يهديه إلى أخيه، أو صديقه، أو جاره فيهتدي بسببه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} وسوف يكون هناك قضايا؛ لكنني لم أعلم قضية من الكبار والخطوط العريضة والمجملة التي تهمنا جميعاً إلا وذكرتها هنا.
وهناك ذنوب نقع فيها دائماً ونكررها، وليس لنا نجاة ولا فلاح إلا أن نتوب ونتخلى عنها، منها: الغيبة وانتهاك أعراض المسلمين في المجالس، فالغيبة أمرها عظيم قال تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12].
الغيبة: هي ذكرك أخاك بما يكره، بالغيبة كأنك تذبح المسلم وتأكل لحمه وتشرب دمه، فالله الله في المسلم أن يحفظ لسانه، وأن يرعى أعراض المسلمين {فإن من تتبع عورة المسلمين تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه الله ولو في عقر داره}.
نسأل الله السداد والتوفيق والرشد والهداية، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يتجاوز عنا وعنكم، سيئاتنا، وأن يقبلنا فيمن قبل.
هذا وصلى الله على نبيه وخليله محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً.(8/17)
قضايا متفرقة
من القضايا التي تلحق بهذا الدرس مسائل تنتشر في الناس وهي: اللعن وانتشار الغناء، والإسبال أو مخالفة السنة في كثير من السلوك، ضياع الوقت، جلساء السوء وهذه قضايا كبرى.(8/18)
اللعن معناه وحكمه
أما اللعن: فهو كبيرة من الكبائر، صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يكون اللعانون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة} وقال: {ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء}.
اللعن معناه: أن تدعو على الملعون بالطرد والإبعاد من رحمة الله، ولعن المؤمن كقتله؛ فإذا لعنته، فإن استحقها أخذها، وإلا عادت على اللاعن نفسه، نعوذ بالله من اللعن، فالله الله في تجنيب الألسنة هذه الخصلة الذميمة، ونهي الأبناء والنساء والجيران والإخوان عن استخدام هذه الألفاظ؛ لأن ديننا يأمرنا أن نحفظ ألسنتنا.
ومن أعظم ما يخدش وقار اللسان وجماله: اللعن، وهي ظلمة في وجه العبد، وهي طرد وإبعاد ومحق.
وقد يدعو الإنسان، أو أحد أبنائه أو قرابته فتوافق من الله ساعة إجابة، لا يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه، فتصيبه هذه اللعنة.
والرسول عليه الصلاة والسلام رأى امرأة تلعن ناقتها، فقال: {خذي ما عليها من متاعك واتركي هذه الناقة لا تصحبونا بملعون} فكيف بمن يلعن أطفاله وأهله وقرابته ومواشيه؛ نعوذ بالله من ذلك الخسران ومن هذا الذنب العظيم.(8/19)
الغناء حكمه وعقوباته
ومنها: الغناء وهو منتشر عند كثير من الناس، وأبوا أن يتوبوا منه لأن الهوى غلب على عقولهم، ولو استفاقت من سباتها ومن نومها، وموتها لعرفت طريقها وخافت ربها.
الغناء ذميم، الغناء خمر الأرواح، الأئمة الأربعة أجمعوا على تحريمه، قال ابن تيمية فيما ينقل عنه: " الغناء بريد الزنا " وما داوم عبد على الغناء إلا أصيب بأربع مصائب:
1 - قسوة القلب: فلا يجد للموعظة طعماً ولا مذاقاً ولا حلاوة ولا تأثيراً، قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13].
2 - لا يحب الذكر؛ لأن قلبه امتلأ من الران والخبث.
3 - وحشة بينه وبين الله: فإن أحباب الله يحبون ذكر الله، ويحبون ما يقربهم من الله، ويحبون ذكر رسول الله صلى الله عليه وسنته رسوله بخلاف المغني.
4 - يحرم الغناء في الجنة: وفي الجنة غناء مباح، فيه تلذذ، ونعيم مقيم،
قال ابن مسعود ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان(8/20)
إهمال السنن
ومن الظواهر عند بعض الناس ولو كان فيهم خير من إقامة الفرائض لكن نقصهم في السنة، عدم اعتنائهم بالسنة، وادعاؤهم أن هذه قشور، وأن الإسلام لم يركز عليها، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يهتم بها وليست من أصول الدين، ونحن نقول:
أما قولكم إنها ليست من أصول الدين فقد نوافقكم، وأما قولكم إنها قشور فليس في الدين قشور بل هو لباب كله، وخير كله، ونفع كله، الدين جميل، الذي أتى بلا إله إلا الله أتى بإماطة الأذى عن الطريق، الذي أتى باليوم الآخر أتى بتربية اللحية، الذي أتى بذكر الميزان والصراط والحوض وأركان الإسلام أتى بتحريم إسبال الثوب، فخذ الدين كله، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21]
إن شاء الله إذا خرجت السلسلة التربوية من هديه صلى الله عليه وسلم، التي وعدت بها سوف تجدون شخصية محمد صلى الله عليه وسلم تلاحقكم في كل مكان، فهو إمام لك في الصلاة، وإمام لك في الحج، وإمام لك وأنت على المائدة، وإمام لك وأنت تتوضأ، وإمام لك وأنت نائم على فراشك، وإمام لك في الدكان، وفي المزرعة والمكتب والفصل، شخصية عملاقة وهذه عظمة الإسلام، تأكل اللقمة ومعك هدي، وتتمضمض ومعك هدي، وتخطو الخطوة ومعك هدي، وتخرج من المسجد وتدخل البيت ومعك هدي، هذا هو النور الذي أتى به هو محمد عليه الصلاة والسلام، فحذار حذار من قوم استهانوا بالسنة، وجعلوها قشوراً وخلت مظاهرهم من تطبيق معالم الهدى، فالأشرف لك اتباع محمد عليه الصلاة والسلام.(8/21)
ضياع الوقت
ما أرخص الوقت عند المسلمين! لو أخذ الموظف على مكتبه المصحف كلما خلا، وما أكثر ما يخلو بنفسه أخذ المصحف وقرأ، ليتصل بالواحد الأحد، يجلس بعضهم على المكتب ساعات طويلة لا ينهي معاملة للمسلمين، معاملته من أسابيع، وهي واحدة، وكلما تراص الناس أمامه قال: غداً بعد غد:
كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً وما مواعيده إلا الأباطيل
ويتشاغل بهذا الأمر ويدعي، والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور، كم يخلو في المكتب! لكن ليس عنده مصحف إما يهمهم أو يوسوس أو يتغنى، أو يخرج من مكتبه إن لم يكن عنده أمانة، وكذلك يوجد بين الأساتذة فراغ عند الحصص وفي الفسح، والطلبة كذلك، وصاحب الدكان في دكانه، كثير من الناس ليس عنده إلا مجموعة من (القواطي) والمشروبات ومن المأكولات يفتح من بعد صلاة الصبح، ولا يأتيه الزبائن إلا في الساعة العاشرة، فلو فتح مصحفه وقرأ آيات الله، واستنار بنور الله لأتاه الرزق، رزق القلب ورزق البدن، وأنعم الله عليه في الدارين، وبارك له فيما أعطاه.
وكذلك منتظر الباص، والواقف على الطريق والمزارع؛ عندهم وقت فراغ عظيم، لكن من يحفظ الفراغ؟! قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
المرأة في بيتها تخلو ساعات طويلة، تنتهي من عملها في البيت وتبقى ساعات؛ فوصيتي أن تستمع شريطاً.
حدثنا أحد الدعاة: أن امرأته وهي تعمل في مطبخها سمعت في فترة أسابيع قليلة: ثلاثة وعشرين شريطاً، وفهمت أكثر قضايا الأشرطة، وأصبحت عالمة؛ لأنها حفظت وقتها، فالوقت الوقت:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني(8/22)
جلساء السوء
أحذركم ونفسي من جلساء السوء:
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب
قال تعالى: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]
الخليل هذا إمام صالح، يصلحك في الدنيا والآخرة، إذا دخل عليك في البيت فهو نور، وإذا جلس معك بركة، وإذا حدثك ذكرك بالله، فيقول الله لك وله من المجلس: انصرفوا مغفوراً لكم قد رضيت عنكم وأرضيتموني.
وأما جليس السوء يدخل عليك الظلمة والمحق، إن تكلم تكلم بإثم، وإن قادك قادك لإثم، وإن نظر إليك الناس اتهموك لأنك معه:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
يقول الشافعي رفع الله منزلته:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة
أنت من الصالحين وتحب الصالحين و {المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل} {والمرء يحشر مع من أحب} جالس الأخيار، زر الدعاة، جالس طلبة العلم، أحببهم، ادع لهم عل الله أن يحشرك معهم.
هذه قضايا عل الله أن ينفع بها، والأسئلة كما ترون كثيرة وأنا أريد الإبقاء على ضميمة الدرس؛ ليكون متناسب الأجزاء مترافق الأطراف، ولتكون القضية واحدة.
هنا رسالة مطولة كتبها أحد الأخوة فيها بعض الأمور يقول: هناك ظاهرة طيبة وهي وجود من يدعو إلى شراء الكتب الإسلامية والأشرطة وهذا والحمد لله نعمة نحمد الله عليها إلى آخر ما قال، المهم أنه ينبه إلى أهمية أن يعتني المسلم بإدخال هذا إلى بيته والاهتمام به، وإهدائه إلى المسلمين.
أقول: شكر الله لك وقد أحسنت كل الإحسان، فلا يلزم من الداعية أن يكون متكلماً أو واعظاً أو محاضراً، بل شريط تنقله إلى المسلم قد يهتدي به، فيكون هذا المسلم في ميزان حسناتك، والشريط ما هو إلا بخمسة ريالات، خمسة ريالات تدخلها البيت بهذا الشريط فيصلح به ثلاثين أو أربعين في البيت أو أسرة، أو قبيلة فيكونون في ميزان حسناتك يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
وقد رأينا وسمعنا أن قوماً من أهل الفضل والخير ذهبوا بأموالهم الحلال، فأخذوا أشرطة فوزعوها على الناس فأصلح الله أسراً وقبائل وقرى، فوالله الذي لا إله إلا هو إني أعتقد أن توزيع الشريط الإسلامي في البيوت وفي الأسر والبوادي، وفي القرى أعظم ممن يوزع عليهم الأرز والسكر والطعام؛ لأن هذا حياة القلوب، وتلك حياة الأبدان، وحياة القلوب بالإيمان، وإذا فات الإيمان فالنار، وحياة الأبدان الموت، والموت أمره سهل، وقد ذكر ما يشبه هذا ابن القيم فأسأل الله عز وجل أن يجعل العمل خالصاً لوجهه.
أسأل الله الواحد الأحد الذي جمعنا وإياكم في هذا المكان أن يخلص أعمالنا وأعمالكم لوجهه الكريم، وأن يجعل ما نقول وما نعمل خالصاً لوجهه الكريم لا رياء فيه، ولا سمعة، وأسأله أن يغفر لنا ولكم خطايانا، وأسأله أن يجازي كل من نشر الخير واستطاع بأي وسيلة أن ينشر الدعوة، وأن يوصلها إلى قلوب الناس، وإلى بيوتهم وسياراتهم أن يتوفاه مسلماً مؤمناً مثبتاً على الحق حتى يلقاه، وأن يبيض وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(8/23)
رسالة من تهامة
الزكاة فريضة فرضها الله على المسلمين تخرج من أغنيائهم وترد على فقرائهم، والزكاة تطهر وتزكي النفس والمال، وعاقبة مانع الزكاة في الدنيا وخيمة، وفي هذه المادة دعوةٌ إلى الإنفاق والبذل والتصدق على المسلمين كما أمرنا الله.(9/1)
أحسن كما أحسن الله إليك
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أشهد أن الله حق، وأن الجنة حق، والنار حق، والنبيين حق، وأن محمداً رسول الله حق، أشهد أن الدين خالد، وأن الرسول خاتم، وأن الكفر خاسر.
أيها الناس: يقول الله تبارك وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:75 - 80].
هذا هجوم أدبي على الإقطاعيين في العالم.
هذا غضب ونقمة على الذين كدسوا القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وادخروا الأموال في البنوك، وتركوا فقراء الأمة ينامون على الأرصفة.
هذا غضب من الله للذين لعبوا في أمواله سُبحَانَهُ وَتَعَالى فما أدوا زكاة الأموال، وما اجتنبوا الربا وما تصدقوا.
هذا وعيد صارم من الله ألا يقبل لهم توبة إذا أتوا بهذه الحالة {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة:75] كان بعض الناس فقيراً فأغناه الله الواحد الأحد، كان لا يملك درهما ولا ديناراً، فلما أصبح يملك الملايين لوى عنقه لرب العزة سُبحَانَهُ وَتَعَالى، بطر بالأموال وصد بالأموال عن سبيل الله، ورابى بالأموال، وصارت أمواله مصدر حرب على الإسلام والمسلمين {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة:75] عهد من الله، فآتاهم الله، وأراد سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن يرى هل يصدقوا أم يكذبون.
وأنا أذكر قصة صحيحة عند البخاري يوم أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليجبي الصدقات من الناس، فذهب عمر جابياً للصدقات، فمر على العباس عم الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: هات زكاتك قال: لا، ومر على خالد بن الوليد - أبي سليمان سيف الله المسلول- قال: هات زكاتك قال: لا.
ومر على ابن جميل وقال: هات زكاتك قال: لا، وليس لـ عمر إلا أن ينقل الإجابة كما سمعها للرسول عليه الصلاة والسلام، ووصل عمر وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم قال: أعطاني الناس جميعاً إلا ثلاثة: عمك -هكذا صراحة ووضوح وصدق الإسلام، ليس في دين الله خشخشة ولا مجاملة ولا نفاق- عمك رفض أن يدفع الصدقة وما قال عمر في نفسه: ما دام أنه عم الرسول فنتجاوز عنه، لا.
أول من رفض الصدقة عمك وخالد بن الوليد وابن جميل، فتبسم عليه الصلاة والسلام.
وأتى يخبر بجواب مفصل عن أعذار الثلاثة، قال: {أما عمي فإنها علي ومثلها} يعني زكاة سنتين؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام استعجل، وتعجل منه صدقة عامين، قرضاً وديناً في شئون الإسلام، عليه الصلاة والسلام، ثم قال لـ عمر: {أما تدري يا عمر أن عم الرجل صنو أبيه} كالمازح يقول هو عمي ومع ذلك تعجلت صدقته هذه السنة والسنة المقبلة.
قال عليه الصلاة والسلام: {وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً} خالد مظلوم فـ خالد دفع دمه وعرقه ودموعه وسيوفه ورماحه في سبيل الله، خالد أخذ أمواله جميعاً فشرى بها مائة فرس فحبسها في سبيل الله، وشرى مائة سيف فجعلها في سبيل الله، وشرى مائة درع فجعلها في سبيل الله.
يقولون معن لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذلة
هو البحر من أي النواحي أتيته فدرته المعروف والجود ساحله
فاعتذر لـ خالد وللعباس.
{وأما ابن جميل -وهذا هو الحية الرقطاء- وأما ابن جميل يقول عليه الصلاة والسلام: فما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله} يقول: أيحق لـ ابن جميل أن يفعل بنا هذا، بعد أن كان فقيراً مملقاً أغناه الله؟!
يتنكر للإسلام وللزكاة وللصدقة، أهذا جزاء الإحسان! أهذا رد المعروف! أهذا حفظ اليد البيضاء! هكذا يفعل اللؤم! فرفض ابن جميل ورفض عليه الصلاة والسلام أن يقبل صدقته أبداًَ، فأنزل الله {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة:75] وهو ابن جميل هذا، كان فقيراً في جانب المسجد يأكل من طعام المسجد لا يجد كسرة خبز، فأتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: {يا رسول الله! أريد مالاً، قال: قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه} -قليل تشبع به وتصلي معنا في المسجد وتشكر الله عليه أحسن من الكثير الذي لا تؤدي شكره- {قال: يا رسول الله! ادع الله لي أن يرزقني مالاً، قال صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله لو شئت أن يسير الله لي جبال الدنيا ذهباً وفضة لسيرها لي، ولكني مع ذلك أجوع يوماً وأشبع يوماً، قال: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالاً، قال: فإن رزقك مالاً أتؤدي شكره؟ قال: إي والذي نفسي بيده، فرزقه الله مالاً، فترك صلاة الجماعة ثم تشاغل عن صلاة الجمعة ثم رفض الزكاة}.
وابن جرير وابن أبي حاتم يذكرونها لـ ثعلبة وفي سندها عن ثعلبة نظر، بل هي عن ابن جميل لقصة البخاري ولسند البخاري، أرسل عمر إليه قال: هذه جزية لا أعترف بالصدقة، قال: كنتَ فقيراً فأغناك الله، قال: لا، أنا ورثت المال كابراً عن كابر، قال الله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} [التوبة:77] وهذه قصة ابن جميل تتكرر حتى يرث الله الأرض ومن عليها.(9/2)
أهل تهامة يدعونكم للإنفاق
ونحن يا أيها الناس نعيش مشكلة اجتماعية، واقعاً أعرفه أنا وتعرفه أنت، لأننا من أبناء هذه المنطقة، نعرف الفقراء ونعرف المساكين، بل أعرف منطقة كاملة مشيتها قرية قرية ووادياً وادياً منطقة الساحل وتهامة يعيشون فقراً مدقعاً، ومن يكذب هذا؟! ومن ينكر هذا؟! إن منطقة واسعة وإقليماً يعيش فقراً مدقعاً، والرجل يعيش في عشة لا يجد أحياناً قوت يومه، وبالقرب أغنياء بلغ غناهم السحاب، وهل الإسلام يرضى هذا! وهل محمد صلى الله عليه وسلم إن كان حياً يرضى هذا الوضع! أن تعيش قرى في البادية وقرى في تهامة على التراب، لا تتمتع بأقل ما يتمتع به الإنسان في عصر الحضارة والرقي والتقدم، عصر الكهرباء، عصر الاشعاع، عصر المال والماء، عصر الخبز والفواكه والخضروات والثياب، إنها أمانة يجب عليَّ أن أنقلها لكم وأن تعوها وتسمعوها.
من عنده زكاة فليذهب إلى هذه المناطق لينقذ أهلها، من عنده صدقة، هم يأتون إلى هنا ونحن ذهبنا إلى هناك، ووالله لقد استودعنا منهم شيوخاً وهم يبكون أن نبلغكم الوديعة، وأن نخبركم بالأمانة، نعم.
إن كانت الإغاثة الإسلامية مستعدة لتغطية حاجة هؤلاء دفعنا أموالنا إليها، وإن كانت تقول إنها سوف تدفعها في بلاد أخرى فلا، أموالنا أولى بها أقاربنا وفقراؤنا ومساكيننا، وعند أهل العلم أنه يبدأ أولاً بالمسكين والفقير القريب القريب، فمن يعذر هذه الأمة التي يعيش أغنياؤها ترفاً هائلاً؟ اقرأ المقابلات مع تجار البلاد، الملايين التي تعادل ميزانية كل تاجر منهم ميزانية الدول الأخرى، ومع ذلك هذه المناطق الشاسعة تعيش التراب والفقر المدقع، مسئولية من؟ إنها مسئولية التجار.(9/3)
قاصمتا أهل الساحل
وأصيب هؤلاء المساكين في تهامة الساحل والبادية بخيبتين وقاصمتين: قاصمة فقر العلم والعلماء والدعاة، وقاصمة فقر المال من الأغنياء والتجار، والله يقول عن بني إسرائيل: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:37] فهذا بخل بالعلم وبخل بالمال، وأمامي هنا طلبة علم وأغنياء وتجار، فطلبة العلم أمامهم أمانة من الله أن يذهبوا بعلمهم ليعلموا هؤلاء، والله إن فيهم من لا يحسن قراءة الفاتحة، ومنهم من لا يعرف الغسل من الجنابة، فاجتمع عليهم فقر الدين وفقر الدنيا، وهي مسئوليتنا نحن.
نعم، من عنده زكاة، وعنده صدقة، ومن أراد أن يرفع هذا الفقر، وهذا الضيم عن هذه القرى، وعن هذا الساحل، وعن البادية فليذهب، لينفق أمواله ليجدها عند الله.(9/4)
عاقبة تكديس الأموال
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:34] ويدخل فيهم أهل الشركات وأهل الملايين {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35] ذوقوا هذا كنزكم، هذه ملايينكم، رأيتم الفقراء، ورأيتم الأمة الضائعة، ورأيتم المحتاجين فما رفعتم ضيماً، هذا كنزكم، هذا ما كنتم تكنزون.
يقول عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: {والذي نفسي بيده ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاته إلا إذا كان يوم القيامة صفحت صفائح، فتكوى بالنار، فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله هل إلى جنة أو إلى نار، ووالذي نفسي بيده ما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا إذا كانت يوم القيامة صففت بصفصف قرقر، فبطح هو -صاحب الإبل يبطح- ثم تأتي عليه فتطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها، كلما انتهى أولها ردت على آخرها {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] حتى يقضى بين الناس، والذي نفسي بيده ما من صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطحت له بقاع قرقر، فبطح هو، ثم أتت ليس فيها عطفاء ولا جلحاء ولا عضباء، تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] كلما انتهى أولها ردت على آخرها حتى يقضى بين الناس}.
هذا كلام المعلم، هذا كلام المعصوم عليه الصلاة والسلام، هذا كلام الذي رفع رءوسنا، والذي أتى بهذه الفريضة يطهرنا بها {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] لماذا لا يتطهر الإنسان قبل أن يكون أول ما يحاربه في القبر ماله، وفي الحديث الصحيح: {ما من صاحب كنز إلا جُعِلَ له شجاعٌ أقرع -ثعبان له زبيبتان- يلدغه في القبر ويقول: أنا كنزك أنا مالك} هذا الكنز وهذا المال.
وعند الإمام أحمد: أن الصحابة اختلفوا أي الكنز أحسن؟ أهو الذهب أم هي الفضة أم الإبل أم عروض التجارة؟ فأرسلوا عمر بن الخطاب يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وصل إليه {قال أي الكنز أحسن يا رسول الله؟ قال: من آتاه الله قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً} هذا هو الكنز العظيم الذي يكتنزه المسلم لينفعه في {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].(9/5)
رمضان فرصة سانحة للإنفاق
وإنها فرصة سانحة في رمضان أن تخرجوا صدقاتكم وزكواتكم؛ لأن من ينظر إلى وضع الفقراء وإلى ما يتقدم به الفقراء من مستندات، ثم لا يجد ما يدفع إليهم ويتساءل أين زكاة الناس؟ إلى أين يدفع هؤلاء صدقاتهم وزكواتهم، إذا كانوا صادقين أنهم يدفعون صدقاتهم وزكاتهم؟ فلماذا يبقى هؤلاء القطيع الهائل من الناس فقراء ومحتاجين، ويبقى أحدهم لا يجد ما يفطِّره في رمضان؟ ولا ينكر هذا إلا أحد اثنين:
إما رجل مكابر: أَعْرِضُ عليه هذه المعلومات، التي رأيتها بعيني وعشتها، ويقول: لا.
لا يوجد هذا في المنطقة، فهذا مكابر عنيد.
أو رجل آخر جاهل لا يعرف الوضع، ولم يداخل الناس ولم يدخل العشش، ولم يرَ كيف يعيش الإنسان في القرن الخامس عشر، هذه مسألة أعرضها عليكم، وأسأل الله عز وجل أن يرفع الضر عن المستضرين، وأن يقضي حاجة المحتاجين، وأن يسد رمق الفقراء والمساكين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(9/6)
حِكَمُ الإسلام في الزكاة
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد:
عباد الله: فإن للزكاة في الإسلام حِكَماً لا يعرفها إلا من اطلع على أسرار هذا الدين:(9/7)
أداء الزكاة زكاة للنفس
أولاً: زكاة للنفس، تزكيها من أوضار البخل، والشح، وترفع قدرها عند الله، وقد وصف عليه الصلاة والسلام المتصدق والبخيل برجلين عليهما جبتان من حديد، كلما أنفق المنفق اتسعت الجبة حتى تغطي أثره، وكلما أمسك الممسك ضاقت عليه الجبة حتى تخنقه {ولله عز وجل مناديان في كل صباح -كما في الصحيح- ملكان الأول يقول: اللهم اعط منفقاً خلفاً، والآخر يقول: اللهم اعط ممسكاً تلفا} ومن لا يستفيد من المال في الحياة، فلن يستفيد منه بعد أن يموت، فإما حلال فللورثة، وإما حرام يعذب به حتى يلقى الله ويدخله هذا المال النار، وقد رأينا كثيراً من التجار، وسمعنا أخبارهم أنهم شقوا بمالهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أما في الحياة فبالاستقراء من أخبارهم، تاجر عنده من التجارات الهائلة ما الله به عليم، حضرته الوفاة في منطقة نائية عن منطقته التي فيها قصوره وأمواله وبساتينه ودوره، فلما توفي في المستشفى النائي تصدق عليه الناس بكفن، هذه نتيجة الملايين.
خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطين والكفن
هكذا هي حياة هؤلاء في الدنيا، وأما بعضهم فقد سعد سعادة بهذا المال {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21].
كان ابن هبيرة الوزير تاجر مشهور، يفطر كل يوم في رمضان عشرة آلاف صائم يبني القناطير المقنطرة، يبني المساجد، يبني البرك للحجاج من العراق إلى مكة يشربون ماءً بارداً، وصل إلى منى يقود الحجاج، وفي اليوم الثامن انقطع الماء على الناس، وانتهى الماء، وأصبحوا في أزمة وأشرفوا على الهلاك، فقام هذا الرجل الصالح -وكان من أغنى الأمة الإسلامية في عهد الدولة العباسية- فرفع يديه، قال: اللهم إنك تعلم أني ما أنفقت أموالي إلا ابتغاء مرضاتك، اللهم إن كنت تعلم أني صادق فأغث الحجاج الآن هذه الساعة.
قال الراوي: فوالله لقد نزل الغيث علينا بـ منى وما في السماء قبله سحابة حتى نزل الثلج مع الماء، فأخذ يأكل الثلج ويبكي ويقول: يا ليتني سألت الله المغفرة، هذا صنف من صنف أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان الذين دفعوا أموالهم وأعطوها سخية أنفسهم، نعم هناك من يحتاج بناء مساجد، وهناك مقاطعات ليس فيها مسجد واحد، هناك قوم يحتاجون إلى برك لإيصال الماء النقي الصحي إليهم لا الماء الملوث الذي يحمل البلهارسيا والموت والسم الزعاف، هناك أناس يحتاجون لبناء بيوت تكنهم من المطر وتظلهم من الشمس، هناك أناس يريدون الحاجة الضرورية، يريدون الخبز -هذا من حوائجهم الضرورية- والأرز والسكر، لا يريدون الكماليات، هناك أناس يريدون اللباس، يتعيد الناس في الألبسة الجديدة والثياب الفاخرة، والواحد منهم يبقى سنة في الثوب الواحد.(9/8)
الزكاة إنقاذ للنفس يوم القيامة
فأنقذوا هؤلاء، وقدموا لأنفسكم ما تجدونه عند الله، يقول عليه الصلاة والسلام {إذا تصدق العبد من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا طيباً- فإن الله يتقبله بيمينه، ثم يربيه لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه، حتى إن اللقمة لتبلغ كـ جبل أحد} هذا عند الله {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] ويقول تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261] وسوف تكون هناك بعض المسائل في الزكاة وزكاة الحلي وزكاة الفطر وزكاة العروض وزكاة الحبوب والثمار والأنعام والنقدين مجالها في الدروس التي تلقى هنا قبل صلاة العشاء من كل ليلة، لأن المجال لا يتسع للبسط، نسأل الله أن يحفظنا وإياكم من كل مكروه.
خاتمة: أيها الناس: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: {أكثروا من الصلاة علي والسلام ليلة الجمعة ويوم الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي قالوا: كيف تعرض عليك صلاتنا يا رسول الله! وقد أرمت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء} اللهم صلِّ وسلم عليه، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يارب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين ووحد بين صفوفهم، وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم ولِّ علينا من يخافك ويرجو لقاءك ويحب دينك، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجمع كلمة المسلمين ووحد صفوفهم وأخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم اعتق رقابنا من النار، اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا عيباً إلا سترته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا عدواً إلا خذلته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(9/9)
رسالة
هذه الرسالة تحتوي على عدة قضايا، يحتاج إليها الفرد والمجتمع، وهي سبب السعادة في الدنيا والآخرة، وهي: الصلاة والمحافظة عليها، وبر الوالدين والتحذير من عقوقهما، والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى من الذنوب والمعاصي، وتربية الأبناء والمحافظة على حقوقهم والقيام بها كما في الشريعة الإسلامية، وسل السخيمة من القلوب، وحب المسلمين والتودد إليهم والتآلف معهم، إلى غيرها من الرسائل والمسائل.(10/1)
قضايا في الحياة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثل ما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بمحمد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت، في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك، أنت رب الطيبين، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
اللهم صلّ وسلم على من أرسلته هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة الأبرار الأخيار: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته وبعد:
فإن أعظم ما أوصي به نفسي وإياكم هذه الليلة تقوى الله عز وجل؛ فإنها وصية الله للأولين والآخرين، كما قال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] ونتكلم فيما يأتي عن بعض القضايا في الحياة والمجتمع.(10/2)
السعادة الحقيقة وأسبابها
أيها المسلمون! يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:101 - 103].
من هم الذين سبقت لهم من الله عز وجل الحسنى؟
هم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، هم الذين أخلصهم الله بخالصة ذكرى الدار، هم الذين كتب الله لهم السعادة في الدنيا والآخرة - نسأل الله أن نكون منهم- لأن المرء إما سعيد رضي الله عنه، وإما شقي غضب الله عليه.
الناس إما رجل جعله الله من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة، من يوم أن وقع رأسه في الأرض
ولدتك أمك يا بن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
وهذه الحياة ليست للأكل ولا للشرب، ولا للرفث، ولا للهو، والله الذي لا إله إلا هو لقد وجد أناس يصلون ويصومون ويحجون ويعتمرون ويزكون ويذكرون الله، ولا يعرفون معنى الحياة، يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58] ويقول سبحانه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
ولقد وجد بين أطراف المسلمين من يعتني بدنياه، وبملبسه ومطعمه وسيارته، وبوظيفته أكثر من الإسلام.
بل وجد هنا من يعرف كل شيء في الدنيا، فإذا سألته عن صلاته وحجه وعمرته لا يعرف شيئاً! فلماذا خلقه الله؟
ولماذا أوجده الله إذا لم يعرف هذا الشيء؟!
فالذين سبقت لهم من الله الحسنى هم الذين سعدوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وأسباب السعادة:
أن تعتقد أن لا إله إلا الله، ولا معبود بحق إلا الله، وأكبر كلمة أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي (لا إله إلا الله) بها قامت السماوات والأرض، وصلح عليها أمر الدنيا والآخرة، وبها رضي الله عن المؤمنين، وعلى لا إله إلا الله دمَّرت الدنيا خمس مرات، وبلا إله إلا الله أنزل الله الكتب، وأرسل الله الرسل، وأقام الله سوق الجنة والنار، وعليها مدَّ الصراط، وبنى الحوض.
فيا أيها المسلم! يا من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً عليه أفضل الصلاة والسلام أسألك أن تحيا بلا إله إلا الله، وتموت على لا إله إلا الله؛ علَّ الله أن يبعثك على لا إله إلا الله.(10/3)
الصلاة وأهميتها
كثير من الناس يعتقد أن صلاته ليست بذاك الأمر الكبير العظيم في حياته، يصلي في المزرعة، ويصلي في الطريق، ويصلي في البيت، وليس عليه ألا يدرك الصلاة في أي جماعة، ولا في أي مسجد!
الصلاة -يا عباد الله- أول ما يسأل عنها العبد، الصلاة يا عباد الله! يترك الإنسان في القبر (الحفرة الضيقة) يأتيه الملكان فيسألانه عن الصلاة.
الصلاة -يا عباد الله- عليها قامت شعائر الإسلام.
الصلاة -يا عباد الله- الركن الأهم الذي إذا حافظ عليه تمم الله للعبد أموره، وإذا نقص خذل الله العبد، من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيَّعها وأخل بها ضيَّع دينه.
تارك الصلاة لا يؤاكل، ولا يشارب، ولا يرافق، ولا يصاحب، ولا يؤتمن، ولا يصدق، ولا تقبل شهادته.
تارك الصلاة حلال الدم والعرض والمال.
تارك الصلاة مغضوب عليه في السماء والأرض.
تارك الصلاة تشتكي منه العجماوات: الحوت والأسماك، الطيور والزواحف، كلها تشكو وتجأر إلى الله من تارك الصلاة، تقول: مَنعنا الرزق بسببك، مُنعنا الرحمة بذنبك، منعنا القطر من السماء بجريمتك.
تارك الصلاة حبله مقطوع من ذمة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الحديث القدسي: {أبي تغترون، أم علي تجترئون، فبي حلفت لأنزلن فتنة تجعل الحليم حيراناً} وورد عنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه قال: {والله لولا شيوخ ركع، وأطفال رضع، وبهائم رتع، لخسفت بكم الأرض خسفاً}.
تجد المسلم صحيحاً معافى قوياً شاباً غنياً يسمع: (الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر) ثم لا يأتي إلى المسجد، حينها يعلن عليه حاله أنه منافق معلوم النفاق.
ومن النفاق العملي: أن تسمع الأذان، ثم لا تأتي المسجد، ولذلك يقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [[كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف، وما يتخلف عن الصلاة إلا رجل معلوم النفاق]] فهذه من المسائل الكبرى يا عباد الله.
ومن أعظم ما تخاذل فيه المسلمون هذه الأيام، وهذه السنوات صلاة الفجر:
الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فالله الله لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من طلبه من ذمته بشيء أدركه، ومن أدركه أهلكه}.(10/4)
بر الوالدين
جعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حق الوالدين الأب والأم مع حقه لعظم حقهما في الإسلام يقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24].
ويقول عليه الصلاة والسلام: {كان في من كان قبلكم ثلاثة نفر ذهبوا في الصحراء، فدخلوا في مغارة، فلما دخلوا انطبقت عليه صخرة} فأصبحوا في مقام موحش مقفر، لا أنيس فيه ولا قريب، ولا سامع إلا الله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض {فقال بعضهم لبعض: لا ينجيكم إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم} بعد أن دخلوا في الغار وانطبقت عليهم الصخرة، وأظلم عليهم الليل، وابتعدوا من الأهل والجيرة، والأصحاب والقرابة، فأتى أولهم يدعو بصالح عمله والله - عز وجل - لا يحفظ العبد المسلم إلا بصالح عمله، نقول: ما لأبنائنا يفسدون؟! ومالهم يضيعون؟ وما لأجسامنا لا تصح؟ وما لدورنا لا تعمر؟! ونحن الذين نخرب دورنا بأنفسنا وبأيدينا.
هل من المعقول أن أبناءنا ينامون ويصحون على الأغاني الماجنات؟! ملأنا آذانهم بالأغاني الماجنات -إلا من رحم الله- ثم نقول: فسد أبناؤنا!
يقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} [التحريم:6].
ففي أمور الدنيا نحزم على أبنائنا فيها، ونشد عليهم، ونحاسبهم حساباً عظيماً شديداً، لكن أمور الدين نقول: الله الهادي، ويذهب أحدنا إلى المسجد ويقول لأبنائه- بصوت ضعيف- مع صلاة الفجر: صلوا هداكم الله، فإذا أتى وهم نائمون قال: اللهم إني أديت ما عليَّ، ووالله ما أدى ما عليه، ولو أداه لأيقظهم بالقوة.
{رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] كما لا نرضى أن يضيعوا أموالنا في أمور الدنيا، فلماذا نرضى في حق الله عز وجل؟
فنحن السبب، فلذلك من لا يصلح نفسه ويصلح بيته، لن يهديه الله سواء السبيل يقول الله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5].
دخل الثلاثة الغار، قال أولهم: {اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق عليهما أهلاً ولا مالاً - أي: لا أقدم عليهما من أبنائي أحداً في العشاء، ولا في الشرب، ولا في الخدمة- وإنه قد نأى بي طلب الشجر يوماً من الأيام، فلم آتيهما إلا بعد أن ناما فحلبت في الإناء، ثم أتيت به لأقدمه لهما، فبقيت عندهما لم أو قظهما حتى طلع الفجر وأبنائي يتضاغون عند رجلي يريدون اللبن، فلم أسقِ أبنائي، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج}.
وأتى الثاني فقال: {اللهم إنك تعلم أنه كان لي ابنة عم} هؤلاء هم الذين حفظوا الله في الغيب، بعض الناس ناسك زاهد عابد أمام الناس، لكنه إذا خلا بمحارم الله انتهكها.
وفي سنن ابن ماجة يقول صلى الله عليه وسلم: {ليأتين أقوام من أمتي يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة يجعلها الله عز وجل هباءً منثوراً، قالوا: يا رسول الله أليسوا مسلمين؟ قال: بلى، يصلون كما تصلون، ويصومون كما تصومون، ولهم صلاة بالليل، لكن كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها} فهذا الثاني يقول: {اللهم إنه كان لي ابنة عم، وكانت أحب الناس إلي، فراودتها عن نفسها فأبت حتى أتتها سنة قحط وفقر ومسكنة، ثم أتيت بمائة وعشرين ديناراً فطاوعتني، فلما جلست عندها قالت: اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانكففت عنها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً قليلاً غير أنهم لا يستطيعون الخروج}.
وأتى الثالث وقال: {اللهم إنك تعلم أنه كان لي أجراء أعطيت كل واحد منهم أجره إلا واحداً ذهب مغاضباً فلم يأخذ أجره، فنميت أجره وثمرته حتى عاد فأصبح عنده من الرقيق، والإبل، والغنم، والبقر الشيء الكثير فلما أتى قال: أعطني حقي قلت: هذا حقك.
قال: اتق الله ولا تستهزئ بي، قلت: هذا حقك، قال: فأخذه ولم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون}.
وهذا يدل على فضل بر الوالدين، ويوم يسعد الوالدان بولدهما حينها يرضى الله من فوق سبع سماوات، فوالله لا يدخل الجنة قاطع رحم.
{لما خلق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الرحم تعلقت بالعرش وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة يا رب! قال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك، قالت: بلى.
قال: فذلك لك، فأنزلها الله في الأرض، فمن وصلها وصله، ومن قطعها، قطعه}.(10/5)
التوبة وفضلها
إذا أذنبت وأخطأت وأجرمت، وأسرفت على نفسك، ثم تفكرت في لقاء الله، وفي القبر المظلم، والعرض الأكبر على الله عز وجل يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ الله
المقصود: أن الذنوب والخطايا لا يسلم منها أحد، ولا يغفر الذنوب إلا الله ولا يستر العيوب إلا هو، ولا يسامح عن الزلل إلا الله، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136] قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] فإذا أذنبنا فررنا إلى الله، قال الله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] فما منا إلا مذنب، وما منا إلا عاصي، وما منا إلا مسرف على نفسه.
ويا أيها الإخوة الكرام! واجبنا تجاه الذنوب والخطايا أن نتوب إلى علام الغيوب، وأن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، وأن نتزين للعرض الأكبر على الله عز وجل قبل أن نعرض عليه فلا تخفى عليه منا خافية، ولذلك طالبنا صلى الله عليه وسلم بالتوبة.
يروى عنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الحديث القدسي أنه قال: {يا بن آدم إنك ما دعوتي ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لغفرتها لك، يا بن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة}.
فما هو الواجب تجاه ذنوبنا وخطايانا؟ الواجب أن نستغفر الله وأن نتوب إليه، وقدوتنا عليه الصلاة والسلام يقول: {يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة} وفي لفظ: {مائة مرة}.
فيا إخوتي في الله! كثرة ذنوبنا وخطايانا، وما جف القطر، وفسدت كثير من البيوت، وقست القلوب، وتشتت الأسر، وتفرقت الجماعات والقبائل، إلا بسبب الذنوب والخطايا.
الجار لا يسالم جاره، تحدث حرب شعواء بين الجيران وصلت إلى المحاكم، ووصلت إلى القاصي والداني بسبب عدم رقابتنا لله عز وجل، وبسبب قسوة قلوبنا، والجار في الإسلام حقه عظيم، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يوصي به.
يقول أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه: {خرجت مع أهلي أريد النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا به قائم، وإذا رجلٌ مقبلٌ عليه، فظننت أن له حاجة، فجلست، فوالله لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعلت أرثي له من طول القيام، ثم قمت إليه، فقلت: يا رسول الله! لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام.
قال: أتدري من هذا؟ قلت: لا.
قال: جبريل، مازال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه، أما إنك لو سلمت عليه لردَّ عليك السلام} رواه أحمد بإسناد جيد.
وأتى جار فقال: {يا رسول الله! أشكو إليك جاري.
قال: ماذا فعل؟ قال: آذاني، وسبني، وشتمني، وما حفظني، ولا رعاني، إن غبت خفت على أهلي منه، قال: اصبر له واحتسب} فذهب فصبر، ولكن ذاك الجار ما اتقى الله، وما خشي من الله، فاشتكى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مرة ثانية، قال: {خذ متاعك وقف في الطريق، فأخذ متاعه، ومر الناس عليه مصبحين وممسين فقالوا: مالك؟ قال: أخرجني جاري إلى هذا الطريق، قالوا: عليه لعنة الله.
فيصبح الرجل، فيقول: مالك؟ قال: أخرجني جاري، قال: عليه لعنة الله، ويمسي الممسي فيقول: مالك؟ قال: أخرجني جاري، قال: عليه لعنة الله، فعاد هذا الجار بعد أن قال له جاره: عد، والله لا أوذيك بعدها أبداً}.
ولذلك أكثر ما هضمت حقوق الجيران؛ لما قست القلوب، ونسيت حقوق المسلم على لمسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام علمنا حقوق المسلم؛ نظر إلى الكعبة عليه الصلاة والسلام وقال: {ما أجلك وما أعظمك وما أشد حرمتك عند الله عز وجل! والذي نفسي بيده للمؤمن أشد حرمة منك} المؤمن أشد حرمة من الكعبة عند الله - عز وجل - وأقدس، ويقول عليه الصلاة والسلام: {والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه} هذه قضية الجيران، وحقوق المسلمين تتداخل بعضها في بعض.(10/6)
حق الولد على والده
ومن القضايا الكبرى التي عشناها، ورأيناها: إهمال تربية الأبناء، وكما أسلفنا ذكر قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] تربية الأبناء أهملت إلا في بيوت من رحم الله، وكثير من الآباء يقف حجر عثرة في وجه أبنائه لئلا يهتدوا أو يستقيموا، لا يريد أن يكونوا -على زعمه- مطاوعة متزمتين متطرفين؛ يريد إسلاماً أمريكياً؛ لأن هذا الإسلام يلزمك أن تصلي وفي المثل:" مع الخيل يا شقراء" فلسان حاله: لا نريد إسلاماً متعمقاً يأتي بهذه السنن، نريد إسلاماً نعيش به كالناس، فليعلم هؤلاء أن الله عز وجل لا يرتضي إلا إسلاماً صافياً على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
أتى اليهود يتعاطفون عند الرسول عليه الصلاة والسلام فقالوا: يا رسول الله! إنا نحب الله لكن ما نتبعك، فكذب الله مقالتهم، وقال لهم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
وسبب فساد الأبناء: التربية في البيوت، ولذلك وجد في بيوت المسلمين من داخلتهم الأفلام الخليعة، والأغاني الماجنة، والمجلات السافلة الرخيصة؛ حتى ربت أذهانهم على بغض الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والتنكر للمساجد.
يأتي بالابن إلى المسجد، فلا يريد الانقياد للمسجد، يسمع داعي الله فلا يأتي، يسمع الدروس والندوات والمحاضرات والمراكز والمخيمات فلا يشارك؛ لأنه رُبي على أن هذا الشيء ليس جيداً ولا محموداً ولا طيباً، وأن فيه تزمتاً وتطرفاً.
وكلمة (التَّزمت) ونحوها أتت إلينا بها الصهيونية العالمية.
ووزعتها على إعلام العرب، وعلى إعلام العالم، تناقلوها وأصبحوا يسمون الدعاة وطلبة الاستقامة، والشباب الذين يريدون الله والدار الآخرة، والمتمسكين بالسنة (متزمتين ومطاوعة) ليصنعوا فصاماً بين الناس، بين المسلمين وبين أبنائهم، وهذا فيه خطورة عظيمة.(10/7)
حقوق الولد على والده من الجماع إلى التسمية
وأول الواجبات على الوالد لولده قد جعلها الإسلام منذ أن يلتقي الرجل بالمرأة، يقول عليه الصلاة والسلام: {من أتى أهله فليقل: اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإن قضى الله بينهما ولداً لم يضره الشيطان أبداً}.
نحن في الإسلام تعلمنا ذكر الله بالدعاء، فلدخول المسجد والخروج منه دعاء، وللقيام وللجلوس دعاء، ولأكل الطعام وللقيام منه دعاء، ولدخول الخلاء وللخروج منه دعاء، وللصباح دعاء وللمساء دعاء، كل شيء بذكر، أمة مسيرة من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ويوم يضع الطفل رأسه في الأرض من بطن أمه أمر في الإسلام أن يؤذن في أذنه اليمنى ويقام في اليسرى؛ لينشأ على لا إله إلا الله؛ ليحب داعي الله، لتغرس في قلبه كلمة لا إله إلا الله، ليكون من أولياء الله.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:24 - 25].
يؤذن في إذنه أول مرة حتى يسمع داعي الله، ولا ينشأ كأبناء الخواجة لا يعرفون مبدأً ولا ديناً, ولا منهجاً.
ويوم يشبُّ، أو يترعرع قليلاً في سبعة أيام، أو أكثر أمرنا بالعقيقة، ليدرأ الله عنه السوء، وهي تفضل لله وشكر له على نعمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، عن الذكر شاتان وعن البنت شاة واحدة.
يقول عليه الصلاة والسلام: {كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابع، ويسمى}.
وأمر الأب أن يحسن اسم ابنه، فيسميه اسماً جميلاً، لأننا ندعى يوم القيامة بأسمائنا وأسماء آبائنا، نسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذلك اليوم، نسأل الله أن يصرف عنا وعنكم بأس ذلك اليوم، وضره وأخذه.
إن الفشل والانهزام والعار والدمار والشنار يوم ننهزم ذاك اليوم {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52] وذاك يوم العرض الأكبر على الله، يوم الفضائح، فهذا آخذٌ كتابه بيمينه، وذاك آخذٌ كتابه بيساره، وباك نادم، وضاحك مسرور، يوم ينادى كل امرئ باسمه واسم أبيه:
إن الله يدعوك لتذهب إلى الصراط لتجتازه، إن الله يدعوك إلى المحاسبة، إلى الميزان، تعال خذ كتابك واشهد حسابك.
وخير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن وما عُبد لله عز وجل ولو أن حديث: {خير الأسماء ما حمد وعبد} لا يصح لكن يصح: {خير الأسماء عبد الله، وعبد الرحمن} عبد السلام، عبد الفتاح، عبد الوهاب، لينشأ الابن وهو يستشعر العبودية لله عز وجل، وكذلك محمد وأحمد وهذه الأسماء الطيبة، أما الأسماء التي لا معاني لها صنهاج، عبيدان، أفكال، شراد، أو أسماء الخواجات، واحد سمى ابنه سيسو، والنو، وفيشار، وجورج هذه وجدت، وأنا سمعت بعض الخطباء والمفكرين نقلوا بعض المنشورات من أسماء بعض البقع الإسلامية وجد فيها ذلك، وهذا أثر الاستعمار والجهل، فينشأ معجباً بهذه الأسماء -نسأل الله العافية والسلامة- ولا يفعل ذلك إلا من في قلبه نفاق عملي، أما الذي يريد الله والدار الآخرة فلا يفعل ذلك.(10/8)
تربية الولد وتأديبه
تؤدبه على تقوى الله، أول ما يفتق لسانه تقول: قل لا إله إلا الله، الله أكبر، سبحان الله، لا يفتق لسانه على الأغاني الماجنة، واللعن والإعراض عن منهج الله، والسب والبذاءة، ولذلك تعرف البيت من ابنه، إذا كان في الشارع فهو صورة للبيت، لا يمر به أحد من الناس -إن كان سيئاً- إلا قال له: لعنك الله، ليس عنده إلا سب وتبجح، وهذا من سوء التربية في البيت، وأنا أظن أن بيوتكم ليس فيها شيء من هذا، وأنها بيوت إسلامية إن شاء الله.(10/9)
تعليم الأولاد الصلاة
ومن حقوق الابن: أنه إذا بلغ السابعة من عمره أن تأمره بالصلاة، وأن تعرفه طريق المسجد، وأن تقوده معك إلى بيت الله عز وجل ليرى المصلين، من عباد الله وأوليائه، ليسمع القرآن حين يقرأ في بيوت الله عز وجل، فينشأ على طاعة الله عز وجل.
{مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع} ففي السبع تبدأ له بالأمر بالتي هي أحسن: يا بني صل هداك الله، أتريد أن تصلي معي؟ لكن إذا بلغ العشر وتخلف فالعصا لمن عصا، يقرع بالعصا مع كل فريضة، لأنه لو أخذ شيئاً من أموالنا أو سبنا، أو شتمنا لاستعملنا العصا وأمر الله أقدم، وأعظم، وأكبر.(10/10)
التفريق بين الأولاد في المضاجع
ويفرق بينه وبين إخوانه من الذكور والإناث؛ الذكور لا ينامون في فراش واحد بعد العاشرة مع الذكور، والذكور لا ينامون مع أخواتهم من الإناث بعد العاشرة، والإناث لا تنام مع الإناث؛ لأن مضرة نوم الذكر مع الأنثى ولو كانت أخته في الليل واردة ومعلومة أعوذ بالله منها، والذكر مع الذكر والأنثى مع الأنثى كذلك يفرق بينهم في المضاجع، ولا بأس أن يناموا في غرفة، أو في حجرة واحدة بشرط أن يكون بين الفراشين مسافة، وهذا تعليم محمد عليه الصلاة والسلام.(10/11)
نشأة الولد على العبادة لله لا للدرهم والدينار
ثم حين ينشأ تعلمه أن هدفه عبادة الله عز وجل، لا تجعله عبداً للدرهم والدينار كما ينشأ أبناء الأمريكان الرأسماليين، فتعلقه بالمال صباحاً ومساء، تعلمه كيف يجمع الريال، وكيف يقتصد في صرفه، وكيف يتوظف وكيف يبني، فينشأ رأسمالياً كأنه من اليهود، واليهود يعبدون الدرهم والدينار من دون الله، كلامهم وفعالهم وحياتهم ومماتهم الدينار.
ولذلك ينشأ بعض الشباب لا يجيد الفقه في الدين؛ لا الصلاة ولا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا التعاليم ولا اليوم الآخر، إنما ينشأ على حب الدرهم والدينار، وهذا يوجد في كثير من الأفلام التي أنتجتها الصهيونية العالمية للناس، حتى أفلام الكرتون تعلم الناس حب الدرهم والدينار تجد بيده فلساً، أو أفرنكاً، أو دولاراً، وهو يطارد أحد الناس ويمسكه بيده ويحاسبه ويضرب على الماسة أنه قد حصل على دولار، فينشأ الأطفال يحبون هذا المال، نحن لا نقول حب المال حرام، لكن نخشى أن يبلغ به حبه إلى أن يعبده من دون الله!
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23].
الرسول عليه الصلاة والسلام علمنا ألا نعبد الدرهم ولا الدينار، يقول: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش}.
وابن الجوزي يقول: بعض الناس ربوا أطفالهم على حب المال حتى نشأ من الناس من استولى المال على كيانه.
تصدقون أن أحد الأغنياء من البخلاء الذين بلغ بخلهم الحد الخطير في التاريخ ماذا فعل بماله؟ يقول ابن الجوزي لما حضرته الوفاة جمع ذهبه وجعله في جنيهات، ثم جعله في طوبة -بلكة من طين- ثم ردم ما عليه وجعله عند رأسه، فلما أتته سكرات الموت قال: ادفنوا هذه الطوبة معي، قالوا: لماذا؟، قال: أريدها أتبرك بها، فأرادوا دفنها معه، ولما أتوا يغسلونه أتى الماء على الطين فظهر الذهب، انظر يدخل بالذهب إلى القبر!
وقال: بلغ ببعض الناس يوم رُبيّ على عبادة الدرهم والدينار أنه لما حضرته سكرات الموت أخذ يبتلع الجنيهات في فمه ويدخلها بطنه لتموت وتدخل معه في القبر، وهذه هي من خطورة تربية الأبناء على حب المال، وعلى عبادة المال من دون الله عز وجل.
ومما يؤمر به العبد المسلم في تربية أبنائه: أن يعظم في البيت اسم الله واسم الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يذكر إلا في المواطن الرفيعة، يرى المصحف ويقربه من ابنه يقول: قبل هذا، ويضعه على رأسه، ويضع المصحف ويقول: هذا كلام الله، هذا أنزله الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ذكر الرسول قال: صلى الله عليه وسلم علمنا الهداية ونشر لنا الخير، وقادنا إلى سبل السلام.
هذه التربية لا بد منها للأبناء.(10/12)
الوالد قدوة صالحة لولده
ومما يجب للأبناء: أن تربيهم تربية عملية، نحن أصبحنا أمة كلام، نتكلم على المنابر ونخالف - نسأل الله العافية- لكن التربية الحقة، أن إذا أتيت أمام ابنك لتأكل قلت: بسم الله، يراك تسمي فيسمي، وتحمد الله، فيحمده.
تقول: يا بني لا تكذب، فلا تكذب أنت، لأنك قدوة له حتى لو استطاع أن يقلد رموش عينك وومضات لسانك لفعل، وهذه مرحلة التقليد التي لا تفوت، وهي تربية الأطفال وتعليمهم كتاب الله عز وجل.
ثم مما يجب على المسلم تجاه ابنه: أن يربيه على أشرف الخصال، فيجنبه اللعن، فلا يلعن أبداً -وليس المؤمن باللعان ولا الطعان- وإذا رأيت الابن يلعن فاعلم أن في قلبه شكاً وشبهة، وأنه ما تربى تربية إسلامية، وتحرف عنه السب والشتم، وهذا أحسن ما كتب فيه تحفة المودود في أحكام المولود لـ ابن القيم رحمه الله رحمةً واسعةً.(10/13)
نزع الغل من الصدور
ومن القضايا المهمة في حياتنا -يا عباد الله- قضية: سل السخيمة من القلوب، الضغينة والحقد والحسد، وهذا الذي شتت القرى، وفرق القبائل، ودخل بين الأسر حتى عادى الابن أباه، والأخ أخاه، وتهاجر الجيران وتقاطعوا، والله أمرهم أن يصطلحوا وأن يترافقوا ويتراحموا، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].
تعالوا إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لنأخذ بعض النماذج منها، ومن سيرة أصحابه:
الرسول عليه الصلاة والسلام علم الناس الألفة والمحبة، يأتيه ضيف في ليلة دامسة فيطرق بابه، فلا يجد عليه الصلاة والسلام ما يقدم له من خبز ولا تمر ولا فاكهة، فيقول: من يضيف ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله الجنة.
فيأخذه أحد الأنصار فيذهب به إلى بيته فيقول لامرأته: هل عندك شيء، قالت: لا والله، إلا شيء قليل من حب الشعير لا يكفينا.
قال: اطحنيه
انظر إلى حياة المشقة آنذاك ثم ما أصبحنا فيه من نعم متكاثرة متواترة لا نحصي عدها، ولا نستطيع شكرها إلا أن يعيننا الله على ذلك، أصبحت الموائد تترك وترمى في القمامات للكلاب والقطط، أصبح الناس يصابون بالتخمة والأمراض الباطنية، وكثير من الأمراض الجسمية أصبحت لكثرة الأكل والشرب!
قال: فإذا قدمت العشاء أمام الضيف فتظاهري بإصلاح السراج، ثم أطفئيه ليأكل الضيف في الظلام ولا نأكل ويظن أننا أكلنا معه.
فلما قدمت العشاء للضيف، قامت إلى السراج لتصلحه فأطفأته، فصاروا في الظلام، وأتى صاحب البيت يرفع ويظهر أنه يأكل، وهو لا يأكل شيئاً حتى أكل هذا الضيف وأمسى شبعان ريان.
وفي الصباح استدعاهم صلى الله عليه وسلم وقال: لقد عجب الله من فوق سبع سماوات من صنيعكما البارحة بضيفكم، وكان جزاؤهم الجنة.
قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].
ورد أنه في القرون المفضلة قد: أصابهم قحط وجوع لا يعلمه إلا الله، فأهدي إلى رجل من الأنصار رأس كبش ليطبخه، فقال: أنأكله وجيراننا ليس عندهم شيء، فأرسله إلى الجيران، فأرسله الجيران إلى الجيران، والجيران إلى الجيران حتى عاد إلى الرجل الأول الذي أرسله، وما ذاك إلا لقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].
عمر رضي الله عنه وأرضاه في عام الرمادة، عام القحط والجوع والجدب قال: والله لا آكل سمناً حتى يكشف الله الضراء عن المسلمين، وكان بطنه يقرقر من كثرة الجوع فيقول: [[قرقري أو لا تقرقري، والله لا أشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]] وهذا من الإيثار الذي افتقدناه في مجتمعاتنا.
أحد علماء الإسلام وزهاده ابن المبارك كان له جار يهودي جاوره سنة، ثم أسلم بعد السنة، قالوا للجار: لماذا أسلمت؟ قال: وكيف لا أسلم وعبد الله بن المبارك ما شرى لحماً إلا بدأ بأهلي، وما كسا أبناءه إلا كسا أبنائي قبلهم، ولا اشترى فاكهة إلا أهدى لنا قبل بيته.
عباد الله! هذه قضايا أحببت عرضها هذه الليلة، ولا أريد الإطالة فإن كثرة الكلام كما قال عمر رضي الله عنه: [[ينسي آخره أوله]] وهناك وقت للأسئلة وللحوار، وربما ترجون قضايا، وأسأل الذي جمعنا هذه الليلة على غير ميعاد إلا ميعاد الحب فيه سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن يجمعنا في مستقر رحمته في روضة من رياض الجنة، نسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن يغدق على قلوبنا وقلوبكم برد اليقين، وأن يرينا سبل السلام، وأن يهدينا طريق الجنة.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح بيوتنا وأبناءنا وزوجاتنا وإخواننا وجيراننا، اللهم أصلحنا ظاهراً وباطناً، اللهم تغمدنا برحمتك، اللهم وفقنا لكل خير واهدنا سبل السلام.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وإن كان من شكر فإني أشكر الله- سُبحَانَهُ وَتَعَالى- شكراً جزيلاً، ثم أشكر من كان سبباً في هذه الجلسة الطيبة الخيرة، ونسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(10/14)
الأسئلة(10/15)
التخلف عن مجالس الذكر بحجة معرفة الدين
السؤال
ما حكم عدم حضور مجالس الذكر، بحجة أنه يعرف الدين مع قصور علمه؟
الجواب
الآن كثرت دعاوي الناس، إذا أتيت تعلمه الصلاة قال: الحمد والشكر لله علمنا الله عز وجل وانتشر العلم، ولا نحتاج إلى تعليم دائماً، لدينا القرآن والحديث والذكر، ويكفى ما عندنا من العمل.
ولذلك تجد أجهل الناس بالله عز وجل أكثرهم دعاوى، وأقرب الناس من الله أخوفهم له، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] فأقرب الناس من الله وأكثرهم فقهاً في الدين أكثرهم خشية لله -عز وجل- ووجد في علماء الإسلام من اتقوا الله عز وجل وكثرت فيه الخشية حتى كان سفيان الثوري كما ذكر عنه أهل العلم: يقوم من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1] ويبكي حتى الصباح.
ابن وهب -عالم مصر - ألف كتاب اسمه كتاب أهوال القيامة فقالوا له: اقرأ علينا الكتاب، قال: والله ما أستطيع أن أقرأ الكتاب، لكن مروا ابني يقرأ الكتاب، فقام أحد أبنائه يقرأ الكتاب، فغشي على عبد الله بن وهب هذا حتى مات، يقول الذهبي في مجلده الثامن: مات في اليوم الرابع.
علي بن الفضيل بن عياض أحد الصالحين الكبار، شاب في العشرين من عمره قام يصلي وراء أبيه، وكان أبوه إمام الحرم المكي، فقرأ أبوه سورة الصافات حتى بلغ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:24 - 26] فوقع مغشياً عليه وتوفي.
ذكر ذلك ابن تيمية في الفتاوى وفي الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه مرض من هذه الآية {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24] شهراً كاملاً حتى عادوه.
يقول الإمام أحمد في كتاب الزهد: دخل أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه في مزرعة رجل من الأنصار فرأى طائراً يطير من شجرة إلى شجرة فبكى، قالوا: ما لك تبكي يا خليفة رسول الله؟! قال: [[طوبى لهذا الطائر يرد الماء ويرعى الشجر، ثم يموت لا حساب ولا عذاب وهو يبكي، يا ليتني كنت طائراً يا ليت أمي لم تلدني]].
فلا إله إلا الله ماذا فعلنا نحن؟ وماذا قدمنا لمولانا؟ ويا كثرة معاصينا وخطايانا! لكن نحن برحمة أرحم الراحمين.
فهؤلاء العلماء لما أحسوا بقربهم من الله عز وجل رزقهم الله الإنابة والخوف منه.
عمر رضي الله عنه وأرضاه اتخذ الدمع في خديه خطين أسودين من كثرة ما يبكي، وهو خليفة المسلمين، كان لا يرى منظراً إلا بكى، وكان يقوم يوم الجمعة يتكلم على المنبر فيقطع صوته البكاء فيبكي معه المسجد.
عمر بن عبد العزيز الشاب الزاهد قام يتكلم على المنبر فبكى، ثم قال: أتدرون مالي؟ قال: والله ما أعرف أحداً عنده من الذنوب والخطايا كالذي عندي، ثم قال: يا موت ماذا فعلت بالأحبة؟ ثم قال: أتدرون ماذا يقول الموت؟ قالوا: لا، قال: يقول ذرفت بالعينين، وفصلت الحدقتين، وفصلت الكفين عن الساعدين، والساعدين عن العضدين.
فبعض الناس يقول: أنا لا أحضر مجالس الذكر بحجة أن عنده علماً وأنه مستغنٍ عن هذا، وهذا من الجهل بالله.
يقول الشافعي: من اعتقد أنه عالم فقد جُهل، وإذا رأيت الإنسان عنده دعاوى وغرور فاعلم أنه من أجهل الناس.
سبحان الله! علماء الإسلام يبلغ أحدهم كالمحيط من كثرة العلم، ويذهب ثلاثة أيام في طلب الحديث.
سافر جابر بن عبد الله مسيرة شهر يطلب حديثاً واحداً كما في صحيح البخاري:
موسى عليه السلام وقف يخطب في بني إسرائيل قال له بنوا إسرائيل: أتعرف في الأرض أعلم منك، قال: ما أعرف أعلم مني - هذا الحديث في صحيح البخاري - وهو نبي ورسول ولا يعرف في الدنيا أعلم منه.
لكن لامه الله عز وجل يوم ادعى العلم فأوحى الله إليه" يا موسى! عبدنا الخضر بمجمع البحرين أعلم منك"، قال: كيف ألقاه يا رب! قال:" خذ مكتلاً -زنبيلاً- واجعل فيه سمكاً وخذ غلامك وسافر، فإذا تحرك الحوت ونزل من المكتل فسوف تلقى الخضر، فأخذ المكتل وفيه السمك الميت وذهب مسافراً، ولما اقترب من الخضر أحيا الله الحوت بإذنه، وسبحان من يحيي العظام وهي رميم! سبحان من يوجد الحياة في الميت!
فلما رأى الحوت أخذه عجباً وسرباً فرأى الخضر، فتابعه على ما هو موجود في القصة.
ليطلب موسى عليه السلام العلم.
وبالمناسبة هناك قصة عجيبة: مر أحد بني إسرائيل الصالحين بقرية فإذا هي ميتة، كان قد رآها قبل فترة وفيها الحدائق الغناء والطيور، والزهور، والأشجار والأنهار والناس، ثم مر عليها وقد مات كل من فيها، وتهدمت المنازل وأصبحت تطفى عرصتها، فقال: أنى يحيي الله هذه بعد موتها؟!
سبحان الله! يقول: كيف يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله وأمات حماره - حماره كان عليه شيء من طعام وشراب- فلما أماته الله مكث ميتاً مائة سنة، فأحياه الله بعد مائة سنة، وقال له الله: كم لبثت؟ قال: يوماً أو بعض يوم.
ويقول أهل العلم: لما مات مات في الصباح وبعد مائة سنة أحياه الله في العصر، فنظر إلى الشمس وقال: لقد تأخرت عن غرضي وسفري.
فقال له الله عز وجل: أين حمارك؟ فالتفت فما رأى إلا العظام قد انهدت وترممت، والتفت فرأى المتاع الذي يوضع على الحمار فرأى فيها الطعام والشراب لم يتسنه فعجب، يعني ما تغير من الطعام والشراب شيء فعجب.
وقال: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} [البقرة:259] فركب الله له عظام الحمار حتى استقامت، ثم المفاصل حتى أصبح متشابكاً، ثم الأعصاب، ثم أجرى الدم في الشرايين، ثم ركب اللحم، ثم الجلد، ثم هز الحمار رأسه وتحرك، فانذهل الرجل.
قال: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} [البقرة:259] أي: سوف نقص خبرك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير.
وإبراهيم عليه السلام أستاذ التوحيد ومعلمه، وأكبر عقدي في الدنيا عليه السلام، رأى حماراً ميتاً على شاطئ البحر، يأتي النسر يأكل منه والحدأة تأكل منه، والصقر يأكل منه، قال: يا سبحان الله! تذهب هذه الجثة في بطون الطيور، فيكف يبعثها الله يوم القيامة؟!
قال إبراهيم: ربي أرني كيف تحيي الموتى.
قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] ليس الخبر كالمعاينة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة:260] فأخذ الأربعة الطيور فضمها، ثم مزقها بلحمها وريشها وعظامها ودمها، ثم خلطها، ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً} [البقرة:260] فجعل كل قسم على جبل ثم نزل في الوادي، قال: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً} [البقرة:260] فقال: أقبلي بإذن الله، فأحياها الله، وكانت رءوس الطيور بيده ولحومها وعظامها وجلدها وريشها على تلك الجبال فأقبل كل طائر يدخل في رأسه مركب، ثم أخذت تتحرك، قال تعالى: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260].
المقصود: هؤلاء طلبوا العلم بالمشاهدة، وطلبوه بالنقلة، وما قالوا: تعلمنا واكتفينا والحمد لله، لأن بعض الناس تدعوه إلى محاضرة فيقول: الحمد لله؛ الناس تعلموا وما جهلنا، فنور على الدرب موجود، والمشايخ يتحدثون والحمد لله بيسر وسهولة، لكن علم الدنيا برع فيه أكثرنا، يسوق السيارة بجدارة وربما يهندسها، وإذا بنشرت أصلحها، ولا يرضى بكل شيء إلا أن يكون على أحسن ما يرام، لكن أمور الدين خلاف ذلك.(10/16)
حكم الخلوة بالأجنبية
السؤال
ما حكم الخلوة بالأجنبية؟ وما هي سبل الشيطان التي تؤدي إلى الفاحشة؟
الجواب
الخلوة بالأجنبية لا تجوز إلا لحاجة ماسة، وفي هذه الحالة أظن ما هي إلا حالة واحدة حالة المرأة إذا أصبحت في مرض صعب وخطير، وأتاه الطبيب فذاك الوقت يحق للطبيب للمصلحة وهي في هذه الحال أن يخلو بها دون حضور محرم والأولى حضور المحرم، لكن إذا رأى الطبيب المسلم أنه لا يحتاج حضور المحرم فله ذلك، أما الخلوة بالأجنبية فلا تجوز، يقول عليه الصلاة والسلام: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما، ولا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة -وفي رواية ثلاثة أيام- إلا بمحرم}.
وأما سبل الشيطان للفاحشة فمنها: الغناء الماجن، وهو أخطر ما يحدث الفاحشة في القلوب، وما وقع الشباب المسلم في الفاحشة إلا بسبب استماع الغناء.
يقول ابن القيم: الغناء بريد الزنا، يحبب إلى الشاب العشق والوله والغزل والهيام، ويخرج حب الله وحب رسول صلى الله عليه وسلم وحب الآخرة من قلبه، ثم يقع في الفاحشة.
ومن مصائب الغناء أمور منها:
أن من استمع الغناء في الدنيا حرمه الله سماع غناء الجنة الذي تنشده الحور العين كما يقول ابن القيم، لأن الله - عز وجل - يجعل الحور العين يوم القيامة في الجنة ينشدن كما في مسند أحمد يقلن: نحن الناعمات فلا نبأس، نحن الخالدات فلا نبيد، طوبى لمن كنا له وكان لنا، نسأل الله ألا يحرمنا منهن، وأن يجعلنا من سكان الجنة.
قال ابن القيم:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ إنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
ومما يعين على ارتكاب الفاحشة: رؤية الأفلام الخليعة الماجنة، رؤية الذين لا يخافون الله ولا يرجون لقاءه، ومما يعين على الفاحشة ونعوذ بالله من ذلك: استصحاب المجلة الخليعة، وقلة الذكر، وقلة مراقبة الله تبارك وتعالى.(10/17)
السبيل إلى النجاة من عذاب القبر
السؤال
عذاب القبر شيء عظيم، فما السبيل إلى النجاة منه؟
الجواب
السبيل إلى النجاة من عذاب القبر:
إصلاح الصلاة ظاهراً وباطناً، فهي المنجية والكفيلة بإذن الله بالنجاة في الدنيا والآخرة.
ومنها: أن تجعل زاداً للقبر، فلا ينفع في القبر إلا العمل الصالح من صدقة وصيام وحج وعمرة وذكر.
والقبر فاذكره وما وراءه فمنه ما لأحد براءه
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
هذا أمر لا بد أن يعلم.(10/18)
لعن المسلم والعقوبة المترتبة على ذلك
السؤال
ما حكم من لعن والد أخيه المسلم، وما الحكم عليه , وما ينطبق عليه من عقوبات من الله تعالى؟
الجواب
الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {لا يسب أحدكم والديه، قالوا: كيف يسب الرجل والديه يا رسول الله؟! قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه} واللعن حرام {ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء { h=7001049>> واللعانون لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة} واللاعن مطرود من رحمة الله، وقد تقع لعنته على نفسه، وهذا جزاء من الله، أما إن استحقها الملعون فبها وتقع عليه، وإن لم يستحقها ارتفعت إلى السماء فأوصدت أمامها أبواب السماء، ثم عادت كالثوب الخلق، الثوب الأسود المنتن فلفت، ثم ضرب بها وجه صاحبها حتى يلقى الله فلا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب عظيم، فاللعنة من الكبائر نعوذ بالله من ذلك، ولا يلعن إلا من قل إيمانه ويقينه.
والرسول صلى الله عليه وسلم سمع امرأة تلعن ناقتها، قال: {اتركيها، لا تصحبنا دابة ملعونة} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فنسأل الله العافية، هذا عليه أن يتوب ويستغفر ويراجع حسابه مع الله، وإن لعن مسلماً فعليه أن يذهب إلى ذاك المسلم ويطلب منه العفو والصفح، قبل أن يؤخذ منه يوم لا يكون درهم ولا دينار.(10/19)
حكم الحجاب الإسلامي
السؤال
ما هو حكم الإسلام في الحجاب الإسلامي؟
الجواب
الحجاب الإسلامي واجب من الواجبات التي أمر الله بها النساء المسلمات وأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، والحجاب في الإسلام: هو أن تغطي المرأة كل شيء فيها إلا ما ظهر منها -كالثياب- فتغطي وجهها وكفيها إلا في الصلاة إذا لم يكن أجانب وتكون في مكان خارج بيتها تكشف عن وجهها وكفيها، أما إذا كانت في مثل الحرم، أو في مجمع عام فلها أن تغطي حتى وجهها وكفيها ولو كانت في الصلاة، كالحج مثلاً والعمرة والطواف والسعي، وإذا رأت الأجانب عليها أن تسدل جلبابها وحجابها على وجهها، ويوم ترخَّص الناس في الحجاب عمت الفاحشة، وذهب الأدب، وذهبت الحكمة.
وبعض الناس يعارض بعاداته الحجاب الإسلامي، ويقولون: نساؤنا نشأن على حب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وحب رسوله، وليس في قلوبنا سواد ولا خبث والحمد لله، وقلوبنا وقلوب نسائنا طاهرة.
فنقول: هل قلوب نسائكم أطهر من قلوب نساء المصطفى صلى الله عليه وسلم؟
لا، والله, ولكنها - كما يقول ابن القيم - معارضة الشرائع بالعادات قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] وحين يفعل الإنسان ذلك يرميه الله بالنفاق.(10/20)
ظاهرة الغيبة والنميمة
السؤال
ما حكم الغيبة والنميمة، علماً بأننا نعاني منها في مجتمعاتنا بعد الالتزام بالحجاب فما نصيحتكم نحو الغيبة والنميمة؟
الجواب
أنصح نفسي وإياكم بالتوبة من الغيبة والنميمة، والعلم بأنهما من الكبائر، فالغيبة: هتك لأعراض المسلمين بلا داعي، فإن كانت فيهم فقد اغتبناهم وإن لم تكن فيهم فقد بهتناهم، والرسول صلى الله عليه وسلم كان معه رجلان في سفر فقال: {انزلا إلى جيفة هذا الحمار فكلا منها، قالا: غفر الله لك يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده ما أكلتما من لحم أخيكما المسلم شرٌ مما تأكلان من هذه الجيفة} نعوذ بالله من ذلك.
والنميمة: وشاية بين الناس ولا يفعلها إلا من قل إيمانه ويقينه، وذهبت مروءته وشهامته.(10/21)
حكم الصيام تطوعاً بدون سحور
السؤال
من نوى الصوم تطوعاً، ثم لم يستيقظ إلا بعد أذان الفجر، ثم نوى الصيام، فهل صومه مقبول مع العلم أنه لم يتسحر؟
الجواب
صومه إن شاء الله مقبول، ولا يلزم في صومك تطوعاً نية من الليل، بل لو عقدت النية من قبل الظهر لجاز ذلك، ولا يلزم أن يتسحر إذا قام ولم يتسحر، فصومه صحيح، والدليل على ذلك الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: {ربما دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل عندكم من طعام، فإن قلنا لا، قال: فإني صائمٌ إذاً} وهو وسط النهار.
وأما الفريضة فلا بد أن تبيت نيتها من الليل لحديث حفصة الذي رواه الخمسة: {من لم يبيت النية من الليل، فلا صيام له}.(10/22)
كفارة اليمين
السؤال
هل من يحلف يميناً وهو مكره عليه كفارة؟ كأن يحلف رجل على الآخر أن يتناول عنده طعام الغداء، ثم يحلف الآخر ألا يتناول الغداء عنده؟
الجواب
هذه الصورة التي ذكرت فيها كفارة، كأن يدعوك أحد إلى طعام فتحلف ألا تذهب، ثم يحلف أن تذهب إليه، فأنت بالخيار أنت وإياه، إما أن تذهب وتكفر، وإما أن يتركك ويكفر هو، فلابد من الكفارة لأحد المتحالفين، والكفارة إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو صيام ثلاثة أيام، فإن لم يستطع فعتق رقبة كما بين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد انتشر في الناس كثرة اليمين -نعوذ بالله من كثرة الحلف بلا إيمان وبلا يقين- ولا يكثر الحلف إلا ممن قل إيمانه ويقينه، ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم:10] والحلاف هو: الذي يكثر اليمين سواءً صادقاً، أو كاذباً.
قال الشافعي: والله ما حلفت بالله صادقاً ولا كاذباً، قالوا: لكثرة خشيته لله عز وجل.(10/23)
حكم بيع المسجد
السؤال
قرية صغيرة يوجد بها مسجدان مسجد قديم لا يُصلى فيه بعد أن أقيم في القرب منه مسجد حديث، فهل يمكن أن يباع القديم وتوضع قيمته في المسجد الجديد لخدمته ونظافته؟
الجواب
إذا تعطل المسجد القديم وأصبح لا يصلي فيه أحد من الناس، ولا يستفاد منه -وهذا تدخل في مسألة وقاعدة نقل الوقف إلى أصلح منه- فيباع مكان هذا المسجد، وما في هذا المسجد وينقل بشرط أن ينقل المال أو ما يستفاد منه إلى المسجد الجديد ولا بأس بذلك، وهذا نقل الوقف من مكان إلى مكان لمصلحة المسلمين، لا لشرط أخذ الأرض، لأن بعض الناس إذا أعجبته أرض المسجد أتى يتحيل عليها من كل جهة، ويقول: يا أيها الناس! نريد نقل المسجد إلى مكان أوسع عسى الله أن يرحمنا، وليس في قلبه رحمة بل مقصوده أرض المسجد، فيأتي بهذا الكلام، ولا يفعل هذا إلا من قل إيمانه ويقينه، وهذا ليس موجوداً إن شاء الله عندنا ولا في أوساطنا.(10/24)
بعض الأمور التي تساعد على الحفظ
السؤال
يقول: أنا شاب أرغب في حفظ القرآن الكريم، وأجد همة للحفظ، ولكن ما تلبث أن تنطفئ هذه الهمة، فأترك القراءة إلى ثلاثة أو أربعة أيام وهكذا، فما هو الحل؟
الجواب
أكثر شباب الإسلام مشاريعهم في حفظ كتاب الله عز وجل وفي القراءة تسويف، تأتي العطلة الصيفية قالوا: إن شاء الله بعد العطلة لأنها فترة نقاهة واستجمام وراحة، فإذا بدأت الدراسة رتبنا أمورنا، فإذا أتت الدراسة قالوا: لا، في العطلة.
يقول: من زرع بذرة سوف أنتجت له شجرة لعلَّ فيها أغصان ليت لها زهر، وطلع اسمها الخيبة والندامة نعوذ بالله من ذلك.
ولذلك لام الله المشركين، وقال: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3] لأنهم استخدموا (سوف) كثيراً، ومن أراد منا أن يحفظ القرآن، فعليه بأمور:
أولها: تقوى الله عز وجل {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].
وثانيها: كثرة الاستغفار والتوبة.
وثالثها: أن يقلل من المحفوظ، لا يحفظ كثيراً ويكفيه أن يحفظ خمس آيات ويكررها كثيراً.
رابعها: أن يقرأ بما حفظ في النوافل والصلوات.
وخامسها: أن يقرأ تفسير ما حفظ من مثل: تفسير ابن كثير، لأن معرفة معاني القرآن تنفع بإذن الله في حفظه.(10/25)
ظاهرة تكرار الوقوع في المعاصي
السؤال
أنا عبد ضعيف السيطرة على نفسي عند التعرض للمعاصي، وبعد الانتهاء كأني أفيق من غفوة، فأتوب وأستغفر وأتحسر على فعلها، علماً أني أحاول التمسك بديني وأحب الصالحين، فما تنصحني؟
الجواب
أنصحك ونفسي بتجديد التوبة، وبالعزيمة الصادقة على عدم العودة، وبالندم على ما فعلت، وأما قضية أن الإنسان يستغفر هذا استغفار الكذابين.
قيل لأحد الناس: رجل يزاول المعصية ويستغفر، قال: استغفار الكذابين، وكذلك يشرب الخمر فكلما أخذ منه قدراً قال: أستغفر الله، أو يسرق ويوم يسحب الكبش من الحوش يقول: أستغفر الله وأتوب إليه، أي استغفار هذا؟! يخادعون الله وهو خادعهم.
قال الجنيد: من زاول المعصية وهو يستغفر، فقد ضحك على نفسه، إي والله، فما علينا إلا أن نتوب ونستغفر الله عز وجل ونندم على ما فعلنا.
ومن الحلول: أن ندرأ بالحسنات السيئات قال تعالى: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد:22] {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] فأنا أوصيك ونفسي بأمور حتى تقف قوياً أمام المعاصي:
أولاً: الدعاء في أدبار الصلوات، وآخر الليل، وفي السجود، تدعو الله أن يصرف قلبك عن المعاصي، وأن يهديك سواء السبيل، وأن يثبتك حتى تلقاه، وإن كان لك أم فاسألها أن تدعو لك.
أتى رجل مقعد يحمل على المحثة -كالدراجة- ولا يستطيع المشي إلا بهما، فقال للإمام أحمد: يا أبا عبد الله! ادع لي، قال: هل لك أم؟ قال: نعم، قال: أخبر العجوز أن تدعو لك، فذهب هذا الرجل قال: أخبرني الإمام أحمد وأوصاني أن تدعي لي، فقالت: اللهم أطلق قيده، فقام يمشي في لحظة، هذا في سيرة الإمام أحمد موجود، فمن كان له أم، أو أب فعليه أن يدعو له ليصرف قلبه الله عن المعاصي، وأن يثبته على الطاعة.
ثانياً: أن تكثر من الاستغفار دائماً وأبداً.
ثالثاً: أن تتصدق بشيء من المال.
رابعاً: أن تقرأ كتاب الله بتدبر، وأن تزور القبور وتتذكر لقاء الله.(10/26)
حكم خروج الدم في الصلاة
السؤال
ما حكم من خرج دمه في الصلاة وهو في التشهد الأخير؟
الجواب
من خرج دمه في الصلاة فالصحيح أن يتم صلاته ولو أن في بعض المذاهب أنه يقطع صلاته ويخرج منها ويعيد الصلاة، لكن الصحيح: لا، لأن الأدلة دلت على أنه من خرج منه دم في الصلاة فليستمر وصلاته صحيحيه، ثم بعدها يتوضأ.
والدليل أن عمر رضي الله عنه طعن وهو في الصلاة فأتم صلاته وهو مطعون، ويقول البخاري: وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصلون في جراحاتهم، قال: وأخذ ابن عمر بثرة من جسمه، فخرج الدم وصلى ولم يعد الصلاة، إلى غير ذلك من الأدلة.(10/27)
الالتفات والضحك في الصلاة لغير حاجة
السؤال
ما حكم من تهاون في الصلاة بالالتفات والضحك؟
الجواب
من التفت في الصلاة لا لحاجة، وإنما للاستهزاء والاستهتار بالصلاة فهو كافر أي: أن من استهزأ بشيء من أمر الله ومن شرع الله، فقد كفر، قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] فهذا كفر بواح وما له إلا أن يتوب ويراجع دينه، ومن استهزأ بشيء من القرآن، أو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا هو الكفر، وأما الالتفات للحاجة فهو جائز على وجه الندور، مثل: أن ينظر لمحاً إلى قبلته أو لحاجة، أو ينظر إلى الإمام بشرط أن يكون في الصف الأول، أما من التفت فيعد سقف المسجد، أو ينظر إلى المصلين عن يمينه ويتفقد الجيران، أن ينظر خلفه، فقد أبطل صلاته.
والرسول صلى الله عليه وسلم أحدث بعض الحركات لكن لحاجة الصلاة، ونهى صلى الله عليه وسلم عن كثرة الحركات، ومما يفهم من الحديث أنها تبطل الصلاة بكثرة الحركات.(10/28)
السلام على من يقرأ القرآن
السؤال
ما حكم السلام على من يقرأ القرآن؟ وهل يرد من يقرأ القرآن على كل من سلم في المسجد؟
الجواب
السلام على من يقرأ القرآن سنة، وبعض الناس يقولون: لا يسلم على من يقرأ القرآن وليس هناك دليل على أنه لا يسلم على من يقرأ القرآن؟ بل ورد أن كثيراً من الصحابة كانوا يسلمون على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فما بالكم إذا كان يقرأ القرآن بغير صلاة.
وقيل: يتوقف القارئ ويقول وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وإن كان عنده جماعة في المسجد وهو يقرأ وهم لا يقرءون فإن ردوا فقد كفوه، لكن لو رد كان أفضل الأجر وأحسن مآلاً في السنة.(10/29)
النهي عن حلق اللحية
السؤال
ما حكم من يحلق لحيته؟
الجواب
حلق اللحية حرام، ودين الله ليس فيه مداهنة ولا مجاملة ولا محاباة، هذا أمر أنزله الله من فوق سبع سماوات , والرسول عليه الصلاة والسلام ذكر أكثر من عشرة أحاديث، وهو يقول: {خالفوا المجوس} {قصوا الشوارب وأعفوا اللحى} {أرخوا اللحى} {وفروا اللحى} كلها ألفاظ خمسة -كما يقول النووي في شرح صحيح مسلم -: اعفوا واتركوا وأسدلوا وأرخوا كلها للحى، وحفوا وجزوا وقصوا كلها للشوارب.
والرسول عليه الصلاة والسلام أتاه رسولا باذان العجمي من اليمن، وقد حلقا لحاهما، فقال صلى الله عليه وسلم: من أمركما بهذا؟، قالا: أمرنا ربنا - يعني ملكهم - قال: {إن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(10/30)
حكم إسبال الثياب وتطويل الشعر
السؤال
ما حكم تطويل الشعر وإسبال الثياب؟
الجواب
تطويل الشعر فيه تفصيل:
إن كان يطول شعره للتمسك بالسنة فهو حسن، وبشرط أن يربي لحيته؛ لأن بعض الناس الآن يطول شعره على أكتافه -جدائل- ولحيته يحلقها على الصفر من الأذن إلى الأذن، فإذا قلت مالك؟ قال: أتبع السنة، فتح الله عليك ما أحسن هذه السنة! اللحية لا سنة فيها، وشعر الرأس فيه سنة، {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام:138] لا، وجد من الناس من قال هذا الكلام.
إن ربى شعر رأسه مع لحيته فهو مأجور باتباع السنة، والرسول صلى الله عليه وسلم ربما ضرب شعر رأسه إلى شحمة أذنيه، وربما وصل إلى كتفيه أحياناً، وهذه جمة ولمة، وتسمى وفرة في بعض الأحاديث.
وأما إسبال الثياب فهو من الخيلاء وهو حرام، ولا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء، وبعض الناس يقول: أنا لا أجره خيلاء، نقول: هذه العلة سواء أتت أم لم تأت فحرام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: {ما أسفل من الكعبين فهو في النار}.
يسامح العبد حتى يصل ثوبه، أو بشته، أو أي لباس له إلى الكعبين، وأما ما زاد فهو حرام في النار.(10/31)
حكم وضوء من في يديه أو رجليه حناء
السؤال
ما حكم من يخضب يديه ورجله بالحناء من جهة الوضوء؟
الجواب
خضاب اليدين والرجلين للرجال حرام لا يجوز إلا لحاجة، والحاجة قالوا: مرض لايداويه إلا الحناء، وهذا يسمى التشبه بالنساء، ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود رجلاً مخضوب اليدين فعزره وأخرجه على غدير الخضمات ناحية في المدينة، فلا يجوز الخضاب -بارك الله فيكم- للرجال، وما اشتهر في بعض النواحي من خضب اليدين والرجلين للرجال هذا خطأ، ومخالفة للشريعة، وهو مسنون في حق المرأة، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل أن يختضب ونهى المرأة أن تبقى بلا خضاب، أتت هند بنت عتبة - أحدى المسلمات- تبايع الرسول عليه الصلاة والسلام فمدت يدها، قال: ما هذه اليد التي كأنها يد سبع، ثم قال: {إني أكره أن تكون المرأة سلتاء مرهاء}.
قال أهل العلم: السلتاء التي لا تختضب، والمرهاء التي لا تكتحل، فعلى المسلم أن يأمر أهله بالخضاب والاختضاب إلا التي حدت على زوجها، وهناك رسالة اسمها الاقتضاب في حكم الخضاب ذكر هذا الحديث كلام بعض أهل العلم في هذه الرسالة.
وبالمناسبة كثير من الناس اشتهر عندهم أن يخضبوا لحاهم بالخضاب الأسود وهو منهي عنه إلا لذي سلطان، وقد رخص له كثير من السلف ليكون أرهب لعدو المسلمين، أما غيره فلا يجوز أن يختضب بالخضاب الأسود، ولو جوز بعض أهل العلم، فالحديث الصحيح ينص على عدم الخضاب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لوالد أبي بكر: {غيروا شيب هذا وجنبوه السواد} فالمقصود: أنه يغير شيب اللحية بشيء من الألوان كالقتم وكالحناء وكالورس، أما الأسود فلا يغير به، قال أهل العلم: لأن السبب في هذا هو خديعة الناس، فيظهر للناس -من تدليسه- وهو في الثمانين كأنه في الثلاثين، وقد جاءت الشريعة برفع الحيل، لأن فيه دجلاً عليهم.(10/32)
حد الزنا لغير المحصن
السؤال
رجل وقع على امرأة وهو غير محصن فما عقوبته؟
الجواب
إذا كان بكراً فجلد مائة وتغريب سنة، ولكن عليه أن يتوب ويستغفر الله عز وجل ويتقي الله ويتذكر موعد الله، ولا يقدم نفسه للسلطان، يستتر بستر الله ولا يقدم نفسه للقضاء، ولا للسلطان، وليبق في بيته وليبكِ على خطيئته علَّ الله أن يتوب عليه إذا تاب وأقلع وندم على ما فات، وتصدق وعمل الصالحات، قبل أن يفضحه الله على رءوس الخلائق، فإن في النار- نسأل الله العافية - أفراناً للزناة يتضاغون فيها من الهم والغم والحميم.(10/33)
المسلم الملتزم وطاعة الوالدين
السؤال
ما رأيك فيمن هداه الله إلى الالتزام بأحكام الإسلام، ولكنه يسب والديه؟
الجواب
هذا من الفسقة إذا سب والديه كما يقول السائل: إنه يسب والديه ويلعنهما ويعصيهما، فهو من الفسقة لكنه لا زال في دائرة الإسلام، وترد شهادته بعصيانه لوالديه وبلعنه وسبه لهما، وعليه أن يتوب ويستغفر الله عز وجل، وما هناك طريق لنا إلا التوبة كما تكرر كثيراً في الكلمة.(10/34)
ظاهرة الوسوسة في الصلاة
السؤال
إني أرى نفسي كلما دخلت في صلاة أتتني تفسيرات ووساوس ولا أرى لذلك حلاً، فما هو الحل؟
الجواب
الحل، أولاً: أن تدعو الله عز وجل في أدبار الصلوات والأوقات الفاضلة أن يصلح الله قلبك وحالك.
ثانياً: أن تفرغ ذهنك من الوساوس.
ثالثاً: أن تتدبر ما تقرأ في الصلاة.
رابعاً: إذا زاد الوسواس عليك أن تنفث عن يسارك، وهذا دل عليه حديث في صحيح مسلم عن عثمان بن أبي العاص أنه شكا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كثرة الوسواس في الصلاة، قال: {إذا أحسسته فانفث عن يسارك ثلاثاً وتعوذ بالله من الشيطان} والنفث: هواء مع رذاذ قليل من البصاق، إذا كان الوسواس أذهب عليه الصلاة لا يدري هل صلى ثلاثاً أم أربعاً، هل قرأ أم لا، هل ذكر سورة، هل سبح، فإذا بلغ إلى هذه الدرجة فعليه أن ينفث ثلاث مرات لهذا الحديث، وهذه حلول الوسواس.(10/35)
حكم المشعوذين والكهان
ما حكم المشعوذين والكهنة، وما حكم تصديقهم؟
الجواب
المشعوذ والكاهن والساحر كفار بالله العظيم، وهم يجتمعون على أن بعضهم يدعي علم الغيب، وأنه ينفع ويضر من دون الله عز وجل.
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الصحيح: {من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد} وقال: {من أتى كاهناً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً} وهؤلاء الكهنة لا يجوز الذهاب إليهم، ومن ذهب إليهم وصدقهم بما يقولون فقد أبطل دينه وخرج من ربقة الإسلام، فإن لم يصدقهم رد الله عليه صلاة أربعين يوماً لا يقبلها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(10/36)
خطر هجران المساجد
السؤال
بني مسجدان في قرية واحدة، والمسجد الأول قرأت قاعدة مكتوبة فيه يقول فيها الأولون: ما دام الغراب أسود فلن يحرفوا هذا المسجد من مكانه، فما رأيك في ذلك؟
الجواب
إن كان المسجد الآخر يأخذ الجماعة فيصلون فيه ويكفي عن المسجد الأول وهو أقرب إليهم وأصلح، فكلام الأولين لا يحرم ولا يحلل، وإن هجر المسجد القديم وأصبح الناس في غنية عنه بحيث لا يصلي فيه أحد فيباع ويستفاد من أرضه بأخذ أثاث لتوسعة المسجد الجديد، ودورات المياه، والطريق، وهذا من نقل الأوقاف من مكان إلى مكان، وأما هذه الكتابة (ما دام الغراب أسود وكذا) فلا تنفع ولا تضر، وليست عهداً وميثاقاً حضره أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي فهذا إذا أجمع الناس أنه الأصح، أما إذا كان هناك جماعة، وهنا جماعة، فلا يجوز أن يهجر المسجد ولا أن يعطل، وإذا بقي فيه كبار السن ورأوا أنه أقرب إليهم فيبقى بحاله، لا يغير منه شيء، ويبقى بخدماته، وأنا قلت في كلامي: إذا لم يكن هناك تفرقة ولا شقق لعصا الجماعة، ولا يحدث بغضاء وضرراً، أما إذا أحدث بغضاء أو ضرراً فالأصح أن يجتمعوا في مسجد واحد، وإذا كان بالتي هي فأحسن الاجتماع في مسجد هو الأولى والأحسن، وأما التفرقة فلا تجوز في الإسلام.
هذا وفي الختام أشكركم، وأصلي وأسلم على الرسول الهادي صلى الله عليه وسلم.(10/37)
رسالة إلى الموظف المسلم
إن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الكون، وجعله مراتب وطبقات ليتخذ بعضهم بعضاً سِخرياً، يخدم بعضهم بعضاً، وينفع بعضهم بعضاً، لكن جعل الله الأمانة والمراقبة في كتابه وعلى لسان نبيه عليه الصلاة والسلام، وذلك باسترعاء الناس، وإعطاء كل ذي حق حقه، دون ميل أو مجاملة، وجعل الله العدل أساس كل شيء في جميع المعاملات.(11/1)
عظم الأمانة ومراقبة الله لدى الموظف
الحمد لله، الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً.
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله وسلم عليه كلما تضوَّع مسكٌ وفاح، وكلما غرَّد حمام وصاح، وكلما شدا بلبلٌ وناح، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.
إذا قيل أنتم قد علمتم فما الذي عملتم وكلٌّ في الكتاب مرتبُ؟
وماذا كسبتم في شبابٍ وصحةٍِ وفي عُمُر أنفاسُكم فيه تُكتبُ؟
فيا ليت شعري ما أقول وما الذي أجيب به إذْ ذاك والأمر أصعبُ؟
خطبتي هذا اليوم: إلى الموظف المسلم.
أيها الموظف المسلم: إن الله استرعاك على رعية، واستأمنك على أمانة، وحمَّلك مسئولية، يقول جل ذكره: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] وكل ما كلفنا الله به من عمل فهو أمانة، الموظف مؤتمن، والمدرس مؤتمن، والتاجر مؤتمن، والعالم مؤتمن، والقاضي مؤتمن: {كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته}.
أيها الموظف المسلم! إنك تختلف عن الموظف الكافر تماماً، إن الموظف الكافر يعمل من أجل الدنيا، ويراقب الناس، ويخاف الناس، لا يراقب إلا هذه الحياة الدنيا، أما أنت يا مؤمن! فإن رقيبك الله، وحارسك الله، يقول تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] ويقول سبحانه: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93] قال بعض المفسرين: عن لا إله إلا الله، وقال غيرهم: عن الإيمان، وقال ثالث: عن كل ما استرعاك الله عليه.
وهو الصحيح.
يا أيها الموظف! فوالذي نفسي بيده ليسألنك الله الأحد في يوم تشيب فيه النواصي عن وظيفتك وعن عملك، يقول سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] إذا كانت الذرة الحقيرة تُسأل عنها عند الله! فما بالك بقوم ضيعوا الله في أعمالهم، ونسوا الله في وظائفهم، خرجوا من الدوائر في غير طاعة، ولم يصيبوا في أعمالهم، وحبسوا المؤمنين والمسلمين بأموالهم، يقول سبحانه: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:30] قال أهل العلم: تجد النفس ما قدمت من خير وما قدمت من سوء.
فماذا تقول لربك أيها الموظف المسلم إذا نَشَر لك الصحُف؟! وعَرض عليك الصحائف، ورأيت معاملتك السوداء، وخروجك من دوامك، وتأخيرك للمسلمين، وتنغيصك لحياتهم.
ماذا تقول لله تبارك وتعالى؟! ولذلك جعل الله عزَّ وجلَّ من نفسه رقيباً على العبد، يقول سبحانه وتعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيبُ
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليك يغيبُ
إذا أخفيت عن المسئول، أو عن الأمير، أو عن الوزير، فما أخفيت عن عين الله.(11/2)
نماذج في مراقبة الله عز وجل
مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه -ورفع الله منزلة عمر، وجمعنا الله في الجنة بـ عمر - مر براعٍ يرعى غنماً، فقال عمر: [[يا راعي! بعني شاة من غنمك -يريد أن يمتحن إيمانه، وينتظر صدقه مع الله- قال الراعي -وهو مؤمن، وهو مسلم، وهو يراقب الله في الخلوات-: يا أمير المؤمنين! الغنم لسيدي، قال عمر: إذا سألك سيدك عن الشاة فقل: أكلها الذئب، قال الراعي: الله أكبر يا عمر! أين الله؟! فجلس عمر يبكي ويقول: إي والله، أين الله؟!]].
فهل قال الموظف المسلم لنفسه: أين الله؟! وهل قال المسئول لنفسه: أين الله؟!(11/3)
أبو بكر ومراقبته لله
تولى أبو بكر الخلافة، وأول خطبة خطبها على المنبر بكى وأبكى الناس، والبيعة على المسلمين، فردوا بيعتهم في عنق أبي بكر، فأخذها شاردة واردة.
كان أزهد الناس، وأخشاهم وأورعهم، ذكر أهل السير: أن عمر كان يتفقد أبا بكر بعد كل صلاة فجر، فإذا هو يخرج من المسجد إلى ضاحية من ضواحي المدينة، فذهب عمر وراءه يوماً من الأيام، فدخل أبو بكر خيمة، ومكث فيها ساعة ثم خرج، فلما خرج؛ دخل عمر بعده إلى الخيمة، فوجد عجوزاً وأطفالاً، قال للعجوز: يا أمة الله! من أنتِ؟ قالت: أنا عجوز حسيرة كبيرة عمياء، وهؤلاء الأطفال مات أبوهم من سنوات، قال: ومن هذا الشيخ الذي يدخل إليكم؟ قالت: لا أعرفه -لا تعرف أبا بكر، ولكن الله يعرف أبا بكر - قال: ماذا يفعل؟ قالت: يدخل عندنا، فيكنس بيتنا، ويحلب شياهنا، ويصنع لنا طعامنا، ثم يخرج، فضرب عمر بيده على رأسه وبكى وقال: [[يا أبا بكر! أتعبت الخلفاء بعدك]].
من يفعل مثل هذا الفعل؟! من يترصد مثل هذا الترصد؟! من يخدم مثل هذه الخدمة؟! إنه الصديق الأكبر، ولذلك تولى عمر فأخذ درساً من أبي بكر لا ينساه [[ولما مات أبو بكر، قال لأهله: خذوا هذه البغلة، وهذه الثياب، والله ما لبست من ثياب المسلمين، وما أخذتُ من طعامهم، واذهبوا بهذه البغلة والثياب إلى عمر بن الخطاب، وقولوا: يا عمر! هذه بقية ميراث أبي بكر، فاتق الله يا عمر في أموال الأمة، لا يصرعنك الله مصرعاً كمصرعي]] فلما تولى عمر أصابه عام وجاع مع المسلمين، فبقي جائعاً شاحباً حزيناً محتاجاً، يقول على المنبر يوم الجمعة وبطنه يُقَرْقِر من الجوع: [[قَرْقِرْ أو لا تُقَرْقِر والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]].(11/4)
عمر ومراقبته لله
عمر بن الخطاب يبكي ويصيح: [[والله الذي لا إله إلا هو لو عثرت بغلة في ضفاف دجلة بـ العراق؛ لخشيتُ أن يسألني الله يوم القيامة عنها: لِمَ لَمْ تصلح لها الطريق يا عمر؟]] هذه مراقبة الواحد الأحد، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام فيما صحَّ عنه: {اللهم من وَلِي من أمر أمتي شيئاً فشقَّ عليهم فاشقق عليه} اللهم من وَلِي من أمر أمتي شيئاً ولو يسيراً، ولو وظيفة، أو مشيخة، أو إدارة، أو إمارة، أو وزارة فشق عليهم فاشقق عليه، غداً تكون المشقة عليه يوم العرض الأكبر، يشق الله عليه كما شق على المسلمين، وعلى المساكين والفقراء، وعلى الأرامل والأيتام والمحتاجين، والجزاء من جنس العمل، يوقفه الله نادماً خاسئاً ذليلاً حقيراً، يوم لا حاكم إلا الله يوم ينادي بصوت يسمعه مَن قَرُب كما يسمعه مَن بَعُد: {لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ فيجيب نفسَه بنفسه ويقول: لله الواحد القهار}.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من ولاه الله أمراً من أمر أمتي فاحتجب عن خُلَّتِهم وحاجتهم احتجب الله عن خُلَّتِه وحاجته يوم القيامة} والمعنى: مَن تولى أمراً صغيراً أو كبيراً فأوصد أبوابه، واعتذر بالمعاذير عن عمله، وعطل أعمال الناس، وأخر إجراءاتهم، وأخر مقاصدهم، ومعاملاتهم، احتجب الله عنه وعن خلته وحاجته ومسألته يوم العرض الأكبر، فلا يقضي الله له حاجة، ولا يؤثره برحمة، جزاء ما نكَّد على الأمة الإسلامية.(11/5)
سعيد بن عامر ومراقبته لله
أرسل عمر بن الخطاب سعيد بن عامر إلى حمص والياً وأميراً، وكان سعيد بن عامر من أزهد الناس وأعبدهم، ومن أصدق الناس مع رب الناس، فذهب سعيد بن عامر فتولى ولاية حمص، ومكث عندهم سنوات، وكان من خيرة الناس، يعيش عيشة الفقير، ومرَّ عمر على أمرائه يسألهم، ويسأل الرعايا عن الأمراء، ويحاكمهم أمام الناس، فلما وصل إلى حمص سأل أهل حمص عن سعيد بن عامر، فقالوا: فيه كل خير، من أصدق الناس، ومن أعبدهم وأزهدهم لولا أن فيه أربع خصال، قال عمر: وما هي؟ قالوا: لا يخرج لنا حتى يتعالى النهار -أي: يتأخر في دوامه- قال عمر: هذه واحدة -وعمر عنده درَّة، يؤدب بها-.
قال: والثانية؟
قالوا: وله يوم في الأسبوع لا يخرج إلينا فيه.
قال: والثالثة؟
قالوا: لا يخرج إلينا في ليل مهما طرقنا على بابه.
قال: والرابعة؟
قالوا: إذا أصبح في مجلس الحكم أُغمي عليه حتى يُرش بالماء.
قال عمر وقد ترقرقت عيناه بالدموع: اللهم لا تخيب ظني في سعيد بن عامر، قم يا سعيد! رد على نفسك -هذا حكم ومناصفة، والرعية جلوس- قال سعيد: والله لوددتُ أن أستر هذا الأمر لكن ما دام أنهم تكلموا فأما قولهم يا أمير المؤمنين: أني لا أخرج إلا إذا تعالى النهار، فامرأتي مريضة وليس لي خادم، فأجلس في بيتي، وأصنع طعام إفطاري، وأصلي الضحى، ثم أخرج إليهم.
قال: والثانية؟
قال: وأما قولهم: لا أخرج لهم بليل، فقد جعلتُ لهم النهار، وجعلتُ لربي الليل أصلي وأدعو الله حتى السحر.
قال: والثالثة؟
قال: وأما قولهم: إن لي يوماً لا أخرج فيه إليهم، فيوم أغسل ثيابي فيه.
قال: والرابعة؟
قال: وأما الرابعة فإنني حضرتُ مقتل خبيب بن عدي في مكة وأنا مشرك وهو مسلم فما نصرتُه، فكلما تذكرتُ ذاك اليوم أُغمي علي، فتهلل وجه عمر وقال: الحمد لله الذي لم يخيب ظني فيك، قال سعيد بن عامر: يا أمير المؤمنين! والله لا أتولى لك ولاية بعدها أبداً.
ثم ترك الولاية وخرج، ولكن ما تركه عمر يخرج حتى حاسبه في الأموال وفي الخزائن وفي الأحكام، وعرض عليه الدواوين، فوجده ما أخذ درهماً ولا ديناراً، وإنما خرج كما دخل، بصحفة وشملة وعصا.
هؤلاء أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام.(11/6)
نداء إلى الموظف المسلم
فيا أيها الموظف المسلم! ويا أيها المسئول المسلم! اعلم إذا جلست على كرسيك أن الله سوف يجلسك يوم العرض الأكبر، فيسألك عما فعلت، وعما تصرفت قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94] وقال: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95].
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناهُ
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناهُ
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناهُ
ونركب الجو في أمن وفي دعةٍ فما سقطنا لأن الحافظ اللهُ
كن كالصحابة في زهد وفي ورعٍ القوم هم ما لهم في الناس أشباهُ
عُبَّاد ليل إذا جنَّ الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراهُ
وأُسْدُ غابٍِ إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياهُ
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيِّدوا لنا مجداً أضعناهُ
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(11/7)
ثمرات الصدق مع الله عز وجل
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
فإن الموظف المسلم إذا صدق مع الله كسب أموراً:
منها الدعاء له الذي هو من أعظم الأعمال عند الله، والثناء الحسن يرسله الله للمخلص الصادق، فيدعون له بالتوفيق والهداية، ويدعون له بالتسهيل كما سهَّل أعمالهم ومعاملاتهم، والموظف الصادق يسهل الله عليه الحساب يوم العرض الأكبر، وانتفاعه من ذلك العمل كما يسر على المسلمين أمورهم ييسر الله عليه أمره يوم الحساب.(11/8)
خيانة بعض الموظفين للأمانة
ولكن وُجد من الناس من لا يراقب الله، ولا يرعى الله، ولا يخاف الله في عباد الله، وُجد منهم من يتأخر في دوامه، فيبقى في بيته متخلفاً متأخراً، ومعاملات الناس ومصالحهم مركونة بمكتبه، فإذا حضر سوَّف في عمله، سيئ في خُلُقه، متبجِّح في تصرفاته، لا يراعي حق المسكين، ولا حق الضعيف، ولا حق المسافر المنقطع، بل بعضهم لا تتطلب منه المعاملة وقتاً طويلاً فتكثر الإجراءات، فيَعِدُ الأسابيع بعد الأسابيع، والأشهر بعد الأشهر، فينقطع المسلم ببابه واليتيم والمسكين والأرملة، فيجازيه الله عليه يوم العرض الأكبر.
وبعضهم إذا حضر كانت تصرفاته غير سليمة، لا يتعامل بالخلق الحسن، ولا بالرحمة، ولكن تجده معسراً معتباً شرساً متكبراً على عباد الله؛ وهذا لقلة الإيمان في قلبه؛ ولأنه ما عرف سيرة محمد عليه الصلاة والسلام ولا سيرة أصحابه.
ومنهم من يخرج أثناء الدوام فيترك وظيفته وعمله، ويخرج في أمور ذاتية شخصية لبيته ولأغراضه الخاصة، يخرج إلى المستشفى أو السوق، وما عمل عمله، فقد خان الأمانة {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].
ومنهم من لا يراعي الله عزَّ وجلَّ في أعمال المسلمين، فيحيف، وربما ينسى الإنصاف في المعاملة؛ فيقدم قريبه وحبيبه ويُبعد هذا ويُقرب هذا لأمور دنيوية سوف يُسأل عنها يوم يبعثر ما في القبور ويُحصَّل ما في الصدور.(11/9)
المثالية الإيمانية لبعض الموظفين
وقد عُلم من بعض الموظفين أنهم بلغوا المثالية الإيمانية، وأنهم ضربوا أروع الأمثلة، وقد سمعنا عن موظف عظيم من عظماء الإسلام، يعيش في هذا العصر، بلغ من تواضعه وصدقه مع الله أن يحاسب نفسه على الدقائق في الحضور والانصراف، ولذلك أصلح الله له حاله، وترى وجهه فيه النور، ودعا له المسلمون، من قصص هذا الموظف العظيم، وهو معروف: أنه إذا أراد أن يتصل بأهله لا يتصل من مكتبه، يقول: هذا الهاتف للمسلمين، ولم يأذن لي ولاة الأمر أن أتصل على بيتي، وإنما وُضع هذا الهاتف للمصالح العامة، وهذا هو الورع الصادق الذي سوف يجده في قبره يوم يُنَوَّر له قبرُه بعمله الصالح، ولكن يوجد من الآخرَين من يلطخ صحائفه البيضاء بأعمال لا ترضي الواحد الأحد.(11/10)
على الموظف أن يراقب الله
إن التسرع على الانصراف قبل وقته، أو على عمل حسابات ليست بصحيحة، أو على تزوير أوراق، أو على مكالمة لا تمس إلى عمله بصلة، أو على الاشتغال مع زملائه بحديث جانبي، وترك المراجع ولقد تعاطى الساعات الطويلة، وهو ينتظر وراء الباب، وهذا لا يرضي الله، ولا يرضي وُلاة الأمر، الذين قاموا على الحكم بما أنزل الله، ومعنى ذلك: أنها خيانة صريحة وجرح لشعور المسلمين لا يريده الله عزَّ وجلَّ.
والذي ينتظر مراقبة المسئول الذي فوقه ولا يراقب الله ليس بمؤمن، أتراقب العبد ولا تراقب المولى؟! أتراقب الضعيف ولا تراقب القوي؟! {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:108].
وإذا خلوت برِيْبَة في ظُلْمَة والنفس داعيةٌ إلى الطغيانِ
فاستح من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
أيها الموظف المسلم: استحل راتبك بالعمل الصالح الصادق، ارحم أمة محمد عليه الصلاة والسلام، اصدق مع الله؛ لتنال من الله عزَّ وجلَّ المثوبة والأجر، ومن المسئولين الشكر والثناء، ولتنال من أمة الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء.
وفقك الله، وسدد الله خطاك، وتولاك في الدارَين، وبصَّرك يوم تعمى القلوب.
عباد الله: وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {مَن صلى عليَّ صلاة واحدة، صلى الله عليه بها عشراً} وقال عليه الصلاة والسلام: {أكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة عليَّ، قالوا: يا رسول الله! كيف تعرض عليك صلاتنا؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء}.
اللهم فصلِّ وسلم عليه ما ذكره الذاكرون وغفل عنه الغافلون، اللهم صلِّ وسلم عليه ما شَدَت الأطيار وما ترعرعت الأزهار وما تباسقت الأشجار، صلاةً وسلاماً دائمَين أبديين تصله في روضته صلى الله عليه وسلم.
اللهم وارضَ عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وما ترضاه، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق الأمراء والوزراء والمسئولين والموظفين والعلماء والقضاة لكل خير، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم فقههم في دينك، اللهم حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم يا رب العالمين!
اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً، اللهم تب عليهم وكفِّر عنهم سيئاتهم يا رب العالمين!
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.(11/11)
أبو ذر في عصر الكمبيوتر
عرض الشيخ حفظه الله مواقف رائعة من حياة أبي ذر، وذكر أن من صنعوا الكمبيوتر وغيره من الأجهزة، لم يعيشوا عيشة أبي ذر؛ لأنهم عاشوا هذه الحضارة بالكفر والجهل، وأما أبو ذر فمع فقره عاش حياة أحسن وأسعد منهم؛ ومنهج هؤلاء يقوم على الكفر والطغيان فلا بد أن ينتهي ويزول، ولا يشك في ذلك عاقل.
وقد تطرق إلى سيرته العظيمة، من بداية كيفية إسلامه وبحثه عن الدين الحق ثم إلى مناقبه وفضائله ودعوته وجراءته في الحق وحتى وفاته رضي الله عنه.(12/1)
علاقة أبي ذر بجهاز الكمبيوتر
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
دمعة الزهد فوق خدك خرسا ووجيب الفؤاد يحدث جرسا
أنت من أنت يا محب وماذا في حناياك هل تحملت مسا
ما لهذي الدموع مالك صبٌ حالكم مأتمٌ وقد كان عرسا
شامة الزهد في مُحيَّاك صارت قصةً تطمس الحكايات طمسا
لاطفوني هددتهم هددوني بالمنايا لاطفت حتى أُحَسَُا
أركبوني نزلت أركب عزمي أنزلوني ركبت في الحق نفسا
أطرد الموت مقدماً فيولي والمنايا أجتاحها وهي نعسى
قد بكت غربتي الرمال وقالت يا أبا ذر لا تخف وتأسا
قلت لا خوف لم أزل في شباب من يقيني ما مت حتى أدسا
أنا عاهدت صاحبي وخليلي وتلقنت من أماليه درسا
لوحوا بالكنوز راموا محالاً وأروني تلك الدنانير ملسا
كلها لا أريد فكوا عناني أطلقوا مهجتي فرأسي أقسى
واتركوني أذوب في كل قلب أغرس الحب في حناياه غرسا
أجتلي كل روضة بدموعي وأبث الأزهار في الروض همسا
هذه مقطوعة من قصيدة: أبو ذر في القرن الخامس عشر، وهو صاحبنا هذه الليلة، وهو ربان الرحلة، وهو أستاذ القصة وبطلها، وسوف نجلس معه أكثر من ساعة، لنسمع أخباره، ولننثر عليكم أسراره، ولنربط بينه وبين حياتنا الآن في عصر الكمبيوتر، فما علاقة هذا الرجل الصحابي المجاهد الزاهد الذي مات في الصحراء بهذا الجهاز الذي اكتشف في هذا العصر؟
ثلاث مسائل:
أولها: هل تثقف الإنسان يوم اكتشف الكمبيوتر؟
هل تثقفت روحه؟
هل أشرقت نفسه؟
هل تجلى خاطره؟
هل زاد نوره؛ لأنه اكتشف الكمبيوتر والمكبر والكهرباء والطائرة والصاروخ والثلاجة والبرادة؟
و
الجواب
لا.
إن الذين اكتشفوا هذه الأمور يَشْكُون من ضيق الصدر والقلق والاضطراب والمرض، والتشنج، والانتحار، نشرت صحيفة الظهيرة في الافتتاحية: طبيب يعالج من السرطان قتل نفسه، يقولون: كان يداوي الناس، ثم أخذ الخنجر وذبح نفسه، لأنه ضاق خاطره، فمع هذا العلم والاكتشاف أتى الانتحار، وأتى القلق، وأتى الضيق، قلقٌ وضيق لم يعشه أبو ذر، ولم يجده أبو ذر، بل كان صدره فسيحاً على خبز، وعلى خيمة، ومع قطيعٍ من الماعز، وهو عنده أثمن من الطائرة، ومن الصاروخ، ومن الكمبيوتر.
إذن يقول الله سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126] {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
هل خطر لمن اكتشف الكمبيوتر أن الله سوف يجمع الأولين والآخرين إلى يوم لا ريب فيه؟
هل خطر له أن هناك جنةً وحساباً وميزاناً وكوثراً؟
هل سمع في حياته أن هناك نعيماً ورؤيةً لله؟
إنما أسعد البشرية، وأشقى نفسه!
وهل تذكر من اكتشف الكهرباء أن الله عز وجل سوف يبرز للناس يوم القيامة؟
قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].
هذا إيمان بالمادة، وهو إيمان مقطوع مبتور، ولذلكم ظهر بعض الناس ممن اكتشف هذه الاكتشافات، ونسوا أنهم نسوا مصيرهم: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66].
ثانياً: كان من الوسائل التي أريد أن أربط بينها وبين عنوان المحاضرة، وقد سبقت في محاضرة الأسبوع الماضي من باب التنبيه، بعنوانها "الممتاز في مناقب الشيخ عبد العزيز بن باز " وعشنا مع هذا الرجل العصري الذي نور الله قلبه يوم فقدَ بصره.
المسألة الثانية: هل تغير الإنسان باكتشافه؟
هل أكل أكثر مما يأكل؟
هل رأى في الحياة متعاً أكثر مما رآها أبو ذر؟
أما عاش ذاك ستين وهذا ستين؟!
أما مات ذاك ومات هذا؟!
أما ذاق هذا الماء وذاك الماء؟!
ولكن المصير عند الله.
ثالثاً: هل السعادة التي بحث عنها الإنسان وجدها؟
أنا قلت: هل يمر بالصحابي مثلما يمر الآن بالمكتشف أو المخترع الأوروبي، أو الفرنسي، أو الأمريكي، أو الياباني من القلق والاضطراب والحيرة والضيق، والأمراض النفسية، هل وجد هذا؟
لا، كان أبو ذر سعيداً، وما هو أكْلُ أبي ذر؟
لم يسكن قصراً، ولم يركب سيارةً، ولم يمتط طائرةً، وما كان عنده ثلاجة ولا برادة ولا سخانة، ولا كهرباء ولا ماء مبرد أو مثلج، إنما كان متاعه شملة، وكسرة خبز، وقربة معلقة، وصحفة وعصا؛ دخلوا عليه، وهو في مرض الموت، قالوا: أين متاعك؟
قال: هذا، فوجدوا شملة يكتسي بشيء منها، ويفرش لضيفه، ويرتديها في المنام، ووجدوا صحفة يغتسل فيها، ويأكل فيها طعامه، يقرب فيها ماءه، وقربة، وعصا، قالوا: وأين بقية المتاع؟
قال: {إن رسولي وحبيبي صلى الله عليه وسلم أخبرني أن أمامي عقبةً كئوداً، وأنه لا يجتازها إلا المخف}.
أمامنا عقبة المخف فيها يصعد، وهي عقبة الآخرة والحساب، يقول الشيخ حافظ الحكمي:
هم المقلون الذين أكثروا إلا إذا لم يسرفوا أو يقتروا
والمال والأولاد فتنة وما للمرء نافع سوى ما قدما
وإنما الغنى غنى النفس ولا عبرة بالتراث بل هو ابتلا
لو كان في المال افتخار لم يرا آل الرسول والصحاب فقرا
فهذا الشيخ حافظ يدبج لك كلاماً بديعاً، وهو زاهد جيزان وعالم جيزان، يقول:
خذ واضح الحل ودع مكسبها مخافة المحذور يا من فقها
وازهد بدنياك وأقصر الأمل واجعل لوجه الله أجمع العمل
وزهرة الدنيا بها لا تفتتن ولا تغرنك وكن ممن فطن
تالله لو علمت ما وراءكا لما ضحكت ولأكثرت البكا(12/2)
قصص عن السعادة
أعرف رجلاً عابداً زاهداً في قرية في جهة نجد له مزرعة، وله بعض الغنم، ومن مسجده إلى بيته، عنده المصحف، ويتنفل، ويصوم، ويعبد الله في سعادة ما سمع بها الناس، وفي نور من الله، كلامه يقودك إلى الجنة، يقولون: يقوم قبل الفجر بساعتين وهمه القرآن، إن مات فإلى جنة - إن شاء الله- وإن عاش عاش سعيداً، لم يصبه القلق من الحشود على الحدود، ولا من التهديدات الدولية، ولا من القوات في الخليج، وإنما يعيش القرآن، وطريق الجنة والصيام والاستغفار، وهو قليل الخلطة بالناس، لا يسمع غيبة، ولا تمر به الشيكات السياحية، ولا كلمة الدولار، ولا التضخم المالي، ولا قلة الموارد الغذائية، ولا مشكلة تلوث البيئة، ولا غير ذلك.
وعندنا تاجر شهير في البلاد، عمل عملية في مستشفى في جدة - وجد الأطباء أن عنده سوء تغذية، ووجدوا أن أمعاءه التصقت، وسئل أنه كان يتغدى غداءً خفيفاً، كان يتغدى فولاً وجبناً، والناس يتغدون لحماً وأرزاً، الفقراء الآن الواحد منهم ربما ضحى بدجاجتين في الغداءً سمطاً، ولكن أهل رءوس الأموال أكثر الناس قلقاً، كارنيجي يقول: إن أكثر الناس قلقاً هم أهل رءوس الأموال، لأنه لا يفتأ يفتح السجلات، وعنده تلفونان يتصل بهما، ولا يأتي أهله إلا في ظلام، أو بعد الواحدة، أو الثانية فينام، ثم يصحو متأخراً، فكأنه مبرمج يجمع ويحسب ويسجل ويكتب ويتصل، ونسي نفسه حتى أصيب بسوء التغذية، ولو علم أن المال القليل.
ولست أرى السعادة جمع مالٍ ولكن التقيَّ هو السعيدُ
وكان أحد الصالحين يقول:
ماءٌ وخبزٌ وظلُّ ذاك النعيم الأجلُّ
كفرت نعمة ربي إن قلت أني مقلُّ
ودخلوا على عالم من علماء العراق فوجدوه يفطر في الصباح، ثم لا يبقى عنده في البيت شيء، عنده خبز وزيتون وماء، قالوا: هذا طعامك الدهر؟!
قال: الحمد لله، زيتون من زيتون الشام -انظر شكر النعمة- وماء من ماء دجلة، وخبز من خبز العراق، فمن أنعم مني في الناس؟!
إن السعادة ليست في هذا التطور الذي يعيشه الإنسان.
وكم رأينا من الناس من باستطاعته أن يغير كل يوم سيارة، باستطاعته أن يركب كل يوم سيارة غير الأخرى، ولكن تجد على وجهه من الغضب والحزن ما الله به عليم، وعلمنا وتيقنا أنه -والله- من أراد السعادة، فلن يجدها إلا في طاعة المولى، وفي العمل الصالح، وفي النور الذي أتى به الرسول عليه الصلاة والسلام.
بحثوا عن السعادة في المنصب، وكان أعظم منصب في الدنيا منصب فرعون، ولكن قتله منصبه، فالذي أدخله البحر منصبه، والذي دكدكه تحت الماء منصبه.
وقارون بحث عن المال، وجمع المال، وأصبح أغنى رجل في العالم، ومهما حاول الناس -الآن- أن يتقدموا في جمع الأموال، فلا يستطيعون أن يصلوا إلى ما وصل إليه قارون: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76] أي: المجموعة من الرجال لا يحملون المفاتيح، فكيف بالخزينة، إذا أرادوا أن يفتحوا الباب، أتى ثمانية يحملون المفاتيح، فكيف بما وراء الباب؟
كان كالجبال من الذهب، وهذا لا تملكه الدول ولا الشعوب، ومع ذلك كان ماله سبب فقره وخزيه، ولما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:81] فالميزانية وبيت المال معه، والشرف رد أبا جهل وألحقه بالخاسرين.
صاحبنا هذه الليلة عجيب، وفي حياته طرف وغرائب، وفيها ما يدهش، وأنا اخترته عمداً، لنعيش معه قليلاً، ونسمع لآرائه في الحياة.(12/3)
أبو ذر والمال المدخر
قبل ما يقارب عشرين سنة جاء أتباع المجرم استالين -كما تعرفون- وقد كون دولته من قبل في عهد لينين، وأتوا بحثوا ونقروا في الإسلام ليجدوا ولو رأي عالم يوافقهم في رأيهم الاشتراكي في الاقتصاد، فوجدوا أن أبا ذر يوافقهم، فألفوا كتاباً روسياً، وعليه أبو ذر على الكتاب المجلد: شيخ كبير، باللغة الروسية ويحمل عصا، وما على رأسه شيء، وقالوا: زعيم الاشتراكية في العالم: أبو ذر، والسبب في ذلك أنه رضي الله عنه وأرضاه فهم قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34] قال: ما دام أن الله تهدد من كنز الذهب والفضة، إذن فلا يحل لك، ولا يجوز لك أن تدخر شيئاً من المال أبداً، يعني على رأي أبي ذر إذا جاءك آخر الشهر راتب، وأنفقت وأعطيت أطفالك للمدرسة، واشتريت لهم الدفاتر والخبز والطعام، فما بقي فوزعه في الناس، وهذا مذهب الاشتراكية وهو خطأ وقد خطأه الصحابة، وقالوا: لا، المقصد زك مالك زك ذهبك، زك فضتك، لأنك إذا زكيته فليس بكنز، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول مرة: {أتؤدين زكاته؟ قالت: نعم، قال: فليس بكنز} فالمال الذي تزكيه ليس بكنز، ففهم أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه أن المال يوم يُدَّخَر سواء زُكِّي، أو لم يزك أنه حرام، بل يشاع في الناس، فتلقفوا هذه الكلمة، وحيوا أبا ذر، وترى خالد محمد خالد في كتاب: رجال حول الرسول، وهو لا يزال حياً، وهو مفكر مصري -كما تعرفون- وفيه خير كثير، لكنه كان يؤمن بـ المادية الجدلية، وكان فيه لوثة، ثم هداه الله، وكتبت عنه مجلة المجتمع قبل أكثر من اثني عشرة سنة، ومجدته بعودته إلى الله، لكنه لدغ بكلمة في ترجمة أبي ذر في كتاب" رجال حول الرسول " حتى يقول: أظن الكادحين يؤيدون أبا ذر -كلمة الكادحين أتت من موسكو - في بعض البلاد العربية دخلت الشيوعية، كان الناس مسترزقين، وكانوا يقطفون الأعناب، ويصيدون الأسماك، ويشتغلون، والشعب يتحرك، وكانوا في رخاء، فأتت الشيوعية تحت مظلة نصرة المستضعفين والكادحين فنادت: يا شعوب الأرض، يا مستضعفي الأرض توحدوا، فلما أتوا سلخوا أموال الأغنياء، وتركوا الفقراء بلا عمل، وأغلقت دور الرعاية، ودور الأيدي العاملة، وما وجد الناس حقولاً للعمل، فجلسوا في بيوتهم.
حج أحدهم في مكة، فقابله أحد العلماء، قال: كيف وضع الكادحين في بلادكم؟ قال: القائم بطحوه، والتاجر كدحوه، وهذا هو المنهج، فإنها تفلس، ولذلك لما أتى جرباتشوف قال: أفلست الشيوعية أصبحت فقيرة، فصارت الدول العربية تعطيها الأموال وروسيا دولة عظمى في عالم العسكرية عندها قوات تدمر العالم، لكنها في عالم الاقتصاد منهارة تماماً، أصبحت الدول العربية تمد روسيا الآن بالملايين، وأوروبا أرسلت لها ما يقارب ألف مليون دولار غير الحقوق لتنقذ الشعب، نظامهم: أنا أشتغل إلى آخر الشهر وأنت نائم في البيت ثم تأخذ راتبي، أعمل في البطاطس، فإذا أنتجت قاسمتني الثمرة، ففي أي شريعة أو أي عقل، وفي أي منهج في الحياة {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] فأتى الآن جرباتشوف وعارضهم.
وفي كتاب: البروسترويكا يعني: إعادة بناء الاشتراكية، أعاد بناءه، وقال: هذه الاشتراكية لا تصلح، ولكن ما عنده وقت، ويخاف أن يزحزحوه، وبدأت الجمهوريات الإسلامية تنفصل كما علمت، وسوف تبقى الجمهورية الأصل روسيا فحسب، وبعد سنوات سوف تصبح روسيا مثل بقية الدول ليست عظمى، والآن ألمانيا تجتازها بخطوات وفرنسا، وهذا لا يهمنا في شيء، ولكن صاحبنا أتى بنظرية أخطأ فيها، ونقول: غفر الله له، وما نقصت من قدره، وليس معصوماً، والصحابي قد يخطئ، والعالم قد يزل في مسألة، ومع ذلك يبقى محترماً شريفاً.(12/4)
كيف عرف أبو ذر الإسلام؟
كان في الصحراء في غفار وغفار قبيلة فدائية مهاجمة، تهاجم الحجاج وتختلس ما عندهم من أموال، وتقتحم المنازل، فهم بمفهوم العصر، كانوا إرهابيين.
ولا يمشي ماش من مكة إلى الشام إلا اعترضته غفار، حتى كانت المرأة تدس طفلها، فإذا بكى عليها، قالت: خذوه يا غفار -أي: اسرقوه وكلوه- هذا مقصودها، من هذه القبيلة كان ذاك الرجل الذي سمع أن هناك في مكة رجلاً يدعو إلى لا إله إلا الله.
فشقت الصمت والأنسام تحملها تحت السكينة من غار إلى غار
تطوي الدياجير مثل الفجر في ألقٍ تروي الفيافي كمثل السلسل الجاري
الشمس والبدر في كفيك لو نزلت ما أطفأت فيك ضوء النور والنار
أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة يذوب في ساحها مليون جبار
هذا الرجل أتى من الغار يقول: لا إله إلا الله، وبعد خمسة وعشرين سنة، وإذا أسبانيا تدخل معه في الغار والسند، وتركستان وبخارى، وثلاثة أرباع الدنيا، فـ أبو ذر كان يرعى في الصحراء، فهو بدوي رضي الله عنه وأرضاه، فسمع بالنبي وهو كإنسان يحب الاطلاع، طفلك الآن إذا أتيت له بآلة، وأصبح يتحدث، قال: ما اسم هذا المسمار، كذا، وتبقى معه ليلة كاملة، وأنت تسمي له كل غرض، من اتصل بك؟ ما اسمه؟ ما اسم هذا؟ ما اسم ذاك؟
فيحب الاطلاع.
قال لأخيه: اذهب إلى هذا الرجل الذي في مكة، وانظر ماذا يدعو إليه حتى نرى، فركب أخوه، ويسمى أنيس حتى وصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن يظهر أن أنيساً كان مستعجلاً يريد أن يأخذ رءوس الأخبار، من دون تفصيل، جاء وكفار قريش هيئوا وزارة إعلام متنقلة في أنحاء مكة، كلما أتى داخل قالوا: عم صباحاً يا أخا العرب، ماذا تريد؟
قال: أريد محمداً، قالوا: مجنون ساحر، قال: في أمان الله، رجع، قالوا: مجنون ساحر، وكانوا يرشون الناس، أتى الأعشى شاعر نجد يريد أن يسلم، ويدخل في دين الله، أتى بقصيدة رنانة طنانة يقول فيها:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وعادك ما عاد السليم مسهدا
شباب وشيب وافتقار وثروة فلله هذا الدهر كيف ترددا
فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من وجى حتى تزور محمدا
يقول: أقسمت أن أترك الناقة تمشي إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
متى ما تناخي عند باب ابن هاشم تراحي وتلقي من فواضله يدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولا قيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد لما كان أرصدا
هو من الشعراء العالميين، واقترب بهذه القصيدة يريد أن يحيي عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليته لقيه، لكن قضاء الله، فلقيه أبو سفيان وهو مشرك، قال أبو سفيان: إلى أين يا أعشى، قال: إلى محمد، قال: ما عندك؟
قال: أمتدحه بقصيدة، قال: كم تظن أنه يعطيك من المال؟
قال: مائة ناقة، أي أنه سمى الجائزة، قال: خذ مائة ناقة، فأخذها فعاد، فلما وصل إلى جراب وقصته ناقةٌ فمات كافراً.
كان كفار قريش يرصدون الطرق، يسمى هذا الحظر الإعلامي، لا يصل إنسان إلا وقد غزوه، حتى يقول أحدهم خائفاً وهو الطفيل بن عمرو الدوسي، قال: وضعت القطن في أذني حتى لا أسمع شيئاً -وقصته أخرى- فوصل أخو أبي ذر إلى مكة، فقالوا: احذر الساحر، احذر الكاهن، احذر المجنون، فرجع.
{أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] فرجع إلى أخيه قال: رجل يقولون إنه مجنون، أو ساحر، أو كاهن يدعو إلى شيء، وردوه قومه، قال أبو ذر: ما قضيت ما في نفسي، والمثل العامي يقول: "ما قضى حاجة مثل ساقي" فقال: عليك بالغنم، أي: أنا سآتيك بخبره، فركب الناقة، ودخل مكة، وكان ذكياً يسمى الباحث عن الحقيقة، يريد أن يصل إلى الرجل، يريد أن يسمع، ولذلك احذروا من (وكالة أنباء يقولون) فبعض الناس يأتيك بقصة، قلت: من أخبرك حفظك الله؟ قال: يقولون فتصنيف الآراء على هذه المنقولات خطأ: {بئس مطية الإنسان زعموا} يقولها عليه الصلاة والسلام، (قالوا وقلنا) ليست كلمة (قيل وقال) ممنوعة في الشرع، وبعض الإخوة يأتيك يقول: حدثني شاب أنه وقعت قصة مريبة مدهشة، فنذهب إلى ذاك: من حدثك؟
قال: حدثني شاب، ونذهب إلى الشاب، قال: حدثني شاب، حتى يضيع السند ويتبين أنه معضل وهذا لا يصح، فلابد أن يكون السند قوياً: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].
دخل أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه مكة، ولما وصل الحرم وفقه الله بـ علي بن أبي طالب -حياه الله، حيا الله علياً - وسوف يكون لنا ليلة مع أبي الحسن لا تغرب نجومها، علي هذا محبوب، لكن نحبه الحب القدسي الطاهر الذي يقربنا منه إلى الله، ويجلسنا معه في الجنة، كان علي ذاك الوقت شاباً يتوقد، أبوه شيخ هو أبو طالب، لكنه رفض الإسلام، لكن هذا الشاب الحي، يقول العقاد في كلمة معناها، قال: إن في قصة علي سلوة، سلوة للمنكوبين في الحياة، وسلوة للصابرين على طريق الجهاد، وسلوة للعلماء المضطهدين، وسلوة للمجاهدين الذين يريدون الحق، وسلوة للمستضعفين في الأرض.
وجد أبا ذر، فحياه، قال: من أين أتيت يا أخا العرب؟ قال: جئت ألتمس هذا الرجل، قال: تعال معي، فأدخله عنده، فأعطاه زبيباً، ولم يكن عندهم طعام جاهز إذ ذاك، بل عندهم خبز وزبيب وماء.
قال: كل، فأكل، قال: أين هذا الرجل الذي يدعي أنه نبي؟
قال: أنا أنزل أنا وإياك إلى الحرم، فإذا صادفت أو وافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف أتظاهر أني أخصف نعلي، فهو الرجل الذي أمامي فسلم عليه، والرسول عليه الصلاة والسلام يظهر بين الناس، ليس شخصاً عادياً حتى في مظهره، يقول أنس: {والله الذي لا إله إلا هو، لقد نظرت إلى البدر ليلة أربعة عشر وإلى وجهه صلى الله عليه وسلم فلوجهه أجمل من القمر ليلة أربعة عشر} وقال أبو هريرة: {كأن الشمس تجري في وجهه} ويقول سيد قطب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مهياً جسمانياً ليقود العالم.
يقول ابن رواحة: لما رأى وجه الرسول صلى الله عليه وسلم:
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
فعليه المهابة والجلابة والملاحة والنور والجمال، فسبحان من صوره فأحسن تصويره، جميل، أدعج العينين، بياضه مشوب بحمرة، يؤثر فيها أدنى شيء حتى إذا وضع أصابعه أثرت في وجهه، كأنه يخرج من ديماس، ما كأنه خرج من مكة أرض القحط والجفاف والجدب، لأنه مهيأ ليقود العالم.
قال: إذا نزلت ووافقته فسوف أتظاهر بإصلاح نعلي، فتقدم وسلم عليه، فنزل علي، وفعل علي ذلك؛ لأنه يخاف من الاستخبارات، فكفار قريش يلاحقونه بالعيون، يقولون: هذا الذي يدل الناس على محمد، وهناك فرقة للضرب، وفرقة للعض وفرقة للمصارعة، وفرقة للملاكمة، والرسول صلى الله عليه وسلم يشهد هذه المناظر كل يوم، يرى الأصنام ما كسرها؛ لأنه يريد أن يكسرها من العقول أولاً، ويأتون إليه صلى الله عليه وسلم يريدون اغتياله، ويحميه الله عز وجل، يأتي ملك الجبال يقول: أأطبق عليهم الأخشبين؟
قال: {لا، إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً} يدمون قدمه، ويسيل الدم، فيمسح الدم صابراً، ويقول: {اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون} فيقول الله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
كيف تمسك أعصابك أمام هذا الهيجان؟
الإنسان منا الآن من أجل متر من الأرض قد يقاتل، أنا أعرف بعض الناس يحمل مسدسه ويقول: أقتله أو يقتلني هذا اليوم، وتجد إما ميزاباً أو غصناً أو سكة ولو أتى اليهود، فر من أمامهم إلى تهامة.
وقف علي رضي الله عنه يخصف نعله، فتقدم ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما عرف أنه هو، قال: عم صباحاً يا أخا العرب، وهذه تحية الجاهلية، فما كانوا يعرفون السلام عليكم، الذي أتى بالسلام محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أتى ببسم الله محمد، الذي أتى بالحمد لله الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي أتى بالله أكبر محمد صلى الله عليه وسلم، وكما قال تعالى في رسوله: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ} [النساء:113].
يقول امرؤ القيس:
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وهل يعمن إلا سعيد مخلد قليل الهموم ما يبيت بأوجال
قال: عم صباحاً يا أخا العرب، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم، وهو جالس، قال: إن الله أبدلني تحية خير من تحيتك، قال: ما هي؟
قال: السلام عليكم ورحمة الله، قال: السلام عليكم ورحمة الله، قال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فجلس، فكان هذا اللقاء الحار.
فابتدأ صلى الله عليه وسلم، وهذا من لطفه، ومن حسن خلقه البديع، يقول سُبحَانَهُ تَعَالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] يقول: كيف دخلت إلى قلوب العرب؟
العربي قبل الإسلام عقله جاف خشب، من يكلم الخشب؟
سيفه معه يذبح أخاه، لا يفهم، لا طهارة، لا فكر، لا أدب، لا رقي، لا احترام.
كيف ألفت بين قلوب الناس؟
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] فكان من هديه أن يسأل القادم، وهذا من حسن الكرم.
إذا أتاك ضيف وجلس، فاسأله: كيف حالكم؟ كيف أهلكم؟ جاءكم أمطار؟
أما أن تسكت، وتضرب عن الكلام لهذه المصيبة التي ألمت بك، فلن يفاتحك وسوف يستأذن منك، أو يتوب فلا يعود لك مرة ثانية.
أحادث ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب
فقال: من الرجل؟
قال: أبو ذر، قال: ممن؟
قال: من غفار، فتبسم عليه الصلاة والسلام تبسم الطموح للمستقبل، والنظر إلى هذا الرجل وإلى هذه الأمة، يحاصر في مكة لا جندي ولا حارس، ولا معه مؤيدون، معه شيخ هو أبو بكر، ومعه غلام هو علي، ومعه مولى هو زيد بن حارثة، ومعه امرأته خديجة وهؤلاء أربعة هم حصيلة الدعوة، وينزل عليه وهو على الصفا {
الجواب
=6002589> وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فيضحك كفار قريش، ويبتسم بعضهم إلى بعض، قالوا: رحمة للعالمين وهو ما استطاع أن يمنع نفسه! ولكن والله اجتاحهم، وبعد عشر سنوات أو أكثر دخل والسيف بيده، وهو يقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، فنكس الأصنام وفتح الدنيا: {إِِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح:1 - 2].
قال صلى الله عليه وسلم: ممن الرجل؟
قال: من غفار، فتبسم صلى الله عليه وسلم، ونظر في السماء، وكفار قريش يلحدون عند البيت، سامراً يهجرون، يشربون الخمر عند الحجر الأسود، يكفرون بالله، يحاربون لا إله إلا الله، ويأتي هذا من غفار سلبة الحجاج، وسرقة العرب، يأتي ليسلم، قال صلى الله عليه وسلم وهو يتلفت: إن الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ثم قال أبو ذر: من أنت؟
قال: أنا رسول الله قال: من أرسلك؟
قال: الله، قال: إلى من أرسلك؟
قال: إلى الناس، قال: بماذا أرسلك؟
انظر الأسئلة الحية الرائعة البديعة، لم يسأله عن نسبه، ولا متى ولد، ولا بطاقتك الشخصية لو سمحت، ولا متى تزوجت، ولا كم عندك من طفل، أربعة أسئلة: من أنت؟ رسول الله.
من أرسلك؟ الله.
إلى من أرسلك؟ إلى الناس.
وبماذا أرسلك؟ بأن يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيء.
قال: أسمعني من هذا الكلام الذي عندك -هذه العرب أمة ذكية تحفظ الشعر، تعرف الخطب، يعرفون السحر والكهانة، يعرفون كل شيء- قال: أسمعني من الكلام الذي عندك، فابتدأ صلى الله عليه وسلم ينطلق، وأتى عليه بسورة، وهي مختلفة عند أهل العلم، منهم من يقول: إنه ابتدأ يرتل عليه بصوته الجميل الأخَّاذ، وإذا كان المرتل عليه الصلاة والسلام هو الرسول فكفى به: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق:1 - 2].
أبو ذر يعزف الكلام فيدخل في قلبه، ويطارد نفسه، ويدخل في كل ذرة من جسمه، ووصل النور إلى عقله، ويستمر صلى الله عليه وسلم، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، فتهلل وجهه صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو ذر: والله لأقومن منادياً بها عند الصفا، قال صلى الله عليه وسلم: لا تقم؛ لأنه يخاف عليه فهم متهيئون حول الحرم، لكنه قام وقال: يا معشر قريش، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
فما انتهى من كلامه إلا وهم يطوقونه، فضربوه حتى أصبح مبطوحاً في الأرض، هذه هي النتيجة، لكن في سبيل الله، وإذا دمه يسيل، وأغمي عليه، ورش بالماء، قال العباس لكفار قريش: ويلكم، هذا من غفار وهم على طريق التجارة إلى الشام، بإمكانه وقومه أن يعطلوا قافلتكم، فتورعوا خوفاً من الحصار الاقتصادي، ومن الحظر البحري الذي تعرفونه، وتوقفوا، ولما توقفوا رجع أبو ذر، فعاد إلى غفار، فجمع قومه، وكان شديداً في ذات الله، قوياً، متحمساً، مندفعاً، عنده عاطفة جياشة، أحياناً تنضبط، وأحياناً لا تنضبط، فجمع امرأته قال: جسمي من جسمك حرام، وهدمي من هدمك حرام، ودمي من دمك حرام، حتى تؤمني بالله، قالت: كيف أومن؟
فعلمها، فآمنت، وعلم أهله، فآمنوا، وجمع قومه تحت شجرة كبيرة، فأخبرهم بهذا فآمنوا جميعاً، ثم أتى بموكب من النور، شق الظلام كمثل السلسل الجاري، يمر بهم إلى المدينة، وقد انتقل صلى الله عليه وسلم بدعوته، وكون العاصمة إلى المدينة، يرسل النور من المدينة حياً على هواء المحبين مباشرة، فحياه صلى الله عليه وسلم ورحب به.(12/5)
موقف الصحابة من أبي ذر عندما وصل إلى المدينة
يقول خالد محمد خالد: قام الصحابة يظنون أن هناك جيشاً يريد أن يغزو المدينة، الغبار في السماء، وهي قبيلة غفار أتى يقودها أبو ذر ليدخلوا في الدين.
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3].
قام صلى الله عليه وسلم، وقام الصحابة بعضهم خاف وفزع، وبعضهم لبس السلاح.
حياه عليه الصلاة والسلام، وكان بعض أهل السير، يقول: كان أبو ذر يلتفت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعيونه تدمع، ويقول: عرفتني يا رسول الله؟
قال: نعم عرفتك؛ لأنه لم يلتق به إلا لقاءً واحداً عرف فيه الدين.
قال: نعم عرفتك، وماله لا يعرف محبيه؟! وماله لا يعرف تلاميذه عليه الصلاة والسلام؟!
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعبٌ من الأموات أحياه(12/6)
من مواقف أبي ذر
ويدخل أبو ذر الدين، وله مواقف أذكر بعضها:(12/7)
أبو ذر والحديث
أعظم حديث لأهل الشام يرويه أبو ذر، وما أعلم في الأحاديث النبوية أكثر تأثيراً من هذا الحديث، رواه مسلم والإمام أحمد والترمذي، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: {يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يا عبادي! إني حرمت على نفسي الظلم وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه} يكفينا شرفاً أن راوي هذا الحديث أبو ذر، كان إذا حدث يقوم على ركبه، من جلالة الحديث، هذا الحديث حديث قدسي رائع يصل إلى القلوب، وكان الراوي عنه أبو مسلم الخولاني، أو أبو إدريس وهو الصحيح؛ يجثو على ركبتيه إذا أراد أن يحدث.
قال الإمام أحمد: ليس لأهل الشام أشرف من هذا الحديث، حديث شريف عظيم، يرويه أبو ذر للناس، وكان إذا أراد أن يستفتح خطبته يقوم على ركبه , ويذكره للناس، ويرسله للقلوب، ويحيي به الأرواح.(12/8)
أبو ذر وبلال
هناك قصة وقعت لـ أبي ذر مع بلال: جلس الصحابة يتشاورون، وقائدهم خالد بن الوليد في معركة، فتكلم بلال رضي الله عنه وتعرفون أنه أسود، لكنه منادي السماء، بلال حبيبنا، وكان عمر يقول: [[أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا]] يعني بلالاً الذي رفع الصوت الخالد الله أكبر الله أكبر، والله جعله سيداً من السادات، وله قصر في الجنة، فتكلم أبو ذر فقاطعة بلال، فقال أبو ذر: تقاطعني يابن السوداء، سبحان الله! هل ضل فكره؟
هل ضاع عقله رضي الله عنه؟
لماذا هذا الكلام؟
وهل الله عز وجل يحاسب الناس على الألوان؟
وهل عندنا تمييز عنصري؟
وهل نحن نعود إلى الأنساب؟
وأقول عند هذه المسألة كلمة هي كلمة أهل العلم، وهي ما يوافق كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الطبقية حرام في المجتمع، وإنها تخالف الكتاب والسنة، قضية قبيلي وغير قبيلي، قضية الذين يقولون: هذا خط كذا، وهذا خط كذا، هؤلاء يتزوجون من هؤلاء، وهؤلاء لا يتزوجون من هؤلاء؛ هذا حرام ومنكر، وهذه الطبقية مما يخدش وجه ديننا، وهي تزري بنا أمام الأمم، وأمام الشعوب، وأمام الدول الأخرى، وأمام الديانات، وهذه موجودة في المناطق عندنا كأن الناس مجمعون عليها وراضون بها، وصنفوا الأسر، أسرة قبيلة، وأسرة غير قبيلة، موالي وأشراف، ويسمونها بالمفهوم الساذج الرخيص الحقير: هذا خط مائة وعشرة، وهذا خط مائتين وعشرين، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
بلال هذا تزوج أخت عبد الرحمن بن عوف " هالة " رضي الله عنها، والشرف لـ عبد الرحمن بن عوف، ويقول عمر: وددت أني زوجت بلالاً إحدى بناتي -لله درك يا فاروق الدنيا، ويا فاروق التاريخ- يقول: ما زال في قلبي حسرة، وودت أني تشرفت وزوجت هذا الرجل العظيم، صاحب التاريخ الأجل.
يقول خالد محمد خالد: بلال يعرفه مسلمو الصين، ومسلمو اليابان , ومسلمو السودان، ومسلمو العراق والمغرب، وكل مسلم على وجه الأرض، الأطفال يعرفون بلالاً، فيقول: يا بن السوداء، قال بلال: والله لأرفعنك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام لماذا؟
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]
{المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره} لماذا انتهاك الأعراض؟
لماذا ذكر الألوان؟
أنحن في جنوب أفريقيا أو في إسرائيل؟
نحن في المدينة، فذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وأخبره، فامتقع وجهه عليه الصلاة والسلام، واحمر وتأثر كثيراً، ودخل أبو ذر وهو خائف، دخل يسلم على الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: فسلمت عليه، فوالله ما علمت هل رد علي السلام أم لا من الغضب، والتفت إليه صلى الله عليه وسلم مؤنباً ومؤدباً وغضوباً، قال: {أعيرته بأمه؟ إنك امروءٌ فيك جاهلية} أي: بقي فيك رواسب من الجاهلية، فهو صلى الله عليه وسلم يقول بلسان الحال: أنا أتيت لأطمس الجاهلية، أتيت أمحو هذه الوثنية وهذا التخلف، أتيت لأقصم رأس الرجعية، أتيت أنور العقول، وأحرر الأبدان والأفكار، أتيت أدعو إلى تحرير الإنسان، وإخاء الإنسان مع الإنسان، لا طبقية، ولا تمييز عنصري، ولا دم ولا لغة ولا لون، أتيت بلافتة لا إله إلا الله، فـ بلال يدخل الجنة، وأبو جهل سيد قريش يدخل النار، وصهيب الرومي المولى يدخل الجنة، وفرعون في النار، فلا فخر.
إذا افتخرت بآباء لهم شرف نعم صدقت ولكن بئسما ولدوا
فندم أبو ذر وبكى، وقال: يا رسول الله، أعلى كبر سني؟ أي أفي جاهلية على كبر سني؟ قال: نعم، ثم خرج أبو ذر، فمر بلال، فوضع أبو ذر رأسه على التراب، وقال: لا أرفع رأسي حتى تطأه بقدمك؛ أنت الكريم، فبكى بلال واحتضن أبا ذر من فوق التراب وعانقه وتباكيا، وقال: والله، لا أطؤك برجلي.
إذا اقتتلت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:100 - 101]
اسمع لـ أبي تمام، شاعر الإبداع، يقول في الإخاء:
إن كيد مطرف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
ما هناك سوداني ومصري وسعودي ويمني وكويتي ومغربي وباكستاني، لا، فما دمنا رفعنا لا إله إلا الله، ولافتة "إياك نعبد وإياك نستعين" فكلنا سواسية، وأعظمنا المتقي.
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد(12/9)
أبو ذر والإمارة
ويصلح أبو ذر رضي الله عنه، وتستمر به الحياة، ويولي الرسول عليه الصلاة والسلام بعض الصحابة الإمارة والمنصب، وبعض الناس ولو كان صالحاً لو رعى شاتين ضيعها، حتى الدبابيس ربما تضيع من مكتبه، ويقول عمر: [[اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة]].
فلابد مع الصلاح من القوة والفهم والإدراك، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعين الناس حسب طاقاتهم فهو الذي ربى الصحابة، ويعرف أين يصلح كل واحد منهم، فهذا خالد بن الوليد لو جعله صلى الله عليه وسلم فرضياً فلن يعرف كيف يقسم ما سمعنا أن خالد بن الوليد يقسم الفرائض، فهو لا يعرف نصيب الجدة ولا الخالة ولا العمة، هو لا يعرف إلا قطع الرءوس، وزيد يقسم للموتى.
إذا قطع الرأس يقول: خالد: أنتم تصرفوا في الميراث، أنا علي أقطع لكم الرءوس، وأنتم تصرفوا في المواريث حفظكم الله، فهو رئيس قسم الجهاد، وهو متخصص في ضرب الأعناق في سبيل الله.
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
هذا خالد.
حسان بن ثابت، ماذا يجيد؟
هو لا يفسر القرآن، لكن عنده قوافي، فهو في قسم الأدب، يدخل الجنة بالأدب، يقرب إليه صلى الله عليه وسلم المنبر، يقول: {اهجهم وروح القدس معك}.
زيد بن ثابت {أفرضكم زيد} {معاذ: أعلم أمتي بالحلال والحرام} أبي {أقرأ أمتي أبي} سيد القراء أبي، هكذا التخصصات، هذا يجب أن يعيه المربون والأساتذة، لا تجعل طالباً خطيباً، وهو لا يستطيع أن يقول كلمتين، فلما رأى أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم يولي بعض الصحابة ولا يوليه ظن أن الأمر حسب الأفضلية، فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله، وليت فلاناً، ووليت فلاناً، أريد أن توليني، أي يريد مرسوماً في الصباح يصدر مبكراً أنه: قد وليناه كذا وكذا، فتبسم صلى الله عليه وسلم، فهو يعرف الطاقات، ويعرف الاستعدادات، ويعرف الناس، ونعرف أن أبا ذر أمين وصادق، لكن المسألة يراد لها تخصصات، فتبسم صلى الله عليه وسلم وضرب على كتفه، قال: {إنك امرؤ ضعيف، وإنها أمانة، وإنها خزي وندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة}.
هذه الإمارة دائماً: (نعمت المرضعة، وبئست الفاطمة) كيف؟
أول ما يتولى الإنسان، وأول ما يأتيه مرسوم التعيين، يكون في عيد، والحارات تشتبك باللمبات الكهربائية، والبرقيات: (نهنئكم بمنصبكم الجديد، فسيروا على بركة الله باليمن والمسرات) وبعد سنة يأتي مرسوم العزل، فيجلس يبكي في غرفة، والوالدة في غرفة، وزوجته في غرفة، والأطفال في غرفة والأصدقاء تفرقوا، بئست الفاطمة، هذه مناصب الدنيا، لأن الذي يؤتيها بشر، وينزعها بشر، لكن الله عز وجل إذا آتى الإنسان لا ينزعه إلا هو.
يقول إبراهيم بن أدهم: إنا في عيش لو علم به الملوك لجالدونا عليه بالسيوف.
كان إبراهيم بن أدهم ينام على الرصيف، لكن عنده إيمان وقوة واتصال بالله عز وجل، مثلما فعل ابن تيمية: يوم دخل على ابن قطلوبك -السلطان السلجوقي- قال: أعلن الجهاد، وكان سلطاناً مسلماً لكن يشرب الخمر، اجتاح التتار العالم الإسلامي فدخل ابن تيمية على السلطان السلجوقي، يقول له: أعلن الجهاد الآن.
قال: والله لتعلننَّ الجهاد، قاتلهم بالسيوف الشرعية المحمدية، أعلن الجهاد.
قال: يهزموننا.
قال: والله لننتصرن.
قال: قل إن شاء الله.
قال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.
قال: يـ ابن تيمية سامحنا وددنا لو زرناك في بيتك.
قال: دعنا من كدراتك يـ ابن قطلوبك، كان موسى يزور فرعون في اليوم مراراً، ثم قال: سمعنا أنك تريد ملكنا، فضحك ابن تيمية وقال: ملكك؟!
قال: نعم.
قال: والله ما ملكك وملك أجدادك يساوي عندي فلساً، إني أريد جنة عرضها السماوات والأرض.
خذوا كل دنياكم واتركوا لي فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
الشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ولاه منصباً، وقال له: أنت ضعيف.
قالوا: ضعيف الرأي رضي الله عنه، قد يكون الإنسان صالحاً، لكن تختلط عليه الأمور، أحياناً قد تغيب من مكتبك وتأتي بأحد الموظفين، وإن كان صالحاً يصوم ثلاثة من كل شهر، يصلي الضحى، لكن يضيع عليك المعاملات، يجعلها حيص بيص وهو صالح، لكن الأمور لابد أن تعطى إلى أهلها الذين يدركونها، وهذا أمر معلوم في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
في نص الحديث عند مسلم وأحمد: {يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم}.
كان أبو ذر حتى في الإمامة لا يتقدم، يقول: لا يتولى على اثنين، وما كان يتولى في السفر، يكره الإمارة؛ لأنها كُلفة ولأنها تكثر أوجاع الرأس، ولأنها حمل للمغرم.
كان عمر بن عبد العزيز وهو أمير المؤمنين لا ينام بعض الليالي، فتقول زوجته فاطمة: لم لا تنام يا أمير المؤمنين؟
قال: كيف أنام وأمة محمد في عليه الصلاة والسلام في عنقي.
أي ففيهم الفقير، والمسكين، والأرملة، والمحتاج فكيف أنام والله يسألني يوم القيامة عنهم؟
وكان عمر يبكي ويقول: يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت شجرة، يا ليتني ما عرفت الحياة، يا ليتني ما توليت الخلافة.
وعند أحمد في المسند: {ما من والٍ يلي إلا غُل يوم القيامة، فإن عدل أطلق، وإن لم يعدل دهده على وجهه في النار} فالرسول صلى الله عليه وسلم حذر أبا ذر بأنه لا يصلح لهذا ونهاه , وأبعده عن هذا، فرضي الله عنه وأرضاه.(12/10)
شخصية أبي ذر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
أبو ذر يقول: {بايعني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً -يعني خمس بيعات- وواثقني سبعاً، وأشهد الله علي تسعاً، ألا أخاف في الله لومة لائم} رواه أحمد بسند جيد.
ولذلك كان يقول الحق، وأحياناً يكاد رأسه أن يطير، لكن مثلما يقول الشعر النبطي:
في سوق جاتك ما هي في سوق هونا
فهو من الله عز وجل على بصيرة، فقد بايع على ذلك.
يذهب في دمشق ينهى عن المنكر يذهب في عهد عثمان فيرى أهل الأموال: فيتكلم معهم، ما يقف موقفاً إلا ويتكلم، لأنه دائماً يقول: ألا أخاف في الله لومة لائم، ويقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فجلست إليه، فقال: أصليت؟
قلت: لا، فقام فصلى، ثم جلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي الرواية الأخرى أنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدني منجدلاً في المسجد، وهذا عند أحمد والطبراني وفيه شهر بن حوشب، وهو ضعيف، فقال: فاستويت جالساً، فقال صلى الله عليه وسلم: أتنام في المسجد؟ -وهو جائز النوم في المسجد، لكن يسأله صلى الله عليه وسلم: هل أنت دائماً تنام هنا في المسجد- قال: يا رسول الله! وهل لي بيت غير المسجد؟!
يقول: أين أنام -لا فندق ولا بيت- يقول: كيف بك إذا أخرجوك من المسجد؟ -يخبره عن المستقبل- يقول: كيف بك أنت إذا مر يوم يقول: اخرج من المدينة؟
قال: يا رسول الله، أخرج إلى الشام أرض الغزو وأرض الأنبياء، وبيت المقدس، قال: فكيف إذا أخرجوك من الشام؟ قال: أعود إلى هذا المسجد.
قال: كيف إذا أخرجوك من المدينة؟ آخذ سيفي فأقاتلهم، فتبسم عليه الصلاة والسلام، قال: لا.
تصبر وتحتسب، قال: فأنا صابر محتسب، وأتى ما أخبر به صلى الله عليه وسلم.(12/11)
أبو ذر في خلافة عثمان
تولى عثمان رضي الله عنه، وقام أبو ذر يناشد الناس بألا يدخروا الأموال، وهو رأي خطأ، وكلما أتى إلى مجلس في المسجد صاح فيه، وصاح في التجار، وفي السوق، فأراد عثمان رضي الله عنه أن يسيره للشام ليْعلِّم الناس، ولتهدأ المدينة نسبياً، فذهب إلى الشام، فجلس في المجالس في الشام يقول: لا تكنزوا، وكلما رأى منكراً عدا عليه، وعنده سكين كلما رأى جرة خمر في دمشق شقها، وكلما رأى نصرانياً لا يتقيد بأحكام الإسلام ضربه، فكتب معاوية إلى عثمان: إن كان لك حاجة في الشام، فخذ أبا ذر إليك، فكتب عثمان إلى أبي ذر أن تعال.
فأتى فدخل على عثمان، فلما أجلسه شاوره الصحابة، فقال أبو ذر: يا أمير المؤمنين -يقصد عثمان - إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لي: {إذا بلغ البناء سلعاً، فاخرج منها} سلع جبل في المدينة - يقول: إذا امتدت البيوت والسكنى إلى سلع فاخرج من المدينة، قد تغير الحال، حتى تبقى صافياً نقياً طاهراً، وأنا خارج، قال: اذهب، فأخذ غنمه، وأخذ خيمته، وأخذ زوجته، وذهب إلى الربذة على ثلاثة أميال من المدينة، فنصب خيمته هناك.
لوحوا بالكنوز راموا محالاً وأروني تلك الدنانير ملسا
كلها لا أريد فكوا عناني أطلقوا مهجتي فرأسي أقسى
واتركوني أذوب في كل قلبٍ أغرس الحب في حناياه غرسا
أجتلي كل روضةٍ بدموعي وأبث الأزهار في الروض همسا
هذه خيمتي وهذا نشيدي ونشيدي الرياح لحناً وهمسا
إلى آخر ما قال.
ذهب إلى الربذة وكان يأتي عند الجمرات في الحج فيعظ الناس، فيقول له أحد الناس: لا تتكلم، أمير المؤمنين ينهاك، فيقول أبو ذر، وهي في صحيح البخاري: [[أأنت رقيب علي؟!
والله لو وضعتم الصمصام على هذه وظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجهزوا على لأنقذتها]] يقول: والله لو وضعتم السيف على هذه، وبقي عندي كلمة من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لأطلقتها، يقول: لا تخوفني بالموت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بايعه ألا يخاف في الله لومة لائم، وجلس في الربذة، وكان يزوره الصحابة هناك، وكان يأتي أحياناً يحضر صلاة الجمعة أحياناً، وأحياناً يزور عثمان.
وعند الذهبي في السير أن ابن عباس كان حارساً على باب عثمان رضي الله عنه، فإذا أبو ذر يستأذن، وكان الناس يخافون من أبي ذر فهو ساطٍ قوي حار.
فطرق الباب، فقال: من؟ قال: أبو ذر.
قال ابن عباس لـ عثمان، والصحابة جلوس: أبو ذر يستأذن، قال: ائذن له إن شئت أن تحزننا هذه الليلة، وتهممنا وتبرح بنا، وهذه موجود في السير، يقول: إن شئت أن تدخل علينا الهم هذا اليوم، لأن هناك تجاراً جالسون، وسوف يهاجمهم، وهناك أناس ما عدلوا سوف يخاصمهم، وهو يعطي كل إنسان حقه، قال: إن شئت أن تهممنا هذا اليوم فائذن له، لكن الله المستعان يرد أبا ذر، ائذن له، فدخل ومعه العصا.
- سلام عليكم.
- وعليكم السلام.
- تفضل.
- جلس، سكت المجلس، وبدأ عثمان رضي الله عنه يتكلم في مسألة فرضية مالها علاقة بالتجارة ولا بالصناعة ولا بالزراعة ولا بالبلديات، قال: ما رأيك يا كعب -هذا كعب الأحبار يقسم فرائض- ما رأيك يا كعب في عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه، مات وترك مالاً، ما رأيك في هذا المال؟
أتى كعب الآن يقسم، وهو صحيح، قال: تقضى ديونه، وتقسم في ورثته، فقام أبو ذر: فضربه في رأسه -هكذا في السير، وهي والله موجودة بنصها في السير المجلد الثاني- فضربه في رأسه بالعصا، قال: تضلل الناس، لا بل يوزعه في الناس.
على مبدأ الاشتراكية، وأجله الله، وأعزه الله عن الاشتراكية، ورفعه الله وكرمه.
لكن دخل منها استالين فيقول: لا بل يوزع كله، قال عثمان: هذا ما تحرينا منك منذ اليوم، يعني هذا الذي انتظرناك، وبدأ يحاج رضي الله عنه، ويقول: كذا وكذا وكذا، كلما تكلم أحد قام أبو ذر، يرد عليه، وفي الأخير هدأ عثمان رضي الله عنه المسألة.(12/12)
موت أبي ذر رضي الله عنه
ثم عاد إلى الربذة، وأتاه الموت: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت:57].
لكنه كان صافياً لم يتعلق من الدنيا بشيء، ما تولى إمارة ولا جمع مالاً، ولا عنده ذهب ولا كنوز، مثلما أخبرتكم هذا رأس المال عنده، وأتته سكرات الموت، فبكت امرأته، قالت: يا أبا ذر: بعد صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام وصحبتك لـ أبي بكر وعمر تموت وحدك في الصحراء، فالتفت إليها، قال: لا عليك، أن أموت وحدي، إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أني أموت في الصحراء، وسوف يشهدني عصابة من المؤمنين، وهذا أمر الله، ثم أوصى وودع الحياة باسماً راضياً عن الله، وهو يحمل المنهج الرباني: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
وفي حديث الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {رحمك الله يا أبا ذر تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك} وذكر ابن حجر هذا الحديث في الإصابة ورواه البخاري في الكبير وغيره، ولكنه ضعيف، لأن في سنده بريدة بن سفيان ضعفه أهل العلم.
وسياق الحديث أن أبا ذر رضي الله عنه تخلف في معركة تبوك، وأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يحمل متاعه وحده، قال: {رحم الله أبا ذر، يعيش وحده ويموت وحده ويبعث وحده} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، والحديث كما قلت ضعيف.
مات وحده في الصحراء، وأتاه عصابة من المؤمنين، يقول الذهبي وأمثاله: كان منهم ابن مسعود، فلما مات وغسل وطيب وكفن وضعه أهله على قارعة الطريق، وأتى ابن مسعود من العراق يريد المدينة، فرأى الجنازة على الطريق، فأخذ يولول ويبكي، ويقول: واحبيباه! ووا أبا ذراه! ثم قال: صدق حبيبي صلى الله عليه وسلم: تموت وحدك، وتعيش وحدك، وتبعث وحدك.
شيعوه، وصلوا عليه، ودعوا له، وذهب إلى الله، ولكنه بقي في أرواحنا، وبقي في قلوبنا، وبقي في تاريخنا، بزهده، بصدقه مع الله، بإخلاصه في الدعوة، بجهره بالحق، بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، بحمله للقرآن، بتشرفه بحمله للسنة، بثباته، بصبره، بكل خصلة جميلة.
إنه قدوة للجيل، إنه أستاذ في هذا الفن، ولعله يكون كتاب فيه يتكلم عن نظرياته في الاقتصاد، وفي العلم، وفي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وفي الحياة والتربية، غفر الله له، وجمعنا به، وسلام عليه يوم أسلم، وسلام عليه يوم جاهد، ويوم مات، ويوم يبعث حياً.(12/13)
الأسئلة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(12/14)
سبب تكنيته بأبي ذر
السؤال
ما سبب تكنيته بـ أبي ذر؟
الجواب
لا ندري والله: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف:81 - 82].(12/15)
اسم زوجة أبي ذر
السؤال
من هي زوجة أبي ذر؟
الجواب
هي أم ذر.(12/16)
تولي أبي ذر الإمارة
السؤال
هل تولى أبو ذر رضي الله عنه الإمارة؟
الجواب
لا، أخبرناك أنه ما تولى، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوله.(12/17)
الشيخ حافظ الحكمي في سطور
السؤال
نريد نبذة عن الشيخ الحكمي؟
الجواب
من العلماء الفضلاء، وعسى أن يكون هناك فرصة لأتكلم في سلسلة علمائنا، وأتكلم عنه بإذن الله، رحمه الله، وأسكنه فسيح الجنات.(12/18)
الصحابة هم القدوة
السؤال
لماذا تركز على الصحابة في المحاضرات؟
الجواب
لأنهم صحابة، أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لنتعلم منهم: الأدب، والحكمة، والعلم، والتربية، لنعيش معهم، والمرء يحشر مع من أحب، أتريد أن أتكلم عن هتلر أو استالين أو لينين!(12/19)
فهم الزهد عند البعض خاطئ
السؤال
تكلمت عن الزهد، فتاقت أنفسنا إلى ذلك، ولكن نظام حياتنا يمنعنا من ذلك فما هو العمل لذلك؟
الجواب
ظهر لي أنه تقصد أن العصر متطور، وأن الزهد قد لا يتحقق مثل زهد أبي ذر، وهذا صحيح، والزهد كلمة نسبية، وأحسن من عرف الزهد هو ابن تيمية قال: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، أما ما ينفع فلا تزهد فيه، هل تظن أني أريد منك في هذا التطور المادي: البنايات، الكهرباء، الماء، الهاتف، أطلب منك أن تذهب إلى الصحراء وتسكن في خيمة أو بيت من طين، وإذا ركب الناس سيارات، كذلك أن تركب حماراً، لكنك تعيش بزهد لا يعطلك عن الآخرة، وإلا فاسكن في عمارة، وخذ ماء وكهرباء.
وسمعنا أن أناساً عندهم سوء فهم للزهد في بعض المناطق، يقولون: هذه كلها جاءت من الكفار، وهي محرمة، فسكنوا في بيوت طين، وهذا أمر معلوم، أنا لا أنقله عن فراغ، سكنوا في بيوت طين، وحتى طريقة النوافذ لم تكن مثل نوافذنا، والكهرباء ما دخلت إليهم، عندهم فوانيس بدل من هذه اللمبات، إلا أحدهم أخذ ماسورة مرة، ووصل ماء بالصنبور إلى داخل البيت، فقال له أحد الشباب: هذه الماسورة صنعها الكفار، نرى أن تتركها، قال: للضرورة، قال: خذ الكهرباء للضرورة والسيارة للضرورة، فالمقصد أنا لا أطالب بهذا، ولكن يعيش الإنسان بنسبية عصره، ويكون زاهداً فإننا نعرف بعض الناس عنده عشرة أثواب، يفطر في ثوب، ويتغدى في ثوب، والنوم في ثوب، والنهار في ثوب، وكثرة سيارات، وكثرة شهوات، وما عنده من علم الله، ولا من الفقه في دين الله، ولا من الخوف من الله ولو ذرة.(12/20)
تخصيص درس لشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم
السؤال
أوقفتنا أمام الذكريات، فأين شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام، أبو الذكريات، وقدوة السالكين صلى الله عليه وسلم، نرجو أن تخصص له محاضرة؟
الجواب
نشير إلى التنوفة وهي قفرٌ ومن بالسفح يعرف من عنينا
هؤلاء الذين أتحدث لكم عنهم إنما هم قطرات من بحره صلى الله عليه وسلم، أنا تحدثت الليلة عن أبي ذر، لكني أتحدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحدثت عن عمر، وتحدثت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، القرآن يتحدث عنه والسنة ومرت خطب ومحاضرات- الله أعلم بها- كثرة كاثرة، هل سمعتم قصة لم تربط بالرسول صلى الله عليه وسلم؟
هل سمعتم تعليماً ما كان المؤثر الأول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الله؟
هل سمعتم أدباً، أو خطأ لم ينبه عليه الرسول صلى الله عليه وسلم؟
بلى، فجلوسنا مع الصحابة هو جلوس مع الرسول صلى الله عليه وسلم.(12/21)
دعوة الآخرين لحضور المحاضرات
السؤال
أما ترى أن من الأحق للشباب أن يدعو الشباب لحضور هذه المجالس؟
الجواب
بلى، وقد كرر هذا، وإني أسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ومنهم، فمن دل على خير، فله أجر مثل أجر فاعله و {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم} فادعوا زملاءكم وهي كلها ساعة، اصبر من المغرب إلى العشاء، ثم تنال كرامات من الله، لا ينالها أحد من السلاطين، ولا من التجار، ولا من أهل الدنيا، لا ينالها إلا أنتم، هذه المدينة، أو المدينة المجاورة، أو المقاطعة صفوتها أنتم، هذا أمر معلوم أقوله من النقل والعقل والحس والعادة، صفوة المجتمع هم الذين أمامي.(12/22)
تخصيص محاضرة في الأدب
السؤال
كأن الأخ يريد محاضرة في الأدب؟
الجواب
سبق هناك يا إخوة "دور الأدب في معايشة النكبات" كان في نادي الرياض الأدبي، وهناك" رسالة الأدب وهموم الأمة" في نادي المنطقة الشرقية الأدبي كان مساء الأربعاء الماضي، فعسى أن يحصل على هذه الأشرطة، لأن الأدب مهم في هذه الفترة، ليكون هناك أدب مؤصل إسلامي وإيماني.(12/23)
مهاجمة الجاهلية مع ما فيها من أخلاق طيبة
السؤال
أنت هاجمت الجاهلية مع أن في الجاهلية أخلاق طيبة كالكرم والجود والحمية وغيرها؟
الجواب
أتريد مني ألا أهاجم الجاهلية، الله ذمها في القرآن، ووصف كل عمل شين بالجاهلية، هناك أخلاق حسنة أيدها الإسلام، لكن تبقى الجاهلية جاهلية، والجاهلية حقيرة وذليلة ووثنية، لا بد أن نهاجمها، كما هاجمها القرآن، وألا ندافع عن الجاهلية، بل من عقيدة ومن أصل قول لا إله إلا الله، أن نهاجم الجاهلية، وأن نغير عليها، والذي يمجد الجاهلية لا بد أن يؤدب ويوقف عند حده، مثل بعض الناس يدعو إلى القومية العربية ويفصل بقية المسلمين عن العرب، لأن قضيتنا كبرى، هي قضية لا إله إلا الله، قضية المعمورة، أو بعضهم يدعو إلى الوطنية، وليس هناك وطنية في الإسلام، ندعو إلى لا إله إلا الله، لينتصر دين الله في الأرض، هذا هو الصحيح.(12/24)
تخصيص درس للصحوة وأهميتها
السؤال
نريد درساً يهم الصحوة؟
الجواب
هو درس الشباب القادم هم والصحوة إن شاء الله يتحدث عن طلب العلم عندهم، عن الأدب عندهم، عن مسلك الدعوة، عن مسلك الأمر بالمعروف، اتصالهم بالعلماء، السكينة في حياتهم، الغيرة التي يحملونها، العواطف الجياشة، كل هذه سوف نتكلم عنها إن شاء الله بحول الله الواحد الأحد.(12/25)
أهم النصائح
السؤال
ماذا تنصحني به؟
الجواب
بتقوى الله عز وجل.(12/26)
حكم من ادخر من ماله قسطاً شهرياً
السؤال
أنا أدخر كل شهر ستين ريالاً فما حكمها؟
الجواب
أحد الناس من الأخيار قام يعظ الناس، فأتى يتحدث عن حديث تسعة وتسعين، يقول: من سبح لله ثلاثة وثلاثين دبر الصلاة، وحمد الله ثلاثة وثلاثين , وكبر الله ثلاثة وثلاثين، قال: هذه كلها تسعة وتسعين ريال؛ لأن قلبه معلق بالريالات، هذا فيه زكاة يا أيها الإخوة إذا حال عليه الحول، وبلغ النصاب وحال عليه الحول تزكيه.(12/27)
حكم تخصص الفيزياء
السؤال
ما حكم تخصص الفيزياء؟
الجواب
لا بأس به، ونرحب بك إذا كنت مصلياً مؤمناً تحمل" إياك نعبد، وإياك نستعين" وتحمل لا إله إلا الله، أنت تكون محبوباً وقريباً من الله، إذا درست الفيزياء، ونفعت المسلمين من الفيزياء؛ لأن الإسلام ليس فتوى فقط، الإسلام فيزياء وكيمياء، وتكون طياراً وطبيباً ومهندساً لكن موحداً، كثير من الأطباء والفيزيائيين والكيمائيين والمهندسين والأساتذة الأخيار والنابغين هؤلاء نقبل رءوسهم، وندعو لهم في السجود، ونسأل الله أن ينصر بهم الدين، فزد من طلبك للعلم، وأنت مأجور، وأنت مشكور على ما فعلت.
وأحد الإخوة سامحه الله هاجمني برسالة في الأسبوع الماضي، يقول: إنك تهجمت على الجغرافيا بدون حق، وأظن أنه نقل له الخبر وما حضر، لكنه حضر في الأسبوع الماضي ينتقم، وجاء معه برسالة حارة، فغفر الله له، والواجب أنه يتلطف، أو يسأل ماذا أريد، أو يسمع الشريط، وأنا لا أهاجم الجغرافيا، فإنها لا تنقض الوضوء إن شاء الله، أنا رأيت بعض الذين يدرسون الجغرافيا يصلون الجمعة.(12/28)
أفضل الدعاء
السؤال
هل أفضل الدعاء: اللهم إني أسألك العفو والعافية؟
الجواب
نعم من أفضل الدعاء.(12/29)
قول مرحباً لمن قال السلام عليكم
السؤال
بعض الناس إذا قلت: السلام عليكم، قال: مرحبا؟
الجواب
هذا لا يجزئ، لا بد أن يقول: وعليكم السلام ورحمة الله أو يزيد وبركاته، ومرحبا تأتي بعد، وحياك الله بعد، وصباح الخير بعد، كيف حالكم بعد، لا بد أن يرد التحية بمثلها، أو أحسن منها.(12/30)
الاستهزاء من قول لا إله إلا الله
السؤال
إذا قلت: لا إله إلا الله، ينظر إليك بعض الأشخاص، ويستهزئ بك، فكيف يكون حالة هذا الشخص؟
الجواب
المستهزئ يدل على فجوره، وعلى انحرافه -والعياذ بالله- لكن كذلك على الإنسان أن يكون بصيراً حتى لا يستحدث الألسن عليه والعيون، يعني أحياناً يجلس أربعة في مجلس، وهم يتحدثون في قضية ساكتين، فيقوم أحدهم يقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله كل حين، يبقى عادياً مثل الناس، وقد تجد بعض الناس ممن بدأ في الهداية يريد أن يثير الانتباه، مثل بعض الشباب تجده يأخذ العمامة، نحن عندنا هنا السائد أن نلبس هذه الغتر، أو البواتق، كلها - والحمد لله - فيها سعة، ومن لم يلبس غترة فلا شيء عليه، فيأتي أحد الناس فيلبس عمامة، تقول له: لماذا يا أخي لا تلبس مثل هذا، قال: لا، كذا السنة، قلنا: جزاك الله خيراً، لكن السنة بابها واسع، والزينة ليس فيها سنة مخصصة ألا تلبس إلا هو، لكنك تجلب الأنظار، كلما دخلت كأنك أبو حنيفة أو خرجت قالوا: الإمام أحمد، أو جلست قالوا: ابن تيمية جالس، ثم إذا جلس وعليه العمامة تنحنح، ولا ضرر في الناس، والله المستعان، فلا تترك الأصابع تشير إليك, ولا تكن مشهراً، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ذم لباس الشهرة، وأنا لا أهاجم العمامة، فمن لبسها بقصد الأجر، أجر عليها، لكننا نهاجم من يريد أن يشهر نفسه، حتى ذكر ابن تيمية أن بعض الناس قد يتقمص ثياباً من الزهد يشهر نفسه، وذكرها ابن القيم، وتجد بعض الناس من التجار، وتجده يلبس ثوباً ما يستاهل عشرة ريالات، ولكن اسأل عن رصيده في البنك والله عز وجل لا تخفى عليه خافية، فكن وسطاً، كن في غبراء الناس، البس مثلما يلبس الناس، إلا في محرم، ولا تظهر نفسك بالبذخ، ولا بادعاء الزهد.
وربما تأتي رسالة في الأسبوع القادم تقول: إنك هاجمت السنة، وأنك امتهنت العمامة، فلا والله! دمي فداء السنة، ورأسي يقطع في سبيل السنة، وعسى الله أن يبني منابر السنة على جماجمنا، ونحن والله نتشرف بغبار أقدام محمد صلى الله عليه وسلم، وإن أكبر نصيب لنا في الحياة نقدمه أن نحمل أرواحنا، وتشدخ أعناقنا في سبيل لا إله إلا الله، وعسى الله عز وجل أن يثبتنا وإياكم، وأن يلهمنا رشدنا، وإنما هذه لفتات أثابكم الله، وبارك فيكم.(12/31)
أتباع قارون
تحدث الشيخ عن جهل الإنسان وغفلته، وذكر أن غفلته قد تؤدي به إلى أن يعتقد أن المال الذي لديه إنما هو بذكائه وفطنته أو بسبب منزلته عند الله، وذكر قصة قارون ليدلل بذلك على مصير أهل هذه الغفلة.
وبالمقابل ذكر قصة عمر بن الخطاب وزهده وتفقده للمسلمين وذكر قصة استشهاده ثم ألمح إلى أهمية الاتصاف بصفات لا بد منها للمسلمين في هذا العصر؛ كالغضب إذا انتهكت حرمات الله، وحفظ الله في الشدة والرخاء والتوبة، وختم بمواعظ عن الزهد في الحياة الدنيا.(13/1)
الإنسان وجهله
إن الحمد الله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثل ما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بمحمد صلى الله عليه وسلم، عزَّ جاهك، وجلَّ ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت، في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك، أنت رب الطيبين، لا إله إلا أنت، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
اللهم صلِّ وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، اللهم صلِّ وسلم على صاحب اللواء المعقود، والحوض المورود، والصراط الممدود، اللهم صلِّ وسلم على من هديت به البشرية، وأنرت به أفكار الإنسانية، وزعزعت به الوثنية، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]
لماذا خلقنا؟
وإلى أين نصير؟
ومن يحاسبنا؟
وما هو مصيرنا؟
هذه أسئلة لا بد أن يجيب عنها من يريد الله والدار الآخرة، لماذا خلقت أيها الإنسان؟
لماذا وجدت؟
لماذا جعل الله لك عينين ولساناً وشفتين؟
لماذا بصَّرك وأراك؟
لماذا علَّمك وأنطقك؟
لماذا أكَّلك وشرَّبك؟
لماذا سترك وقوَّمك؟
لماذا أسمعك وبصَّرك؟
هذه الأسئلة لا بد أن يجيب عليها المسلم إن كان يريد الله والدار الآخرة.
يقول الله للإنسان: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] مالك تمردت علينا أيها الإنسان وقد خلقناك ولم تكن شيئاً؟!
مالك أيها الإنسان نسيتنا وقد علمناك، وجهلتنا وقد أدبناك، وتمردت علينا وقد أرويناك وسقيناك وأشبعناك؟!
والله يقول: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:1 - 3].
يا أيها الإنسان خُلقتَ من نطفة، وأتيت من بطن أمك إلى الدنيا وأنت تبكي، وكأن بطن أمك أوسع لك من الأرض، فلماذا خرجت تبكي من بطن أمك؟!
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
لا إله إلا الله، ما أغفل الإنسان! لا إله إلا الله ما أجهل الإنسان! لا إله إلا الله ما أظلم الإنسان! لا إله إلا الله ما أجفى الإنسان! يوم يأتي من بطن أمه لا ملابس ولا منصب ولا وظيفة ولا بيت ولا سيارة ولا جاه، فيسقط قطعة لحم على الأرض وهو يبكي، فإذا ما بصّره الله وعلمه الله وأنبته وأصبح له وظيفة، وأصبح ذا منصب وسيارة وجاه، نسي الله، وتمرد على حدود الله، وانتهك حدود الله ومحارم الله، فأين العقول؟!
وأين الأسماع؟!
وأين الأبصار؟!
يقول الله من فوق سبع سماوات: {الكبرياء إزاري، والعظمة ردائي؛ فمن نازعني في واحد منهما عذبته}.
أكبرُ كبيرٍ الله، أعظمُ عظيمٍ الله، أغنى الأغنياء الله، وأما أنت أيها الإنسان ففقير ابن فقير، مسكين ابن مسكين، إذا لم يسترك الله افتضحت.
فيا عباد الله! يا من أتى إلى بيوت الله! يا من عوَّد نفسه الصلوات الخمس! يا من شرَّف رأسه بالسجود لله! والله إنه لا شرف لكم، ولا لنا إلا بأن نصلي الصلوات الخمس لله، والله لا رفعة لنا ولا شرف إلا في أن نضع هذه الرءوس سجَّداً على التراب لله.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا(13/2)
التباهي بالمال وقصة قارون
ما هو شرف المال؟
قارون أغنى من ملك المال في الدنيا، لعنه الله لعنة تحيط به وبأهله، لماذا؟
لأنه ما عرف الله.
أتاه الله مالاً، وقال: يا قارون! خف الله في المال، اتق الله في هذا المال، المال وديعة عندك يا قارون، أنت ومالك مسلوب، فماذا أخذنا نحن من ميراث قارون؟!
إن كان عند أحدنا بيت أو سيارة أو بعض الأبناء أو وظيفة، فهي لا تساوي ذرة من ذرات كنوز قارون! فإن قارون لما آتاه الله الكنوز كانت مفاتيح كنوزه تنوء بها العصبة من الرجال، عشرة رجال لا يحملون المفاتيح؛ فما بالك بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة؟! ماذا فعل؟
خرج في أبهة خرج في جبروت خرج في كبر، والإنسان إذا نسي الله، وترك الذكر والصلاة جفا قلبه، وأصبح قطعة حجر، أصبح قلبه مثل قلب الثور، لا يعي ولا يعرف ولا يفقه، يأكل ويشرب لكن له قلب لا يفقه به، وله سمع لا يسمع به، وله بصر لا يبصر به.(13/3)
لا ارتباط بين المال وبين القرب من الله
المال يمتحنك الله به، فلا تظن أن الأغنياء والتجار لمنزلتهم عند الله آتاهم المال، لا.
{كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:21].
حياة الحمار يشبع منها، والثور يأكل ويشبع، وكذلك الإبل والبقر والغنم، حياة تافهة! لكن يقول الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35].
الخواجة يسكن في الدور العاشر، والمسلم لا يجد قطعة من الخيمة في الصحراء وكسرة الخبز؛ لماذا؟
لأنها دنيا، ولأن الله أعد الجنة لأوليائه تبارك وتعالى.(13/4)
نسيان الإنسان لنعمة الله
خرج قارون معه حلة من ديباج يتبختر فيها، فقال له قومه: اتق الله {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} [القصص:77] وعظوه.
فهو فعل كما يفعل بعض الناس الآن، إذا أغناه الله بعد الفقر، وأصح جسمه بعد السقم، وأتاه ذرية بعد أن لم يكن عنده ولد، نسي الله، فتجبر على عباد الله، وصعر خده لأولياء الله، فـ قارون فعل ذلك، ومما قالوا له: اتق الله {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78] الله يدري أني أستحق المال، وأنا أخذته بعرق جبيني وبجهدي وبذكائي وبدهائي، وهو كذاب دجال فما منحه المال إلا الله، ولا يرزق إلا الله.
والله الذي لا إله إلا هو إذا لم يرزقك الله فلن يرزقك أهل الدنيا ولو اجتمعوا عن بكرة أبيهم؛ لأن مفاتيح المال والخزائن من عند الله عز وجل، والقطر والزرق والإحياء والإماتة كلها بيده: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:1 - 3].
سبحان الله! كيف ينسى الإنسان؟!
أما يتذكر يوم كان ضعيفاً في بطن أمه؟!
كان قطعة لحم لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق ولا يتكلم، فلما امتلك العضلات، وأصبح قوي البنية، يلبس ما شاء من الملابس، أصبح لا يرى الناس شيئاً!
خف الله، لمن البقاء إلا لله! لمن الغنى إلا لله! لمن القوة إلا لله! ذكره قومه بذلك فنسي الله، قال له قومه: لا تبغ الفساد في الأرض، قال: إنما أوتيته على علم عندي!
{قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79] بعض الناس يظن إذا مهد الله له الدنيا ورزقه أبناءً وأولاداً وقصوراً وعماراتٍ وسيارات أن الله يحبه، وما يدري هذا الإنسان أنه قد يكون أعدى عدو لله في الأرض، وأن يكون حسابه أن يكب على وجهه في النار، ولا يدري أنه قد يكون أكبر فاجر على المعمورة، لكن الناس يختلفون في عقولهم، وفي بصائرهم {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص: 79].
يقولون: إن قارون بطل من الأبطال، وله منزلة عالية عند الله.(13/5)
بين قيمة الدنيا وقيمة ذكر الله
{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَن} [القصص:80] يقولون: خافوا الله، ثواب الله في الجنة أحسن من هذه الدنيا، والله الذي لا إله إلا هو إن "سبحان الله" فقط خير مما طلعت عليه الشمس وغربت، وكلكم يسمع عن سليمان بن داود، وقصصه في القرآن، ملك الجن والإنس والطيور والزواحف وكل ما هب ودب، حتى الريح هذه التي تمر علينا صباح مساء ملكها، كانت لا تتحرك إلا بأمره، إذا أراد أن يرتحل من بلد فإنه يأمر الريح {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12] يقول: يا ريح احمليني إلى الهند، فتأتي الريح فتكون كالبساط، ثم يركب هو ووزراؤه وحاشيته، فتنقله في لحظات، حتى ينزل في الأرض.
كيف تنزل به؟
يقول الله: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] أي ما تنزل بقوة إنما رخاءً -تدريجياً- حتى يهبط في الأرض، فارتفعت به الريح في مرة من المرات ومعه من جنوده وقوته قوة لا يعلمها إلا الله، ولما أصبح في السماء، مر تجاه الشمس فحجب ضوء الشمس عن فلاح يشتغل في الأرض؛ فنظر الفلاح فرأي سليمان عليه السلام والريح تمر به.
قال الفلاح: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، فسمعها سليمان عليه السلام، قال للريح: اهبطي بي هنا، فهبطت بجانب الفلاح، قال: ماذا قلت يا فلان، قال: ما قلت إلا خيراً، قال: ماذا قلت؟
خاف من سليمان قال: والله ما قلت إلا سبحان الله لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، قال: والذي نفسي بيده، لقولك سبحان الله في ميزانك خير مما أوتي آل داود.
الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول: {لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ أحب إلي مما طلعت عليه الشمس}.
رأيناهم والله أغنياءً يملكونها بالملايين، لا يتعاملون إلا بالشيكات والمصارف العالمية، ثم توفوا، وإن بعضهم توفي في مدينة نائية عن تجارته، حتى طلب له كفن من التجار بالشحاذة، شحذوا له كفناً، ودس في التراب.
أين الذهب؟ أين الفضة؟ أين الجاه؟
لا جاه إلا لمن أسعده الله.
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسرانُ
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ
يا عامراً لخراب الدهر مجتهداً بالله هل لخراب الدهر عمرانُ
تدخل مجلس أحدنا فتجده مزوقاً كأنه إيوان كسرى وقيصر؛ فيه الكنبات والروائح والملبوسات والمفروشات والمطعومات والمركوبات والعطور، شيء عجيب يُذْهِلُ، لكن ماذا أعددنا للقبر؟
ماذا أعددنا لتلك الحفرة؟
ماذا فعلنا بذاك القبر الضيق؟
يدس فيه الإنسان لا ولد، ولا أهل، ولا زوجة، ولا أنيس، ولا حبيب إلا من أسعده الله.
والموتُ فاذكره وما وراءه فمنه ما لأحد براءه
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّ
لكننا لا نفقه ولا نعي ولا نفهم، الله يقول لنا: عوا، افهموا، اسمعوا، تدبروا، اعقلوا؛ لكن أين القلوب؟!
ران عليها الخطأ، أظلمت وقست من السيئات.
كيف يعي قلب من يستمع الغناء صباح مساء؟!
على الأغنيات الماجنات من المغنين والمغنيات، الأحياء منهم والأموات، يصبح على الأغنية، ويمسي على الأغنية، يركب السيارة وهو يسمع أغنية، ويدخل المجلس مع أغنية، أبعثنا للناس بهذا؟!
أكانت حياة الصحابة كحياتنا؟!
هل أمرنا الله أن نعيش على هوامش الأحداث؟
أكل وشرب ونوم وغناء ورقص ولعب ولهو!! أين حياتنا؟!
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].(13/6)
مصير قارون
كان مصير قارون أن قال الله 6003332>فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:81] هذا الردى وهذه اللعنة والخبث وسوء الخاتمة.
{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ} [القصص:81]
من الذي ينصر إلا الله!
والله إن لم ينصر العبد لم ينصره أحد!!
العزيز من أعزه الله بالطاعة، والذليل من أذله الله بالمعصية، يقول الله عز وجل: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ} [القصص:81] أي: هل كان معه أسرة؟
هل كان معه قبيلة قامت تقاتل عنه بالسيوف؟
قوة الله لا تغلب، والله عز وجل يقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] من الذي ينصره الله؟
الرسول والمؤمنون، أما غير المؤمنين فلا ينصرهم الله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52].
{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ} [القصص:81] مسكين قارون، ضعيف مغفل، {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الكَافرُون} [القصص:81 - 82]
تدرون ماذا فعل؟
أتى في مصطبة من ذهب، وهي دكان مرتفع كله مصبوب من ذهب، فجلس عليه بحلة في الصباح، مرَّ موسى عليه السلام وهو الذي دخل على فرعون، داعية لا إله إلا الله، حامل لا إله إلا الله، الذي قاد الجيوش الجرارة لخدمة لا إله إلا الله، مر على قارون، قال: يا قارون! اتق الله، وقل: لا إله إلا الله، فتكلم بكلام بذيء في عرض موسى عليه السلام، ولذلك يقول الله تعالى: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69].
ولذلك تجد أن الدعاة وطلبة العلم والعلماء والصالحون وأهل الخير والعباد والزهاد ينالون نصيباً من هذا الاستهزاء والاستهتار والتعليق المرير، لكن قدوتهم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، يقول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان:17] ثم يقول بعدها: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] فإنك إذا أمرت ونهيت سوف تنالك الألسنة، وسوف تعترضك القلوب التي ما عرفت لا إله إلا الله، موسى عليه السلام لقي الله فكلمه كفاحاً بلا ترجمان، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ما كلم أحداً من الناس إلا موسى عليه السلام: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] فلما كلمه قال: يا موسى أتريد شيئاً؟ قال: نعم يا رب.
قال: ما تريد؟
قال: يا رب! كف ألسنة الناس لا يتكلمون في عرضي، يقول: يارب! امنعني من ألسنة الناس في المجالس حتى لا ينالوا من عرضي ولا يتكلموا فيَّ.
قال الله: يا موسى ما اتخذت ذلك لنفسي، إني أرزقهم وأعافيهم، وإنهم يسبونني ويشتمونني!
الله عز وجل الذي خلق الإنسان وبصَّر الإنسان، وعلم الإنسان، ورزق الإنسان؛ ومع ذلك يسبه الناس!
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة يقول الله عز وجل: {يشتمني ابن آدم وليس له ذلك، ويسبني ابن آدم وليس له ذلك، أما شتمه إياي فيقول: إن لي صاحبةً وولداً، وأنا ليس لي صاحبة ولا ولد، سبحاني! وأما سبه إياي فإنه يسب الدهر، وأنا الدهر؛ أقلب الليل والنهار كيف أشاء!}.
سبحان الله!
إذا مات ابن للإنسان تسخط على الله، وقال: يارب! تأخذه من بين يدي؟! يا رب! لم تمهله حتى يدرس وينفعني؟! وإذا رسب قال: يا رب! تنجح أولاد فلان، وترسب أولادي، ما هذا يا رب؟!
سبحان الله! أنت أحكم من الله؟!
أنت أعدل من الله؟!
الله أعلم؛ فكلمته وأمره وقضاؤه في (كن) فهو الحكيم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فلما مرّ موسى قال: اتق الله يا قارون، فتكلم عليه، فقال موسى: اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، فنزل بيته في الأرض، وأصبح يريد أن يقوم، وهو مشرف والبيت وراء ظهره، وهو على دكان من ذهب، فنزل الدكان ونزل البيت جميعاً، وكانت كنوزه تنزل معه، وكانت قلعته وهي من ذهب وفضة تنزل معه في الأرض، أراد أن يفر فما استطاع؛ لأنه محبوس في الأرض، فينزل رويداً رويداً وهو ينادي: يا موسى! يا موسى أطلقني! فنزل وموسى ينظر إليه هو وبنو إسرائيل، فيقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَىتَعَالَى في آخر القصة: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
الحياة يا عباد الله معناها أن تعيش لله، وتموت لله، وتبعث لله، أما حياة ليس فيها صلاة، وليس فيها عبادة، وليس فيها اتصال بالله، فليست حياة، والعجيب أن بعض الناس راضٍ عن نفسه، يرى أنه إذا كانت له دار فسيحة وأبناء، ويأكل ويشرب، وعنده سيارات، وقد ارتاح إلى هذه الحالة، أن الله راضٍ عنه.
فهل سأل نفسه عن معاملته مع الله؟
هل سأل نفسه هل يحافظ على الصلوات الخمس في المسجد؟
هل علم كيف قلبه مع المسلمين، بره لوالديه، صلته لرحمه، خوفه من الله يوم يحلف، ويوم يبيع ويشتري، ويوم يعاهد، ويوم يزور ويتعامل؟(13/7)
صدق عمر بن الخطاب مع الله
إن الله سبحان وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم لهداية الإنسان، فأتى عليه الصلاة والسلام والناس في جاهلية جهلاء -وبعض مناطقنا لا زالت تعيش بعض الصور من تلك الجاهلية التي عاشها الناس قبله صلى الله عليه وسلم- فلما أتى صلى الله عليه وسلم، قال: {يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا} وعاد الناس واستجاب من أراد الله أن يستجيب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].
وكان ممن استجاب الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خليفة الإسلام، كان قبل الإسلام بلا إرادة ولا تفكير ولا طموح، كان يعيش مثلما يعيش كثير من الناس، يأكل ويشرب وينام، لا يغضب إذا انتهكت حدود الله، لا يحزن إذا فاتته صلاة، لا يحزن ولا يغتم إذا رأى شباب الإسلام منهمكاً في المعاصي، إنما همه بطنه وفرجه، فإذا بقي عليه رزقه، بقيت عليه وظيفته، فكل شيء على ما يرام.
فأتى عمر ووضع كفه في يد المصطفى صلى الله وسلم وأسلم، وذلك بعد أن سمع سورة طه، ومن يوم أسلم بدأ قلبه حياً مع الله؛ لأن الله يحيي القلوب بعد إماتتها، واستمر في الإسلام.
وبعد عشرين سنة أو أكثر تولى خلافة المسلمين وأصبح ذهب الدنيا تحت يديه، وفضة الدنيا تحت يديه، أصبح هو المسئول الأول، فماذا فعل؟
كان من أبسط الناس، وأزهدهم في الدنيا وأفقرهم، ما كان يشبع من الشعير، يصعد يوم الجمعة على المنبر وعليه رداء فيه أربع عشرة رقعة، وبإمكانه لو أراد أن يلبس الذهب والديباج.(13/8)
عمر في عام الرمادة
عام الرمادة عام الجوع والقحط، كان في العام الثامن عشر من الهجرة حيث مر قحط على المسلمين حتى رأوا الدخان يفوح من الأرض، وحتى أكلوا الميتة، ولم يبق هناك نبتة خضراء، أكلوا أوراق الشجر حتى تشرمت أشداقهم، ولم يعد هناك ورقة شجر، فصعد على المنبر وهو يبكي يوم الجمعة، ويقول: يا رب! لا تعذب أمة محمد بسبب ذنوبي؟!
ذنوب عمر الزاهد المجاهد، قائم الليل، تالي كتاب الله، يجعل الذنب ذنبه، ونحن الآن إذا قلنا: نحن مذنبون، قالوا: لا الحمد الله نحن من أحسن الناس، ما أذنبنا، والله إنا لنصلي، وإنا مستقيمون على طاعته ولا نريد شيئاً، ويا ليت الناس مثلنا!
عمر يقول على المنبر وهو يبكي: [[اللهم لا تعذب أمة محمد بسبب ذنوبي، يارب! أتهلك أمة محمد في عهدي]] ثم يَبكي ويُبكي الناس.
ويقوم يخطب فيقرقر بطنه من الجوع، ما أصبح في بطنه شيء، فيقول: [[قرقر أو لا تقرقر؛ والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]].(13/9)
عمر وتفقده للمسلمين
ينزل عمر رضي الله عنه وأرضاه في ليلة يطوف بعصاه بعد صلاة العشاء يتفقد الناس يتفقد المريض, والمسكين، والأرملة، والجائع.
كيف ينام وهناك أنفس لا تنام؟!
كيف يرتاح وهناك أنفس لا ترتاح؟!
فسمع بكاءًَ في بيت فاقترب منه، ووضع رأسه على صائر الباب، فسمع امرأة تبكي في الطلق أي: في النفاس، فأخذ يبكي، ذكر ذلك ابن كثير في البداية والنهاية، فقال مولاه أسلم: ما لك يا أمير المؤمنين! تبكي، قال: إنك ما تعلم يا أسلم بالألم الذي تجده هذه المرأة، انطلق بنا يا أسلم إني أخاف الله أن يسألني عن هذه المرأة إن قصرت في حقها، فانطلق إلى بيت المال وحمل جراباً من شحم وزيت ودقيق -وهو خليفة- ودخل البيت واستأذن من المرأة، وصنع لها طعاماً بيده الكريمة.
هذه تربية لا إله إلا الله، وتربية محمد صلى الله عليه وسلم الذي غرس في قلوبهم لا إله إلا الله؛ ولذلك كانت قصورهم الجنة كالربابة البيضاء {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] فدخل عليها وصنع لها الطعام وقدم لها تأكل قالت: والله الذي لا إله إلا هو إنك خير من عمر بن الخطاب، وهو عمر بن الخطاب، ثم أخذ يبكي ويقول له مولاه: مالك؟
قال: إني أخاف من الله أن يعذبني بسبب هذه الأمة، كم من فقير، كم من مسكين! كم من أرملة! كم من طفل!(13/10)
دعاء عمر في آخر حجة حجها
عمر رضي الله عنه وأرضاه لما علم الله أنه صادق وأنه يريد ما عند الله والدار الآخرة فإنه عندما حج آخر حجة، ووقف عند الجمرات الثلاث ورفع يديه، قال: [[اللهم ضعفت قوتي، ورقَّ عظمي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مفرط ولا مفتون، اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتةً في بلد رسولك، قال له الصحابة: يا أمير المؤمنين، تريد الموت في سبيل الله، في بلد رسول الله؟! -أي من يريد الشهادة يخرج إلى الثغور وإلى الحدود- قال: هكذا سألت الله، وأسأل الله أن يلبي لي ما سألت]] ثم عاد إلى المدينة.(13/11)
استشهاد عمر
وفي أول ليلة نامها عمر رأى رؤيا في المنام، رأى أن ديكاً ينقره ثلاث نقرات، فسأل بعض الصحابة: ما تأويل الرؤيا، قالت له أسماء بنت عميس -إحدى الصحابيات المؤمنات- وكانت تفسر الأحلام وتعبر الرؤيا: يا أمير المؤمنين أستودعك الله في نفسك الذي لا تضيع ودائعه، سوف يطعنك رجل بخنجر ثلاث طعنات ويقتلك.
قال: الله المستعان! إنا لله وإنا إليه راجعون!
وصلى صلاة الفجر في اليوم الثاني، وكان إذا صلى الفجر غالباً ما يقرأ سورة يوسف بعد الفاتحة، فقام يقرأ سورة يوسف، فلما بلغ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] فنهد باكياً وبكى الناس معه، ولما ركع تقدم له أبو لؤلؤة المجوسي.
مولى المغيرة لا جادتك غادية من رحمة الله ما جادت غواديها
تقدم بخنجر ذي حدين قد سمه شهراً، حتى أصبح الخنجر أزرق من كثرة السم، ثم ضرب عمر أمير المؤمنين، حصن الإسلام، العادل الكبير، الزاهد العابد النحرير، الذي ما عرف إلا قيام الليل والوقوف مع المسكين والفقير والأرملة، ضربه ثلاث طعنات ليهدم ركن الإسلام، فصرع عمر ووقع على وجهه في الأرض، وهو يقول: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، ثم التفت وقدم أحد المسلمين، فلما صلوا أغمي عليه -غشي- من كثرة الدم، قال: من قتلني؟
قالوا: أبو لؤلؤة، قال: الحمد الله الذي جعل شهادتي على يد رجل ما سجد لله سجدة.
ثم رفعوه على أكتافهم، يقول أنس: [[ظننا أن القيامة قامت يوم مات عمر]] ويقول علي: [[والله الذي لا إله إلا هو لقد كفنت سعادة الإسلام في أكفان عمر]].
ووضعوه في البيت، فلما أرادوا أن يضعوا رأسه وهو مطعون يعالج السكرات، وضعوا له مخدة -وسادة- تحت رأسه، قال: [[انزعوها من تحت رأسي، وضعوا رأسي على التراب، علَّ الله أن يرحمني! فأخذ يمرغ وجهه على التراب وهو يبكي ويقول: يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه]] فدخل عليه علي رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين طوبى لك! وهنيئاً لك! والله لطالما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {جئت أنا وأبو بكر وعمر , ودخلت أنا وأبو بكر وعمر , وخرجت أنا وأبو بكر وعمر} فأسأل الله أن يحشرك مع صاحبيك، فقال عمر: [[ياليتني نجوت كفافاً لا لي ولا علي]]! يقول: يا ليتني أخرج من الحساب يوم القيامة لا حسنات ولا سيئات، سبحان الله! وهم المجاهدون الصادقون الزهاد العباد، فماذا فعلنا نحن؟!
بماذا نلقى الله يوم القيامة؟!
ونقول: والله لقد أسأنا مع الله كل الإساءة، نستغفر الله ونتوب إليه!(13/12)
أحوال المسلمين في هذا العصر
هل داومنا على الصلوات الخمس كل فرض في المسجد؟
هل دعونا جيراننا إلى المساجد صباح مساء؟
هل والينا في الله، أحببنا في الله وأبغضنا في الله؟
هل أخذنا على يد الفاجر السفيه الذي يريد أن يردينا في النار؟
وقلنا: لا.
خف الله لا نريد الباطل.
نرى الباطل ونؤيد على الباطل إلا من رحم الله، وأنا أتكلم لأنني أعرف، ونحن أهل قرى وقبائل، نعرف المآسي التي يعيشها الكثير من القبائل.
نعم! يرون الباطل ولا يقومون في وجه الباطل، ويرون حدود الله تنتهك ومحارم الله ترتكب ولا يغضبون.
أنا أتكلم عن قبيلتي أنا، فكيف ندعو الله في القطر؟!
وكيف نقول نحن نحب الله؟!
وما هي أعمالنا؟!
السفيه يؤيد، والفاجر يسدد، ولكن لا يجد صاحب كلمة الحق من يعضده ويقوم معه، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79] إي والله لبئس ما كانوا يفعلون.
يرون الفاجر ويسكتون، والمعصية ولا يتكلمون، ولا تتمعر وجوههم, وأحدهم لو انتهك شيء من ماله أو ولده أو تكلم على عرضه وسُب، قامت الدنيا وقعدت، وأخذ السلاح وقاتل، أما حدود الله فتنتهك ولا أحد يغضب، المساجد تهجر، الأغاني الماجنة تنتشر، الحجاب يترك، السفور يوضع ويوقع، والمرأة لا تتقي الله عز وجل في البيوت، إلا من رحم الله.
سبحان الله! الربا يتعامل به، الرشوة، ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الغيبة في المجالس، الاستهزاء والاستهتار بالصالحين، ونقول: الله يرحمنا نحن على خيرٍ إذا خفنا الله، نحن على خيرٍ إذا اتقينا الله عز وجل.
الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أرسل جبريل عليه السلام وقال: إن أهل تلك القرية قد عصوني، وتمردوا على حدودي، وأكلوا نعمي، وتجرءوا على حرماتي فخذهم، وجبريل إذا أرسله الله له ستمائة جناح، الجناح الواحد يكفي لأن ينقل قرى الجنوب كلها مرة، قرى قوم لوط أربع وهي القرى المؤتفكات، كانوا ستمائة ألف كما يقول المؤرخون، أرسل الله جبريل فقال: خذهم.
لماذا؟
قوم لوط عمت فيهم الفاحشة، كانوا يفعلون كل منكر في ناديهم، وما كان أحدهم يقول اتقوا الله يا عباد الله، خافوا الله، عندهم الفجور واللواط والزنا والفحش والتحريش والمحاسدة والأيمان الغموس والتبجح وظلم الناس والفجور والكبر، فما أحد يقول: اتقوا الله.
فغضب الله، والله إذا غضب أخذ، يمهل ولكن إذا أخذ لا يفلت أبداً، يقول الله: {إذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإذا غضبت لعنت، وإن لعنتي لتبلغ السابع من الولد}.
نعوذ بالله من لعنة الله، ونعوذ بالله من غضب الله، ونعوذ بالله من قلوب لا تتقي الله.
فأرسل جبريل، وقال: خذهم، وعند جبريل -كما في الصحيح- ستمائة جناح، فما استعمل إلا جناحاً واحداً واقتلع القرى من جذورها وجبالها قبل أن يأتي القرى بمسافة.
وذلك مثل أن يأخذ من هنا قرى أبعد من خمسين كيلو، فرفع القرى بجبالها وأوديتها وأشجارها وأنهارها، حتى رفعهم إلى قرب السماء الدنيا، وسمعت ملائكة السماء -كما في الحديث- نباح كلابهم، وصياح دجاجهم، ثم لطمهم بالأرض، وما كفى هذا، بل أرسل الله عليهم حجارة من طين، كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات:34] كل مجرم يكتب اسمه على حجرة، فتأتي وتقع في رأسه وتخرج من دبره، فالله عز وجل غضب على قرية من القرى ما تآمرت بالمعروف ولا تناصحت، فقال: يا جبريل خذهم! فنزل جبريل عليه السلام، فمر فوجد رجلاً مصلياً صائماً في مسجد، فعاد إلى الله قال: يا رب، هناك عبد يصلي ويذكرك ويسبحك ويدعوك، قال: يا جبريل فبه فأبدأ.
قال: يا رب! ولم؟
قال: إنه يرى المنكر، وما يتمعر وجهه غضباً لي.
الله عز وجل يغضب من العبد الذي لا يغضب لمحارمه، ونحن نغضب لمحارمنا ولا نغضب لمحارم الله؟! ونغضب لأنفسنا ولا نغضب لله؟!
أي قلوب فحمل؟!
فلما فعل بنو إسرائيل ذلك عمهم الله بالعذاب، وقست قلوبهم: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13].(13/13)
التحذير من الغرور والغفلة في الرخاء(13/14)
قصة فرعون
فرعون الطاغية الخبيث -عليه لعنة الله- وقف يقول لأهل مصر: {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51].
فجعل الله الأنهار تجري من فوق رأسه، دمره الله في اليم: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90].
ما شاء الله تعلن الإسلام الآن؟! آمنت اليوم؟!
ملأت الدنيا أعمالاً سيئةً، ولطخت الدماء بيديك، وضحكت على التاريخ، ودُسْت القيم، والآن لما أصبحتَ في هذا المكان الضيق قلتَ: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90].
مثلما يفعل كثير من الناس اليوم، أما وقت الرخاء فيتبجح على الله، ويتعدى على حدود الله، وينتهك حرمات الله، كثيراً ما ترى بعض الشباب لا يلقي بالاً للمساجد ولا للقرآن ولا للدعوة والذكر ومخافة الله، كلما عَنَّ له شيء، ركب رأسه، فإذا كسر ظهره وأصبح على السرير الأبيض في المستشفى عاد إلى الله، أين أنت وقت الرخاء؟!
أعند الشدة تعود إلى الله؟!
{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65].
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناهُ
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناهُ
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناهُ
ونركب الجو في أمن وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ اللهُ
فلما بلغ فرعون هذا الموضع: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] وهو دجال كذاب، لو كان صادقاً لآمن وقت الرخاء، قال الله سبحانه: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:91 - 92] ولذلك طفر به البحر فأخرج جثته، فما زالت جثته إلى اليوم لم تأكله الأرض، ليكون عبرة لكل من ينظر، لكن الذي يحفظ الله في الرخاء يحفظه الله في الشدة.
إذا ضاقت عليك الضوائق وأتت عليك المصائب، وكنت في الرخاء تذكر الله وتقوم بحدود الله، ينجيك الله، ويجعل لك مخرجاً.
فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان(13/15)
قصة يونس عليه السلام
يونس عليه السلام أحد الأنبياء، كان يحفظ الله في الرخاء، كان صائم النهار قائم الليل، مصلياً ذاكراً، خرج غاضباً على قومه، وما استأذن الله، والواجب أن يستأذن ربه، لكن قومه عاندوه، يقول لهم: هذا الطريق المستقيم فقالوا: لا.
خطأ، وفي الأخير غضب وما صبر.
فلما ركب السفينة في البحر، أخذت الريح تلعب بالسفينة، فقال ربان السفينة: معنا رجل مذنب، ولا يمكن أن تهدأ الريح حتى تنزلوا هذا الرجل من السفينة! وقد كان قواد السفن يعرفون أنه لا يأتي الخلل إلا من ذنوب وخطايا، قالوا: نقترع.
واستهموا فوقعت القرعة على يونس عليه السلام، فأقرعوا ثانية فوقعت عليه، فأقرعوا ثالثةً فوقعت عليه، فأخذوه بثيابه ويديه ورجليه، وأوقعوه في البحر وسط الليل.
سبحان الله! لا قريبَ ولا أهلَ، لا زوجةَ ولا ولد، وليته بقي على خشبة، لكن ابتلعه الحوت -سمكة- فما وقع في البحر إلا وهو فاغر فاه، فأصبح في ظلمات ثلاث: ظلمة اليم، وظلمة الليل، وظلمة الحوت.
فمن يتذكر؟!
هل يتصل بأهله؟!
هل يكلم أخاه أو قومه؟!
لا.
قال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] رد إلهامه إلى الله.
وناد إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذو النون بن مَتَّى
وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
فلما قال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، قذفته السمكة في الصحراء، وأنجاه الله الذي يقول للشيء: كن فيكون.
لماذا؟ لأنه حفظ الله في الرخاء.(13/16)
احفظ الله يحفظك
يذكر ابن القيم في كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي قصة رجل من الصالحين كان يصوم النهار ويقوم الليل، والصلاح ليس كلمةً تقال، ولا خطبة جمعة يخطبها الإنسان، فإذا خرج فهو هو من أظلم الناس وأفجرهم، قاطع رحم، عاق والديه، يحلف الأيمان الغموس، فهذا ليس بصلاح، الصلاح عمل، إنما الصلاح تقوى، ومخافة من الحي القيوم.
فهذا الرجل الصالح كان يشتغل في التجارة، وكان كثير الذكر، والتلاوة، والصيام، والعبادة، خرج ببغلات -وعنده بغال يستعملها في التجارة- فمر به مجرم فقال: يا فلان! أوصلني إلى ذلك المكان.
قال: اركب معي.
فركب معه، فلما أصبحوا في غابة لا يراهم إلا الله، أتى هذا الرجل المجرم، فأخرج خنجراً معه، وقال لهذا الرجل الصالح: ادفع ما عندك من مال فوالله لأقتلنك، قال الرجل الصالح: أسألك بالله الذي قامت به السماوات والأرض أن تأخذ ما عندي من مال وما عندي من تجارة وتتركني، فلدي سبعةُ أبناءٍ وأمهم، لا يعولهم بعد الله إلا أنا.
قال: والله الذي لا إله إلا هو لأقتلنك.
قال: فأسألك بمن قامت به السماوات والأرض أن تتركني لأصلي ركعتين، فقام فتوضأ وقام يصلي، قال: فلما كبرت، نسيت كل آية من القرآن من الخوف، والله ما ذكرت إلا قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] من يجيب المضطر إلا الله! من يكشف السوء إلا الله! من يشفي المريض إلا الله! من يجبر الكسير إلا الله! {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] قال: فقلت في نفسي: يا من يجيب المضطر إذا دعاه أجبني! يا من يجيب المضطر إذا دعاه أجبني! يا من يجيب المضطر إذا دعاه أجبني!
قال: فوالله ما انتهيت من الدعاء، إلا وفارس قد أقبل على فرس من أسفل الوادي ومعه حربة أرسلها، فوقعت في لبة هذا الرجل، فإذا هو مقتول على قفاه، قلت: أسألك بالله أنت رسول من؟
قال: أنا رسول من يجيب المضطر إذا دعاه، لما دعوت الدعوة الأولى كنت في السماء السابعة، ولما دعوت بالدعوة الثانية كنت في الرابعة، ولما دعوت الثالثة أتيت إلى الأرض لأقتل هذا المجرم.
وهذا عند أهل السنة والجماعة والعلماء من كرامات الأولياء.
إن من يحفظ الله في الرخاء، يحفظه في الشدة، يقول عليه الصلاة والسلام لـ ابن عباس: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
هذه يا عباد الله قضايا لا بد أن تفهم لكل مسلم، أن من لم يحفظ الله لا يحفظه الله.(13/17)
وجوب التوبة
ومن القضايا التي أريد أن أذكر نفسي وإياكم بها قضية التوبة، أن نتوب إلى الله ونستغفره ليلاً ونهاراً، فقد أخطأنا كثيراً، وأسأنا كثيراً، وتعدينا كثيراً، وليس لنا إلا التوبة، والله يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] ويقول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136].(13/18)
قصة المسرف على نفسه
يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: {كان في من كان قبلكم رجل أسرف على نفسه في الخطايا، فلما حضرته الوفاة قال لأبنائه: إذا مت فأحرقوني بالنار ثم اسحقوني، ثم ذروني على الريح حتى تذهب بي يمنة ويسرة فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً شديداً} سبحان الله! ظن أنه يفوت على الله {فلما مات أحرقوه بالنار وسحقوه وذروه، فأخذته الريح في كل مكان، فجمعه الذي أنشأه أول مرة وأحياه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى! الذي يقول للشيء: كن فيكون، فلما أصبح أمامه رجلاً، قال: يا عبدي! ما حملك على ما صنعت؟
قال: يا رب! خفتك وخشيت ذنوبي، قال الله: يا ملائكتي أشهدكم أني غفرت له وأدخلته الجنة} هذا تائب أقبل على الله عز وجل، فأوصيكم ونفسي بالتوبة والاستغفار، ومراجعة الحساب معه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى والرجوع إليه.(13/19)
توبة القاتل
في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً قتل تسعة وتسعين نفساً -وهذا معروف ومشهور- فأتى إلى الرجل الراهب قال: هل لي من توبة؟
قال: لا! ليس لك توبة.
سبحان الله! من يغلق باب التوبة عليه؟!
باب فتحه الله عز وجل يغلقه هذا العبد!
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم أعتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النار
قال: ليس لك توبة، فقتله فوفى به المائة.
وذهب إلى عالم، قال: هل لي توبة؟
قال: نعم، ومن يغلق عليك باب التوبة؟!
وباب التوبة فتحه الله حتى تطلع الشمس من مغربها، فتاب إلى الله.
قال: إني أرشدك أن تخرج من قريتك التي أنت فيها لأنها قرية سوء.
وبعض القرى سيئة ظالم أهلها بعض القرى لا يعينونك على طاعة الله.
فخرج من القرية، ولما أصبح في منتصف الطريق أتته سكرات الموت فمات، فنزلت ملائكة العذاب وملائكة الرحمة فاختصموا فيه، ملائكة الرحمة يقولون: خرج تائباً منيباً إلى الله، فجزاؤه أن يدخل الجنة، وملائكة العذاب يقولون: ما عمل لله عملاً صالحاً، وجزاؤه النار، فأوحى الله إليهم أن قيسوا ما بين المسافتين، فإن كان أقرب إلى القرية التي خرج إليها فهو منها، إن كان أقرب إلى القرية التي هو خرج منها، فهو من أهل النار.
فأتوا يقيسون المسافة، فأوحى الله إلى تلك القرية أن تقاربي، وإلى تلك القرية أن تباعدي، فكان من أهل تلك القرية السعيدة، فكان من أهل الجنة.
فيا الله رحمتك! ويا الله عونك للملهوف الضعيف المذنب يوم لا يجد راحماً إلا الله!
عطاءُ الله ممنوح، وبابه مفتوح ونواله يغدو ويروح.(13/20)
التوبة من الزنا
أتت امرأة إليه صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- فأخبرته أنها زنت، وأنها أسرفت على نفسها، فأشاح صلى الله عليه وسلم بوجهه -لا يريد أن تعترف- يقول: {ادرءوا الحدود بالشبهات} يريد أن ييسر على الناس، فأتته من الجهة الأخرى فاعترفت فأشاح، حتى اعترفت أربع مرات، وهي تطلب أن يطهرها عليه الصلاة والسلام، وهي ثيب, وحد الثيب أن ترجم بالحجارة حتى تموت، لكن قدمت نفسها رخيصةً في سبيل الله.
فقال لها صلى الله عليه وسلم: عودي حتى تضعي، فعادت حتى وضعت ولدها، وأتت به في لفائف، فرآها صلى الله عليه وسلم، فقال: عودي حتى ترضعيه، فأرضعته سنتين، ثم أتت به وهي صابرة محتسبة تريد الله والدار الآخرة.
قال صلى الله عليه وسلم: من يكفل هذا الغلام وهو رفيقي في الجنة، قال أحد الأنصار: أنا يا رسول الله، فأخذوها وذهبوا بها يرجمونها بالحجارة، وهي صابرة محتسبة، فلما قتلوها قال أحد الصحابة: ليتها استترت، قال عليه الصلاة السلام وقد سمعه: والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها سبعون رجلاً من أهل المدينة، لوسعتهم} وفي لفظ: {والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها أهل المدينة لوسعتهم، والذي نفسي بيده إني لأراها تنغمس في أنهار الجنة}.
هذا هو ربنا التائب الرحيم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
تنبهوا يا رقود إلى متى ذا الجمودُ
فهذه الدار تبلى وما عليها يبيدُ
الخير فيها قليل والشر فيها عتيدُ
والبر ينقص فيها والسيئات تزيدُ
فاستكثر الزاد فيها إن الطريق بعيدُ
أمامك حفرة مظلمة، والله لا يجليها اللهُ إلا للمتقين، أمامك قبر صرع فيه الملوك والرؤساء والأمراء والوزراء والتجار، أمامك قبر أخذ القرون حتى أرداهم.
أبني أبينا نحن أهل منازل أبداً غراب البين فيها ينعق
نبكي على الدنيا وما من معشر جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
صم إذا نودوا كأن لم يعلموا أن الكلام لهم حلال مطلقُ(13/21)
عمر بن عبد العزيز ينادي أهل القبور
مر عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد رضي الله عنه وأرضاه، وهو مجدد القرن الأول؛ مر يوم العيد، وكان خليفة المسلمين من طشقند في الشمال إلى جنوب أفريقيا، ومن مشارف سيبيريا إلى الأندلس، إلى مشارف نهر السند، كان يملكها رضي الله عنه وأرضاه، فنزل يوم العيد فرأى المقابر، فبكى حتى جلس، وقال: يا أيتها المقابر، كم فيك من حبيب! كم فيك من قريب! ما كأنهم أكلوا مع من أكل! ما كأنهم شربوا مع من شرب! ما كأنهم ضحكوا مع من ضحك!
ثم قال: يا موت ماذا فعلت بالأحبة؟
ثم بكى، وأجاب نفسه بنفسه وقال: أتدرون ماذا يقول الموت؟
قال: يقول: أكلت الحدقتين، وذهبت بالعينين، وفصلت الكفين عن الساعدين، والساعدين عن العضدين، والعضدين عن الكتفين، والقدمين عن الساقين، والساقين عن الركبتين.(13/22)
الزهد في الدنيا
إن كنت تريد الخلود -أيها المسلم- تريد السعادة والرضا، فاعمل للجنة.
اعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك تربتها والزعفران حشيش نابت فيها
أما هذه الدار فمنذ أن خلقها الله ما نظر إليها، دار لا تريحك، منغصة؛ إذا ارتحت فيها مات ولدك، وإذا نسيت مصيبته رسب الآخر، وإذا نسيت ألمه مرضت زوجتك، وإذا تشافت مرض جسمك، مكدرة منغصة، قد كتب الله عليها التكدير.
[[فضح الموت الدنيا، فلم يدع فيها لذي لب فرحاً]].
فيا أهل العقول أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأوصيكم أن تقوموا في سبيل الله عز وجل دعاة خير، وأن تتآمروا بالمعروف وتتناهوا عن المنكر، ليرضى الله عنكم ظاهراً وباطناً، وليسعدكم في الدنيا والآخرة، وليكون الله معكم أينما كنتم, وأينما صرتم، أيدوا كلمة الحق، وقوموا مع المحق، ولا ترضوا بالباطل، وكونوا في وجهه؛ حينها يرضى الله عنا وعنكم.
نسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لنا ولكم التوفيق والهداية والسداد والرشد.
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وإن كان من شكر فإني أشكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم أشكركم على حسن حضوركم وإنصاتكم، وأشكر المركز الصيفي بمدرسة اليرموك على دعوته الموقرة، وعلى نشاطه الخير، وعلى بذله في الخير، وأشكر الأساتذة القائمين فيه، وصلى على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وما بقي من وقت، فإن كان أسئلةً أو حواراً، فنحبذ هذا؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/23)
الأسئلة(13/24)
حقوق الجار
السؤال
يحصل بين بعض المسلمين خلاف ودعاوى ومطالب يترتب عليها الجفاء بين الجيران والقطيعة والبغض والظلم وغير ذلك، فما رأيكم وما توجيهاتكم لمن يريد التوبة والإنابة؟ وما الطريق لذلك؟
الجواب
المشاكل التي يشكو الناس منها، والذنوب والمعاصي والخطايا التي في المجتمع لا يحصيها إلا الله.
تكاثرت الظباء على خراشٍ فما يدري خراشٌ ما يصيد
كل مسألة ذكرت -أيها الأخ الفاضل- تحتاج إلى محاضرة بل ومحاضرات ومجلدات وندوات، لأننا أصبحنا مثخنين بالجراح من الذنوب والخطايا، قطيعة الرحم، عقوق الوالدين، أذية الجار، السوء إلى المسلمين، انتشار الأغاني الماجنات، المخدرات، التبرج إلا عند من رحم الله، ضياع الأوقات، تفلت الشباب، ضياع السنة، عدم تدبر القرآن، عدم تذكر الله، الأيمان الغموس، الظلم، الحسد، الحقد، كلها ذنوب وخطايا، نشكو حالنا إلى الله، أي أصبح حالنا مثل حال المريض الذي في كل مكان من جسمه جرح.
مَنْ يَهُنْ يسهلِ الهوانُ عليه ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ
وأما ما ذكرت فمن أعظم ما يتساهل فيه خاصةً في القرى حقوق الجار، والمدن أحسن حالا في الجيران؛ لأنك غريب مع غرباء، فتريد أن تصلح الحال، كأنك تتذكر الوفاة، أما القرى فإنه منذ أن خلقنا الله ونحن نعرف جيراننا يميناً وشمالاً وأماماً وخلفاً، فأصبح بينهم من القطيعة ما لا يعلمه إلا الله، تجد الجار يؤذي جاره، ولا يأمنه، ومن نكد الحياة أن يجمع الله بينك وبين جار سوء.
في الحديث: {أن رجلاً أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله أشكو إليك أذية جاري، قال: ماذا فعل؟
قال: إن غبتُ لم آمنه، وإن حضرتُ آذاني، هتك عرضي، وأخذ مالي وظلمني.
فقال عليه الصلاة والسلام: اصبر لجارك، علَّ الله أن يهديه! فذهب وصبر قليلاً، لكن ما هداه الله، وعاد يشكو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: خذ زوجتك وأطفالك ومتعاك وانزل في سكة من سكك المدينة -في الطريق- فأخذ زوجته وأثاثه على ظهره ونزل وجلس في السكة، فأصبح الناس يسرحون عليه ويروحون، يغدون فيقولون: مالك يا فلان؟!
فيقول: آذاني جاري حتى أخرجني، فيقول الناس: لعنه الله! فيصبح الصابح، فيقول: مالك يا فلان؟ فيقول: آذاني جاري، فيقولون: لعنه الله! ويمسي الممسي، فيقول: مالك؟ فيقول: آذاني جاري، فيقولون: لعنه الله! فسمع ذلك جاره، وقال: أتوب إلى الله، والله لا أعود إلى ذلك}.
ولذلك فقد يبلغ الحد ببعض الناس إلى أنه لا يذكر الله عز وجل تماماً، ويسفك حق الجار.
والجاهليون كان من ضمن ما يتمادحون به حفظ حقوق الجار، يقول عنترة:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
يقول: من كرم نفسي ومن شهامتي ومن مروءتي، إذا بدت جارتي غضضت طرفي حتى تدخل البيت، وليس عنده كتاب ولا سنة، ولا يؤمن بالله ولا اليوم الآخر.
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
ولذلك وجد في أهل الإسلام من يحفظون الجار، وأذكر على سبيل المثال أبا حنيفة، كان عالم المسلمين، وكان من أعبد عباد الله، ومن أزهد عباد الله، أتدرون ماذا كان يفعل به جاره؟
الجدار بالجدار يأتي أبو حنيفة وهو بعد صلاة العشاء يريد أن يسبح الله، ويصلي ويبكي ويدعو ويقرأ القرآن، فهذا الجار أعزب، وما عنده إلا نجر يضرب به ويقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
وأبو حنيفة لا يستطيع أن ينام، ولا يعرف كيف يقرأ أو يصلي، لكنه يصبر ويحتسب، وبعد ليلة من الليالي الطويلة لم يسمع أبو حنيفة الصوت، انتظر فما سمع الرقص ولا سمع ضرب النجر ولا سمع الدربكة، فذهب وطرق على الباب فما أجابه أحد، فسأل الجيران: أين فلان؟
قالوا: أخذه العسس -شرطة السلطان- قال: سبحان الله! جاري يأخذونه ولا يخبروني، ثم ركب بغلته في الليل ولبس ثيابه، واستأذن على السلطان وسط الليل، فقال الجنود للسلطان: أبو حنيفة يريدك -لأنه عالم الدنيا - فقام السلطان من نومه، والتقاه عند الباب يعانقه، وقال: يا أبا حنيفة لم لم ترسل إلينا؟ نحن نأتيك ولا تأتينا!
قال: كيف أخذتم جاري ولم تخبروني؟
قالوا: إنه فعل وفعل، قال: ردوا عليّ جاري، قالوا: لو طلبت الدنيا لأعطيناك الدنيا، فركب جاره معه على البغلة، وأخذ جاره يبكي، قال أبو حنيفة: مالك؟
قال: آذيتك كل هذه الأيام والأعوام والسنوات، وما تركتك تنام ولا تصلي ولا تقرأ، ولما فقدتني الليلة أتيت تتشفع في، أُشْهِدُ الله ثم أشهدك أني تائب إلى الله.
ولذلك كانوا يدعون الناس بأخلاقهم وبتعاملهم.
وهذا يهودي سكن بجانب عبد الله بن المبارك -أحد العلماء الصالحين- فكان عبد الله بن المبارك إذا اشترى لحماً من السوق بدأ بأولاد الجار اليهودي، نحن لا نقول: نبدأ بأولاد اليهود لكن بأولاد المسلمين، ونحن لا نقول: أعطوا الناس لحماً أو اكسوا أبناء الناس، لكن نكف أذانا فقط، نعم.
مكانك تحمدي أو تستريحي
عبد الله بن المبارك كان إذا اشترى لحماً أعطى أبناء الجيران، وإذا اكتسى كسا أبناء جيرانه، وإذا أخذ فاكهة بدأ بهم، فأتى أناس من التجار يشترون دار اليهودي، فقال: داري ثمنها ألفا درهم، أما الألف الأولى فقيمة الدار، وأما الثانية فقيمة جوار عبد الله بن المبارك، فسمع عبد الله بن المبارك، وقال: والله لا تبيعها، هذا ألف درهم وابق عندي جاراً لي، ثم قال عبد الله بن المبارك اللهم اهده إلى الإسلام، فما أصبح اليوم الثاني إلا وقد أسلم لله رب العالمين.
فمسألة الجار لا بد أن ننتبه لها، يقول عليه الصلاة والسلام {ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه}.(13/25)
شهادة الزور واليمين الغموس
السؤال
ما حكم من يسعى إلى امتلاك أرض ظلماً، ويشهد بعض معارفه شهادة على هذه الأرض؟
الجواب
الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {من ظلم من الأرض قيد شبر طوقه الله من سبع أرضين يوم القيامة}.
وإنما سميت اليمين الغموس بذلك لأنها تغمس صاحبها في نار جنهم {ومن اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان} ولا يكلمه الله ولا يزكيه ولا ينظر إليه وله عذاب أليم، واقتطاع الأراضي وجد كثيراً، فكثير من الناس يقتطع الأرض بالحلف وهو لا يدري أصل هذه الأرض، ولا بمستنداتها، ولا بصكوكها، إنما يحلف زوراً وبهتاناً وحميةً وهذا حسابه عند الله عز وجل يوم يجمع الله الأولين والآخرين، والأرض أرض الله، والمال مال الله، والعباد عباد الله، والله هو الحاكم يوم القيامة بين الخصمين، ولا يتدخل في الحكومة أحد من الناس إلا هو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فمن فعل ذلك فقد شهد شهادة زور، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72].
ويقول عليه الصلاة والسلام: {ألا أدلكم على أكبر الكبائر؟! قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت} وهذا من أظلم الظلم وأعدى العدوان، هذا الذي يمحق البركة، ويطبع على القلوب، ويذهب الله به بركة الوديان، يأخذها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وينزعها من وديانهم ومن أماكنهم، وقد نبه العلماء والقضاة على هذا كثيراً، وكثير منكم يعرف هذا، والحمد الله.(13/26)
نصيحة لشاب تائب
السؤال
أنا شاب في مقتبل العمر، وأفقت بعد أن أخطأت في حق الله وفي حق نفسي، وأريد أن أرجع إلى الله وأنا مستقل، ولكن أريد من يدعوني لكي أتخلص من أفكار سيئة، أرجو إرشادي إلى ذلك؟
الجواب
ملخص
السؤال
أن هناك شاباً يريد التوبة إلى الله، حياك الله أيها الشاب!
وأوصيك بوصايا: الوصية الأولى: قد بسط الله لك يده، وفتح لك باب التوبة، وأنت من أحب الناس إلى الله عز وجل، فلا يتعاظمك الذنب، فإن الله يقول كما في الحديث القدسي الحسن: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم! لو جئتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لقيتك بقرابها مغفرة} والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: {يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم} فهنيئاً لك لما عدت إلى الله! وهنيئاً لك لما أفقت! هنيئاً لك لما راجعت حسابك مع الله قبل أن يأخذك الله أخذ عزيز مقتدر! فأوصيك بالمحافظة على الصلوات الخمس، وأن تكثر من الدعاء إلى علام الغيوب في أدبار الصلوات، وإذا سجدت أن تدعو بما دعاه ذو النون بن متى، وأن تطرق باب الله ليفتح الله لك مع المفتوحين لهم.
والوصية الثانية: أوصيك بكتاب الله أن تتدبره، وأن يكون سميرك وأنيسك وصاحبك وحبيبك وخدنك، فتقرأ منه ما فتح الله عليك.
والوصية الثالثة: أن ترافق رفقة صالحة طيبة يريدون الله والدار الآخرة، وأن تبتعد عن رفقة السوء.
والوصية الرابعة: أن تترك كل المعاصي التي كانت تقربك من غضب الله، ومن مقت الله ومن أخذ الله، كاستماع الأغنية الماجنة، اجعل مكانها الشريط الإسلامي، شريط القرآن وشريط المحاضرات والندوات والدروس والعبر والعظات، وكذلك أن تتقي الله في عينك، فلا تنظر إلا في الحلال، واعلم أن الله سيحاسبك على جوارحك واحدةً واحدةً.
والوصية الخامسة: أن تحفظ وقتك مع الله، وأن تستثمر الوقت في المطالعة، وفي القراءة، وفي زيارة الصالحين؛ ليرضى الله عنك في الدنيا والآخرة، وهذا هو المكسب العظيم:
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غربيا
فإني أعظمُكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا(13/27)
شرب الدخان والشيشة
السؤال
ما حكم إمام مسلم يشرب الشيشة وهل تجوز صلاته؟
الجواب
إن كان إماماً راتباً عينه السلطان يشرب الشيشة، وكان معيناً من الأوقاف، يصلى وراءه وذنبه عليه، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وحسابه على الله عز وجل، وإن كان هذا الإمام متبرعاً أراد أن يصلي بدون أن يكون راتباً وليس مسئولاً، فلا يقدم على الناس لأنه فاسق، ومن يشرب هذه المحرمات فهو فاسق عند أهل السنة والجماعة، ومن يتعدى حدود الله عز وجل فهو فاسق، فإن كان متبرعاً فلا يقدم، وإن كان من الأوقاف فيقدم ويصلى وراءه، وحسابه على الله.(13/28)
حب الدنيا
السؤال
ما رأي فضيلتكم في إضاعة الوقت في أمور الدنيا والحرص على متاعها الزائل.
الجواب
يقول أهل العلم: إن ابن آدم يولد من بطن أمه وهو ممسك يديه قالوا: وذلك علامة على حرصه وجشعه وحسده وحب التملك عنده.
وحب التملك فطري في الإنسان، حتى الطفل أول ما يتحرك يبدأ بأخذ الأشياء، يأخذ القلم، يأخذ الساعة، يبكي على اللعب، يبكي على المأكولات والمطعومات والمشروبات وذلك كله من حب التملك، وكلما شاب الإنسان وكبر سنه، كبر حب التملك عنده، حتى تجد الإنسانَ في عمر الستين، كأنه سوف يعيش مائتين أو ثلاثمائة سنة، ما يتكلم إلا في العمارات والقصور، وأبناؤه هذا توظف، وهذا أرسل له راتبه، وهذا سوف يسكن معه، كأنه يعيش ولا يفكر بالقبر، إلا من رحم ربك.
ومن أكبر الخطايا خطيئة حب الدنيا، ويقولون: إن قابيل قتل هابيل بسبب حب الدنيا؛ والجشع على الدنيا؛ ولهذا اعلم أن من يحب الدنيا كثيراً وتستولي عليه فقد عبدها من دون الله، وقد اتخذها إلهاً يعبد من دون الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]
تجرد من الدنيا فإنك إنما أتيت إلى الدنيا وأنت مجرد
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35].
والذي يزهدك في الدنيا ثلاثة أمور:
أولاً: أن تعرف أنك لا تتملك إلا ما رزقك الله، وأنه لا يقع في يدك إلا ما كتب الله.
ثانياً: أن تعد لتلك الحفرة -القبر- فإنك سوف تقدم عليها لا محالة، وأن تذكر أن مصرعك قريب.
ثالثاً: أنك كلما تكثرت منها تكثرت من الحساب والنكال والسؤال عند الله يوم القيامة.(13/29)
عقوق الوالدين
السؤال
أنا شاب أصلي وأصوم والحمد الله، ولكن أنا عاصٍ لوالدي، فأرجو أن ترشدني إلى طاعة والدي؟
الجواب
عقوق الوالدين أكثر ما انتشر بين الشباب، نسأل الله العافية والسلامة، والله عز وجل قرن حق الوالدين في كتابه بحقه، فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23].
ويبلغ بالبر عند بعض الأبناء أن يفتح الله عليه، حتى يكون أسوة وقدوة للشباب: يذكر عليه الصلاة السلام -كما في الصحيحين - {بينما ثلاثة نفر من بني إسرائيل خرجوا في الصحراء، فاشتد عليهم الكرب، ونزلت عليهم السماء بالمطر، فدخلوا في غار، فانطبقت عليهم الصخرة في فم الغار -صخرة لا يدفعها ولا يرفعها إلا الله، فلما أصبحوا في هذا الغار لا طعام ولا شراب، ولا أنيس، ولا رفيق ولا صاحب- قال أحدهم: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال أولهم: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، وإنه قد نأى بي طلب الشجر يوماً، فلم أرح عليهما حتى ناما -أي سار يرعى الغنم وتأخر حتى نام أبوه وأمه، وأتى بالغبوق، وهو اللبن في المساء ليعشيهم، فأتى به في الإناء فوجدهما نائمين وعنده أبناؤه -فلذة كبده وشجا روحه- يتضاغون عند أقدامه من الجوع يريدون أن يشربوا- قال: فما سقيت صبيتي وهم يتضاغون عند قدمي، وما أيقظت والدي خشية أن أنغص عليهما نومهما، فمكثت والإناء بيدي حتى برق الفجر، فاستيقظا وشربا غبوقهما، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت عنهم الصخرة} إلى آخر القصة وهي موجودة في كتب الحديث.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً مع أصحابه فأتاه رجل فقال: يا رسول الله! أشكو إليك عجيبة من العجائب، قال: ما هي؟
قال: ابني؛ ربيته، سهرت لينام، وجعت ليشبع، وظمئت ليروى، فلما كبر تغمط حقي وظلمني ولوى يدي، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم، فقال: هل قلت في ذلك شعراً؟ لأن العرب كانت تتنفس بالأشعار من أحزانها، قال: نعم، قال: ماذا قلت؟ قال قلت فيه:
غدوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجري عليك وتنهلُ
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا شاكياً أتململُ
كأني أنا الملدوغ دونك بالذي لدغت به دوني فعيناي تهملُ
فدعاه صلى الله عليه وسلم، وأخذ بتلابيب ثوبه، وقال: {أنت ومالك لأبيك} عقوق الوالدين قضية تحتاج إلى كلام طويل ليس هذا وقته.(13/30)
المراكز الصيفية
السؤال
ما رأيك بالمراكز الصيفية التي يقيمها الشباب الصالح؟
الجواب
المراكز الصيفية غالبها بل جلها من أحسن ما ينفع الشباب المسلم، لكن المراكز تختلف باختلاف القائمين عليها، ويقصد من هذه المراكز جمع الشباب واستغلال أوقاتهم التي تضيع في العطل الصيفية، وردهم إلى كتاب الله عز وجل وتفقيههم في الدين، فهي من أحسن ما يمكن، واجتماع الشباب في مثل هذه المراكز قوة ونصرة وهداية ورحمة من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وبالذكر على المناسبة يشكو بعض الناس أن هناك نقصاً في الوعظ، وإنما النقص فينا نحن، والذنوب ذنوبنا، والقائمون على المراكز الصيفية من أصلح الشباب الذين أعرف، وهم من أجدى الشباب وأفقههم في الدين والدعوة، وما أقام هذه الصحوة الإسلامية -صحوة الشباب- إلا شباب، ولذلك تجد ولله الحمد ألوفاً مؤلفة من الشباب في العالم الإسلامي، لا أقول: في هذه البلاد فحسب بل في العالم الإسلامي، يقود صحوتهم شباب متقون هادئون، عندهم أصول الوعظ، وعندهم فقه في الدين، وعندهم إدارك ومعرفة، وهذا بحمد الله موجود، بل الصحوة في المدن أكثر من القرى، ولذلك تجد بعض المساجد صفوفها مكتظة بالشباب الذين هم على هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ووجوههم تلمع ضياءً ونوراً وخيراً وبركة، فأنا أنصح بهذه المراكز، إذ أنها أحفظ لوقتك، وأن تشارك فيها، وأن تستغل فيها وقتك، وأن تجعل ابنك فيها، أو أخاك أو من يعز عليك؛ لأنه حفظٌ له، وأولى له من المقاهي والمنتزهات ورفقة السوء الذين يعطلون عنه مسيرته إلى الله.(13/31)
من تيمم ثم صلى ثم وجد الماء
السؤال
إذا صلى الإنسان بالتيمم ثم وجد الماء بعد الصلاة هل يعيد؟
الجواب
هذه المسألة فيها تفصيل، إن كان وجد ماء وهو في الوقت قبل أن يصلي فعليه وجوباً أن يتوضأ بهذا الماء، إذا لم يكن عنده مانع من مرض، كجرح يمنعه أو خوف من مكان الماء، كأن كان بينه وبين الماء شيء من مخافة، كثعبان أو عدو صائل، فعليه إن لم تكن هذه العوارض أن يتوضأ بهذا الماء وجوباً، وإذا تيمم وترك الماء وهو يرى الماء بعينه، فصلاته باطلة بالتيمم، أما إذا تيمم وصلى، ثم ذهب ووجد الماء، وهو في الوقت، فإن شاء أعاد، وإن شاء يكفيه التيمم الأول والصلاة الأولى، هذا هو الصحيح، وإذا تيمم وصلى وخرج الوقت، ثم وجد الماء، فلا يجوز له أن يعيد، وما قال بالإعادة أحد، إذا خرج الوقت وقد تيمم وصلى ثم وجد الماء، فبالإجماع أن صلاته صحيحه.(13/32)
الكتب المؤلفة في قصص الأنبياء
السؤال
أريد مرجعاً صحيحاً لقصص الأنبياء؟
الجواب
أعظم مرجع صحيح لقصص الأنبياء هو كتاب الله عز وجل قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:111] فقصص الأنبياء حفل بها القرآن، وامتلأ بها كتاب الله عز وجل، ثم تفسير ابن كثير قص من قصص الأنبياء الشيء العجيب، ثم كتاب البداية والنهاية ففيه مجلد كامل من أوله تكلم عن قصص الأنبياء وترجم لكل نبي، ثم كتاب قصص الأنبياء لـ ابن كثير، وكتاب قصص النبيين وتاريخ ابن جرير، والتواريخ في الجملة سوف تلقى ما يكفيك بإذن الله ويرضيك.(13/33)
حكم الدف والطبل
السؤال
ما حكم الدف والطبل؟
الجواب
أما الدف فهو جائز للنساء في الأعراس، بشرط أن يكن في مكان منفصل، لا يختلطن بالرجال، والرسول صلى الله عليه وسلم أباح لهن الدف، قال كما في سنن أبي داود: {أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدف} وقال لـ عائشة: {هل عندكم شيء من اللهو؟ -أي من الطرب في الزواج للنساء- فإن الأنصار يعجبهم اللهو} فلا بأس بالدف للنساء، بشرط أن يكن في مكان منفصل عن الرجال يرقصن وينشدن، ويتناشدن الأشعار، أما العود والوتر والناي والموسيقى فلا يجوز، لأن هذا زيادة على ما جاء به النص عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما الدف للرجال فما أعلم فيه أنه جائز، وأنا أتوقف في مسألة الدف للرجال، وإنما أفتي بما علمت من الحديث أنه يجوز للنساء وأنه لا بأس به، لكن إذا زاد على الدف فلا يجوز.(13/34)
حكم مكبرات الصوت للنساء
السؤال
هل يجوز استخدام مكبرات الصوت للنساء؟
الجواب
صوت المرأة عورة، ولا يجوز للمرأة أن ترفع صوتها، ولا يستخدم المكبرات للنساء في الأعراس، بل يتناشدن بالقصائد والأشعار، ويرقصن في مكان بحيث لا يسمع صوتهن الأجانب، أما إذا ارتفع الصوت فإن ذلك منكر ينهى عنه.(13/35)
آثار الذنوب والمعاصي
من رحمة الله بخلقه أنه أرشدهم إلى الطريق القويم، وجعل لهم التقوى جنة ووقاية من لهيب جهنم، ولهول الذنب وقبحه كانت له علىصاحبه آثار مفصلة في هذا الموضوع، فكن ممن يستمعون ويعون ويحذرون؛ لعل الله أن يقيك من شر تلك الآثار ويرزقك خير الطاعة ويهديك الصراط المستقيم.(14/1)
التقوى وقاية من المعاصي
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوت والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء، إن الله على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، هدى به الله الإنسانية، وأنار به أفكار البشرية، وزعزع به كيان الوثنية، وعلى آله والتابعين لهم بإحسان.
ولما جلسنا مجلساً طله الندى جميلاً وبستاناً من الروض ناديا
أثار لنا طيب المكان وحسنه مُنىً فتمنينا فكنت الأماني
أمانينا في الحياة الدنيا أن نجلس مع الصالحين، فسلام الله على الصالحين ورحمته وبركاته، وأشكر أصحاب الفضيلة العلماء الذين هم أمامي الآن، والإخوة السامعين، وأشكر القائمين على هذا المؤتمر، أسأل الله أن يجري الحق على ألسنتنا، وأن يجعل ما نقول في ميزان الحسنات ولا يجعل في كلامنا ولا في مقاصدنا ولا في أعمارنا بغيره سبباً ولا نسباً، ولا يجعل لنا طريقاً إلى الرياء والسمعة.
أيها الإخوة الكرام! أيها المسلمون! كما سمعتم عنوان المحاضرة (آثار الذنوب والمعاصي) وما تهدمت الشعوب، ولا فسدت القلوب، ولا خربت الأسر، ولا تشتت الآراء، ولا تمزقت الأفكار إلا من الذنوب والمعاصي، وما بخست الأرزاق ولا قست القلوب ولا جفت العيون إلا من الذنوب والمعاصي، وما غضب الجبار ولا انتهت المغفرة من الغفار وما نزلت الحدود إلا للذنوب والمعاصي، وما أقيمت النار وما نصب الصراط وما أتى هناك محاسبة إلا مع الذنوب والمعاصي.
أيها الإخوة الكرام! آثار الذنوب كثيرة أوصلها بعض علماء الإسلام إلى ثلاثين أثراً أو عقوبة، ومن أحسن من تكلم في ذلك فيما أعلم الإمام الفذ ابن القيم رحمه الله تعالى ورفع درجته في الجنة في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، وأتحف شيخ الإسلام ابن تيمية، وتعرض لآثارها في المجلد العاشر من فتاويه، وتكلم في ذلك كثير من العلماء.
وأنا أجمل آثارها بثمانية آثار:
أولها: الضيق والهم.
ثانيها: حرمان الرزق.
ثالثها: نسيان العلم.
رابعها: البغض في قلوب الخلق.
خامسها: الوحشة بين العبد وربه.
سادسها: قسوة القلب أو موته.
سابعها: ضياع العمر.
ثامنها: عواقبها في الآخرة يوم يأتي الإنسان بلا توبة مفلساً من الخير.
أيها الإخوة! لقد كرر القرآن قضية كبرى أخذت مساحة شاسعة منه هي تقوى الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].(14/2)
تعريف التقوى
وأهل السنة يعرفون التقوى بتعاريف باختلاف الأسباب وباختلاف الاتجاهات والمشارب.
فمما نحفظ عن ابن تيمية أنه يقول: التقوى هي العمل بالمأمور وترك المحذور.
وبعضهم يقول: التقوى هي: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية.
ونسب بعض العلماء كلمة للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه قالها في تعريف التقوى قال: [[هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل]].
وقال ابن رجب: قال بعض العلماء: التقوى ترك الذنوب كبيرها وصغيرها.
وقال بعضهم: التقوى أن يكون الله نصب عينيك وهي درجة الإحسان في حديث جبريل {وأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك}.
والتقوى فسرها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام بحياته، وفسرها بسلوكه، وفسرها بعمله، فكان يقول للصحابة: {إن أعلمكم بالله وأتقاكم أنا} ولذلك بوب البخاري في ذلك باب المعرفة معرفة القلب، وأن أتقى الناس محمد عليه الصلاة والسلام، أو كما قال في كتاب العلم.
وأتى الصحابة فكانوا نموذجاً خالداً لتفسير التقوى في الحياة، لم تكن تقواهم إرجاءً ولا كلمات جافة ولا أفكاراً غريبة ولا قضية أمانٍ أو عواطف، إنما كان تحقيقاً في الواقع.
وعند الإمام مالك في الموطأ موقوفاً عن الحسن [[ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل]].
تأتي التقوى لهؤلاء من أمور:
أولاً: مراقبة الواحد الديان على نور من الكتاب والسنة.
ثانياً: قصر الأمل.
ثالثاً: غلبة العقل على الهوى.(14/3)
أمثلة على التقوى
أبو بكر الصديق: يقول الإمام أحمد في كتاب الزهد بسند جيد: [[دخل أبو بكر مزرعة رجل من الأنصار فرأى طائراً يطير من شجرة إلى شجرة فبكى وجلس، فقال له الصحابة: مالك يا خليفة رسول الله؟ قال: طوبى لهذا الطائر! يشرب الماء ويأكل من الثمر ثم يموت ولا حساب ولا عذاب، يا ليتني كنت طائراً]] إنها المحاسبة الدقيقة، إنه زيادة الإيمان في القلب.
أبو بكر الذي قال الرسول عليه الصلاة والسلام عنه كما في صحيح البخاري في كتاب الجهاد {إن للجنة أبواباً ثمانية فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد - إلى آخر تلك الأبواب- فيقول أبو بكر: يا رسول الله! هل يدعى أحد من أبواب الجنة الثمانية؟} لا يسأل إلا أبو بكر ولا يتقدم بالمسألة إلا أبو بكر، فيعلق ابن القيم على هذا السؤال ويقول:
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول
أي: دائماً تحب المركز الأول، دائماً في أول المصلين، وفي أول الصائمين، وفي أول الذاكرين، وفي أول المجاهدين، فيقول عليه الصلاة والسلام: {نعم -أي: يدعى بعض الناس من الأبواب الثمانية- وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر} ولكن ما جعله ذلك يركن إلى هذه الوعود وهذه الأخبار الصادقة من الرسول عليه الصلاة والسلام، في أنه من أهل الجنة كما صح ذلك في الأحاديث التي بلغت درجة التواتر، بل زاده خوفاً من الله، وتقوى لله، ومحاسبة لنفسه أمام الله.
يقول ابن القيم في روضة المحبين وهو يتحدث عن أبي بكر يقول: لما تولى أبو بكر الخلافة كان يخرج بعد صلاة الفجر كل يوم، فكان عمر يلحظه وينظر أين يذهب، فإذا هو يذهب إلى خيمة امرأة من المسلمين، فذهب عمر وراءه يوماً من الأيام، وخرج أبو بكر من الخيمة فدخل عمر وراءه من حيث لا يراه أبو بكر، فقال عمر وقد رأى عجوزاً عمياء حسيرة كسيرة داخل الخيمة: يا أمة الله! من أنت؟ قالت: عجوز حسيرة كسيرة عمياء، قال: ومن هذا الشيخ الذي يأتيكم؟ قالت: لا أعرفه، قال: ولم يأتي؟ قالت: يأتينا فيصنع طعامنا، ويكنس بيتنا، ويحلب شياهنا، فجلس عمر يبكي ويقول: [[أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر]].
إنها -والله- التقوى، ولا يمكن أن تكون إلا في قراءة سير أولئك القوم الذين رفع الله منزلتهم.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
وعند مسلم في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: {هل أصبح منكم اليوم أحد صائم؟ قال أبو بكر: أنا، قال: هل شيع أحدٌ منكم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: هل تصدق أحد منكم اليوم بصدقة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: هل عاد أحد منكم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: ما اجتمعت هذه الأمور في أحد في يوم واحد إلا دخل الجنة} وتقواه رضي الله عنه تأتي من هذا التعريف العملي للتقوى ليس الشفهي الإنشائي النظري الذي بدأنا به وأرعدنا ونشكو أحوالنا إلى الله، لكن أقول لنفسي وللمقصرين من أمثالي كما قال أحد التابعين -وأظنه ابن إدريس - لـ سفيان الثوري: [[يا أبا عبد الله! ذهب القوم -يعني: الصحابة- على خيول جادة ونحن على حمير قال: والله لتصلن بالقوم إذا سلكت ما سلكوا ولو كنا على الحمير]] مادام أننا على الخط وعلى الطريق التي هم عليها فسوف نصل.
وعند البخاري باب "الرجل يحب القوم" قال أنس: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث الناس فقام أعرابي وقال: متى الساعة؟ قال: ماذا أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المرء يحشر مع من أحب} والشافعي يقول:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة(14/4)
آثار الذنوب والمعاصي(14/5)
الضيق والهم
أيها الإخوة الكرام! والله ما ذاق الناس أَمَرَّ من المعاصي، ولا تجرعوا أخبث ولا أشد ولا أنكى من السيئات، ولقد حاول كثير من الناس أن يتناسى الخطايا ولو كانوا من الكفار، ولكنهم وجدوا ألماً وقلقاً ويأساً وقنوطاً وبعداً عن الواحد الأحد؛ لأن من قرب من الله قربه وأتحفه، ومن ابتعد منه أضناه وأشقاه في الدنيا والآخرة.
أعظم أثر للذنب والخطيئة الضيق والهم والغم والأسى واللوعة والحزن، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
قال ابن تيمية وهو يتحدث عن بعض أصحاب المنطق في المجلد الرابع من فتاويه: قيل لهذا الرجل المتكلم المنطقي: تب إلى الله وعليك بالعبادة لتعرفك بالله -لأنهم يسلكون مسالك نظرية في معرفة الله والكون والحياة ليست مسالك السجود ولا التسبيح ولا تدبر القرآن- فقال هذا الرجل المنطقي الفلسفي: أريد ذلك ولكن قلبي عليه الظلمات يعني: حجب.
ويقول ابن تيمية في المجلد الأول في درء تعارض العقل والنقل ويتكلم عن العلامة المعتزلي الذكي ابن الخطيب أو ابن الخطاب يقول: ومع ذلك كان بعيداً عن الله بسبب بعده، ولو سلك الطريقة المحمدية الشرعية كان وصل، وصل إلى من؟ إلى رضوان الله، قال: وهو صاحب تلكم الأبيات التي يقول فيها:
وحقك لو أدخلتني النار قلت للذين بها قد كنت ممن أحبه
يقول: يا رب! لو أدخلتني النار، فإنني سأتكلم وأخطب وألقي محاضرة في أهل النار، وأقول: أنا كنت أحب الله.
وهي أبيات جميلة بديعة، ولكنها من رجل ما عرف الطريق.
وحقك لو أدخلتني النار قلت للذين بها قد كنت ممن أحبه
وأفنيت عمري في علوم كثيرة وما بغيتي إلا رضاه وقربه
أما قلتمُ من كان فينا مجاهداً سيحمد مسعاه ويكرم قربه
على ذلك لكن ما سلك طريق التقوى فضاق حاله.
وبعضهم يصل إلى درجة الانتحار وتصعب عليه الحياة، قال سبحانه: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] وقال سبحانه {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125] إذا عُلم ذلك فيا إخوتي! اعلموا أن من أعظم عقوبات الذنب والخطيئة الضيق، ولذلك قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] والأستاذ سيد قطب -رفع الله منزلته في الجنة- تكلم بكلام بديع، حتى أنه يقول: كلمة (ضنكا) صعبة في النطق يكاد الإنسان أن يختنق بها لأنها تؤدي إلى معنى عجيب، وهي الحياة التي يعيشها المعرض عن ذكر الله، سكنوا -والله- في ناطحات السحاب، واستقلوا السيارات الفاخرة، وحصلوا على المناصب العالية؛ ولكن لما أعرضوا عن منهج الله أرداهم وجعل حياتهم تعاسة عليهم.
قال سبحانه: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35].
تعال معي يا طالب العلم يا داعية الإسلام إلى حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول عنه ابن القيم يقول شيخنا شيخ الإسلام: إني لأجد من الحياة والروح عن السعادة ما أقول: لو أن أهل الجنة فيما أنا فيه لكانوا في عيش طيب، أدخلوه السجن، أوصدوا عليه الباب، حاولوا قتل مبادئه، حاولوا إطفاء نوره، فقال وهو يتبسم وينظر إلى البواب: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] ثم قال كلمة أشبه بالمقطوعة الشعرية يقول: "ماذا يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري أنَّى سرت فهو معي، أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة".
ابن تيمية يدخل على ابن قطلوبك السلطان السلجوقي -الذي ما يعرف يقرأ الفاتحة، مسلم لكن بالهوية- فيقول ابن قطلوبك يا بن تيمية وددنا أنا لو زرناك في بيتك فأنت عالم زاهد قال: دعنا من دركواناتك يا بن قطلوبك، كان موسى يأتي فرعون في اليوم مراراً وتكرارً، ثم قال له ابن قطلوبك: يا بن تيمية أصحيح ما قيل عنك؟ قال: وماذا قيل؟ قال: يزعم الناس أنك تريد ملكنا -يظن أن هذا الكرسي كل شيء- يقول ابن تيمية: ملكك؟ قال: نعم.
قال: والذي نفسي بيده! ما ملكك وملك آبائك وأجدادك يساوي عندي فلساً.
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريباً
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليباً
قال الذهبي في ترجمة عبد الملك وما أدراك ما عبد الملك؟! عبد الملك بن مروان خليفة دندنت له الدنيا وطنطنت ما يقارب ثلاثين سنة، نشر المصحف بين يديه صباح نهار ثم أغلقه وقال: هذا آخر العهد بك، قد صح هذا الكلام عنه، قال الذهبي: اللهم لا تمكر بنا، ملك الدنيا وقتل العظماء وذبح الملوك كذبح الدجاج، فلما أتته سكرات الموت نزل من على سريره وقال: يا ليتني ما توليت الخلافة، يا ليتني كنت غسالاً، قال سعيد بن المسيب: لما وصله هذا الكلام [[الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا وقت الموت ولا نفر إليهم]] وقال إبراهيم بن أدهم: [[نحن في عيش لو علم به الملوك لجالدونا عليه بالسيوف]].
ما هو العيش؟ أعيش الخبز والجرجير؟ أو عيش السيارة والفلة؟ أو عيش الملابس؟ لا والله، إن هذه يشترك فيها الناس جميعاً بل حظ الكافر أعظم من حظ المؤمن، فإنا نجد كثيراً من المؤمنين يسكن خيمة وينام على الرصيف ولا يجد كسرة خبز، بينما الكافر يتقلب كالحمار في النعم، يقول الله عنهم: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3] ويقول أيضاً: {الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] لكن حياة الإيمان، حياة القلوب والاتصال، حياة السجدات، حياة التسبيح والتهليل، حياة التوبة والاستغفار، وإني لأ عجب منكم أشد العجب وأسأل الله أن يثبتني وإياكم أن تحلوا في هذه البقعة الظالم أهلها وتحافظوا على مسيرتكم مع الله، حتى أني رأيت من الشباب من يحافظ على جزئيات السنة بيض الله وجهه، ورفع منزلته، جزئيات السنة في بلد كافر ملحد وثني لا يعرف الله، وهذا من الانتصار على الشهوات، وهذا والله من توفيق الله للعدل أن ينتصر في مثل هذا المكان.
حدثنا داعية من الدعاة بسند جيد: أن طالباً من طلابنا المسلمين ذهب إلى لندن في بريطانيا ليدرس -ولندن للإفادة والفائدة عاصمة بريطانيا وصل هذا الطالب المسلم وهو يحمل مبادئ لا إله إلا الله، وتربى على لا إله إلا الله، في قلبه شجرة الإيمان تهز أغصانها كل حين، فكلما أراد أن ينظر قال الإيمان: لا.
وكلما أراد أن يقبل ويغني مع الموسيقى قال الإيمان: لا.
وكلما أراد أن يمد يده إلى الكأس قال الإيمان: لا.
ما تربى على جمع الطوابع والمراسلة وصيد الحمام والدجاج، وأغنية هل رأى الحب سكارى مثلنا، لا.
ذهب هناك مؤمناً يحمل هوية الإيمان، فوصل ثم سكن مع أسرة بريطانية فأدخلوه في البيت مضطراً: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] فلما دخل كان يصلي الفجر في الجو القارس جو الثلج، يقوم إلى الصنبور فيتوضأ، فتقول عجوز بريطانية أعمى الله قلبها، قالت: لماذا لا تؤخر الصلاة عن هذا الوقت؟ قال: ديني أمرني أن أصلي في هذا الوقت، قالت: لو أخرت لأن البرد قارص قال: لو أخرت ما قبل الله مني، فهزت رأسها وقالت: هذه إرادة تكسر الحديد.
ونعم والله إنها إرادة تكسر الفولاذ بل تكسر الصخور، انتصار الإيمان في بلد الطغيان، ولعلمكم حفظكم الله أن هؤلاء يبحثون عن السعادة وأنتم أدرى بذلك، حتى يأتي مؤلف دايل كارنيجي الذي ألف دع القلق وابدأ الحياة أو كارنيدي في لفظ وفي رواية ولا يضر الاختلاف، أتى فألف كتابه هذا كيف تصل إلى السعادة؟ كيف تزيل الهم؟ كيف تقضي على الغم؟ ولكن ما انتصر في الأخير قالوا: وأخذ سكيناً ونحر نفسه، فر من الموت وفي الموت وقع، عجباً لك.
قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أُرْكَب
فإنني جاهل بسيط وصاحبي جاهل مركب
يريد أن يهدي أمته ولكن ما اهتدى، ويريد أن يوصل نوراً إلى القلوب ولكن ما وصل النور إلى قلبه، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].(14/6)
حرمان الرزق
وأما المسألة الثانية والأثر الثاني للذنوب والخطايا فهي: حرمان الرزق، وحرمانه على قسمين عند العلماء:
الأول: حرمانه أصلاً ووجوداً.
الثاني: حرمانه بركة ونوراً.
فأصلاً: تجده يعيش مملقاً عديم الرزق، يغلق الله عليه أبواب الرزق، ولذلك صح عن ابن عباس من كلامه أنه قال: [[إن للحسنة لبياضاً في الوجه ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، وضيقاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق]] وأما نقصان بركتها: فيغدق الله عليه ولكن نَّعمة لا تسمى نِعمة، ولذلك منع النور هنا، وبعض العلماء يقول: النَّعمة هي: ما يشترك فيها الحيوان والإنسان، والنِّعمة هي: ما يُستعان بها على طاعة الواحد الديان، فالنعمة هنا تجدهم مبخوسين منها لا حظ ولا نصيب ولا متعة ولا استغلال في طاعة المولى تبارك وتعالى وذلك حرمان الرزق.
والرزق لا يطلب إلا من الله، وفي المجلد العاشر لـ ابن تيمية أن أبا القاسم المغربي سأل شيخ الإسلام بقوله: دلوني على عمل يقربني من الله، وعلى كتاب بعد القرآن يكون عليه اعتمادي في علم الحديث، وما هي أفضل السبل في طلب الرزق؟ -الشاهد في هذا السؤال، أفضل السبل في طلب الرزق أهي الزراعة أم الصناعة، أم التكنولوجيا، أن أكون ذا دواجن، أو أكون مراسلاً أو ماذا أفعل؟ أي: معنى السؤال، فوصل من فهمه للجواب- قال: أفضل السبل في طلب الرزق الاتكال على الواحد الأحد وتفويض الأمر إليه -انظر جوابات الموحد العظيم العبقري الفذ- وطلب الرزق إليه أنه لا يرزق إلا هو، ولا يعطي ولا يطعم ولا يسقي إلا هو، وليكن هذا الرزق عوناً على طاعته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فحرمان الرزق -يا أيها الإخوة- من أعظم آثار الذنوب والمعاصي، قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] ولكنهم ما آمنوا وما اهتدوا فأغلق الله عليهم أبواب البركات وأحرمهم الخيرات، ولذلك لا عبرة بهذه الكثرة الكافرة فيما يشهده الكافر أو يأكله فليس فيه بركة ولا هداية ولا نور ولا نتيجة.(14/7)
نسيان العلم
الأثر الثالث: نسيان العلم، نقول: ما لنا ننسى، ما لنا نخطئ، مالنا لا نستحضر المعلومات؟!
و
الجواب
يعود السبب إلى أحد أمرين:
الأول: إما أن أصل الجبلة والفطرة مفطورة على هذا، وليس الذكاء حداً بين الناس أو قاسماً مشتركاً للتقوى، لا.
ابن الراوندي هذا الكلب المعثر المجرم فيلسوف محسوب على الإسلام مثل ابن سينا كان يعترض على أمر الله، قال الذهبي عنه: الكلب المعثر ابن الراوندي الذي أتاه الله ذكاءً ولم يؤته الزكاء، كان ذكياً ولم يكن زكياً، قال الذهبي معلقاً -ولله در الذهبي -: فلعن الله الإلحاد بالذكاء، وحي الله البلادة بالتقوى، ابن الراوندي هذا محسوب على الإسلام وأخذ كسرة خبز على نهر دجلة فيأكلها -وكان ابن الراوندي فقيراً- فمر عليه عبد عنده خيول وبغال وبقر وغنم، فقال ابن الراوندي: لمن هذه؟ قالوا: لفلان قال: سبحان الله! -ويلتفت إلى السماء- يعطي العبد فلان الغبي البليد كذا وكذا ويتركني وأنا من أذكياء العالم ثم قال: هذه قسمة ضيزى ورمى بالخبز في النهر.
وهذا إلحاد ولست أتكلم في ترجمة ابن الراوندي ولكن في نسيان العلم، وأن الذكاء لا يتقيد دائماً بالتقوى؛ لأننا نجد بعض الناس من لا يستحضر النصوص أو لا يعرف التخريج وهو من أفضل عباد الله في التقوى والورع، بل كثير من الأجلة في تاريخ الإسلام لا يحفظون أحاديث، وعندهم من التقوى والورع والقرب من الله أمر عجيب.
ولكن السبب الثاني الذي أريد أن أقوله: الكسبي {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13] النسيان {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] وبمفهوم المخالفة من لا يتق الله لا يعلمه الله.
والذنب هذا في طلب العلم أمره عجيب، قال ابن الجلاد: نظرت منظراً لا يحل لي، فقال لي أحد الصالحين: أتنظر إلى الحرام؟! والله لتجدن غبه ولو بعد حين، فنسيت القرآن بعد أربعين سنة، ذكر ذلك ابن تيمية ولكن ما ذكر اسم ابن الجلاد، وذكر الذهبي اسم ابن الجلاد وابن الجوزي قال: ابن الجلال ولا يهمنا ابن الجلال ولا ابن الجلاد، ولكن يهمنا العبرة من القصة.
خذا جنب هرشى أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق
وكيع وما أدراك ما وكيع! مدرسة مستقلة في الحديث وكيع بن الجراح الرواسي شيخ الإسلام حافظ الدنيا أمير المؤمنين في الرواية كان خاشعاً، قال الإمام أحمد: ما رأيت أخشع من وكيع.
وكان إذا ذكر الله تنهل دموعه على لحيته، وكان من جهابذة السيرة والسنة، أتاه أحد الناس -قيل: الإمام الشافعي وقيل غيره- قال: يا وكيع! يقول الأطباء: إن الزبيب من أحسن شيء للحفظ - الزهري يرى ذلك، وذكره الذهبي وابن كثير، قيل للزهري الإمام المعتبر محمد بن شهاب الزهري: ما هو أحسن شيء في حفظ الحديث؟ قال: أكل الزبيب، وبعضهم يرى البطاطس، وبعضهم يحذر من الباذنجان كما يحذر ابن القيم من الباذنجان يقول: احذروا من الباذنجان فإنه يفسد الذهن، فقلنا: أما نحن سواءً أكلنا باذنجان أم لم نأكل فذاكرتنا ليست بجيدة، فعلى الأقل لا نخسر الباذنجان- على كل حال، فيقال لهذا العالم- وكيع -: ما هو أحسن دواء في الحفظ؟ قال: "ما رأيت والله للحفظ مثل ترك المعاصي".
لله درك:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
قال مالك لـ محمد بن إدريس الشافعي: يا محمد! إني أرى عليك نجابة، وإني أرى لك إمامة في هذا الدين، فإياك والمعاصي فإنها تتلف العلوم، أو كما قال، ولذلك قال سبحانه: {وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] قال ابن تيمية النسيان قد يكون في المعاني وفي الألفاظ بسبب عدم العمل بالعلم، ولذلك قال الله عن بني إسرائيل: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] الحمار ضع على ظهره فتح الباري ورياض الصالحين وبلوغ المرام لا يتغير ولا يتأثر، والخبث الذي لا يتغير ذكره الله في سورة الأعراف حيث قال عزوجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:175 - 176] قال أهل العلم: الكلب إذا ترك في الشمس مد لسانه ولهث، وتدخله الظل مد لسانه ولهث، أي: أنه لا يتغير سواءً بسواء.
إذاً هذا مثل الخبيث الذي لا يستفيد من العلم، ولا يتقي الله في العلم، ولا يوصله العلم إلى رضوان الله، ولذلك ألف الخطيب البغدادي كتاب اقتضاء العلم العمل، يعني: النتيجة من العلم العمل.
الخليل بن أحمد الفراهيدي كان من أذكياء الناس حتى يقولون: قتله ذكاؤه، كان يفكر في الحساب وقال: لأجعلن حساباً تذهب به الجارية إلى البقال فلا يظلمها، فأخذ يتمتم ويفكر وأغمض عينيه فاصطدم بسارية المسجد، وكان الخطأ منه لا من السارية فمات رحمه الله رحمة واسعة، إنما الشاهد: الخطيب يقول: رؤي الخليل بن أحمد في المنام قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: أرأيتم تلكم العنون والعروض؟ قالوا: نعم.
قال: ذهبت فما نفعني إلا ركعتين كنت أركعهما في السحر، والعروض هي: علم القافية
مفاعلتن مفاعلتن فعولن مفاعلتن مفاعلتن فعولن
وليس معنى ذلك أن نزري بعلم العروض لكن أن المقصود من العلم العمل وتقوى الله الواحد الأحد، ولذلك كم روى أبو بكر للناس، وكم روى معاذ للناس، أحاديث قلائل وما تصدروا للرواية، ولكن كانوا قرآناً يمشي على الأرض رضي الله عنهم وأرضاهم، فحذارِ حذارِ.
وأحذر نفسي والمقصرين من أمثالي: أن يجعلوا حواجب المعرفة والحفظ النظرة والنغمة والخطيئة والمعصية والسيئة.(14/8)
البغض في قلوب الخلق
من آثار الذنوب البغض في قلوب الخلق، الحب هذا من الواحد الأحد يأتي من فوق سبع سماوات، والحب والقبول ليس يصنعه أحد، الجماهير تصنع للجماهير حباً مصطنعاً إذا كان بالحديد والنار، والجماهير تصفق للأشخاص؛ لأن وراءها حديداً وناراً وطوابير وجنوداً وبنوداً، لكن الحب هذا المتلقى من الواحد الأحد، الحب والقبول كما قال البخاري: باب المقة من الله، يقول في باب الرقائق: باب المقة من الله، يقصد: الحب ثم أورد حديث {إذا أحب الله عبداً قال لجبريل: إني أحب فلاناً فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبونه، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً قال لجبريل: إني أبغض فلاناً فيبغضه جبريل، ويقول للملائكة: إن الله يبغض فلاناً فيبغضونه، ثم يوضع له البغض في الأرض} وفي بعض الروايات وفي سنده نظر {إن الناس يشربون القبول -قبول بعض الناس- في الماء البارد، ويشربون بغضهم في الماء البارد}.
ولذلك الحب هذا لا يتصنع فيه، وإنما يطلبه الإنسان المسلم من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ويعرف أنه إذا استقام مع الله رزقه الله قبولاً، وجعل لكلمته تأثيراً، وأتى عليه بالقلوب، قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: وقد رأيت نفراً من الناس يتصنعون في كلامهم وفي مشيتهم ويكثرون من الصلاة والصمت والصيام والقلوب تنفر عنهم، ورأيت أناساً يكثرون من المزح ويتوسعون في غير المحرم والقلوب تنصب عليهم أو تلتف عليهم، أو كما قال، فعلمت أن الأمر في السرائر، وفي النيات اللواتي هي خفايا، ولكنها عند الله بادية للعيان.
ومقصودي من هذا أيها الإخوة: أن يعرف العبد أن هذه النكايات والدعايات السيئة، والسمعة الباطلة ضد الأشخاص إنما هي من سوئهم مع الله، ينشر الله له البغض في الجيران والخلان والإخوان والقرى والمدن بسبب أنه عصى الله، قال عثمان رضي الله عنه وأرضاه: [[من تردى برداء ألبسه الله ذلك الرداء]].
ولذلك -والله- نعرف أشخاصاً يريدون أن يحبهم الناس كثيراً، ويحاولون بكل وسيلة إلى ذلك، ويحاولون أن يوجدوا أمراً من الأمور يلفت الأنظار لحبهم، ولكن أبت القلوب، ونعرف أناساً ما حرصوا على حب الناس أو مدحهم أو ثنائهم وأقبلت إليهم القلوب بالدعاء والحب والشوق واللهفة، حتى يتمنى كثير من الناس الجلوس معهم، فعرفنا أن الحب من الواحد الأحد، وأنه هو الذي يعطي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو الذي يمنع بسبب عمل العبد في الخلوة مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أو في العلانية، قال أبو الدرداء: [[لو أطاع طائع ربه وراء سبعة أبواب، لأخرج الله آثار طاعته للناس، ولو عصى الله عاصٍ وراء سبعة أبواب، لأخرج الله آثار معصيته للناس]] أو كما قال، وهذا أمر معلوم فإنا ما عرفنا ذنوب الناس وما رأينا خطاياهم، وكثيراً من الفواحش التي يفعلها كثير من الناس ولا يدري بها حتى أبوه وأمه لا يدريان بهذا الذنب والخطيئة لكن البغض يتابعه، وكأن القلوب تقول: فعل شيئاً، وكأنها توحي بأمرٍ الله أعلم به.(14/9)
الوحشة بين العبد وربه
ومن آثار الذنوب: الوحشة بين العبد وبين ربه، والوحشة أمرها عجيب، ونبأها غريب وسرها ومكمنها أنها تنسي العبد حلاوة الحياة وسعادتها، لا تنعم -والله- بأطفال ولا تهدأ -والله- في بال، ولا تعيش في خير حال، تبدو دائماً قلقاً مشذباً مندداً مزعزعاً حتى يقول ابن القيم: إن العاصي دائماً إذا سمع نفحة من ريح يظن أن الصوت عليه، قال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون:4] ولذلك هو في وحشة، العاصي لو تحرك الباب خاف، لو سمع البوليس انتفض، لو أتت دعاية قال: ضدي، ولذلك:
كاد المريب أن يقول خذوني
فهي وحشة بينه وبين الله لأنه كما قيل: أوصدتم طرق الإجابة والقبول بينكم وبين الله، فكيف تطلبون حلاوة؟
قيل لـ أبي معاذ الرازي: أيجد العبد حلاوة الطاعة إذا هم بالمعصية؟ قال: لا والله، ولو فكر فيها، أي: إذا عمل معصية هل يجد حلاوة الطاعة؟ قال: لا والله، حتى ولو هم بها، مجرد هم لا يجد حلاوة الطاعة من الوحشة.
والوحشة هذه لها آثار منها:
الأول: أن العبد لا يثق في موعود الله، أي: آيات الرجاء، وآيات الخير وآيات الوعد الحسن لا يثق فيها ولا يجد فيها مصداقية، ولذلك يقرأ المصحف ويمر على آيات الجنة ورحمة الله عز وجل وكأنها ليست بآيات.
الثاني: لا يحسن ظنه بربه في لقائه، ولذلك جعلوا حسن الظن بالله من حسن العمل.
الثالث: أنه لا يتهم نفسه؛ لأنه في وحشة، ولأنه يرى أن ما بينه وبين الله مقطوع، فلا يعيش سهاماً لنفسه، حتى قالوا: إن من أسباب هذا قضية النفاق، قال الحسن البصري: [[لا يخافه إلا مؤمن، ولا يأمنه إلا منافق]] والنفاق والوحشة هذه تصاحب العبد حتى يريد أن يقضي عليها وينهي عليها ببعض المجريات والأمور لكن يأبى الله، الآن بعض الفسقة أكثر الناس ضحكاً لا يضحك مثل الناس بل يقهقه قهقهة؛ لأنه مكبوت، ولأن في قلبه شدة وغلظة وفزعاً وقلقاً وخوفاً فيريد فرصة ينفذ بها إلى هذا المرح، تجده يزجي الأوقات في مجلة خليعة أو أغنية ماجنة أو مسلسل مهدم أو فيديو مخرب أو جلسة لاغية لاهية، ولذلك يخاف إذا سمع القرآن.
والله! لقد سمعنا بعض العصاة إذا سمع الراديو على القرآن يقول: لا، لا، دعونا نرتاح، دعونا نأكل العيش، دعونا نطمئن قليلاً؛ لأن القرآن هذا يستنفر طاقته ويؤنبه ويبكته ويوقفه أمام الله في محاسبة، ويدخل عليه من أقطار الناس ولذلك يخاف ويوجل، إنما يهدأ مع الموسيقى، الموسيقى الإيطالية قبل النوم، أو الألمانية بتهوفن، ولذلك يستيقظ على الموسيقى، ويمسي على الموسيقى.(14/10)
قسوة القلب أو موته
القضية السادسة: قسوة القلب أو موته وهي درجتان: ذكر في القرآن القفل، والطبع، والران، وهي منازل بل ذكر بعض العلماء أن هناك عشرين منزلة للقلب تبدأ بالغين {إنه ليغان على قلبي} وتنتهي بالقفل، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155] وقال سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] موت القلب لا يحس.
ومن يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
قال سيد قطب كذلك في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135] يقول كلاماً معناه: إن ثقل الدم واللحم قد ينتهي في بعض الناس إلى أن يتبلد إحساسه، ولكن تأتي الفطرة الحقة -أو كما قال- فتستيقظ فيعود إلى الله عز وجل، وتجد بعض الناس من يرتكب من الذنوب والخطايا مثل الجبال ولكن ما يحس، تقول له: لا تغتاب، قال: الغيبة سهلة، إسبال الثوب، قال: هذه من القشور، حلق اللحى، قال: الأمر سهل ليس الإسلام قضية حلق لحى ولا إسبال ثوب، يفتفت الدين فتفتة ويمزقه تمزيقاً، وما عرف عند السلف قشور ولا لباب، هذه كلمة مستوردة وغير مسئولة ولا يقولها طالب علم، بل الدين لباب كله، أتى به معلم الخير عليه الصلاة والسلام، بل أتى بلا إله إلا الله، وفي الحديث: {إماطة الأذى عن الطريق صدقة} الحديث فالدين كله لباب.
وقسوة القلب أو موته تأتي من وقوف الإنسان أمام المعاصي والخطايا والزلات، فتجده قاسي القلب لا يتأثر قال سبحانه: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} [البقرة:74] وابن تيمية يرى في درء تعارض العقل والنقل في المجلد الثاني يقول: كل خطاب لبني إسرائيل فإن المقصود به نحن، على قول المثل السائر: "إياك أعني واسمعي يا جارة" نحن المخاطبون بهذا الخطاب، وقال سبحانه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
إخوتي في الله! ابن القيم في مدارج السالكين يذكر أسباباً لقسوة القلب منها:
الأول: الذنوب والخطايا، وهذا موضوعنا.
الثاني: كثرة المباحات، مثل: كثرة الكلام بغير ذكر الله، وكثرة الطعام بغير حاجة، وكثرة النوم، وكثرة الخلطة، هذه من أسباب قسوة القلب.
وقد فصلها بكلام عجيب، أما موته فنعوذ بالله من موت القلب: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
وأما قسوته فإنها تحدث للمؤمن وسئل عبد الغني المقدسي كما ترجم ابن رجب له في ذيل طبقات الحنابلة أو أبو يعلى في كتاب الطبقات قيل له: ما صحة الحديث: [[أن أبا بكر مر على قوم فوجدهم يبكون -من الصحابة- فقال: كنا كذلك حتى قست قلوبنا]] ويروى عن أبي بكر ذلك، وسببه بعض شواغل الحياة التي تحدث للمؤمن، فقد يقسو قلبه بذلك وهو ليس آثماً في هذا، بسبب شغل مباحٍ أو لم يشتغل بالرقائق مثل: المجاهد في سبيل الله، لا تجد قلبه كالعاكف في المسجد المصلي المسبح يبكي، ولكن المجاهد الذي يعيش مع السيف والدبابة والطائرة قد لا يجد من الرقة مثل ما يجد هذا، والآخر يعذر ويشكر على هذا ولو أن المطلوب فيه أن يكون كاملاً من كل جهة.
أما القسوة التي يلام عليها العبد فهي ترك ذكر الله، والإدبار والإعراض عن تدبر القرآن الكريم، وعدم تذكر الموت ولقاء الله عزَّ وجلَّ.(14/11)
ضياع العمر
الأثر السابع: ضياع العمر، كل شيء يتعوض إلا العمر، وكل شيء إذا ذهب ربما تستعيده من طريق أو أخرى إلا العمر.
ما مضى فات المؤمَّلُ غيب ولك الساعة التي أنت فيها
قال سبحانه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] وما تذكر فيه من تذكر موصولة بمعنى: الذي يتذكر ما تذكر، أو مصدرية أي: تذكر من يتذكر في هذه الحياة، وقال سبحانه: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:112 - 113] فلامهم الله عز وجل فقال: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:114 - 116].
عند البخاري عن ابن عباس مرفوعاً {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ} وأعظم ما يضيع العمر الغالي المعاصي، وأحرص ما حرص عليه السلف الصالح العمر، وإذا أتت المعاصي ذهبت الدنيا والآخرة والعياذ بالله، إن السلف كانوا يخافون من المباحات على الأوقات، والآن نحن أخذتنا المعاصي لا المباحات في الأوقات، فأسأل الله أن يتوب علينا وعليكم.
قيل لـ كرز بن وبرة -أحد العباد-: اجلس معنا، قال: امسك الشمس وأجلس معك، معناه: الشمس تذهب وتأتي وتقرب الأعمار.
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي
أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي
إذا ليلة هرمت يومها أتى بعد ذلك يوم فتي
وقال آخر:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
وإن من المآسي التي شهدها كثير من المسلمين -فأنا لا أتحدث عن الكفار، فهؤلاء لا حسبان لهم في هذا الكلام، وهؤلاء في منأى، هؤلاء لا يوجه لهم الكلام؛ لأنهم أبطلوا وصولهم وضيعوا اتجاههم مع الله عز وجل، لكن على المسلمين- أعظم ما مني به المسلمون -إلا من رحم ربك- ضياع الوقت، ضياع العمر، فكيف إذا كان في المعاصي؟! كيف إذا كان في الخطايا؟!(14/12)
عواقب الذنوب في الآخرة
أما آخر عقوبة للمعاصي -يا طلبة العلم ويا أهل الفضل والخير- فهي عقوبات في الآخرة ذكرها الله في كتابه ورسوله عليه الصلاة والسلام وتوعد بها، فللزاني عقوبة، ولشارب الخمر عقوبة من نوع آخر، وللقاتل عقوبة، وللكاذب عقوبة، ولعاق الوالدين عقوبة، فنعوذ بالله من عقوبات الله، ومن غضبه، ومن شر أليم عذابه.
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران:193] وأنا لا أملك إلا أن أقول في ختام هذه المحاضرة قبل الأسئلة بيتين جميلين يقول أحد الصالحين:
يا رب إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً لقد شبت في الرق فاعتقنا من النار
إنها -والله- مقصد كل مؤمن أن يعتق من النار {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:192] تهاوت الشهادات، واحترقت الشهرة، وضاع الظهور، وانتهت المناصب، وتدكدكت الوظائف، وما بقي إلا وجه الله، والعمل له سبحانه، والإخلاص لطلب ما عنده.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182] وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(14/13)
الأسئلة(14/14)
من جمع بين الخلق والدين سهلت محبته
السؤال
ذكرت في أثناء المحاضرة أن من أحبه الله أحبه الناس، ولكن نجد في عالمنا المعاصر أناساً -أشراراً- وهو محبوبون من كثير من الناس المسلمين، ونجد أخياراً وهم مكروهون من قبل المسلمين، فكيف يكون ذلك؟
الجواب
الذي قاله الأخ الكريم مخالف للنقل والعقل والحس والعادة، والدليل على ذلك من النقل ما سمعتم من المحاضرة، وأما من العقل فإنا نقول: يستحيل ذلك، فإن الناس كما يقول ابن تيمية في المجلد الأول من الفتاوى: إنما يحب بعضهم بعضاً على منافع، ثم قال: من استغنيت عنه فأنت نظيره، ومن احتاج إليك فأنت أميره، ومن احتجت إليه فأنت أسيره.
هذه مثل كلمة الخليل بن أحمد تحتاج إلى حفظ وشرح، يقول الخليل بن أحمد: الناس أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري، فذاك عالم فاسألوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري، فذاك غافل فنبهوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري، فذاك جاهل فعلموه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فذاك أحمق فاتركوه.
إنما المقصود هنا: أنا أقول للأخ: من أين حصلت لنا على هذه الوثائق والبراهين والأدلة؟ لعلك رأيت نماذج، لكن أقول: على خلاف ما ظننته وزعمت حفظك الله، يعني: من جلوسي في هذا المكان نتكلم عن هذه القضية.
فهي ليست عداوة فحسب، لكن الوثائق التي ذكرها الأخ ليس عنده أدلة وبراهين على ما قال، نقول: إن سبب حب الأشرار من بعض الناس من المسلمين لمصالح، ولذلك جعل الحب في الله أن تحبه ليس إلا لله، واجتمعا في الله وافترقا عليه لله، وأما كره بعض الصالحين فلأسباب، فإنه قد يوجد سبب عند بعض الصالحين تكرههم من أجله حتى إن كان من الأخيار، مثل بعض الناس خيِّر يقوم الليل، ويصوم النهار، ويصلي ركعتي الضحى، ويقرأ القرآن، ويتوجه إلى الله، لكن فيه شراسة تقطع الحبال، أي: إذا نظرت إليه تقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، وإذا تكلمت معه ما يمكن، حتى وجد في تاريخ الإسلام تراجم لبعض العلماء ما كان إلا بالضرب، العصا جاهزة، ولذلك تجد من بعض طلابهم والصالحين كراهية لهم لهذا السبب، وتجد في بعض الأشرار دواعٍ وأسباباً مع فجوره تحببه لهذا مثل ماذا؟ مثل: أنه خلوق يستقبلك بابتسامة وبمعانقة وبحرارة، فيحبه حباً وقتياً لمنفعة خاصة.
إذاً قد بطل السؤال من أوله إلى آخره والحمد لله وأصبح {قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه:106 - 107].(14/15)
الطاعة تؤدي إلى انشراح الصدر حتماً
السؤال
تعرضتم لقضية انشراح الصدر مع الطاعة والإيمان، ولكن نجد بعض أهل الإيمان من الصالحين يصاب بأشياء يقال: بأنها أمراض نفسية مثل: الهم والحزن والاكتئاب وضيق الصدر، فهل هذا يعني أن في إيمانه خللاً أو في إخلاصه، أم أنها أمراض مثل أمراض الجسد مع التعقيب على ضوء الآية: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125].
الجواب
يا أخي! ما ذكرته صحيح وهو واقع ويحمل على أحد محملين اثنين:
المحمل الأول: أن يعاقب العبد بسبب ذنوبه بهذه الأمور، كأن يكون ناقص الإخلاص فيصاب بهم وغم وحزن، أو ينظر نظرة غير مسئولة محرمة، أو يسمع أغنية -وما أعني بذلك أنه خرج من الإسلام- فيصاب بكدورات وعقوبات وسيئات وجزاءات في الحياة الدنيا.
المحمل الثاني: يقولون: أن تكون رفعاً لمنزلته، أي: قضاءً وقدراً من الله عز وجل ليرفع منزلته فيبلى عليها ويؤجر عليها إذا صبر، كالمرض العضوي، كالحمى، ومرض السرطان وغيره من الأمراض، يصاب بهذا فيرفع الله منزلته، واختلف العلماء من أرباب القلوب، هل أعظم الطرق لانشراح الصدر السرور أم الحزن وتذكر ما عند الله عز وجل والقلق من هذه الحياة؟ قال الحسن البصري: طريق الحزن، وأتى ابن القيم مع أبي إسماعيل الهروي بمنزلة من منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال: ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] منزلة الحزن، ثم أتى بحديث ضعيف عن المصطفى عليه السلام قال: {وكان متتابع الأحزان} ولكن شيخ الإسلام الأستاذ الكبير ذاك يقول: الحزن ليس من منازل السائرين إلى الله، ولا يؤجر عليه العبد إلا إذا كانت مصيبة صبر لها واحتسب، ولا يطلب من العبد أن يكون حزيناً، بل الرسول صلى الله عليه وسلم أشرح الناس صدراً: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] فتش في جوانحك وابحث في خفاياك أما وجدناك أشرح الناس صدراً.
إذاً فليس الحزن مطلوب وليس من منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وهذه المنزلة التي ذكرها ابن القيم رحمه الله ليست بصحيحة وحديثها ضعيف -فليعلم ذلك- وإنما يكون على أمرين: إما ذنب فيكون جزع، وإما أن يقدر على العبد فيرفع به منزلته فيكون مما يثاب عليه العبد مثل: الأمراض العضوية فليعلم هذا.(14/16)
غسيل الذنوب التوبة
السؤال
ذكرت أن آثار الذنوب، ولكن أود أن أعرف كيفية غسل هذه الذنوب؟
الجواب
هي لا تغسل بشامبو ولا بصابون، وإنما تغسل بالاستغفار والتوبة {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] وخاصة للمبتدئ، الطرق يا أخي معروفة، الطريقة المحمدية الشرعية، تبدأ بالصلوات الخمس في المسجد، وتبدأ بتدبر القرآن وبالاستغفار، وأمور التخلية عن المعاصي أمرها عظيم، فغض البصر، يستهين به بعض الناس حتى من المستقيمين، ووالله ما يفتك بالإيمان مثل إطلاق البصر، وإنه أسباب كل شر.
حتى ابن القيم وهو يكتب عن آثار إطلاق البصر نسي نفسه، وأتي بكتاب الجواب الكافي في إطلاق البصر، بل بعضهم نظر نظرة أودت بإيمانه وبحياته ومستقبله مع الله، هذا ثم قس على الذنوب ذلك، فلذلك أرى التخلي عن المعاصي.
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
أيها الإخوة! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وإلى لقاء آخر، وإني لأعتذر عن بقية الأسئلة لضيق الوقت.(14/17)
أبو بكر في عصر الذرة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما طلعت الشمس ولا غربت على رجل بعد النبيين أفضل من أبي بكر) ولذلك فإنه هو الرجل الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتولى خلافة الأمة بعده؛ فقاد الأمة إلى بر الأمان، وفي هذا الدرس تلخيص ممتع وشيق عن حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه.(15/1)
مقدمة عن سيرة أبي بكر الصديق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، عنوان هذه المحاضرة: (أبو بكر الصديق في عصر الذرة) وقد سلف الحديث في المحاضرة السابقة عن الفاروق في القرن العشرين، ولكن حول هذا العنوان في الرياض بعنوان الفاروق في القرن الخامس عشر، وقلت هناك: إن طلبة الابتدائية يعرفون متى ولد عمر، ومتى توفي، ولكن كثيراً من أساتذة الجامعات لا يعرفون عدل عمر، ولا صدق عمر، ولا إخلاص عمر، ولا حياة عمر.
وأقول هذه الليلة كما قلت هناك: إن طلبة الابتدائية عندنا يعرفون متى ولد أبو بكر، ومتى توفي، ويعرفون جملاً من حياته؛ لكن الكبار، وكثيراً من أساتذة الجامعات لا يعرفون أسراراً في حياة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.(15/2)
الرجل الأول
الآن نبدأ مع أبي بكر الصديق، مع الرجل الأول في الإسلام، والأول في الذكر بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، والأول في الصدقة، والأول في الجهاد.
ذكره ابن القيم فإذا هو الأول دائماً قال:
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول
ويوم القيامة يفتح الله أبواب الجنة الثمانية، فيدعى الذاكرون، فإذا الأول أبو بكر، ويدعى المتصدقون، فإذا الأول أبو بكر، ويدعى المجاهدون، فإذا الأول أبو بكر، ويدعى الصائمون، فإذا الأول أبو بكر؛ أي طاقة في هذا الرجل؟!
وسوف تعلمون أن من المفاجآت العجيبة أن هذا الرجل العظيم الذي قاد الأمة في الخلافة، وبويع بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، كان نحيف الجسم، هزيل البنية، لكن عنده همة تمر مر السحاب، صنع الله الذي أحسن كل شيء.(15/3)
جوانب الحديث عن شخصية الصديق
وأنا -أيها الأبرار- لا أدخل في تفصيلات حياة أبي بكر، أنا لا أحدثكم هذه الليلة عن أكله وشربه، ولا عن طعامه وشرابه، ولا عن لباسه، ولا عن زوجاته، ولا عن أطفاله؛ فهذا يسمى تاريخ الأموات.
لكني أحدثكم عن صدقه، وورعه، وعدله، وزهده، وخشيته، وصرامته، وشجاعته، وصبره، وكرمه، وحلمه رضي الله عنه وأرضاه.
لماذا كان أبو بكر الصديق في عصر الذرة؟
لأن العالم اليوم وصل إلى الذرة في العلم، لكنه وصل إلى الحضيض في الروح، وقد أكد ذلك علماؤهم؛ مثل: كريس موريسون، صاحب الإنسان لا يقوم وحده ومثل: أليكسيس كارل، وصاحب الإنسان ذلك المجهول، كلهم يؤكدون هذا، فكيف نأتي بـ أبي بكر في القرن هذا؟!
كل منكم يجعل من نفسه مثل أبي بكر، وكلٌ منكم يجعل من نفسه تلميذاً لـ أبي بكر يوم يسمع أخبار أبي بكر، فنقتدي بأخباره رضي الله عنه وأرضاه.(15/4)
صفات أبي بكر قبل الإسلام
أولاً: دعونا نعيش مع أبي بكر في الجاهلية قبل الإسلام، أي رجل كان؟
قال السيوطي: كان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أعف الناس في الجاهلية.
أخرج ابن عساكر بسند صحيح في تاريخ دمشق عن عائشة رضي الله عنها، قالت: [[والله ما قال أبو بكر شعراً قط في الجاهلية، ولا في الإسلام، ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهلية]].
بعض الناس كانوا عقلاء في الجاهلية لا يشربون الخمر، منهم: أبو بكر الصديق، وكان حاتم الطائي لا يشرب الخمر أبداً؛ وهذا من كرمهم، وكان عنترة بن شداد لا ينظر إلى النساء الأجنبيات، إذا خرجت جارته من الخيمة غض طرفه، وقال:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
وهذا من كرمه.(15/5)
أبو بكر والشعر
أما قول عائشة: (ما قال شعراً قط) فلعلها ما بلغها أن أبا بكر، قد قال بعض الأشعار، وسوف تمر بنا بعض الأبيات لـ أبي بكر وإلا فقد كان أفصح الناس، وكان يتكلم بالخطبة ارتجالاً فيصدع الجلوس والسامعين، وكان نساباً؛ يعرف أنساب العرب، وأسرار العرب، وبيوت العرب.
وأما شرب الخمر فأعاذه الله منها حتى في الجاهلية، وكان يسمى العتيق، كان يعتق الرقاب، وهو الذي أعتق بلال بن رباح، فقال عمر: [[أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا]] أي: بلالاً.
ثم قال ابن عساكر: وعن أبي العالية الرياحي: {قيل لـ أبي بكر في مجمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هل شربت الخمر في الجاهلية؟
فقال: أعوذ بالله.
فقيل: ولم؟
قال: كنت أصون عرضي، وأحفظ مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مضيعاً في عرضه، ومروءته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: صدق أبو بكر، صدق أبو بكر مرتين} وهذا مرسل غريب سنداً ومتناً.
أيها الإخوة: كان شرب الخمر في الجاهلية منقصة، إنما يشربها المتهورون، وأما في الإسلام فانتهى الأمر، فأصبح فيها حد.
وفي محاضرة الفاروق في القرن الخامس عشر، ورد أن عمر أرسل أميراً إلى العراق، هذا الأمير من قريش، فأتى في ليلة من الليالي كان ينشد مع بناته في البيت، وقال لهم:
اسقني شربةً ألذ عليها واسق بالله مثلها ابن هشام
يقول: أيها الساقي، يا ساقي الخمر، اسقني شربة ألذ عليها، واسق مثلها ابن هشام زميله في العمل، وكان أميراً لـ عمر، طار هذا البيت بواسطة المراسلات حتى وصل إلى عمر، فاستدعاه عمر، قال: تعال، ما معنى هذا البيت؟
قال: ما هو يا أمير المؤمنين؟
قال:
اسقني شربةً ألذ عليها واسق بالله مثلها ابن هشام
معناه: اسقني خمراً! قال: يا أمير المؤمنين! أنا قلت بيتين لا بيتاً واحداً -كان ذكياً- قال: والبيت الثاني ما هو؟
قال:
عسلاً بارداً بماء سحابٍ إنني لا أحب شرب المدامِ
قال عمر: أما أنت فقد أنقذت نفسك من حد الثمانين، لكن والله لا تلي لي ولاية بعدها، وعزله بمرسوم.
باللعب والانحراف تضيع الأمة، فهو لا يجوز وهو حرام، فعزله وأتى برجلٍ آخر.(15/6)
صفة أبي بكر الخَلْقية
أما صفة أبي بكر، فاسمعوا لصفة الرجل في الجسم، حتى تتصوروا هذا العالم الكبير الذي زكَّاه الله، وتنورت به منابر المسلمين، وأصبح يذكر في كل صباح ومساء.
أخرج ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال لها: صفي لنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فقالت: [[رجل أبيض -والإسلام لا يعترف بأبيض ولا أسود ولا أحمر {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]- نحيف]] أي: كان هزيل الجسم، وكبر الجسم وصغره لا يضر ولا يهم، المهم القلب، والله عندما ذكر القلوب، قال: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179] وأما الأجسام فإنها قد تكون كبيرة لكنها تكون هزيلة عند الله، أنظر مثلاً إلى جسم عبد الله بن أبي بن سلول، يقولون: كان يكاد أن يصطدم رأسه بسقف البيت، قال الله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] مع العلم أن ابن مسعود كان نحيفاً كالصقر، حتى يقول عليه الصلاة والسلام: {أتعجبون من دقة ساقيه، والذي نفسي بيده إنهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد}.
[[خفيف العارضين -وكانت لحيته خفيفة - وقيل: كان منحنياً، وقيل: كان متقدم الجبهة، لا يستمسك إزاره يسترخي على حقويه]] من ضعفه إزاره دائماً يرفعه من هنا ومن هنا، هذا الرجل كان ضعيفاً جداً جداً، حتى يقول: {يا رسول الله! إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده، فهل أنا ممن يجر إزاره خيلاء؟
قال: لست ممن يفعل ذلك} يعني: أعاذك الله، من أين لك الكبر، وأنت سيد من سادات المؤمنين؟!
[[معروق الوجه -أي: نحيف الوجه- غائر العينين -داخلة في رأسه- ناتئ الجبهة، عاري الأشاجع]] هذه صفته، أي: ما على ذراعيه من اللحم إلا القليل، [[وكان من أكرم الناس]] صحافه تتابعه في بيوته، والأطفال معه يدخلون والمساكين، وكان كثير المال كما سوف يأتي معنا، لكن لا يمسك من المال شيئاً، وآتاه الله من الرزق حلالاً طيباً، وكان من تجار الصحابة، ومع ذلك أعطى الإسلام دمه، وماله، ودموعه، وكل ما عنده، والذي لا يعطي الإسلام في هذه الحياة فالله ليس في حاجة إليه يوم القيامة، وإذا أصبح في القبر فلن يعطي وسوف يموت بغمه وهمه، وماله وبال عليه، وسوف يموت بحسرته.
يقول زهير:
ومن يك ذا مالٍ فيبخل بماله على قومه يستغنَ عنه ويذممِ
هل سمعتم أن أحداً احتاج له الناس فبخل عليهم، فاحتاجوا له مرة ثانية؟ لا، قاطعوه، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن:6].(15/7)
إسلام أبي بكر
اسمع إلى إسلام الرجل العظيم رضي الله عنه وأرضاه يقول الشعبي: سألت ابن عباس: أي الناس كان أول إسلاماً؟
قال: أبو بكر الصديق، ألم تسمع قول حسان؛ حسان يقول قصيدة في أبي بكر، والرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر، يدافع صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر في المنبر؛ لأن أبا بكر سمع فيه مقالة، تعرضوا لعرضه، فقام صلى الله عليه وسلم يدافع عن صاحبه، وكان في الصف الأول أبو بكر، وقال: {ألستم بتاركي لي صاحبي؟ يا حسان أين أنت؟ أما قلت في أبي بكر شيئاً؟} لأن الشعر عند العرب مثل التقويم فهو توثيق، يقول: أسمعني شعراً في أبي بكر، قال حسان، وقام وسط المجلس:
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقةٍ فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأرفعها بعد النبي وأوفاها بما حملا
والتالي الثاني المحمود شيمته وأول الناس طراً صدق الرسلا
ثم استمر في القصيدة، يقول الثاني التالي، ما هو الثاني التالي {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] لم يكن في الغار إلا الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، ولم يكن معه أحد، وأبو بكر من أول أيامه في الإسلام حتى أتى كفار قريش يريدون دخول الغار، فتسلقوا على سطح الغار، وكان أبو بكر خائفاً على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله مطمئناً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مؤيد بالسكينة، وبعض المفسرين يقول: إن السكينة نزلت على أبي بكر، ولم تنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه في السكينة لم يزل، كان يتبسم عليه الصلاة والسلام وهو ينظر، يقول أحمد شوقي:
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمانُ
يقول: إذا لاحظك الله، من عنايته، فنم ولو في أفواه الحيات، ولو على نيوب الأسود، وأما إذا لم تلاحظ عناية الله، فوالله لو كنت في الدور العاشر ومعك سبعون ألفاً من الحرس، فلن تكفيك.
شاو سوسكو؛ مجرم رومانيا كان عنده من الشرطة السرية سبعون ألف مدجج بالسلاح، أخذه الشعب وسحبوه مثل الكلب، وذبحوه على الرصيف، وأين الحراسة؟!
وعمر رضي الله عنه وأرضاه كان ينام تحت الشجرة، ويأتي الهرمزان ويراه نائماً بلا حرس، قال: ما عنده حرس؟! قالوا: ما عنده حرس.
قال: حكمت، فعدلت، فأمنت، فنمت.
فيقول أبو بكر: {يا رسول الله، والله لو نظر أحدهم إلى موطن قدمه لرآنا.
قال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!} {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40].
وهناك قصيدة سوف تسمعونها قريباً اسمها: مع صاحب الغار، وإلا فـ البردوني شاعر اليمن له قصيدة في الغار وهي عجيبة، وهو ما زال حياً لكنه منحرف، وقد أجاد في هذه القصيدة، يقول:
بشرى من الغيب ألقت في فم الغار وحياً وأفضت إلى الدنيا بأسرار
بشرى النبوة طافت كالشذا سحراً وأعلنت في الدنا ميلاد أنوارِ
وشقت الصمت والأنسام تحملها تحت السكينة من دار إلى دارِ
وهي ما يقارب مائة بيت، في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام.
ويقول أحد أهل العلم: سألت ميمون بن مهران، قلت: علي أفضل عندك أم أبو بكر وعمر؟
قال: فارتعد حتى سقطت عصاه من يده.
ثم قال: ما كنت أظن أن أبقى إلى زمانٍ يعدل بهما، لله درهما! كانا رأس الإسلام.
قلت: فـ أبو بكر كان أول إسلاماً من علي؟
قال: والله قد آمن أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم زمن بحيرا الراهب حين مر به، واختلف فيما بينه وبين خديجة، حتى أنكحها إياه، وذلك كله قبل أن يولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.
ويمضي أبو بكر، ويتقدم إلى الإسلام طائعاً، يقول عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس: {ما كلمت في الإسلام أحداً إلا أبى عليَّ -أي: رفض وتلكأ- وراجعني الكلام إلا ابن أبي قحافة فإني لم أكلمه في شيء إلا قبله واستقام عليه}.(15/8)
ثباته في قصة الإسراء والمعراج
حتى لما كلم صلى الله عليه وسلم لما أتى من الإسراء والمعراج، وكلم قريشاً، فاستهزأ به أبو جهل يقول: أين كنت البارحة يا محمد؟
قال: وصلت السماء السابعة، فضحك أبو جهل حتى كاد يسقط، ثم جمع كفار قريش في الحرم، قال: اسمعوا داهية الدواهي، تعالوا فأجلسهم، قالوا: يا محمد! أين كنت البارحة؟
قال: ذهبت إلى بيت المقدس، ثم صعدت إلى السماء السابعة، وكلمت الله.
قال الوليد بن المغيرة: فإنا قد علمنا ورأينا وعرفنا بيت المقدس في التجارة، فصفه لنا، فأخذه عليه الصلاة والسلام الكرب حتى عرق جبينه، لأنه مر في طرف ليلة في الظلام، وما رأى بيت المقدس وما رأى مفاتيح الباب، وما رأى مداخل المسجد، فأتى الله فأنقذه، فأتى بصورة بيت المقدس، عرضت عند دار الأرقم بن أبي الأرقم، مكبرة في الحرم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه.
قال: بيت المقدس له أبواب كذا وكذا، ومدخله: كذا وكذا، فقال الوليد بن المغيرة: والله ما زدت ولا نقصت على بيت المقدس بهذه.
فقال: ما رأيك يا أبا بكر؟
فقال: صدقت.
وكلما قال له كلمة قال: صدقت، وكلما قال: وصعدت إلى السماء.
قال: صدقت.
قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] من الذي جاء بالصدق؟
محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن الذي صدق به؟ أبو بكر، فسموه الصديق؛ لأنه صدق الله، فصدقه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وأخرج البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هل أنتم تاركوا لي صاحبي، إني قلت: أيها الناس! إني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم جميعاً، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت}.(15/9)
مصاحبة أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وأما مصاحبته للرسول عليه الصلاة والسلام، فلزمه كما يلزم الظل: لما هاجر عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة، كان معه في الطريق، مرة يأتي عن يمينه، ومرة عن يساره، ومرة من أمامه، ومرة من خلفه، فيقول عليه الصلاة والسلام: ما لك يا أبا بكر؟ قال: يا رسول الله أتذكر الطلب -أي: من الكفار أن يطلبوك- فآتي من خلفك، وأتذكر الرصد -أي: الكمين- فأتقدم أمامك، وأتذكر ميمنتك فآتي من الميمنة، وأتذكر مشأمتك فآتي من الشمال، فدعا له بالخير والبركة.
قال العلماء: صحب أبو بكر النبي عليه الصلاة والسلام حين أسلم إلى حين توفي، لم يفارقه سفراً ولا حضراً، وشهد الغزوات مع الرسول عليه الصلاة والسلام والمعارك، وكان رفيقه في الغار، وهو المقصود بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] وجعل للإسلام دمه، وماله، وكل ما يملك، وكان عليه الصلاة والسلام يشيد به، ويسأل عنه إذا غاب، وقال علي في البخاري: {لطالما سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر}.
ولما أتى صلى الله عليه وسلم يضع حجر الأساس في مسجده العامر في المدينة، وضع الحجر الأول، فانتظر الناس أبا بكر فأتى بالحجر الثاني ووضعه بجانبه، ثم عمر، فعرفوا أن الخلافة سوف تكون على هذا النسق.(15/10)
من صفات الصديق(15/11)
شجاعة أبي بكر وإقدامه
أما شجاعته وإقدامه:
فأخرج البزار في مسنده عن علي رضي الله عنه قال: [[أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا: أنت]] وصدقوا هو من الشجاعة بمكان- تصور علي بن أبي طالب إذا أتى يبارز رجلاً في المعركة، يأخذ درعه فيلقيه في الأرض، الدرع الذي يقيه من السيوف، ومن علامة الشجاعة عند العرب أن تبارز وليس عليك درع، وفي حديث حسن بشواهده: {إن الله يضحك للرجل يلقى العدو حاسراً} الله يضحك للمسلم يلقى الأعداء وليس عليه درع.
فكان علي ينزل الدرع، ويقولون: في معركة صفين لما أقبل الأعداء من خصوم علي من أهل الشام، وتفرق جيشه قال: ما هكذا عودنا الأعداء؟
فسل السيف وخرج في الشمس ما على رأسه شيء، وكان في الستين، أو في الثالثة والستين، شيخ كبير، فأخذ السيف قال: والله إن الناس كانوا يفرون منه كما تفر المعزة من الأسد.
[[فقالوا أنت؟ قال: أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه، لكن أخبروني بأشجع الناس؟ قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر الصديق؛ إنه لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً، فقلنا: من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله ما دنا منا أحداً إلا أبو بكر شاهراً بالسيف على رأس الرسول عليه الصلاة والسلام، لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه؛ فهو أشجع الناس]].
وقال علي: [[لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذته قريش، فهذا يجبهه، وهذا يتلتله عليه الصلاة والسلام]] كان يطوف بالبيت فأخذه أبو جهل بإزاره، فجبذه، وأخذه أبي بن خلف عليه غضب الله، فتفل على الرسول صلى الله عليه وسلم، فدعا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الذي قتله الرسول بيده صلى الله عليه وسلم.
[[وكان هذا يتلتله، وكان أبو بكر يبكي حوله، ويقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28]]] أي: ما هذا التعامل؟ سبحان الله هل هناك عجز أن ينزل الله عز وجل ألف ملك يحمون الحرم، وينزل صلى الله عليه وسلم في حرس؟
لا والله، لكن ليتربى الدعاة على هذا المنهج والصالحين.
يتلتل، ويطرد من مكة، ويدخل الطائف، ويرمى بالحجارة، ويقتل أصحابه، ويقتل محبوه، وتكسر ثنيته، ويحبس في الشعب ثلاث سنوات، ويدخل الغار ويلحقونه بالسيوف، وينتصر في معركة، ويغلب في معركة، ويفتقر، ويجوع، ويجعل حجرين على بطنه من الجوع، وهو أشرف الخلق، والله عز وجل قادر على أن ينزل ملائكة، ولله سبحانه القدرة على أن ينفي قريش في لحظة واحدة، لكن ليذوق، وليصبر، وليتحمل، وليرفع الله قدره، وليكون معلماً.
قال: [[وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً؟]] يمسكون الرسول صلى الله عليه وسلم ويتلتلونه في الحرم، ويقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً! لأن كفار قريش كان للواحد منهم ستة آلهة، وسبعة، وثمانية {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5].
قال: [[فوالله ما دنا منا أحد، إلا أبو بكر يضرب هذا، ويجبه هذا، ويتلتل هذا]].
الناس أصدقاء، فإذا وقعت الأزمات ما صفا إلا القليل؛ أي: الناس وقت المجاملة ووقت السعة كلهم أحباب، ولكن إذا حامت الحوائم، وأتت الدواهي، انهدت الصفوف:
جزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تجرعني بريقي
جزاها الله مكرمةً فإني عرفت بها عدوي من صديقي
فلما أتى فرَّ كثير من الناس، وبقي أبو بكر يقاتل معه في الحرم ضدهم، قال: [[وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ثم رفع علي بردة كانت عليه، فبكى حتى اخضلت لحيته]].
علي بن أبي طالب رفع البردة وبكى، مما تذكر من أبي بكر، ثم قال: [[أنشدكم الله، أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم.
فقال: ألا تجيبونني؟ فوالله لساعة من أبي بكر، خير من ألف ساعة من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه]] {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر:28] أما أبو بكر فما كتم، قام وسط الناس يعلن الإسلام، ويعلن القوة.(15/12)
رقة أبي بكر الصديق
وكان أبو بكر رجلاً رقيقاً، لا يملك عيونه ولا دموعه إذا قرأ القرآن، كان يأتي يصلي في بيته في مكة، وكان سيداً مطاعاً، فتجتمع قريش حول البيت، فيرفع صوته فيبكي، فلو خفف صوته فلا يسمع من معه، فقال: نزلت على الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي أبي بكر: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء:110].(15/13)
الصديق وإنفاق ماله على رسول الله صلى الله عليه وسلم
أبو بكر لما مات، ما ترك إلا بغلة وثوبين، وكان أتجر الناس جميعاً، وسلمها مع عمر مع رسالة حارة لولي العهد، يقول: [[اتق الله يا عمر، لا يصرعنك الله مصرعاً كمصرعي]] يقول: احذر احذر أن تنسى الله، احذر، وأنا قد سمعت هذه الرسالة من هيئة الإذاعة البريطانية وكانت مبكية، في حدث من الأحداث تتلى هذه، قل: رسالة من خليفة إلى خليفة، هذا عندهم، ولما وصلت إلى عمر بكى حتى جلس، وقال: [[أتعبت الخلفاء بعدك]] يقول: ماذا أفعل؟ أعطاه البغلة والثوبين، حتى أخذ ثوباً جديداً أتت به عائشة تقول لـ أبي بكر: [[نعطيك هذا الثوب لتكفن فيه، قال: لا! اغسلوا هذا الثوب الذي علي فإن الحي أولى بالثوب من ميت، فإن نجاني الله فساعة، وإلا فلن تغني عني الثياب، يا عائشة لو رأيتموني بعد ثلاث]].
كان في سكرات الموت، يسبح كثيراً، وقد وضع رأسه على المخدة، وكانت عائشة عند رأسه، وكانت تقول وهي تبكي: [[صدق حاتم - حاتم الطائي في الجاهلية- إذ يقول:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق به الصدرُ
ففز، والتفت برأسه وقال: لا تقولي ذاك يا بنية! ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]]] لا يريد في هذا الموطن ذكر الشعر وعنده القرآن.(15/14)
ثناء الله ورسوله على أبي بكر
وقال الله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:17 - 18] إلى آخر السورة، قال ابن الجوزي في زاد المسير: أجمعوا على أنها نزلت في أبي بكر الصديق.
وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر، فبكى أبو بكر، وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله} يقول: أنا ومالي لك، تصرف ما شئت، وكان صلى الله عليه وسلم يتدين على أموال أبي بكر، ويتصدق على الجيوش من أموال أبي بكر، ويعطي الناس ويضيف من أموال أبي بكر، ولا يستأذنه:
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحلُه
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائلُه
وكان جزاؤه عند الله {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل:17] هذا إخبار من الله، أن الأتقى أبا بكر لا يمر النار {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:18] أي: يتزود من الطاعة.(15/15)
مقدار ما أنفق
وأخرج ابن عساكر من طرق عن عائشة رضي الله عنها وعروة بن الزبير [[أن أبا بكر رضي الله عنه أسلم يوم أسلم وله أربعون ألف دينار -وفي لفظ: أربعون ألف درهم- فأنفقها على رسول الله صلى الله عليه وسلم]] هذه الأموال هي التي بقيت عند الله، لكن أموال الضائعين أين هي الآن؟!
أين المليارات؟!
أين الملايين؟!
شاه إيران، قصص عن حياته، كان كرسي دورة المياه -أكرمكم الله- الذي يجلس عليه من ذهب، سحب كالكلب، وأخرج، ما وجد شيئاً، حتى غرفة النوم ما نقلت معه، ومات بالسرطان طريداً بعيداً، كان الناس في طهران يطلبون الخبز في مظاهرة، فيخرج عليهم طائرة هيلوكبتر يرميهم بالرشاش، فيموتون كما يموت الذباب من المبيدات، قال تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:45 - 46].
خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما لأحدٍ عندنا يدٌ إلا وقد كافأناه إلا أبا بكر} يقول: كل الناس الذين قدموا لنا معروفاً أعطيناهم، إلا أبا بكر فبقيت له أيادي عندنا، وإلا فإن يد الرسول صلى الله عليه وسلم هي أعظم الأيادي، ومنته بعد منة الله أعظم المنن، وله صلى الله عليه وسلم بعد الله الفضل في هداية أولئك.
قال: {فإن له عندنا يداً يكافئه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحدٍ قط ما نفعني مال أبي بكر}.
وأخرج البزار عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: {جئت بـ أبي قحافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم -والد أبي بكر كان شيخاً كبيراً- فقال: هلاَّ تركت الشيخ حتى آتيه، قال: بل هو أحق أن يأتيك.
قال: إنا نحفظه لأيادي ابنه عندنا} يقول صلى الله عليه وسلم: لماذا ما تركت الشيخ والدك في البيت لأزوره أنا.
قال: يا رسول الله! هو أحق أن يأتيك، فقال عليه الصلاة والسلام: إنا نحفظه لأيادٍ لابنه عندنا؛ لـ أبي بكر.(15/16)
علم أبي بكر الصديق
قال النووي في تهذيبه: استدل أصحابنا على عظم علمه بقوله رضي الله عنه في الحديث الصحيح الثابت في الصحيحين: [[والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً كانوا يأتونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه]].
واستدل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيره في طبقاته على أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أعلم الصحابة، لأنهم كلهم وقفوا عن فهم الحكم في المسألة إلا هو، ثم ظهر لهم بمباحثته لهم أن قوله هو الصواب فرجعوا إليه.
عارضوه في قتال أهل الردة، وأبو بكر يقول: لا بد أن نقاتلهم، وكان رأيه هو الصحيح، وكان هو الفقيه، وكان هو العالم، فانساق له الصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم.
وأخرج الشيخان عن أبي سعيد رضي الله عنه: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم خطب خطبة على المنبر، فقال: إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين الآخرة، فاختار ما عند الله، فبكى أبو بكر، فقال الصحابة: ما بال هذا الشيخ يبكي؟ -أي: ماذا ظهر لـ أبي بكر أن يبكي في المسجد، والرسول صلى الله عليه وسلم يحدثنا أن رجلاً ولم يسم الرجل لنا، ففهم- قال: فكان أبو بكر أعلمنا} لأنه فهم أن العبد المخير هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر كيف فهم، وما فهم الناس، لأنه لزيادة إيمانه، وتنور قلبه فتح الله عليه فتوحاً عظيمة.(15/17)
علم أبي بكر بالقرآن
وقال ابن كثير: كان الصديق رضي الله عنه أقرأ الصحابة -أي: أعلمهم بالقرآن- وكان صاحب قرآن، كان من عادته إذا أراد أن يخرج إلى السوق فتح صفحات عنده من المصحف في بيته وقرأ كثيراً ثم ينزل إلى السوق، فإذا قضى أغراضه أتى ودخل وفتح المصحف وقرأ، لم يكن عنده إلا المصحف.
وانظر الثقافة الميتة ماذا فعلت بنا، هل قدمنا للدين وللإسلام وللحياة مثل ما قدم أبو بكر؟!
مع العلم أن أصغر طالب علم الآن يمتلك مكتبة، رفوفاً من المجلدات والمجلات والصحف والنشرات والدوريات، لكن يسمى علم الأموات! {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].
يقول ابن كثير: لأنه عليه الصلاة والسلام قدمه إماماً للصلاة في الصحابة رضوان الله عليهم، مع قوله: {يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى}.
وأخرج الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره} إذا اجتمع أبو بكر في الناس فهو المقدم.
تخلف عليه الصلاة والسلام مرة يصلح بين أسرتين من أسر الأنصار، فتأخر عن صلاة الظهر، فأقام بلال الصلاة ولم يأت الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال أبو بكر: تقدم يا عمر صل بالناس، قال: لا والذي نفسي بيده لا أصلي بناس وأنت فيهم؛ أي: هل يستطيع عمر أن يتقدم وأبو بكر موجود؟! أو أي أحد من الناس؟! لأنه دائماً أبو بكر هو الأول، فتقدم وصلى بالناس، وكان لا يستطيع أن يسمع الناس من قراءته.
حتى في البخاري: أن عائشة رضي الله عنها لما أصبح صلى الله عليه وسلم في مرض الموت، قال: {مروا أبا بكر فليصل بالناس.
قالت: يا رسول الله! إنه رجل أسيف -أي: حزين- لا يستطيع أن يسمع الناس القراءة إذا قام من كثرة البكاء- قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس.
قالت: يا رسول الله! إنه رجل أسيف}.
عائشة تقول: ما أردت إلا لئلا يأتي أبو بكر فيصلي بالناس، فيتشاءم الناس به بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، لأن الناس إذا كان فيهم رجل صالح وولي من أولياء الله، وكان عادلاً، ثم أتى رجل من بعده وانحرف عن سيرته تشاءموا به، حتى إذا لم ينزل المطر قالوا: بسبب فلان، قال صلى الله عليه وسلم: {إنكن صويحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس}.(15/18)
علم أبي بكر بالسنة
وكان مع ذلك أعلمهم بالسنة، فقد رجع إليه الصحابة في كثير من المواضع، وفاوضوه، وكان رضي الله عنه وأرضاه هو المفتي؛ لأنه أعلم بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وبأسراره، وأكثر الناس له ملازمة من بينهم.
وأخرج أبو القاسم البغوي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب بحث في سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، فإن وجد قضى به، وإلا جمع الصحابة وقال: أتاني كذا وكذا فهل علمتم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بقضاء؟ وإلا استشار الناس، وكان مسدداً لكثرة تقواه، وصدقه، وإخلاصه.(15/19)
أبو بكر وعلمه بالأنساب
كان الصديق مع ذلك علامة في النسب؛ من أعلم الناس بأنساب العرب، لا سيما قريش، وكان عليه الصلاة والسلام يقول لـ حسان وحسان من الأنصار من المدينة، كان يسب قريشاً، فيقول صلى الله عليه وسلم: {كيف بك يا حسان والشعر وقريش؟
قال: عندي لسان يا رسول الله! لو وضعته على حجر لفلقه، ولو وضعته على شعر لحلقه.
قال: كيف تسب قريشاً وأنا منهم؟ قال: أسلك كما تسل الشعرة من العجين} قال: أنت الآن تتعرض لقريش تسبهم، لأن منهم أبو سفيان عدونا، فكيف تسب أبا سفيان؟
قال: أسلك منهم كما تُسلَّ الشعرة من العجين، ولذلك يقول:
ألا أبلغ أبا سفيان عني مغلغلةً فقد برح الخفاء
بأن جيوشنا تركتك عبداًَ وعبد الدار سادتها الإماء
لو قال: بأن جيوشنا تركتك عبداً وسكت كان فيه احتمال، لكن وعبد الدار؛ رجع إلى أسرته الصغيرة التي تفصله من الرسول صلى الله عليه وسلم.
فكان صلى الله عليه وسلم يقول: {اذهب يا حسان إلى أبي بكر يعلمك أنساب قريش} حتى لا يخطئ، ويتكلم في عرض بعض الناس، ويدخل في نسب الرسول عليه الصلاة والسلام، فكان يخرج له الأنساب.(15/20)
فصاحة أبي بكر الصديق
وقال ابن كثير: وكان رضي الله عنه من أفصح الناس وأخطبهم، كان يرتجل الخطبة، ما كان يحضر لها، ليس عنده أوراق، وقلم، ولا مسطرة، كان يأتي يوم الجمعة يغتسل ويطلع على المنبر، فيتكلم مباشرة بكلام فصيح، يبز القائمين، ولا يتكلم بين يديه أحد، وأول يوم بويع بالخلافة، انظروا المفاجأة، أول يوم مات فيه الرسول عليه الصلاة والسلام، أتى وليس عنده خبر، كان يشتغل في المزرعة، هكذا الإسلام كما يقول أبو الأعلى المودودي: الإسلام الذي يدخل معك المزرعة، والإسلام الذي يدخل معك الدكان، والإسلام الذي يذهب معك في السوق، كان يبيع السمن والعسل، وكان يشتغل بيده بالمسحاة في المزرعة، فكانت مزرعته بـ العوالي على فرسخ، فسمع الخبر، قالوا: مات الرسول عليه الصلاة والسلام، فركب فرسه وعنده عصاً، وأتى وإذا المدينة تدور من أولها على آخرها:
جاءتك تمشي رافعاً ذراها أولها ردت على أخراها
وإذا بكاء الناس، وإذا النساء خرجن في السكك والأطفال، أعظم مصيبة في تاريخ الإنسان، قال: ماذا؟
قالوا: مات الرسول عليه الصلاة والسلام، فاقتحم الصفوف ودخل حتى أتى المسجد فشق الصفوف، وإذا عمر على المنبر سلَّ سيفه، يقول: [[يا أيها الناس: من زعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام مات ضربته بهذا السيف، ما مات الرسول صلى الله عليه وسلم، سوف يصعد أربعين ليلة كما ذهب موسى ويأتي إلينا]] وذلك لأنه خبر مذهل، فأتى أبو بكر بالعصا وفرق الناس، وقال: اجلس يا عمر، فأبى أن يجلس، فقام أبو بكر بجانبه، وقال: [[بسم الله الرحمن الرحيم -فسكت الناس، وسكت عمر يلتفت إلى أبي بكر، ماذا يقول، ما هو الإعلان- قال: أيها الناس-اسمع الكلام أفصح الناس- من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات]] فسقط عمر رضي الله عنه على وجهه من البكاء، وأغمي عليه، ورش بالماء، وذهب أبو بكر قبل أن يدخل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه الغطاء، وقبل وجهه، ودمعه في عينه، وقال: [[بأبي أنت وأمي، ما أطيبك حياً! وما أطيبك ميتاً! أما الميتة التي كتبت فقد ذقتها، ولكن والله لا تموت بعدها أبداً]].
ثم أتى في اليوم الثاني للبيعة الكبرى، فجاء أبو بكر، وإذا هو يبكي على المنبر -الآن بالعكس- أتى يتكلم في الناس فتذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، وتذكر المنبر فأتى يبكي، فيقول: الحمد لله، قال: فينخلس، قال: فيعتمد على أخشاب المنبر فيبكي فيبكي الناس، فيقول: الحمد لله، فيتنحنح ويبكي، ويحاول، فلما رأى عمر الموقف، قام رضي الله عنه وأرضاه فوقف بجانب أبي بكر، وتكلم فما بكى ذلك اليوم، انتهوا في اليوم الأول، فقال: أيها الناس تقدموا، قال: وكانت يد أبي بكر تنتفض من الخوف، قال: فقدم يده للناس هكذا، فقاموا يبايعونه صفاً صفاً رضي الله عنه وأرضاه، ورفع منازلهم، وجمعنا بهم في دار الكرامة.
هؤلاء تاريخنا، إذا أردنا أن نتشرف بين الأمم نقدم أبا بكر، ونقدم عمر، ونقدم عثمان، ونقدم علياً، إذا أردنا أن نكون سادة للناس، وعندنا تربية، وعندنا طموح، وعندنا إيمان، فإننا نقدمهم، ونعيدهم، ونبدي سيرهم في المدارس، والمحافل، والمساجد، والنوادي.(15/21)
علم أبي بكر بتعبير الرؤيا
يقول: وكان الصديق مع ذلك عالماً بتأويل بالرؤيا، كان يؤول الرؤيا بأمر الله، وكان يعبر الأحلام زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال محمد بن سيرين -هذا محمد بن سيرين كان عجباً في الأحلام، هو المقدم في هذا العلم بالاتفاق- يقول: كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: {أمرت أن أؤول الرؤيا، وأن أعلمها أبا بكر} رواه الديلمي في مسند الفردوس وابن عساكر عن سمرة، ولكنه حديث ضعيف.
وكان خطيباً للناس رضي الله عنه وأرضاه في المواسم، ومع ذلك كان من أسد الناس رأياً وأصوبهم، وكانوا يستشيرونه فيأتي رأيه المحقق بإذن الله؛ لكثرة إيمانه ولسداده مع الله.
قال النووي في تهذيبه: الصديق أحد الصحابة الذين حفظوا القرآن كله، وقيل: إنه جمع القرآن أربعة من الأنصار، لكن يقولون: أبو بكر حفظ القرآن كله، وهذه مسألة مختلف فيها، ولكن سواءً حفظ القرآن أم لم يحفظ القرآن فهو قرآن يمشي على الأرض، وسواء كان القرآن في صدره فهو يعبر عن القرآن كل القرآن، وسواء كان في ذهنه حروف القرآن فحدود القرآن قام بها؛ لأنه من الناس من يحفظ القرآن ولكن لا يحكم حرفاً منه!
زعيم من زعماء العالم الإسلامي، يقول: إنه يحفظ القرآن مثل الفاتحة، لكنه لا يحكم من القرآن حرفاً واحداً أبداً! فما فائدة الحفظ؟!
المستشرق جولد زيهر كان يحفظ القرآن كله، وهو عليه عمى ولعنة، ولا فائدة في أن يردد القرآن فقط؛ إنما الفائدة أن يعمل به في الأرض.(15/22)
فضائل أبي بكر الصديق
أما فضله بين الصحابة، فأجمع أهل السنة أن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم بقية العشرة ثم باقي أهل بدر ثم باقي أهل أحد ثم باقي أهل بيعة الرضوان ثم باقي الصحابة، هكذا حكى الإجماع عليه أبو منصور البغدادي.
روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما وأرضاهما قال: {كنا نخير بين الناس في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان بن عفان} وزاد الطبراني في الكبير: {فيعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره علينا} يقرنا عليه.
وعند أحمد والترمذي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من حديث أنس: {أرحم أمتي بأمتي أبو بكر} فهو كان رحيماً، رقيق القلب، عطوفاً على الأيتام والمساكين، وسبق معنا أن ابن القيم أشار إلى قصة أن عمر خرج وراء أبي بكر فوجده عند عجوز عمياء حسيرة يصنع لها الطعام.
تصور خليفة يذهب إلى امرأة مسكينة ضعيفة إلى ضواحي المدينة، ويترك أشغاله، ويترك أموره، ويأتي إليها فيكنس البيت، وكان بإمكانه أن يرسل خادماً، أو يستأجر إنساناً، لكن لأنه يعلم أنه سوف يلقى الله يوم يقوم الناس لرب العالمين، فيكنس البيت، ويصنع الطعام، ويقدم الأكل، فيقول عمر عندما دخل: من هذا الشيخ الذي يأتيك؟
قالت: لا أعرفه، لم يقل أنا أبو بكر الصديق، اذكروني للناس حتى يكون هناك دعاية! قالت: ما عرفته؟
قالت: فجلس عمر يبكي، ويقول: أتعبت الخلفاء بعدك، يقول: من يستطيع أن يواصل على هذه المسيرة لك؟
ورويت هذه القصة أيضاً لـ عمر.(15/23)
ما نزل فيه من القرآن
وأما ما نزل في مدحه من القرآن، فإنه كثير كثير، واسمع إلى الآيات المباركات.
قال سبحانه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة:40] أجمع المسلمون على أن الصاحب المذكور هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة:40] قال: [[على أبي بكر، أما الرسول عليه الصلاة والسلام فإن السكينة لم تزل عليه]] أي: لم تزل عليه من قبل، لكن أنزلها الله -وهذا رأي ابن عباس - على أبي بكر لأنه خاص.
فرق بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر، الرسول صلى الله عليه وسلم يتصل بالله صباح مساء، والملائكة تنزل عليه، وأبو بكر ليس هناك وحي ينزل عليه، فأنزل الله السكينة عليه وثبته؛ لأنه موطن يخيف.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود أن أبا بكر اشترى بلالاً من أمية بن خلف وأبي بن خلف ببردة وعشر أواقٍ من فضة، فأعتقه لله، فأنزل الله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] إلى قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] سعي أبي بكر وأمية وأبي، سعي أبي بكر إلى الجنة، وسعي أمية وأبي إلى النار، سعي هذا في رفع لا إله إلا الله، وسعي أولئك في رفع (لا إله والحياة مادة) والضلالة والزندقة والانحراف.
وفيه نزلت: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل:5] كما ذكر ابن جرير في التفسير؛ نزلت في أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل:17] ذكر ابن أبي حاتم والطبراني أنها نزلت في أبي بكر.
{وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل:19] نزلت في أبي بكر الذي أنفق أمواله وما كان ينتظر من أحد شكراً ولا ثواباً، كان يعطي أمواله.
وكان أبو بكر كما ذكر عنه، إذا أظلم الليل ونام الناس قام بالطعام فحمله وأعطاه، وكانت تسأله العجوز من أنت؟
فيقول: رجل من المسلمين، ولا يهمه أن تعرفه العجوز فالله يعرفه.
قتل شهداء في قندهار في عهد عمر وقندهار في أفغانستان، قال عمر: من القتلى؟
قالوا: فلان وفلان وفلان، وأناس ما عرفناهم يا أمير المؤمنين، فبكى عمر وقال: ولكن الله يعرفهم.
بـ قندهار ومن تكتب منيته بـ قندهار يرجم دونه الخبر
كان ابن المبارك إذا قاتل في سبيل الله في المعركة غطى وجهه ما تظهر إلا عيناه، فيقال له: مالك؟
قال: ليعرفني الله فقط، الدعايات محبطات، أن تبذل عملاً ثم تدعو الناس وتقول انظروا ماذا فعلت وماذا بذلت، التعداد هذا إحباط المسيرة، ولذلك لا يجعل الله لمن ادعى عملاً، وشهر عمله قبولاً في الأرض.
وأخرج البزار وابن عساكر قال علي: [[والذي جاء بالحق: محمدٌ عليه الصلاة والسلام -كتبها البزار هكذا، ولكن الصحيح: والذي جاء بالصدق وصدق به- وصدق به: أبو بكر الصديق]] قال ابن عساكر: هكذا الرواية بالحق، ولعلها قراءة علي بن أبي طالب أي لعل قراءته أن يقرأ: والذي جاء بالحق وصدق به، والقراءة المشهورة {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33].
وعند الحاكم عن ابن عباس، قال: [[نزل قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] في أبي بكر وعمر]] أي شاور أبا بكر وعمر، والصحيح أنها عامة، لكن المهم أنه يدخل دخولاً أولياً أبو بكر وعمر.
{وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم:4] المقصود به: أبو بكر وعمر.
وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عند عبد بن حميد عن مجاهد {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56] قال أبو بكر: يا رسول الله! ما أنزل الله عليك خيراً إلا أشركنا فيه.
فنزلت هذه الآية {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} [الأحزاب:43].
وأخرج ابن عساكر في قوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] نزلت في أبي بكر وعمر، والصحيح أنها عامة، وأول من يدخل فيها أبو بكر وعمر، إلى آخر ذلك من الأفضال.(15/24)
من كلمات أبي بكر الدالة على شدة خوفه من ربه عز وجل
وننتقل لنعيش مع أبي بكر في لحظات مؤنسة في حياته، وإلا فحياته كثيرة كثيرة، وطويلة طويلة.
عن معاذ بن جبل عند أحمد والحاكم قال: [[دخل أبو بكر حائطاً وإذا بدبسيٍّ في ظل شجرة -طائر جميل- فتنفس الصعداء، ثم قال: طوبى لك يا طير! تأكل من الشجر وتستظل بالشجر، وتصير إلى غير حساب، يا ليت أبا بكر مثلك]] يقول: ليتني مثلك طائر! هذا أبو بكر، والله على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة، فكيف بنا؟!
وعند ابن عساكر عن الأصمعي قال: كان أبو بكر إذا مدح قال: [[اللهم أنت أعلم مني بنفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون]].
وعن مجاهد قال: [[كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع، وقال: وحدثت أن أبا بكر كان كذلك، وكان يقرأ سورة يوسف فإذا بلغ قوله تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] اندفع في البكاء، حتى لا يسمع لقراءته صوت من كثرة بكائه، وكثرة نشجيه]].
وقال أبو بكر فيما أُخرج عن قتادة يقول: [[وددت أنني خضرة، أو نبتة تأكلني الدواب]].
وكان يجلس كثيراً في حوائط المدينة، ويقول: [[يا ليت أمي لم تلدني]].
وكان كثير الزيارة للمقابر ليجدد عهده بالله عز وجل.
وكان يلبس ما خشن، ويعمل بنفسه رضي الله عنه وأرضاه، وكان مضيافاً للناس؛ يمتلئ بيته كل ليلة من الضيوف، فكان ينفق عليهم ويعطيهم.
يقول: [[حضرت الوفاة ابناً لـ أبي بكر الصديق، فجعل الفتى يلحظ إلى وسادة، فلما توفي قالوا لـ أبي بكر: لحظنا ابنك يلحظ إلى وسادة، فدفعوه عن الوسادة فوجدوا تحتها خمسة دنانير أو ستة، فضرب أبو بكر بيده على الأخرى يتوجع، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! يا فلان! ما أحسب جلدك يتسع لهذا]] طفل لـ أبي بكر مات فكان الطفل ينظر إلى الوسادة، عنده دراهم كان يدسها، فلما مات لحظ أبو بكر، فرفع الوسادة فوجد خمسة دنانير، فيقول: ما أحسب جلدك يتسع لهذا، يقول: أخاف أن تحاسب، من شدة خوف أبي بكر، يقول: من أين أدخلتها؟ لأنه كان رضي الله عنه هو وعمر يحاسبون بيوتهم.
كانت امرأة عمر كما سلف، يأتيها دقيق، كان عمر يوزع الدقيق في كل صباح، لكل بيت وجبة من الدقيق للبيوت، فكانت امرأة عمر تأخذ قليلاً من الدقيق وتحجزه من حصتها، وهي ليست مخطئة وعادلة، فجمعته وجمعته، ولما جمعته أتت بجارية من جواري المدينة، وقالت: اذهبي إلى عمر في بيت المال، ولا تخبريه أن الدقيق من عندي، وقولي له: يعطيك بدل هذا الدقيق حلوى -تريد أن تأكل حلوى هي- فذهبت الجارية بالدقيق في كيس، جمعته من أشهر، فطرقت الباب على أمير المؤمنين وهو جالس، قال: [[من أين هذا؟
قالت: من المدينة.
قال: جارية من أنت؟
قالت: من آل فلان.
قال: من أرسلك بالدقيق؟
قالت: امرأة.
قال: أفي الناس من يخزن دقيقاً، والناس يموتون جوعاً؟
-عام الرمادة- قالت: يا أمير المؤمنين امرأة.
قال: من هذه المرأة؟
قالت: اعفني.
قال: لا أعفيك.
قالت: عاتكة بنت زيد امرأتك فأعاده إلى بيت المال، ونقص من حصتها دائماً بمقدار ما نقصتها]] وحافظ إبراهيم يقول:
لما اشتهت زوجه الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها
قل للملوك تنحوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
أي: يأخذها في ساعة، ويعطيها في ساعة، هذا هو الذي فتح الدنيا، ومع ذلك هكذا نفقته رضي الله عنه وأرضاه.
وكان أبو بكر يتمثل بهذا البيت ويبكي، يقول:
لا تزال تنعى ميتاً حتى تكونه قد يرجو الفتى الرجاء يموت دونه
يقول: أنت كل يوم تبكي على الأموات، لكنك ما تبكي على نفسك.
وكان فصيحاً، ويتمثل بالأشعار كثيراً، لكن هذا البيت يكرره دائماً:
يقول: قد يرجو الفتى آمالاً وطموحات وتسمى المستقبل، لكنه كفنت أكفانه وهو لا يدري، ومع الصباح: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].
وكان رضي الله عنه كثير النوافل، وكان يقوم من الليل فيبكي ويبكي ثم يرتاح قليلاً، ثم يقوم يقرأ ويبكي ويبكي رضي الله عنه وأرضاه.
وذكره أهل العلم منهم ابن سعد، وأطنب في ذكره، ونحتسبه على الله عز وجل في هذه الجلسة أن تكون عبادة لنا بإذنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى في ذكر أبي بكر.(15/25)
وفاة أبي بكر واستخلافه لعمر
هذه داهية الدواهي، آخر يوم في حياته، أخرج سيف والحاكم عن ابن عمر: [[كان سبب موت أبي بكر، وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم]] كمد فما زال جسمه يضوي ويضوي حتى مات -يضوي: أي ينقص- لما مات الرسول عليه الصلاة والسلام أتاه هَمَّ وحزن، فكان يذوب ويذوب كما تذوب الشحمة ثم مات.
وكان سبب موته أنه أتته حمى قبل أن يموت بأيام، فلما أتى يوم الاثنين، قال: [[أي يوم هذا؟
قالوا: يوم الاثنين في الصباح.
قال: أرجو الله أن أموت في هذا اليوم، متى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قالوا: مات يوم الإثنين.
قال: أموت إن شاء الله يوم الإثنين]] فمات في آخر النهار، وهذه حكمة من الله، كان وفاته يوم الإثنين، ولكن ما مات إلا بعد ما أصلح الأمة، وسوف تسمعون أخباره.
وأخرج ابن سعد والحاكم بسند صحيح عن ابن شهاب أن أبا بكر والحارث بن كلدة كانا يأكلان خزيرة أهديت لـ أبي بكر -نوع من الطعام- فقال الحارث لـ أبي بكر: ارفع يدك يا خليفة رسول الله، والله إن فيها لسم سنة -أي مسمومة لسم سنة- وأنا وأنت نموت في يوم واحد، فلم يزالا عليلين حتى ماتا في يوم واحد عند انقضاء السنة.
ودخلوا على أبي بكر الصديق، كما روى ابن سعد وابن أبي الدنيا، قالوا: يا خليفة رسول الله! ألا ندعو لك طبيباً ينظر إليك؟
قال: قد نظر إليَّ الطبيب.
قالوا: ما قال لك؟
قال: إني فَعَّالٌ لِمَا أرِيدُ، أي: وصل الموت، يقول أحد شعراء العرب:
مات المداوي والمداوى والذي صنع الدواء وباعه ومن اشترى
وهذا البيت ينسب إلى أبي العتاهية، وقيل لـ ابن الرومي.
نزل به الموت، يقولون: نحن ندعو لك طبيب، نبحث لك عن طبيب.
قال: هيهات! يقول الطبيب: إني فعال لما أريد.
ودخلوا على ابن تيمية، وهو في مرض الموت رضي الله عنه، وكان يتقلب من ألمٍ ألمَّ به، والله يشدد على الصالحين في سكرات الموت حتى يمحص ذنوبهم، واستدل على ذلك بحديث رواه الترمذي: {المؤمن يموت بعرق الجبين}.
فقالوا لـ ابن تيمية: ماذا تشتكي؟ قال:
تموت النفوس بأوصابها ولم يدرِ عوادها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي أذاها إلى غير أحبابها
هذه من أجمل ما قيل.
ودخلوا على أحد الصالحين، قالوا: كيف بك؟ أتريد الطبيب؟ قال: تريدون أن تعيدوني إلى الشباب!! {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:68] ثم قال:
أترجو أن تكون وأنت شيخ كما قد كنت في عصر الشباب
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب بلي كالجديد من الثيابِ
ودخل عليه بعض الصحابة، فقال له قائل: [[ما أنت قائلٌ لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا، وقد ترى غلظته، وشدته، وحزمه، وقوته، فقال أبو بكر: بالله تخوفني؟
أقول لله عز وجل إذا سألني: اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك، أبلغ عني ما قلت من وراءك]] أي: من المسلمين، أخبرهم أني استخلفت عليهم خيرهم.
وكتب له، وكان الكاتب عثمان، وكان أبو بكر يملي على عثمان، وكان أبو بكر على مخدة وكان مريضاً، وعثمان كاتب الوصية، وصية المسلمين، وكان عمر يبكي في بيته، لكن كان عمر يزور أبا بكر كثيراً، وفي الأخير خرج يبكي ذاك اليوم لأنه عرف أن أبا بكر سيموت، فتأخر علَّ الله أن يصرف عنه الخلافة لأحد من الناس؛ لأنها مشكلة، كارثة، كيف يتولى عمر الأمة.
وفي أثنائها قال أبو بكر لـ عثمان اكتب:
[[بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها إلى الله، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها -وكان عثمان يكتب الرسالة ودموعه تسقط على القرطاس، هذا عثمان بن عفان الخليفة الثالث- حيث يؤمن الكافر ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آلُ الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً -يقول: والله إني اجتهدت- وإني اجتهدت في هذا فإن عدل في الحكم فذلك ظني به وعلمي فيه -يقول: والله إني أحسنت الظن به، إن عدل بعدي فعسى الله أن يكون، وهذا ظني به- وإن بدل فإن لكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227]-يقول: انتبه يا عمر - والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته]].
ثم أمر بالكتاب فختم، فقام به عثمان، وتباكى الصحابة وعثمان يسلم الخطاب لـ عمر، ومعه خطاب آخر يقول: [[يا عمر اتق الله لا يصرعنك الله مصرعاً كمصرعي]] فوصل الخطاب، ففتحه عمر، وبكى وأبكى من معه من أهل البيت، ثم جلس، فقال: ماذا أفعل؟
قالوا: انظر ماذا فعل أبو بكر، فقدموا له بقية التركة، قال ابن سعد والحاكم عن ابن مسعود قال: ما قدموا له إلا شيئاً يسيراً فبكى عمر وقال: [[أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر]] رضي الله عن أبي بكر.(15/26)
أوليات أبي بكر الصديق
منها: أنه أول من أسلم رضي الله عنه.
وأول من جمع القرآن، وأول من سماه مصحفاً.
وأخرج أحمد عن أبي بكر بن أبي مليكة قال: قيل لـ أبي بكر، يا خليفة الله -أول ما نادوه بالخلافة لم يكن معه اسم، ماذا يقولون له؟ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعين أسماء لمن بعده؟ قالوا: يا خليفة الله، قال: [[أنا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا راضٍ بهذا]] أي يقول: سموني خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأول من تسمى بأمير المؤمنين: عمر، إنما أبو بكر كان يسمى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أنه أول من ولي الخلافة وأبوه حي.
وأول خليفة فرض له رعيته العطاء؛ لما أراد العطاء مع المسلمين، وزع العطاء على المسلمين إلا نفسه تركها، فقام وجمعهم، وقال: [[أيها الناس: إني شغلت بالخلافة عن الكسب، وكنت احترف، وكنت أعمل لأهلي، وأكد على أهلي، فافرضوا لي من بيت المال فرضاً؟
قالوا: لك ألفا درهم.
فقام أبو عبيدة قال: لا.
أبو بكر رجل مضياف أرى أن نفرض له ألفين وخمسمائة درهم في السنة، فرضي بها رضي الله عنه، وقالوا: لك حلتان، حلة في الشتاء وحلة في الصيف، أي: إذا أتى الشتاء كسوناك من بيت المال ثوب صوف، وإذا أتى الصيف كسوناك ثوباً أبيض تتبرد فيه.
قال: رضيت بهذا، فرضي بهذا رضي الله عنه، وفرض له هذا]].
قال: لما بويع أبو بكر أصبح وعلى ساعده أبراد ثياب يذهب بها إلى السوق، فلقيه عمر قال: أين تريد؟ قال: السوق، ترتاح أنت وفلان وفلان وتتركون أطفالي جياعاً، يقول: شغلتموني بالخلافة، أكتب، وأجهز الجيوش، وأدير الدولة، وأطفالي يموتون، أول النهار أشتغل في البز أبيع وأشتري في القماش، وفي آخر النهار أصرف أمور الدولة، قال عمر: لا، فجمع الصحابة وقال: نفرغك للخلافة لكن بشرط أن نعطيك راتباً تقنع به، فرضي الله عنه وأرضاه.
وهو أول من جمع القرآن، قال زيد بن ثابت: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة -قتل القراء في اليمامة - وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر في أهل اليمامة، وإني أخشى أن يذهب القراء، ويذهب القرآن معهم، فاجمع القرآن فإنك شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تجمع القرآن في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، قال زيد بن ثابت: [[والله لو كلفوني بنقل جبل من مكانه لكان أسهل عليَّ]] فبدأ يتتبعه ويجمعه، وكان يشرف على هذا المشروع أبو بكر بنفسه رضي الله عنه وأرضاه.
وكان أبو بكر رضي الله عنه يسأل، ويمر على كثير من بيوت الأنصار، ويسأل عن معاريف الرسول صلى الله عليه وسلم فيصلهم، معاريف الرسول صلى الله عليه وسلم الذين كان رسول الله يحسن إليهم، كان يصلهم بخلافته، وكان إذا قسم شيئاً بدأ بزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم فأعطاهن، ثم بدأ بالمسلمين، وكانت تستوقفه العجوز رضي الله عنه وأرضاه، فيقف لها طويلاً يحدثها حتى تنتهي.(15/27)
بيعة أبي بكر في سقيفة بني ساعده
أما مبايعته فتعرفون أنه لما اختلف الناس بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فضل أبي بكر في سكرات الموت، لما قال: {مروا أبا بكر فليصل بالناس} واجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة، واختلفوا من يولوا عليهم، أتى أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فتكلم عمر بكلام لم يعجب الأنصار، كان عمر رضي الله عنه قوياً، وهذه المجالس التي فيها جدل وفيها محاورة وشورى تحتاج إلى رجل لين فصيح، يحاول أن ينظم الكلام، قال عمر: فزورت كلاماً في صدري، فمنعني أبو بكر أن أتكلم، وأسكتني، فتكلم بكلام فوالله ما ترك في صدري شيئاً إلا أتى بأحسن منه وما تهيأ أبو بكر، وقد كان الأنصار يريدون الخلافة لأنهم في الدار، أو يريدون أن يكون منهم خليفة، وعندهم اقتراحات، يكون الخليفة منهم، والاقتراح الثاني: يكون من المهاجرين خليفة ومن الأنصار خليفة.
قال أبو بكر: أيها الأنصار: واسيتم وكفيتم وأطعمتم وسقيتم، فجزاكم الله عنا خير الجزاء، والله يا معشر الأنصار ما مثلكم ومثلنا إلا كما قال طفيل الغنوي يمدح بني جعفر:
جزى الله عنا جعفراً حيث أشرفت بنا نعلنا في الشارفين فزلتِ
هم خلطونا بالنفوس وألجئوا إلى غرفاتٍ أدفأت وأظلتِ
أبوا أن يملونا ولو أن أمنا تلاقي الذي يلقون منا لملتِ
فلما سمعوا هذا الكلام العجيب، والسحر الحلال، قاموا فبايعوه فبايعه الناس، ثم عاد إلى المسجد فبايعه الناس البيعة العامة، وتولى أمر الأمة، ومكث سنتين وستة أشهر، وكان في خلالها مريضاً، مجهداً، قليل النوم حتى توفاه الله، جمعنا الله به في دار الكرامة.
وكان رضي الله عنه وأرضاه إذا أراد الخروج إلى الصلاة مرَّ ببيوت جيرانه، وببيوت أبنائه وأخرجهم معه إلى الصلاة.(15/28)
طرائف من حياة الصديق
ومن الطرائف في حياته: أنه مر بابنه فأخرجه، فتأخر ابنه فعاد إليه يصيح عليه عند الباب، وكان عند أبي بكر حدة، ويقول: أخرته فلانة، يعني: زوجته، يقول: ما خرج معنا يدرك تكبيرة الإحرام أخرته فلانة.
ومن الطرائف في حياته التي رواها البخاري، أن ضيوفاً أتوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر يتصدى للضيافة في أول الناس هو وسعد بن عبادة، فأكثر ما ينطلق من الضيوف مع أبي بكر وسعد لأنهما أكرم الناس وعندهم تجارة وخير، فكان أبو بكر من المهاجرين، وكان سعد بن عبادة من الأنصار، قال: كان بعض الصحابة يضيف اثنين وثلاثة على حسب ما عنده من الطعام، وكان أبو بكر يأخذ الثمانين وحول ذلك، فانطلق بهم إلى سرحة معه، فقال لـ بنت أبي فراص -أي زوجته- اصنعي لهؤلاء طعاماً، وصنعوا طعاماً، وذهب هو وقال للناس أن يتعشوا ويأكلوا، فقدموا الطعام، وذهب هو إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عنده ضيوف، لكن يريد أبو بكر أن يكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، قريباً منه حيث تأتيه وفود العرب يسمع ماذا يقولون؟ وماذا يقال له؟ ولا يرتاح أن يكون في بيته ويفارق الرسول صلى الله عليه وسلم، وترك ابنه في البيت، ليضيف الناس، فصنعوا الطعام، وأنزلوا الصحاف للناس ليأكلوا، وقال الضيوف من العرب: والله لا نأكل حتى يأتي أبو بكر، فبرد العشاء عليهم، وأتى أبو بكر بعدما نام الناس، قال: أين الضيوف؟ نام بعضهم وبعضهم لم ينم، قال: قدمنا لهم الطعام، ولكن ما أكلوا، واختفى ابنه -وهذا في البخاري - اختفى وراء الستار خوفاً من أبي بكر.
قال: يا غنثر! يقول لابنه، وسبَّ، وجدَّع، لكنه يتأثر، كلوا ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم، فأنزل الضيوف يأكلون، قالوا: والله ما رفع لقمة إلا أتى بدلها لقمة، قال: فلما أكل هؤلاء الثمانون ما نقص من الصحاف شيء، فوزعها في أهل المدينة.
ونص على ذلك النووي في رياض الصالحين في باب كرامات الأولياء رضي الله عنه وأرضاه.
وكان شديد الحدة، دخل مرعى الصدقة الذي تقسم فيه إبل الصدقة ومعه خطام، قال لـ عمر: ادخل معي ولا يدخل أحد.
فوقف الناس الأعراب، والمسلمون، والفقراء خارج السور، يريدون أن يأخذوا شيئاً من الإبل، فدخل وقال: للحارس لا يدخل أحد، فدخل أعرابي مع دخول عمر.
فنظر إليه أبو بكر، فأخذ الخطام فضرب الأعرابي على رأسه بالخطام، وقال: اخرج.
ثم التفت فتأثر، وتذكر لقاء الله {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] قال: تعال يا أخا العرب تعال، اقتص مني خذ الخطام، قال عمر: والله لا تكون، قال: ولم؟
قال: كلما أدبنا الرعية ضربونا، أي: تريد تسنها سنة، يعني: كلما أدبت إنساناً مشاغباً قام يضربني، لأنه لو فعلها أبو بكر كان عمر يفعل ذلك.
قال: ماذا ترى؟
قال: أعطه جملاً من الجمال.
قال: صدقت، فأعطاه جملاً بالخطام، وقال: خذ، والأعرابي يريد الجمل ولو بعشرين ضربة، فأخذها وخرج وقد عفا عن أبي بكر، وقال: غفر الله لك! وهذا الذي يريد رضي الله عنه وأرضاه.
ومن الطرائف في حياته: أنه كتب صكوكاً لأناس يتألفهم على الناس؛ والتألف في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن من الأراضي العامة يتألفهم، فكتب لـ عيينة بن حصن أرضاً قريبة من المدينة يتألفه وادٍ فيه ماء، قال: فأتى عيينة بن حصن إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال: أنجز لي ما وعدتني من الأرض، فكتب له رسالة وقال: مر بـ عمر يرى الرسالة؛ لأنه مستشاره، فمر إلى عمر وهو يطين حائطاً له، فقال: أرني الرسالة؟
فأراه فقطعها، ثم رماها، فقال: كنا نتألف الناس في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ونحن ضعفة، فأما الآن فنحن أقوياء، إما أسلمت وإلا هذا السيف.
قال: أنت الخليفة أم أبو بكر؟
قال: أنا هو غير أنه إياي! وهذا من أجمل ما قيل في كلام العرب، يقول: أنت الخليفة لماذا تشق المرسوم، قال: أنا وهو شيء واحد.
فأقره أبو بكر، وتبسم لما سمع خبره، لأنه يفوضه في كثير من الأمور، ومقصود عمر أنه لا تتألف الناس والإسلام قوي كما في عهد الضعف، أما في عهد القوة فمن يدخل فبها ونعمت! ومن يخرج يقتل بالسيف، بعدما وضح الدين، فألغى أبو بكر الإقطاعيات بسبب كلام عمر رضي الله عنه وأرضاه.
وكان أبو بكر إذا تحدث وقف عمر كالحارس على ظهره، أي: كالجندي، يريد أبو بكر أن يتكلم للناس، يقف رضي الله عنه وأرضاه من باب التشريف لـ أبي بكر والتقديم له يقف حتى ينتهي من الكلام، ويسل سيفه بين يديه.
وقال الأحنف بن قيس: [[دخلت المدينة فإذا الصحابة مجتمعون، وإذا شيخان أحدهما يقبل رأس الآخر، قلت: من هذان الشيخان؟ قالوا: أبو بكر وعمر]] أي: اختلفوا في مسألة ثم تراضوا، فقام هذا يقبل رأس هذا، وذلك لأن عمر قال لـ أبي بكر: لا تقاتل من منع الزكاة ولكن ادعهم، فقام أبو بكر غضباً من كلام عمر، فأخذ بلحية عمر وكانت كثة، وهز رأسه، وقال: جبار في الجاهلية، خوار في الإسلام؟!
يقول: كنت تخوف الناس في الجاهلية، ولما أتيت في الإسلام أصبحت جباناً، فدعا له بالبركة ثم عفا عنه، ثم قام معه، وكان من أول من قاتل معه في سبيل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
انتهت محاضرة " أبو بكر في عصر الذرة" وأسأل الله أن يجمعنا به، وأخباره طويلة، ومن أراد الاستزادة فليراجع كتب التاريخ، وليعش مع أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وليتقدم بين يديه، وليسمع أخباره؛ فإنها مضرجة في الصحيح، بل في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم عند مسلم قال: {من أصبح منك اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا.
قال: من زار مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا.
قال: من شيع جنازة؟ قال أبو بكر: أنا.
قال: من تصدق بصدقة اليوم؟ قال أبو بكر: أنا، وسكت الناس، قال: ما اجتمعت هذه الخصال في امرئ في يوم واحد إلا دخل الجنة} وهو من أهل الجنة نشهد الله على ذلك، ونشهد الله على محبته فإنه كان من أكبر الأسباب والمتسببين من الناس في نشر هذا الدين، وفي اجتماعنا في هذا المسجد، وفي نزول هذا الهدى، وفي انتصار هذا الدين، وهذا المنهج الرباني، وفي بقائه في الأرض، هو من أكبر المناصرين، فرضي الله عنه وأرضاه.(15/29)
الأسئلة(15/30)
الوصول إلى درجة أبي بكر
السؤال
أريد أن أصل إلى درجة أبي بكر، فماذا أفعل؟
الجواب
لن تصل ولا تتعب نفسك أبداً، يقول الشاعر:
لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
ولو اجتمعنا كلنا ما وصلنا إلى جزئية من جزئيات أبي بكر {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60]
عذرت البزل إن هي قارعتني فما بالي وبال ابن اللبونِ
وابن البونِ إذا ما لز في قرنٍ لم يستطع صولة البزل القناعيسِ
لشتان ما بين اليزيدين في الندى: هذان يزيدان كانا أميرين أحدهما في مصر والآخر في العراق، فأحدهما كان لصاً ومرتشياً يسرق أموال الناس ويبني بها البيوت، ويزيد بن حاتم كان ينفق على الناس وعلى الفقراء ولا يمسك شيئاً، فأتى شاعر عند يزيد القيسي فطلب منه فمنعه، ويقولون: إنه احتال عليه حتى أخذ ما عنده من رحل، بعض الناس إذا أتيت ومعك حذاء جميل أخذها، ومعك سيارة جيدة سلبها، ولكن الآخر أعطاه، فقال في شعره:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم
فهمُّ الفتى الأزدي إتلاف ماله وهمُّ الفتى القيسي جمع الدراهمِ
ولا يحسب التمتام أني هجوته ولكنني فضلتُ أهل المكارمِ
والتمتام الذي لا يعرف يتكلم.
فعلى كل حال لا نستطيع أن نصل إلى درجة أبي بكر، لكنك بحبك تحشر معه، وبعملك على قدر مستواك، وبجهدك، لأن أبا بكر وفق لأمور:
منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم معه.
ومنها: أنه عاش في زمن الوحي.
ومنها: أن الله أعطاه الإخلاص والإيمان.
ومنها: أنه بذل وجاهد.
ولكنا نطلب من فضيلتك -أيها السائل- أن تصلي الفجر معنا في الجماعة وكثر الله خيرك، وحفظك، وألا تستمع الغناء، ولا تطيل ثوبك، ولا تحلق لحيتك، ولا تشرب الدخان، وإن شاء الله بإذن الله تنجو يوم القيامة.
أما أبو بكر، فالعالم الإسلامي عدده مليار اليوم، لو جمعت المليار وصغتهم في رجل واحد ما صاروا مثل أبي بكر، ولو كان عندنا أبو بكر هنا كنا انتصرنا على العالم بإذن الله، بفضل الله عز وجل، لكن ليس عندنا أبو بكر.
يقول محمد إقبال: مخ مائتي حمار لا تساوي مخ رجل، وليس أقصد الناس المستمعين فإنهم أبطال وأسود، ولكني أقصد الأوباش المتخلفين لو جمعت مخوخهم وأدمغتهم ما بلغوا مثل دماغ أبي بكر أبداً.
أبو بكر أتى بتربية من الرسول عليه الصلاة والسلام واجتهد.(15/31)
سيرة أبي بكر الصديق حقائق وليست مبالغات
السؤال
أنا أحب الواقعية ولا أحب المبالغة في الأمور، ولا أتأثر بالشيء الذي أرى فيه غرابة، ولكني رقيق القلب عند الموعظة كثيراً كثيراً، وأحاول قيام الليل، وأوبخ نفسي كثيراً؟
الجواب
أما قولك في المبالغة إن شاء الله فليس هنا مبالغة، بل نحن ما زلنا في أقل الأخبار عن أبي بكر، وكلها ما صح عنه، إن كان تقصد هذا، إن كان تعرف بنا.
فما أتينا إلا بالحق وليست مبالغة {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] البخاري يروي ومسلم والعالم كلهم وأنتم تقولون مبالغة.
مايكل هارف يثبت سيرة أبي بكر وسيرة عمر وكريسي موريسون وفلان وفلان، والغربيون ألفوا عنه كتباً، وأنتم نقول: إنها مبالغة، ما بالغنا لأننا نعيش في عصر إذا قارنت ما فيه بذاك قلت: مبالغة، وليس فيه من المبالغة شيء.(15/32)
المفاضلة بين الصحابة في الحب
السؤال
أحب الصحابة كلهم، لكن أحب أبا بكر أكثر؟
الجواب
هذا هو السنة، ألا تساوي بين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهكذا دواليك.(15/33)
معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: إنكن صويحبات يوسف
السؤال
ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إنكن صويحبات يوسف}؟
الجواب
أي: أن النساء هن مثل اللواتي اجتمعن في بيت امرأة العزيز، فقطعن أيديهن ليمكرن به {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31] فمن باب أن الرسول يسبهن سب تأديب.(15/34)
قصيدة في أبي بكر الصديق
السؤال
هل تسمعنا أبيات في مدح الصديق رضي الله عنه؟
الجواب
سوف يكون لي في ذلك قصيدة، ولكن الآن قصيدة حسان، وصاحب الغار:
إني سوف أذكره وطلحة بن عبيد الله ذا الجود
يقول حسان:
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
التالي الثاني المحمود سيرته وأول الناس طراً صدق الرسلا(15/35)
أحوال الأمة
السؤال
كان الناس يقولون كلمة الحق، وكان العلماء ينصحون، ويوجهون، وكانت الأمة تستمع كلمة الحق، وكان العصاة يتأثرون، فما للأمة أصبحت كما ترى؟
الجواب
يقول الأصمعي: مررت بأعرابي يقول:
يا رب إني جالس كما ترى وامرأتي جالسة كما ترى
فما ترى يا ربنا فيما ترى
أي هو فقير فيقول: أنا فقير والمرأة فقيرة، وأنت برأيك؟!
أحد الناس الحمقى ذهب إلى غار حراء، فكان يدعو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وكان وراءه حجر صغير فسقط، قال: لا تدفعنا يا رسول الله! أتينا نطلب الله!
أيها الإخوة الكرام: إلى لقاءٍ آخر نترككم، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(15/36)
احفظ الله يحفظك
إن كل متمسك بهذا الدين معتز به يعلم أنه إذا حفظ الله فإن الله سوف يحفظه، وكم في هذه الأمة من نماذج رائعة ضربت أروع الأمثلة في الشجاعة والتضحية والعزة في هذا الدين، ولم يكن ذلك إلا بحفظ الله، وقد ذكر الشيخ - حفظه الله- خمسة عشر قصة تبين حال من حفظ الله، فكان بحفظ الله لا يخاف في الله لومة لائم، ولا بطش سلطان ولا جبروت متجبر، ولكن ليعلم كل إنسان أن هذا الحفظ مقرون بالتزامات من ضيعها فإنه ليس ممن يستحق حفظ الله له.
وحتى تكتمل الصورة ذكر الشيخ نماذج ممن ضيعوا الله فضيعهم الله.(16/1)
نص حديث: (احفظ الله يحفظك) وروعة معانيه
الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المسلمون: عنوان هذه المحاضرة: احفظ الله يحفظك.
وهي للمرة الثانية تقال، ولا تزال تُكرر ما دام في الأرض إسلام وما دام في الأرض مسلمون.
من يتقِ الله يحمد في عواقبه ويكفه شر من عزوا ومن هانوا
من استجار بغير الله في فزع فإن ناصره عجز وخذلان
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
صح عنه -عليه الصلاة والسلام- عند الترمذي وأحمد أنه قال لابن عمه -حبر الأمة- عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: {يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} زاد أحمد في المسند: {واعلم أن الفرج مع الكرب، وأن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسراً}.
وهذا الحديث صحيح، وهو وصية محمد -عليه الصلاة والسلام- للأولين والآخرين.
قال بعض الصالحين: إذا أردت أن توصي حبيبك أو صاحبك أو ابنك فقل له: احفظ الله يحفظك.
قال أحد العلماء: تأملت في هذا الحديث فكدت أدهش لما فيه من معان جليلة.
ولذلك قال سليمان بن داود عليه السلام وعلى أبيه: تعلمنا مما تعلم الناس ومما لم يتعلم الناس فما وجدنا كحفظ الله في الغيب والشهادة.
وقال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه لـ معاذ وأبي ذر: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن}.(16/2)
نماذج ممن حفظوا الله فحفظهم
وعناصر هذه المحاضرة هي:
أبو الطيب الطبري يقفز من السفينة بحفظ الله.
البرامكة ضيعوا الله فضيعهم الله.
العصفور في حفظ الله وفي كلاءته ينقل للحية رزقها.
الرجل الإسرائيلي يرسل رسالة في خشبة في البحر فيوصلها عالم الغيب والشهادة.
صلة بن أشيم يحميه الواحد الأحد من الأسد وهو في الصحراء.
عقبة بن نافع يخترق غابة أفريقيا فيتكلم بحفظ الله مع الوحوش فتعود إلى مستعمراتها.
سيف الله أبو سليمان خالد بن الوليد يتكلم مع الروم فينصره الله بكلمة رائعة.
إبراهيم عليه السلام يلقى في النار فيتذكر عظمة الله فينصره الله ويحفظه الله.
نوح يركب البحر فيتذكر الواحد الأحد ويتخلى عن الأضداد والأنداد فيعلي الله كلمته.
يونس بن متى في ظلمات ثلاث حفظه الله عندما حفظ الله في الرخاء.
يوسف عليه السلام يسبح في الجب فيحفظه الله في المآزق.
موسى بن عمران تدلهم عليه المصائب فيجتبيه الواحد الأحد.
الحسن مع الحجاج في صراع رهيب.
الأوزاعي مع عبد الله بن علي العباسي في مجلس من مجالس الموت.
أعرابي يتكلم مع الحجاج في الحرم.
الثوري مع أبي جعفر يصمته بحجة.
هذا وبقية العناصر سوف ترد، والله المستعان، وإنها لوصية للأولين والآخرين، وإن هذه المحاضرة لا توجه لصنف من الناس، إنما هي للملوك والأمراء وللوزراء، وللموظفين والأطباء والمهندسين، وللتجار والفلاحين، وللرجال والنساء.
دعها سماوية تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوس
يا حافظ الآمال أنتت حميتني ورعيتني
وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
{فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] قالها يعقوب لما ضاع منه يوسف، وتذكر يعقوب أن الذئاب سوف تأكل يوسف، فقال: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] وتذكر أن الفرقة حلت بينه وبين ابنه الحبيب، فقال: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] وتذكر أن فلذة كبده لا يدري هل يعود أم لا؟! فقال: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
قال بعض العلماء: ضاع يوسف من أبيه يعقوب أربعين سنة، فرده الذي هو خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.(16/3)
أبو الطيب الطبري يقفز من السفينة
أتى أبو الطيب الطبري -أحد علماء الإسلام- إلى سفينة فركبها، فلما اقترب من الشاطئ -وهو في السبعين من عمره- أراد أن يدلف إلى الشاطئ فقفز، وكان معه شباب فأرادوا أن يقفزوا فما استطاعوا؛ فقالوا له: كيف استطعت وما استطعنا وأنت شيخ كبير؟ قال: هذه أعضاء حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر.
{فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] وهذه القصة ذكرها ابن كثير رحمه الله.
فالعين يحفظها الله إذا حفظت الله، والسمع يحفظه الله يوم يحفظ الله، وكذلك اليد والرجل: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].(16/4)
البرامكة ضيعوا الله فضيعهم
كان البرامة وزراء لبني العباس، فأعطاهم الله المال من الذهب والفضة، وطلوا قصورهم بكل شيء من الألوان، حتى قال بعض المؤرخين: كانوا يطلون قصورهم بماء الذهب! لكنهم ضيعوا أوامر الله، فالمعصية في داخل القصور؛ غناء وخمر ومجون وضياع وتضييع للصلاة، وزنا وفحش، فأخذهم علام الغيوب الذي يمهل ولا يهمل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فسبحانه ما أقدره! ولا إله إلا الله ما أعظمه! ولا إله إلا الله ما أجله! ورد في أثر قدسي: {رقاب الملوك بيدي إذا أردت أن أقصم ملكاً قصمته} وصح في الحديث: {الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري؛ من نازعني فيهما عذبته}.
فهؤلاء الوزراء أخذوا في غداة واحدة، سلط الله عليهم أحب الناس إليهم وهو هارون الرشيد، الذي كان صديقهم وأخاهم وهو الخليفة، فغضب عليهم ضحى (قبل الظهر) فأخذ شبابهم، فقتلهم بالسيف قبل الظهر، وأخذ أشياخهم فأودعهم في السجن، وأخذ أبناءهم فجعلهم في المستعمرات تحت الأرض، وأخذ النساء فأوصد عليهن في الغرف.
بكاء هنا وبكاء هناك، ودمع هنا ودمع هناك.
قيل لـ يحيى بن خالد البرمكي: ماذا أنزلكم في هذا المنزل في الظلام بعد هذه النعم، بعد الذهب، والحرير، والديباج؟! قال وهو يبكي: دعوة مظلوم سرت في ظلام الليل غفلنا عنها وما غفل الله عنها!
جاءت تردى تمشي رافعاً ذراها أولها ردت على أخراها
قيل لـ علي أبي الحسن رضي الله عنه وأرضاه: كم بين العرش والتراب؟ قال: دعوة مستجابة.
لم يجب بالأميال ولا بالكيلومترات ولا بالمقايسات، وإنما قال: دعوة مستجابة يرفعها الله على الغمام حتى تصل إليه، ثم يقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين.
وكان عليه الصلاة والسلام يقول لـ معاذ فيما صح عنه: {واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب}.
أُخِذ البرامكة، فبقي الشيخ أبوهم في السجن سبع سنوات، طالت أظافره، وطال شاربه، ما وجد مقراضاً يقلم أظفاره ما وجد مقصاً يأخذ من شاربه، كان يتوضأ ويقضي حاجته في مكانه وفي زنزانته، وهو يبكي بعد النعيم، وبعد السرير والديباج.
باتوا على قمم الأجبال تحرسهم غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عز من معاقلهم إلى مقابرهم يا بئسما نزلوا!
{فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
من الذي يصرف الأمور إلا الله؟! من الذي بيده المقاليد إلا الواحد الأحد؟! من الذي يأخذ رقاب الناس ويأخذ لهذا من هذا إلا الله؟! فاعتمد على الله، ولذلك ندد الله بالمشركين والمتخلفين والفجرة فقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3].(16/5)
العصفور ينقل للحية رزقها
قال ابن الجوزي في صفة الصفوة: رأى رجل عصفوراً يطير من شجرة إلى شجرة وبفمه لحم، فصعد هذا الرجل إلى النخلة فوجد فيها حية عمياء، فكان إذا اقترب منها العصفور وشوش لها بصوته فتفتح فمها فيضع قطعة اللحم.
حية يصلها رزقها إلى رأس النخلة بعصفور، وهي عمياء يوصوص لها العصفور فترفع فتفتح!!
من الذي دل العصفور؟! إنه الواحد الأحد، رب العصفور، ومن الذي رزق الحية؟! إنه الحي القيوم رب الحية: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6].(16/6)
مالك بن دينار
قال ابن رجب وهو يروي عن أحد الصالحين، وهو مالك بن دينار قال: نمت في حديقة، فاستيقظت من نومي وإذا بحية أخذت زهرة في فمها وهي تزيل البعوض والذباب عن وجهي.
سبحان الله! ونحن نقر كرامات الأولياء ونشهد أنها حق، وقد أقرها أهل السنة والجماعة، ولكن الشاهد {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].(16/7)
يرسل رسالة في خشبة فيوصلها عالم الغيب والشهادة
وروى البخاري في صحيحه في باب الوكالة: {أن رجلاً من بني إسرائيل ذهب إلى أخيه يستلف منه ويقترض ألف دينار -وكلاهما مؤمنان مصدقان بالله الواحد الأحد- فقال له: أسلفني ألف دينار فأنا محتاج وفقير.
قال: من يكفلك؟ قال: الله يكفلني، قال: رضيت بالله} من رضي بالله سلمه الله وأعطاه ما تمنى، قال: رضيت بالله، وهل بعد الله من مطلب؟!
يقول النابغة الذبياني لـ النعمان بن المنذر:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
يقول: حلفت لك، وهل تريد بعد الله من قسم؟
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني وشاية لمبلغك الواشي أغش وأكذب
{قال: من يكفلك؟ قال: الله الواحد الأحد.
قال: رضيت بالله، تعال بالصك؛ فكتب الصك، فلما بقيت خانة الشهادة قال: من يشهد لك؟ قال: يشهد لي الله.
قال: رضيت بالله شاهداً، فكتبوا وشهد على ذلك الحي القيوم، وأخذ الصك وأعطاه ألف دينار، وذهب الإسرائيلي من أخيه لا يدري أين يذهب، ولا يدري أين منزله لكنه توكل على الله.
وبعد حين جاء وقت أداء القرض فذهب هذا الإسرائيلي ليركب البحر ويوصل الدين إلى صاحبه، فإذا أمواج البحر تضطرب وإذا بالهول أمامه، فعاد إلى بيته، ثم رجع إلى الشاطئ فما وجد سفينة ولا قارباً، فدمعت عيناه، وقال: يا رب! أراد كفيلاً فقلت: أنت الكفيل فرضي بك، وطلب شاهداً فقلت: أنت الشاهد فرضي بك، اللهم ادفع له هذا المال.
وأخذ خشبة ونقرها ووضع فيها ألف دينار، ثم كتب رسالة إلى صاحبه، ثم قال: باسم الله، ووضعها في الماء.
فأخذها الكفيل الذي ليس بعده كفيل والشاهد الذي ليس بعده شاهد، وأخذت تتدحرج على ظهر الماء ولا تغرق، والرجل الآخر في نفس الميعاد خرج ليستقبل صاحبه في السفينة على الموعد، فانتظر فما قدمت سفينة، وما أتى قارب، ولم يأت صاحبه، وإذا بالبحر يرمي إليه بخشبة، فقال: لا أفوت سفري، آخذ هذه الخشبة حطباً لأهلي، فذهب فكسر الخشبة فوجد الألف الدينار ووجد الرسالة} {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].(16/8)
صلة بن أشيم يحفظه الله من الأسد
وقال ابن كثير وأبو نعيم بسندين جيدين: كان صلة بن أشيم يغزو في خراسان مع قتيبة بن مسلم، وكان صلة بن أشيم من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر وهو في صلاة وفي عبادة وفي بكاء، فقل لأهل الغناء وأهل البلوت، قل لأهل الطرب والفواحش صلة بن أشيم من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر وهو في دعاء وفي مناجاة.
قلت لليل هل بجوفك سر عامر بالحديث والأسرار
قال لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسمار
وكان قتيبة بن مسلم يقول: الحمد لله الذي جعل في جيشي مثلك يا صلة وكان إذا قام يصلي الليل يأخذ بردة بألف دينار ويطيبها ويقول: اللهم إنك جميل تحب الجمال ما لبستها إلا لك.
فيلبسها في الليل وإذا أتى النهار خلعها، لا يتجمل للناس، ولو أن التجمل للناس مطلوب، لكن الله هو الجميل الذي يحب الجمال، كما في صحيح مسلم.
فخرج من الجيش بعد أن ناموا، ودخل الغابة وقام يصلي ويتنفل ويبكي، وهو في الجبهة في سبيل الله، قريباً من كابل التي ضيعناها يوم ضيعنا لا إله إلا الله.
بنفسي تلك الأرض ما أحسن الربى وما أحسن المصطاف والمتربعا
قام يصلي فأتى الأسد عليه، وأنتم تعرفون الأسد، حيدرة، الهزبر، الليث، الذي سمته العرب ملك الحيوانات، كان إذا زأر في واد يرتحل العرب من الوادي، لا يصارعه أحد.
فأتى الأسد وهو في الصلاة، فدار عليه قالوا: فما تحول وما تحرك وما اضطرب، فلما سلم من الركعتين قال: يا حيدرة، ياليث، إن كنت أمرت بأكلي فكلني فإنه ليس معي سلاح إلا حماية الله، وإن كنت ما أمرت بقتلي فلن تسلط علي فاذهب واتركني أصلي، فقام الأسد فلوى ذنبه، وخفض صوته، وذهب كأنه جرو الكلب حتى دخل جحره: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
قال أحد العلماء: لما أطعنا الله سخر لنا الوحوش، ولما عصينا الله سلط علينا الفئران.
ولذلك يقول أحد الأدباء لما رأى إسرائيل هاجمت بلاد العرب وأخذت القدس:
أيا عمر الفاروق هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا
تغني بك الدنيا كأنك طارق على بركات الله يرسو ويُبْحِرُ
نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقُصّرُ
وليمون يافا يابس في أصوله وهل شجر في قبضة الظلم يثمر
يوم جاء عمر لفتح بيت المقدس كيف جاء؟ جاء ومعه مولاه، وهو يقول له: اركب أنت ساعة وأنا أركب ساعة.
فقال: يا أمير المؤمنين! يلقانا القواد ووجوه الناس وأنت تقود الجمل! قال: لا أم لك! من أنا؟ كنت أسمى في الجاهلية عميراً، اركب ساعة وأنا أركب ساعة.
فكان عمر يقود الجمل وخادمه يركب، ثم ينزل الخادم ويركب عمر، فلما أشرف عمر على قادة الجيوش: عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة وأبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان ومعاوية، فتقدم عمرو بن العاص وقال: أخجلتنا يا أمير المؤمنين! أتقود الجمل؟!! قال: [[يا عمرو! نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]].(16/9)
محمد بن واسع
فتح قتيبة بن مسلم كابل وطوقها، فلما اقتربت ساعة الصفر وسلت السيوف، وتنزل النصر من السماء: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] قال قتيبة بن مسلم: التمسوا لي محمد بن واسع الأزدي -أحد الصالحين الأخيار- أين هو؟ فذهبوا فوجدوه قد صلى الضحى وجعل رمحه إلى الأرض، واعتمد على الرمح وهو يدعو الله بالنصر: يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام نصرك الذي وعدتنا.
فعادوا إلى قتيبة فأخبروه فبكى وقال: والله الذي لا إله إلا هو! إن إصبع محمد بن واسع خير عندي من مائة ألف سيف شهير ومن مائة ألف شاب طرير.
{فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].(16/10)
خالد بن الوليد وسحقه للروم
إنها عقيدة لقي بها السلف الصالح أعداءهم فنصرهم الله، وجاء في ترجمة خالد -وكلكم يعرف خالداً - ومن الذي لا يعرف أبا سليمان؟ من الذي لا يعرف سيف الله المسلول الذي سله الله على المشركين؟ التقى بالروم، وظن خالد أن الروم عددهم نسبي، كان جيش خالد اثنين وثلاثين ألفاً، وجيش الروم كان عدده مائتين وثمانين ألفاً، وفي الصباح مع طلوع الشمس أقبلت كتائب الروم تتهدر، والسيوف تلمع مع الشمس، تنزل الكتيبة حتى امتلأت الأودية والجبال والسهول، إلى أين يلتجئ خالد؟ أيلتجئ إلى هيئة الأمم؟ أو إلى مجلس الأمن؟! التجأ إلى الله الواحد الأحد.
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] وأتى القادة حول خالد، وصدق خالد مع الله في ذلك اليوم، فقد باع نفسه، حتى يقول عليه الصلاة والسلام: {إنكم تظلمون خالداً، لقد ابتاع أعتده وأدرعه في سبيل الله} فبعث خالد إلى شيخ بـ وادي السماوة، وهو عربي مسلم اسمه عياض بن غنم.
ولذلك تقول العرب: أقصر كتاب في التاريخ كتاب خالد إلى عياض بن غنم.
فالأمر أعجل من ذلك؛ لأن خالداً ليس لديه وقت يملي ولا يكتب؛ فأخذ الرسالة وكتب إلى شيخ قبائل العرب: بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى عياض بن غنم، إياك أريد والسلام.
وتمهل خالد لئلا يشتبك في الحرب مع الروم، ووصلت الرسالة إلى عياض بن غنم فبكى يوم قرأها، وقام في قبائل العرب وحشد الحشود، وما أتى في الليلة الثانية إلا وقد اجتمعوا مع خالد بن الوليد، لكن هيهات، قبائل الروم مائتان وثمانون ألفاً كالجبال، جيش عرمرم متدربون وقادة، فلما خرجوا، قال أحد المسلمين لـ خالد: يا خالد ما أكثر الروم وما أقلنا! اليوم نفر إلى جبل سلمى وآجا.
فدمعت عينا خالد، وقال: بل إلى الله الملتجأ.
ثم جرد السيوف، ولم تأت ثلاثة أيام إلا وقد أوقعهم في كربة وفي سحق ومحق لا يعلمه إلا الله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].(16/11)
عقبة بن نافع ينادي الوحوش
خرج عقبة بن نافع قائداً للمسلمين ليفتح شمال أفريقيا، فلما وصل إلى شمال أفريقيا ودخل غابة أفريقيا الموحشة، وإذا بالأسود في طريقه والحيات والعقارب، فقام فصلى ركعتين، وخرج مترجلاً حتى صعد على صخرة وسط الغابة وقال: أيتها الأسود -ينادي الأسود في الغابة - أيتها السباع! أيتها الحيات! أيتها العقارب! نحن أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام جئنا نفتح الدنيا بلا إله إلا الله محمد رسول الله، ادخلي في بيوتك.
قالوا: فدخلت في جحورها وخرج.
قال محمد إقبال:
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
كنا نقدم للسيوف رءوسنا لم نخش يوماً غاشماً جبارا
هؤلاء الذين حفظوا الله فحفظهم الله.(16/12)
قصة إبراهيم وإلقائه في النار
ويأتي حفظ الله لأنبيائه ورسله على مبدأ {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
فمن الذي يطفئ النار؟ إنه الله.
ومن الذي ينجي من اليم؟ إنه الله.
ومن الذي يكسر الحديد لأوليائه؟ إنه الله.
ومن الذي يصل الحبل بعبده؟ إنه الله
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ الله
{فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
وضعوا إبراهيم عليه السلام في المنجنيق، وأشعلوا له ناراً، وألقوه فيها، وأتى جبريل في تلك اللحظة إلى إبراهيم عليه السلام فقال: يا إبراهيم ألك إلي حاجة؟! قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم.
وقد جاء عن ابن عباس موقوفاً عليه عند البخاري أنه قال: {حسبنا الله ونعم الوكيل كلمة قالها إبراهيم لما ألقي في النار، وقالها محمد عليه الصلاة والسلام لما قيل له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174]}.
ألقوه في النار وهو في الهواء يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وفي أثناء وقوعه قال الله للنار: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، فخرج ونجا.(16/13)
قصة موسى مع فرعون
يدخل موسى عليه السلام إلى فرعون، وقبل أن يدخل إلى الديوان وهو يعرف أن الموت في الديوان، فإن فيه فرعون الطاغية، وهو إرهابي فتاك، ودكتاتوري مجرم، أعلن خساره في الدنيا والآخرة: {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] فأتى كلام الذي هو خير حافظاً وهو أرحم الراحمين {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] فتكلم معه بقوة فحفظه الله.
نزل إلى الميدان وقال: ألقوا، فلما ألقوا أوجس في نفسه خيفة، فأتاه كلام الذي هو خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، قال: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه:68] أنت مع الله، ولذلك يقول سيد قطب: عند قوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] قال: نحن الأعلون سنداً، والأعلون متناً، ميراثنا من الله، وعزنا من الله، وصلتنا بالله.
أو كلام قريب منه.
{قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه:68] فأنت الأقوى والله معك، وإذا كان الله معك، فمن تخشى؟!
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
ألقى العصا ونجا، ولما أراد أن يدخل البحر قال الله له: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63] فأنجاه الله من فرعون، وفرعون لما ضيع الله ضيعه الله.(16/14)
يونس بن متى في ظلمات ثلاث
قال أهل العلم: دخل يونس السفينة فتموجت بها الريح وعصفت؛ لأن المعصية أليمة، وخيمة العواقب، وقد أرسله الله إلى قومه، فلم يستأذن في الخروج، فقال ربان السفينة: معنا عاص فلنقترع، فاستهموا فوقعت القرعة عليه، ومن وقعت القرعة عليه يضعوه في اليم، فوقعت عليه! فاستهموا ثانية فوقعت عليه! وفي الثالثة وقعت عليه! فأخذوه وألقوه في اليم في الليل، فابتلعه الحوت فأصبح في ظلمات ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة اليم، وظلمة الحوت.
فلما أصبح في بطن الحوت انقطعت صلته بالمخلوقين جميعاً، لا ولد، ولا زوجة، ولا أهل، ولا قوم، ولا مال، ولا رئاسة، ولا منصب، وقال وهو في الظلمات في آخر الليل: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] وانطلقت لا إله إلا الله إلى رب لا إله إلا الله مباشرة: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10].
قال بعض أهل التفسير: سمعت الملائكة قول يونس بن متى وهو في ظلمات ثلاث: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فبكوا وقالوا: يا رب! عرفنا الصوت، ولكن لا ندري أين يونس.
الملائكة لم تعرف في أي قارة، هل هو في أفريقيا، أم في آسيا، أم في البحر أم في النيل أم في دجلة؟ لكن الواحد الأحد يدري أين هو، يدري بالزمان والمكان: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:52] {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].
يقول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16] يا بنى! لو كانت حبة كالخردل، وكانت في صخرة مقفلة صماء يأتي بها الواحد الأحد.
قالت الملائكة: يا رب! صوت معروف من عبد معروف لا ندري أين مكانه؛ لأن صوته معروف كان يسبح دائماً، كان في نهاره وفي ليله يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر؛ فعرف صوته في الملأ، ولذلك بعض الناس يعرف صوته بالتسبيح، وبعض الناس يعرف صوته بالفجور والغناء.
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد بن عمروٍ والأغر بن حاتم
فريق في الجنة وفريق في السعير
وناد إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذو النون بن متى
وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
بكت الملائكة وقالت: يا رب! صوت معروف من عبد معروف لا ندري أين مكانه.
قال: أنا أدري، فنجاه الله بكلمة "كن" وقذفه الحوت في الصحراء، وكان عرياناً ليس عليه من الملابس شيء، فأنبت الله عليه في الحال شجرة من يقطين، فأكل من ثمرها، وتظلل بظلها واكتسى، وأرسله الله إلى قومه: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144] لأنه حفظ الله في الرخاء فحفظه في الشدة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك}.(16/15)
الأوزاعي في مجلس من مجالس الموت
قال الذهبي وابن كثير وغيرهما: لما فتح عبد الله بن علي العباسي دمشق، وهو ملك من الملوك، أمره عجيب وخبره غريب! وهو عم أبي جعفر المنصور، من أبناء عبد الله بن عباس ما كان يتبسم، حرسه ما يقارب ثلاثين ألفاً، دخل دمشق فقتل في ساعة واحدة ستة وثلاثين ألفاً من المسلمين، وأدخل بغاله وخيوله في المسجد الأموي، ثم جلس للناس وقال للوزراء: هل ترون أن أحداً سوف يعترض علي؟ قالوا: إن كان فـ الأوزاعي.
والأوزاعي هو أمير المؤمنين في الحديث، أبو عمرو زاهد وعابد، راوية البخاري ومسلم.
قال: ائتوني به، فذهب الجنود إلى الأوزاعي فما تحرك من مكانه، قالوا: يريدك عبد الله بن علي.
فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، انتظروني قليلاً، فذهب فاغتسل ولبس أكفانه تحت الثياب؛ لأنه يعرف أن الأمر ليس فيه إلا الموت، ثم قال لنفسه: الآن آن لك يا أوزاعي أن تقول في الله ولا تخشى في الله لومة لائم.
دخل على هذا السلطان الجبار فغضب السلطان لما رآه، قال الأوزاعي وهو يصف القصة: دخلت فإذا سماطين من الجنود -صفان- قد سلوا السيوف ولاقوا بين رءوسها، فدخلت من تحت السيوف حتى بلغت إليه، وقد جلس على سرير وبيده خيزران، وقد انعقد في جبينه من الغضب، قال: فلما رأيته والله الذي لا إله إلا هو كأنه أمامي ذباب، ووالله ما تذكرت أهلاً ولا مالاً ولا زوجة، وإنما تذكرت عرش الله إذا برز للناس في يوم الحساب.
قال: فرفع طرفه وبه من الغضب ما الله به عليم، لا يتكلم إلا بالدم، والسياف واقف عنده مسلول السيف، والوزراء جلوس عن يمينه وعن يساره، فهم يريدون ملكاً في الدينا.
يقول شاعرهم:
نحن بنو العباس نجلس على الكراسي
أخذوا ملك الدنيا ستمائة سنة حتى كانوا يطاردون مغرب الشمس، ويطاردون نقفور كلب الروم، ويطاردون كل ملحد في الأرض.
فلما جلس قال: ما رأيك يا أوزاعي في الدماء التي أرقناها وأهرقناها؟
قال -آتياً بالسند في موقف ينسى الإنسان فيه اسمه-: حدثنا فلان -بالرواية كأنها من صحيح البخاري - حدثنا ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة} فإن كان من هؤلاء فقد أصبت، وإن لم يكن فدماؤهم في عنقك.
قال: فنكت بالخيزران، ورفعت عمامتي أنتظر السيف، ورأيت الوزراء يستحضرون ثيابهم ويرفعونها عن الدم.
قال: وما رأيك في الأموال؟
قلت: إن كانت حلالاً فحساب، وإن كانت حراماً فعقاب!!
قال: خذ هذه البدرة (كيس مملوء بالذهب).
قال: لا أريد المال.
قال: فغمزني أحد الوزراء، أي: خذ الكيس؛ لأنه يريد أدنى علة لكي يقتله، قال: فأخذ الكيس فوزعه على الجنود حتى بقي الكيس فارغاً فرمى به وخرج، ولما خرج قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، قلناها يوم دخلنا وقلناها يوم خرجنا: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:174].
يقول أحد الصالحين لابنه: هل أدلك على القوة التي لا تغلب؟ قال: نعم، قال: توكل على الله.(16/16)
ابن أبي ذئب مع المهدي العباسي
دخل المهدي الخليفة العباسي مسجد الرسول -عليه الصلاة والسلام- وفي المسجد أكثر من خمسمائة من طلبة الحديث، أهل العمائم والمحابر والأقلام فقام الناس جميعاً إلا ابن أبي ذئب وهو أحد العلماء من رواة البخاري ومسلم، فقال الخليفة المهدي العباسي: يا ابن أبي ذئب قام الناس لي جميعاً إلا أنت لم تقم.
قال: والله الذي لا إله إلا هو لقد أردت أن أقوم لك، فلما تهيأت للقيام تذكرت قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] فتركت هذا القيام لذاك اليوم.
قال: اجلس والله ما بقيت في رأسي شعرة إلا قامت.
فقد قال له كلمة من القرآن: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] ثم قال: أردت أن أقوم لك، فتركت القيام لذاك اليوم؛ لأنه لا يقام إلا لله الواحد الأحد.(16/17)
أعرابي يتكلم مع الحجاج في الحرم
قال طاوس بن كيسان، وهو من تلامذة ابن عباس الأبرار الأخيار، ومن راوة البخاري ومسلم والمسانيد، قال: دخلت الحرم أعتمر، فلما أديت العمرة جلست عند المقام بعد أن صليت الركعتين، ولما انتهيت جلست ألتفت إلى الناس وأنظر إلى البيت، وإذا بجلبة السلاح والسيوف والدرق والحراب، فالتفت فإذا هو الحجاج بن يوسف! وهو أمير سفاك، تقول فيه ليلى الأخيلية
حجاج أنت الذي ما فوقه أحد إلا الخليفة والمستغفر الصمد
تقول: أنت يا حجاج ليس فوقك إلا الله ثم الخليفة ثم أنت الثالث.
ولقد قتل مائة ألف نفس، وقتل سعيد بن جبير، قال أحدهم: رأيت الحجاج في المنام فقال: إن الله قتلني بكل نفس قتلتها مرة إلا سعيد بن جبير قتلني به على الصراط سبعين مرة.
دخل الحجاج فسمعت الجلبة، وعنده خدم وحرس وجنود، قال: فرأيت الحراب فجلست مكاني، وبينما أنا جالس إذا برجل من أهل اليمن فقير زاهد عابد، أقبل فطاف بالبيت، ثم أتى ليصلي ركعتين، فتعلقت حربة من حراب الحجاج بثوب هذا اليمني الأعرابي فوقعت على الحجاج؛ فأمسكه وقال: من أنت؟
قال: مسلم.
قال: من أين أنت؟
قال: من اليمن.
قال: كيف تركت أخي؟
أخوه ظالم مثله اسمه محمد بن يوسف وهذا الحجاج بن يوسف أي: كيف صحة أخي؟
قال: تركته سميناً بطيناً لكنه ناحل في الدين.
قال: ما سألتك عن صحته بل عن عدله؟
قال: تركته غشوماً ظلوماً!
فقال: أما تدري أنه أخي؟
قال: من أنت؟
قال: أنا الحجاج!
قال: أتظن أنه يعتز بك أكثر من اعتزازي بالله؟
قال طاوس: ما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت، ثم أفلته الحجاج.
لماذا؟
لأنه توكل على الله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان(16/18)
الحسن مع الحجاج في صراع رهيب
وقف الحسن البصري، وهو إمام التابعين يفضله كثير من العلماء على التابعين كلهم.
اجتمع القراء عند قصر الحجاج يطلبون أعطيات (أرزاقاً) فلبس الحسن البصري ثيابه وأتى على القراء، وقال: بئس أنتم، قبحتم، رققتم نعالكم، وشففتم ثيابكم، وتطيبتم تطلبون الدنيا بعلمكم! أنتم المتأكلون.
ثم قال: هذا الغشوم الظلوم، يقرأ القرآن على لخم وجذام، ويعظ وعظ الأبرار، ويبطش بطش الجبارين، ويلبس لباس الفسقة!
وكان الحجاج في قصره ولكن لديه استخبارات، ثم وصل الكلام إلى الحجاج.
فقال: علي به، والله لأقتلنه هذا اليوم.
وقتل الناس عند الحجاج كذبح الدجاج.
فأرسل إلى الحسن فلما سمع الحسن الجنود قال: أنظروني قليلاً، فدخل في غرفة مع الواحد الأحد {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] فاختلى بالله وبكى وقال: يا رب! يا ذا القدرة التي لا تضام، والركن الذي لا يرام، أسألك أن تسخره لي وأن تنصرني عليه.
ثم خرج.
وفي أثناء الطريق قلب الله قلب الحجاج؛ لأن قلب الحجاج بيد رب الحجاج {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
فدخل عليه الحسن، فقام الحجاج فاستقبله عند ركن الباب، وقبله على رأسه، وأخذ غالية من طيب، وطيب لحية الحسن، وقال: هيجناك يا أبا سعيد، اعذرنا ولا نعود إلى ذلك.
فلما خرج قال الوزراء: أين وعودك وأيمانك؟
قال: ما دخل علي حتى كان عندي من أرهب الناس: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].(16/19)
الإمام الزهري وصوت الحق
ذكر الشوكاني وغيره في فتح القدير: أن الزهري -المحدث الكبير- دخل على الخليفة هشام بن عبد الملك فقال هشام للعلماء -وكانوا جلوساً عنده-: من الذي تولى كبره؟
الذي تولى كبره في سورة النور هو عبد الله بن أبي بن سلول، في حادثة رمي عائشة بالفاحشة طهرها الله وزكاها، فخاف العلماء؛ لأن هشاماً كان ناصبياً يبغض علي ويدعي ويزعم أن الذي تولى كبره هو علياً رضي الله عنه وأرضاه.
قال لـ مسلم بن يسار: من الذي تولى كبره يا مسلم؟ قال: الذي تولى كبره هو عبد الله بن أبي.
قال: كذبت، الذي تولى كبره هو علي بن أبي طالب.
قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول.
ثم قال للآخر: من الذي تولى كبره؟ فأخبره فكذبه.
ثم قال لـ محمد بن مسلم بن شهاب الزهري: من الذي تولى كبره؟ قال: الذي تولى كبره هو عبد الله بن أبي بن سلول.
قال: كذبت.
قال: بل كذبت أنت وأبوك وجدك، والله لو نادى مناد من السماء أن الكذب حلال ما كذبت، ووالله الذي لا إله إلا هو لقد حدثني علقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وحدثني عروة بن الزبير عن عائشة أن الذي تولى كبره هو عبد الله بن أبي بن سلول.
فارتعد الخليفة وقال: هيجناك، سامحنا! {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].(16/20)
كيف نحفظ الله
ويبقى حفظ الله -عز وجل- ورعايته لأوليائه، لكن من هو الذي يحفظ الله ليحفظه الله؟
لأن الله يقول: {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق:32] والأواب: الرجاع إلى الله، كثير التوبة والندم والاستغفار، كثير العبادة والإنابة، والحفيظ: الذي يحفظ حدود الله.
وحفظ الله يأتي بتقوى الله.
وتقوى الله: أداء ما أمر، واجتناب ما نهى، وتصديق ما أخبر.
وتقوى الله أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية.
وتقوى الله: أن يكون أخوف من تخاف منه هو الله، لأن أي شيء إذا اقتربت منه أمنته إلا الله، فإنك إذا اقتربت منه خفته: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
وتقوى الله قال فيها أبو الحسن علي رضي الله عنه وأرضاه: التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
وأنا سوف أفصل التقوى في جمل عل الله أن ينفع بها.(16/21)
المحافظة على الصلاة
سمى الله أداء الصلاة وحفظها حفظاً، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34] فمن حفظ الصلاة في أوقاتها وخشوعها وخضوعها وجماعتها حفظه الله يوم يضيع الناس: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45].
كان عمر وهو مطعون في سكرات الموت يقول وعيناه تهراق بالدموع: [[الله الله في الصلاة، لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، من حفظ الصلاة حفظه الله، ومن ضيع الصلاة ضيعه الله]] فمن حفظ الصلاة حفظه الواحد الأحد.
وكان رضي الله عنه يكتب لرؤساء الأقاليم والأمراء: عليكم بالصلاة؛ فإنها أول الإسلام وآخر ما تفقدون من دينكم.
والله يقول: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238].
واعلم أنك لا تحافظ على الصلاة إلا بثلاثة أسباب:
الأول: أن تؤديها في وقتها، فلو أخرتها إلى أن يخرج الوقت ما قبلها الله إلا بعذر، ويرمى بها وجه صاحبها، وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني.
وأول ما يحاسب عليه العبد في القبر الصلاة، فمن حفظها حفظه الله يوم تضيع الأفهام وتضل العقول، وتندهش الأفكار.
الثاني: أن تكون في جماعة، فلا صلاة إلا في جماعة إلا من عذر، يوم ينادى بها في المساجد، يوم يقول لك المؤذن: حي على الصلاة حي على الفلاح؛ فتقوم من فراشك، وتزحف إلى المسجد ليحفظك علام الغيوب.
ويقول عليه الصلاة والسلام في الفقرة الأولى في الوقت، لما قال له ابن مسعود: ما أفضل العمل؟
قال: {الصلاة في وقتها} وعند الترمذي والحاكم {الصلاة في أول وقتها} وهذا هو الحفظ.
الثالث: أن تؤديها بخشوع وخضوع، وأن تعيش مع الإمام وهو يقرأ عليك، وتستمع هذا القرآن العجيب والنبأ العظيم الذي طرق الدنيا، واعلم -كما قال ابن القيم - أن مواقف الناس في الآخرة وفي العرصات كمواقفهم في الصلاة.(16/22)
المحافظة على الوضوء
ومن حفظ الله أن تحافظ على الوضوء، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن} فتكون دائماً متوضئاً متطهراً ليحفظك الله من شياطين الإنس والجن، تذهب إلى العمل وأنت متوضئ، وتجلس على مكتبك وأنت متوضئ، في الفصل وفي السيارة وفي الطيارة، ويعجب ربك للعبد يتوضأ لا يعلم بطهارته إلا هو.
من الذي يعلم أن من الناس من يدخل المسجد ليصلي وهو جنب؟! ويظن الناس أنه طاهر، لكن علام الغيوب يعلم، ولذلك قال بعض العلماء: الوضوء سر بين العبد وبين الله.
قال عقبة بن عامر الجهني -والحديث عند أحمد في المسند -: روحت إبلي وذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يحدث الصحابة في مسجده وقد فات عقبة شيء من الحديث، قال: فجلست بجانب عمر بن الخطاب، فسمعت الرسول عليه الصلاة والسلام في أثناء حديثه يقول: {من قال: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيا كان على الله حق أن يرضيه} فقلت: ما أحسن هذا! فالتفت إلي عمر، وقال: التي قبلها أحسن منها، قال: فسكت، فلما انتهى المجلس سلمت على عمر، وقلت: ما هي التي قبلها وهي أحسن منها؟ قال: أما كنت معنا هذه الليلة؟ قلت: لا، روحت إبلي وتأخرت، فما حضرت إلا الآن.
قال: يقول عليه الصلاة والسلام: {من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء} وهذا الحديث في البخاري، وزاد الترمذي: {اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين}.
فقل لـ بلال العزم إن كنت صادقاً أرحنا بها إن كنت حقاً مصلياً
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا(16/23)
صيانة القلب عن الشهوات والشبهات
ومن حفظ الله: حفظ العبد لقلبه، أن يحفظه من الشهوات والشبهات، فهذه المضغة إذا ضاعت منك ضاع كل شيء، وقد قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {التقوى هاهنا} وفي الحديث الصحيح: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} القلب إذا أصلحته بالذكر وبطاعة الله؛ صلحت اليد والعين والسمع والرجل والبطن والفرج، فأصلح قلبك: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89] قالوا: القلب السليم الذي لم تداخله شهوة ولا شبهة، وقالوا: القلب السليم الذي ليس فيه إلا الله، وقالوا: القلب السليم هو القلب الذي امتلأ بلا إله إلا الله محمد رسول الله.
وقال سبحانه: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] من يؤمن بالله يهد قلبه، من يسجد لله يهد قلبه، من يأت إلى المسجد يهد قلبه، ومن يرفع يديه إليه يهد قلبه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
فالهادي هو الله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] فو الله لا يجعلك الله وأنت تأتي لمثل هذه المجالس والدروس والمحاضرات والخير والذكر كمن أعرض وجلس في مقاهي اللغو والزور والفاحشة، ومع الغناء الماجن ومع كل قول رخيص، {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36].
فإذا أتيت الله وأنت تمشي أتاك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهو يهرول.
فمن حفظ العبد لربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحفظ قلبه من الشبهات والشهوات، فيسلم قلبه لله، ويملأ قلبه بحب الله وذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ليهديه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى سواء السبيل، قال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] وكل الناس لهم قلوب، لكن هنا (قلب) نكَّره، أي: قلب فاهم فقيه مبصر {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19] ولذلك لام الله قوماً ما استفادوا من جوارحهم فقال فيهم: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].(16/24)
حفظ اللسان عن القول الحرام
ومن حفظ العبد لربه أن يحفظ لسانه، واللسان هذا أمره عجيب وخبره غريب! وأكثر سيئاتنا وذنوبنا ومعاصينا من ألسنتنا، فلا إله إلا الله كم هتك من عرض، ولا إله إلا الله! كم سجل من معصية! ولا إله إلا اله كم لطخ من سيئة! وكم هدم من حسنة! يقول عليه الصلاة والسلام لـ معاذ وقد سأله: {ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟ قال: بلى يا رسول الله! فأخذ بلسان نفسه، وقال: كُفَّ عليك هذا.
قال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على أنوفهم، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟} والله يقول في مدح الأولياء الصالحين: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3] واللغو هو كل ما لا ينفع في الآخرة، أو كل ما يضر في الآخرة هو لغو.
ولذلك قال ابن مسعود: [[والله ما شيء أحق بطول حبس من لسان]].
احذر لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان
ومن حفظ الله لعبده أن يحفظه في لسانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71] وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من يضمن لي ما بين لحييه وفخذيه وأضمن له الجنة} ضمان من محمد عليه الصلاة والسلام؛ أن من حفظ فرجه ولسانه عن الحرام ضمن له الجنة عند الواحد الأحد: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] من المتقون؟ هم الذين يحفظون ألسنتهم، كان أبو بكر يبكي ويخرج لسانه ويقول: [[هذا الذي أوردني الموارد]].(16/25)
حفظ الأذن عن سماع الحرام
ومن حفظ العبد لربه تبارك وتعالى: أن يحفظه في السمع، وألا يستمع إلاَّ قولاً غالياً كريماً طيباً، لأن الطيب من المؤمنين لا يسمع إلا طيباً: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] وسامع الخنا كقائل الخنا، والراضي بالخنا كفاعل الخنا، وشاهد مجالس الزور كقائل الزور، ومطعم المأكول كالآكل.
فالمسلم كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] قال بعض المفسرين: لا يسمعون الكلام الباطل الزور.
وقيل: لا يؤدون شهادة الزور المعروفة.(16/26)
حفظ العين من النظر إلى الحرام
ومن حفظ العبد لربه: حفظه لبصره، وكم جنى البصر على القلوب؟!
وأنت متى أرسلت طرفك رائداً إلى كل عين أتعبتك المناظر
أصبت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
فالعين إذا انطلقت إلى الحرام فهي سهم من سهام إبليس، و {من غض طرفه عن الحرام أبدله الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه} {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] والعين إذا شردت فإنما هي سهم يقع في القلب.
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل
قال أحد الصالحين: كم من نظرة أودت في حفرة! وكم من عين أدخلت في نار! وكم من التفاتة أعقبت ندماً في الدنيا والآخرة! نعوذ بالله من ذلك، فالعين عليك أن تغضها عن المحارم، وعن الصور الخليعة، وعن معاصي الله عَزَّ وَجَلّ؛ ليحفظ الله عليك إيمانك.(16/27)
حفظ البطن عن الحرام
ومن حفظ الله: حفظ البطن عن المطعم الحرام، والرسول عليه الصلاة والسلام قال كما في صحيح مسلم: {إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون:51] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!} وقال سعد رضي الله عنه: {يا رسول الله! ادع الله أن أكون مستجاب الدعوة.
قال: يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة} ثم قال: {اللهم سدد رميته وأجب دعوته} فما كان يدعو إلا ودعاؤه مستجاب، وما كان يرمي رمية إلا ويصيب بإذن الله؛ لأنه أطاب مطعمه، وعرف من أين يأكل ومن أين يشرب.
فمما يحفظ العبد به ربه أن يتخلى عن الربا والحرام والغش، وأن يعرف ملبسه ومسكنه ومأكله ومدخله ومخرجه، ليكون حافظاً لله في ماله وفي دخله.(16/28)
بين عمر بن عبد العزيز والقاهر العباسي
حفظ الله عز وجل كثيراً من الناس في أعمارهم، كالصالحين جميعاً والرسل عليهم الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين، ومنهم على سبيل المثال ولا أذكر الكثرة الكاثرة، لكن أذكر من المتأخرين عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الزاهد العابد، حضرته الوفاة وأطفاله ليس عندهم من المال شيء، خليفة أنفق المال في سبيل الله، فجمع أبناءه، قيل: كانوا سبعة أو ثمانية، وبالبنات كانوا أربعة عشر، فدمعت عيناه وقال: يا أبنائي ما خلفت لكم مالاً، خلفت لكم الواحد الأحد: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196] ما تركت لكم مالاً، إن كنتم طائعين فسوف يحفظكم الله، وإن كنتم عصاة فما تركت لكم ما تستعينون به على المعصية.
هذا اجتهاده وهذا رأيه الخاص به رضي الله عنه وأرضاه، ثم مات، لكن: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] حفظ الله أبناءه بعده، حتى قال العلماء: كان أبناؤه من أغنى الأغنياء في الناس.
وأتى القاهر -خليفة عباسي- فقال: أكتنز للدهر، أحتفظ بالمال لليالي وللأيام السود، فحفر بركاً في الأرض وملأها من الذهب والفضة، لكن ما اعتمد على الله، وقال لأبنائه: يا أبنائي لا تخشوا الفقر، فقد ملأت لكم في هذه الخزانات والبرك ما لو وزع على أهل بغداد لكان كل بغدادي تاجراً.
فماذا فُعِل به لما خالف أمر الله؟ خلع من خلافته خلعاً، وسلب سلباً، ثم وسلمت عيناه بالحديد الحار حتى أصبح أعمى، ثم أُخذت أملاكه وصودرت إلى الخليفة من بعده وأُخذت قصوره؛ وأصبح يقف في المسجد في بغداد ويقول: من مال الله يا عباد الله!
قالوا: فانظر إليه يوم ضيع الله كيف ضيعه الله، وانظر لذاك يوم حفظ الله كيف حفظه الله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
عبدالملك بن مروان حضرته الوفاة فأخذ يقول: يا ليتني ما عرفت الخلافة، يا ليتني ما عرفت الملك لأنه فرط في الدماء، ثم قال: يا ليت أمي لم تلدني! قال ابن المسيب لما سمع هذه الكلمة: الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا وقت الموت ولا نفر إليهم.(16/29)
دور الشعراء(16/30)
حسان بن ثابت
ومن الشعراء من حفظ الله فحفظه الله.
فهذا حسان بن ثابت كان يحفظ الله بشعره وأدبه وقلمه وقصائده فحفظه الله، كان يمدح الدعوة ويمدح الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى يقول في بيت يسب مشركي قريش:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغلب الغلاب
قريش تسبها العرب بأنها سخينة، والسخينة: نوع من الطعام كالثريد أو كالرواكة الخاثرة، تحبها قريش وتموت فيها وتحيا، فالعرب إذا سبت قريشاً، قالت: سخينة، فقال حسان: زعمت سخينة أنها ستحارب الله بسيوفها، فليغلبن مغلب الغلاب؛ لأنه الغلاب سبحانه.
فقال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يتبسم: {لقد شكر الله لك بيتك يا حسان!} سمع الله بيتك يا حسان {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24 - 25] {لقد شكر الله لك بيتك يا حسان! يوم قلت:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها فليغلبن مغلب الأغلاب
}
كان صلى الله عليه وسلم يقرب له المنبر ويجلسه عليه ويقول: {اهجهم وروح القدس يؤيدك} أي: جبريل.
فكان يقول:
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
قال الزهري: أفخر بيت قالته العرب قول حسان في بدر:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
فهذا أفخر بيت قالته العرب، يقول: تحت قيادتنا المسلحة جبريل ومحمد، فكيف تغالبوننا؟ فهو قائد الشعراء إلى الجنة؛ لأنه حفظ الله.(16/31)
كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة
ومنهم كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة، فقد أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: {يا رسول الله!
فثبت الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
في قصيدة أخرى رائية يقول:
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
فضحك عليه الصلاة والسلام وقال: وإياك فثبت} وثبت الله ابن رواحة، فقد باع نفسه من الله، كما يقول ابن القيم: في بيعة العقبة {والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإذا تفرقا فقد وجب البيع} وذهب إلى مؤتة، فلما أتت ساعة الصفر نزل إلى الأبطال، وخلع درعه، وأخذ سيفه وقال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أقبل الناس وشدوا الرنة
مالي أراك تكرهين الجنة
هل أنت إلا نطفة في شنة
يقول له الصحابة وهم يودعونه في المدينة ويبكون: تعود لنا يا ابن رواحة بالسلامة والعافية.
قال: لا.
لا يريد أن يعود إلى المدينة، ودع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبكى، ولما التفت إلى المدينة وهو على فرسه قال:
خلف السلام على امرئ ودعته في النخل خير مودع وخليل
ترك زوجته وأولاده وأصحابه الأنصار وأصدقاءه، وما التفت إلا إلى رجل، ومن أجل عين تكرم ألف عين، قال:
خلف السلام على امرئ ودعته في النخل خير مودع وخليل
يقصد: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال له الصحابة: تعودون بالسلامة.
قال:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وطعنة ذات قرع تقذف الزبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غاز وقد رشدا
فقتل هناك، وروحه هناك في الجنة: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30] فحفظه الله وأصبح شهيداً.(16/32)
شعراء الضياع
وكما أن هناك من الشعراء من حفظ الله فحفظهم الله، فإن هناك من ضيعوا الله فضيعهم الله تعالى.(16/33)
امرؤ القيس ضيع الله فضيعه الله
وممن ضيع الله على ذكر الأدب: امرؤ القيس، ضيع شبابه في المعصية فضيعه الله، ما عرف إلا النساء والخمر فضاع.
ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {قائد الشعراء إلى النار امرؤ القيس} ومعه ابن هاني الأندلسي، أحد الفجرة، دخل على خليفة وقال:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
يقول للسلطان: احكم فأنت الواحد القهار، فعلمه الله من هو الواحد القهار، وأعطاه درساً لئلا ينسى من هو الواحد القهار؛ خرج من القصر فأصيب بمرض، قالوا: كان يعوي كالكلب على فراشه ويقول: أنت الواحد القهار، وأخذ يبكي ويقول:
أبعين مفتقر إليك نظرتني فأهنتني وقذفتني من حالق
لست الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق(16/34)
القروي ضيع الله فضيعه الله
القروي أحد الشعراء اللبنانيين المنحرفين الفجرة، نزل في دمشق، فاستقبلوه على الأكتاف، وصفقوا له في صالة فقال:
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
يقول: أعطوني الأمة العربية أمة واحدة ولو كنا على مذهب البرهمي الهندوكي المجرم، ثم يقول:
فيا حبذا كفر يؤلف بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
انظر إلى المجرم الكافر!! فأخذه الله، يقولون: مات في الحمام، وما علم به إلا بعد أيام، وأصبح جيفة كالكلب؛ ليعلمه الواحد الأحد أنه الواحد الأحد.(16/35)
إيليا أبو ماضي ضيع الله فضيعه الله
ومنهم إيليا أبو ماضي، يقول:
جئت لا أعلم من أين! ولكني أتيت!!
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت!!
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت!!
كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري!!
ولماذا لست أدري؟!! لست أدري!!
فما درى، لا دريت ولا تليت، بل توليت وعصيت، وأذنبت وأخطيت، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، فمات في سوء حال.
ألا فاحفظوا الله يحفظكم: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(16/36)
أخبار المجتمع
في هذا الدرس رد الشيخ حفظه الله على العديد من الأسئلة المتعلقة بمشاكل المجتمع والنساء وعلى الفتن التي تنتشر بين أوساط المجتمع المسلم، وقد تركزت الأسئلة على الجوانب الاجتماعية وجوانب البيت والأسرة.(17/1)
الخيرية في هذه الأمة لا تنتهي
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عنوان هذا الدرس: (أخبار المجتمع).
وهذا الدرس أنتم شاركتم فيه؛ بل هو من رسائِلكم وأسْئِلتكم وحواركم وخطاباتكم، وأسأل المولى تبارك وتعالى أن يأجركم على حضوركم، وعلى كتابتكم، وعلى حبكم للدين وللإسلام وللقرآن ولمحمد عليه الصلاة والسلام.
وأنا أعلم أنكم أتيتم من أماكن بعيدة، ومن القرى والأرياف والضواحي، أتت بكم رغبة ورهبة، رغبة فيما عند الله ورهبة من عذابه، فأسأل الواحد الأحد الذي جمعنا بكم في هذا المكان الطيب الطاهر، على غير نسب إلا نسب الدين وعلى غير سبب إلا سبب التقوى، أن يجمعنا بكم في دار الكرامة وأن يجعل محبتنا فيه.
إن شكري لكم لا ينتهي، علمت ذلك من قبل ومن بعد، ولكن بعد ما وصلتني الرسائل والأسئلة التي قرأتها في الأسبوع الماضي والدرس الماضي؛ علمت أن في المجتمع خيراً كثيراً عميماً، وأن هذه الأمة مباركة، وكما ورد في مسند أحمد من حديث أنس أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {أمتي كالسيل لا يُدْرى الخير في أوله أو آخره} فأنتم كالغيث، والذي يستهين بقدرات الناس، أو يحطم الناس بالأحكام العامة، كأن يقول: ليس في المجتمع خير، هو المخطئ وحده، يقول عليه الصلاة والسلام: {من قال هلك الناس فهو أهلَكُهم} وفي لفظ {فهو أهلكهم} رواه مسلم.
فما هلك الناس، وما زال الأبرار والأخيار كثر، وما زال الصالحون -والحمد لله- كثر.
ولقد وصلتني رسائل حتى قبل صلاة المغرب بربع ساعة من أناسٍ ما حضروا معنا، وأظن بعضهم حضروا وبعضهم لم يحضروا، سمعوا أنني أذكرهم بخير وهم شباب النوادي والملاعب والمقاهي، وأنا أذكرهم لا أريد الشكر إلا من الله، ذكرتهم بالفطرة التي يحملونها؛ فطرة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقلت من قبل وسوف أقول الآن: إنهم يحملون حباً أصلياً، وأصل الحب لا زال في نفوسهم.
فقد شرب رجل في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام الخمر أكثر من مرة، وأُتي به ليجلده الرسول عليه الصلاة والسلام، وشارك الصحابةُ في جلده فقال أحد الصحابة: {أخزاه الله، ما أكثر ما يؤتى به في الخمر! قال عليه الصلاة والسلام: لا تقل ذلك، فوالذي نفسي بيده إني أعلم أنه يحب الله ورسوله} فهؤلاء شباب الكرة أو الملاهي أو المقاهي أو من لا يظهر عليهم الالتزام، غالبهم إذا سمع سباً في محمد عليه الصلاة والسلام قدم روحه وسكب دمه في لحظة، ولكن أقول: إن الخطأ منا نحن، إذلم نكسر الحواجز ونصل إلى قلوبهم بالبسمة والكلمة الطيبة والزيارة؛ ليكونوا معنا في هذا المجلس الطيب الذي لولاكم بعد الله لما طاب.
ولما جلسنا مجلساً طله الندى جميلاً وبستاناً من الحب ناديا
أثار لنا حسن الحديث وذكره منىً فتمنينا فكنتَ الأمانيا
نسيت تاريخ هذه الجلسة؛ لأن بعض الأخيار نبهني وحبب إليّ أن أذكر تاريخ الجلسة لتكون ذكراً للمكان والزمان، ونحن الليلة في أبها، في تاريخ (5/ 4/1412هـ) نسأله سبحانه أن يكون لنا عمراً محسوباً في طاعته وليلة مباركة في مرضاته.
إن الرسائل ندية، وسوف أخبركم بما فعلت البطاقة التي وزعناها، والليلة سوف توزع عليكم ورقة فيها ما يقارب ستة عشر سؤالاً، أريد الإجابة عليها وإعادتها في غضون الأسبوع هذا قبل السبت، إلى المؤذن أو من ينوب منابه، ولا يغل مسلمٌ ورقته ومن يغلل يأت بما غلَّ يوم القيامة.
فالرجاء إعادة الأوراق التي نوزعها عليكم الآن، وهي مكتوبة بكلام ينفعنا؛ في الدروس، والخطب، والدعوة، والخواطر؛ لأن رأي الاثنين أحسن من رأي الواحد، ورأي الثلاثة أحسن من رأي الاثنين، فأنتم ترونها وتكتبونها وتعيدونها وهي أمانةٌ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {على اليد ما أخذت حتى تؤديه}.
والرسائل التي وصلت صدرت بكلمة (إنا نحبك في الله) فأقول: أحبكم الله الذي أحببتمونا فيه، وأُشهد الله عز وجل، ثم أشهد ملائكته، وأشهد حملة العرش أني أحبكم في الله، وما أعلم أنني في هذه الجلسة أكره رجلاً بعينه، إنما هو الحب، لأننا اجتمعنا على غير نسب ولا سبب إلا على لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحب -يا أيها الإخوة- عظيم، وهو قصة عظيمة طويلة، وما يجمع هذه الأمة إلا الحب: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] وأقول لكم -والأبيات ليست لي ولكنها لـ ابن القيم -:
أما والذي شق القلوب وأوجد الـ ـمحبة فيها حيث لا تتصرم
وحملها جهد المحب وإنه ليضعف عن حمل القميص ويألم
لأنتم على بعد الديار وقربها أحبتنا إن غبتم أو حضرتم
يقول ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[والذي نفسي بيده لو صمت النهارَ لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، وأنفقت أموالي غلقاً غلقاً في سبيل الله، ثم لقيت الله لا أحب أهل الطاعة، ولا أبغض أهل المعصية؛ لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار]].
المسألة الثانية: يطلب كثيرٌ من الإخوة الدعاء، وتأمين الحاضرين.
أسال الله عز وجل أن يكشف المرض عن مرضى المسلمين، وأن يرد فاسقهم إلى الطاعة، وأن يهدي عاصيهم، وأن يثبت مهتديهم، وأن يجمع بين قلوبنا على الحق، وأن يتوفانا وهو راضٍ عنا، ونسأله -سُبحَانَهُ وَتَعَالى- رحمةً عامةً وخاصةً.
ولولم نحصل من هذا اللقاء إلا هذه الدعوات لكان حسبنا.
ولقد مر بي في بعض الدروس أن بعضَ الحضور يقول: أنا لأول مرة تبت وحضرت هذا الدرس، أريد منك ومن الحضور دعوة.
فقلت: يا سبحان الله! أي خير ساقه الله لهذا الرجل، لأول مرة يحضر ويتوب ويطلب دعوة أكثر من ألفين ممن حضر أو ثلاثة آلاف، أليس فيهم رجلٌ صالحٌ أو وليٌ من أولياء الله لو أقسم على الله أبره؟ بلى والله، إني أعلم أن فيكم صالحين وعباداً، ومن يقوم الليل ويصومُ النهار، ومن يحب اللهَ ورسولهَ أكثر من نفسه، فهنيئاً لمن دُعِي له في هذا الموقف العظيم، أسأل الله الاستجابة.
وأكرر أن الاستجابة كانت جيدةً، وسوف تسمعون نسباً مئوية للأسئلة والإجابات التي وصلت، ومن أخذ البطاقات ولم يعدها؛ إما لأنه باعها أو نسيها في بيته؛ فهي في ذمته إلى يوم العرض الأكبر: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] إما أن يعيد لنا بطاقتنا البيضاء التي أخذناها بدراهمنا، وإما أن يكتب سؤالاً، وإما أن يعطيها زميله.(17/2)
الأسئلة(17/3)
واجبنا تجاه الأمة
السؤال
ما واجبي تجاه هذه الأمة المحمدية؟
الجواب
أشكرك شكراً جزيلاً، وأشكر من يحمل همَّ أمة الرسول عليه الصلاة والسلام، فبعضهم قلبه يغلي ووجهه يتمعر من أجل لا إله إلا الله محمد رسول الله، يحمل همَّ الإسلام يحب الله ورسوله، يقول أحد الشعراء -ولقد أعجبني قوله:
إذا كان حُبَّ الهائمين من الورى بليلى وسلمى يسلب اللب والعقلا
فماذا عسى أن يصنع الهائم الذي سرى قلبه شوقاً إلى العالم الأعلى
يقول: كثير من الناس يحب سلمى وليلى، ويتغنى بها ويحب الوله والمجون والطرب، ولكن ما بالكم بإنسان سرى قلبه، وعبر السماوات العلى إلى سدرة المنتهى، إلى الذي على العرش استوى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165].
واجبك تجاه الأمة:
أولاً: أن تقرأ دفترك أنت، خصائصك وشخصيتك وما هو استعدادك؟ أخلقك الله باذلاً منفقاً، أو خطيباً أو مصلحاً، أو آمراً بالمعروف أو ناهياً عن المنكر، أو معلماً، أو مهندساً، أو طبيباً، أو فلاحاً، أو تاجراً، أو جنديا؟ أنت اقرأ نفسك: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] كل ميسرٌ لما خلق له، والله يوزّع المناقب على الناس كما يوزع المثالب، فأنت قدم للإسلام ما تستطيع، ولا يشترط أن نكونَ كلنا خطباء أو مفتين، أو شعراء إنما أنت بما أعطاك الله عز وجل انصر هذا الدين.
والحقيقة أنني إن أنسى فلا أنسى الأسبوع الماضي أنني حملتكم أمانتين:
الأولى: أن يأتي كلُّ واحد منكم بواحد.
والثانية: أن يوزع من ليلته شريطاً ينفع الله به، ولا يوزعه على أمثالكم وأضرابكم من أهل الخير، ولكن يوزعه على من يحتاجه ومن يريد أن يستفيد منه ممن لا يحضر أو لا يستمع الشريط الإسلامي.
وأنا أعلم أن (50%) من الحضور في تلك الجلسة نسي الوصيةَ قبل أن يقوم، ونصف النصف نسيها عند الأبواب، ونصف النصف الآخر قبل أن يركب السيارات، ونصف النصف المتبقي قبل أن يصبحوا، وما أدري هل بقي (2%) أو (3%) أتى بأخٍ معه بسيارته؟ وسوف تأتي معنا أزمة نقل الناس إلى المسجد وقد كتبها بعض الإخوة في رسائل.
الأمر الثاني: أظن قليلاً من فعل ذلك، فبحسب ما سألت الإخوة حتى المتحمسين قلت: هل سمعت؟ قال: نعم.
قلت: وهل فعلت؟ قال: لا، وأستغفر الله.
فهذا حال هؤلاء فكيف بغيرهم.(17/4)
تمني الشهادة في سبيل الله
السؤال
يقول شاب: أتمنى أني أقدم نفسي رخيصة في سبيل الله!
الجواب
قرأت رسالته في الأسبوع الماضي، يقول: والله إني أتمنى أن أقدم دمي فداءً للا إله إلا الله محمد رسول الله، وشكرته، وأسأل الله أن يسعده بالشهادة في سبيله: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد:19] وكان أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام يقول الواحد منهم قبل المعركة: [[اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى]].
فشكراً لك، وأظن أنه ليس هناك أغلى من الدم، فإذا بلغ العبد أن يتمنى أن يُقطع رأسُه في سبيل الله، وأن يسفك دمه في الأرض في سبيل الله؛ فبشره بخير: {يضحك ربك إلى ثلاثة: أحدهم رجل كان في كتيبة قاتلت فانهزمت، فعاد هو وحده فقاتل حتى قتل، قال الله: يا ملائكتي! أشهدكم أني قد غفرت له وأدخلته الجنة} ويقول عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده، ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى، اللون لون الدم والريح ريح المسك} وقال صلى الله عليه وسلم: {يأتي الرجل يوم القيامة يحمل رأسه بيده فيقول الله: فيم قتلت؟ فيقول: فيك يا رب قتلت، فيقول الله: أشهدكم يا ملائكتي أني قد أدخلته الجنة}.
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا(17/5)
واجبنا نحو المنكرات المنتشرة في المجتمع
السؤال
ما واجبي نحو المنكرات التي أراها في المجتمع مثل كثير من المخالفات التي تقع فيها النساء؟
الجواب
هذا لا يعني أنه في النساء فقط، بل في الرجال والنساء، والنساء عالم محترم، وهن نصف هذا المجتمع، والمرأة هي التي أنشأت العلماء والأدباء والشهداء للعالم، وهي الجامعة الكريمة والمدرسة الطاهرة التي أتت بكم، فأنتم أبناء النساء.
ولا يعني إذا نُبه أن جانب النساء هو الجانب الملام وحده فقط، بل وجانب الرجال أيضاً، لكن العجيب أن فتنةَ النساء أعظم فتنة! يقول المأمون:
ما لي تطاوعني البريةُ كلُها وأطيعهن وهن في عصياني
يقول: أنا أحكم العالم الإسلامي شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، ومع ذلك تسيطر عليّ المرأة، حتى أتى رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال:
أشكو إليك ذرية من الذرب وهن شر غالب لمن غلب
ولذلك يقول جرير:
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {ما تركت بعدي أشد فتنة على الرجال من النساء}.
ومن المظاهر المنتشرة: عدم تغطية الوجه، والوجه مكان الفتنة، والجمال والحسن والبهاء، وليت شعري!! إذا لم تغطِ المرأة وجهها أي شيء يحذر منه؟! وبم يطالب الشارع المرأة أن تحجب؟ هل تحجب رءوس أظافرها وبطون أقدامها؟! فالوجه مكمن الخطر، وما كانت العرب تتكلم ولا تقول الشعر إلا في الوجه، دخل أحد الشعراء على الخليفة المكتفي -وهذا من حمقه- وقال:
والله لا كلمتها لو أنها كالبدر أو كالشمس أو كـ المكتفي
يقول: والله لا أكلمها ولو أن جمالها كالبدر، أو كالشمس، أو مثل جمالك أيها الخليفة.
قال الخليفة: اسحبوه، فسحبوه على وجهه وبطنه.
ومن المظاهر المنتشرة: خروج المرأة إلى الأسواق لغير حاجة ضرورية ولشيء تافه، كأن تمر على أماكن الخياطة بنفسها، وعلى أناس قد لا يحملون التقوى والورع والخوف من الله، وعلى أماكن بيع الذهب، وتبقى الساعات الطويلة، وغير ذلك من المظاهر التي لا تخفى.
والواجب أن تكون هذه أولاً: رسالة النساء الداعيات الملتزمات المستقيمات، مثل من يحضر الدروس منهن؛ أن تكون داعية في صفوف بنات جنسها، وأن تهدي لهن الشريط، ومن رأيي أن الداعية إذا رأى امرأة فله أن يقول: تحجبي يا أمة الله، وكان الصحابة في أسواقهم يقولون هذا، لا ينظر إليها وإنما يقول بكلام لين: تحجبي يا أمة الله، هداك الله.
لأن السكوت ليس من خصائص الأمة المحمدية، ويوم تسكت الأمة عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تذوب شخصيتها، ويذهب رونقها، ويطفئ الله نورها: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ.
كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79].(17/6)
مقترحات عديدة
وقد وردت اقتراحات بناءة، وقد درستها وخرجت منها بأمور:
منها: أن بعض الإخوة لا يعلم بالدروس، ولا يعلم بالنشاط العلمي والمحاضرات واللقاءات؛ لبعده عنها، فهو يقترح هذه وهي موجودة.
ومنها: أن بعض الإخوة يريد شيئاً فوق الطاقة لاندفاعيته.
ومنها: أن بعضهم يأتيك بخيالات، ونحن نتكلم عن الواقع لا في عالم الأحلام، و"إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع" فهو يقترح ويقول: عليك أن تنشر الدعوة في الأماكن، والبوادي، والقرى، وأرى أن يهبَّ طلبة العلم جميعاً.
والكلام سهل والتطبيق صعب، والإنسان قد يقيم حضارة وهو نائم على فراشه هكذا كلام الليل يمحوه النهار.
فنريد من الأخ إذا اقترح أن يراعي أنه في الواقع، وأنه يخاطب بشراً، ويعرف استعداد الناس وظروفهم، ثم ينطلق من هذه المنطلقات.
لكن هناك بعض المقترحات الجيدة.
منها: اقتراح يقول: أريد درساً في الحديث.
الجواب
أشكرك على هذا، والحقيقة علَّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يسهل هذا الدرس، ودرس السبت فيه كثير من الحديث.
يقول: وأريد درساً في الفقه ولو في الشهر مرة، هناك درس سوف يكون مساء كل أحد في الفقه، في هذا الجامع -جامع أبي بكر الصديق- وفي جامع اليحيى، للدكتور/ جبريل بصيلي، وهناك درس مساء الإثنين في مسجد آل غليظ للشيخ/ سعد الحجري، وهناك درس كل يوم ثلاثاء في السيرة للشيخ/ عبد الله بن محمد بن حميد، عسى الله أن ينفع بالأسباب، ثم لقاء الجمعة مساءً في هذا المسجد، وهو لقاء مفتوح فيه مداخلات ومشاركات وأطروحات.
ويقول: وعدتنا بمحاضرة بعنوان "تسهيل العقيدة" وما رأيناها؟
الجواب
عليك بالصبر والسكينة حتى يأتيك خبرها قريباً.
ومنها: يقول: أريد شرحَ سورتين في كل درس؟
فعلنا ما اقترحت، بل زدنا على اقتراحك وجعلناها ثلاث سور، وسوف تكون سورتين إلى ثلاث إن شاء الله.(17/7)
مشكلة الحضور إلى المحاضرات
السؤال
الأخ يشكو ويقول: أنا أريد الحضور لكني لا أجيد القيادة وليس عندي سيارة، أريد من الشباب أن يأخذوني معهم، وأن يأخذوا من ليس عنده سيارة حتى يأتوا بهم إلى المسجد.
الجواب
صدق الأخ، ليس كلٌّ يمتلك سيارة، وظروف الناس تختلف، وبعضهم قد يمتلك ولكن لا يجيد القيادة، وبعضهم يجيد القيادة ولكن لا يستطيع أن يمتلك سيارة، فعلى الإخوة أن يتفقدوا جيرانهم وشبابهم، وإذا وجدته عليك أن تسأله، هل تريد مشاركتنا في الحضور؟ فتكون داعية خير: {من دل على خير فله مثل أجر فاعله، ومن دعا إلى سنة كتب له مثل أجر من أتى بهذه السنة} وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: {ومن كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له} من كان له زيادة جمل، أو حمار، أو فرس، وأنا أقول من كان له فضل مركبة، أو مقعد في السيارة، فليعد به على من لا مقعد له.
وأنا أخاطبكم وأطالبكم -أيها الإخوة- أنه إذا كان أحدكم يسير في الطريق ورأى أحداً عليه علامة الخير، أو كان شيخاً كبيراً، أو محتاجاً، أو أعمى، أن يقف ويحمله معه في سيارته حتى ينفعه الله بهذا الفعل: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89] وفي الأثر {الناس عيال لله أَحبُّهم لله أنفعهم لعياله}.
فوصيتي -أيها الإخوة- المشاركة، وأن تنفسح صدورنا، وسياراتنا، وبيوتنا للناس، والعجيب أن السيارات تكاد تكون -أحياناً- ككثرة الحضور فتجد الواحد يأتي بسيارة طويلة عريضة وهو وحده، فالأحسن أن يملأها من عباد الله، وبدلاً من أن تأتي أربع سيارات ويزدحم الشارع تأتي سيارة فيها أربعة أو خمسة فتحل أزمة الازدحام.(17/8)
بعض المنكرات المنتشرة بين الناس
السؤال
وردت بعض الرسائل التي تتحدث عن المخالفات، منها: انتشار بعض المجلات الخليعة والأشرطة الغنائية، وبعض مخالفات الناس في أمور السنة مثل الأكل بالشمال، وعدم المحافظة على أوقات الصلاة، وكثرة الحَلِف فجوراً، وشهادة الزور، وحلق اللحى، وشرب الدخان وغيرها.
الجواب
حقيقة كل هذه تحتاج إلى كلام طويل، ولكن سوف أستعرض فقط ما تم.
وهنا أيضاً رسالة تتحدث عن مركز طبي أعلن في بعض النشرات أن فيه دلك، وفرك، وغسيل، ومكيجة، ومشط للشعر، وغير ذلك من هذه اللفائف، وهذه بشرى ليست سارة، بل هي ضارة، ولا نريد من الأخ صاحب المركز هذا إلا أن يتقي الله عز وجل، ويكون محافظاً على الشريعة؛ لأن هذه البلاد تسير بشرع الله عز وجل، وتسير بالكتاب والسنة، فلابد أن يراعي شعور المسلمين وليتق الله في ذلك.(17/9)
موقف صحيفة صوت الكويت من الإسلاميين
السؤال
مقالة ضد الإسلام في جريدة صوت الكويت.
الجواب
هذه صحيفة صوت الكويت كم أضرت في الجانب والصف الإسلامي، فهي التي تكلمت عن الكاسيت وحذرت المسلمين من الشريط الإسلامي، وتكلمت عن بعض الدعاة والعلماء، فلا تستغرب، ولكن نحيلها إلى الله عز وجل أن ينتقم لنا أو يهدي هؤلاء إلى صراط مستقيم.(17/10)
إلى كل من اهتدى حديثاً
السؤال
شاب التزم حديثاً وحضر معكم، فماذا تقولون له في هذا الدرس؟
الجواب
نقول: حياك الله وبياك، وأهلاً وسهلاً، ونكرر دعاءنا لك، فأنت مكسب لنا.(17/11)
خطاب أفغانستان
السؤال
ماذا عن خطاب أفغانستان؟
الجواب
لقد أصدر سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ومجموعة من العلماء خطاباً سوف أقرؤه عليكم إما يوم الجمعة المقبلة، أو يوم السبت المقبل في الدرس، وهو خطابٌ مهم عن الأحداث التي جرت في أفغانستان في كنر، وعن مقتل الشيخ جميل الرحمن وعن بعض ما قيل، فسوف نقرؤه إن شاء الله فعليكم بالصبر.(17/12)
مشاركات شعرية
السؤال
وصلتني محاولات شعرية، بعضها جيد، وبعضها وسط، وبعضها
المشاركة: السلام عليك يا أبا عبد الله، اسمح لي أن أرحب بجمهورك وبالمحبين الحضور، وأنا لست من أهل أبها لكن أحببتهم لما حضرت مجلس السبت، ورأيت حضورهم وتفاعلهم ومشاركتهم، ورأيت فيهم الخير، ثم رأيت من حسن الكرم وبشاشة الاستقبال ما الله به عليم، وأنا لست من هذه المنطقة، وقد وصف لي أهل الجنوب بالخير والكرم فلما رأيتهم فإذا هم أكبر مما وصفوا لي:
مرحباً أهلاً وسهلاً بالضيوف يا ركاب الخير زارتنا الهمم
من رياض البر نهديكم قطوف تاج علم وأحاديث قمم
وشعاع الشمس تستسقي طيوف أصغت الأذنان من هدي الكَلِم
الحقيقة أنها مشاعر فياضة، والقصيدة تحتاج إلى سمكرة، فمن عنده ورشة أدبية كالدكتور: صالح بن عون وهو حاضر فنحيلها عليه.
المشاركة: أحدهم من جيزان يقول: وصلت لأول مرة وحضرت الدرس وعدت بمشاعر فياضة، أشكركم وأشكر الحضور الذي أثلج صدري.
وقد نظمها في منظومة فقال:
يقول تلميذك أبو المغيره أحمد ربي غافر الكبيره
مصلياً على رسول الله مذكراً بالله كل لاهي
وهذا البيت قد سرقه مني، ويقول:
وحملتنا في طريقنا سياره تنحرف تارة وترجع تاره
الحقيقة أن بعض الأبيات له وبعضها لي، وتحتاج هذه إلى المراجعة، ولكني أشكره شكراً لا ينتهي.
يقول: تلميذكم من جيزان العامرة، عمرها الله بالتقوى، وحرسها الله من كل شر.
ووصلت أيضاً قصائد منها يقول:
قصيدة من محب محمد رسول الله وهذا مثل بعض الأسماء التي تأتي من الشمال، من وراء نهر سيحون، يأتيك بالاسم وكأنة آيه، مثل بعض أسمائهم "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً" وبعضهم سمى نفسه "شمس الإسلام المعصوم بالتقوى" وغير ذلك من الأسماء، يقول:
قف فالورى قد وجهوا الأنظارا لسناء نور قد أضاء نهارا
فأضاء ليل الكون حتى أبهرا وأنار صبح الدهر خير منارا
الحقيقة أن فيها إقواء ولكن هذا الرجل يلاحظ أن عنده شاعرية فياضة:
صلوا عليه معاشر الأخيار فهو الشفيع من اللظى والنار
وهذه القصيدة من فلسطين، وهي من القصيم وقد سمعتها، السلام على فلسطين.
خذي القلب مني مزقيه وقطعي خذي الدمع إني قد وهبتك أدمعي
خذي الروح إن الروح تشتاق للقا تكاد تطير الآن من بين أضلعي
خذي الليل والأحزان واليأس والرجا خذي كل ألحاني وغني ورجّعي
خذِي العشق يبكي في حروف قصائدي خذيه وضميه إلى الصدر واهجعي
هذا شاعر متفوق، أثابه الله.
وبعض المقطوعات سأعيدها في اللقاءات القادمة، لأنه سوف يكون الأسبوع الأول من كل شهر هو من أجل اللقاءات والأسئلة.
وأقول: من لم يحسن أن يأتي بشعر فلا يتعب نفسه من أول الطريق، ولا يشترط أن يكون شاعراً، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية من أعلم علماء الدنيا وكان بحراً، ولكن شعره كان ضعيفاً جداً، وهو قد نظم لكن ليس بشعر، يقول:
أنا الفقير إلى رب السماوات أنا المسيكين في مجموع حالاتي
لكنه ينظم نظماً آخر يسلب العقول من رشاقة أسلوبه وقوة علمه وفيض بحره (أثابه الله وغفر له).
وشعر العلماء -أحياناً- يكون ضعيفاً، فقد قرأت لـ ابن دقيق العيد قصائد، وقد لاحظ عليه ابن خلدون في المقدمة، يقول: شعر العلماء تدخل عليه المتون فتضعفه، ومن شعره قوله:
واختلف الأصحاب في وصلنا فرجحوا نجواك وهو الصحيح
وكأنها من زاد المستقنع.(17/13)
الإخلاص في طلب العلم
السؤال
من القضايا المطروحة يشكو الإخوة عدم الإخلاص في طلب العلم.
الجواب
العزوف عن طلب العلم مأساة، يوجد كثير من المثقفين، لكن قليل من يطلب العلم النافع الشرعي أو من يحصّل، حتى ترى من يدرس في كلية الشريعة أو أصول الدين ليس عندهم قدرات على كثرة المطالعة أو الحفظ أو التخريج وتحقيق المسائل، بعضهم يكتفي بدراسة الكليات، والكليات لا تكفي وحدها لتخرج لنا علماء، فأنا أطالبكم -أيها الإخوة- بكثرة القراءة وكثرة الاطلاع، وأن يقرأ كل طالب ما يقع تحت يديه، فإنه سوف تتوسع مداركه، وتتفتح له نوافذ من المعرفة، وسوف ينفعه الله بما علمه إذا كان رائده تقوى الله عز وجل.(17/14)
أخلاق طالب العلم مع غيره
السؤال
نلاحظ أنه يوجد عند بعض طلبة العلم عدم لين الجانب مثل الفظاظة والغلظة؟
الجواب
أقول: يوجد هذا، ومع التربية وتقوى الله عز وجل والنصيحة وتوجيه هؤلاء يصحح مسارهم، وهم ليسوا معصومين، وقد يوجد -أحياناً- من يتكبر بعلمه ومن يبخل به، والله وصف بني إسرائيل بأنهم: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:37].
قال: فهم بخلاء بالمال والعلم، وهما شر خصلتين إذا وجدتا في الإنسان.
وعلى كل حال أرى أن نتناصح فيما بيننا، وأن نسأل الله عز وجل أن يكمل ما نقص منا، وأن نعلم أننا من نقص، ولكن مع الأيام ومع الاستغفار ومع تصحيح المسار يكمل الله لنا طريقنا ويثبت أقدامنا، ولذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله: لا عبرة بنقص البدايات وإنما العبرة بكمال النهايات.
فهذا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لم يكن يوم آمن كمثله لما مات، بل ازداد عند موته إيماناً وصدقاً وتضحية، فلا تيأس من روح الله، واعلم أنك لو حضرت وأنت ناقص الإيمان وصاحب ذنوب ومقصر، فمع الأيام والنوافل والدعاء يكمل الله لك إيمانك: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].
والحقيقة الذي لفت نظري أن جانب الأطباء، وجانب من يشتغل في المستشفيات والصحة أكثر الناس تفاعلاً مع الدعوة، وأنا أشكرهم من على هذا المنبر، والحمد لله أن أوجد هذه الطائفة الممتازة من الأطباء المسلمين الذين يشرحون صدرك، إذا نظرت إلى الواحد منهم وإذا خصال السنة على وجهه، وإذا حرصه على تطبيق معالم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحافظته على النوافل، وهم كثير، تجدهم بالعشرات في بعض المستشفيات، وتجد عليهم سيماء العلم والتقوى والنور فأثابهم الله.
والحقيقة أن في بقية المناطق شعور متبادل حتى عند العلماء والدعاة، أن جانب الأطباء ومن يشتغل في هذا الحقل أنه جانب ضخم نفع مسار الدعوة نفعاً عظيماً، وشكل العمود الفقري في الصحوة، فلله الحمد.(17/15)
الجدية في الالتزام
السؤال
أنا أصاحب شباباً ظاهرهم الالتزام ولكن تنقصهم الجدية.
الجواب
المقصود بالجدية الجدية في الالتزام، أي: أنهم ما أخذوا الكتاب بقوة، وهذا صحيح، فقد يدخل في جدية بعضهم شيء من الهزل وكثرة المزاح، أو يكون التزاماً ظاهرياً، ما يعود على القلب بحرارة الإيمان وبالتفاعل مع الدين، وقد تجد بعضهم يركز على أمور ظاهرية كتربية اللحية وتقصير الثوب والسواك وأمثالها، ولكنه لا يعتني بالنوافل وبحب الله عز وجل وبالخوف والرجاء والتواضع وبالخشية والسكينة، وأعمال القلوب التي هي مكان نظر الرب سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم}.(17/16)
علاج الاكتئاب
السؤال
أصبت بحالة اكتئاب شديدة، فما العلاج؟
الجواب
العلاج أن تشرح صدرك بهذا الدين: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125] أسأل الله أن يشرح صدرك وصدورنا جميعاً للإسلام، ووالله لن ينشرح الصدر إلا بتقوى الله، ولقد جرب الناس أسباب السعادة في المرأة الجميلة والفلة البهية والسيارة الفخمة والوظيفة فما وجدوها؛ لأن الله عز وجل أخذ على نفسه أن من أعرض عن منهجه ورسالته وكتابه أنه لا يوفقه ولا يشرح صدره ولا يهديه سواء السبيل، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى.
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً.
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:126].(17/17)
إنكار المنكر لمن هداه الله
السؤال
كيف يتعامل الشاب الملتزم حديث التوبة مع أهله، وكيف ينكر المعاصي؟
الجواب
صراحة أن هذه لا بد أن توقفنا كثيراً، فقد تجد شاباً يمن الله عليه بالهداية فيتحول مسارُ حياته إلى الهداية، ويريد أن يغيرَ بيته في نصف ساعة، وهذا خطأ، فالبيوت لا تتغير بهذه السرعة ولا المدارس والأمم.
فإن من سنة الله في الحياة أن ينمو هذا الدين شيئاً فشيئاً كالشجرة تماماً، فهل بذرت بذرة في الأرض وفي الصباح أخرجت لك شجرةً مثمرة؟! كلا! بل تبقى البذرة ثم تنشق ثم تنمو قليلاً، ثم تأتيها ريح فتصرعها والشمس والماء، ثم تقوم على سوقها، ثم تخرج أوراقها ثم ثمارها، ثم تأكل الثمار وهكذا الهداية.
فأنا أطالب الأخ بثلاثة أمور مع أهله:
الأمر الأول: أن يقدم المسائل الكبار مع أهله، فيقدم أمر الصلاة قبل أن يتكلم عن الغناء؛ فهي عمود الدين، يتكلم لهم عن هذه المسألة العظيمة التي إذا أقيمت قام أمر الدين: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].
ثم يبدأ بالمسائل مسألة مسألة، كما أوصى الرسول عليه الصلاة والسلام معاذاً عندما أرسله إلى اليمن وقال: {إنك سوف تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله}.
الأمر الثاني: أوصيك يا شاب الإسلام بالدعوة بالتي هي أحسن؛ فتحبذ نفسك إلى أهلك، ولا تأتيهم بالأوامر وأنت عاص لهم ولا تكن فظاً غليظاً.
الأمر الثالث: أرى أنك إذا لم تستطع مباشرتهم في الدعوة أن تستخدم وسائل كالشريط الإسلامي وبعض الكتيبات، وكاستضافة بعض العلماء وطلبة العلم إذا رأيت ذلك، ثم أدعوك أن تدعو لأهلك بالاستقامة ولا تفتر عن هذا.(17/18)
من معوقات الالتزام
السؤال
أنا أشكو من أرحامي، أريد أن ألتزم لكنهم يستهزئون بي، وكلما رأوني أطلقت لحيتي استهزءوا باللحية وقالوا: هذا تزمت.
الجواب
سبحان الله! أنا أحاكمهم إلى الشرع والعقل، وأحاكمهم إلى كل مسلم على وجه الأرض، وأحاكمهم إلى الكتاب والسنة، سبحان الله! أصبح أتباع محمد صلى الله عليه وسلم في قفص الاتهام! أصبحوا هم أهل الملام! سبحانك هذا بهتان عظيم! كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً! لا والله! فالواجب أن يرحب بهذا الشاب ويدعى له بالهداية إلى الله عز وجل.
هذا الشاب الذي أطلق لحيته، وحافظ على الصلوات الخمس، وأخذ يتدبر كتاب الله ويدعو إليه على بصيرة لا يستوي مع رجل آخر خرج عن ميثاق السنة وكان متساقطاً أمام بلوى المخدرات، وترك الصلوات واستمع الأغنيات، إن بينهم بون عظيم: {{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36] وما لكم كيف تتصورون! وما لكم كيف تتعاملون! وما لكم كيف تحبون على هذا الأساس وعلى هذا المنطلق! فلابد من إعادة النظر.(17/19)
الهجر الشرعي
السؤال
كم يهجر المسلم في الله؟
الجواب
المسلم إذا أخطأ خطأ شرعياً من الكبائر يهجر حتى يعود من خطئه ويتوب، وأما من أتى بينك وبينه من المسلمين من الأمور الدنيوية فثلاثة أيام: {لا يحل لامرئ مسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام} رواه مسلم.
أما اليوم الرابع فلا، والمتهاجران لا ترفع أعمالهما ولا يغفر لهما، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للملائكة: {أنظروا هذين حتى يصطلحا} أو كما ورد في الحديث.(17/20)
التوبة من المعاصي
السؤال
رجل ارتكب معاصي كثيرة، وهو الآن يحافظ على الواجبات والمسنونات، ويذكر الله كثيراً، وقد تاب إلى الله، هل تمحى سيئاته؟
الجواب
سبحانك يا رب! من الذي يغفر الذنب إلا الله؟ ومن يعفو عن السيئات إلا الله؟ {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] وأريد منكم -يا أيها الأحباب- أن تزيلوا من أذهانكم -أو البعض- عقدة سوء الظن بالله؛ فقد أتاني بعض الشباب فقالوا: أنا أريد التوبة لكن لسوء عملي مع الله أظنه لا يغفر لي.
قلت: ليغفرن الله لك إذا صدقت التوبة.
قال: ذنوبي كثيرة، أكثر من الجبال.
قلت: ولو كانت ملء السماوات والأرض.
فالله عز وجل يقول: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة}.(17/21)
احترام وتوقير كبار السن
السؤال
هذا الشاب يشكر كبار السن الذين يحضرون الدرس؛ وقال: لأني أتشجع بهم وأعلم أنهم، سبقوني في الإسلام وأنهم أكثر صلاة وصياماً مني، وأنا -والحمد لله- أفرح أن أرى في المجلس وفي الدرس شيخاً كبيراً شابت لحيته.
الجواب
وأنا مثله أفرح أن أرى شيخاً أمامي شابت لحيته في تقوى الله، وقار، والشيب هيبة ووقار، وحق على المسلمين أن يحترموا ثلاثة: حامل القرآن غير الجافي والغالي فيه، والسلطان المقسط العادل، وذو الشيبة المسلم: {من شاب في الإسلام شيبة كانت له حسنة} وقال صلى الله عليه وسلم: {إن الله ليستحي أن يعذب ذا شيبة في الإسلام} قال صلى الله عليه وسلم: {نظر إبراهيم عليه السلام إلى المرآة فرأى شيبة بيضاء فقال: يا رب ما هذا البياض؟ قال: هذا وقار يا إبراهيم.
قال: اللهم زدني وقاراً}.
وكان الإمام أحمد لا يقوم لأحد، فإذا رأى شيخاً أقبل في لحيته شيب قام له واحترمه وقبله وأجلسه مكانه.
والحقيقة أنه واجب علينا أن نحترم كبار السن وأن نتعلم الأدب معهم وأن نقدمهم، وأنا لو أملك أن أفرغ الصف الأول والثاني لكبار السن لأني أرى بعضهم في الصف الرابع والخامس متأخراً لفعلت، وأرى أن الشباب إذا رأوا شيخاً قد شابت لحيته وهو على أمر الإسلام والسنة أرى أنه إذا دخل المجلس أن يحترموه ويقدروه وأن يقدموه في المجلس والكلام، والرسول صلى الله عليه وسلم أتاه مجموعة من الشباب ومعهم شيخ فأراد شاب أن يتكلم، فقال صلى الله عليه وسلم: {كبر، كبر} فما زلنا بخير ما دام صغيرنا يحترم كبيرنا وما دام كبيرنا يرأس ويرحم صغيرنا، وبعض الشباب يتعامل مع كبار السن كأنه يتعامل مع طلاب، وهذا لا ينبغي له ولا يجوز، فالرسول صلى الله عليه وسلم حتى في الصلاة كان يقول: {وليليني منكم أولو الأحلام والنهى} أي: ليكن في الصف بعدي كبار السن والحفاظ وأهل العلم والفضل.
فالرجاء معرفة حقوق هؤلاء واحترامهم، وإهداء البشاشة وحسن الخلق معهم والعطف عليهم، حتى يقيض الله لك عند شيخوختك من يعطف عليك ويرحمك، والجزاء من جنس العمل.(17/22)
حكم العادة السرية
السؤال
الشباب كثيراً ما يشكون من العادة السرية بالخصوص.
الجواب
هي محرمة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وهي عادة سيئة مضرة بالصحة، ومذهبة بالدين وأرى وجوب تجنبها وتحريم فعلها، وعلى العبد أن يستغفر ويتوب، وهناك بابان:
الأول: من استطاع أن يتزوج فليفعل ولا يتأخر، ولا يعتذر بالدراسة أو العمل أو الوظيفة، وسوف يجعل الله له من أمره يسراً.
والثاني: إذا لم يستطع فعليه بالصيام، وعليه بقراءة كتب أهل العلم، وتدبر القرآن وكثرة الذكر؛ حتى يسهل الله له نصيبه، إما أن يموت أو يتزوج.(17/23)
حكم التلفظ بكلمة الكفر
السؤال
ما حكم من تلفظ بكلمة الكفر، قائلاً: إنه كفر بالله وبدينه؟
الجواب
نستغفر الله ونتوب إليه، اللهم ثبتنا على الحق: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] {إِنْهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] نعوذ بالله من الشرك، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {يا أبا ذر! لا تشرك بالله ولو قطعت وأحرقت} فكل شيء إلا الشرك بالله، فحرام على المشرك أن يدخل الجنة، وحق له أن يعذب بالنار خالداً مخلداً فيها: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66].
وأعظم دعوة نافعة مفيدة نيرة نفع الله تعالى بها هي دعوة المجدد العالم محمد بن عبد الوهاب، فلله كم أسدى من جميل! ولله كم قدم من يد! أسأل الله أن يملأ قبره نوراً ورضواناً، وعسى الله أن يجمعنا به في دار الكرامة وكتابه: كتاب التوحيد عظيم، وهو قنبلة ذرية على رءوس الملاحدة والكفرة والزنادقة، وأرى أن يقرأ ويدرس وأن يعلم، وأن يكون في الجامعات والثانويات والمدارس والحلقات، فقد اعتنى بجانب التحذير من الشرك وخطره على الأمة، وصور وهيئات الشرك، وما يرد من ألفاظ وأفعال الشرك والمشركين، كلها مبينة، وفتح المجيد وقرة عيون الموحدين من أحسن شروح الكتاب.
فعلى الأخ الذي فعل هذا أن يتوب إلى الله ويدخل في الدين من جديد، لأنه قال ما قال كفر بالله وخرج من الملة، لكن التوبة ما زالت مفتوحة، فعليه أن يعود وأن يعلن إسلامه، وأن يدخل في دين الله، وسوف يقبله الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في دينه.(17/24)
حكم من يمنع زوجته من الحجاب
السؤال
امرأة تريد التحجب وزوجها يمنعها، ماذا تعمل؟
الجواب
الرسائل التي وصلت في هذا الموضوع كثيرة فكثير من الناس يمنع زوجته من أن تتحجب، وكثير من الناس يجبر زوجته أن تتكشف أمام إخوانه، هكذا أسئلتهن، تقول: يجبرني زوجي ويخرجني بالغصب والقوة إلى المجلس لأجلس مع إخوانه.
تصوروا الإسلام وتصوروا المروءة، امرأة مؤمنة متحجبة ومتسترة لا تريد الكشف على الأجانب، تريد أن يسترها الله حية وميتة ومع ذلك يأتي الزوج بالأمر والقوة لتكشف على إخوانه وضيوفه، وأنا لا أدري كيف أرد على هذا، لكن عسى الله أن يهديه وأن يرده إلى رشده.
أما أن زوجها يأمرها أن تترك الحجاب فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، غضب أو رضي، أهم شيء رضا الله، ثم رضا الرسول صلى الله عليه وسلم ثم النظر إلى شرع الله عز وجل لا إلى شرع الناس: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
وأنا أرى أن تقنعي زوجك بالتي هي أحسن، وتقدمي له النصح، وتسألينه بالله عز وجل أن يتقي الله فيك، وأن تعلميه أن الحجاب أفتى أهل العلم بوجوبه، فإذا امتنع من ذلك فلا تطيعيه، ولو اقتضى ذلك الذهاب إلى أهلك ثم هم يتدخلون في المسألة، وإذا علم الله أنك أتقيتيه جعل لكِ من كل ضيقٍ مخرجاً ومن كل همٍ فرجاً: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4].(17/25)
حكم استخدام الخادمة المسيحية
السؤال
ما حكم استخدام الخادمة المسيحية؟
الجواب
لا يجوز استخدام الخادمة المسيحية، ولا أظن أن أحداً من العلماء يفتي باستخدام الخادمة إلا بثلاثة شروط:
الشرط الأول: للضرورة في البيت؛ كأن تكون المرأة مريضة ولا تستطيع القيام بشئون البيت.
الشرط الثاني: أن تكون هذه الخادمة أو الشغالة مسلمة.
الشرط الثالث: ألا يراها أجنبي في البيت؛ لأنها أجنبية فتتحجب في مكان خاص.
فهذا للضرورة الحاسمة، مع العلم أنني أرى أنه لا خير فيهن ولا في استخدامهن ولا في إدخالهن البيوت، لكن أمام الضرورات التي يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] أما المسيحية فلا يجوز التعامل معها سواء رجل أو امرأة، لا في شركة ولا في تدريس أو هندسة أو أي منحى من مناحي الحياة.
وقد دلت على ذلك النصوص، وقد كتب أبو موسى إلى عمر رضي الله عنهما، قال: [[إن عندي كاتباً نصرانياً حذقاً فطناً، فهل أستكتبه؟ قال عمر: لا تستكتبه لا نقربهم بعد أن أبعدهم الله، ولا نودهم بعد أن أبغضهم الله، ولا نكرمهم بعد أن أهانهم الله]].(17/26)
حكم دخول طالبة مسيحية مدرسة إسلامية
السؤال
ما رأيكم في مدرسة بنات دخلت فيها طالبة مسيحية؟
الجواب
إن كانت هذه الطالبة طالبة وليست مدرسة فأرى أنه لا بأس أن تدرس ويعرض عليها الدين، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن على المسيحيين واليهود، وربما يكون من وسائل دعوتها أن تدعى.
ووصيتي للقائمين على هذه المدرسة أن يدعوها إلى الله، وأن يعرضوا عليها الإسلام، وأن يذكروا لها الدين المسيحي الباطل المحرف حتى تعود إلى الله عز وجل وتعلن إسلامها.
وهذه من الطرق الطيبة النافعة.
أيها الإخوة الكرام: أسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لنا ولكم الرشد والهداية والسداد، كما أسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، كما أسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتوب علينا توبة نصوحاً، ونرجو سداداً وتوفيقاً، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(17/27)
أسرار العبقرية عند ابن تيمية
تحدث الشيخ عن أحد عمالقة الإسلام وهو الرجل العظيم شيخ الإسلام ابن تيمية، فذكر خصائصه وميزاته التي برز فيها عن سائر العلماء.
ثم تحدث عن أعدائه من الملاحدة والمبتدعة والزنادقة، وذكر أسباب عداوتهم له، ثم ختم بالإجابة عن بعض الأسئلة المفيدة.(18/1)
البطاقة الشخصية لشيخ الإسلام ابن تيمية
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيها الإخوة الفضلاء: عنوانُ هذه المحاضرة: أسرار العبقرية عند ابن تيمية، ضيفنا هذه الليلة هو شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام.
أحييك يا شيخ البطولة والفدا وأرجوك أن تأذن لنا بالتكلم
عشقنا معاني فيك جِدَ جميلةٍ وعشنا مع ذكراك في كل موسم
الليلة لن أقص عليكم حياة ابن تيمية كما يقصها أهل الترجمة، ولن أتكلم عنه كما يتكلم عنه أهل التاريخ، إنما آتي بأسرارٍ في حياته، ولعلكم تعرفون ابن تيمية.
كان ابن تيمية يحمل في قلبه وقوداً لا ينطفئ أبداً، تنطلق على هيئة براكين صاخبة مدوية، إن نفسه تمور كالريح الهوجاء التي تقتلع الشجر، وتقلب الصخور، وتزمجر في الأودية.
كان يتحدث من أعماق قلبه، فيملأ الدنيا ضجة، علَّ الدنيا أن تنصت له! علَّ التاريخ أن يصغي له! ويقف كالجبل يتحدى أوهام الموت الموهومة التي بثها الناس في قلوب الناس، يتحدى التقليد والرجعية البائسة، فهو يعيش الانفتاح بكل معانيه -أو سمه أنت البروستريكا- الانفتاح على النور الخالد الذي أرسله في العالم رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، يتحدى ابن تيمية المراسيم المتخلفة التي درج عليها بعض الفقهاء.
عاش ابن تيمية يعلو كالنجم، ويسطع كالفجر، يهدر كالسيل، لا للشرك، ولا لصرف القلوب عن باريها، ولا للإقطاع، ولا للديكتاتورية البشر، ولا للنفاق والعمالة أو لحصر الإسلام في الزوايا.
عاش الشيخ المعجزة -صاحبنا هذه الليلة- على المنبر خطيباً، وفي الميدان مجاهداً، وفي السجن أسداً محبوساً، وفي الدنيا عبقرياً، وفي التاريخ عظيماً.
صوته يكاد يخلع أرواح الجبابرة، إن قلب ابن تيمية يضرب ضرباتٍ سريعة؛ تخفق لضرباته القلوب.
إن كلماته قذائف تفجر الصخور.
قال جولد زيهر: "وضع ابن تيمية ألغاماً في الأرض فجر بعضها محمد بن عبد الوهاب، وبقي بعضها لم يفجر حتى الآن".
إن ابن تيمية أتى عالماً جديداً في عالم قديم، إنه مشغولٌ بالتاريخ والتاريخ مشغولٌ به، كأن التاريخ واقفاً مع ابن تيمية، يلاحظ التاريخ حركات ابن تيمية: جاء ابن تيمية، خرج ابن تيمية، جلس ابن تيمية، وقف ابن تيمية، وكأنه يقول: يعيش ابن تيمية يعيش يعيش يعيش.
هذا ملخص بطاقة ابن تيمية الشخصية، ونعبر بكم مع فضيلة شيخ الإسلام حيَّاه الله وبياه!
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام كان أبوه نجماً، وجده قمراً، وهو شمساً: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:12] كان شمساً لكنها تصهر رءوس الملاحدة! {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ} [الكهف:17] وكان قمراً ولكنه بديع يستأنس به أحبابه.(18/2)
أسباب عظمة شيخ الإسلام ومميزاته
هنا سؤال يطرح نفسه: ما هي أسباب عظمته؟
أولاً: اسمع لهذه الأسباب التي جعلته عظيماً في الناس، ومثلاً في التاريخ، وشيئاً كأنه أسطورة في عالم العلم، والتضحية والفداء، والعبقرية.
وأنا لا أقص هذه القصص لنتزود من المعلومات لتصبح أذهاننا سلة مهملات، بل ليكون الواحد منا ابن تيمية مصغراً، وليكون كلٌ منا ابن تيمية في بيته، وابن تيمية في حارته، وابن تيمية في قريته، وابن تيمية في مدينته، وابن تيمية في بلاده، فأقول ما هي أسباب عظمة هذا الرجل الداهية؟
وقد ولد شيخ الإسلام سنة 661هـ، وتوفي 728هـ.(18/3)
إخلاصه لله وتجرده
أولاً: إخلاصه لله وتجرده؛ فقد قدم نفسه وروحه ووقته لله رب العالمين مخلصاً له الدين: (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] فأغضب الناس في رضا الله؛ فرضي الله عليه، وأرضى عليه الناس.
شيع جنازته ما يقارب من مليون ونصف مسلم، وخرج من النساء على أسقف المنازل ستون ألف امرأة يبكين ويندبن شيخ الإسلام.
وقف شيخ الإسلام لله، يريد أن تكون كلمة الله هي العليا، عرض عليه المنصب، قال: لا.
لماذا؟ المنصب سوف يعطلني عن دعوتي، عرضت عليه الأموال والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، فقال: لا.
لأنها سوف تعطلني عن قول (لا إله إلا الله).
عرضت عليه الشهرة وأن يجعل من نفسه محبوب الجماهير.
قال: لا.
لأن الجماهير لا يرضيها ما يرضي الله، فأنا أرضي الله أولاً والجماهير لا شأن لي برضاها:
إذا صح منك الود فالكل هينٌ وكل الذي فوق التراب ترابُ
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بين وبينك عامرٌ وبيني وبين العالمين خرابُ
عاش متجرداً: {إنما الأعمال بالنيات} كان لا يبالي بأحد، يقول كلمة الحق صادقة قوية؛ لأنه مخلص: (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: {من أشرك معي في عملٍ تركته وشركه} وعند ابن حبان: {من أرضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخط الناس برضا الله، رضي الله عليه وأرضى عليه الناس} عاش والله في قلبه، محبةً وتلاوةً وتسبيحاً، وتكبيراً، وجهاداً، المهم عنده أن ترتفع كلمة لا إله إلا الله، ولا بد من إعادة لا إله إلا الله قوية.
هذا ملخص الميزة الأولى لـ ابن تيمية، وقد افتقدها كثير من الناس.
إن كثيراً من الناس يريد أن يرضي المنصب، ويرضي السيارة، ويرضي الزوجة، ويرضي الجمهور، ويرضي ما يطلبه المستمعون.
لكن ابن تيمية إنما يرضي الله أولاً أما غيره فلا.
وأنا أدخل بكم في مسارات وفي دخلات قليلة، ثم أعود إلى أصول المحاضرة.
لم يتزوج ابن تيمية؛ تزوج الدعوة فأنجب عشرة أبناء:
أولها: الجهاد في سبيل الله.
وثانيها: أنتم يا شباب الصحوة؛ فأنتم أبناء شيخ الإسلام وهي بشرى سارة.
ثالثها: أنجب دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي بلغت زنجبار وأندونيسيا.
رابعها: أنجب المؤلفات التي تكسر ظهور الحمير من البشر والحمير من الحيوانات.
خامسها: أنجب تجديداً للأمة؛ جدد مسار الأمة، وأخرجها إلى عالم الانفتاح.
سادسها: رد عقل الأمة إلى الدليل، إلى قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام.
سابعاً: علم الناس الجهاد في سبيل الله، وكيف تموت النفوس وهي مقربة في ذات الله.
دخلوا عليه وهو مريض فقالوا: ماذا تشتكي؟ قال: لا أخبر أحداً، ثم ردد قائلاً:
تموت النفوس بأوصابها ولم يدرِ عوادها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي أذاها إلى غير أحبابها
ثامناً: اكتسح الحلف الابتداعي كله؛ اكتسح الملاحدة والحلولية والاتحادية والجهمية المعطلة والصوفية والمعتزلة والنصيرية والأشاعرة:
تقدم شاعراً فيهم خطيباً ولولاه لما ركبوا وراءه
تاسعاً: وقف ابن تيمية في الضمائر وما مات؛ مات جسمه ومات لحمه ودمه، ولكنه معنا هذه الليلة نحييه ونرحب به، وقد ألف فيه أكثر من ثمانين كاتب من المستشرقين والإنجليز والأمريكان والعرب.
عاشراً: وترك ابن تيمية لنا كلمة واحدة أن من جاهد لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، وأن من جاهد لبطنه ولوظيفته ولسيارته فسوف يموت وينتهي ولا يبقى له أثر في الأرض: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].(18/4)
الذكاء المفرط والذاكرة المتوقدة عند شيخ الإسلام
الثاني: ذكاؤه المفرط، وذاكرته المتوقدة:
رزقه الله موهبة!، يذكر عنه الذهبي أن عينيه كأنهما لسانان ناطقان، يخاف أن تتكلم.
ويقول فيه أحد الشعراء اليمنيين:
وقاد ذهن إذا سالت قريحته يكاد يخشى عليه من تلهبه
يقول: أي من شدة ذكائه يخشى عليه أن يحترق يوماً من الأيام في ثيابه من كثرة توقده، إذا كانت عيناه تكادان تحدثانك؛ فكيف بقلبه الداخلي؟!
أما توقده وذكاؤه فحدث عنه ولا حرج، وقد ذكر أبو الحسن الندوي نقلاً عن العلماء كـ البرزالي قال: إنه ما سمع شيئاً إلا حفظه، وكان ذكياً كثير المحفوظ.
انظر الرد الوافر (ص66).
يقول ابن تيمية: ما قرأت مجلداً إلا انتقش في ذهني من مرة واحدة، أي: يأخذ الكتاب ويفتحه من دفعة واحدة ينتقش في ذهنه، وقرأ كتاب سيبويه الذي لا يقرؤه إلا العلماء، فأخرج منه ثمانين خطأً!
وكان يحفظ كتاب الله كحفظ الفاتحة ولا يتلعثم في آية، أما الحديث النبوي فجعله في ذاكرته هنا في آخر مخه في خانة الأحاديث، وأصول الفقه جعلها في مخه في قسم أصول الفقه، والتفسير، فكان إذا استدعى المعلومة في مجلس الذكر أو مجلس الدرس، قال لذهنه: أريد الحديث الذي أخرجه أحمد بسند جيد يحضر الآن فلا يعود إلى كتبه إنما يتدفق.
قال ابن القيم: وكان شيخنا إذا صلى الفجر ذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم اعتكف وأخذ الكراريس وجرد القلم، وأخذ يكتب بلا مراجع وبلا كتب، ولا يعود إلى مصادر حتى يأتي الظهر وقد عبأ كراريس لا يفهمها إلا العلماء.
ومن ذاكرته المتوقدة -كما ذكروا عنه- أنه كان يجلس بعد صلاة العصر، فيجتمع في جامع بني أمية -الجامع الأموي في دمشق - العلماء، والفقهاء، وعلماء الأصول، والمحدثون، والفلاسفة، والأصوليون، والمناطقة، والقضاة فيغلق عينيه.
وكان من طريقته إذا تحدث أن يغلق عينيه، إذا بدأ يتحدث أغلق عينيه تماماً ولا يفتحها إلا قبل المغرب، يقولون: فيتكلم ويهدر كالسيل، ولا يستطيع أحد أن يمنعه أبداً أو يسكته، ويستفيد منه كل المجموعات، بعضهم يدرك ما قال، وبعضهم لا يدرك ما قال:
وكلامه السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن أوجزته ود المحدث أنه لم يوجز
رآه ابن دقيق العيد وقال: "ما أظن أن الله يخلق مثله! " فغضب ابن تيمية وقال:
أنا المكدي وابن المكدي وهكذا كان أبي وجدي
يقول: أنا ضعيف وفقير، وأبي وجدي ضعفاء وفقراء، ويقول: ما عندي شيء، ولا مني شيء، ولا لي شيء.
وقال الذهبي: "لو أقسمت بين الركن والمقام أني ما رأيت مثله ولا رأى مثله لصدقت ولبررت" وصدق فلم ير مثله، وما رأى هو مثل نفسه، وما رأى الناس مثله.
وقال ابن الزملكاني وهو فقيه شافعي من أعدائه: "ما أتى قبل خمسمائة عام مثله" من خمسمائة عام قبل ابن تيمية الذي توفي عام 728هـ لم يأت مثله.
وأنا أقول من جامع أبي بكر الصديق بـ أبها: لم يأت من عهد ابن تيمية إلى الآن مثل ابن تيمية وأتحداكم، الآن أن تخرجوا لي عالماً، أو داعية، أو مثقفاً، أو أديباً، أو مفكراً في الهند أو في الصين أو في تايلاند أو في بولندا أو في الجزيرة أو في الكويت أو في الإمارات أتى مثل ابن تيمية!! لا يوجد أبداً!
وهذه كتب التاريخ بيننا: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].(18/5)
شيخ الإسلام والتبحر العلمي والجامعية
ثالثاً: التبحر العلمي والجامعية:
لم يكن متخصصاً في قسم أصول الدين، أو قسم السنة، كما هو حالنا اليوم، أدخلوا التخصص داخل تخصص، أخرج الجمل خروفاً، والخروف قطاً، والقط فأراً!
قالوا: جامعة الشريعة ومنها أصول الدين ومن أصول الدين قسم السنة ومن قسم السنة الحديث، ومن الحديث المصطلح، ومن المصطلح المدرج.
هذا ابن تيمية لا يعترف بهذا؛ عالم بالحديث بدرجة ممتاز، وفيلسوف من الدرجة الأولى لكن على {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وقرآنيٌ فريد، ومفسر، ويعرف الواقع، وعلَّامة في الفقه بدرجة مجتهد مطلق.
ويقولون عنه -وهي من النقاط التي أخذت عليه- أنه يتسيب إذا أخذ يتكلم.
أي: يتفجر فلا يضبط المسألة، وأنت إذا طالعت مجلداته أحياناً تجده إذا دخل في مسألة دخل في علم الكلام، ثم خرج إلى أصول الفقه، ثم إلى الحديث، ثم إلى التاريخ، طالعوا الفتاوى يُسأل عن المسح على الخفين فيتذكر مسألة فيستطرد، ثم مسألة فيستطرد، حتى يكتب لك سبعين صفحة، وهذه -يقولون- مما أخذ على ابن تيمية، لأنه يتفجر، حتى يقول أحد الباحثين العصريين من الدكاترة يقول: "عقله فياض ما استطاع أن يتحكم في جهازه العقلي" أي: عليه ضغط من المعلومات يريد أن يخرجها بكل وسيلة.
وقال: "كان يتدفق كالسيل حتى ما يدري الناس ماذا يريد أن يقول بالضبط" أي: ما هي المسألة التي يريد أن يضبطها تماماً لكثرة معلوماته.
وجامعيته تأتي من علومه التي أحاط بها فهو عالم بالكتاب والسنة، وعالم بالواقع، وسوف آتي إلى هذه المسألة بالتفصيل والتنصيص إن شاء الله.
يسأل عن الإسكندر، يقول له السائل: من هو الإسكندر؟ - الإسكندر من يأتي بالإسكندر الآن؟! قال: " الإسكندر اثنان؛ الإسكندر المقدوني والإسكندر بن فيلبس وابن فيلبس ولد قبل الميلاد 662سنة" ثم سرد لك عشر صفحات في الإسكندر المقدوني وعشراً في الإسكندر بن فيلبس.
يسأل عن قصص خزعبلات في الواقع فيفصلها تفصيلاً: في الملل والنحل، والفقه، والحديث، والتوحيد، والتفسير، وعلم الرجال، والتاريخ، وعلم الاجتماع، والتربية، والسلوك لا أقولها والله عاطفة، لكن أحاكمكم إلى كتبه وإلى تراثه.
الشيخ متبحر علمياً ولم نسمع بمثله في العلم أبداً، أما في التفسير فسموه ترجمان القرآن، وأما في الحديث فقالوا: الحديث الذي لا يحفظه ابن تيمية فليس بحديث، وأما في علم الرجال فكان يعرف الرجال كأن الله عرضهم له، أيضاً كان يتكلم عن الفرق والطوائف ما استطاع.(18/6)
الشجاعة والاستقلال الفكري عند شيخ الإسلام
رابعاً: الشجاعة والاستقلال الفكري:
المعلومات لا تنفع صاحبها حتى يؤديها بشجاعة، وحفظك للصحيحين لا ينفعك إذا كنت تخاف من القط، والذي دائماً يتوجس من النار لا يستطيع أن يبلغ كلمته بقوة وبحرارة وبهدوء في نفس الوقت.
وكان ابن تيمية يمتلك هذه المواهب، كان عنده علم، وكان عنده -أيضاً- قلب كقلب الأسد، يدخل على الناصر قلاوون؛ هذا الناصر قلاوون تدرون، يقول: إذا التفت هكذا في اليمين خفض الوزراء رءوسهم -الموت الأحمر- الناصر قلاوون يدوس الملوك، كان ملك مصر وملك الشام، وكان ينظر شزراً وما ابتسم منذ خمسين سنة، لا يعرف الابتسامة، استدعى ابن تيمية وقد سجنه أولاً في دمشق، واستدعاه في الإسكندرية ليحاكمه، وأخذ ابن تيمية أكفانه تحت ثوبه، ودخل عليه متطيباً متوضئاً، فجلس أمام الناصر قلاوون والسيوف مسلولة، تنتظر رأس ابن تيمية لتقطفه كقطف الزهرة، من يدافع عن ابن تيمية وليس أحد إلا الله؟! فجلس ابن تيمية على ركبه، فقال: تكلم.
قال: بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد لله.
قال الناصر: ما أرسلنا لك لتخطب علينا.
قال: اسكت! فسكته، ثم اندفع يتكلم بقال الله وقال الرسول، وكاد هذا الناصر يتميز غيظاً، فأخذ يرتعد ويرتعد ويرتعد، وأخذ الناس يجلسون، وأخذ الوزراء يرفعون ثيابهم خوفاً من دم ابن تيمية.
قال: ماذا جئت له؟ قال أولاً: أبطل المكوس التي جعلتها على الأمة -أخذ أموال الأمة ظلماً، والمكوس هي الضرائب والجمارك- أبطلها الآن، قال: سمعاً وطاعة! ثانياً: أخرج الأسارى الذين عندك من المسلمين.
قال: سمعاً وطاعة! فخرج، ثم قالوا الناصر: كيف وجدته؟ قال: كاد يخلع قلبي! "
وهذه هي الاستقلالية التي يعرفها ابن تيمية.
دخل على ابن قطلوبك وهو سلطان الشام ووقف أمامه قائلاً: "يا ابن قطلوبك الآن اخرج قاتل التتار؟ قال: يا ابن تيمية لا نستطيع فالتتار اجتاحوا العالم الإسلامي، خرجوا من شمال الصين حتى وصلوا إلى إيران ثم الشام بشر لا يعرفون شيئاً، الثور ترده أما هو فلا يرتد، يمكن أنه تحبس الثور لكن التتري المغولي لا يرتد، يشربون الماء من البحيرات، يأكلون الجراد، يقطفون الشجر ويأكلونه، ويدوسون الأطفال، جاءوا من سيبيريا مثل زحف الجراد، فدمروا بغداد ووصلوا إلى دمشق، فأتى ابن تيمية، ودخل على السلطان، وقال: الآن أعلن حالة الاستنفار -والسلطان ضعيف- قال: لا أستطيع.
قال: تخرج تعلن.
قال: أخاف أن نغلب.
قال: والله لتنتصرن، قال: قل إن شاء الله.
قال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، وخرج ابن تيمية يقود الجيش، وأخذ الكأس يوم الجمعة في 17 في دمشق أمام الناس الألوف المؤلفة فقال: "اشربوا باسم الله، أفطروا في رمضان فأنتم تجاهدون العدو" فأفطروا وقاتلوا وانتصروا.
والشجاعة والاستقلال الفكري هي أن تقول للمخطئ: أخطأت، ولكنه يراهن برأسه، يرفع عمامته ينتظر متى يقطع رأسه بين الفينة والأخرى؛ لأن ابن تيمية ليس عنده أطفال في البيت، ولا عنده زوجة تنتظره، ولا عنده جماهير، ولكنه يريد جنة عرضها السموات والأرض:
وليس على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
يقول سراج الدين في العقود الدرية: "وكان إذا ركب الخيل يجول في العدو كأعظم الشجعان، ويقوم كأثبت الفرسان، وينكل العدو من كثرة الفتك بهم، ويخوض بهم خوض رجل لا يخاف الموت"
أتى غازان -ابن قائد المغول (التتار) هولاكو الذين اجتاحوا العالم الإسلامي- فنزل قريباً من دمشق، فجاء ابن تيمية لأصحابه في دمشق، قال: "تخرجون معي أكلم ملك التتار؟ قالوا: لا تعرض دماءنا يا بن تيمية للسفك.
الله الله يا بن تيمية، قال: أهدأ إن شاء الله -أي: أخذوا عليه موثقاً أن يهدأ- فخرج معه ثلاثمائة من المسلمين الصالحين العلماء، لكن العلماء يصبحون عنده تلامذة:
فإنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
ولما وصل إلى غازان، أخذ يحدثه عن الظلم، وعن الفتك، ويقول: "أنت ظالم، أبوك كان خيراً منك، مع أنه كان كافراً وأنت مسلم لكنه ما فعل بالمسلمين مثل ما فعلت.
فأخذ الناس يتكفكفون عن الدماء، وبعدما انتهوا، قال العلماء: والله لا نرافقك بعدها ولا نصاحبك، كدت تقدم رءوسنا" -كما روى ابن كثير - وعودوا إلى كتابه البداية والنهاية.
قالوا: والله لا نرافقك، فأتوا من طريق، وأتى وحده من طريق، فلقي أصحابه من العلماء لصوصاً في الطريق فشلحوهم، وهو نجا بإذن الله، واستقبلته دمشق تحييه عن بكرة أبيها، استقبال الفاتحين.(18/7)
شيخ الإسلام وروح التجديد التي صاحبته
خامساً: روح التجديد التي صاحبته:
عاش ابن تيمية مجدداً، وقضية: ابق على القديم ولا تخالف الناس، لا يعترف بها ابن تيمية، بل يريد أن يرد الأمة إلى كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد عاش التجديد بكل معانيه.
كان هناك ابن عربي ومعه فرقة من الاتحادية والحلولية.
وكان هناك صوفية لا يعرفون من الدين إلا تنتنة في الزوايا، هؤلاء ألغاهم من الحسبان، بل قال لهم: الإسلام ليس هذا.
أيضاً المعتزلة؛ قدموا عقولهم على النص، فقال أخطأتم.
أتى إلى الأشاعرة الذين أولو بعض الصفات، فقال لهم: أخطأتم.
أتى إلى النصيرية الذين كفروا بالواحد الأحد، فقال لهم: أخطأتم، وهاجمهم.
أتى إلى المناطقة؛ وقال: أخطأتم استدلالكم ليس بصحيح.
أتى إلى الفقهاء، الذين لا يخرجون قيد أنملة عن المذهب ولو خالف الدليل، فقال لهم: أخطأتم.
يقول أحد العلماء من العصريين من الأدباء: "كان صف المعارضة رهيباً" لكن ابن تيمية أسقطهم جميعاً بإذن الله؛ لأن الله معه، فقد كان صادقاً.
فقضية التجديد عاشها -رضي الله عنه وأرضاه- في مسألة رد الناس إلى قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام، فأثبت عقيدة أهل السنة والجماعة عند الفرق المخالفة، وأثبت التمسك بالدليل عند أهل الفقه الجامدين على المذهب، وأثبت السلوك الشرعي الذي أتى به عليه الصلاة والسلام عند الصوفية، وأثبت التوحيد الخالص عند النصيرية والجهمية المعطلة، وأثبت الكتاب والسنة بكل معانيها عند المناطقة وأهل الكلام؛ ورد عليهم بقوة.(18/8)
معرفته بمقاصد الشريعة الربانية
سادساً: معرفته بمقاصد الشريعة الربانية:
الصيرفي الذي يبيع الذهب سنوات يعرف الزائف من الصحيح، والبهرج من الطيب، حتى إذا أعطيته عملة من الذهب.
قال: هذا ليس بذهب، هذا زائف.
ابن تيمية يعرف الشريعة مثلما يعرف بائع الذهب سلعته، ومثل صاحب الإبل الذي عاش معها ثلاثين سنة يعرف أن هذه إبله وهذه ليست بإبله.
وهكذا يعرف ابن تيمية مقاصد الشريعة.
يتكلم في مسألة الوضوء وفي ذهنه مقاصد الشريعة، يتكلم عن الآخرة وفي ذهنه مقاصد الشريعة، عن الأخلاق وفي ذهنه مقاصد الشريعة.
وهذه ميزة افتقدها كثير من العلماء، فهم يتكلمون عن جزئيات لكن ليس في أذهانهم كليات من مقاصد الشريعة؛ مثل حماية العرض، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، والدين؛ هذه مقاصد من مقاصدها الكبرى.
أو من مقاصدها: التيسير على الناس، ورفع الحرج، أو من مقاصدها: إنقاذ الإنسان من الولاء لغير الله، والكينونة والعبودية لغير الله.
أو من مقاصدها: إسعاد الناس في حياتهم.
هذه لا تغيب عن ابن تيمية أبداً.(18/9)
شيخ الإسلام وعلمه بالنصوص الشرعية ومعرفته بالواقع
ومن مواصفات شيخ الإسلام؛ أنه عالم بالشريعة، وعالم بالواقع:
عنده علم الكتاب والسنة، وكل الأحاديث والقرآن في ذهنه، وله معرفة كبيرة بواقعه الذي يعيش فيه.
لم يجلس ابن تيمية في غرفة ويغلق عليه بابها، ولم يجلس تحت المكيف ليرسل لنا كتيبات وأشرطة في المجتمع، لا.
كان يخالط الناس، ويعرف ما يدور في المجتمع، وما يدور في العالم في الشرق والغرب.
ومن الأدلة على ذلك أنه لما سئل عن ابن تومرت؛ وابن تومرت عاش في المغرب، فأجاب عنه بكتيب، وكذلك تحدث عن القونوي وابن عربي وابن سبعين، والطوائف، والملل والنحل، والدول والشعوب، وما خطر وما سار في العالم، يقرؤها قراءة تامة؛ وهذه تسمى علم الواقع الذي نعيشه.
فطالب العلم لا يكون حافظاً للصحيحين صحيح البخاري وصحيح مسلم فقط، ولا يعرف ما يدور في الصحف والمجلات والجرائد، ولا يعرف ماذا في المجتمع، ولا يعرف ما هي الصراعات التي يعيشها الناس، ولا يعرف ما هي المسائل التي يريد أن يتحدث بها في الناس.
أما ابن تيمية فأجاد العلمين والفنين على حد سواء.
والناس في هذا الباب ثلاثة أقسام:
قسم منهم: يعرف الكتاب والسنة، لكنه يعيش مع الترمذي، فهو معنا بجسمه، لكنه مع الترمذي -ورحم الله الترمذي - فلا يدري عن الواقع شيئاً! وهذا خطأ.
وقسم ثانٍ: يعرف الواقع، لكن لا يعرف من الكتاب والسنة شيئاً، فهو عالم بالواقع، يقرأ الصحف، والجرائد، حتى أطروحات الواقع يعرفها لكن لا يعرف الكتاب والسنة؛ وهذا نقص.
والْكُمَّلُ كـ ابن تيمية يعلمون الكتاب والسنة، ويعلمون الواقع.(18/10)
تعدد جهاد شيخ الإسلام وبذله على كافة الجبهات
ثامناً: تعدد جهاده وبذله على كافة الجبهات:
هو ليس مفتياً فقط، ولا خطيباً فحسب، وليس واعظاً فقط، ولا مجاهداً فحسب، وليس آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر فحسب؛ بل هذه كلها فيه وزيادة، فهو يضرب في كل غنيمة بسهم:
محاسنه هيولى كل حسن ومغناطيس أفئدة القلوب
وتجد بعض المسلمين متكاسلين الآن إذا طلبت منه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال: أنا لست موظفاً في الهيئة، سبحان الله! ما هذا السوء؟! ما هذا الكلال واحتقار النفس؟! وما هذا الانهزام والتخلف عن معاني استكمال الشخصية الإسلامية التي يريدها الله من العبد؟!
مجاهد، عابد، آمر بالمعروف، ناهٍ عن المنكر؛ هذه من ميزات ابن تيمية، ولذلك استولى على كثير من الجبهات وكأنه التاريخ.
وأرجوكم مطالعة الجزء الرابع عشر من البداية والنهاية فسوف تجدون ابن كثير نسي نفسه، ونسي الملوك، ونسي الدول والسلاطين والوزراء، وانتقل مباشرة إلى ابن تيمية كأن التأريخ ابن تيمية؛ دخلت سنة كذا وكذا، وكان ابن تيمية في جبل كسروان، دخلت سنة كذا وكذا وكان ابن تيمية في السجن؛ فأصبح ابن تيمية هو التاريخ لكثرة وتعدد جبهاته واختصاصاته وهكذا يكون المؤمن كـ أبي بكر الصديق باذلاً، ومجاهداً، ومعلماً، ومنفقاً، وصبوراً، وصدوقاً، ومحسناً، وغيرها من صفات الخير.(18/11)
الحيوية المتوهجة في كلماته وكتاباته
تاسعاً: الحيوية المتوهجة مع أنفاسه وكتاباته وكلماته:
لم يكتب ببرود، بعض الناس إذا قرأت له تنعس ويأتيك النوم؛ لأنه كتبه من قلب نعسان، كتبه وهو ينعس، فتقرأ كتاباته ميتة، تميتك وأنت جالس، ويتكلم لك ببرود كأنه لا يعنيه، مثل بعض الناس الذي يتكلم عن الإسلام وهو لا يحمل الإسلام في قلبه، تجده يأتي بعموميات، ولذلك لا يجعل الله لكتاباته قبولاً، يكتب عن إصلاحات الإسلام، وعن الخير فيه، وعن كراماته، ولكن كلماته ميتة، إن الكلمات إذا خرجت من قلب ميت ماتت قبل أن تصل آذان الناس، وإن الكلمات الحية تخرج حية مدوية من القلوب وتحيا في قلوب الناس؛ وهذه ككلمات ابن تيمية تماماً تحيا، لماذا؟ لأنه يرسلها من قلبه، ويدفعها من روحه، كان الإسلام قضيته هو، وأكبر قضية عنده نصر الإسلام، حتى سجن مرات عديدة، وفي السجن كتب لأمه رسالة، وأمه كانت في حران، وهو في دمشق، وكتبه كانت مع أمه في دمشق، وسجن في الإسكندرية مرة ثانية:
بـ الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط جيراني
كتب لأمه، قال: "بسم الله الرحمن الرحيم -بعد سلام طويل وكلام- فوالله ما تركنا المجيء إليكم وزيارتكم إلا لأمور كبار، يتعين علينا الوقوف معها، ولو أن الطيور تحملنا لسرنا إليكم"
وأنا كنت أعلق بشيء من الدعابة، أقول: لو قال شيخ الإسلام لطرنا إليكم أحسن من سرنا إليكم.
يقول: ليت الطيور تحملنا إليكم، لكن يستأذن أمه، يقول: سامحيني على بقائي هنا، لأن عندي أموراً كباراً، كالجهاد، وأمور الأمة الإسلامية، وبث الوعي العام، واستنقاذ الهمم، وتحرير العقول، فيقول: يا أماه! أنا قصرت في الزيارة فالسماح السماح.
ثم يصف لها ماذا يجد في السجن من سعادة والتجاء إلى الله، قرأ في سجنه في سنة واحدة ثلاثاً وثمانين ختمة للقرآن، ويقول: "إن في الدنيا جنة من لا يدخلها لا يدخل جنة الآخرة"
وأدخلوه السجن، فأتى السجَّان -جزاه الله أفضل ما جزى سجَّاناً عن ابن تيمية - ففتح له الدروازة، ولما دخل ابن تيمية ضرب بالباب وراءه وتلاميذه وراء الباب، فابتسم ابن تيمية، كما يبتسم الأسد؛ والأسد لا يبتسم:
إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فتبسم ابن تيمية ونظر إلى السجان وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] ثم تبسم مرة ثانية، وأطلقت كلمات من روحه، فقال: "ماذا يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى سرت فهي معي، أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة" ماذا يفعلون، عندي ممتلكات فليأخذوها، عندي غرفة بجامع دمشق فيها ثوبان له؛ ثوب للصلوات العادية، وثوب لصلاة الجمعة، وكان يتغدى بخبزة واحدة مع خيارتين، ويأكل اللحم في الأسبوع مرة، ولا عنده زوجة، بلغ 63 سنة وما تزوج؛ ربما لسبب عنده، أو لأنه مشغول، لكن السنة سنة محمد صلى الله عليه وسلم {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] وربما كان لـ ابن تيمية عذره فالله أعلم، فيقول:
على الدنيا العفاء فما لشيخٍ كبير الجسم في الدنيا قرار
ويقول:
عفاءٌ على دنيا رحلت لغيرها فليس بها للصالحين معرج
كدأب علي في المواطن كلها أبي حسن والغصن من حيث يخرج
هذا ابن تيمية، في مسألة الحيوية.
وأنا أطلب من إخوتي وزملائي وأحبابي أن يكونوا مكتبة لـ ابن تيمية، وأن يقرءوا له كثيراً كثيراً.
أحد الفلاسفة قدم من بلد من البلاد، وكان عدواً لـ ابن تيمية، فأخذ يقرأ لـ ابن تيمية -وهذا كان فيلسوفاً ومعه دكتوراة في المنطق- فلما قرأ لـ ابن تيمية ما يقارب أسبوعاً، قال: " ابن تيمية شيء ثانٍ " أي أنه: مذهل ليس بعادي، وبعدها أصبح من أنصار ابن تيمية، وألف عن ابن تيمية رسالة.
فأنا أطالبكم بالعودة إلى كتب ابن تيمية، والتكثير من القراءة له حتى تكونوا عقلية جبارة تفهم الإسلام، كما فهمه شيخ الإسلام وليس هو بمعصوم.(18/12)
شيخ الإسلام وأسلوبه السهل
عاشراً: أسلوبه سهلٌ ممتنع، والرجل سهلٌ ممتنع، وهو قريب ولكنه متفوق:
يعني: يكلمك بأسلوب عادي قد يفهمه الأطفال، لكن لا يستطيع له إلا العلماء، ومن ميزته أنه يحافظ على مقاصد الشريعة، وكليات الدين، ثم لا تجد في كلامه ما تنتقصه -وليس بمعصوم- وأحياناً إذا أراد أن يغوص بك تركك وأنت تقرأ حتى لا تدري أنت في بيتك أو في مدغشقر وأحياناً إذا أراد أن يلف عليك لفات دخل بك في علم المنطق وضيعك، أنت في الصفحة السابعة وقد بلغ العشرين، ثم يعود لك بأسلوب سهل، ثم يفر أحياناً؛ وهذه كما قيل:
"يسطع يسطع كالنجم، ويلمع يلمع كالفجر، ويهدر يهدر كالسيل".(18/13)
شيخ الإسلام ودرجة الاجتهاد المطلق
الحادي عشر: المجتهد المطلق.
خرج عن الأئمة الأربعة في كثير من المسائل، خرج عن أحمد ومالك الشافعي وأبي حنيفة، أي: خالف الأربعة في كثير من المسائل، واتفق الأربعة على مسائل ليست بإجماع بل اتفاق فخرج هو عن الجميع، أتى علماء الحنابلة والأحناف والشافعية والمالكية، وقالوا: ويلك! كيف تخرج؟! قال: أخرج وعندي الدليل.
يجادله ابن الزملكاني من الشافعية فيتغلب على ابن الزملكاني كأنه متخصص في مذهب الشافعي، ويأتي عالم الأحناف فيغلبه، وعالم المالكية، وعالم الحنابلة.
وابن تيمية أسس فكره الأول على مذهب الحنابلة، ولكنه لا يتقيد بذلك ولو أن أصوله حنبلية، فهو يخرج عن المذهب كثيراً، ويتعبد الله عزوجل بالدليل من الكتاب والسنة.
فكلمة أنه حنبلي فيها ما فيها، فلا يتعصب الآن رجل يأتي ويأخذ ابن تيمية في رأسه، ويجعله في كيس الحنابلة، ويقول: صاحبنا! ليس بصاحبكم، بل ابن تيمية صاحب الحنابلة، وصاحب المالكية، وصاحب الأحناف، وصاحب الشافعية.(18/14)
شيخ الإسلام وخصومته للمنحرفين عن الكتاب والسنة
ابن تيمية خصم لكل المخالفين.
في كل يوم عنده معركة، ولا يهدأ أبداً.
حبسوه وأخذوا عليه تعهداً وقالوا: لا تهاجم البطائحية، فخرج من السجن فأول ما بدأ بـ البطائحية، فبطحهم على الأرض.
أدخلوه، وقالوا: لا تهاجم النصيرية، فلما خرج بدأ بهم، وأخذ المسلمين ودخل بهم في جبل كسروان يهاجم النصيرية.
قالوا: لا تكثر من مهاجمة المعتزلة، فألف فيهم.
سبحان الله! وكل يوم له حادث لأنه يريد أن يثبت لا إله إلا الله في الأرض، والذي يريد أن يثبت لا إله إلا الله، لا يتأتى له ذلك بسهولة، إنما بشيء من الدفع والبذل الباهض، والدم.
سيد قطب أراد أن يثبت لا إله إلا الله فذهب رأسه، لكن إلى جنة عرضها السموات والأرض.
سعيد الحلبي هذا عالم من علماء الشام، كان أعرج إذا أراد أن يجلس فإنه يمد رجله، فدخل عليه السلطان في المسجد، فقام الناس، أما سعيد الحلبي فما قام، وبقيت رجله ممدودة ولا يستطيع قبضها لأنه أعرج، فغضب السلطان فأراد أن يستدرجه، فذهب إلى البيت وقال: "خذوا هذا الكيس من الذهب، وأعطوه لـ سعيد الحلبي، فإذا قبله قطفت رأسه" فأتوا وهو يدرس في المسجد، فأخذوا الكيس فصبوه على سجادته، وهو يدرس عله أن يقبله، فأخذ السجادة ولفها، وفتح النافذة من القبلة، ورمى بالذهب والسجادة وقال: "قل للسلطان: إن الذي يمد رجله لا يمد يده! ".
وابن تيمية -رحمه الله- له مواقف مشهودة.
منها أنه لما كان مرة في السوق، وكثير من الناس الآن أموات القلوب يسمعون ويرون المنكر، لكن يقولون: يا أخي! لا تدخل نفسك، عليك بنفسك، كل أكلك واسكت.
فسمع ابن تيمية رجلاً يسب الرسول عليه الصلاة والسلام -نصراني اسمه عساف عسف الله عنقه- قال ابن تيمية: "تسبه! واستدعى أهل السوق فأتوا فضربوا النصراني بالأحذية.
وارتفعت القضية للسلطان، وأتى المنافقون وشهدوا على أن ابن تيمية المخطئ -سبحان الله!! - بعض المنافقين من المسلمين شهدوا على ابن تيمية للنصراني، فأتى السلطان، وقال: يجلد ابن تيمية الآن، فجلدوه في المجلس، لكن:
إن كان سركمُ ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكمُ ألمُ
خرج من الديوان، وكتب رسالة الصارم المسلول على شاتم الرسول عليه الصلاة والسلام.
وكان يقول: "إنها من أحسن الأيام، يوم ضُربت من أجل الرسول عليه الصلاة والسلام".
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشية تمشت وجرت في جوانبه بردا
وقال الآخر، وقد مضى إلى محبوبه أو محبوبته في الليل، فسقط عشرين مرة في الوادي في ظلام الليل، وتجرح وأصابه الشوك، من أجل محبوبه، فيقول:
جزى الله المسير إليكِ خيراً ولو كنا تعبنا في الطريقِ
فكم من ليلة في الله بتنا نراعي الفجر من أجل الرفيقِ
أما ابن تيمية فسقط وجرح من أجل لا إله إلا الله، ومن أجل محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه ميزة ابن تيمية أيها الأخيار.(18/15)
اهتمام التاريخ بشيخ الإسلام
ما من مؤلف إلا ويذكر ابن تيمية، حتى أعداؤه، ومن هنا فرض سيطرته عليهم.
فهذا السبكي؛ كان العدو اللدود لـ ابن تيمية وهو قاضي القضاة، شافعي المذهب، فكان يحكم على ابن تيمية بالسجن، ومنعه من الكتابه، والذهبي يكتب له ويقول: -أنت لا تعرف ذكاء هذا الرجل، وإخلاصه، وزهده- فيكتب له السبكي كتاباً ونصه في طبقات الشافعية الكبرى، ترجمة العلامة تقي الدين السبكي، يقول السبكي: يقول المملوك: يتحقق كبير قدره، وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وبلوغه في كل ذلك المبلغ الذي لا يتجاوزه الوصف، والمملوك يقول ذلك دائماً".
قال الشاعر:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالناس أعداء له وخصومُ
كضرائر الحسناء قلن لوجهها بغياً وإثماً إنه لدميمُ
يريدون أن يطمسوا الشمس! لكن الشمس شمس، والحق حق، والنور نور.
فالتاريخ مهتمٌ بـ ابن تيمية جداً جداً، بل حتى ألفت عنه كتب بغير العربية.(18/16)
اهتمامه بالعبادة، وشدة تضرعه إلى الله
يقولون: السبب في أن الله حماه من الاغتيالات ومن كثير من الحوادث، أنه كان كثير الذكر بعد الفجر، وقبل صلاة المغرب، كان له أوراد صباحية، كان عنده طاقة حرارية في جسمه من الذكر والدعاء، وكان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه مستقبلاً القبلة يردد الفاتحة حتى يرتفع النهار، ويقول: "هذه غدوتي ولو تركت غدوتي سقطت قوتي"؛ ولذلك كان من أقوى الناس جسماً.
حتى يذكر ابن القيم يقول: "ما رأيت أقوى منه" يعني: من شيخه ابن تيمية.
وكان إذا تكلم يصهل كأنه فرس، وإذا تحدث أمام الناس تحدث كالأسد، وكان يأخذ السيف ويقاتل به كما قاتل في شقحب، وتثلَّم السيف من قتاله حتى أصبح خنين شظايا السيف تمر على رءوس الناس، فكان قوياً، وإذا مشى يتكفأ كأنه ينحدر من صبب، وهي مشية الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا هو إسلام القوة، ليس إسلام الخمول الذي يمثله بعض الناس الآن حتى يوسمون الإسلام بأنه ضعف، أي: إذا التزم الإنسان واهتدى أصبح ضعيفاً يلبس غترة بلا طاقية، ويترك الغترة في عطلة الربيع، ويشتري غترة من عهد السلطان عبد الحميد.
لا.
الإسلام قوة وروعة، الإسلام حياة، فلا بد أن يتكلم الإنسان بقوة.
رأت عائشة رضي الله عنها شباباً في المدينة فأخذوا يمشون بهدوء، يعني: في الشارع كأنهم نملات.
قالت عائشة: من هؤلاء؟ قالوا: نُسّاك، قالت: سبحان الله!! عمر بن الخطاب أنسك منهم، وكان إذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع، وإذا مشي أسرع.
هذا عمر الناسك، أي: هل هم أخشى من عمر الذي كاد يقتلع الجبال من قوته؟ وإذا مشى في الطريق فرت الشياطين من اليمين واليسار؟ لا.
عمر أقوى، وابن تيمية أقوى، والإسلام أقوى.
فالإسلام جمال في الظاهر والباطن، أما إظهار الإسلام بالدروشة، وإظهار الإسلام بالمسكنة، حتى أصبح ذلك وصمة وقالوا: هذا هو الدين الذي يمثله هؤلاء.
فعلى هؤلاء أن يراجعوا إلى سيرة عمر، وأن يراجعوا سيرة ابن تيمية وألا يعودوا لنا مرة ثانية ويمثلوا الإسلام في مثلٍ هزيلٍ فاشل.
ابن تيمية منهمك في العبادة -كما قلت- كان عنده أوراد تعبدية دائماً يسأل الله إياها، ودائماً يعيش معها، يقول صاحب العقود الدرية: "وكان ابن تيمية في ليلة منفرداً عن الناس كلهم، خالياً بربه عز وجل، ضارعاً إليه، مواظباً على تلاوة القرآن العظيم، مكرراً لأنواع التعبدات الليلية والنهارية، وكان إذا دخل في الصلاة ترتعد فرائصه وأعضاؤه حتى تميل يمنة ويسرة، وكان إذا صلى الفجر يجلس في مكانه حتى يتعالى النهار جداً، يقول: هذه غدوتي لو لم أتغدى هذه الغدوة لسقطت قواي".
يقول الذهبي: "لم أرَ مثله في ابتهاله، واستغاثته، وكثرة توجهه"
ويقول ابن تيمية: إنه ليقف خاطري في المسألة، أو الشيء، أو الحالة التي تشكل عليَّ، فأستغفر الله ألف مرة، أو أكثر أو أقل حتى ينشرح الصدر، وينجلي إشكال ما أشكل".
كان ابن تيمية أيها الإخوة الأبرار -أثابكم الله- دائم التهليل والاستغاثة والالتجاء إلى الله، وهذه ميزة المؤمن.
وكان يكثر من ترداد (لا إله إلا الله) كثيراً، ويقول عنه تلاميذه: "كانت شفتاه لا تسكت" أي: تتحرك دائماً، حركة سريعة، فقد تعودت على أن تتحرك كما أوصى به صلى الله عليه وسلم: {لا يزال لسانك رطباً بذكر الله} كان لا يهدأ أبداً، قالوا: "ألا تسكت قليلاً؟! قال: قلبي كالسمكة، إذا خرجت من الماء ماتت، وقلبي إذا ترك الذكر لحظة مات! " أو كما قال.(18/17)
شيخ الإسلام وجلده وصبره
كان إذا أراد أن يحقق مسألة فإنه يصبر ويتجلد، ويؤلف، ويكتب، ويستمر، وهو يعرف أنه لن يموت إلا بقضاء من الله وقدر.
وما سمعنا أن أحد من الناس قدم موت أحد ساعة، والله ما وجد في العالم رجلٌ قدم موت رجلٍ ساعة أبداً: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52].
خالد بن الوليد خاض مائة معركة، ومات على فراشه والحمد لله، استكمل رزقه وأجله، هل نقص من عمر خالد يوم؟!! لا استكمل ساعاته ودقائقه.
والعز بن عبد السلام خاض، ونهى، وأمر، ومات على فراشه.
وابن تيمية تعرض لما تعرض له ومات على فراشه، لا يموت أحد قبل أجله، ولا يأتي مرض الوهم هذا فيسيطر على عقل الإنسان، ويصيبه قرحة في المعدة والاثنى عشر خوف الموت وهو ما مات.
يقولون: يموت الجبان في اليوم سبع مرات، والشجاع لا يموت إلا مرة واحدة.
يصفون ابن تيمية، يقولون: كان قوي البطان، من داخل لا يبالي، مثل علي بن أبي طالب.
علي بن أبي طالب يبارز الأبطال وهو ينعس على البغلة!
ونحن هنا، والكيماوي بيننا وبينه 1500 كيلو متر، وما نام أطفالنا، يتخوفون في المنام، كلما مرت طائرة قلنا: نعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق!
علي بن أبي طالب السيوف مصلتة، وبقي بينه وبين البطل أمتار وينام!
واسمع المتنبي يمدح سيف الدولة، ويحيي البطل المقدام الذي خاض معارك ضد الروم، يقول:
وقفت وما في الموت شكٌ لواقفٍ كأنك في جفن الردى وهو نائمُ
يقول: ما هذه البطولة، كيف تنام وأنت تقف في جفن الردى!
تمر بك الأبطال كلمى هزيمةً ووجهك وضاحٌ وثغرك باسم
من الذي يضحك في المعركة؟!! يضحك علي بن أبي طالب وابن تيمية وسيف الدولة:
نثرتهمُ فوق الأحيدِب نثرةً كما نُثرت فوق العروس الدراهمُ
هذه من قصيدته الرائعة، وكل شعر المتنبي رائع، حتى يقول:
ولا تحسبن المجد زِقَّاً وقينةً؛ يقول: لا تحسب المجد كوب الخمر هذا الذي يوضع فيه الخمر, والقينة تغني: يا ليلي، يا عيني.
ولا تحسبن المجد زِقَّاً وقينةً فما المجد إلا السيف والفتكةُ البِكرُ
وتركك في الدنيا دويَّاً كأنما تداول سمعَ المرء أنملُه العشرُ
هذا هو المجد، وهو الذي يعيشه ابن تيمية في فكره وأعصابه وحرارته، وسوف يبقى معنا يعيش، وكل سنة معنا يتجدد ابن تيمية، وتخرج كتبه إلى النور، وعلمه، وفتاويه إن شاء الله.(18/18)
أعداء ابن تيمية
العداء ضريبة العظمة.
يقول العقاد: "إذا رأيت رجلاً اختلف الناس فيه مادحاً وقادحاً فاعرف أنه عظيم" أما الإجماع السكوتي على إنسان لا يستحق منزلة العظمة، أما أن تريد أن يجمع الناس على شخص أنه عظيم فلا يكون، أو يجمعوا على أنه مذموم فلا يكون إلا من أسقط الله قبوله؛ كفرعون -مثلاً- فإن المسلمين أجمعوا على بغضه، لكن هناك خلاف في الرأي العام وهذا معناه: أن فيه عظمة، وابن تيمية كذلك وجد في أوساط المسلمين؛ مادح وقادح، راغب ومناوي، مشجع ومثبط، ثم إن ابن تيمية غرس بنفسه الحسد له في القلوب، يقول الغزالي في جدد حياتك "إن الكُمَّل من الناس يجد المحدودون، ويجد الصغراء والنزلاء غصة في حلوقهم من ارتفاع هؤلاء، فيبدءون ينكثون في مجدهم، ويضربون في نعوشهم" وهذا ابن تيمية هو الذي تسبب بذلك:
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل
أي هو الذي تسبب بهذا، لأن معنى ذلك: لو أراد ابن تيمية ألا يسبب لنفسه إزعاجاً، فإن الحل أن يغلق بابه، ويسكت، ويتزوج، ويشرب الشاي، وألا يتدخل في أمور الأمة، وألا يكتب كتاباً، ولا يخطب، ولا يفتي.
إذاً الحل في نظرنا؛ ألا يندد بالظلم، وألا يندد بالإباحية، وألا يندد بـ الحلولية، وألا يندد بالشرك.
من الذي كان سوف يعترض على ابن تيمية لو أغلق ابن تيمية بابه؟ من الذي كان سيحسده؟ من الذي كان سيناوئه؟ لا أحد.
لكن ابن تيمية يرفض:
فإما حياة نظّم الوحي سيرها وإلاَّ فموت لا يسرُ الأعاديا
هكذا! إما حياة بخلود، وإلا موت لا رجعة بعده، فـ ابن تيمية هو الذي نكث هذا في عيون الناس وفي قلوب الناس:
سيدي عللَّ الفؤاد العليلا أحيني قبل أن تراني قتيلا
إن تكن عازماً على قتلِ روحي فترفق بها قليلاً قليلا
ثانياً: من أعداء ابن تيمية الحلولية والاتحادية والملاحدة عموماً.
لأنه كتب عنهم، وبين زيفهم، وندد بهم، واتخذهم أعداء.
وليته وقف! لكنه ما وقف، وقد كان يكفيه عدو واحد.
ثالثاً: من أعدائه الجهمية المعطلة؛ الذين نفوا الله من أسمائه وصفاته، حاربهم بمجلدات فأصبحوا أعداء، أصبحوا ثلاثة الآن.
رابعاً: المعتزلة، فقد انتهى من أولئك ثم شد سيفه على المعتزلة، وبين خورهم، وتساقطهم.
خامساً: الصوفية بعد أن حفظه الله وأيده، عاد إلى الصوفية، وبين أنهم زائفون، وأنهم شوهوا معالم الدين، وأنهم أخطئوا في السلوك والأخلاق.
سادساً: الروافض ورد عليهم بكتاب منهاج السنة؛ الذي هو من أفراد كتب العالم؛ لأن ابن المطهر؛ وهو شيعي رافضي، ألف كتاب منهاج الكرامة فسماه ابن تيمية منهاج الندامة، ورد عليه بـ منهاج السنة، فاكتسحه، وبدده، وجعله قاعاً صفصفاً لا ترى فيه عوجا ًولا أمتاً، وأتى بـ التدمرية فنكسها على رأس ابن عربي وتلاميذه {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] وأتى بـ الحموية على المتفلسفة في حماة فأصبحت كالحمى:
وزائرتي كأن بها حياء فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي
من أعداء ابن تيمية الروافض، فقد شن عليهم الغارة، وبددهم شذر مذر.
سابعاً: ثم عاد إلى الأشاعرة، وبين أنهم أقرب الأعداء إلينا، والصلح ممكن، وتبادل السفارات وارد، لكن إذا حلت الخلافات.
ثامناً: السلاطين.
السلاطين تكلم لهم ابن تيمية في الرسائل؛ فهو: جالس في المسجد يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم من أحمد بن تيمية إلى السلطان أمَّا بَعْد:
فقد فعلت كذا وكذا، وهذا خطأ حرام، فيأتي السلطان يقول: من هذا الذي يخاطبني من المسجد؟ تعال! فيأتي فيلقي عليه محاضرة ساعة ونصف، أدخلوه في السجن، فيدخل في السجن، فيرجع أقوى.
لماذا؟ لأن الواجب أن يقول هذا، وأن يبلغ هذا.
من جبهة المعارضة المقلدون الجامدون من الفقهاء، وبعضهم لا يريد أن تخرج عن زاد المستقنع شبراً، وإذا خرجت فاستغفر وعد، لا دليل ولا آية إنما تبقى محصوراً، أي: ما دام قال الأصحاب هذا فلا تخرج عن الأصحاب، مكانك مكانك!
يقول ابن تيمية: لا.
من أتى بهذا؟ مالك ليس بنبي، وأحمد ليس بنبي، والشافعي ليس بنبي، وأبو حنيفة ليس بنبي، ولا بد أن نسألهم من أين أخذوا الأدلة بأدب، ونستضيء بنورهم وبأفكارهم، وهذا يذكره في كتاب الاستقامة في أوله وهناك فرق بين هذا والظاهرية التي شنعت على الأئمة لا نريد هذا، لا نريد أيها الشباب! طلبة علم يشنعون على الأئمة، ويقولون: هم رجال ونحن رجال، ويسبون أحمد والشافعي، ويأتي لنا بفقيه مجدد على حساب الأئمة وذم الأئمة، ولا نريد كذلك شباباً يتقمصون الفقه بلا دليل، يحفظون المسائل، ويرفضون الحديث والسنة لا نريد ذلك ولكن نكون كـ ابن تيمية وسطاً بين مدرسة الإرتائيين وبين مدرسة الردايكاليين الظواهر.
وهو يمثل روح الإسلام الوسط، ويحيي هو أهل الحديث، ويمتدحهم ويرى أنهم هم الطائفة المنصورة، وأنهم الفرقة الناجية، وأنهم هم الذين يفهمون الإسلام لا غير.
من أعداء ابن تيمية الفلاسفة: الذين تكلموا في الله، وفي أسمائه، وفي الدين بغير علم، عاداهم ورد عليهم.(18/19)
لماذا عودي ابن تيمية
لماذا عادوه؟ مسكين، إنسان ما عنده منصب، لم يتول في حياته منصباً أبداً، لم يعرف أن ابن تيمية منذ ولد أنه تولى منصباً أبداً، ولم يستلم خلعة -الخلعة هي: الجائزة والوسام- ولم يستلم كأساً في مباراة، ولم يؤت له بمال إلا رفضه؛ قال ابن عبد الهادي: "وكان يؤتى له بالقناطير المقنطرة، فيوزعها على الفقراء وهو جالس، ولا يحمل درهماً واحداً" وكان عنده ثوبان عليه في برد، فخرج مرة في دمشق فرأى فقيراً، فنزل وراء الحائط وخلع ثوبه وأعطى الفقير، ومشى قليلاً فإذا بفقيرٍ آخر فأخذ عمامته فقسمها نصفين، فأعطى نصف العمامة الفقير، ولف النصف الآخر عليه.
وكان يخرج يوم الجمعة بما بقي من إفطاره من الخبز، كان متقشفاً، لم يكن يفطر بتسعة أنواع وبخمسة عشر نوعاً على المائدة، إنما كان عنده خيارة وقليل من الخبز إذا لم يكن صائماً، وغالب أوقاته كان صائماً، كان يفضل بعض أنواع الخبز فيخرج به إلى الأطفال ويعطي الفقراء والمساكين.
وكان إذا انزوى في طريق كان يرفع يديه، يقولون: كأنه شحاذ؛ لكن هذه الشحاذة من نوع أعلى لأنها إلى الله، شحاذة راقية، شحاذة محبوبة وهي من الدين، كان يسأل الله، ويسأله، ثم يسأل، حتى تنهمر دموعه، ثم يعيد يديه.
فكان مؤيداً دائماً لا ينفك أبداً عن الاتصال بالله، وعن أعمال الخير، إذاً لماذا عودي؟!! ولم يكن عنده مال أبداً، كان عنده بيت صغير مثل الغرفة، وكان يتوضأ في دورات المياه مع المسلمين، ومع ذلك هذا الرجل شيعته الأمة، وبكت عليه الأقاليم، وكاد يقع حيص بيص في الدولة الإسلامية آنذاك لما مات.
مات في القلعة، انتهى من الختمة 83 عند قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55] ثم مات.
لقد مات بين الطعن والضرب ميتةً تقوم مقام النصر إن فاته النصرُ
فتىً كلما فاضت عيون قبيلةٍ دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكرُ
وما مات حتى مات مضرب سيفه من الضرب واعتلت عليه القنا السمرُ
تردى ثياب الموت حمراً فما أتى لها الليل إلا وهي من سندس خضر
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، إنا لله وإنا إليه راجعون.
جمعنا الله به في دار الكرامة، وأرانا وجهه، ورفع منزلته، مع هذه العظمة أقول: لماذا عودي؟
أولاً: الحسد.
هم يحسدوني على موتي فوا أسفا حتى على الموت لا أخلو من الحسدِ
وسبب هذا البيت: أن رجلاً قال: والله لو تمنيت الموت لحسدني الناس على ذلك، قالوا: ما صدقت.
قال: اسمعوا، فجمع الناس في المجلس، وقال: رأيت البارحة أن السلطان قتلني وصلبني على خشبة.
قالوا: وأنت يا حقير، تبلغ من صلبك السلطان، ما يصلب السلطان إلا الوزراء.
فغضبوا عليه وخرجوا.
فيقول لهم الناس: لماذا تخرجون؟ قالوا: هذا يقول يموت مصلوباً، كأنه ابن بقية -أي: أحد الوزراء- قال:
إن يحسدوني على موتي فواأسفا حتى على الموت لا أخلو من الحسدِ
وما خلا جسد من حسد، والحسد ممقوت في القلوب، قيل للحسن البصري: "أيحسد المؤمن؟ قال: ويلك، أنسيت قصة إخوان يوسف ليوسف؛ كانوا صالحين، وأتقياء، وأبوهم نبي، وأخوهم نبي، وقيل في بعض الروايات: إنهم أنبياء، وأخوهم شقيقهم، ثم حسدوه".
وهذا يقع فيه كثير من الناس، خاصة في أهل المهن، تجد أن النجار يحسد النجار، والخباز يحسد الخباز، والعالم يحسد العالم، والأديب يحسد الأديب، عدوك صاحب مهنتك.
ولذلك إذا أردت أن تبرد مزاج النجار فلا تذكر له نجارين آخرين.
كنت أنا مع بعض الشباب نبحث مع بعض العمال في مسألة، فقلنا: نريد مثلك عاملاً أميناً صدوقاً.
قال: لا تجد مثلي في الأرض عاملاً أميناً صدوقاً؛ أي: انتهت المعمورة من هذه الماركة المسجلة.
قلت: لماذا عودي ابن تيمية؟ أولاً: الحسد.
ثانياً: المعارضة لأفكاره؛ لأنه يريد أن يثبت تجديداً في الأمة، لا بد للمجدد الذي ينقم على الأمر السائد الخاطئ من أعداء.
ثالثاً: حدته الفوارة، فعقله يلتهب وفيه حدة وكان إذا تكلم ينزل على الخصم، لأنهم يقولون: هذا الذي يؤتى موهبة مثله، أحياناً يجد أنه يجب أن يسمع الناس له، ويجب أن ينصتوا له، فإذا ما أنصتوا غضب، فكان يعتريه حدة، وكان ربما يزمجر مثل الأسد، فيغضب عليه الناس فيوجد له أعداء، وهذه موجودة فيه.
رابعاً: اجتهاداته التي ينفرد بها، وذلك يغضب غضب أهل المذاهب، فيقولون: لماذا يخرج علينا؟ لا يجوز البيروسترويكا عندنا، لا بد أن نبقى على السائد، واتركنا على القديم، ويقولون: كيف تخرج؟ فيرفضونه.
خامساً: طريقته السلفية في العقيدة.
فهو يدعو إلى مذهب السلف، وهو مُنَظِّرُ مذهب السلف، ولذلك الطوائف الأخرى كلها خاطئة بجانبه، فيرى أنهم في صف وهو في صف، ولا التقاء حتى يعودوا.
سادساً: مخالفته لـ ابن عربي.
ابن عربي كان في الشام، وهو لا يزال مضرب المثل، وهو الشيخ، والقطب، والغوث، والوتد؛ فرد عليه ابن تيمية، يقول: كنت مغتراً به في شبابي فلما قرأت الفتوحات المكية وفصوص الحكم عرفت أنه مخطئ" فبدأ ابن تيمية يبين خطأه للناس، فالجماهير التي انضمت لـ ابن عربي خالفت ابن تيمية، فبقي ابن تيمية ومات ابن عربي.
سابعاً: نسبت بعض الأقوال إليه وهو بريء منها، فقد ألفت عليه كتب يقال: إنه قالها وهو بريء منها، وعلقت به بعض الأمور وهو بريء منها، فغضب عليه بعض الناس، وظنوا أن أعداءه صدقوا فيها، ولكنه كذب وخرافة، وقد ذكر أبو الحسن الندوي بعض الكتب التي نسبت إليه وهي خاطئة وليست بصحيحة.
والحقيقة أن ابن تيمية بريء من هذه الكتب المؤلفة المخالفة لمنهجه العامر مثل كتاب البحر المورود في المواثيق والعهود قال: قد ألحق بعض الحساد إلى كتابه البحر المورود في المواثيق والعهود، فهو له، لكن هناك زيادات كانت تعارض الشريعة أدخلوها في الكتاب تعارض الشريعة، وتولوا إشاعته في الجامع الأزهر وغيره، حتى نجمت في ذلك فتنة.
هذه أسباب عداء الناس لـ ابن تيمية، ولكن مهما عودي فإنه لا يزداد إلا رفعة وعظمة وجلالة، فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً.(18/20)
الأسئلة(18/21)
سيف الدولة في التاريخ
السؤال
أرجو أن تعطي لنا موجزاً عن سيف الدولة بارك الله فيك؟
الجواب
سيف الدولة ابن حمدان بطل كان فيه تشيع يسير، وكان يسكن في حلب، وقد خاض أكثر من ثلاثين معركة ضد الروم، حتى يقول المتنبي وكان شاعره الوحيد المتنبي، ولم يجتمع عند ملك ولا وزير، ولا سلطان ما اجتمع عند سيف الدولة من الشعراء؛ كان على بابه أكثر من ثمانين شاعراً، والمتفوق دائماً المتنبي شاعره الوحيد، يقول:
ألا أيها المال الذي قد أباده تعز فهذا فعله في الكتائب
ويقول له المتنبي، يحيي سيف الدولة يقول:
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
وماتت أخت سيف الدولة، فرثاها أبو الطيب المتنبي، وقال:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ فزعت منه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
ويتغاضب ويتعاتب هو والمتنبي في آخر ويحدث فصام بينهما في المجلس، بسبب أحد الوزراء وهو ابن عم سيف الدولة وهو أبو فراس الحمداني، كان ينشد المتنبي، فأخذ أبو فراس قارورة الحبر فضرب بها المتنبي على وجهه فسال الدم، فضحك سيف الدولة، يضحك من هذا المشهد، فغضب المتنبي، يقول: كيف تضحك عليَّ؟ قال:
إن كان سركمُ ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسه بأنني خير من سارت به قدم
كان يحب نفسه، وكان فيه عظمة، هذا المتنبي، وفي الأخير خرج من عند سيف الدولة وألقى عليه قصيدة يقول:
فراق ومن فارقت غير مذمم وأم ومن يممت خير ميمم
وما منزل اللذات عندي بمنزلٍ إذا لم أبجل عنده وأكرم
رمى واتقى رميي ومن دون ما اتقى هوىً كاسر كفي وقوسي وأسهمي
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه بقول عداته فأصبح في ليل من الشك مظلمٍ
ثم ذهب إلى كافور ومدحه، فجعله بدر الزمان، يقول:
لقيت المرورى والشناخيب دونه وجبت هجيراً يترك الماء صاديا
أبا كل مسكٍ لا أبا المسك وحده وكل غمام لا أخص الغواديا
ثم غضب على كافور، فجعله لا يساوي قرشين، فقال:
لا تشتر العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيدُ
إلى آخر ما قال من الكلام الذي يحاسبه الله عليه.(18/22)
كتب ابن تيمية
السؤال
اذكر لنا بعض كتب ابن تيمية؟
الجواب
كتبه الموجودة: الفتاوى، اقتضاء الصراط المستقيم، الاستقامة، الإيمان وغيرها، وابن تيمية لا يعرف بكتبه، أصبحت تعرف هي به، وهي تترجم الآن، فهناك: مركز إسلامي في بعض البلاد الغربية، يترجم كتب ابن تيمية إلى الإنجليزية.(18/23)
من أجل قوة الذاكرة
السؤال
أرجو أن تدعو لي بالذاكرة القوية؟ وبماذا توصيني؟
الجواب
قوى الله ذاكرتك، لأن المعاصي قد كثرت علينا.
أوصيك ألا تأكل البادنجان؛ ذكر بعض العلماء أن الباذنجان يفسد الذاكرة، كما قالوا، ولكن أعظمها ترك المعاصي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نورٌ ونور الله لا يهدى لعاصي
والزبيب يقوي الذاكرة، خاصة إذا كان في جيبك صباح مساء، وكان الزهري في جيبه زبيب ويأكل منه كثيراً، وخاصة الأسود هذا الذي من صعدة يجعلك ترى مصر إذا أكلت منه كيلو!(18/24)
التقيد بالمذهب الحنبلي
السؤال
مع احترامي لـ ابن تيمية ولك وللحاضرين جميعاً، ولكن:
أنا حنبليٌ ما حييت وإن أمت فوصيتي للناس أن يتحنبلوا
؟
الجواب
أسأل الله أن يحييك حنبلياً، وأن يميتك حنبلياً، وأن يحشرك في زمرة الحنابلة، وأن يدخلك الجنة مع الحنابلة.
وما هذا التحمس يا أخي! كل من عبد الله على مذهب أبي حنيفة أو الشافعي أو مالك أو أحمد، كلهم سواء، لكن كأني بك تتحمس للإسلام أمام هذا العراك الذي سوف يقع في الخليج.(18/25)
تفرد ابن تيمية بالعبقرية في العصور المتأخرة
السؤال
من ترشح أن يكون ابن تيمية هذا العصر؟
الجواب
حلف الزمان ليأتين بمثله حنثت يمينك يا زمان فكفرِ
حلف الزمان ليأتين بمثله، أي: مثل ابن تيمية، حنثت يمينك يا زمان فكفرِ؛ أي: على الزمان أن يصوم ثلاثة أيام يطعم أولاً عشرة مساكين، فإن لم يستطع فليصم ثلاثة أيام.
من ترشح أنت؟ قلت لك: من عهد ابن تيمية إلى الآن ما أتى مثله، فعليك أن تفكر شهرين إن وجدت لنا مثله أو قريباً منه أو واحداً على خمسين منه، لا يوجد.(18/26)
تكملة بيت الشعر
السؤال
أكمل هذا البيت
إقدام عمرو في سماحة حاتم؟
الجواب
إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس
لا تنكروا ضربي له من دونه مثلاً شروداً في الندى والباسِ
فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلاً من المشكاة في النبراس
وهذه الأبيات لـ أبي تمام يمدح فيها المعتصم القائد المجاهد الكبير.
هذا المعتصم كان يمد ذراعه ويقول: "أتحدى من يضرب بالسكين في الذراع" فيشد أعصابه، فتضرب السكين فكأنها تضرب في إطار سيارة، أخذ سيخا وكتب اسمه المعتصم بالسيخ، وذكر عنه المؤرخون أنه، ربط أرجله في الأرض وقفز فاقتلع الرباط، واقتلع الخيوط، وكسر ظهر البغلة.
كان عنده أربع زوجات، ومائة وخمسون جارية، وتشكو زوجاته منه عند القضاة، هذا موجود، هذا الرجل الذي هاجم عمورية دمرها عن بكرة أبيها وجعلها حيص بيص، يقول:
رمى بك الله جنبيها فحطمها ولو رمى بك غير الله لم يصبِ
تدبير معتصم بالله منتقم لله مرتقب في الله مرتغب
هذه من القصيدة التي يقول:
السيف أصدق إنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
والسبب أن امرأة قالت: وامعتصماه! ضُربت فانتفض هو بتسعين ألفاً، ودمر الروم، وجعلها أثراً بعد عين، وشكر الله سعيه، كان قائداً عسكرياً لا يعرف شيئاً من العلوم؛ ولذلك ابتدأ هو على سجن الإمام أحمد، وأعان على جلد الإمام أحمد، لا يعرف شيئاً غفر الله له! ورفع الله منزلة الإمام أحمد، جُلد الإمام أحمد حتى سال دمه.
ويقول الإمام أحمد: "والله ما خرجت من القصر حتى دعوت الله أن يغفر له" لأنه مغرر مسكين، قائد عسكري ما أخذها بعلم.(18/27)
كتاب درء التعارض
السؤال
هل يمكن التعرض لكتاب درء تعارض العقل والنقل؟
الجواب
قال ابن القيم: "ما طرق العالم مثل كتاب درء تعارض العقل والنقل "، ويكفيك هذه الكلمة.
ولكن لا يستطاع أن يقرأ للعادي من الناس، يحتاج الإنسان أن يقرأه بتكرار، أو على شيخ، أو يقرأ بعض المواطن منه؛ لأن بعض العبارات لا تفهم.(18/28)
أبيات منسوبة لابن تيمية
السؤال
هل تنسب هذه الأبيات لـ ابن تيمية:
قل للذي بصروف الدهر عيرنا هل حارب الدهر إلا من له خطرُ
ألم تر البحر تطفو فوقه جيفٌ وتستقر بأقصى قعره الدرر
وفي السماء نجوم لا عداد لها وليس يكسف إلا الشمس والقمرُ
الجواب
هذا ليس لـ ابن تيمية -حفظك الله- وإنما لشاعر من شعراء الأندلس ذكره الذهبي.(18/29)
سيد قطب
السؤال
شوقتنا عن سيد قطب، فاذكر لنا بعض أخباره؟
الجواب
رحم الله السيد، وجمعنا وإياه وابن تيمية.
بالنسبة لـ سيد قطب فيه نسبة عالية من ابن تيمية؛ كان يحمل روح الاستقلال، والشجاعة الفكرية، فلذلك ذهب إلى الله عز وجل، لكنها خاتمة كانت جميلة جد جميلة، حتى كان يتبسم على المشنقة، وأنا كررت أبيات شاعر مصر وهو يحييه، ويحيي تبسمه، ويقول:
يا شهيداً رفع الله به جبهة الحق على طول المدى
سوف تبقى في الحنايا علماً قائداً للجيل رمزاً للفدا
ما بكينا أنت قد علمتنا بسمة المؤمن في وجه الردى
.(18/30)
وفاة ابن تيمية
السؤال
هل قتل ابن تيمية في معركته مع التتار؟
الجواب
لا! ما قتل إنما مات على فراشه، لكنها ميتة من أحسن ما يكون، مات مسجوناً محبوساً، مات في قلعة دمشق، ومات مسجوناً، وكان السلطان يصطاد خارج دمشق فمات ابن تيمية لما قرأ قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر:54] فدخلوا عليه يعزونه، وقال البرزالي: ودخلت وقبلته وبكيت، وقلت:
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه وإن كان لا يرضى بـ ليلى المواليا
ثم فتحت الثكنات العسكرية، ونزل الجنود فحموا السكك، واندفع الناس كالسيول، وشيعه مليون ونصف مسلم، وخرجوا به في الصباح، وقد يقول: صلي عليه ثلاث مرات أو أربع مرات، وكلما كبر عليه إمام بكى حتى وصلوا إلى المقبرة فصلوا الصلاة الأخيرة، وختمت له عشرات الألوف في تلك الليلة من الختمات، ورئيت له مرائي عجيبة، منها: أنه رؤي أنه على ناقة من نور تطير به إلى السماء، ورؤي مرة أنه جالس على كرسي من زبرجد في وسط الجنة، فغفر الله له ورحمه.(18/31)
طموحات في الحديث عن ابن تيمية
السؤال
نريد دروساً متصلة عن ابن تيمية؟
الجواب
عسى الله أن يسهل! وأنا أريد أن يكون هناك منهج لعلم ابن تيمية في محاضرات من أجل الإخوة؛ منهجه في الدعوة والتعليم، وفي الدراسة والتدريس وهكذا.(18/32)
حكم لبس البنطلون
السؤال
ما رأيك في لبس البنطلون، خاصة الجنز؟
الجواب
لا أعرف الجنز ولكن أسمع به، لكن البنطلون إذا كان سابغاً وساتراً، فلا بأس به والحمد لله.(18/33)
العطلة وشغلها بالفائدة
السؤال
أيها الإخوة الكرام! نحن على أبواب عطلة الربيع، وأكثر أهالي هذه المنطقة يذهبون إلى المنتزهات، فما نعد للدعاة والعلماء في هذه المنطقة؟
الجواب
نعد لهم أن نوصيهم بتقوى الله عز وجل، وليت ابن تيمية حياً يزورهم مرة في الأسبوع.(18/34)
أسباب تفوق ابن تيمية
السؤال
هل كان علم ابن تيمية هذا ناتجاً عن كثرة قراءته للكتب؟
الجواب
أولاً: ذكاء من الله متوقد في ذهنه، أعطاه الله موهبة وعبقرية فياضة.
الأمر الثاني: كان متصلاً بالله: قبل أن يقرأ الكتاب يستغفر الله ما يقارب ألف مرة، ثم يفتح الكتاب.
ثالثاً: كان كثير القراءة، يقول: ربما يطالع في الآية الواحدة أكثر من مائة تفسير، ولا يوافق المفسرين المائة، ويأتي هو بمعنىً من عنده.(18/35)
الكتب التي ترجمت لابن تيمية
السؤال
ما هي الكتب التي تتحدث عن ابن تيمية؟
الجواب
المواهب العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية للبزار والعقود الدرية لـ ابن عبد الهادي من تلاميذ شيخ الإسلام، والحافظ أحمد بن تيمية لـ أبي الحسن الندوي وابن تيمية لـ أبي الأعلى المودودي وابن تيمية لـ إبراهيم الشيباني، وكتب كثيرة كثيرة يقولون: ألف عنه أكثر من 80 رسالة، وبعض الرسائل من الدكتوراة.(18/36)
جنكيز خان
السؤال
يقول نريد نبذة عن حياة جنكيز خان؟
الجواب
هو قائد التتار الذين دمروا العالم الإسلامي؛ ملك ظالم ضليل، يقال: لا يوجد أفتك منه ولا أسفك منه، ولا يعرف الخوف.
ولا أعرف أنه أسلم، يقولون: إن ابنه أسلم، وإسلامه وجهه مثل قفاه، يقولون: كان مسلماً ويشرب الخمر.(18/37)
محاضرات عن عثمان وعلي
السؤال
ونريد محاضرة عن أبي الحسن علي بن أبي طالب وعثمان؟
الجواب
صدقت، لأننا تكلمنا عن أبي بكر وعمر، وبقي الاثنان، وهما لا بد أن يلحقا بالركب لأنهم في سفينة واحدة.(18/38)
تلامذة ابن تيمية
السؤال
نريد أن تذكر لنا تلاميذ ابن تيمية؟
الجواب
أشهر تلاميذه، ومن أصحابه، وممن تتلمذ عليه:
ابن القيم، وابن كثير وابن عبد الهادي.
هؤلاء الثلاثة هم البارزون في مدرسة ابن تيمية.(18/39)
أفضل كتب ابن تيمية
السؤال
ما هي أفضل الكتب لـ ابن تيمية؟
الجواب
المجلد العاشر والحادي عشر من فتاويه واقتضاء الصراط المستقيم من أعجب كتبه، والاستقامة.(18/40)
أسئلة متفرقة
السؤال
أنا أريد أن تتكلم عن الواقع، وعن قضايانا وقضايا المجتمع، وتؤجل السير التي تقولها حتى يصفو الجو؟
الجواب
وهل هذا إلا من السير، نريد أن نتكلم عن القديم وعن الحديث، وما أظنه -إن شاء الله- إلا كلاماً في الواقع.
السؤال
ما رأيكم في كتاب الدرر البهية؟
الجواب
كتاب جيد، وهو للشوكاني -رحمه الله وأثابه- من أحسن ما كتب.
السؤال: كم عمر ابن تيمية لما توفي؟
الجواب: ثلاث وستون سنة، كعمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما أنا كنت أظن أنه ولد عام (666هـ) وتوفي عام (728هـ) وعليكم الحساب.
السؤال: ما اسم الكتاب الذي بين يديك؟
الجواب: ابن تيمية لـ أبي الحسن الندوي، حفظكم الله.
السؤال: ما هو دور الشباب في تغيير المنكرات؟
الجواب: أن يغيروا بألسنتهم وأن يتقوا الله، لا يروا منكراً إلا وينكرونه.
السؤال: ما الصواب في تفسير قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107]؟
الجواب: الجنة خلود بلا موت، والنار كذلك خلود.
ونسأل الله أن يحفظنا وإياكم، وأن يثيبنا وإياكم، ويتولانا وإياكم.
وشكراً لـ ابن تيمية، وشكراً لكم، وجمعنا الله وإياكم مع ابن تيمية في دار النعيم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(18/41)
اسمع يا تاريخ!
إن هذه المحاضرة تتحدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وليست ترجمة له فهو أعظم من أن يترجم له مترجم، وليست مدحاً له فهو أرفع من مدح البشر، فقد مدحه الله وزكاه وشرفه وأعلى قدره، وليست سرداً لتأريخه فالمجلدات والمؤلفات لا تفي بجزئية من جزئيات حياته.
ولكنها فيض من خاطر، وهمسة من فؤاد!
إنها تعبير عن إعجاب مسلم بإمامه وزعيمه وأستاذه صلى الله عليه وسلم.(19/1)
صفات القائد الأعظم عليه الصلاة والسلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين, وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيها الكرام البررة:
عنوان هذه المحاضرة: (اسمع يا تاريخ) إنها تتحدث عن الرسول عليه الصلاة والسلام؛ إنها وثيقة أهديها لكم أيها العباد البررة الأخيار, يا طلبة العلم؛ يا حفظة لا إله إلا الله؛ يا أتباع محمد عليه الصلاة والسلام.
إنها ليست ترجمة له صلى الله عليه وسلم، فهو أعظم من أن يترجم له مثلي, وأنا أقول كما قال شوقي -الشاعر المشهور- لما أتى ليمدح الرسول عليه الصلاة والسلام:
أبا الزهراء قد جاوزت قدري بمدحك غير أن لي انتسابا
وليست مدحاً له عليه الصلاة والسلام، فهو أرفع من المدح، فالله هو الذي مدحه، وزكاه وطهره، وشرفه وأعلى قدره, وليست هذه الوثيقة تاريخاً أو سرداً لتاريخه, فالمجلدات والمؤلفات والندوات والمحاضرات كلها لا تفي بجزئية من حياته عليه الصلاة والسلام.
ماذا يقول الواصفون له وصفاته جلت عن الحصر
ولكن هي فيض من خاطر, وقطرة من قلم, وهمسة من فؤاد, إنها تعبير لغربة المسلم أمام إمامه وعظيمه وزعيمه وأستاذه وشيخه عليه الصلاة والسلام, الله يقول له من فوق سبع سموات: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
وأريد بهذه المحاضرة "اسمع يا تاريخ" أن يسمع سامع, أو يعي واعٍ, أو يستفيق نائم عما يجب عليه نحو الرسول عليه الصلاة والسلام.
يقول بعض العلماء لما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] لم يقل: للناس فيخرج الحيوانات, ولم يقل: للمؤمنين فيخرج الكفار, ولم يقل: رحمة للكبار فيخرج الصغار, ولم يقل: للصغار فيخرج الكبار؛ بل قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ولكن يعيش عليه الصلاة والسلام معنا دائماً وأبداً، في مشاعرنا وآمالنا وطموحاتنا, يعيش معنا في بسماتنا وفي دموعنا؛ وفي عيوننا وفي أسماعنا، وفي أبصارنا وفي قلوبنا, يعيش معنا دائماً ونحن نراه دائماً، قدوة وأسوة وإماماً ومعلماً, وأباً ومرشداً, وقائداً وأستاذاً, يعيش معنا وقد أحببناه فعاش في ضمائرنا عظيماً, وفي قلوبنا رحيماً, وفي عيوننا آمراً وناهياً, وفي آذننا مبشراً ومنذراً، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب:45 - 46].
أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا وأنت لنا التاريخ أنت المحرر
تذوب شخوص الناس في كل لحظة وفي كل يوم أنت في القلب تكبر
كلما كثرت الصحوة، وكلما انتشر الصلاح، وكلما أذن المؤذنون، وكلما أفطر الصائمون، وكلما سجد المصلون، وكلما أحرم الحجاج والمعتمرون.
ذكرنا محمداً عليه الصلاة والسلام.
كلما ارتفعت السبابة تقول: لا إله إلا الله, وكلما استغفر المستغفر، وكلما تاب التائب، وكلما عاد المنيب إلى الله؛ ذكرنا محمداً عليه الصلاة والسلام.
ويكرر القرآن ذكر هذا الرجل عليه الصلاة والسلام, الذي هو رجل يأكل ويشرب، وينام ويستيقظ, رجل لكن لا كالرجال, رجل ولكنه يحمل هموم الرجال وعظمة الرجال كل الرجال, وإنسان ولكن لا كالناس, إنسان يجمع مناقب الإنسانية، يتحدث عنه القرآن، فإذا هو الخلوق القريب من القلوب: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
من الذي زكاه؟ من الذي مدحه وأعلاه؟ الله الذي مدحه زين -كما يقول عليه الصلاة والسلام- وذمه شين.
أتاه وفد بني تميم فطرقوا عليه الباب فقالوا: {اخرج إلينا يا محمد، فإن مدحنا زين وذمنا شين, قال عليه الصلاة والسلام: ذاك هو الله الذي مدحه زين وذمه شين} , ويذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالى رحمة رسوله, وشفقة مبعوثه وحنانه, فيقول عنه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] وإذا هو اللين السهل الميسر قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] أي: كنت قريباً تعيش في القلوب، وتعيش في الأرواح, يحبك الناس جميعاً: أهل الجزيرة، وأهل العراق، وأهل اليمن، وأهل السودان، وأهل المغرب، والعجم يوم يسلمون، والشقر يوم يؤمنون، والحمر يوم يهتدون, كلهم يحبونك لأنك إمامهم.(19/2)
الإمام القدوة عليه الصلاة والسلام
إنه الإمام الذي على الأمة كل الأمة أن تذعن لإمامته في الصلاة وفي الحياة وفي التربية وفي الأخلاق وفي الاقتصاد وفي علم النفس وفي العسكرية وفي السلم وفي الحرب قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
أما الذي لا يرجو الله فليس إمامه محمداً عليه الصلاة والسلام, أما الرعديد، والجبان، والمطبل، والسكير، والمنحرف، والضال، والغاوي، فليبحث له عن إمام غير محمد عليه الصلاة والسلام؛ ليبحث له عن الشيطان وعن فرعون، وعن هامان، وعن قارون، ولا يأتِ لطريق محمد عليه الصلاة والسلام.
هل يحق لنا شرعاً وعقلاً أن نبحث عن غيره؟ لا.
لن نبحث عن غيره, هل لنا أن نبحث عن سواه؟ لا.
لن نبحث عن سواه, حرام حرام حرام أن نتجه إلى غيره فنجعله إماماً, وحرام أن نبحث عن سواه ونجعله قدوة.
هذا الرسول -عليه الصلاة والسلام- يعيش لحظات الحياة، ودقائق الزمن، وثواني التاريخ, يعيش بما يجب أن يعاش, في الصلاة خاشع قانت أواب منيب، قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79] يقول المفسرون: يا محمد صلِّ بالقرآن في الليل، واخشع في صلاة الليل، فإن الله سوف يبعثك يوم القيامة مثلما قمت في الليل، سوف يبعثك مقاماً محموداً.
ماهو المقام المحمود؟
المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون حتى الملائكة, المقام المحمود يوم يجمع الله الأولين والآخرين، والجن والإنس، والكبار والصغار، والأغنياء والفقراء، والملوك والمملوكين، غرلاً بهماً جرداً حفاةً, فينتظرون الله متى يفصل بينهم في القضاء.
واستشفع الناس بأهل العزم في إراحة العباد من ذا الموقف
وليس فيهم من رسولٍ نالها حتى يقول المصطفى أنا لها
عليه الصلاة والسلام.
{يأتون إلى آدم يقولون: اشفع لنا إلى الله ليحكم بيننا في هذا اليوم -يوم الفصل- فيقول: نفسي نفسي -فلا يستطيع، الأمر أعظم من أن يشفع فيه- فيأتون إبراهيم فيقول: نفسي نفسي ويعتذر موسى ويعتذر عيسى فيأتون الرسول عليه الصلاة والسلام -فيتخطى الصفوف، ويتقدم التاريخ، ويقف أمام الأجيال، وينحني تحت العرش- ويقول: أنا لها أنا لها ويسجد أمام رب العالمين, ويثني على الله، ويبكي ويسأل, ويدعو ويتضرع, فيقول الله له: ارفع رأسك, وسل تعط, واشفع تُشفَّع، فيسأل الله أن يفصل بين الناس, فيفصل الله بين الناس} يقول الله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79] أي: زيادة في أجرك وأما ذنبك فمغفور, وعيبك مستور, وسعيك مبرور, قال الله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} [الفتح:2 - 3] نصراً سمعه التاريخ، وأذعنت له البشرية, أتظن أنه نصر على المدينة، أو مكة، أو الحجاز؟ لا.
نصر دخل به إلى إشبيليا وقرطبة ونهر اللوار وسيبيريا والجنج والهند والسند.(19/3)
شجاعته صلى الله عليه وسلم
ويأتي -عليه الصلاة والسلام- في الجهاد، فإذا هو الشجاع المبارز والمقدام الصنديد, قال الله: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84] أنت لا تفر إذا فر الأبطال، فلا تهرب من المعركة إذا تأخر الشجعان، فحرام عليك أن تتأخر, يقول علي -رضي الله عنه وأرضاه-: [[كنا إذا اشتد الهول وحمي الوطيس في المعركة، واحمرت الحدق -أي: العيون- كنا نتقي برسول الله عليه الصلاة والسلام فيكون أقربنا إلى القوم]].
أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة أدبت فيها هول الردى أبطالها
وإذا وعدت وفيت فيما قلته لا من يكذب فعلها أقوالها
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
وقف عليه الصلاة والسلام في أكثر من عشرين معركة بالسيف والموت حوله, والاغتيالات تدبر له صباح مساء؛ تعرض لأكثر من إحدى عشرة محاولة اغتيال باءت بالفشل, الخناجر حوله, والسيوف والرماح، والله يقول له: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] يخاف يقول: يا ربِ! هوْل, قال: الله يعصمك من الناس, يا ربِ! مَوت, قال: الله يعصمك من الناس, يا ربِ! الأعداء كُثُر حولي, قال: الله يعصمك من الناس.
وإذا العناية لاحظتك عيونها تلقى الحوادث كلهن أمان
هكذا كان عليه الصلاة والسلام، يدخل الغار والموت حول الغار, يطوق بخمسين شاباً، كل شاب منهم يساوي جيشاً فتاكاً في القوة والشجاعة, فيلتفت ويخاف أبو بكر، فيقول كما قال تعالى: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40].
أبداً
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
هزم عشرة آلاف من غطفان, ووقف يتبسم والكتائب تمر من بين يديه، وهم يلقون السيوف بين يديه يستسلمون، ويقيدون بالسلاسل مهزومين.
نثرتهم فوق الأحيدب نثرة كما نثرت فوق العروس الدراهم(19/4)
جوده وكرمه صلى الله عليه وسلم
هذا محمد عليه الصلاة والسلام, يعيش -صلى الله عليه وسلم- كريماً معطاءً باذلاً منفقاً, يسألونه كل شيء، فلا يقول: لا.
حتى ثوبه الذي على جنبه، ففي صحيح البخاري من حديث سهل بن سعد: {أن امرأة أتت إليه عليه الصلاة والسلام -أو رجلاً- فسأله ثوبه فأعطاه} لا يعرف لا, إلا في لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
يقول جابر في مسند أحمد بسند جيد: {أتى أعرابي إليه عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! أعطني مالاً, فقال: لا.
وأستغفر الله} , لم يكن عنده مال, يقول: أستغفر الله من كلمة لا, إنه ينفق ليل نهار.
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: {كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس} هذا عموم لا خصوص له, أجود الناس, ما ولدت أنثى من وقت آدم إلى قيام الساعة أجود من محمد عليه الصلاة والسلام, {كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن, فلرسول الله عليه الصلاة والسلام أجود بالخير من الريح المرسلة}.
يقولون معنٌ لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذله
هو البحر من أي النواحي أتيته فدرته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله(19/5)
صبره على الشدائد صلى الله عليه وسلم وتواضعه الجمّ
ويعيش عليه الصلاة والسلام في الفقر صبوراً متماسكاً محتسباً, عاش فترة من حياته فقيراً, لا يجد كسرة الخبز من البر, يبحث عن التمر فلا يجد التمر, يأتيه الملك من السماء بمفاتيح كنوز الدنيا فيقول: {أتريد أن أحول لك -بإذن الله- الجبال ذهباً وفضة؟ قال: لا.
بل أجوع يوماً وأشبع يوماً حتى ألقى الله} يعيش فقيراً، لا يجد فِراشاً حتى يثنيه ثنيتين، ثنية واحدة, ينام على الخصف فيؤثر في جنبه, يدخل عليه عمر ورضي الله عن عمر , فيجد سعف النخل قد أثر في جنب المصطفى الشريف عليه الصلاة والسلام, فيبكي عمر، وتسيل دموعه ويهتز، فيقول له عليه الصلاة والسلام: {ما لك يا عمر؟ قال: يا رسول الله! كسرى وقيصر؛ ملوك فارس والروم؛ وهم أعداء الله، يعيشون في ذهب وفضة؛ وحرير وديباج؛ وأنت حبيب الله تعيش في هذه الحالة؟! -فماذا يجيبه عليه الصلاة والسلام- يقول: يـ ابن الخطاب! أفي شك أنت؟ أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ قال: بلى}.
كفاك عن كل قصر شاهق عمد بيت من الطين أو كهف من العلم
تبني الفضائل أبراجاً مشيدة نصب الخيام التي من أروع الخيم
إذا ملوك الورى صفوا موائدهم على شهي من الأكلات والأدم
صففت مائدة للروح مطعمها هدي من الوحي أو عذب من الكلم
عليه الصلاة والسلام في الرقة والرحمة، صاحب الدمعة الحانية, والشفقة البالغة, يرى العجوز المسن فتدمع عيناه عليه الصلاة والسلام, يرى الشيخ الكبير، فيحترمه ويوقره ويقف معه, يرى الطفل فيحمله ويضمه ويشمه ويقبله ويمازحه ويمسح رأسه عليه الصلاة والسلام.
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] توقفه امرأة عجوز في طريق من طرق المدينة في حرارة الشمس فيقف معها ساعة كاملة, يقف معها حتى تنتهي وهو إمام العالمين.(19/6)
دعوته صلى الله عليه وسلم ونشره للإسلام
وهو عليه الصلاة والسلام الإنسان الذي أتى إلى الأمة الضعيفة المسلوبة المنهوبة المظلومة, فرفع رأسها بين الرءوس, وبنى منبرها بين المنابر, بل أعلى منارتها على كل المنارات.
من هي الأمة العربية؟! من نحن قبل البعثة المحمدية؟! من نحن يا عرب؟! يا عروبة! من نحن قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام؟! كنا رعاة غنم, لا مجد.
لا تاريخ.
لا حضارة.
لا ثقافة.
لا معرفة.
الهند لهم حضارة, اليونان لهم ثقافة, والصينيون لهم تاريخ, أما نحن فرعاة إبل وبقر وغنم.
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
فأخرجنا من الجزيرة العربية لا أنهار.
لا حدائق.
لا بساتين.
أخرجنا بلا إله إلا الله؛ لنسكن على ضفاف دجلة والفرات , وفي مصر أرض الكنانة، أرض النيل , وفي الشام أرض الخضروات والفواكه والغوطة، وما أدراك ما الغوطة؟! وفي صنعاء اليمن أرض البن وأرض الزهراوات وأرض الورود, وفي إشبيليا وقرطبة، وفي الزيتونة وقرطاجة , وفي السند وتركستان , وفي طاشقند وفي كل البلاد أسكننا هناك بلا إله إلا الله.
أتى عليه الصلاة والسلام والله يقول لنا: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] كانوا في ضلال ما بعده ضلال, أتى إليها عليه الصلاة والسلام، إلى هذه الأمة وهي ترعى إبلها وبقرها وغنمها في الصحراء القاحلة, صحراء الجوع والظمأ واليأس, فأخرجها بلا إله إلا الله إلى الدنيا وأسمعها بلا إله إلا الله مشارق الدنيا.
أخرج عليه الصلاة والسلام هذه الأمة بلا إله إلا الله من النهب والسلب والتشريد والفتك, إلى الإخاء والحب والوئام والصفاء.
وهدمت دين الشرك يا علم الهدى ورفعت دينك فاستقام هناكا
كيف ترقى رقيك الأنبياء يا سماء ما طاولتها سماء
إنما مثل صفاتك للنا س كمثل النجوم للماء
كانت هذه الأمة أجدادنا يا عرب.
أمة تأكل الميتة, وتعاقر الخمر, وتعبد الصنم, وتطوف بالأوثان, فجعلها بلا إله إلا الله أمة تخطب في الحرمين , والأزهر , بنينا الأزهر عمره ألف سنة, وخطبنا من على الأزهر، وتكلمنا من على منبره.
والزيتونة! دخل أجدادنا تونس والزيتونة فبنوا جامعة الزيتونة , ودخلوا قرطبة في الأندلس , والأموي في دمشق , وصلَّوا في كابل وفي جامع صنعاء وصحراء سيبيريا وفي بغداد , وفي كل شبر من أشبار الدنيا التي ذكرت الله, قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103].(19/7)
معيشة الرسول صلى الله عليه وسلم بيننا بسنته
يعيش معنا عليه الصلاة والسلام, يعيش معنا بعد خمسة عشر قرناً من وفاته, فكأنه بين أظهرنا الآن, نصلي فنتذكر قوله: {صلوا كما رأيتموني أصلي} نحج البيت العتيق فإذا هو يقول لنا: {خذوا عني مناسككم} ونأكل ونشرب, ونستيقظ وننام فهو يقول لنا: {من رغب عن سنتي فليس مني} نبدأ الطعام فإذا هو يقول: {قل باسم الله} وننتهي من الطعام فإذا هو يقول: {قل الحمد لله} , لباسنا على سنته, ومشينا على هديه, وجلوسنا على منهجه.
علمنا التوحيد بعد خيبة الشرك, كان الناس في خيبة ما بعدها خيبة, علمنا التوحيد بعد خيبة الوثنية ورجس الشرك, وعلمنا الحرية بعد ذل العبودية والتبعية لكسرى وقيصر, وعلمنا النبل والشرف والعزة.
إنه يتحدث عن دقائق حياتنا وسلوكنا، يتحدث إليك عن لحيتك وشاربك, يقول: اعف لحيتك وقص شاربك، ويتحدث لك عن أظفارك ويطلب منك أن تقلمها, ويتحدث لك عن غسلك من الجنابة، ويوجب عليك أن تغتسل بعد كل جنابة, ويسن لك أن تغتسل للجمعة, يتحدث لك عن ثوبك ما لونه.
؟ ما طوله.
؟ السنة عدم الإسبال، لا تلبس ذهباً ولا حريراً, يتحدث لك عن السواك وعن الطيب، وعن الجلوس والمشي, فإذا هو معك دائماً.
تأخرت عن وعد الهوى يا حبيبنا وما كنت عن وعد الهوى تتأخر
ظمئنا وفكرنا وشابت دموعنا وشاخت ليالينا وما كنت تحضر
أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا وأنت لنا التاريخ أنت المحرر(19/8)
الرسول صلى الله عليه وسلم يعيش أطوار الحياة
إنه عليه الصلاة والسلام يعيش أطوار الحياة, وأيام العمر في الأعمال والمهن, تاجر عليه الصلاة والسلام بالمال, باع واشترى, رعى الغنم ورعى الأمم, حلب الشاة، وخصف النعل، ورقع الثوب, اغتنى فشكر, وافتقر فصبر, حارب فكان الشجاع الذي يرهبه الأبطال, وتنهزم أمامه الجيوش, وسالم وكان الوفي الملتزم بالمعاهدات, سافر وأقام, مرض وصح, سقم وشفي عليه الصلاة والسلام, بكى وضحك, ليكون لك قدوة في هذه المراحل جميعاً.
لبس الجديد إظهاراً للنعمة وإغاظة للباطل, ونحن نلبس الجديد لنقول لله بلسان الحال: لك الحمد يا من ألبسني الجديد, نلبس الجديد لنظهر روعة الإسلام, وجماله, وعظمته, واقتداءً برسولنا عليه الصلاة والسلام, نلبس الجديد لنقول للناس: قد أنعم الله علينا فله الحمد وله الشكر, ولبس عليه الصلاة والسلام البالي تواضعاً للباري, لبس الصوف القديم البالي ليظهر أنه عبد مسكين, يجلس مع الفقراء والمساكين, ويحب الأيتام, ويزور الأرامل, ويقف مع العجائز, ويأخذ بألباب وعقول الناس قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
ذاك هو محمد عليه الصلاة والسلام ربَّى الأطفال وضاحكهم, ومازح الأهل وسامرهم, في الصلاة الفريضة كما في الصحيحين يأخذ عليه الصلاة والسلام أمامة بنت بنته زينب وهي طفلة, فيحملها في الصلاة ويصلي بالناس، وهو بالفريضة والطفلة على كتفه, فإذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها, لماذا؟ لأنه أبو الأطفال, ويأتي وهو ساجد فيأتي الحسن فيرتقي على ظهره, والحسن عمره ثلاث سنوات أو أربع, فلا يرفع رأسه من السجود حتى ينزل الحسن , فلما سلَّم عليه الصلاة والسلام، يلتفت للناس ويقول: {لعلي أطلت عليكم إن ابني هذا ارتحلني -أي: صعد على ظهري- وخشيت أن أؤذيه فمكثت حتى نزل} , أيُّ خلق.
؟!
ويخطب عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة, فيأتي الحسن وعمره أربع سنوات، فيتخطى في ثوبه، ويقع مرة ويقوم مرة, فينزل عليه الصلاة والسلام ويترك الخطبة، ويحمل الحسن ويجلسه معه على المنبر، ويضع يده الشريفة على رأس الحسن ابن بنته فاطمة , ويقول: {إن ابني هذا سيد, وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين} وبالفعل يصبح الحسن سيداً ويصلح الله به بعد أربعين سنة أو خمسين بين أهل الشام وأهل العراق في الواقعة المشهورة, فيحقن الدماء ويضع الحرب والحمد لله.
ويأتي عليه الصلاة والسلام مكرماً للضيوف يتحفهم ويسامرهم, ويقطع لهم اللحم, ويبشُّ في وجوههم ويعانقهم.(19/9)
المعجزة الكبرى
قاد الأمة فكانت قيادته دستوراً للقادة, ومنهجاً للزعماء, ووثيقة للساسة, يا زمن! يا تاريخ! يا أرض! يا دهر! إن أعظم نبأٍ هز العالم، هو نبأ هذا الرسول عليه الصلاة والسلام, ليست المعجزة في اكتشاف القنبلة الذرية, ولا الهيدروجينية, ولا الصعود على سطح القمر, ولا حرب النجوم, ولا مادة من المواد، لا.
إن المعجزة هي مبعثه عليه الصلاة والسلام, وليست المعجزة اكتشاف أمريكا , وليست المعجزة أن تُرى النار تحت البحر, ولا أن تفجر من المادة مادة أخرى, ولا أن يحول من الحديد ذهباً بالكيمياء، لا.
المعجزة مبعثه عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] مال العالم يتساءل؟ لماذا يسهر العالم ويتساءل؟ ما هو الحدث الذي فض الدنيا؟ ورضخ برأس المعمورة؟ ودوّخ أذن العالم؟ ما هو الخبر؟ محمد عليه الصلاة والسلام {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1 - 2] ولم يسمِ الله النبأ لأنه أعظم من أن يسمى {عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ:2 - 3] اختلاف العالم في مبعثه دليل على عظمته, يقول العقاد: إذا اختلف الناس في رجل بين مادح وقادح؛ فاعلم أنه عظيم.
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
فمحمد عليه الصلاة والسلام نام, ولكن العالم ما نام, انشغل العالم يوم بعث عليه الصلاة والسلام, فالكرة الأرضية مشغولة كلها بمبعثه وهو نائم في مكة , كيف؟ لما بعث أرسل الله الشهب من النجوم ترمي الشياطين, كما قال تعالى: {دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات:9] وقال: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات:6 - 9].
كانوا قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام يتسمعون، وكانوا يسمعون الوحي, وكان يصعد الشيطان على رأس الشيطان حتى يصلون إلى السماء، فيستمعون كلام السماء, فلما بعث لأول يوم حرس الله السماء, ممنوع الاستماع كما قال جل وعلا: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:212] وما ينبغي لهم ولا يستطيعون, الشياطين أتوا يستمعون بعد مبعثه؛ فإذا النجوم تتهاوى بالقذائف عليهم وبقنابل الراجمات فتحرق الشيطان فيصبح رماداً, فيعود بعض الجن لبعضهم كما قال تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} [الجن:8] يقول بعضهم لبعض: لا سبيل لكم من السماء انتهى, حدث في الأمر خبر, أتى في الدنيا عجب نزل في الدنيا كيان لا نعلم {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} يقول: اقتربنا من السماء {فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} [الجن:8] قال ابن عباس: [[ما بقي على نجم إلا وعليه ملك يرمي بالنجم الشيطان]] الفلك كل الفلك أصبح محفوظاً بمبعثه عليه الصلاة والسلام, فرجع الشياطين يتحدثون عن رسالته ويقولون: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} [الجن:1] يقول سيد قطب: عجباً حتى الجن يتذوقون القرآن! حتى الجن يعيشون مع القرآن! حتى الجن يعرفون بلاغة القرآن! نعم.
{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] انتهى.
وأتى عليه الصلاة والسلام يتحدث للإنسانية، فإذا الجن يلحقونه من وادٍ إلى وادٍ.
قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:29] كان في وادي نخلة بين مكة والمدينة يصلي في الليل، فصرف الله له جناً من نصيبين من اليمن؛ ليسمعوا القرآن فسمعوا القرآن, اسمع إلى تعبير القرآن، واسمع إلى روعته وعظمته، قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف:29] يقول شيخهم خنزر هذا شيخ القافلة، وأستاذ هؤلاء الطلاب الذين أتى بهم من اليمن لما وصل قال: أنصتوا قال تعالى: {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] انتهى فولوا منذرين إلى قومهم وعادوا!(19/10)
الجنة من طريق محمد عليه الصلاة والسلام
بعث عليه الصلاة والسلام للثقلين, للجن والإنس, وقال كما في صحيح مسلم: {والذي نفسي بيده! لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار}.
أيها القارات الخمس أو الست اسمعي إلى محمد عليه الصلاة والسلام يقول: من لم يؤمن به؛ لن يدخل الجنة أبداً, ولن يجد النعيم ولا السعادة, مهما كان تخصصه وعقله, ومهما كانت مهارته وذكاؤه ونبوغه, مهندساً كان أو عالماً, طبيباً أو جيلوجياً, سياسياً أو اقتصادياً, أديباً أو فناناً, حرام عليه الجنة إلا من طريق محمد عليه الصلاة والسلام.
اسمع يا عالم! أيها العالم! إن محمداً عليه الصلاة والسلام يعلن إعلاناً للناس، أنه لن يدخل الجنة أحد إلا من طريقه, قال ابن تيمية: من اعتقد أنه يهتدي بهدىً غير هدى الله الذي أرسل به محمدا ًعليه الصلاة والسلام؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
كل أرض لا تشرق عليها شمس الرسالة، فهي أرض ملعونة, وكل قلب لا يرى نور هذا الدين، فهو مغضوب عليه.
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل لم يهده الهاديان السمع والبصر
كان عليه الصلاة والسلام يعيش هذه الأحداث جميعاً, تتساقط عروش الأكاسرة والقياصرة والشاهنشاه والباباوات في مبعثه, لما بعث ألغى بمبعثه إمبراطورية كسرى وقيصر, ما عنده دبابات! ولا صواريخ! ولا جيوش كجيوش كسرى وقيصر جرارة, أتى في المدينة ببردته, نزل هكذا للعالم فتكلم فاهتدى الصحابة ثم قال: هيا على اسم الله اركبي يا خيل الله.
فدخلوا على أولئك الظلمة الفجرة فتساقطت عروشهم كما قال تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45] وقال: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81].
أيها الإنسان يا بن آدم إن سعادتك رهن باتباعه عليه الصلاة والسلام, إن أبواب الجنة بعد مبعثه أوصدت وغلقت, فلا تفتح إلا لأتباعه على دينه, وأنصاره في دعوته, ومحبيه في مبادئه.
يا قومي إن محمداً عليه الصلاة والسلام سيعيش معكم بسنته إذا أردتم أنتم أن يعيش معكم, سوف تجدونه يتحدث إليكم في جلساتكم متى ما أردتم أن يتحدث إليكم.
نسينا في ودادك كل غالٍ فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرفاً نلام وما علينا
ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا(19/11)
الرسول صلى الله عليه وسلم يعيش معنا
يا مسلم! يا مؤمن! يا عبد الله! إن باستطاعتك أن تجعل الرسول عليه الصلاة والسلام يعيش معك دائماً, في الطائرة, في السيارة, على ظهر السفينة, في البيت, في الحديقة, في السوق, في الدكان, في المكتب, في الفصل, بماذا؟! بذكره, بالصلاة عليه, باتباع سنته صلى الله عليه وسلم, بالعيش معه, باقتداء أثره, تعيش معه وأنت تسمع لسيرته في الشريط الإسلامي, وتقرأ سيرته في الكتاب الإسلامي, وتقرأ عظمته في القرآن العظيم.
تعيش معه وأنت فقير, لأنه سيد الفقراء, إذا عضك الفقر بنابيه، وجثم عليك بركبتيه، فتذكر الفقير الأول محمداً عليه الصلاة والسلام.
إذا لم تجد ثوباً للعيد تكتسيه أو ثوباً للمناسبات، فاعلم أن محمداً عليه الصلاة والسلام لم يجد ثوباً في بعض المناسبات.
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بؤسها
إذا لم تجد وجبة شهية تأكلها ونمت جائعاً, فاعلم أنه عليه الصلاة والسلام نام عشرات الليالي بلا طعام, بل أخذ الحجر وربطه على بطنه من الجوع.
إذا سهرت من الحمى، وأضناك المرض، وطارحت النجم، وشكوت برحاءك على الله، وسامرت الكوكب, فاعلم أنه عليه الصلاة والسلام قد حمَّ ومرض وعاش المرض والحمى عشرات الليالي.
إذا اغتنيت ورأيت المال معك والصحة؛ والفلل والقصور؛ والأبناء والأولاد؛ والسيارات فاشكر الله, واعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم اغتنى وجمع الأموال؛ فكان شاكراً لله مخبتاً منفقاً متصدقاً.
إذا انتصرت على الباطل, فلا يجمح بك الهوى، ولا تعجبك نفسك, فقد انتصر عليه الصلاة والسلام فخضع رأسه لله ودمعت عيناه.
إذا غُلِبت في الجولات فعليك بالسكينة والصبر, واعلم أنه عليه الصلاة والسلام غلب فسكن وصبر لله عبودية.
إذا مات ابنك فاحتسبه عند الله, فقد احتسب عليه الصلاة والسلام ابنه إبراهيم أحب الأبناء إليه وعمره سنتان، يودعه عليه الصلاة والسلام ودموعه تراق على خده.
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
فيقول لابنه إبراهيم: {تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون}.
هذا هو الرسول عليه الصلاة والسلام، سيعيش معكم ما أردتم أن يعيش معكم, وسوف يحرم الإنسان العيش معه عليه الصلاة والسلام يوم يغلق بابه عن دخول سنة محمد عليه الصلاة والسلام, يوم يقول للمصحف: اخرج من بيتي! ويضع مكانه المجلة الخليعة! يوم يخرج الشريط الإسلامي المفيد النافع، ويأتي بشريط الغناء الآثم المجرم! سوف يخرج سنة محمد عليه الصلاة والسلام, وسوف يخرج محمداً عليه الصلاة والسلام من بيته, يوم يترك الحلال من الطعام، ويأكل الربا والحرام, ويوم يتخلف عن الصلوات الخمس, ويوم يهاجم السنة في ملبسه ومظهره ومجلسه وممشاه, معنى ذلك أنه يقول للرسول عليه الصلاة والسلام: أنا لا أقبل سنتك! وأنا لا أذعن لمنهجك! وأنا لا أتبع خطاك! وأنا لا أسير على مبادئك!(19/12)
معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم
إن محمداً عليه الصلاة والسلام عالم من المعجزات, الجذع.
الاستسقاء.
القمر.
الطعام، هذا موجز فما هو التفصيل؟! ما معنى الجذع؟ وما معنى الاستسقاء؟ وما معنى القمر؟ وما معنى الطعام؟(19/13)
بكاء الجذع حنيناً للرسول صلى الله عليه وسلم
معنى الجذع -وقد تكرر ولكن لا بأس- إنه الجذع الذي خطب عليه الصلاة والسلام عليه من نخلة, جذع نخلة كان يخطب عليها, فصنعوا له منبراً وترك ذاك الجذع في طرف المسجد, فحنّ الجذع له عليه الصلاة والسلام وبكى الجذع وهو من خشب, وسمع الناس بكاء الجذع, كأنه العشار أو صوت الأطفال, ونزل عليه الصلاة والسلام ووضع يده على الجذع يسمي ويبرك ويدعو حتى سكت الجذع, لماذا تبكي يا جذع؟ أبكي لمحمد عليه الصلاة والسلام, لماذا تحن؟ أحن إلى سنته, على ماذا تتلهف؟ أتلهف على منهجه وكلامه ومبادئه, هذا من خشب فأين الأجسام؟! وأين العيون؟! وأين القلوب؟! وأين الأبصار؟!(19/14)
معجزة الاستسقاء
أما الاستسقاء فيقف عليه الصلاة والسلام على المنبر يوم الجمعة: اسمعي يا بشرية! واسمعوا يا قوم! يقف على المنبر يوم الجمعة والسماء صافية لا غمام ولا سحاب ولا مطر, وهذه المعجزة لو ألقيت بين الملاحدة في موسكو لآمنوا إن كان لهم قلوب, فيدخل أعرابي فيقول: {يا رسول الله! جاع العيال وضاع المال؛ فادع الله أن يغيثنا} فيتبسم عليه الصلاة والسلام! لماذا يتبسم؟ الله أعلم, ربما تبسم لأنه ليس في السماء شيء ينبئ عن نزول الغيث, توقعات الفلكيين خطأ.
تقضون والفلك المسير دائر وتقدرون فتضحك الأقدار
يقول أهل الفلك وأهل التوقعات: غداً سينزل الغيث فما ينزل غيث غداً, فإذا الشمس تقطع الظهور, ويقولون: السماء صافية ولا غمام ولا سحاب ونتوقع عدم نزول الأمطار, فإذا في الصباح سيول تأخذ الجبال وتكسر الجسور، حكمة بالغة، وقدرة نافذة فما تغني النذر!
هذه التوقعات لم تكن عنده عليه الصلاة والسلام لكن ثقة بالله, والصحابة أمامه وهو في خطبة الجمعة يتبسم, يتبسم من معجزة سوف تأتي ما مثلها معجزة أبداً, فيرفع يديه ويقول: {اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا، قال أنس: والله ما في السماء من سحاب ولا قزعة -أبداً سماء صافية, حر المدينة يسقط الشعر من على الرءوس- قال: فثارت سحابة كالترس -كالكف- من وراء جبل سلع ثم توسطت سماء المدينة ثم ثارت كالجبال, ثم غطت سماء المدينة , ثم أبرقت وأرعدت وأزبدت ثم أمطرت} فنزل الغيث وهو على المنبر ما زال يتحدث للبشرية, فنزل الماء من على سقف المسجد يتهلل ويتحدر على جبهته الشريفة ولحيته، وهو يتبسم في الخطبة من هذا, يتبسم من العجب, وهو يقول: {أشهد أني رسول الله} ونقول: نشهد أنك رسول الله, ونشهد أنك صادق، ونشهد أنك أمين، ونشهد أنك ناصح، ونشهد أن مبادئك حقة سوف تبقى ما بقي في الأرض مسلمون.
{أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] أخرافة هذه؟ هل هذه أسطورة؟ هل هذه ألغاز الشعوذة والكهنة والسحرة؟ لا, {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذريات:23].
وبعد أسبوع يستمر المطر أسبوعاً وتسيل أودية المدينة , ويدخل الأعرابي من الباب أو غيره فيقول: جاع العيال من كثرة الأمطار, وضاع المال, وتقطعت السبل, فاسأل الله أن يرفع عنا الغيث, فيتبسم عليه الصلاة والسلام, ويقول بيده الشريفة: {اللهم حوالينا ولا علينا, اللهم على الضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر} فلا يشير إلى جهة إلا وينزل الغيث في تلك الجهة, يشير شرق المدينة فيتحول المطر شرق المدينة , ويشير شمالها فيتحول شمالها، ويخرج الناس من المسجد والمدينة شمس فقط ليس فيها مطر، بدعائه عليه الصلاة والسلام.(19/15)
معجزة انشقاق القمر
وما أخبار القمر؟ القمر في السماء يشهد أنه رسول الله عليه الصلاة والسلام, يخرج على أهل الوثنية , يخرج على العملاء الزنادقة وهم في الحرم , {سَامِراً تَهْجُرُونَ} [المؤمنون:67] يشربون الخمر ويكفرون بالرب تبارك وتعالى, فيقول لهم: {قولوا لا إله إلا الله} حتى يقول لـ أبي جهل: أريد كلمة! قال أبو جهل: قل وأعطيك عشر كلمات, وفي رواية مائة كلمة, قال: {قولوا لا إله إلا الله قال أبو جهل: أما هذه فلا} لأن لا إله إلا الله تغير العالم وتغير القلوب والمجتمعات والشعوب, لأن لا إله إلا الله حياة جديدة, وفكر جديد, ومبدأ جديد, ومنهج جديد, {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [ص:5] هذا خطأ هذا لا يمكن, فيخرج عليه الصلاة والسلام فيقول لهم: {قولوا لا إله إلا الله قال أبو جهل ويقسم باللات والعزى: لا أؤمن لك حتى تشق لي هذا القمر}.
ليلة أربعة عشر والقمر صافٍ في سماء مكة , في الليل بعد العشاء فيقول عليه الصلاة والسلام: {أفإن شققته لك -بإذن الله- تؤمن؟ قال: نعم} فدعا عليه الصلاة والسلام وسأل الله أن يشق له القمر, وما هي إلا لحظة فإذا القمر فلقتان, نصفان, نصف يذهب تجاه عرفة , ونصف يتدحرج إلى جبل أبي قبيس , قال: {انظروا اشهدوا} فقاموا ينفضون ثيابهم ويقولون: سحرنا محمد سحرنا محمد! والله ما هو بسحر, والله إنها لا إله إلا الله تعلن شواهدها ودلائلها, والله إنه الحق نزل في الأرض ليثبت وجوده, والله إنها الرسالة الخالدة التي سوف تطوي ثلاثة أرباع الدنيا؛ لتدخل هذه الرسالة بلا إله إلا الله قرطبة وفيافي دجلة والفرات والنيل وجلط والسند والهند , والله إنها المبادئ التي سوف تعيش مع الإنسان يوم يريد أن يكون إنساناً محترماً, قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:1 - 5].(19/16)
معجزة نبع الماء من يديه
ِويعيش عليه الصلاة والسلام بمعجزته مع الطعام والماء, يقول أنس: {خرجنا مع الرسول عليه الصلاة والسلام وكان عددنا ما يقارب سبعمائة، فالتمسنا ماءً فلم يجدوا ماءً ووجدوا أداوة فيها قطرات فقال عليه الصلاة والسلام لـ أنس أو بلال: اسكب عليَّ، فسكب على يده الشريفة, فقال: باسم الله، ودعا بالبركة فأخذت أصابعه تثور بالماء كالأنهار أو كالغيول من بين يديه} {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] أهو السحر أم الرسالة الخالدة، والصدق الصراح، والثبات على الحق؟! ويشرب الناس ويروون إبلهم ويغتسلون ويتوضئون به ويبقى عندهم ماء.(19/17)
عبادته صلى الله عليه وسلم
وعاش عليه الصلاة والسلام في عالم العبادة, فكان العابد لله, وأقرب الناس من الله, وأخوف الناس من الله, يقول أهل العلم: كل شيء تقترب منه تأمنه إلا الله, كلما اقتربت منه خفته، قال الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وأعلم العلماء محمد عليه الصلاة والسلام.(19/18)
صلاته عليه الصلاة والسلام
العابد في الصلاة, يقف مع زوجته عائشة يقطع معها اللحم، ويقمُّ البيت، ويخصف النعل عليه الصلاة والسلام, فيسمع الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر, قالت: {فيقوم كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه} كان يهتم ويغتم كما يهتم البشر ويغتمون, فإذا أتاه الهم والغم قال: {أرحنا بها يا بلال} أرحنا بالصلاة أسمعني الله أكبر, قرب لنا هذا الوقت.
وقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترقى أبواب الجنان الثمانيا
ويقف في الصلاة عليه الصلاة والسلام فيصلي فلا يتذكر إلا الله, ولا يخطر بباله إلا الله, فإذا هو الخاشع المخبت المنيب, يقوم الليل.
نامت الأعين إلا مقلة تذرف الدمع وترعى مضجعك
تقول عائشة: كان عليه الصلاة والسلام إذا قام من الليل -والحديث عند مسلم - يقول: {اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم} يقول ابن عباس -كما في الصحيحين - لما نام معه عليه الصلاة والسلام تلك الليلة فقام صلى الله عليه وسلم، وتوضأ وأتى إلى القبلة -اسمع إلى الدعاء اسمع إلى اختيار الكلمات التي تفجر القلوب- يقول: {اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد, أنت إله السماوات والأرض ومن فيهن، ولك والحمد, أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد, أنت الحق ووعدك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق, اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت؛ فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، لا إله إلا أنت} هذا دعاؤه عليه الصلاة والسلام, وهذه صلاته في السحر يوم تنام العيون.
قلت لليل هل في جوفك سر عامر بالحديث والأسرار
قال: لم ألقَ في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار
ويخبرنا عليه الصلاة والسلام بهذه الساعة, فيقول في الصحيحين: {ينزل ربنا حين يبقى ثلث الليل إلى سماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داعٍ فأجيبه؟}.(19/19)
صيامه عليه الصلاة والسلام
ويعيش عليه الصلاة والسلام الصيام, فيواصل الأيام والليالي, يواصل ثلاثة وأربعة لا يفطر لا في الليل ولا في النهار والوصال له, ولا نستطيعه نحن, أراد الصحابة أن يجربوا تجربته فما استطاعوا, فيقول لهم: {إني لست كهيئتكم} وقيل: {إنكم لستم كهيئتي؛ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني} قال ابن القيم: يطعمه ربه من لطائف المعارف ومن الفتوحات، ما يطعمه الطعام الذي هو طعامنا الخبز؛ والتمر؛ والزبيب؛ إذ لو أطعمه هذا لما سمي صائماً.
فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربتا
قال ابن القيم: وهذا القوت يعني: المعاني والحكم والمعارف أعظم من قوت البطون, فإن قوت البطون ينتهي، وقوت البطون مشترك بين الحيوان, بين الثور والحمار، والنعجة والإنسان, والكافر يأكل كما يأكل الحمار, قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] وقال: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3] أما قوت الروح فليس إلا للمؤمن, وأعظم المؤمنين محمد عليه الصلاة والسلام, قال ابن القيم ويستشهد:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به ومن حديثك في أعقابها حاد(19/20)
ذِكره عليه الصلاة والسلام لله
ويعيش عليه الصلاة والسلام الذكر، فيكون أذكر الناس لرب الناس, كلامه ذكر, ونومه ذكر, ويقظته ذكر, وأكله وشربه ذكر, وممشاه ذكر, وجهاده ذكر, فهو الذاكر لله.
لا يفارق الذكر لسانه ولا قلبه، ولا عينه ولا أذنه, أصبح عليه الصلاة والسلام إنساناً يعيش بذكر الله, ويحيا بهذا الذكر ويعلمه الناس قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] وأعظم القلوب قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وأقرب الذاكرين محمد عليه الصلاة والسلام, وقال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41] وأعظم المؤمنين ذكراً محمد عليه الصلاة والسلام.(19/21)
جهاد المصطفى عليه الصلاة والسلام
يعيش المصطفى صلى الله عليه وسلم الجهاد, فيأبى التصوف الهندي الهندوسي، التصوف الذي أخزى الأمة, التصوف الذي جعل من الإنسان قطعة من قماش بالية في سراديب الظلام, وجعل منه قطعة لحم عفنة لا يعرف معنى الإسلام, يأباه عليه الصلاة والسلام ويقول للناس: {وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ويقول في الصحيحين: {والذي نفسي بيده! لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل, ثم أحيا ثم أقتل, ثم أحيا ثم أقتل} ويقول: {لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما عليها} ويقول عليه الصلاة والسلام لما سأله سائل: هل يعدل أجر المجاهد شيء؟ قال: {هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر وتقوم ولا تفتر؟} لا يستطيع أحد.
فيركب الخيل عليه الصلاة والسلام، ويركب بغلته ويباري الأبطال، ويضرب جماجم الطغاة في معترك الحرب, ويركب ناقته عليه الصلاة والسلام.
يخوض أكثر من عشرين معركة قتال, وأكثر من أربعين غزوة وسرية وقافلة وحج وعمرة وسفر في سبيل الله.
يعيش الجهاد بكل شيء, بعينه وأذنه وسمعه وبصره, كلامه جهاد, وتحركه جهاد, وقتاله جهاد, وخطبه جهاد, يقف على المنبر فيعقد الرايات لسيف الله خالد بن الوليد , خالد الذي رباه عليه الصلاة والسلام في المسجد, فلم يربه على الأغنية الماجنة، ولا على المجلة الخليعة، ولا على الكأس والسهرة، يربيهم على لا إله إلا الله, ويعطيه الراية ويقول له من على المنبر: {خالد سيف من سيوف الله سلَّه على المشركين} فيقاتل خالد في مائة معركة ما هزم في معركة أبداً.
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رام الروم إلا طاش راميها
هذا خالد وهو حسنة من حسنات محمد عليه الصلاة والسلام.
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
ويعيش عليه الصلاة والسلام الجهاد في كل ميادينه, حتى في ميادين الأدب, لم يحول الأدب صلى الله عليه وسلم تحويلاً يائساً سخيفاً, لم يجعل من الأدب والشعر تغزلاً بامرأة، ولا تشبباً بفتاة, ولا مدحاً لسهرة, ولا تزلفاً إلى قوم، وإنما جعله رسالة يدخل بها إلى الجنة قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:24 - 25].
حسان شاعر الدعوة, حامل لواء لا إله إلا الله في الأدب والشعر والجلسات والأندية والبطولات, يجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قائداً للشعراء للجنة, ويقرب منبره عليه الصلاة والسلام لـ حسان ويقول: {اهجهم وروح القدس يؤيدك} فيقف حسان , وماذا يقول حسان؟ يقول:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
فيدعو له عليه الصلاة والسلام, ويقول حسان: ليدخل بهذه الأبيات, وليست كالأبيات الرخيصة التي يحارب بها الله, ويحارب بها الإسلام, ويضيع بها الوقت والعمر, يقول حسان:
عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء
تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخمر النساء
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم يعز الله فيه من يشاء
وقال الله قد يسرت جنداً هم الأنصار عرضتها اللقاء
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
رضي الله عنك يا حسان , وصلى الله وسلم على أستاذٍ علمك, وعلى معلمٍ أنبتك ودربك وأحياك بلا إله إلا الله أديباً وشاعراً.(19/22)
أخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام
ويعيش عليه الصلاة والسلام عالم الأخلاق, فإذا على أخلاقه تدار أخلاق العباد, برهان وميزان وعرفان, يقول الله له: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فإذا هو العظيم في الصبر, وفي الكرم, والعظيم في الحلم, وإذا جزئية من أخلاقه تكفي لعالم من الناس, وأنت إذا استقرأت أحوال الصحابة تجد فيهم رضوان الله عليهم الكمال النسبي, أما الكمال المطلق البشري فللرسول صلى الله عليه وسلم.
ويبدأ العدّ التنازلي من أبي بكر حتى يصل إلينا نحن المقصرين الفقراء في عالم الأخلاق, أما الرسول عليه الصلاة والسلام فيعيش تبسماً وتواضعاً وصبراً وشجاعةً وكرماً, يقول جرير بن عبد الله: [[ما رآني عليه الصلاة والسلام إلا تبسم]] والتبسم هذا يسميه بعض العلماء: السحر الحلال, قيل لعالم من العلماء: ما هو السحر الحلال؟ قال: تبسم في وجه الرجال.
والتبسم سهل وهو يباع في الأسواق بلا ثمن, وهو أرخص العملات, وما بيع أبداً بقيمة وقد وجدوه أرخص ما يسام، ولكنه غالٍ جداً عند الأتقياء, والمتكبرون لا يتبسمون.
وجوههم من سواد الكبر عابسة كأنما أوردوا غصباً إلى النار
هانوا على الله فاستاءت مناظرهم يا ويحهم من مناكيد وفجار
لكن المؤمنين يتبسمون
ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً أهدوك من نورهم ما يتحف الساري
تروى وتشبع من سيماء طلعتهم بوصفهم ذكروك الواحد الباري
تبسمك في وجه أخيك صدقة لماذا يتبسم عليه الصلاة والسلام؟ ليشتري القلوب, القلوب لا تباع بالذهب ولا بالفضة, ولا بالدراهم ولا بالدنانير, تباع بالبسمات, بقي يتبسم للناس حتى أسر قلوبهم.
جمع القبائل والعرب كقرون الثوم, ما يجتمعون أبداً، ما جمعهم ملك، ولا رئاسة ولا إمبراطورية ولا عرفان ولا ثقافة ولا حضارة جمعهم تبسم محمد عليه الصلاة والسلام قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] وقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].(19/23)
الحديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينتهي
الحديث عنه عليه الصلاة والسلام لا ينتهي, لن ينتهي ولماذا ينتهي؟! وكيف ينتهي؟ لأنه إذا انتهى الحديث عنه عليه الصلاة والسلام معناه ينتهي الإسلام, وينتهي وجودنا, وتنتهي عزتنا وكرامتنا وحياتنا.
فلذلك إذا قطع في هذه اللحظة فإنما هو إيذان باتصاله في حلقات في مجالسنا، ومع أهلنا وأطفالنا ومجتمعنا, في المحاضرات والدروس, في اللقاءات، في الأندية, ليبقى هو الإمام الوحيد, والزعيم الكريم, والمعلم النبيل قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
انتهت هذه المحاضرة بعنوان "اسمع يا تاريخ".(19/24)
الأسئلة(19/25)
مقطع من قصيدة سأعود للدنيا
وهنا بعض الأسئلة ربما يكون الوقت ضيقاً عن الإجابة عليها, وهنا أربعة أسئلة تطلب القصيدة الأخيرة, وأنا أذكر المقطع فحسب لضيق الوقت اسمها "سأعود للدنيا".
القلب يملي والمدامع تكتب ومشاعري مجروحة تتصبب
النجم يشهد أنني سامرته سحراً وطارحني بهم كوكب
ما عشت في دنيا السعادة ماجناً كلا ولست بعود سلوى أطرب
أبداً وما بعت الغرام شبيبتي كلا ومثلي في الشبيبة أشيب
حرمت ليل الوالهين وصغت من دمعي نشيداً للخلود يُرتَب
وفي آخرها.
سأعود للدنيا بهمة سيد يأبى الخنوع وعود مجدي أصلب
والصوت أعلى والمشاعر جمة والفكر أرقى والمعلم منجب
أعلي بإذن الله دين محمدٍ ما مقصدي مال يحاز ومنصب(19/26)
بعض آداب المصطاف
السؤال
أيها الإخوة الكرام بعض الإخوة يكتبون أسئلة عن آداب المصطاف؟
الجواب
وآداب المصطاف هي آداب المسلم عموماً، وليس هناك أبواب عند أهل العلم، لا عند البخاري ولا الترمذي ولا أبي داود باب المصطاف.
إنما باب المسلم في جلوسه، وباب آداب المسلم في ملبسه, وآدابه في أكله وطعامه, نريد من المسلم المصطاف أن ينقلها هنا كما تعلمها من محمد عليه الصلاة والسلام.
لكن هناك أمور أنبه الإخوة المصطافين منها:
1 - أن نرحب بهم, ونسأل الله أن يجمعنا بهم في دار الكرامة, في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.
2 - نقول: إن وقت المسلم ليس تزجية, وهل معنى الاصطياف وطلب النزهة والذهاب إلى المنتزهات أن تعدم هذه الساعات من حياتك؟ كلا.
إن معنى ذلك أنك سوف تخسر أياماً وليالي لن تعود عليك.
معنى الاصطياف: أنك ترتاح برهة، وأن تنظر وقتاً من الزمن إلى الخضرة والماء وإلى الشجر والزهر, وتتفكر في آيات الله, وتشكر الله على نعمه.
معنى الاصطياف: أن تجم روحك فترة من الزمن؛ لتعود قوياً في طلب العلم والعبادة.
معنى الاصطياف: أن تأتي داعية في هذه المنتزهات التي عاشت على لا إله إلا الله, أبناؤها لا يرضون بديلاً بلا إله إلا الله, ترابها يؤسس وحجارتها وشجرها على لا إله إلا الله.
ولك في الاصطياف دروس من أعظمها:
1 - أن تتفكر في آيات الله, وأن في الرابية وفي سفح الحديقة, ومع الشجرة, لا بد أن تذكر الله عز وجل: من خلق هذه الوردة؟! من صور هذه الشجرة؟! من أبدع هذا البستان؟!
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فيا عجباً كيف يُعْصَى الإله أم كيف يجحده الجاحد
2 - ومنها أن تغض بصرك, فإن في هذه الأماكن محارم المسلمين, وإطلاق البصر معناه محاربة لدين الله وكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن آداب الاصطياف:
1 - أن تقضي وقتك فيما يقربك من الله، من ذكر، وقرآن، وعبادة، ومدارسة علم، في أمر يقربك من رضوان الله, لا غناء، لا لهو، لا غيبة، لا نميمة، لا هتك للأعراض، لا تعدٍ للحرمات.
2 - ومن آداب الاصطياف: أن تقتصد في نعمة الله, فلا تبذر تبذيراً ولا تسرف إسرافاً, واذكر أن ألوفاً من المسلمين يعيشون مجاعة وجهاداً وضنكاً, وأنت في أمن ورغد وعيش فقدر نعم الله.
3 - ومن آداب الاصطياف: أن تصلي صلاة الجماعة, وألا يؤخرك عنها مثبط أو شيطان مارد أو رعديد خائن لمبادئه, إذا سمعت صلاة الجماعة وأذن لها فاحضر, في أي مكان من أمكنة الاصطياف.
4 - ومن آداب الاصطياف: أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر, يقول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] تأمر بالحكمة وتنهى بالحكمة وتدعو إلى سبيل ربك, تأمر الناس فإن في الناس مرضى وهلكى ومبتلين, منحرفين عن منهج الله، توصل إليهم الكلمة الطيبة في قالب من النصح كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
هذه من آداب الاصطياف, وسوف يكون هناك -إن شاء الله- عودة أو درس أو خطبة عن هذه القضية الكبرى؛ لأنها بلد المصطاف يؤمه الناس لطلب الراحة والنزهة, نسأل الله أن يسعد كل مسلم وأن يهنئه بما أعطاه, وأن يجعل ما أعطاه عوناً له على الطاعة.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(19/27)
اقترب فتح كابل
استهل الشيخ كلامه بذكر أربعة مواقف كان شعار أبطالها {حسبنا الله ونعم الوكيل} فنصرهم الله نصراً عظيماً، ثم تحدث عن المجاهدين الأفغان فذكر أنهم أيضاً جعلوها شعارهم، وآمنوا بالله وكفروا بما دونه وثبتوا على ذلك، فانتصروا وهزموا عدوهم، ثم ذكر ثلاثة دروس من هذا الجهاد والرابع وجهه إلى أبناء فلسطين.
بعد ذلك ذكر موقفاً مشرفاً من تاريخ الإسلام المشرق، فيه إشاراتٌ واضحة إلى عوامل النصر وأسباب الهزيمة، ثم ختم كلامه بالدعاء.(20/1)
مع الجهاد الأفغاني
قال الله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] وقال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].
حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار فنجاه الله من النار.
وحسبنا الله ونعم الوكيل قالها محمد صلى الله عليه وسلم يوم أحد فنصره الله وأيده.
وحسبنا الله ونعم الوكيل قالها خالد بن الوليد لما التقى مع الكفرة فرأى قلة المسلمين وكثرة الكفار، فقال له أحد المسلمين: [[إلى أين الملتجى أإلى سلمى وآجا -أي إلى الجبلين- قال: بل إلى الله الملتجى (حسبنا الله ونعم الوكيل)]] فانتصر بإذن الله.
وقالها طارق بن زياد لما سبح في البحر، فلما انتهى إلى الأندلس حرق السفن، وقال: (حسبنا الله ونعم الوكيل) فنصره الله نصراً عظيماً.
وقالها عقبة بن نافع لما وقف على المحيط الأطلنطي فرأى البحر والأعداء، فقال: (حسبنا الله ونعم الوكيل) فنصره الله.
وقالها المجاهدون الأفغان لما أتت روسيا بقضها وقضيضها ودباباتها وصواريخها وطائرتها تحارب الله الذي فوق سبع سموات، فخرجوا من المساجد مكبرين مهللين يقولون: (حسبنا الله ونعم الوكيل) {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران:174].
شهيدهم في الجنة، وحيهم يعيش العزة والسعادة، واقترب فتح كابل {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:97] {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52].(20/2)
ثبات المجاهدين وعزتهم
قيل للمجاهدين الأفغان: تعالوا إلى جنيف! قالوا: آمنا بالله وكفرنا بـ جنيف.
قيل لهم: تعالوا إلى هيئة الأمم المتحدة! فقالوا: آمنا بالله وحده وكفرنا بـ هيئة الأمم المتحدة.
وقيل لهم: تعالوا إلى مجلس الأمن! فقالوا: آمنا بالله وحده وكفرنا بمجلس الأمن.
في جحفل من بني الأفغان ما تركت كرّاتهم للعدا صوتاً ولا صيتا
قوم إذا قابلوا كانوا ملائكة حسناً وإن قاتلوا كانوا عفاريتا
خرجوا متوضئين، مسبحين، مهللين، فاتصلت قلوبهم بالحي القيوم: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] فنصرهم الله من فوق العرش و {اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم:5].
أتت القوات، وأتت الحملات، فألهبت السماء، وضرجت الأرض بالدماء، واجتمع الكفر من كل مكان، وصاح الباطل، ولكن الحق ثابت، والإيمان لا يتزعزع، ولا إله إلا الله ثبتت في الساحة:
دعها سماويةً تجري على قدرٍ لا تفسدنها برأيٍ منك منكوسِ
وأرغم الكافر العميل، وأرغم اللعين؛ الذي ظن أن القوة هي طائرات الميراج، وأنها الصواريخ، والقنابل، والله عنده أعظم من الطائرات والصواريخ والقنابل.
هذه هي قوة الإيمان، يوم فتحنا الدنيا بلا إله إلا الله، ورفعنا في كل مكان لا إله إلا الله، يوم كنا صادقين مع الله.
والآن ينظر العالم إلى كابل، وينظر الناس وتنظر الدنيا إلى المجاهدين الأفغان، تعالوا وانظروا إلى الإيمان! ماذا يفعل الإيمان؟! سلاحٌ بدائيٌ يسقط الطائرات، وصواريخٌ بدائيةٌ تدمر الدبابات، وتهليل، وتكبير، وتحميد، وتسبيح يزلل كل عميل وملحد وطاغية على وجه الأرض.
وهذا من جند خالد بن الوليد:
وما أتى بقعة إلا سمعت بها الله أكبر دوت في نواحيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها(20/3)
دروس من الجهاد الأفغاني
ومن هذا الجهاد نأخذ دروساً:
أولها: أن أعظم الهزائم هي المعاصي، وأن شعباً توجد فيه المعاصي والدعارة والتخلف والبعد عن الله، شعبٌ مهزوم في الدنيا والآخرة.
وبمفهوم المخالفة: أن أمة وشعباً يصدقون مع الله، ويتوجهون إلى الله، ويطلبون نصرهم من الله، ينصرهم الله في الدنيا والآخرة.
ثانيها: أنه لا قوة فوق قوة الله، ولا يغلب اللهَ غالبٌ، ولا يتحدى الله متحدٍ؛ فعنده القوة التي لا تُدَهْدَه ولا تعاند، ولا يوقف في جنبها.
ثالثها: أن من اعتمد على البشر خذله الله، وأذله، وأخزاه، وجعله عبرة وعظة للناس جميعاً.
رابعاً: أننا ما فتحنا الدنيا بكثرة قوة، وإنما فتحناها بالإيمان وبالعمل الصالح:
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
كنا نرى الأصنام من ذهبٍ فنهـ ـدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاًَ وصاغ الحلي والدينارا
قتيبة بن مسلم وقف لفتح كابل وما يواليها، فقال: [[أين العابد محمد بن واسع؟ قالوا: هو يرفع إصبعه داعياً لله.
فبكى قتيبة القائد، وقال: والله الذي لا إله إلا هو لإصبع محمد بن واسع خيرٌ عندي من ألف سيفٍ شهير، ومن ألف شابٍ طرير]].(20/4)
درس لأهل فلسطين
والدرس الذي يلي هذا أوجهه إلى إخواننا المسلمين الفلسطينيين من على هذا المنبر، أن يأخذوا درساً من دروس المجاهدين الأفغان، وليعلموا علم اليقين أن فلسطين لن تعود إلا بصلاة المصلين، وبجهاد المجاهدين، وبإبداع الشهداء المستشهدين في سبيل رب العالمين.
ثلاثون سنة وتزيد وفلسطين لم تمت، واليهود وأذنابهم وعملاؤهم في الساحة مؤتمرات وتنديد، ولكن والله لا تعود فلسطين إلا بلا إله إلا الله، والله لا يعود بيت المقدس إلا بسلاسل صادقة، وبنصح مع الله، وبتوجه إلى الله: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126].
فيا كل فلسطينيٍ على وجه الأرض، ويا كل مسلمٍ على وجه الدنيا، إن كنتم تريدون عودة فلسطين فاصدقوا مع الله، وعودوا إلى الله، وتعالوا إلى الله، وأبشروا بالنصر والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.
واقترب فتح كابل {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:97] يقولون: ما علمنا أن الإسلام يصنع العجائب! وما علمنا أن الإيمان يفجر الطاقات، وما علمنا أن البدائية بالإيمان بركان يتفجر على الملحدين!
{فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:97] ظالمين يوم هدموا المساجد ونسوا الله، ظالمين يوم قتلوا الأطفال ونسوا الله، ظالمين يوم ذبحوا الشيوخ والنساء ونسوا الله، ولكن {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81] أليس الانتقام بحاصل؟! أليس نصرُ الله بنازل؟! بلى والله.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(20/5)
دروسٌ من التاريخ
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس إلى الله أجمعين، محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس! إن من يطالع التاريخ الإسلامي يجد سنن الله في الأرض، ويجد أيام الله لأوليائه، وأيام الله لأعدائه، ويعلم أن الله يجعل العاقبة للمتقين، ويجعل الدائرة على الظالمين، وأنه يثبت المؤمنين، وأنه ينزل خزيه وبأسه بالقوم الكافرين.
التقى سعد بن أبي وقاص بجيشه مع رستم الفارسي المتخلف الملحد بجيشه، وقبل المعركة بليلة، أرسل رستم رسوله وجاسوسه، لينظر في جيش المسلمين ماذا يفعلون في الليل، ثم قال: إذا انتهيت منهم فتعال فانظر إلى جيشنا، فذهب هذا الجاسوس فلبس لباس المؤمنين، ودخل في جيش المسلمين في ظلام الليل، فوجد طائفة منهم تصلي لله في ظلام الليل، وطائفة أخرى يدعون ويبكون ويطلبون النصر من عند الله الواحد الأحد، وطائفة أخرى يتدارسون القرآن ويذكرون الواحد الديان، ويتوبون من الخطايا والزلل ومما عصوا به الرحمن.
فعاد فدخل في جيشه فرأى الغناء يتردد، ورأى الزنا يفعل في الليل الدامس، يوم ظنوا أنهم غابوا عن عين الله، ووالله ما فاتوا نظر الله:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
وجد أناساً يشربون الخمر، وأناساً في سباتهم يعمهون، فعاد فأخبر رستم الكلب، فعض أصابعه وقال: هزمنا، هزمنا، هزمنا!!
وفي الصباح أتى الإيمان مواجهاً للكفر، وأتى التوحيد والإلحاد فانسحق الذين ظلموا وعصوا الله وفجروا وتعدوا حدود الله، وانتصر الذين صلوا لله بالليل:
عُبَّاد ليلٍ إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غابٍ إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياهُ
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا واغفر أيا رب ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضرٍ يحلُّ بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه
ونركب الجو في أمنٍ وفي دعةٍ فما سقطنا لأن الحافظ الله
من أراد النصر فليتب إلى الله، وليتأكد من مطعمه ومشربه، وليترك الربا والزنا والغناء، وقطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، والتسيب في أوامر الله، وتأخير الصلوات، ومتابعة المجلات الخليعات، وليعد صادقاً إلى الله.(20/6)
مع فلسطين مرة أخرى
ومن هذا المكان الطاهر، ومن هذا المنبر العامر، أعود إلى بيت المقدس، إلى أولى القبلتين وإلى أهلها، وإلى أبناء خالد بن الوليد وسعد، فأدعوهم إلى ثلاثة أمور:
أولاً: أن يسموا الانتفاضة جهاداً في سبيل الله؛ فإنما هي الجهاد.
ثانيها: أن يتوجهوا إلى الله صادقين، وأن يقاتلوا تحت راية لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، لا تحت رايةٍ غربيةٍ ولا شرقية.
ثالثها: أن يتوبوا من الذنوب والخطايا، وأن ينتهوا عن المعاصي والمخالفات، من ترك الصلوات، والولاء لغير الله، ونطالب منهم البراء من أعداء الله، وأن يتركوا الزنا والربا، وأن يحققوا إيمانهم، ويتأكدوا من مسيرتهم علَّ الله أن ينصرنا وإياهم.
عباد الله، وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً واحدةً صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
وارض اللهم عن صحابته الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بِمنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وأرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه، وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه.
الله أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك، واتبع رضاك يا أرحم الراحمين.
وبالمناسبة لا يفوتني أن أشكر ولاة الأمور في هذه البلاد على موقفهم المشرف من الجهاد الأفغاني، ومن موقفهم القوي والمتحمس للجهاد، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، فجزاهم الله خيراً، وهداهم سواء السبيل، ورزقهم البطانة الصالحة الناصحة التي تقودهم إلى الخير، وتدلهم على البر.
اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، وفي فلسطين، وفي كل بلاد المسلمين.
اللهم رد شباب المسلمين إليك رداً جميلاً، اللهم ثبتهم على الحق، اللهم ردهم إليك وأحسن عاقبتهم في الأمور كلها.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق: أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما كانت الوفاةُ خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(20/7)
الابتلاء
بين الشيخ حفظه الله أن الابتلاء تمييز وتمحيص للناس بين الصادق والكاذب، ثم سطَّر بعض مواقف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وابتلاءاتهم، مبيناً ثمار وفوائد الابتلاء، ثم ختم بذكر الدروس المستفادة من ابتلاء الله تعالى لعباده.(21/1)
الابتلاء تمحيص وتمييز للناس
اللهم لك الحمد خيراً ما نقول، ومثل ما نقول، وفوق ما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، من استنصر بك نصرته، ومن تقرب إليك أحببته، ومن اعتمد عليك كفيته، ومن حاربك خذلته، ومن ضادك كشفت أستاره، وهتكت أسراره، وأظهرت عواره، وفضحت أخباره، والصلاة والسلام على معلم الخير، وهادي البشرية، ومزعزع كيان الوثنية صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عنوان هذه المحاضرة "الابتلاء"
لعمرك ما مديت كفي لريبة وما حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا دلني فكري ولا نظري لها ولا قادني سمعي إليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة من الله إلا قد أصابت فتىً قبلي
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].
أحسب الأبرار والأخيار، والصالحون والعلماء والدعاة أن الإسلام ادعاء، وأن لا إله إلا الله كلمة تقال فقط، إذاً كان يدّعيها المدّعي، ويفتري بها المفتري، ولا يُميز بين المؤمن والمنافق، والصادق والكاذب، ولكن أبى الله إلا أن يميز بين الصنفين: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18].
الله الذي يقذف بالحق على باطل الشائعات والمفتريات والأطروحات، وباطل الكلمات الكاذبات؛ فيدمغه فإذا هو زاهق، ولكم الويل مما تصفون، ومما تتكلمون، ومما تظنون، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] ويقول سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] وقال جل اسمه: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان:20] وقال جل اسمه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].(21/2)
الابتلاء من أسرار الدين
إن هذا الدين صعب المراس، إنه لا يؤتى لكل أحد إلا بابتلاء، وإن من أسرار خلوده أن يستقر مع المبتلين في الأرض؛ فيظهر الله صدقهم ونصحهم ووضوحهم ويعلم الله ثباتهم، قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:173] الناس قد جمعوا لكم بالعراقيل، والمخططات، والشائعات، فخافوهم: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].
رماني الخصم بالأرزاء حتى فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال
فعشت ولا أبالي بالرزايا لأني ما انتفعت بأن أبالي(21/3)
يا ضعيف العزم
يقول ابن القيم رحمه الله: "يا ضعيف العزم! الطريق شاق طويل، ناح فيه نوح، وذبح يحيى، واغتيل زكريا، وطُعن عمر، وضرج عثمان بدمائه، وقُتل علي، وجلدت ظهور الأئمة، وحبسوا لماذا؟ {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3] ولكن من الحق؟ من القوي إلا الله؟
كان عليه الصلاة والسلام يبتهل في الليالي ويقول: {اللهم أنت الحق، ووعدك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] حسبك أن يكفيك الله.
يا حافظ الآمال أنتت حميتني ورعيتني
وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال:8] {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين} [آل عمران:54] {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل:26].
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
عز جاهه ما أقواه! وما أعظمه! وما أعز جنده! {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52].(21/4)
الأنبياء والابتلاء
الابتلاء تاريخ وقصة طويلة منذ أن نزلت لا إله إلا الله في الأرض، ابتلي نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، كلٌ مبتلى، وتعال إلى بعض قصصهم وإلى تلك الدروس العظيمة التي نستفيدها من حياتهم عليهم الصلاة والسلام.(21/5)
ابتلاء موسى عليه السلام
أما موسى فذاق الأمرين، رسول التوحيد أنقى وأوضح من الشمس في رابعة النهار، الذي أتى إلى الطاغية فرعون في القصر يقول له لما قال: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:49 - 50] ولكن على صدقه ونصحه وعصمته ماذا فعل به؟
قال أهل التفسير وأهل التاريخ: أتى قارون بكنز عظيم -جرةً مملوءةً ذهباً- إلى امرأةٍ زانيةٍ من بني إسرائيل فقال: خذي هذه الجرة، فإذا اجتمع الناس وقام موسى فينا خطيباً، فقومي وابكي ومزقي شعرك، وأقسمي أن موسى زنا بك، واجتمع الناس وموسى يتكلم عن التوحيد والإيمان، وقارون يريد أن يمرغ دعوة التوحيد والإيمان، يريد أن يمرغ دعوة موسى عليه السلام في التراب، وأن يمرغ منهجه لئلا يثق به الناس مرة ثانية، ولئلا يصدقه الناس مرة ثانية، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره، فالنور نوره، والرسالة رسالته، والرسول رسوله، والمنهج منهجه، فبينما موسى يتكلم، وإذا بالبكاء يرتفع من تلك المرأة تلطم وجهها؛ إنها الخطط البائسة؛ إنها الأكاذيب والتلصيقات، إنها أنواع من المسارح يقدمها بعض المغرضين الحاقدين على الإسلام وعلى علمائه ودعاته.
سكت موسى والتفت إلى المرأة، قالت: أنت فعلت الفاحشة بي، فتلعثم وبكى، ليس في الأرض إلا موسى الذي أرسله الله بالرسالة يفعل هذه الفعلة، فوقف يبكي، ولكنه صمد وعرف أنه ابتلاء؛ فرفع عصاه ووقف أمام المرأة وقال: أسألك بالذي شق البحر لي أفعلت ذلك؟ قالت: لا.
ثم بينت أمرها، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69] فزاد وجاهةً وقوةً، وإثباتاً لمنهجه أنه صادق.(21/6)
ابتلاء يوسف عليه السلام
ومن يشك في يوسف! ومن نحن مع يوسف وموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، نحن لا نساوي غبار أقدامهم، نحن لا نساوي الشعرات التي تتساقط من رءوسهم، نحن لا نصلح خدماً لهم.
هم أصفى الخلق، وأخلص الناس، وأبر الناس، وأوفى الناس، رموا به في السجن: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] ومكث في السجن، وعلم الله أنه صادق ومخلص.
أيزني يوسف؟ أيمكن أن يلطخ دعوته؟ أينسى ربه؟ أين رقابة الله؟
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
ولكن الصبح قريب وأتى الفرج من الله، ولا يأتي الفرج إلا منه سبحانه وحده، حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلب بنعمة من الله وفضل لم يمسسه سوء أبداً لأن الله معه.(21/7)
ابتلاء محمد صلى الله عليه وسلم
أما رسولنا عليه الصلاة والسلام فعاش مع ريبةٍ وشائعةٍ استهلكت شهراً من حياته كما يقول سيد قطب رحمه الله: "شهراً كاملاً وقف على أعصابه" ماذا حدث؟ أتى المغرضون، وخصماء الإسلام، وأذناب اليهود، فقالوا: عائشة زنت، لا والله والله لا تزني وهي الصادقة بنت الصادق، والمبرأة من فوق سبع سماوات، ولكن هكذا يُلطخ الحق، ولكن مهما قالوا فالعاقبة للمتقين: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:127 - 128].
أتى الخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام فلم تكتحل عينه بنوم ولكن يوم يعرف المسلم أن أمامه جيلاً وتاريخاً من الأنبياء والرسل والدعاة والصالحين ابتلوا، وصبروا، وعلموا أنه لابد من هذه المرحلة مرحلة الابتلاء.
يقول الشافعي رحمه الله لـ مالك: "أيبتلى العبد أم يُمكَّن" أي: هل يُمكَّن في الإمامة في الدين أم يبتلى؟ قال: "لا يُمكّن حتى يبتلى" {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] الرسول عليه الصلاة السلام أصيب في أعز شيء في حياته، المال يسهل، وكل شيء يهون سواء كان البيت أو الأطفال أو الزوجة، أو المنصب أو الوظيفة، إلا العرض والدعوة والرسالة.
إن أعداء الإسلام يريدون أن يُفقدوا هذا الصوت وهذه الكلمة وهذه الرسالة ثقتها؛ فإذا فقد الإنسان ثقته، ولُطخت سمعته، وفُضحت كلمته، فمن يثق به ومن يصدقه، ومن يستمع إليه ومن يسمع كلامه، ومن يستفيد منه؟
أصيب عليه الصلاة والسلام في أعز شيء عنده وهي امرأته، قال المنافقون والمغرضون والحاقدون: امرأته زانية، ياألله وهل تزني الحصان الرزان؟ ياألله وهل تزني الصديقة بنت الصديق؟! وتعطل عليه الصلاة والسلام، وقف ليخطب فإذا العيون تنظر إليه؛ لأن الشيطان أوحى إلى بعض الناس بالخبر، يتكلم إلى الناس، وإذا عرضه قد فضح أمام الناس، فمن يعيد عرضه؟!
بل يسهر الليل:
نامت الأعين إلا مقلة تذرف الدمع وترعى مضجعك
فانتظر عليه الصلاة والسلام أن يأتيه خبر من السماء، لعل جبريل -عليه السلام- أن ينزل بآيات، لكن انقطع الوحي شهراً كاملاً ثم أنزل الله تعالى هذه الآيات: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:11 - 12] لكن كثيراً من الناس لم يقل هذا الكلام.
إن الشائعة إذا ظهرت في الناس من يقنع الناس، ويقول للناس: إنها خطأ، صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {كيف وقد قيل}.
قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً فما اعتذارك من قول إذا قيلا
أما الرسول عليه الصلاة والسلام فعاشها شهراً كاملاً، لأنه أصبر الصابرين، وأصدق الصادقين، وأخلص المخلصين، ولكن أراد الله أن يرفع منزلته أكثر وأكثر، ويجعل منهجه باقياً، وأن يعلم تلاميذه وأتباعه وحُفاظ رسالته أن هذا هو الطريق، ففيه تقديم الرءوس، وتقديم الدماء والأموال {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111] وحملها عليه الصلاة والسلام، وسمعت عائشة بالخبر رضي الله عنها قالت: فما رقى لي دمع شهراً كاملاً؛ ويدخل عليها صلى الله عليه وسلم ويقول لها: يا عائشة! إن كنت قد ألممت بذنبٍ؛ فتوبي إلى الله، وإن كنت بريئةً، فسوف يبرئك الله، فقالت لأبيها: رد، فوقف أبو بكر حائراً يبكي ماذا يقول؟! إنها معضلة أودت بسرور وبسعادة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، قال: والله لا أجد ما أقول، ثم قالت لأمها: ردي، قالت: والله لا أدري ما أقول، فقامت هي لتقول: والله ما أجد لي كلاماً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]}.
الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه؛ الصبر الجميل الذي يصلك برضوان الله، والحياة والابتلاء تمحيص ليخرج الرجال، وليعلمهم أن دعوتهم ينبغي أن تكون لله، وأن النصر من عند الله، وأنه لا يزكيهم إلا الله، وأنه لا ينبغي أن ينصرفوا بدعوتهم رياءً ولا سمعةً ولا شهرةً ولا ظهوراً، وجلس عليه الصلاة والسلام وإذا بالوحي ينزل، وإذا بالبراءة تنزل من السماء، بَّرأها الله من فوق سبع سماوات، وكذب المنافقين والحاقدين، وكذب عملاء الخيانة واليهود، وأشياع المنافقين في كل زمن.
كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم ويكره الله ما تأتون والكرم
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18].(21/8)
ثمار وفوائد الابتلاء
في الابتلاء قضايا:(21/9)
من ثمار الابتلاء: معرفة حقيقة الناس ومصداقيتهم
أولها: أن الله عز وجل جعل الابتلاء سنة؛ ليعلم الصادق من الكاذب، وليعلم المؤمن من المنافق، ولو كان الأمر للرخاء والسهولة واليسر؛ لادعى كل مدعٍ أنه صادق، ولكن ليظهر الله الصادقين أهل الصلوات الخمس؛ ولا يخزيهم أبداً.
والنبي عليه الصلاة والسلام وهو في غار حراء يوم نزل عليه الوحي، خاف لما رأى عظم الملك، فذهب إلى خديجة رضي الله عنها ترتعد فرائصه، ووجِلَ قلبه وخاف وقال: {خفت على نفسي، قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتُقرئ الضيف، وتُكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق} أتظن أن الله يخزي أهل الصلوات الخمس؛ أهل القرآن؛ وأهل السنة؛ وأهل التسبيحات؛ والصيام؛ وقيام الليل، والصدق مع الله؟! لا والله.
إنما يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون، إنما يخزي أعداءه ومحاربي دينه الذين لا يعرفون الصلاة، ولا القرآن، ولا المسجد، ولا السنة، ولا الصدق مع الله، ولا يعرفون موعود الله، ولا يقدمون دقيقة من أوقاتهم، ولا يعرفون إلاَّ الكأس والعهر، والفحش والخيانة، وانتهاك حرمات الله، يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: [[صنائع المعروف تقي مصارع السوء]] فمن فعل معروفاً وقاه الله سبحانه منازل الخاسرين: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] وقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31].(21/10)
من ثمار الابتلاء: تمحيص الصف الإسلامي من المنافقين
ومن دروس الابتلاء أيضاً: تمحيص الصف الإسلامي، ليعرف الله من الذي يحب أن يُوصم الأخيار بالوصمات والتهم.
إن هذا الدين مستهدف بأساليب الله أعلم بها، حينها يعرف سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] والله يعلم من الذي يسر بإخفاق الصالحين، إن المنافق يضحك بملء فيه يوم يمرغ الإسلام في التراب؛ حينها ينتصر الباطل ويخطب الدجال كما قال الذهبي قال: "إذا علقت الشائعة وانتشرت وصُدقت؛ حينها يخطب الدجال من على المنبر، وتتعطل المساجد، وتكذب الدعوة الصادقة، ويخرج المناوئون الحقراء الذين لا يتكلمون إلا في الظلام، وليس معنا شيء، ما معنا إلا رسالة محمد عليه الصلاة والسلام.
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريباً
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
وابن القيم رحمه الله يتكلم عن أولياء الله، وقد ذكر كثير منهم الدكتور بكر أبو زيد في حلية طالب العلم، فقال: "بيوتهم المساجد، وإمامهم رسول الله -عليه الصلاة والسلام- اسمهم أهل السنة، لا يريدون إلا وجه الله" دعها فإن معها سقاءها وحذاءها ترد الماء وترعى الشجر.
فيريد الله بهذه الابتلاءات وهذه الفتن أن يمحص الصفوف، وأن يعرف من هو الصادق الذي يغتاظ ويتلمظ ويغار على دينه ورسالته يوم تمرغ في التراب، أو الآخر: المعربد السكير الذي يضحك ويفرح ويرقص على موت الإسلام وذبحه، ولكن الإسلام -والله- لا يموت.
يقول أحد علماء الإسلام واسمه إسماعيل صبري: "الإسلام والدعاة يمرضون ولا يموتون" {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].(21/11)
من ثمار الابتلاء: تكفير الخطايا والذنوب
المسألة الثالثة: من أسرار الابتلاء التي ينزلها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الأرض: تمحيص الخطايا والذنوب التي تعلق بالأخيار، والتي لا يسلم منها الأبرار، فيحتها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حتاً، فنسأله سبحانه أن نكون ممن إذا أذنب استغفر وإذا أُنعم عليه شكر، وإذا اُبتلي صبر، إن منازل الصادقين ثلاث منازل، إذا ابتلي العبد صبر، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قالوا لـ عثمان: ادخل على الرسول عليه الصلاة والسلام يبشرك بالجنة على بلوى تصيبك، قال: الله المستعان! وما هي البلوى؟ ضرج في التراب وذبح في بيته على المصحف.
جرحان في كبد الإسلام ما التأما جرح الشهيد وجرح بالكتاب دمي
وتقدم المغرضون في الصف وقالوا: ظالم، وطعنوه بالخنجر؛ فوقع وهو يقول: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، وهذه سنة ماضية.
لما أدخل ابن تيمية السجن -رحم الله ابن تيمية، ورفع الله قدر أبي العباس على ما فعل وبذل من دمعه ودمه، وعروقه وسمعته، وعلمه ووقته- أدخله السجان وأغلق عليه الباب، فقال ابن تيمية: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] يقول له أحباؤه: ماذا أصابك؟ فدمعت عيناه وقال:
تموت النفوس بأوصابها ولم يدر عوادها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي أذاها إلى غير أحبابها
الابتلاء تمحيص، قال عليه الصلاة والسلام: {ونقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس} الابتلاء غسل للقلب وللمنهج، وغسل للطريق من القاذورات التي تعلق به، إما شهرة وإما سمعة وإما رياء لا يسلم منها العبد، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {عجباً لأمر المسلم إن أمره كله خير وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته نعماء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن}.(21/12)
دروس في الابتلاء
والابتلاءات فيها دروس.(21/13)
من دروس الابتلاء: التوكل والاعتماد على الله
ومنها: أن هذا الإسلام مهما قيل: إنه انتصر، فلا زال في الطريق عقبات، ولو قالوا: صحوة عارمة، فأمام الصحوة ألف عقبة، أعداء الله كثير، يعملون الكثير من العراقيل والمخططات المعقدة التي يحار العبد أمامها، مخططات يعجز الشيطان أن يكتشفها، تأتي من كل باب ومن كل جهة، ونحن ليس لنا حيلة كما يقول ابن القيم: "العبد الصالح يفوض أمره إلى الله، ولا يعتمد على حيلته" ويقول: حالنا كما قال نوح عليه السلام: رب {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [لقمر:10]
فاترك الحيلة فيها واتكل إنما الحيلة في ترك الحيل
فليس لنا حيلة ولا ذكاء ولا دهاء ولا قوة، وليس معنا إلا حسبنا الله ونعم الوكيل.
وكم كالوا عليه من التهم الباطلة عليه الصلاة السلام، فقالوا: شاعر، كذاب، ساحر، كاهن، امرأته فعلت؛ رسالته ليست صادقة؛ يأخذ أجراً على الدعوة؛ إنما يعلمه بشر؛ مفترٍ على الله؛ وهو يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
ولما دخل غار حراء ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فطوقه الكفار، فقال أبو بكر: {يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم إلى قدميه} أرادوا أن يدخلوا الغار؛ فأعمى الله بصائرهم وأبصارهم عن الغار.
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحم
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الأطم
لم يدخلوا الغار يقول أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا، فتبسم عليه الصلاة والسلام تبسم الواثق، من الذي يتبسم وحوله خمسون شاباً كل شاب معه سيف يريد أن يذبحه؟ من الذي يتبسم وهو في غار صغير وحوله الكفر من كل جهة ولا حرس معه إلا حرس الله؟ لا رمح ولا سيف ولا خنجر ولا سكين ولا شيء.
والفيافي حالمات بالمنى تتلقاك بتصفيق مثير
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تحزن إن الله معنا ونصره الله}.
الخطيب البغدادي صاحب التاريخ ابتُلي بفرية أستحي أن أقولها في هذا المجلس، ورأى في المنام قائلاً يقول: أتريد يا خطيب! أن تصل مبلغ الإمامة بلا ابتلاء، أتريد أن تصل إلى تلك المكانة بلا ابتلاء، فعرف أنه ابتلاء من الله.(21/14)
من دروس الابتلاء: معرفة مخططات ومكائد أعداء الإسلام
ومن دروس الابتلاء: أن نعرف أعداء الإسلام، ومخططات اليهود، وقد نشرت مجلة المجتمع في آخر عدد لها في أول صفحة أن أول مخطط -الآن- لليهود وأعدائهم تلصيق وتفضيح الدعاة وتلطيخ سمعتهم، فإذا لُطخت بالتراب انصرفت الأجيال عنهم، وعن المساجد والحلقات والمحاضرات، ونظرت الجماهير إلى طلبة العلم والعلماء أنهم ليسوا مصدر ثقة، فلا يوثق بهم، وقد فُعل في كل قطر هذا الفعل، فُعل في فلسطين في رواد الانتفاضة والصحوة وسجلوها في تقارير، ولكن مع معرفتنا بأن الابتلاء حاصل لابد أن نعرف مع من نتعامل، ومع من نجلس، ومع من نتكلم، ونعرف ما حولنا، وأنه يراد بالبلاد الإسلامية والمقدسات وعلماء الإسلام ودعاته وعباده أعظم المكائد.
إن من خطط العلمانية وأنتم تجدونها في بعض الأشرطة أو الكتب التي تتحدث عنهم مثل الشيخ سفر الحوالي وغيره، ومثل كتاب التنصير، إن من خططهم تلطيخ سمعة الدعاة، فإذا لُطخت لا يثق بهم أحد ولا يُقبل عليهم أحد، ولا يتعلم عندهم أحد، فإذا حصل هذا انتصر الباطل.
أعظم ما يصاب به الناس التشكيك في الرسالة، وأعظم ما يصاب به الناس التشكيك في العلماء والدعاة وطلبة العلم؛ فينفض عنهم الجموع، ويأخذون رموز الباطل، وأدعياء الضلالة وأهل الشهوات، وعباد الأغنية الماجنة، والسهرة الخليعة، والعربدة والكأس، وحينها لا يحقق لهم انتصار، واجهوا الإسلام بالسلاح؛ فانتصر الإسلام عليهم، واجهوهم في فلسطين وفي أفغانستان وفي كل مكان فما استطاعوا أن يحققوا شيئاً، فأخذوا وسيلة أخرى أشد مكراً وخبثاً، ولكن: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].(21/15)
من دروس الابتلاء: الابتلاء علامة لمحبة الله للعبد
ومن دروس الابتلاء: أن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط، وبعض الابتلاءات تجعل ضعاف النفوس يتحول عن الإسلام تماماً، وبعضهم يصاب بمصيبة فيترك المسجد ويكفر بالدين ويعرض عن لا إله إلا الله، ويترك منهج الله! خسر الدنيا والآخرة، انقلب على وجهه، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] لكن يأبى الله أن ينقلب العبد على وجهه بعد أن ذاق حلاوة الإيمان، وبعد أن أحب محمداً عليه الصلاة والسلام أكثر من أمه وأبيه.
{فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] ولكن يقول ابن تيمية لأنه قد افُتري عليه افتراءات وهو في الإسكندرية يقول: "يحق للعبد أن يدافع عن نفسه في وقت البلاء".
فأقول: والله الذي لا إله إلا هو إن العبد يتمنى صباح مساء أن يصب دمه خدمة للا إله إلا الله، والله إن أعظم ما يمكن أن أتمناه وأنتم -إن شاء الله- أن تسفك دماؤنا في الأرض لتنتصر لا إله إلا الله، اللهم إنا نسألك أن تصدق قولنا بشهادةٍ في سبيلك، اللهم اسفك دماءنا لترتفع لا إله إلا الله، اللهم قطّع رءوسنا ليبقى الحق حقاً في الأرض وتبقى الرسالة.
فداً لك من يقصر في فداك فلا ملك إذاً إلا فداكا
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
لا يحل به إلا لا إله إلا الله، وإلا الرسالة والرسول عليه الصلاة السلام؛ حينها يعرف سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنا نريد أن ينتصر هذا الدين على جماجمنا، ولحومنا ودمائنا، ولا أبقى الله باقية لمن يريد أن يسفل الدين ليرتفع هو، أو يهزم أو يخسر أو ينال شهرة على حساب الدين حاشا وكلا! {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران:193] ربنا إننا أتينا نريد ما عندك.
وليس على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أعقابنا تقطر الدما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما(21/16)
من دروس الابتلاء: حقارة الدنيا عند الابتلاء
ومن دروس الابتلاء: أن الحياة تصبح بشهواتها وملاذها ووظائفها وأموالها وبهارجها ودعاياتها، تصبح ضعيفةً ضئيلةً: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88].(21/17)
الابتلاء ببعث الهمة في النفوس
ومن دروس الابتلاء: أن العبد عليه أن يواصل بهمة أعظم وأعلى، وبقوةٍ وصرامةٍ، ويستمر ويؤدي لأنه قد باع نفسه من الله.
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
حينها يجب على المسلم أمور:
أولها: أن يخلص لله وأن يصدق في دعوته، وأن يؤدي دعوته على أكمل وجه، وألا يتوقف، وأما هذه الابتلاءات فإنها عواصف: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17]
الحق سوف يبقى وسوف ينتصر، وسوف تبقى المساجد، وسوف يهيمن الإسلام، وتعود لنا مقدساتنا، ويعود القدس إن شاء الله، وتعود أفغانستان، وينتصر الإسلام، وترتفع لا إله إلا الله وتنتصر هذه الصحوة، ويعم الأرض -إن شاء الله- انتصار خالد، ولكن هذه التقلبات والأعاصير إنما هي في الطريق، ولكن العاقبة سوف تتم اليوم أو غداً -إن شاء الله- وليس رهناً أن نرى انتصار الإسلام في هذه الفترة فما علينا إلا أن نقدم أموالنا وأوقاتنا ودماءنا وجماجمنا ليعلم الله أننا صدقنا؛ وأننا جاهدنا، وليعلم الله أننا ثبتنا، ثم يأتي جيل بعد جيل حتى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:101 - 103].
دخل الإمام أحمد إمام أهل السنة والجماعة الحبس واقفاً في القيد فأراد بعضهم أن يتنازل عن عقيدته؛ ولكنه أبى وصبر حتى انتصرت لا إله إلا الله، وانتصر وعلم الله أنه صادق، وبقي مذهب أهل السنة والجماعة يسود، وسوف يبقى ويكتسح العالم.
والبخاري ابتلاه أمير بخارى بفرية، فما كان من البخاري إلا أن التفت إلى القبلة وهو راكب وقال: "اللهم اكفنيه بما شئت" فما رفع يديه وما وضعها إلا وقد خنق السلطان مكانه {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52].
وابتُلي مالك وجُلد، وسعيد بن المسيب شُهِّر في قميصٍ شفاف، وهو عابد في الستين من عمره؛ ذرفت عينه اليمنى من كثرة البكاء، يقول: [[ما أذن المؤذن من أربعين سنة إلا وأنا في المسجد]] ولكن أُخذ ورُكب على جمل، وهو سيد التابعين، وعلاّمة الدنيا، وزاهد المعمورة، وعالم الحديث الذي حديثه كالذهب، ركب على جمل فأخذ أطفال المدينة، ومواليها وعبيدها يضحكون عليه يطاف به وقد قلبوا وجهه إلى ظهر أو دبر البعير، ويجلدونه بالسياط وهو يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
هذا هو الطريق، والذي لا يعرف هذه سوف يصاب بصدمات يوم يأتيه الخبر في دينه أو عرضه أو أهله أو أطفاله، ولذلك أكثر الناس انهزاماً الذين لا يعرفون أخبار القرآن والسيرة والتاريخ الإسلامي، إنهم ينهارون تماماً، ولكن ليعد العبد إلى التاريخ، وقبل ذلك إلى القرآن والسنة.
اقرأ التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر
أيها المسلمون: إن من أفضل المعالم التي نعلمها يقيناً أن العاقبة للحق، وأن الله لن ينصرك إلا بأعمالك، وأن الواسطات والشفاعات والدنيا إذا اجتمعت وأنت على باطل فلن تنتصر أبداً، ولكن.
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
وقل دائماً: حسبنا الله ونعم الوكيل، وتوكل على الحي الذي لا يموت، حينها ينصرك الله.
ويقول عليه الصلاة والسلام لـ ابن عباس: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف} والله الذي لا إله إلا هو، لو اجتمع أهل الأرض جميعاً على أن يكيدوك والله معك لن يكيدوك شيئاً، وإن اجتمعوا على أن ينصروك والله ضدك لما فعلوا شيئاً في نصرك، فالقوة التي لا تغلب قوة الله، وهذه أعظم الدروس: أن العبد يتخلى عن الاعتماد على الناس أو على الكيانات أو على الجهات ولا يعتمد إلا على الله.(21/18)
إظهار التوحيد في الابتلاء
ومن دروس الابتلاء العظيمة: صدق التوحيد وألا يعتمد إلا على الله، ويعرف من جرب أن لا إله إلا الله لا تظهر حارةً صادقةً قويةً إلا يوم يبتلى العبد، فيقول: لا إله إلا الله من قلبه.
ومن أعظم ميزات التوحيد: أنه يقف معك في الأزمات، يقول محمد بن عبد الوهاب رحمه الله المجدد: "عامي موحد يغلب ألف مخلط" وهذا العامي هو الذي يحمل لا إله إلا الله محمد رسول الله بصدق، فالتوحيد يظهر في الأزمات: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] والله لا يريد إلا أن يكون الدين له، فيقول لأوليائه: ذوقوا وجربوا واصبروا واعلموا أنه لا ينصر إلا الله، ولا يهدي إلا الله، ولا يكافح ويناضل عن الأبرار والأخيار والصالحين والعلماء والدعاة والعباد والصادقين إلا الله فيقول: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3] فعلى كل حال لابد أن تأخذوا من الابتلاءات في التاريخ درساً عظيماً في التوحيد والإيمان، وأن تعرفوا أنه لا ينتصر العبد إلا بصدقه مع الله، وأن يكون ظاهره كباطنه، وأن يقول كلمة الحق ولو قدم رأسه ودمه، ليعلم أنه صادق ولينصره الله نصراً مؤكداً، هذه هي من القضايا التي ينبغي أن نعيشها، والله له في خلقه أسرار وحكم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(21/19)
الابتلاء في الدين أعظم الابتلاءات
أما الابتلاءات غير ابتلاءات الدين فكلها سهلة هينة يذوقها الناس جميعاً، والكفار يذوقون ابتلاءت المال والخسائر المالية، وموت الأطفال، والزوجات، والإخوة، واحتراق البيوت، وهذا قدر مشترك بين المؤمن والكافر، ولو كان هذا الابتلاء موت الأطفال أو انهدام واحتراق البيت أو ذهاب المال، فهذا أمر مشترك فية الخواجة الكافر، والفلسفي الأحمر، واليهودي المجرم، وكذلك المسلم لكن أما الابتلاء الصارخ في الدعوة، وتشويه السمعة، وتلطيخ واجهة الدين؛ فهذا لأولياء الله ليحتسبوا دعوتهم، وليخلصوا منهجهم لله؛ وليعلموا أنه لا يكفيهم إلا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137] قتل عثمان وسال دمه على هذه الآية ولا زال المصحف موجوداً بشكل موجود على آية: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة:137] طوق المتمردون الثوار على بيت عثمان فقال: [[اللهم لا قوة لي فأنتصر فانصرني]] فدخلوا عليه وهو يقرأ قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة:137] فذبحوه، لكنه ما انتهى فقد بقي ذكره في الآخرين بالذكر الحسن، فسمعته وتاريخه وذكره حسن، بل نحن نترضى عليه في كل جمعة وفي غالب الصلوات، أما أعداء الله الذين سحقوا الدعوات فيلحقون باللعنة، أين فرعون والنمرود وجمال وتيتو وأتاتورك والمغرضون؟ لعنوا ويوم القيامة يوردون إلى النار، ويفضحون ويخزون، ويعرضون على النار؛ جزاءً لما قدموا في محاربة هذه الدعوة.
أيها المسلمون: هذا درس في الابتلاء ولعل هناك من التساؤل أو من القصص، أو من التعليق ما سأكمل به هذا الوقت، وأسأل الله عز وجل لي ولكم السداد والثبات.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعلماء رسالة رسولك صلى الله عليه وسلم، والصالحين من عبادك وأوليائك، اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل الدين، اللهم من أرادنا والإسلام بسوء فأشغله بنفسه واجعل تدبيره في تدميره، واخذله يا رب العالمين، اللهم اكشف أسراره، واهتك أستاره، وأبد عواره، اللهم أخرس لسانه وأذهب عقله، ودمره تدميراً عظيماً، اللهم أرنا فيه عجائب صنيعك يا رب العالمين، اللهم انتقم لأوليائك، وانتصر لأحبابك ودعاتك ولعبادك الصالحين، اللهم ثبتنا على الحق، اللهم من نصر الدين فانصره ومكنه في الأرض، واجعله يا رب العالمين هادياً مهدياً وتوله في الدارين، نسألك يا رب العالمين أن تحمينا وأن تنصرنا وأن تحفظنا، وأن تهدينا سواءاً السبيل، وأن تمنعنا من كل سيئ يريد بنا والإسلام والمسلمين سوءً، اللهم لا تدابير لدينا ولا حيل، وإنما حسبنا الله ونعم الوكيل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174] اللهم ثبت واهد ولاة الأمر لما تحبه وترضاه، اللهم قيض لهم البطانة الصالحة الناصحة التي تهديهم إلى الحق، اللهم انصرهم بالإسلام وانصر بهم الإسلام.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(21/20)
الأسئلة(21/21)
وصية لمن ابتلي في دينه
السؤال
إن الإنسان قد يبتلى في دينه، فبماذا توصي من حصل له مثل هذا؟
الجواب
أولاً: الناس يبتلون على قدر إيمانهم، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه ذكر أن أكثر الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، وصح عنه عليه الصلاة والسلام قوله: {مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، تفيئها الريح يمنة ويسرة، ومثل المنافق كالأرزة لا تزال قائمة حتى يكون انجعافها مرةً واحدةً} ولذلك لا يبتلى المنافق في الغالب إلا بما يبتلى به الكفار، أو ابتلاءً يشترك معه بقية الناس، فأوصي نفسي وأنفسكم أن نتمنى العفو والعافية، ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يعافينا، فإذا وقع الابتلاء عليك بأربعة أمور كما قال ابن القيم:
أولها: أن تحمد الله عز وجل أن أبقى عليك دينك، وأنك ما كفرت بالله، وأنك ما خرجت عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، يقولون ولذلك إن عالماً من علماء المسلمين حبس مع نصراني في بيت المقدس -أي: في سجن- فكان هذا النصراني توجعه بطنه وعنده إسهال، فكان كلما أراد أن يقضي حاجته يأخذه معه، فيقول العالم: الحمد لله رب العالمين، فقال الحارس: على ماذا تحمد الله؟! على أن سلسلك في هذا الحبل ويسحبك هذا النصراني إلى الحمام، قال: أحمد الله على أني مسلم ولست نصرانياً، أحمد الله على أن الدين بقي.
الثاني: كما يقول ابن القيم: إن الابتلاء سنة من سنن الله، وكما يقال في المثل: في كل واد بنو سعد، وما من واحد إلا ابتلي، والله خلق الخلق ليبتليهم، وليعرف الصادق من الكاذب.
الأمر الثالث: أنها أسهل من غيرها، وأنها أهون من أطم وأعم منها؛ فإن بعض الضربات تعمي، وأعمى العمى من يرتد عن دينه.
الرابع: أن في الأجر والمثوبة عند الله ما يسلي، فإن الأجور عنده سبحانه كما قال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157].
يقول عمر: [[والذي نفسي بيده! ما عليَّ على أي حالة أصبحت، إن كان على الفقر لهو الصبر، وإن كان على الغنى لهو الشكر]] وقالوا لـ عمر بن عبد العزيز: ماذا تتمنى؟ قال: [[أتمتع بمنازل القضاء والقدر]] قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] فما أعظم الأجر والمثوبة؛ فإن ما فات العبد، وما أصيب به من هم وغم وحزن وتعريض وتعنيف كله في جانب أجره عند الله سهل.
ومن المنافع العظيمة في الابتلاء، وهي جزيلة: تمحيصهم من الذنوب والخطايا، ويصفيه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بهذا الابتلاء.
ومنها أيضاً: أن يُمكَّن الإيمان، ويكتب الإيمان في قلبه كما يقول سيد قطب في كلام له يقول: "هذا الدين لا يأتيه كل من يريده" وهو كما يقول أحد الدعاة العصريين: ليس زريبة بقر، فالدين ليس زريبة بقر يدخل فيه من يدخل ويخرج من يخرج، والدين لا يأتيه إلا من هو صادق، لأن الجنة حُفت بالمكارة، وحفت النار بالشهوات، فلا يأتي الدين إلا من هو صادق، أما الشهواني فلا يريد الدين؛ ولذلك لا يبتلى؛ لأنه قد سقط في أول الطريق.
على ماذا يُبتلى الذي لا يصلي الفجر جماعة؟!
على ماذا يبتلى الذي لا يعرف بيت الله، ولا يعرف القرآن، ولا يتمنى الشهادة، ولا يريد وجه الله؟!: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] تماماً كالحيوانات، شهوات، وسهر، وغناء، ومجون، وبطون، وفروج، ولكن لا ابتلاء؛ لأنهم رسبوا في أول الطريق، ولا يزال الابتلاء بالعبد حتى يصل به مثاقيل الذر، وفي أثر: {يتمنى الناس يوم القيامة أنهم قرضوا بالمقاريض يوم يرون المبتلين} وقال أبو الدرداء: [[أول ما يدخل الجنة الحامدون الذين يحمدون الله في السراء والضراء]].
ويقول سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133 - 134].
فهذه من دروس الابتلاء، ومن ابُتلي عليه أن يكثر من قوله حسبنا الله ونعم الوكيل، ومن ترداد: لا حول ولا قوة إلا بالله، يقول ابن تيمية وذكره ابن القيم أيضاً في الوابل الصيب: "قال الله للملائكة: احملوا العرش، قالوا: لا نستطيع يا رب، قال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما قالوها حملوا العرش"
ومنها: كثرة الاستغفار: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:250 - 251].
ومنها: التعلق بالقرآن والنوافل والدعاء، يقول ابن تيمية في المجلد الحادي عشر لما جعلوا له المناظرة في الإسكندرية وهو في بيت قال: "فأعددت في الليل من العبادة والدعاء ما ينبغي للمواجهة" {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] وقوة المؤمن أن يعد من الأذكار والأدعية ما ينبغي للمواجهة.(21/22)
موقف المسلم من الشائعات
السؤال
كيف يقف المسلم أمام الشائعات المغرضة التي تنتشر؟
الجواب
ذكر الله عز وجل لنا منهجاً في القرآن أمام هذه الأخبار، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] فأمرنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن نتبين الأخبار، ومن حملها وماذا يحف بها، وما هي ملابساتها وما مقاصدها، ومن وراءها حتى نكون على بينة، قال سبحانه: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] لا تَقْفُ: أي: لا تتبع ما لا تتأكد منه، وقيل أي: لا تنشر وقيل: أو لا تسأل عن شيء لا أصل له قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] وهذا منهج واضح، والله عز وجل يقول في سورة النور في شأن الصحابة الذين أخطئوا، وليسوا بمعصومين يوم تلقوا خبر الإفك قال سبحانه: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] يقول: لماذا تتحدثون عن هذه الأخبار؟ أتشكون في الرسالة! أتشكون في الإسلام! أتشكون في القرآن! أتشكون أن الابتلاء وارد! لماذا تعينون هؤلاء؟ لأنهم يريدون القضاء على الإسلام وقد حققوا آمالهم بما يصبون إليه، وهو لا يريد منك صاحب الباطل وعدو الإسلام أن تموت فقط، ولا يريد منك أن تكون خصماً له تضربه ويضربك، هذا سهلٌ، لكن يريد أن يدمر دعوتك ورسالتك وإسلامك ومنهجك حتى ينتصر، فهذا هو المقصود؛ فلذلك لامهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حتى ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بعدها: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
والناس قسمان: من أحب هذا ونشره وأفشاه وأشاعه، وتلذذ بذكره واستعاده في المجالس؛ ففي قلبه مرض وهو عدو للإسلام، وهو يريد أن تشيع الفاحشة، ويريد أن يلطخ الدين والإسلام والقرآن والرسالة، والقسم الآخر من قال: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] وذَكَّره قلبه وقال: هذا إفك مبين؛ حينها هو صادق مؤمن إن شاء الله.(21/23)
أسباب انتشار الشائعات
السؤال
لماذا انتشرت الشائعة أكثر من الآية والحديث؟
الجواب
نعم.
الآن كم تلقى من الدروس، وكم تلقى من المحاضرات، هل تنتشر كما تنتشر الشائعات؟ لا.
وذلك لأسباب:
أولها: أن الحق ثابت والباطل شاذ، والشاذ تنكره العقول، وينكره كل شيء، والناس ينكرون الشاذ، فإذا أتى خبر شاذ كان له شائعة.
الأمر الثاني: أن إبليس يوزع أحفاده وأولياءه في الأرض، قال سبحانه: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] وله خدمه من الأنس والجن، وله مراسلون ووكالات أنباء، وصحف، وله مذيعون يأخذون خبره: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] ثم قال سبحانه بعدها: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] يقول بعض المفكرين عن هذه الآية وهو موجود في شريط: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] قال: يحبونه، ويتلذذون بسماعه، وينشرونه في المجالس، وبعضهم يقول: يا ليته ما حدث! ويعلم الله أن في قلبه رجس فزاده رجساً إلى رجسه: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] أي: لينشروه وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون، ويتحدى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى -أي: بلسان الحال- فماذا يفعلون، والإسلام باقٍ والحق باقٍ
لبث قليلاً يشهد الهيجا حمل لا بأس بالموت إذا حان الأجل
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
رب من أنضجت حقداً قلبه قد تمنى لي موتاً لم يطع
ويراني كالشجى في حلقه جلجلاً في حلقه ما ينتزع
حسبنا الله ونعم الوكيل.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(21/24)
الإخلاص لله والصدق مع الله
لا يخفى على المتأمل في الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح ما خص به الإخلاص من اهتمام عظيم، والصحوة الإسلامية اليوم وهي تتلمس طريقها هي أحوج ما تكون إلى الإخلاص والصدق مع الله، فهو كفيل أن يجمع شملها، ويلم شعثها، ويسدد خطاها.
وقد ذكر الشيخ في هذا الدرس ما يوجه القلوب إلى هذا العمل الصالح ويزكيها به، واهتم بالنقل عن السلف الصالح لما في قصصهم من أثر عظيم على القلوب.(22/1)
منزلة الإخلاص
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول, وفوق ما نقول, ومثلما نقول, لك الحمد بالإيمان, ولك الحمد بالإسلام, ولك الحمد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم, عز جاهك, وجل ثناؤك, وتقدست أسماؤك, ولا إله إلا أنت, في السماء ملكك, وفي الأرض سلطانك, وفي البحر عظمتك، وفي الجنة رحمتك, وفي النار سطوتك, وفي كل شيء حكمتك وآيتك.
أنت رب الطيبين, لك الحمد حتى ترضى, ولك الحمد إذا رضيت, ولك الحمد بعد الرضا, والصلاة والسلام على من أرسلته معلماً وهادياً وبشيراً, وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً, بلغ الرسالة, وأدى الأمانة, ونصح الأمة, وجاهد في الله حتى أتاه اليقين, فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
سلام عليكم يوم اجتمعت قلوبكم تطلب الإخلاص لله, وتطلب الصدق مع الله, فلا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون, ولا إله إلا الله نلقى بها ربنا تبارك وتعالى، ليكفر بها سيئاتنا وخطايانا, ولا إله إلا الله نقف على عتبات رحمته سُبحَانَهُ وَتَعَالى نادمين، خاشعين، مذنبين، معترفين، لسان حالنا يقول:
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شِبْتُ في الرق فاعتقني من النار(22/2)
الإخلاص أكبر قضايا التوحيد
إن الإخلاص أكبر قضايا التوحيد, إن الإخلاص هو الباب الكبير الذي يدخل به العبد على الواحد الديان, إن الإخلاص هو الذي يبقي العمل موفوراً سليماً من العيوب والنواقص: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] يوم تتساقط الدعاوى والألقاب الأرضية وأوسمة التراب, وتبقى لا إله إلا الله قوية, وتبقى لا إله إلا الله سليمة, وتبقى لا إله إلا الله منجية لصاحبها.
ولذلك كان معنى لا إله إلا الله أن تخلص العبادة لله, وكان معنى لا إله إلا الله أنك إذا سجدت أو ركعت أو سبحت أو دعوت أو تكلمت تكون عبداً لله, ظاهرك وباطنك يحمل العبودية للواحد الديان.
جاء في كتاب الزهد للإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {قال الله تبارك وتعالى: عجباً لك يا بن آدم! خلقتك وتعبد غيري, ورزقتك وتشكر سواي, أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك، وتتبغض إليّ بالمعاصي وأنت فقير إليّ! خيري إليك نازل, وشرك إليّ صاعد!} وهذا مثل العبد الذي لا يتشرف بعبودية الله, ومن الذي لا يتشرف بعبودية الواحد الأحد؟! من الذي لا يتشرف بالإخلاص لله والصدق مع الله؟!
ومما زادني شرفاًَ وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
إننا نقف أمام موضوع الإخلاص خاشعين؛ لأنه موضوع رهيب وصعب وموضوع مرعب حقاً.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] إي والله! ألا لله الدين الصافي النقي الذي يريده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ويقول سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] هل أمروا أن يكونوا مرائين؟ أو منافقين؟ أو مشركين؟ وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66].(22/3)
موسى وكلمة الإخلاص
وقف موسى عليه السلام، قائد التوحيد في وجه إعصار الطغيان, موسى العقيدة, موسى لا إله إلا الله, موسى الذي حمل عصا التوحيد ليكسر بها رأس الضلالة والعمالة والجهالة فرعون الطاغية, فنادى ربه وكلمه كفاحاً: {فقال: يا رب! علمني كلمة أدعوك بها وأناجيك.
فقال الله: يا موسى! قل لا إله إلا الله -فتعجب موسى؛ لأن الكلمة معروفة ومشهورة- قال: يا رب! كل عبادك يقولون: لا إله إلا الله, فقال الله: يا موسى! لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين في كفة, ولا إله إلا الله في كفة, مالت بهن لا إله إلا الله} رواه الحاكم وابن حبان.
فإذا علم أن معنى لا إله إلا الله أن تكون عبداً لله, لحمك وشحمك وعظمك وشعرك وعصبك ملئن نوراً من نور الله, لأن الله يريدك أن تكون عبداً له.
ولذلك جاء في البخاري: من رواية ابن عباس وخباب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب لصلاة الفجر: {اللهم اجعل في قلبي نوراً, وفي سمعي نوراً, وفي بصري نوراً, وعن يميني نوراً, وعن شمالي نوراً, ومن أمامي نوراً, ومن خلفي نوراً, واجعل لي نوراً} زاد البخاري في رواية: {واجعل في عظمي نوراً, وفي دمي نوراً, وفي مخي نوراً, وفي بشري نوراً, واجعل لي نوراً} فالنور هذا هو نور لا إله إلا الله, وهو قبس وضياء لا إله إلا الله.(22/4)
أحاديث في فضل الإخلاص
إن الأحاديث في الإخلاص كثيرة، منها:(22/5)
حديث الثلاثة الذين تسعر بهم النار
فهذا هو موضوع الإخلاص الذي يهاب الشخص أن يتكلم فيه, يقول شفي الأصبحي رحمه الله: دخلت المدينة فوجدت أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه قد اجتمع عليه الناس حلقات بعضها دون بعض, فتقدمت إليه فقلت: يا أبا هريرة! أسألك بالله أن تحدثني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تسمعه من غيره.
قال: فبكى, ثم رفع رأسه وقال: والله لأحدثنك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعته من غيره, ثم بكى حتى نشغ من البكاء, ثم رفع رأسه وقال: والله لأحدثنك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعته من غيره, ثم بكى حتى نشغ, ثم رفع رأسه, وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة, قلنا: من هم يا رسول الله! خابوا وخسروا؟ قال: عالم علمه الله -وفي لفظ صحيح-قارئ علمه الله القرآن، يؤتى به يوم القيامة يجرجر حتى يقف أمام الله, فيقول الله: أما علمتك العلم؟ أما أقرأتك القرآن؟ فيقول: بلى يا رب! قال: فماذا فعلت؟ قال: علمت فيك، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر -ولكن الذي يعلم السر وأخفى ويطلع على القلوب, ويعلم الخفايا ويدرك الأمور هو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- قال: كذبت, وتقول الملائكة: كذبت, ثم يقول الله: بل تعلمت ليقال عالم فقد قيل؛ خذوه إلى النار فيسحبونه حتى يدهده على وجهه في النار, ويؤتى بالشجاع الذي قاتل في الثغور والجبهات, فيعرفه الله النعمة ويسأله أين بذلها؟ وفيم أنفقها؟ وأين أسداها؟ فيقول: فيك يا رب! قاتلت وقتلت, وهو في ظاهره شهيد -ولكن علم الله أنه لايريده في باطنه- فيقول الله: كذبت, وتقول الملائكة: كذبت, ويقول الله: إنما فعلت ليقال شجاع وقد قيل؛ خذوه إلى النار.
فيسحب حتى يلقى على وجهه في النار -نسأل الله العافية- ثم يؤتى بالكريم -وما أدراك ما كريم الرياء والسمعة- فيقول الله: أما سودتك؟ أما خولتك؟ أما أعطيتك الأموال؟ فماذا فعلت فيها؟ فيقول: أطعمت الجائع, وكسوت العاري, وأنفقت على المسكين, وما تركت سبيلاً إلا أنفقت فيه.
فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت, ثم يقول الله: إنما فعلت ليقال: جواد وقد قيل, خذوه إلى النار} وهذا حديث صحيح.
فيا ويل من عمل لغير الله! ويا ويل من صلّى لغير الله يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، يقول تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94] كل شيء عند الله مكشوف الجسد مكشوف, والقلب مكشوف, والتاريخ مكشوف, والسجل من الحسنات والسيئات مكشوف, جئنا إلى الله حفاة عراة غرلاً, كما بدأكم تعودون.
فلذلك كان على العبد أن يطلب الثواب من الله, وأن يطلب الدرجات من الحي القيوم, فإنه الذي يبقى والناس يذهبون.(22/6)
إنما الأعمال بالنيات
وعن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى, فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه} متفق عليه.(22/7)
يا معاذ: أخلص عملك يكفك القليل
وعن معاذ رضي الله عنه وأرضاه قال: كان آخر ما ودعني به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال لي: {يا معاذ! أخلص عملك يكفك القليل} رواه الحاكم , وقَبِلَه المنذري وغيره.(22/8)
نماذج من إخلاص صحابة النبي صلى الله عليه وسلم
إذا علم هذا، فتعالوا بنا لنقف أمام نماذج من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم, أخلصوا لله فرفعهم الله بالإخلاص, ورفعهم الله بالصدق معه.(22/9)
إخلاص عمر بن الخطاب أكسبه الشهادة
منهم: أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وأرضاه, عمر الخليفة الزاهد الصادق المخلص، الذي يقف على المنبر وفي برده أربع عشرة رقعة, وهو يملك ذهب الأمة وفضتها وكنوزها, ويبقى جائعاً ليطلب الثواب والأجر من الله.
عمر الذي يقول: [[يا ليتني كنت شجرة تعضد! يا ليت أمي لم تلدني!]].
وإذا كان هذا في سبيل الله, فأنعم وأكرم بمثله من عمر رضي الله عنه وأرضاه!
وقد سأل الله تعالى الشهادة في آخر حجة حجها, فإنه لما حج رفع يديه عند الجمرات، وقال دعاءً حاراً صادقاً فيه، طالباً من الله الشهادة، قال: [[اللهم إنها ضاعت رعيتي, ورق عظمي, ودنا أجلي, فاقبضني إليك غير مفرط ولا مفتون, اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتة في بلد رسولك.
فقال الصحابة: يا أمير المؤمنين! إن من يطلب الشهادة يخرج إلى الثغور, قال: هكذا سألت! وأسأل الله أن يلبي لي ما سألت]].
وعاد إلى المدينة صادقاً مخلصاً, وعلم الله صدقه وإخلاصه, ففي أول ليلة إذا به يرى في المنام رؤيا مبشرة رأى في منامه كما قال أهل العلم: ديكاً ينقره ثلاث نقرات, فسأل في الصباح أسماء بنت عميس الحثعمية , فقالت: يا أمير المؤمنين! استودع الله في نفسك الذي لا تضيع ودائعه, إنني أرى أنك تقتل بيد رجل من العجم.
فأتى عمر في آخر جمعة يخطب, فما كان إلا البكاء على المنبر, يستودع الناس ويستبرئهم, ويطلب المسامحة والعفو, ويطلب منهم أن يتجاوزوا عما أخطأ, ولم يكن منه إلا الجميل.
وفي صباح يوم السبت يأتي الصدق لأهل الصدق, والإخلاص لأهل الإخلاص؛ لأنه سأل الشهادة مخلصاً منيباً صادقاً مع الله, فيصلي الفجر ويقرأ سورة يوسف, وما أحسن سورة يوسف يا شباب الإسلام! وما أروعها! وما أقواها! يوم تربي في نفس الشبيبة التقوى, يوم تجعل لهم يوسف عليه السلام علماً ومعلماً من معالم الذين ثبتوا على لا إله إلا الله, وأخلصوا للا إله إلا الله, فحفظهم الله في الخفاء بعين رعايته: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
ويركع أمير المؤمنين, وتمتد يد آثمة, ما سجد صاحبها لله سجدة, يد بغيضة ما ركع صاحبها لله ركعة, لتمزق الأديم الطاهر المجاهد العابد الزاهد.
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا
فيهوي في المحراب، وما أحسن الشهادة! وما أحسن الشهيد! وما أحسن البقعة! وما أحسن الصلاة! ويُرفع رضي الله عنه, وجذوة الصدق والإخلاص حية في قلبه, يرفعه الناس على أكتافهم, ودماؤه تسيل على أكتاف الرجال, ويذهب به إلى بيته, فيوضع في البيت, ويوضع تحت رأسه مخدة, فيقول للناس: أزيلوها عن رأسي, وضعوا رأسي على التراب, علّ الله أن يرحمني.
رحمك الله يا أبا حفص رحمك الله يا فاروق الإسلام! رحمك الله أيها الصادق المخلص الذي قوى الله به الدين.
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
قال: ضعوا خدي على التراب, لعل الله أن يرحمني, فوضعوه على التراب، ودخل أمير المؤمنين سيف الله المنتضى أبو الحسن علي بن أبي طالب , فقال: يا أمير المؤمنين! هنيئاً لك! والله لطالما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {جئت أنا وأبو بكر وعمر! ودخلت أنا وأبو بكر وعمر! وخرجت أنا وأبو بكر وعمر!} فأسأل الله أن يحشرك مع صاحبيك, فدمعت عينا عمر , وقال: [[ليتني نجوت كفافاً لا لي ولا عليَّ]].
هذا وهم المجاهدون الصادقون, فقل لي بالله: ماذا فعلنا للإسلام؟
وقل لي بالله: ماذا قدمنا للا إله إلا الله؟
وقل لي بالله: ماذا ادخرنا عند الله؟
هل هناك جهاد؟
هل سكبنا دماءنا لرفع لا إله إلا الله؟
هل قطعت رءوسنا من أجل نصرة لا إله إلا الله؟
هل سهرنا نناجي من أنزل لا إله إلا الله؟
نحن برحمة الحي القيوم, ذنوب وخطايا وعيوب ونقص, لكن نسأل الله كما سترنا في الدنيا فلم يفضحنا أن يغفر لنا يوم أن نأتيه مذنبين نادمين في يوم لا ريب فيه.
هذا هو الصدق, وقصة عمر رواها أصحاب الصحيح, ويأتي الصحابة الواحد تلو الآخر, وذاك بعد هذا, ليسجلوا صحفاً من نور, منحوتة في الصدور، من الصدق مع الله الواحد الأحد.(22/10)
عبد الله بن جحش وسعد بن أبي وقاص يبايعان الله
يقول سعيد بن المسيب رضي الله عنه ورحمه الله رحمة واسعة، وهو الذي ما فاتته تكبيرة الإحرام في المحراب في الروضة ستين سنة، في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقل لأهل المطاعم الشهية والمراكب الوطية والمساكن الرضية: أين تكبيرة الإحرام؟
وقل لأهل الملابس الجميلة, ولكل من له همم في الدنيا: أين تكبيرة الإحرام؟
وسعيد الذي لا يجد كسرة الخبز, يقول: ستين سنة ما فاتتني تكبيرة الإحرام.
يقول -وهذا الحديث مرسل-: لما اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أحد في معركة أحد الصادقة للصادقين, معركة أحد التي قدمها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قصيدة في جبين الزمن, ونجماً في سماء التاريخ, وقف الصحابة قبل ذاك وهم صفوف, صفوا للمعركة كما صفوا للصلاة.
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
وقبل المعركة قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لـ عبد الله بن جحش: [[تعال نبايع الله هذا اليوم]].
إي والله! قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] لا أصدق من الله, ولا أوفى من الله, ولا أحق بالوفاء من الله, فهل تريدون الثواب من غير الله؟ قال سعد: يا عبد الله تعال نبايع الله هذا اليوم, فانزويا وراء أكمة, فرفع سعد يده وقال: اللهم انصرنا في هذا اليوم, اللهم أعل كلمتك, اللهم أيد دعوتك, فلما انتهى من الكلام تقدم عبد الله جحش أول أمير في الإسلام، الصابر على الجوع والعطش كما سماه صلى الله عليه وسلم, وهو شاب في السادسة والعشرين, فيا أبناء السادسة والعشرين ويا أبناء الثلاثين أين المستقبل مع هذا الدين؟
أين الخدمة لهذا الدين؟
أين العيش في رحاب هذا الدين؟
فيتقدم ويرفع يديه لا يريد إلا إرضاء الله والجنة, لا يريد إلا تلك الرياض, ملّ من الدنيا, فارق الأحباب والأوطان, سافر إلى الحي القيوم فرفع يديه وقال: اللهم إني أسألك صادقاً مخلصاً هذا اليوم أن تواجه بيني وبين عدو لك من الكفار شديد حرده, قوي بأسه, فيقتلني فيك, فيبقر بطني, ويجدع أنفي, ويفقأ عيني, ويقطع أذني, فألقاك بهذه الصورة, فتقول لي: يا عبد الله لِمَ فُعِل بك هذا؟ فأقول: فيك يا رب! قال سعد بن أبي وقاص: فوالذي نفسي بيده لقد أتيته في آخر المعركة, وإنه لمقتول بين القتلى, مبقور بطنه, مجدوع أنفه, مفقوءة عيناه, مقطوعة أذناه, فقلت: أسأل الله أن يكمل له سؤاله.
هذا هو الصدق، ويوم صدقوا مع الله أثابهم الله بالصدق, ولبى لهم ما سألوا.(22/11)
أعرابي يصدق مع الله
يأتي أعرابي من الصحراء، لكنه يفهم حرارة لا إله إلا الله, ويدرك عمق لا إله إلا الله, فما لنا اليوم نكررها, ولكن ليس لها ذلك الطعم؟ لأننا خالطناها بالمعاصي والمخالفات, وما يناقضها {يأتي أعرابي فيقول: يا رسول الله! فيقول صلى الله عليه وسلم: نعم.
قال: أبايعك على لا إله إلا الله وأنك رسول الله, فيبايعه صلى الله عليه وسلم, وتأتي الرسول صلى الله عليه وسلم غنائم, فيعطي هذا الأعرابي منها, فيقول: يا رسول الله! ما على هذا بايعتك, قال: على ماذا بايعتني؟ قال: بايعتك على أن يأتيني سهم من عدو كافر, فيقع هنا ويخرج من هنا, فتدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم -لأنه أحس صدق هذا الأعرابي ووضوحه وإخلاصه- فقال له: إن تصدق الله يصدقك.
وما أن انتهت المعركة إلا ويأتي سهم طائش, فيقع في لبة هذا الأعرابي ويخرج من قفاه, فيراه صلى الله عليه وسلم مقتولاً, فيمسح التراب من وجهه ويقول: صدقت الله فصدقك الله} إنه الصدق! إنه الإخلاص! إنه طلب ما عند الحي القيوم.(22/12)
إخلاص عبد الله بن عمرو الأنصاري
وإن ننس فلا ننسى قصة عبد الله بن عمرو الأنصاري , الذي أنزل الله فيه وفي إخوانه قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].
أتى عبد الله بن عمرو فصلَّى صلاة الليل قبل معركة أحد بليلة, قام فتهجد ورفع يديه يوم أن كان السلف الصالح يتهجدون, ويوم أن كانوا يناجون الله في الثلث الأخير في الساعات الحبيبة القريبة من الحي القيوم, يوم أن يتجلى الله, وينزل نزولاً يليق بجلاله إلى سماء الدنيا, فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داعٍ فأجيبه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ فقام هذا الصحابي في هذه الساعة ودعا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقه للشهادة، فعلم الله صدقه وإخلاصه, ثم في الصباح قال لابنه جابر: يا بني! إني رأيت في المنام كأني مقتول غداً في المعركة, فعليك بأخواتك، وأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
وذهب إلى المعركة، واغتسل وتحنط وتكفن, ووقف في الصف صادقاً منيباً مخلصاً مع الله عز وجل.
وفي آخر المعركة أتى ابنه جابر فإذا أبوه مقطع أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتأتي أخته, فتبكي وتقول: {يا رسول الله! أهو في الجنة فأصبر وأحتسب، أم هو في غير ذلك؟ قال: أهبلت؟ أجننت؟ إنها لجنان كثيرة, وإن عبد الله في الفردوس الأعلى}.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا جابر! أتدري ماذا فعل الله بأبيك وإخوانه من الشهداء؟ قال: قلت لا أدري يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده لقد كلمهم كفاحاً بلا ترجمان، قال: تمنوا عليّ, قالوا: نتمنى أن تعيدنا إلى الدنيا, فنقتل فيك ثانية.
فقال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون فتمنوا.
قالوا: نتمنى أن ترضى عنا, فإنا قد رضينا عنك.
قال: فإني قد أحللت عليكم رضائي فلا أسخط عليكم أبداً.
فجعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر, تَرِدُ الجنة, وتشرب من ماء الجنة, وتأكل من ثمار الجنة, وتأوي إلى قناديل معلقة بالسماء أو بالعرش حتى يرث الله الأرض ومن عليها} قال ابن كثير رحمه الله: إسناد هذا الحديث حسن.
فقد صدق رضي الله عنه وأحسن, ولما صدق هؤلاء مع الله وفقهم الله.(22/13)
أنس بن النضر يجد ريح الجنة
ولا ننسى أنس بن النضر , وإنما نورد هذه النماذج لأنها حياة للقلوب, ومدد للأرواح، ومعالم في طريق اليقين يأتي أنس بن النضر رضي الله عنه وأرضاه يوم أحد , فيخترق الصفوف كالسهم ماضياً إلى عاقبته المحمودة، وإلى الشهادة المطلوبة, فيرزقه الله الشهادة, بعد أن قال له سعد بن معاذ: يا أنس بن النضر! أبق على نفسك.
قال: إليك عني يا سعد , والله إني لأجد ريح الجنة من دون أحد]] فيرزقه الله الشهادة, قال أنس بن مالك: [[والله ما عرفته إلا أخته ببنانه, ولقد رأينا فيه أكثر من سبعين ضربة، ما بين ضربة سيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم]].(22/14)
ذم الرياء والشهرة
هؤلاء صدقوا مع الله عز وجل, وعلم الله صدقهم وإخلاصهم فوفقهم للصدق, وينافي ذلك الرياء نعوذ بالله من الرياء!
روى أهل الحديث بسند حسن عن معاذ رضي الله عنه وأرضاه {أنه وقف عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى, ومرّ به عمر فقال: ما لك يا معاذ؟ قال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكاني.
قال: وما هو؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: طوبى للأخفياء الأغنياء الذين إذا حضروا لم يعرفوا, وإذا غابوا لم يفتقدوا} فكانوا يذمون الشهرة التي يقصد منها الرياء والسمعة؛ لأنها تنافي الإخلاص, ولأن من يطلب ما عند الله عز وجل لا يلتفت إلى ما عند الناس.
وجاء عند ابن ماجة من حديث أبي هريرة بسند حسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ليأتين أقوام يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة يجعلها الله هباءً منثوراً.
فقلنا: يا رسول الله! أمسلمون هم؟ قال: مسلمون.
قلنا: أيصلون؟ قال: يصلون ويحجون ويعتمرون, ولهم من الليل مثلما لكم, لكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها} أمام الناس عباد وزهاد ونساك, ولكنهم ذئاب في الظلام.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني(22/15)
أثر الإخلاص
إن مما رفع علماءنا وسلفنا الصالح إخلاصهم وصدقهم مع الله, وكل شيء ينتهي إلا الصدق, فإنه ثابت مع صاحبه, مؤنس له في قبره.(22/16)
قصة عبد الغني المقدسي
روى صاحب طبقات الحنابلة: أن عبد الغني المقدسي المحدث الشهير النحرير, كان مسجوناً في بـ بيت المقدس في فلسطين , فقام من الليل صادقاً مع الله مخلصاً, فأخذ يصلي, ومعه في السجن قوم من اليهود والنصارى, فأخذ يبكي حتى الصباح, فلما أصبح الصباح, ورأى أولئك النفر هذا الصادق العابد المخلص, ذهبوا إلى السجان, وقالوا: أطلقنا فإنا قد أسلمنا, ودخلنا في دين هذا الرجل, قال: ولِمَ؟ أدعاكم للإسلام؟ قالوا: ما دعانا للإسلام, ولكن بتنا معه في ليلة ذكرنا بيوم القيامة! كانت دَعْوَتُهم بإخلاصهم وبعبادتهم وبنسكهم.(22/17)
رؤية أيوب السختياني تذكرِّ بالله
قال أهل العلم في ترجمة أيوب بن أبي تميمة السختياني: كان إذا خرج إلى السوق ورأى الناس وجهه, قالوا: لا إله إلا الله.
لأنهم يُذكرون برؤيتهم الحي القيوم, ما كان يتحدث ولا يدعو, وإنما كان يخرج على الناس, فإذا رآه الناس قالوا: لا إله إلا الله, وكان يحفظ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عباده بالصدق والإخلاص.(22/18)
إخلاص الإمام أحمد وصدقه
وما حفظ الإمام أحمد في المحنة إلا بالصدق والإخلاص، وهو القائل:
الإخلاص سيف إذا وضع على جرح برئ بإذن الله؛ لأنه دواء وعلاج.
دخل الإمام أحمد السجن، وعلم الله أنه صادق، ومكث في السجن ثمانية وعشرين شهراً, صائماً نهاره, قائماً ليله, صادقاً مع مولاه, ما أكل للسلطان لقمة, ولا شرب للمعتصم شربة, وإنما بقي صادقاً مع لا إله إلا الله, فجعل الله الرفعة لأهل لا إله إلا الله, وجعل الخزي لأهل البدع الذين حاربوا لا إله إلا الله.
أتي به فعرض على السيف خمس مرات, فأبى أن يلين, وأبى أن يهادن, وأبى أن يستسلم لأنه صادق, والصادق لم يكن له أن يستسلم, يقولون: أَلِن في الكلام اقرب في الخطاب! فيأبى ويصبح بقوة الله أسداً هصوراً.
ولما حضرته الوفاة قال: اللهم سامح من شتمني, اللهم سامح من سجنني وضربني إلا صاحب البدعة -يعني ابن أبي دؤاد - فعذبه واحبسه في جسده, فكان جزاء الصدق مع الله أن ينكل الله بعدو هذا الصادق, فيحبس أحمد بن أبي دؤاد في جسده، ويصاب بمرض الفالج, نصفه يابس ميت, والنصف الآخر حي, قال له زواره وعواده: كيف تجدك؟ قال: دعوة أحمد بن حنبل وصلتني في هذه الحياة الدنيا, قالوا: وكيف؟ قال: دعا عليّ أن أحبس في جسمي, فأما نصفه فقد مات منذ زمن, والله ما أحس به ولو قطع بالمناشير, وأما نصفي الآخر فوالله لو وقع ذباب لآلمني ألماً أشد من ألم القتل.
أو كما قال.
ودعا الإمام أحمد على عدوه الآخر ابن زيات فنكل الله به, وقطعت يده وحبس, لأن الصادق لا بد أن يخرجه الله, ولا بد أن ينجيه الله عز وجل.(22/19)
أصبع محمد بن واسع خير من ألف سيف
وهذا محمد بن واسع الأزدي، العابد الذي يقول له تلاميذه: لماذا لا تتكئ؟ فقال: أنا خائف والخائف لا يتكئ, إنما يتكئ من أمن عذاب الله! قالوا: فمتى تأمن؟ قال: لا آمن حتى أدخل الجنة.
حضر فتح كابول، التي فقدت من أيدينا يوم أن نقص صدقنا وإخلاصنا مع الله, التي ذهبت من أيدينا يوم لم نرفع لا إله إلا الله كما ينبغي كابول التي فتحها العباد الزهاد, والتي وقف على شرفاتها وعلى روابيها محمد بن واسع مع جيش قتيبة بن مسلم.
وكان في برنامج محمد بن واسع أن يصوم كل يوم, وأن يصلي لله ما يقارب أربعين ركعة, وأن يستغفر كذا من المئات التي يفتح الله بها عليه, ثم هو في تذكر لقاء الله حضر المعركة مجاهداً مستبشراً بفتح الله ونصره, ولما التقى أهل الإسلام وأهل الأصنام؛ أهل لا إله إلا الله وأعداء لا إله إلا الله؛ التقى أهل الحق وأهل الباطل, قال قتيبة بن مسلم: يا معشر الناس! أين محمد بن واسع الأزدي؟ قالوا: لا ندري.
فقال: أسألكم بالله أن تبحثوا لي عنه -ذكر هذا ابن كثير - فذهبوا يبحثون عنه, فوجدوه قد صلَّى صلاة الضحى, ووقف على رمحه رافعاً أصبعه يقول: يا حي يا قيوم! يا حي يا قيوم! يا حي يا قيوم!
فعادوا إلى قتيبة بن مسلم فأخبروه, فقال: الحمد لله أبشروا بالنصر!
والله الذي لا إله إلا هو لأصبع محمد بن واسع خير عندي من ألف سيف شهير وألف شاب طرير.
وانتصر المسلمون, وتقدم قتيبة بن مسلم يوم أن كان صادقاً مع الله, فرأى أصنام داهر , وأتباعه الكفرة في كابول , وهي بالذهب محلاة, فقالوا: خذها كنوزاً لك في بيت مال المسلمين, فقال: لا والله! لا يدخل بيت مال المسلمين كنز عُبد من دون الله ولو كان ذهباً, حرقوها بالنار فنسفوها بالنار ولذلك يقول إقبال:
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لصاغها حلياً وحاز الكنز والدينارا
فهؤلاء الصادقون مع الله, والمخلصون لله, نصرهم الله, وحفظهم ووقاهم لصدقهم معه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
يا واهب الآمال أنت حفظتني ورعيتني
وعدا الظلوم عليّ كي يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
إنه حفظه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لأوليائه؛ حِفظهم كما يقول ابن رجب: من العدو الظاهر والعدو الباطن من المعاصي والمخالفات.(22/20)
صلة بن أشيم والأسد
روى أهل التاريخ والسير والرقائق والتراجم بأسانيد صحيحة كالنجوم: أن صلة بن أشيم رضي الله عنه وأرضاه حضر معركة في الشمال مع جيش الإسلام, فلما أظلم الليل عليه خلا بالله عز وجل في ليلة عامرة بالذكر والمناجاة ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الحديث القدسي: {أنا جليس من ذكرني} فقام يصلي ويدعو, ويناجي ربه ومولاه حتى أظلم عليه الليل, قال أحد أصحابه: فرقيت شجرة من حيث أراه ولا يراني, وإذا بالأسد يخترق الغابة إلى صلة بن أشيم , فيقف بجانبه وهو يصلي لله الواحد الأحد, جعل بينه وبين الله صلات يوم أن تقطعت صلات الذين لا يريدون وجه الله, يوم أن تقطعت وشائجهم وأعراقهم؛ لأنهم أرادوها لغير الله فلما انتهى من صلاته نظر إلى الأسد وقال: يا حيدرة! -وحيدرة من أسماء الأسد- إن كنت أمرت بقتلي أو بأكلي فتقدم, وإن كنت لم تؤمر بذلك فاذهب في أرض الله, واتركني أناجي الله.
قال: فزأر الأسد زئيراً كاد يخلع قلبي، ثم انطلق, واستمر صلة في صلاته، فلما أصبحنا رأيت من الفتور والكسل ما الله به عليم, ورأيت صلة وجهه كفلقة القمر ليلة أربعة عشر.(22/21)
الحسن البصري يصف الصادقين
قيل للحسن البصري: ما للصادقين المخلصين وجوههم مضيئة نيرة؟ قال: خلوا بنور الله في الظلام فأكسبهم نوراً من نوره.
وبالمقابل الذين لا يصدقون مع الله ولا يريدون وجهه تتساقط أعمالهم أحوج ما يكونون إليها, وتذهب سدى، قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].(22/22)
معاوية بن أبي سفيان يتأثر لسماع حديث الثلاثة الذين تسعر بهم النار
قال شفي الأصبحي: دخلت على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه فقال: حدثني حديثاً يا شفي سمعته من أبي هريرة.
قال: فحدثنه بالنفر الثلاثة -العالم والجواد والشجاع- الذين تسعر بهم النار, لأنهم ما أرادوا وجه الله, قال: فلما انتهيت من حديثي بكى بكاءً طويلاً, ثم مرغ وجهه في التراب, وقال: صدق الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] فنسأل الله ألا يحبط أعمالنا وأعمالكم, وأن يحفظها عنده.(22/23)
ذكر الموت وأثره في الإخلاص
إن المخلص يتذكر إخلاصه يوم أن تأتيه الوفاة, ويراجع حسابه, وكثير من الناس ينام حتى تأتيه سكرة الموت, وكثير من الناس في سكار, وفي خُمار, فلا يستفيق إلا على رنة الموت وضربته, فيراجع حسابه, ويندم ولات ساعة مندم! ساعة الموت التي يذعن فيها الجبار, ويلين فيها المتكبر, ويسلم فيها الكافر, ولكن أنى له ذلك؟! {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91].(22/24)
عمرو بن العاص في ساعة الاحتضار
جاء في صحيح مسلم عن شفي المهري قال: [[حضرنا عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه وهو في سكرات الموت وهو في مصر , فاشتدت عليه سكرات الموت وجاء في غير الصحيح: قال له ابنه عبد الله: يا أبتاه! إنك كنت تسألني ما هو شدة الموت وأنت في الحياة, فأنت اليوم أحسن من يصف الموت, فصف لي الموت؟ قال: يا بني! والله الذي لا إله إلا هو لكأن جبال الدنيا على صدري, وكأني أتنفس من ثقب إبرة قال شفي فحضرناه وهو في سكرات الموت, وقبل أن تفيض روحه حول وجهه إلى الحائط, وأخذ يبكي بكاءً طويلاً, وينتحب انتحاباً شديداً, ثم التفت إلينا, وابنه عبد الله يحسِّن ظنه بالله, ويقول: يا أبتاه! أما أسلمت؟ أما هاجرت؟ أما جاهدت؟ وكل ذلك لا يزيد p=1000202>> عمرو بن العاص إلا بكاءً, فيقول رضي الله عنه وأرضاه وقد قلص الدمع من عينيه: يا بني! إني عشت حياتي على طباقٍ ثلاث: أما الطبق الأول فكنت في الجاهلية, لا أعرف الإسلام, وكان أبغض الناس إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولو تمكنت منه على تلك الحال لقتلته, ولو مت على تلك الحال لكنت من جثي جهنم, ثم أسلمت, وقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة فلما رآني هش وبش في وجهي]]
ما أحسن هذه الكلمات! ما أحسن (هش وبش) للدعاة وللصالحين وللأخيار! قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
قال عمرو: {فلما جلست قلت: يا رسول الله! مد يدك لأبايعك, فمد عليه الصلاة والسلام يده الشريفة, فلما بسط يده قبضت يدي, قال: ما لك يا عمرو؟ قلت: أشترط, فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي ربي ذنبي قال: يا عمرو أما تدري أن الإسلام يهدم ما قبله, وأن التوبة تجب ما قبلها} قال: فأسلمت, فوالله ما كان من أحد أحب إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم, ووالله ما ملأت عيني منه, ووالله لو سألتموني الآن أن أصفه ما استطعت أن أصفه, فلو مت على تلك الحالة لكنت أرجو أن أكون من أهل الجنة, ثم لعبت بي الدنيا ظهراً لبطن, فوالله لا أدري أيؤمر بي إلى الجنة أم يؤمر بي إلى النار, ولكن إذا مت فشدوا عليّ أزراري فإني مخاصم, وفي رواية في الصحيح: فامكثوا على قبري قدر ما تنحر جزور وتقسم, ثم ما عندي من عمل ألقى به الله إلا (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ثم قبض يده عدا أصبعه السبابة ليلقى الله بيده وهي تحمل لا إله إلا الله للصادقين.
فيا بشرى من صدق مع الله! ويا بشرى من أخلص لله! لأن كل عمل لا يراد به الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يذهب وينتهي وينقضي, ويبقى ما لله تبارك وتعالى، ويوفى الصادقون بصدقهم عنده تبارك وتعالى.(22/25)
عبد الله بن المبارك يتذكر ظلمة القبر
ومن الصادقين في السلف الصالح عبد الله بن المبارك، الذي يقول عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: أمير الأتقياء في عهده.
كان صادقاً مخلصاً منيباً علم الله صدقه, فبلغه الله ما تمنى من القبول, ومن الخير ومن الثبات والسداد, وبقدر ما يصدق العبد مع الله يرزقه الله الصدق.
يقول أحد تلاميذه وهو يروي صدقه وخشوعه وخشيته: سافرنا مع ابن المبارك , فقلت في نفسي: يا عجباً! هذا ابن المبارك يصلي كصلاتنا ويصوم كصيامنا ويتلو القرآن كتلاوتنا؛ فماهو الذي رفعه؟ -رفعه الإخلاص والصدق والخبيئة، وحسن السريرة مع الواحد الأحد- قال: فكنا في ليلة مظلمة, وقد انطفأ علينا السراج, فذهبنا نلتمس سراجاً ونوراً, فأتينا إليه وهو جالس في البيت, وإذا دموعه تنزل من رأس لحيته, فقلنا: ما لك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: تذكرت والله بهذه الغرفة المظلمة القبر وما أدراك ما القبر؟! وما أدراك ما ظلمة القبر؟! وما أدراك ما تلك الحفرة؟!
أبني أبينا نحن أهل منازل أبداً غراب البين فيها ينعقُ
نبكي على الدنيا وما من معشر جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
أين الأكاسرة الجبابرة الألى كنزوا الكنوز فلا بقين ولا بقوا
من كل من ضاق الفضاء بجيشه حتى ثوى فحواه لحد ضيقُ
خرس إذا نودوا كأن لم يعلموا أن الكلام لهم حلال مطلقُ
فالموت آتٍ والنفوس نفائس والمستعز بما لديه الأحمقُ
قال: ذكرت والله بهذه الظلمة ظلمة القبر فبكيت, قال التلميذ: هذا الذي رفعك عنا.
إنها خبيئة الصدق وسريرة الإخلاص للحي القيوم, ولذلك لما سافر ابن المبارك لقتال الكفار ترك الحرم والفتوى؛ فقال له الناس: أتترك الإفتاء وتذهب إلى الجهاد؟ فقال: خلوا عني, ثم قال:
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
وكان في ليلة واحدة يردد: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2] إلى الصباح, ويأتي الصباح وإذا هو من أشجع الفرسان.
كن كالصحابة في زهد وفي ورع القوم هم ما لهم في الناس أشباهُ
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراهُ
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياهُ
يارب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناهُ
يشيدون لنا إسلاماً فرطنا فيه, وقرآناًَ ضيعناه ونسيناه, ومعالم من الهداية تركناها وجفوناها, ومساجد هجرناها, وحلقات علم قاطعناها, فابعث من أمثالهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه, وجنينا عليه، وخناه، وصارمناه, وما كان هذا ينبغي لنا, لأننا من سلالة الأخيار, من الذين وزعوا على المعمورة لا إله إلا الله، وأنتجوا للبشرية أروع مثل, وأحسن تاريخ, وأنبل عقيدة, فمالنا ننزوي الآن خجلاً؟ أصابنا خجل وحياء, لئلا نبلغ لا إله إلا الله, أصبحنا في آخر الركب متأخرين يوم فاتنا الصدق والإخلاص مع الله، وأصبحنا نستذل يوم لم نصدق مع الحي القيوم.
كان ابن المبارك عالم يفتي على المنبر, ومتحدث يعظ, ومربٍ يربي, ومدرس يدرس, ولكنه مجاهد يضرب رءوس الأعداء بسيف الله, تأتيه رسالة من الفضيل يلومه فيها على الخروج وترك الحرم, فيرد عليه بقصيدة حارة, لقد كان يجيد القصائد القوية الصادقة المخلصة, ويقول للفضيل:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعبُ
ليست العبادة فقط الجلوس في الروضة وترك شئون الأمة وأخلاقها ومعاملاتها وما تحتاجونه، وليست العبادة أن نرفع رءوسنا بالتكبير وبالحمدلة فحسب:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعبُ
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضبُ
ألا إن الدم الصادق المخلص أغلى عند كل مسلم من الدمع, ألا إن الذي يبكي مهما بكى, فإن دم المجاهد ودم من صدق مع الله، وأراد الله أغلى من الدموع, فليعلم ذلك.
هؤلاء قوم رفعهم الله بالصدق والإخلاص، يقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه للتابعين: [[والله لقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أقل منكم صلاة وصياماً, ولكنهم أكثر صدقاً وإخلاصاً لله]] قال الله جل شأنه: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] فأصدق مع الله وأخلص لله، وأطلب ثواب الله.(22/26)
تعريفات للإخلاص والصدق من كلام السلف
قيل للفضيل: ما هو الإخلاص؟ قال: أن يكون العمل خالصاً لوجه الله، وأن يكون تابعاً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقالوا في الصدق: هو أن تطلب ثوابك من الله, وقالوا فيه: أن تستوي سريرتك وعلانيتك.
وقالوا فيه: ألاَّ ترى محاسباً إلا الله، ولا ترى مثيباً على عملك إلا الله.
وقالوا فيه: أن يكون بينك وبين الله رقابة.
كأن رقيباً منك يرعى خواطري وآخر يرعى مسمعي وجناني
وقالوا في الصدق أيضاً: هو أن تقطع في سبيل الله وأن تتبسم بفتح الله.
وقالوا فيه: هو أن تبذل من نفسك ما تبذله صادقاً وأن تخجل من عملك.
وقالوا فيه: هو أن تفعل العبادة, ثم تستغفر من تقصيرك ونقصك وعيبك في عبادتك لله.
وقالوا فيه: هو أن إذا وقفت أمام الله في عبادة نسيت كل من دون الله عز وجل فالله الله في الصدق!
أسأل الله أن يوفقني وإياكم إلى الصدق والإخلاص في سبيله سُبحَانَهُ وَتَعَالى, وإلى طلب مرضاته, اللهم إنا وقفنا على أبوابك, ورفعنا أيدينا إليك, يا من لا يسدل حجابه, ولا يرد طلابه, اللهم فارزقنا إخلاصاً من عندك يا رب العالمين! وصدقاً من لدنك, تفيض به على قلوبنا, وتغيث به أرواحنا, اللهم فاجعلنا من الصادقين المخلصين المنيبين.
اللهم بعلمك الغيب, وبقدرتك على الخلق, أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا, وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا, اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة, ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا, ونسألك القصد في الغنى والفقر, ونسألك لذة النظر إلى وجهك, والشوق إلى لقائك, في غير ضراء مضرة, ولا فتنة مضلة, برحمتك يا أرحم الرحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين, وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(22/27)
الأسئلة(22/28)
الرياء وعلاجه
السؤال
فضيلة الشيخ! إنني أشتكي من مرض -أعاذنا الله منه- وهو الرياء, فأقوم أحياناً بأعمال حسنة, فإذا رأيت بعض الإخوة الصالحين المهتدين أشعر أني عملت هذا العمل رياءً وليس لله, وإني أخشى الله كثيراً, ولكن كلما أقدمت على عمل صالح شعرت بالرياء, فماذا أفعل جزاكم الله خيراً؟
الجواب
كما سمعتم شكوى الأخ من الرياء، وكلنا ذاك الرجل, ومن لوازم إسلامك -أيها المسلم- أن تخاف من الرياء, فإنه لا يخاف النفاق والرياء إلا مؤمن ولا يأمنه إلا منافق, وهذه المقولة أوردها البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان عن الحسن موقوفة عليه رضي الله عنه وأرضاه, قال: [[ما خافه إلا مؤمن وما أمنه إلا منافق]].
فمن لوازم إسلامك وإيمانك أن تكون حريصاً متحذراً خائفاً دائماً من الرياء, فإن من أمن الرياء وقع فيه, فإن من الأدلة على خيريتك وعلى إقبالك وحسن صدقك مع الله أنك تخاف الرياء, ولكن هذا لا يعني أن العلاج والدواء أن ينتظر العبد ويقول: أخاف الرياء، وهو واقع فيه! بل عليه أن يتوب ويستغفر، وأن تثبت في ذهنه قضايا:
1 - أن الذي ينفع ويضر هو الواحد الأحد, وأن غيره لا يملك له نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ولا تصريفاً ولا تدبيراً, فهو الذي بيده مقاليد الأمور, فاطلب أجرك وثوابك منه, ولا تطلب من غيره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
2 - أن تنظر إلى الناس على أنهم بشر كما سلف, وأنه ليس بأيديهم من مقاليد الأمور شيء, وأن الله استأثر بالنفع والضر, وكل ما يجلب لك من خير فمن الله, وما يصيبك فمن الله, وهذه هي العقيدة التي أملاها صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس كما في الترمذي: {وإذا سألت فاسأل الله, وإذا استعنت فاستعن بالله, واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
3 - عليك أن تدعو دائماً بكفارة الشرك والرياء، وهو ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه, وأستغفرك لما لا أعلم}.
4 - أن تكون في خلوتك محاسباً لنفسك، وترفع كفيك داعياً الله عز وجل أن يرزقك الصدق والإخلاص والإنابة، فإذا أخذت على هذا، وتدربت عليه، وسألت الله في أدبار الصلوات والسجود، فتح الله عليك، ورزقك الصدق، نسأل الله لنا ولك ولكل مسلم الصدق والإخلاص.(22/29)
التجمل متى يكون رياءً؟ ومتى لا يكون؟
السؤال
أحياناً نعمل الأعمال الطيبة خوفاً من العيب وليس لله, ولولا العيب لما فعلنا, فهل هذا من الرياء؟
الجواب
كلمة الأعمال في السؤال عامة, فإن كان يقصد الأعمال الصالحة التي يتعبد بها والتي هي من الشريعة ومن النسك, ويخاف من العيب, فهذا شرك ورياء, ونعوذ بالله من ذلك, كأن يصلي خوفاً من العيب ومن المثلبة ومن التنقص من الناس , أو يصوم خوفاً من ذلك, فهذا في العبادات رياء وشرك.
وإن كان في الأمور العامة والآداب العامة في هيئات الجلوس أو غيرها مما لم يرد فيه نص, فله أن يتجمل أمام الناس, وله أن يظهر التجمل والتحسن؛ وقد ورد في ذلك أحاديث، كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن الحنظلية مع أبي الدرداء عند أبي داود بسند حسن: {تجملوا حتى تكونوا كأنكم شامة في عيون الناس} فلا بأس أن تدرأ العيب عن نفسك لا في العبادات, ولا بأس أن تذهب عن نفسك مذمة تنقص الناس لا في النسك, فإنها في النسك والعبادة شرك ورياء إذا قصدت بها غير الله عز وجل؛ فليعلم ذلك.(22/30)
التحدث بالأعمال الصالحة
السؤال
أصوم بعض الأيام وأحدث الزملاء بذلك لأرغبهم في الصيام, فهل هذا ينقص الإخلاص؟
الجواب
أما صيامك وإخبار زملائك بهذا فإن الأعمال بالنيات, وهذا الحديث يدخل في سبعين باباً, فإن كنت قصدت من إخبار زملائك بهذا الخبر تشجيعهم وترغيبهم على الخير, ولتكون سانّاً لهم سنة حسنة يقتدون بك, فلك الأجر مضاعفاً بإذن الله, ولك الأجر موفوراً عند الله, ولا يلت الله من عملك شيئاً, ولا يُنقِص منه شيئاً إن شاء الله.
وإن كان قصدك ليعلموا ويثنوا عليك, فإنه يذهب بقدره, وقد أشركتهم هذا العمل, فانتبه لنفسك.(22/31)
الإخلاص في ابتداء العمل يكفي
السؤال
إن أحدنا ليعمل العمل الصالح يريد به وجه الله, ولكن إبليس ما يلبث أن يداخل إخلاصه بعدة نوايا, ومنها السمعة، حتى يخشى على عمله ونفسه, فما العلاج لهذا الداء؟
الجواب
كل مسلم في الغالب يجد هذا الأمر الذي سأل عنه الأخ, فإنه قد يقصد وجه الله والإخلاص, فترد عليه واردات, وتتداعى عليه أمور حتى يذهب ما به من إخلاص, ويقصد أموراً أخرى, فواجبه أن يكون من أول الطريق صادقاً مع الله ومخلصاً له, وقد قال أهل العلم: لا يضره العارضات والواردات, وممن اختار ذلك: ابن تيمية وابن جرير الطبري، كما ذكر ابن حجر في فتح الباري في كتاب الجهاد, فقد عقد البخاري باب: (إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم) ثم أتى بحديث أبي موسى: {قالوا: يا رسول الله! الرجل يقاتل ليرى مكانه, والرجل يقاتل ليسمع, والرجل ليحمد فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} فأتى بهذا الوارد, ونقل عن ابن جرير أن كلام أهل العلم ينص على أن من سلك الطريق في أولها مخلصاً لله, فلا تضره الواردات وتلبيسات إبليس التي لا بد أن ترد على كل عبد.
فأنا أوصيك أن تقصد وجه الله في أول الطريق, ولن تضرك هذه الوساوس والخطرات؛ فإن الشيطان بالمرصاد, يأتي للمصلي الخاشع, فيقول: إنما تصلي رياءً, ويأتي للداعية المتكلم, فيقول: إنما تتكلم رياءً وشهرةً, ولو صدقه كل أحد لتعطلت المنابر والحلقات, وتعطل النسك، وتعطلت النوافل والطاعات, فنعوذ بالله من تلبيسه, ونعوذ بالله من مداخله.
فعليك أن تصدق مع الله وعليك بكثرة الدعاء, والله يوفقنا وإياك لما يحب ويرضى.(22/32)
الخلاص من التأثر بمدح الناس
السؤال
أحياناً أعمل أعمالاً صالحة أبتغي بها وجه الله عز وجل, ولكن يتسرب إليّ الرياء بدون سبب، أو بسبب المديح الذي ينصب عليّ من الناس؛ فكيف الخلاص؟
الجواب
هذا وارد, وهو أشبه بالأسئلة التي قبله, وعلاج هذا: أن تعلم -وهو العنصر الذي أوردته في علاج الرياء- أن تعلم أن الناس لا ينفعون ولا يضرون, وأنهم لا يعرفون بنقصك وتقصيرك وذنوبك التي هي بينك وبين الله عز وجل, فإنك قد تظهر لهم الجميل والخشوع والخضوع والزهد, ولكنك تظاهر وتكاشف الله عز وجل بالمعاصي والذنوب والخطايا, فعليك أن تعلم أنهم لا يدرون إلا ما ظهر, والظاهر فيك الجميل والستر, فهم يمدحونك على ظاهرك, ولكن يوم تبعثر ما في القبور, وتحصل ما في الصدور, ينتج لك إخلاصك وصدقك ومعاملتك مع الله عز وجل.
فهذا علاجه ألا تركن إلى الناس, وأن تعلم أنهم لا ينفعون ولا يضرون, وأن تعرف أن الله هو الذي يعلم السر وأخفى, وهو الذي يثيب ويعاقب, فهو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولي كل أمر؛ فعد إليه والتجئ إليه، وادعه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(22/33)
ما سطره الصحابة والتابعون يمكن تكراره في كل زمان
السؤال
ما رأي فضيلتكم فيمن يقول: إن قصص الإخلاص التي سطرها الصحابة والتابعون لا يستطيع أحد أن يحققها في هذا الزمن؟
الجواب
إن كان الأخ السائل يقصد أن الفضل الذي حصلوا عليه من هذه القصص التي سطروها فهذا صحيح, فلهم فضل الصحبة, ولهم القدح المعلى والقدم السابقة عند الله عز وجل.
وإن كان قصده ألا تقع كهذه الحوادث بعينها؛ فليس بصحيح, بل هذه تتكرر في أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهي كالسيل لا يدرى الخير في أوله أو في آخره, بل قد يفتح الله عز وجل على يد بعض الناس, ويرزقهم من الإخلاص والصدق إلى قيام الساعة, فيقتل كثير من الناس في سبيل الله, ويصدق كثير من الناس في قيام الليل لمناجاة الله, ويصدق كثير من الناس في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وكثير يصدقون في البذل والعطاء لوجه الله, إذاً فقصص الصحابة, وقد وقع لها شبيه في غيرهم, لكن الفضل ادخره الله عز وجل درجة للصحابة لا يبلغها أحد.(22/34)
كيف نصدق مع الله
السؤال
كيف نصدق مع الله؟ أوليس من صلّى وصام وحج وزكى وأطاع الله وترك المعاصي يكون صادقاً مع الله؟
الجواب
من صلّى وزكى وصام وجاهد وحج هو علامة الصدق بإذن الله, لكن إذا علم الله من نيته أنه لا يريد إلا وجهه؛ لأنه ليس كل من صلّى وزكّى وصَام وحج يريد الله عز وجل لا! منهم من يريد الدنيا, ومنهم من يريد الشهرة, ومنهم من يريد أن يعصم دمه في الحياة, ويعصم عرضه وماله وأولاده, فهذا له ما حصل له من الأجر العاجل, لكن ليس له عند الله حظ ولا نصيب, بل له النار ونعوذ بالله من النار! فمن صلّى وصام فعليه أن يعتبر أن هذا العمل لوجه الله, وأنه لا يصلي من أجل فلان وفلان.
وهناك ضابط يستفاد منه في الصدق والإخلاص, وهو أن تفعل العمل في الجلوة كما تفعله في الخلوة, أي: تفعل العمل مع الناس كما تفعله وحدك, في خشوعك, وفي ركوعك, وفي ذكرك, وفي عبادتك؛ كأن الناس لا يرونك ولا تراهم، ولا يصح أن تخشع أمام الناس لتطلب مديحاً, ثم إذا خلوت نقرت الصلاة! هذا هو أول النفاق والرياء.(22/35)
استحضار النية في أول العمل يكفي
السؤال
هل يشترط استحضار النية الخالصة قبل كل عمل أو يكفي أن يكون ذلك الأمر في قلب المسلم ومن ديدنه؟
الجواب
هذه القضية من أعوص القضايا على الإطلاق, قضية استحضار النية عند الأعمال, وقد ناقشها ابن رجب رحمه الله في كتاب جامع العلوم والحكم عند حديث {إنما الأعمال بالنيات} , وناقشها ابن حزم في المحلى , ونتيجة هذا النقاش: أن العبد عليه أن يستحضر أنه يريد بالعبادة وجه الله, لكن لو فاتته في بعض لحظات العبادة فلا يهمه ذلك إذا كان المقصد والمبدأ وجه الله, كأن يقول: أنا أريد الصلاة لله عز وجل, ثم ينسى أنه يريد الصلاة لله, وتذهب عنه هذه النية فلا يهمه؛ لأنه ما قام إلا مصلياً لله عز وجل.
والنية عجيبة، حتى قيل للإمام أحمد كما في جامع العلوم والحكم: يا أبا عبد الله! كيف نحصل على نية؟ قال: ليفكر العبد لعل الله أن يرزقه النية.
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: والله لا أدري ما هي هذه النية, وكيف تحصل, وإنما نسأل الله أن يرزقنا النية.
لأنه لا يُدْرى كيف تمسك هذه النية, ولا كيف تقيد وتضبط, لكن على العبد أن يصدق ويدعو، وأن يحاول وأن يرجو الله عز وجل أن يمنحه النية الخالصة.(22/36)
حكم ترك العبادة من أجل الناس
السؤال
هل ترك العبادة من أجل الناس رياء؟
الجواب
هذه المسألة وردت عن السلف , والذي تكلم فيها بكلمة جيدة هو الفضيل بن عياض كما نقل عنه, فقد قال: "العمل من أجل الناس رياء, وترك العمل من أجلهم شرك, والإخلاص أن يعافيك الله منهما".
فأنت إذا عملت من أجل الناس لتحمد فقد راءيت مع الله عز وجل في العبادة, وإذا تركت العمل من أجلهم فقد أشركت, مثلاً: إنسان يصلي الضحى دائماً، فخرج معه أناس فرأى من الحكمة ألا يصلي لئلا يمدح؛ فهذا قد أشرك في العبادة, لأنه ترك شيئاً من العبادة من أجل الناس, وإنسان آخر ما كان من هديه ولا من عادته أن يصلي الضحى, فلما خرج مع أناس صلى الضحى من أجلهم فهذا قد راءى.
فالمقصود أن تعمل العمل الذي لله عز وجل بدون أن تنظر إلى الناس, لا تعمل من أجلهم عملاً ولا تترك من أجلهم عملاً, فإنك إذا عملت من أجلهم فقد راءيت, وإذا تركت من أجلهم فقد أشركت, والسلامة أن يعافيك الله من هذين الأمرين, وذلك بأن تعمل العمل مخلصاً صادقاً, تطلب أجره وثوابه من عند الله عز وجل.(22/37)
نصيحة لمن لم يخلص
السؤال
أنا شاب لا أجد الإخلاص في قلبي وفي أعمالي, فبماذا تنصحني؟
الجواب
كل ما سلف من الكلام نصيحة لي ولك ولكل مسلم, وعليك بكثرة الدعاء والصدق مع الله, قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] فالله لا يضيع سعيك ولا سجودك ولا ركوعك ولا دعاءك, بل سوف ينفح عليك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من نفحاته, ويلطف بلطفه, لكن عليك أن تستعيذ بالله من الشيطان, وتستعيذ من الهوى, وتستعيذ من قرناء السوء, وأن تجدد نيتك دائماً وأبداً.
وأنصحك بما ذكره ابن الجوزي في صيد الخاطر: أن تطالع موضوعات الإخلاص كثيراً في كتب الإخلاص, مثل: موضوع الإخلاص في الترغيب والترهيب للمنذري , وموضوع الإخلاص في رياض الصالحين , ومواضيع الإخلاص عند الحفاظ مثل: مجمع الزوائد وجامع الأصول , وفي غيرها من الكتب الجامعة, فعليك أن تطالعها كثيراً, ثم طالع تراجم الصالحين وسير الأخيار, مثل سير الصحابة, وسيرة سعيد بن المسيب , والحسن البصري , ومالك , وسيرة أبي حنيفة , والشافعي , وأحمد بن حنبل , وابن المبارك , قال الله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].(22/38)
ما أعد الله للنساء في الجنة من النعيم
السؤال
تقول بعض النساء: نسمع عن الجنة وما فيها من النعيم؛ من القصور والأنهار والحور العين, مما يعطى الرجال, ولكن نحن النساء ما هو دورنا في الجنة, وما لنا فيها من النعيم؟ وكيف حال من كان لها أكثر من زوج في الدنيا, كيف حالها بعد الموت وفي الجنة؟
الجواب
أبشر هذه الأخت المسلمة السائلة وكل مسلمة أن الله أعد للمؤمنات ما أعد للمؤمنين, وهذا السؤال قد ورد على النبي صلى الله عليه وسلم من أم سلمة، كما في تفسير قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:195].
فقد جاء في الحديث: {قالت النساء: يا رسول الله! الرجال ذكروا في القرآن كثيراً, ووعدهم الله ثواباً, ووعدهم مبرة في الجنة؛ فما لنا نحن؟ فأنزل الله عز وجل في كتابه, ما اكتفى بجواب رسوله صلى الله عليه وسلم بل أفتاهم الله عز وجل فقال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195]} فأبشري وأملي في ربك ما يسرك, فإن الله قد أعد النعيم لكل مسلم من ذكر وأنثى, لأن بعضنا من بعض, فالأم هي أم البيت, وهي العمة والخالة والأخت, وهي القريبة, وهي الحميمة, وهي المدرسة التي تعد الأجيال, والتي تربي البيت؛ فلها عند الله جزاؤها وثوابها موفوراً.
وأما مسألة: من كان لها أكثر من زوج, فبمن تزوج في الجنة؟ فقد ناقشها بعض أهل العلم, وخرج بعضهم بأنها تزوج أحبهم إليها وأصلحهم وخيرهم, فهي زوجته عند الله عز وجل, فأحسن الأزواج وخيرة الأزواج وأحبهم إلى قلبك هو زوجكِ إن كنتِ من أهل الجنة نسأل الله أن يدخلنا وإياكن الجنة.(22/39)
نصيحة لأولياء الأمور في تزويج بناتهم
السؤال
أخت سائلة تقول: لي أخ هو ولي أمري, ولكنه للأسف يرفض من يتقدم لي من الشباب الطيب, بحجة أنه ليس من القرابة أو بحجة الدراسة, فما نصيحتكم لأولياء الأمور الذين يرفضون الشباب الطيب لأسباب ليست من الإسلام في شيء؟
الجواب
نصيحتي لكل مسلم عنده مؤمنة في بيته يريد أن يصون عرضها ودينها وشرفها أن يبحث لها عن رجل, وإذا أتاه من يرضى دينه وأمانته أن يزوجه, وألا يرد طلبه فيبتليه الله عز وجل بفساد وفتنة, ففي الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} فالله الله! وأي طلب أكبر من رجل صالح يصلي لله الصلوات الخمس, ويتوضأ بماء التوبة والصدق والإخلاص, ويريد ما عند الله، حَسن الخلق قائم بكتاب الله فأين يُذهب بنا؟ وأين يذهب بعقولنا؟ وأين يذهب بأخلاقنا؟
أن نعرض بناتنا وأخواتنا على الفجرة وعلى المردة أعداء الله, لتعيش حياة الضنك, الحياة الجهنمية, حياة المعصية, وترك الصلاة, وهجر كتاب الله عز وجل ومقاطعة ذكره سبحانه، لتستمع الغناء والهراء, وترى المعصية بعينها, فتعذب في الدنيا, ثم لا تجد طريقاً لأن تعبد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فلنتق الله في أنفسنا، ولنتق الله في بيوتنا، ولنتق الله في بناتنا وأخواتنا, ولنطلب لهن بيوتاً صالحة, ولنعنهن على ما يقربهن من الله عز وجل, ولنكن من مفاتيح الخير؛ لأننا لا نرضى ونحن الرجال أن تدخل علينا امرأة فاجرة؛ فكيف ترضى وأنت رجل ألا تزوجها رجلاً صالحاً محسناً قريباً من الله عز وجل, لينقذها الله به من النار, وليصلح لها شأنها وظاهرها وباطنها.
فأسأل الله أن يصلح شأننا وشأنكم، وأن يصلح بيوتنا ويصلح قلوبنا, إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.(22/40)
رفع الصوت بالبكاء في الصلاة
السؤال
هل الأفضل رفع الصوت بالبكاء والخشوع أثناء الصلاة خلف الإمام أو كتم الصوت؟
الجواب
المسألة ليس فيها فاضل ولا مفضول, بل لا يرفع صوته, وليكتم ما استطاع لأنها صلاة, ولأن للصلاة خشوعاً وآداباً, وإن كان تكلف هذا الصوت, وتكلف الشهيق والزفير في البكاء, فهو مذموم, وقد خالف الأوْلى, وعليه أن يتقي الله, وليخفِ بكاءه ودموعه، وليكن بكاؤه لله عز وجل.
وإن غلبه ذلك فإنه يعذر؛ لأن بعض الناس يغلبه البكاء, فلا يستطيع أن يكتم صوته ولا أنفاسه لما في قلبه من حرارة وكثرة البكاء, فهو مأجور ومشكور, فقد كان أبو بكر رضي الله عنه يسمع نشيجه من آخر الصفوف, وسمع بكاء عمر من الصفوف المؤخرة في المسجد, وفي سنن أبي داود عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: {دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعت لصدره أزيزاً كأزيز المرجل من البكاء} والمرجل: هو القدر الذي يغلي إذا استجمع غلياناً على النار.
والبكاء فضيلة ولا شك: {عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله, وعين باتت تحرس في سبيل الله} قال تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} [النجم:59 - 60].
فلذلك مدح الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من يبكي من خشيته, وأعد الله له ثواباً عنده.(22/41)
الشباب الصالح ومشكلة التأخر عن الصلاة
السؤال
يلاحظ أن الكثير من الإخوة لا يبكرون للصلاة بعد الأذان مباشرة, بل يتأخرون إلى قرب موعد الإقامة, فهل من نصيحة؟
الجواب
النصيحة التي يمكن أن أقدمها إلى نفسي وإلى إخواني من المسلمين أن يتقدموا ليقدمهم الله عز وجل عنده, يقول عليه الصلاة والسلام: {لا يزال قوم يتقدمون حتى يقدمهم الله فيمن عنده, ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله فيمن عنده} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {خير صفوف الرجال أولها, وشرها آخرها, وخير صفوف النساء آخرها, وشرها أولها}.
والصف الأول يصلي عليه لله وملائكته، كما في حديث جابر بن سمرة: {إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف والصفوف الأول} فاغتنم أن تكون وراء الإمام لتحظى بقربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, ولتكون من المبكرين لطاعته.
جاء في كتاب الزهد للإمام أحمد في ترجمة عدي بن حاتم أنه قال لما أتته الوفاة: [[ما أتتني صلاة إلا وقد توضأت وأنا لها بالأشواق]].
وذكروا أن أحد الصالحين كان يشتغل بالنجارة, فكان إذا سمع (الله أكبر) وقد رفع المطرقة أسقطها وراء ظهره وقام إلى الصلاة.
وورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله, فإذا سمع (الله أكبر الله أكبر) قام كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه}.
والذي يلاحظ على كثير من الشباب التأخر عن أوقات الصلاة وهم من أهل الاستقامة ومن أهل الخير, بل إن بعضهم لا يأتي إلا بعد أن يكبر الإمام تكبيرة الإحرام, فأين الصف الأول؟ وأين استغفار الملائكة؟ يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {لا تزال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه أو ما دام ينتظر الصلاة -في رواية البخاري - تقول: اللهم اغفر له, اللهم ارحمه ما لم يحدث} أفلا تريد أن تتقدم قبل الإمام مع الأذان, فتردد الملائكة بأصواتها: اللهم اغفر له, اللهم ارحمه, فنسأل الله أن يغفر لنا ولكم ويرحمنا برحمته.(22/42)
حكم دخول المسجد وقراءة القرآن للحائض
السؤال
امرأة في حلقة علم وهي حائض, فهل يجوز أن تقرأ القرآن؟
الجواب
أولاً: قبل أن نخبرها بجواز قراءة القرآن أو عدمه, إن كانت حلقة العلم في المسجد فلا ينبغي أن تأتي إلى المسجد, وعليها أن تجتنب المسجد, فإن الرسول صلى الله عليه وسلم {نهى أن يدخل المسجد حائض أو جنب} كما في رواية أبي داود من حديث علي.
وأما إذا كانت حلقة العلم في غير المسجد فلها أن تحضرها, وأما قراءة القرآن عن ظهر قلب للحائض فليس بها بأس, وبعض أهل العلم يقولون: يجوز لها أن تمس المصحف لأنهم يضعفون حديث علي الذي عند أبي داود: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يمس القرآن حائض أو جنب} ضعفوه وجوزوا لها أن تمس المصحف.
ولكن الأحوط والأوْلى أن تقرأ القرآن عن ظهر قلب، أما أن تمس المصحف فليس لها ذلك إذا كانت حائضاً.(22/43)
الأحوط للحائض ألا تمس المصحف
السؤال
ألا يتعارض مع ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: {إن حيضتك ليست في يدك}؟
الجواب
نعم.
الحديث الذي ذكر الأخ حديث صحيح، قال لها صلى الله عليه وسلم: {ناوليني الخمرة, قالت: إني حائض, قال: إن حيضتك ليست في يدك} والخمرة كالسجادة يصلي عليها صلى الله عليه وسلم.
لكن هذا الحديث -بارك الله فيك- فيه احتمال, وإذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال؛ فإن مسألة طهارة اليد ومس المصحف من عموم هذا الحديث ليست بواردة, وليست بأكيدة من النص, فعلينا أولاً أن نعود للنصوص لنجمعها, وهناك حديث عند أبي داود عن علي رضي الله عنه, وعلى فرض ضعف الحديث؛ فالأحوط ألا تقرب المصحف, أما أن نأخذ طهارة الحائض وطهارة يد الحائض من هذا؛ فلو كان الأمر كما قلت لترك الرسول صلى الله عليه وسلم لها المجال, ونقول: ما دامت يدك طاهرة, وجسمك طاهراً, فادخلي المسجد, وقد قال صلى الله عليه وسلم لـ أم سلمة لما توضأ معها واغتسل: {إن الماء لا يجنب} مع العلم أن الماء كاليد في وصول الجنابة إليه أو وصول حدث الحائض إليه, ولكم أن تعودوا إلى أهل العلم كسماحة الشيخ الوالد عبد العزيز بن باز وغيره من العلماء.
ولكن الذي أعرفه في المسألة أنه لا ينبغي لها أن تمس المصحف, احتياطاً لهذه الأحاديث، ولما ورد من آثار, ولها أن تقرأ القرآن غيباً.(22/44)
للحائض أن تعبر المسجد ولا تلبث فيه
السؤال
لكن ألا يكون ذلك إذناً من الرسول صلى الله عليه وسلم لها بدخول المسجد؟
الجواب
الداخل إلى المسجد غير الجالس اللابث في المسجد, لأن الله عز وجل قال للجنب: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] فالعابر غير الجالس, فأنا أقول: لا تجلس في المسجد, لا الحائض ولا الجنب, ولها أن تعبر المسجد من طرفه إلى طرفه, ولها أن تمر لتأخذ حاجة كما فعلت عائشة , وإلا ففي الصحيحين عن عائشة ذلك أنها قالت: {كان صلى الله عليه وسلم يدني لي رأسه وأنا في بيتي وهو في المسجد, أرجل رأسه} فلماذا لم تدخل عليه في المسجد لترجله؟ لأنها لو رجلت رأسه للبثت معه, واللبث للحائض ليس بجائز.(22/45)
قصائد شعرية
السؤال
يود كثير من الإخوان من فضيلتكم سماع القصيدة البازية, وقصيدة مجاهدي الأفغان!
الجواب
قصيدة الشيخ الوالد تكررت مرتين, وقصيدة مجاهدي الأفغان قد سمعت في مناسبة, ولكن لا بأس بإعادتها، فالمكرر أحلى, هذه القصيدة اسمها "مع المجاهدين الأفغان":
مروا بقلبي فقد أصغى له البانُ لي في حمى الحب إخوان وجيرانُ
نعم لك الله ما قد تبت من ولهٍ أما لكم صاحبي صبر وسلوانُ
أنا يراعتك اللاتي كتبت بها رسالة الحب ما في ذاك نكرانُ
دع ذا وهات قوافٍ منك صادقة لأمة مجدها بالأمس فينانُ
كم ملحد ماجنٍ ظن الحقوق له زفوا له الموت مراً وهو مجانُ
وبلشفي أتى كالعير منتخياً رأى المنايا فأضحى وهو جعلانُ
ردوه كالقرد لو بيعت سلامته بشعبه لشراها وهو جذلانُ
فروا على نغم البازوك في غسق فقهقهت بالكلاشنكوف نيرانُ
يسعى فيعثر في سروال خيبته في أذنه من رصاص الحق خرصانُ
وهناك قصيدة أرسلتها للشيخ سياف وهي بعنوان "المدوية":
سياف في ناظريك النصر يبتسم وفي محياك نور الحق مرتسم
وفيك ثورة إسلام مقدسة بها جراح بني الإسلام تلتئم
حطمت بالدم أصناماً محجلة وصافحت كفك العلياء وهي دم
ثأرت لله والدين الحنيف فلم يقم لثأرك طاغوت ولا صنم
على جبينك من سعد توقده وخالد في رؤى عينيك يقتحم
حلِّق إذا شئت فالأرواح طائرة فعن يمينك من عاهدت كلهم
وصغ من المهج البيضاء ملحمة يظل يقرؤها التاريخ والأمم
موتاً على صهوات البيد يعشقه أهل البسالة في عليائهم شمم
لا موت من تسكر اللذات فطنته حياته في الورى سيان والعدم
سياف خذ من فؤادي كل قافية تجري إليك على شوق وتستلم
بها حياء إذا سارت لحضرتكم ماذا تقول ويكفي أنك العلم
كادت معاليك أن ترويك معجزة لكن تواضعك الأسمى لها كتم
كأنما أنت كررت الأُلى ذهبوا هذا صلاح ومحمود ومعتصم
السائرون وعين الله ترقبهم السابحون وماء البحر مضطرم
أكفانهم نسجوها من دمائهم على مطارفها النصر الذي رسموا
ماتوا ولكنهم أحياء في غرف من الجنان وذابوا لا فقد سلموا
يكبرون فتهتز الربى فرقاً ويهتفون فيسعى النصر نحوهم
والطائرات على صيحاتهم سقطت صرعى وربانها فوق الربى فحم
إلى آخرها.
نسأل الله تعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم, إنه على كل شيء قدير, وبالإجابة جدير, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(22/46)
الأمير العباسي الفقير
من أهم ما جاء من أجله الإسلام تصحيح الميزان الذي يوزن به الناس، فبدلاً من المعايير الجاهلية من الحسب والنسب والمال وضع الإسلام قاعدة أساسية، وهي التفاضل بالتقوى، وتلك هي إحدى مقتضيات (لا إله إلا الله).
وقد عرض الشيخ حفظه الله قصتين: الأولى: قصة ذلك الأمير الذي ترك القصر والخدم والحشم وتوجه إلى العبادة نتيجة موازنة طويلة بين الحياتين، حياته هو وحياة العابد الفقير الذي كان يتأمله طيلة تلك المدة.
والقصة الثانية: توضح حالة إنسان فقير في إطار المجتمع المسلم وهو قصة الصحابي الجليل: جليبيب رضي الله عنه.
وكلا القصتين تصب في بند تصحيح المعايير والموازين، وضبطها بمعيار التقوى والصلاح.(23/1)
الأمير العباسي في الطريق إلى الله
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً، واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون حياة ولا نشوراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً: {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب:46] أسكت الله به الجاهلية فلم تتكلم، وهدَّم به الوثنية فلم تُبْنَ، وأزال به أوضار الشرك فلم يعد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
يا عامراً لخراب الدهر مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمرانُ
ويا حريصاً على الأموال يجمعها أقصر فإن سرور المال أحزانُ
من يتق الله يُحمد في عواقبه ويكفه شر من عزوا ومن هانوا
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركانُ
قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]
وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:18 - 21].
ما الحياة؟! ما هو ذهبها؟! ما هي فضتها؟! ما هي قصورها ومناصبها ووظائفها؟! كلها لا شيء لعب ولهو تفاخر وتكاثر زهوٌ ورياء إعجابٌ وظهور طلاسم ولموع، ولكن الحقائق والثوابت هي الإيمان والعمل الصالح.(23/2)
الأمير يتتبع حياة العابد الفقير
خرج علي بن المأمون -ابن الخليفة العباسي المأمون - من قصره على شرفة القصر، فأشرف من شرفات القصر -البروج العاجية- ذات يوم ينظر إلى سوق بغداد طعامه شهي، ومركبه وطي، وعيشه هنيء، يلبس ما جمل، ويأكل ما طاب، ما جاع يوماً في حياته، وما ظمئ أبداً، وما مست الشمس جبهته، فأخذ ينظر من القصر إلى الناس في السوق، هذا يذهب وهذا يأتي، ولفت نظر الأمير رجل حمال، يعمل للناس بالأجرة، ويظهر على هذا الجمال الصلاح والنسك، حباله على كتفيه، والحِمْل على ظهره، ينقل الحمولة من دكان إلى دكان، ومن مكان إلى مكان، فأخذ يتابع حركاته في السوق، فكان الحمال إذا انتصف الضحى ترك السوق، وخرج منه إلى ضفاف دجلة، فتوضأ وصلى ركعتين، ورفع يديه إلى الحي القيوم:
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
سبحان الذي اتصل به الفقراء والمساكين!
سبحان من التجأ إليه المظلومون والمضطهدون!
سبحان من عرفه البسطاء، وحجب كثير من الأغنياء والوجهاء!
عرفه الذي في الخيمة، وعلى الرصيف وبيده كسرة الخبز، ولم يعرفه الذي في القصر الشاهق، والمنصب العالي، والمنزلة الرفيعة.
فأخذ الأمير ينظر إلى هذا، فإذا صلى الحمَّال الضحى، عاد فعمل إلى قبيل الظهر، ثم اشترى خبزة جافة بدرهم، فيأخذها إلى نهر دجلة، فيأتي إلى النهر، فيبل كسرة الخبز في الماء، ويشرب من الماء، ويأكل الخبزة، فإذا انتهى توضأ لصلاة الظهر وصلى، ثم دعا وابتهل وبكى، ونادى الحي القيوم، ثم ينام ساعة، وبعد النوم يستيقظ وينزل إلى السوق، فيعمل ويجتهد، ثم يشتري خبزاً ويذهب إلى بيته، وفي اليوم الثاني يعود إلى هذا البرنامج والجدول ولا يتغير عنه وكذلك في اليوم الثالث والرابع إلى أيام كثيرة، فأرسل الأمير جندياً من جنوده إلى ذاك الحمال ليستدعيه وليكلمه في القصر، فذهب الجندي واستدعى الحمَّال.
قال للجندي: ومالي وملوك بني العباس؟ مالي وللخلفاء؟ ليس بيني وبين الأمراء من صلة، ليس لي قضية ولا مشكلة ولا مهمة، إن أشكل علي شيء رفعته إلى الحي القيوم، وإن نابني شيء أعدته إلى الله الواحد الأحد، وإن جعت أشبعني الله، وإن ظمئت أرواني الله، ما عندي لا دار ولا عقار ولا أرض، أنا بالله وبالله أنا.
قال الجندي: أمر الأمير أن تحضر إليه اليوم فظن المسكين أن الأمير سوف يحاسبه أو يحاكمه، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، وهذه الكلمة هي سلاح الفقراء، والمضطهدين والمظلومين، وسلاح المساكين، لكنها تكسِّر رءوس الطغاة، وتحطِّم الحواجز الحديدية، وتسحب القلاع.
أتي بإبراهيم عليه السلام والنار محرقة، فزجوا به في النار، فأخرج سلاحه: حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلب بنعمةٍ مِنَ الله وفضل.
موسى عليه السلام خرج هو وقومه فإذا البحر أمامه، والموت وراءه، فأخرج سلاحه، وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فَنَجَّاه الله.
حضر محمد صلى الله عليه وسلم حضر بدراً، وأحداً، والأحزاب، وتبوك وأمثالها وأضرابها في قلة، فرأى الكفر يزدحم، فأخرج سلاحه وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل؛ فانتصر.
أتى خالد بن الوليد في اليرموك فرأى جيوش الروم كالجبال! والصحابة في فئة قليلة، يقول أحد الصحابة لـ خالد: اليوم نلتجئ إلى سلمى وآجا -أي: يقول: سوف نفر اليوم من هذا الحشد الكبير إلى سلمى وآجا - وهي جبال في حائل، فدمعت عينا خالد، وقال: [[بل إلى الله الملتجأ، حسبنا الله ونعم الوكيل!]] فانتصر.
وسعد رأى فارس ورأى الكفر والعمالة والجهالة، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فداس رءوسهم بأقدامه، وقالها صلاح الدين، وقالها المجاهدون الأفغان.
أتت روسيا بقواتها وطائراتها وسلاحها ودباباتها وصواريخها، فخرجوا بسلاحهم من بيوتهم متوضئين مصلين، قال لهم الناس: التجئوا إلى نيويورك إلى واشنطن قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، قالوا: إلى القوة العالمية، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، قالوا: إلى الدول وإلى العواصم، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:174].(23/3)
الحوار بين الفقير والأمير
دخل هذا الفقير على ابن المأمون الأمير وسلم عليه، قال له الأمير: ألا تعرفني؟ قال: ما أتيتك وما رأيتك حتى أعرفك، قال: أنا ابن الخليفة قال: يقولون لي ذلك، قال: ماذا تعمل أنت؟ قال: أعمل مع عباد الله في بلاد الله.
قال: قد رأيتك أياماً ورأيت المشقة التي أصابتك، فأريد أن أخفف عنك المشقة.
قال: بماذا؟ قال: بأن تسكن معي في القصر بأهلك آكلاً شارباً مستريحاً، لا هم ولا غم ولا حزن.
قال: يا بن الخليفة! لا هّمَّ على من لم يذنب، ولا غم على من لم يعص، ولا حزن على من لم يسئ، أما من أمسى في غضب الله، وأصبح في معاصي الله، فهو في الغم والحزن والهم، قال: ماذا تفعل أنت في نهارك؟ فأخبره، قال: هل وراءك أهل؟ قال: نعم.
أمي عجوز كبيرة، وأختي عمياء حسيرة، آتي بإفطاريهما قبل الغروب.
وهما تصومان كل يوم، فنفطر جميعاً ثم ننام، قال: فمتى تستيقظ؟ قال: إذا نزل الحي القيوم إلى سماء الدنيا، قال: هل عليك من دين؟ قال: ذنوب سلفت بيني وبين الحي القيوم، قال: ألا تريد معيشتنا؟ قال: لا والله، قال: ولم؟ قال: أخاف أن يقسو قلبي ويضيع ديني، قال: أتحب أن تكون حمالاً في السوق جائعاً في الشمس والعري والهم والغم والكلفة، ولا تكون معي في قصر الإمارة؟! قال: إي والله، فنزل وتركه، فأخذ الأمير يتأمل وينظر وهو في حيرة، فقد ألقى عليه محاضرات من الإيمان، وطرق قلبه بدروس من التوحيد، وألقى عليه كلمات تنفذ إلى القلب، وأخذ يتابعه بطرفه حتى اختفى.(23/4)
الأمير يهرب من القصر إلى العبادة
وفي ليلة من الليالي استفاق الأمير من غيبوبته، وصحا من نومه، وعلم أنه كان في سبات عميق، وفي نوم طويل، وأن داعي الله يدعوه ليتنبه
تنبهوا يا رقودُ إلى متى ذا الجمود ُ
فهذه الدار تبلى وما عليها يبيدُ
الخير فيها قليل والشر فيها عتيدُ
والعمر ينقص فيها والسيئات تزيدُ
فاستكثروا الزاد فيها إن الطريق بعيدُ
فاستيقظ الليل، وقال لحاشيته وخدامه: أنا أذهب إلى مكان، فإذا أتى بعد ثلاثة أيام، فأخبروا أبي الخليفة المأمون أني ذهبت، وسوف ألتقي أنا وإياه يوم العرض الأكبر
إن كان قد عزَّ في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
قالوا: ولم؟! قال: نظرت إلى نفسي أنني في غيبوبة وسبات، وفي ضياع وضلال، فأريد أن أهاجر بروحي إلى الله، خرج وسط الليل وخلع لباس الملك، ولبس لباس الفقير، ثم مشى في الطرقات، واختفى عن العيون.
لم يعلم الخليفة ولا أهل بغداد أين ذهب الأمير، وعهد الحشم والخدم به يوم ترك القصر، ركب إلى واسط كما يقول أهل التاريخ، وغيَّر هيئته كهيئة المساكين، وعمل مع تاجر من التجار في صنع الآجر -البلاط والطين والبناء- وأخذ يعمل في ذلك، يصلي الضحى، وله أوراد في الصباح، ويحفظ القرآن، ويصوم الإثنين والخميس، ويقوم الليل، ويتصل بالحي القيوم، ما عنده من المال ما يكفيه ليوم واحد، ذهب غمه وهمه، وحزنه، وذهب العُجْبُ والكِبْرُ والخُيَلاء من قلبه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].(23/5)
وفاة الأمير
ولما أتته الوفاة أعطى التاجر خاتمه، وقال: أنا ابن الخليفة المأمون، إذا مت فغسلني وكفني واقبرني، ثم سلم هذا الخاتم لأبي، فغسله وكفنه وصلى عليه ودفنه، وأتى بالخاتم إلى المأمون، وظن المأمون، أن ابنه قد قُتل أو فقد أو ذهب على وجهه في مكان لا يدرى عنه، فلما رأى الخاتم شهق وبكى حتى ارتفع صوته، فسأل التاجر عنه، قال: أيها التاجر: هذا هو ابني فماذا كان يفعل؟ قال: كان عابداً ناسكاً أواباً ذاكراً لله، يلجأ إلى الله، ما ترك من الدنيا إلا قيمة الكفن، وقد لقي الله وغسلته وكفنته وصليت عليه، فارتفع صوت الخليفة والوزراء بالبكاء، وعرفوا أنه عرف الطريق، لكنهم ما مشوا معه في الطريق {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125].(23/6)
العبرة والموعظة في قصة الأمير
هذه قصة من قصص التاريخ أثبتت وحفظت ونقلت: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
هل من عاقل؟! هل من متدبر؟! هل من سعيد يعلم أن السعادة في السجود لله، وفي تلاوة كتاب الله، وفي ذكر الله، وفي الالتجاء إلى الله؟! فوالله ليست السعادة في الدور ولا في القصور ولا في الحدائق:
ألارب ذي طمرين في جنة غدت حدائقه ملتفة ونمارقه
قد اطردت أنهاره حول قصره تبهج والتفت عليه حدائقه
فكم من نعيم للمساكين عند الله! وكم من سعادة للعارفين بالله! وكم من شقوة لمن جعل الحياة الدنيا هي حياته، فقدم المعاصي والشهوات، ما كف بصره، ولا رد سمعه، ولا حفظ لسانه ولا فرجه ولا بطنه، فسوف يندم ويبكي يوم لا ندم: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفره وتوبوا إليه؛ إنه هو التواب الرحيم.(23/7)
الإسلام ومشكلة الفقر
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس إلى الله أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
صور اللجوء إلى الله، والتمسكن إليه، وعبوديته وحده عاشها الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ودعوتهم ورسالتهم تعيش مع الفقراء، وتحب المساكين، وتهدف إلى الضعفاء؛ لأنها انتصار للحق، وعمق للأصالة، وثبات للصدق في الأرض.(23/8)
زواج جليبيب
هذا جليبيب أحد المساكين من الصحابة، ليست له أسرة معروفة، ولا عنده جسم بهي جميل، وليس عنده مال، ولا يمتلك منصباً يديره، أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في ثيابٍ ممزقة، وفي هيئة الله أعلم بها.
بطنه جائع، وكبده ظامئة، وأعضاؤه هزيلة، ووجهه شاحب، فقال له صلى الله عليه وسلم: {يا جليبيب! ألا تتزوج؟! قال: يا رسول الله! غفر الله لك ومن يزوجني -لا جمال ولا مال- ومرة ثانية يقول له صلى الله عليه وسلم: يا جليبيب ألا تتزوج؟! فيقول: يا رسول الله! من يزوجني لا جمال ولا مال؟} لأن كثيراً من الناس لا يزوج إلا على الدراهم والدنانير، يزوج الرجل إذا رأى عنده ممتلكات وسيارات وشاحنات وناقلات وقصوراً، فيبيع ابنته لذاك الرجل كما تباع الناقة والسيارة، في سوق المزاودة، لا ينظر إلى صلاة ذاك الرجل، ولا إلى صدقه، ولا إلى أمانته، قد يكون هذا الرجل فاجراً سكيراً لعيناً طريداً بعيداً ولكن أنساه ذلك كله مال ذاك الرجل، ومنصبه وسيارته وقصره، فيبيع بنته، فيخسر الدنيا والآخرة فيقول له صلى الله عليه وسلم في الثالثة: ألا تتزوج؟! قال: يا رسول الله! من يزوجني لا مال ولا جمال؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى ذاك البيت من الأنصار، وقل لهم: رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغكم السلام، ويقول: زوجوني بنتكم، هذا مرسوم من كلام محمد عليه الصلاة والسلام:
حتى وضعت يميني ما أنازعها في كف ذي نقمات قوله القيلُ
فذهب فطرق الباب، قال أهل البيت: من؟ قال: جليبيب، قالوا: مالنا ولك يا جليبيب، فخرج صاحب البيت، فقال: ماذا تريد؟ قال: الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغكم السلام، فارتج البيت بالدعاء والرد: وعليه الصلاة والسلام، قال: ويقول: زوجوني بنتكم، فيقول الوالد: الله المستعان! لأن جليبيباً فقير، وأسرته فقيرة لا مال ولا جاه ولا منصب، يملك ثوبه الممزق، فيقول: أعود إلى زوجتي -لأنها تملك الحق، وتملك هذه المراسيم بما يسمونه حق الفيتو في هذه المواقف- فعاد إليها فقالت: الله المستعان! لو كان غير جليبيب، نزوج ابنتنا جليبيبا! فاجتمعا على أن يردا ويرفضا، فسمعت البنت العابدة الناصحة الصالحة، فقالت: أتردان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عليه؟! لا والله فيتوافقان ويتم الزواج، ويدعو له صلى الله عليه وسلم بالخير، فينشئ بيتاً في الإسلام، أساسه على الخير {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109] أفمن أدخل ابنته بيتاً مسلماً تالياً لكتاب الله مستقيماً ذاكراً لله خير أم من أدخل ابنته بيتاً مغنياً فاحشاً ضالاً ظالماً؟! لا يستوون، وعاشت هذه المرأة في سعادة، وأنجبوا أطفالاً مشاعل في التاريخ، علماء ودعاة.(23/9)
استشهاد جليبيب
أتى صلى الله عليه وسلم في غزوة خاضها بنفسه صلى الله عليه وسلم، وبعد القتال سأل أصحابه: {من تفقدون من الناس؟ قالوا: نفقد فلاناً وفلاناً، قال ومن؟ قالوا: ما نفقد أحداً؟ قال: ألا تتذكرون أحداً؟ قالوا: لا.
قال: لكنني أفقد جليبيباً، أين جليبيب؟! وقام يبحث عنه} لأنه يحب القلوب الصادقة، ويهوى الأرواح المخلصة، ويتعاطف مع أهل الحق، {فمر في القتلى وبحث عنه فوجده مقتولاً بجانب سبعة قتلهم من المشركين}.
وما مات حتى مات مضرب سيفه من الضرب واعتلت عليه القنا السمرُ
تردى ثياب الموت حمراً فما أتى لها الليل إلا وهي من سندس خضرُ
{مسح صلى الله عليه وسلم التراب عن وجه جليبيب، وقبل وجهه وبكى، وقال: قتلت سبعة ثم قتلوك، أنت مني وأنا منك، أنت مني وأنا منك، أنت مني وأنا منك!}
نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
فهنيئاً لـ جليبيب! وهنيئاً للصادقين! وهنيئاً للمخلصين! وهنيئاً للسائرين إلى الله! وقبحاً للمتخلفين عن ركب النجاة! وحسرةً على الضائعين الشاردين عن الله! وخيبةً لمن لم يعرف طريق الله! لقد ضاعوا لقد ضلوا لقد تقطعت بهم الحبال لقد نكسوا على رءوسهم من رءوس الجبال!
فيا من أخذَ بأيدي الصالحين! خذ بأيدينا إليك، وردنا إليك، وافتح قلوبنا إليك، وعَمِّرْ بيوتنا وقلوبنا ومجتمعنا بالتقوى، واغْرِس في قلوبنا لا إله إلا الله لتؤتي أُكلها كل حين بإذنك يا واحد يا أحد.
اللهم صلِّ وسلم على محمد الذي أمرتنا أن نصلي عليه، فقلت في كتابك العزيز: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقال صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً، صلى الله عليه بها عشرا} اللهم صلِّ وسلم عليه، واعرض صلاتنا وسلامنا عليه في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأبرار، من المهاجرين والأنصار، وعنا معهم بمنك وفضلك يا أرحم الراحمين!
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحيينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك، واتبع رضاك، برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، ولرفع رايتك، ولنصرة سنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم ثبت أقدامهم، واجمع كلمتهم، واعصمهم من الخلاف، اللهم وحد رأيهم وصفهم على الحق يا رب العالمين، اللهم ارفع بأيديهم لا إله إلا الله محمد رسول الله، اللهم انصر المجاهدين في فلسطين، اللهم بَرِّئْهُم من الكفر والشرك والنفاق يا رب العالمين، اللهم طهر جهادهم من النوازع الأثيمة، والأغراض الذميمة، اللهم صف جهادهم لك وحدك يا رب العالمين، وانصرهم على أعدائك وعدوهم من اليهود ومن شايعهم يا رب العالمين!
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(23/10)
الذنوب خراب الشعوب
الذنوب خراب للأمم الشعوب، وسبب رئيس لهدم الحضارات، وما حل بأمتنا من هزائم وانتكاسات إنما هو بسبب ما وقع فيها من مخالفة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فحق علينا أن نتعظ بذلك، ونعلن التوبة الفردية والجماعية قبل أن يحل بنا ما حل بالأمم التي عتت عن أمر بها من هلاك ماحق.(24/1)
صلة الذنوب بالواقع
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين, والصلاة والسلام على إمام المتقين, وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا ربِّ ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ الله
أيها الكرام: عنوان المحاضرة "الذنوب خراب الشعوب"، ولها صلة أكيدة بما نعيشه ونعايشه في هذه الساعات المحرجة, ونحن لا نعيش في عالم آخر, ولا نفسر الحوادث في الأرض كما يفسرها الملاحدة , بأنها تغير في الكون، أو مروج في الشعوب، أو اختلال في الأمزجة، لا.
كل شيء بقضاء وقدر, وما يجري ولا يسقط في الكون ساقط ولا تنبت نبتة إلا بإذن الله, قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] وقال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40].
ولذلك ضلل أهل السنة والجماعة من قال: إن الذنوب أو الحوادث لا تقع بعلم من الله، وما كان الله يعلم وقوعها, تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
تقضون والفلك المسير ضاحك وتقدرون فتضحك الأقدار(24/2)
المعاصي سبب المصائب
إن ما يصاب به الناس في أملاكهم وأنفسهم ودورهم وأعراضهم إنما هو ابتلاء من الله عز وجل، وله أسباب ومسببات، وإن من أعظم الأسباب ومن أجلها: الذنوب والخطايا والمعاصي التي يفعلها البشر, وفي الأثر: {من لم يعرفني سلطت عليه من لا يعرفه}.
من لا يعرف الله في المسجد، ولا يعرف القرآن والاتصال به والخلود والسكون إليه، والرضا بحكمه والتحاكم إلى شريعته، وأكل الحلال؛ سلّط الله عليه زنديقاً فاجراً بعثياً علمانياً لا يعرف الله, وهذه سنة من سنن الله في الكون؛ قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] وقال: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43].
لو أنهم يوم سمعوا ببأسنا وتدميرنا وأخذنا العصاة بالعصاة تضرعوا إلى الله وعادوا، وأكثروا من التوبة والاستغفار، ولكن هيهات!
في الأثر يقول بعض السلف ولا يصح حديثاً: [[من لم يتعظ بالقرآن والموت، فلو تناطحت جبال الدنيا بين عينيه ما اتعظ]] بعض الناس استمرأ الخطيئة، وشرب المعصية، وأحب الفاحشة، يسمع دكدكة الصواريخ ولا يتوب, ويرى منزله ينسف من على وجه الأرض ولا يستغفر, ويرى عرضه ينتهك وأطفاله يذبحون ولا يعود إلى الله, قال تعالى: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43] والتزيين فعلته الأمة الإسلامية في هذا العصر، وزين لكثير من شعوبها الخطأ ورضيت به, فمعظم العالم الإسلامي لا يحكم بشريعة الله, إنما يتحاكم إلى القانون، ويقولون دول إسلامية! ولكن شريعتهم التي يتحاكمون إليها هي قانون نابليون بونابرت، وشرائع حمورابي، ومخططات هتلر , قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]
كثير من العالم الإسلامي الآن استمرأ الربا فلا ينكره أبداً, يأكله ويشربه ويلبسه، وأصبح أمراً اعتيادياً؛ بل انبرى بعض الدكاترة الذين أضل الله قلوبهم، فبرروا وجود الربا في المجتمع المسلم.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن الذنوب وعن آثارها التي تقع في مجتمعات الناس: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] قال بعض العلماء: "ما ظهر فساد في الهواء ولا ركود في الماء ولا اختلاف في الناس؛ إلا بسبب الذنوب" قال ابن المبارك:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع(24/3)
من قصص الصالحين
يقول بعض العلماء من الذين عاشوا في هذا القرن من الصالحين الثقات الأفذاذ: "كنا نسكن قرية من هذه البلاد الحبيبة المعطاءة، وأتانا عام الجدري -عام عمّ الله فيه ببلاء الجدري وربما سمي الكوليرا- قال: وكان في قريتنا رجل صالح يعرف الله, ويقوم الليل, رجل يصوم النوافل, ويتضرع إلى الله, قال: فكان كلما أصبح الصباح دار على هذه القرية وقرأ آية الكرسي والمعوذات في كل صباح, قال: فوالله ما علمنا إقليماً ولا مدينة ولا قرية إلا دخلها الجدري إلا هذه القرية".
وربما يقول أذناب العلمنة والبعث والزندقة: هذا من أساطير الأولين, بل هي من حقائق الصالحين, ومن قواعد العارفين برب العالمين, فعلها محمد صلى الله عليه وسلم فأنجز الله له ما وعد به, الصالحون والأخيار، ومعلوم على مر التاريخ أن النار تحرق ولكن جعلها الله برداًَ وسلاماً على إبراهيم, والبحر يغرق ولكن جعله الله عز وجل يبساً تراباً لموسى عليه السلام, إنها قدرة بالغة من الواحد الأحد.
يقول:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع(24/4)
وقفات مع حزب البعث
إن الحب الادعائي، والمشاعر الفياضة التي ينطق بها بعض الناس أثبتت الأدلة خطأها.
كثير من الناس يفعل المعاصي فإذا أوقفته عند حده رد عليك بالعواطف الكاذبة, يقول: الله يعلم أني أحبه, الله يعلم أني أناصره, الله يعلم أني أحب رسوله!
إن هذا حب صوفي هندوكي, قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
إن كنتم تحبون الله فهلموا إلى المسجد, واتركوا الخمر والغناء والربا والدسيسة واللهو والتمرد على حدود الله, قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] انظر إلى الكذبات، ادعاء الشعوب أنها تتصل بالله وهي على خطأ, ادعاء بعض القيادات أنها تحامي عن الإسلام وهي آثمة ظالمة, كما يفعل قادة البعث وزمرته في العراق , وهذا ادعاء فاشل ثبت فشله.
يا مدعٍ حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبينا
البعث داس المصحف, أفيدافع من داس المصحف عن القبلتين؟
أيدافع عن المقدسات؟
أيتحمس لزمزم والحطيم؟
لا والله! وما كانوا أولياءه! وليسوا أولياءه، قال تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35] تصفيق وصفير ووَلْوَلةٌ كاذبة وشعارات آثمة.(24/5)
ذنوب مدمرة وكفر بواح
يقول سبحانه: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل:52].
ما دمر القرى وأزالها إلا ظلم الناس, وورد في مسند أبي يعلى بسند فيه كلام: أن الله عز وجل يقول في الحديث القدسي: {وعزتي وجلالي لولا شيوخ ركع، وأطفال رضع، وبهائم رتع، لخسفت بكم الأرض خسفاً}.
يقولون في ترجمة محمد بن واسع الأزدي: إننا نظن أن الله عز وجل يرعى أهل الكوفة ويحمي أهل الكوفة من الزلازل والفتن بصلاحه ووجوده, والله عز وجل ربما حمى دولة كاملة بصلاح ثلة باقية, والثلة الباقية هم أهل العلم والدعوة، وأهل الزهد والصلاح، وأهل تحكيم شرع الله عز وجل في أنفسهم وفي الناس.
ثم لام الله عز وجل قوماً نقضوا ميثاقه ولعبوا بشريعته واستمرءوا معصيته، فقال: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13]
في العالم العربي شعوب كانت -والله- وما زالت تسب الواحد الأحد!! إذا تطاول الإنسان -الذي يدعي أنه من أحفاد محمد عليه الصلاة والسلام- إلى أن يسب الله فماذا بقي معه من الإسلام؟
وهل بقي معه من الدين شيء؟
وهل يصلح هذا المجرم أن يكون أخاً لنا وصديقاً وصاحباً؟
بالله عليكم مكتوب في بعض السرايا والتدريبات العسكرية على بعض أعلامهم:
آمنت بـ البعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني
قال الله سبحانه: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5] وقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66] وقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] يقول شاعرهم العلماني، وهو قومي حملوه على الأكف وعلى الأكتاف يقول:
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
ألا مرحباً بكفر يؤلف بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
نعوذ بالله من جهنم, ثم يرفعون شعارات الحمية للإسلام, وفي مذكرات صدام في كتابه الذي أُلف عنه: صدام سياسياً ومفكراً يقول: "القرآن تراث أدبي جيد لمحمد العربي القومي العبقري.
فهو لا يميز الرسول عليه الصلاة والسلام وأنه رسول, ويرى أن ميشيل عفلق والرسول وأبا بكر وعمر وعثمان سواء!! قال تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112].
وقال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة:13] وما أقسى قلوبهم! ربما يرحم بعض الكفرة فعندهم منظمة حقوق الإنسان ولو أنها منظمة خاطئة كاذبة, فهم الذين أكلوا الإنسان, وشربوا دم الإنسان, وسحقوا الإنسان.
قالوا هم البشر الأرقى وما أكلوا شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا
لكن مع ذلك ربما يرحمون, يحتجون إذا قتل كلب من كلابهم! لكن الشعب الفلسطيني يسحق بالمئات والآلاف ولا يحتجون.
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر
وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر
هكذا يتحاكمون! لكن ربما كانوا أرحم من بعض الذين يرفع شعار الإسلام؛ قال تعالى: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة:13].
هل أقسى من سحق الأطفال؟!
هل أقسى من تشريد الآمنين؟!
هل أقسى من طرد الحوامل حتى تضع كل ذات حمل حملها؟!
هل أشق من هدم المساجد على المصلين؟!
هل أنكى من الفتك بالأعراض وارتكاب الفاحشة في نساء المسلمين؟!
لا.
{وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13].
يلعبون على الشعوب, يقرءون القرآن لكن لا يؤمنون بحرف من القرآن.(24/6)
تطاول على الدين
سمعت مرة صداماً وهو يتكلم في إذاعته وهو يقول: كيف يدخل الخميني الجنة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {أنا عربي، ولسان أهل الجنة العربية} والخميني ليس بعربي؟!
الجواب
أولاً: يا صدام! الحديث موضوع كما أنك أنت موضوع من قائمة المعتمدين, والحديث مكذوب مثلما تكذب.
الثاني: الإسلام ليس للعرب قال تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] , وسلمان فارسي أسلم وعرف الله, وصهيب رومي أسلم وعرف الله وأصبح ولياً لنا, وكذا بلال حبشي.
وأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
هذا كلام باطل وسخيف, وينبئ عن عقلية فاجرة متجرئة على الله، تستهزئ بمقدرات وعقول الشعوب والأجيال, والله تعالى يقول في القرى التي كانت آمنة مطمئنة: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112]
كانوا آمنين مطمئنين، ولكن لما انحرفوا عن منهج الله وأعرضوا فجعلهم الله شذر مذر, وهذه سنة الله في الكون وفي الدول وفي الشعوب.(24/7)
الذنوب تدمر الحضارات(24/8)
سقوط الأندلس
سقوط الأندلس عجيب!
كان في الأندلس ملوك مسلمون، وأمة مسلمة, مرت بهم الفترة إلى ما يقارب الرابع والخامس من القرون، ثم بدأ اللهو, وتحكيم الشريعة أصبح اسمياً عندهم, أصبحت الجواري المغنيات يمررن في السوق وينادين على أنفسهن من يشتري؟
أبطل الحجاب في الأندلس , أدخل النصارى مع المسلمين، فأصبحوا يمرجون في بيوتهم ويخرجون ويدخلون.
كانت ولاَّدة إحدى الشاعرات التي تدعي الإسلام، مثل بعض الشاعرات الآن في العالم العربي تدعي أنها مسلمة، ولكنها ناشرة شعرها, ناشرة فتنتها, مضيعة دينها, مضيعة شرفها وعفافها, وتدعي أنها مسلمة, كتبت ولادة بيت شعر على وجهها تعرض نفسها على الناس, وكان علماء الأندلس محدثون لكن أصبح صوتهم ضعيفاً، وأصبحت النغمة والميدان لأهل المعاصي, وأصبح المتكلمون -أهل الفجور- الذين يتصدرون المجالس أهل غضب الله وسخط الله ولعنته, وأصبح العلماء في الزوايا مندسون، ما عندهم مكانة ولا يسمع لهم أحد, وليس لهم سلطان, إنما السلطان لأهل المعاصي.
ويا أيها المسلمون! هذه نظرية مصدقة من التاريخ, إذا كان العلماء في مقدمة الناس وكانوا محترمين ومقدرين؛ فاعلم أن الأمة منتصرة.
ويوم يقل شأن أهل العلم ويستذلون ويستضعفون فاعلم أن الأمة طوي البساط من تحتها.
الرافضة يبالغون في تقدير علمائهم إلى حد القداسة التي نرفضها نحن, فيصفونهم بأنهم الآيات والحجج وكأنهم رسل بين الرافضة، يطاردونهم في كل مكان يتمسحون بهم وهذا نرفضه, وهذا غلو يخالف شرع الله, نحن نحترم العالم بأن نقدر كلمته وأن نسمع لنصيحته, وأن ننصت له, ونستشيره, ونجعله موجهاً للجيل, ونهيئ له المكانة اللائقة به ليقود الأمة, قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] وقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]
وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
العلماء هم النجوم ولكن لا أفول لهم.
الشاهد: استمرت الأندلس على هذا الوضع المنحط، وأنا أعلم وأنتم تعلمون أنه كان في الأندلس دعاة وعلماء يبكون ويصيحون وينادون: يا عباد الله عودوا إلى الله! لكن:
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد
أعرضوا عنهم, وتولوا عنهم, خمر وسكر، وعهر وغناء، وربا، وعدم تحكيم لشرع الله، وتسلط الفجرة، وبطانة سيئة, فسلّط الله عليهم من لا يعرفونه, فاجتاحتهم النصارى مثلما اجتاح صدام الكويت , أمسوا هادئين مطمئنين وفي الصباح أتت جيوش النصارى -الفرنجة- كالجبال, فهدموا المدن وأزالوا المساجد وحولوها إلى كنائس, وأدخلوا جرار الخمر في المنابر, وأخذوا المصحف ومزقوه وداسوه, وأخذوا الشيوخ وذبحوهم, وأخذوا النساء فاستباحوهن, وذلك بسبب المعصية ونسيان عهد الله، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} [الطلاق:8 - 9].
إنها العبر والعظات، لكن لمن يتذكر ولمن يعي.(24/9)
قصة سبأ
ذكر الله قصة قرية في اليمن كما يقول سيد قطب رحمه الله: الآن ينتقل إلى اليمن ليحدثنا عن قرية من قرى اليمن , قرية هادئة مطمئنة، يصفها الله بوصف القرآن البليغ الجميل البديع، واسمع إلى السياق سبحان من أنزله! وسبحان من تكلم به!
آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم
أتى على سفر التوراة فانهزمت فلم يفدها زمان السبق والقدم
قرآن ينتهي من قصة سليمان والجن ثم يقف ويقول: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15].
هذه القرية يقولون: كان للرجل بستانان اثنان عن يمين بيته وعن يساره, ظل ظليل، وماء بارد، وثمر طيب، وزهر وورد، وسلسبيل وخضرة، وطيور وغمام وراحة, وقال الله لهم: كلوا واشكروا، تنعموا واذكروا, والله تعالى لم يحرم علينا الطيبات.
اسكن القصر لكن صلِّ الجماعة.
اسكن القصر لكن حجّب زوجتك.
اسكن القصر لكن لا تدخل فيه الخمر, أو العهر والمعصية.
اسكن القصر والبس الجديد لكن استعن به على طاعة الله.
لكنهم رفضوا وأعرضوا, فماذا فعل الله بهم؟ أرسل عليهم فأرة, يقول بعض السلف: حتى لا يقولون فأر لأنه ذكر بل يقولون: فأرة, وقد جعلوا الرصاص في سدهم الذي يختزن كميات هائلة من المياه, فأخذت الفأرة تنقض الرصاص فانهد السد فأصبحوا شذر مذر, قال تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} [سبأ:16 - 19].
يقول: ما أبقينا من ذكرهم إلا الأحاديث في السمر, أين أهل الأندلس؟
أعندكم خبر من أهل أندلس فقد سرى بحديث القوم ركبان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
والزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
الولاء لله, والانتصار بالله, والعودة إلى الله, والتوبة من الخطايا، وتصحيح التوحيد، واللجأ إلى الله, ثم يقول سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [المائدة:65]
أي: كفرنا عنهم سيئاتهم، وأنعمنا عليهم وسترناهم في الدنيا، ولأدخلناهم جنات النعيم في الآخرة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الله لينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة, ويهدم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، وتلك سنة من سنن الله, ثم تلا: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل:52].(24/10)
إن في ذلك لعبرة
حذر الله أهل القرى والشعوب من الانحراف عن منهجه، وأخبرهم أن عذابه قد يأتي مفاجئاً بغير إنذار مبكر، ولا توعية ولا نداءات, إذا أراد الله أن يهلك قرية أهلكها في لمح البصر، حيث قال سبحانه: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:97]
وقال: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98] إما نوم وإما لعب! وهذا من إبداع القرآن، فانظر إليهم كيف وصفهم في الليل بالنوم وهو فعل بعض العصاة، الليل نوم والنهار لعب, فلا عبادة ولا عودة إلى الله.
{أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98] أهذا وقت غناء؟!
أهذا وقت عزف على الموسيقى؟!
أينقصنا طرب؟!
أينقصنا مسلسلات خليعة؟!
أينقصنا شاشات مدمرة؟!
أينقصنا لغو؟!
لا.
الأمة امتلأت بالمعاصي في عيونها وبطونها وأسماعها وأبصارها, بل يوجد بعض الأطفال يحفظ عشر أو عشرين أغنية ولا يحفظ سورة واحدة, بينما نحن أمة التوحيد، ولن ننتصر إلا بإخلاص التوحيد وصدق اللجأ إلى الله, ودائماً يجدد التوحيد من هنا؛ لا نقولها تعصباً لكن الحق يفرض نفسه, وهذه الجزيرة قدرها الإسلام, ولا تصلح إلا بالإسلام, وإني أنصح أهل العلمنة وأهل البعث والزندقة والحداثة أن يبحثوا لهم عن بلد غير هذا البلد, لا تنبت شجرتهم هنا ولا تصلح أبداً, ليس لها قرار, قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109]
وقال: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:26] فلا! ما يصلح هنا إلا التوحيد.
دعها سماوية تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوس
فنحن لا نصلح إلا بالوحي, ولا يصلح هنا كلام استالين أو لينين ولا كلام صدام حسين ولا ميشيل عفلق , بل يصلح هنا قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم, حدثنا البخاري وروى مسلم وعند أبي داود وروى الترمذي وعند الطبراني وعند أحمد هذه بضاعتنا, فأروني بضاعتكم إن كنتم صادقين, كذب ونفاق ودجل على الشعوب.(24/11)
سذاجة الشعوب ومصارع الطغاة
ويبلغ بعض الشعوب من السفاهة والسذاجة إلى أن ينقادوا إلى زعيم مضلل، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]
فرعون كان يقول: أليس لي ملك مصر؟
قالوا: يعيش يعيش ويصفقون له!!
وقال: وهذه الأنهار تجري من تحتي؟
قالوا: صدقت.
ويقول: ما علمت لكم من إله غيري.
قالوا: صدقت!!
فأراهم الله من هو الإله, قال: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟ فأجرى الله الماء من فوق رأسه فأصبح كالضفدع في الماء "يا ضفدع! نقنقي ما تنقنقين أسفلك في الماء وأعلاك في الطين".
قال تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92].
فهذه مصارع الطغاة, دائماً مصارعهم تأتي عجيبة, هتلر انتحر, ونابليون نفي, وزعيم إيطاليا في الحرب العالمية احتسى سماً, وفرعون احتسى طيناً, يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53] لكن المثل سوف يقع، والطغاة لهم مصارع, والله لهم بالمرصاد.(24/12)
عزة المؤمن وذكاؤه
الحجاج مسلم لكن قتل مائة ألفٍ من المسلمين, أتدرون يوم قتل سعيد بن جبير؟! دخل عليه سعيد بن جبير عالم المسلمين ومحدثهم وزاهدهم, ينصح الحجاج ويوجهه, فيهدده الحجاج وقال له -واسمع إلى المناظرة الساخنة الحارة- قال له الحجاج: من أنت -وهو يعرفه-؟
بينما يذكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغر
قال تعرفن الفتى قلن نعم قد عرفناه وهل يخفى القمر
قال: من أنت؟
قال: سعيد بن جبير.
قال: بل أنت شقي بن كسير.
قال: أمي سمتني وهي أعلم.
قال: شقيتَ أنت وشقيتْ أمك, ثم قال: والله لأبدلنك يا سعيد! بالدنيا ناراً تلظى.
قال: لو كان ذلك لك لاتخذتك إلهاً!
قال: ائتوني بالذهب والفضة, فنثروها بين يديه.
فبكى سعيد بن جبير وقال: يا حجاج! إن كنت جمعت الأموال لتتقي بها من غضب الله فنعمّا فعلت، وإن كنت جمعتها رياءً وسمعة فلن تغني عنك من الله شيئاً.
قال الحجاج وسيفه يقطر دماً من دماء المسلمين ودعاتهم وعلمائهم: علي بالمغنية, فضربت العود مثلما يفعل كثير من الناس, فالحرب قائمة وأهل العلمنة حملوا في وجوهنا السلاح وهو يغني يقول:
هل رأى الحب سكارى مثلنا
يا من هواه أعزه وأذلني
نار يا حبيبي نار!
نار من العلمنة والزندقة والإلحاد, احمل السلاح واترك العود والوتر, فاليوم وقت قتال.
قد لفها الليل بليل معتكر
انزل إلى الميدان وقل كما قال العربي المسلم الأول:
وليس على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
ويقول جعفر الطيار جدكم:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
علي إن لاقيتها ضرابها
فهذه هي الأصالة والخلود والتعاليم الربانية.
قال: أنشدي؛ فغنت الجارية, فبكى سعيد , قال الحجاج: أبكيت من الطرب؟
قال: ما بكيت من الطرب!
قال: فما يبكيك؟
قال: بكيت أنها جارية سخرت في المعصية.
خلقها الله أمة لله, خلقها الله مسلمة، خلقها الله على الفطرة, من أتى بالمغنية من أهلها، ومن بيتها وأوقفها أمام الشاشة، من قال للمغنية: أن تترك القرآن والمصحف وكتب الحديث وتأخذ العود وتترك أباها وأمها وأخواتها؟ إنهم البشر، وضلالاتهم.
قال: بكيت لأنها أمة سخرت في غير طاعة الله، وعود قطع من شجرة في معصية الله، العود خلقه الله ليكون منفعة للناس وليس وتراًً وعوداً.(24/13)
استخدام وسائل الإعلام للدعوة
بإمكانك أن تجعل هذا الكأس أداة لشرب الماء أو كأساً للخمر, بإمكانك أن تجعل مكبر الصوت لتكبير الدعوة والمحاضرة والدرس أو صوتاً للغناء والفجور والكلام الفاحش, وهذه الوسائل يجري عليها هذا الحكم, وليس بصحيح أن تبقى هذه الوسائل الإعلامية وأعداؤنا يستغلونها في تنبيه الرأي العام في بلادهم، ونبقى نحن نكلم الناس فقط في حدود المسجد وهي تستغل في غير ما وضعت له, ربما يقول البعض: رأيك خطأ؟
أقول: المصلحة تقتضي أن تستغل في الخير, المسألة مسألة إيمان وكفر, ولم تعد مسائل اجتهادية فيها الأرجح والراجح, المسألة إما أن تستغلها في نشر الإيمان، وإلا فغيرك يستغل هذه الأدوات في بلاده لنشر الكفر.
يقول أحد الدعاة: السوق سوق مناهبة, الشيطان ينهب وأنت تنهب, ولا بد لمن ينزل إلى الساحة من تنازلات؛ لكن لا يتنازل عن مواثيقه ولا مبادئه ولكن يتنازل ليصل إلى المصلحة.
مر ابن تيمية بجيش التتار وهم يشربون الخمر, فقال له أحد العلماء: يا أبا العباس! انصحهم لا يشربون الخمر؟ قال: اتركهم يشربون الخمر، فشربهم للخمر أولى وأحسن لأنهم إذا شربوا الخمر سكروا, ولكن إذا تركوا الخمر صحوا وقتلوا المسلمين, وهذه هي الحكمة.
ولذلك يقول ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل: ليس الذكي الفطن هو الذي يعرف الخير من الشر فإن جل الناس يعرفونه, فالطفل يعرف أن هذه جمرة وهذه تمرة, لكن الذكي الفطن الذي يعرف خير الخيرين من شر الشرين.
فشاشة تكلم بها الملايين وتعلمهم عقيدة التوحيد, أولى من أن تتركها فيأخذها غيرك في البلاد المعادية فيستغلها في توجيه الناس على الرأي والإلحاد والزندقة, فهذه عارضة.
والله عز وجل ذكر الأمم بالتفصيل ثم أتى بالإجمال ثم أتى يفصل فقال: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].
سنة الله في الكون, وسنة الله في البشر, وقد ورد في الحديث: {إن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه} رزق يأتيك ربما مُنعته بسبب الذنب, يقول أبو سليمان الداراني: "إني أعصي الله فأنكر ذلك، فأعرف ذلك في أخلاق دابتي وامرأتي" قلَّت ذنوبهم فعرفوا من أين أتوا! لكن نحن كثرت ذنوبنا وخطايانا فلا ندري من أين تأتينا اللطمات.
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
الآن ربما يأتي حادث بسبب ذنب -حادث سيارة أو مرض أو احتراق منزل- وعندما يفتش الإنسان نفسه لا يدري بسبب هذا الحادث من كثرة الذنوب, يبحث عن دخله فيجد فيه رباً وغشاً, يرى اللهو في بيته والغناء, يرى أنه متخلف عن صلاة الجماعة, الحجاب لا يقيد به أهله, غض البصر, حفظ نفسه, حفظ سمعه وبصره, فيلطم من كل جهة بسبب الذنوب.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[إن للحسنة لنوراً في الوجه، وبياضاً في القلب وانشراحاً في الصدر، واتساعاً في الرزق، وإن للسيئة لظلمة في الوجه، وسواداً في القلب، وضيقاً في الصدر، وضيقاً في الرزق]] هذا جزاء من الله حيث قال: {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:26] وهي من سنن الله عز وجل الكونية, فيقول سبحانه عن آدم: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] غوى عن منهج الله لما عصى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122].(24/14)
مناظرة نبوية
أيها الإخوة! أقف معكم في مناظرة مشهورة بين موسى عليه السلام وآدم عليه السلام، وهي في الصحيحين , والذي يرويها لنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: {التقى آدم وموسى عليهما السلام} أين التقيا؟ الظاهر في السماء، وهذا الظاهر من أقوال أهل السنة وفي المسألة اختلاف, وإلا فبينهم آلاف السنوات؛ فموسى متأخر في التاريخ عن آدم, فالتقى الابن وأباه، موسى وآدم, وموسى جريء كثير الأسئلة, فإن فيه جرأةً وشجاعةً ولم يصلح لليهود إلا هو, رجل قوي أمين, إذا غاب عنهم عبدوا العجل, وإذا دخل سكتوا, إذا غاب افتروا عليه وكذبوه واغتابوه, وإذا دخل سكتوا.
وجريء يحب الاستطلاع, كلَّمه الله ولم يكلم أحداً من الناس، فلما كلمه الله وبلغه منزلة التكليم قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] فسكت الأنبياء إلا موسى, قال موسى عليه الصلاة والسلام: أنت آدم؟ قال: نعم -عند البخاري - قال: أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، لقد خيبتنا وأخرجتنا من الجنه -يقول: لماذا لم تجلس في الجنة وقد كنت مرتاحاً فيها، ولماذا نزلت بنا إلى الدنيا؟ لو بقيت في الجنة لكنا معك وما خرجنا، ولا تسافكنا الدماء أو أذنبنا، ولا اغتبنا وكذبنا، ولا غششنا- قال: وأنت موسى بن عمران؟
قال: نعم -هذا المدح قبل ثم العتاب- قال: أنت الذي كتب الله لك التوراة بيده وكلمك تكليماً؟
قال: نعم, قال: بكم وجدت أن الله كتب عليَّ الذنب؟
يعني أكل الشجرة بكم وجدته في التوراة؟
قال: بأربعين عاماً, قال: أفتلومني على شيء قد كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين عاماً؟ فيقول عليه الصلاة والسلام: {فحجّ آدم موسى، فحجّ آدم موسى، فحجّ آدم موسى} أي: غلبه.
وهو الصحيح, وبعضهم يجعل موسى قدرياً، وآدم جبرياً, وجلّ الاثنان وعظما عن هذا التمثيل الخاطئ الذي فعله المبتدعة، ولذلك ينطقون أحياناً: فحجّ آدمَ موسى ويجعلون آدم هوالمحجوج وموسى هو الذي حجه, وهو خطأ بل آدم الذي حجه بالقضاء والقدر.
والشاهد أن الخطايا هي التي أنزلته من الجنة، لكنا نلام على المثالب ونعذر في المصائب, وهذه قاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة , فإنسان سقط ابنه من على السطح فتأتي تعزيه وتقول: ويلك من الله! كيف تتركه يسقط من فوق السطح ويموت!! هذا خطأ.
لكن إنسان يسرق وتقول له: لماذا تسرق؟ قال: قضاء وقدر, فهذا يكون خطأ أيضاً، فاستخدام القضاء والقدر هنا خطأ, وقد ورد أن عمر رضي الله عنه وأرضاه تقدم إليه سارق، فقال له عمر: لم سرقت؟ قال: بقضاء وقدر, قال عمر: إليّ بالسكين؟ فقطع عمر يده, قال: لم قطعت يدي؟ قال: بقضاء وقدر, ما دام أنك سرقت بالقضاء القدر فنحن نقطع يدك بالقضاء والقدر.
فنحن نلام على المعايب، ونعذر في المصائب.(24/15)
منازل الأمم
قال سبحانه عن آثار الذنوب: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:55] والمنازل التي يفعلها الله في الأمم أربع منازل: الإملاء - التزيين - الاستدراج - الأخذ.(24/16)
الإملاء والإمهال
الإملاء أي: الإمهال.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]
فتجد بعض الطغاة عمره أطول من عمر الفيل فلا يموت, يسفك دماء المسلمين ويقتل، ويهدم المساجد، ويمزق المصاحف وتقول: عجباً, ما أطول عمر هذا المجرم! لماذا لا يقصم الله ظهره؟
لكن الله يقول: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42] فهذا يكدس من الخطايا مثل الجبال, ويكون عنده من الذنوب وسجلات السيئات مثل الجبال، قال تعالى: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء}) [ابراهيم:42 - 43].
سنة من سنن الله أن يملي للظالم, وقد ورد في الحديث الصحيح: {إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} حتى تجد بعض الظلمة من أنعم الناس, وأقواهم صوتاً وصولةً وقوةً وسمعةً، وتجد بعض المؤمنين مضطهدين, وبعض الأولياء في خيمة وجوع وعطش وعري، وذاك المجرم متسلط, فيأخذه الله أخذ عزيز مقتدر, حتى إذا أخذه لم يفلته, قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
فهذه مسألة لا تغيب -مسألة الإملاء- وهي أن الله يملي ويمهل للظالم ويعطيه من طول العمر, حتى سمعنا من بعض الناس من يقول عن الطغاة في الشرق والغرب: لماذا يتركهم الله هذه السنوات؟ الواحد بلغ الثمانين لماذا لا يأخذه الله ليستريح الناس منه؟
حكمة بالغة وقدرة من الله، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان:20].(24/17)
التزيين
تقول: كيف هذا المجرم -كمجرم العراق - يفتك بالأطفال؟ ويقتل الآمنين؟ ويفسك الدماء، لماذا؟! يقول الله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8].
يرأى أنه مصيب، وأنه فاتح، وأنه الرجل الذي لا أحد مثله، وأنه ذخر للإسلام، قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8] اسمع إليه وهو يتكلم؛ كأن فيه غيرةً على الإسلام، وكأنه منزعج من وضع المسلمين، وكأنه يسعى لمصالح العالم؛ لكن أفعاله تشهد أنه كاذب، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204 - 206].
فالتزيين هو أن يزين الله له الخطأ, فيزين له أن يسفك الدماء, وبعضهم لا يعيش إلا على الدم, وقد قرأت في ترجمة صدام أنه كان في الثانوية يقرأ كتاب هتلر كفاحي وكان إذا نام وضع كتاب هتلر عند رأسه.
ومن يشابه أبه فما ظلم
وتلك شنشنة نعرفها من أخزم(24/18)
الاستدراج
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182] فيأتيهم الله من حيث لا يتصورون, فيأخذون الاحتياطات ويحاولون الاستقرار, لكن يأخذهم الله من مكانٍ ما ظنوا أن الله سيأخذهم منه, يقول سبحانه: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79] فإذا خططوا لشيء في الليل فتخطيط الله أعظم, والبرم عند العرب: لفُّ الخيط حتى يصبح شديداً, يقول الله تعالى: {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79] يقول: إن كان عندهم مخططات في الكواليس والسراديب تحت الأرض؛ فأخبرهم: {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79].
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:8 - 9] ثم يقول: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] أي: يخطب في حماية الإسلام بينما هو يقتل المسلمين, ويشردهم, ويهدم مساجدهم, ويمزق مصاحفهم, ويقول: إنما نحن مستهزءون بهذه الأجيال، قال الله عز وجل: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:15 - 16].
وهذا هو القرآن يعرض نفسه على البشر، يقول سيد قطب: "بدأت سورة محمد بهجوم أدبي على أعداء الله" مطلع السورة مثل السيف، فيقول الله في أول السورة بدون مقدمات: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1] فهذه أول جائزة وأول أعطية: أن الله أضل أعمالهم.
والثانية: قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد:2] لماذا؟
قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} [محمد:3] اتبعوا استالين ولينين وفرعون وإبليس وميشيل عفلق {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد:3].
وبعد آيات يقول سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] فهو ضائع مثل الحمار الضائع ليس له هوية, يصلح أن يكون مرة بعثياً، ومرة ناصرياًً، ومرة اشتراكياً، ومرة شيوعياً، فتدخل به كل مدخل, ويشتغل على كل موجة, مثل الماس يعطيك مع الشمس كل صورة, أما المؤمن فمبادئه ثابتة في الليل والنهار, في السلم والحرب، مسلم يحمل لا إله إلا الله في دمه، وعروقه ولحمه وشحمه وعصبه، لا يساوم على عقيدته ولو دفعت له الأرض بما فيها, فهذا هو الاستدراج.(24/19)
الأخذ
قال تعالى: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:40] ثم يبقى قطاف الرءوس وعلى الله قطافها, وهذا عندما يصل إلى درجة الأخذ، ينتهي الإنسان حتى يبلغ من الطغيان والفجور مبلغاً لا يمكن أن يصبر عليه ولا يرضى أبداً، فيزلزله الله زلزلة، ويمزقه تمزيقاً، ويلعنه لعنة دائمة معه.(24/20)
أخي جاوز الظالمون المدى
يقول العرب: جاوز الحزام الطُّبيين، وبلغ السيل الزبى.
وفي العدوان الثلاثي على مصر خرج المصريون بالسكاكين، خرجوا بالسلاح الأبيض على ثلاث دول كبرى اعتدت على أعراضهم، لكن الشعب إذا تجند بالإيمان فلا تغلبه قوة من قوى الأرض.
والأفغان خرجوا على روسيا وهي من الدول الكبرى بل هي الدولة الثانية في عظمة أهل الدنيا، خرج المجاهدون بلا تدريب, وإنما على اسم الله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
يا غارة الله جدي السير مسرعة في أخذ هذا العدو يا غارة الله
يطلقون السلاح في الشرق فتقع في رأس المجرم في الغرب.
العمال في طهران لما سمعوا أن كابل احتلها الشيوعيون أخذوا السلاح العادي، وأخذوا يكبرون ويقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
ودخلوا أفغانستان وبقوا يقاتلون المجرم أكثر من عشر سنوات, وخرج المجرم هزيلاً ذليلاً ما سمع الناس بمثل هزيمته, وروسيا ليست كمثل بعض الدول التي ليس عندها شيء! بل هي دولة تصنع وتصدر، وعندها صواريخ تنسف المدن من على وجه الأرض, ولكنها عند قوة الله ليست بشيء.
يا أمة النصر والأرواح أثمان في شدة الرعب ما هانوا وما لانوا
هم الرعود ولكن لا خفوت لهم خسف ونسف وتدمير وبركان
كم ملحد ماجنٍ ظن الحقوق له زفوا له الموت مراً وهو مجان
وبلشفي أتى كالعير منتخياً رأى المنايا فأضحى وهو جعلان
فروا على نغم البازوك في غسق فقهقهت بالكلاشنكوف نيران
هذا هو الإيمان!! أولئك في العدوان الثلاثي يقول منشدهم:
أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا
أنتركهم يسلبون الشريعة مهد الأبوة والسؤددا
فجرد حسامك من غمده فليس له اليوم أن يغمدا
انتهى اللهو واللعب, وانتهى البلوت والسلة والطائرة, أتى لعب دندنة السلاح ولا يثبت إلا القوي, وما يردد في الملاعب انتهى بتصفية الحق أن يبقى حقاً، وأن ينزل أهل الحق في ميدانهم، فهم أهل الملعب وأهل الميدان, أما هذه الألعاب فدورها انتهى، أصبح الضحك على الأجيال والشعوب ليس له مكان ولا جدول عندنا, أصبح عندنا مسجد ومصحف، وسلاح وميدان تدريب واستعداد، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] لنحافظ على المقدسات, وعلى التوحيد والأعراض والدماء, ولنحافظ على الرسالة, قال تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10].
أتظن أن أعداء الله سوف يرحمون, والله لا يرحمون! ربما يرحم النصراني، لكنهم لا يرحمون لأن في قلوبهم حقداً مشحوناً على الإسلام.
صدام في مذكراته يقول: إن سبب تأخر المسلمين تعلقهم بالقديم الذي ورثوه من القرون المتقدمة، يعني: الإسلام.
فهم يسمون المتمسكين بالإسلام رجعيين, أي: أهل اللحى وأهل الصلوات الخمس، وأهل القرآن، وأهل قيام الليل، فيقولون أن هؤلاء الرجعيين هم سبب تأخر العرب.
نقول: وماذا فعلتم يا زنادقة؟
أنتم أول من يفر في الميدان, أنتم أهل الفضائح في التاريخ, أنتم سبب هزيمة العرب مع إسرائيل, وأنتم من قتل العلماء، وشرد الآمنين، وروع الأطفال، وذبح النساء، ولعب بالقيم، وفضح أعراض الناس, أما أهل الطهر والعفاف فهم أهل البقاء, قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].(24/21)
الذنوب التي هدمت الشعوب
الذنوب هي التي هدمت الشعوب وأنا أقول: إن كثيراً من الشعوب لا تحكم شرع الله إلا من رحم ربك، ونرجو الله أن يحفظ هذه البلاد بسبب تحكيم شريعة الله عز وجل.(24/22)
الحكم بغير ما أنزل الله
من الذنوب العظيمة التي وقعت بالبلاد الإسلامية الحكم بغير ما أنزل الله, وأنا لا أعرف بلداً إسلامياً يحكم بالشريعة إلا هذا البلد.
تلك البلاد كلها ولو ادعت الإسلام لا تحكم بالشرع, نعرف تاريخهم وكتبهم بين أيدينا, ولو صلّى أحدهم وصام وحج واعتمر وطاف في البيت سبعين مرة، فهؤلاء الزعماء يرون أن الشريعة ليست مصدر ثقة, وأنها لا تواكب العصر, ولا تصلح لقيادة الأمة, ولا تصلح للدولة, ويأخذ الأحكام الشخصية من قوانين نابليون , فكيف ينصر الله قوماً لا يحكمون الشرع؟! وعندهم القرآن يقرأ على الجنائز، وفي المقابر، ويقرطسونه في قراطيس ويعلقونه بخيوط, وينفثون به على المصروع، وإذا جن إنسان يبركون على صدره ويقرءون عليه, قالوا: القرآن أنزل لهذا! وإذا أتى زواج ابتدءوا به في الزواج, أو في حفل، أو افتتاح المشاريع! أما تحكيم القرآن والسنة فما يحكمونه أبداً، فهذه حقيقة يعرفها الرأي العام عندنا بصراحة.(24/23)
الظلم
ومنها الظلم: فالظلم عاقبته وخيمة, ومنه التعدي على الحقوق والأعراض والقيم، وعلى ممتلكات الناس، قال تعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85] وعاقبة الظلم الزوال والمحق.(24/24)
أكل الربا
الربا عمّ وفشا وطم, حتى ما كأن الناس يعرفون أن الربا حرام, والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء} , فالربا ذنب عظيم, إذا دخل في البيوت والبطون، ولبس وأكل فانتظر الزلازل والمحق والدمار.(24/25)
الإعلام في العالم الإسلامي
أيها الإخوة الفضلاء! ومما يلاحظ في كثير من أقطار العالم الإسلامي مسألة الإعلام, فالإعلام في العالم الإسلامي لم يوجه الوجهة الصحيحة, الإعلام -وليسمع رجال الإعلام- لم يقم بدوره الصحيح في توجيه الناس وتعليمهم العقيدة الصحيحة, وتوجيههم إلى الله عز وجل, وتعليمهم العلم النافع.
إن إعلام إسرائيل يخدم إسرائيل مع مخططات اليهود فيعرضونها على الناس, وإعلام الشيوعيين يخدم مبادئ الشيوعيين, والنصارى كذلك.
لكن أين إعلام المسلمين؟ وما هي مهمة إعلام المسلمين؟ وماذا قدم للأمة؟
صحيح ربما يأتي فيه بعض اللفتات لكن لم يقم بدوره إلى الآن, ويعرف ذلك الكبير والصغير ورجل الشارع.
والآن أتى وقت توجيه الإعلام الوجهة الصحيحة، أن يصدر أهل الفضل والفكر والعلم والأدب ليوجهوا الرأي العام من وجهة صحيحة، وليخبروا العالم والأمة والشعب بما يحاك لهم, وما يخطط لهم من مخططات رهيبة يخططها أعداء الله لاجتياحهم ولسفك دمائهم ولانتهاك أعراضهم, دور الإعلام أن يقدم العلماء للناس, وأن يقدم الدعاة للأجيال, وأن يقدم الكلمة الطيبة، الكتاب والسنة، والأدب الإسلامي، وسيرة السلف , أما إغراق الناس في اللهو واللغو، والغناء والمسلسلات، والتمثيليات وضياع الأوقات، فهذا ليس بصحيح وقد أنكرته القلوب.
وولاة الأمر يدركون أن المصلحة في توجيه الناس الوجهة الصحيحة إلى العقيدة السليمة ليكونوا أمام أعدائهم في قوة, فنسأل الله لهم التوفيق والعون والسداد, وأن يرزقهم البطانة الصالحة، وأن يحوطهم برعايته، ويحفظهم حفظاً لدينهم من كل مكروه.(24/26)
الحلول من هذه المعاصي والجرائم
البدائل والحلول عن هذه المعاصي والجرائم هي:(24/27)
التوبة
قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] والتوبة هي: الندم على ما فات, والعودة إلى الله, واللجأ, والصدق معه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(24/28)
شكر النعم
نحن في أمن وسكينة والحمد لله, فنحن جيران المقدسات، قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:57].
وقال: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57] فهذا منطق قريش.
وبعض الناس يقول: إذا استقمت على منهج الله أخشى أن أكون متطرفاً متزمتاً, وسوف آتي بهذه المسألة.
ومن شكر النعم منها:
أولها: المداومة والاجتهاد في تحكيم شرع الله.
الثاني: إنزال الناس وأهل الفضل منازلهم.
الثالث: أن نتآمر بالمعروف ونتناهى عن المنكر, قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
الرابع: الولاء والبراء, بأن نوالي أولياء الله ونتبرأ من أعداء الله.
مسألة أقولها -وقد طالعت فيها وسمعت كلام أهل الفضل والعلم- وهي في هذا الحدث: إن موالاة الكافر غير الاستعانة بالكافر, فالاستعانة بالكافر في وقت الدفع غير موالاة الكافر, أما الحديث الذي فيه: {فلن أستعين بمشرك} فقال عنه بعض الفضلاء: لأنه رجل واحد مشرك لا يغني عن المسلمين شيئاً.
الأمر الثاني: أنه في تلك الفترة فترة هجوم على العدو, وكان المسلمون في غنية, وأما الآن فأظهرت المصلحة التي يراها أهل الفضل ونراها أن الاستعانة بمثل هذا لدرء خطر هذا أولى, ويضرب بعض العلماء مثلاً يقول: أخوان شقيقان رضعا من ثدي واحد, ثم كبرا فقام أحدهم بالسكين على أخيه يقتله, قال: اتق الله فيّ, قال: والله أذبحك, قال: خف الله, قال: أنا لا أخاف الله, قال: ويلك من الله, فأتى رجل كافر وقال: تريد أن أمنعك.
فماذا يقول؟ يقول: نعم.
أيقول: لا.
لا تمنعني لأنك كافر؟! لا.
المصلحة الظاهرة يستعين بالكافر لدفع أخيه, وإلا فلو لم يفعل ولم يستعن بالكافر في مثل هذا الحدث فما هي النتيجة؟
لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة, الدبابات والطائرات والصواريخ واجتياح المدن قريةً قريةً ومدينةً مدينةً وبلداً بلداً وهتك الأعراض, والزنا, والفحش, والجرائم, وتهديم المساجد, وتمزيق المصاحف.
ثم إن علينا أن نعد أنفسنا, وأن نحمل السلاح, وأن نجعل الجهاد من أعظم أمنياتنا في الحياة, وقلت من قبل وأقول: ليس بغريب علينا الجهاد، نحن الذين علمنا الناس الجهاد؛ فـ خالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وطارق بن زياد , بل موحد الجزيرة الملك عبد العزيز كان يُعلِّم غيره من هؤلاء الأذلاء الجهاد.
في فتية من بني الأفغان ما تركت كراتهم للعدا صوتاً ولا صيتا
قوم إذا قابلوا كانوا ملائكة حسنا وإن قاتلوا كانوا عفاريتا(24/29)
تنبيهات(24/30)
لا وطنية في الإسلام
لا وطنية في الإسلام, وليس بين المسلمين وطنية, فكل أوطان الله أوطاننا، وكل بلد يُذكر فيها اسم الله هي بلادنا, أما جعل الإقليمية والوطنية فهذا مبدأ وشعار مرفوض, فلا وطنية في الإسلام, جمعنا الدين ولم يجمعنا الدم, لأن هؤلاء العلمانيين يقولون: أُخوة الدم أُخوة اللغة أُخوة الضاد!! وهذه الشعارات كلها خطأ، هذه كلها أصنام وطواغيت, نحن أُخوة لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ فلا وطنية في الإسلام.(24/31)
عدم اهتمام كثير من الناس بالتوحيد
ولذلك نجدهم في الأزمات لا يتذكرون التوكل، تجد كثيراً من الشباب يختلفون في تحريك الأصبع، مع أن إخلاص التوحيد وأعمال القلوب قد ركز عليها دعاة الإسلام مثل ابن تيمية، فقد ألفَّ في الخوف والرجاء مجلداً, بينما تحريك الأصبع أتى بها في سطر, والشباب عندنا يتكلمون عنها في مجلدات، والتوكل لا يذكرونه أبداً.
أعمال القلوب ممن يخاف من يحب الرجاء في الله الولاء لله التوكل على الله الرهبة الخشوع الخشية هذه لا تدرس إلا القليل النادر في المقررات.
نحن مقصرون في تعليم الناس التوحيد الصحيح, وتضخيم المسائل الفرعية الجزئية وينتجح عنه تصغير مسائل المعتقد, وهناك من يقول: " لا نحتاج التوحيد!! الله على العرش استوى درسناه في أول ابتدائي!! ".
التوحيد تدرسه حتى تدخل قبرك، مع المحبرة حتى المقبرة.
الأمة الإسلامية الآن لم يتجلّ لها التوحيد الصحيح، ولم تعرف الله حقيقة إلى اليوم إلا من رحم ربك, فواجبنا أن نوضح التوحيد الصحيح للناس, فنعرض عليهم كتب أهل العلم: العقيدة الطحاوية , كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومنها كتاب التوحيد , وكتب ابن تيمية وابن القيم , هذه نعرضها للناس.
ابن تيمية لم يؤلف في الفرعيات كثيراً, أظنه ألف فقط كتيباً صغيراً، وأكثر كتب ابن تيمية في الإيمانيات، في الأصول، والمعتقد, قالوا له: ما لك لا تؤلف في الفروع؟ قال: الفروع أمرها سهل، وإن عبد العابد ربه على مذهب أبي حنيفة أصاب, وإن عبد على مذهب مالك أصاب، أو الشافعي، أو أحمد، لكن مسألة الإيمان والتوحيد والمعتقد, لا يقبل فيها قولان، بل قول واحد.
يسأل عن وجود الله؟ فيقول: فيه قولان!! وعندما يسأل عن الأسماء والصفات؟ يقول: الأمة كلها سواء؛ المعتزلة والأشاعرة والجهمية والمعطلة كلهم من أهل السنة، وهذا خطأ فإن الطائفة المنصورة هي أهل السنة والجماعة فقط.(24/32)
جهل مكانة العلماء
عدم معرفة مكانة العلماء عند كثير من الناس:
ففي بعض البلدان العالم ليس له وزن ولا قيمة، ولا يسمع له، ولا يصغى لقوله، ولا ينزل منزلته, وهو أهان نفسه بأمور منها:
أنه لم ينشر علمه, أو ما دعا إلى الله, أو ما غضب لانتهاك محارم الله, أو ما حصل التحصيل اللازم واتقى الله فيما عنده.
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أذلوه جهاراً ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما
إما أن يستخذي إلى الدنيا، وإما أن يجبن عن قول كلمة الحق، والمناصحة واردة, ومن هدي ولاة الأمر في بلاد المسلمين من السلف والخلف أن يقبلوا النصيحة, ونحن أمة النصيحة, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم}.(24/33)
حقيقة الحكمة
كلمة الحكمة وكيف تعرف:
بعض الناس يستخدم كلمة الحكمة خطأً, فإذا نهيت عن شرب الخمر, قال لك: لا.
عليك بالحكمة، لا تجرح مشاعر الناس, وإذا غضبت من انتهاك حرمات الله, فيقول: الحكمة والأسلوب، لا تجرح المشاعر.
وهذا لا يعلم ما هي الحكمة؟
فبعضهم يجعل الحكمة أن تموت ولا تتكلم أبداً, يقول: لا تؤذ، لا تكن متزمتاً اتركنا عليك أن تتقي بنفسك نفسي نفسي أما أن تأمر فإنك تأخذ عداوة الناس تجرح مشاعر الناس!! وهذا كله خطأ بل الحكمة توضع في موضعها, فقد يكون من الحكمة أن تغضب, وقد يكون من الحكمة أن تشكوه إلى ولي الأمر, وقد يكون من الحكمة أن ترفع عليه قضية وتجلسه أمام القاضي, فرجل يسب الله تسمعه في الشارع أتنصت وتذهب وتقول: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها؟ لا.
ارفعه إلى السلطان, والله! لو أحدنا سرقت منه عشرة ريالات لغضب, أو أخذ من عرضه لأقام الدنيا وأقعدها, لكن في حدود الله كثير من الناس يسمع ويرى ولا ينكر.(24/34)
التطرف اللاديني
هم يقولون: أهل الصحوة أهل تطرف, لكنهم ليسوا متطرفين، وهؤلاء الزنادقة والملاحدة وأهل الحداثة هم المتطرفون؟ من المسئول عن الخمر؟ من المسئول عن المخدرات؟ من المسئول عن الفواحش؟ من المسئول عن تضييع الجيل؟ هم.
هذا هو التطرف.
أما نحن فليس عندنا تطرف, وإن كان فصور نادرة شاذة, يأتي واحد بها من الألف, أما الكثرة الكاثرة فلا يوجد تطرف, بل استقامة في الجميع، فهؤلاء الذين أمامي والألوف المؤلفة من غيرهم من الشباب من أهل السنة والجماعة يعرفون الولاء لله ولرسوله ولأئمة المسلمين، ويعرفون الطاعة، ويعرفون الانضباط والحكمة, وأحدهم تثق بعقله ودينه وعلمه؛ لكن يأتي شاب فيسيء التصرف فيقولون: كل الشباب متطرفون هذا خطأ!!(24/35)
الأسئلة(24/36)
قصيدة في طاغية العراق
السؤال
هناك سؤال تكرر بأكثر من صيغة يطالب الشيخ بإلقاء القصيدة التي قالها في طاغية العراق مؤخراً؟
الجواب
عنوان هذه القصيدة " هتلر الشرق" وقد ذُكرت ليلة أمس:
أذاك صدام أم هذا أبو لهب تبت يدا عصبةٍ حمالة الحطب
يا حية الحقد يا نار الضغينة كم أبكيت من مقلة في ساعة الحرب
يا قاتل المجد يا سفاك ما برحت كفَّاك في دمنا عاثت بلا سبب
روعت يا مجرم التاريخ أمتنا هِجْتَ الأرامل بل أفزعت كل صبي
يا هتلر الشرق إسرائيل رغت لها وهبتها ونصبت الموت للعرب
صغت الصواريخ ألغاماً مفجرة أجريتها في دماء السادة النجب
أكلما قام سفاح بأمتنا أفنى الأقارب في ليل من الرهب
خطوت خطو جمال في تهوره أذاق صنعاء مر العلقم الوصب
يا خائن الشعب يا من باع عزته يا محرق الأمة العرباء بالعطب
سيحفظ الدهر والتاريخ ما فعلت يمينك الشؤم أو ما قلت من كذب
صه يا عدو العلا ما أنت من دمنا نسلاً وما أنت من أبطالنا النجب
لا ينصر الله إلا مؤمناً بطلاً له من الطهر ذكر عامر القرب
سجوده في ظلام الليل قوته هزيجه الحلو تسبيح من الحجب
إمامه أحمد المختار قدوته أنسابه في الهدى من أشرف النسب
والسلام عليكم ورحمته وبركاته.(24/37)
المفسدون في الأرض
إن الله سبحانه وتعالى حين خلق آدم وأخرجه من الجنة، قدر أنه لا بد من صراع بين الحق والباطل، لحكم كثيرة ومنافع عظيمة تعود على أهل الإسلام والإيمان.
وأوجب سبحانه على أهل الحق أن يجاهدوا لإعلائه، وأن يقمعوا الباطل وحزبه، وقد بعث الله الرسل وأقام المجددين لدحر أهل الباطل من أهل الشرك والبدعة والفسق والمحادة لأمر الله.(25/1)
صور من الطعن في حدود الإسلام
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
أيها الناس: لقد واجه الإسلام تهماً فظيعةً، وطعوناً شنيعةً من أعدائه سلفاً وخلفاً، اتهموه بالرجعية والتأخر، واتهموه بالهمجية في تطبيق الحدود وسن الشرائع وتنفيذ الفرائض.
فلنأتِ لنستقرئ أحوال هؤلاء الطاعنين، وموقف الإسلام من هذا الطعن الفضيع.
عباد الله: إن الحدود نعمة من نعم الله تبارك وتعالى، سنها لحفظ الإنسان، ولحمايته ورعايته، واعتبر الله عز وجل من عطل حدوده في الأرض كافراً ظالماً فاسقاً، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
يقول جل ذكره: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:44 - 45] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47].
وعندما أتى القرن الثالث، قامت هناك نعرةٌ عدائيةٌ للإسلام، أسسها المذهب الباطني الذي امتد اليوم إلى المذهب الخميني، وما يبثه في الأرض من عداء ضد هذا الدين، واشتركت معه اليهودية والصهيونية العالمية في العداء للإسلام، لكنه لم يظهر العداء كما أظهروه، فإن مذهبه التقية، يتقي ويظهر أنه ناسك عابد وهو الذئب العادي على الاسلام، وهو المنفذ الوحيد للصهيونية، وهو العميل الإرهابي والمدمر للإسلام.(25/2)
أبو العلاء المعري واستهزاؤه بالدين
وكان من أجداد المذهب الباطني، الزنديق أبو العلاء المعري الشاعر الفيلسوف المحسوب على الإسلام، الذي امتهن دين الله، وضحك على شريعته، واستهزأ بآياته في أبياته التي يقول من ضمنها، وهو يعترض على قطع يد السارق:
يدٌ بخمس مئينِ عسجدٍ وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
يقول: هذه اليد ديتها في الإسلام خمس من المئين العسجد الذهب -فإذا سرقت ربع دينار قطعت، فكيف تقطع؟
تناقض ما لنا إلا السكوت له ونستعيذ بمولانا من النار
يقول: هذا تناقض في دين الله.
وما التناقض إلا في عقله وقلبه يوم طبع الله عليه، وفضحه وأخزاه، فاعترض على شريعة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك رد عليه جهابذة الإسلام، وقال أحدهم:
عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
وقال له عبد الوهاب المالكي العالم الكبير وهو يحاكمه عند الله، ويقول له:
قل للمعري عار أيما عار جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عاري
لا تقدحن بنود الشرع عن شبهٍ شرائع الدين لم تُقدح بأشعار
فابتلاه الله بعمى القلب والبصر وأخزاه الله، حتى قال المؤرخون: ما دفن أبو العلاء ووضع في قبره إلا والتقمت لسانه حية لها ذنبان اثنان كما قال ابن كثير وغيره، وهذا خزي الدنيا، وللآخرة أشد خزياً وعاراً ونكالاً.(25/3)
موقف ابن سينا وابن الراوندي من الدين
إن الملاحدة الذين طعنوا في دين الله كثر، فمنهم ابن سينا المحسوب على الإسلام، والذي سُمي في بعض الأقسام العلمية في جامعتنا: الأسطول، ويسمى: الذكي الفاره، والعبقري المدره، وسميت به كتب وله أقسام، والإسلام منه -إن لم يكن تاب- بريء؛ لأنه اعترض في بعض الأمور على الشرائع وأنكر بعض الأسس اليقينية من دين الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ومعه ابن الراوندي الكلب المعفر الذي ألف كتاب الدامغ على القرآن يقول: أدمغ به القرآن والسنة، قال ابن تيمية: إن كان ثبت ذلك عنه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.(25/4)
عداء الغرب للإسلام وأهله
ثم أتت الدعوات المغرضة تترى حتى وصلنا اليوم إلى أعداء الإسلام، فألفوا الكتب، وعقدوا المؤتمرات، وصرحوا بالرسائل والفتيا، وانتقدوا على الإسلام، وقالوا: دين همجية.
كيف يسرق السارق سرقة فتقطع يمينه؟! أهذا من العقل والنقل؟! كيف يقتل القاتل؟ ونقول لهم: يا سبحان الله! نسيتم الشعوب التي دمرتموها، والشيوخ الذين قتلتموهم، والأطفال الذين أبدتموهم، واعترضتم على قتل مجرم بقتله تحيا الأنفس، والله يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:179].
قتل مجرم واحد يحيا به شعب يدين لله عز وجل، وقطع يد سارق واحد، تبقى أموال الناس مأمونة مخزونة محفوظة، ويبقى الناس بسلام، وجلد زانٍ واحد، تبقى أعراض الناس سليمة معافاة محماة، فما لكم أنتم لا تفتشون عن أخباركم وصحفكم السود؟ راجعوا سجلاتكم ماذا فعلتم بالشعوب؟
قالوا: هم البشر الأرقى، وما أكلوا شيئاً كما أكل الإنسان أو شربوا، من الذي قتل شعب فلسطين شعباً كاملاً بأطفاله ورجاله ونسائه؟! من الذي هدم مساجده؟! من الذي لعب بأعراض نسائه؟! من الذي مزق كتبه وضيع معالمه وشتت أهله شذر مذر في الأرض؟! أليست هي الصهيونية العالمية ومن ورائها أمريكا التي تدَّعي حقوق الإنسان وحفظه ومناعته وهي عدوة الإنسان؟
من ضرب العمال في بولندا ومن أتى بالرق من يوغندا
من دمر البيوت في نزاكي من ضرب اليونان من أتراك
من الذي ناصر إسرائيل حتى تصب عنفها الوبيلا؟
إنهم يقتلون الملايين ولكنهم لا يسألون أنفسهم، وأما الإسلام فيتهمونه إذا قتل مجرماً واحداً: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] يستخدمون حق الفيتو إذا وقف بعض الناس بحماسة ورحمة الإنسانية للشعب المضطهد، ولا يأخذون حق الفيتو ضد من قتل الناس وأرهبهم ودمر بيوتهم.
أخرج شعب أفغانستان -وهو ثمانية مليون- إلى باكستان لاجئين يموتون جوعاً، لا يجدون ورق الشجر، ولم يستخدموا حق الفيتو، وأخرج شعب فلسطين من خمس وعشرين سنة، وفرق بين الابن وأبيه، وبين الأخ وأخيه، وبين الأم وولدها، فما استخدموا حق الفيتو.
فإذا شخص مجرم انتهك أعراض المسلمين على أنه زانٍ، قالوا: همجية وبشاعة وأنه لا يناسب رحمة الإنسان.
ما هذا الورع المظلم؟!! وما هذه اللعنة العمياء التي أصيبوا بها في سمعهم وأبصارهم؟ ونرد عليهم أيضاً بواقعهم، فانظروا إلى بلادهم، وانظروا إلى ولاياتهم كيف تعيش الدمار والعار.
إن عيد الكرسمس في الولايات المتحدة تغلق فيه الكهرباء وتطفأ لمدة عشر دقائق، وأحصي في بعض الولايات في الشمال كولاية أوكلاهوما أن بعض السرقات بلغت في عشر دقائق ألف سرقة، أما في الإسلام فإننا -والحمد لله- نعيش في أمان، يذهب الذاهب بماله، فلا تتعرض له عصابة ولا مجرمون، ولا يتعرض له قطاع طريق، لأنهم علموا أن الحد سوف يصيبهم، ولذلك وقف عليه الصلاة والسلام بقوةٍ أمام كل من عطل الحدود، وبين أن من عطلها فهو ملعون في الدنيا والآخرة، وأن من عطلها فقد غضب الله عليه، لا يقبل الله من صرفاً ولا عدلاً، ولا كلاماً، ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.(25/5)
صور من إقامة الحدود في عهد النبوة.(25/6)
قصة المرأة المخزومية
سرقت امرأة مخزومية كانت تجحد العارية وبنو مخزوم أسرة فارهة ضخمة من أسر قريش المشهورة، فلما جحدت هذه المرأة الحلي، رفع أمرها إلى رسول الهداية صلى الله عليه وسلم، فقال: حكم الله عز وجل؛ قطع يدها، فقامت قيامة بني مخزوم، وقالوا: توسمنا العرب بأن امرأة منا سرقت، لا.
والله لا يكون هذا، واجتمعوا وسهروا الليالي الطويلة، وأداروا الرأي، وفي الأخير من الذي يشفع لهم عند الرسول عليه الصلاة والسلام، من الذي ينشر القضية؟ ارتبكوا أيما ارتباك، وفي الأخير قالوا: نذهب إلى أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، ونعرض عليه القضية؛ عله أن يرفعها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
أتوا إلى علي بن أبي طالب فغضب ورفض واحمر وجهه، وقال: ويلكم أتشفعون في حد من حدود الله، فأتوا إلى فاطمة الزهراء بنت المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأخبروها الخبر، فقالت: ويلكم وغضبت وتحرك إيمانها في قلبها، وقالت: من يشفع في حدود الله؟!
وفي الأخير ذهبوا إلى أسامة رضي الله عنه وأرضاه، وهو شاب غر فطن في الثالثة عشر من عمره، فعرضوا عليه الرأي، فاستحسن الفكرة وذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فجلس أمامه، فقال له صلى الله عليه وسلم وأسامة خجول لا يستطيع أن يتكلم بما في صدره، فقال له صلى الله عليه وسلم: ماذا في صدرك؟ قال: يا رسول الله! المرأة المخزومية التي حكمت عليها بقطع يدها نريد أن تعفو عنها، فغضب عليه الصلاة والسلام وقام على ركبتيه ورفع صوته على أسامة، وقال: ويحك! وجئت تشفع في حد من حدود الله.
وفي أثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا بلغت الحدود الإمام فلعن الله الشافع والمشفع} إذا بلغت السلطان أو القاضي الحدود كحد الزنا، أو حد شرب الخمر، أو حد القتل، أو حد السرقة، فأتى أناس يتشفعون من الوجهاء والمسئولين، فلعن الله هذا الشافع الذي تشفع ولعن الله من قبل الشفاعة، ثم قام عليه الصلاة والسلام فجمع الناس، وأتى الصوت يدوي في المدينة " الصلاة جامعة، الصلاة جامعة"، ولا يجتمع الناس إلا لأمر فظيع خطير في الإسلام، فلما اجتمعوا قام عليه الصلاة والسلام على المنبر ليبين أن هذا حكم الله، وأن هذه فريضة الله، وأن هذه شريعة الله، وقال: {يا أيها الناس! إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله ووالله وتالله وبالله لو أن فاطمة بنت محمد سرقة، لقطعت يدها}.
نعم.
ليفهم من يفهم، لو أنها فاطمة الزهراء بنت المصطفى صلى الله عليه وسلم، سيدة نساء العالمين:
هي بنت من؟ هي أم من؟ هي زوج من؟ ماذا يساوي في الأنام علاها
أما أبوها فهو أشرف مرسل جبريل بالتوحيد قد رباها
لو سرقت -والله- لقطع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يدها.
قال الزهري: وحاشاها أن تسرق، ولكن أراد صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس أنه لا تأخذه هوادةٌ في دين الله، وأن الوساطات والشفاعات في تغيير الحدود، أو إرباكها، أو تعطيلها معناها اللعنة والغضب من الله تبارك وتعالى، ومعناه السخط، والخروج عن شريعته.(25/7)
إقامة الحد على اليهوديين
وبنو إسرائيل واليهود يعلمون أن الله فرض عليهم ذلك، لكنهم نقضوا عهد الله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13] أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام مخير بين أن يحكم بينهم في دين الله، أو أن يعرض عنهم، يقول سبحانه: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة:42] فلما أتوا بالزانيين- الرجل والمرأة- فقال اليهود: يا رسول الله! هذا الرجل زنا بهذه المرأة، فقال عليه الصلاة والسلام: {ماذا تجدون في كتابكم} في التوراة، والرسول عليه الصلاة والسلام يعلم أن في التوراة حكم الله وأنه جلد الزاني البكر ورجم الزاني المحصن، فقالوا: نجد في التوراة، أن نحمم وجه الزاني بالفحم، وأن نركبه على حمار ونوجه رأسه إلى دبر الحمار، وأن نعرضه على الناس، فقال الله عز وجل لرسوله: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93] تعالوا بالتوراة نقرؤها سوياً هل نجد هذا الحكم في توراتكم وكتابكم، فأتوا بها، وهم حيات أخدع وأمكر خلق الله، وهم أساس كل جريمة وكذب ودجل وخيانة في العالم، فأتوا بالتوراة وجاءوا برجل اسمه ابن صوريا منهم، أعور لا يقرأ إلا بعين واحدة، فقالوا: إذا استدعاك محمد لتقرأ عليه التوراة، فاقفز من هذه الآية -آية الرجم- اقرأ ما قبلها وما بعدها واتركها، فأتى فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم التوراة قام حفياً لها؛ لأن فيها شيئاً من الحق، ولأنها أنزلت على موسى عليه السلام، وجعلها صلى الله عليه وسلم على وسادة عنده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب لكنه أعلم خلق الله بشرع الله، فقال للقارئ: اقرأ، وحوله اليهود يتناخرون كالخنازير والقردة، فبدأ القارئ يقرأ وقفز من هذه الآية وقرأ ما قبلها وما بعدها وجعل يده عليها، فقال عبد الله بن سلام اليهودي الذي أسلم وهو من أهل الجنة، والذي قال الله فيه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10] فالشاهد عبد الله بن سلام فقال: {يا رسول الله! والذي بعثك بالحق نبياً إن فيها الرجم، ولكنه غطى بيده عليها، فكشف صلى الله عليه وسلم عن الآية وقرأت، فقام عليه الصلاة والسلام فرجم هذا الرجل ورجم هذه المرأة} قال ابن عمر رضي الله عنهما: [[لقد رأيت الرجل وهو يجنأ على المرأة يحميها من الحجارة، فعلمنا أنه زنا بها]] وهذا حكم الله عز وجل وشريعته في الأرض فلابد أن تنفذ، ومن عطلها فهو أساس تعطيل الرزق من السماء، والقطر من الفضاء، والغيث الذي يصب على القلوب، يقول تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] والعجب ممن يعترض على دين الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم يقتل عباد الله في الأرض ويسعى في الأرض فساداً ويؤيد الطغيان والاستبداد واستحلال الشعوب وقتل الأرواح والضمائر.
قتل امرئ في غابة جريمةٌ لا تغتفر
وقتل شعبٍ كاملٍ مسألةٌ فيها نظر
ولكننا نرجع حكمهم إلى الله، ونعتز بهذا الدين الذي جعله الله حفظاً للأرواح وللأنفس وللأعراض وللأنساب وللأموال، فالحمد لله الذي شرح صدورنا للإسلام يوم ضيق صدور الآخرين وجعلها كأنما يصعدون في السماء، والحمد لله الذي هدانا لهذا الدين وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، رب زدنا فقهاً في ديننا وثبتنا على ملة رسولنا حتى نلقاك، وافتح قلوبنا لهداك، ولا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتها وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(25/8)
فوائد إقامة الحدود
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين وقدوة الناس إلى الله أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
عباد الله: إن من النعم الجليلة أن يطبق حكم الله عز وجل في البلاد، وأن تنفذ حدوده، ولا يعطل منها شيء، فإن معنى ذلك الاستقرار والأمن والازدهار، ورضى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وإنزال سكينته على عباده.
والحدود في الإسلام لم تشرع ولم تسن عبثاً، وإنما لها حِكُم وفوائد ومنافع:(25/9)
طهارة من الذنوب
أنها مطهرة لمن اقترف هذه الذنوب والخطايا: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136] ويوم يذنب العبد ويطوف به طائف من الشيطان فينسى ربه فيقع في الجريمة حينها يطبق عليه الحد، فيكون مطهراً له من الذنوب فيُقبل على الله عز وجل طاهراً مغفوراً له ذنبه مع توبته مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولقد بلغ هناك من المشاهد والنماذج في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام ما يعجب له قلب المؤمن.
زنت امرأة في عهده صلى الله عليه وسلم فلما ارتكبت الفاحشة تذكرت ذنبها وخطيئتها وإجرامها، وتذكرت القدوم على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] فأتت إلى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فاعترفت بالزنا، وطلبت منه أن يطهرها فأعرض عنها؛ لأنه لا يريد أن يستجلي أخبار من استتر بستر الله، أتت عن ميسرته فشهدت بالزنا، فأعرض عنها حتى شهدت على نفسها أربع شهادات، حينها رأى صلى الله عليه وسلم أنها حامل، فقال: {اذهبي حتى تضعي ثم تعالي} فذهبت وهي صابرة محتسبة تتفكر في يوم العرض على الله وتريد الحد في الدنيا، فوضعت طفلها.
قال سهل بن سعد: والله لا أنسى يوم أتت بطفلها في لفائف من قماش، وهي تطلب التطهير منه صلى الله عليه وسلم، فيقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: {اذهبي حتى ترضعيه وتفطميه، ثم تعالي} وانظر إلى صبرها طول هذه المدة واحتسابها الأجر والمثوبة في تنفيذ الحق، فتذهب فتفطمه بعد سنتين، وتأتي به وفي يده كسرة من الخبز، فيقول عليه الصلاة والسلام: من يكفل هذا الطفل؟ فأخذه أحد الأنصار وذهبوا بالمرأة وهي مقبلة على الله متوضأة بوضوء التوبة وقد فتحت لها أبواب الجنة الثمانية يقول سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] واجتمع عليها المؤمنون ليقيموا شريعة الله، وليظهروا تطبيق حدود الله وانهالت عليها الحجارة، وهي صابرة محتسبة مقدمة روحها إلى الله.
يجود بالروح إن ضن البخيل بها والجود بالروح أغلى غاية الجود
وتنتثر دماؤها على الناس، فيسبها أحد الصحابة، فيقول له صلى الله عليه وسلم: {مهلاً يا فلان، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم} وفي لفظ: {والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس، لوسعته أو لو وزعت على سبعين بيتاً من بيوت أهل المدينة، لوسعتهم} وهل رأيتم أجود منها يوم جادت بنفسها، ثم يقول عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده لقد رأيتها تنغمس في أنهار الجنة} فأول هذا أنه طهارة لمن أقيم عليه الحد، وقد تاب ما بينه وبين الله، فإن الحدود كفارات وجوابر وزاجر.(25/10)
استقرار الأمن في البلاد
والمنفعة الثانية من تطبيق الحدود: أنه استتباب للأمن في البلاد، وقطع لدابر المجرمين والمفسدين في الأرض، وقطاع الطرق وعصابات الإفساد، وعصابات الإرهاب التي تفسد في الأرض، وتعرض الأمة للدمار وللنار، وتزعزع البيوت الآمنة والآهلة بالسكان، فإن الأمن في تطبيق الحدود، وهذا معنى قوله تبارك وتعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) [البقرة:179] ونكّر (حياة) ولم يقل (الحياة) لتكون حياة بمعنى مفهوم الحياة العامة الشاملة الثابتة.(25/11)
زاجر للمعتدين
والمنفعة الثالثة: أنها زواجر للمعتدين، وأنها دواحض للمرتابين، وأنها موانع لمن يريد أن ينتهك حرمة عباد الله عز وجل، فإن من مقاصد الإسلام حفظ النفس، والمال، والعرض، وحفظ النسب، والعقل، فجعل الله عز وجل لهذه الأمور الخمسة موانع وحواجز تحفظها من كل من يريد أن يعتدي عليها.(25/12)
رضا الله وتنزل نعمائه
والمنفعة الرابعة: أنها إرضاءٌ لله عز وجل، والله عز وجل يرضى يوم يرى حدوده تطبق في الأرض، ويوم يرى شريعته تنتشر في الناس، ويوم يرى القائمين بالحدود من سلطان وأمير وقاض ومسئول ينفذ حد الله، حينها ينزل الله القطر من السماء، ويؤلف بين القلوب، ويحمي البلاد من اعتداء المعتدي، ويرد عنها كيد الكائدين وضغينة الضاغنين، وما اعتدي على كثير من البلاد، وما أرهبت كثير من الشعوب إلا بمعاملتها مع الله عز وجل يقول سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} [الطلاق:8 - 9] فانظروا إلى جيراننا والشعوب التي تلينا كيف عاشت الدمار والحروب والمجاعة، وكيف عاشت الاختلاف، وكيف عاشت التمزق يوم أعرضت عن شرع الله عز وجل، وأخذت قوانين نابليون وجعلتها مكان القرآن، وادعت أن شريعة الله لا تسير العصر، فأصابهم الله بلعنة وخزي في الدنيا ونار تلظى في الآخرة.
فنسأل الله عز وجل لنا ولكم الفقه في دينه، والثبات على أمره، والرشد فيما يعنينا، وأن يؤلف بين قلوبنا، ويصلح ذات أنفسنا، وأن يهدينا سواء السبيل.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وأرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه، وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه.
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان وثبت أقدامهم وأقم علم الجهاد بهم ووحد كلمتهم، واجمع صفهم يا رب العالمين!
اللهم انصر المجاهدين المسلمين في فلسطين على أعدائك أعداء الدين، أبناء القردة والخنازير، الذين قتلوا رسلك، وكذبوا بشريعتك، وآذوا أنبياءك، اللهم رد لنا أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين يا رب العالمين.
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا، لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(25/13)
أمانة الكلمة
نبي الله يوسف عليه السلام وهو يعاني من السجن والغربة والقذف لعرضه والإيذاء لشخصه، ومع ذلك لم يتخل عن الدعوة إلى الله، وحمل الأمانة التي كلف بتبليغها إلى الناس، وقد ضرب لنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في التضحية من أجل إيصال كلمة التوحيد إلى قلوب الناس إن كلمة التوحيد هي أعظم الأمانات فهل بلغناها كما أراد الله؟!(26/1)
كلمة التوحيد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الشعر أنت أنت الحداءُ غنِّ شعراً تصغي إليه السماءُ
رتل الحق ساطعاً يفضح البهـ ـتان فالحق عزة شماءُ
لا تراء يا شعر واسكب شجوناً فقبيح لدى الكرام الرياءُ
مرحباً يا دمَّام جئت وبعضٌ من البكاء غناءُ
مرحباً مرحباً أتعرف وجهاً نحتته الأنواء واللأواء
فجراح الحسين بعض جراحي وبقلبي من الأسى كربلاءُ
أيها الاخوة الكرام!
أقول كما قال الشيخ عمر الدويش للمتزوج: بارك الله لك وبارك عليك، وجمع بينكما في خير، ليلة مباركة وعرس مبارك واجتماع حافل، ثلاثة أنوار:
نور هذا الزواج الإسلامي السني الخالد.
ونور ليلة حفتكم وحضرتم أنتم بها.
ونور الكلمات العطرة التي تنبعث فتشدو بإذن الله وتشدو بحول الله وقوته.
أمانة الكلمة.
ما هي الكلمة؟
وما هي الأمانة؟
ومن يحملها؟
ومن هم روادها؟(26/2)