موقف أسيد بن حضير مع مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار، أرسل إليهم رجلاً واحداً، سنرى الآن في طيات هذه القصة ماذا سيفعل هذا الرجل، أرسل رجلاً واحداً إلى مدينة بأكملها، ولذلك كما قال ابن القيم رحمه الله في الزاد: ومدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف.
القرآن مع رجل يعرف قيمته يفتح مدينة بأكملها، لا بد من تقدير هذا القرآن، وتقدير الرجال الأفذاذ الذين يحملون هذه الآيات، ليبلغوا الناس ما أنزل إليهم من ربهم، فنزل في بني غنم على أسعد بن زرارة فجعل يدعو الناس سراً فيفشو الإسلام ويكثر أهله، وهم في ذلك مستخفين بدعائهم، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بـ مصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل، وهم قوم سعد بن معاذ وكان رئيسهم، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة الذي أسلم مع مصعب بن عمير فكان مرافقاً له في رحلته الدعوية، فدخل به حائطاً من حوائط بني غفر على بئر يقال لها: بئر مرق، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلموا، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير يومئذٍ سيدا قومهما، وكانا على الشرك، سعد بن معاذ كان رجلاً مشركاً جاهلياً لا يعرف الله عز وجل، ويخوض في أوحال الجاهلية كما يخوض غيره.
كيف سيقوم هذا الرجل إلى المقام الذي اهتز له عرش الرحمن؟ وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به قال سعد لـ أسيد: لا أبا لك! انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فانهرهما وانههما أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدماً.
يقول سعد بن معاذ لـ أسيد بن حضير: هذا أسعد بن زرارة ابن خالتي، وله مكانة في نفسي لا أستطيع أن آتي إليه وأنهره وأعنفه، فاذهب أنت واكفني هذه المئونة، فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما فلما رآه أسعد بن زرارة قال لـ مصعب: هذا سيد قومه وقد جاءك، فاصدق الله فيه.
أخلص لله وأنت تنصح هذا الرجل لأنه سيد قومه؛ فإذا هداه الله هدى به قوماً بأكملهم على يد هذا الرجل، انظروا -أيها الإخوة- كيف يتواصى الدعاة فيما بينهم، يتواصون بالإخلاص لأنه عصب الدعوة، وهو السلاح الفعال الذي يفتح الله به مغاليق القلوب، فيدخل نور الإيمان إخلاص الداعية هو سلاحه الأعظم وهو الواجب وهو يواجه الناس، وكثير من الدعاة الذين لا ينقصهم علم ولا جرأة ولا قوة في الشخصية أو جودة في أسلوب العرض يفشلون فشلاً ذريعاً، لماذا؟ لأنهم يفتقدون هذا العنصر الأساسي في دعوتهم إلى الله وهو عنصر الإخلاص، فلذلك يقول أسعد بن زرارة لـ مصعب بن عمير: هذا سيد قومه وقد جاءك، فاصدق الله فيه، قل كلمة الحق ولا تخف، قال مصعب: إن يجلس أكلمه، قال: فوقف عليهما متشتماً يشتم، فقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كان لكما بأنفسكما حاجة.
قال ابن إسحاق: فقال له مصعب: أوتجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره، قال: أنصفت، قال: ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن، فقال فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم من إشراقته وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قال له: تغتسل، فتطهر، وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي، فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين.
ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ.
من المدهش -أيها الإخوة- أن ترى هذا الصحابي عندما دخل في الإسلام أول ما فهم كان من بدائيات وبدهيات الفهم، أن يفهم أنه لا بد أن يدعو للإسلام، ولا بد أن يشارك في الدعوة إلى الله، ولا بد أن يأتي لـ مصعب برجل آخر يفتح الله قلبه؛ حتى يهدي الله القوم على يدي هذا الرجل، رجل من المشركين يشهد شهادة الحق، ويصلي ركعتين، ثم يساهم مباشرة في الدعوة إلى الله، كيف كان الصحابة الأوائل يفهمون الدين؟ كانوا يفهمونه فهماً يختلف كثيراً عن فهم المسلمين اليوم لدين الإسلام.
كثيرٌ من المسلمين اليوم لا يفهمون من الدين إلا تلك الركيعات التي يركعونها بغير خشوع في المساجد أو في البيوت، ويخرجونها في كثير من الأحيان عن وقتها، أصبح الدين مجموعة من الرموز التي تؤدى بغير خشوع لله وخشية، فقد الدين حركيته واندفاعيته في قلوب كثير من المسلمين.
إن فقه الدعوة اليوم في خطر عظيم من تلك الانحرافات الكبيرة التي تعج بها أذهان المسلمين وقلوبهم، لا بد من إحياء فقه الدعوة في نفوس الناس؛ حتى ينطلقوا بهذا الدين إلى الناس كافة لا بد من إزالة هذا الجمود الذي سيطر على مشاعر المسلمين فجعلها متجمدة لا تتحرك ولا تحس فيها دفئاً وحرارة، لا بد أن تنطلق لتصدع بكلمة الحق مبلغة تلك القلوب الخاوية، فقد يفتح الله عليهم، فيدخل الناس في دين الله أفواجاً.(274/4)
موقف سعد بن معاذ مع أسعد ومصعب
ثم أخذ أسيد بن حضير حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد مقبلاً، قال: "أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به" انظروا -أيها الإخوة- كيف يغير الإيمان وجه الرجل الذي ينتقل من الجاهلية إلى الإسلام، فيعلو وجهه نور الهدى، فيتبين الناس تغيراً كبيراً في ملامح هذا الرجل وهو لم يتغيب عنهم إلا ساعة من الزمن، يختلف وجهه وتختلف التقسيمات والنظرات والإشراقات والتعبيرات على ذلك الوجه، إنه الانفعال والتفاعل مع هذا المنهج الذي يؤدي إلى إنشاء هذه النماذج التي تؤثر في الناس بشكلها ومضمونها، التي تؤثر في الناس بالقدوة قبل أن تؤثر فيهم بالكلام، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأساً وقد نهيتهما، فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حُدثت -بلغني من الأخبار- أن بني حارثة -أناس آخرون من أهل المدينة - خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه - أسيد بن حضير الآن يريد أن يستجيش مشاعر سعد بن معاذ؛ ليشعر بشيء من الحمية تجاه هذا الرجل من بني قومه ليذهب ويحميه- وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك، قال: فقام سعد بن معاذ مغضباً -وكان أهل الجاهلية فيهم حمية- مبادراً للذي ذكر له من بني حارثة، وأخذ الحربة في يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئاً، ثم خرج إليهما سعد، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيداً إنما أراد أن يسمع منهما، عرف أن هذه خطة من أسيد حتى يذهب سعد ويسمع من هذين الرجلين المسلمَين.
فوقف عليهما متشتماً، ثم قال لـ أسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره، وقال مشيراً لـ مصعب بن عمير: علام تأتينا في دورنا لهذا الوحيد الطريد الطريح الغريب؟ يسفه ضعفاءنا بالباطل، ويدعوهم إليه، ولا أراكم بعدها بشيء من جوارنا؟ فرجعوا مرة أخرى مصعب وصاحبه مرة أخرى، ثم إنهم عادوا ثانية لبئر مرق أو قريب منها؛ رجاء أن يأتي سعد مرة أخرى، فأُخبر بهم سعد بن معاذ فتواعدهم توعداً دون الوعيد الأول، فلما رأى أسعد بن زرارة منه ليناً قال له وقال مصعب له: أوتقعد فتسمع فإن رضيت أمراً -رغبت فيه- قبلت، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن، وذكر موسى بن عقبة رحمه الله في مغازية أن مصعب قرأ على سعد بن معاذ أوائل سورة الزخرف، قال: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم فيه من إشراقته وتهلله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل، وتطهر، وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، قال: فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلاً، قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم سعد بن معاذ بعد أن رجع إلى قومه مسلماً- قال: يا بني عبد الأشهل! كيف تعملون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً وأعيننا نقيبةً، بعدما عرف واستيقن منهم عن صورته وقررهم على سيادته عليهم، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام؛ حتى تؤمنوا بالله ورسوله.
والله لا أكلم أحداً فيكم حتى تؤمنوا بالله ورسوله، بهذه القوة يعرض سعد بن معاذ دعوته على قومه، وبهذه الجرأة يصارحهم مصارحةً شديدة تناسب قوة هذا الدين وعظمته.
إن الجرأة في عرض الدعوة، وقوة الكلام حولها أمام الناس هو الذي يؤثر في نفسياتهم، ولذلك يقول الراوي: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة، مقام واحد، كلمات جريئة مندفعة من قلب مؤمن مستمدٍ من الله العون والتوفيق، يسانده الإخلاص، يؤدي إلى إسلام القوم بأكملهم، فأقام مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة عند سعد بن معاذ يدعوان الناس إلى الإسلام، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون.
وفي رواية أبي نعيم في دلائل النبوة: فرجع سعد وقد هداه الله تعالى، ولم يظهر لهم الإسلام حتى رجع إلى قومه، فدعا بني عبد الأشهل إلى الإسلام، وأظهر إسلامه، وقال: من شك فيه من صغير أو كبير أو أنثى أو ذكر فليأتنا بأهدى منه، يقول لقومه: الذي يشك منكم في صحة هذا الدين فليأتنا بأهدى منه، حتى نتبعه، فوالله لقد جاء أمر لتحزن فيه الرقاب، ما تعلم سعد بن معاذ من الإسلام إلا الشهادتين، وكلمات بسيطة يسمعها من مصعب، ماذا فهم؟ فهم أن هذا الدين لا بد أن تحز فيه الرقاب، أي: لا بد فيه من الجهاد، ولا بد فيه من البلوى، ولا بد فيه من الفتن والقتل والمقاتلة، انظروا إلى عمق الوعي الذي ارتكز في ذهن سعد بن معاذ عندما دخل في الإسلام، ما حجم الوعي الذي يدخل في عقول الناس اليوم عندما يهدي الله رجلاً واحداً منهم مثلاً؟ هل يفقهون من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أنه لا بد من نصر الإسلام، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله هل يفهم الناس؟ فكانت أول دار من دور الأنصار أسلمت بأسرهم، وانتقل مصعب بن عمير إلى حماية سعد بن معاذ.(274/5)
موقف سعد بن معاذ مع أبي جهل في مكة
ننتقل الآن إلى موقف آخر هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأرسى دعائم المجتمع الإسلامي، وكان بعض الصحابة يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمرة فيأذن لهم، ولذلك قال ابن حجر رحمه الله: والظاهر أن العمرة كانت مباحة للصحابة حتى لو لم يعتمر معهم الرسول دون الحج فإنهم منعوا من الحج، هكذا يقول ابن حجر رحمه الله في فتح الباري، ففي مرة من المرات استأذن سعد بن معاذ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذهب للعمرة في مكة، وهي لا زالت خاضعة للمشركين.
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه وساق بإسناده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إنه حدث عن سعد بن معاذ أنه قال: أنه كان صديقاً لـ أمية بن خلف، أمية بن خلف كان مشركاً في الجاهلية كان سعد بن معاذ سيداً في المدينة في يثرب كان صديقاً لسيد من سادات مكة وهو أمية بن خلف، وكان أمية إذا مر بـ المدينة نزل على سعد، وكان سعد إذا مر بـ مكة نزل على أمية، وكان هذا في الجاهلية، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انطلق سعد معتمراً، فنزل على أمية بـ مكة، فقال لـ أمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت، فخرج به قريباَ من نصف النهار، ونصف النهار هو أهدأ الأوقات التي يقيل فيها الناس، فلقيهما أبو جهل لعنه الله، فقال: يا أبا صفوان! من هذا معك؟ فقال: هذا سعد، فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بـ مكة آمناً، وقد آويتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً، أبو جهل لعنه الله يقول لـ سعد بن معاذ.
الآن سعد بن معاذ وحيد في مكة، والرجل المسلم المتميز بعقيدته في وسط قوم مشركين لا بد أن يخاف على نفسه، خصوصاً أمام هذا الوعيد الذي يأتي من عظيم قريش أبو جهل، لو كان الواحد منا يا ترى في ذلك الموقف ماذا كان سيرد على أبي جهل؟ أو هل كان سيرد عليه أصلاً، أو يبادر بسلوك سبيل الهزيمة، ويعتبرها غنيمة؟ فقال له سعد ورفع صوته عليه: أما والله لو منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك طريقك إلى الشام، وسأغير على قوافلك وأنت ذاهب إلى التجارة، فقال له أمية وقد أشفق: لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم سيد أهل الوادي، قال سعد: دعنا عنك يا أمية! فوالله لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه قاتلك).
أيها الإخوة: إن قوة الشخصية والجرأة من العوامل التي توفرت في شخصيات صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي نفتقدها اليوم في شخصيات المسلمين، كثير من المسلمين اليوم يفتقدون الجرأة في عرض الدعوة، بل إنهم يشعرون بالذل والخزي وهم يواجهون بأدنى كلمات الهجوم من الأعداء، وقد ينكصون على أعقابهم فلا يصمدون أمام الهجوم الجاهل، أما سعد بن معاذ فقد كان جريئاً لا تأخذه في الله لومة لائم، عندما يدخل الإسلام في النفس فإنه يغيرها فتتغير الموازين، كان أبو جهل عند سعد بن معاذ قبل أن يسلم رجل له شأن عظيم محترم، أما وقد دخل سعد في الإسلام فقد أصبح هذا الكافر الحقير لا يسوى شيئاً.
لذلك قام سعد في وجهه فهدده وتوعده بأشد مما تكلم به أبو جهل، ولذلك سعد رضي الله عنه لم يرض أن يسب إخوانه المسلمين أمامه ويقول أبو جهل عنهم: إنهم صباة خرجوا عن الدين، بل رد على أبي جهل مقولته ودافع عن إخوانه، كثير من المسلمين اليوم لا يدافعون عن إخوانهم إذا اغتيبوا في مجلس، فكيف سيدافعون عنهم لو وجهت إليهم سهام النقد والتجريح من أعداء الإسلام الأقوياء؟ إن قوة الشخصية لها دور كبير في إقناع الناس بالإسلام قوة الشخصية تنشأ من الإيمان الذي يقذفه الله في النفوس، لا تنشأ من الفراغ لا تنشأ من لا شيء، إنها تنشأ من الإيمان الذي يغير الشخصيات، ولذلك يكون التغير الحاصل في شخصية كل إنسان هداه الله بحسب مقدار الإيمان الذي دخل في نفسه، فمن الناس من تجده قوياً في عرض دعوته، جريئاً مقداماً، ومن الناس من تجده يعرض الدعوة بشكل هزيل كأنه يربط على أكتاف الناس، ويقول لهم: أرجوكم وأتوسل إليكم أن تقبلوا بهذا الذي أقول، لم يكن الصحابة يدعون الناس هكذا، ولسنا نقصد بهذا الكلام أن يقوم الإنسان يسب ويشتم ويرغي ويزبد على الناس ويرفع صوته مهدداً ومتوعداً، كلا! ليست هذه هي الجرأة في الدعوة إلى الله، لا بد أن توافق الجرأة حكمة، أما أن يقوم الإنسان يلعلع في صوته، ويسب، ويلعن، فليست هذه بدعوة إلى الله، بل إن هذه من أكبر وسائل التنفير والصد عن سبيل الله، فأربأ بنفسي وبإخواني عن اتخاذ سبيل الشدة والعنف مع الناس؛ فإنها منفرة وسلبية جداً، وهناك فرق بينها وبين الجرأة في عرض الدعوة والقوة والوضوح في تكليم الناس عن مبادئ الإسلام، وهذا الفرق لا يعيه إلا رجل آمن بالله وصدق المرسلين وانتهج سبيل المؤمنين، ثم إن سعد بن معاذ ما اكتفى بهذا، بل جلس يخذل في أمية بن خلف، ويقول له خبراً سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: يا أمية! فوالله لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إنه قاتلك) فقال أمية: بـ مكة؟ قال: لا أدري، ففزع لذلك أمية فزعاً شديداً، فلما رجع أمية إلى أهله قال: يا أم صفوان! ألم تري ما قال لي سعد؟ قالت: وما قال لك؟ قال: زعم أن محمداً أخبرهم أنه قاتلي، فقلت له: بـ مكة؟ قال: لا أدري، فقال أمية: والله لا أخرج من مكة أبداً، فلما كان يوم بدر استنفر أبو جهل الناس وأخرج أمية بالقوة بعد أن أحرجه، فخرج أمية وهو يقول: أخرج معهم مسافة وأرجع، فمازال أبو جهل يوصل أمية من منزل إلى منزل حتى أهلك الله أمية في معركة بدر، فقتلته أسياف المسلمين مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.(274/6)
موقف سعد بن معاذ المشرِّف يوم بدر
لما كان يوم بدر وقف سعد بن معاذ رضي الله عنه موقفاً مشرفاً في لحظة من لحظات الحرج، أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم العهد والميثاق من الأنصار أن ينصروه في المدينة، ولم يأخذ منهم العهد والميثاق أن ينصروه عندما يخرج من المدينة، فلما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بهؤلاء النفر الذين معه لاعتراض قافلة، تحولت الأمور فتغيرت من اعتراض قافلة إلى معركة مع جيش قدره ألف رجل من المشركين، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يعرف ما في نفوس الناس الذين معه، كان يريد أن يتأكد من الأنصار هل سيقفون معه خارج المدينة، أم أنهم واقفون معه وناصروه داخل المدينة فقط؟ فوردت روايات عن ابن مردويه من طريق محمد بن عمر بن علقمة بن وقاص الليثي، ومرسلٌ آخر عند ابن عائد، ومرسلٌ آخر عند ابن أبي شيبة يقوي هذه الأسانيد بعضها بعضاً، وقد صحح الشيخ/ ناصر هذا الموقف، فقال الراوي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر حتى إذا كان بـ الروحاء خطب الناس، فقال: (كيف ترون؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله! بلغنا أنهم بكذا وكذا قال: ثم خطب الناس، فقال: كيف ترون؟ فقال: عمر مثل قول أبي بكر، ثم خطب الناس، فقال: كيف ترون؟ -الرسول يريد الأنصار أن يتكلموا، الرسول يعرف أن المهاجرين عندهم استعداد للقتال- فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله! إيانا تريد؟ فوالذي أكرمك، وأنزل عليك الكتاب، ما سلكتها قط ولا لي بها علم، ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك، ولعلك أن تكون خرجت لأمرٍ وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك، فامض، فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت، وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت) فنزل القرآن على قول سعد {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} [الأنفال:5].
وذكر الأموي هذه الرواية وزاد فيها: "ما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت" تصور! الذي تأخذ منا أحب إلينا من الذي تتركه لنا، وما أمرت به من أمرٍ فأمرنا تبعٌ لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، موقف جريء في لحظة حرجة، سعد بن معاذ يقرر الموقف الآن ويقول للأنصار الذين معه: إن هذا الموقف يجب أن يكون موقفهم جميعاً، فيقول عن نفسه ونيابةً عن قومه: إننا خارجون معك يا رسول الله.
كان لهذا الموقف أثر عظيم من آثار الصمود والانتصار لدين الله تعالى؛ مما نتج عنه انتصار المسلمين في غزوة بدر التي سماها الله تعالى يوم الفرقان، فرق الله بها بين الحق والباطل.(274/7)
موقف سعد بن معاذ مع بني قريظة حلفائه
نأتي إلى موقف النهاية في حياة سعد بن معاذ موقفه مع بني قريظة وإصابته التي أدت إلى وفاته.(274/8)
إصابة سعد بن معاذ في الخندق
أخرج الإمام أحمد رحمه الله تعالى، عن محمد بن عمر، عن أبيه، عن علقمة بن وقاص -وهذا الإسناد قال عنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: إن سنده جيد، وكذلك قال ابن كثير رحمه الله تعالى- قال: قالت عائشة: [خرجت يوم الخندق أقفو آثار الناس، قالت: فسمعت وئيد الأرض ورائي -أي: حس الأرض- فالتفت فإذا أنا بـ سعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنه يتقى بها من الضربات -الترس- فجلست إلى الأرض، فمر سعد وعليه درع من حديد قد خرجت منها أطرافه، وكان من أعظم الناس وأطولهم، فقالت عائشة: فأنا أتخوف على أطراف سعد] فأنا خفت على أطراف سعد التي برزت من هذا الدرع الذي يلبسه، خفت عليها أن يصيبها سوء، فمرَّ فحصل ما كانت تخشى منه عائشة رضي الله عنها، ما الذي حدث؟ قالت: [ويرمي سعداً رجل من المشركين من قريش يقال له ابن العرقة -لأن أمه كانت تسمى العرقة - فقال المشرك: خذها وأنا ابن العرقة، فقال له سعد: عرق الله وجهك في النار].
القوة في الرد على المشركين، فأصاب هذا السهم العرق الذي في وسط الذراع يسمى الأكحل، فدعا الله عز وجل سعد بن معاذ، فقال: [اللهم لا تمتني حتى تُقر عيني من قريظة، أو حتى تَقر عيني من قريظة].
بنو قريظة خانوا العهد، وضربوا المسلمين من الخلف، الأحزاب من المشركين من أمام الخندق، وبنو قريظة خانوا العهد من الخلف، ويريدون أن يطبقوا على المسلمين، فوقع المسلمون بين نارين خانت بنو قريظة العهد الذي كتبوه من الرسول صلى الله عليه وسلم خيانة عظمى استحقوا بها ما سيأتي.
كان سعد بن معاذ حليفاً لهم في الجاهلية، فقال سعد لما أصيب: [اللهم لا تمتني حتى تُقر عيني من قريظة] قالت عائشة: [وكانوا حلفاء مواليه في الجاهلية].
وقفة بسيطة عند هذا الدعاء! كان الصدر الأول من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعوا الله تعالى تحس أن لدعائهم معنىً عظيماً، لا يدعون الله بأمور تافهة وأشياء بسيطة، ولكن يدعون الله بما يجيش في نفوسهم من علو الهمة، وما يفكرون فيه وما يهتمون به حقيقة.
الناس الواحد منا اليوم إذا اهتم بالمال قال: يا رب! لا تخسرني في الفلوس، يا رب! ربحني، يارب! أعطني كذا وكذا من الأموال، لماذا؟ لأنه يهتم بهذا الأمر وأصبح هذا هو شغله الشاغل، وترى الطالب في المدرسة هكذا، وترى الرجل، وترى الناس الذين يدعون الله، نحن لا نتكلم الآن عن الذين لا يدعون الله، هؤلاء أمرهم منتهٍ، نحن نتكلم اليوم عن المسلمين وهم يدعون الله الذين يدعون بماذا يدعون؟ هل نحن اليوم ندعو الله من قلوبنا إذا خلا الإنسان بنفسه في السجود؟ بعض الإخوان اليوم يدعو في التشهد أو يدعو مثلاً بعد الصلاة، ماذا يقول الواحد منا في دعائه؟ الغالب من الناس يدعو لنفسه يدعو أن يرزقه الله مالاً يدعو لأبنائه وزوجته، يدعو هذا شيء طيب وحسن، ونحن لا نقول: إن هذا الشيء حرام، لا، بل هو قربة وطاعة، ولكن أن يخلو دعاؤنا من أمر المسلمين هذه هي المآخذ التي نأخذها على أنفسنا، هل اليوم نحن ندعو إذا دعا الواحد منا ربه أن يرزقه مالاً أو صحة أو الولد هل يدعو الله أن ينصر عقيدة التوحيد، أو أن يرفع البلاء عن المسلمين المضطهدين في أنحاء العالم، أو ينصر المجاهدين في سبيل الله، أو أن يجمع كلمة المسلمين على السنة الصحيحة وعلى العقيدة الصحيحة؟ هل نحن اليوم ندعو الله عز وجل بالأمور العظيمة التي يجب أن تكون هي شغلنا الشاغل، أم أننا نقتصر في الدعاء على طلب المال وطلب العافية والصحة؟ الحقيقة أيها الإخوة أن الإنسان إذا كان منشغلاً بقضية يتابعها ويصرف لها جهده ووقته فإنها ستظهر حتى في دعائه، أما إذا كان منشغلاً بأشياء أبسط من هذا بكثير فإنها ستظهر في دعائه أيضاً، فهل نحن نسأل الله عز وجل أن يحقق الأمور العظيمة التي هي اليوم البلوى التي وقعت في المسلمين، هذه نقطة ينبغي الانتباه إليها.
ثم بعد ذلك بعث الله عز وجل ريحاً على المشركين وكان الجرح الذي حصل في يد سعد بن معاذ اقترب من الشفاء واندمل إلا شيئاً يسيراً وبعث الله الريح على المشركين، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} [الأحزاب:25] فلحق أبو سفيان ومن معه بـ تهامة ولحق عيينة ومن معه بـ نجد، ورجع بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع السلاح وأَمر بقبة من أدمٍ فضربت على سعد في المسجد.
الآن سعد جريح تنزف منه الدماء، والرسول صلى الله عليه وسلم يعتني بإخوانه المسلمين عناية كبيرة، وأمر المسلمين فضربوا خيمة في ساحة المسجد لـ سعد بن معاذ، يوضع فيها حتى يداوى من جراحه التي حصلت له.
وبعد ذلك جاء جبريل عليه السلام وإن على ثناياه لنقع الغبا، رفقال: أوقد وضعت السلاح، والله ما وضعت الملائكة السلاح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأين؟ فأشار إلى بني قريظة، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لامته، وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاصر بني قريظة حصاراً شديداً حتى طلبوا الصلح، قالوا: نستسلم لكن نريد أن تُحكم فينا واحداً منا من هو الشخص الذي رشحوه للحكم؟ إنه سعد بن معاذ؛ لأنهم كانوا حلفاء له في الجاهلية، فظنوا أن سعد بن معاذ سيرأف بهم، ويحكم فيهم حكماً معتدلاً، لأنه كان حليفاً لهم في الجاهلية وصديقاً لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انزلوا على حكم سعد بن معاذ، فنزلوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأتي به على حمار وقد حمل عليه، وحث به قومه، فقالوا لـ سعد بن معاذ: يا أبا عمرو! حلفاؤك، ومواليك، وأهل النكاية، وهم من قد علمت، أي: ارأف بهم، هؤلاء كانوا معنا أصلاً وأموالنا وأموالهم سواء، فلم يلتفت إليهم - سعد - ولا كلمهم أبداً، حتى إذا دنا من بئرهم التفت إلى قومه الذين قد أحاطوا به، فقال لهم: قد آن لي ألا تأخذني في الله لومة لائم؛ فلما قال هذه الكلمة، بعض الرجال الذين معه رجعوا إلى قومهم من بني عبد الأشهل فنعوا رجال بني قريظة قبل أن يحكم سعد عرفوا من هذا الكلمة: [لقد آن لـ سعد ألا تأخذه في الله لومة لائم] فرجعوا وهم يزفون خبر إعدام رجال بني قريظة إلى قومهم من بني عبد الأشهل قبل أن يتكلم سعد بشيء.(274/9)
قدوم سعد بن معاذ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
قال أبو سعيد: فلما طلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم - طلع عليه سعد بن معاذ محمولاً- قال: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه) وهنا -أيها الإخوة- نقف وقفة فقهية، اشتهر هذا الحديث بلفظ (قوموا إلى سيدكم) وهذه الزيادة جاءت في طرق قليلة، زيادة (فأنزلوه) ومن هذه الطرق طريق أحمد الذي نحن بصدده الآن والذي سنده جيد.
قال ابن كثير في البداية والنهاية: أمر عليه الصلاة والسلام من هناك من المسلمين بالقيام له، قيل: سبب القيام لينزل من شدة مرضه، لأنه لا يستطيع أن ينزل لوحده، فلا بد أن يقوم له أناس وينزلوه، وقيل: توقيراً له بحضرة المحكوم عليهم ليكون أبلغ في نفوذ حكمه.
السبب الثاني للقيام: أنه ربما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم هؤلاء الناس حتى يُظهر مكانة سعد، فعندما يحكم سعد يكون حكمه نافذاً، فقال: أنزلوه فأنزلوه، قال الشيخ/ ناصر في تعليقه على هذا الحديث في السلسلة الصحيحة في المجلد الأول: اُشتهر رواية هذا الحديث بلفظ: (لسيدكم) أي: قوموا لسيدكم، والرواية في هذا الحديث كما رأيت (إلى سيدكم) ليس (قوموا لسيدكم) وهناك فرق بين (قوموا لسيدكم) و (قوموا إلى سيدكم).
ولا أعلم للفظ الأول أصلاً (قوموا لسيدكم) وقد نتج منه خطأ فقهي وهو الاستدلال به على استحباب القيام للقادم كما فعل ابن بطال وغيره، واشتهر الاستدلال بالحديث عموماً (قوموا لسيدكم) على مشروعية القيام للداخل، فإذا تأملت السياق تبين لك أنه استدلال ساقط لوجوه أقواها قوله: (فأنزلوه) الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل لهم: قوموا لمجرد القيام، قال لهم: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه) نصٌّ قاطع على أن الأمر بالقيام لأجل إنزاله لكونه مريضاً، قال الحافظ: وهذه الزيادة (فأنزلوه) تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المنازع فيه، وقد احتج به النووي كما في كتاب القيام، وكل من الفقهاء يصيب ويخطئ، ونحن ندور مع الدليل حيثما دار.
إذاً: القيام ينقسم إلى ثلاثة أنواع: 1 - قيام إليه، قيام الرجل إلى الرجل.
2 - وقيام له.
3 - وقيام عليه.
فأما القيام له: قيام الرجل للرجل إذا دخل واحد المجلس قام الناس يسلمون عليه ويرحبون به، هذا القيام للداخل، ممنوع شرعاً، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) حديث صحيح.
وما كان قوم يحبون صاحبهم كحب أصحاب محمد محمداً، ولكنهم كما ثبت عنهم في الحديث الصحيح أنهم كانوا لا يقومون له لما يعلمون من كراهيته لذلك، هل هناك أعظم من الرسول؟ هل هناك أعلم من الرسول؟ لا.
مع ذلك كان الصحابة لا يقومون للرسول إذا دخل عليهم، فلذلك الآن لا ينبغي القيام للداخل إذا جاء يسلم بل يسلم الناس عليه قعوداً لهذه الأحاديث التي عرفتموها الآن، ومن احتج بحديث سعد (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه) فالرد عليه من وجهين أو أكثر.
الأول: أنه عليه الصلاة والسلام قال: (قوموا إلى سيدكم) ولم يقل قوموا لسيدكم.
الوجه الثاني: أنه قال: (فأنزلوه) ولم يقصد القيام مطلقاً.
فإن سألتني: ما هو الفرق بين (قوموا له) (وقوموا إليه)؟ ف
الجواب
أن القيام للشخص إذا دخل عليك وقمت له كما يفعل كثير من الناس اليوم، فهذا هو الممنوع، أما القيام إلى الرجل فهو أن تقوم للشخص الداخل لتفتح له الباب مثلاً، أو تأخذ له طريقاً في البيت حتى يدخل مثلاً، أو أن يكون الرجل قادماً من سفر فتقوم إليه لتعانقه، لأنه لا يمكن أن تعانقه وهو قائم وأنت جالس، لا بد أن تقوم إليه لتعانقه وهو قادم من السفر، فهذا يسمى: القيام إلى الرجل، وكذلك قيام المرأة إلى المرأة، أما الأول الذي يحصل في المجالس اليوم فيسمى القيام للداخل وليس إلى الداخل.
إذاً: إذا قمت إلى الداخل فقيامك صحيح مشروع بأدلة، منها: فعل طلحة بن عبيد الله في حديث توبة كعب بن مالك في البخاري ومسلم أن الراوي قال: [فقام إليه طلحة] طلحة لما دخل كعب المسجد، قام طلحة ليمشي إلى كعب ليهنئه بالتوبة، فقام إليه ولم يقم له.
وأما القيام عليه وهو النوع الثالث فهو محرم أيضاً، وهو قيام العبد على رأس سيده، أو الموظف على رأس رئيسه، يقوم عليه مثل الصنم أو التمثال؛ لأن هذا فيه زيادة تعظيم غير مشروعة، ولا ينبغي القيام إلا لله عز وجل: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، ولا أقصد وقوف العارض، كأن يأتي يعطي معاملة لرجل فيقف عنده حتى ينتهي، لا، إنما أقصد قيام التعظيم، رجل يقف هكذا مثل الصنم، فهذا لا يجوز، إلا كما ورد في استثناء قيام الناس أو المسلمين على رأس خليفتهم أمام الكفرة؛ حتى يظهروا للكفار عظمة خليفة المسلمين كما فعل الصحابة وهم واقفون على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية أمام الرجل الكافر.
هناك فتوى لـ شيخ الإسلام رحمه الله لما سئل عن القيام للداخل؟ فقال: أن الأصل عدم القيام، ولكن لو أن الرجل من الناس خاف، إذا دخل رجل ولم تقم أن يكون عدم قيامك سبباً في إيقاع العداوة والبغضاء بينك وبينه، يقول شيخ الإسلام: فإذا خشيت وقوع العداوة والبغضاء بينك وبين هذا الرجل فإنك تقوم اضطراراً وليس اختياراً، من باب الضرورة، مثل: أكل الميتة في الصحراء، ومن باب ارتكاب أدنى المفسدتين، قيامك له مفسدة لا يجوز، وعدم القيام إذا كان سيأخذ عليك في نفسه وتقع العداوة والبغضاء بينك وبينه مفسدة أكبر فيها تفرقة بين المسلمين فعند ذلك تقوم له، ولكنك تعلمه السنة بأنه لا ينبغي القيام.
مراعاة أحوال الناس مهمة، تطبيق الأحكام الشرعية يجب أن يكون من حال الناس وواقعهم، ولا يصح أن يكون تطبيق الأحكام بعيداً عن أحوال الناس، ولذلك كان من القواعد الأصولية المهمة أن الفتوى تتغير باختلاف الأحوال والأشخاص والأزمنة والأمكنة والعوائد والنيات.(274/10)
حكم سعد بن معاذ على بني قريظة
لما أصيب سعد رضي الله عنه في يده قال ابن سعد رحمه الله في الطبقات الكبرى: أخبرنا وكيع بن الجراح، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، قال: رمي سعد بن معاذ في أكحله فلم يرقأ الدم، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فحسمه، أي: كياً بالنار كوى له الجرح، فارتفع الدم إلى عضده، قال: فكان سعد يقول: [اللهم لا تمتني حتى تشفني من بني قريظة] قال: فنزلوا على حكمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (احكم فيهم، قال: إني أخشى يا رسول الله! ألا أصيب فيهم حكم الله) انظر تحرز سعد رضي الله عنه قال: يا رسول الله أنت تحكمني فيهم أنا أخشى ألا أصيب فيهم حكم الله، تورع، وليس كما هو حال المتفيقهة اليوم الذين لم ترسخ أقدامهم في العلم فإنهم يسارعون إلى الفتيا بغير دليل بغير سلطان بغير أثر من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يخشون الله تعالى فيما يصدرونه من فتاوي أو أحكام، فإن أخذ الدين يجب أن يكون عن الخبراء به، قال تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان:59] {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7]، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (احكم فيهم) قال: فحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصبت فيهم حكم الله) ثم عاد الدم فلم يرقأ حتى مات رضي الله عنه.
وهناك رواية أخرى صحيحة عن رجل من الأنصار قال: (لما قضى سعد بن معاذ في بني قريظة رجع، فانفجرت يده دماً، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل في نفر معه، فدخل عليه فجعل رأسه في حجره، فقال: اللهم إن سعداً قد جاهد في سبيلك، وصدق رسلك، وقضى الذي عليه، فاقبل روحه بخير ما تقبلت به الأرواح).(274/11)
وفاة سعد بن معاذ واهتزاز عرش الرحمن
وهناك حديث آخر ساقه الذهبي في سير أعلام النبلاء، قال المعلق: رجاله ثقات، وأخرجه ابن سعد في الطبقات، عن شعبة، عن سماك أنه سمع عبد الله بن شداد يقول: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على سعد وهو يكيد نفسه فقال: (جزاك الله خيراً من سيد قوم، فقد أنجزت ما وعدتهم، ولينجزنك الله ما وعدك).
وقد جاء عند الإمام أحمد رحمه الله والحديث الصحيح: (لما أصيب أكحل سعد يوم الخندق فثقل، حولوه عند امرأة يقال لها: رفيدة، وكانت تداوي الجرحى).
أيها الإخوة: إن للنساء في المجمع الإسلامي دور عظيم لا يجب أن يغفل عنه، وحتى النساء أنفسهن لا يصح أن يغفلن عن دورهن أبداً، هذه المرأة رفيدة يقول ابن إسحاق عنها: كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين.
هذه المرأة التي يقال لها: رفيدة كانت تحتسب الأجر عند الله عز وجل في خدمة من نزل به مصيبة من المسلمين، رجل جريح يحتاج إلى مداواة، أو أيتام يحتاجون إلى رعاية، أو أسرة تحتاج إلى معين، كانت هذه المرأة تتدخل، تحتسب بنفسها عند الله عز وجل خدمة لهذه الأسر المسلمة المنكوبة.
إذاً: ينبغي على نسائنا اليوم أن يقمن بدورهن في خدمة المجتمع المسلم والقيام على أحواله، بإصلاح ذات البين بين المتخاصمين، وهذه نقطة مهمة، فإن كثيراً من النساء يشعلن الفتنة بدلاً من أن يخمدنها بالنميمة ونقل الكلام من طرف إلى آخر، بينما يجب عليهن أن يقمن بدور المصلحات بين المتخاصمين والمتخاصمات، فإذا كان رجل وامرأة بينهما مشكلة، على النساء الخيرات اللاتي يخفن من الله أن يقمن بدور الإصلاح، المرأة مع المرأة، والرجل مع الرجل يُصلح ذات البين حتى يعاد عود الأسرة قائماً، فلا تنهار الأسر ويتشتت الأطفال.
النساء اليوم يعرفن عن خبايا البيوت أكثر من الرجال، يعرفن عن أيتام، ويعرفن عن أرامل، ويعرفن عن فقراء ما لا يعلمه كثير من الرجال، فيجب على النساء أن يقمن بدورهن في إبلاغ من له أمر في هذه الأمور، أن ينقذ هؤلاء البؤساء من الفقر المدقع، والهلكة المحققة: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:14 - 16].
المرأة لها دور عظيم ليس هذا موقف الاستطراد فيه، ولكن الإشارة من خلال قصة هذه المرأة رفيدة التي كانت تداوي الجرحى، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر به يقول: (كيف أمسيت؟ وإذا أصبح قال: كيف أصبحت؟) فيخبره سعد بحاله، حتى كانت الليلة التي نقله قومه فيها، فثقل فاحتملوه إلى بني عبد الأشهل، وكانت حالته خطيرة جداً، و (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يسأل عنه، وقالوا: قد انطلقوا به، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجنا معه، فأسرع المشي حتى تقطعت شسوع نعالنا) الرسول صلى الله عليه وسلم يسرع يريد أن يدرك سعد بن معاذ قبل أن يموت، وسقطت أرديتنا عن أعناقنا، فشكا ذلك إليه أصحابه، قالوا: يا رسول الله! تسرع بنا سرعة شديدة، يا رسول الله! أتعبتنا في المشي، فقال: (إني أخاف أن تسبقنا الملائكة إليه فتغسله كما غسلت حنظلة) فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت وهو يغسل وأمه تبكيه، وهي تقول: ويل أمك سعداً، حزامة وجداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل نائحة تكذب إلا أم سعد) ثم خرج به، قال: يقول القوم أو من شاء الله منهم: (يا رسول الله! ما حملنا ميتاً أخف علينا من سعد -مع أن سعداً كان عظيم الجسم بديناً- فقال: ما يمنعكم من أن يخف عليكم وقد هبط من الملائكة كذا وكذا -يقول الراوي: سمى عدة كثيرة لم أحفظها- لم يهبطوا قط قبل يومهم، قد حملوه معكم) الملائكة تحمل الجنازة، لذلك صارت جنازة سعد خفيفة على المسلمين، قال الألباني: وإسناده صحيح، ورجاله كلهم ثقات، ومحمود بن لبيد صحابي صغير.
وورد في حديث صحيح آخر في صحيح الجامع أخرجه النسائي: عدد الملائكة الذين نزلوا من السماء لتشييع جنازة سعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (هذا العبد الصالح الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لم ينزلوا إلى الأرض قبل ذلك لقد ضم ضمة - أي: في قبره- ثم أفرج عنه) سبعون ألف من الملائكة ما نزلوا من قبل، نزلوا لتشييع جنازة سعد بن معاذ، وفتحت له أبواب السماء، واهتز له عرش الرحمن، وقد ورد في رواية صحيحة سبب اهتزاز عرش الرحمن، وهذه مسألة قد يفكر فيها الكثير، وفي السلسلة الصحيحة المجلد الثالث بإسناد جيد من حديث الإمام أحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهتز العرش لموت سعد بن معاذ من فرح الرب عز وجل) الله عز وجل إذا قدم عليه أحد من عباده الصالحين الذين أبلوا في الله بلاءً حسناً، فإن الله عز وجل يفرح فرحاً شديداً بقدوم عبده عليه، يفرح بقدوم عبده أشد مما يفرح أحدنا بقدوم الغائب العزيز عليه من مكان بعيد، وقد طالت فترة الغياب، إن الله يفرح بقدوم عبده عليه، لماذا أيها الإخوة؟ لكي يجازيه الجزاء الأوفى.
هؤلاء المسلمون الصادقون الأوفياء يتعبون في الدنيا، وينصبون كثيراً، يتعبون كثيراً ويؤذون في الله، والله عز وجل ينتظرهم بفرح شديد لكي يكافئهم فيستريحوا من عناء الحياة الدنيا، ويستريحوا من لأوائها ونصبها وتعبها، يستريحوا عند الله تعالى، هذا الفرح ليس لأي أحد! إنه لأناس آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، أبلوا في الله بلاءً حسناً، وقالت عائشة رضي الله عنها تبين الفراغ والقيمة، قيمة فقد سعد بن معاذ، والحديث في فضائل الصحابة من تأليف الإمام أحمد قال المحقق: إسناده حسن عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (ما كان أحد أشد فقداً على المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أو أحدهما من سعد رضي الله عنه) ما شعر المسلمون بمصيبة في فقد أحدٍ منهم بعد الرسول وأبي بكر وعمر بعدهم مباشرة كـ سعد بن معاذ رضي الله عنه.
إن رحيل الأخيار عن الأرض وعن المجتمع المسلم يترك فراغاً مؤثراً في الأمة إن رحيل الكبار يترك فراغاً في النفوس، وألماً لفقد هؤلاء الذين كانوا في حياتهم مشعلاً يستضيء به الناس، وقدوة يحتذي بها المسلمون، فلذلك فإن إحياء ذكراهم، ونشر سيرتهم العطرة من أقل الواجبات تجاههم، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغل وفاة سعد بن معاذ حتى في توضيح نعيم الجنة، فانظر معي إلى هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء رضي الله عنه يقول: (أُهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من لين هذه؟! لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه وألين).(274/12)
حال الصحابة بعد موت سعد بن معاذ رضي الله عنه
لقد كان صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ذكروا سعداً بكوا بكاءً شديداً على تلك السيرة التي فقدت، فهذا الحديث الذي يرويه الإمام أحمد في كتاب: فضائل الصحابة بإسنادٍ صحيح، عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، حفيد سعد بن معاذ قال: دخلت على أنس بن مالك، فقال لي: من أنت؟ قلت: أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، وكان واقد من أحسن الناس وأعظمهم وأطولهم، الحفيد كان يشبه جده، فقال أنس: إنك لـ سعد لشبيه، ثم بكى وأكثر البكاء، ثم قال: رحمة الله على سعد! كان من أعظم الناس وأطولهم، ثم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساق قصة هذه الجبة من الحرير، وأخبر بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مناديل سعد في الجنة أعظم من هذا الحرير بكثير.
وهنا أيها الإخوة! أختم لكم بوصف عائشة رضي الله عنها لحال الصحابة عند موت سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه بين أيديهم.
تقول عائشة: قال سعد بعد ما حكم في بني قريظة: [اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك، قالت: فانفجر كلمه] هذا ليس دعاء على نفسه بالموت، لأنه قال في إحدى الروايات: [فافجر جرحي هذا] أو [افجر هذه واجعل موتتي فيها] سعد رضي الله عنه جرح في المعركة، فأراد ألا يفوته أجر الشهادة في سبيل الله، فدعا الله أن يميته من هذا الجرح الذي حصل له وهو يقاتل في سبيل الله، فانفجر كلمه وكان قد برئ حتى لا يرى إلا مثل الخدش.
لما قضى سعد في بني قريظة وقتلوا، ودعا سعد الله قال: [اللهم إن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم] لكن لم يبق شيء من الحروب التي كان سيكون للمشركين فيها شأن، وما بقي من الحروب كان كله انتصارات للمسلمين.
[فاستجاب الله دعاءه؛ فانفجر كلمه، ورجع إلى قتبه الذي ضرب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، قالت: فو الذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وأنا في حجرتي -هي في حجرتها والخيمة في المسجد في الساحة- وكانوا كما قال الله عز وجل: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
قال علقمة: قلت: أي أمه! فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد ولكنه إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته] كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا وجد أمراً حزيناً كان يأخذ بلحيته كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتمالك نفسه، وهذا الحديث في السلسلة الصحيحة في المجلد الأول.
إذاً: أيها الإخوة! هذا الموقف يعكس لنا حب الصحابة لبعضهم يعكس لنا تماسك المجتمع الإسلامي يعكس لنا أثر الفرد في المجتمع الإسلامي يعكس لنا رحمة الصحابة فيما بينهم، هذا المثل الذي يجب أن يكون قدوة لنا نحن الآن ونحن نعيش في مجتمع، نحاول أن نعيش في مجتمع من الأخوة الإسلامية، كثيرٌ من الناس اليوم فقدوا معاني الأخوة الإسلامية فقدوا الترابط فقدوا الحنان والعطف فيما بينهم فقدوا حسن الأخلاق والمعاملة فقدوا سؤال بعضهم عن بعض، فقدوا أشياء كثيرة.
إن هذه القصص كفيلة إن شاء الله بأن تعيد إلينا جميعاً روح الأخوة الإسلامية الصحيحة التي تربط بين أفراد المجتمع المسلم حتى تجعله جداراً صامداً أمام سهام الأعداء ومخططاتهم وفقنا الله وإياكم لهدي كتابه وأن نسير عليه سيراً حسناً.
اللهم واجعلنا ممن يقتفون آثار نبيك وصحبه عليهم رضوان الله تعالى، ونسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعل هذه الكلمات عوناً لنا في درب طاعته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(274/13)
عبر من قصص النساء في القرآن
أورد الشيخ -حفظه الله- قصصاً لنساء وردت قصصهن في القرآن، وذكر العبر المستفادة من هذه القصص، وما يجب على المرأة المسلمة عمله تجاه هذا المجتمع، فإن أسلافها قد قمن بالكثير من الأدوار عبر العصور المختلفة، فهي على ثغرة من ثغرات الدين، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلها.(275/1)
ما يتطلبه الواقع من المرأة المسلمة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيتها الأخوات المستمعات! السلام عليكن ورحمة الله وبركاته وبعد: فهذه فرصة طيبة أن نلتقي من وراء حجاب لنتدارس وإياكن بعض الأمور التي تهم المرأة المسلمة، والمرأة المسلمة أصبح ما يطلب منها في هذا الزمن كثيرٌ جداً، وما يُتوقع منها أكثر، ونسأل الله أن يعيننا أجمعين على مواجهة مسئولياتنا.
وما يتطلبه الواقع الإسلامي اليوم من المسلمين رجالاً ونساء أن يكونوا على مستوى الأحداث، وأن يكونوا على مستوى الواقع الذي نحيا فيه، هذا الواقع الذي يعيش فيه المسلمون غربتهم الثانية وهم ينتظرون فرج الله عز وجل بعودة الحياة الإسلامية إلى بلاد المسلمين، هذه العودة التي تتطلب جهوداً كبيرة وسعياً حثيثاً سيسألنا الله عز وجل عنه يوم القيامة، سيسألنا عن هذا الكتاب، وسيسألنا عن هذا النبي، وسيسألنا عن هذا الدين ماذا عملنا من أجله؟ وماذا ضحينا في سبيله؟ وهل سعينا لنصرته وإقامة هذا الشرع المطهر؟ ولأجل ذلك صار الواقع يتطلب أن تقوم المرأة المسلمة بمجهود كبير في مواجهة هذه الحياة من القيام بالواجبات إحياء الشريعة الالتزام بإحكام الدين مواجهة الانحرافات المتفشية، خصوصاً وأن المرأة المسلمة واقعها صار مخترقاً من كثير من أعداء الدين في قضايا الحجاب والفواحش وضياع الأوقات، وكثير من المعاصي التي حصلت ممن انحرفن من الكثيرات من المسلمات عن شرع الله.
والآن تشهد الساحة الإسلامية ولله الحمد عودة مباركة طيبة إلى هذا الدين؛ لم تقتصر على مجال الرجال أبداً، بل إن العودة في مجال النساء قد تفوق في بعض المواقع الرجال ولله الحمد والمنة، ولا بد في هذه الصحوة من تقديم المنهج الصحيح للمرأة المسلمة حتى تسير عليه ويبين للمرأة المسلمة ما هو المطلوب منها في هذا الوقت.
وشخصية المرأة المسلمة من الأمور المهمة التي يجب تكوينها، وعند تكوين شخصية المرأة المسلمة لا بد من الرجوع في هذا التكوين إلى المراجع الأصيلة، وعلى رأس هذه المراجع -ولا شك- كتاب الله عز وجل، ومن هذا المنطلق سنتكلم في هذه الليلة في حديث عن المرأة في القرآن الكريم.
لقد وردت أيتها الأخوات الكريمات سيرة المرأة في القرآن الكريم في عدة مواضع دالة على ما أولاه هذا الدين لهذه المرأة وعلى ما أعطاها من الرعاية والاهتمام البالغين، انظرن مثلاً في هذه القصص التي نسردها الآن مع بعض تحليلات وذكر للعبر منها.(275/2)
امرأة عمران تبني بيتها
إن على رأسها قصة امرأة عمران التي تطالعنا في سورة آل عمران، شخصية المرأة المسلمة المرأة المؤمنة التي تبدأ في تكوين البيت المسلم بداية من الحمل.
إن رعاية هذا الطفل والقيام عليه من الأمور المنوطة بالمرأة ولا شك، وتحتاج إلى جهد بالغ؛ ولذلك فإن امرأة عمران قالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35].
ثم لما وضعت حملها، قالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36].
أولا: ً ملاحظة كيف أن هذه المرأة المسلمة رضيت بما آتاها الله عز وجل، لم تسخط أن آتاها أنثى كما تفعل كثير من النساء، تريد ذكراً لأن زوجها يريد ذكراً؛ لأن المجتمع يطلب منها أن تأتي بذكر؛ لأن أمها وأباها وأم زوجها وأبا زوجها والجميع ينتظرون ذكراً، ولكن ليس دائماً تأتي الأمور بما تشتهي النفوس، وبذلك فإن امرأة عمران قد وضعت أنثى ولكنها امرأة تعرف ربها، وتعرف بأنه يجب عليها أن ترضى بالقضاء والقدر وبما قسم الله لها، ولذلك قالت: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران:36] والصحيح أنها تعترف بالقاعدة تعترف بقضية ليس الذكر كالأنثى، ولكن هذا قدر الله، ماذا تفعل؟ أتمسكه على هون؟! أتدسه في التراب؟! كلا.(275/3)
حسن اختيار الاسم للمولود
انتقت الاسم المناسب، {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} [آل عمران:36] الاسم الجيد لهذه المولودة.
وإنني أقول لكن أيتها النساء: إنه قد حدث من الخلط في قضية التسمية من البعد عن شريعة الله أمورٌ كثيرة في المجتمع، فقد رأينا نساءً سمين بناتهن بأسماء أجنبية، رأينا من سمت ابنتها: سوزان، ورأينا من سمت ابنتها: مايا، ورأينا من سمت ابنتها: ليندا، ورأينا من سمت ابنتها: سالي، وغير ذلك من الأسماء التي جاءت من بلاد الكفار، ورأينا من انتقت لابنتها اسماً تافهاً يدل على تفاهة ما تفكر به هذه المرأة من الواقع، اسماً مقتبساً من كثير من المسلسلات والمسرحيات التي تذكر فيها أسماء الدلع لكثير من النساء فيها، وبعد ذلك تكبر هذه البنت لكي تنادى وهي جدة بذلك الاسم التافه الذي ألصق بها.
إن الجرائم والذنوب من الممكن أن تمحى ومن الممكن أن يزول أثرها، ولكن الاسم باقٍ ومشهور، فإذا تفشى بين الناس وانتشر فكيف يُغير؟! لا يُغير بسهولة، فلا بد من البداية أن يحصل رفع شعار الإسلام بتسمية المواليد تسمية إسلامية.(275/4)
دعاء الوالد لولده
ثم الدعاء لهذه المولودة: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36] ليس الدعاء لها هي فقط وإنما الدعاء لذريتها، هل تفقه الأم المسلمة في هذا الزمان أهمية تعويذ الطفل من الشيطان والدعاء له حتى لا يتسلط عليه الشيطان؟ فإذا أخلصت الأم المسلمة فإن الله سيتقبل وليدها بقبول حسن، ألم يقل الله عن امرأة عمران: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} [آل عمران:37].
بعض النساء تظن أن الأخذ بالأسباب البشرية في التربية كافية، ولا لجوء إلى الله، وهذا جهل فظيع، فإن بعض الناس يبذلون من الأسباب الكفيلة لصلاح الأولاد شيئاً عظيماً ومع ذلك لا يصلح الأولاد، لماذا؟ لم يكن هناك لجوء إلى الله بالدعاء، فما معنى قوله عز وجل: {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37]؟! إن الله سبحانه وتعالى قد رعى هذه البنت وجعلها تنبت في منبت حسن، جعلها تنشأ على طاعته عز وجل متمسكة بشرعه، حفظها من السوء ومن أهل السوء، بل إن الله قيَّض لها رجلاً كريماً شريفاً عفيفاً إنه نبيٌ وهو زكريا عليه السلام، صار يكفلها، كفلها زكريا وجعل أمر رعايتها إليه، ألقوا الأقلام، وجعلوا يستهمون من يكفل مريم، فكانت من حظ ونصيب زكريا عليه السلام: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران:37].(275/5)
شخصية مريم المؤمنة العابدة
ننتقل الآن إلى شخصية أخرى من الشخصيات، وهي: مريم المسلمة المؤمنة العابدة القانتة الطائعة لربها، التي جعلت لها محراباً تصلي فيه وتعبد ربها، ومحراب المرأة أيتها النساء في قعر بيوتهن، كلما كان أعمق في البيت كلما كان أفضل، تصلي فيه الفرائض والنوافل تجلس لتقرأ القرآن، وتحاول أن تقوم بهذه العبادات لله عز وجل كما أمرها الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول الله: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:42].
مسألة الاصطفاء بين النساء تحتاج إلى دراسة ونظر، هناك من النساء كافرات ولا شك، فأنت أيتها المسلمة بالنسبة لتلك الكافرة في نعمة وهذا اصطفاء من الله، وعندما تكون المرأة المسلمة طائعة لله فإنها قد اصطفيت على تلك المسلمة العاصية، وعندما تكون المرأة المسلمة متعلمة العلم الشرعي تكون مقدمة ومصطفاة على بقية النساء اللاتي عندهن خير وصلاح ولكن ليس لهن نصيب من العلم الشرعي فلا يعرفن أحكام العبادات، وعندما تكون المرأة تدعو إلى الله على بصيرة بين بنات جنسها تتنقل وتعظ وتنصح وتبين وتوجه وترشد وتسدد، تقدم الخير في كل مكان كما أمر الله، دون تكشف أو تبرج أو كثرة الخروج من البيت، إنما إذا كانت طالبة تنصح في وسط الطالبات، وإذا كانت مدرسة تنصح وسط المدرسات والطالبات، وإذا كانت إدارية في جميع المدرسة تقوم بالنصح، وإذا كانت أُمّاً فهي القائمة بأمر البيت وهكذا فهي تستغل المناسبات، والمناسبات النسائية كثيرة تستغلها في الدعوة إلى الله، وتقديم الكتيبات الإسلامية، وإيصال الشريط الإسلامي النافع، وينبغي أن يوصل إلى المرأة المسلمة كثيراً من العلم الموجود في هذه الوسائط التي تنقل العلم، لأن هناك جهلاً كبيراً لا يمحوه إلا نشر العلم الشرعي بين النساء، نشر فتاوى أهل العلم، ثم انظرن أيتها الأخوات الكريمات لمريم التي دعت لها أمها، ودعاء الوالدة مستجاب ولا شك، فثلاث دعوات مستجابات ومنهن (دعوة الوالد لولده)، وفي رواية: (دعوة الوالد على ولده) سواء دعا له بالخير أو دعا عليه بالشر، فإن دعاءه مقبول لعظم منزلته.
أيتها الأمهات! لماذا تدعين على أولادكن بالشر؟! لماذا تدعين عليهن وعليهم بأن يأخذهم الله، أو يريح منهم أو يخزيهم ونحو ذلك مما نسمع كثيراً من دعاء بعض الأمهات على أبنائهن؟ لا تدعين على أنفسكن ولا على أولادكن إلا بالخير، لأن الملائكة تؤمِّن على دعاء الوالدين، ولذلك نشأت هذه البنت التي دعت لها أمها طائعة، انظروا إلى قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] فلما أحصنت فرجها، وابتعدت عن الحرام من ناحية التكشف والتبرج ابتعدت عن الحرام من ناحية الاختلاط بالرجال الأجانب ابتعدت عن الحرام من ناحية الكلام مع الرجال الأجانب دون داع ابتعدت عن الحرام بكافة صوره وأشكاله، عند ذلك حدثت الكرامة من الله: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران:45].
كثيرٌ من النساء يهبهن الله أولاداً صالحين بسبب صلاح الأم.
إذاً: المرأة المسلمة تحتاج إلى عبادة المرأة المسلمة تحتاج إلى الإكثار من الصلوات، والنوافل، والصيام وبالذات عندما تكون في فترة الطهر، ينبغي للمرأة أن تستغل فترة طهرها بالإكثار من العبادات، لأنها تعلم أنه يأتي عليها وقت حيض لا تستطيع فيه الصلاة ولا الصيام، ولذلك فهي تقدم لنفسها خيراً فتنتهز هذا الوقت لاستغلاله في طاعة الله في هذه الفروض، ولو أنها حاضت وأتتها الدورة فهذا لا يعني أن تكف عن العبادة ولا أن تتوقف عنها، فإن الله قد شرع من الأذكار المختلفة والأعمال الصالحة غير الصلاة والصيام ما تستطيع المرأة أن تقوم به ولو كانت في فترة العادة، ولذلك لا تنقطع المرأة عن العبادة مطلقاً.(275/6)
مواجهة يوسف لفتنة امرأة العزيز
لننتقل إلى قصة أخرى من قصص النساء في القرآن الكريم، وهي قصة مختلفة نوعاً ما إنها قصة المرأة التي راودت يوسف عن نفسه، هذه المرأة التي حصل أن خانت زوجها ورأت في ذلك الخادم مليح الوجه حسن الشكل جميل الصورة، إنه كان بالنسبة لها فتنة، ولذلك فقد أعدت العدة لجعل المكان ملائماً ومناسباً للوقوع في الفاحشة ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولذلك لما فتنها هذا الغلام في بيتها فإن إيمانها قد تلاشى في تلك اللحظات وخططت للجريمة وللفاحشة.
إننا أيتها الأخوات يجب أن نفرق بين الشر العشوائي الذي أتى هكذا وبين الشر الذي جاء نتيجة تخطيط وترتيب، إن الشر الذي يأتي نتيجة تخطيط وترتيب ليدل على أن صاحبته عندها من البعد عن شريعة الله وقسوة القلب ما يجعلها تخطط للشر سلفاً ما يجعلها تهيئ للأمر سلفاً ما يجعلها تعد العدة لمعصية الله، كما يفعل كثيرٌ من السفهاء عندما يسافرون إلى الخارج في العطل ونحن مقدمون على عيد، والناس في العادة يسافرون في هذا العيد إلى البلدان المجاورة، إلى أين يذهبون؟ إلى مساجد إلى مراكز إسلامية إلى دروس إلى زيارة أناس في الله إلى زيارة أقاربهم؟! كلا.
إن الأمر مختلف، إنهم كثيراً ما يذهبون لمعصية الله، والتجول هنا وهناك، سياحة زعموا! وهي مليئة بالمنكرات.
إنني أقول: إن التخطيط للفساد الموجود عند بعض الأسر وبعض النساء مصيبة عظيمة ينبغي أن يُقضى عليه، وينبغي أن تستبدل المعاصي بطاعات يخطط لها، بدلاً من أن نخطط لسفرية فيها من المعاصي ما لا يعلمه إلا الله نخطط لرحلة حج، لرحلة عمرة، لزيارة أرحام، لزيارة أقرباء، لا بأس أن نذهب للفرجة والترويح عن النفس أو التسلية، لكن إلى أماكن ليس فيها منكرات إلى أماكن ليس فيها تبرج إلى أماكن ليس فيها اختلاط، قد تقولين لي: إن هذه الأماكن نادرة؟ أقول لكِ: نعم: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2].(275/7)
جرأة امرأة العزيز على الفاحشة
هذه المرأة في سورة يوسف لما افتتنت بهذا الغلام الجميل، ماذا فعلت؟ إنها غلقت الأبواب، وأخلت المكان وتفردت بهذا، ثم قالت له: هيت لك.
عجباً! إن الرجل في العادة هو الذي يدعو المرأة إلى الفاحشة، ولكن الذي حصل في هذه القصة أن المرأة هي التي دعت هذا الذكر للفاحشة ليفجر بها.
إذاً: هذا دال على زوال الحياء بالكلية، وعلى مدى ما وصل إليه الأمر من الافتتان، ولذلك فإننا نقول: ما ترك صلى الله عليه وسلم بعده فتنة أضر على الرجال من النساء.
والمسألة لا يمكن حلها إلا بالعمل على جهتين: إصلاح الرجل، وإصلاح المرأة.
الرجل لو صلح لم يدع المرأة إلى الفاحشة، ولم يختلِ بها أصلاً، والمرأة لو صلحت لن تخلو به ولن تستجيب له ولو دعاها، ولذلك فإن الإصلاح لا بد أن يسير على محورين اثنين: إصلاح المرأة، وإصلاح الرجل، يسير الإصلاحان جنباً إلى جنب، المهم أنها لم تكتفي بأن أخلت المكان وغلقت الأبواب، وخانت زوجها، ودعت يوسف إلى السوء والفحشاء، ولكن لما رفض يوسف هل ارعوت؟ هل أنزجرت؟ كلا.
إنه صار يهرب منها وهي تطارده، ولما طاردته وجاء زوجها ووصل، هل اكتفت بما فعلت؟ كلا.
بل إنها أضافت إلى جرمها وجرائمها جرماً آخر، ألا وهو الافتراء على الأبرياء والقيام بالبهتان ما هو البهتان؟ إنه إلصاق تهمة ببريء إنه نسبة جرم إلى شخص هو منه بريء، ولذلك فإن هذه المرأة بلغ بها الكيد أن قلبت المسألة في الحال واللحظة، زوجها داخل من الباب وهي تطارد يوسف، فجأة توقفت وغيرت الموضوع، فقالت: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] فوضعت التهمة على يوسف وهو البريء، ولذلك فإن القذف من أخطر الأمور، ورمي الرجل بجرم وهو منه بريء من قبل امرأة هو عبارة عن ذنب واضح كما فعلت امرأة هذا العزيز بيوسف عليه السلام.
صحيح أن المرأة يُفترى عليها أيضاً كما حصل لـ عائشة عندما افترى عليها المنافقون، ولكن نأخذ الدرس نحن في هذا المقام من هذا التلفيق الحاصل الذي هو نتيجة لكيد النساء أحياناً إذا لم يتقين الله.
يا ترى! هل اكتفت المرأة بهذا الأمر؟ كلا.
لما سمعت النسوة في المدينة يتبادلن الأحاديث وتشيع الشائعات عنها وعن يوسف وقد شغفها حباً، وقول النساء: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:30] أرادت بحيلة ماكرة خبيثة أن تستعين بالنساء على يوسف، فجمعتهن وأخرجته عليهن، وحصلت القصة المعروفة، ثم قالت متبجحة: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف:32] اعترفت، هل توقفت؟ كلا.
لم تستعن فقط بكيد النسوة، وكيد النسوة كان عظيماً على يوسف، حتى قال لربه: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} [يوسف:33] جميعاً، أي: صار الكيد مجتمع على يوسف، هل اكتفت؟ كلا.
بل إنها هددته بالسجن إذا لم يفعل بها الفاحشة -والعياذ بالله- فماذا قالت للنسوة: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] وفعلاً دخل يوسف البريء السجن مظلوماً بافتراء امرأة عليه.(275/8)
فضيلة رجوع المرأة عن خطئها
نقول: درس مهم جداً في تحصين المرأة نفسها من الرجال الأجانب، هناك خدم في البيوت وكثيرٌ من السائقين، وهؤلاء مصدر فتنة، وينبغي للمرأة أن تعلم جيداً أن المحافظة على العرض سواء كان للزوج أو على عرضها أن هذا من أساسيات الأمور، ولكن ينبغي ألا نقف عند هذا الحد، بل ينبغي أن نستعرض ما وصل حال المرأة إليه، لأن الله سبحانه وتعالى قد يغير الأحوال، ويبدل الضلال بهدى، وقد يأتي بعد الضلال بهدىً من عنده سبحانه وتعالى، ولذلك فإن هذه المرأة قد منَّ الله عليها بنوع من الهداية والصدق، وذلك أنها اعترفت وقالت في نهاية القصة لما حصل الاستجواب من الملك: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:51].
إذاً: أيتها المرأة المسلمة! إن رجوعك عن الخطأ والاعتراف بالخطأ وقول الصدق هو من الأخلاق.
كلنا خطاءون ولكن خير الخطائين التوابون، ولذلك فلا يكفي عندما يُتهم بريء من قبل امرأة أن البريء يخرج بريء، ولكن لا بد أن تعين المرأة التي اتهمته بتبرئته، وكثيراً الآن ما نلاحظ اتهامات من قبل النساء لأناس أبرياء سواء لنساء أخريات، أو سواء للرجال، وأعراض تلاك بالألسن ولا يعلم الإثم المترتب على حصائد هذه الألسن إلا الله عز وجل، واعتراف المرأة بأن الله مطلع عليها وبأن الله معها في كل وقت: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52] ثم تقول: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53] لا أبرئ نفسي أبداً، إنني أخطأت: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53].
لو أخطأت امرأة من النساء هل أغلق باب العودة؟ لو أخطأت امرأة بارتكاب ذنب أو جرم هل يعني أنها قد دخلت في عالم من الظلمة لا رجعة فيه أبداً إلى نور الحق؟ كلا.
إنك أيتها الأخت المسلمة إذا تبت إلى الله تاب الله عليك.(275/9)
جدية التوبة بين صفوف النساء
نحن نلحظ الآن في المجتمع كثير من النساء يتبن إلى الله باستمرار وهذه حركة طيبة مباركة نسأل الله أن تستمر.
نساء تبن من ترك الصلوات فانتظمن عليها، ونساء تبن من ترك الصيام فانتظمن عليه.
وكنَّ في الماضي نساء يصمن وقت الدورة ولا يقضينها حرجاً من أهلهن، الآن يسألن ويقلن: ماذا نفعل؟ وكنَّ نساء في الماضي لا يقضين ما فاتهن من الصيام، ويسألن: ماذا نفعل؟ وكنَّ نساء لا يخرجن الزكاة ويسألن الآن: ماذا نفعل؟ وكنَّ نساء قد تركن الحجاب وتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وأظهرن أذرعتهن ووجوههن وطائفة من الشعر والقدم والخلاخيل والزينة بالثياب والحلي أمام الرجال الأجانب، وهن الآن يسألن: أين الطريق؟ وكيف نعود إلى الله؟ وهذا شيء يجب أن نكبره ونعظمه ونثني عليه ونمدح فاعلته، ما هو هذا الشيء؟ المرأة إذا تركت الحجاب ليس من السهل عليها أن ترجع إليه المرأة إذا تعودت على التكشف والتبرج ليس من السهولة أن تعود إلى الحجاب الكامل بعد ذلك، ولذلك فإن الحركة التي نشهدها الآن من كثير من النساء وحتى الشابات منهن في قضية ترك التبرج مع ما فيه من الاستمتاع المحرم الذي كان يحدث في الماضي، والعودة إلى ستر الأجزاء من البدن التي كانت تكشف من الماضي، أقول: إن هذه مسألة ينبغي أن نعظمها وأن نثني على فاعلاتها؛ لأن الحقيقة تدل على مجاهدة للنفس ليست بسيطة.
وكنَّ نساء على علاقة خاطئة بكثير من الشباب الطائشين الماجنين بالهاتف أو غيره، فتبن إلى الله وجئن يسألن: أين الطريق؟ وكيف نعود؟ ونساءٌ كنَّ يقرأن في المجلات ويشاهدن المسلسلات التي تحرف المسلم وتدمر العقيدة والأخلاق وتنشئ الذهن على تقبل الاختلاط وتقبل ما يسمى بالحب البريء -والإسلام من هذا بريء- صرن يسألن الآن: كيف نستبدل أشرطة الأغاني والأفلام بالأشياء الإسلامية المفيدة؟ إنني أجد من خلال الصلاة في المسجد صفوفاً تتزايد من النساء في صلاة التراويح، وهذا دليل آخر على أن هناك في المجتمع كثيراً من النساء يردن العودة إلى الله فعلاً، وأظن أن هذه خطوة مباركة بدأت تؤتي ثمارها في هذا الزمان ولله الحمد والمنة، وقد كان في الماضي ليس على الاستقامة إلا عدد قليل من النساء مضطهدات يسخر منهن من بنات جنسهن.
إن كثيراً من المظاهر الخاطئة بدأت تتلاشى ولله الحمد والمنة.(275/10)
مريم واجتنابها للشبهات
ننتقل الآن إلى قصة أخرى، وهي استمرار لقصة مريم السابقة، إنها قصتها في سورة سميت باسمها إنها سورة مريم، لماذا سميت؟ لأن المرأة إذا تمسكت بمنهج الله فقد ترتفع فوق مستوى كثير من الرجال المسلمين (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) مريم عليها السلام لا شك أنها أفضل من كثير من الرجال الصالحين، وأن منزلتها عند الله عالية يا ترى! بسبب أي شيء؟ إن الله قد أرسل إليها جبريل فنفخ في جيب درعها، فنزلت النفخة إلى فرجها فدخلت فصار هذا الحمل المبارك في بطنها رحمها الله ورضي عنها وأرضاها، ولكن هذه المرأة تواجه الآن مشكلة عويصة، إنها ليست متزوجة -كما يظهر للناس- وكذلك هي في الحقيقة، والناس قد لا يفهمون أن هذا خلقٌ خلقه الله في بطنها، بل إن الناس سيتبادر إلى أنفسهم ظن السوء، وسيقولون لمريم: أنت زنيتِ وفعلتِ الفاحشة، ولذلك فقد فرت مريم في البداية من الأمر وحاولت أن تتخفى عن الناس، {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم:22]، لأنها لا تريد الكلام من الناس، وهذا صحيح.
ينبغي على المرأة المسلمة أن تبتعد عن مجالات التهمة، وإذا وجدت طريقاً تستطيع بواسطته حماية نفسها من كلام الناس ينبغي عليها أن تسلكه، لا يصلح للمسلم ولا للمسلمة أن يضع نفسه مواضع التهم وإنما يحاول أن يبرئ نفسه من كل ما يُلصق به.
هذه مريم عليها السلام حاولت أن تتفادى نظر الناس: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:22 - 23] وهنا تقول بكلمات منبعثة من نفس متأسفة من نفس تتحرك، وتخشى من كلام الناس عليها، فقالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] لماذا تمنت الموت؟ لأن الموقف شديد عليها، امرأة في بطنها ولد وهي ليست متزوجة، هنا الدرس: مريم بريئة وتتمنى الموت مع ذلك، وتقول: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] فماذا يكون الحال بالنسبة لبعض النساء -والعياذ بالله- اللاتي وقعن في الفاحشة وفي هذا الأمر المنكر وهن لا يشعرن بأدنى درجة من الندم؟ كيف ينبغي أن يكون الحال؟ والله سبحانه رحم مريم ونوديت من تحتها: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} [مريم:24 - 26] هذه نِعم من الله، ولذلك قال بعض أهل التفسير: إن الرطب من أنفع الطعام للمرأة النفساء.
ثم أتت به قومها تحمله وهي صائمة عن الكلام كما أمرت فاتهموها: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28] من أين خرجت؟ هذا يدل على أن الناس يحكمون على المرأة من خلال البيت الذي تعيش فيه، فأشارت إليه، وعند ذلك تكلم عيسى عليه السلام وشهد ببراءة أمه، ولذلك نحن الآن نعلم أيتها الأخوات عظم الفرية التي يفتريها اليهود على مريم، فإنهم يقولون: إن مريم زانية، وإن عيسى ولد زنا، نستغفر الله العظيم من هذا البهتان، لنعلم ولتعلمن مدى ما وصل إليه ٍاليهود من الخبث والكيد لأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(275/11)
إيمان بلقيس ورجاحة عقلها
ثم ننتقل أيتها الأخوات إلى قصة أخرى من القصص، وهي قصة ملكة كانت كافرة وكان عقلها راجحاً، فملَّكها قومها عليهم حتى صارت تحكم الرجال، فأرسل لها سليمان عليه السلام يدعوها إلى الله عز وجل، فاستشارت قومها: {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} [النمل:32] المرأة العاقلة لا تقطع أمراً بمفردها وإنما تحاول أن تستشير، تستفتي من حولها من أوليائها من أهلها من أقربائها من أهل العقل الراجح، خصوصاً عندما تقدم على أمرٍ مهم، فأشاروا عليها بأمرٍ لكن خالفتهم لما رأت أن ما يأمرونها به من استعمال القوة ليس راجحاً.
وقد جعل الله لسليمان عليه السلام من القوة وأسبابها ما أتى بعرشها من بلدها حتى وصل إلى قصره فأدخل حتى رأته، {قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل:42] قال المفسرون: هذا يدل على كمال عقلها، فهي لم تنفي، قالت: ليس هو، لأنه يشبهه حقيقة، ولم تقل: إنه هو لأنه متغير، فدل كمال عقلها على أن قالت: كأنه هو، والحقيقة أن هذه المرأة يقول الله: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:43].
كثير من النساء الآن يعشن في بيوت وفي مجتمعات وعندهن عقل راجح، ونفس طيبة وفطرة، لكن طمست أنوار هذه الفطرة بالبيئة السيئة التي يعشن فيها، هناك نساء يعشن فيما يشبه القصور يعشن في أنواع من الترف، وأنواع من النعيم، وأنواع من المعاصي والمنكرات الكثيرة، هذه المعاصي والمنكرات الأب السيئ والأخ الفاجر والبيت الفاسد، هذه العوامل تكون عقبة، تكون حجر عثرة أمام هداية المرأة إلى الطريق الصحيح، لذلك يقول الله: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:43] لماذا لم تهتدِ هذه المرأة في البداية؟ لماذا كانت تسجد للشمس كما أخبر الهدهد سليمان؟ بسبب وجودها في مجتمع كافر فاجر، لذلك أيها الأخوات ينبغي أن تعيش المرأة في واقعٍ طيب في مجتمع طيب، ينبغي أن يكون بيتها طيباً، البيت الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً، لذلك كيف نتوقع أن تكون هناك نساء ملتزمات في بيوت فاسدة؟! لكن عندما تنتشر الدعوة، تتحول البيوت شيئاً فشيئاً.
إنني أقول: إن كثيراً من النساء -ولله الحمد- كن سبب هداية أزواجهن أو إخوانهن أو آبائهن أو أمهاتهن وكثيرٌ من أقربائهن، وكم من امرأة كانت سبباً للخير والبركة في بيتها.
الشاهد من الكلام: أن النساء يجب أن يوفر لهن الأجواء الطيبة، وهذا كلام يهمس في آذان الداعيات إلى الله، ينبغي أن يفهم لماذا لا يلتزمن النساء بالإسلام؟ ما هي العوامل التي تصد المرأة عن التمسك بالحجاب؟ لماذا المرأة المسلمة عندما يقدم لها شريط إسلامي قد لا تسمعه؟ لماذا عندما يقدم لها كتاب إسلامي تقول من قدمته لها: اتركيه عندكِ وفريه لنفسك؟ لماذا يقال هذا الكلام؟ بسبب معيشة المرأة في وسط فاسد وبيئة سيئة المعاصي من كل جانب، كيف ستهتدي؟! ولذلك هذه تصد.
قال تعالى: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:43] لكن عندما يكون العقل وافراً، ماذا يحصل؟ إنها تهتدي إلى الحق عندما يعرض عليها، ولذلك سليمان عليه السلام لما وضع لها هذا الصرح من الزجاج الممرد من القوارير، وشيده له، وأمرها أن تدخل {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} [النمل:44] ماء لُجَّةً، (({وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرًَ} [النمل:44] قيل: إنه أراد أن يخطبها فنظر إليها بهذه الحيلة، ولكن الله أعلم بما كان، وهذه من قصص السابقين، ونحن لنا شرعنا الذي نعمل به.
ماذا حصل عندما كانت المرأة ذات عقل؟ قال الله -اعترفت-: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44] لذلك أقول لكن أيتها الأخوات: من كانت منكن عندها عقل راجح فلا بد أن يهديها الله إذا استعملت عقلها للوصول إلى الحق ولو كانت في منبت سوء، أو بيئة فاسدة، أو في وسط مظلم، إذا استعملت وحكمت عقلها، والعقل في القلب: {لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج:46] فإذا عقلت عن الله مراده، فإنها ستنتشل من هذا الوسط لتدخل في بيئة السعداء.(275/12)
ثبات أم موسى أمام الابتلاءات
ننتقل إلى قصة أخرى من قصص النساء في القرآن الكريم: ألا وهي قصة أم موسى صلى الله عليه وسلم هذه المرأة التي ربط الله على قلبها هذه المرأة التي أوتيت خيراً كثيراً هذه المرأة بلغ بها الخير أن الله أوحى إليها وحياً من نوع خاص، ليس من وحي الأنبياء، لما ولدت يوسف وأرضعته أوحى إليها إذا خافت عليه من جند فرعون الذين كانوا يذبحون أولاد بني إسرائيل أن تلقيه في اليم.(275/13)
عظم توكل أم موسى وتفويض أمرها إلى الله
هنا مسألة مهمة: التوكل على الله واليقين بالله، هذه من الأشياء الأساسية التي ينبغي أن تتوفر في شخصية المرأة المسلمة، الآن أسألكن أيتها الأخوات عندما تخشى المرأة على ولدها عادة ماذا تفعل به؟ إنها قد تهرب به وتخبئه في مكان آمن، لكن يقول الله لأم موسى {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7] سبحان الله! يأمرها بأمر بعكس ما هو جار في الأسباب العادية، إلقاء الولد في البحر شيء خطير، لأنه يتعرض للغرق، ولكن الله له إرادة وحكمة ومشيئة سبحانه وتعالى، وهو {خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64]، ولذلك أمرها بأن تفعل ما هو عادة من أسباب الهلاك وهو إلقاء الولد في البحر، ولكن الله يريد بحكمته أن إلقاء موسى سيذهب به إلى بيت الطاغية فرعون ليتربى في ذلك البيت ويكبر، ويحصل ما كان يخشى منه فرعون، ويكون موسى الذي تربى في بيت فرعون هلاك فرعون على يديه، ولذلك فإن أم موسى عندها يقين بالله، هذا هو الدرس: اليقين بالله سبحانه، عندما نتأكد أن الله أمرنا بأمرٍ فإننا ننفذ ونعلم أنه لن يضيعنا سبحانه وتعالى، وخافت فعلاً أم موسى لما جاء جنود فرعون يطلبون أبناء بني إسرائيل يقتلونهم، فألقت ولدها في النهر، فماذا قال الله؟ أمرها بأمرين: {أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7] و {أَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7]، ونهاها نهيين: {َلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص:7]، وبشرها بشارتين: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص:7] هذه البشارة الأولى، والثانية: {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] ولذلك فإنها ألقته، ولكن الأم قلبها يبقى قلب أم؛ ولذلك: {أَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص:10] أوشكت أن تظهر أمره: {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:10].
فاعلمي أيتها المرأة أن الله سبحانه وتعالى إذا ربط على قلبك واستعنت به فإنه يعطيك قوة ورباطة جأش، وزيادة ثبات، والثبات من الله ونحن لا نستطيع أن نثبت أنفسنا بأنفسنا، ولكن نسأل الله الثبات لكي يثبتنا.(275/14)
أخت موسى وتنفيذها أمر أمها
هنا تظهر شخصية نسائية أخرى في هذه القصة وهي شخصية أخت موسى التي نفذت أمر أمها فخرجت تتبعه عن بعد بحذر أخت موسى الذكية التي ما فضحت القصة وما فضحت القضية وإنما قالت لأخته: {قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} [القصص:11] صارت تراقب المهد يتهادى على سطح الماء من طرف عينها، هذا معنى عن جنب {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} [القصص:11] فتظاهرت أنها لا تنظر إليه ولكن بطرف عينها تنظر وتلحظ إليه، إنها عين الأخت الساهرة على أخيها الصغير، وهكذا ينبغي أن يكون دور الأخوات في البيت تجاه إخوانهن الصغار الذين يحتاجون إلى الرعاية، فإن الأم قد تنشغل أحياناً فنقول لهذه الأخت في البيت: إن عليك واجباً تجاه أخيك الصغير من ناحية العناية به، والحرص عليه، والخوف من الأسباب التي تهلكه، ومساعدة الأم في القيام بشئون هذا الولد الصغير، فكوني أيتها الأخت المسلمة عوناً لأمكِ في رعاية هؤلاء الأولاد الصغار في البيت، وتشبهي بأخت موسى وهي ترعى أخاها الصغير وهو يتهادى على سطح الماء، والله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئاً هيأ له أسبابه، كيف يرجع الولد إلى أمه؟ دخل قصر فرعون وأخذوه ولداً لهم، كيف يرجع؟ إن الله يخلق أشياء تجعل البشارة تتحقق حرم الله عليه المراضع، مهما عرضوه على ثدي لا يقبله، وهنا تدخلت أخت موسى لتقول لهم ولهن: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12] طبعاً عجلي، من هي هذه المرأة؟ نريد أي امرأة ترضع الولد إن فرعون وزوجته قررا أن يكون لهما ولداً فإذاً لا بد من حماية الولد، عجلي بهذه المرأة التي ترضعه، فصارت أم موسى تأتي لترضع ولدها وتأخذ أجرها، تضمه إلى صدرها تتظاهر أنه ليس ولدها، لكن عندما تضمه إلى صدرها تشعر بحنان الأم وهي ترضع ولدها الصغير، وتأخذ أجراً على ذلك بأي شيء حصل لها اطمئنان الولد والأجر؟ إنه بسبب اليقين بالله والصبر على أوامر الله عز وجل.(275/15)
شخصية خولة بنت ثعلبة في القرآن
ننتقل إلى قسم آخر من الشخصيات النسائية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، إنها شخصية المرأة المسكينة المظلومة، إنها خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها، التي قال لها زوجها كلاماً منكراً مشيناً محرماً: أنتِ علي كظهر أمي، أنتِ محرمة علي مثل أمي، صارت لا هي مطلقة ولا زوجة إنما صارت معلقة، فظاهر منها فظلمها زوجها، فجاءت تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا لا بد أن تأخذ النساء درساً في أن التوجه يكون إلى أهل العلم شكوى الحال طلب الحل طلب الفتوى جواب السؤال حل المشكلة يكون بسؤال أهل العلم، إلى من ذهبت خولة رضي الله عنها؟ ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلب الحل تطلب الحكم: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] محاورتها مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو عليه الصلاة والسلام ما عنده جواب، ولكن الله الرءوف الرحيم يرعى المرأة، والله سبحانه وتعالى قد سمع قولها بسمعه سبحانه وتعالى، فلم يرض عز وجل أبداً بالظلم، ولا يرضى سبحانه وتعالى مطلقاً بالظلم، وإنما حرمه على نفسه وعلى العباد، فأنزل من أجل هذه المسكينة آيات تتلى إلى يوم القيامة لكي تحل المشكلة لكي تزول.
تقول: يا رسول الله، نثرت له بطني حتى إذا كبر سني ورق عظمي ظاهر مني، أشكو إلى الله، والله إذا لجأ إليه الضعيف فإنه ينصره، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: (دعوة المظلوم ترفع إلى الله على الغمام، يقول الله: لأنصرنك ولو بعد حين) (دعوة المظلوم تصعد إلى السماء كشرارة) كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح، تصعد مثل الشرارة سريعة جداً لذلك نزل الجواب، تقول عائشة: [سبحان الذي وسع سمعه الأصوات! إني في ناحية البيت ما أسمع ما تقول] تجادل الرسول صلى الله عليه وسلم، لكني لا أسمع تفاصيل القصة، لا أسمع تفاصيل الحوار، وإذا بالآيات تنزل مباشرة: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1].
إنني أقول بهذه المناسبة: أيتها الأخوات الكريمات! إلى من يجب الذهاب في حل المشاكل؟ إلى من يجب اللجوء في الاستفتاءات لأهل العلم الثقات؟ إنني أنعي وأقول بأسف: إن بعض النساء يذهبن في حلول المشكلات إلى أصناف من البشر الله حسيبهم على ما خربوا ولوثوا وأفسدوا وأضلوا من جمهور المسلمين، يذهبون إلى من يعتبرونهم شيوخ، وأنهم علماء وعندهم علم، وهم جهال ربما يكون الواحد منهم أجهل من سائله في هذه المسألة التي يسأله عنها، فيفتيه بغير علم، فيَضل ويُضل ويحمل أوزار من أضله على ظهره يوم القيامة، ولذلك بعض النساء تكتب إلى أناسٍ أو تتصل بأناس تظنهم شيوخاً وليسوا بشيوخ، أو بعض النساء تكتب مشكلتها إلى محرري المجلات والصحف، وهذه قضية خطيرة جداً، ولقد اطلعت على قصص كتبت فيها بعض البنات والفتيات مشكلاتهن، يردن الخلاص من المشكلة لكن تظن الواحدة منهن أن الحل عند محرر الجريدة وعند كاتب الصحيفة، وهو خبيث رجس نجس يريد أن يتسقط هؤلاء البنات، لكي يصل إلى مآرب من وراء نشر رسائلهن في هذه الجريدة أو تلك المجلة، ولذلك فإنني أتعجب جداً عندما أقرأ في بعض المجلات أو الجرائد أو يصل إلى علمي مثلاً أن بعض النساء يكتبن إلى أولئك القائمين على تحرير تلك الصحف، مع أنهن يعلمن جيداً بأن تلك الصحف والمجلات تنشر الأمور السيئة وتنشر الفجور والخنا والخبث بين الناس وتفسد المجتمع، وينطبق عليهم قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:19].
أقول: كيف بالله عليك تلجئين إلى مثل هؤلاء، ألم يقل الله: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]؟ لماذا لا نتصل بالثقات من العلماء نكاتبهم نراسلهم نكلمهم هاتفياً؟ لماذا لا نلجأ إلى كتب العلم؟ لماذا لا نلجأ إلى طلبة العلم؟ نقول: ابحثوا لنا في الكتب، هاتوا لنا الأجوبة؟ لماذا لا نستمع إلى البرامج الإسلامية المفيدة، مثل برامج الفتاوى، أشرطة الفتاوى؟ يمكن أن هذه المسألة التي يسأل عنها الآن أو مسجلة في الشريط قد تتعرضين أنت لها في المستقبل، فإذاً يكون عندك الجواب.
فهذا درس آخر يؤخذ من قصة خولة بنت ثعلبة رضي الله تعالى عنها.(275/16)
فاسألوا أهل الذكر
إنني أقول بهذه المناسبة: أيتها الأخوات الكريمات! إلى من يجب الذهاب في حل المشاكل؟ إلى من يجب اللجوء في الاستفتاءات لأهل العلم الثقات؟ إنني أنعي وأقول بأسف: إن بعض النساء يذهبن في حلول المشكلات إلى أصناف من البشر الله حسيبهم على ما خربوا ولوثوا وأفسدوا وأضلوا من جمهور المسلمين، يذهبون إلى من يعتبرونهم شيوخ، وأنهم علماء وعندهم علم، وهم جهال ربما يكون الواحد منهم أجهل من سائله في هذه المسألة التي يسأله عنها، فيفتيه بغير علم، فيَضل ويُضل ويحمل أوزار من أضله على ظهره يوم القيامة، ولذلك بعض النساء تكتب إلى ناس أو تتصل بناس تظنهم شيوخ وليسوا بشيوخ، أو بعض النساء تكتب مشكلتها إلى محرري المجلات والصحف، وهذه قضية خطيرة جداً، ولقد اطلعت على قصص كتبت فيها بعض البنات والفتيات مشكلاتهن، يكون عندهن إخلاص فعلاً يردن الخلاص من المشكلة لكن تظن الواحدة منهن أن الحل عند محرر الجريدة وعند كاتب الصفحة، وهو خبيث رجس نجس يريد أن يتسقط هؤلاء البنات، لكي يصل إلى مآرب من وراء نشر رسائلهن في هذه الجريدة أو تلك المجلة، ولذلك فإنني أتعجب جداً عندما أقرأ في بعض المجلات أو الجرائد أو يصل إلى علمي مثلاً أن بعض النساء يكتبن إلى أولئك القائمين على تحرير تلك الصحف، مع أنهن يعلمن جيداً بأن تلك الصحف والمجلات تنشر الأمور السيئة وتنشر الفجور والخنا والخبث بين الناس وتفسد المجتمع، وينطبق عليهم قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:19].
أقول: كيف بالله عليك تلجئي إلى مثل هؤلاء، ألم يقل الله: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]؟ لماذا لا نتصل بالثقات من العلماء، نكاتبهم، نراسلهم، نكلمهم هاتفياً، لماذا لا نلجأ إلى كتب العلم؟ لماذا لا نلجأ إلى طلبة العلم، نقول: ابحثوا لنا في الكتب، هاتوا لنا الأجوبة؟ لماذا لا نستمع إلى البرامج الإسلامية المفيدة، مثل برامج الفتاوي، أشرطة الفتاوي؟ يمكن أن هذه المسألة التي يسأل عنها الآن أو مسجلة في الشريط قد تتعرضين أنت لها في المستقبل، فإذاً يكون عندك الجواب.
فهذا درس آخر يؤخذ من قصة خولة بنت ثعلبة رضي الله تعالى عنها.(275/17)
أثر فساد المرأة حتى على الأنبياء
اعلمي بأن الله سبحانه وتعالى قد ضرب مثلاً في القرآن الكريم لامرأة نوح وامرأة لوط، زوجتان كافرتان، أما زوجة نوح فكانت -فيما ذكر في التفسير- تخبر الكفار من قومها بأسرار نوح والمسلمين معه إنها الجاسوسة إنها الخائنة التي توصل الأخبار إلى أعداء الله فيبطشوا بالمسلمين الذين كانوا مع نوح.
وأما امرأة لوط فإن خيانتها ليست خيانة زوجية في العرض والشرف، فإن نساء الأنبياء لا يخن ولو كن كافرات، كما قال أهل التفسير، ولذلك فإن خيانتها كانت بأن دلت قومها الذين كانوا يقعون في الفاحشة ويستعلمون الفاحشة على ضيوف لوط، فجاءوا إليه يهرعون، يقولون: هات ما عندك، يريدون الضيوف الذين عند لوط ليفعلوا بهم الفاحشة.
وكان الأمر بعد ذلك من إهلاكهم وهلكت امرأة نوح في الطوفان وولد نوح الكافر، وهلكت امرأة لوط بهذه الحجارة والصيحة، وقلب عالي القرية سافلها، وطمس الأعين الذي أرسل الله به الملك فطمس أعينهم، فنجى الله لوطاً إلا امرأته.
الشاهد: أنه قد يوجد في المجتمع رجال صالحون ولهم زوجات فاجرات، وقد يوجد في المجتمع رجال فجار ولهم زوجات صالحات، ولو المسألة عندنا في الإسلام بالنسبة للكفر واضحة، إذا كان الرجل مسلم وزوجته كافرة، لا يجوز له أن يتزوجها، ولا يجوز أن يبقيها عنده إذا كفرت ويجب أن يفارقها، والمرأة إذا كان زوجها كافراً فإنه لا يجوز أن تبقى تحت كافر تفارقه ويبطل العقد، وينفسخ تلقائياً بكفر أحد الزوجين إذا بقي الآخر مسلماً، وتدخل المرأة في العدة، وتعتد وتنتهي، وتتزوج ممن تشاء إذا بقي زوجها على كفره، ما هو الدليل؟ يقول الله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] لا تحل المرأة الكافرة لرجل مسلم، ولا يحل الرجل الكافر لامرأة مسلمة، هكذا قضى الله، إلا الاستنثاء في أهل الكتاب من اليهوديات والنصرانيات بشرط أن يكن محصنات، وأما الفاجرات فلا يجوز الزواج منهن، أي: من اليهوديات والنصرانيات.(275/18)
مشكلة صلاح أحد الزوجين وفساد الآخر
الآن عندنا مشكلة في المجتمع حقيقية وهي: ماذا نفعل عندما يكون هناك رجل فاجر تحته امرأة متدينة؟ هذه الحالة لها احتمالات، أحياناً يكون الرجل فاجر متستر بالدين، والمرأة تقصر في السؤال عنه، لا تسأل جيداً، وبعد ذلك تقع الطامة الكبرى، والكارثة العظيمة، فتكتشف المرأة بعد الزواج وبعد فوات الأوان بأن الرجل يهمل الصلوات ويتعاطى أشياء محرمة، ويتصل بنساء أجنبيات، وله سفريات يرتكب فيها المحرمات، وتكتشف عنده من أدوات اللهو المحرم أشياء كثيرة، وعند ذلك ماذا يكون وقد فات الأوان؟ السبب هو عدم السؤال الجيد قبل الإقدام على الزواج من جهة المرأة بواسطة أهلها، ومن تثق بهن من أخواتها الذين يأتونها بالخبر عن طريق أزواجهن مثلاً.
أقول: هذا سبب من أسباب حدوث المشكلة، والسبب الآخر: أن تكون المرأة مقصرة مثل زوجها، ثم بعد ذلك يحدث أن تلتزم المرأة بالدين وزوجها ما زال مصراً على فجوره وضلاله وعصيانه، فماذا تفعل المسكينة؟ إنني أقول: إن هناك في الواقع حالات كثيرة، المرأة تريد أن تتحجب والرجل يقول: لا تتحجبي، وينزع الحجاب من رأسها المرأة لا تريد الاختلاط بأصدقاء الزوج، وهو يضربها ويقول: اخرجي قدمي الأكل للرجال واجلسي معنا، لا تريد الكشف على إخوانه، وهو يقول: إذا لم تكشفي الحجاب على إخواني سأطلقك ولكِ مهلة أسبوع، أصبح الفجور إلى درجة أن يعطي الرجل مهلة لكي تخالف المرأة ربها، ومهلة لكي تنفذ المعصية وتقوم بها، ماذا يكون عند ذلك الحل؟ المرأة ضعيفة المرأة أسيرة، ما هو الحل؟ الحل صعب ينبغي على المرأة أن تصبر وتتدارك نفسها، وتحاول بشتى الوسائل أن تتمسك بشرع الله وهديه وأحكامه، فإذا أكرهت بالقوة بالضرب باستخدام اليد من الزوج مثلاً، والتهديد المستمر اليقيني عند ذلك تعذر عند الله، ولو أنه أرغمها على شيء بالقوة، وفعله بها عمداً، فهو الآثم وهي البريئة، حتى يحكم الله بينها وبينه، فيتوسط أهل الخير إما أن يلتزم الزوج أو يعطيها الحرية في دينها، إذا كان الرجل عاصياً إذا كان كافراً لا يجوز أن تبقى معه، وعليه أن يسرحها بإحسان.
والشاهد: أن الواقع والحاصل أنه يوجد كثير من التفريط الحادث ومن المتناقضات التي تحتاج إلى حل.(275/19)
أهمية كتمان الزوجة لأسرار الزواج وفوائد ذلك
موقف أخير أيتها الأخوات أذكره لكن من سورة التحريم في بعض القصص المتعلقة بشخصيات نسائية في القرآن الكريم.
إن بعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دفعتهن الغيرة لأن يقمن بمحاولة للإيقاع بينه وبين بعض زوجاته الأخريات لما كان بينه وبينهن صلة معينة، وميزة عند إحداهن ليست موجودة عند الأخريات، ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى بعض أزواجه حديثاً، قال لها كلاماً وطلب منها أن تكتمه ولكنها نبأت به، فأطلع الله رسوله أنها قد قالت: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} [التحريم:3] لما كشف لها القضية، قال: {نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3]، ماذا قال الله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] وأقف عند هذه القصة لأقول بعض الفوائد: أولاً: إن من واجب المرأة المسلمة أن تكون وفية لزوجها، لا تؤذيه بالكلام، ولا تنشر أسراره، لأن الزوج أحياناً يقول لزوجته بعض الأسرار، ويطلب منها ألا تبوح لأحد، وبعض النساء لا يكتمن شيئاً، فبمجرد أن يقول لها الزوج: إن هذا شيء خاص اليوم، إذا به غداً منتشر عند النساء عن طريق المرأة، لا تستطيع أن تمسك لسانها في كثير من الأحيان، فتظن أن ما قاله لها زوجها شيء مهم، وإنها تقول للناس: إن زوجها عنده أشياء مهمة، وأن هذه أسرار مهمة، وأنه استودع الأسرار عندي، ولو لم أكن أهلاً للثقة لما قالها لي، فهي تحب أن تظهر ميزتها عند زوجها للناس، ويترتب على ذلك شرور ومفاسد، ويحرج الزوج إحراجات كثيرة، لذلك إذا استكتم الرجل زوجته أمراً فلا يجوز لها أن تظهره مطلقاً، إلا إذا كان كتمه شيئاً محرماً.
ثانياً: المرأة المسلمة راعية في بيت زوجها، والمفروض أن تحوطه من ورائه وأن تسعى بذمته وتأخذ بيده وتساعده، والرجل المسلم وبالذات الداعية وطالب العلم يحتاج إلى جو هادئ وإلى جو سكينة، لا يحتاج إلى باب مشاكل يفتح عليه من جهة زوجته.
إن الزوجة عليها أن تقوم بدور تستلهم فيه دور خديجة، فمثلما كانت خديجة رضي الله عنها تشد من أزر زوجها وتعينه وتشجعه وتقول له: والله لا يخزيك الله أبداً، وتعينه، وتدفعه إلى الخير، وإلى الدعوة، ينبغي أن تكون المرأة معينة لزوجها على الطاعة وليست سبباً من أسباب المشاكل، إذا رأته نائماً عن صلاة الفجر توقظه، إذا جاء من الدوام بعد الظهر ونام عن الصلاة وجاء وقت العصر توقظه، لا تقول: أتركه، أرحمه ولا أوقظه للصلاة، كلا؛ إن الرحمة به أن توقظه للصلاة، إذا رأت عليه منكراً تنصحه، كيف تفعل هذا؟ هذا شيء ليس بجائز، تحثه على حضور مجالس الخير، تعينه على ضيافة إخوانه الذين يحضرون إلى بيته، ولسنا الآن بصدد الكلام عن حقوق الزوج على زوجته أو حقوق الزوجة على زوجها، سيكون له مناسبة منفصلة إن شاء الله تعالى.
لكن الشاهد: أن طالب العلم والداعية لديه من المشكلات ما يكفيه وليس بحاجة لأن ينفتح عليه باب مشكلات من جهة زوجته، ولذلك فإن الزوجة الصالحة معينة الزوجة الصالحة تسرك إذا نظرت إليها، وإذا غبت عنها حفظتك في عرضها ومالك.
ولذلك فإنني أقول ختاماً: إن هذه القصص التي ذكرها الله تعالى في القرآن عن المرأة المسلمة ينبغي أن تكون مثلاً حياً في أنفسكن أيتها الأخوات المسلمات، ينبغي أن تضعن نصب أعينكن أن المرأة المسلمة كان لها دور عبر العصور المختلفة المرأة المسلمة كانت مؤثرة، ليست المرأة المسلمة هامشية إنها حارسة القلعة إنها على ثغرة من ثغرات الدين، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلك.
والسلام عليكن ورحمة الله وبركاته.(275/20)
الأسئلة(275/21)
المرأة وظاهرة التدخين
السؤال
ما حكم التدخين للمرأة في الإسلام؟
الجواب
إن المرأة المسلمة تطيع ربها، وربها يقول: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] فقسم الله الأشياء في الدنيا من المطعومات والمشروبات إلى قسمين لا ثالث لهما: طيب وخبيث، فما لم يكن طيباً فإنه خبيث، والدخان هل هو طيب؟ هل هو مفيد للصحة؟ الأموال التي تنفق فيه هل تنفق في وجهها الشرعي الصحيح؟ هل يريح الناس ويريح الملائكة؟ كلا.
فإذاً المرأة تعصي ربها عدة مرات عندما تدخن تعصيه مرة عندما تنفق الأموال في طريق محرم، وهذا تبذير، وتعصيه مرة أخرى عندما تضر بصحتها فتدخن، وتعصيه مرة ثالثة عندما تؤذي الملائكة الذين معها بهذا التدخين، وتعصيه مرة رابعة عندما تؤذي أخواتها أيضاً، وتعصيه خامسة بإلقاء نفسها للتهلكة، وبإدخال هذا الضرر على نفسها، ولذلك فالحكم واضح جداً وهذا من نتيجة التحلل والتفسخ الذي حل في المجتمع، فمن كان يصدق أن المرأة في يوم من الأيام ستدخن لكن حصل فعلاً!!(275/22)
حكم الأمور التي تفعل في القرقيعان
السؤال
ما حكم ما يفعل في القرقيعان من أمور مباحة؟
الجواب
هذا من عادات المسلمين موجودة عند بعض المسلمين، الأصل في العادات أنها جائزة إلا إذا اقترن بها منكر من المنكرات، وقد سبق أن ذكرت إذا اعتقدوا فيها فضلاً معيناً، أو أجراً معيناً، أو اعتقدوا أن في يوم (15رمضان) أجراً معيناً، فتتحول إلى بدعة، لكن لو صاروا جارين على العادة من إعطاء الأولاد الحلويات والمكسرات في هذا اليوم لا بأس، لكن أحب أن أنبه إلى مسألة تربوية وهي: أن دوران الأطفال على بيوت الجيران يطرقون الأبواب، ويقولون: أعطونا الله يعطيكم، أو أعطونا من مال الله، لا أدري الكلام الطويل، أقول: إن بعض هذا الكلام فيه نوع من تعويد الولد على التسول والشحاذة وإراقة ماء الوجه، ولا نستحب ذلك، لكن لو أنهم قرقعوا كما يقولون في بيوتهم، وأعطوا للأطفال مكسرات وحلويات في البيوت، فإن شاء الله لا بأس في ذلك.(275/23)
حكم قيء الطفل الرضيع
السؤال
ما حكم قيء الطفل الرضيع؟
الجواب
حكمه حكم بوله، فإذا كان ذكر قد أكل الطعام واستقاء فحكمه حكم بوله، أي: نجس، وإذا كان الذكر لا يزال يرضع ولم يأكل الطعام فحكم قيئه حكم بوله، وأما البنت الصغيرة فإن بولها نجس حتى لو كانت في الرضاع.(275/24)
استحباب الوضوء بعد تنظيف الولد
السؤال
هل تنظيف الولد من منقضات الوضوء؟
الجواب
الظاهر أنه لا يبطل الوضوء، ولكن الأحسن أن تتوضأ.(275/25)
حكم زكاة الحلي
السؤال
ما حكم زكاة الحلي؟
الجواب
زكاة الحلي واجبة سواء كان مستخدماً أو غير مستخدم، والدليل على ذلكم ما رواه أبو داود بسند حسن (أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب -أي: سواران من ذهب- فقال لها عليه الصلاة والسلام سائلاً: أتؤدين زكاة هذا؟ -فكانت المرأة لا تعلم الحكم- قالت: لا.
قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار يوم القيامة؟ قالت: هما لله ورسوله) لو كانت الزكاة في الحلي غير واجبة، لماذا يهددها الرسول صلى الله عليه وسلم بالنار؟ ما هددها بالنار إلا والزكاة في الحلي واجبة، كم مقداره؟ (2.
5%) من قيمة الحلي عندما يحول عليه الحلول.(275/26)
حكم أولاد زوج البنت من امرأة أخرى
السؤال
ما حكم الكشف على أبناء زوج البنت؟
الجواب
أولاده من امرأة أخرى لا علاقة لها بهم، ولو تزوج رجل ابنتك وعنده أولاد من زوجة أخرى غير ابنتك، وهؤلاء الأولاد ليس لهم علاقة فيك، لا من رضاع ولا من نسب، ولذلك لا يوجد محرمية، بخلاف زوج البنت الذي ثبتت محرميته بالمصاهرة.(275/27)
نزع المرأة ملابسها في غير بيتها
السؤال
يقول الرسول صلى الله عليها وسلم: (أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها هتكت ستراً بينها وبين الله) ما المقصود بهذا الحديث؟
الجواب
سألت الشيخ/ عبد العزيز بن باز عن هذا الحديث؟ فقال: المقصود فيه الوعيد والتحذير من التبرج أمام الأجانب، كشف المرأة لشيء من جسدها أمام الأجانب، لكن لو أن المرأة ذهبت إلى بيت أهلها فلا يجوز أن تضع ثيابها؟ أحياناً تذهب إلى دورة المياه فتضع ثيابها، أو تذهب إلى بيت أختها وزوج أختها غير موجود فلا يجوز أن تزيل خمارها عن رأسها، فإذا صارت في بيتٍ آمنة على نفسها من نظر الأجانب فلا بأس عند ذلك بأن تضع عن وجهها وشعرها الحجاب.(275/28)
مخاطبة المرأة المحادة للرجال
السؤال
ما حكم مخاطبة المرأة المحادة للرجال الأجانب بهاتف أو غيره؟
الجواب
إذا كان لضرورة فلا بأس بذلك، وإنني أقول بهذه المناسبة: إنني وجدت أن البدع في مجال العدة قد لا يفوقها بدع أخرى، فوجدنا أشياء الله عز وجل أحلها، وهؤلاء يحرمونها ببدعهم، يقولون بزعمهم الكاذب: المرأة المحادة لا تكلم الرجال الأجانب لا بالتلفون ولا من وراء الباب، ولا تكلم الولد البالغ، ولا الصغير، ولا تسلم على زوج بنتها ولا تسلم على امرأة متزوجة ولا تنظر إلى المرآة، ويحرمون عليها الاغتسال، والاغتسال مباح، وعليها إذا انتهت من العدة أن تذهب مغمضة العينين إلى البحر وتفتح عينيها عند البحر، ثم تذهب إلى المسجد وتصلي فيه ركعتين، وأشياء ما أنزل الله بها من سلطان.
المرأة المحادة ماذا تفعل؟ أول أمر: أن تلزم البيت الذي كانت فيه عندما مات زوجها، أربعة أشهر وعشرة أيام، وتمتنع من الزينة، لا تلبس ذهباً ولا حلياً، ولا أساور، ولا خواتم، ولا قلائد، ولا حلق في الآذان، ولا تمس الطيب، ولا تلبس ملابس مزينة ومزخرفة ومزركشة، كملابس حفلات وملابس الأعراس، وإنما تلبس المتيسر، والذين يوجبون لباس السواد عليها بدعة من البدع، تلبس أزرق، بني، أخضر، المتيسر لا بأس بذلك، ولكن لا تلبس ملابس زينة، ولا تضع الكحل، أو الحناء، أو الزينة، أو العطورات أو صابونات معطرة هذه قضية.
أما أنهم يوجبون عليها أشياء ما أنزل الله بها من سلطان فهذا لا يجوز وهو من البدع.
هذا ما تيسر من الإجابة على الأسئلة التي وردت، وأسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكن الفقه في الدين، وأن يرد بنا خيراً، وأن يحسن عملنا أجمعين، وأن يتوب علينا إنه هو التواب الرحيم، وأن يدخلنا الجنة برحمته إنه أرحم الراحمين.
وصلى الله على نبينا محمد، والله تعالى أعلم.(275/29)
قرة العينين في بر الوالدين
بر الوالدين من أعظم الأعمال الصالحة بعد توحيد الله سبحانه وتعالى، وفي الشرع الحنيف من الآيات والأحاديث ما يدل على هذا الأمر وفضله، وفي قصص السلف أمثلة رائعة للبر بالوالدين، وفي الإسلام تتعدد صور البر وأشكاله للوالدين قبل الوفاة وبعدها، لكن تطل علينا في هذا العصر بعض التصرفات والصور المخالفة لبر الوالدين فتجد العقوق والإيذاء.
مواضيع كثيرة طرحها الشيخ في محاضرته هذه، إضافة إلى بعض الأحكام الفقهية التي يحتاج إليها كثير من الناس.(276/1)
بر الوالدين في القرآن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،، هذه المحاضرة عن بر الوالدين وهي بعنوان: (قرة العينين في بر الوالدين).
ولا شك أن قرة العينين في بر الوالدين فعلاً، كيف لا وقد جاءت الآيات والأحاديث تبين هذا، وسنتعرض إن شاء الله لهذا الموضوع في عدد من النقاط، منها: 1 - بر الوالدين في القرآن.
2 - بر الوالدين في السنة.
3 - بر الوالدين عند الصحابة والسلف.
4 - فوائد من بر الوالدين.
5 - صور البر وأشكاله قبل الوفاة وبعد الوفاة.
6 - إيذاء الوالدين وعقوبة العقوق.
7 - الموقف من الأب المشرك والأم الكافرة.
8 - الوالد الفاجر والوالدة العاصية.
9 - أحكام فقهية تتضمن: أ- حكم المال إذا أخذه الأب.
ب- الاستئذان في السفر.
جـ- قطع الصلاة لهما.
د- تعارض بر الأب مع بر الأم.
10 - ماذا يفعل الولد إذا أمراه بترك الواجبات أو فعل المحرمات أو الوقوع في المشتبهات؟ 11 - وأخيراً: الشباب والدعوة وبر الوالدين.
بين الله سبحانه وتعالى أهمية بر الوالدين، لما عطف الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك على بر الوالدين، فقال عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36]، وقال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23]، وقرن شكره بشكرهما، فقال الله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]، وبين الباعث على البر تهييجاً للنفوس، فقال عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14]، وامتدح الله عبده يحيى، فقال: {وَكَانَ تَقِيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً} [مريم:13 - 14]، وكذلك حدّث عيسى عن نفسه في المهد بأن الله عز وجل جعله مباركاً، فقال: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} [مريم:31 - 32].
وقال سبحانه وتعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] فيه بيان أن بر الوالدين أعظم من بر الأصحاب؛ لأن الله قال في الأصحاب: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215]، وقال في بر الوالدين: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24]، ولا شك أن خفض جناح الذل من الرحمة أبلغ من مجرد خفض الجناح.
ولذلك فإن هذه الآيات في سورة الإسراء: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] حتى هذه الكلمة اليسيرة التي تعبر عن الزجر لا تقلها، أو لا تقل أي عبارة تدل على الاستقذار والاحتقار، فأخذ الله علينا ألا نؤذي الآباء ولا الأمهات بأقل القليل ولا بكلمة (أف) {وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] فلا يزجرهما بكلام، ولا ننفض اليد في وجوههما بأي طريقة تؤذي: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23] فلا تسمِ وتقل: يا فلان، ولا تغلظ عليهما بالقول فضلاً عن السب والشتم، وإنما تناديهم بالقول اللطيف، قال ابن المسيب رحمه الله في قوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23] قال: هو قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ فكيف يكون حاله.(276/2)
بر الوالدين في السنة
أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع كثيرة، فقد بين النبي عليه الصلاة والسلام أن للجنة أبواباً، وأن أوسط أبواب الجنة هو طاعة الوالد، فقال عليه الصلاة والسلام: (الوالد أوسط أبواب الجنة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (رضا الرب من رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما) وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم على من يدرك والديه فلا يبرهما، فقال: (رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما، ثم لم يدخل الجنة)، وكذلك أمن على دعاء جبريل لما قال: (يا محمد! من أدرك أحد أبويه فمات فدخل النار فأبعده الله، قال: قل: آمين فقلت: آمين)، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الجنة تحت رجل الوالدة، فقال للصحابي: (الزم رجلها، فثمّ الجنة)، وقال: (الزمها؛ فإن الجنة تحت أقدامها) يعني: الوالدة.
وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الذي يخرج من بيته يسعى على والديه فإنه في سبيل الله، أجره مثل أجر الخارج في سبيل الله، كما في حديث كعب بن عجرة عند الطبراني وهو حديث صحيح، قال صلى الله عليه وسلم: (إن كان خرج يسعى على صبية صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله).(276/3)
بر الوالدين عند الصحابة والسلف
وأما سلفنا فإن الأنبياء قد ضربوا المثل وكذلك الصحابة والتابعين، فهذا نبي الله إسماعيل ابن نبي الله إبراهيم {فلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102] فلما أطاق الفعل والمساعدة، فرأى إبراهيم الرؤيا ورؤيا الأنبياء حق، صبر هو وأبوه، وصبر الولد على رؤيا الأب التي هي وحي، مع أن العلاقة بينهما كانت شديدة جداً، ألا ترى أنه قال في صحيح البخاري: (لما جاء إبراهيم ليرى إسماعيل بعد فترة طويلة من الغياب، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد)، وكذلك فإنه قد ساعده في بناء الكعبة وهو من أعظم الأفعال على مر التاريخ.
كذلك إسحاق مع إبراهيم، ويعقوب مع إسحاق، ويوسف مع يعقوب {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:34]، وكذلك لقمان مع ولده.
وكذلك الصحابة رضوان الله عليهم ضربوا الأمثال، فهذا ابن عمر وعمر وبره به معروف، وابن عمرو وعمرو بن العاص وبره به معروف، وهذه عائشة وأبوها، وجابر وأبوه، كل واحد من هؤلاء له قصص تدل على بره بأبيه، وقيس بن سعد بن عبادة وأبوه سعد بن عبادة، والحسن والحسين وأبوهما علي، ومحمد بن طلحة بن عبيد الله سمي بـ السجاد من كثرة عبادته هو وأبوه، والزبير وابنه عبد الله، وعبد الله بن عباس وأبوه العباس، وغيرهم من الصحابة آباء وأبناء كانوا بررة رضي الله تعالى عنهم.
وقد كان الصحابة يُفَدون النبي صلى الله عليه وسلم بآبائهم وأمهاتهم، دلالة على أن من أغلى الأشياء عندهم الآباء والأمهات.
وهؤلاء التابعون الذين ساروا على منوالهم، فهذا أويس القرني الذي حبسه اشتغاله بأمه وبره بها عن السفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ففاتته الصحبة، لكنه كان مقيماً على طاعة أمه وبره بها، وقد احتبس معها في اليمن قائماً عليها، وهو الذي مدحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (خير التابعين أويس) (يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم -الله عز وجل يذكره به حتى لا ينسى نعمة الله عليه- له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل) فطلب منه عمر أن يستغفر له، وطلب منه الناس، فلما أحس بذلك هرب منهم، رحمه الله تعالى.
وهذا ابن عمر كان باراً بأبيه بعد موته، أعطى حماره وعمامته لأعرابي كان أبوه صديقاً لـ عمر.
وأيضاً كان السلف من التابعين لهم مواقف، فهذا مسعر بن كدام رحمه الله كانت أمه عابدة، وكان يحمل لها لداً -شيئاً مثل البساط تصلي عليه- ويمشي معها حتى يدخلها المسجد، فيبسط لها اللد، فتقوم فتصلي ويتقدم إلى مقدمة المسجد فيصلي ثم يجلس، ويجتمع إليه من يريد فيحدثهم، كان من العلماء، لكن هذا العالم كان يأتي بأمه معه إلى المسجد، فيفرش لها السجادة تصلي ثم ينصرف إلى درسه، فإذا انتهى حمل لدها وانصرف معها.
وكان زين العابدين -من سادات التابعين- كثير البر بأمه، حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة؟ فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها.
وعبد الله بن عون نادته أمه من بعيد، فأجابها من بعيد، فعلى صوته صوتها -صار أرفع- فأعتق رقبتين.
وكان هؤلاء رحمهم الله يحتسبون الأجر في برهم لآبائهم وأمهاتهم، قال محمد بن المنكدر: بت أغمز رجل أمي، وبات عمي يصلي ليلته فما تسرني ليلته بليلتي، ولا أظن أني أستبدل عملي هذا ولو بقيام الليل.
وكان حيوة بن شريح وهو من كبار العلماء يجلس في حلقته يعلم الناس، فتقول له أمه: قم يا حيوة! فألقي الشعير للدجاج، فيقوم فيطعمهم، ثم يرجع.
وكان عروة بن الزبير يقول في سجوده: اللهم اغفر للزبير بن العوام وأسماء بنت أبي بكر.
وكان أبو يوسف الفقيه يقول: اللهم اغفر لأبوي ولـ أبي حنيفة.
وكان طلق بن حبيب يقبل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيته وهي تحته إجلالاً لها.
ودخل أحدهم مع أبيه السجن، فاحتاج الأب لماءٍ مسخن، فمنعه السجان من الحطب، فقام الولد إلى إناء، فأدناه من المصباح، فظل واقفاً حتى الصبح؛ كي يجهز لأبيه ماءً دافئاً.(276/4)
فوائد من بر الوالدين
أما عن فوائد بر الأبوين فإنها كثيرة ولا شك:(276/5)
من فوائد بر الوالدين: نيل مرضاة الله سبحانه وتعالى
على رأسها مرضاة الله سبحانه وتعالى، والدخول من ذلك الباب العظيم من أبواب الجنة وهو باب الوالد، وكذلك كسب بر الأبناء في المستقبل؛ لأن من بر بأبيه وأمه بر به أبناؤه.(276/6)
من فوائد بر الوالدين: إجابة الدعاء
ومن أعظم فوائد بر الوالدين: إجابة الدعاء، كما عنون الإمام البخاري في صحيحه: باب: إجابة دعاء من بر والديه، ثم ذكر حديث الثلاثة أصحاب الغار: (قال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران وامرأة، ولي صبية صغار أرعى عليهم، فإذا أرحت عليهم حلبت لهما، فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل صبيتي، وإنه نأى بي ذات يوم الشجر، فلم آتِ حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحِلال وقمت عند رءوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أسقي الصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي -يصيحون ويبكون من الجوع- فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة نرى منها السماء، ففرج الله منها فرجة فرأينا منها السماء).(276/7)
من فوائد بر الوالدين: كفارة عظيمة للذنوب
كذلك فإن بر الوالدين كفارة عظيمة للذنوب، عن ابن عمر: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني أصبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ قال: هل لك من أم؟ قال: لا.
قال: فهل لك من خالة؟ قال: نعم.
قال: فبرها) أخرجه الترمذي ورجاله ثقات.
وكذلك جاء عند البخاري في الأدب المفرد وإسناده صحيح على شرط الشيخين: [أن ابن عباس أتاه رجل، فقال: إني خطبت امرأة، فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري، فأحبت أن تنكحه، فغرت عليها فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: أأمك حية؟ قال: لا.
قال: تب إلى الله عز وجل، وتقرب إليه ما استطعت، فذهب الرجل، فسألت ابن عباس: لم سألته عن حياة أمه؟ فقال: إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة] هذا قاتل.
وكذلك جاء عن عائشة في قصة المرأة التي عملت السحر في دومة الجندل، وقدمت المدينة تسأل عن توبتها، تقول عائشة: [فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم] لأنها جاءت على وقت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت تستفتي عن الكفارة، تقول عائشة: [لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها -أي: بالجواب- حتى إني لأرحمها تبكي، فروت قصة السحر وهي تقول لـ عائشة: إني لأخاف أن أكون هلكت، سُقِطَ في يدي وندمت، والله يا أم المؤمنين! ما فعلت شيئاً قط ولا أفعله أبداً، فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يومئذٍ متواترون، فما دروا ماذا يقولون لها، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلم، إلا أنهم قالوا: لو كان أبواك حيين أو أحدهما لكانا يكفيانك] وجوّد ابن كثير إسناده عند ابن أبي حاتم.(276/8)
صور بر الوالدين وأشكاله
وأما صور البر وأشكاله فإننا معشر المسلمين نبر بآبائنا وأمهاتنا دائماً هكذا يجب علينا، أما الكفرة فإنهم قد اخترعوا عيداً بدعياً محرماً هو عيد الأم، ويقدمون فيه لأمهاتهم علبة من الحلوى أو هدية يوماً في السنة، ثم يهجرونها ويعصونها في سائر الأيام، وليس عندنا ولله الحمد عيداً يسمى عيد الأم، وإنما نحن نبر بالأم طيلة العام وكل أيام السنة ولا نحتاج إلى عيد.
وصور البر وأشكاله كثيرة، فمن ذلك:(276/9)
صور بر الوالدين قبل وفاتهما
إحسان القول الذي يدل على الرفق والمحبة، وتجنب غليظ القول، وعدم رفع الصوت فضلاً عن ترك السباب والشتائم، والمناداة بأحب الألفاظ إليهما، ولا يناديهما باسمهما، يقول: يا فلان أو يا فلانة، بل يقول: يا أبي! يا أبت! يا أمي! وكذلك تعليمهما ما يحتاجان من أمور دينهما ودنياهما، وطاعتهما فيما يأمرانه به، فإن كان ما أمراه به واجباً؛ فإنه يزداد وجوباً، وإن كان مستحباً؛ يصير واجباً، وكذلك إن كان مباحاً في الشريعة؛ لا يحصل فيه ضرر واجب؛ فعليه أن يطيعهما، ولا يحاذيهما في المشي بل يتأخر عنهما إلا في حالة الظلام وخشية الأذى، فإنه يمشي أمامهما؛ ليستكشف الطريق، ويستأذن عند الدخول وعند الخروج وعند الجلوس.
وعندما يطعنان في السن ويكبران؛ ينبغي أن يزداد الرفق بهما لحاجتهما إلى المساعدة، وكم من عائلة فيها أب كبير أو أم مشلولة تحتاج إلى تغيير، ويحتاج الأب إلى إزالة نجاسة ونحو ذلك، فعند ذلك لا يثبت على هذه الخدمة إلا من عصم الله قلبه وثبته؛ لأن كثيراً من الناس يأنفون ويتأففون، وهي قد كانت تزيل الأذى والنجاسة عنك وأنت صغير وهي فرحانة، وأنت لو أزلت النجاسة عنها وهي كبيرة فإنك تزيله وأنت قرفان، فشتان شتان بينها وبينك.
وكذلك لا يحد النظر إليهما، ما بر بأبويه من أحد النظر إليهما، وأن يكون عندهما خاشعاً ذليلاً، وكذلك يستأذنهما في السفر، ويقوم لهما لو دخلا عليه، ويقبل اليد والرأس ويدعو لهما حيين وميتين، وكما قال الله عز وجل {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24]، وكما قال نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28].
وينبغي عليه أن يسعى في إرضائهما وأن يتحمل المشاق في ذلك، وأن يجاهد نفسه، فقد روى البخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح، عن أبي بردة قال: [سمعت أبي يحدث أن ابن عمر شهد رجلاً يمانياً يطوف بالبيت؛ يحمل أمه وراء ظهره، يقول: إني لها بعيرها المذلل، إن أذعر ركابها لم أذعر، ثم قال لـ ابن عمر: أتراني جزيتها؟ قال: لا.
ولا بزفرة واحدة]، وفي رواية: [شهد ابن عمر رجلاً يمانياً يطوف بالبيت حمل أمه وراء ظهره، يقول: إني لها بعيرها المذلل، إن أذعرت ركابها لم أذعر، الله ربي ذو الجلال الأكبر، حملت أكثر مما حملت، فهل ترى أني جازيتها يا بن عمر؟ قال: لا.
ولا بزفرة واحدة]، وفي رواية: [لا.
ولا بطلقة واحدة، ولكن أحسنت، والله يثيبك على القليل كثيراً].
فهذه آلام الطلق التي تعرضت لها الأم من يجازيها عليه.
وكان هناك رجلان من الصالحين في الطواف فإذا أعرابي معه أمه يحملها على ظهره ويرتجز، ويقول:
أنا لا أزال مطيها لا أنفر وما حملتني ووضعتني أكثر
وإذا الركائب ذعرت لا أذعر
لبيك اللهم لبيك فقال أحدهما: نرمي وندخل في الطواف لعل الرحمة تنزل فتعمنا.
وقال أبو بكر رحمه الله في زاد المسافر: من أغضب والديه وأبكاهما فيجب عليه أن يرجع فيضحكهما كما أبكاهما، وذلك لحديث عبد الله بن عمرو قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه، فقال: جئت لأبايعك على الجهاد وتركت أبوي يبكيان، قال: ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما).
ولأجل هذا أيضاً في قصة كلاب المشهورة وهو ولد أمية بن أشكر، وهذا رجل أدرك الجاهلية والإسلام، وابنه كلاب من وجهاء وسادات المسلمين، وقد استعمل عمر رضي الله عنه كلاباً على أيلة، وكان قد خرج مع المسلمين في الجيش، وصار أميراً على أيلة لـ عمر، فاشتاق الأب لـ كلاب يوماً من الأيام، فقال:
لمن شيخان قد نشدا كلاباً كتاب الله لو عقل الكتابا
يناديني فيعرض في إباءٍ فلا وأبي كلاب ما أصابا
إذا سجعت حمامة ببطن وادٍ إلى بيضاتها أدعو كلابا
تركت أباك مرعشة يداه وأمك ما تسيغ لها شرابا
فإنك والتماس الأجر بعدي كباغي الماء يلتمس السرابا
ثم سمع عمر بالقصة فاستنشد الشعر منه، فأنشده له، فرق للأب، وأنفذ خلف كلاب أن يقبل، فقدم ووصف بره لأبيه، وأنه كان يحلب له في الإبل، وكان الأب غير موجود، فقال له عمر: احلب لبناً، فحلبه الولد، وحضر أمية وكان لا يرى الولد، فسقاه عمر من الإناء الذي حلبه ولده في غيبته وهو لا يراه، فقال الأب: إني لأشم رائحة يدي كلاب، فبكى عمر، وقال: هذا كلاب، فضمه إليه.
وقال عمر: جاهد في أبويك.
قال ابن عبد البر: هذا الخبر صحيح.
وبر الوالدين مراتب، وقد ضرب بعض العلماء مثلاً، قال: لو أن الولد أحضر في بيته طعاماً مستلذاًَ يشتهيه وأبوه غائب، فأرسل الولد خلف أبيه يدعوه إلى الطعام؛ كان براً شاكراً، ولو أرسل خلفه دابته لكي يأتي الأب عليها، كان في الشكر منه أدخل، ولو ذهب خلفه بنفسه كان في البر أجزل، فإن أمر الغلام بطرح الماء على يديه ليغسل فقد بره وشكره، وإن كان بنفسه طرح الماء على يده ليغسل الأب كان أبر وأشكر وهكذا.
صحيح أن الولد قد لا يأثم بإهمال هذه الأشياء مثلاً، لكن الذي يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب.(276/10)
صور بر الوالدين بعد وفاتهما
وأما بعد الوفاة فإن ما يمكن عمله للأب والأم كثير جداً، ومن أهم ذلك: الاستغفار والدعاء، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل لترفع درجته في الجنة، فيقول: أنى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك) رواه أحمد وغيره وهو حديث صحيح.
فتأمل ربما تكون أنت سبباً في رفع درجة أبيك في الجنة.
وكذلك الصدقة، فعن ابن عباس رضي الله عنها، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمي توفيت، أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم.
قال: فإن لي مخرفاً -فستان- فأنا أشهدك أني قد تصدقت به عنها) وعن عائشة رضي الله عنها، (أن رجلاً قال: إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها ولي أجر؟ فقال: نعم.
فتصدق عنها) رواهما البخاري، وبوب للأخير باب: ما يستحب لمن توفي فجأة أن يتصدقوا عنه، طبعاً هذا بالإضافة إلى إنفاذ الوصية وإحسان التجهيز والكفن والصلاة والدفن والدعاء، والحج عنه إذا لم يحج والعمرة عنه إذا لم يعتمر، وحتى لو حج واعتمر؛ فإنه يشرع له أن يحج عنه ويعتمر، ولا بأس بذلك.
وبالإضافة إلى ذلك يقضي دينه، وهذا من أعظم ما يقدمه الأبناء نحو آبائهم وأمهاتهم، أن يبادروا إلى قضاء ديونهم.
ومن الأمور كذلك: صلة أصدقاء الأبوين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد وفاة الأب)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده)، فإذا أردت صلة لأبيك المتوفى فصل أقرباءه أو صل أصحابه وأصدقاءه بعد موت الأب، زرهم وتفقدهم ولو بهدية.
وعن أبي بردة قال: (قدمت المدينة، فأتاني عبد الله بن عمر فقال: أتدري لم أتيتك؟ قلت: لا.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده، وإنه كان بين أبي عمر وأبيك إخاء وود، فأحببت أن أصل ذلك) حديث صحيح.
وهذا أمر يكاد أن يكون مفقوداً؛ لأن الشباب والأولاد يصلون ويزورون أقرانهم، وينسون أصحاب الأب وأقرباءه، وكذلك صاحبات الأم يمكن أن يتفقدها بهدية، أو إرسال سلام ونحوه.(276/11)
إيذاء الوالدين وعقوبة العقوق
أما عقوق الوالدين فهو شنيع شنيع شنيع، وإيذاء الوالدين من أعظم الكبائر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من لعن والديه) ولو بطريق غير مباشر؛ كأن يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه، فيكون هو المتسبب في إعادة اللعنة والسب على أبيه وأمه؛ لأنه عندما سب أبوي الآخر أخذت الآخر العزة بالإثم فسب أبويه، فهذا الساب أعاد السب على أبويه بسببه هو.
وبعض الناس لا يكتفي بالعقوق أو معصية الأبوين، وإنما يجاهر بالسوء والفحشاء، فيقنط ويقهر أبويه، ويرفع الصوت ويتأفف، ويقول لأحدهما: أراحنا الله منك، وأخذ بعمرك، وعجل بزوالك يا شيبة النحس! ويا عجوز الويل! وحاله وحال أبيه كما قال الشاعر:
أريد حياته ويريد موتي
وربما يصل العقوق إلى درجة أن يتمنى الوالد أنه لم يلد له هذا الولد، وربما لو كان عقيماً كان أحسن، وقد ينهب بعضهم مال أبيه، وربما طرد أباه من البيت، ويمنع عنه النفقة، وقد يلطمه، وقد يحجر عليه، وقد يقول لأبيه: قد أخذت حقك، واستوفيت أجلك، وسئمتك الحياة، وملَّك الزمان، يا ليتك تموت ولم تحمل.
قال الحسن: انتهت القطيعة إلى أن يجابي الرجل أباه عند السلاطين.
أي: يخاصمه في المحاكم، وخصوصاً إذا كان بغير حق، وهذا العقوق لو صادف دعوة من الأب أو من الأم على الولد فإن دعاء الأب على ولده ودعاء الأم على ولدها مستجاب، ما بينها إلا مسافة تقطع في لمح البصر، تصعد دعوة المظلوم إذا كان أباً أو أماً إلى السماء، فيجيب الله عز وجل.
ذكر أن شاباً كان مكباً على اللهو واللعب لا ينفك عنه، وكان له والد صاحب دين، كثيراً ما يعظ هذا الابن، ويقول له: يا بني! احذر هفوات الشباب وعثراتهم، فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد، وكان إذا ألح عليه زاد له في العقوق، وجار على أبيه، ولما كان يوم من الأيام؛ ألح على ابنه في النصح على عادته، فمد الولد يده على أبيه، فحلف الأب بالله مجتهداً ليأتين بيت الله الحرام فيتعلق بأستار الكعبة ويدعو على ولده، فخرج حتى انتهى إلى البيت الحرام، فتعلق بأستار الكعبة وأنشأ يقول:
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا عرض البسيطة من قرب ومن بعد
إني أتيتك يا من لا يخيب من يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد
هذا منازل لا يرتد من عقق فخذ بحقي يا رحمان من ولدي
وشل منه بحول منك جانبه يا من تقدس لم يولد ولم يلد
فقيل: إنه ما استتم كلامه حتى يبس شق ولده الأيمن: (ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الوالد على ولده) (ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد لولده) حديثان صحيحان، فيستجاب دعاء الأب والأم على الولد أو للولد، فكن باراً تنل دعوة مستجابة، ولا تكن عاقاً فتنل دعوة عليك مستجابة، والذي يعق والديه لا شك أنه لا يقدر ما حصل منهما تجاهه، وليس عنده عرفان ولا شكر جميل ولا اعتراف بالنعمة، كما قال أحد الآباء معبراً في عتاب ولده:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أحنو علي وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهراً أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيناي تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنني لأعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
ليتك فعلت مثل الجار، لو كان يدري الابن أية غصة قد جرعت، هذا لو أن إنساناً فارق أباه وذهب عنه.
بعض الأبناء والأولاد لا يقدرون مشاعر الأبوين إذا سافر الولد، مع أنه يعتري نفوسهما كثير من الأثر النفسي؛ لأن الولد له فنون وأصدقاء وعالم آخر، فهو يذهب ويسافر ولا يفكر في استئذان أبويه:
لو كان يدري الابن أية غصة قد جرعت أبويه بعد فراقه
أم تهم بوجده حيرانة وأب يسح الدمع من آماقه
يتجرعان لبيِّنه غصص الردى ويبوح ما كتماه من أشواقه
ذرفا لأم سل من أحشائها وبكى الشيخ هام في آفاقه
ولبدل الخلق الأبي بعطفه وجزاهما بالعدل من أخلاقه
ونحن الآن مع قرب قيام الساعة زيادة في عقوق الأبناء لآبائهم، فيقدم رجل زوجته على أبيه وأمه، ويبر صديقه ويجفو أباه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولكن اعلموا أن هذه المسألة دين ووفاء، وأن من عق أباه وأمه أرسل الله عليه من أبنائه من يعقه ويعاقبه، كما ذكر أن عاقاً كان يجر أباه برجله إلى الباب، فعاقبه الله بأن كان له ولد يجره برجله إلى الشارع، فيقول الأب: حسبك! ما كنت أجر أبي إلا إلى الباب، فيقول الولد: هذه الزيادة صدقة مني عليك.
وبعضهم يتكبر على أبويه خصوصاً إذا كان صاحب شهادة علمية أو جامعية، والأب فلَّاح أو فقير أو عامي أو أمي ومثل ذلك، ولما جاء رجل من الخارج معه شهادة عليا وجاءه أصحابه يزورونه في البيت في بلده، وكان أبوه مزارعاً فقيراً، وهيئته هيئة فلاح فقير، فلما دخلوا عليه في البيت خجل أن يقول لهم هذا القروي هذا أبي، فقال: هذا خادم عندي.
وهذا إنسان -هذه قصص واقعية- أخذ من أمه عشرين ألفاً لم يرجعها، والثاني أخذ اثنا عشر ألفاً ولم يرجعها، فلما طالبت الأول قال: أنتِ سكنتِ في البيت عندي ثلاث سنوات تأكلين وتشربين، اعتبري العشرين ألفاً هذه إيجار ثلاث سنوات ونفقة الأكل والشرب.
وهذه بنت تطلب منها أمها نقوداً، تقول: لا أعطيك، ولو سألتيني مرة ثانية لا أدخل بيتك.
ولذلك يروى في الأمثال ما يقارب القصص والأخبار أشياء من الأمور المعبرة: هذا رجل متزوج قالت له زوجته: لا بد أن تذهب بأبيك خارج البيت، لا نستطيع أن نتحمل هذا الطاعن في السن هذا أخلاقه لزقة هذا وهذا، لا بد أن تخرجه، فهمّ أن يخرج به إلى كهف ومغارة ويضعه هناك، فأخذ الزوج أباه الطاعن في السن، وفي الطريق قال الأب لابنه: أتطرحني في الكهف وهناك برد، هلَّا أتيت لي بلحاف، وكان لهذا الابن ابن وهو حفيد الجد المأخوذ إلى الغار، فقال الأب لولده الصغير: اذهب وهات لحافاً لجدك، وكان هذا الولد الصغير ذكياً، فذهب وجاء بنصف لحاف، فأعطاه لأبيه، وقال: هذا لجدي الذي طلبت، فقال: هذا نصف لحاف، فأين النصف الآخر؟ قال: خبأته لك يا أبي.
وهؤلاء المتزوجون لا يحترمون أمهاتهم في كثير من الحالات، فتراه يبتعد عن أمه، مع أنه قد لا يكون له حاجة للذهاب، وإذا سألته: إلى أين تذهب؟ قال: مالكِ؟ ماذا تريدين؟ ونهرها، ولا يأتيها ولا يسألها ولا يقول: ماذا في خاطرك؟ وماذا تريدين؟ ولا يبدي استعداده لعمل الأشياء لها.
هؤلاء الذين يخرجون من البيوت ينشغلون بزوجاتهم، ويبتعدون عن آبائهم وأمهاتهم وتحس الأم بفراغ كبير من جهة ولدها، وتحس بأن الزوجة قد أخذت ولدها عليها بالكلية، وهذا يسبب الغيرة بين الأم وزوجة الابن.
ومجتمعنا فيه آفات وشرور كثيرة، وبعد الناس عن الدين سبب مآسٍ، تقول إحدى الأمهات: إني أصيح عند ربي، وربما يصل الحال بي من عقوق ولدي أن أدعو على نفسي وعلى بطني الذي حمله وعلى الثدي الذي أرضعه، قالوا لي: اشتكي عند الجهات الرسمية يسحبون جوازه، وأنا لا أريد لولدي الفضيحة، لكن لا يسأل عني وراتبه كبير، وبالشحاذة أخرج منه بمائة ومائتين، وإذا كلمته عن السفر إلى الخارج للعلاج، قال: أنت رجعية.
تقول: جلست في المستشفى ثمانية أيام لم يسأل عني إلا مرة، ويكذب علي، تقول: أنا يمكن أقف أمام الله وأصيح وأطلب ربي وأدعو عليه دعوة لا يردها الله، لكن لا أريد الضرر لولدي ولا الأذية، وعنده زملاء في العمل عندهم عوائل يسافرون إلى الخارج، أمه تقول: انظر إلى أقربائك المستقيمين يقول: لا تقولي: انظر إلى فلان وفلان، كل واحد له طبيعته، تقول: تعبت عليه وربيته وهو الآن يغلق الباب ويمشي إذا ما أعجبه الكلام.
وهذه تقول: ولدها لا يصلي ويسكر، ويرفع يده على أمه وهي ربته وتعبت عليه، وهو يتيم وأنفقت عليه ولا يعطيها قرش واحد، ويصرف راتبه على أصحاب السوء وفي المخدرات.
وبعضهم لا يكون عنده لطافة ولا حسن أدب حتى في الاتصال بأهله، فيجعل زوجته تذهب إلى بيت أبيه وتزورهم بالنيابة عنه، وتتصل عليهم بالهاتف، وتقول: خذ كلم أباك.
لا نريد -يا أيها الإخوة- أن نكون مثل الكفار الذين اشتدت عندهم المآسي من هذا النوع، وتقرأ: هذه قتلت أباها، وهذه طعنت أمها عدة طعنات، حتى ظنت أنها ماتت وأخذت النقود وهربت مع عشيقها، أولئك الكفرة وضعوا آباءهم وأمهاتهم في مصحات ودور الرعاية، حتى صار الحال أن يفتخر الأب أمام الآباء الآخرين في دار الرعاية أن ابنه يزوره مرة في الشهر، وأنه إذا ما استطاع أن يزوره مرة في الشهر يتصل به هاتفياً.
وذلك الذي رضي بعد التوسل أن يبقي أمه عنده شريطة أن تعمل في كنس البيت والزبالة وجلب الأغراض للمنزل، ويعطيها أجرة مقابل خدمة السكن.
وأنتم تسمعون عن الجرائم الكثيرة التي تحصل، ومنها: من قتل أمه واستعمل سكيناً، أو استعمل قالباً من الأسمنت، وتعاون على قتلها هو وزوجته، وغير ذلك من القصص في الواقع؛ لأننا نحن نقلد الكفرة ونسير وراءهم حذو القذة بالقذة، وينبغي أن ينتبه حتى الشباب المتدين إلى برهم بآبائهم وأمهاتهم، فبعضهم يستخدم الشدة في الكلام، وصفق الأبواب، ورفض الخدمة وجلب الأغراض، فضلاً عن أولاد السوء الذين يعملون أكثر من هذا بكثير كما ذكرنا.
وبعض الأولاد يقاطعون آباءهم لأمورٍ دنيوية، فإذا رفض الأب أن يشتري له سيارة فإنه يقاطعه ولا يكلمه.(276/12)
الموقف من الأب المشرك والأم الكافرة
أما بالنسبة للموقف من الأب المشرك، فإن الآيات والنصوص قد جاءت في تبيان هذا، وعلى رأس الأمثلة فصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [مريم:41 - 45] بالرغم من صلافة الأب وشدته، قال: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [مريم:46] بالرغم من هذا كان موقف الابن إبراهيم عليه السلام في غاية اللطافة {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم:47] وهذا إبراهيم اهتم بأبيه وتلطف معه في الخطاب وهو كافر، وهو يقول: يا أبت! في غاية التأدب، ولم يقل له: أنا أعلم منك، وأنت جاهل وأنا عالم، وإنما قال: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم:43] وهو النبوة.
وكذلك بيَّن له بالحجة والدليل، ولم يقل: افعل ولا تسأل: لماذا؟ {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:42] وهو يبدي شفقته على أبيه في أثناء الخطاب والدعوة، ويقول: ((يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ)) [مريم:45] فتأمل في هذا الخطاب ما أحسنه! وما ألطفه! مع كون الأب كافر من أعداء إبراهيم.
وهذه قاعدة المعاملة قد جاءت بها النصوص الشرعية عندما قال الله عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [لقمان:15] أي: ليس فقط إذا كان كافراً أو مشركاً، وإنما حتى لو أمرك بالشرك ماذا تفعل؟ {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] لأن طاعة الله مقدمة {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] مع أنهما يأمران بالشرك ويأمران بالكفر.
وفي صحيح مسلم، عن مصعب بن سعد، عن أبيه، أنه نزلت فيه آيات من القرآن، قال: (حلفت أم سعد ألا تكلمه أبداً حتى يكفر بدينه ولا تأكل ولا تشرب، قالت: زعمت أن الله أوصاك -انظر إلى الحرب النفسية من الأم المشركة لولدها المسلم- بوالديك وأنا أمك وأنا آمرك بهذا، قال: فمكثت ثلاثاً حتى غشي عليها من الجهد، فقام ابن لها يقال له عمارة فسقاها، فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية) وكانت تريد أن يعير بها، فيقال: يا قاتل أمه! بقيت لا تأكل ولا تشرب، لكنه بيّن ثباته على العقيدة، وأنه لن يتزحزح عن دينه.
وكذلك من الأصول الشرعية في معاملة الوالدين إذا كانا على الكفر قول الله عز وجل: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8].
ولذلك جاء في صحيح البخاري، عن أسماء قالت: (قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم، إذ عاهد النبي صلى الله عليه وسلم مع أبيها، فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة في صلتي -راغبة في زيارتي أن أكرمها- وهي مشركة، أفأصلها؟ قال: نعم.
صِلي أمك) لا يمنع ذلك، فالوالدان لهما أحكام واستثناءات خاصة.
وقال ابن جرير رحمه الله: بر المؤمنين للكافرين للقرابة لا يحرم؛ إذا لم يكن فيه التقوية على الحرب بكراع أو سلاح، أو دلالة على عورة أهل الإسلام لحديث أسماء، فهذا هو الموقف من الأب والأم الكافرين والمشركين.(276/13)
الموقف من الوالد الفاجر والوالدة العاصية
إذا كان الأبوان فاجرين أو فاسقين -قد يوجد للإنسان أب فاسق أو أم فاجرة ونحو ذلك- فعليه أن يدعوهما إلى الله ويأمرهما بالمعروف وينهاهما عن المنكر.
قال الإمام أحمد: يأمر أبويه بالمعروف وينهاهما عن المنكر، إذا رأى على أبيه أمراً يكرهه يعلمه بغير عنف ولا إساءة، ولا يغلظ له بكلام وإلا تركه، وليس الأب كالأجنبي، وقال: إذا كان أبواه يبيعان الخمر؛ لم يأكل من طعامهم ويخرج عنهم.
وسأل رجل أبا عبد الله: إن أباه له كروم -بساتين عنب- يريد أن يعاونه على بيعها؟ قال: إن علمت أنه يبيعها ممن يعصرها خمراً فلا تعاونه.
إذاً: الأب والأم إذا كانا فاجرين فاسقين عاصيين، لا يعينهما الولد في المعصية، وأحياناً يصل الأمر ببعض الحالات أن يكون الأمر في غاية الوقاحة، وهذه قصة واقعية: بنت اكتشفت أن أمها -والعياذ بالله- تفعل الفاحشة، فنبهتها ووعظتها، والأم تقول: لا تغضبيني، وتؤلف من عندها كلاماً تقول: الأم إذا كانت زانية، تغسلها بنتها من جنابة الزنا -أي: إنه يجب عليكِ أن تبري- فعليها أن تعظها وتذكرها بالله وتبين لها بالأدلة.
والآن الفساد في المجتمع له حالات كثيرة، فتجد فسق الأبوين مع صلاح الأولاد، فتداخلت الأمور والأشياء، واختلف الأمر عما كان في الزمان الأول، والهداية إذا شملت كثيراً من الشباب والحمد لله فإنه قد ينتج أنه يكون هناك مفارقات في البيت، فينبغي أن يكون الموقف حكيماً والتبيان حاصل، ولو استدعى الأمر واستعان بأقرباء أو التنبيه؛ لأنه قد يكون واجباً تبليغ زوج هذه المرأة بحالها حتى يقوم عليها، فعند ذلك يبلغ ولا يعتبر من العقوق.(276/14)
بعض المسائل الفقهية المتعلقة ببر الوالدين
أما بالنسبة لبعض المسائل الفقهية المتعلقة بالبر فهي كالتالي:(276/15)
حكم المال إذا أخذه الأب
أولاً: يجوز للأبوين أن يأخذا من مال ولدهما ما شاءا، بشرط ألا يضرا بالولد وألا يعطيا المال لولد آخر، كأن يأخذا بيته الذي هو سكنه، ويأخذا ثوبه الذي هو ملبسه، ويأخذا مركبه الذي يركبه ويبقى بدون شيء، لا مال ولا بيت ولا سكن ولا دابة، فهذا لا يمكن، لكن ما زاد عن حاجة الولد ومصاريف عائلته وأولاده ونفقته، فيجوز للأبوين أن يأخذا منه ما شاءا.
بل إن الشريعة قد جعلت (أنت ومالك لأبيك) هو السبب في وجودك، فصار مالك ملكاً له: (أنت ومالك لأبيك) وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن من أطيب ما أكل الوالد من كسب ولده؛ لأن ولده من كسبه.
فإذاً: يشترط ألا يضراه وألَّا يأخذا من ولد فيعطيا ولداً آخر.
وتجب النفقة للأبوين المحتاجين شرعاً، والأم إذا كانت متزوجة من رجل آخر فإن زوجها ينفق عليها، لكن لو احتاجت فيجب على الولد أن ينفق على أمه إذا لم تجد طريقاً.
ولا يحق للولد أن يمنع أمه من الزواج ما دامت ترغب في ذلك وهو متيسر، ويبلغ العقوق ببعضهم أن يعير أمه بالنكاح إذا تزوجت، أو البنت تقول: تزوجت على أبي وأنت فيك كذا وكذا، هذا حرام عليها ولا يجوز.(276/16)
استئذان الوالدين في الهجرة والجهاد
ومن الأحكام أنه يجب استئذانهما في الهجرة، جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: (جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبواي يبكيان، فقال: ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما).
ويجب استئذانهما في الجهاد كما ثبت عند أبي داود: (أن رجلاً هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن، فقال: هل لك أحد في اليمن؟ قال: أبواي، قال: هل أذنا لك؟ قال: لا.
قال: فارجع فاستئذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما) وهذا إذا لم يكن الجهاد فرض عين، وكان النفير عاماً، فإن كان النفير عاماً؛ فإنهما لا يطاعان في الجلوس.
وينبغي أن يعلم أن الجهاد قد يكون فرض عين، وطاعة الوالدين فرض عين كذلك، فلا يجب نسيان فروض الأعيان الأخرى والاحتجاج بأن هناك فرض عين، علماً أنه في كثير من الحالات يكون المستند الشرعي في إيجاب الجهاد على شخص بعينه غير وارد بأمور تتعلق بحال المسلمين، فإنه لا يجوز للمسلمين إعلان الجهاد إذا لم يكونوا على استعداد، وليست المسألة إلقاء المسلمين كالشياة لتذبح، وإنما إذا صارت المسألة مسألة دفاع عن النفس فإن المسلم يدافع عن نفسه، فالمسلم إذا دوهم في بيته أو عرضه وماله؛ يباح له أن يقاتل ويرفع السلاح ويدافع عن نفسه، ويجب على المسلمين دعمه وتقديم كل أشكال المساعدة الحربية والمالية والاقتصادية والمعنوية والدعوة والتعليم ونحو ذلك.
وقال الإمام أحمد في الرجل يغزو وله والدة، قال: إذا أذنت له وكان له من يقوم بأمرها يجوز له أن يجاهد.
وقال في رواية أبي داود: يظهر سرورها.
قال: هي تأذن لي.
قال أحمد: إن أذنت لك من غير أن يكون في قلبها، وإلا فلا تذهب.
قال الإمام أحمد: ينبغي أن تكون راضية قلبياً مطمئنة ومقتنعة، وجاء كلام المفسرين في أصحاب الأعراف أن منهم أناساً غزوا بغير إذن والديهم ولا رضا الوالدين فقتلوا، فمنعهم القتل في سبيل الله من دخول النار، ومنعهم عصيانهم لآبائهم دخولهم الجنة، فهم على جبل بين الجنة والنار.(276/17)
استئذان الوالدين عند السفر
السفر لطلب الرزق والمعيشة وسؤال يرد من الكثيرين، يقول: إنني وجدت عقد عمل في بلد آخر، وأريد أن أسافر لكسب الرزق، فماذا أفعل وأبواي في البلد عندي؟ نقول أولاً: إذا كان عندك مجال لطلب الرزق في بلدك بما يكفيك، فبقاؤك عندهما واجب البر بهما، وإذا كان لا مجال عندك والحالة ضيقة وأنت محتاج ولا بد أن تذهب إلى بلد آخر؛ فإنك تترفق وتستأذن بالكلام الطيب، حتى تستغني فترجع إليهما.
وكذلك السفر لطلب العلم، فإنه يستأذن والديه، فقد روي أن الفقيه نصر بن أبي حافظ المقدسي لما رحل من بيت المقدس لطلب العلم إلى الفقيه الكازروني من أرض العراق، قال له الكازروني لما قدم عليه: ألك والدة؟ قال: نعم.
قال: فهل استأذنتها؟ قال: لا.
قال: فوالله لا أقرأتك كلمة حتى ترجع إليها، فتخرج من سخطها، قال: فرجعت إليها، فأقمت معها إلى أن ماتت، ثم رحلت في طلب العلم.
وأما إن كان لتحصيل علم يحتاج إليه، فإنه لا بأس له بالسفر، مثل: أن ينوي طلب العلم، ولا يجد مجالاً إلا في الدراسة في كلية شرعية في خارج البلد ولا مجال لطلب العلم في بلده، والعلم الذي يريد طلبه يحتاجه أو يحتاجه البلد، فإنه يخرج ولو بغير إذنهما، مع غاية التلطف وتكرار المزاورة والإقامة عندهما ما أمكن ذلك.(276/18)
حكم قطع صلاة النافلة للوالدين
ومن المسائل الفقهية التي تكلم عنها العلماء في بر الوالدين، قطع صلاة النافلة من أجلهما عند النداء إذا خشي الغضب، واستدلوا بحديث جريج: (كان رجل في بني إسرائيل تاجراً، وكان ينقص مرة ويزيد أخرى، فقال: ما في هذه التجارة خير، لألتمسن تجارة هي خير من هذه، فبنى صومعته وترهب فيها، وكان جريج يصلي، فجاءته أمه فدعته -وفي رواية- كان جريج يتعبد في صومعته، فأتته أمه ذات يوم، فنادته: أي جريج! أشرف عليَّ أكلمك أنا أمك، وكان يصلي، فقال: أجيبها أو أصلي؟ -وفي رواية- فصادفته يصلي، فوضعت يدها على حاجبها - جريج في الصومعة- فقالت: يا جريج! فقال: يا رب! أمي أو صلاتي، فاختار صلاته ثلاث مرات، ترجع فتأتيه، فغضبت، ومن شدة الغضب قالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات -وفي رواية- فغضبت فقالت: أبيت أن نطلع إلى وجهك، لا أماتك الله حتى تنظر في وجهك زواني المدينة).
فحصلت بعد ذلك القصة المعروفة من هذه المرأة التي زنت بالراعي واتهمت جريجاً، وجاء بنو إسرائيل فكسروا صومعته وضربوه، ثم توضأ وصلى ركعتين ثم دعا الله سبحانه وتعالى وجاء للغلام، فقال: من أبوك؟ قال: الراعي، فبعد ذلك عرفوا شأنه، وسبح الناس وعجبوا، وأرادوا أن يعيدوا بناء الصومعة من الذهب، فقال: أعيدوها طيناً كما كانت.
فالمهم أنه إذا ناداك أحد الأبوين وأنت تصلي صلاة النافلة، فإن كنت تعلم أنك لو ما أجبت الآن يغضبان عليك فعليك أن تقطع صلاة النافلة وتجيب، وإن كانت فريضة تخفف الصلاة.(276/19)
تعارض بر الأب مع بر الأم
إذا تعارض بر الأب مع بر الأم، فنحن نعلم أن طاعة الزوج مقدمة على طاعة الأبوين بالنسبة للمرأة إذا تزوجت، لكن بالنسبة للأحوال الأخرى إذا تعارضت طاعة الأب مع طاعة الأم، نظرنا: إن كان أحدهما يأمر بطاعة والآخر يأمر بمعصية؛ قدمنا صاحب الطاعة، وإن تعارض أمرهما وكلاهما يأمران بمعصية؛ عصيناهما كليهما، مثل أن يقول الأب: لا تكلم أمك، وتقول الأم: لا تكلم أباك، كل منهما يأمر بمعصية، وكل منهما يأمر بأمرٍ فيه خلاف لأمر الآخر، فما هو الحل؟ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وكذلك لو قال لك أبوك مثلاً: لا تكلم خالك أو عمك، أو قالت لك أمك: لا تكلم خالتك، ماذا تفعل؟ تكلم خالتك سراً وتكلم عمك سراً، فتصل الرحم ولا تعصيها في ظاهر الأمر، أي: يسهل عليك ألا تغضبها.
وإذا تعارضا تعارضاً ليس فيه معصية، لكن لم تستطع أن تصلهما جميعاً مثل الإنفاق، ما عندك إلا مال قليل لا يكفي إلا لواحد منهما، فالأم مقدمة على الأب في البر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بها ثلاثاً ويحاول التوفيق ما أمكنه.
كذلك إذا كان كل واحد منهما أمراه بأمرٍ في نفس الوقت، فإنه يحاول التوفيق ما أمكنه ذلك بكل طريقة يفرغ وسعه وجهده لهذا الأمر، كما قال رجل لـ مالك: والدي في السودان كتب لي أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من الذهاب، تقول: ابق عندي، فقال الإمام مالك: أطع أباك ولا تعص أمك، معناه: أن يجتهد في إقناع أحد الطرفين أو ماذا يفعل؟ يأخذ أمه ويذهب إلى أبيه، ومعنى كلام مالك رحمه الله: المبالغة في إرضاء الطرفين، والأم لها ثلثي البر.
وكذلك من المسائل التي تكلم فيها العلماء: لو أن الأم أرادت الولد شاهداً، أو يترافع عنها في المحكمة ضد الأب؛ لأن الأب يقصر مثلاً في النفقة ونحو ذلك، فقال بعض العلماء: لا يترافع الابن وإنما يبقى خارج النوبة، وبعضهم قال: إذا كانت مظلومة يترافع لها ضد أبيه مع الإحسان للأب، وإنما المعاملة من باب أنها تمشي الأوراق.(276/20)
حكم طاعة الوالدين في ترك الواجبات وفعل المحرمات وفي المشتبهات(276/21)
حكم طاعة الوالدين في ترك الواجبات
بالنسبة لطاعة الوالدين في ترك الواجبات فإن العلماء قالوا: إنه لا يُطاع الوالدان في ترك الواجبات مطلقاً، مثلاً: لو أمراه بترك فريضة، أو قالا له: أخر الحج؛ فأنت صغير الآن، عمرك خمس عشرة سنة أو سبع عشرة سنة، فلا يطيعهما، أو إذا ملك الزاد والراحلة والقدرة فلا يطيع؛ لأن الحج واجب على الفور، فإذا استطاع الحج لا يطيعهما مع لينه لهما.
وكذلك سئل الأوزاعي: عن رجل تمنعه أمه عن الخروج إلى الجماعة والجمعة؟ فقال: ليطع ربه وليعص أمه في ذلك.
وروى البخاري عن الحسن قال: من منعته أمه عن العِشاء في الجماعة شفقة عليه فلا يطعها.
لو قالت: يا ولدي! برد، والمسجد بعيد، فصلاة الجماعة واجبة، والولد بقدرته أن يذهب وليس هناك خوف عليه لا من اختطاف ولا من قتل ولا من حرب ولا من سباع، فإنه يذهب إلى الجماعة.(276/22)
حكم طاعة الوالدين في فعل المحرمات
أما بالنسبة إذا أمراه في فعل المحرمات فإنه لا يطيعهما في ذلك؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
سمعت هارون بن عبد الله يقول: جاءني فتى، فقال: إن أبي حلف عليَّ بالطلاق أن أشرب دواءً مع مسكر، قال: فذهبت به إلى أبي عبد الله -الإمام أحمد - فأخبرته أن هذا الأب يأمر ولده بأن يشرب الدواء مع مسكر، فقال الإمام أحمد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام) ولم يرخص له.
وقال الإمام أحمد في رواية الحارث: في رجل تسأله أمه أن يشتري لها ملحفة للخروج؟ قال: إن كان خروجها في بابٍ من أبواب البر كعيادة مريض أو جارة أو قرابة لأمر واجب لا بأس، وإن كان غير ذلك فلا يعينها على الخروج.
فلو قالت: خذني على حفلة لفتاة وأنت تعلم أن فيها منكرات؛ فإنه لا يجوز لك أن تذهب بها مع التلطف، ولو دعت عليك.
وفي رواية عن الإمام أحمد: أنه سئل عن رجل يكون له والد يكون جالساً في بيت مفروش بالديباج -يعني: الحرير والحرير حرام- الأب يقول للولد: ادخل عليَّ، والأب جالس على الأريكة وأمامه بساط من الحرير؟ قال الإمام أحمد: لا يدخل عليه، قلت: يا أبا عبد الله! والده، قال: إلا إذا دخل يلف البساط من تحت رجليه ويدخل، المهم ألا يطأ الحرير.
ومن الدقائق التي ذكرها أهل العلم كذلك ما ذكره الملا علي قاري في شرح الفقه الأكبر قال: لو كان لمسلم أم أو أب ذمي، فليس له أن يقودهما إلى البيعة، لأن ذهابهما إلى البيعة معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
لكن لو قالا له: إذا كانت لا تريد أن تأخذنا، فنحن نذهب في سيارة أجرة، لكن ارجع لنا عند موعد الخروج من الكنيسة، هل يذهب ويأتي بهما أم لا؟
الجواب
أما إيابهما منها إلى منزلهما فأمر مباح، فيجوز له أن يساعدهما، ولعل آخر رجوعهما عن البيعة إلى المنزل يوفق الله للتوبة وحسن الخاتمة.(276/23)
حكم طاعة الوالدين في المشتبهات
أما بالنسبة للمشتبهات فكان كلام أكثر العلماء: أن طاعة الوالدين واجبة في الشبهات إن لم تجد فيه حراماً محضاً.
لكن لو أنهما أمراك أن تأكل معهما، وإذا ما أكلت معهما يغضبان عليك، والطعام الذي يأكلانه فيه شبهة، ماذا تفعل؟ بناءً على قول الأكثرين: فإنك تأكل معهما فإن ترك الشبهة مستحب، وطاعة الوالدين واجبة، فيقدم الواجب على المستحب، فإن كان الأب مكسبه من حرام أو الأم مكسبها من حرام أيضاً، فإذا علمت أن هذا حرام معين؛ لا تأخذه ولا تأكل منه، وإذا اختلط الحرام بالحلال، وليس فيه تمييز؛ فإنك تأكل إذا أمراك بذلك، فإن كان حراماً خالصاً؛ فإنه لا يأكل، وإن كان مختلطاً فإنه يأكل.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله: عن رجل مات أبوه وعليه دين وله مال فيه شبهة، فهل يجوز لي أن آخذ مال الأب وأستوفيه لأقضي به الدين؟ قال: تدع ذمة أبيك مرتهنة أي: اقض الدين لأن قضاء دين أبيك واجب، وتحصيل الأموال التي فيها شبهة ليس بحرام، فتسدد دين أبيك.(276/24)
حكم طاعة الوالدين في ترك النوافل
أما بالنسبة لترك النوافل مثل نافلة الحج والعمرة، فقد قال ابن قدامة رحمه الله: للوالد في حج التطوع منع الولد من الخروج إليه؛ لأن له منعه من الغزو وهو من فرض الكفايات والتطوع أولى.
وقال في مسألة: لا يجاهد من أبواه إلا بإذنهما.
أي: جهاد التطوع، ويروى ذلك عن عمر وعثمان وهو قول مالك والشافعي وسائر أهل العلم، واحتجوا بالأحاديث؛ ولأن بر الوالدين فرض عين والجهاد فرض كفاية وفرض العين مقدم، فإن تعين عليه الجهاد سقط إذنهما، وكذلك ما وجب كالحج وصلاة الجماعة والجمعة والسفر للعلم الواجب لأنه فرض عين، هذا عرفناه سابقاً أنهما لا يطاعان في تركه.
لكن بالنسبة للنوافل فإذا أمراه بترك النافلة مطلقاً لا يطاعان، لو قالا له: لا تصل صلوات نافلة أبداً، لا نسمح لك أ، تصلي إلا الفريضة، فماذا يفعل؟ لا يجيب.
إن قالا له: لا تصوم صيام تطوع نهائياً وليس عليه ضرر في الصيام، فإنه لا يجب عليه الامتثال، فليس لهما منعه من الأشياء النافلة مطلقاً، والسنن الراتبة إذا دعياه لحاجتهما المرة بعد المرة فليطعهما، أي لو قالا: لا تصل السنة، تعال نريدك في مشوار، يذهب معه هذه المرة، صلاة الليل تعال أريدك في قضية، ليس فيها شيء، لكن دائماً يقول له: لا تصل ولا نافلة ولا سنة راتبة ولا قيام ليل، فلا يطاعان في هذا، لأن هذا ليس من حقهما.
هذه قاعدة: إذا كان النهي عن النوافل على سبيل الدوام واللزوم فلا طاعة لهما؛ لأن فيه إماتة لشعائر الإسلام.
وذكر بعض أهل العلم: أن الوالد لا يجوز له منع ولده من السنن الراتبة، وكذلك الزوج لا يمنع زوجته من السنن الراتبة، والسيد لا يمنع عبده من السنن الراتبة، وصاحب الشركة لا يجوز له منع الموظفين من السنن الراتبة بالكلية، فكل ما تأكد شرعاً لا يجوز منع الولد منه، وكذلك النفل المؤكد كطلب العلم إذا كان لا يضرهما، قال بعض العلماء: إنه لا يطاع في مثل ذلك.
وكذلك تطليق الزوجة برأي مجرد: طلق زوجتك لماذا؟ لا يوجد سبب، طلق، هذا لا يطاعان فيه حيث لا ضرر ولا ضرار، فإذا أمراه بطاعة الزوجة لمجرد هوى وهذا يحصل عليه ضرر فلا يلزمه الطاعة.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله: عن رجل يصوم التطوع، فسألاه أبواه أو أحدهما أن يفطر؟ قال: يروى عن الحسن أنه يفطر وله أجر البر وأجر الصوم، وقال: إذا أمراه أبواه ألا يصلي إلا المكتوبة يداريهما ويصلي.
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ففي الصوم كره الابتداء فيه إذا نهاه، واستحب الخروج منه، وأما الصلاة فقال: يداريهما ويصلي.
وقد نص أحمد على خروجه من صلاة النفل إذا سأله أحد والديه.
إذاً: إذا كان النهي عن النافلة مطلقاً لا يطاعان، أما إذا كان مرة بعد مرة سألاه أشياء كثيرة؛ فيطيعهما.
إن نهياه عن طاعةٍ لهوى وتحكم ليس فيه أي مصلحة لهما، مثل لو قالا له: لا تحلق رأسك في الحج والعمرة، لماذا؟ قالا: لأنك سوف تصير أصلع وشكلك قبيح، لا نسمح لك أن تحلق رأسك في الحج والعمرة، فهذا تحكم ولا طاعة لهما في هذا مع التلطف والمداراة.(276/25)
حكم طاعة الوالدين في الزواج والطلاق
وأما بالنسبة للزواج قال الإمام أحمد رحمه الله: إن كان له أبوان يأمرانه أن يتزوج، أو كان شاباً يخشى على نفسه العنت وأمراه ألا يتزوج، قال: الزواج أوجب له من طاعة الوالدين.
وسئل أحمد في رجل لا يخشى على نفسه العنت؟ فقال له: لا تتزوج، قال أحمد في رواية المروذي: إن كان رجلاً يخاف على نفسه ووالداه يمنعانه من التزوج فليس لهما ذلك، ولا يطيعهما.
لكن إن قالا له: تزوج لكن نريدك أن تتزوج فلانة، ولا نرضى لك غيرها، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقاً، وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر منه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه فإن النكاح أولى، فإن أكل المكروه مرارة ساعة وعشرة المكروه من الزوجين على طول تؤذي صاحبه ولا يمكنه فراقه، وبناءً على ذلك لو قالا له: لا تتزوج إلا فلانة وهو لا يريدها؛ فإنه لا يجب عليه الطاعة في هذه؛ لأن هذه عشرة عمر، والضرر فيها واضح جداً.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية: عن رجل متزوج وله أولاد، ووالدته تكره الزوجة وتشير عليه بطلاقها، فهل يجوز له طلاقها؟ فأجاب: لا يحل له أن يطلقها لقول أمه، بل عليه أن يبر أمه، وليس تطليق امرأته من برها، والله أعلم.
وسئل رحمه الله: عن امرأة هي وزوجها متفقان، وأمها تريد الفرقة، فلم تطاوعها البنت، فهل عليها إثم في دعاء أمها عليها؟ فأجاب: الحمد لله، إذا تزوجت لم يجب عليها أن تطيع أباها ولا أمها في فراق زوجها ولا في زيارتها، ولا يجوز في نحو ذلك، بل طاعة زوجها عليها إذا لم يأمرها بمعصية الله أحق من طاعة أبويها، وأيما امرأة ماتت وزوجها عليها راضٍ دخلت الجنة، وإذا كانت الأم تريد التفريق بينها وبين زوجها فهي من جنس هاروت وماروت لا طاعة لها في ذلك ولو دعت عليها، اللهم إلا أن يكونا مجتمعين على معصية، أو يكون أمره للبنت بمعصية الله، والأم تأمرها بطاعة الله ورسوله الواجبة على كل مسلم، فإذا كانت الزوجة تعيش بطاعة الله؛ فلا يحق لأحد أن يتدخل.
ووردت هناك أحاديث في طلاق الزوجة إذا أمرها الأب، ففي الحديث الصحيح عند ابن حبان: (أن رجلاً أتى أبا الدرداء، فقال: إن أبي لم يزل بي حتى زوجني، وإنه الآن يأمرني بطلاقها، قال: ما أنا بالذي آمرك أن تعق والديك، ولا بالذي آمرك أن تطلق امرأتك، غير أنك إن شئت حدثتك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول: الوالد أوسط أبواب الجنة، فحافظ على ذلك الباب إن شئت أو دع) فكيف يطبق هذا، وعمر قد أمر ولده بطلاق المرأة، فطلقها.
الجواب
إذا كان تطليقه للمرأة فيه مصلحة للولد بسبب عصيان الزوجة وأنها فاجرة ومقصرة وفيها سوء في الدين والخلق، فيجب على الولد أن يطيع أباه وأمه في تطليق الزوجة إذا ما انصلحت، بل يجب عليه.
وسأل رجل الإمام أحمد، فقال: إن أبي يأمرني بطلاق امرأتي.
قال: لا تطلقها.
قال: أليس عمر أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته؟ قال: حتى يكون أبوك مثل عمر عنده حكمة عمر ونظر عمر.
ونص أحمد أيضاً أنه لا يطلق لأمر أمه، فإن أمره الأب بالطلاق ينظر إذا كانت الزوجة مقصرة عاصية طلق، وإذا كانت الزوجة مطيعة؛ لا يجب عليه الطلاق ويهدم بيته.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: يبر في جميع المباحات، فلو أمراه بأمر مباح يجب عليه طاعتهما فيما أمراه ونهياه، وهذا ما إذا كان فيه منفعة لهما ولا ضرر عليه.
إذاً: إذا كان عليه ضرر وليس فيه مصلحة لهما فلا تجب عليه الطاعة.
والذي ينتفعان به ولا يتضرر هو به؛ هذا يجب عليه أن يطيعهما فيه، فإذا كان ينتفعان به ولا يضره؛ فإنه لا يشترط في وجوب طاعتهما فيه فإن كان يضره طاعتهما فيه؛ لم تجب طاعتهما فيه، لكن إن شق عليه ولم يضره -أي: يمكن أن يتحمل مع شيء من المشقة- وجب عليه الطاعة لعظم حق الوالدين.(276/26)
الشباب والدعوة وبر الوالدين
نأتي في نهاية المطاف إلى موضوع علاقة الشباب بآبائهم وأمهاتهم في مجال الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
نقول أيها الإخوة: لا شك أن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى فيها متطلبات، وتحتاج إلى تضحيات وتقديم أوقات وأموال، وكذلك الأبوان يحتاجان إلى بر، ويجب ألا يفصل الشاب بين بر الوالدين والدعوة إلى الله، ويقول: أنا نذرت نفسي للدعوة وطلب العلم، يعني أن الوالدين ليس لهما حق في هذا، هذا خطأ، ويجب أن يكون بر الوالدين داخل في ضمن الدين والعبادة، بل هو كذلك ومنه فلماذا يفصل؟ وبعضهم يقدم طاعة إخوانه والشباب من أصحابه على طاعة والديه في جميع الأحوال وهذا خطأ، ولذلك فإن طاعة الوالدين مقدمة ولا شك.
ونأتي هنا إلى مسألة: إذا قال الأب لولده: لا تطلب العلم، ولا تحضر ولا حلقة؟ فهل يطاع لا شك أن هذا لا يطاع؛ لأن هذا تحكم بلا دليل، وفيه ضرر على الولد بحيث يمنعه من حضور حلق العلم بالكلية، لكن لو قال: اليوم لا تحضر، تعال أريدك؛ يذهب مع أبيه، أما أن يمنعه من طلب العلم بالكلية؛ فهذا لا يطاع.
كذلك لو قال: لا أريدك أن تدعو إلى الله سبحانه وتعالى أبداً؛ فأيضاً لا يطاع فيه.
لكن لو كان له مشوار مع شخص من المدعوين، وحضرت حاجة للأب فيقدم الأب فإن له الحق الشرعي.
كذلك إذا قال له: لا تصحب إخوانك في الله، ولا بد عليك أن تعتزلهم، فهذا الأمر الكلي بالاعتزال لا يطاع فيه؛ لأن فيه ضرر على الولد وفقد الرفقة الصالحة، وربما حصل للولد فيه انتكاسة، ولذلك لا يطاع في هذا.
لكن لو قال: أنت إلى أين ذاهب؟ قال: أذهب مع إخواني في الله.
قال: أحتاجك في الذهاب معي إلى السوق؛ يقدم الأب ويذهب معه إلى السوق، لكن أن يقول: لا تذهب معهم مطلقاً فلا يطاع في هذا.
وينبغي على الشباب والدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أن يرفقوا بآبائهم وأمهاتهم، وألا يضغطوا عليهم الضغط الذي يسبب لهم كسر الخاطر، ويسبب لهم الضيق، ولا يفرض عليهم الأمر فرضاً، يقول: ارض بالواقع وإلا أعصيك، إما أن تعطيني الموافقة وإلا أعصيك، فهذا لا يصح أن يفعل مع الأب أو الأم.
ويجب أن نفرق بين رفض الأب والأم شيئاً ضرورياً للابن شرعاً، كطلب العلم والزواج، وبين أن يرفض له أموراً يمكن للابن أن يستغني عنها دون ضرر عليه في الدين، أي: هناك فرق بين أن يرفض للابن أو يأمر الابن بشيء فيه ضرر على نفسه ودينه، وبين أن ينهاه عن شيء فيه مشقة عليه، لكن يمكن أن يتحمل ولا يتأثر منه، فيطاعان فيه.
وعند النظر في أمور الدعوة والتربية؛ فإنك تنظر هل هذا الأمر ضروري بالنسبة لك، وهل إذا لم تفعله تأثم مثلاً أو تتضرر في دينك أو يحصل لك انتكاسة؟ فإذا كان يحصل وليس للأب منفعة أو الأم بأمرهما؛ إذاً لا يطاعان، وتعمل هذه العبادة، وإذا كان لا يحصل عليه ضرر في دينه، ولا يأمرانك أمراً نهائياً كلياً عاماً، وإنما المرة بعد المرة قد تفوت عليك مناسبة حلقة، درس، مرة فهنا تلزم الطاعة.
ويجب أن نفرق كذلك بين أسباب مواقف الآباء إذا منعوا أولادهم من مرافقة أهل الخير، إذا منعه عداءً للدين وأهله قال: أنا لا أحب المتدينين أبداً، لا تمشِ معهم.
هذا ليس له طاعة، قد يخاف على ولده من أمور متوهمة، فهنا الابن يراعي المقصد الحسن للأب؛ لأنه يخاف عليه، يراعي ذلك ما استطاع، وأحياناً يفعل ذلك الأب والأم تحكماً، يقول: لا تفعل كذا لا تذهب مع فلان لا تذهب مع هؤلاء لا تحضر درساً في كذا افعل نفذ، فهذا ذكرنا فيه أن هذا المنع بالكلية لا وجه له شرعاً.
وأحياناً يظن الأب أن المصلحة الدراسية للولد أن يدرس طيلة الوقت وألا يخرج مع إخوانه في الله وألا يحضر مجلس علم ونحو ذلك، قصد الأب ألا يضيع الولد الدراسة، فعلى الولد أن يثبت للأب أنه ليس بمضيع للدراسة، وأنه يقوم بها حتى يتشجع الأب على السماح لولده.
وختاماً: فإنا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم البر بآبائنا وأمهاتنا، وأن يجعلنا من القائمين بحقوقهما والعاملين على إرضائهما في طاعته سبحانه.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(276/27)
قصة طالوت وجالوت
لقد قصَّ الله علينا في كتابه الكريم قصصاً كثيرة لأجل العبرة والعظة، ولحكم منها: تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين على الحق، وحثهم على الصبر على دين الله عز وجل، وقد ذكر الشيخ من ضمن هذه القصص قصة طالوت وجالوت، ثم استطرد في ذكر الفوائد المستفادة من هذه القصة العظيمة.(277/1)
بنو إسرائيل مع نبيهم وملكهم طالوت
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة:246 - 252].(277/2)
بنو إسرائيل في حالة الاستضعاف
تشير هذه الآيات الكريمة إلى قصة وقعت لبني إسرائيل في فترة من فترات حياتهم في الأرض المقدسة، كانوا مضطهدين مهزومين أمام أعدائهم، وقد سلب أعداؤهم منهم التابوت الذي فيه سكينة من الله وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وقد شعر القوم بالذل ومرارة الهزيمة والهوان، وكان هذا الشعور عند العامة والملأ، فأرادوا أن يغيروا واقعهم الذليل وأن يبدلوا ذلهم عزة، وهزيمتهم نصراً، وعلموا أن السبيل الوحيد لذلك هو الجهاد في سبيل الله.(277/3)
مطالبة بني إسرائيل نبيهم بالجهاد واختباره لهم
هذه إذاً قصة بداية الصحوة في هذه الفترة، استيقظت العقيدة في نفوس وجهائهم، وكانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما مات نبي خلفه نبي، ولا شك أن شدة الذل والاستضعاف يولد في النهاية التحدي، وإرادة التغلب والإنقاذ من هذه الورطة التي يعيش فيها المستضعفون، وهذا النبي الذي لا نعلم اسمه كان معهم في فترة الاستضعاف، وليس من المهم معرفة اسمه ولذلك أبهم في الكتاب العزيز فقال الله: {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ} [البقرة:246] ليس المهم ما هو اسم النبي، المهم أنهم قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، أرادوا أن يقاتلوا مع ملك ولم يريدوا أن يقاتلوا مع النبي.
ولما كان النبي فيهم -هذا- يعلم طبيعتهم المائعة، وهمتهم الرخوة، وأنهم لو أمروا بالقتال فسوف يرتدون عنه، وينكصون ويقعدون، قال لهم يريد التأكد منهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة:246]؟ يريد التأكد من هذه الهمة وهذه الروح الجهادية التي استيقظت الآن؛ لأنهم قالوا: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] يعني: القوم يريدون الجهاد، وهذا النبي الكريم يريد أن يتأكد من حالهم، فقال: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة:246]؟ فأظهروا الإيمان، وحب الجهاد، وإرادة الخلاص من الذل والصغار، ولكنهم في أول اختبار ظهرت طبائع نفوسهم التي امتلأت بحب الدنيا والظهور فيها، وعدم التسليم لأمر الله تعالى.
هم طمأنوا نبيهم أنهم سوف يقاتلون ولا يتخلفون، وإنما فقط الذي يمنعهم من عدم الجهاد هو عدم وجود ملك، فلو وجد ملك سيسارعون للقتال، وبينوا له الباعث القوي للقتال وقالوا: إنه الذل الذي يعيشونه: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246].
فلما سمع نبيهم بذلك، ولاحظ حماستهم، واندفاعهم، جاء الوحي من الله تعالى بأن الملك الذي عينه الله لقيادتهم في الجهاد هو طالوت، وأنه هو الذي سيقودهم إلى النصر والعزة وتحرير أرضهم من المغتصبين، لكن هؤلاء القوم لم يتخلصوا من حب الدنيا أبداً، ولذلك في أول اختبار بمجرد أن أعلمهم باسم الملك الذي سيقودهم قالوا: أنى يكون له الملك علينا؟ اعتراض أولي وفوري، اعتراض على اسم القائد، لماذا فلان؟ بدلاً من أن يسلموا لأمر الله جاءت الطبيعة اليهودية -كما مر معنا في قصة البقرة- لتعترض: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [البقرة:247].
بعد أن استعدوا قبل قليل للقتال إذا بهم يعترضون على القائد الذي عين من عند الله تعالى لأنه قال: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} [البقرة:247] فلم يكن منتخباً منهم أو معيناً من نبيهم فقط وإنما كان من الله، وهذا الاعتراض ولا شك كان دليلاً واضحاً على تلكؤ القوم في تنفيذ الأوامر.
وتمضي القصة لتبين بأنهم فوجئوا إذ كانوا يتوقعونه ملكاً قادماً من بيت الملك، وأن طالوت ليس من بيت الملك، ثم إنه فقير، وبين القوم تعلقهم بالدنيا بقولهم: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] فعجب النبي لموقف القوم الذين كانوا يريدون ملكاً يقاتلون وراءه، فبين لهم نبيهم المواصفات التي تؤهله للملك، وأنه أنسب الناس حسب الميزان الرباني: ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ)) تمكناً منه ((وَالْجِسْمِ)) يعني: قدرة على القيادة وتحمل أعباء القتال: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:247] وأراد نبيهم أن يبين لهم بالتأكيد آية وعلامة على صحة تولي هذا الملك عليهم فقال لهم: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} [البقرة:248] يأتيهم التابوت بدون قتال ولا حرب، ستحمله الملائكة وتأتي به إليهم، وهذا دليل على أن طالوت هو الملك من عند الله، والسكينة: هي الراحة والرضا واليقين، وفي هذا التابوت أشياء مادية ورثوها عن آل موسى وآل هارون.(277/4)
خروج طالوت بقومه للقتال واختباره لهم
ولما جاءت الآية سلم القوم مكرهين ووافقوا على تملك طالوت، وتسلم الملك والسلطان، وعبأ قومه للقتال وجهزهم لمحاربة الأعداء، ولما خرج بهم للمعركة الفاصلة أراد أن يختبر حماستهم وطاعتهم، وأن يبلو هذا الفورة التي حصلت في البداية؛ لأنه لا بد قبل المعركة من اختبارات للتأكد من حماسة الجند واستعداداتهم للمواجهة، لا بد من اختبارات صغيرة قبل الاختبار الكبير، فلما فصل بهم وغادر البنيان والعمران قال: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة:249] فعندما تمرون عليه لا تشربوا منه، فمن خالف أمري فليذهب عني وليس من جيشي ولا يتبعني؛ لأنه ليس جندياً يستحق أن يكون في هذا الجيش، لكن الذي لم يشرب والتزم الأمر وأطاع فإنه يبقى معي ويقاتل.
ثم إنه أراد أن يجعل فرجة وفسحة في الأمر لأن في القوم عطشى قال: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249] يبل بها فمه ويطفئ عطشه، ولما وصلوا النهر عصوا طالوت وشربوا منه إلا قليلاً منهم التزموا الأمر وأطاعوه.(277/5)
الاختبار الثاني لأصحاب طالوت
ترك طالوت جموع العصاة المخالفين وسار بالقلة الباقية المطيعة حتى وصل بهم إلى أرض المعركة، فلما نظر جنوده إلى جنود الأعداء خافوا قتالهم، وجبنوا عن مواجهتم، وكان أعداؤهم الكفار بقيادة جالوت الكافر، وكانوا أكثر عدداً منهم، فهنا حصل امتحان آخر قبل أن تنشب المعركة وهي أن بعضهم قالوا: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249] وهم الأكثرية، ولا قدرة لنا على حربهم، وبعضهم -هؤلاء الخائفون- جبنوا عن المعركة، وبقي مع طالوت من القليل الأول قلة وهم الذين يظنون أنهم ملاقو الله، وهؤلاء القلة: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} [البقرة:249] دخلوا المعركة مؤمنين بالله، صابرين على بلواه، وبدأت المعركة، فطلبوا النصر من الله واستغاثوا به وتضرعوا إليه وقالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250] وحقق الله وعده، وأنزل نصره، فهزموهم بإذن الله، وبرز في المعركة داود عليه السلام ولم يكن نبياً ولا ملكاً وقت ذاك، برز بقوته وشجاعته وقتل جالوت وآل إليه الأمر بعد طالوت، ومن الله على داود بالملك والحكمة، وعلمه مما يشاء.(277/6)
فوائد قصة طالوت مع قومه في قتال جالوت(277/7)
مرحلة الاستضعاف تولد التحدي وقوة الإيمان
وبعد هذا الملخص للقصة نأتي إلى ذكر بعض الفوائد والدروس المأخوذة منها: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] كما قلنا في البداية: إن مرحلة الاستضعاف تولد التحدي، وإن شدة الطغيان من الأعداء لا بد أن يوقظ أشياء في بعض النفوس، وتنتفض العقيدة في القلوب، ويستيقظ الإيمان، وهذا ما هو موجود الآن في المسلمين، فإن المسلمين اليوم يعيشون -ولا شك- مرحلة استضعاف كبرى، فقد تسلط عليهم الأعداء من كل جانب، ولا شك أننا في هذه المرحلة ينبغي أن نستلهم بعض ما في هذه القصة من الفوائد التي تعين على مواجهة الاستضعاف الذي نعيشه في هذه المرحلة.
لا شك أن التحدي يجب أن يكون موجوداً في نفوسنا، وينبغي علينا ونحن نعيش في هذا الذل الذي فرضه علينا أعداؤنا أن نسعى للخلاص منه، لا يصح أن نستسلم للواقع بأي حال، ولذلك قالوا: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] فإذا وضحت النية، ووضح الطريق من أن الجهاد في سبيل الله هو سبيل الخلاص من الذل، عند ذلك ينقطع نصف الطريق إلى النصر، فإن الهدف لابد أن يكون واضحاً فلا يغشاه الغبش الذي لا يدري معه الشخص أين يسير.(277/8)
الاعتداد في الملك والقيادة بالعلم والقدرة
ولما أنهكت الحروب وقهرت الأعداء أولئك القوم، سألوا نبيهم رجلاً يقاتلون وراءه، وعندما قال لهم نبيهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] ما الذي يمنعنا من القتال ونحن نعيش في غاية الذل، وما فائدة العيش؟ فنلاحظ هنا -أيها الإخوة- أنهم أول ما تولوا عندما أنكروا إمرة طالوت، كانوا يتوقعون شخصاً، وإذا بشخص آخر يخرج، وأظهروا التولي عن طاعته من البداية {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} [البقرة:247] ولذلك لا بد أن يتأسس في النفوس الميزان العقدي الإيماني الرباني للاصطفاء، ولا يجوز أبداً أن ننظر إلى قضية المال على أنه ميزان أو على أنه ميزة: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] إذاً هو فقير، قال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:247] طعنوا في طالوت لأمرين: الأمر الأول: أنه ليس من بيت ملك.
والثاني: لأنه فقير.
والله تعالى رد هذه الشبهة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:247] وقوله: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] بينت الآية أن للقائد صفتين مهمتين: الأولى: العلم.
والثانية: القدرة: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] فأول صفة من صفات القائد: العلم، والصفة الثانية: القدرة، ولا يستحق أن يكون قائداً ملكاً عليهم إلا إذا جمع بين العلم والقدرة.
هذا العلم والقدرة أهم من الجاه والمال، لكنهم اعترضوا وقالوا: هذا ليس بذي جاه: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [البقرة:247] والاعتراض الثاني: أنه فقير: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] فرد الله عز وجل عليهم بصفتين أهم من الصفتين اللتين اشترطوهما هم وفكروا فيهما فقال لهم: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] فلماذا كان العلم والقدرة أهم من الشرف والمال، وأهم من النسب والمال، وأهم من الجاه والمال؟ لأسباب: أولاً: أن العلم والقدرة من باب الكمالات الحقيقية، فهما: كمال حقيقي أن يوجد في الشخص علم وقدرة بخلاف الجاه والمال.
وثانياً: أن العلم والقدرة من الصفات الذاتية للشخص، بخلاف الجاه والمال الذي هو أمر منفصل عن الإنسان، فإن الإنسان قد يكون بغير جاه ولا مال ثم يكتسب جاهاً ومالاً، يكتسبه من شيء خارجي، لكن العلم والقدرة صفات ذاتية في الشخص لا تنفك عنه.
ولذلك من الأسباب أن العلم والقدرة لا يمكن سلبهما عن الإنسان، لكن المال والجاه يمكن سلبهما عن الإنسان.
وكذلك فإن العالم بأمر الحروب القوي الشديد على المحاربة، يحصل الانتفاع به في حفظ البلد ودفع شر الأعداء أكثر من الانتفاع بصاحب النسب والغني إذا لم يكن عنده علم ولا قدرة على دفع الأعداء.(277/9)
الله خالق أعمال العباد
وقوله تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] يدل على خلق الله لأعمال العباد وأنها من عنده، الله خلق فيه العلم، وخلق فيه البسطة في الجسم، قال بعضهم: إن المراد بالبسطة في الجسم طول القامة، وأنه سمي طالوت لأنه كان طويلاً وأن (طالوت) مبالغة من الطول، ولكن هذا ليس صحيحاً فإن طالوت اسم أعجمي وليس مشتقاً من الطول، ولذلك فإن القول الراجح في البسطة التي آتاها الله طالوت أنها القوة والشدة، فالمراد بها القوة ليس الطول ولا الجمال وإنما القوة.
ولا شك أن العلم والقوة أجل صفات القائد، والله يؤتي ملكه من يشاء ولا يعترض عليه أحد: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:247] وتأمل كيف ختمت الآية بصفتين من صفات الله مناسبة لما في الآية فقوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ)) [البقرة:247] هذا مقابل لقولهم: إنه فقير ولم يؤت سعة من المال فقال: الله واسع الفضل، أنتم طعنتم فيه لكونه فقيراً والله واسع الفضل والرحمة، والله يعلم أن القيادة لا تتأتى بالمال، والله قادر أن يفتح عليه من أبواب الخير والسعة ما يريد، والله عليم فعلم هذا الشخص، وعليم في من يصلح للقيادة، وعليم باصطفائه واختياره سبحانه وتعالى.(277/10)
أخذهم الجلال والهيبة والوقار من التابوت
وفي قوله: ((وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ)) يعني: علامة ملكه: ((أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ)) وهو صندوق التوراة: ((فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)) الجلال والوقار والهيبة: ((وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ)) لا يهمنا ما هي هذه البقية، هل هي عصا موسى؟ هل هي بقية الألواح التي تكسرت؟ ما هي هذه البقية؟ الله أعلم: {تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} [البقرة:248] في هذه الخارقة التي هي علامة ملكه.(277/11)
النصر يكون ببذل الأسباب الشرعية
وكذلك فإن في قوله: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ} [البقرة:249] قد ورد في الحديث عدد هؤلاء، فقد روى البخاري رحمه الله تعالى عن البراء، وروى ابن جرير أيضاً عنه قال: (كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، وما جازه معه إلا مؤمن) فإذاً كم عدد الذين جاوزوا مع طالوت النهر؟ ثلاثمائة وبضعة عشر شخصاً مثل عدد المسلمين في بدر.
ولما غلبت الفئة القليلة في بدر الفئة الكثيرة وهم المشركون كان هذا مثالاً آخر مضافاً إلى الأمثلة التي سبقت مثل قصة طالوت على القاعدة العظيمة التي ذكرها الله بقوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] وانكسر العدد الكبير أمام العدد اليسير، وفي هذا دليل على أن الإيمان في المعركة هو المرجح، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: [إنما تقاتلون بأعمالكم] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم) فإذا كانت الأعمال فاسدة، والضعفاء مهملون، والصبر قليل، والتوكل ضعيف، والتقوى زائلة فلا سبيل إلى النصر البتة فإن الله ذكر أسباب النصر فقال: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران:200] وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة:23] وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] وقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40] وقال: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] فهذه أسباب النصر وشروطه لما كانت معدومة، وضعيفة وضئيلة لذلك لم يأت النصر، وانحسر سلطان المسلمين.
قال القرطبي رحمه الله في وقته -وكان وقت قوة للنصارى، في أواخر العهد الأندلسي- قال: فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا، بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه لظهور الفساد، ولكثرة الطغيان، وقلة الرشاد، حتى استولى العدو شرقاً وغرباً، براً وبحراً، وعمت الفتن، وعظمت المحن، ولا عاصم إلا من رحم.(277/12)
العبرة ليست بكثرة العدد
وفي قوله تعالى: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249] أراد عز وجل أن يقوي قلوب هؤلاء الذين قالوا هذه الكلمة بقوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249] فالعبرة ليست بكثرة العدد ولكن بالتأييد الإلهي، ولذلك إذا جاءت الهزيمة فلا ينفع كثرة العدد، وإذا جاء النصر فلا يمنعه قلة العدد.(277/13)
قيمة اللجوء إلى الله ودعائه
وفي قوله تعالى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} [البقرة:250] فائدة بلاغية بليغة وهي: أنهم طلبوا من الله أن يفرغ عليهم الصبر أي: يغمرهم به من فوقهم؛ فتستقر قلوبهم ولا تقلق، وأن يثبت أقدامهم من الأسفل، أفرغ علينا صبراً من فوقنا، يعني: أنزله علينا كثيراً عامراً كما يفرغ الإنسان الإناء كله: {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة:250] فسألوا الله تثبيت الظاهر والباطن، فإذاً إذا جاء الصبر من فوق، وثبات الأقدام من الأسفل جاء النصر.
{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:250] المبارزة: أن يبرز كل واحد منهم لصاحبه في وقت القتال، نلاحظ هنا دور العلماء والأقوياء إيمانياً لما قالوا: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} [البقرة:249] ونلاحظ تضرعهم إلى الله بإفراغ الصبر، وإنزال النصر، كما قال الله في آية أخرى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:146 - 147] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلجأ إلى ربه في هذه المواطن الشديدة، ويجأر إليه، ويلح عليه إلحاحاً شديداً، ولذلك كان يقول في معركة بدر: (اللهم بك أصول) كان يستنجز نصر الله وموعوده ويقول إذا لاقى العدو: (اللهم إني أعوذ بك من شرورهم، وأجعلك في نحورهم) وكان يقول: (اللهم بك أصول وبك أجول).
فالإفراغ: هو الصبر وإخلاء الإناء مما فيه: {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} [البقرة:250] المبالغة في طلب الصبر من وجهين: الأول: أنه إذا صب الشيء في الشيء فقد أثبت فيه بحيث لا يزول عنه: {أَفْرِغْ عَلَيْنَا} [البقرة:250] يعني: صبه علينا صباً بحيث لا يخرج بل يبقى مستقراً في أنفسنا.
والثاني: إفراغ الإناء هو إخلاؤه، معنى ذلك: صب كل ما فيه، ولذلك سألوا صبراً كثيراً وداخلاً ولذلك قالوا: {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} [البقرة:250] وهذا أبلغ من قولهم: صبرنا فالإفراغ إذاً طلب الكثرة من الصبر، وأن يكون فيه -داخله- ممتلئاً بحيث إنه لا يخرج منه.(277/14)
الصبر واتخاذ الأسباب المادية عند لقاء العدو
وكذلك فإنه يتبين أن من الأمور المطلوبة عند المحاربة: أولاً: أن يكون الإنسان صبوراً.
كذلك أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات ما يعينه على المواجهة.
ثالثاً: أن تزداد قوته على قوة عدوه؛ فيحصل عند ذلك الانتصار، فأما الأولى فهي المذكورة في قوله تعالى: {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} [البقرة:250] والثانية: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة:250] والثالثة: {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250] فإذا تحقق الصبر وثبات الأقدام والغلبة -الزيادة- على العدو -الزيادة العامة- يحصل الانتصار.(277/15)
فضل داود عليه السلام
وقوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ} [البقرة:251] يعني: هزم هؤلاء الأقلون أولئك الكثيرين: {بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:251] يعني: ليس بقوتهم ولا بعددهم، وإنما بإذن الله فهو الذي شجع القليلين وخذل الكثيرين: {وَقَتَلَ دَاوُدُ} [البقرة:251] وهو واحد وفرد من جنود طالوت: {جَالُوتَ} [البقرة:251] وهو عظيم الكفار ومقدمهم وقائدهم: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:251] وقلنا المُلك: صار مَلك بني إسرائيل، والحكمة: هي النبوة، وعلمه مما يشاء: صناعة الدروع من الحديد ونحو ذلك.
ولا شك أن في ذلك دليلاً على شجاعة داود عليه السلام، وأنه قتل جالوت قتلاً أذل به جيشه وكسره وهزمه، فإنه إذا قتل ملك الجيش وقائدهم فإن ذلك أدعى لفرارهم وانحسار أمرهم، وهذه غنائم كثيرة ساقها الله تعالى بعد أن قتل جالوت ورزقها المسلمين.(277/16)
في هذه الآيات تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم
وفي قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} [البقرة:252] تلك: إشارة إلى ما سبق ذكره في الآيات من إماتة الألوف منهم ثم إحياؤهم، وتمليك طالوت، وإتيان التابوت، وانهزام جالوت وقتل داود له، وتملك داود، هذه آيات الله، أخبار غيب أخبرنا بها الله عز وجل: {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} [البقرة:252] ليس بالباطل: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة:252].
هذه الآيات تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها تسلية له، ومواجهة لأعدائه من الكفار والمنافقين، فكأنه يقول له: هذه آياتنا وهكذا نصرنا أولياءنا فاصبر يا محمد -صلى الله عليه وسلم- وإنك لمن المرسلين المنصورين بإذننا.(277/17)
ما ورد من الإسرائيليات لا يُستند إليه
وما ورد في الإسرائيليات في قصة طالوت وجالوت أشياء كثيرة جداً ولكنها رجم بالغيب، والله أعلم بصحتها، مذكور فيها أسماء، ومذكور فيها أشياء عجيبة، كما أنهم قالوا في إسرائيلياتهم أن داود رمى جالوت بحجر واحد كسر الخوذة التي على رأسه، ودخلت رأسه، وفتتت دماغه، وخرجت من الخلف، وأصابت وراءه ثلاثين رجلاً فقتلتهم، ثم تفتت الحجر، وأصابت كل قطعة من الحجر المفتت جندياً من جنود جالوت فقتلته، هذا شغل الإسرائيليات؛ ولذلك لا يعول عليها البتة.
ثم إن من الإسرائيليات الخطيرة جداً الموجودة عندهم في هذه القصة أنهم يقولون: إن طالوت بعد عدة محاولات حسد داود، قالوا: طالوت حسد داود وكاد له بعدة محاولات لقتله ولكنها فشلت كلها إلى آخر القصة الباطلة، فلذلك لا يعول على الإسرائيليات البتة.
ثم إن هذه القصة التي فيها مبهمات يعني مثلاً: متى حدثت؟ وهو قال: {مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [البقرة:246] لكن بعد موسى بكم سنة؟ الله أعلم، ما اسم هذا النبي؟ الله أعلم.
ما تفصيلات السكينة والبقية التي ستكون في التابوت من آل موسى وآل هارون؟ لم يذكر.
ما اسم النهر؟ كم عدد الذين خالفوا وشربوا؟ كيف كانت نهاية طالوت؟ طالوت ماذا حصل له بعد ذلك؟ لم تذكر.
فإذاً كل شيء لم يذكره الله عز وجل فليس فيه فائدة لنا ولو كان فيه فائدة لذكره، وما ذكره يغني عما لم يذكر من التفصيلات.(277/18)
فوائد للقصة ذكرها محمد رشيد رضا
وذكر العلامة/ محمد رشيد رضا رحمه الله من فوائد هذه القصة أشياء كثيرة:(277/19)
القائد قد يكون مغموراً فتظهره الأحداث
فمن الفوائد قال: إن الأمم إذا اعتدي على استقلالها، وأوقع الأعداء بها فهضموا حقوقها، تتنبه مشاعرها لدفع الضيم، وتتوجه إلى شخص يقودها للخلاص.
فتطلع الأمة لقائد يقودها في مرحلة الذل التي مرت بها هذا هو الطبيعي هذا هو الشيء المفترض أن يحصل؛ ولذلك فإن كثيراً من الناس ينتظرون الخلاص على يد قائد، وأنه لا بد من قائد يقود، وأن عدم وجود القائد مشكلة كبيرة، لكن هل نقف مكتوفي الأيدي حتى يظهر قائد يقودنا؟
الجواب
لا.
لابد من أخذ العدة والاستعداد، وقد يكون القائد واحداً من هؤلاء المسلمين الذين يقودهم إلى النصر؛ ولذلك قد يكون القائد مغموراً، فهذا طالوت أول الأمر ما كان ذا ملك ولا من سبط النبوة، ولا كان صاحب مال، كان رجلاً مغموراً بين الناس؛ لذلك فوجئوا، ولذلك يمكن أن يكون الذي يقود الأمة رجلاً من أغمار الناس يظهره الله تعالى في حادثة أو مناسبة فيعظم أمره ويقود الأمة.
فداود برز في المعركة، وعظم شأنه لما قتل جالوت، فالأحداث تظهر الأشخاص، وتظهر القادة، وهذا درس آخر فإن القادة والذين يتولون الأمة ويقودونها لا يظهرون من كسل، لا يظهرون من فراغ، لا يظهرون بدون خلفية، يظهرون من الأحداث، فهي التي تظهرهم؛ ولذلك فإن أحداث المعركة هي التي أظهرت داود عليه السلام لما قتل جالوت شجاعته وشكيمته أبرزته، وتطلعت الأنظار إليه.(277/20)
البلاء إذا نزل أدركه الناس كلهم
وكذلك فإن من فوائد هذه القصة: أنه عندما يحدث البلاء بالأمة فإن الخطر يدركه الكبير والصغير، والخاص والعام؛ ولذلك قال الملأ من بني إسرائيل: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً} [البقرة:246] فالملأ هم الذين يريدون الخلاص أيضاً وليس فقط العامة، وأنه متى عظم الشعور بوجوب دفع الظلم والقيام على الأعداء فإنه لا يلبث أن يسري إلى العامة حتى يكون شعوراً عاماً.(277/21)
القائد ينتخبه أهل الحل والعقد
وكذلك فإن الاختلاف على مقدم القوم وقائدهم من شأن الأمم، ولذلك جعل الإسلام انتخابه إلى أهل الحل والعقد والناس تبع لهم، وليس للغوغاء والعامة أن يرشحوا أحداً أو ينتخبوه كما هو شأن الديمقراطيات الغربية، فإنهم قد يكون عندهم شواذ كثر، وغوغاء وهمج، ومع ذلك يشتركون في انتخاب رئيس لهم فقد ينتخبون شاذاً أو عربيداً مثلهم أو شخصاً يحقق لهم أهواءهم، ولا يهم هؤلاء الشواذ أن يكون عالماً أو حكيماً أو تقياً أو يعرف المصلحة، ولذلك تنطلي كثير من حملاتهم الانتخابية على هؤلاء الناس في الشارع فيرشحونهم، ولذلك في الإسلام معروف كيف يكون انتخاب الإمام، وكيف يكون إظهاره لأهل الحل والعقد وليس لعامة الناس.(277/22)
الجهل سبب في فقد الموازين الشرعية
وكذلك فإن الأمم في طور الجهل تتغير عندها الموازين وتضطرب، ولذلك هؤلاء كانوا يرون أن أحق الناس بالملك والزعامة أصحاب الثروة الواسعة، ولذلك قالوا: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] لكن الميزان الرباني يختلف، ولذلك فإن التجهيل الذي يصيب الأمة خطير في إفقادها الموازين الشرعية، وهذه قضية مهمة، فإنه يجب أن تبين الموازين الشرعية للناس الذين يعيشون في طور الجهل؛ لأنهم في طور القدرة على التمييز، والعمل بحسب الموازين الشرعية، ولذلك قال لهم نبيهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] فبين الشروط التي تبين اختيار القائد: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:247].(277/23)
طاعة القائد سبب في النصر
وكذلك يتبين من القصة أن طاعة الجنود للقائد في كل ما يأمر به وينهى عنه مما هو من طاعة الله هو شرط للنصر واستقامة الأمر، ولذلك الرماة في أحد لما عصوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، كان سبباً في الهزيمة، ولذلك كان لا بد من تجريد الجيش من هؤلاء المنهزمين وهؤلاء العصاة قبل دخول المعركة، لأنه لو دخل بهم المعركة فسيكونون من أول الفارين، وسيشيعون روح الهزيمة في بقية الجيش، ولذلك لأن يكونوا قلة ثابتين أحسن من كثرة ينهزم أكثرهم فيتبعهم البقية، إذا صارت هزيمة صارت فوضى، وإذا صارت فوضى ما عاد من الممكن ترتيب الصفوف ولا توزيع الجيش ولا المقاومة؛ ولذلك كان من الحكمة أن يقول: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} [البقرة:249] فليخرج عني وعن جيشي، لا أريده أن يقاتل معي.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ العهد عليهم أن يطيعوه في منشطهم ومكرههم؛ ولذلك كان لا بد أن يطاع القائد في طاعة الله تعالى.(277/24)
أن التوجه إلى الله مهم جداً حال القتال
ومن فوائد هذه القصة كذلك أن التوجه إلى الله في القتال مهم في النصر، ومفيد جداً؛ ولذلك بعد أن سألوا الله قال: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:251] وجاءت عاطفة على آية الدعاء: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:250 - 251] إذاً الفاء هذه التي تفيد التعقيب معناها: أن الله يستجيب الدعاء بسرعة، لكن المهم أن يكون الدعاء من قلب خالص.(277/25)
سنة التدافع بين الناس
وكذلك فإن في قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة:251] بيان لسنته العامة عز وجل، وهذه التي يعبر عنها علماء الاجتماع المتأخرين بتنازع البقاء، وأن هناك مصادمات تفيد في النهاية بقاء هذا وزوال ذاك، وقوله عز وجل: {لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] فيه دليل على السنة الربانية أن البقاء للأصلح، وأن الأمثل هو المستحق لأن يستمر، ولذلك يقول الله عز وجل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] فلذلك الحوادث ونيران التنازع هذه تطير زبد الباطل وتقشعه؛ ليبقى إبريز الحق واضحاً متلألئاً يحصل في ظله الأمان والنمو.
ولا شك أن هذه القصة في ضمن ما تبرز أن بعد مرحلة الاستضعاف التي تكون فيها الصحوة والانتفاضة على الواقع الباطل يأتي التمكين، فإن أعلى قمة وصلت إليها دولة بني إسرائيل في الأرض في عهد داود وسليمان، وكانت هذه الفترة الذهبية لهم بعد مرحلة المحنة التي حصلت فيها الفورة والحماس لإنهاء هذا الوضع -وهو وضع الذل- ولذلك التمكين لا يأتي إلا بعد الاستضعاف، هذه من آيات الله وسننه الكونية، التمكين لا يأتي إلا بعد الاستضعاف، يكون قوم مستضعفون فيمكن الله لهم، ولذلك فنحن نتفاءل من الواقع الموجود أن التمكين سيكون حليف الإسلام وأهله بإذن الله تعالى.(277/26)
الحنكة والحكمة في القيادة الصالحة
وكذلك تبرز من هذه القصة حكمة القيادة الصالحة المؤمنة التي تخبر النفوس، ولا تغتر بالحماسة الظاهرة، فإن طالوت لم يغتر بهذه الكمية من الناس التي خرجت معه وبهذا العدد، وإنما ابتلاهم وخبرهم، والتجربة الأولى لما كتب عليهم القتال تولوا، هم قالوا: نريد أن نقاتل؛ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم، فأخذ طالوت القليل وسار بهم، وابتلاهم واختبرهم في قصة النهر، فتولوا إلا قليلاً، ساروا للقاء الأعداء، لما رأوا كثرة الأعداء وقلتهم قالوا: لا طاقة لنا اليوم بـ جالوت وجنوده، البقية هم الذين كتب الله النصر على أيديهم.
إذاً: التمحيص يمر بفترات لأن الإنسان قد ينجو في اختبار ويتعداه، لكن يسقط في الاختبار الثاني أو الثالث، لكن في النهاية الذين تبقوا بعد التمحيص هم الذين ينتصرون مهما كانوا قلة.(277/27)
عدم ضعف طالوت عند تخاذل قومه
وكذلك فإن هذا الملك العظيم وهو طالوت لم يضعف وينكمش عندما رأى جنوده يتخاذلون ويتساقطون في موقف بعد آخر، تضاءلوا في تجربة بعد تجربة ولم يثبت معه في النهاية إلا قلة، فئة مختارة خاض بها المعركة ثقة بالله تعالى، وهذه الفئة الصغيرة القليلة هي التي تلقت النصر واستحقته من الله تعالى.(277/28)
أهمية وجود الأمير والقائد في الجيش
وكذلك فإن في هذه القصة -كما ذكر القاسمي رحمه الله في تفسيره - أن الأمير يُحتاج إليه في أمر الجهاد لتدبير أمور الجيش، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية أمر عليها أميراً، وأنه لا بد منه ولولا ذلك لانفرط عقد الجيش، وتنازعوا، وكل واحد ادعى الرئاسة، فلا بد من واحد يقود، ولا بد للبقية من السمع والطاعة له فيما هو من طاعة الله حتى يحدث النصر.(277/29)
إذا عظم الأمر عظمت الإمرة
وكذلك فيه أنه كلما عظم الأمر كان أمر الإمرة أخطر، ولذلك فإن إمرة الجيش أخطر من إمرة السفر، وإمرة المسلمين أخطر من إمرة الجيش، فكلما عظم الأمر كانت الإمرة أعظم، ولا بد أن تكون الشروط فيه أدق وأشد؛ لأن هذه مسئوليات كلما عظمت لا بد أن يعظم الرجال المنتخبون لحملها.(277/30)
في هذه القصة عزاء للصحوة الإسلامية
وكذلك فإن في هذه القصة عزاء لهذه الصحوة الإسلامية المعاصرة، فإن بني إسرائيل هم الذين قالوا: سمعنا وعصينا، وهم الذين قالوا: اذهب أنت وربك فقاتلا، فهؤلاء بعد فترة من الزمن نصرهم الله، فإذا كان المسلمون الآن ليس عندهم هذه البذاءة وليس عندهم هذا الحد من التردي فإنهم أقرب إلى نصر الله، ولذلك قُرب النصر من المسلمين الآن أقرب إليهم من بني إسرائيل على ما فعلوه من تقتيل الأنبياء وقالوا: حنطة، وسمعنا وعصينا، ويد الله مغلولة، واذهب أنت وربك فقاتلا إلى آخره، ففيه شيء من العزاء لأبناء المسلمين في هذا الزمان، وأن الله تعالى يكلل جهود الساعين بالنجاح، وعمل العاملين بنصرة الدين ولا شك.(277/31)
الابتلاء للمؤمنين حاصل
وكذلك فإننا نلاحظ أيضاً أن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده، ويختبرهم في الأعداء، ويختبرهم في أنفسهم فإنه ابتلى بني إسرائيل بـ طالوت، وابتلاهم بالعدو الذي لاقاهم، فيكون الابتلاء من الداخل والخارج.(277/32)
لا ينبغي الاغترار بالحماسة
وكذلك في هذه القصة درس عظيم: أنه لا يصلح الاغترار بالحماسة أبداً، فإن الحماسة الجماعية قد تخدع، ويقوم جمهور من الناس يهتفون ويقولون: سنفعل ونفعل، لكن القيادة الإسلامية لا تغتر بهذه الحماسة أبداً، وإذا كان هؤلاء بنو إسرائيل بمجرد أن كتب عليهم القتال تولوا قبل أن يقاتلوا، بمجرد فرض القتال تولوا! وسقط كثير منهم في امتحان شرب النهر، وكذلك كثير منهم عندما رأوا الجيش تخاذلوا وقالوا: لا طاقة لنا اليوم بـ جالوت وجنوده، فإذاً الحماسة لا يجوز أن تخدع المسلم، وإنما العبرة بالحقيقة، وكذلك فإن مصير المعركة ينقلب، والموازين تنعكس بإرادة الله عز وجل {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249].(277/33)
اختلاف الناس في التقليد
وكذلك فإن في هذه القصة: أن الناس لا يتفقون في التقليد، فكل واحد يفكر حسب مصلحته، ولذلك لما قيل لهم: إن طالوت ملك عليكم تنازعوا الأمر واختلفوا على نبيهم، كل واحد ينظر من جهة المصلحة، ينظر من جهة الدنيا؛ ولذلك فلا بد من التوعية، فإذا كان الناس همجاً ورعاعاً وجهلة فإن الاختلاف فيهم أسهل ما يمكن، أما إذا كان عندهم وعي وعلم تتحد قلوبهم على الاختيار ويتفقون، ويعلمون مضرة الاختلاف، لكن إذا كانوا جهلة غوغاء ما يعلمون مضرة الاختلاف فيختلفون؛ فيتفرقون فينهزمون.(277/34)
الأيام دول بين الناس
وكذلك أن الله سبحانه وتعالى يداول الأيام بين الناس، فبينما كانت القوة لـ جالوت وجنوده فإذا بها تصبح لـ طالوت ومن معه، ويزول سلطان الظالمين، ويورث الله الأرض للصالحين، وهذه مشاهد متكررة ومواقف متعددة عبر التاريخ.
وكذلك فإن بقاء الكفار مسلطين على المسلمين فيه فساد للأرض؛ ولذلك لم يشأ الله ذلك ولم يقدره، وإنما قدر الله أن تكون المعركة والأيام مداولة بين الناس: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] إذاً سنة التدافع مهمة لتصحيح الأوضاع، والله قادر أن ينزل النصر بلا جهاد، لكن لا بد من الجهاد لإزالة ما في النفوس من الشوائب، ويعلم الله الصابرين، ويتخذ شهداء، ويعلم المنافقين.(277/35)
لو بقيت الأرض تحت سلطان الكافرين ما عُبِد الله سبحانه
وكذلك فإن قوله تعالى في آية أخرى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج:40] دليل على أن الأرض لو بقيت تحت سلطان الكافرين ما عبد الله، ولهدمت كل أماكن العبادة من الصوامع والبيع والصلوات والمساجد؛ ولأجل هذا فإن الله لم يقدر أن الكفار يستولون على الأرض دائماً وأبداً، بل إنه عز وجل يداول الأيام بين الناس، والدول تكون مرة لأهل الحق، ومرة لأهل الباطل، وكل ذلك فيه فائدة للمسلمين، فإذا كانت الدولة لأهل الصلاح والغلبة لهم؛ طبقوا شرع الله وفتحوا الفتوحات وجيشوا الجيوش، وحكم الناس بشريعة الله، وعدلوا وأقاموا العدل، واستقرت الأحوال، وظهرت البركة في الأرض، وزال الفقر والجهل، وعندما تكون الغلبة لأهل الباطل ينكشف المنافقون، ويظهر إخلاص المخلصين، ويشتد السعي والحماسة؛ لأن هناك تحدياً يوجب المداومة في الأعمال، والمواصلة عليها، ومضاعفة الجهود لأننا في ضعف، ويتخذ الله شهداء، ويَظهر علم الله في الواقع من الذي يثبت ومن الذي لا يثبت، ولا شك أنه عندما يكون في محنة يزداد الذين آمنوا أجراً، للصابر فيها أجر خمسين.(277/36)
مضاعفة الأجر للقابض على دينه
كذلك فإنه يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر، ويكون لهم الأجر العظيم بثباتهم وقبضهم هذا، فسواء كنا في محنة أو في نعمة، سواء كان المسلمون في انتصار أو كانوا يعيشون تحت قهر العدو فإنه فيه خير في كِلا الحالتين للمسلمين، والدفاع عن الحق لا يكون إلا إذا صار هجوم، وأن الشهادة والقتل في سبيل الله لا يكون إلا إذا صار هناك قتال مع الكفار، إظهار غلبة الدين على المبادئ الأخرى عندما يكون هناك مناقشات ومحاجات ومصادمات فكرية وعقدية.(277/37)
تعليم الخبرات في مواجهة المواقف الجديدة
وكذلك فإن الله يعلمنا بهذه القصة خبرة يضيفها إلى خبراتنا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} [البقرة:246] وهذا التعليم مهم جداً إضافة الخبرات لكي نواجه المواقف الجديدة بخبرات قديمة، ومواجهة المواقف الجديدة بخبرات قديمة يثمر النجاح في المواجهة.(277/38)
فراسة نبي بني إسرائيل
وكذلك فإن قوله عز وجل: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} [البقرة:246] يظهر فراسة النبي الذي قال لهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة:246] لأنه لما كتب عليهم القتال قال الله: {تَوَلَّوْا} [البقرة:246] فكانت فراسة نبيهم فيهم صحيحة، فالفراسة من طبيعة المؤمنين وشيء يجعله الله تعالى في نفوسهم فيستشفون بها شيئاً مما يمكن أن يحدث في المستقبل ويتوقعونه، وهي ليست علماً غيبياً، فعلم الغيب لله، فأنت إن تقدم على الشيء وأنت تتوقعه أهون من أن تفاجأ به، ولذلك هذا النبي بالتأكيد ما فوجئ عندما تولى بنو إسرائيل عن القتال؛ لأنه توقعه من أول الأمر وأعرب لهم عن ذلك، فقال: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة:246]؟ وفعلاً ما توقعه حصل، فإنهم عندما كتب عليهم القتال تولوا.(277/39)
الأمة المنعمة تنهزم حال الحرب
كذلك فإن الأمم التي تعيش متنعمة تميل إلى الدعة قد يأتي عليها وقت تتمنى الحرب، لكن إذا حضرت الحرب انهزمت، كان بعض المسلمين يتمنون الجهاد فلما فرض الجهاد ماذا حصل؟ قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء:77] وهذا يعلمنا ألا نكثر من الوعود والأمنيات الجهادية، ولا نسرف في إظهار الرغبة في القتال، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف) أما أن نتوعدهم وأن نظهر أننا سنفعل ونفعل ونفعل ونرمي بهم في البحر فهذا كله هراء؛ لأن العمل الحقيقي عند اللقاء وليس قبل.(277/40)
الإمامة ليست موروثة
وكذلك فإن الناس الذين قالوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [البقرة:247] ذكر بعض المفسرين أن فيها دلالة على بطلان قول من يقول: إن الإمامة موروثة، الإمامة ليست موروثة وإنما هي من أهل الحل والعقد بناءً على العلم والقوة.(277/41)
المظهر ليس دليلاً على الجوهر
وفيه أن المظهر ليس دليلاً على الجوهر فقد يكون الشخص نحيلاً لكنه قوي، ولذلك قال الشاعر:
ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير
وقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن ذي العظم البعير
فزيادة الجسم كانت في كثرة معاني الخير والشجاعة، وليست فقط أنه طويل وعريض ومفتول العضلات.(277/42)
إثبات قاعدة: إذا أردت أن تطاع فمر بما يستطاع
وفي إباحة طالوت لجيشه أن يشربوا غرفة فيه دليل على قاعدة: إذا أردت أن تطاع فمر بما يستطاع، وأن من حكمة القائد ألا يمنعهم من شيء يحتاجون إليه منعاً باتاً، وإنما يبقي لهم فرصة لإزالة ما يحتاجونه من الحاجة؛ ولذلك فإن طالوت لم يقل: لا تشربوا أبداً ولو متم من العطش لا تشربوا، بل قال: إلا من اغترف غرفة بيده؛ ولذلك لا بد أن يكون القائد حكيماً في أمره ألا يكون تعسفياً، لأن التعسف يؤدي إلى النفور والخروج عن طاعته، وإذا منعهم عن شيء مباح لفائدة فإنه لا يمنع منعاً نهائياً وإنما يبقي فيه بقدر الحاجة، ولم يشتط عليهم في التكليف ويغلق كل الوسائل، وإنما لما منعهم من شيء أباح لهم شيئاً آخر؛ وهذا يدل على حنكته وسياسته وخبرته بالنفوس وأنه -فعلاً- أهل لما أعده الله له، ونزله فيه وهو منزلة قيادة الجيش.
ولا شك أن هناك فرقاً بين من يشرب ويعب عباً وبين من يغترف غرفة بيده يروي بها ظمأه، ويقتل بها عطشه.(277/43)
الشراب يقوم مقام الطعام إذا عدم
وفي قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة:249] عبر عن الشرب بالطعام لأنه في حال شدة العطش يكون كالطعام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ماء زمزم: (إنها طعام طعم) وقيل لـ أبي ذر: فمن كان يطعمك؟ -لما جاء مكة وجلس- قال: [ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما أجد على كبدي سخفة جوع] فهذا من بركة ماء زمزم أنه سمن حتى تكسرت عكن بطنه، يعني: سمن سمناً حتى صار شحم البطن طبقات، صار بعضه فوق بعض، وهذا خاص بماء زمزم ولا شك، لكن الذي عطش ولم يجد إلا الماء فإنه يقوم مقام الطعام بالنسبة له.(277/44)
عدم الهجوم على الماء حال العطش
ثم إن الحكمة أن الإنسان إذا عطش جداً ألا يهجم على الماء هجمة واحدة فربما يهلك، ولذلك لو وجد الإنسان في متاهة -في صحراء- وصار له فترة طويلة ما شرب فإنه يعطى قليلاً من الماء ولا يمكن من شرب الكثير فربما يموت.
وكذلك فإن على القائد أن يكون موضوعياً في تكليفاته ليس بتعسفي ولا مرهق، ولا يستغل الإمرة في إذلال من تحته أو التحكم به بتجبر، ولكنه يأمر بما فيه الحكمة.(277/45)
شدة يقين الذين بقوا في النهاية
وكذلك فإن هذه القصة تبين شدة يقين الذين بقوا في النهاية؛ ولذلك معنى قول الله عز وجل قال: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ} [البقرة:249] الظن ليس هنا الشك وإنما هو اليقين؛ لأنه يأتي بمعنى اليقين، ويأتي بمعنى الشك، ففي هذه الآية قال: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ} [البقرة:249] يعني: يعتقدون اعتقاداً جازماً أنهم ملاقو الله.(277/46)
المواهب تنبع من ميادين القتال
وكذلك فإنه يتبين أيضاً من هذه القصة أن الأدوار العظيمة لا تأتي من الفرش الدافئة، ومن بيئات الترف والنعومة والراحة، وإنما تأتي من ميادين المعركة، فالميدان هو الذي يكشف على المواهب، ولذلك برزت حكمة طالوت من خلال القيادة، وبرز موقع داود من خلال المعركة، فهذا الذي يؤهل الشخصيات، أما الذي يظن أنه يمكن أن يكون داعية عظيماً وقائداً مرموقاً، وهو جالس على أريكته، متكئ، فهذا إنسان مسكين لا يدري من أين يبدأ الطريق.
هذه بعض الفوائد، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يبصرنا بكتابه، وأن يرزقنا ما ينفعنا، وأن يجعلنا من الذين يتعلمون كتابه عز وجل، ويستفيدون من العبر التي قصها علينا في هذا الكتاب، والله تعالى أعلم.(277/47)
الأسئلة(277/48)
المراد بالنصارى الأقرب مودة للمؤمنين
السؤال
في الآية التي قرأت في صلاة التراويح تشير إلى أن أقرب الناس إلى المسلمين هم النصارى، فكيف نوفق بين هذا وبين عداوة النصارى للمسلمين في الوقت الحاضر؟
الجواب
أن الناس الذين ذكر الله في القرآن أنهم أقرب مودة إلينا ليسوا هم النصارى بإطلاق، وإنما هم النصارى الذين جاءت صفاتهم في الآيات: {مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82] هذه أول صفة: أنهم لا يستكبرون، ثاني صفة: أنهم كما قال تعالى: {إِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا} [المائدة:83] فإذاً يؤمنون ويدخلون في ديننا، فليس النصارى الذين أقرب مودة إلينا هم النصارى هؤلاء، لا، هم طائفة معينة من النصارى، نوعية معينة، وهم الذين إذا سمعوا ما أنزل إلى رسولنا دخلوا في الإسلام: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل:49] عندهم تواضع، أما هؤلاء الذين يشربون من دماء المسلمين فلا يمكن أن يكونون أبداً أقرب مودة إلينا.(277/49)
حكم تحليل الدم في نهار رمضان
السؤال
ما حكم تحليل الدم في نهار رمضان؟
الجواب
تحليل الدم في نهار رمضان لا يفطر؛ لأنه شيء يسير.(277/50)
المقصود بعلم طالوت في الآية
السؤال
ما المقصود بالعلم هنا: العلم الشرعي أو علم الأمور العسكرية؟
الجواب
كلاهما، كلام المفسرين يدل على الأمرين.(277/51)
حكم استنشاق رائحة ملطف الجو
السؤال
ما حكم استنشاق رائحة الملطف الذي يستخدم لتلطيف الجو؟
الجواب
هذا من ضمن العطورات وله رائحة؛ ولذلك الإنسان يجتنب أن يستنشقه مباشرة، لكن لو دخل إلى غرفة قد رش فيها هذا وبقيت رائحته في الجو فإنه لا يضر.(277/52)
الخلوة بالمرأة للقراءة عليها
السؤال
هل يجوز للقارئ أن يخلو بالمرأة بدون محرم للقراءة عليها أو الرقية؟
الجواب
لا.
هذا حرام، فلا يخلو بامرأة ولو كان يعلمها القرآن، فإذا كان معها غيرها من النساء إذا كان ثقة مأموناً فلا بأس؛ لأن بعض من يتولى هذا قد لا يكون فيه دين، وقد يتخذها طريقة للتكسب، وقد يتخذها طريقة للوصول إلى مآرب خبيثة والعياذ بالله.(277/53)
حكم التسمي بـ (عُلا)
السؤال
ما رأيك في اسم "عُلا"؟
الجواب
لا بأس به إن شاء الله.(277/54)
حكم نصارى اليوم في تعازيهم
السؤال
هل نصارى العصر الذين يعيشون معنا هم كفار أم أهل كتاب؟
الجواب
هم كفار وأهل كتاب، لا شك في ذلك.
تعزيتهم جائزة لكن بغير الدعاء لهم بالرحمة.(277/55)
جواز صلاة الفريضة وراء المتنفل
السؤال
هل يجوز لمن دخل المسجد ووجد الإمام قد شرع في التراويح أن يدخل معه بنية العشاء؟
الجواب
نعم.(277/56)
بطلان دعاء: اللهم إني صائم على رضاك عند الإفطار
السؤال
ما صحة هذا الدعاء أثناء الإفطار " اللهم إني صائم على رضاك، مفطر على عطية من عطاياك"؟
الجواب
هذا مؤلف تأليفاً، ليس بدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم.(277/57)
حكم من أسلم في رمضان
السؤال
إذا أسلم الكافر في رمضان هل يقضي ما فاته من الشهر؟
الجواب
لا، لم يكن مكلفاً.(277/58)
معنى الحجامة وحكمها في رمضان
السؤال
ما معنى الحجامة.
الجواب
الفصد، إخراج الدم من موضع معين بمصه وشفطه، وتفعل لأجل التداوي، وقد فعلها النبي عليه الصلاة والسلام، وحث عليها، ونصح بها، حتى إن الملائكة أوصته في المعراج أن يوصي أمته بالحجامة، ولذلك فهي مفيدة للغاية، وتفعل في السابع عشر، والتاسع عشر، والحادي والعشرين أحسن شيء، والأفضل أن تكون في يوم الخميس، يعني: لو كان الخميس وافق 17 أو 19 أو 21 فهو من أنفع الأيام للحجامة.
وأما حكمها فقد اختلف العلماء هل تفطر أم لا، فذهب الذين يقولون بعدم التفطير إلى حديث البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم) وهذا قول جمهور أهل العلم، وذهب الذين يقولون بالتفطير إلى حديث (أفطر الحاجم والمحجوم) وغيره من الأشياء التي تدل على أنها تفطر، وقالوا: إن اللفظة التي في البخاري غير ثابتة، وأن اللفظة الثانية (احتجم وهو محرم) أم لفظة (احتجم وهو صائم) فليست بثابتة.
ولذلك يقولون بالتفطير، وذهب إلى هذا الإمام أحمد رحمه الله، وشيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم ونصره نصراً مؤزراً في شرحه على أبي داود.(277/59)
حكم الاشتراك في بطاقة الفيزا
السؤال
هل الاشتراك في بطاقة الفيزة جائز؟
الجواب
هذه البطاقات فيها عدة محاذير شرعية، المحذور الأول: أنهم يقولون: إنك إذا اشتريت بالمبلغ وتجاوزت رصيدك نغطي لك بفائدة.
ويقولون كذلك: إذا تأخرت عن موعد التسديد لشركة الفيزة فإننا نرتب على تأخيرك فائدة، يعني: ربا، وهذان كلاهما حرام، وهذه من الشروط الموجودة في الفيزة.
ثالثاً: أن الفيزة عقد كفالة، وعقد الكفالة في الشريعة من عقود الإرفاق والإحسان لا يجوز أخذ مقابل عليه، فرسوم الإصدار والرسوم السنوية في الفيزة لا تجوز، وهذا ملخص فتوى الشيخ: عبد العزيز في هذه المسألة.(277/60)
حكم من ينتظر في التراويح حتى إذا ركع الإمام ركع معه
السؤال
ما حكم الذي ينتظر في صلاة التراويح الركوع ثم إذا ركع الإمام يركع مع المصلين؟
الجواب
النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (فمن وجدني قائماً أو راكعاً أو ساجداً فليكن معي أو يدخل معي على الحالة التي أنا عليها) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وبناءً على ذلك فإن الذي ينتظر حتى يركع الإمام ثم يأتي ويدخل معه في الصلاة أنه مخالف للسنة، لكن إذا كان قصد السائل: أنه دخل في التراويح من أولها، لكن قعد لأجل أنه تعب، فلما أراد الإمام أن يركع قام وركع، فلا بأس بذلك؛ لأن صلاة التراويح نافلة يجوز أن تصلى في الجلوس، والنبي عليه الصلاة والسلام جاء عنه أنه جلس في قيام الليل، فلما كان قبيل الركوع قام وقرأ آيات ثم ركع، فإذا احتاج إلى ذلك فلا بأس، أما أن يأتي شخص كسلان في سن الشباب يريد أن يجلس فهذا عيب.(277/61)
حكم صبغ الشعر بغير الأسود
السؤال
هل يحرم صبغ الشعر بغير الأسود؟
الجواب
لا يحرم بغير الأسود، لكن إذا صبغه على جهة التشبه بالكفار بألوان معينة، أو أخلاط من الألوان، فهذا لا يجوز للتشبه.(277/62)
حكم المرأة تشم النساء
السؤال
هل يجوز لامرأة أن تشم النساء؟
الجواب
إذا كان المقصود: الوشم المعروف الذي هو غرز الألوان في الجلد بالإبر فهذا حرام، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لعن الواشمة والمستوشمة) الواشمة: التي تقوم بالوشم، والمستوشمة التي تطلب منها ذلك، وإذا كان السؤال هو عن جواز إمامة المرأة للنساء فالجواب: نعم.
يجوز لها، وتقف في وسط النساء.(277/63)
حكم تعلم المواد غير الشرعية
السؤال
هل تعتبر دراسة الرياضيات، والفيزياء، والطبيعة، والكيمياء من العلوم الشرعية؟
الجواب
لا.
لأن كلمة "الشرعية" معناها: علم الكتاب والسنة، لكن أنها تدرس لفائدة المسلمين فنعم، لا شك في ذلك.(277/64)
بيان بطلان أحقية اليهود لبيت المقدس
السؤال
لقد ذكرت في بداية الحديث على أن اليهود قد استوطنوا في الأرض المقدسة منذ زمن طويل، فهل هذا دليل على صحة ادعاء اليهود في الوقت الحاضر بأن لهم الحق في الأرض المقدسة؟
الجواب
لا.
لأنه نحن نعلم أنهم كانوا في أرض فلسطين قبل العرب هذا ليس فيه شك، والعرب دخلوها في الفتوحات مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لكن لأننا -المسلمين- وُرَّاث النبوة، ديننا هو الدين السائد والنهائي، وهو الذي يجب على جميع الناس اتباعه، ونحن مأمورون بتحكيم شرع الله في الأرض، ولأن هذه الأرض أرض إسلامية لأن المسلمون هم الذين فتحوها، فإنه لا حق لليهود فيها مطلقاً لا من قريب ولا من بعيد، لأننا ورثناها عن المسلمين أولاً.
وثانياً: لأن الذي يجب أن يحكم فيها هو الإسلام.
وثالثاً: لأن هؤلاء لما كانوا فيها كان يحكمهم الأنبياء وأما هم الآن فهم على الكفر فكيف يمكنون من حكمها بالكفر؟(277/65)
حكم شراء أوراق أسئلة المسابقة
السؤال
المسابقة التي يدفع فيها نقود لتشترى بها صفحات المسابقة أو الجرائد، ثم يتسابق فيها؟
الجواب
هذه صورة من صور الميسر الذي لا يجوز.(277/66)
حكم من نوى الإفطار ثم لم يفطر
السؤال
ما حكم من نوى أن يفطر في نهار رمضان ثم توجه إلى المطبخ ووجد أمه فيه فلم يستطع أن يأكل وأكمل إلى غروب الشمس؟
الجواب
هذا فيه خلاف بين أهل العلم هل يفطر أم لا، فقال بعضهم: إنه إذا أفسد النية أفطر، وقال بعضهم: إنه لا يفطر حتى يتناول مفطراً من المفطرات، وهذا هو الراجح، لكن الأحوط له أن يقضي.(277/67)
بيان أقل مدة للاعتكاف
السؤال
ما هو أقل مدة الاعتكاف؟
الجواب
أقل مدة للاعتكاف ورد في حديث عمر ليلة: (إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال: أوف بنذرك).(277/68)
حكم المحرم إذا تعطر ناسياً
السؤال
قمت بعمرة وبعد أن انتهيت من السعي خرجت من الحرم متجهاً إلى السيارة، وفي الطريق شاهدت محل عطور، فدخلت وسألت عن نوع من أنواع العطور، فأخذت منه قليلاً ووضعته على يدي حتى أجربه، وفي هذه اللحظة تذكرت أنني لا زلت محرماً، ثم انصرفت بعد هذا كله وأنا لم أحلق رأسي؛ مع العلم أني كنت ناسياً؟
الجواب
إذا كنت ناسياً تذهب وتغسل يدك مباشرة، تغسل يدك وتحلق رأسك، فإن فعلت جهلاً فلا شيء عليك.(277/69)
حكم وضوء النائم
السؤال
هل النوم يبطل الوضوء؟
الجواب
إذا كان النوم مستغرقاً بحيث يغيب عما حوله فإنه يبطل الوضوء.(277/70)
حكم من صلى العصر بغير وضوء
السؤال
ما حكم من صلى العصر بغير وضوء؟
الجواب
يعيد صلاة العصر التي صلاها بغير وضوء.(277/71)
حكم من نوى صلاة الفجر ثم نام عنها
السؤال
ما حكم من كانت نيته أن يصلي الفجر فغلبه النوم؟
الجواب
يؤجر على نيته إذا كان غير مفرط.(277/72)
حال حديث (لا تظهر الشماتة بأخيك)
السؤال
ما حال حديث: (لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك)؟
الجواب
هذا حديث ضعيف، لكن معناه صحيح.(277/73)
حكم الجلوس مع مشاهدي المسلسلات المحرمة
السؤال
ما حكم الجلوس مع من يشاهد المسلسلات المحرمة تحتوي على موسيقى؟
الجواب
لا يجوز أن تجلس معهم.(277/74)
حكم رفع اليدين في الدعاء
السؤال
ماذا عن التأمين؟ هل يجب رفع اليدين فيه؟
الجواب
إذا كان في الدعاء فإنه يرفع يديه لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت أنه رفع يديه، وهذا دعاء فترفع فيه اليدين، ويكون كالذي يسأل شيئاً فيمد الكفين ويلصقهما ويدعو، كالذي يسأل شيئاً يقول: أعطني، يعني: هات، فإنه يمد يديه يجمعهما ويدعو.
نكتفي بهذا القدر من الأسئلة لطول الوقت، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(277/75)
قواعد في علاقة الداعية بالمدعو
إن الله عز وجل ما أرسل رسله وشرع دينه إلا لتبليغه للناس، ورسل الله هم أئمة هذا المجال وحائزي قصب السبق فيه؛ لذا وجب أخذ العبرة والعظة منهم، والاستفادة مما قاموا به من جهود؛ سواء كانت أخلاقية أو علمية أو غيرها، لنشر دين الله في الأرض.
وقد استعرض الشيخ حفظه الله تبعاً لذلك قواعد مستنبطة من كتاب الله وسنة رسوله في كيفية معاملة الداعية لمن يدعوه ويريد أن يهديه لدين الله سبحانه وتعالى.
ثم ختم حديثه باغتنام فرصة الفراغ قبل الشغل ليدعو إلى الله تعالى.(278/1)
عهد الله إلى أنبيائه ورسله بالتبليغ
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن محاضرتنا في هذه الليلة ستكون في موضوع الدعوة إلى الله عز وجل.
أيها الإخوة: الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وظيفة الأنبياء والمرسلين، الدعوة إلى الله هي أشرف وظيفة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
ويدلك على حسن هذه الوظيفة قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] أمر الله عباده بالدعوة، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، والأمر للرسول أمر للأمة فقال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] هذه الوظيفة التي لا خيار لنا فيها ولا بد من القيام بها، إذ القيام بها واجب تكليفي، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى أخبر عن وظيفة المؤمنين بقوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب:39] وقد أخذ الله العهد على الأمم من قبلنا أن يبلغوا وأن يدعوا إلى الله فقال عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] وأمرنا صلى الله عليه وسلم بالتبليغ: (بلغوا عني ولو آية) وقال: (نضر الله امرأ سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
وعدم القيام بواجب الدعوة يعني السكوت عن نشر العلم وتبليغه للناس، وهذا التفريط يوقعنا في محظور عظيم، يقول صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً فكتمه ألجمه الله سبحانه وتعالى بلجام من نار).
والداعية إلى الله عز وجل ينطلق من سمو الهدف، وينطلق من عظم الأجر الوارد في حديثه صلى الله عليه وسلم: (لئن يهدي بك الله رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) خير لك من الدنيا وما فيها.(278/2)
الدعوة أمر واجب على كل مسلم
أيها الإخوة: إن موضوع الدعوة إلى الله موضوع طويل ومتشعب، فمما ينبغي طرقه: بيان وجوب الدعوة إلى الله، وأجر الدعوة إلى الله، وأهمية الدعوة إلى الله، وثقافة الداعية وعلمه، وأساليب الدعوة، ونحو ذلك، ولكننا سنتكلم في هذه الليلة في زاوية معينة من هذا الموضوع الواسع، وهي: قواعد في علاقة الداعية بالمدعو.
هذه العلاقة الحساسة التي ينبني عليها نقل الدعوة، ونقل الدين، والشريعة، ونقل أوامر الله ونواهيه من الداعية إلى المدعو.
وينبغي أن نكون أيها الإخوة جميعاً دعاة إلى الله، الدعوة إلى الله ليست وظيفة أشخاص معينين، بل هي وظيفتنا كلنا، كلنا ينبغي أن نكون دعاة، كلنا ينبغي أن نبلغ، كلنا ينبغي أن نستشعر المسئولية، كلنا ينبغي أن نقوم بالواجب، كلنا يبلغ ما يستطيع أن يبلغه من هذا الدين، كلنا ينبغي أن نكون هكذا.
ولكن الناس في غفلة، وكثير منهم يحتاجون إلى دعوة لإيقاظهم، فمن هنا انقسم الناس بين داعية ومدعو، وإلا فالواجب على أفراد الأمة أن يكونوا كلهم دعاة، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يطبقون شرع الله عز وجل، ويبلغون الدين إلى الناس كافة، وهذا الدين مهيمن على سائر الأديان، ويجب على أتباعه وحملته أن يكونوا دعاة إلى هذا المنهج.
وإن ما تجمع لدى كثير من أهل الإسلام من رصيد علمي وعملي قد بلغ بكل تأكيد عند الكثيرين حد النصاب الذي تجب الزكاة فيه، الزكاة للفقراء في العلم، والمساكين في العمل، الذين تنوعت بهم دروب البدع والمعاصي.
إن أفراد هذا المجتمع من المستحقين للزكاة، فهلا قام دعاة الإسلام بواجبهم وأخرجوا زكاة هذا العلم الذي يحملونه.
وكنت أريد أن أقول كلمة مختصرة تجمل هذا الموضوع (علاقة الداعية بالمدعو) فخطر في بالي عبارة نقرأها أحياناً في الشوارع، في اللافتات تقول: القيادة فن وذوق وأخلاق، فوجدت بعد نوع من التأمل أن استعارتها هنا مناسبة، أن الدعوة إلى الله عز وجل: فن وذوق وأخلاق، وأن قيادة البشر أصعب من قيادة السيارات وأحوج إلى الفن والذوق والأخلاق من تلك، الدعوة إلى الله علم وتطبيق لا بد من اقترانهما، تعلم واقتداء وخبرة وممارسة.
ونحن إذ نقدم هنا الجانب النظري لنؤكد على أنه سيبقى كلاماً مطوياً ما لم يتحول إلى واقع، وما لم يتبلور إلى أمور محسوسة ومرئية في هذا الواقع الذي نعيش فيه.(278/3)
عناصر المحاضرة
وسوف نتطرق خلال حديثنا عن هذه العلاقة بين الداعية والمدعو إلى الأمور التالية: -علاقة الداعية بالمدعو ينبغي أن تكون خالصة لوجه الله.
-يجب أن يشعر المدعو أنك حريص عليه يا أيها الداعية وتحب له الخير.
-وهذه العلاقة لا بد أن تكون علاقة هداية وتعليم.
-ولا بد أن تكون قائمة على تحبيب الخير إليه وتبغيض الشر.
-ولا بد أن تكون هذه العلاقة قائمة على الإشفاق والرحمة، وليس على التكبر والقسوة والاحتقار.
-ولا بد أن تكون هذه العلاقة قائمة على مراعاة الأولويات.
-ولا بد أن تكون قائمة على الرفق.
-ولا بد أن يكون فيها تدرج.
-ولا بد أن تكون قائمة على الحكمة.
وهذه أمور بعضها من بعض، ولكن تفرد للدلالة على أهميتها فيكون ذكر بعضها قبل بعض من باب ذكر الخاص قبل العام لأهميته ونحو ذلك.
-وينبغي أن تكون هذه العلاقة قائمة على مراعاة الأحوال، ولا بد أن تكون هذه العلاقة كذلك قائمة على الصبر على هذا المدعو، وهي قائمة أيضاً على مراعاة المصالح والمفاسد، وتقوم كذلك على الاحترام المتبادل والمحافظة على المشاعر، وهي كذلك محتفظة بدرجة من الجدية والوقار.
-وهذه العلاقة أيضاً ذات نفع متعد لأقرباء المدعو وأصدقائه.
-وينبغي أن تكون كذلك قائمة على نفعه وخدمته، وليس على انتظار النفع منه.
-وأن تكون هذه العلاقة بعيداً عن العواطف الهوجاء.
وإليكم الآن تفصيل هذه الأمور، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما نسمع، وأن يجعل فيما نسمع حجة لنا لا حجة علينا، وأن يرزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً إنه سميع قريب.(278/4)
أولاً: ينبغي أن تكون هذه العلاقة خالصة لوجه الله عز وجل
ولذلك جاءت الآيات بتحديد هذا وتوضيحه أيما توضيح، فقال الله تعالى على لسان أنبيائه إذا أرسلوا لأقوامهم، كل منهم يقول: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57] ويقول عليه الصلاة والسلام لما أمر أن يقول لقومه ما سألتكم من أجر فهو لكم: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [هود:29] فإذاً الدعوة من الداعية للمدعو شيء لوجه الله، لا يراد منه في الدنيا جزاء ولا شكورا.
وكذلك فإن هذه الدعوة لله خالصة، ليست دعوة لحزب ولا لعصبية ولا لطائفة، وإنما دعوة إلى المنهج، دعوة إلى الدين، دعوة إلى الإسلام، دعوة إلى الحق ودعوة إلى الشريعة، دعوة لهداية الناس، دعوة للبلاغ، دعوة لإقامة الحجة، ومن الطبيعي أنك إذا دعوت شخصاً فإنك ستقوم بمهمة تعليمه وتثقيفه وتربيته، فسيكون معك أو مع وسط صالح من إخوانك في الله، ولكن هذا شيء والتعصب والتحزب شيء آخر، ونسيان أن الدعوة للمنهج وللدين وليست للشخصيات ولا للطوائف هذا أمر في غاية الأهمية، وهو الذي يدل على إخلاص الداعية من عدمه.
ولذلك فإن الداعية يذكر نفسه دائماً أنه لا يدعو لنفسه وإنما يدعو لله عز وجل، ولسان حاله يقول: لو رأيت داعية غيري يفيد هذا المدعو أكثر مني من دعاة أهل السنة لتركته له، فهي بعيدة عن العصبية والحزبية.(278/5)
أمور تقدح في إخلاص الداعية
من الأمور التي تقدح في الإخلاص: أن يشعر بعض الدعاة أو يشعرون المدعو بأنهم أصحاب فضل عليه، وأنه لا بد أن يشكرهم على ما أسدوا إليه من المعروف العظيم، أو يحاول داعية أن يستغل مدعواً في أموره الدنيوية، من أمواله أو سيارته ونحو ذلك، وبالتالي يشعر المدعو أنه محل مطمع أو مطامع فيهرب.
وإذا كانت الدعوة لله والعلاقة بين الداعية والمدعو مبنية على الإخلاص لله، فإن الداعية يتحرك مع هذا المدعو يبتغي الأجر والثواب من الله، وهو يعلم تماماً أنه لا يصلح له أن يتوقف عن الدعوة، ولا يصلح له أن يدعو ساعة وساعتين أو يوماً ويومين ثم يترك الدعوة.
فهي ليست على التفرغ وإنما هي مهمة مستمرة، وإحساسه بهذا الأجر والثواب يدفعه للمواصلة وعدم التوقف، وهو يتذكر حديثه عليه الصلاة والسلام في شأن اليهود الذين عملوا من أول النهار إلى الظهر على أجر معلوم، ثم قالوا لصاحب العمل: لا نريد أن نعمل ولا نريد أجراً، فقام النصارى فعملوا من الظهر إلى العصر ثم قالوا لصاحب العمل: مللنا، لا نريد مالاً ولا أجراً ولا نريد العمل، ثم قام المسلمون، فعملوا من العصر إلى آخر النهار -إلى موعد استيفاء الأجر؛ لأن الأجر سيحل في آخر النهار؛ إذ الأجرة على من أكمل العمل إلى آخر اليوم فأخذوا أجر الفرق جميعاً.
والشعور بأن المسألة فيها حسنات، ورفع درجات، واقتداء بالأنبياء، وأنك ستحصل على مثل حسنات هذا المدعو لو اهتدى، وأن كل عمل سيقوم به هذا المدعو نتيجة دعوتك، فإن لك من الأجر مثلما يعمل، هذا هو الذي يحركك وهو الذي يدفعك ويكون عندك اندفاعاً ذاتياً، ولن تقول: تعبت أو يئست، ولن تترك شخصاً إلا لمصلحة شرعية.
وهذا الشعور هو الذي سيدفع الداعية للصبر على الصدمات والانتكاسات، قد يرجع إليه المدعو بعد إجازة وقد غير شيئاً من السنن التي كان قد تمسك بها، أو ترك واجبات أو وقع في محرمات، فيكون الصدر فسيحاً متسعاً للتلقي وهو يعلم هذا الداعية بأن هذا المدعو لم ينضج بعد: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14].(278/6)
ثانياً: إشعار الداعية للمدعو بالحرص عليه
ثانياً: ينبغي أن يكون من نتائج هذه العلاقة: أن يكون شعور المدعو أنك حريص عليه، تحب الخير له، ولذلك تأمل في سير الدعاة القدماء الأولين من الأنبياء والصالحين، هذا نبي يقول لقومه: {إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59] وهذا مؤمن آل فرعون يقول لقومه: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:38] أنا حريص عليكم يا قوم، أنا أريد منفعتكم: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41]، ثم يقول: {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29] {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} [غافر:30].
فإذاً: عندما يشعر المدعو أنك تريد الخير له فإن هذا مفتاح من مفاتيح استجابته لك، وتأثره بدعوتك إياه، وإيصال الخير إلى الآخرين.
يقتضي أن يذهب الداعية إلى المدعوين، لا أن ينتظرهم كي يأتوا هم، فإنهم قد لا يأتون على الإطلاق، ولا يقولن داعية أبداً: ما جاءني أحد يسأل عن هذا الدين وأنا في انتظار، نقول: اذهب إليهم في أماكنهم، نغشاهم في أعمالهم، في المساجد، في المحافل، في المساكن، في المصانع، في المزارع، في المدارس، في الجامعات وهكذا، وأنت تتذكره صلى الله عليه وسلم في سيرته الذي قال الرواة وأخبروا بأنه كان يذهب إلى أماكن القبائل في المواسم وفي الحج وفي الأسواق يعرض عليهم الدعوة، ويتنقل كما قال الصحابي: كنت مع أبي في الموسم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب إلى القبائل، إلى أماكن تجمعاتهم، ويعرض عليهم الدعوة، يمر عليهم واحدة واحدة، ويكلمهم ويدعوهم إلى لا إله إلا الله، ويقول: يا أيها الناس من يمنعني حتى أبلغ رسالة ربي، ووراءه رجل أحول وضيء يقول لهم: لا تصدقوه إنه كذاب، من هو؟ عمه أبو لهب.
وذهب عليه الصلاة والسلام إلى الطائف فماذا يفعل اليوم بعض المتكاسلين الذين يقولون: نحن ننتظر ونقعد فإذا جاءنا أحد دعوناه، وإذا لم يأت أحد، فالحمد لله نحن في سعة وراحة.(278/7)
ثالثاً: ينبغي أن تكون هذه العلاقة علاقة هداية وتعليم
إن الداعية الحريص على المدعو يقتدي بحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعية العظيم الذي يقول الله في شأنه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] وهذا إبراهيم عليه السلام لما جاءته الملائكة يبشرونه بإسحاق وهم في طريقهم إلى قوم لوط لإهلاكهم، ما نسي إبراهيم قوم لوط: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:74] يجادل الملائكة في قوم لوط، لو فيهم كذا مسلمين تهلكونهم {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75] صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم تسليماً كثيراً.
وهذا الحرص يقتضي أن يحس الداعية أنه ينبغي أن يحاول في هذا الرجل أو هذه المرأة إذا كانت امرأة تدعو امرأة أخرى مثلاً أن تهتدي إلى الحق، وأن تبصر الحق مثلما أبصره هذا الداعية.
ثم تكون هذه العلاقة فيها تعليم؛ لأن الحرص معناه أنك ينبغي أن تثقفه وتزوده وتبصره وتقدم له المفهومات الإسلامية والتصورات الدينية التي يحتاجها هذا المدعو، ولذلك فإننا نذكر هؤلاء الناس الذين يشتغلون في الدعوة، ولكن إذا تأملت في علاقتهم بالمدعوين، وجدت علاقة استئناس وقصص وسوالف، ويظنون أنهم يقومون بالدعوة، ولو سألت هذا المدعو: ماذا استفدت من هذا الشخص الذي جلس معك؟ لما استطاع أن يأتي إلا بأمور يسيرة جداً لا تكاد تذكر، ذلك أن هذا الداعية يخدع نفسه، فيظن أنه يدعو، والحقيقة أنه يقيم علاقات اجتماعية فقط، يتداخل مع الناس، لكن في النهاية ماذا استفاد الناس؟ لا شيء.
ولأجل ذلك ينبغي أن يعد كل داعية في نفسه قبل أن يذهب إلى المدعو، ماذا يريد أن يقول له؟ ما هو المفهوم الذي سيوضحه؟ وما هو التصور الذي سيقدمه؟ وما هي الأحكام التي سيبينها؟ فإذا رجع من عنده حاسب نفسه، فقال في نفسه: يا ترى ماذا أفدته؟ ماذا قدمت له؟ هل قمت بما كنت أفكر القيام به قبل أن أزوره؟ وهكذا.
ثم على الداعية أن يتأمل ماهي هذه التصورات التي من المهم أن ينقلها إلى هذا المدعو، مثلاً: لا بد أن يكلمه عن الإيمان وأركانه، وأن يشرح له شيئاً عن الإسلام وأركانه، ومعنى الشهادتين والتوحيد وأنواعه، والمفهوم الواسع للعبادة واليوم الآخر، وتفصيلات اليوم الآخر والقيامة وما فيها، وتغيير العادات القبيحة والطباع السيئة، واتباع السنة وترك البدع، وترك تقليد الآباء والأجداد على الباطل، يذكره بعظمة الله ومراقبته، يذكره بحاجته إلى الهداية، ثم يبين له مفهوم العمل الصالح، ما هي أركان العمل الصالح، وأهمية التفقه في الدين، ويبين له أشياء عن أعمال القلوب، وصنائع المعروف، وشعب الإيمان، وحب الخير وبغض الشر، والورع وترك الشبهات، ويبين له كيد أعداء الإسلام وسعيهم لهدم هذا الدين، وهذا الضياع والتيه الذي تعيش فيه الأمم اليوم من أصحاب الحضارات الكفرية، وكيف يتخبطون، حتى لا يفتن هذا المدعو بها، ويزول إعجابه بهؤلاء الكفرة أو الفسقة المجرمين المخربين.
وهكذا يستمر في التفكير: ماذا يقدم؟ ما هي التصورات اللازمة أن تعطى لهذا المدعو؟(278/8)
رابعاً: تكون العلاقة قائمة على تحبيب الخير
رابعاً: لا بد أن تكون هذه العلاقة قائمة على تحبيب الخير وتبغيض الشر إلى المدعو، فبعض الناس يتصور أن الدعوة هي عبارة عن إعطاء المدعو كتباً وأشرطة ليستمع إليها ويقرأ في تلك الكتب وهكذا، من غير مقدمات في التشويق والتحبيب لهذا العلم وهذا الخير، دون ترغيب أو ترهيب، ترغيب في العلم والحرص عليه، وترهيب من الجهل وعاقبة صاحبه.
وبعض الدعاة أيضاً قد يظن بأن أمر المدعو بالأوامر الرسمية والإلزام يظنه من الدعوة، دون تقديم هذا التحبيب وتقديم هذا التشويق، وهذا الترغيب والترهيب، وهذا صلى الله عليه وسلم يعلمنا فيقول: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل) فكان هذا مثلاً، لم؟ لكيفية عرض الأمر ودعوة رجل إلى قيام الليل كيف تكون: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل).
فإذاً: لا يصلح هذا الجفاء في العرض، ولا يصلح هذا النمط من الجمود في تقديم الأمور وإلا فمتى يتأثر المدعو إذا كانت الدعوة بهذه الطريقة.(278/9)
خامساً: تكون العلاقة قائمة على الإشفاق والرحمة
خامساً: ينبغي أن تكون العلاقة بين الداعية والمدعو قائمة على الإشفاق والرحمة، ولا على التكبر والقسوة والاحتقار، فإن بعض الدعاة إذا نظر إلى المدعو وما هو فيه من المعاصي والآثام وما هو واقع فيه من محادة الله عز وجل، وكم أطاع الشيطان في أموره، فقد يبدأ في معاملته باحتقار وقسوة؛ لأنه فاسق، منافق، فاجر، لا يستحق ابتسامة، ولا كلمة طيبة، ولا معاملة حسنة واقعه سيئ، لا بد أن أغلظ عليه وهكذا، وينسى أن دعاة الرسول صلى الله عليه وسلم ما كانوا هكذا يدعون الناس، هل كان مصعب بن عمير عندما بدأ في دعوة سادات الأوس والخزرج عمل بهذه الطريقة؟ الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يدعو الكفار كيف كان يدعوهم؟ وهم مشركون نجس: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28].
كان يجلس معهم، ويعرض عليهم الأمر، ويقرأ عليهم القرآن، ويقول: يا فلان كم إلهاً تعبد؟ فيقول: ستة في الأرض وواحد في السماء، فيقول: وأيهم الذي تدخره لرغبتك ورهبتك؟ فيقول: الذي في السماء، فعرض الأمر عليه بهدوء وتؤدة، فكان في ذلك استجابة هذا الرجل وإعلانه بالشهادة ونطقه بها ودخوله في دين الإسلام.
وأما إذا كان الداعية ينظر بنظرة احتقار واستعلاء إلى هذا المدعو وانعكس هذا على التصرف، فليس إلا البغض والنفور من هذا المدعو، وليتذكر الداعية إذا قام في نفسه شيء من ذلك قول الله عز وجل: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94] إذا جاء في نفسك كره أو بغض لهذا الشخص، أو احتقار له، إنه إنسان يتعاطى ويشرب ويعمل ويعمل وبدء الأمر يتحول إلى استعلاء وتكبر عليه، وأنك ترى نفسك عالياً وهذا الآخر في أسفل سافلين، وانعكس ذلك إلى معاملة سيئة، فتذكر قول الله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} [النساء:94] كثيراً من الدعاة ماذا كانوا قبل أن يصبحوا دعاة، وقبل أن يلتزموا بهذا الدين؟ {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} [النساء:94] كانوا عصاة وفجرة، كانوا بعيدين عن شرع الله، حتى مَنَّ الله عليهم فهداهم، فالمنة من الله إذن فلماذا احتقار الناس؟ فتقديم الدعوة بقالب التواضع، وتقديم الأفكار والمفاهيم والتصورات بقالب حسن الخلق هو الذي يؤثر فعلاً.
أما أن نقول للناس: أنت يا فاسقاً في سلوكك، ويا مبتدعاً في عملك، ويا كافراً في معتقدك، ونصنف ونسب، ونكيل ألوان وأصناف الألفاظ البذيئة للناس، فإننا لا نساهم بشيء في تقدم مستواهم، ولا في تركهم لشركهم أو بدعتهم أو معصيتهم.(278/10)
سادساً: لا بد أن تكون هذه العلاقة قائمة على مراعاة الأولويات
رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) أول ما يعرض على الشخص التوحيد.
(فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم؛ وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
فإذن الأصول قبل الفروع، المبادئ العامة قبل التفصيلات، وهكذا يكون الأمر، وسيأتي مزيد من ذكر هذه الأشياء حينما نتكلم عن التدرج، لأن الأولويات والتدرج والرفق أشياء متداخلة في عالم الدعوة إلى الله.(278/11)
سابعاً: أن تكون العلاقة قائمة على الرفق
ولا أحلى من الرفق وسيلة يركبها الداعية للدخول إلى قلب من يدعوه، وقصصه عليه الصلاة والسلام مع الناس في الدعوة تنبئك عن أمر عجيب من الرفق.(278/12)
رفق الرسول صلى الله عليه وسلم بالناس
قصة الرجل الذي بال في المسجد معروفة لديكم، وقصة الرجل الذي تكلم في الصلاة، وقصة الرجل الذي قال له: لا أحسنت ولا أجملت، والرجل الذي جذبه بحاشية ردائه -أي: البرد -حتى أثر ذلك في صفحة عنقه صلى الله عليه وسلم، ماذا كان موقفه؟ وزيد بن سعنة الذي جاء وقال: إنكم يا بني عبد المطلب قوم مطل، أنا أعطيتك وأقرضتك وأنت ما وفيت، وأغلظ عليه، فما زاده صلى الله عليه وسلم شدة الجهل عليه إلا حلماً.
حتى لقد كان ذلك اليهودي يترقب أن يظهر منه عليه الصلاة والسلام هذا الأمر فظهر على حقيقته، ونهى عمر عن التغليظ على هذا الرجل، وأمر بوفاء الدين، وأمر بأن يعطى عشرين زيادة على ما اقترضه منه مقابل الترويع، وهذا الحديث الذي أخرجه أبو الشيخ في أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره، وقد ذكر الحافظ رحمه الله في الإصابة أن رجاله ثقات وفي أحدهم اختلاف بين ابن المديني وابن معين وابن أبي حاتم رحمه الله تعالى، ولكن له شاهد آخر.
والشاهد من الكلام كله: أنه صلى الله عليه وسلم في دعوته للناس كان رفيقاً رحيماً، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن شر الرعاء الحطمة) أخرجه أحمد ومسلم.
والحطمة هو العنيف، والرعاء جمع راعي {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص:23] الذين يرعون الغنم أو الإبل، (إن شر الرعاء الحطمة) من هو الحطمة الذي هو شر الرعاء؟ قال شراح الحديث: هو العنيف برعاية الإبل في السوق والإيراد والإصدار، إذا أوردها الماء وأصدرها عنه وساقها إلى مكانها أو رعاها، ويلقي بعضها على بعض يعسفها ويشتد عليها ويقسو، هذا شر الرعاء.
ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لوالي السوء، هذا الحديث له قصة: دخل عائض بن عمرو على عبيد الله بن زياد، وكان عبيد الله بن زياد ظالماً شديداً على الناس، وعائض بن عمرو صحابي رضي الله عنه فقال: (يا بني! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن شر الرعاء الحطمة، فإياك أن تكون منهم -هذا الوالي ظالم قليل أدب- قال له: اجلس إنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم) قال: أنت من النخالة، لماذا؟ لأن الصحابي هذا تأخر إسلامه، قال: أنت ما صاحبت أنت من النخالة، سوء أدب مع الصحابي.
فقال عائض رضي الله عنه: (وهل كان لهم نخالة؟ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم).
فالداعية لا يكون حطمة مع المدعوين، لا يعسفهم ولا يشتد عليهم، وإنما يكون رفيقاً بهم.(278/13)
ومن أمور الرفق: الرفق في التعرف على المدعو
فإن بعض الناس قد يدخلون في مدعو دخلة شديدة غير لائقة، تثير الاستغراب والدهشة، وربما أثارت النفرة من هذا المدعو -في هذا الرجل الذي جاء يتعرف عليه بهذا الأسلوب المستغرب- فينبغي أن يكون الإنسان رفيقاً وحليماً، فإذا لم ينجح في التعرف على المدعو في المرة الأولى، فليرجئ ذلك إلى المرة الثانية والثالثة، حتى يصادف وضعاً مناسباً وهكذا.(278/14)
أمور تنافي الرفق
من ضمن الأشياء المنافية للرفق أيضاً: أن يكثر ملازمة المدعو جداً بحيث يضيق منه ولا يطيق الجلوس معه، ويريد مفارقته، الآن صار مثل هذه اللاصقة التي لا تنفك وهو يريد الفكة لأنه قد طفح به الكيل من كثرة هذه الملازمة وكتم الأنفاس.
وكذلك فإن من الأمور التي تنافي الرفق في علاقة الداعية بالمدعو: الاشتداد في الإنكار عليه والإغلاظ له إذا عمل معصية، بحيث ينفر هذا المدعو منه، وهذه قصة لطيفة تبين ذلك: قال حماد بن سلمة: إن صلة بن أشيم رحمه الله مر عليه رجل قد أسبل إزاره، وهذا صلة بن أشيم كان له تلاميذ وأصحاب، فهم أصحابه أن يأخذوه بشدة، فقال: دعوني أنا أكفيكم، فقال صلة للرجل: يا بن أخي إن لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك يا عم؟ انظر الشيخ الكبير يقول للرجل: يا بن أخي لي إليك حاجة، أنا أريد منك حاجة، خدمة، قال: وما حاجتك يا عم؟ قال: أحب أن ترفع إزارك، قال: نعم وكرامة.
فرفع إزاره، فقال صلة لأصحابه: لو تركتموه أو قرعتموه لقال لا ولا كرامة وشتمكم.
فالأسلوب الحسن يأتي بالمردود الحسن، وهذا مثل آخر: خرج محمد بن عبد الله بن عائش رحمه الله ليلة من المسجد يريد منزله، وإذا في طريقة غلام من قريش سكران قد قبض على امرأة فجذبها فاستغاثت فاجتمع الناس عليه يضربوه وهو سكران لا يحس، فقال للناس: تنحوا عنه، ثم أخذه فقال: امض معي، فمضى معه حتى صار إلى منزله، فأدخله، فقال لبعض غلمانه: بيته عندك، فإذا أفاق من سكره فأعلمه بما كان منه، ما فعل في الشارع أمام الناس ولا تتركه ينصرف حتى تأتيني به، فلما أفاق الرجل من سكره ذكر الغلام له ذلك، فاستحيا استحياءً شديداً وهمَّ بالانصراف فقال الغلام: قد أمر أن أدخلك عليه، فقال له ابن عائش لما دخل عليه: أما استحييت لنفسك، أما استحييت لشرفك، أما استحييت من ولدك، فاتق الله وانزع عما أنت فيه، فبكى الغلام منكساً رأسه، ثم رفع رأسه وقال: عاهدت الله عهداً يسألني عنه يوم القيامة، أني لا أعود إلى الشراب ولا لشيء مما كنت فيه، وأنا تائب، فقال: أحسنت يا بني، فكان الغلام بعد ذلك يلزمه ويكتب عنه الحديث.
ومن الأمور المنافية للرفق في الدعوة: أن ينسى بعض الدعاة أنه داعية في بعض المواقف، فيخطئ المدعو ويعنفه، فلنفرض مثلاً أنه ذهب معه في نشاط ترويحي، لنفترض أنه مثلاً في لعب كرة، من باب التداخل والتجديد والترويح، فنسي الداعية نفسه أثناء اللعب، وكلما أخطأ هذا المدعو في نقل الكرات نزل عليه بالتعنيف وباللوم الشديد ونسي واجبه الدعوي، وصار همه الآن فقط في الكرات ونقلها والتسديدات والإصابات ونحو ذلك، فهذا من الأخطاء الشائعة.
وكذلك ما يحدث من بعض الدعاة من جدل عقيم في أمر دنيوي ينزل إلى مستوى المدعو، وقد يتجادل معه أي السيارتين أحسن، وأي السلعتين أجود، وهذه ليست من الدين في شيء، وينسى أنه داعية، وفي الأمور الدنيوية يتصرف مع المدعو كعامة الناس وربما جهل ونسي، ولا يتذكر أنه داعية إلا إذا طرح موضوعاً شرعياً فيه قال الله وقال رسول الله، فهذا من الانفصام النكد بين الحالتين، ولا يصلح ذلك في تصرف داعية مع مدعو.
ومما ينافي الرفق أيضاً: أن يطبق الداعية مع المدعو ما حصل معه هو شخصياً في مبدأ أمره، وقد لا يكون ذلك مناسباً للمدعو أبداً، فلنفرض أن داعية وفق برجل انتشله انتشالاً عميقاً وأحسن إليه إحساناً عظيماً ونفعه نفعاً كبيراً، وسهل له الأمور في طلب العلم والدعوة والتخلص من منكرات كثيرة، ونصحه بنصائح، فالآن هذا الداعية يريد أن هذا المدعو يقفز مثلما قفز هو، وقد لا تلائم الظروف، قد تختلف الشخصيات ويختلف الأشخاص الذين نقلوا، والذين دعوا في الأصل، والفرق بين الداعية الأول والداعية الثاني قد يكون أكبر مما يفعله هذا الداعية الجديد مع المدعو.
فلا بد من مراعاة هذه الأمور، وما كان سهلاً بالنسبة لك قد يكون شاقاً بالنسبة له، فلا تحمله ما لا يطيق.
ومن الرفق كذلك: تشجيعه في العمل وتكليفه بالأمر اليسير حتى إذا نجح فيه شعر بحماس، وشعر هذا فعلاً بقيمة العمل، وأنه أنتج وأثمر فتشجع على مزيد من السؤال.(278/15)
ثامناً: لا بد أن تكون العلاقة قائمة على التدرج
ولهذا أمور كثيرة: فمنها: ألا يطالب الداعية المدعو فوراً بطلب العلم، وبالمنهجية فيه، أو بحفظ النصوص، وهو إلى الآن (خام) لم يتعود بعد على مثل هذه الأشياء، أو أن يطالبه بالارتقاء إلى مستويات عالية في الأمور الإيمانية، فيطالبه بقيام الليل وبصيام النافلة، وهكذا، والمدعو بعد لم يتعود على القيام بالفرائض، ولم تستقر نفسه وترسخ قدمه في سبيل الإسلام أو فرائض الإسلام الأساسية، فيكون مطالبته بهذه الأمور من النافلة شاقاً عليه منافياً للتدرج، وقد يفعل ذلك فترة ثم يترك الفرض والنفل.
ومن الأمور كذلك: عدم تكليف المدعو بأن يشتغل مباشرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو أن يحوله إلى داعية بطريقة قسرية، أو يدفعه دفعاً في قفزة محطمة لمثل هذه الأعمال الكبيرة التي تحتاج إلى تهيئة وتدريب ومراس ومران وهكذا.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا) وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن تبدل أحكام الإسلام لتريح الذي يستمع إليك من المدعوين، لكن أن تعلم أن هذا الدين متين، فتراعي حسن المدخل على المدعو، وأن تختار أيسر الأمرين ما لم يكن إثماً.
ومن التدرج مع المدعو: مخاطبته على قدر عقله، فإن على الداعية أن يخاطب المدعو من حيث انتهى علم هذا المدعو لا من حيث انتهى علم الداعية، من حيث انتهى فهم المدعو لا من حيث انتهى فهم الداعية.
فإن بعض الدعاة قد يتخيل أو يتصور أن المدعو الآن لا بد أن يفهم مثلما يفهم هو، ويستوعب مثلما يستوعب هو، وأنه سريع الاستنباط، وسريع الوصول إلى الأمر وفهم القضية مثله، وليس الناس بمستويات متشابهة أو متقاربة، ولذلك يقول علي رضي الله عنه كما روى عنه البخاري في صحيحه: [حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله].
ولذلك من الفوائد التي يرشد إليها كلام علي رضي الله عنه أيضاً من باب التدرج: تأليف قلب المدعو ربما يعرف من الإسلام أولاً، وعدم مخاطبته بغرائب العلم، والأشياء التي لا يطيق فهمه استيعابها، أو لا يطيق عقله فهمها.
قال ابن مسعود: [ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان فتنة لبعضهم] وقد ضرب سلفنا رحمهم الله مثلاً عظيماً في هذا.
قال الشافعي: لو أن محمد بن الحسن كان يكلمنا على قدر عقولنا، ومحمد بن الحسن عالم عظيم من العلماء وفقيه، وعقله جبار، عقله طاقة هائلة، وهو من شيوخ الشافعي.
قال الشافعي: لو أن محمد بن الحسن كان يكلمنا على قدر عقله ما فهمنا شيئاً، ولكنه كان يكلمنا على قدر عقولنا فنفهمه.
وهذا التبسيط في الأمور وحسن العرض من الحكمة في الدعوة، وقال النضر بن شميل: سئل الخليل عن مسألة - الخليل معروف من كبار علماء اللغة والقرآن والسنة أيضاً- فأبطأ في الجواب فيها، فقلت ما في هذه المسألة، وما كل هذا النظر، قال الخليل رحمه الله: فرغت من المسألة وجوابها، ولكني أريد أن أجيبك جواباً يكون أسرع إلى فهمك، يقول: أنا الآن لا أفكر في الجواب، الجواب انتهى عندي من زمان، لكني أفكر في الطريقة السهلة الميسورة التي إذا عرضتها عليك فهمت الأمر.(278/16)
تاسعاً: أن تكون العلاقة قائمة على الحكمة
والحكمة والتدرج والرفق كما ذكرت شيء واحد تقريباً، ولكن من الحكمة اجتناب ما يسرع الناس إلى إنكاره، فإن بعض الأشياء والتصورات الكبيرة في العلم إذا عرضتها على الشخص أنكرها وقال: أنت إنسان لا تفهم الواقع، أو لا تفهم شيئاً، وأنت إنسان عندك شطحات، ولا يقبل منك أمراً، ولكن من الحكمة أن ترجئ ذلك حتى يستوي نضجه ويكبر فهمه فتعطيه من هذه المسائل.
فتألف قلوب الناس بما يعرفون، وعدم إتيانهم بغرائب العلم من الحكمة، والتبسيط وعدم التعقيد كذلك، وتشجيع المدعو على السؤال من الأمور المهمة حتى يكون ذلك طريقاً إلى فهمه وحرصه على العلم.
ومن هذه الحكمة وداخلة في التدرج أيضاً: ما بينته عائشة رضي الله عنه فقالت: [أول ما نزل من القرآن سور المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام].
ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبداً، وهكذا.
فلا بد من تغيير النفوس شيئاً فشيئاً وإعدادها لتقبل الأوضاع الجديدة، وفطام الطفل يكون على مراحل، وهكذا يكون وضع هذا المدعو، فلا بد أن تكون الأمور إذن فيها تدرج، ولا بد أن يكون فيها الأولويات التي أشرنا إليها، وأول ما يبدأ مع مدعو عاصٍ وفاسق لا يبدأ معه بالحلال والحرام، وإنما يبدأ معه بعرض حقائق الإيمان، ووجوب طاعة الله؛ الحساب، الجزاء، الجنة، النار، ما أعد الله لأوليائه وما أعد لأعدائه، ماذا أعد للعصاة وماذا أعد للطائعين، وما يعوض الله الذين يتركون شيئاً في الدنيا من أجل الله، وهذه الأحاديث الترغيبية الترقيقية التي فيها إيراد للآيات والأحاديث الصحيحة والكلام الجيد المنتقى من أقوال أهل العلم في المواعظ، هذه أمور يجب أن يبدأ فيها قبل عرض الأحكام وأمر الناس بالحلال والحرام مباشرة.(278/17)
الحكمة في مراعاة الأحوال والمواقف
نعم.
نحن نراعي الأحوال والمواقف، قد يكون الشخص أمامك دقائق فقط، وبعد ذلك سيغادرك ويترك، فعند ذلك تقول: اتق الله ولا تفعل كذا، وتكون عبارة مجملة، فيها تذكير بتقوى الله وتبيين الحكم الشرعي، لأنه لا وقت عندك للتدرج، تراعي الحال، ولكن تبدأ بهذا الأمر: اتق الله ولا تفعل كذا، راقب الله وهذا حرام، تذكر ربك وتذكر الآخرة، ثم تقول: وهذا الذي تفعله يجب أن تنتهي عنه، وهكذا.
ومن الحكمة: ما عنون عليه البخاري رحمه الله في صحيحه في عنوان يدل على فقه عظيم: جواز النهي عن المستحبات إذا كان ذلك يفضي إلى السآمة والملل.
والحديث المأخوذ منه هذا الاستنباط حديث عظيم جداً، حديث تربوي، ينبغي أن يقبل عليه المشتغلون بالتربية فيفهموا هذا، قصة سلمان مع أبي الدرداء.
أبو الدرداء كان رجل مقبل على العبادة جداً، حتى إنه ما كان يعطي زوجته حقها، حتى اشتكت، فـ سلمان أراد أن يقوم بدور تربوي مهم مع أبي الدرداء، فزاره فصنع أبو الدرداء له طعاماً فلما قدم له الطعام، قال له سلمان: كل معي، قال: إني صائم، قال: لا أذوق طعامك حتى تأكل، فأكل معه، ثم جاء وقت النوم فذهب سلمان لينام وذهب أبو الدرداء ليقوم الليل، فقال سلمان: تعال فنم، فنام أبو الدرداء، ثم ذهب ليقوم، فقال سلمان: نم، فنام أبو الدرداء، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا، ثم علمه: إن لربك عليك حقاً، وإن لجسدك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه.
فهذه المعايشة التربوية هي التي تؤدي إلى تصحيح الأوضاع، وأما الكلام النظري من بعيد فإنه لا يساهم تلك المساهمة الكبيرة، ولذلك لو رأى الداعية المدعو قد نشط في أعمال نوافل جداً وخشي عليه أن يكون هذا الحماس الآن غير متزن، أو أنه سينقطع به الحبل بعد قليل، فعليه أن يذكره بالاقتصاد في النوافل حتى يتعود عليها، وحتى يشتد عوده، حتى لا تكون هذه طفرة، ثم بعد ذلك يقع وينهار، وليفعل مثلما فعل سلمان مع أبي الدرداء رضي الله عنهما.(278/18)
ومن الحكمة كذلك: الحكمة في التعرف على المدعو
وقد ذكر لنا عليه الصلاة والسلام أموراً تساعدنا على هذا الأمر، فقال: (ابتسامتك في وجه أخيك صدقة) بالابتسامة رسالة ومظروف يذهب إلى قلب هذا المدعو فيعطي نوعاً من الألفة وتهيئة الجو من هذا التعارف، وكذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم) فإفشاء السلام أيضاً يهيئ الأمور للتعارف، وكذلك الدعوة إلى الوليمة والطعام وصنع المعروف مهيء للتعارف، وهكذا.
وأريد أن أذكر لكم قصة طريفة بهذه المناسبة وهي قصة واقعية: أراد شخص أن ينصح شخصاً، فقبل أن ينصحه قال: لا بد أن أتعرف عليه، كيف أدخل عليه هكذا، وأقول لا تفعل وأنت طيب، لا بد أن أتعرف عليه، كيف أتعرف عليه؟ لو قلت له الآن: ما اسمك؟ مستغربة، ماذا أفعل؟ هل أذهب وأدوس على قدمه وأقول آسف ثم أتعرف عليه؟ طريقة سخيفة، هل أقول له: الجو اليوم حار؟ سؤال مكشوف، هل ألبس حذائه مدعياً أني لبسته بالخطأ ثم أعتذر وأقول: ما اسمك وأين تسكن وما؟ فيها حرج شرعي، واحتار هذا الداعية، وفي النهاية قرر أن يسلك سبيل الصراحة فذهب إلى ذلك الرجل وقال له: يا أخ (شوف) أنا أريد أن أنصحك نصيحة وأريد أن أتعرف عليك ولكني فشلت ولم أجد سبيلاً للتعرف عليك، وأنا أريد أن أقول لك شيئاً فهلا عرفتني بنفسك، فكانت هذه الطريقة نافعة وليس على جميع الحالات ولكن الإنسان يقدر الأمور ولا يأتي بالأشياء التي تنافي الحكمة، ثم سارت الأمور سيراً حسناً.(278/19)
من الحكمة تقدير رغبة المدعو
ومن الحكمة كذلك في علاقة الداعية بالمدعو: أن يقدر الداعية رغبة المدعو في الأشياء التي ينجذب إليها وينفر منها، فإن بعض الدعاة يريدون تحبيب المدعوين إلى أمور من الشريعة عن طريق أشياء من الترفيه.
فقد يعمل برنامجاً مثلاً فيه فقرة ترفيهية وفقرة تعليمية شرعية، فبعض المدعوين في البداية يأتي ويحضر الفقرة الترفيهية وإذا انتهت السلام عليكم ويمشي ويترك الفقرة التعليمية، وصاحبنا يقع في حيرة من أمره، ويفكر ويضرب أخماساً في أسداس ماذا يفعل الآن، وفي النهاية قد يبلغ به السيل الربا، ويمسكه ويقول: تلعب وتمشي، لابد أن تلعب وتجلس وتسمع الكلام وإلا لا تأتي أصلاً، فهذه الطريقة التي فيها شدة منافية للحكمة، لا يصلح أن يفعلها هذا الداعية مع المدعو.
يؤخذ الناس بالترفق شيئاً فشيئاً، يألف المنظر في البداية، وقد يرى حلقة العلم وينصرف ثم يتأخر قليلاً في ارتداء ملابسه ويسمع كلمة أو كلمتين، ثم قد يحب أن يشارك إذا ارتاح إلى الناس وأحبهم، فيريد أن يسمع كلامهم فيجلس ربع ساعة ويمشي.
وبعض الدعاة يستعجلون النتيجة، كيف يجلس عشر دقائق ويمشي لا بد أن يجلس كل الوقت، كيف وهو لا يدرك أو يدرك أو يتغافل وينسى بأن هذا إنسان قد صاغته الجاهلية، وأن المجتمع قد ألقى إلينا من خلال الرحم أو الأرحام بنماذج مشوهة مليئة بالتحريف، مليئة بالمعاصي والشهوات، مليئة بالانحرفات، هذه النماذج التي ألقى بها إلينا رحم المجتمع المنحرف عن منهج الله عز وجل تحتاج إلى طول عناية ودعوة وترفق حتى تبدأ بالتقبل، هذا شخص له سنين في الانحراف تريد أنت الآن أن تسمعه الكلام كله في جلسة أو في ساعة أو موعظة وتريد أن يطبق فوراً، إذا كانت الجاهلية قد صاغته سنوات يفعل المعاصي ويغرق في الشهوات إلى أذنيه والآن أنت تريده بسرعة أن يفعل كل ما تريد منه، إن ذلك الأمر مناف للطبيعة البشرية ومناف للواقع، وأي شيء ينافي الواقع لن يصمد ولن يستمر وسيكون مشروعاً فاشلاً.
وفي الغالب لو أنك نفرته بهذه الطريقة فقد يتركك ويذهب ليلعب مع أناس آخرين من أهل الشر الذين لا يستفيد منهم على الإطلاق، على الأقل إذا قضى معك وقتاً في الترفيه فإنه لا يكون واقعاً في المعاصي، يفعل مباحات ولكن بعيداً عن المعاصي، ولكن إذا ذهب يرفه عن نفسه مع غيرك، فإنه سيقع في منكرات ومعاصي.(278/20)
عاشراً: مراعاة الأحوال
لا بد أن تكون العلاقة قائمة بين هذا المدعو والداعية على مراعاة الأحوال، والأحوال تختلف اختلافاً كبيراً، فالأمر يختلف إذا كان هذا الداعية طالباً والمدعو طالباً، ويختلف إذا كان الداعية مدرساً والمدعو طالباً أو العكس، ويختلف إذا كان الداعية موظفاً والمدعو مدير والعكس، ويختلف إذا كان الداعية يعمل في الطب والمدعو مريضاً أو العكس، ويختلف إذا كان الداعية طياراً أو مضيف طائرة أو العكس، ويختلف إذا كان الداعية مثلاً نقيباً في السلك العسكري والمدعو رائداً أو العكس، ويختلف إذا كان الداعية نقيب والمدعو عقيداً أو عميداً أو لواءً ونحو ذلك من الرتب، وكلما تباعدت الرتب صعب الأمر من الأسفل إلى الأعلى وسهل من الأعلى إلى الأسفل.
فإذا كان نقيباً يدعو رائداً فهو أسهل من نقيب يدعو مقدماً أو يدعو عميداً أو عقيداً، وبالعكس إذا كان عميد يدعو نقيباً فهو أسهل من دعوته لشخص قريب من رتبته، وهكذا، وكذلك يختلف الوضع إذا كان الداعية قريباً للمدعو أو الداعية غريباً عن المدعو.
الواحد يمكن أن يدخل مع ناس من أقربائه بشيء من التقدم السريع لأنه لا يحتاج إلى أن يتعرف عليه لأنه يعرفه منذ سنوات وبينهما صلة رحم ووشائج قربى، وعلى العموم فإن الدعوة تكون أسهل إذا كان الداعية في الرتب الدنيوية أعلى من المدعو، وتكون أصعب إذا كان الداعية في الرتب الدنيوية أنزل من المدعو، وهذه المسألة تحتاج إلى مراعاة أحوال، وفيها مراعاة حال كبيرة.
وفي بعض المهن أو بعض الوظائف يكون صاحبها أسهل في المهمة الدعوية، فالطبيب مثلاً يسهل عليه أن يدعو جميع طبقات المجتمع، لأنه إنسان يحتاج إليه الكل، وإذا مرضوا ما عاد يميز بين الراتب، فهذا طبيب الناس يستوون عنده في المسألة الآن، ولذلك كان المنصرون يعتمدون على الأطباء في نشر دعوتهم الكفرية الإلحادية أكثر من غيرهم، ولذلك تسمع الآن عن بعض الجمعيات مثلاً: جمعية أطباء بلا حدود، هذه جمعية عالمية مشهورة جداً فرنسية تبشيرية، لها ميزانية ومعتمدات ومخصصات وتبرعات تأتيها من جميع أنحاء العالم، تكون فرقاً وتعبر الحدود، أطباء بلا حدود.
وكذلك رجل الأعمال (التاجر) له مكانة مرموقة في المجتمع، تصور لو أن رجلاً مثل هذا هداه الله عز وجل، فهذا يؤثر على غيره تأثيراً كبيراً لأن عنده من الموظفين والعمال والمستخدمين تحته ما يستطيع أن يؤثر على طوائف وأمم من الناس.
وبعض الناس من أصحاب المراكز إذا هداهم الله وأصبحوا دعاة سمع لهم الناس أكثر، وهكذا.
فمراعاة الأحوال إذاً بين الداعية والمدعو في الأمور الدنيوية من الأشياء المهمة.
ومن مراعاة الأحوال كذلك: العوامل التي تتحكم في لهجة الخطاب ونوع الكلام، هناك أشياء تتحكم في لهجة الخطاب، وهي أنواع المدعوين، فهناك فرق بينما إذا كنت تخاطب وتدعو ملحداً، وما إذا كنت تدعو رجلاً من أهل الكتاب، وما إذا كنت تدعو رجلاً من ديانات أخرى كـ البوذية مثلاً والهندوسية، وفرق أن تدعو رجلاً مرتداً عن الدين، وفرق أن تدعو رجلاً منافقاً أو علمانياً، أو تدعو رجلاً من عصاة المسلمين أو تدعو رجلاً من عامة المسلمين.
فإذن الناس يتفاوتون، وهذا التفاوت ينبغي أن ينعكس على العلاقة بين الداعية والمدعو؛ لأنه لا يمكن أن نخاطب المرتد مثلما نخاطب رجلاً من عامة المسلمين، لا يمكن أن نخاطب منافقاً علمانياً مثلما نخاطب رجلاً من عصاة المسلمين، وهكذا.
وهذا الأمر إذن ينعكس على لهجة الخطاب ونوع الكلام.
من مراعاة الأحوال: تقدير المستوى العقلي للمدعو، أو الانشغال العائلي، أو العامل النفسي، فقد يكون هذا المدعو رجلاً يحب العزلة أو امرأة تحب العزلة، فيريد الداعية أن يضعه في وسط اجتماعي بالقوة، وأن يجعله منفتحاً، وأن يجعله منسجماً مع الوسط، وأن يجعله، وهذا الإنسان ليس متعوداً على مخالطة هذا العدد الكبير من الناس، وفتحه بالقوة بهذه الطريقة سيسبب مشاكل كثيرة، وبعض الدعاة قد يتعسف في التداخل والدخول مع المدعو لدرجة تشعر المدعو بالنفور، وفي الصباح يلتقي المدعوون في فصولهم الدراسية وفي الفسحة يتجاذبون أطراف الحديث، ويحكي كل منهم معاناته من الداعية الملازم له، فقال أحدهم يوماً: ألا تعلمون ما فعل صاحبي معي في الليلة الماضية، قالوا: ماذا فعل؟ قال: لقد نام عندي، يا للهول! جاء ونام عندي، هذا إنسان غير متعود أن يظهر أمام الناس بثوب النوم أبداً، لابد أن يظهر (بالسكفة) الكاملة، فالآن عندما جاء هذا الرجل وزاره، وقال: الوقت تأخر ما رأيك أنام عندك، وهو إنسان غير متعود أن ينام عند الناس ولا الناس ينامون عنده.
وهذا صاحبنا الداعية يريد أن يتداخل بأسرع وقت فيحدث بعد ذلك مثل هذه الأمور المضحكة، ومن مراعاة الحال في علاقة المدعو بالداعية: أن يراعي الداعية حجم العائلة عند المدعو، ونوع العمل ووقت الدوام، فلا يطلب منه ما يشق عليه ولا يطلب من المدعو الموظف مثلاً دواماً قصيراً مثلما يطلب من الموظف دواماً طويلاً، أو مثل الذي يعمل في نوبات ونحو ذلك، ولابد من مراعاة صعوبة الدراسة، فإن الطالب في دراسة معينة في تخصص معين لا يكون عليه من الصعوبة في الدراسة مثلما عند الآخر، وكذلك لا بد من مراعاة المستوى الذهني والفروق العقلية، وظروف الشخص، قد يكون عنده اختبارات في المدرسة، أو أعمال وانتدابات وجهد شاق في عمله، فعدم المراعاة تأتي بالنتائج العكسية.
حكي أن مدعواً كان يتعامل مع الداعية من نافذة الحجرة، أو من شرفة المنزل، أو من سماعة جرس الباب، والسبب أن الداعية لم يكن يعلم كيف يتعامل مع هذا الشخص وكيف يراعي ظروفه، فلما أثقل عليه وجد أن الرجل بسببه ستضيع الدراسة والمستقبل، وصار إذا جاءه أحد يصرفه من النافذة أو يكتب له على الباب ممنوع الإزعاج.
ومن الأشياء كذلك مراعاة الأحوال: مراعاة الطبائع والعادات، مراعاة العادات القبلية والفروق في المناطق التي يتجمع منها الأشخاص ويأتون.
وخذ على سبيل المثال: لو أن رجلاً يريد أن يدعو في أهل البادية، فأهل البادية إن لم تكن فقيهاً في الأعراف وقعت في إشكالات، فمثلاً بعض الناس لو أنك سكبت له باليسار فإنها تعتبر عنده طامة كبرى، أو مثلاً لقيته ظهرك في المجلس، فهذه تعتبر مصيبة عظمى، أو مثلاً لو تخطيته في فنجان فأعطيت من قبله ومن بعده ولم تعطه لعدها من الأشياء القاصمة للظهر.
وحتى المرأة مع زوجها إذا أرادت أن تدعو زوجها فلابد أن تراعي الفروق بين أن تكون الداعية هي الزوجة أو الزوج، لأن هذه أيضاً تفرق في مسألة الدعوة، بعض الناس عندهم من العادات أو يعتقدون أن المرأة إذا تخطت فوق الرجل وهو مستلقٍ معنى ذلك انقطع نسله، ولذلك يقوم عليها ويمكن أن يضربها ضرباً مبرحاً، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يراعي عادات القبائل، وأحياناً تجد في بعض النصوص من كلام القبائل اليمانية، وكلام من قبائل نجد، وكلام من قبائل حبشية فكان الرسول عليه الصلاة والسلام يراعي ذلك ويراعي عادات القوم.
وطبعاً لا بد للداعية أن يكون على شيء يقبله الناس سواء في هندامه أو نظافته أو طيبه، فلا يكون له رائحة كريهة ولا تقعر في الكلام، ولا هندام سيئ وعدم اهتمام بالنظافة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد حبب إليه من دنيانا الطيب.(278/21)
حادي عشر: من علاقة الداعية بالمدعو أن يصبر عليه
يصبر عليه في أشياء كثيرة، يصبر على هذه النفسية المعقدة، ويصبر على هذه الشخصية التي امتلأت شهوات وتمردت على شرع الله، وطال عليها الأمد وقسى القلب والداعية يريد التغيير، وهو لا يتعامل مع أحجار صلدة ولا ملائكة بررة، فينبغي أن يراعي ذلك، فيصبر على تعليم المدعو ويصبر على أذاه وعلى انحرافاته والتوائه، قال الله لرسوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34].
فالداعية قد يواجه من المدعو شروداً، وقد يواجه منه كلاماً مؤذياً وتصرفات سخيفة، فيجب أن يصبر عليه أو أن يحفظ ما يستطيع حفظه من ماء الوجه واحترام شخصيته، ولا يعني الصبر الرضا بالذل والمهانة أبداً، ولكن شيء من سعة الصدر وشيء من التقبل، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يتقبل الأذى وصدره رحب لهذا الأذى.
فالمدعو قد يكون عنده أخلاق سيئة، قد يكون متعجرفاً متكبراً مغروراً، عنده عجب، فعلى الداعية أن يصبر عليه، وأن يعالج الأخلاق السيئة بالأساليب الحكيمة فيداري هذا الشخص ويكرمه، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ائذنوا له بئس أخو العشيرة) ويوجه التوجيه المتواري بغير الأمر.
كيف تدعو متكبر شخصاً؟ لا يصلح أن توجه له الأمر قال له: من أنت حتى تأمرني أصلاً، لكن لو قلت له: إنك فعلت كذا وأليس من الأحسن أنك تفعل كذا، والنصيحة له سراً حتى لا يشعر أنك فضحته في الملأ، ويستعلي عليك، وأن تظهر له أنه ليس المقصود بذاته في النصح، وأن النصح عام له ولغيره، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يجاهر فيقول: ما بال أقوام، ويعطي له فرصة اكتشاف الخطأ بنفسه، لأنك لو أوقفته على خطئه لازداد عتواً وتمرداً وغروراً، بينما لو تركت له الفرصة يتكشف خطأه بنفسه لربما تخطيت له عقبات من الكبر والغرور.
والمناقشة مع غيره أمامه في موضوع يهمه دون الإشارة إليه وهو يسمع، وتعليمه التواضع، والقدوة، وداعية آخر غيرك يواجهه بدائه لو استدعى الأمر المصارحة ولو كرهه، فتنجو أنت فلا يكره الأول، وأعداء الإسلام إذا كانوا يعتمدون التوجيه غير المباشر فدعاة الإسلام أولى به وأحرى، وتذكر هذه الجملة: التوجيه غير المباشر.
ومن الصبر: الصبر على صدود هذا المدعو، قد تأتي وتمر لإنسان وتقول له: نصلي، يقول لك: إن شاء الله، نمشي سوياً، قال: اسبقني إلى المسجد، انتهت الصلاة ورجعت ووجدته مكانه، صليت معنا، قال: لا صليت في مسجد يصلي بسرعة، الحل: اصبر على ما يقولون، والمدعو قد يظن أن للداعية مطامع دنيوية، فينبغي للداعية أن يبين له ويقول: ما سألتكم عليه من أجر، والصبر أيضاً على تغيير واقعه السيئ، وتحمل ما يصدر منه من التصرفات.(278/22)
ثاني عشر: أن تكون العلاقة قائمة على مراعاة المصالح والمفاسد
فلو كان الداعي إذا أمره بأمر تأكد نفوره، أو إذا ألزمه بأمر فوق طاقته لو داوم عليه لانقطع، فيكون لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، فإنه يراعي المفاسد التي قد تنشأ عن هذه الأمور، وهذه المسألة قد تدخل في بعض الأشياء التي سبق أن ذكرناها، وكذلك من مراعاة المفاسد ما سبق أن ذكرناه في موضوع التدرج من تحديثه بشيء لا يفهمه أو لا يعقله.
ومن مراعاة المفاسد أيضا ًأن بعض الدعاة قد يرى أنه لا فائدة من هذا المدعو، وقضاء الوقت معه مضيعة للوقت، فلا بد أن أتركه، فهنا لا بد أن يكون تركه له بحكمة، حتى لا ينقطع عنه بالكلية، فيصبح عدواً له، أو يشوه صورته، ويتكلم عليه في المجالس، فالترك بالتدريج وبحكمة، ولا يتركه فجأة فيكرمه ثم لا يجد هذا منه كرماً أبداً، ويكون يزوره فلا يجد منه زيارة أبداً، ويهتم به ثم لا يجد اهتماماً أبداً، وهكذا يحصل ما يحصل من الانعكاسات والسلبيات والمفاسد، ثم ليس من المصلحة قطع الخير عن هذا الشخص أبداً ولو أن الإنسان وجدت أن قضاءك للوقت معه مضيعة للوقت، فلا بد من الكلمة والكلمتين والزيارة والزيارتين، والإيقاظ للصلاة، على الأقل على أشياء لا تأخذ منك وقتاً ولا تستهلك منك جهداً.
ومن مراعاة المصالح في الدعوة: أن الداعية ينبغي أن يتفطن لتمييز الناس وانتقاء من يصلح لخدمة هذا الدين أكثر من غيره، فإن بعضهم يخطئ فينتقي الأسهل ولا يفكر بالأجود، وقد يكون الشخص الأحسن نفعاً للإسلام أصعب وقد يكون أشق، ولكنه إذا اهتدى يكون فيه نفع عظيم للإسلام والمسلمين، فعلى الداعية أن يتذكر.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه كم كان فيه من العتو ومن التمرد، كان شخصية صعبة جداً، لكن عندما هداه الله، انتفع به الإسلام أيما انتفاع، ولذلك فالتفكير في المصالح في هذه القضية، وتحمل المدعو جيد المزايا حسن الشخصية وقاد الذهن، ولو كان صعب المراس أو صاحب معاصي ما لم تغلب مفسدة يكون أيضاً من مراعاة المصالح.
واعلموا أيها الإخوة أننا عندما نشتغل في الدعوة إلى الله لا نهمل الناس بأن نقول: هذا غارق في المعاصي لا نقترب منه، فإن الذين يستمعون (الدسكو) أو يستخدمون استشوار من الذكور في تصفيف شعورهم، لا ينبغي إلغائهم من قائمة الدعوة بالكلية فيمكن أن يكونوا من نجباء الدعوة في المستقبل.(278/23)
ثالث عشر: أن تكون العلاقة قائمة على الاحترام المتبادل والمحافظة على المشاعر
فاحترام وجهة نظره ورأيه بل والأخذ به إذا لم يكن هناك حرج، كاختيار المطعم، أو أدوات اللعب، أو مكان الدراسة ونحو ذلك، وبعض الدعاة يخطئون ويعاملون المدعو كأنه طفل فلا يقيمون لرأيه وزناً، وينصب نفسه ولياً لأمره ويريد منه ألا يقطع أمراً دونه، أو يشعر المدعو بأنه مراقب ومتتبع، وأن تصرفاته محسوسة وأنفاسه معدودة، وأنني أعرف ماذا تفعل، هذا يضايق كثيراً من الناس المدعوين، أو أن يزوره زيارة مفاجئة لم يكن مستعداً لها، أو أن يعمل له في عرض الكلام نغزات وقفشات ربما تسبب له نفوراً كبيراً، بينما يظن الداعي أن هذا من الحكمة، وأن هذه دقات مناسبة، فيتباهى، أو أنه يتخذها له تخصصاً في الكلام مع المدعو فيفسد إفساداً كثيراً.
ومن الأمور المضايقة: المحاسبة غير الشرعية، مثل أن يقول له: تعال، ماذا صليت اليوم من السنن؟ وكم سبحت؟ وهل تركت وهل فعلت؟ لست رقيباً على الناس بهذا، فالله رقيبهم وحسيبهم، ولكن أنت تدعوهم إلى الإسلام وإلى الإيمان وإلى شعائر الخير، والله يحصي أعمالهم ولست أنت الذي تحصي أنفاسهم.
والإنسان بطبعة مفطور على النفور من الإكراه والإلزام، وكل أحد يحب أن يفكر بحرية، ويختار بحرية، ويعمل بحرية، وحين يشعر أن الأفكار أو الأعمال تملى عليه إملاءً قسرياً دون أن يكون هناك اختيار؛ تصد نفسه ويحجم عن قبول الفكرة أو الاستجابة لأمر الداعية أو نهيه، قبل أن يفكر حتى في سلامة الفكرة أو صحتها ونفعها.
ولكن عندما تتسلل إليه الفكرة تسللاً يتوهم المدعو منه أنه هو صاحب الفكرة، تكون دوافعه ذاتية وتطيب نفسه بالتطبيق وتسمح بالاستجابة، فالإقناع والترغيب والترهيب وإيضاح الاختيار، حتى الله عز وجل يقول في القرآن: {مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الفرقان:57]، {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28].
فتقول له: أنا لا أكرهك، أنا لا أجبرك، أنا لا أقسرك، يقول الله: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] وهذا نوح يقول لقومه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود:28].(278/24)
رابع عشر: أن تكون العلاقة محتفظة بدرجة من الجدية والوقار
فبعض الدعاة قد يستخدم مزحاً مشيناً كثيراً، أو مفرطاً، أو ثقيلاً، أو يأتي بحركات قد تغضب المدعو، أو تسقط الهيبة فيما بينه وبينه، ويفترض بعض الدعاة أحياناً أن هذه دماثة خلق، وأن المزح طيب لتأليف القلوب، أو أن العلاقة قوية تسمح بمثل هذه التجاوزات مع أن الأمر ليس كذلك عند المدعو، فهو يعتبره كلاماً ثقيلاً سمجاً وتصرفاً سخيفاً، فإذاً ينبغي على الداعية أن يحاسب نفسه على مثل هذه التصرفات.
وتميز شخصية الداعية وعدم تميعها مع المدعوين هذا أمر واجب، فلا يجوز أن يشاركه في أمر محرم، مثل: رجل أخذ له شيشة يقول: داعية، قال: الشباب يشيشوا وأنا أشيش ونطلع، أو ألعب معهم ورق مثلاً، أو نشاهد معهم مباريات بحجة التداخل، وما شابه ذلك من وساوس الشيطان.(278/25)
خامس عشر: أن تكون العلاقة ذات نفع متعد لأقرباء المدعو وأصدقائه
فبعض الدعاة إذا أراد أن يدعو شخصاً في أسرة أو بيت مثلاً لا يسأل إلا عنه، ويطرق الباب بدون سلام أو كلام، فلان موجود، فقد يخرج أبوه أو أخوه أو زميله، فيتضايق من هذا الأسلوب، وأنك أنت فقط لا تريد إلا فلان، وماذا تريد منه؟ وماذا تقصد؟ وماذا تريد أن تفعل به؟ وهكذا.
فيكون الداعية قد اكتسب بذلك استنكاراً وإقامة حواجز بينه وبين أقرباء المدعو أو أصدقائه، وكذلك يتصرف بعض الدعاة مع بعض المدعوين بشيء يشعر المدعو أن هذا الداعية يريد خطفه من بين أقرانه أو زملائه القدامى، أو يذم أصحابه وزملائه ذماً شديداً فينفر هذا المدعو، لأنه يقول: لا يستاهلون هذا الذنب، لماذا يحمل عليهم هذا الداعية هذه الحملة الشعواء؟ فيصور لهم كأنهم من أصحاب المخدرات واللواط وهكذا، مع أن معاصيهم قد تكون أقل من ذلك مثل استماع الأغاني ولعب الورق والمسلسلات مثلاً، فينبغي أن يبين ويوازن الكلام ويكون لكل واحد نصيبه.
وكذلك يضع المدعو في موقف محرج فيقول له: إما أصدقاؤك أو أنا، فيضعه في زاوية ضيقة، وقد يكون هذا المدعو عاطفياً متشبثاً بأصحابه القدامى لا يريد تركهم.
ومن الأدلة على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يوسعون العلاقة وما كان الرجل للرجل والشخص لزميله فقط أو قرينه، هذا أبو هريرة رضي الله عنه كم اهتدى على يديه من الناس لكن يقول في الحديث: (كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقلت: يا رسول الله! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبي هريرة) وهذا الداعية لا يجب أن يغفل عن الدعاء في الدعوة ولا يظن أن المسألة كلها أسباب فقط، وإنما يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى قال: (فلما جئت قصدت إلى الباب فإذا هو مجاف مغلق، فسمعت أمي حس قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت حصحصة صوت الماء، ولبست درعها وأعجلت خمارها، وفتحت الباب وقالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فحمد الله وقال خيراً).
إذن: إذا كنت تهتم بشخص اهتم بأقربائه وأصدقائه وزملائه على الأقل ولو جزئياً.(278/26)
سادس عشر: أن تكون العلاقة قائمة على نفع المدعو وخدمته وليس انتظار النفع منه
والنفع قد يكون نفعاً دينياً للمدعو أو دنيوياً له كسد جوعة، أو قضاء دين، أو حل مشكلة، أو شرح درس، وانتبه أن لا تشرح إلا وأنت تفهم ما تشرح، وأبوه قد يكون مغرق في الديون، وهذا الرجل مهموم يفكر في ترك الدراسة من أجل مساعدة أبيه المديون، فإعطاؤه الرأي السديد والإشارة عليه يفرج الكثير من همومه.
وقد يفترض بعض الدعاة في مرحلة من المراحل أن المدعو الآن يجب عليه أن يقدم ولا بد أن تستخدم سيارته لمنفعة الدعاة وإمكانياته، مع أن المدعو الآن في مرحلة لا تمكنه من هذا، بل إنه يخدم ويعطى ولا يطلب منه شيئاً، وعند ذلك تحصل مشكلة.(278/27)
سابع عشر: أن تكون العلاقة بعيدة عن العواطف الهوجاء
فالعلاقة بين الداعية والمدعو لا بد أن يكون فيها نوع من العاطفة والجمود من الخلل، لكن ما يحدث في بعض الأحيان من انقلاب العلاقة عن حد الاعتدال والوقار لتنقلب إلى سعار لا يهدأ من العواطف الجياشة المتلفة لنفسية الطرفين، فهذه ألفاظ تهدر بغير حساب، وهذه أحاسيس تنقل ومشاعر تسطر وأبيات من الشعر وإعجابات مكتوبة، وأحلام يعقبها حسرة وآلام، حتى إنه ربما يفكر إذا تركه المدعو أن يذهب وراءه إلى آخر الأرض.
فهذا الداعية تذهب نفسه حسرات وتتقطع، وعند ذلك نقول: صحح نفسك يا أخي، لا تقصر نفسك على شخص معين، أو تقيم هذه العلاقة الهوجاء غير الشرعية التي ربما تؤدي إلى أمور غير محمودة العواقب من الأمور المحرمة.
وإن الدعوة إلى الله عز وجل أيها الإخوة شيء ممتع ولذيذ جداً، وهو من أشوق ما يمارس الإنسان في حياته، وهذا لعله من الأشياء التي جعلها الله سبحانه وتعالى للقائمين بهذه الوظيفة العظيمة.
وإن نسيت لا أنسى تلك الأيام المحبوبة إلى النفس التي لا يعرف قدرها إلا من فقدها، ولا أكتمكم أن الإنسان عندما يكون طالباً تكون الدعوة متيسرة أكثر في مجتمع الطلاب لسهولته وانفتاحه، ولا تفقد متعته إلا إذا فارقته، وستذكر غداً عندما تصبح بين طلبات الزوجة وصياح الأطفال وهموم الوظيفة كيف كنت في نعمة عظيمة لم ترعها، يا من تعيش وسط الطلاب أو العزاب، فإن بعض العمال مثلاً يعيش مع بعض العمال الآخرين تكون أيام جميلة وفي تآلف، فيندم إذا تركها بغير أن يطبع بصماته الدعوية على تلكم الأقران.
فلتعلم إذا كنت متفرغاً قدر هذه النعمة ولا تضيع الفرصة، وصحيح أنك ستجد مجالات كثيرة للدعوة في المستقبل بين الأقارب والجيران، وستصبح بزوجتك وأولادك أكثر قدرة على التداخلات الاجتماعية ولكن متعة الدعوة في الوسط المدرسي أو الجامعي لا تكاد تنسى.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا دعاة إلى سبيله، أن يجعلنا عاملين بالعلم، وأن يجعلنا مستبصرين بالسنة مستمسكين بها، وأن يجزل لنا الأجر العظيم.(278/28)
100 فائدة في الصوم
اختص الله الصيام لنفسه، وهو يجزي به، فجعل للصائمين باباً يدخلون منه إلى الجنة، وجعل دعوة الصائم مستجابة.
وهنا أحكام كثيرة متعلقة بالصيام، تزيد عن المائة، سماها الشيخ فوائد، تتضمن تعريف الصيام وأركانه، ومفسداته وآدابه، وما يجب منه وما يستحب وما يحرم، وغير ذلك من المسائل الموشاة بالأدلة والنقاش، وعموماً فهذه المادة من الأهمية بمكان؛ لأنها جامعة لأحكام الصيام، نافعة للأنام.(279/1)
الاستعداد لرمضان بمعرفة أحكام الصيام
هذا الصيام تطهير وتكفير ورفعة، وهو من مصلحة العباد في دنياهم وآخرتهم، فلله الحمد على هذه النعمة، وله سبحانه وتعالى المنة والفضل بما شرع لنا من الأمور التي تطهر نفوسنا وتزكيها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، المبعوث رحمة للعالمين، الذي عبد الله فأحسن عبادته، وصام لربه كما أمره عز وجل وعلمنا أحكام الصيام، وشرح لنا في سنته ما أنزل علينا في كتابه، وهذا الدرس عن أحكام الصيام لأن من جملة الاستعدادات المهمة بل هو أهم ما يستعد به لرمضان معرفة أحكامه، فإن الناس أيها الإخوة يستعدون لرمضان بأنواع مختلفة من الاستعدادات، فمنهم من يكدس الأطعمة والأشربة، سواء التجار أو الذين يشترونها فيجعلونها في بيوتهم وغير ذلك من أنواع الاستعدادات الدنيوية، والمسلم يقدم الاستعداد الديني على الاستعداد الدنيوي، فمن ضمن الاستعداد الديني لرمضان معرفة أحكام الصيام، وهذا الدرس بعنوان: مائة فائدة من أحكام الصيام، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الذين يتعلمون العلم النافع ويطبقون ذلك وممن رزقهم الله الفقه في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فإن من يرد الله به خير يفقهه في الدين.(279/2)
تعريف الصيام وحكمه
الفائدة الأولى في تعريف الصيام: الصيام لغة: الإمساك.
وشرعاً: الإمساك عن المفطرات من الفجر إلى مغرب الشمس بالنية.
فائدة في حكم الصيام، أجمعت الأمة على أن صوم شهر رمضان فرض والدليل على فرضيته من الكتاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ومن السنة حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال، قال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان) رواه البخاري.
فائدة في حكم جاحد الصيام: لا يجحد الصيام إلا كافر، ومن أصر على الإفطار في نهار رمضان يدعي إلى الصيام، فإن أصر على ذلك جاحداً لوجوبه فإنه كافر بالله العظيم.(279/3)
فضل الصيام والحكمة منه
فائدة في فضل الصيام: وردت في فضل الصيام آيات وأحاديث، فمن ذلك أنه شرع للتقوى ومن الأحاديث: (أن من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) (وإن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد) (وأن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) وأن الصوم هو الذي اختصه الله لنفسه وأنه هو الذي يجازي به، وأن الصوم جنة ووقاية من النار، (للصائم فرحتان، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه) (وأن الصيام يشفع للعبد يوم القيامة) (وأن من صام يوماً ابتغاء وجه الله وختم له به دخل الجنة) (وأن الصوم لا عجل له، وأن من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا) وفي رواية: (مسيرة مائة عام) (وأنه تصفد فيه الشياطين وهم مردة الجن) وأن هناك ثلاث دعوات مستجابات: (دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر) فهنيئاً للصائمين.
فائدة في الحكمة من الصوم: في الصوم حكم كثيرة يعلمها الله سبحانه وتعالى ومنها: أنه وسيلة إلى التقوى؛ فإن النفس إذا امتنعت عن الحلال طمعاً في مرضاة الله تعالى وخوفاً من عقابه فأولى أن تنقاد إلى الامتناع عن الحرام.
ومنها: أن الصوم موجب للرحمة والعطف على الفقراء والمساكين، فإن الإنسان إذا جاع بطنه علم حال الفقراء في جوعهم فيرحمهم ويعطيهم ما يسد به جوعهم، إذ ليس الخبر كالمعاينة ولا يعلم الراكب مشقة الراجل إلا إذا ترجل.
وأن الصوم فيه قهر الطبع وكسر الشهوة، فهو يربي الإرادة عن اجتناب الهوى وترك المعاصي، وكذلك فإن النفس تتهيأ للعبادة إذا صار القلب فارغاً من الطعام الذي يجلب الخمول والنوم.
وفيه فوائد اجتماعية عديدة.
ومن الفوائد الدينية: أن الناس يشعرون بأنهم أمة واحدة يأكلون في وقت واحد ويصومون في وقت واحد ويشعر الغني بنعمة الله سبحانه وتعالى عليه.(279/4)
آداب الصيام ومستحباته
فائدة في عدم نسيان آداب الصيام عند الكلام عن أحكامه: ينسى كثير من الناس إذا أراد البحث في موضوع الصيام آداب الصيام وينشغل بمعرفة الحلال من الحرام وأحكام الصيام، فينسى أن له آداباً وأن له مستحبات منها ما يتعلق بحفظ اللسان وترك السب والشتم، والكذب والغيبة والنميمة، والغش وآلات اللهو والمعازف ولعب الورق، فلا شك أن هذه المحرمات وإن لم تكن مفسدة للصيام ومفطرة للصائم وموجبة للقضاء إلا أنها تكسب الإنسان إثماً، ورب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش.
كما أن له مستحبات مثل: الإكثار من قراءة القرآن وذكر الله، والدعاء والصلاة والصدقة، والجود بالمال، والجود بالعلم والجود بالنفس أعلى الجود، ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل: إني صائم إني صائم، تذكر به نفسك وتذكر به الآخرين.(279/5)
تقسيمات الصيام
فائدة في أنواع الصيام: ينقسم إلى صوم عين وصوم دين كما ينقسم إلى متتابع وغير متتابع.(279/6)
صيام العين وصيام الدين
فصوم العين ما له وقت معين إما بتعيين الله كصوم رمضان، أو بتعيين العبد، كمن نذر صوماً في وقت معين فإنه يتعين صيامه في ذلك الوقت، وأما صوم الدين فليس له وقت معين كصوم قضاء رمضان فإنه يصومه كما شاء، قبل رمضان الجديد، وصوم كفارة القتل والظهار واليمين، وصوم متعة الحج إذا لم يجد ثمن الهدي فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع متى أراد، وجزاء الصيد، والنذر المطلق عن الوقت كمن نذر أن يصوم شهراً أو أسبوعاً ولم يعين أي شهر أو أي أسبوع فإنه يلزمه الصيام في أي وقت كما نذر.(279/7)
الصيام المتتابع والصيام غير المتتابع
فائدة هل يجب التتابع في الصيام؟
الجواب
منه ما يجب التتابع فيه كصوم رمضان لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] والشهر متتابع لتتابع أيامه، فلما قال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ} [البقرة:185] أي: المعين والشهر أيام متتابعة فيلزمنا التتابع وكذلك صوم كفارة القتل الخطأ وصوم كفارة الظهار، وصوم كفارة الجماع في نهار رمضان فهذه صيام شهرين متتابعين في كلٍ منها وكذلك إذا نذر صوماً متتابعاً لزمه.
فائدة فيما لا يلزم فيه التتابع كقضاء رمضان على الراجح وهو قول جمهور العلماء لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] ولم يشترط الله عز وجل التتابع، وكذلك الصوم في كفارة اليمين على الراجح إذا لم يجد عتق رقبه ولا إطعام عشرة مساكين ولا كسوتهم فإنه ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام فهي لا يشترط فيها التتابع، وكذلك كفارة الحلق لو حلق رأسه محتاجاً ففدية من صيام أو صدقة أو نسك إما أن يذبح شاة أو يطعم ستة مساكين أو يصوم ثلاثة أيام لا يشترط فيها التتابع، وكذلك صوم النذر المطلق إذا لم يشترط التتابع كمن نذر أن يصوم ثلاثة أيام وليس في نيته أنها متتابعة فيجوز أن يصومها غير متتابعة.(279/8)
أنواع الصيام من حيث السنية والكراهة والحرمة
فائدة: هل يجوز قضاء ما أفطره من صيام التطوع؟ الراجح عدم وجوب إتمام نافلة الصوم، وعدم وجوب قضائها وهذا هو قول كثير من أهل العلم ومن الأدلة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر) لكن كره العلماء قطع صيام النافلة لغير عذر، ومن العذر أن يعز على ضيفه امتناعه عن الأكل وإن أفطر بدون عذر فلا يثاب على ما مضى من صيامه وإن أفطر لعذر في صيام النافلة أثيب على ما مضى من صيامه.
فائدة في أمثلة صيام التطوع: هي كثيرة قد ندب إليها الشرع كعاشوراء، وعرفة، والإثنين والخميس، وأيام البيض، وست من شوال، والإكثار من صيام شعبان، والمحرم، وغير ذلك.(279/9)
الصيام المكروه
فائدة في الصيام المكروه: إفراد الجمعة بالصوم لحديث: (لا تصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده يوم) رواه البخاري.
صوم السبت وحده لحديث: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) الترمذي وحسنه وغيره.
صيام يوم الأحد: وهو عيد النصارى.
الوصال في الصوم وهو ألا يفطر بعد الغروب حتى يتصل صوم الغد بصوم الأمس.
وكذلك صيام الدهر وغيرها.(279/10)
الصيام المحرم
فائدة: الصيام المحرم: صوم عيد الفطر وعيد الأضحى وأيام التشريق الثلاثة بعده لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر، وحديث: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل) ويستثنى صيام أيام التشريق على من كان عليه دم التمتع أو القران ولم يجد هديا.(279/11)
ما يشترط في الصيام
فائدة في ثبوت دخول شهر رمضان: يثبت دخول شهر رمضان بأحد أمرين: أولاً: إكمال شعبان ثلاثين يوما.
ثانياً: رؤية هلال رمضان.(279/12)
شروط وجوب الصوم
فائدة في شروط وجوب الصوم: الإسلام والعقل؛ فلا يجب الصوم على مجنون، والبلوغ، فلا يجب على الصغير، والعلم بالوجوب، فإن الجاهل لا يجب عليه ما جهل.
فائدة: متى يؤمر الصبي بالصيام: يؤمر الصبي بالصيام لسبع كالصلاة إذا أطاق الصيام، ويضرب على تركه لعشر كالصلاة ولأن الصوم أشق اعتبرت فيه الطاقة لأنه قد يطيق الصلاة ولا يطيق الصوم.(279/13)
شروط وجوب الأداء
فائدة في شروط وجوب الأداء في الصيام، الأداء وليس القضاء: أولاً: الصحة والسلامة من المرض لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184].
وثانياً: الإقامة وعدم السفر للآية السابقة فيسقط وجوب أداء الصيام عن المريض والمسافر يسقط عنهما وجوب الصوم وعليهما القضاء.
ثالثاً: خلو المرأة من الحيض والنفاس لحديث عائشة لما سألتها المرأة، قالت: [كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة].(279/14)
بيان اشتراط النية في الصيام
فائدة في حكم النية في صيام الفرض: تشترط النية في صيام الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل) ويصح أن تكون في أي جزء من الليل ولو قبل الفجر بلحظة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له) فيجب أن تكون نيةً مجزوماً بها هذا قول جمهور العلماء وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أنه لو قال في نفسه إن كان غداً رمضان فأنا صائم أنه يصح، ولكن جمهور العلماء على خلاف هذا لأن هذه نية غير مجزوم بها ويشترط الجزم بالنية.
فائدة في النية للصيام الواجب غير رمضان: تشترط النية في كل صيام الواجب كالقضاء والكفارة.
فائدة في نية صيام النفل: يجوز صوم النفل عند جمهور العلماء بنية قبل الزوال لحديث عائشة رضي الله عنها: (دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شيء، فقلنا: لا، قال: فإني إذاً صائم) رواه مسلم.
أما النفل المعين كعاشوراء وعرفة فاشترط بعض أهل العلم النية من الليل.
فائدة في كيفية النية: النية: عزم القلب على فعل الشيء وهي مرتبطة بالعلم، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن كل من علم أن غداً رمضان وأراد صيامه فهذه نية وهذا فعل عامة المسلمين؛ كل من علم أن غداً رمضان وأراد صومه فهذه نية.
فائدة في حكم التلفظ في النية: النية محلها القلب والتلفظ بها بدعة؛ فلا يجوز لإنسان أن يتلفظ بنية الصيام وإنما يعزم في قلبه على الصيام غداً إذا علمه من رمضان، والنية تتبع العلم فمتى علم وأراد الصيام فإنها نية صحيحة.
فائدة فيمن نوى الإفطار في أثناء النهار لكنه لم يفطر: اختلف أهل العلم في ذلك والراجح أنه لا يفطر وإن قضى فهو أحوط، قال الحنفية والشافعية: إنه لا يفطر كمن نوى التكلم في صلاته ولم يتكلم، وقال المالكية والحنابلة: يفطر لأنه قطع نية الصوم بنية الإفطار، فلو أنه نوى الإفطار في النهار ولكنه لم يفطر فالراجح والله أعلم عدم وجوب القضاء وإنه قضاه فهو أحوط.
فائدة في صوم المغمى عليه: المغمى عليه إذا طرأ عليه الإغماء من قبل الفجر إلى المغرب فالجمهور على عدم صحة صومه من قبل الفجر إلى المغرب وإذا أفاق في أي جزء من النهار صح صومه سواء كان في أوله أو في آخره، إذا أفاق في أي جزء من النهار صح صومه سواءً كان في أول النهار أفاق أم في آخره.
الفائدة الخامسة والعشرين: لو ارتد بعد نية الصوم فإنه تبطل نيته بلا خلاف، وكثير من الناس مع الأسف أيها الإخوة يسبون الله سبحانه وتعالى أو دينه أو كتابه إذا انفعلوا وحصل بينهم خصومة أو مشاجرة ونحو ذلك، وبعضهم يفعل ذلك إثباتاً لرجولته، ولا شك أن سب الله أو رسوله أو دينه كفر، وأن من فعله فهو مرتد خارج عن ملة الإسلام، ومن فعل ذلك في أثناء النهار وجب عليه التوبة والإمساك بقية اليوم والقضاء والرجوع إلى الإسلام مرة أخرى بالدخول فيه وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.(279/15)
سنن الصوم
فائدة في سنن الصوم: له سنن كثيرة منها: السحور لحديث (تسحروا فإن في السحور بركة) رواه البخاري.
وكذلك تأخيره وتعجيل الفطر لحديث: (لا يزال الناس في خير ما عجلوا الفطر).
وكذلك الاستحباب أن يكون الإفطار على رطبات، ما لم تكن فعلى تمرات كما جاء في حديث أنس: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفطر قبل أن يصلي على رطبات فإن لم تكن رطبات فتميرات فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من الماء) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
فائدة في الدعاء عند الإفطار: لم يثبت الحديث الذي ورد عند الإفطار وإنما ثبت حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه ابن عمر أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أفطر، قال: (ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إنشاء الله تعالى) رواه أبو داود وحسنه الدارقطني رحمهما الله تعالى.(279/16)
مفسدات الصيام
فائدة في مفسدات الصوم: يفسد الصوم بشكل عام كلما انتفى شرط من شروطه أو اختل أحد أركانه: كالردة، وظهور الحيض والنفاس، وكل ما ينافيه من أكل أو شرب ونحوهما، ودخول شيء من خارج البدن إلى جوف الصائم.(279/17)
دخول المفطر إلى الجوف
فائدة في متى يفطر إذا دخل إلى جوفه شيء: اشترط بعض العلماء أن يكون الداخل من الجوف من المنافذ الواسعة كما هو عند المالكية، وقال الشافعية المنافذ المفتوحة أي: المخالق الطبيعية الأصلية في الجسم والتي تعتبر موصلة للمادة من الخارج إلى الداخل كالفم والأنف والأذن، فأما إذا كان من غير هذه المنافذ فإنه لا يفطر كمن اغتسل بماء فوجد برده في باطنه، ومن طلى بطنه بدهن فوصل إلى جوفه بالتشرب فإنه كذلك لا يفطر، واكتفى بعض أهل العلم بتحقق وصوله إلى الحلق والجوف واعتبروا أن الدماغ من الجوف فإن كان الداخل إلى الجوف مما يمكن الاحتراز منه كدخول المطر والثلج فإنه إذا لم يدفعه وابتلعه تعمداً؛ أفطر فإن لم يمكن الاحتراز منه كالذباب الذي يطير إلى الحلق وغبار الطريق لم يفطر إجماعاً، وقال النووي رحمه الله: جعلوا الحلق كالجوف في بطلان الصوم بوصول الواصل إليه.
فائدة في مسألة المغذي وغير المغذي: لا يشترط جمهور أهل العلم أن يكون الداخل إلى الجوف مغذياً فيفسد الصوم بالدخول إلى الجوف مما يغذي أولا يغذي كما لو ابتلع حصاة أو أكل تراباً ونحوه، فإنه إذا فعل ذلك متعمداً فإنه يفطر ولو كان غير مغذٍ.
فائدة: في كون الصائم قاصداً ذاكراً لصومه عندما يتعاطى شيئاً من المفطرات، أما لو كان ناسياً أنه صائم فلا يفسد صومه عند جمهور أهل العلم لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) رواه البخاري.
فائدة: أن الصائم المختار هو الذي يفطر عند تناوله شيء من المفطرات، فأما المكره فإنه لا يفطر فمن أُوجِر الماء يعني: صُبَّ في حلقه رغماً عنه أو صَبَّ الدواء في حلقه مكرهاً لم يفطر عند جمهور أهل العلم من الشافعية والحنابلة وبعض الحنفية؛ لأنه لم يفعل ولم يقصد ولو أكره على الإفطار فأكل أو شرب استدل أهل العلم على عدم إفطاره بأن الله وضع عن الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، فإذا أكره على الإفطار فإن صومه صحيح كمن أفطر ناسياً أو أكل ناسياً ونحو ذلك.(279/18)
إفساد الصوم بالإنزال
فائدة في إفساد الصوم بالإنزال: إذا تعمد الإنزال بلا جماع كالاستمناء بالكف أو باللمس والتقبيل ونحوها، فإنه يوجب القضاء عليه دون الكفارة عند جمهور الفقهاء مع التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، ويمسك بقية اليوم مع التوبة ويقضي بدلاً منه.
فائدة في الإنزال بالتفكير: عند بعض أهل العلم إذا أمنى بالنظر فإنه يفسد الصوم لأنه أنزل بفعل يتلذذ به ويمكن التحرز منه فهو كالإنزال باللمس، هذا بالنظر وأما الفائدة المتعلقة بالإنزال بالفكر فإن الإنزال به لا يفسد الصوم عند بعض أهل العلم لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) وقالوا النظر واللمس وغيرها يمكن دفعه ويمكن اجتنابه أما الفكر فإنه قد لا يستطيع؛ لكن عليه أن يجاهد نفسه وأن يطرد الأفكار الرديئة من ذهنه وأن يراعي حق الصيام.(279/19)
حكم استنشاق الصائم للبخور والدخان
فائدة في استعمال البخور: قال بعض العلماء وصول الدخان إلى الحلق يفطر كمن استنشق بخوراً مقرباً إلى فيه، أما لو شم رائحته بلا وصول دخان فإنه لا يفطر لأن الرائحة لا جسم لها، والذين يعملون في المصانع أو غيرها عليهم اجتناب شم الدخان فأما إذا وصل إلى الحلوق بدون تعمد فإن صيامهم صحيح كمن وصل الغبار إلى حلقه دون تعمد.
فائدة في المرأة التي تطبخ ودخان القدر ينبعث: إذا تعمدت استنشاقه أوجب القضاء لأنه يتقوى به أي: ببخار الطعام، أما إذا وصل بغير اختيارها فلا قضاء عليها، والعادة أن كثيراً من النساء لا يتعمدن تقريبه واستنشاقه والمداومة على ذلك فذلك صيامهن صحيح والحمد لله.(279/20)
حكم ما يدخل من غير المنافذ الطبيعية
فائدة في التقطير في الأذن: ذهب جمهور العلماء إلى فساد الصوم بتقطير الدهن أو الماء في الأذن وقال شيخ الإسلام رحمه الله: إن قطرة الأذن لا تفطر، قال: لأنها ليست من المنافذ الطبيعية لدخول هذه الأشياء إلى الجسم.
فائدة في الحقنة الشرجية: الاحتقان بالماء في الشرج يفسد الصوم ويوجب القضاء عند جمهور العلماء؛ قال الشافعية والحنابلة ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة يفطر لأنه وصل إلى جوفه باختياره، وعندهم الجوف شيء أوسع من المعدة ليس الجوف هو المعدة إنما هو شيء أوسع من ذلك، وعند شيخ الإسلام رحمه الله أن الحقن الشرجية لا تفطر، ونحن نقول أن الإنسان بالأحرى ألا يستعملها، وعند الحاجة إذا استعملها لا بأس لأن هذا دواء يحتاج إليه والأحوط أن يقضي.(279/21)
حكم من أفطر لجهله بالوقت
فائدة فيما لو تسحر أو جامع ظاناً عدم طلوع الفجر ولكن الحال أن الفجر قد طلع.
فمذهب جمهور أهل العلم أن عليه القضاء، واختار تقي الدين ابن تيمية أنه لا قضاء عليه، وقال: ما دام لم يعلم أن الفجر قد طلع فله أن يأكل ويشرب، وأما الجمهور فإنهم ذهبوا أنه لو أكل وشرب ثم تبين له أن الفجر قد طلع فإن عليه القضاء، فالأحوط إذاً أن يقضي، وطالب العلم إذا اقتنع بقول بدليله بفهم من عالم معتبر فإن له أن يأخذ به ولا يلزم بشيء آخر.
فائدة فيمن أفطر يظن الغروب ولكن الحال أن الشمس لم تغرب: فهذا عليه القضاء ولا كفارة لأن الأصل بقاء النهار، وينبغي ألا يخرج منه إلا بيقين والقاعدة تقول: اليقين لا يزول بالشك، فإذاً من أكل أو شرب ظاناً أن الشمس قد غربت ثم اتضح أنها لم تغرب فإنه يقضي.(279/22)
حكم من يجهل الصيام
فائدة فيمن جهل الصوم في رمضان كالمسلم في دار الحرب: فجمهور العلماء على إعذار حديث العهد بالإسلام أو المسلم في دار الحرب الذي يجهل الشرائع؛ فهذا يعذر بجهله في مدة جهله، أو من جهل تحريم الطعام أو الوقت بأن كان قريب عهد بالإسلام أو نشأ بعيداً عن العلماء كبعض الناس الذين ينشئون في البادية بعيداً عن أي طرف للعلم فجمهور أهل العلم على إعذارهم وأنه ليس عليهم القضاء، لكن إذا كان يستطيع الوصول إلى العلماء ويستطيع السؤال ولكن قصر وما سأل وقال: أنا جامعت زوجتي ولم يكن عندي علم، فنقول: هل كان يمكنك الوصول إلى أحد من أهل العلم، فإن كان بإمكانه الوصول فهو مفرط وعليه القضاء مع الكفارة عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً وهذه المسائل لا تلاعب فيها، وبطبيعة الحال أنه لابد من التفريق بين الذين ينشئون في مجتمعات المسلمين التي يوجد فيها علماء أو طلبة علم أو كتب يمكن الرجوع إليها، وبين الذين ينشئون في بلاد الكفر أو بين الكفار أو حديث العهد بالإسلام فنقول: إن الأحوال لابد أن تراعى.(279/23)
بيان المرض المبرر للإفطار
فائدة في المرض الذي يجوز لصاحبه الفطر: المرض هو كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة قال ابن قدامة رحمه الله: أجمع أهل العلم على إزاحة الفطر من مريض والأصل فيه قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فالمريض الذي يخاف زيادة مرضه أو إبطاء برئه أو إفساد عضو من أعضائه له أن يفطر.
فائدة في الصحيح الذي يخاف الشدة أو التعب: هذا لا يجوز له الفطر إذا حصل له في الصوم مشقة أو تعب، أما إذا خاف الصحيح المرض بغلبة الظن أو للتجربة، هو صحيح بدون صيام إذا صام مرض، هو صحيح بدون صيام إذا صام أغمي عليه، أو قال له الأطباء الثقات: إنك لا تتحمل الصوم، فهذا وهو صحيح إذا علم أنه لو صام مرض فإنه لا يجب عليه شيء ويجوز له أن يفطر أما إن خاف بمجرد الوهم فليس له أن يفطر.
فائدة في حالات المريض: المريض له حالات فمنها: ألا يقدر على الصوم أو يخالف الهلاك من المرض إن صام فهذا الفطر عليه واجب.
ثانياً: أن يقدر على الصوم بمشقة فهذا الفطر له مستحب ويكره له الصيام لأنه ترك تخفيفاً من الله.
ثالثاً: ألا يشق عليه ولا يخاف زيادة المرض هو مريض فيجوز له الصوم والفطر وله تفصيلات أخرى.
فائدة: هل يجب على المريض أن ينوي الصيام بالليل لاحتمال أن يصبح صحيحا؟
الجواب
إذا كان المرض مطبقاً فإنه لا يجب عليه أن ينوي من الليل لأجل احتمال أنه ثاني يوم الصباح يصبح صحيحاً لا يجب عليه.
فائدة في أصحاب المهن الشاقة، كالخبازين ونحوهم من الذين يتعرضون للحرارة حرارة الأفران وعمال البناء ونحوهم: لا يجوز لأصحاب المهن الشاقة الإفطار بل يجب عليهم نية الصيام والصيام فإذا وصل أحدهم إلى حال خشي على نفسه جاز له الإفطار.
فائدة في مريض الكلى الذي يتطلب غسيل كليته لخروج الدم لغسلها ثم رجوعه مرة أخرى: فأفتى بعض أهل العلم من المعاصرين بأن الدم إذا كان يخرج ويدخل هو دمه لا يضاف إليه شيء فإنه لا يفطر(279/24)
شروط الإفطار للمسافر
فائدة في شروط الفطر للمسافر لقد علمنا أن المسافر يجوز له الفطر فما هي الشروط: أن يكون سفراً بالمسافة أو بالعرف على اختلاف أهل العلم في ذلك، فإذا كان سفراً جاز له أن يفطر وألا يعزم على الإقامة أكثر من أربعة أيام بلياليها في المكان الذي يصح للإقامة، فإذا سافر إلى بلد ونوى أن يقيم فيه أكثر من أربعة أيام فإنه عند جمهور العلماء يعتبر مقيماً ولا يفطر من أول يوم يصل، بعض الناس يظن أنه إذا أراد أن يذهب إلى بلد يقيم فيها أياماً كثيرة يقولون: أول أربعة أيام نفطر والباقي نصوم، نقول: خطأ، منذ أن وصلتم إلى تلك البلد وأنت تعلمون أنكم ستمكثون أكثر من أربعة أيام فعلى قول جمهور أهل العلم يلزمكم الصيام منذ وصولكم إلى ذلك المكان.
وكذلك من شروط الإفطار للمسافر أن يجاوز البلد وما اتصل بها من بناء، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما صار في عسفان خارج المدينة شرب.
فإذاً قد خرج من البنيان هذا هو القول الراجح والأحوط عند جمهور العلماء أنه لا يفطر إلا إذا خرج من البنيان، وذهب بعض أهل الظاهر إلى الإفطار في البلد واحتجوا بأحاديث مثل حديث أنس، ولكن حديث الصحيحين أقوى منه وهو القول الأحوط والأرجح إن شاء الله تعالى أنه لا يفطر إلا إذا خرج عن البلد وغادر بنيان البلد وانتقل عن البلد وغادر بنيان البلد.(279/25)
حكم من أدرك رمضان وهو مسافر
فائدة فيمن أدرك رمضان وهو مسافر.
ذهب عامة الصحابة إلى أن من أدرك هلال رمضان وهو مقيم ثم سافر جاز له الفطر لأن الله تعالى جعل مطلق السفر سبباً للرخصة فما دام أنه سافر سواءً كان حاضراً من أول النهار في البلد أو سافر من الليل فإنه يجوز له الإفطار لأن بعضهم يرى أنه إذا طلع عليه النهار وهو في البلد ثم سافر لا يفطر تغليباً لحال الحضر لكن ليس هذا الراجح بل الراجح أنه يجوز له الفطر.(279/26)
الحالات التي تكون للمسافر
الفائدة الخمسون في الحالات التي تكون للمسافر: أن يبدأ السفر قبل الفجر ويطلع الفجر وهو مسافر فهذا يفطر إجماعا.
ثانياً: أن يبدأ السفر بعد الفجر ويطلع الفجر وهو مقيم في بلده ثم يسافر خلال النهار فهذا الذي ذكرنا قبل قليل أن الراجح جواز الإفطار بالنسبة له، وذهب الحنفية والمالكية إلى أنه يجب عليه إتمام ذلك اليوم وأصح الروايتين عن أحمد وبعض الشافعية: أن من نوى الصوم في الحضر ثم سافر في أثناء اليوم طوعاً أو كرهاً فله الفطر بعد خروجه ومفارقة بيوت قريته العامرة، أي: المأهولة بالسكان، واستدلوا بظاهر الآية وبحديث جابر رضي الله عنه: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإن الناس ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه فأفطر بعضهم وصام بعضهم فبلغه أن الناس صاموا، فقال: أولئك العصاة) رواه مسلم والترمذي واللفظ له.
والحالة الثالثة: أن يفطر قبل مغادرة البلد وقد منع من ذلك جمهور العلماء وقالوا: إن السفر لم يتحقق بعد بل هو مقيم وشاهد وقد قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ولا يوصف بكونه مسافراً حتى يخرج من البلد، ومهما كان في البلد فله أحكام الحاضرين ولذلك لا يقصر الصلاة.
فائدة للذين يسافرون من المطارات: إن كان المطار بينه وبين البلد فضاء منفصل عن بنيان البلد فإنه يجوز له أن يفطر في المطار ففي مثل ذلك الحال مثلاً مطار الرياض يعتبر خارج البلد فإنه لو أراد أن يسافر من الرياض فركب سيارة إلى المطار فإنه يفطر في المطار؛ لكن لو كان المطار داخل البلد وعند حدود البلد ملتصقاً به؛ فإنه لا يفطر في المطار وإنما يؤخر الفطر حتى تقلع به الطائرة وتبتعد به عن البنيان.(279/27)
الخلاف في تفضيل الصيام في السفر
فائدة في الصيام في السفر: ذهب الأئمة الأربعة وجماهير الصحابة والتابعين إلى أن الصوم في السفر جائز منعقد، ثم اختلفوا أيهما أفضل أو هما متساويان فذهب جمهور العلماء إلى أن الصوم أفضل في السفر إذا لم يجهده الصوم ويتعبه، وذهب بعضهم إلى أن الفطر أفضل، لكن على أية حال يكره له الصوم إذا وجد مشقة، وحمل بعضهم حديث: (ليس من البر الصوم في السفر) على ما إذا وجد المشقة، وقالوا: إنه إذا صام في سفره فهو أبرأ لذمته، لكن يوجد في بعض الحالات الصوم في السفر أهون كما إذا سافر الإنسان قرب المغرب، هو في البلد مقيم من الفجر إلى قرب المغرب والطائرة ستقلع به قبل المغرب هذا لو أقلعت به الطائرة قبل المغرب وأفطر ما بقي عليه شيء كثير، وهو يحتاج أن يقضي يوماً بدلاً منه، ولذلك ربما كان إكمال الصيام في السفر أهون معه، فعلى أية حال إذا كان يوجد مشقة فالأفضل له أن يأخذ بالرخصة، وألا يصوم، وإذا كان يريد الإسراع في براءة ذمته والسفر متيسر فصام فصيامه صحيح مجزئ.(279/28)
انقطاع رخصة الإفطار في السفر
الرخصة في السفر متى تنقطع؟ تسقط بأمرين: إذا عاد المسافر إلى بلده وهو محل إقامته.
إذا نوى الإقامة في المكان الذي وصل إليه وكان صالحاً للإقامة ليس كالمفازة أو دار الحرب ولا كالسفينة، فإنه إذا وصل إلى مكان صالح للإقامة فنوى الإقامة فيه فإنه تنقطع الرخصة ويصير مقيماً بذلك، فيتم الصلاة ولا يفطر في رمضان، فإن ذهب إلى بلد وهو لا يدري كم يجلس بها يقول: أجلس حتى تنقضي حاجتي، وربما تنقضي في يوم وربما في يومين وربما في أسبوع ربما في شهر فهذا له أن يفطر إلى ما شاء الله لأنه لم ينو الإقامة ولم يعلم أنه يجلس في البلد أكثر من أربعة أيام كمن ذهب في متابعة معاملة أو نحوها وربما قالوا له: ارجع غداً أو ارجع بعد غد فهذا له أن يفطر ولو بقي مدة طويلة.(279/29)
حالات أخرى يرخص لها بالإفطار
فائدة في رخصة الحامل والمرضع: لهما أن تفطرا لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحامل والمرضع الصوم) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، فالحامل تشبه المريض فإن لها أن تفطر ولو حملت سفاحاً، وكذلك المرضع يجوز لها أن تفطر ولو كانت مستأجرة مكلفة بهذا الولد، واشترط بعض الفقهاء أن تخافا على نفسيهما وولديهما، والصحيح أنه لا يشترط فالحامل مطلقاً ضعيفة لها أن تفطر مطلقا.
فائدة فيما يجب عليها وعلى المرضع: اختلف أهل العلم في ذلك فمنهم من فرق بينما إذا خافت على نفسها أو خافت على ولدها وقال بعضهم: ولدها كجزء من أجزائها وعضو من أعضائها فإذا خافت عليه فإنها تكون كمن خافت على عضو من أعضائها، ولذلك فالراجح والله أعلم أن الحامل والمرضع ليس عليهما إلا القضاء ولا كفارة عليهما.
فائدة في حكم الصيام للهرم ومن أصابته الشيخوخة.
الشيخ الفاني الذي فنيت قوته وأصبح كل يوم في نقص إلى أن يموت، وكذلك المرأة العجوز لا يلزمهما الصيام ولهما أن يفطرا ما دام الصوم يجهدهما ويشق عليهما، فهما يدخلان في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] وقال ابن عباس في هذه الآية: ليست منسوخة؛ هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصيام فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً كبير السن الذي لا يستطيع الصيام يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً.
فائدة: يجوز له أن يطعم قبل بداية الشهر أو بعد نهايته أو خلال الشهر دفعة واحدة أو على دفعات.
فائدة فيما يطعم: نصف صاع من قوت البلد وهو مقدر بكيلو ونصف من الأرز أو كيلو غرام ومعه شيء من الإدام، وهي طعام وليس مالاً فإنه لا يجزئ إخراج المال على الصحيح لأن الله قال: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] فلما نص الله على الطعام وجب إخراج الطعام.
فائدة: بأنه إذا كان غير مطبوخ فهو نصف صاع وإذا كان مطبوخاً فهو وجبة مشبعة، وجبة غداء لو اشتراها من المطعم أرز ولحم أو أرز ودجاج يعطي هذه الوجبات بعدد الأيام التي يفطرها لعذره، هذا عذره مستمر فعليه الفدية وهو أن يطعم من الحبوب إذا استطاع والمطبوخ وجبة مشبعة.
فائدة في حكم صيام المقاتل: من قاتل عدواً أو أحاط العدو ببلده والصوم يضعفه عن القتال ساغ له الفطر بدون سفر، وكذلك لو احتاج للفطر قبل القتال أفطر، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالفطر قبل القتال لأن الفطر أقوى لهم، فإذاً مثل بعض ساحات الجهاد وبعض المدن المحاصرة فك الله أسرها، أو هؤلاء المقاتلون الذين يقاتلون اليوم في ربوع بلاد البوسنة وغيرها إذا احتاجوا إلى الفطر فإنهم يفطرون والقتال قد يطول، فإذا احتاجوا للفطر فإنهم يفطرون ثم يقضون بعد ذلك.
فائدة فيمن اضطر لإنقاذ معصوم واحتاج للفطر: كرجال المطافئ أو الذي يريد أن ينتشل غريقاً، فهذا يفطر إن احتاج إلى الإفطار بل قد يجب عليه أن يفطر لأجل إنقاذ المعصومين، فإن رجال الإطفاء أو رجال الإنقاذ إذا احتاجوا للفطر أفطروا ثم قضوا.(279/30)
حكم الجماع في نهار رمضان
فائدة فيمن جامع في نهار رمضان: ذهب جمهور العلماء إلى أن جماع الصائم في نهار رمضان عامداً مختاراً، بأن يلتقي الختانان وتغيب الحشفة في أحد السبيلين مفطر يوجب القضاء والكفارة أنزل أو لم ينزل، والدليل حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل، فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ما لك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال: لا) الحديث رواه البخاري.
فائدة: أن الحكم واحد في الزنا واللواط وإتيان البهيمة: فكل من وطأ في فرج قبل أو دبر من إنسان أو بهيمة فإن عليه الكفارة المغلظة عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يجد فإطعام ستين مسكينا، ولا يجوز التلاعب بأن يقول: شهرين طويلة وما أستطيع وعندي عمل، بل يجب عليه أن يقوم بالكفارة مع التوبة إلى الله وقضاء اليوم الذي أفسده مع الكفارة.(279/31)
حكم صيام المرأة إذا جامعها زوجها
فائدة في حكم صيام المرأة إذا جامعها زوجها: إن كانت موافقة مواتية فإن عليها الكفارة مثلما هي عليه، وإن كانت مكرهة غير راضية فليس عليها الكفارة ولكن الأحوط أن تقضي ذلك اليوم وقال ابن عقيل رحمه الله عن جماع المرأة في نهار رمضان إن غصبت أو أتيت نائمة فلا كفارة عليها، وهل يفسد صومها، الفقهاء على فساد صومها وشيخ الإسلام على عدم فساده لأنها مكرهة والمكره غير مؤاخذ والأحوط أن تصوم ذلك اليوم.(279/32)
هل يقاس الأكل والشرب بالجماع
فائدة من أكل أو شرب عامداً في نهار رمضان بدون عذر: لا خلاف في وجوب التوبة والقضاء عليه، وذهب الحنفية والمالكية إلى أن عليه الكفارة بالإضافة إلى القضاء، وذهب الشافعية والحنابلة إلى عدم وجوب الكفارة، قالوا: دليلهم أن النص، ورد في الجماع وما عداه فليس في معناه يعني: الطعام والشراب لا يقاس على الجماع، ولذلك من أكل أو شرب عامداً في نهار رمضان عليه التوبة والإمساك بقية اليوم وقضاء ذلك اليوم فقط.(279/33)
جواز الادهان والاختضاب للصائم
فائدة في الدهان: للصائم أن يدهن رأسه أو شاربه أو يختضب بالحناء فإنه لا يفسد صومه ولا يجب عليه القضاء ولو وجد طعمه في حلقه هذا هو قول جمهور أهل العلم لأنه لم يدخله في جسمه ولا في المداخل وإنما وضعه على الجلد فهذا لا يفسد صومه.(279/34)
حكم احتلام الصائم في منامه
فائدة في الصائم إذا احتلم وهو نائم: لا يفسد صومه إجماعاً بل يتم الصيام، وكذلك من أجنب ليلاً فأصبح صائماً فصومه صحيح، أما حديث: (من أصبح جنباً فلا صوم له) وهو في البخاري ومسلم فإنه محمول إما على النسخ أو على الإرشاد إلى الاغتسال قبل الفجر فلوا احتلم وأصبح في الصباح طلع الفجر وهو على نيته السابقة في الصوم فهذا صيامه صحيح.(279/35)
صحة صيام من أصبح جنباً
فائدة إذا جامع أهله ثم أصبح جنبا: جامع في الليل وقبل الفجر نزع فطلع عليه الفجر وهو جنب وصار اغتساله بعد طلوع الفجر فصيامه صحيح لحديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما قالتا: (نشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان ليصبح جنباً من غير احتلام ثم يغتسل ثم يخرج) يعني: من الجماع، وأخبرت عائشة رضي الله عنها فيما معناه أنه كان يغتسل من الجنابة بعد الفجر، فإذاً الجنابة لا تؤثر في الصيام ما دام أنه قد نزع قبل الفجر أو احتلم وهو نائم هذه لا تؤثر في الصيام.(279/36)
أحكام بعض ما يدخل الجوف من المدخل الطبيعي
فائدة في حكم الصوم مع الطعام الباقي بين الأسنان والفم: إذا كان قليلاً لا يمكن التحرز منه فهو تبع لريقه فلا يفسد به الصوم ولا يفطر، وشرط بعض أهل العلم ألا يقصد ابتلاعه وأن يعجز عن تمييزه ومجه فإذا استطاع أن يميزه ويمجه فإنه يجب عليه ذلك ولا يبتلعه أما إن ابتلعه رغماً عنه وكان شيئاً قليلاً لا يمكن تمييزه بل هو مختلط في اللعاب فابتلعه بدون قصد فصيامه صحيح.
فائدة في البلل الذي يبقى في الفم بعد المضمضة: إذا ابتلعه الصائم مع الريق لا يفسد صومه بشرط إخراج الماء بعد المضمضة، والبلل والرطوبة الباقية لا يمكن التحرز منها لكن في الصيام لا يبالغ في المضمضة والاستنشاق كما جاء بذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.(279/37)
حكم بلع الدم أو النخامة
فائدة: فيما إذا كان في اللثة قروح أو دميت بسواك أو غيره فدخل ريقه حلقه مخلوطاً بالدم، فهذا إذا لم يمكن الاحتراز منه فإنه لا يفطر فإن كثيراً من الناس قد يبتلى بتشققات في اللثة أو الشفة ويدخل الدم مخلوطاً بلعاب لغير قصد فهذا لا يفطر، لكن إذا علم أن الدم موجود فإنه يخرجه قدر استطاعته لأن الدم نجس ولا يجوز ابتلاعه أصلا.
فائدة في النخامة والنخاعة: أما النخامة: فهي المخاط النازل من الرأس، والنخاعة: البلغم الصاعد من الباطن بالسعال والتنحنح وكلاهما يصل إلى الحلق فإذا وصلت إلى الفم أخرجها، فإذا وصلت إلى الفم ثم أعاد ابتلاعها عمداً أفطر، لكن إذا لم يمكنه التحرز فكثير من الناس الذين يبتلون بالتهاب في الجيوب وغيره أو بعض العلل التي توجب تجمع البلغم وتجمع النخامة والنخاعة فهذا ما يدخل في جوفه بغير قصد فإنه لا شيء عليه وصيامه صحيح؛ خصوصاً أنه يشق التحرج منه في بعض الحالات.
فائدة: في رجل حشا أسنانه بحشوة طبية ودخل نهار رمضان فأحس بطعم المر: أجاب الشيخ/ عبد العزيز بن باز عن هذا السؤال أنه لا يضر مثل طعم الماء.(279/38)
حكم من ذرعه القيء
فائدة في حكم من ذرعه القيء: الحديث يفصل هذا وهو قوله صلى الله عليه وسلم (من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمداً فليقضِ) رواه الترمذي وهو حديث صحيح، والتقيؤ عمداً بوضع إصبعه أو عصر بطنه، أو تعمد شم رائحة كريهة أو مداومة النظر إلى منظر فظيع وهو يعلم أنه يوجب له القيء يفطر، لكن لو أنه قاء بغير تعمد فإنه لا يفطر وليس عليه شيء ولا يجب عليه إمساك الباقي في معدته، واحد ذرعه القيء بدون فعل منه هل نقول: أمسك الباقي مع أن إمساكه يضر به؟
الجواب
لا، بل إنه يرتاح والذي يخرج بشكل طبيعي منه أثناء التقيؤ لا يمسكه ويخرجه ما دام ليس متسبباً فيه، وإذا خرج إلى حلقه شيء فإنه يخرجه ولا يعاود ابتلاعه.(279/39)
لفظ الطعام إذا طلع الفجر
فائدة إذا طلع الفجر وفي فيه طعام أو شراب: اتفق أكثر العلماء على أنه يلفظه ويصح صومه، وكذلك الحكم فيمن أكل أو شرب ناسياًَ ثم تذكر الصوم فهذا يبادر إلى لفظه، لو أنه أكل وشرب ناسياً ثم تذكر فجأة هل يكمل ما بقي في يده أو يبلع ما في فمه؟ لابد أن يخرجه؛ لكن إذا كان يتسحر وأذن الفجر وهي الفائدة السادسة والسبعون، وهو يتسحر فإنه ينبغي عليه أن يمسك وقد ورد حديث في أنه لو كان بيده كأس ماء فإنه لا يضعه بل يشربه، ولكن العلماء اختلفوا في صحة هذا الحديث فقال بعضهم: إنه حديث شاذ لا يصح الأخذ به، وأنه ما دام قد طلع الفجر فلا طعام ولا شراب وأن هذا الحديث يخالف نص الآية والآية فاصلة، فلذلك لا يأكل ولا يشرب شيئاً، لكن الاعتماد على التقويمات وليس على الرؤية العينية والتقويمات الحسابية شيء ظني ولذلك نقول: الأحوط أن يكف عن الطعام والشراب إذا أذن المؤذن، لماذا قلنا الأحوط؟ لأن العمل بالأذان على التقويمات، ولو أن إنساناً كان في البر وهو ينظر إلى جهة المشرق ولا زال الظلام دامساً والفجر لم يطلع فإنه يأكل ويشرب ولو أذن عشرات المؤذنين؛ لأن العبرة بطلوع الفجر وليس بالتقويم، هذه الخانة التي يضعونها في بعض التقويمات قبل الفجر بعشر دقائق يكتب الإمساك بدعة من البدع لا أصل لها، وهي مخالفة للكتاب والسنة ولإجماع علماء المسلمين في أن للمسلم أن يأكل وأن يشرب حتى يطلع الفجر، فمن زعم أنه يمسك قبل عشر دقائق ويزعمون أن هذا وقت الإمساك فهو بدعة، ولذلك ينبغي على أصحاب المحلات التجارية الذين يطبعون الدعايات وعلى أصحاب المطابع الذين يطبعون لهم الدعايات الانتباه إلى حذف هذه الخانة بالكلية لأنها بدعة من البدع ما أنزل الله بها من سلطان.(279/40)
حكم تذوق الطعام
فائدة في حكم ذوق الطعام: يكره بلا عذر لما فيه تعريض الصوم للفساد أما إن كان بعذر إذا احتاجت المرأة وهي تطبخ مثلاً أو الرجل إلى ذوق الطعام لينظر اعتداله فإنه لا بأس به، قال الإمام أحمد: أحب إلي أن يجتنب ذوق الطعام فإن فعل فلا بأس به، هذا الذوق باللسان أما إذا وصل إلى الحلق أفطر.
وذكروا من الأعذار أن تمضغ المرأة الطعام للولد الصغير إذا لم تجد الأم منه بداً، فإذاً يجوز ذوق الطعام فقد ورد عن بعض الصحابة أو عن ابن عباس أنه كان إذا أراد أن يشتري شيئاً احتاج إلى تذوقه ذاقه بطرف لسانه ثم يلفظه بطبيعة الحال، فعلى الإنسان أن يحتاط ولا يتساهل في الذوق أو التذوق حتى لا يفسد صومه.(279/41)
حكم مضغ العلك
فائدة في حكم مضغ العلك: العلك إذا كان يتحلل منه أجزاء فيحرم مضغه وإن تفتت فوصل منه شيء إلى الحلق والجوف أفطر، وإذا كان له طعم مضاف مثل السكر فوجده في حلقه أفطر، وإن لم يكن له طعم ولا يتحلل منه شيء ولا يدخل شيء البتة فيكره ذلك؛ لأن صاحبه يتهم بالإفطار كما قال بعض السلف: إياك وما يسبق إلى العقول إنكاره وإن كان عندك اعتذاره، وأكثر العلك الموجود إما أن يتفتت من أجزاء أو فيه طعم سكر أو ما شابه ذلك فهذا لا يجوز بطبيعة الحال.
فائدة في هذه الأسوكة الجديدة التي طلعت في هذه السنة: وهي أن بعضها بنكهة الليمون وبعضها بنكهة النعناع فاستفتيت بعض أهل العلم في هذا فقال: إنها تفطر إذا وصل طعمها إلى الحلق، ولذلك لا تستخدم هذه الأسوكة التي فيها طعم الليمون أو النعناع أو ما شابه ذلك، وعليكم بالسواك الطبيعي.
وفائدة: أن السواك لا يشترط أن يكون جافاً عند استعماله للصائم بل يجوز استعمال السواك ولو كان رطباً.(279/42)
حكم مقدمات الجماع
فائدة في حكم التقبيل للصائم والمباشرة والمعانقة واللمس: أما الذي لا يملك نفسه فإنه لا يجوز له أن يفعل ذلك لأنها ذريعة إلى إفساد صومه، فإن كان يملك نفسه فقبل ولم يخرج منه شيء فصيامه صحيح، فعلى الصائم أن يجتنب التقبيل وغير ذلك من مقدمات الجماع إذا لم يأمن على نفسه وقوع ما يفسد صيامه مثل الإنزال والجماع فيبتعد، وقال بعض أهل العلم بالتفريق بين الشيخ والشاب ولكن هذا التفريق ليس بمطرد؛ فقد يوجد شاب يملك نفسه وكبير لا يملك نفسه وإن كان الغالب العكس ولكن التحرز مهم.(279/43)
حكم الحجامة والاكتحال للصائم
فائدة في حكم الحجامة للصائم: اختلفوا فيها اختلافاً كثيراً ومذهب جمهور العلماء أنها لا تفطر لكنهم كرهوها، وقال الشافعي رحمه الله: لو ترك رجل الحجامة صائماً للتوقي كان أحب إليه ولو احتجم لم أره يفطره، وذكر الخطابي رحمه الله بأن المحجوم قد يضعف فتلحقه مشقة فيعجز عن الصوم فيفطر بسببها، والحاجم قد يصل إلى جوفه شيء من الدم لأنه يمص، وذهب الحنابلة إلى أن الحجامة تفطر واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إفطار المفصود دون الفاصد إلا إذا وصل إلى حلقه وقد وردت في المسألة أحاديث كثيرة وبحث المسألة ابن القيم بحثاً لا مثيل له في شرحه على مختصر سنن أبي داود، فإن شئت فراجع هذا البحث لتتعلم كيف يوفق العلماء بين الأحاديث المتعارضة، وفي هذا البحث يتجلى فقه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، فالأحوط الابتعاد عن الحجامة، وإن احتاج إليها فعلها والأحوط أن يقضي.
فائدة في حكم الاكتحال للصائم: جائز بلا كراهة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لا يفطر.
فائدة في قطرة العين ودهن الجفن: لا يفسد الصيام، وذهب إلى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأن العين ليست منفذ اعتيادياً، وذهب المالكية والحنابلة إلى أنه يفسد الصوم إذا وصل إلى الحلق فعندهم العبرة بالوصول إلى الحلق عن أي طريق كان الدخول.
فائدة: في حكم الاغتسال والانغماس في الماء للتبرد، أو التلفف في ثوب مبتل للتبرد فكل ذلك جائز ولا حرج فيه.
فائدة في حكم الغوص: وبعض الناس يعملون في الغوص كالذين يعملون في شركات استخراج النفط، أو يبحثون عن اللؤلؤ ونحوه إذا لم يخف دخول الماء في مسامعه فلا بأس به، وكرهه بعض الفقهاء في حال الإسراف والتجاوز والعبث، كأن يقول: أنا أريد أن أمارس رياضة الغوص في رمضان، نقول: ما وجدت إلا رمضان في النهار تمارس رياضة الغوص، مارسها في الليل مارسها في غيره.(279/44)
أحكام صيام السجين والمحبوس
فائدة في صيام السجين والمحبوس: ذهب جمهور العلماء إلى أن من اشتبهت عليه الشهور وهو في السجن لا يسقط عنه صوم رمضان بل يجب بقاء التكليف عليه، فماذا يفعل؟ إذا أخبره الثقات في دخول الشهر عن مشاهدة أو علم وجب عليه العمل بخبرهم ولو كان واحداً ثقة، وإذا لم يخبره ثقة بعلم أو مشاهدة وإنما المسألة اجتهادات فإنه يجتهد لنفسه في معرفة الشهر ويصوم بما يغلب على ظنه مع النية، فإذا استمر الإشكال ولم ينكشف له فهذا يجزئه صومه لأنه بذل وسعه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وأما إن علم بعد ذلك ماذا كان فله حالات: أولاً: أن يوافق صوم المحبوس رمضان، فيعلم أن صيامه كان صحيحاً وأنه وافق رمضان فهذا مجزئ عند جمهور العلماء.
ثانياً: أن يوافق صوم المحبوس ما بعد رمضان، يعني: أنه اتضح أنه صام بعد رمضان فهذا يجزيه عند جمهور العلماء، لأن صومه يعتبر قضاءً، وقال بعض أهل العلم: إن وافق صومه أياماً يحرم صومها كالعيدين والتشريق قضى، أما إذا اتضح أنه صام قبل رمضان فلا يجزيه عن رمضان هذه الأيام التي صامها، ويجب عليه قضاؤها، ولو وافق صوم المحبوس بعد رمضان دون بعض أجزائه ولم يجزئه ما لم يوافقه.
وإذا اشتبه عليه الليل والنهار لأنه في زنزانة مظلمة فذهب النووي رحمه الله، وهذه مسألة مهمة قل من تكلم فيها إلا أنه إذا اجتهد فصيامه مجزئ.
فائدة في المرأة التي تأخذ الدواء لأن عادتها مضطربة ولا تحمل، أخبرها الأطباء أنه لا يمكنها أن تحمل حتى تنتظم العادة، ولا تنتظم العادة حتى تستعمل دواءً ينزل العادة، فهل يجوز أن تأخذ هذا الدواء في رمضان وهي تعلم أنها تنزل العادة؟ أجاب أهل العلم من المعاصرين: لا حرج في ذلك إذا احتاجت للتداوي لأجل الحمل.(279/45)
الأسئلة
وهذه أسئلة نكمل بها الفوائد:(279/46)
حكم هبوط الطيار إلى مستوى لا يرى فيه الشمس
السؤال
هل يجوز للطيار أن يهبط بالطائرة إلى مستوى لا يرى فيه الشمس لأجل الإفطار؟
الجواب
هذا لا يجوز وفيه تحايل لكن إن نزل لمصلحة الطيران وغابت الشمس فلا بأس وإلا فلا.(279/47)
حكم من أفطر ثم ارتفع فرأى الشمس
السؤال
إذا أفطر المسافر على أرض المطار لغروب الشمس ثم ارتفعت الطائرة فرأى الشمس هل يمسك؟
الجواب
لا يمسك ما دام قد أتم نهاره بشكل صحيح.(279/48)
إفطار الصائم إذا غابت الشمس
السؤال
إذا غاب جميع القرص فهل ينتظر حتى تغيب الحمرة الشديدة أو يسمع الأذان؟
الجواب
لا، إذا غاب جميع القرص أفطر الصائم ولا عبرة بالحمرة الشديدة في الأفق ولا ينتظر أذاناً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم).
فائدة في دواء الغرغرة: لا يفطر الصوم إذا لم يبتلعه لكن لا يفعله إلا إذا دعت الحاجة إليه.(279/49)
تأثير سحب الدم على الصوم
السؤال
هل يؤثر سحب الدم للتحليل على الصيام؟
الجواب
أجاب الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مثل هذا التحليل لا يفسد الصوم لأنه يعفى عنه؛ لأنه مما تدعو الحاجة إليه وليس من جنس المفطرات المعلومات من الشرع.(279/50)
حكم السفر لأجل الإفطار
السؤال
ما حكم من أراد أن يواقع زوجته في نهار رمضان فسافر من أجل ذلك؟
الجواب
لا يجوز له ذلك، وهذا تحيل على الشريعة.(279/51)
حكم من أفطر بالأكل ثم الجماع
ما حكم من أراد أن يواقع زوجته في نهار رمضان فأفطر بالأكل ثم جامع: قال شيخ الإسلام رحمه الله: يتعين عليه الكفارة في هذا الموضع أشد؛ لأنه عاص، ولا يمكن أن تقول الشريعة لرجل إذا أردت أن تتجنب كفارة الجماع كل واشرب ثم جامع، بل هذا عليه الكفارة وهو أشد ممن لم يتحايل في الإثم.(279/52)
الإكراه المعتبر الذي يسقط الكفارة عن المرأة
السؤال
متى تكون المرأة مكرهة في الجماع؟
الجواب
إذا أكرهت بالقوة أو الضرب كما إذا أمسكها أو ضربها أو هددها بوعيد تظن أنه يوقعه بها كالطلاق، فإنها تكون مكرهة لا كفارة عليها، ويجب عليها أن تدفعه بالقوة وإلا فهي مثله.(279/53)
فائدة في الجروح أو الرعاف
السؤال
ما تأثير خروج الدم على الصيام؟
الجواب
إذا أصاب الإنسان ما دام بغير اختياره فإنه لا يضر بصومه.(279/54)
فائدة في الإبر
السؤال
ما حكم إعطاء الإبر للصائم؟
الجواب
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الإبر المغذية تفطر والإبر غير المغذية لا تفطر، وقال بعضهم: الإبر التي في الوريد تفطر والتي في العضلات لا تفطر، ولعل الأقوى والله أعلم أن الإبر إذا كانت مغذية فإنها تفطر لأنها بمعنى الطعام والشراب فهي تقوي كما لو أكل وشرب، ويلحق بها حقن الدم فإذا نقل إليه دم فهو من قبيل التغذية فإنه يفطر.(279/55)
كيفية معرفة الحائض أنها قد طهرت
السؤال
متى تعلم الحائض أنها قد طهرت لكي تصوم؟
الجواب
إما بنزول الطهر وهو القصة البيضاء، أو أن تحتشي بقطن ونحوه فإذا رأته نظيفاً عرفت أنها قد طهرت كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها فتصوم.(279/56)
نية المرأة صيام اليوم الذي ستبدأ فيه عادتها
السؤال
أن المرأة تعرف أن عادتها تأتي غداً في نهار رمضان هل يجب عليها مواصلة نية الصيام؟
الجواب
نعم، يجب عليها أن تنوي الصيام ولا تفطر إلا إذا رأت الدم.(279/57)
حكم من أسقطت في نهار رمضان
السؤال
إذا كانت المرأة أسقطت في نهار رمضان فما حكمها؟
الجواب
إذا أسقطت شيئاً فيه تخليق لأحد أعضاء الجسم أو للجسم كيد أو رجل أو رأس وظهر تخطيطه في هذا الذي نزل منها وسقط فإنها نفساء؛ لأن التخطيط بعد الثمانين؛ أربعون يوماً نطفة وأربعون يوماً علقة، ثم بعد ذلك يبدأ التخليق، فبعد الثمانين يوماً إذا أسقطت فهي نفساء، وإذا ظهر التخطيط أو التخليق في الجنين النازل فهي نفساء ويكون الدم نفاساً، وأما إذا كان قبل ذلك فإنها استحاضة وتصوم، وبذلك تكتمل الفائدة مائة وما بقي نعرضه بسرعة.(279/58)
فائدة في بنت بلغت ولم تخبر أهلها خجلاً وكانت تفطر
السؤال
ما حكم من بلغت ولم تلتزم بالصيام خجلاً من أهلها؟
الجواب
يجب عليها التوبة وقضاء ما تركته من الصيام في وقت تكليفها، وكذلك لا حياء في هذه المسائل وهي إذا بلغت فإنها لا يجوز لها أن تصوم في أيام الحيض، يحرم على الحائض الصيام ويجب عليها القضاء.(279/59)
فوائد في صيام المسافر إذا أقام
السؤال
ماذا يفعل المسافر إذا قدم في أثناء نهار رمضان؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في وجوب الإمساك عليه نزاع مشهور بين العلماء؛ لكن عليه القضاء أمسك أو لم يمسك، ولكن الأحوط له أن يمسك.
وفائدة: فالمسافر إذا مر ببلد فليس عليه أن يمسك إلا إذا كانت إقامته فيه أربعة أيام فأكثر، مثلما سبق البيان، لكن لو كانت البلد بلده فإن كان ينوي الإقامة والمكث فيها لا يجوز له أن يفطر، وإن كان مر بها مروراً لا ينوي الإقامة بها ولا الجلوس كرجل يسكن في الرياض وهو الآن في المنطقة الشرقية يريد الذهاب إلى مكة فذهب إلى المنطقة الشرقية ودخل الرياض وخرج منها قاصداً مكة وهو من سكان الرياض فهذا لا يعتبر مقيماً لما دخل الرياض ولذلك يستمر في الرخصة.
فائدة المسافر للخارج الذي سيقيم سنوات الدراسة وغيرها: اختلف أهل العلم في حاله، فالجمهور ومنهم الأئمة الأربعة على أنه في حكم المقيم يلزمه الصيام، وذهب آخرون إلى أنه ليس بمقيم لكن الأحوط له أن يصوم ثم إننا إذا قلنا له يجوز لك أن تفطر وهو سيمكث سنوات طويلة في الخارج فمتى يقضي وقد توالت عليه رمضانات؟(279/60)
علامات البلوغ
السؤال
متى يحصل البلوغ؟
الجواب
يحصل البلوغ في واحد من أمور ثلاثة عند الذكر وهي: إنزال المني باحتلام أو غيره.
نبات شعر العانة الخشن حول القبل.
بلوغ تمام خمسة عشر عاماً، وتزيد الأنثى أمراً رابعاً وهو: الحيض، فتكلف إذا نزل منها دم الحيض.(279/61)
حكم من يفقد عقله مؤقتاً
السؤال
ما حكم المجنون إذا كان يجن أحياناً ويفيق أحياناً وكذلك الهرم الذي ذهب عقله فيأتي عقله أحياناً ويذهب أحياناً:
الجواب
أن المجنون إذا أفاق والكبير في السن إذا عاد إليه عقله يلزمهم الصيام، فإذا ذهب عقله فإنه لا صيام عليه.
السؤال: المجنون في حالة جنونه هل عليه فدية؟، والذي ذهب عقله في أثناء ذهاب عقله هل عليه فدية؟ لا، لأنه ليس من أهل التكليف لا صيام ولا فدية، فلو قال: عندنا في البيت هرم ذهب عقله لا يميز شيئاً ولا عنده إدراك ولا يدري من هو ولا يدري من أهله ولا من حوله، فنقول: لا يجب عليه الصيام ولا الفدية ولا يجب عليكم القضاء عنه لأنه ليس من أهل التكليف.
فائدة في المغمى عليه: المغمى عليه إذا أغمى عليه من يوم إلى ثلاثة أيام قضى على قول بعض أهل العلم قياساً على النوم، وإذا أغمي عليه فوق أكثر من ثلاثة أيام لا يلزمه القضاء ولا الفدية قياساً على المجنون.(279/62)
فائدة في المريض الذي مرضه مزمن
السؤال
ماذا يفعل من مرض مرضاً مزمناً؟
الجواب
يخرج الفدية نصف صاع من قوت البلد، فإن كان يرجى برؤه لا يخرج شيئاً بل ينتظر حتى يبرأ ويلزمه القضاء.
فائدة فيما لو مات وهو ينتظر البرء: مريض قالوا له: يرجى برؤك فمات وهو ينتظر البرء؟ ليس عليه ولا على أوليائه لا كفارة ولا قضاء، ولا يخرج من تركته شيء.(279/63)
حكم من صام في بلد وذهب إلى أخرى صامت بعدهم
السؤال
من صام في بلد ثم ذهب إلى بلد أخرى قد صاموا بعدهم، فماذا يفعل؟ قال الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز: إذا صمتم في هذه البلد ثم صمتم بقية الشهر في بلادكم فأفطروا بإفطارهم ولو زاد ذلك على ثلاثين يوماً لقوله صلى الله عليه وسلم: (الصوم يوم تصومون والإفطار يوم تفطرون) لكن لو حصل العكس مثلاً صام في الباكستان الذين صاموا بعدنا ثم جاء إلى هذه البلد فصار العيد بعد سبعة وعشرين من صيامه، فماذا يجب عليه؟ إكمال يومين لأن الشهر لا يكون أقل من تسعة وعشرون، هذا طبعاً سيصلي العيد مع المسلمين لكن عليه أن أن يصوم يومين تكملة لعدة الشهر لأن الشهر لا ينقص عن تسعة وعشرين، لكن لو حدث العكس بأن صمنا قبلهم فصام هنا ثم ذهب إلى تلك البلد فحكمه حكم من ذهب إليهم لا يفطر إلا إذا أفطروا ولو زاد عن ثلاثين يوماً.(279/64)
فائدة في الصيام إذا طال النهار
السؤال
ما حكم الصيام في البلاد التي يطول فيها النهار جداً أو الليل فيها جداً؟
الجواب
مادام عندهم ليل ونهار يتميز ليلهم من نهارهم فإنه يجب الصيام، لو قال: نهارنا عشرون ساعة، نقول: لابد من الصيام لابد أن تنوي الصيام وتقوم لكن لو خشي على نفسه؛ أفطر اضطراراً وإلا يصوم لابد من الصوم.(279/65)
فائدة في صيام أصحاب السفر الدائم
السؤال
كيف يصوم أصحاب سيارات الأجرة والجلابين والذين يسافرون في مصالح المسلمين؟
الجواب
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ويفطر من عادته السفر إذا كان له بلد يأوي إليه كالتاجر الجلاب الذي يجلب الطعام وغيره من السلع والمكاري الذي يكري دوابه، وصاحب سيارة الأجرة مثلاً، وكالبريد الذي يسافر في مصالح المسلمين ونحوهم، وكذلك الملاح الذي له مكان في البر يسكنه مثل الطيارين مثلاً هؤلاء يفطرون ولو كانوا يسافرون أياماً كثيرة جداً، ولو كان عادتهم السفر يجوز لهم الإفطار، قال رحمه الله: فأما من كان معه في السفينة امرأته وجميع مصالحه ولا يزال مسافراً فهذا لا يقصر ولا يفطر لأن السفينة صارت بمثابة البيت بالنسبة له، قال: وأهل البادية كأعراب العرب والأكراد والترك وغيرهم الذين يشتون في مكان ويصيفون في مكان إذا كانوا في حال ضعنهم من المشتى إلى المصيف ومن المصيف إلى المشتى فإنهم يقصرون ويفطرون، وإما إذا نزلوا بمشتاهم ومصيفهم لم يفطروا ولم يقصروا وإن كانوا يتتبعون المراعي، والله أعلم.(279/66)
فائدة في تطعيم الصائم
السؤال
هل يؤثر التطعيم على الصيام؟
الجواب
أفتى الشيخ/ محمد إبراهيم لما سئل عن التطعيم ضد الجدري أنه لا يفطر.(279/67)
حالة أخرى تجب فيها الكفارة المغلظة
السؤال
رجل أصبح لا يدري أن رمضان قد دخل فأكل وشرب ثم علم أنه رمضان فجامع أهله فماذا عليه؟
الجواب
فتوى الشيخ/ عبد العزيز: عليه الكفارة المغلظة مع القضاء.(279/68)
تأثير الشروع في الاستمناء
السؤال
من شرع في الاستمناء ولكنه لم ينزل هل يفطر؟
الجواب
أجاب الشيخ حفظه الله: الظاهر أنه لا يفطر، لكن هذا ينتهك حرمة الشهر فعليه التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، شرع في مفطر من المفطرات ولو كان ما وصل إلى الدرجة التي تفطر لكنه يجب عليه أن يحفظ نفسه.
فرق بعض أهل العلم بين الكافر إذا أسلم والصبي إذا بلغ والحائض والنفساء إذا طهرت، وبين المريض إذا شفي والمسافر إذا قدم والمجنون إذا أفاق عند بعضهم أنهم كلهم عليهم القضاء وإمساك اليوم، وقال بعضهم بالتفريق: المجنون إذا أفاق والصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم يمسكون بقية اليوم لأنهم صاروا من أهل الوجوب ولا قضاء عليهم، بخلاف الحائض إذا طهرت والمسافر إذا أقام فهؤلاء يلزمهم القضاء ومنهم من رأى الإمساك والقضاء على الجميع.(279/69)
المعصية ليست عذراً
السؤال
رجل عليه صيام شهرين قال: أنا لا أستطيع أن أصومها بسبب ابتلائي بالتدخين، هل ينتقل إلى الإطعام؟
الجواب
أجاب الشيخ/ عبد العزيز بن باز لا يجوز له ذلك ولا عذر له بمعصية.(279/70)
صيام الزوجة بدون إذن زوجها
السؤال
هل يجوز أن تصوم الزوجة بدون إذن زوجها إذا كان عند زوجته الثانية وهو لا يسمح؟
الجواب
قال الشيخ/ عبد العزيز: لا تصوم بغير إذنه إلا رمضان إلا إذا سافر.(279/71)
بطلان اعتماد الحسابات في دخول الشهر
السؤال
ما حكم العمل بالحسابات في دخول الشهر الذي يكون موجوداً في كثير من البلدان.
الجواب
هذه بدعة ولا يجوز العمل بالحسابات، والحديث نص في الموضوع: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته).(279/72)
فائدة في شرط الشاهد الذي يقبل خبره
السؤال
ما هي شروط من يشهد برؤية الهلال؟
الجواب
أن يكون بالغاً عاقلاً مسلماً موثوقاً بخبره لأمانته وبصره.(279/73)
فائدة في نزول المطر وقت المغرب
السؤال
هل نجمع ونصلي تراويح أو نجمع مع العشاء ونؤخر التراويح أم لا نجمع؟
الجواب
قال الشيخ/ عبد العزيز: الأمر واسع إن شاء الله، الجمع يفوت به مصالح كثيرة للناس، يعني: لو قلت: تعالوا نجمع العشاء ونصلي بعده التراويح وهم الآن قد أفطروا على تمرات وأشياء أخرى، لكن لو فعلنا ذلك لشق علينا، فلو تركنا الجمع وقلنا: مصلحتكم أننا لا نجمع فنصلي المغرب الآن ثم نصلي العشاء والتراويح في وقت العشاء فلا حرج في ذلك ما دامت هذه مصلحة الناس.(279/74)
حكم من أخذ منوماً في المستشفى
السؤال
وضعوا له منوماً في المستشفى لمصلحته، فإذا أفاق هل يقضي؟
الجواب
هو باختياره ليس طارئا، الإغماء تقدم حكمه، لكن هذا منوم باختياره، قال: نعم ما دمت أحتاج العملية نوموني بمخدر، فأفتى الشيخ إذا كان ثلاثة أيام فأقل فيقضي قياساً على النائم، وأكثر لا يقضي قياساً على المجنون.(279/75)
فائدة في صيام الفرض بدون نية
السؤال
امرأة كشفت فرأت أن الدورة لا تزال يعني: قبل الفجر فلم تنو الصوم ثم أفاقت في الصباح فوجدت نفسها طاهرة هل يصح هذا اليوم صيام فرض أو لا؟
الجواب
لا يصح لأنها لم تنو، فلو قالت: أنا سأنويه نفلاً ما دام أنه لا فائدة من الفرض وأصوم نفلاً في نهار رمضان.
فالجواب: قال العلماء: لا يقع صوم نفل في رمضان البتة.
ومما يتعلق بصلاة التراويح عند الثناء على الله في مطلع الدعاء هل يرفع الإمام والمأمومين أيديهم؟ الجواب نعم يرفعون أيديهم ولو كانت مقدمة لأن الثناء على الله جزء من الدعاء.(279/76)
مجلة المرأة المسلمة
هذه المادة عبارة عن منوعات: من عبر ومواعظ، وقصص وطرف، وألغاز ومقالات يستهدف فيها الشيخ تصحيح بعض الأخطاء والمعاصي الموجودة عند كثير من النساء، ثم يلفت انتباههن إلى حسن التربية والتعامل مع الأولاد والخادمات، وكمال العشرة مع الزوج وغير ذلك.(280/1)
قبس من كتاب الله
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فربما تستمعين أيتها المرأة المسلمة لهذه المحاضرة، وهي عبارة عن مجلة بعنوان: "مجلة المرأة المسلمة" وهذه المجلة تتكون من صفحات، فمن ضمن صفحاتها: "قبس من كتاب الله" ثم "من مشكاة النبوة" ثم يكون لك موعد مع مقال بعنوان: "يا إلهي ماذا أفعل".
ثم قصة أو حدثٍ وموعظة بعنوان: "كان لي مع النار موعد" وبعد ذلك مقالة بعنوان: "واجبنا نحو العائدات إلى الله عز وجل".
ويلي ذلك: فتاوى المجلة أسئلة وأجوبة، ويليها بعد ذلك مقال بعنوان: "الحجاب ليس عقبة" من كلام فتاة أمريكية أسلمت.
وبعد ذلك ستستمعين إلى فقرة بعنوان: "نماذج ومعاني" ثم مقالة بعنوان: "وجلست في البيت" وبعد ذلك "مشهد وتعليق".
وتستمعين كذلك إن شاء الله في هذه المجلة إلى قصة مؤثرة بعنوان: "سيدة نصرانية يبكيها القرآن الكريم" وبعد ذلك "لغز العدد" ثم "طرفة العدد"، ونختم بذلك هذه المجلة لنجيب على ما تيسر من الأسئلة الواردة من قبلكن.
الصفحة الأولى: قبس من كتاب الله لما خرج موسى من بلده مصر فاراً إلى مدين بعدما قتل القبطي الفرعوني، وعلم أنهم سيقتلونه هرب بعد نصيحة الرجل: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:20 - 21].
ولما توجه تلقاء مدين دعا موسى ربه فقال: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22].
{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} [القصص:23] وهو بئر في بلدة مدين بين الشام والحجاز: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص:23] يسقون أغنامهم، مجموعة من الرعاة معهم مجموعة أغنام يسقونها {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:23] تكفكفان غنمهما عن بقية الرعاة، وتبعدان الغنم عن غنم الآخرين: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} [القصص:23] رق لهما ورحمهما لماذا هما واقفتان تنتظران وتذودان الغنم: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] لا نستطيع السقي حتى ينتهي الرعاة من السقي، ولا نريد أن نزاحم الرعاة، إنه ذلك المشهد الممتاز لحال المرأة الصالحة التي لا تريد مزاحمة الرجال، ولذلك قالتا: لا نسقي حتى يصدر الرعاة وينتهوا، وبعد ذلك نحن نذهب لنسقي.
قارني بين هذا المشهد الرائع وبين حال المرأة المسلمة اليوم التي تنزل إلى الأسواق وتزاحم الرجال، وتدخل في الزحام في أي مكان كان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ليس للنساء وسط الطريق (ليس لكن أن تحققن الطريق) يعني: تسرن في وسطه، كان النساء يمشين في جنبات الطريق، والرجال يمشون في الوسط، لم يكن هناك اختلاط بين النساء والرجال حتى في مكان المشي.
{قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] نريد أن نجلس في البيت بدلاً من هذا العناء والتعب، ليس عندنا رغبة في العمل لكننا مضطرتان للعمل؛ لأن أبانا شيخ كبير لا يستطيع أن يذهب لرعي الأغنام، ولا للقيام بشئون هذا الرزق الذي عندنا، فنحن مضطرتان للعمل، قارنوا بين ذلك وبين تهافت النساء بحاجة وبدون حاجة على العمل، وكأنها تريد أن تثبت ذاتها بالعمل، وكأنها ليس لها قيمة في المجتمع إلا إذا عملت، أما أن تجلس ربة بيت، تطيع زوجها، وتربي أطفالها، وتقوم بشأن بيتها، وهذه القلعة الحصينة التي هي موجودة فيها فذلك لا يمكن في عرف نساء اليوم إلا من رحم الله، لأنها تنظر إلى البيت على أنه سجن، وأن الوظيفة هي حلم المستقبل الذي يداعب خيالها باستمرار، فهي تدرس لأجل أن تثبت ذاتها في المستقبل، لا بد أن تخرج إلى المجتمع كما يقولون وتبرز ما عندها.
نعم.
لو كانت محتاجة أو كان المجتمع محتاجاً لقلنا إن لها عذراً، فإذا خرجت بالشروط الشرعية من الحجاب الشرعي، وعدم الزينة، وعدم الاختلاط بالرجال ولا الخلوة بهم، لكن مع الأسف صارت المسألة الآن مسألة خروج، لأن الموضة تقول للمرأة: الخروج الخروج من هذا السجن يا أيتها المرأة! والله عز وجل يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33].
ولما خرجت المرأة في أوروبا إلى العمل اضطراراً بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، وفقد عدد كبير من الرجال، واحتياج بلدانهم إلى إعادة البناء، خرجت نساء المسلمين إلى العمل ولو لم يكن هناك حروب ولا قتل لعدد كبير هائل من الرجال، وإنما لأجل الفتنة والإغواء، فلذلك أنت ترينها في مختلف الأماكن لا تكاد تتمسك بالحجاب الصحيح منهن إلا من رحم الله.
{قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا} [القصص:23 - 24] موسى عليه السلام، وتيقظت حاسة الشهامة في نفسه إنه لا بد من عمل شيء لإنقاذ هاتين المرأتين الضعيفتين، لا يمكن أن يدعهما تنتظران هكذا فسقى لهما، قال عمر رضي الله عنه: [لما ورد ماء مدين موسى وجد عليه أمة من الناس يسقون، فلما فرغوا أعاد الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها إلا عشرة من الرجال، فإذا بامرأتين تذودان قال: ما خطبكما؟ فحدثتاه، فأتى الحجر فرفعه لوحده، ثم لم يستق إلا دلواً واحداً حتى رويت الغنم] رواه ابن أبي شيبة وإسناده صحيح.
لما سقى لهما موسى عليه السلام الغنم كلها، ورفع الصخرة لوحده، وبعد هذا المجهود الجبار، بالإضافة إلى تعب السفر الأصلي، تولى إلى الظل لكي يستريح وهو يدعو ربه قائلاً: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] هكذا أهل الخير، يفعلون الخير، يغيثون الملهوف، يساعدون الضعيف، ولا يطلبون أجراً، ولا يشترطون ذلك: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] إنني محتاج إلى خيرك يا رب مفتقر إليه، كان بطنه لاصقاً من الجوع، وكان محتاجاً إلى شق تمرة، تولى إلى الظل وجلس تحت شجرة، ودعا الله بهذه الدعوة: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24].
فجاء الجواب بسرعة من مدد الله السميع العليم، السميع دعاء عباده، العليم بأحوالهم، يدل على ذلك هذه الفاء التعقيبية التي جاءت في مطلع الآية: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25] جاءته وجاء معها الفرج، جاءته إحدى البنتين تمشي على استحياء، لم تأت متميعة متكسرة في مشيتها كحال كثير من البنات اليوم، وإنما جاءت تمشي على استحياء، وصف عمر بن الخطاب رضي الله عنه مشيتها فقال: [جاءت تمشي على استحياء، قائلة بثوبها على وجهها] يعني: رفعت الثوب على الوجه، فأين فتاة الإسلام اليوم عن هذا الحجاب المعروف وهو غطاء الوجه من ذلك الزمن القديم، زمن القرية التي كان فيها موسى قبل آلاف السنين؟! قال عمر رضي الله عنه: [جاءت تمشي على استحياء قائلة بثوبها على وجهها ليست بسلفع خراجة ولاجة] وهذا إسناد صحيح، ليست بسلفع يعني: ليست جريئة سليطة، لأنها تربية رجل صالح في بيئة صالحة جاءت تمشي على استحياء وتقول له: إن أبي يدعوك، لست أنا الذي أدعوك، وإنما أبي الذي يدعوك، وتوضح الهدف من الدعوة لكي تزول كل ريبة من هذه الدعوة، ما هو الغرض منها؟ {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] وهذا أدب في العبارة ليثيبك ويكافئك على سقيك لغنمنا.
{فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25] لما أخبره بقصة قتله للرجل القبطي وهربه، قال له ذلك الرجل الصالح: لا تخف، طب نفساً، وقر عيناً، فقد خرجت من مملكتهم فلا حكم لهم في بلادنا، ولهذا قال: {نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25].
وهنا تسر إحدى البنتين لأبيها كلاماً مهماً تقول له: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص:26] أرحنا من العمل وعنائه، أرحنا من التعرض للرجال، أرحنا من المواقف المحرجة، أرحنا من البهذلة والانتظار في الشارع، يا أبت! استأجره لنرتاح، يرعى الغنم حتى نقعد نحن في البيت متسترات بدلاً من هذا الخروج المشين: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26].
قيل: إن أباها قال لها: وما يدريك أنه قوي؟ وما يدريك عن أمانته؟ فأخبرته عن قصة رفعه الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال؛ وهذا دليل على قوته، وأنها لما جاءت تمشي تقدمت أمامه فقال لها: كوني ورائي فإذا اجتنبت الطريق -أخطأت- فاحذفي بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدي إليها، أي: أنه لا يريدها حتى أن تتكلم، ولا تمشي أمامه حتى لا يراها، وإنما تمشي خلفه وهو يمشي أمامها، فإذا أخطأ حذفت الحصى يميناً أو شمالاً فيعلم من أين يتجه وإلى أين يسير فهو أمين.
وهنا يتدخل الأب فعلاً ويلبي طلب ابنتيه فيقول لموسى منتهزاً الفرصة: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص:27] سبحان الله! ليس من العيب أن يعرض الأب ابنته على الرجل الصالح، وليس من الغضاضة في شيء أن ينتهز ال(280/2)
من مشكاة النبوة
ولننتقل أيتها الفتاة المسلمة إلى المقالة الثانية في هذه المجلة وهي بعنوان: "من مشكاة النبوة" لقد أخرجت كتب السنة حديثاً عجيباً فيه ذكر حال المرأة المسلمة في حرصها على الدين، ورغبتها في الخلق، وصبرها على الابتلاء، ومواجهتها للواقع والأحداث بجناب ثابت، وعقل ناضج، إنها قصة المرأة الصالحة المرضية رضي الله عنها أم سليم أم أنس بن مالك، تلك المرأة التي تركها زوجها الكافر لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ لأنه لا يصبر عن شرب الخمر والإسلام يحرم الخمر، ولذلك انطلق إلى الشام وترك المرأة والأولاد لأجل الخمر، وهذا ما يفعله كثير من الفسقة والعصاة، يتركون أهاليهم بالأيام والأسابيع ليسافروا إلى بلاد الفسق والمجون ليشربوا الخمر، ويتعاطوا المخدرات، ويقعوا في الفجور والفسق، وذهب ذلك الرجل المسخوط عليه، وبقيت أم سليم مع أولادها وهي المسلمة التي آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم، ترعى أولادها صابرة على قضاء الله.
فجاء أبو طلحة يخطبها، فكلمها، وأبو طلحة رجل غني مشهور، لكنه كان كافراً غير مسلم، فقالت: يا أبا طلحة! ما مثلك يرد ولكنك امرؤ كافر وأنا امرأة مسلمة، لا يصلح لي أن أتزوجك، فأغراها بالذهب والفضة قالت: فإني لا أريد صفراء ولا بيضاء، أريد منك الإسلام، فإن تسلم فذلك مهري ولا أسألك غيره، وبالفعل أسلم أبو طلحة عند النبي صلى الله عليه وسلم وتزوج أم سليم، قال الراوي: فما بلغنا أن مهراً كان أعظم منه أنها رضيت الإسلام مهراً، فتزوجها وولد له منها ولد كان أبو طلحة يحبه حباً شديداً، وحسن إسلام الرجل لأنه دخل في البداية الإسلام من أجل الزواج، وبعد ذلك دخل الإيمان في قلبه، فكان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم مرتين.
وكان يحب ولده حباً شديداً؛ حتى تألم أبو طلحة جداً، وفي يوم من الأيام ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمات الولد في غياب أبيه، فماذا فعلت المرأة الصابرة المصابرة المجاهدة؟ قالت: لا ينعين إلى أبي طلحة أحد ابنه حتى أكون أنا الذي أنعاه له، فسجت عليه، ووضعته في جانب البيت، الله أكبر ما أقوى جنابها، وأثبت فؤادها، وأعلى إيمانها! فإنها هيأت الصبي يعني: غسلته وكفنته بعدما طيبته، وغطته ووضعته في جانب البيت، جاء أبو طلحة ومعه ضيوف، طبخت الطعام للضيوف حتى أكلوا، سأل الرجل عن ولده قالت بالتورية دون كذب: هو الآن أسكن ما يكون، أو أرجو أن يكون قد استراح، ففهم أنه: استراح من المرض، وهي تقصد استراح من الآلام والدنيا، وذهب إلى الله، تعشى القوم وخرجوا وهي تطيبت لزوجها، فبات معها تلك الليلة وأتاها، ثم قالت له بعد ذلك في آخر الليل: يا أبا طلحة! أرأيت لو أن قوماً أعاروا قوماً عارية لهم فسألوهم إياها أكان لهم أن يمنعوهم؟ فقال: لا.
قالت: فإن الله عز وجل كان أعارك ابنك عارية ثم قبضه إليه فاحتسب واصبر، غضب أبو طلحة لكنه استرجع وحمد الله.
وفي الصباح اغتسل وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بارك الله لكما في غابر ليلتكما) يدعو لهما بالبركة مما حصل في تلك الليلة فحملت المرأة بإذن الله.
وكان أبو طلحة وأم سليم يخرجان مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد إلى المعارك، وهي تسعف وتنقذ وتقوم بالأدوار لخدمة الإسلام وأهله، حتى ضربها المخاض قبل أن يصلوا إلى المدينة، تقول: يا أبا طلحة! ما أجد الذي كنت أجد، تقول: ما أحس بآلام مثل العادة في المخاض، وهذا من بركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فولدت غلاماً فقالت لابنها أنس (يا أنس! لا يطعم شيئاً -ما أرضعت الولد، ولا وضعت في فمه شيئاً- حتى تغدو به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثت معه بتمرات يقول أنس: بات يبكي، وبت مجنحاً عليه، أرعاه إلى الصباح، ثم ذهبت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ بعض التمر فمضغهن، ثم جمع بساقه المبارك صلى الله عليه وسلم، ثم فغر فاه -يعني الصبي- فأوجره إياه -جعله في فم الصبي- فجعل يحنك الصبي -وهذه سنة عند الولادة أن يحنك الصبي بالتمر، بأن تؤخذ تمرة وتعجن بين الأصابع وتلين ثم تمرر على حنك الصبي من الأعلى والأسفل- وجعل الصبي يتلمظ، ويمص بعض حلاوة التمر، وريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أول ما فتق أمعاء ذلك الصبي ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: انظروا إلى حب الأنصار التمر، قال قلت: -يعني أنس - يا رسول الله! سميه، قال: فمسح وجهه وسماه عبد الله فما كان في الأنصار شابٌ أفضل منه)، قال: فخرج منه رجال كثير يعني: من صلبه خرج رجال كثيرون، وقتل عبد الله هذا مجاهداً في سبيل الله بعد ذلك، فما أجمل تلك السيرة العطرة لـ أم سليم رضي الله عنها، وما أحسنه من مثال ضربته لنسائنا عل الله أن يهديهن للاقتداء بها.(280/3)
يا إلهي ماذا أفعل؟
والآن إلى الفقرة الثالثة: "يا إلهي ماذا أفعل" دائماً كانت تقول هذه العبارة، فما إن تبدأ بالصلاة حتى تبدأ معها الوساوس، الطعام احترق، نسيت أن تغلقي باب المنزل جيداً، يجب أن تحادثي عمتك اليوم، اتفقي مع زوجك بالذهاب إلى السوق غداً، وضوؤكِ ناقص، لم تسجدي في الركعة الأولى، وأخيراً تصرخ: يا إلهي ماذا أفعل؟ وأقول لك ماذا تفعلين: إن حالة الوسواس تصيب كثيراً من الناس في الصلاة، لأن الشيطان يريد أن يصرف العبد عن صلاته حتى لا يخشع فيها فلا يكون فيها أثر عليه، ولذلك يجب عليك إذا جاءك الشيطان بالوساوس أن تتعوذي من الشيطان الرجيم ثلاث مرات، وتتفلي عن يسارك ثلاث مرات تفلاً خفيفاً، هواء مع قليل من الرذاذ، هذا هو التفل وليس البصاق عن يسارك ثلاث مرات، وهذا هو العلاج الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي لما اشتكى إليه الوسواس في الصلاة.
وأقول لك: يا أُخيَّه! إن الوساوس التي تعرض عن الله يتخلص منها بالاستعاذة بالله من الشيطان، وأن تقرئي سورة قل هو الله أحد، وتقولي: آمنت بالله ورسله، وتكفي عن التفكير، وأما بالنسبة لوساوس الطهارة والصلاة ما مسحتِ الرأس ما سجدتِ في الركعة الأولى، ما فعلتِ ما كبرتِ الإحرام ما قرأتِ الفاتحة إذا كنت متأكدة من أنك قمت بالعمل، الرأس مبلول فكيف لم تكوني مسحتيه؟ إنه مبلول وتكبيرة الإحرام كبرتيها كيف يقول لك الشيطان: إنك لم تكبريها، فماذا عليك أن تفعلي؟ أهملي ذلك تماماً، ولا يجوز لك أن تعيدي العبادة إذا كنت قمت بها بشكل صحيح، تذكري ذلك، إذا قمت بالعبادة بشكل صحيح لا يجوز لك إعادتها؛ لأن إعادتها طاعة للشيطان.(280/4)
موعظة بعنوان: كان لي مع النار موعد
والآن إلى هذا الحدث والموعظة كنت يوماً واقفة أمام المرآة لأعتني بشعري، كما هي عادة كل بنت في مثل سني، إلا أنني والحمد لله لا أبالي في ذلك كثيراً، وكان كل فرد من أفراد الأسرة منشغلاً بنفسه، وأنا الأخرى كنت منشغلة بنفسي، حيث الضيوف سيأتون إلينا بعد صلاة الجمعة ويا له من موعد، ولكنه موعد من النوع الآخر، لم أكن قد تهيأت لهم، أي موعدٍ هذا؟ قبل أن أضع قدمي على عتبة المطبخ ذهبت ثانية إلى المرآة لأتأكد من تصفيف شعري ولكن ليس للضيوف إنما هو لشيء آخر لم أكن أعلمه، دخلت إلى المطبخ لإعداد وجبة الغداء، وفي نفس الوقت لم يكن عندي أحد، أمسكت بيدي اليمنى الزيت، وبيدي اليسرى باب الفرن لأفتحه، وضغطت على الزيت وإذا بالنار تخرج من داخل الفرن وكأنها عدو يتربص بي، والنار تلفح وجهي ويدي وشعري الذي اعتنيت به قبل قليل، وما إن أحسست بحرارة اللهب حتى خرجت من المطبخ بسرعة وأنا رافعة صوتي، ولا أدري ماذا أقول، وإذا بأختي تأخذني وأنا في تلك الساعة نسيت كل شيء، وتذكرت النار يوم تلفح الوجوه، نسيت المرآة ونسيت شعري، ونسيت كل شيء.
أما أمي جزاها الله عني كل خير فكانت تصلي، فما إن سمعت صوتي المرتفع إلا وقطعت صلاتها وخرجت وهي لا تدري ماذا حصل، وعندما رأيتها دفنت وجهي في صدرها وشعرت بدفء حنانها، إلا أنها دفعتني قليلاً حتى لا تؤلمني بقايا الحروق التي رسمت في وجهي درساً لي ولأهلي عن اليوم الآخر، وراحت أمي تبكي بكاءً قطع نياط قلبي، وفي ظنها أن عقلي قد ذهب من شدة المصيبة، وكل من حولي قد تأثر من هذا الموقف وكان درساً كما ذكرت.
وذهبت أخاطب نفسي يا نفس! كيف هي إذاً نار الآخرة، وأنت لم تتحملي هذا اللهب؟ يا نفس يا نفس وبقيت في وجهي آثار الذكرى أراجعها على المرآة، ويحفظها أهلي عن ظهر قلب، وشاء الله أن أذهب في ذلك اليوم إلى مكتبة المنزل، وتقع يدي على كتاب عن النار وما فيها من الأهوال، وأنها سوداء مظلمة يركب بعضها بعضاً، وأنها تكاد تميز من الغيظ، وأن لها زفيراً وشهيقاً تكاد تنخلع من هولهما أقسى القلوب، وفيها مقامع من حديد، مطارق وملابس من نار من قطران -النحاس المذاب- وشراب الحميم والغسلين، وطعام الضريع، شوك لا يسمن ولا يغني من جوع، وشجرة الزقوم التي طلعها كأنها رءوس الشياطين، وفيها من الأهوال ما لا يخطر ببال إنسان حي، فيها من الأهوال ما يشيب له الولدان.
وتذكرت ما ينبغي علي أن أفعله للنجاة من هذه النار، أنني لم أتحمل هذه اللحظات من نار الدنيا التي هي جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة، فكيف سيكون الحال إذا وقعت فيها يوم القيامة وماذا سيكون الشأن؟! وأقول أخيراً: أختي المسلمة! أنت دائماً قريباً من نار الدنيا في مطبخك، فهذا القرب من النار واعظك لتكوني أشد الناس خوفاً من نار الآخرة، أنجانا الله وإياكن منها.(280/5)
واجبنا نحو العائدات إلى الله
والصفحة التي تليها بعنوان: "واجبنا نحو العائدات إلى الله" لا ريب أن ظاهرة عودة الفنانات التائبات إلى الله، تمثل قلقاً كبيراً لدى أعداء الله، ولا ريب أن اتجاه العديد من الفنانات الأخريات إلى تأمل حياتهن وواقعهن، ومقارنته بواقع المرأة المسلمة السوية، وإظهار ترددهن في العمل المخل، يشكل حرجاً بالغاً لتجار الغرائز الذين يسعون إلى الكسب الحرام، ويعتمدون على جسد المرأة بوصفه السلعة التي تدر كثيراً من الربح والمال، سواءً في السينما أو البناء أو الرقص أو غير ذلك.
وهذه ظاهرة عجيبة -أيتها الفتاة المسلمة- أن تحدث التوبة في أوساط أفجر النساء، وأشقاهن وأبعدهن عن الله سبحانه وتعالى، النساء اللاتي غرقن في مستنقعات الرذيلة إلى الآذان المرأة التي كانت تعرض جسدها في ثياب رقيقة قصيرة شفافة في الرقص، وتمثل مع الرجال أدوار الحب والغرام، التي كانت تخوض في بحار الرذيلة، ترجع إلى الله؟! إنه لعجب ولكن الله غالب على أمره، وإذا أراد الله أن يهدي شخصاً فلا مضل له، وإذا أراد الله أن يضل إنساناً فلن تملك له من الله شيئاً، وهذه شمس البارودي وشادية وغيرهن من النسوة الفنانات تحجبن وتركن مجال الفن الحرام ليسددن بذلك ضربة قاصمة إلى المخرجين الذين صاروا يبحثون عمن يقوم بأداء الأدوار، وصار هناك مبكى في سوق الفن، واضطر بعضهم إلى الاستعانة بممثلات من الدرجة الثانية أو محاولة إظهار ممثلات من فئة الكمبارس كما يقولون إخفاقاً وإفلاساً.
ولكن هل تركت الفنانات التائبات على حالهن لكي يعشن الحياة التي يردنها؟
الجواب
كلا كلا، فإن شياطين الإنس بالمآزرة مع شياطين الجن لا يمكن أن يتركوا إنساناً في حاله يريد الله، يريد التوبة، يريد الحجاب، ولذلك سارعوا إلى طرح أسوأ إنتاج الفنانات التائبات في الأسواق، وترويج الأفلام في محاولة للضغط على الفنانات، والحرب النفسية لمحاولة إرجاعهن إلى طريق الرذيلة مرة أخرى، في نوع خسيس من الابتزاز، ثم انطلقوا في ترويج الشائعات والزعم بأن هؤلاء النساء تلقين الملايين من أجل الحجاب، سبحان الله! إنها تتلقى الملايين من الأفلام فلماذا تتلقى الملايين الآن؟ وممن تتلقى؟ ومن هو الذي يعطيهن هذه الملايين؟ يريدون إشاعة أن وراء هذا الحجاب أموالاً مغرية، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره، وتثبت بعض هؤلاء التائبات، وتجبر المجلات الماجنة أمام هذه الظاهرة العجيبة التي لم تصدق على عرض بعض قصص التائبات على صفحات المجلات الماجنة السيئة فرضت القضية نفسها عليهن، وأبلسوا وأسقط في أيديهم، وهو دليل على أن دين الله ينتشر، وأن هذه الصحوة تدخل جميع المجالات، إنه فعلاً النور الذي أنزله الله لتحيا به القلوب، لقد كان حدثاً جللاً، وأمراً عظيماً توبة عدد من رءوس الفن، واعتزال الشر، فما هو موقفك أنت أيتها الفتاة المسلمة؟ لا أقل من الدعاء لهؤلاء بالثبات، فإنهن يحتجن إلى الدعاء فعلاً من كثرة الضغوط والإغراءات، والإرهاب الذي يتعرضن إليه من أجل الرجوع مرة أخرى إلى عالم الفسق والمجون.
وينبغي عليك كذلك بطبيعة الحال أن تقلعي أنت عن مشاهدة هذه الأفلام السيئة، والأغاني الماجنة، والرقصات الهابطة، كيف تنظرين إليها في الفلم وهي قد تابت؟! وبأي حق تستبيحين مشاهدة الأفلام والرقصات وصاحبتها قد تابت إلى الله ورجعت وأنت لم ترجعين؟! أفلا يكون ذلك درساً لك أن تتركي ذلك، وتشعري بالحياء من النظر إلى هذه الأفلام، والسماع لتلك الأغاني، والنظر إلى تلك الراقصات وصاحبة الفيلم والمغنية قد تابت؟! أفلا يكون درساً لك أنت حتى تتوبي أيضاً من سماع الأغاني ورؤية الأفلام الهابطة، وهذه المسلسلات المختلطة؟! نسأل الله التوفيق للجميع.(280/6)
فتاوى المجلة(280/7)
الفرق بين دم الحيض والاستحاضة وما يجوز وما لا يجوز على الحائض
السؤال
كيف نفرق بين دم الحيض ودم الاستحاضة؟ وماذا يجوز للحائض وماذا يحرم عليها؟ وكيف يغسل ويطهر دم الحيض؟
الجواب
إن الله سبحانه وتعالى خلق في المرأة دماً يتغذى عليه الجنين، فإذا حملت المرأة انقطع خروج هذا الدم لأجل انصرافه إلى تربية الجنين، فإذا كانت في حالتها بغير حمل وهي بالغة كان دم الحيض يخرج منها، وهو دم يرخيه الرحم في أيام معلومة يعتاد المرأة، وهذا الدم من الحيض أحمر يغلب عليه السواد، وهو دم غليظ لذاع كريه الرائحة.
وأما دم الاستحاضة فإنه دم أحمر مشرق ليس لونه مثل لون دم الحيض، ولا رائحته كرائحة دم الحيض، وهو دم فساد ونزف أو شيء يخرج من عرق، والتوضيح والتفريق بينهما مهم بالنسبة للمرأة لما يترتب على ذلك من الأحكام؛ لأن الحائض لا يجوز لها أن تصلي، ولا يجوز لها أن تصوم، بخلاف المستحاضة التي يجب عليها الصلاة ويجب عليها الصيام، فأما الحائض إذا حاضت امتنعت عن الصلاة وعن الصيام، والمستحاضة إذا أصيبت بالاستحاضة فإنها تغتسل لكل صلاة بعد دخول وقتها وتصلي، وكذلك فإن الاستحاضة لا تمنع من الصيام.(280/8)
العادة الشهرية لا تمنع عقد النكاح
وهنا يأتي سؤال يتردد عند الكثيرات هل دم الحيض أو العادة الشهرية تمنع عقد النكاح أم لا؟ هل يجوز أن يعقد على الفتاة وهي حائض؟
الجواب
نعم.
فإن الحيض لا يمنع العقد، وإنما يحرم على الرجل أن يأتي زوجته في وقت الحيض، فالجماع هو المحرم، أما عقد النكاح فليس في ذلك بأس أبداً خلافاً لما تعتقده بعض النساء، فيجوز أن يعقد عليها العقد الشرعي وهي حائض، كما أنه يجوز للحائض أن تعقد الإحرام وهي حائض، فإذا مررت بالميقات من الطائرة أو غيرها فيجب عليك أن تحرمي إذا كنت ناوية الحج والعمرة، ولا يجوز لك أن تجاوزي الميقات بغير إحرام خلافاً لما تفعله كثير من الزائرات فإنها تقول: مررت بالميقات لكني كنت حائضاً فلم أحرم، نقول: هذا من الجهل، فإن الذي يحرم على الحائض هو الطواف بالبيت، ودخول الحرم، أما الإحرام، والسعي، والرمي، وعرفة، ومزدلفة وغير ذلك من المشاعر فإنه لا علاقة له، ولا تتوقف صحته على الحيض، فلو كانت حائضاً فإنه يجوز سعيها، ورميها، وقص شعرها، وغير ذلك من أعمال الحج أو العمرة، والذي يحرم عليها فقط هو الطواف بالبيت ودخول الحرم.
وهذا هو الجواب على سؤال يرد عند بعض النساء: هل يجوز للمرأة أن تدخل المسجد وتسمع المحاضرة ونحو ذلك؟ فنقول: قد اختلف أهل العلم في هذا، والأحوط ألا تدخل المسجد وهي حائض، ويمكنها أن تسمع المحاضرة من الشريط ونحو ذلك، والحيض تترتب عليه أحكام كثيرة كعدة المرأة، وفي ذلك ينبغي ضبطه ومعرفته.(280/9)
حكم العادة إذا طالت عن وقتها المعلوم
سؤال هنا يقول: العادة عندي سبعة أيام، فصارت في أحد الشهور عشرة فهل هذه الزيادة حيض أم لا؟
الجواب
كل بلل يأتيك في وقت العادة فهو حيض، وكل كدرة أو صفرة في وقت العادة فهي حيض، فإذا كانت الكدرة أو الصفرة بعد الطهر فليست بشيء، الكدرة والصفرة إذا اتصلت بالحيض من أوله أو بآخره فإنها حيض، أو جاءت في وقت العادة بدلاً من الدم، رأيت صفرة أو كدرة تعتبريه حيضاً، أما إذا طالت العادة عن وقتها فإنها عادة ما لم تصل إلى خمسة عشر يوماً، لأن أكثر مدة للحيض خمسة عشر يوماً، فإذا طالت عن ذلك فإنها استحاضة، فهناك قاعدة مهمة ينبغي أن تحفظيها لأنها تنقذك من كثير من الإشكالات، "العادة معرضة للزيادة والنقصان، والاتصال والانقطاع، والتقديم والتأخير" فقد تتأخر عادة المرأة وقد تتقدم، وقد تطول وقد تقصر، وقد تكون متقطعة وقد تكون متصلة، بعض النساء قد تكون عدتها سبعة أيام متواصلة، وفي إحدى المرات يأتيها ثلاثة أيام دم ثم ينزل عليها الطهر، وبعد فترة يأتيها دم الحيض مرة أخرى، فماذا نقول؟ نقول: كل دم في وقت الحيض فهو حيض، أما إذا جاء بعد الحيض نظرنا فيه، فإن كان يشبه دم الحيض في صفاته من ناحية اللون والرائحة والأوجاع المصاحبة ونحو ذلك عرفنا أنه دم حيض، وأما إذا كان دماً مشرقاً أحمر في غير وقت الحيض فهو استحاضة، أو إذا زاد عن خمسة عشر يوماً فهو استحاضة، فهذه بعض الأسئلة المتعلقة بالطهارة بالنسبة للمرأة المسلمة.(280/10)
الحجاب ليس عقبة
والآن إلى مقالة بعنوان: "الحجاب ليس عقبة" هي فتاة أميركية يميزها الحجاب الشرعي الذي ترتديه، وكذلك حرصها على حضور الحلقات التي تعقد في مسجد المدينة الأمريكية التي تقطنها باستمرار، تستعير كتباً دينية من مكتبة المسجد، فهي حريصة على العلم، وكم تتمنى أن تدرس في كلية الشريعة، كيف أسلمت؟ وما حالها قبل الإسلام وبعده؟ نقرأ سوياً ما تقوله أختنا المسلمة ليزبت التي أسلمت بعد ذلك.
تقول: نشأت في بيئة نصرانية، ولكن هذه البيئة لم يكن فيها حرص على ممارسة الطقوس الدينية؛ نتيجة التفلت والضياع الذي نعيشه في أوروبا وأمريكا عموماً، ومنذ وعيت على الحياة لم أكن أرتاح إلى هذا الدين الذي أدين به وأفكر دائماً بموضوع صلب المسيح، وكذا التثليث -وهنا آخذكِ في منعطفٍ لتستمعي إلى هذه الطرفة- جاء أحد المبشرين إلى قرية إسلامية، فألقى عليهم محاضرات التبشير والنصرانية والمسيح، ويصلي للمسيح، وقدرة المسيح ونحو ذلك وفقرات من الإنجيل المحرف، وأخبرهم أن المسيح صلب وقتل، وأنه بقي معلقاً على الصليب المصلوب عليه فترة ثلاثة أيام، ثم قام ودخل في السماء، ونحو ذلك من الخرافات والهراء الذي يقولونه، والله عز وجل قال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157].
ألقي الشبه على أحد الخونة فظنوه عيسى فأخذوه وصلبوه وقتلوه، أما عيسى الحقيقي فإن الله قد رفعه إلى السماء وأنقذه من بين أيديهم، هذه عقيدتنا في عيسى، وأنه عبد كريم نبي من أولي العزم من الرسل، وإنه لم يمت وإنما سينزل في آخر الزمان، وقد آن الأوان وقرب الوقت -والله المستعان- لفساد الزمان، فينزل عيسى، ويحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ولا يقبل من الكفرة إلا الإسلام أو القتل.
وبعد نهاية المحاضرة قال له أحد الفلاحين البسطاء من المسلمين: يا أيها القسيس! أنت تقول: إن المسيح كان يتنقل من الناصرة إلى القدس وغيرها على الحمار ثم أخذوه وصلبوه على الصليب، هل كان عيسى على الصليب مرتاحاً لما كان مربوطاً عليه على تلك الخشبة القاسية ثلاثة أيام، قبل القتل صلبوه على هذه الخشبة التي على شكل الصليب كان مرتاحاً عليها أو لا؟ فقال القسيس: لا.
ما كان مرتاحاً عليها؛ لأنها خشبة صلبة، وهو مربوط عليها هذه الفترة.
فقال الفلاح المسلم: الحمار الذي كان يتنقل عليه المسيح كان يرتاح عليه أو ما كان يرتاح عليه؟ فقال: كان مريحاً.
فقال الفلاح المسلم: فلماذا لا نعبد الحمار بدلاً من أن نعبد الصليب وقد كان الصليب يؤلم عيسى والحمار يريح عيسى، فبهت الذي كفر وأسقط في يده.
فعلاً إنهم يقدسون الصليب، ويجعلونه معهم، ويقولون: نصاب بالبركة، ويصلون به، ويعلقونه في رقابهم وو إلى آخره، مع أنه كان مؤلماً لعيسى كما يقولون، وكان مربوطاً عليه، فينبغي كرهه ونبذه، وليس أن يأخذوه ويجعلوه سبب البركة، فما أقبح تلك العقول! وأقبح تلك الأفكار! على أية حالة تقول هذه المرأة التي كان اسمها ليزبت سابقاً: كنت دائماً أفكر في صلب المسيح، وكذلك التثليث في أن هذا الكلام لا يعقل، وكيف أن الإنسان يعمل الجرائم المختلفة، ولمجرد الإيمان بالمسيح يدخل الجنة، أليس هناك فروض وواجبات يتحتم على النصارى اتباعها؟ هذه الأسئلة جعلتني أشعر بالضياع، فجعلت أبحث عن دين آخر أجد فيه الراحة، أخذت أسأل كل شخص عن دينه لأعرف مبادئه وتعاليمه، وكلما رأيت إنساناً سألته عن دينه، فرأيت عدة من المسلمين سألتهم عن الإسلام، ثم إن بعض المسلمين دلوني على القرآن الكريم المترجم، فقرأت ثلثه؛ فوجدت فيه الراحة التامة، وأصبحت أحرص على تأدية الصلاة، وأذهب يوم الجمعة إلى مسجد المركز الإسلامي الموجود في منطقتنا، وامتنعت عن أكل لحم الخنزير وأنا لم أسلم بعد، ولكن أجرب الشعائر هذه في هذا الدين، وفي يوم من الأيام ذهبت لوليمة كان فيها بعض المسلمين في مكان، وزوجاتهم أيضاً في مكان، فسئلت: هل أنت مسلمة؟ قلت: لا.
فسئلت لماذا لم أسلم بعد؟ فقلت: إنني خائفة من الحجاب، فقيل لي: تخيلي لو أنك خرجت وصار لك حادث، هل تحبين أن تكون نهايتك طيبة فتموتين وأنت مسلمة وتدخلين الجنة أم يذهب بك إلى مكان آخر؟ فأثرت فيَّ تلك الكلمة، وأسلمت بالفعل، وعندما نطقت بالشهادة وبعد عدة أيام، أقامت لي إحدى المسلمات حفلة بسيطة وقدمت لي هدية، حينما فتحتها كانت حجاباً، كنت خائفة جداً من الحجاب، شأني شأن الكثيرات من الأمريكيات وذلك أنه في نظري يسلبنا الحرية، وبعد أن اعتدنا على ارتداء ما نريد من الملابس يكون من الصعب ارتداء الحجاب، المهم ارتديت الحجاب في اليوم الثاني وذهبت به إلى الجامعة، ولم أجد أي صعوبة تذكر، فبدأت أعتاد على الأمر ووجدت فيه الراحة التي أنشدها، والآن أحاول أن أسهل أمر الحجاب على صديقة اقتنعت بالإسلام لكنها خائفة من الحجاب.
أما عن ردة فعل أبوي فإن أبي لم يبال؛ لأنه شعر بأن الأمر ليس بيده، أما أمي فهي إنسانة اعتادت على احترام آراء الآخرين وتقبلها، ولذلك فهي لم تعر إسلامي شيئاً، لكنها كانت خائفة عليَّ من الحجاب، وعندما رأت إصراري راعت شعوري، بل إنها أصبحت تشتري لي الحجاب وتهديني إياه.
ومن الطرف التي واجهتني أن ابن خالي جاء لزيارتنا ذات يوم، فأمرته والدتي أن ينتظر في حين أن تعطيني خبر قدومه حتى أضع الحجاب، وذات مرة زارنا عمي، فأسرعت لتناولني الحجاب حتى أضعه قبل أن يدخل، فضحكت وشرحت لها الأمر، وأن عمي من المحارم الذين لا يجب علي الحجاب أمامه.
وأنقلك الآن من هذه القصة المؤثرة عن حجاب المرأة الأمريكية المسلمة هذه إلى هذا المشهد، تقول إحدى النساء: ذهبت إلى بعض المستشفيات لعمل فحوصات، فلما دخلت العيادة رأيت منظراً يندى له الجبين، ويتقطع له القلب حسرة، رأيت منظر الطبيبة بنت البلد وهي تلبس البنطال والقميص، وقد أظهرت زينتها الكاملة، واستبدلت غطاء رأسها بقبعة بلاستيكية صغيرة، ولبست من الحلي ما يزينها، ولم تأبه بالرجال سواء الأطباء أو العاملين، فهل هذا منظر يرضي الله عز وجل؟ ألا يصلح أن تلبس الطبيبة النقاب والخمار بدلاً من هذا اللباس المخزي، سبحان الله! النصرانية تسلم وتتحجب وتتعود على الحجاب، والمسلمة تفسق وتعصي، وتتحلل من الحجاب، فسبحان من هدى وأضل!! امرأة أمريكية أخرى أسلمت، وسمت نفسها (فاطمة) أسلمت بسبب الحجاب، كانت تعمل على جهاز المحاسبة في إحدى المحلات، فاستوقفتها مشاهد من بعض النساء من زوجات الطلاب الذين يدرسون في الخارج، بعض النساء المحجبات، فكانت تسألهن على الجهاز عن هذا الحجاب، ولماذا هذا الحجاب؟ وما هذا الدين الذي يلزمكم به؟ وما هي تفاصيله تقول: اشتد شوقي للحجاب على الرغم من صعوبته، وحينما عدت للبيت أخذت قطعة قماش ووضعتها على رأسي، ولبست ملابس ذات أكمام طويلة فأعجبني شكلها، وخرجت بها في اليوم التالي إلى مركز إسلامي قريب؛ بحثاً عن مراجع عن الإسلام؛ فأخذتها وتفرغت لقراءتها، فتأثرت، ثم ذهبت إلى المركز مرة أخرى وأعلنت إسلامي هناك.
إذاً: الحجاب سبب لهداية بعض الكافرات، الحجاب هو دعوة عملية، فما أكثر أجر التي تتحجب فتكون قدوة لغيرها، عندما تلبس الجوارب التي تستر القدمين، والقفازات التي تستر الكفين، والغطاء السميك الذي يستر الوجه، إنها فعلاً دعوة صامتة للغيرة، وكم من الأجر يكون لهذه المرأة.(280/11)
نماذج ومعانٍ
والآن إلى فقرة بعنوان: "نماذج ومعاني" المشهد الأول: بعدما انتهت من التنظيف رمى ابنها ابن العام الواحد قطعاً من البسكويت على الأرض؛ فلما رأتها ارتفع صوتها: الله يلع يا ولد.
المشهد الثاني: كانت مشغولة بإعداد طعام الوليمة فاحترق جزء منه، فتمتمت الله يلع كيف حصل هذا؟! المشهد الثالث: وقفت الخادمة ولم تتحرك، فتذمرت سيدتها؛ لأنها أعادت على مسمعها الكلام مراراً وتكراراً ولكنها لم تفهم، فقالت: أنت لا تفهمين يا مل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن المؤمن كقتله) وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة) ولما سئل النبي عليه الصلاة والسلام لماذا النساء أكثر أهل النار؟ ماذا أجاب عليه الصلاة والسلام قال: (لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير) الزوجة تجحد حق الزوج ولا تقوم به، والشاهد (تكثرن اللعن) على ألسنة النساء، والرجال أيضاً في هذا الزمان.
فينبغي عليك أيتها المرأة المسلمة أن تهذبي لسانك من اللعن، ما أكثر اللعن بين الطالبات! ما أكثر لعن الطالبة للمدرسة! ما أكثر اللعن الذي تقوله الأم لولدها! وما أكثر هذه اللعنات التي تنطلق من ألسنة بعض العاصيات لله في هذه المسألة! ثم إنه لا يحق لأحد أن يدعو على أحد بإخراجه من رحمة الله وهو لا يستحق ذلك، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه في هذه الحالة ترجع اللعنة على اللاعن فتصيبه لعنته، فيكون كأنه دعا على نفسه.(280/12)
وجلست في البيت
والآن إلى فقرة أخرى في الصفحة التالية وهي: (اسأل مجرب) بعنوان: "وجلست في البيت" مر عام ونصف على زواجي وما زلت متمسكة بهذه العادة السيئة، زوجي يعمل في المطار، وهذا يتحتم أن يغير دوامه كل شهرين فتارة الصباح، وأخرى في العصر، وأخرى في الليل، وقد اعتدت أن أخرج معه كلما خرج للدوام أذهب إلى بيت أهلي لأنني أخاف إن جلست في البيت لوحدي، وهذه العادة جعلتني أعيش في معمعة شديدة، فأحياناً أضع طعام الغداء وعندما يخرج زوجي للدوام أخرج معه وأترك المطبخ غير مرتب، وأعود لأجد البيت منقلباً رأساً على عقب، وأستحي أن أنظر لوجه زوجي لشعوري الكامن بالتقصير التام، الغسيل، الكي، التنظيف، الطهي، كله ليس على الأمر المطلوب، وهذا أمر طبيعي فأنا أخرج معه وأعود معه، إذاً متى أعمل؟ حينما يكون موجوداً أتمكن من إنجاز العمل الضروري، والآن أصبح لدي طفل وازدادت المسئوليات، وازدادت معها المعمعة، وأحياناً آخذ الغسيل معي لبيت أهلي، وأحياناً أخرج وأنسى بعضه، حدثت صديقة لي، فضحكت مني وقالت: أتخافين من "الغول" أن يأتي ليأكلك، اجلسي في بيتك ولن يأتيك إلا الخير، اقرأي بعض السور القرآنية، وحافظي على الأذكار، واستعيني بالله وجربي، والأصلح للمرأة أن تجلس في بيتها.
أخذت بنصيحتها -وسط اضطراب شديد من زوجي- وجلست، ثم فتحت شريط قرآن، وشمرت عن ساعدي، وبدأت بالتنظيف تنظيفاً دقيقاً وكاملاً، وأديت أعمالي، وأعددت طعام العشاء، وجاء زوجي ووجهه فرح مستبشر للمرة الأولى، وقال بالحرف الواحد لما رأى منظر البيت من الداخل والطعام جاهز: الآن أصبح لي بيت أتشوق للعودة إليه.
وهكذا أصبحت ربة بيت وأماً وزوجة ناضجة، ولهذا تمكنت من الاستفادة، ففي وقت الفراغ أجلس لأقرأ، أو استمع شريطاً، كما أن أهلي أصبحوا يشتاقون إلي أكثر من ذي قبل، فأنا لم أعد كل ساعة عندهم، وإنما أذهب لزيارتهم من وقت لآخر، أو عندما يكون دوام زوجي ليلاً أحياناً.(280/13)
مشهد وتعليق
والآن إلى "مشهد وتعليق".
الزمان: الساعة الثانية عشرة ليلاً، المكان: صالة الطعام بإحدى قاعات الفنادق للأفراح، المشهد: تدخل جموع كثيرة من النساء ويتجهن صوب مكان الصحون، فتأخذ كل واحدة صحناً وتبدأ تلف على طاولة الطعام فتأتي البوفية لتأخذ ما تريد، هذه تضع كمية من الرز واللحم، وقطعتين سنبوسة، وحبتين من كل نوع من أنواع الفطائر، لحم، وجبن، وسبانخ، وتضع ثلاثة أسياخ من اللحم المشوي، وقطعتين من الدجاج، وقطعتين من الكباب، ومن الكبة، وجزء من التنبولة والفتوش إلى آخره.
تجلس كل امرأة على كرسيها تتناول الطعام، وكل واحدة تأكل قليلاً من الرز، وحبة سنبوسة، وفطيرة ونحو ذلك ثم تشعر بالشبع، مع أنها لم تتناول سوى شيء بسيط من الصحن، ثم تقوم هي والتي معها تاركة صحنها آخذة صحناً آخر أصغر قليلاً إلى قسم الحلويات، فتعبئ كل واحدة صحناً كبيراً مملوءً بشتى الأصناف، وتجلس لتتناوله ويتكرر المشهد السابق.
التعليق: لا أظن أن هناك امرأة حضرت أي حفل عرس ولم تشهد مثل هذا المشهد، وقد أصبح مألوفاً في حفلات الأعراس، والغريب حقاً أن الناس حينما وضعوا نظام البوفية لتناول الطعام، أرادوا منه الاقتصاد وعدم التبذير والإسراف، ولكن ما وقع كان العكس لسوء الفهم والتصرف، فأنتِ فعلاً تشعرين بالضيق حينما تدخلين قاعة الطعام بعد انصراف النساء، لتجدي الصحون مليئة بالمأكولات، مرمية على الطاولة، وقد تركها أصحابها في حين قد يوجد بعض الأشخاص لا يجدون ما يتناولونه؛ مما يشعر أهل الحفل بالحرج، مع أنهم قد قاموا بما عليهم من توزيع الطعام الكافي، ولكن سوء تصرف كثير من النساء وضعهم بهذا الموقف المحرج، لماذا لا تأخذ كل امرأة قدر ما تريد أكله؟ وإذا أرادت المزيد فبالإمكان أخذ ما تريد، وهكذا تنظم العملية، والمسألة كلها تعود إلى مخالفة قول الله تعالى وإلى مخالفة ما أبغضه الله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141].(280/14)
أية جرأة هذه؟!
وهذه الفقرة القصيرة بعنوان: "أية جرأة هذه؟! ".
فعلاً أمرهن عجيب، وحقاً شأنهن غريب، أتجرؤ إحداهن على أن تكتب قصيدة غزل تمتلئ بألفاظ الحب والغرام، ومن ثم تنشرها على الملأ في إحدى الصحف موقعة باسمها الكامل؟! أتجرؤ إحداهن أن تكتب رسالة للاعب أو فنان أو لفوز المنتخب فيها كثير من عبارات المديح والثناء، ومن ثم تعمد إلى نشرها بإحدى الصحف وقد زينتها باسمها الحقيقي أين دينها؟ أين حياؤها؟ أليس لديها أهل؟ أين هم؟!(280/15)
امرأة نصرانية أبكاها القرآن
وآخر قصة في هذا العدد عن امرأة نصرانية أبكاها القرآن، وهذه قصة مؤثرة حكاها أحد الدعاة إلى الله تعالى وقال: كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك من بين عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب، ليس فيها مسلم، وخطر لنا أن نقيم صلاة الجماعة في محيط على ظهر السفينة، وقد وافق قائد السفينة أن نقيم صلاتنا وكان كافراً، وسمح للبحارة والطهاة والخدم وكلهم من المسلمين، وكانوا من الليبيين المسلمين أن يصلوا معنا، وقد فرحوا بهذا فرحاً شديدا؛ ً إذ كانت المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر السفينة.
وقمت بخطبة الجمعة، وإقامة الصلاة، والركاب الأجانب معظمهم متحلقون يرقبون صلاتنا، وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح القداس، ظنوه القداس وأن المسألة مثل مسائل النصارى، وهذا ما فهموا عن صلاتنا، ولكن هناك امرأة من الحشد تعرفنا فيما بعد أنها أوربية، كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها، جاءت لتهنئنا بحرارة وهي لا تملك نفساً من التأثر العميق، وليس هذا موضع الشاهد من القصة، ولكن ذلك كان في قولها، أية لغة هذه التي يتحدث بها قسيسكم؟ وهذا تصورها، وقد صححنا لها الفهم بأنه ليس هناك قسس في الإسلام، وأجبناها على سؤالها على اللغة التي كان يتحدث بها الخطيب، فقالت: إن هذه اللغة التي تحدث بها لها إيقاع عجيب، وشعور في النفس غريب، وإن كنت لم أفهم منها حرفاً واحداً، ثم كانت المفاجئة الحقيقية لنا وهي تقول: لكن ليس هذا هو الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه، إن الموضوع الذي لفت حسي هو أن الإمام كانت ترد في أثناء كلامه فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه، نوع أكثر تأثيراً، وأعمق إيقاعاً، هذه الفقرات الخاصة كانت تعمل في نفسي رعشة وقشعريرة، إنها شيء آخر يختلف عن كلام الخطيب، وتفكرنا قليلاً ثم أدركنا أنها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة، وكانت مفاجأة لنا تدعو إلى الدهشة من امرأة لا تفهم شيئاً مما نقول، فسبحان الذي أنزل الكتاب وجعل له هذا السلطان والتأثير.(280/16)
هي القاتلة
فقرة بعنوان: "هي القاتلة" عندما يعلو كلامها مع البائع في محل هي القاتلة، عندما تكشف وجهها للأجانب هي القاتلة، عندما تعلو كلماتها المبتذلة في سماعة الهاتف هي القاتلة، وعندما تتهجم على المتدينات إذا قدمن لها نصيحة هي القاتلة، نعم إنها قاتلة الحياء، وإن الله سينفذ فيها حكمه إذا لم تتب إلى الله.(280/17)
فطنة قاض
والفقرة قبل الفقرتين الأخيرتين بعنوان: "فطنة قاضٍ" اشتكى أحد القرويين إلى القاضي أن أحد الناس يسرق منه الدجاج والأوز، وأنه لم يهتد إليه، فحضرت الصلاة بعد ذلك فقام القاضي وخطب بهم وقال في خطبته: وإن أحدكم ليسرق أوز جاره، ثم يدخل المسجد والريش على رأسه، فمسح رجل من الحضور رأسه، فقال القاضي: خذوه فهو صاحبكم.(280/18)
لغز العدد
وإلى الفقرة قبل الأخيرة وهي: لغز العدد، وهي بيتان من الشعر ذكرهما أحد الشعراء يصف فيهما شيئاً، والمطلوب منك أن تتعرفي على هذا الشيء، يقول هذا الشاعر:
ما اسم لشيء حسن شكله تلقاه عند الناس موزونا
تراه معدوداً فإن زدته واواً ونوناً صار موزونا
فما هو؟
الجواب
إنه الموز.(280/19)
طرفة عن أحد النحويين
والآن إلى آخر فقرة ونهاية المطاف في هذه المجلة مجلة الفتاة المسلمة، وهي طرفة عن أحد النحويين، وكان مشهوراً بالألفاظ الصعبة، كان يستخدم في كلامه الألفاظ الصعبة وكان يتقعر فيها كثيراً، دخل أبو علقمة النحوي على الطبيب، فقال له: أمتع الله بك -الآن النحوي يشكو حاله من المرض الذي أصابه- قال: أمتع الله بك! إنني أكلت من لحوم هذه الجوازم -أي: فرخ الحمام قبل أن ينبت ريشه- فطفئت طفأة فأصابني وجع ما بين الوابلة إلى دأنة العنق، فلم يزل يربو وينمو حتى خالط الخلب والشراتيت، فهل عندك دواء؟ فقال الطبيب: نعم.
خذ خربقاً وشلفقاً وشذرقاً فزهزقه وزقزقه واغسله بماء روث واشربه، فقال أبو علقمة: لم أفهم عنك، فقال الطبيب: أفهمتك كما أفهمتني.
وأخيراً: أيتها الفتاة المسلمة! أيتها المرأة المسلمة! نسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون قد انتفعنا بما سمعنا، وأن يجعل ما سمعنا حجة لنا لا حجة علينا، وأوصيك في نهاية المطاف بتقوى الله عز وجل في السر والعلن، وأسأله أن يجعل لك الطريق نوراً، ويأخذ بيدك فيه ويسلك بك الصراط المستقيم، وأن ينجينا جميعاً من نيران جهنم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكن، وإلى لقاء آخر والسلام عليكن ورحمة الله وبركاته.(280/20)
مقومات النصيحة الناجحة [1]
للنصيحة في الإسلام شأن عظيم، فالدين النصيحة كما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن واقع النصيحة بين المسلمين ليس له ذلك الأثر المطلوب شرعاً؛ بسبب الأخطاء الواقعة من الناصح والمنصوح، وعدم وجود القدوة في أفعال الناصح قبل أقواله.(281/1)
الدين النصيحة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
إخواني في الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح كلمتين موجزتين، تعبران عن ركن عظيم من أركان الدين، وأركان الأخوة الإسلامية، وهذا الحديث الصحيح هو قوله صلى الله عليه وسلم بأبلغ عبارة وأوجز لفظ: (الدين النصيحة) يعرف الدين بأنه هو النصيحة كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الآخر: (الحج عرفة) فجعل عليه الصلاة والسلام النصيحة هي الدين كما جعل عرفة هي الحج، ليس لأن الدين كله هو النصيحة، ولا أن الحج كله هو عرفة، ولكن لما كانت عرفة أعظم ركن من أركان الحج وهي الموقف الأكبر؛ كان ذلك دلالة على أهميتها وعظمها، كذلك يومئ عليه الصلاة والسلام لأمته بأن النصيحة هي من أعظم الأشياء في الدين.(281/2)
عاقبة ترك النصيحة
أيها الإخوة: لما وقع الإهمال بين المسلمين في النصيحة؛ رأيت الانحرافات الكثيرة في العقائد والسلوكيات؛ نظراً لأن هذه المسألة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إن النصيحة أعم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن النصيحة تدخل حتى في الأشياء الدنيوية، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم النصيحة من أركان بيعته لبعض الناس، فقد أخبر الصحابي في الحديث الصحيح: (أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة -وعلى أشياء- فذكر منها: والنصح لكل مسلم) فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترط في البيعة النصح لكل مسلم.
أيها الإخوة: إن النصيحة معلم بارز من معالم المجتمع الإسلامي ومن أساسيات الأخوة، ولما غابت النصيحة؛ فقدنا أشياء كثيرة، لما تواكل كل إنسان على غيره في إسداء النصيحة؛ عم الفساد وطمت الشرور، لما أهملنا النصيحة وتقاعسنا عن أدائها ودخل الشيطان على كل إنسان فقال له: عليك نفسك لا توجه نصائح للناس؛ حصلت هذه المفاسد التي ترونها اليوم والانحرافات العامة في حياة المسلمين التي أدت إلى غياب وضوح صورة الإسلام الصحيحة في أذهان كثير من المسلمين اليوم.
أيها الإخوة: النصيحة جعلها عليه الصلاة والسلام ركناً من أركان الأخوة، فقال في حق المسلم على المسلم: (وإذا استنصحك؛ فانصحه) قال العلماء ومنهم ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: إن هذا الأمر للوجوب، فتجب النصيحة لعموم الأدلة الأخرى الدالة على أهميتها والتشديد في أمرها.(281/3)
نظرة الناس إلى النصيحة
أيها الإخوة: صار الواحد منا اليوم إذا رأى أخاه على منكر، أو رآه واقعاً في خطأ ما؛ يستحي أو بعبارة أدق يخجل أن يوجه إليه النصيحة، وصارت النصيحة عند بعض الناس اليوم عيباً لا ينبغي ذكره ولا إسداؤه أو التوجه به.
سيقول السفهاء من الناس: إن النصيحة تعتبر تعدياً على الحرية الشخصية للإنسان، وهذه فكرة قائمة في أذهان الكثير، فإنك ترى أحدهم اليوم إذا جئت توجه إليه نصيحة في أمر من الأمور؛ قال لك: وما دخلك أنت، وما حشرك في الموضوع، أنا حر فيما أفعل، هذه هي الحرية الشخصية، الحرية المزعومة التي ادعاها هؤلاء تقليداً للكفرة من الغربيين والشرقيين؛ الذين جعلوها صنماً يعبد من دون الله، فأدت إلى ما أدت إليه من الشرور والمفاسد.
أيها الإخوة: الحرية مكفولة للمسلمين -والحمد لله- في هذا الدين، ولا يحتاج المسلم لضمان حريته إلى أكثر من التقيد بشرائع الإسلام.
إن الإسلام يضمن لكل مسلم حريته بالأشياء التي جاء بها في إقرار حقوق المسلم وتحريم التعدي عليه، والذي يزعم أن الحرية مطلقة؛ فإن كلامه يؤدي إلى نسف عبودية الإنسان لله بالكلية؛ لأنك إذا عممت هذا المفهوم كما يراه بعض الناس اليوم؛ فإنك ستقول: أنا حر أن أؤدي الصلاة أو لا أؤديها، وأنا حر أن ألتزم بالزكاة أو لا ألتزم بها، أو أنا حر أن أصوم أو أحج إلى غير ذلك، فتصير الحرية بهذا المفهوم وبالاً شديداً ومطعناً عظيماً في دين الإسلام، فإن الإنسان عبد لله عز وجل شاء أم أبى، فيجب أن يقدم حقوق هذه العبودية، ولهذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الإنسان لا يمكن أن يعيش من غير عبودية مطلقاً، لا بد أن يعبد شيئاً ما، فإما أن يكون عبداً لله تعالى، أو عبداً لأهوائه أو شهواته، أو غيرها من طواغيت الإنس، أو الأصنام وما شابهها.
لذلك -أيها الإخوة- لابد أن يستقر في عقول هؤلاء الناس أن النصيحة ليست تعدياً على الحرية الشخصية مطلقاً، وهذه القصة أو الحوار الذي سمعته يوماً ما من أحد الإخوان -والعهدة على الراوي- تبين حال الناس في قضية النصيحة: فإن إنساناً أتى لرجل من المسلمين فقال له: يا أبا فلان! إن ثوبك طويل يسحب، هلا رفعته وقصرته كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد رأى مسلماً واقعاً في منكر؛ فأسدى إليه نصيحة، فقال له الشخص المخاطب بلهجته: يا فلان! هذا ثوبي وإلا ثوبك؟ قال: لا.
ثوبك، قال: فما دام أنه ثوبي؛ فأنا حر أفعل به كما أشاء، فانطلت هذه الكلمة على ذلك الرجل الناصح المسكين فقال: إي والله صدقت.
أيها الإخوة: هذا مثل بسيط من الأمثلة التي تعبر فعلاً على أن الناس اليوم يرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإسداء النصيحة لهم هو تدخل في حرياتهم ومظاهرهم الشخصية، لذلك لا يرون التقيد أو قبول النصيحة أصلاً، وقد أتى الخلل من كون بعض المسلمين يرون بأنه لا علاقة للإسلام وأحكام الإسلام في مظاهرهم الشخصية، فلذلك هو حر في مظهره الشخصي، وهذه نقطة خطيرة؛ لأن المظهر -أيها الإخوة- من شعارات الإسلام، وقد اهتم الإسلام بالباطن كما اهتم بالظاهر؛ ولأن اللباس والهيئة والمظهر من شعارات المسلمين الدالة على تميزهم عن غيرهم من الأمم الكافرة، ولذلك أمر الإسلام بمخالفة أعداء الدين وأصحاب الملل الأخرى من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، فأمر بإرخاء اللحى، وقص الشوارب، وتقصير الثياب، وغير ذلك من الأشياء تظهر المسلم متميزاً متفرداً في مظهره وهيئته.(281/4)
شروط النصيحة
النصيحة لها شروط في الناصح والمنصوح والنصيحة في ذاتها، ولا يسعنا الوقت للكلام عن هذه الأشياء جميعها.
ولكن لا بد للناصح أن يكون -يا إخواني- رفيقاً بمن ينصح، وألا يكون متعالياً عليه بنصيحته، أو ينصب نفسه أستاذاً له في إلقاء النصيحة؛ لأن هذا الأمر يسبب نفور الشخص المقابل؛ لأنه يشعر بأنك تتعالى عليه وتتكبر عليه أثناء نصحه، وقد جبلت النفوس على رفض مثل هذه الطرق التي تؤدي إلى إهانتها في الظاهر، لذلك كان لا بد من الرفق بالناس، وعدم التكبر أو التعالي عليهم أثناء إسداء النصح لهم، وتجنب الألفاظ الجارحة التي تؤدي إلى صدود كثير من المسلمين عن تقبل النصيحة.
بعض الناس عندما يرى شخصاً لا يطبق شيئاً من شرائع الدين في مظهره أو أعماله، فقد يقول له: أنت فاسق، أنت فاجر، أنت كذا، أنت كافر، أنت لا تفعل كذا، أنت عاصٍ، أنت مرتد، أنت خارج عن الدين، أنت كذا وأنت كذا، من هذه الألفاظ التي تنفر الناس بظاهرها، وقد يكون الحق مع هذا الرجل الناصح أن هذا الأمر الذي ينصح به هو حقيقة إذا لم يطبقه الشخص المقابل فإنه قد يكون فاسقاً؛ لأن الفسق معناه: الخروج عن طاعة الله عز وجل، ومعصية الله، فلذلك سميت الثمرة إذا انشقت عن قشرتها أنها فسقت كما تقول العرب، فإذاً الخروج عن طاعة الله ومعصيته فسق، هذا لاشك فيه مطلقاً، ولكن يا أخي عندما تقول للشخص الآخر مباشرة قبل أن تقيم عليه الحجة، تقول: أنت فاسق، أنت كذا، أنت مرتد، أو أنت كافر، أو أنت عاصٍ، مثلاً، هل حلت المشكلة؟
الجواب
كلا، لم تحل المشكلة مطلقاً، لذلك كان لا بد من الترفق في النصيحة.
لقد حدثت في عهده صلى الله عليه وسلم من الأحداث التي هيأها الله حتى نرى بها الطريقة الصحيحة في إسداء النصيحة، حدثت أشياء عظيمة كان موقفه عليه السلام منها مدعاةً ومثاراً للتعجب والاندهاش من حلم ذلك الرجل العظيم صلى الله عليه وسلم.
هل هناك ذنب أقبح من أن يبول إنسان في المسجد أمام الناس؟! كلا، وربما لا يكون هناك في ذلك الموضع ما هو أقبح من ذلك، أفترى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف عالج الأمر؟ لما همَّ الصحابة بذلك الرجل الأعرابي الجاهل الذي أتى ليبول، قال: (لا تزرموه، تقطعوا عليه بوله) وبعدما انتهى الرجل؛ ناداه عليه الصلاة والسلام وعلمه حق المساجد وواجب المسلم نحو المسجد، وأن هذا الأمر لا يجوز وذلك بكل رفق وتؤده.
كذلك الصحابي رضي الله عنه الذي تكلم في الصلاة جاهلاً بحكم الكلام في الصلاة، ماذا قال بعدما نصحه عليه الصلاة والسلام؟ قال: (فبأبي هو وأمي! ما رأيت معلماً قط قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، والله ما كهرني ولا نهرني ولا ضربني ولا شتمني، وإنما قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتهليل وقراءة القرآن).
فإذاً أيها الإخوة، هذا الأسلوب الجذاب في النصيحة هو الذي يحمل الناس على قبول النصيحة، وهذه المسألة فيها خطورة كبيرة؛ لأن كثيراً من الناصحين يقولون كلاماً حقاً، فالحق معهم في كل كلمة يقولونها، فالحكم الذي أمروا به صحيح والدليل صحيح، والمنكر الذي نهوا عنه فعلاً منكر، وقامت الأدلة من الكتاب والسنة على أنه منكر، وتوجيههم للناس أن هذا طريق الحق صحيح، والمعالم التي في هذا الطريق صحيحة، لكن المشكلة أن أسلوبهم يعمي على الناس قبول هذا الحق.
أيها الإخوة: هذه مسألة خطيرة؛ أن نعرض على الناس حقاً، ولكن لا يقبلونه بسبب أسلوبنا نحن، هذا يؤدي إلى نكوص الناس عن شرع الله وارتدادهم عن دين الله واتباع الباطل، إذا كان معك الحق يا أخي كما أنه حسن في ذاته؛ فكن أنت حسناً في تأديته إلى الناس، ولذلك نجح كثير من أهل الباطل في إيصال باطلهم للمسلمين مع أنه باطل بسبب حسن الأداء، فأنت ترى كثيراً من المبشرين النصارى قد نجحوا في إدخال كثير من المسلمين في دين النصرانية أو إبعادهم عن دين الإسلام، هل كان ذلك بسبب أن الأشياء التي عرضوها على المسلمين صحيحة أو حق أو حسنة أو طيبة؟ كلا، إنها شرك أو كفر أو ردة عن دين الله أو فسق أو معصية، ولكن نجحوا في ذلك بسبب الأسلوب الحسن الذي استطاعوا به أن ينفذوا إلى قلوب الناس، فمن أشد الأمور ألماً أن ترى أهل الباطل يصلون إلى قلوب الناس بحسن تخطيطهم، وجودة أسلوبهم، ورقة ألفاظهم، وجمال حديثهم وكلامهم، وما هم عليه باطل، وترى أصحاب الحق الصحيح أصحاب الحنيفية السمحة لا يستطيعون أن يوصلوا ما لديهم إلى قلوب الناس.
هذه أيها الإخوة من أشد ما في واقع المسلمين ألماً، هذه واحدة، ومع ذكرنا لهذا الجانب فإننا لابد أن نعرج على أولئك المنصوحين الذين توجه إليهم النصيحة، فأقول لكل واحد أسديت إليهم نصيحة صحيحة تيقن أنها حق: يا أخي! لا يحملنك شيء من فضاضة أخيك المسلم أو تعديه عليك بجزء من اللفظ أو خشونة في الأسلوب -لو حدث هذا- لا يحملنك هذا على رفض ما لديه من الحق؛ لأن هذه من أعظم المنكرات أن ترفض الدليل وترفض نص الكتاب والسنة، وترفض الحق؛ لأن فلاناً قد قسا عليك شيئاً ما في الأسلوب، لأن هذا استبدل الحسنة بالسيئة، ألأنه قسا عليك قليلاً في الأسلوب ترفضه؛ وترفض ما لديه من الحق العظيم الذي أتى من عند الله؟! ترفض أحكام الدين وترفض أحكام المنكر الذي أنت مقيم عليه؛ بسبب خطأ في الأسلوب، هذه رعونة وطيش وحمق، لا ينبغي مطلقاً أن يحصل، نرفض الحق لمجرد أنه أسيء إلى شخصياتنا في طريقة عرضه، كلا يا إخواني، لنكن أصحاب حق ومبدأ وإن واجهنا شيئاً من الخشونة أو القسوة، فالحق عندنا أعلى وأعظم وأغلى من الأسلوب، وإن كان الأسلوب مهماً ولكن الحق أهم، وإذا استطعنا فهم هذين الجانبين زال الإشكال واقترب الناس من الدين وسمع كل منصوح لناصحه.
ومن الأمور التي ينبغي عقلها وفهمها وفقهها للناصح: أن يعرف الفرق بين النصيحة والتعيير، أن يعرف الفرق بين النصيحة والتشهير، لأن الناس لهم كرامة، والناس لهم مشاعر وأحاسيس، ولذلك لا بد من احترام أحاسيسهم ومشاعرهم.
أيها الإخوة: النصيحة تسدى بقالب حسن سراً بين الناصح والمنصوح؛ لأن الناس لا يريدون بطبيعتهم أن تقرأ على الآخرين أخطاءهم وعيوبهم، ففي المجالس تقول: يا فلان! لماذا فعلت أمس كذا؟ ولماذا قلت كذا؟ أنت مخطئ وأنت كذا وكذا، هذا تشهير لا يصح أبداً، لا بد أن نحفظ حقوق الناس وكرامتهم، لا بد أن نصون مشاعرهم وأحاسيسهم.
لكن يحصل أحياناً أن الشيء الذي تنصح به لو أخرته يفوت وقته، فلا بد أن تنصح به الآن قبل أن يفوت وقته، كما لو أنني قلت لهذا الأخ: قم واركع ركعتين، فإن هذا لا يعتبر تجريحاً ولا تشهيراً؛ لأنه لو ما قام الآن وصلى فإن وقتها يفوت، ولأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أمر المسلم إذا دخل المسجد والإمام يخطب أن يصلي ركعتين، تحتم عليه أن ينفذ الأمر الآن، فإذا تركته ونصحته بعد الصلاة مثلاً؛ فإن هذا الأمر يفوت عليه، ولذلك فإن سليكاً الغطفاني لما دخل المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب كما ورد في صحيح مسلم جلس سليك مباشرةً، فقال له عليه الصلاة والسلام: (أركعت ركعتين؟ قال: لا.
قال: قم فاركع ركعتين) هذا أمام الناس لا يسمى تشهيراً ولا تعييراً، لأن هذا وقته وإذا ترك؛ يفوت الوقت، ولكن لا يمكنك أن تؤجل النصيحة إلى ما بعد انفضاض المجلس وانتهاء هذه الجلسة التي يجلسها الناس، ومع ذلك تنصح الرجل أمام الآخرين، هذا غير صحيح.(281/5)
بعض الأسباب الحاملة على سوء النصيحة
ومن الأسباب الحاملة على سوء النصيحة أمام الناس عاملٌ مهمٌ جداً وهو: أن يكون بيد الناصح سلطةٌ أو معه مسئوليةٌ على المنصوح قوية كمسئولية أو سلطة الوالد على ولده، أو المدرس على الطالب، أو الزوج على الزوجة، هذه السلطة أو المسئولية تحمل هؤلاء الناس إلا من رحم الله منهم على سلوك سبلٍ سيئة في النصيحة، يقول: عندي مسئولي أستطيع أن أقهره وأجبره، لذلك لا يفكر مطلقاً في تزيين النصيحة ولا في أسلوبٍ حسن، لأنه أب يقهر الولد، لأنه مدرس يقهر الطالب؛ لأنه زوج يقهر زوجته، فلذلك لا يفكر في تحسين النصيحة مطلقاً؛ لأن عنده من السلطة والمسئولية ما يخوله للفرض أو القهر والجبر، ولذلك نشأت اليوم أجيال من المسلمين ضعيفة في شخصياتها محطمةٌ في معنوياتها، لا تكاد تجد عندها معلماً واحداً من معالم العزة أو القوة أو الجرأة، لأن تربيتها كانت من هذا النوع.
أيها الإخوان: يدخل الواحد أحياناً بيتاً من البيوت، ويجلس في مجلس من المجالس، فيرى الأب يهين الابن أمام الضيوف الجالسين، يهينه وينتقده ويذله ويسبه ويقول: هذه طريقة في الضيافة! هذه طريقة في حمل القهوة! هذه كذا! استحي على وجهك، وينتقده حتى في طريقة وضعه للطعام، مع أنه كان من الممكن أن يخرج إلى خارج المجلس وينادي الولد، ويسر إليه سراً بهذه النصيحة وهذا التعليل، وأحياناً تكون الأشياء غير ذات أهمية، ولكن حب التسلط يحمل الأب أو المدرس أو الزوج على أن ينال من ابنه أو من تلميذه أو من زوجته في كرامته ومشاعره وأحاسيسه في أشياء تافهة بدافع حب السيطرة وإبراز الشخصية، وهذه -أيها الإخوة- من مداخل الشيطان.
لا تحملنك يا صاحب المسئولية مسئوليتك ولا سلطتك على أن تخون آداب النصيحة، وتسيء إلى إخوانك المسلمين في طريقة النصح، ولذلك تجد الأولاد الآن كثيراً منهم لا شخصية لهم ولا جرأة عندهم ولا عزة ولا كرامة، في غاية الذل والإهانة لا يجرءون على مواجهة الناس خارج سور البيت؛ لأن طريقة إسداء النصح له في المجالس في غاية السوء؛ لأن طريقة تربية الآباء أو تربية المدرسين أو معاملة الزوج مع زوجته في غاية السوء، فترى تلك المسكينة قابعة في بيتها جريحة مهيضة الجناح؛ لأن زوجها ذلك الجبار المتغطرس لا يعرف أن ينصحها مطلقاً، فتراه يهين زوجته أمام أمه أو أخته أو أحد محارمه، وإذا اجتمعوا في البيت يسيء إليها؛ ويغلظ عليها في طريقة نصحها، ويلومها على طريقة الطبخ أو على أي شيء في الأكل ويجرح شعورها وكبرياءها، وترى ذلك الطالب المسكين يقف في الفصل محرجاً وجهه قد اسود أمام زملائه؛ بسبب الطريقة السيئة التي نصحه بها المدرس.
نقول هذا أيها الإخوة تسليطاً للضوء على هذه المشكلة التربوية المتعلقة بالنصيحة والتي تتداخل يومياً في تصرفاتنا الحياتية.
الإسلام أيها الإخوة أخلاق وسلوك وآداب، كما أنه عقائد وسنن وأوامر وتشريعات وأحكام ومناسك، فينبغي الأخذ به كله، ينبغي أن نأخذ بالإسلام جميعه، خذوا الإسلام جملةً ولا تدعوا منه شيئاً على قدر الطاقة والسعة.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم للطريقة الصحيحة في إسداء النصيحة لإخواننا المسلمين، وأن ينعم علينا وعليكم بإصابة الحق وحسن الألفاظ وجودة التعبير في نصح إخواننا المسلمين.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وصلى الله على نبينا محمدٍ، والحمد لله أولاً وآخراً.(281/6)
النصيحة بالقدوة
الحمد لله الذي لا إله إلا هو، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، أحمده سبحانه وتعالى، وأثني عليه الثناء الحسن لما هو أهله، المستحق لكل مدح وكل حمد، وأصلي وأسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم معلم الناس الخير.
أيها الإخوة من أعظم طرق النصيحة وأجلها على الإطلاق: النصيحة بالقدوة من غير كلام، أن ينصح الإنسان من غير كلام، تقول لي: كيف هذا؟ أقول لك: إن المسلم مطالب بأن يكون قدوة أمام المسلمين، ولذلك كان من دعاء عباد الله الصالحين الذين أثنى الله عليهم في آخر سورة الفرقان أنهم قالوا: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] اجعلنا أئمة يقتدي بنا المتقون: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] فانظر إلى شرف المنزلة وعلو الدرجة التي يطلبونها من الله عز وجل، أن يكون الإنسان إماماً للمتقين قضية خطيرة وعظيمة لا يصل إليها إلا من وفقه الله تعالى فبذل الأسباب وأخلص لله عز وجل.
النصيحة بالقدوة -أيها الإخوة- يراك الناس تتصرف التصرف الصحيح في موقف من المواقف، فينتصحون بفعلك وعملك، فيقلدونك ويتابعونك، وهذه القصة المشهورة وإن كان المحدث الشيخ/ أبو عبد الرحمن ناصر الدين قد أخبر مشافهةً بأنه ليس لها سند يعرف للحكم عليها، ولكن فيها مغزى وفيها عبرة عظيمة وفيها تعليم جميل، وهذا الحدث ليس بمستبعد أبداً على أناس وردوا حوض التربية النبوية، فتضلعوا منه وشربوا منه شربةً عظيمة، إنهما الحسن والحسين رضي الله عنهما، ذكر في مرة من المرات بأنهما دخلا مكاناً للوضوء، فوجدا رجلاً من المسلمين يسيء الوضوء، أي: لا يتوضأ وضوءاً طيباً، فيهمل الوضوء كما يفعل كثير من المسلمين اليوم، تجد أحدهم يغسل يده، فلا يصل إلى المرفق مطلقاً، ويغسل قدمه، فلا يصل إلى العقب مطلقاً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ويلٌ للأعقاب من النار).
دخل الحسن والحسين على هذا الرجل وهو يتوضأ، فرأيا سوء وضوئه، وهما يعلمان بأن الله لا يقبل صلاة بغير وضوء صحيح.
ما هي الطريقة الآن لنصح الرجل؟ ما هي أمثل طريقة لتعليم الرجل من غير جرح لكبريائه وهو شيخ يفوقهما سناً، والكبير عادةً لا يتقبل من الصغير.
فنظر الحسن والحسين إلى بعضهما نظرةً ذات مغزى، ثم اقتربا من الرجل، فقالا له: يا أبانا أو يا شيخ! إني أنا وأخي قد اختصمنا أينا أحسن وضوءاً، أنا أقول أنا أحسن وضوءاً من أخي، وأخي يقول: هو أحسن وضوءاً مني، فأردنا أن نحتكم إليك لتحكم بيننا أينا أحسن وضوءاً من الآخر، فتقدم الحسن فتوضأ وضوءاً نبوياً كاملاً، وأسبغ الوضوء، ما ترك شيئاً من سننه، ثم تقدم الحسين لما فرغ الحسن، فتوضأ وضوءاً نبوياً كاملاً، وأسبغ الوضوء، ما ترك شيئاً من سننه، ثم التفتا إلى الرجل ينتظران منه الحكم، فوقع هذا العمل في قلب الرجل أشد موقع، وقال لهما بلسان معترف مستجيب: بل أنا والله الذي لا يحسن الوضوء، وأنتما علمتماني كيف أحسن الوضوء.
أيها الإخوة: هذه العناصر ما نشأت من فراغ، هناك قصص صحيحة ثابتة كثيرة تبين كيف كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أئمة يقتدي به عامة الناس، هذه الشخصيات ما نشأت من فراغ، وإنما نشأت من تربية صحيحة قائمة على قواعد الإسلام وأصوله، محكمة من جميع أطرافها، أنتجت هذه النماذج التي صارت قدوة يقتدي بها الغادي والرائح والمتقدم والمتأخر من أبناء المسلمين، لذلك كان لا بد أن يجعل كل إنسانٍ منا من نفسه قدوةً ينصح الآخرين بأفعاله قبل أن ينصحهم بأقواله.
نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لأن نتقي الله عز وجل حق التقوى، وأن نتمسك بالعروة الوثقى، وأن يجعلنا على الملة الحنيفية واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا هو، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، أن تحيينا على ملة الإسلام، وتميتنا على ملة الإسلام، وأن تجعل خروجنا من الدنيا على شهادة التوحيد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك، اللهم اجعلنا من الدعاة العاملين المجاهدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الدين أجمعين في برك وبحرك وجوك، اللهم لا تجعل لهم قائمةً، اللهم إن اليهود قد حرمونا من شد الرحال وأجر الصلاة في المسجد الأقصى، اللهم فأحنهم الغداة، واجعل بأسهم بينهم يا رب العالمين، اللهم شردهم وفرق جمعهم، واجعل دائرة السوء عليهم، اللهم إنهم قتلوا أبناءنا ويتموا أطفالنا ورملوا نساءنا، اللهم لا تبق منهم على الأرض ديارا، اللهم إنك أنت المنتقم الجبار، اللهم اجعل بأسهم بينهم، وسلط عليهم بأسك وجنداً من عندك، فلا تقم لهم قائمة أمام المسلمين.
اللهم وألف بين قلوب المسلمين، واجمعهم على كلمة الحق المبين، واجعلهم صفاً واحداً بالعقيدة متمسكين ولسنة نبيك متبعين، وحرباً على أعدائك، وسلماً لأوليائك يا أرحم الراحمين.(281/7)
من جهود السلف في الدعوة
إن الدعوة إلى الله من أجَلِّ الوظائف والأعمال وأرفعها، فأجرها عظيم ودرجتها رفيعة، فهي وظيفة الرسل.
ولقد ذكر الشيخ في هذه المادة فضل الدعوة وأهميتها وصوراً من حياة الأنبياء ومواقف السلف في الدعوة إلى الله.(282/1)
أهمية الدعوة إلى الله تعالى وفضلها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: أيها المسلمون: إن الدعوة إلى الله أجرها عظيم وهي وظيفة الرسل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي يوم خيبر: (أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) خير لك من هذه الإبل العظيمة عند العرب.
ويكفي الداعية إلى الله تعالى أن له مثل أجور من اتبعه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله) رواه مسلم.
وروى أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً) وهذا ترغيب وحث ودفع للدعوة إلى الله.
وكذلك فإن الله وملائكته وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير، فماذا نريد من الأجر أكثر من هذا يا عباد الله؟! ونحن قد أصبنا فيما أصبنا بالتقصير في الدعوة إلى الله، وعدم الحرص على هداية الناس، مع عظم هذه العبادة.
لما تركت الدعوة تفشت المنكرات والمحرمات، وصار كثير من الناس في عمى وضلال، لقد كان أنبياء الله في غاية الحرص على هداية الناس إلى السبيل القويم.(282/2)
صور من دعوة الأنبياء إلى الله سبحانه وتعالى
إن الدعوة إلى الله دليل على إخلاص الإنسان لمبادئه، فإذا كنت تحب دينك فعلاً فستكون حريصاً على الدعوة إليه، إذا كنت معتنقاً لمبادئ الإسلام حقاً فستكون حريصاً أشد الحرص على منادات غيرك إليه.(282/3)
دعوة نوح عليه السلام لقومه
ولذلك كان نوح عليه السلام في غاية الحرص على دعوة قومه: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14] يدعوهم إلى الله من غير فتور ولا توانٍ مستخدماً بجميع الأساليب الممكنة: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} [نوح:5 - 7] هل صده ذلك عن الدعوة؟ هل منعه إعراض المعرضين عن الاستمرار في العمل؟ كلا والله قال الله: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:8 - 9] فنوع أساليب الدعوة، ودعاهم بالليل والنهار، ودعاهم جهرة ثم أسر لهم سراً، وجمع لهم بين الأسلوبين في غاية الجد والنصح وتبليغ الرسالة.(282/4)
يوسف عليه السلام في الدعوة إلى الله
وهذا يوسف عليه السلام لما أدخل السجن لم ينس في كربة السجن وغربته وظيفته ومهمته، بل شرع يمارس ذلك بسرعة وفي أقرب فرصة، قال تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] على محياه سيما الصلاح، إنا نراك من المحسنين، كان داعية بعمله وبسمته: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [يوسف:37] ثم ذكر مباشرة الدعوة إلى التوحيد: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:37 - 39].
شرع في الدعوة إلى الله في ذلك المكان، في ضيقه وكربته، ووحشته وظلمته، قائماً بأمر الله، داعياً إلى الله عز وجل، حريصاً على هداية هذين الرجلين الكافرين.(282/5)
قصة الرجل الساعي من أقصى المدينة
ألم يأتكم نبأ الرجل المسلم الذي قال الله في شأنه: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} [يس:20 - 21] وسارع يدعوهم إلى التوحيد: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ} [يس:23] أي: هذه الأوثان المعبودة، والأصنام المقصودة: {لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:23 - 25].
إن كل كلمة في هذه الآية لها معناها ومدلولها، وجاء رجل، أي: تحققت فيه صفات الرجولة بأجمعها: {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} ليس من مكان قريب، لم يحضر عندهم وإنما جاءهم من أقصى المدينة، وكيف جاءهم؟ هل جاءهم ببطء؟! جاءهم يسعى سعياً حثيثاً.
فلأي شيء جاء من أقصى المدنية وأتعب نفسه؟ جاء ليبلغ قومه دين الله عز وجل، يقول: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} كان حريصاً على هداية قومه، ولما مات تتابع حرصه عليهم بعد موته، سبحان الله! ولذلك قال لما قتلوه بعدما لقي الله: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27] لا زال حريصاً عليهم، بعد موته وبعد انقطاعه عن الدنيا لا زال يتمنى أن قومه يعلمون ما لقيه من الله، وما غفر الله له، والإكرام الذي وجده عند ربه، إنه الحرص في قلب هذا الرجل على هداية قومه.(282/6)
النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته لقريش والعالم أجمع
عباد الله: لقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل في حرصه على هداية قريش والعرب؛ بل والناس أجمعين، وكان يدعو فوق الجبل، وفي المسجد والطريق وأسواق العرب، ومنازل الناس، وفي مواسم الحج، يقوم بالدعوة إلى الله في الحضر والسفر، وفي الأمن والقتال، والصحة والمرض، وعندما يزور أو يزار، وكان يوجه دعوته إلى من أحبوه وإلى من أبغضوه، ولذلك كان يذهب إلى منازل الناس للدعوة في منى، إذا نزلت القبائل فيها في موسم الحج، ولذلك يقول ربيعة بن عباد الدؤلي: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منى في منازلهم قبل أن يهاجر إلى المدينة يقول: يا أيها الناس! إن الله أمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، ووراءه رجل وضيء أحول يقول: يا أيها الناس! إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم).
النبي عليه الصلاة والسلام يدعو إلى الله ووراءه رجل من الكفار يثبطه ويثبط الناس عن قبوله، النبي عليه الصلاة والسلام يكلمهم وهذا الرجل يصدهم، فسألت عن هذا الرجل؟ فقيل لي: أبو لهب، عمه، يمشي وراءه يثبط الناس عن الدعوة، والنبي عليه الصلاة والسلام لا يفتر عنها، ويقول للناس في أسواق الموسم، في مجنة وعكاظ، من يؤويني ومن ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي؟ حتى أكرمه الله بذلكم النفر الكرام من الأنصار الذي بايعوه في العقبة وكان ذلك فتحاً وانطلاقةً عظيمة في الدعوة إلى الله عز وجل.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب ليدعو حتى عبد الله بن أبي المنافق الكافر الذي صد عن الدين، ويركب حماراً وينطلق المسلمون يمشون معه في أرض سبخة مالحة، لا تنبت الأرض من ملحها، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال المنافق: إليك عني! والله لقد آذني نتن حمارك، ومع ذلك يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة، ولما سمع أن رجلاً من اليهود -شاباً- مرض، حرص على زيارته والاهتمام بدعوته، وكان قد دعاه إلى الإسلام فعاده، كما روى البخاري في صحيحه عن أنس قال: (كان غلاماً يهودياً فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم- فأنقذه الله به من النار).
وحضر أبا طالب حين نزل به الموت يدعوه إلى الله يقول: (يا عمِ! قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله) ولكن غلبت على أبي طالب الشقوة وأطاع أصحاب السوء ورفقاء السوء الذين قالوا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالوا به حتى مات على الشرك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له إلى آخر لحظة: قل لا إله إلا الله، قل لا إله إلا الله، كان حريصاً على أن تختتم حياة أبي طالب بالتوحيد، الحرص هو الذي جعله يذهب هذا المذهب ويجهد هذا الجهد رضي الله تعالى عن أصحابه الذي حملوا لواء الدعوة من بعده.
النبي صلى الله عليه وسلم دعا، ولقي الأذى.
النبي صلى الله عليه وسلم يذهب إلى الطائف للدعوة، يذهب إلى جبالها وأهلها يدعوهم إلى الله، يرجع وقد أصابه من الغم ما أصابه؛ لأنهم صدوه ورفضوه، حتى بلغ به الهم أنه يمشي لا يدري أين مقصده، ولم يستفق صلى الله عليه وسلم إلا وهو بـ قرن الثعالب؛ وهو موضع قريب من مكة، وهو قرن المنازل ميقات أهل نجد، وقف عنده صلى الله عليه وسلم، وكان في غاية الغم، لا يدري إلى أين يمشي، فلماذا كان مغموماً؟ لأنهم صدوه ولم يقبلوا دعوته، ولذلك فإن من صدق الداعية أن يحزن إذا رفض الناس دعوته، لكنه لا يهلك نفسه عليهم: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3] أي: لعلك مهلك نفسك من أجل أنهم لم يؤمنوا، ما دام أن الله كتب عليهم الشقوة فإنك لا تهدي من أضل الله، لكن بذل الأسباب والقيام بالأمر وإبلاغ الدين والذهاب إلى الناس في أماكنهم وبلدانهم يدعوهم إلى الله.
ولما كانت هناك بلاد بعيدة يشق عليه صلى الله عليه وسلم أن يذهب إليها، ولا يمكنه ترك الناس لأجل ذلك أرسل الرسائل، لم يقل: بلاد بعيدة لا أستطيع الذهاب والسفر إليها وإنما أرسل الرسائل، لكسرى وقيصر، يرسل إلى النجاشي، يرسل إلى المقوقس ملك الإسكندرية، يرسل إليهم يدعوهم إلى الله: (من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بداعية الإسلام -أي: بدعوة الإسلام- أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين) إثم العمال والزراع والناس في بلدك؛ لأنك قد صددتهم: (وختم له بالآية: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]).
أرسل عليه الصلاة والسلام الرسائل مع أصحابه، عبد الله بن حذافة ينطلق إلى كسرى، وسليط بن عمرو ينطلق إلى هوذ بن علي في اليمامة، والعلاء بن الحضرمي ينطلق إلى المنذر بن ساوى بـ هجر، وعمرو بن العاص إلى جيح، وأبو عباد بن الجلندي بـ عمان، ودحية إلى قيصر، وشجاع بن وهب إلى شمر الغساني، وعمرو بن أمية إلى النجاشي، وهكذا يرسل صلى الله عليه وسلم الرسائل من أجل الدعوة إلى الله، والحرص على هداية الناس، والسعي في غرض الإسلام؛ علّ الله تعالى أن يخرج أولئك الناس من الظلمات إلى النور.(282/7)
هدي السلف في الدعوة إلى الله
أيها المسلمون: لقد كان أصحابه صلى الله عليه وسلم من بعده وفي حياته قائمين بأمر الدعوة إلى الله، حريصين على هداية الناس كل الحرص، ولذلك كانوا قبل القتال -حتى في المعارك- وهم يهاجمون فارس والروم وفي حروب المرتدين يعرضون عليهم الإسلام أولاً قبل القتال، لأنهم أصحاب رسالة رحمة، يريدون قبل أن تراق دماء القوم ويقتلوا ويرسلوا إلى جهنم وبئس المصير، يريدون المحاولة الأخيرة علَّ الله أن يهديهم، ولذلك كتب أبو بكر إلى جميع المرتدين، يأمرهم بالرجوع إلى الإسلام، يقول لهم: [إني بعثت إليكم فلاناً في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته أن لا يقاتل أحداً ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقر وكفّ وعمل صالحاً قبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك] الدعوة قبل القتال، ولذلك كتب إلى سعد بن أبي وقاص الخليفة الثاني من بعده، الفاروق رضي الله عنه يقول: [وقد كنت أمرتك أن تدعو من لقيت إلى الإسلام قبل القتال، فمن أجاب إلى ذلك قبل القتال فهو رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، وله سهم في الإسلام].
وكذلك فإن هذه الدعوة قد آتت بعض ثمارها، فقد عاد مع عدي بن حاتم الطائي الذي دعا قومه قبل القتال، رجع معه خمسمائة مقاتل إلى الإسلام، وكان خالد يهم بقتالهم ولكن وجه إليهم عدياً يدعوهم أولاً.
وفي جبهة فارس دعا خالد بن الوليد رضي الله عنه أشراف الحيرة قبل القتال؛ فأسلم بعضهم.
وكتب خالد إلى ملوك فارس يقول: [بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس، أما بعد: فالحمد لله الذي حل نظامكم إلى أن قال: فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم ونجوزكم إلى غيركم، وإلا كان ذلك نأخذها وأنتم كارهون على غلب، وبالإكراه والقوة على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة] ودعا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أهل القصر الأبيض إلى الإسلام بواسطة سلمان الفارسي الذي يعرف لغة القوم رضي الله عنه، يدعوهم إلى الإسلام والتوحيد.
وكذلك قام المسلمون في الجبهات الأخرى، فهذا عمرو بن العاص في الجبهة المصرية، لما تصافّ المسلمون وأهل مصر للقتال قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: [لا تعجلوا حتى نعذر، ليبرز إليّ أبو مريم وأبو مريام راهبا هذه البلاد، فبرزا إليه، فقال لهما عمرو بن العاص: أنتما راهبا هذه البلاد فاسمعا.
إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأمره به وأمرنا به محمد صلى الله عليه وسلم، وأدى إلينا كل الذي أمر به ثم مضى وتركنا على الواضحة، وكان مما أمرنا به الإعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية وبذلنا له المنعة] أي: الحماية في مقابل دفع الجزية.
وكان الرجل عندما يسلم يفرح به المسلمون فرحاً شديداً، ولذلك دعا أبو عبيدة رضي الله عنه رسول الروم، السفراء كانوا يدخلون في نطاق الدعوة، فلما أسلم فرح المسلمون بإسلامه وصافحوه ودعو له بخير، وقالوا له: [ما أعزك علينا وأرغبنا فيك، وأكرمك علينا، وما أنت عند كل امرئ منا إلا بمنزلة أخيه لأمه وأبيه] احتفاء بالمسلم الجديد، حتى قال الرومي: فإنكم نِعْمَ ما رأيت.
هذا هو الانطباع الذي يكون عند المسلمين بفرحهم بدخول شخص جديد في الإسلام.
وعندما دعا خالد رضي الله عنه بعض الكفرة إلى الإسلام أو الجزية أو القتال، فاختاروا أداء الجزية لم يفرح خالد رضي الله عنه بذلك، رغم أن مبلغ الجزية كان كبيراً باعتبار أن عددهم كان مائة وتسعين ألفاً، بل ضاق صدره وتأسف على إعراضهم عن الإسلام وقال: [تباً لكم، ويحكم إن الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكه] لم يفرح بالعوائد المالية؛ لأنه كان يريد فرحة أكبر بإسلام أولئك القوم، كان الحرص من الداخل على الهداية لدرجة أن الرجل الكافر إذا أسلم تحصل فرحة عظيمة، وإذا رفض الإسلام يحصل اهتمام واغتمام، ولذلك روى زياد بن جزء الزبيدي الذي كان في جند عمرو بن العاص لما ألقوا القبض على أسرى الروم، يقول: جعلنا نأتي بالرجل ممن في أيدينا، ثم نخيره بين الإسلام والنصرانية، فإذا اختار الإسلام كبرنا تكبيرة هي أشد من تكبيرنا حين تفتح القرية، ثم نحوزه إلينا، وإذا اختار النصرانية نخرت النصارى ثم حازوه إليهم، ووضعنا عليه الجزية، وجزعنا من ذلك جزعاً شديداً، حتى كأنه رجل خرج منا إليهم، مع أنه كافر أصلي، لكنه الحرص على الدعوة والفرح للإسلام، والحزن على إصراره على الكفر ولو كان يدفع الجزية؛ لأن الله بعثهم دعاة ولم يبعثهم جباة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يقوم بأمره، اللهم اجعلنا ممن يقومون بالحق وبه يعدلون، يا رب العالمين.
اللهم ارزقنا السداد في القول والعمل، واهد قلوبنا، وطهر أنفسنا، وحصن فروجنا إنك سميع الدعاء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(282/8)
طرق انتشار الإسلام في المناطق النائية
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أنزل علينا الكتاب والحكمة وأرسل إلينا رسولاً منا، الحمد لله الذي شرع الشرائع، الحمد لله على كل حال، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الدعاة إلى الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله وسلم عليه بما علمنا وهدانا، وصلى الله على أصحابه الغر الميامين الذين قاموا بأمر الدعوة إلى الله وكانوا حريصين على هداية الخلق أجمعين.
أيها المسلمون: قولوا لنا كيف انتشر الإسلام في تلك الجزر النائية؟ في الصين وأندونيسيا؟ كيف انتشر الإسلام في عدد من أقطار الأرض؟ إنما انتشر بالدعوة إلى الله تعالى، وكانت المدن الهندية الواقعة على ساحل بحر العرب مما استهدفه التجار المسلمون بالدعوة إلى الله، ولذلك لا زالت آثارهم موجودة في بونبي وغيرها من هذه البلدان الساحلية التي قصدها المسلمون بالتجارة، وشهد بجهدهم في الدعوة أعداء الله، فهذا آرلند يقول في كتابه: ولكن الكثير من أعمال الدعوة في الأسواق إنما يقوم بها أشخاص يشتغلون في مهنة أو عمل في أثناء ساعات النهار، ويخصصون أوقات فراغهم في المساء لهذا العمل الديني، فكان الواحد منهم إذا انتهى من عمله لا يذهب إلى الفرجة والفسحة، لا يذهب إلى مجالس ضياع الأوقات والألعاب وإنما كان يذهب بعد انتهاء العمل والدوام، يطوف للدعوة إلى الله عز وجل.
وقال في موضع آخر: وأغلب الظن أن الإسلام قد عبر من مليبار إلى جزر لكديك وملديك في خليج البنغال، التي كافة أهلها مسلمون، ويدين سكان هذه الجزر بدخولهم في الإسلام إلى تجار العرب الذين استوطنوا هذه البلاد، وتصاهروا إلى الأهالي ومهدوا ذلك بذلك السبيل؛ لنشر تعاليم الدعوة في نشاط وقوة، وقالوا أيضاً: إن أولئك الدعاة إلى الله دخلوا فاتحين أجزاء الصين وأفريقيا الوسطى وروسيا، وتم اعتناق هذه الملايين للإسلام طوعاً لا كرهاً، ولم يسمع أن الضرورة قضت بإرسال جيوش مع هؤلاء المبشرين لمساعدتهم.
وهكذا قام المسلمون بالدعوة إلى الله، إلا رجلاً ممن سرق حُراً فبيع عبداً في بلد من بلاد المسلمين واسمه دارثي يقول: لما سئل وقد سرق في طفولته فبيع رقيقاً قيل له: ألا تزال تضمر السخط نحو هؤلاء الذين سرقوك وأسلموا حياتك للعبودية في أقاصي الأرض؟ فأجاب: إن شيئاً واحداً قد عوضني وهو أني لم أعد غارقاً في الجهل بين عباد الأوثان.
إذاً الذي عوضه عما حصل له من الجريمة في حقه من هؤلاء المعتدين الذين اعتدوا عليه أنه صار موحداً ولو كان عبدا، ً يختار ذلك على أن يكون حراً في بلاد عبدة الأوثان.
وكان المسلمون إذا جاءوا بلاداً بنوا المساجد فيها، وكانت صروح العبادة دعوة إلى الله بحد ذاتها، حتى قال بعض الكفرة: ما دخلت مسجداً قط دون أن تهزني عاطفة حادة، ودون أن يصيبني أسف محقق على أنني لم أكن مسلماً، وهذا مما يراه ويشاهده في مكان العبادة هذه.
وقال بعض الكفار: كلما جاء ستة أو نحو ذلك من الرجال المسلمين إلى بلد سارعوا إلى بناء مسجد، لأجل أن يكون منارة للدعوة إلى الله عز وجل، كانت الحماسة والإخلاص في الدماء تسري، حتى إن رجلاً من الذين كانوا يشتغلون في دعوة النصارى إلى الإسلام، لما حضرته الوفاة في آخر لحظة من حياته وهو يحتضر سمعه بعض الناس يقول وهو على فراش الموت: اترك دينك وصر مسلماً، اترك دينك وصر مسلماً، فلما سئل من حوله عن ذلك قالوا: إنه يتحدث إلى النصراني، هذا الذي كان يشغل قلبه في حياته برز على لسانه حين وفاته.
الدعوة إلى الله، الهم الذي في قلبه الدعوة إلى الله، الحرص على هداية الناس.
أيها المسلمون كم قصرنا؟ كم يوجد عندنا من العمالة الأجنبية من الكفار؟ كم عدد الموظفين والسائقين والخدم وأصحاب المهن والحرف والفنيين وغيرهم وماذا فعلنا لهم؟(282/9)
الحث على الدعوة إلى الله
نحن نصادفهم ونواجههم ونحتك بهم يومياً فماذا قلنا لهم؟ وهل تظنون أن الله سيتركنا يوم القيامة، أو أنه سيغفلنا عز وجل، أو أنه لن يسائلنا عما قدمنا وفعلنا؟ وقد حلوا بينكم فماذا أنتم فاعلون؟ وماذا ستجيبون الله تعالى يوم الدين؟ العتب العتب على من كان عنده كافر لماذا جلبه؟ ثم العتب العتب العتب لما صار معه فلم يكلمه عن الإسلام ولا مرة، وما هي الجهود التي بذلناها؟! أين الحرص على هداية الخلق؟ أين السعي إلى الدعوة إلى الله؟ إذا كنا مسلمين حقاً أفلا ينبغي أن تتحرق نفوسنا لنشر هذا الدين وتقديمه للناس؟! وهؤلاء الذين يذهبون ليصطافوا في بلدان متفرقة ماذا فعلوا للدعوة إلى الله؟ العتب العتب على السياحة في أرض الكفار، والعتب العتب أنهم لا يكلفون أنفسهم بدعوة، بكلمة، بعبارة يحاولون بها إدخال الناس في دين الله.(282/10)
نشاط الكفار في العمل لدينهم
إن الكفار يعملون الأعمال المختلفة، ويجمعون الأموال الطائلة، ويجهزون البرامج المتنوعة لأجل التنصير في ديار المسلمين، فماذا فعلنا نحن لإنقاذ إخواننا أيضاً؟! ماذا فعلنا من أجل المحافظة على رأس المال؟! وماذا فعلنا من أجل جلب الأرباح لا لجيوبنا ولكن للإسلام؟! بوضعه في خزائن تفتح يوم الدين، فيجازى من أخلص لله وقام بالواجب في ذلك اليوم.
إن مذابح المسلمين التي تحصل الآن ينبغي أن تكون دافعاً لنا في الدعوة إلى الله، إن الدماء التي تقطر ينبغي أن يعتصر منها قلب المسلم أسى على ما يحصل.
ليست البوسنة إلا مذبحة مما أعدت وسيأتي بعده في ذبحنا ما لا يعد
وسيأتي الدور على المتقاعسين، ولا زال أولئك يفعلون في المسلمين الجرائم، يتركون القافلة تمضي في الطريق ثم يفتحون النار على الأطفال والنساء والعجائز الحفاة العراة فيتساقطون في الصراخ والنحيب، ثم يتوجهون لإكمال القتل والجرم في النصف الآخر، ويخرج الصرب من أماكن السجن التي سجنوا فيها المسلمين وهذا يحمل رأس امرأة، وهذا يحمل أعضاءً وهذا يحمل أشلاء مقطعة من أجساد المسلمين، ونحن لا زلنا في أكل وشرب ولهو ولعب وسياحة وإضاعة أوقات، وصفق في الأسواق في الحرام وفي غيرها وكأن القضية لا تعنينا، كيف يكون للمسلم شهوة إلى هذه الأشياء وإخوانه يفعل بهم ما يفعل؟!! ثم لا هو يقوم بدعوة، ولا بتعلم دين، ولا حتى يحرك شفتيه بدعوة إلى الله لإنقاذ أولئك المساكين، أين الصدق في الانتماء للدين؟ أين الصدق في الانتساب إلى الإسلام؟ نسأل الله أن يغفر لنا ما فرطنا وأن يتجاوز عنا إسرافنا في أمرنا.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا يا غفور رحيم، وكفر عنا سيئاتنا يا أكرم الأكرمين.
اللهم إن نسألك الغوث العاجل لإخواننا المستضعفين، اللهم أغثهم يا أرحم الراحمين، عجل فرجهم وأنزل نصرك عليهم، وأغثهم ببركات من عندك، اللهم اشف جرحاهم، اللهم ارحم موتاهم، وأطعم جائعهم، واكس عاريهم، واحمل حافيهم، آمنهم في أوطانهم وفي دورهم، وادفع عنهم كيد عدوهم.
اللهم شتت شمل الصرب واليهود وسائر النصارى ومن مالأ على ذبح المسلمين يا رب العالمين.
اللهم اجعل بأسهم بينهم واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم.
اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً، اللهم دمرهم تدميراً، وزلزل الأرض من تحت أقدامهم، وأنزل عليهم عذاباً من فوقهم، أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم إنا نسألك في هذا اليوم العظيم في هذه الساعة المباركة أن تعجل بنصر إخواننا وأن تعجل بتدمير أعدائهم، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، اللهم اجعلنا في بلدنا هذا آمنين مطمئنين.
اللهم اجعلنا سلماً لأوليائك حرباً على أعدائك، اللهم أصلحنا وأصلح أهلينا وذرياتنا، وأصلح بيوتنا ومجتمعاتنا ومجتمعات المسلمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(282/11)
نيران الدنيا [الزنا]
إن الله سبحانه وتعالى حرَّم المحرمات وجعلها على مراتب، فجعل منها الصغائر والكبائر الموبقات، وهذه المادة بصدد الحديث عن إحدى هذه الموبقات ألا وهي فاحشة الزنا الذي ذمها الله سبحانه وتعالى في جميع الأديان والشرائع، وسد جميع الأبواب الموصلة إليها ورتب على ارتكابها العقوبات العديدة في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.(283/1)
الزنا إحدى الموبقات
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
الحمد لله الذي أحل لنا النكاح وحرم علينا السفاح، الحمد لله الذي أباح لنا كل ما يصلح حالنا وحرم علينا كل ما يشيننا ويفسد حالنا.
أيها الناس: إن الله سبحانه وتعالى حرم المحرمات التي فيها ضرر على العباد سواء كان الضرر في أديانهم أو في أبدانهم أو في نفوسهم أو في أحوالهم عامة، وجعل الله الحرام مراتب، فجعل منه الكبائر التي لا بد لها من التوبة فلا تكفرها الأعمال الصالحة بخلاف الصغائر، فتحتاج هذه الكبائر إلى توبة مخصوصة، وجعل من الكبائر موبقات، فالكبائر كثيرة منها: ما توعد الله عليه بلعنة أو غضب، أو نار أو طرد وإبعاد عنه سبحانه وعن رحمته أو عدم تكليم صاحبه، ومن هذه الكبائر الموبقات التي توبق صاحبها في النار وتهلكه فيها؛ نظراً لكثرة شرها واتساعه، وعموم ضررها وشموله، ومن هذه الموبقات: الزنا الذي حرمه الله سبحانه وتعالى ومقته وأبغضه، وأمرنا بالابتعاد عنه وعن أسبابه، وقال الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] وهو قبيح عقلاً وشرعا.(283/2)
ذم الزنا في شريعتنا وشرائع من قبلنا
قال عثمان رضي الله عنه: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل زنا وهو محصن فرجم، أو رجل قتل نفساً بغير نفس، أو رجل ارتد بعد إسلامه) قال عثمان: [فوالله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام، ولا قتلت نفساً مسلمة، ولا ارتددت منذ أسلمت] قال ذلك لما حاصره الفجرة الذين أراقوا دمه على المصحف.
أيها المسلمون: نفس عثمان وفطرته السليمة تأبى الزنا حتى لما كان في الجاهلية، لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم النساء في بيعة النساء المعروفة التي أمره الله بها بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} [الممتحنة:12] قال: ولا يزنين، ثم قال: ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيدهن وأرجلهن، وفيه معنى الزنا أيضاً، فوضعت هند بنت عتبة يدها على رأسها، وجاء في رواية أن امرأة قالت: [أوتزني الحرة؟!] مستغربةً لهذا، فالفطرة السليمة تأباه، والنفوس الأبية ترفضه؛ لما انطوى عليه من الشناعة والقبح ومعاني الرذيلة التي اجتمعت فيه، وهو حرام في الأديان والشرائع من قبلنا، هو حرام عند بني إسرائيل، هو حرام في التوراة والإنجيل، وقد جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمماً مجلوداً -يعني: مسود الوجه مجلوداً- فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم -كذبة- فدعا رجلاً من علمائهم، فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى -ولم يقل أنشدك بالله الذي أنزل القرآن- أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا.
ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد نسود وجه الزاني ونجلده فقط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -لما قال اليهودي جعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، حرفوا دين الله-: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم) فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ الآية} [المائدة:41] وفيها قول الله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:41].(283/3)
الزنا في الإسلام
وفي شريعتنا ذمه الله أشد الذم، وقال الله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68] فجعله بعد الشرك والقتل، فليس بعد الكفر أعظم من قتل بغير حق ثم الزنا، وقال الإمام أحمد رحمه الله: ليس بعد قتل النفس أعظم من الزنا، بل قدمه في آية على القتل، فقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً * {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء:32 - 33] وذلك لأن الزنا يؤدي إلى القتل، ويتبع الزنا في الغالب الرغبة من التخلص من آثاره بقتل الجنين وإزهاق روح ولد الزنا في بطن الزانية أو بعد ولادته، أو إهماله ووضعه في المرحاض أو رميه في الزبالة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً خطره: (تفتح أبواب السماء نصف الليل فينادي منادٍ: هل من داع فيستجاب له، هل من سائل فيعطى، هل من مكروب فيفرج عنه، فلا يبقى مسلم يدعو بدعوة إلا استجاب الله عز وجل له، إلا زانية تسعى بفرجها أو عشَّارا) امرأة جعلت فرجها مصدراً للكسب، زانية تسعى بفرجها، أو عشَّاراً يأخذ الضرائب ظلماً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً صورةً كريهةً من صور الزاني: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر) فقير مع ذلك متكبر، والأشيمط الزاني الذي لم يردعه الشيب في شعره، لم يرتدع وقد اشتعل بالشيب رأسه أن يتعدى حدود الله، وأن يظلم نفسه وأن يقع في الفاحشة، مع أن الدواعي لديه أضعف من الشاب وكلهم ملعون، ولكن من كان هذا حاله فكيف يرجى له الخير ولم يفكر في اقتراب أجله ودنو موته، ولم يكن عنده رغبة في التوبة وقد وصل إلى ما وصل إليه في هذه المرحلة من العمر، وقد أعذر الله إلى امرئ بلغ الستين، ولما بلغ نبي الله أربعين: {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [الأحقاف:15] قال العلماء: تجديد التوبة بعد الأربعين، وعند الستين يتفرغ للعبادة، وهذا أشيمط زانٍ.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا زنا العبد خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظلة فإذا أقلع رجع إليه) فهو ليس بمؤمن حين زنا، لا يخرج من الدين بالكلية ولا يكفر، فلا يزال إيمانه متعلق به، لكن يكون كالظلة على رأسه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه ولد غيره) وهذا الزاني الذي يطأ المتزوجة وفيها جنين غيره وربما تكون حاملاً من زوجها فلا يتورع أن يضع ماءه في هذا الرحم المحرم والفرج المحرم، فتختلط الأنساب وتتداخل المياه والعياذ بالله.(283/4)
عقوبات الزنا(283/5)
عقوبات جماعية
أما عقوبة الزنا فهي جماعية وليست فردية فقط، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله) استحقوا العذاب فليرقبوه، فليرقبوا إتيانه فهو قريب منهم إلا أن يحجب عنهم برحمةٍ من الله، وقيام المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر) وبلدان العالم الإسلامي اليوم من أفقر البلدان؛ نظراً لأنها لا تحكم شرع الله سبحانه وتعالى، ولذلك نشأ فيهم الفقر، والفقر متوقع ازدياده فيهم: (ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت) حديث حسن.
سبحان الله! ما أصدق هذا الوحي! انظروا في الواقع، واعلموا أن من أعظم أسباب الموت هذه الأمراض الناشئة من الزنا ومن الفاحشة، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن -ما هي؟ - لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا) حديث صحيح.
فانظر الآن في الواقع، وقل بلسان الحال: صدق الله ورسوله، وبقلبك صدق ما أخبر الله ونبيه عنه في هذا الوحي وأنت ترى أخبار هذه الأوبئة والأمراض في نشرات الأخبار لعظمها وخطرها، ويقولون: دخلت فيروسات الإيدز في الطور الثالث ونحن لم نكتشف بعد علاجاً للطور الأول، والمرض يزداد تعقيداً ويكتشفون أن بعض الأدوية التي كانت تعطى لمرضى لا تنفع، وهكذا عقاب الله لهذه البشرية الضالة التي تاهت عن أمر الله ورسوله.(283/6)
عقوبات فردية
وقد عاقب الله على الزنا الزاني والزانية بأشنع العقوبات، فجعل المحصن منهما عقوبته أشنع قتلة، رجماً بالحجارة حتى يموت، حتى يجد الألم في جميع الجسد الذي تلذذ بالحرام، يجعل أمام الناس يرجمونه بالحجارة حتى يموت، قال عليه الصلاة والسلام: (وللعاهر الحجر) وإذا كانا غير محصنين زجرهما بإيذاء البدن بأعلى أنواع الجلد، مائة جلدة ردعاً عن المعاودة إلى الاستمتاع المحرم: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] لا تقل ضحية للمجتمع، ولا تقل مسكين غلبته نفسه وشهوته: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النور:2] وأضاف إلى ذلك عقوبة التشهير فقال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] فلا يجوز جلدهما سرا، وأضاف إلى ذلك عقوبة التغريب فأمر بتغريب الزاني سنة، نفيه إلى مكان نظيف آخر يذوق ألم الغربة عن بلده ولعله يبدأ حياة جديدة.
وكذلك حرمت الشريعة مناكحة الزناة والزواني، فقال الله: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] فلا تجوز مناكحة الزانية من قبل عفيف فهذا حرام، ولا يجوز للعفيفة أن تنكح زانياً فهو حرام، ومن فعل ذلك فإن كان يعلم بطلان العقد فهو زانٍ، وإن قال: لست مقتنعاً بحكم الله فهو مشرك، والغالب أن الزاني لا ينكح إلا زانية مثله، والزانية لا ينكحها إلا زانٍ مثلها، وهذا التحريم نوعٌ من عزل الزناة والزواني عن المجتمع، {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3].
ورد الله شهادة الزاني والزانية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجوز شهادة خائنٍ ولا خائنة، ولا زانٍ ولا زانية، ولا ذي غمرٍ على أخيه في الإسلام) يعني: حقد على أخيه، لأنه إذا شهد عليه جار عليه، كان تهمة، فرد شهادة الزاني والزانية.(283/7)
العقوبة في الآخرة
وأما في الآخرة وبعد الموت، فقد ورد في صحيح الإمام البخاري رحمه الله عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني وإنهما قالا لي: انطلق، فانطلقت معهما فإذا بيت مبني على بناء التنور -الفرن العظيم- أعلاه ضيق وأسفله واسع يوقد تحته نارٌ فيه رجال ونساء عراة، فإذا أوقدت ارتفعوا حتى يكادوا أن يخرجوا -إذا أتاهم اللهب من أسفل ضوضوا وصاحوا وارتفعوا؛ رفعتهم ألسنة اللهب- فإذا خمدت رجعوا فيها) وهكذا في ارتفاع وانخفاض بألسنة اللهب، والذي يظهر من هذا الحديث أنه في البرزخ كما يتضح من سياقه لكن إذا قامت القيامة ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار في آخر يوم القيامة وختامه، فبعد ذلك لا تتصور ولا تستطيع أن تتخيل عقوبة الزناة والزواني، التنور في البرزخ وبعد ذلك يكون العذاب أشد والعقاب أكثر ألماً، ولا تسل عن عذابهم، وشراب أهل النار عصارة فروج الزناة والزواني.
أيها المسلمون: إن الله عاقب هذه البشرية في هذا القرن وفي هذا الزمان على مرأى ومسمع منا ونحن نقرأ أخبار هؤلاء السفلة -ومجتمعات المسلمين تمشي على آثارهم وتقفوا نهجهم في الانحطاط والسفالة- وهم يخرجون الإحصائيات، يموت في فرنسا أكثر من ثلاثين ألف نسمة بالأمراض الجنسية، وفي أمريكا أكثر من ستمائة وخمسين مستشفى خاص لعلاج الأمراض الجنسية، وفي السويد ولد زنا من كل أربعة مواليد، هذه إحصائية عام 1977م والآن نحن بعدها بهذه السنوات الطويلة ستة عشر عاماً كيف حالهم؟ والإحصائيات عندهم موجودة، وبالرغم من تحسن الخدمات الطبية واكتشاف العقاقير والأدوية الأمراض آخذة في الانتشار والازدياد والتعقد إنها عقوبة الله، وقد وجد بين المسلمين كثير من آثار هذه الجريمة.
ليعلم الزاني خطر الجريمة وهو يساهم بنشر الأمراض، وبعضها تنتشر إلى الأبرياء، وفي تقارير بعض الأطباء: ليس هناك شك في إمكانية وجود مرض الزهري في ثلاثة أجيال متعاقبة لعائلة واحدة، هذه اللعنة تسري في الأجيال، وكيف لا يأثم وهو ينقله إلى بريء أو بريئة؟ ومشكلة أولاد الحرام وما يظهر من الانحراف؛ لأنهم ينشئون في الغالب دون رعاية، اختلاط الأنساب، إدخال الوبال والعار على العوائل والأسر المحترمة، قتل الأجنة، ومن أكثر الأدوية تصنيعاً في العالم أدوية منع الحمل، ومن أكثر العمليات إجراء في العالم الإجهاض وإسقاط الأجنة، وهذه أحوال دور الرعاية شاهدة على آثار جرائم الزناة والزواني في المجتمع.
اللهم سلم سلم، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا وأهلنا وأموالنا، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، واحفظنا من كل شر ومكروه، وباعد بيننا وبين الحرام، اللهم طهر قلوبنا وحصن فروجنا وسدد ألسنتنا يا رب العالمين.(283/8)
تحريم الوسائل المفضية إلى الزنا
أيها المؤمنون: إن الشريعة لما حرمت الزنا حرمت الوسائل المفضية إليه وسدت الذرائع المؤدية إلى طريقه، ولما قال الله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] ما قال: ولا تقعوا في الزنا، أو قال لا تزنوا، وإنما قال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] أيضاً نهى عنه وعن قربه، فالقبلة للأجنبية والغمزة والنظرة حرام، النهي عن قربان الزنا وعن قرب الزنا أبلغ من النهي عن مجرد فعله، وإن هذه الشريعة جعلت من الأسباب ما يكفل الحياة النظيفة لمتبعيها، لقد شجعت على الزواج وأمرت به وأخبرت بأنه من سنن المرسلين، وأمرت بالتبكير إليه وأعانت على من سعى فيه، وأجازت دفع الزكاة لمن خشي على نفسه العنت وأراد أن يتزوج، وحرمت على الولي أن يتكسب من مال المهر؛ لأنه حق للمرأة الزوجة، وحاربت الشريعة الإسراف في الولائم والمغالاة في المهور، واشترطت الولي سداً لذريعة الزنا ولولا ذلك لقالت أي امرأة لرجل هات اثنين من أصحابك وقل تزوجتك وأقول قبلت، وأمر بإعلان النكاح كي يكون فرقاً بينه وبين السفاح، ولا تكره الفتاة على من لا تريده، لأنها قد تقع في الفاحشة بعد ذلك في جو رجلٍ لا ترضى به، ودعت الشريعة إلى رؤية المخطوبة كي لا يتورط أي من الطرفين في رجل لا يريده، وحرمت نكاح المتعة لأنه مما يشبه الزنا، وحرمت نكاح التحليل كذلك، ومنعت الزواج من الزانية والزاني، ومنعت الزوج من الغياب عن زوجته فترة طويلة لأنه من طرق الزنا، وحدد العلماء فترة للمفقود إذا لم يظهر بعدها اعتدت المرأة أربعة أشهر وعشرا حكم المعتدة من الوفاة، ثم ولي المفقود يطلق وتذهب فتتزوج، وحددت مرات الطلاق بثلاث فلا يستطيع الزوج أن يطلق ويبقيها عنده ويطلق ويبقيها فربما أيضاً وقعت في الفاحشة، فإذا حصل عدم التوافق تفرقا ويغني الله كلاً من سعته، ونهت الشريعة عن التحدث بما يقع بين الرجل وأهله، ونهت عن وصف المرأة المرأة لزوجها فلا يبقى في ذهنه صورة لامرأة تهفو نفسه إليها، فربما يكون من وسائل الوقوع في الفاحشة، وأباحت تعدد الزوجات كذلك، وحرمت الخمر لأنها من مفاتيح الزنا، وحرمت الغناء والمعازف لأن الغناء والمعازف بريد الزنا، ودقق لكلمات الأغاني تجد الدعوة إلى الفاحشة إما علانية أو من وراء ستار خفي، ودعت إلى الصوم إذا لم يجد، وشددت في عقوبة القذف حماية للأعراض وحتى لا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وأعلنت عقوبة السفاح، وأمرت المرأة بالقرار في البيت، وأمرت بالاستئذان عند الدخول، وحرمت الخلوة بالأجنبية، وحرمت سفر المرأة بغير محرم، وحرمت على المرأة إبداء الزينة للأجانب والتعطر عندهم، وحرمت كذلك عليها الخضوع بالقول حتى لا يطمع الذي في قلبه مرض، وأمرت بغض البصر وعدم جواز لمس المرأة الأجنبية، كل هذه الاحتياطات والإجراءات والتشريعات حماية للأعراض، لأن حماية العرض من مقاصد الشريعة، ومع ذلك هذه المجتمعات المنحرفة اليوم -ومجتمعات المسلمين أعني بالذات- تسير بخلاف ما أمرت به الشريعة، النهج الموجود خلاف ما أمرت به الشريعة، حياة الناس بخلاف ما أمرت به الشريعة، فنحن على العكس كثيرٌ من الناس يغلقون منافذ الخير ويفتحون منافذ الشر، وكل ما أمرت به الشريعة مما سبق يخالفونه، فيؤخرون الزواج ويغالون في المهور ويتهمون الإسلام بالرجعية في تعدد الزوجات، وتخرج نساؤنا إلى الأسواق متعطرات متبرجات، ويخلو السائق بالمرأة، وتسافر المرأة بغير محرم، ويحدث ما يحدث من جميع المنكرات.
أغلقنا أبواب الخير المؤدية للطهر والعفاف وفتحنا أبواب الشر، فهذه أفلام ومسلسلات وبث مباشر تحوي الحب والغرام والعشق الموقع في الزنا، وهذه المكالمات الهاتفية كثيراً ما تنتهي بالزنا، وتعطي مفتاح بيتها لهذا الشاب ويأتي بالليل هذا الفاجر إلى بيت أهلها ربما ويحدث، وأخبار المجتمع كثيرة، ومجاورة الفسقة ويزني الجار بحليلة جاره، والنبي عليه الصلاة والسلام يصف هذه الخيانة بقوله: (لأن يزني الرجل بعشر نسوة خير له من أن يزني بامرأة جاره) فبعد الشرك بالله وقتل ولدك مخافة أن يطعم معك من الكبائر أن تزاني حليلة جارك، ويذهب هذا الرجل في نوبة ليلية في العسكرية أو في غيرها من الشركات ليخونه ذلك الآثم الفاجر مع هذه المرأة التي لم تتربّ على الإسلام ولم تعرف رائحة الطهر والعفاف فتقع المصائب، وعصابات الدعارة والفساد في بعض البلاد بطاقة البغاء رسمية، والقانون يقول: إذا زنيا برضاهما فلا شيء، وفي الأماكن الأخرى شقق الدعارة منتشرة وهؤلاء المطلقات والعوانس والتي هجرها زوجها وبعض الفجرة يفضل الزنا بالمتزوجات؛ لأنه لا يكتشف أمره وأبعد عن المشاكل، والفساد في مدارس البنات والذهاب إلى الأسواق والمستشفيات ثم تركب مع من واعدته والسفر إلى الخارج، ووضع العراقيل في طريق الزواج الشرعي، ثم تأخير الزواج بغير عذر للقادر عليه، وبعد ذلك من حصنه الله كثيرٌ منهم يقع في الفاحشة مع ذلك، قال أحد الفرنسيين وهو بول فيورو: إن عامة الشباب يريدون بعقد النكاح عندهم استخدام البغايا أيضاً وذلك أنهم يضلون مدة عشر سنين أو أكثر يهيمون في أودية الفجور أو أحراراً طلقاء في أودية الفجور، ثم يجيء عليهم حين من دهر يملون تلك الحياة الشريرة المقلقة فيتزوجون بامرأة بعينها حتى يجمعوا بين هدوء البيت وسكينته واللذات المحرمة خارج البيت، دقق الآن واسمع من أخبار المجتمع ما تسمع لترى أننا على الطريق سائرون ولنهجهم مقتفون ولا حول ولا قوة إلا بالله، نسأل الله السلامة.
يا أيها الناس: هذه شريعتكم فما بال العدول عنها؟! أيها المسلمون: يوجد عافية في المجتمع والحمد لله، يوجد أطهار وشرفاء، يوجد أناس عندهم عفة، لكن السكوت عن الجريمة جريمة، والامتناع عن إنكار المنكر جريمة أيضاً، وماذا ننتظر والحرائق بين بيوتنا؟ ماذا ننتظر؟ كيف نتقاعس عن الدعوة إلى الله؟ وكيف نتقاعس عن إنكار المنكر؟ كيف نتقاعس عن نشر الفضيلة؟ كيف نتقاعس عن التوفيق بين النساء والرجال في الزواج والدلالة على الخير وتقليل المهور وتيسير الأمور؟ يا عباد الله! إنها مسئولية والله سائلنا عما حل بالمجتمع، فليقم الأطهار منا بالواجب، وليرجع أولئك الذين يقعون في الفجور عن فجورهم قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
وسيقف الزاني والزانية أمام الله بفجوره ونجاساته وأرجاسه وأنجاسه، فيحاسبهم الله على ما عملوا، ثم يكون القصاص العاجل عند رب العالمين، ويكون في البرزخ أفران من النار وفي جهنم نيران جنهم: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36] وهؤلاء يصطرخون فيها: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] لكن قال الله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه} [الأنعام:28] فلا يخرجهم العليم الخبير من النار؛ لأنه لو أخرجهم لعادوا، وقال مصداقاً لهذا في كتابه: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه} [الأنعام:28] فليرجع إلى الله من وقع في الفاحشة، وليتذكر من وقع ذنبه فيتوب قبل أن يأتي الموت، فالموت قريب والأجل عاجل والله يمهل ولا يهمل، وسيرى عقوبة فعله ربما في أهله وبناته، فليتق الله قبل الفضيحة في هذه الدار ويوم يقوم الأشهاد.
اللهم إنا نسألك أن تغنينا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك.(283/9)
وكونوا مع الصادقين
إن منزلة الصدق في الدين عظيمة، فهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين، وهذه رسالة يتحدث فيها الشيخ عن هذا الخلق العظيم، فذكر تعريفه ومراتبه ومواقف السلف معه، ثم بين مجالاته وأماراته ودواعيه.
ثم انتقل الشيخ إلى الحديث عن ضد هذا الخلق وهو الكذب، وبين أضراره وأخطاره وعواقبه ودواعيه وبعض مسائله.(284/1)
الصدق من منازل إياك نعبد وإياك نستعين
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين.
أما بعد: أيها الإخوة: من منازل إياك نعبد وإياك نستعين: منزلة الصدق، وهو منزل القوم الأعظم الذي منه تنشأ المنازل كلها، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، به تميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وأهل الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلاً إلا أرداه وصرعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، هو روح الأعمال ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، وهو الباب الذي يدخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية على النبوة التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكن النبيين تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين، وخص الله المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69].
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن أهل البر وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم من الإيمان والإسلام، والصدقة والصبر بأنهم أهل الصدق، فقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177] وهذا صريح في أن الصدق في الأعمال الظاهرة والباطنة وأنه هو الإيمان والإسلام.
وأخبر سبحانه وتعالى أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذاب الله إلا صدقه، قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة:119].
وعقد البخاري رحمه الله تعالى في كتابه الجامع الصحيح باباً بعنوان: باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] وما ينهى عن الكذب.(284/2)
تعريف الصدق
وننطلق في هذا الدرس أيها الإخوة: مع الصدق وضده الكذب، أما الصدق فأصل الصدق والكذب في القول ماضياً كان أو مستقبلاً، فيمكن أن يصدق الإنسان في حديثه عما مضى ويمكن أن يصدق في وعده للمستقبل إذا وعد وكذلك يمكن أن يكذب، فأصل الصدق والكذب في القول ماضياً كان أو مستقبلاً وعداً كان أو غيره.
والصدق هو: مطابقة القول الضمير والمخبر عنه، فإذا طابق قولك ما في ضميرك والشيء الذي تخبر عنه فأنت صادق، والعكس بالعكس، فإذا انخرم شرط لم يكن صدقاً، بل إما أن يكون كذباً أو متردداً بينهما -يعني بين الصدق والكذب- كقول المنافق: محمد رسول الله، فهو من جهة المطابقة للمخبر عنه وهو النبي عليه الصلاة والسلام كذلك فإنه رسول الله حقاً، لكن من جهة ما يعتقده المنافق في ضميره فهو كذاب، ويصح أن يقال كذب؛ لمخالفة قوله لضميره.
وقد يستعمل الصدق والكذب في الاعتقاد وفي الفعل كما قال الصحابي للنبي صلى الله عليه وسلم: [إنا قوم صدق في القتال] في الحرب، ومنه قوله تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات:105] عملنا بمقتضاها إذاً: هو قول الحق المطابق للواقع والحقيقة.(284/3)
مراتب الصدق
والصدق على مراتب، والصادقون على مراتب، فالصديق أبلغ من الصدوق، والصدوق أبلغ من الصادق، فأعلى مراتب الصدق هي مرتبة الصديقية التي أشار الله إليها بقوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء:69] وسمي أبو بكر الصديق صديقاً لكثرة تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم.(284/4)
من أقوال السلف في الصدق
ومن عبارات السلف في الصدق، قال عبد الواحد بن زيد: [الصدق الوفاء لله بالعمل].
وقيل: هو موافقة السر النطق.
وقيل: استواء السر والعلانية.
وقيل: الصدق القول بالحق في مواطن الهلكة.
وقيل كلمة حق عند من تخافه وترجوه وقال بعضهم: لا يشم رائحة الصدق من داهن نفسه أو غيره.
وقال بعضهم: الصادق لا تراه إلا في فرض يؤديه أو فضل يعمل فيه.
وقال الجنيد: حقيقته أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب.
والصدق هو من صميم دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، فكان يدعو إلى الأسس ولم يكن في دعوته في مكة الفروع ولا التوسع في الأحكام من الحلال والحرام، فإذا عرفنا أن الصدق من أسس دعوته عليه الصلاة والسلام وهو في مكة؛ علمنا منزلة الصدق من الدين وأنه مما يبدأ به في الدعوة إلى أي شيء ندعو الناس إليه كالتوحيد وأشياء كثيرة، منها ما جاء في حديث هرقل مع أبي سفيان والحديث في البخاري قال له: سألتك ماذا يأمركم فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، قال وهذه صفة نبي.
فبعد الصلاة مباشرة أمرهم بالصدق.(284/5)
حث الشريعة على التحلي بالصدق
وقد حثت الشريعة على التحلي بهذا الخلق العظيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم موضحاً ما أمر الله: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم) يعني عن الحرام، وفي رواية: (اكفلوا لي ستاً أكفل لكم الجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا ائتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم) حديث صحيح.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة وحسن الخلق، وعفة مطعم) حديث صحيح.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم مجيباً على سؤال من هو خير الناس؟ قال: (خير الناس ذو القلب المخموم واللسان الصادق، قيل: ما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد) إذاً: صاحب اللسان الصادق والقلب المخموم، السليم من الإثم والبغي والحسد هو خير الناس.
وقد كان أحب الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم أصدقه، وورد ذلك في صحيح البخاري: لما جاء وفد هوازن مسلمين فسألوا النبي عليه الصلاة والسلام أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم؛ لأن أموالهم وسبيهم قد أخذت من قبل المسلمين في المعركة، لكن القوم الكفار أسلموا بعد ذلك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (معي من ترون وأحب الحديث إليَّ أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين، إما السبي وإما المال) إلى آخر الحديث الذي فيه تنازل المسلمين عن السبي لصالح وفد هوازن الذين جاءوا مسلمين.(284/6)
شرح آية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)
وتعالوا لنشرح آية من كتاب الله وحديثاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالصدق: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] الأمر بالكون مع أهل الصدق حسنٌ بعد قصة الثلاثة الذين خلفوا، هذه الآية قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] كانت بعد ذكر قصة الثلاثة الذي خلفت التوبة عليهم وأرجأ الله أمرهم امتحاناً لهم ولبقية المؤمنين، وجاء المنافقون من الأعراب يعتذرون ويكذبون، وهؤلاء الثلاثة صدقوا الله ورسوله فأرجأ الله التوبة عليهم وسموا بالمخلفين وكان مما أمر الله به في الآيات التي جاءت تعقيباً على تلك القصة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].
قال القرطبي رحمه الله: الأمر بالكون مع أهل الصدق حسنٌ بعد قصة الثلاثة الذين خلفوا حين نفعهم صدقهم وذهب بهم عن منازل المنافقين.
قال مطرف: سمعت مالك بن أنس يقول: [قل ما كان رجل صادقاً لا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف] هذا من فوائد الصدق.
وقوله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] اختلف فيهم: فقيل خطاب لمن آمن من أهل الكتاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] أي: المؤمنين والصادقين قيل: خطاب لمن آمن من أهل الكتاب، وقيل: هو خطاب لجميع المؤمنين أن اتقوا مخالفة الله وكونوا مع الصادقين الذي خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا مع المنافقين، وقيل: كونوا على مذهب الصادقين وسبيلهم، وقيل: هم الأنبياء، أي: كونوا معهم بالأعمال الصالحة فتدخلوا الجنة بسببها فتكونوا معهم أيضاً.(284/7)
ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً
والحديث العظيم المشهور في الصدق الذي يبين فيه النبي صلى الله عليه وسلم الصدق ويوصيهم به: (فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً).
والكذب -أيضاً- (لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار).
قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الآخر: (عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة، وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار، وسلوا الله اليقين والمعافاة).
وهذا الحديث الذي فيه قوله: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة) عليكم بالصدق أي: الزموه، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق -يعني- في قوله وعمله ويبالغ ويجتهد حتى يكتب عند الله صديقاً، فهذا يعني أن الصدق لا يصل إليه الإنسان إلا بالمجاهدة، ولا يزال يصدق ويتحرى الصدق، يتعمد ويتحرى ويقصد الصدق، ولا يزال ديدنه وعادته حتى يصل إلى المرحلة العظيمة وهي أنه عند الله صديقاً، يكتب أي: يثبت عند الله.
قال الإمام النووي معلقاً على الحديث: فيه فضيلة الصدق وملازمته وإن كان فيه مشقة فإن عاقبته خير.
(حتى يكتب عند الله صديقاً) فيه إشارة إلى حسن خاتمة هذا الرجل؛ لأنه قال: (ولا زال يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً) فإذا كتب عند الله صديقاً فهذه إشارة إلى حسن خاتمته، وإشارة إلى أن الصدق مأمول العواقب.(284/8)
صور من حياة الأنبياء والصالحين مع الصدق
والجولة الآن مع الأنبياء والصالحين في الصدق كما حكى الله تعالى عنهم.
أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} [الإسراء:80].
وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يهب له لسان صدقٍ في الآخرين، فقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء:84].
وبشر الله عباده بأن لهم قدم صدق عند ربهم، وأنه لهم مقعد صدق، فقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس:2] وقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55].
قال ابن القيم رحمه الله: وهذه خمسة أشياء: مدخل صدق، ومخرج صدق، ولسان صدق، وقدم صدق، ومقعد صدق، فأما مدخل الصدق ومخرج الصدق بأن يكون دخوله وخروجه حقاً شرعياً موافقاً للكتاب والسنة في أي أمر من الأمور، وهو ضد مخرج الكذب ومدخل الكذب الذي لا غاية له يوصل إليها، فمخرج النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في غزوة بدر هو مخرج صدق، ومخرج الأعداء من كفار قريش إلى غزوة بدر هو مخرج كذب، ومدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان مدخل صدق في الله وابتغاء مرضاة الله، هاجر وترك الوطن والأهل ابتغاء مرضاة الله؛ فاتصل به التأييد والظفر والنصر، بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب فإنه لم يكن لله ولا بالله، بل كان محاداً لله ورسوله فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار.
وفسر مدخل الصدق ومخرجه بخروجه صلى الله عليه وسلم من مكة ودخوله المدينة وهذا مثال على ذلك وليس هو كل مدخل الصدق ومخرج الصدق وإنما هو مثال عليه.
والنبي عليه الصلاة والسلام مداخله ومخارجه كلها كانت مداخل صدق ومخارج صدق، لا يخرج من المدينة ويدخل بلداً، أو يدخل في أمرٍ أو يخرج من أمرٍ إلا لله وبالله، وما خرج أحدٌ من منزله ودخل سوقه أو مدخلاً آخر إلا بصدقٍ أو كذب، فمدخل كل واحد منا ومخرجه لا يعدو الصدق والكذب، كلنا الآن نغدو ونذهب، ندخل في أمر ونخرج من آخر، ندخل في مكان ونخرج من آخر، ولذلك الدعاء بأن يدخلنا الله مدخل صدق ويخرجنا مخرج صدق هو في الحقيقة دعاء لله أن يسددنا في جميع أقوالنا وأعمالنا، وأن يكون إقدامنا على الأمور وخروجنا من الأمور موافقاً للكتاب والسنة.
أما لسان الصدق الذي جاء في دعاء الخليل إبراهيم فهو الثناء الحسن عليه من سائر الأمم صدقاً لا كذباً، وقد استجاب الله له فصار الناس يثنون على إبراهيم بعد موت إبراهيم بآلاف السنين، يثنون عليه ويذكرون سيرته ويتأسون به.
وأما قدم الصدق الذي وعد الله به المؤمنين فقد فسر بالجنة، وحقيقة القدم ما قدموه في الدنيا من الأعمال والإيمان، وما يقدمون عليه في الآخرة وهي الجنة التي هي جزاؤهم وهو مقعد الصدق {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر:54 - 55] أي: هي الجنة عند الرب تبارك وتعالى.(284/9)
النبي صلى الله عليه وسلم من صفاته: الصادق الأمين
النبي صلى الله عليه وسلم كان من صفاته الصادق الأمين وساعده ذلك في دعوته لما قام يدعو الكفار، كما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فلان! يا بني عدي! ينادي بطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما الأمر؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً في الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً ما جربنا عليك كذباً أبداً).
تاريخ الرجل يساعد في نشر دعوته قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5]).
وكان من الأشياء التي استدلت بها خديجة على صدق النبي عليه الصلاة والسلام في بعثته وأن الله لم يتخل عنه أنه بعدما جاءه الملك في غار حراء وقال له: اقرأ فرجع خائفاً مضطرباً، فقالت له خديجة لما قال لها لقد خشيت على نفسي، قالت: [كلا فوالله لا يخزيك الله أبداً، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق].
إذاً: هذا الصدق منه صلى الله عليه وسلم كان معيناً له في دعوته، وكان من أدلة صدقه في بعثته وفيما أخبر به عن نبوته.(284/10)
يوسف عليه السلام يوصف بالصدق
ويوسف عليه السلام كان صادقاً؛ لذلك اعترف له الرجل الذي جاء يستفتيه فقال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف:46] فأرسلوا أحد السجينين اللذين كانا مع يوسف إلى يوسف في السجن ليسأله لأنه قال لهم: أنا آتيكم بالجواب، ذهب إليه فقال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف:46] وصفه بالمبالغة في الصدق حسبما علمه وجربه من أحواله في مدة إقامته في السجن، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للمستفتي أن يعظم المفتي: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ} [يوسف:46].(284/11)
أبو بكر الصديق مع الصدق
وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم الأول ورفيقه في الغار، أبو بكر الصديق سمي صديقاً لكثرة تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت في أول الأمر، وقال أبو بكر صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فما أوذي بعدها) رواه البخاري.(284/12)
أبو ذر مع الصدق
ومن الصحابة المشهورين بالصدق أيضاً أبو ذر رضي الله تعالى عنه، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام فيه: (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء -لا الأرض ولا السماء- من ذي لهجة أصدق من أبي ذر وهو شبيه عيسى بن مريم) أبو ذر شبيه بعيسى بن مريم.(284/13)
كعب بن مالك وصدقه في حادثة تبوك
وكذلك من الصحابة المشهورين بالصدق كعب بن مالك رضي الله عنه، قال حين تخلف عن تبوك: (والله ما أنعم الله علي من نعمة بعد إذ هداني أعظم من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون كذبت فأهلك كما هلك الذين كذبوا حين أُنزل الوحي: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:95]) الحديث في البخاري.
وفي البخاري أيضاً عن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب بن مالك لما عمي قال: [سمعت كعب بن مالك يحدث فينا حين تخلف عن قصة تبوك فقال: والله ما أعلم أحداً أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذباً أبداً] سنوات طويلة، وأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:117 - 119].(284/14)
مجالات الصدق
وللصدق مجالات عديدة منها:(284/15)
أولاً: الصدق في الأقوال
الصدق يكون في الأقوال كما قلنا سابقاً، وهو: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها، فحق على كل عبد أن يحفظ ألفاظه ولا يتكلم إلا بالصدق.
وصدق اللسان أشهر أنواع الصدق وأظهرها، وأن يتحرز من الكذب ومن المعاريض التي تجانس الكذب، وينبغي أن يراعي معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه كقوله: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، فإن كان قلب العبد منصرفاً عن الله منشغلاً عن الدنيا وهو يقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض في الصلاة في الاستفتاح فهو كاذب.
ومن الأقوال التي ينبغي الحرص على الصدق فيها: الحلف والقسم، فقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يحلف بأبيه فقال: لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق ومن حلف له بالله فليرضَ ومن لم يرض بالله فليس من الله) حديث صحيح.
ويمينك على ما صدقك به صاحبك لا يجوز لك أن توري فيه، ولا تجوز التورية في القسم عند القاضي أو عند الشخص الذي تريد أن تقسم له إذا كان صاحب حق، فلا تنفعك توريتك في اليمين، وهي حرام والواجب أن تكون يمينك على ما يصدقك به صاحبك ويفهم من كلامك، فلو حلف أنه -مثلاً- لم يأخذ منه مالاً ونوى في نفسه أنه لم يأخذ منه مالاً في هذا المجلس فلا ينفعه ذلك ولا يجعل المال حلالاً له، يمينك على ما صدقك به صاحبك، والحقوق لا يجوز لك أبداً التورية فيها.(284/16)
ثانياً: الصدق في الأفعال
ومن مجالات الصدق: الصدق في الأفعال: وهو استواء الفعل على الأمر والمتابعة كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام وكما أمر، كاستواء الرأس على الجسد، وهو أن تصدق السريرة العلانية حتى لا تدل أعمالهم الظاهرة من الخشوع ونحوه على أمر في باطنه، والباطن بخلافه، فالمراءون أعمالهم الظاهرة بخلاف بواطنهم، فلذلك ليسوا بصادقين في أعمالهم، بل هم من الكذابين وإذا استوت علانية العبد وسريرته قال الله: هذا عبدي حقاً.
والأعمال منها ما يكون أعمال قلب ومنها ما يكون أعمال جوارح.
والأمثلة في الصدق مع الله والإخلاص لله كثيرة ومنها: قصة الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار فقال بعضهم لبعض: إنه والله لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق الله فيه، توسلوا إلى الله بصالح أعمالكم، فكان كل واحد يذكر أرجى ما عمل في حياته لله وأصدق ما حصل منه لله حتى كان السبب في انفراجها ذلك الرجل الذي وفر أجرة الأجير وحفظها كأمانة ونماها له -أيضاً- حتى صارت وادياً من المال وجاء الأجير فصدقه في هذا المال المحفوظ عنده وأعطاه إياه وسلمه كاملاً بعد تنميته.
هل أخذ أجرة على التنمية؟ بل هل التنمية واجبة عليه؟ لا.
لكنه نماه مجاناً ولم يأخذ أجرة على التنمية ولم يذكر في الحديث أنه قال له: جزاك الله خيراً أو أثنى عليه، فاستاقه فلم يبقِ منه شيئاً، حتى ما قال: خذ نصفه أو خذ أرباحه وأعطني أجرتي فقط، أخذه فلم يبقِ منه شيئاً فكان الفرج بسبب الدعوة الأخيرة مع الدعوات السابقة.
وبعض الناس قد يصدقون في تعبيراتهم الفعلية وقد يكذبون، وقد يفعل الإنسان فعلاً يوهم به حدوث شيء لم يحدث أو يعبر به عن وجود شيء غير موجود وذلك على سبيل المخادعة، فالمخادعة مثلما تكون بالقول تكون بالفعل أيضاً، وربما يكون الكذب في الأفعال أشد خطراً وأقوى تأثيراً من الكذب في الأقوال.
من أمثلة الكذب في الأفعال ما فعله إخوة يوسف: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف:16] هذه بكاء كذب ليس ببكاء حقيقي ولا صحيح: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف:18] جعلوا في القميص دماً، ذبحوا شاة فصبغوها فجعلوا الدم في هذا القميص، ليقولوا: إن الذئب قد أكله، ولكن نبي الله يعقوب بفطنته وفراسته عرف أن هذا القميص مصبوغ بدم كذب، فليس فيه تشقيق ولا آثار مخالب ولا أنياب، فاستغرب من كلامهم واستعجب وقال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} [يوسف:18] ما أعجب هذا الذئب الذي يخلع القميص عن الولد ثم يأكل الولد وليس في القميص آثار مخالب ذلك الأسد أو أنياب الذئب ولذلك جاءوا على قميصه بدم كذب، وجاءوا أباهم عشاءً يبكون بكاء كذب، إذاً: الكذب يكون في الأقوال ويكون في الأفعال وقالوا -كذباً-: {يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف:17] فجمعوا بين الكذب في القول والكذب في العمل.
وكذلك فإن الأعمال التي يقوم بها المراءون ولو شيدوا مساجد وطبعوا كتباً وعملوا صدقات، إذا كانوا يقصدون الرياء فإنها أعمال كذب وليست بصدق.
وقد يكون الكذب في الحركات التعبيرية، كإشارات اليد والعين، والحاجب والرأس، فإن كانت مطابقة للواقع فهي صدق وإن كانت مخالفة فهي كذب، فلو سئل إنسان مثلاً: هل أودع فلان عندك مالاً؟ فهز برأسه نافياً دون أن يتكلم وقد أودع صاحبه عنده المال فعلاً فإن هذه الحركة كذب.(284/17)
ثالثاً: الصدق في النية والإرادة
ومن مجالات الصدق: الصدق في النية والإرادة كما ذكرنا المثال عليه سابقاً وهو الإخلاص في قصة أصحاب الغار الثلاثة.
ولنعلم أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: عالم وقارئ ومجاهد، لأنهم ما أرادوا وجه الله.
أما الصادقون في النية والعمل، الذين يصدقون الله فإن الله يصدقهم ويصدقهم ويأتي لهم بالنتائج التي يحبها سبحانه وتعالى، ومن الأمثلة التي وردت في السنة ما جاء في حديث شداد بن الهاد: (أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى الرسول صلى الله عليه وسلم به بعض أصحابه، فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها شيئاً، فقسم وقسم للأعرابي، فأعطى أصحابه ما قسم له لكي يوصلوه إلى الأعرابي، وكان يرعى ظهرهم -ذلك الأعرابي المسلم- فلما جاءوه دفعوا إليه نصيبه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قال: قسمته لك، قال: ما على هذا تبعتك ولكن اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا -وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن تصدق الله يصدقك -إن كانت فعلاً هذه نيتك صدقت الله فالله يصدقك- فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد أصابه سهم حيث أشار -في نفس المكان الذي أشار إليه- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته صلى الله عليه وسلم، ثم قدمه فصلى عليه فكان فيما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقتل شهيداً أنا شهيد على ذلك).
وكذلك الصدق يكون فيما يريد العبد أن يعزم عليه في المستقبل كما هو حال هذا الصحابي، فبعض الناس يقول: إن آتاني الله مالاً لأتصدقن ولأفعلن، هذه عزيمة لشيء في المستقبل، وقد تكون حقاً: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] وقد تكون كذباً: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} [التوبة:75 - 77].
وكذلك فإن الصدق يكون في الأحوال كلها وهذه رتبة الصديقين الذين يصدقون في الأقوال والأعمال والنيات والعزائم.(284/18)
دواعي الصدق
والصدق له دواعٍ كثيرة منها: أولاً: العقل السليم، فإن العقل الصحيح يدفع إلى الصدق.
ثانياً: الشرع المؤكد: الفطرة التي فطر الله الناس عليها والعقول السليمة تحب الصدق وتميل إليه وتنفر من الكذب، والدين يرد فيصدق العقل الصحيح، فالدين لا شك أنه ورد باتباع الصدق وحظر الكذب، لكن الدين يزيد أشياء على الفطرة، والفطرة السليمة لا تعطي التفصيلات لكن تميل إلى الحق، فالعقل قد يقول بجواز الكذب إذا كان فيه مصلحة أو لدفع مضرة؛ لكن يأتي الدين فيقول: إن الكذب كله حرام لا يجوز، إلا في حال الضرورة والقلب مطمئن بالإيمان.
ثالثاً: المروءة: فهي خلق مانع من الأخلاق المشينة كالكذب.
رابعاً: حب الاشتهار بالصدق
عود لسانك قول الصدق تحظ به إن اللسان لما عودت معتاد
موكل بتقاضي ما سلمت له في الخير والشر فانظر كيف ترتاد
إذاً: الصدق عادة إذا كان الرجل لا زال يصدق ويتحرى الصدق يكون الصدق له في النهاية سجية وعادة ويكون سهلاً، أما في أول الأمر فيكون صعباً يحتاج إلى مجاهدة؛ لأن النفس أمارة بالسوء، تقول: اكذب فالكذب فيه منفعة، اكذب فالكذب يرفع عنك المضرة ونحو ذلك، ولكن إذا جاهد العبد نفسه فإنه يصل إلى مرتبة الصدق.(284/19)
علامات الصدق
وللصدق علامات، منها: أولاً: اطمئنان القلب له، يحدثك الشخص أحياناً بحديث فترتاح إليه نفسك وتطمئن، كما أن من علامات الكذب حصول الريبة والشك، يخالج نفسك الشعور بأن هذا ليس بصحيح وهذا المعنى موجود في حديث الترمذي الذي رواه الحسن بن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصدق طمأنينة والكذب ريبة).
لو قال واحد: كيف نستدل على الصدق؟ نقول: من علامات الصدق: أن تطمئن نفسك للكلام، ومن علامات الكذب أن لا تطمئن نفسك للكلام، وهذه نفس المؤمن طبعاً، أما نفس الإنسان العاصي قد تطمئن للكذب وتشك في الصدق.
ثانياً: كتمان المصائب والطاعات، وكراهة اطلاع الخلق على ذلك، فهو يصبر لله على الطاعة وعلى المكروه، ونحن -أيها الإخوة- في موضوع الصدق لنا الظاهر، قد يخبرك أشخاص بأشياء وأنت لا تدري عن حقيقتها فلك ظاهر حالهم، فإن كان الذي يظهر لك من حاله الصدق فاقبل كلامه، وإن كان الذي يظهر لك منه الكذب والفسق والفجور فاتهمه.
وقد روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن عمر بن الخطاب أنه قال: [إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -كان الوحي يفضح الكذابين- وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمنّاه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنه] وهذه مقولة عظيمة من عمر رضي الله عنه والحديث عن عمر رواه البخاري رحمه الله تعالى.
انظر إلى حال الرجل من بني إسرائيل لما جاءه صديق له يستسلفه ألف دينار، قال صاحب المال: ائتني بالشهداء أشهدهم، قال: كفى بالله شهيداً، قال: فائتني بالكفيل لو هربت يكون بدلاً منك، ولو عجزت يسدد عنك، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، ظهر له من حال صاحبه الصدق، فدفعها إليه وحصلت القصة بعد ذلك، حيث ذهب الرجل وتاجر وعبر البحر وجاء الموعد المحدد ولم يجد سفينة ليرجع بها؛ ليعطي المال لصاحبه فما عنده حيلة، فأخذ خشبة ونقرها ووضع فيها الألف دينار، ودعا الله عز وجل فقال: هذه حيلتي فأوصل هذه الأمانة ورمى الخشبة في البحر، وخرج صاحبه في الشاطئ الآخر على الموعد يتلمس هذا الرجل على الموضع المضروب بينهما ليأتي، لكنه لم يجد سفينة ولم يأتِ أحد ووجد خشبة تتهادى على الماء فقال: آخذها حطباً لأهلي، فأخذها فنشرها فإذا فيها الألف دينار والرسالة من صاحبه، فأدى الله الأمانة عن ذلك الرجل.(284/20)
أمور مهمة في الصدق وأهله(284/21)
الاستدلال على الصدق من مظانه
يستدل على الصدق من أهله ومظانه، كما حصل في قصة الإفك التي اتهمت فيها عائشة رضي الله عنها، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يبحث عن الحقيقة ويسأل ويتحرى يسأل من؟ (أشار علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال له: وسل الجارية تصدقك، - بريرة جارية عند عائشة معروفة بالصدق والأمانة، تاريخها صدق وأمانة وهي ملازمة لـ عائشة، وتعرف سرها وتطلع في بيتها على الأمور الكثيرة- فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ بريرة، ولم يسأل الناس الآخرين البعيدين، الإنسان عندما يريد الصدق يتحرى الصدق من مظانه، هل رأيتِ من شيء يريبك؟ قالت: ما رأيت أمراً أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن -يعني الشاة- فتأكله).(284/22)
تصديق الحق
ومن الأمور المهمة أن نصدق الحق، لذلك تجد كثيراً من الأحاديث فيها صدقت صدقت صدقت، صدق فلان صدق فلان، وأعلى أنواع التصديق ما يصدق الله به عبده ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم.
فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فيأتي الوحي تصديقاً لكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، كما حصل في خيبر، قال أبو هريرة والحديث في البخاري (شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعي الإسلام: هذا من أهل النار، فلما حضر القتال قاتل الرجل من أشد القتال، وكثرت به الجراح فأثبتته وعجز عن الحركة، فجاء رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل الذي تحدثت أنه من أهل النار قد قاتل في سبيل الله من أشد القتال فكثرت به الجراح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه من أهل النار، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هو على ذلك إذ وجد الرجل ألم الجراح فأهوى بيده إلى كنانته فانتزع منها سهماً فانتحر به، فاشتد رجال من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! صدق الله حديثك قد انتحر فلان فقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال قم فأذن، ألا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر).
لو قال واحد: كيف يقاتل مع المسلمين؟ نقول: إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وهذا له أمثلة كثيرة في الواقع، فتجد الرجل ينشر العلم ويطبع الكتب ويبني المساجد، ويفعل أشياء ينتفع بها المسلمون وهو فاجر، نقول: هذا لا يجعل فجوره صلاحاً إذا كانت نيته ليست لله لكن هذا مصداق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام: إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
وقد صدق الله صحابة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فمن ضمن تلك الأمثلة ما روى البخاري رحمه الله عن زيد بن أرقم قال: (كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا * لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:7 - 8] فذكرت ذلك لعمي، فذكر عمي ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام فدعاني، فحدثته بالذي سمعت فأرسل إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، وكذبني النبي صلى الله عليه وسلم وصدقهم بما ظهر من حلفهم، فأصابني غمٌ لم يصبني مثله قط، فجلست في بيتي وقال عمي: ما أردت إلا أن كذبك النبي صلى الله عليه وسلم ومقتك فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1] الآيات وأرسل إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقرأها، قال: قد صدقك الله يا زيد) نزلت الآية تصديقاً للصحابي.
ونحن نأخذ الحق ونصدقه ولو كان مصدره رجلاً كافراً، ولو كان مصدره الشيطان، إذا كان حقاً نصدق به ولا يمنعنا جرم الكافر أن نصدق كلامه إذا كان حقاً، وبعض أهل الكتاب كانوا يخبرون بأشياء من الصدق والنبي صلى الله عليه وسلم يصدقهم، مثل المرأتان اليهوديتان اللتان جاءتا إلى عائشة يخبرانها عن عذاب القبر، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام فصدق كلام اليهوديتين بعذاب القبر.
من الأمثلة عن جابر رضي الله عنه قال: (لما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر الذين ذهبوا إلى الحبشة - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم لما رجعوا: ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة، قالت فتية منهم: بلى يا رسول! بينا نحن جلوس مرت بنا عجوزٌ من عجائز رهبانهم تحمل على رأسها قُلَّةً من ماء فمرت بفتىً منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت العجوز التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا غُدر -يعني يا غادر- إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون كيف أمري وأمرك عنده غداً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: صدقت صدقت، كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟) حديث حسن حسنه الألباني في مختصر العلو.
وكذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد صدق كلاماً قاله الشيطان لما وكل أبا هريرة بحفظ بيت المال وجاء الشيطان بهيئة رجل يحثو منه، فألقى أبو هريرة القبض عليه في أول ليلة وثاني ليلة وثالث ليلة وفي النهاية قال له: إني أعلمك آية إذا قلتها قبل النوم حفظك الله لا يقربك شيطان، قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة:255] وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح.
أبو هريرة حريص على الخير، أطلق الرجل لأجل هذه الفائدة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب! تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟ قال: لا.
قال: فذاك شيطان) إذاً: قد يصدق الكذوب، فإذا قال صدقاً فإننا نقبله ولا نقول: لا؛ لأنهم يكذبون أو فجرة لا نقبل منهم شيئاً ولا نصدقهم، بل نصدق ما قالوه إذا وافق الدين.
والنبي عليه الصلاة والسلام صدق أحد أحبار اليهود، قال: (يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر -صدقه بالضحك الذي هو كناية عن الرضا والإقرار بما قاله- ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]).(284/23)
الصدق المذموم
هل هناك صدق مذموم؟
الجواب
نعم، من الصدق المذموم: الغيبة والنميمة والسعاية، ولو ذكره بما ليس فيه، لكان هذا بهتاناً، لكن لو ذكرته بما فيه وقلت أنا صادق فربما عذر المغتاب نفسه بأنه يقول حقاً لكن هذا بعيد عن الصواب ومخالف للأدب؛ لأنه ولو كان في الغيبة صادقاً فقد هتك ستراً كان صونه أولى، وجاهر من أسر وأخفى، وربما دعا المغتاب وهذه نكتة لطيفة يشير إليها الماوردي رحمه الله في كتاب أدب الدنيا والدين، يقول: فلان فيه كذا وفعل وفعل فهذا الرجل إذا كان مصراً على فسفه وأنت تأتي وتعلن ما فعل الرجل، ربما دعا المغتاب ذلك إلى إظهار ما كان يستره والمجاهرة بما كان يخفيه، يقول: مادام أن الأمر يفتضح بين الناس، سأبهى بالفسق وأعلن به ما دمت قد افتضحت، فهل الذي ذكره وأفشى أمره ساعده على الخير؟ لا.
لم يفده إلا فساد أخلاقه بدون صلاح.(284/24)
صدق النمام
وكذلك النمام والقتات، النمام يمكن أن يكون في نقل الكلام في غاية الأمانة لا يزيد ولا ينقص من الكلام، يذهب للشخص الآخر يقول: فلان قال عنك في المجلس الفلاني كذا وكذا وكذا، عابك وقال عنك كذا وكذا وكذا، ونقل الكلام بأمانة وبصدق ما كذب ولا افترى، فما حكم هذه النميمة ما حكم هذا الصدق في النقل؟ حرام، نميمة، النمام الذي يكون مع القوم يتحدثون فينم حديثهم وينقله.
ما هو الفرق بين النمام والقتات؟ النمام عرفناه فمن هو القتات؟ النمام الذي يكون مع القوم فيسمع الكلام وينقله للإفساد، والقتات الذي يسمع إليهم وهم لا يعلمون فينقل خبرهم، أي: يتجسس عليهم ويسمع كلامهم وينقله ولا يكذب، ولا يزيد ولا ينقص، ينقل بدقة لكن لأجل الفساد، فهذا من المتجسسين وكلاهما لا يدخلان الجنة لأن الحديث جاء: (لا يدخل الجنة قتات) وكذلك: (لا يدخل الجنة نمام).(284/25)
صدق الوشاية
أما السعاية فهي الوشاية: أن يشي بإنسان عند صاحب سلطان أو منصب لكي يوقع به، وهذه السعاية والوشاية هي شر الثلاثة؛ لأنها تجمع إلى مذمة الغيبة، ولؤم النميمة، التغرير بالنفوس والأموال، ووردت أمثلة وقصص لهذا فمما ذكره ابن عبد البر في بهجة المجالس قال: استراح رجل إلى جليس له في السلطان، يعني: رجل تكلم مع رجل في المجلس فوقع في السلطان فاستراح ووثق بالذي أمامه فتكلم في السلطان -هذا الآخر كان غير ثقة ولا يحفظ الحديث- فذهب إلى السلطان وقال: فلان قال عنك كذا وكذا وكذا، فرفع ذلك عليه، فلما أوقف السلطان ذلك القائل فقال له: أنت الذي قلت عني كذا وكذا وكذا، فأنكر أن يكون أحد سمع ذلك منه، فقال السلطان: بل فلان سمع ذلك منك هل ترضى به؟ قال: نعم.
على أساس أنه صديق وصاحب، فكشف الستر عن الرجل، وكان قد خبأه عنده فقال: بلى أنت قلت ذلك لي، فسكت المرفوع عليه ساعة ثم أنشأ يقول:
أنت امرؤ إما ائتمنتك خالياً فخنت وإما قلت قولاً بلا علم
فأنت من الأمر الذي قلت بيننا بمنزلة بين الخيانة والإثم
إما أنك خائن أو آثم.
وسعي بأحدهم إلى سلطان وكان السلطان عاقلاً فقال للساعي والواشي: أتحب أن نقبل منك ما تقول فيه على أن نقبل منه ما يقول فيك؟ قال: لا.
قال: فكف عن الشر يكف عنك الشر.(284/26)
تصديق العرافين والكهان
ومن التصديق المحرم تصديق العرافين والكهان وهذا أعظم الأشياء وأخطرها؛ لأنه يتعلق بالتوحيد، وهو يقدح فيه قدحاً بليغاً، بل إن الذي يصدق العرافين والكهان يكون مشركاً بالله العظيم؛ لأنه يعتقد أن هناك من الناس من دون الله من يعلم الغيب، والله يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) فلو ذهب رجل إلى الكاهن وقال انظر لي فلانة هذه التي أنا مقدم على زواجي منها، اكشف لي المستقبل، اقرأ الكف والفنجان، اضرب بالودع، انظر لي هل هي خير أو شر في المستقبل، إلى غير ذلك، وذهب الكاهن وادعى النظر ثم قال له: إنها خير لك في المستقبل فصدق السائل الكاهن فإذا صدقه فقد كفر ولا شك في ذلك.
وكثير من الناس يأتون إلى الكهان لهذه الأسباب فيكفرون، وإن قال أنا أذهب وأجرب، آخذ كلامه وأجرب، فنقول: مجرد ذهابك إليه حرام وإن فعلت فإنك لا تكفر لكن لا تقبل لك صلاة الأربعين يوماً، هذه هي العقوبة.
الكهان قد يصدقون ويأتيهم خبر موثوق، ثقة ثقة فكيف ذلك؟ روى البخاري رحمه الله تعالى عن عائشة: (سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بشيء قالوا: يا رسول الله! فإنهم يحدثونا بالشيء أحياناً يكون حقاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة).
ويوضح هذا حديث آخر في صحيح البخاري، يقول أبو هريرة: (إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قضى الله الأمر في السماء) بأمر معين، بقبض روح فلان، بمرض فلان، بشفاء فلان، بولد فلان وولادة فلان ونحو ذلك: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان) مثل جر سلسلة على الصخر، فكذلك صوت أجنحة الملائكة الخاضعة لأوامر الله النازلة إليهم والتي لابد لهم من تنفيذها: (فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع) الجن يركب بعضهم فوق بعض إلى السماء يسترقون السمع، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض، ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه بعضه فوق بعض: (فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها فأحرقه) فأحرقه وما معه من الخبر، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيصل الخبر إلى الكاهن ويكون هذا فعلاً خبر ثقة صحيح مؤكد؛ لأنه مصدره من السماء عن طريق هؤلاء الجن المسترقين، لكن هذا الكاهن يعمل هذا الخبر الواحد الصحيح وسيلة لكي يدخل الناس في الشرك ويوقعهم في الكفر- فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء.
أي: الكاهن يقول: سوف يحدث كذا يوم كذا، ويحدث كذا يوم كذا، وواحد من هذه الكذبات الكثيرة صدق، ومشكلة الناس أنهم لا يتذكرون إلا الصدق، وأما كذبات الكاهن الأخرى فلا يتذكرونها، يقولون: فعلاً فلان قال لنا يوم كذا سيحدث كذا وحدث فعلاً، هذا رجل مجرب فعلاً يعلم ما في الغيب فاذهبوا إليه.
والله عز وجل قادر على أن يحرق الجن مسترقي السمع قبل أن يصلوا إلى السماء أصلاً، لكن الله عز وجل شاء أن يجعل هذا الحدث فتنة ليرى من يثبت على الدين والتوحيد ومن لا يثبت.(284/27)
تصديق أمراء السوء
ومن التصديق المحرم: ما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة عن كعب بن عجرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي، فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد عليّ الحوض -إذاً تصديقه هذا حرام- ومن لم يغش أبوابهم ولم يصدقهم في كذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض).
والصدق -أيها الإخوة- نافع جداً في أشياء كثيرة: فهو ينفع الداعية إلى الله عز وجل؛ لأن الناس يتأثرون بالصادق ويرثر صدق الداعية في وجهه وصوته، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يتحدث إلى أناس لا يعرفونه فيقولون: والله ما هو بوجه كذاب ولا صوت كذاب، ولا شك أن ظهور أثر الصدق في وجه الداعية وصوته يؤثر على المخاطب ويحمله على قبول القول واحترام ما يصدر من الداعية، إلا إذا كان أعمى القلب، ومهما يكن من أمر فإن الصدق ضروري لكل مسلم.(284/28)
الحث على الاهتمام بتربية الأولاد على الصدق
وكذلك من الأمور المهمة في التربية: تربية الأولاد على الصدق، لابد أن يتربى المسلمون جميعاً على الصدق، لكن من الأشياء المهمة تربية الأولاد على الصدق، فالإسلام يوصي أن تغرس فضيلة الصدق في نفوس الأطفال حتى يشبوا عليها وقد ألفوها في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، وقد ورد عن عبد الله بن عامر قال: (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتنا وأنا صبي صغير، فذهبت لألعب فقالت أمي: يا عبد الله تعال أعطيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه ثمراً، قال: أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة).
فهذه الحركة التي تفعلها بعض الأمهات تقبض يدها وتقول للولد: تعال أعطيك، لو كانت يدها فارغة فهي كاذبة، وتكتب عليها كذبة، وقد صحح هذا الحديث الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة بشواهده، ومن الشواهد التي ذكرها: (من قال لصبي: تعال هاك، ثم لم يعطه فهي كذبة).
فانظر كيف يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الآباء والأمهات أن ينشئوا أولادهم نشأة يقدسون فيها الصدق، ويتنزهون عن الكذب، ولو تجاوز الآباء والأمهات عن هذه الأمور وقالوا: هذه توافه وهينة؛ فإن الأطفال سيكبرون وهم يعتبرون الكذب هيناً وهو عند الله عظيم.
أما الكذب فلا شك أنه جماع كل شر، وقبل أن ندخل في موضوع الكذب إذا كان الوقت سيسعفنا في ذلك، فإن هناك بعض الأمور السريعة عن الصدق وهي:(284/29)
أمور عن الصدق
أولاً: من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه.
ثانياً: من الأمور التي يكون فيها التصديق له أجر عظيم، تصديق المؤذن، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله وملائكته يصلون على الصف المقدم، والمؤذن يغفر له مد صوته، ويصدقه من سمعه من رطب ويابس، وله مثل أجر من صلى معه).
ثالثاً: وكذلك من الأمور المهمة: أن القاضي ينبغي أن يتحرى صدق أصحاب الأقوال، وأن المدعين لا يجوز لهم أن يكذبوا، وبعض المدعين قد يخدعون القاضي فيوهمونه بقول الصدق وهم يكذبون فلا يحسب هؤلاء أنهم قد نجوا أو غنموا شيئاً (فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمع مرة خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال: إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض -في الكلام بلاغة وفصاحة- فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها) رواه البخاري رحمه الله تعالى.
وكذلك الطيرة من الشرك؛ لكن أصدق الطيرة الفأل كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق الطيرة الفأل) فالطيرة تشاؤم وهو حرام، أما التفاؤل فهو أصدقها وهو مباح وجائز، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك ينبغي أن يستعمل لمعرفة الصدق الأدلة وأقوال الثقات، فلو أخبر إنسان بشيء، فنأتي بالشهداء المعروفين بالصدق، فإن أقروا ما قاله قبل قوله، كما قال البخاري رحمه الله: باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض -أي: لو أن امرأة طلقها زوجها فعدتها ثلاث حيض، فلو حاضت في شهر ثلاث حيض تخرج من العدة، لكن ينبغي أن تثبت أنها حاضت في الشهر ثلاث حيض- ولذلك قال: ولا يصدق النساء في الحيض والحمل فيما يمكن من الحيض، لقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة:228] ويذكر عن علي وشريح: أن امرأة جاءت ببينة من بطانة أهلها ممن يرضى دينه أنها حاضت ثلاثاً في شهر فصُدقت، وقال عطاء: [أقراؤها ما كان] وبه قال إبراهيم.
إذاً: بعض أهل العلم يأخذون بذلك لكن بشرط أن تثبت هذا ممن يعرف حقيقة أمرها من الثقات.
مسألة: لو أنها أخذت دواءً لإنزال الحيض، ثم أخذت دواءً لرفعه، ثم أخذت دواءً لإنزاله، ثم أخذت دواءً لرفعه، ثم أخذت دواءً لإنزاله، ثم أخذت دواءً لرفعه، هل تخرج من العدة؟ لا.
هذا تلاعب وتحايل واضح جداً.
وكذلك فإن الإنسان المسلم إذا اشتبه عليه أمر أخيه المسلم، فإن جاءه عنه خبر؛ فإنه يحمل أمر أخيه على أحسنه، وإذا كان هذا الأخ معروفاً بالصدق قبلناه، والناس الذين وشوا به وتكلموا عنه إذا كانوا من المجهولين لا نقبل كلامهم.
جاء أناس ادعوا على سعد بن أبي وقاص فقال عمر لـ سعد: لقد شكوك في كل شيء حتى الصلاة، قالوا: لا يحسن يصلي.
قال سعد: [أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف في الأخريين، ولا آلو أن أجتهد ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم] قال عمر: [صدقت! ذلك ظني بك] هذا معروف بالصدق والمتهمون له مجهولون، أو معروفون بالفسق والكذب فلا يمكن أن نقبل قول الفاسق الفاجر في الثقة الصادق.(284/30)
الصدق في البيع والشراء
وكذلك فإن من المجالات المهم فيها الصدق: البيع والشراء.
وما أكثر الكذب -الآن- في البيع والشراء؛ فإن الصدق في البيع والشراء سبب للبركة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا -أو قال حتى يتفرقا- فإن صدقا وبيَّنا -بين البائع السلعة هل فيها عيب أم لا؟ - فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما) والآن الناس يغشون في الحراج وفي أسواق السيارات وغيرها، ولذلك كثير منهم لا بركة في مكاسبهم، وخصوصاً الذين يشتغلون في معارض السيارات من هؤلاء الدلالين وغيرهم، يقولون: (سكر في مويه) (ملح في مويه) و (كومة حديد) وسيارة لا تفتح ولا تغلق، لا تمشي إلى الخلف ولا إلى الأمام، ثم يقولون: برئت الذمة، وهم يعلمون الخلل الذي فيه، فهذا حرام، ولو رضي المشتري فهو حرام.
ونحن في هذا الزمان وهو آخر الزمان، أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن الكذب سيفشو فيه، والصدق سيقل، وأن الصادقين سيضطهدون، فقال في الحديث الصحيح: (سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) في أمر عامة الناس، وكل أهل البلد، يتكلم في أمرهم الرجل التافه، فما أشبه زماننا هذا بما أخبر به صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره.
إذاً: هذا عصر يفشو فيه الكذب ويقل الصدق، ولذلك المؤمنون يتحرون الصدق ولا يدفعهم ألم الغربة إلى أن يكونوا مع الكذابين ولو كثر الكذب، ولقد أصبح الكذب -الآن- من أهون الأشياء عند الناس، تجد السنترال في الشركة أو الذي يرد على الهاتف في البيت يكذب، فلان موجود؟ لا.
غير موجود، ويحلف على هذه الأشياء، فنسأل الله السلامة والعافية.(284/31)
الكذب أضراره وعواقبه
والكذب -أيها الإخوة- جماع كل شر، وأصل كل ذم وما ذاك إلا لسوء عواقبه وخبث نتائجه
وما شيء إذا فكرت فيه بأذهب للمروءة والجمال
من الكذب الذي لا خير فيه وأبعد بالبهاء عن الرجال
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يحارب الكذب محاربة شديدة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان صلى الله عليه وسلم إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة.(284/32)
عقوبة الكذب
وعقوبة الكذاب شديدة بعد الموت كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الرؤيا الصادقة التي رآها، وأخبر عنها لما سأل الملكين فقالا: (أما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم ينتقل إلى الجانب الآخر ويعملون به مثل ذلك، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق) فهذه عقوبته.
وقال في رواية أخرى: (رأيت الليلة رجلين أتياني قالا: الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يكذب بالكذبة تحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به هكذا إلى يوم القيامة) والشق عذاب الكذاب في البرزخ، لكن يوم الدين العذاب أشد وأنكى.
قال الحسن البصري عن هذه النوعية: [خرج عندنا رجل في البصرة فقال: لأكذبن كذبة يتحدث بها الوليد، قال الرجل: فما رجعت إلى منزلي حتى ظننت أنها حق لكثرة ما رأيت الناس يتحدثون بها] هو الذي كذبها يقول: ما رجعت إلى منزلي حتى ظننت أنها حق لكثرة ما رأيت الناس يتحدثون بها.
فهؤلاء الذين يروجون الإشاعات، ويختلقون الأخبار، ويستغلون الوسائل المختلفة لنشرها؛ فتعم المجتمع لأنها تسمع بجميع الوسائل المسموعة، لا شك أن عذابهم يوم البرزخ أليم، وعذابهم يوم القيامة أشد ألماً وأنكى وأخزى، ولا يقول الناس: هؤلاء أعداء الله ينشرون الأكاذيب ويخونون الأمين ويزعمون أن فلاناً صادق وهو خائن، ويروجون الإشاعات، ويغيرون الواقع، ويتهمون الأبرياء، والناس يروج عليهم هذا الكذب؛ لأنهم ليس عندهم هذه الوسائل التي أمامهم، نقول: رويداً سيأتي موعدهم عند الله، فإن الله عز وجل لا يضيع عنده حق وستكون عقوبة هؤلاء أليمة.
الواحد قبل مجيء هذه الوسائل الحديثة التي تنشر الأخبار وتذيعها كان يكذب، وتنتشر الكذبة في الحي أو في البلد؛ لكن الآن عبر هذه الوسائل صار الكذب ينتشر في أقطار الأرض، فكيف يكون العذاب؟ أشد وأنكى.(284/33)
حذر السلف من الكذب
ولما علم الصالحون خطورة الكذب وأنه ثلث النفاق، وأنه يهدي إلى الفجور؛ خافوه على أنفسهم.
عندما حضرت الوفاة عبد الله بن عمر قال: [إنه كان خطب إلي ابنتي رجل من قريش، وقد كان مني إليه شبه الوعد، وأخاف أن ألقى الله بثلث النفاق أشهدكم أني زوجته].
وكان الأئمة يستدلون بحركات الناس وأفعالهم وكلامهم على صدقهم، والبخاري لما خرج يطلب الحديث من رجل فرآه يشير إلى دابته برداء كأن فيه شعيراً وليس فيه شيء رجع وقال: لا آخذ الحديث عمن يكذب على البهائم.
وقال الأحنف بن قيس: ما كذبت من يوم أسلمت إلا مرة واحدة.
وكان السلف يدققون فيه جداً، لقي أحمد رحمه الله بعض أصحابه فقال: كيف حال أولادك؟ فقال الرجل: يقبلون يديك، قال الإمام أحمد: لا تكذب.(284/34)
دواعي الكذب
والكذب له دواع كثيرة منها: أن يجلب لنفسه مغنماً أو يدفع عن نفسه ضرراً، أو أن يقول: الناس لا يقبلون حديثي ويقبلون عليّ إلا إذا كذبت، ولأني لا أجد من الأخبار الصحيحة ما أطرفهم به ويستظرفون به حديثي، فيستحل الكذب ويأتي بعجائب وغرائب من أجل أن يضحك الناس ويجمعهم حوله.
وقد يكون الكذب من أجل التشفي بالخصم فيكذب عليه لأجل تشويه سمعته مثلاً وهكذا.
وهذا الكذب خلق ذميم من اعتاده صعب عليه جداً أن يتخلص منه، لأن العادة طبع ثانٍ، إنسان فيه طبع يولد من بطن أمه فيه، والعادة التي يتعود عليها الإنسان طبع ثانٍ ويصعب جداً تغيير الطباع.
قال بعض السلف: من استحلى رضاع الكذب عسر عليه الفطام.
وقال بعضهم لولده: يا بني! احذر الكذب فإنه شهي كلحم العصفور من أكل منه شيئاً لم يصبر عنه.
وقال الأصمعي: قيل لكذاب: ما يحملك على الكذب؟ قال: أما إنك لو تغرغرت بمائه ما نسيت حلاوته.
وقيل للكذاب هل صدقت قط؟ فقال: أخاف أن أقول لا فأصدق.(284/35)
الكذب في المزاح
وبعض الناس يستسهلون الكذب في المزاح ويحسبون أنه مجال للهو، ويختلقون الأخبار من أجله، والإسلام أباح الترويح عن القلوب لكن ليس بالكذب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب ولو مازحاً) (ويل لمن يحدث بالحديث ليضحك منه القوم فيكذب ويل له ويل له) والشاهد أن الناس يطلقون الأعنة لأخيلتهم في تلفيق الأضاحيك ولا يحسون حرجاً في إدارة الحديث المفترى المكذوب، ليتندر بالخصوم ويسخر منهم أو بخلق الله، وهذا اللهو بالكذب حرام ولا شك فيه، فقد يلجأ الإنسان للكذب للتملص من خطأ وقع فيه، وهذا غباء وهوان، وهو فرار من شر إلى شر أشد منه، فالواجب أن يعترف بخطئه فلعل صدقه ينجيه ويكون سبباً في مسح هفوته، ومما يروى عن الحجاج هذا الظالم الباغي الفاجر أنه كان إذا صدقه الخصم عفا عنه.
ومن الأسباب التي تدفع إلى الكذب: الديون، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يدعو في الصلاة: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا ومن فتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) هذا الحديث كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة: أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم، فقال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف) وهذا حال المديونين من الناس، فإنهم يقولون: غداً سوف أعطيك، وهو كذاب ويعده إلى الوقت الفلاني وهو كذاب.
وكذلك فإن من أعظم الكذب: الكذب على الله بتحليل ما حرمه أو بتحريم ما أحله، أو إسقاط ما أوجبه وإيجاب ما لا يجب، أو كراهة ما أحبه واستحباب ما كرهه، هذه من أعظم الكذب، وكذلك الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كذباً عليَّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) هذه خطورة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.(284/36)
علامات الكذب
وكذلك فإن للكذب علامات وأمارات كما قلنا في الصدق، فمن علامات الكذاب: أولاً: أنك إذا لقنته حديثاً تلقنه ولم يكن بينه وبين ما حكيته فرق عنده، وأخذ مباشرة أي شيء تقوله.
ثانياً: أنك إذا شككته فيه تشكك حتى يكاد يرجع عنه.
ثالثاً: إنك إذا رددت عليه قوله، حصر وارتبك ولم يكن عنده نصرة المحتجين، ولا برهان الصادقين، إذا رددت عليه أبلس، أما الصادق إذا رددت عليه قوله ثبت عليه.
رابعاً: وكذلك ما يظهر عليه من الريبة والتخبط في الكلام؛ لأن هذا لا يمكن أن يدفعه عن نفسه، كما قالوا: الوجوه مرايا تريك أسرار البرايا.
وقال الشاعر:
حسب الكذوب من البلية بعض ما يحكى عليه
فإذا سمعت بكذبة من غيره نسبت إليه
من أضرار الكذب أن الكذاب ينسب إليه حتى الأشياء التي لم يكذب فيها، فيكذب على الكذاب، ولو تحرى الصدق يبقى متهماً، إذا عرف الكذاب بالكذب لم يكد يصدق في شيء وإن كان صادقاً، ومن آفة الكذاب نسيان كذبه؛ ولذلك فإن الكذاب يكون في منزلة وضيعة بين الناس.(284/37)
مواطن جواز الكذب
وهل هناك أمور يجوز فيها الكذب؟
الجواب
نعم يجوز الكذب في الحرب، وإصلاح ذات البين، وبين الزوجين، والنبي عليه الصلاة والسلام قد استخدم التورية، ولذلك نقول: الكذب يجوز في حالات لكن اللجوء إلى التورية أحسن، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه قد استخدم التورية فسئل عن النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه فقال: هذا هادٍ يهديني السبيل فظنوا أنه على هداية الطريق وهو على هداية سبيل الخير.
ومن الأشياء التي يجوز الكذب فيها: بين الزوجين، ليس الكذاب الذي ينمي خيراً أو يقول خيراً، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً، أو ليصلح ما بينه وبين زوجته لو كذب عليها فإنه لا يعتبر بذلك كاذباً ولكن الإنسان يستخدم المعاريض كما ذكرنا.
كان إبراهيم إذا طلبه إنسان لا يحب لقاءه خرجت الجارية فقالت: اطلبوه في المسجد، وهذا من المعاريض.
وقال إسحاق بن هانئ: كنا عند أحمد بن حنبل في منزله ومعه المروذي أحد طلبته ومهنا طالب آخر، فدق داق الباب فقال: المروذي هنا؟ فكأن المروذي كره أن يعلم موضعه، فوضع مهنا إصبعه في راحته وقال: ليس المروذي هاهنا، والطارق يسمع، وما يصنع المروذي هاهنا، فضحك أحمد ولم ينكر.
أما أهل الكتاب فإنا لا نصدقهم ولا نكذبهم فإذا وافق ما ورد عنهم الكتاب والسنة أقررنا وإذا خالف الكتاب والسنة رفضناه، إذاً لا نوافق ولا نخالف ولا نصدق ولا نكذب، لأنه إما أن يكون حقاً فنكذب به أو باطلاً فنصدق به، فنكون قد وقعنا في محذور.
ومن الكذب الذي يقع: ما أخبر به عليه الصلاة والسلام: (لا تجمعن جوعاً وكذباً) مخاطباً به بعض النساء، قدم لبن فأمر بتقديمه لبعض النساء فقلن لا نشتهي فقال: (لا تجمعن جوعاً وكذباً) وهذه حال كثير من الناس يأتيك في البيت تريد أن تضيفه فيقول: لا أشتهي ولا أريد, وهو يشتهي لكن يعتبر أنها من الحرج أو شيء من هذا القبيل فيكون قد وقع في الكذب، إما أن يقول لا أريد لكن يقول لا أشتهي وهو يشتهي فهذا من الكذب.
هذه بعض الأمثلة التي تقع، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الصادقين، وأن يباعد بيننا وبين الكذب، وأن يحفظ ألسنتنا وقلوبنا منه، إنه سميع قريب مجيب، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.(284/38)
آداب الضحك
ما هي صفة ضحك النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما هي السنة فيه؟ ما هي المواقف التي ضحك فيها النبي صلى الله عليه وسلم، أو ضحك فيها الصحابة؟ وما هو ضحك الأنبياء والصالحين؟ وما هو قرين الضحك؟ وما هو ضده؟ وكيف يتخلص منه؟ وبماذا وصفه أهل العلم؟ وما هي أسباب الضحك؟ وما هو حكمه لا سيما في الصلاة؟ أسئلة كثيرة جاءت إجاباتها مفصلة ضمن هذه المادة.(285/1)
معنى الضحك ومراتبه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فأحييكم -أيها الإخوة- بتحية الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وموضوع درسنا في هذه الليلة في سلسلة الآداب الشرعية هو (آداب الضحك) الضحك الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، فقال عز وجل: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43] أي: أنه خلق في النفس صفة الضحك وصفة البكاء، فيضحك الإنسان ويبكيه، وكل ذلك مما ركبه الله سبحانه وتعالى في طبعه.
أما بالنسبة للضحك فهو في اللغة: مصدر ضحك، وتعريفه: انبساط الوجه وبدو الأسنان، والفرق بينه وبين التبسم، أن التبسم هو مبادئ الضحك، فأول الضحك يكون تبسماً، ويكون غالباً للسرور، كما قال الله سبحانه وتعالى في الضحك: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38 - 39] والضحك أعم من التبسم، فكل تبسمٍ ضحك، وليس كل ضحكٍ تبسماً.
ولذلك قال ابن حجر رحمه الله: فإن كان بصوتٍ بحيث يُسمع من بعدٍ فهو القهقهة، وإلا فهو الضحك؛ وإن كان بلا صوتٍ فهو التبسم، وتسمى الأسنان في مقدم الفم الضواحك، وهي الثنايا والأنياب وما يليها، وتسمى النواجذ وهي التي تظهر عند الضحك.
إذاً: عندنا في المسألة التفصيل على ثلاث مراتب: المرتبة الأخف: وهي التبسم، إذا كان بلا صوت، انفراج الفم تبسمٌ، وإن كان بصوتٍ فهو الضحك، وإن كان بحيث يسمع هو وجيرانه ومن بَعُدَ فهو القهقهة.
إذاً يُطلق على التبسم ضحك، وما كان ضحك النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسماً، فالضحك أعم من التبسم، وهو نوعٌ منه.(285/2)
الضحك من صفات الله وتأويله بالرضا تأويل باطل
أما بالنسبة للضحك فهو صفة لله تعالى، فإنه عز وجل يضحك، كما جاء في أحاديث كثيرة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيقاتل في سبيل الله فيستشهد) رواه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد: (أفضل الشهداء الذين يقاتلون في الصف الأول فلا يلفتون وجوههم حتى يُقتلوا، أولئك يتلبطون في الغرف العلا من الجنة، يضحك إليهم ربك، فإذا ضحك ربك إلى عبدٍ في موطن فلا حساب عليه).
كذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله ضحك من صنيع فلانٍ وفلانة لما آثرا الضيف فقدما له طعام الأطفال، وباتا هما وأولادهما جائعين) إلى غير ذلك من النصوص الشرعية التي فيها إثبات الضحك، وهو صفة لله عز وجل نثبتها له كما يليق بجلاله وعظمته، ولا نحرفها ولا نلعب بها، ولا نقول: الضحك بمعنى الرضا، صحيح أن الله إذا ضحك من شيء فهو يدل على رضاه سبحانه وتعالى، لكن ليس الضحك هو الرضا، وإنما من آثار صفة الضحك الرضا.
فإذا رأيت في كلام بعض المؤلفين تفسير ضحك الله عز وجل بأنه الرضا فاعلم بأنه تأويلٌ منبوذ، وأنه تحريفٌ في الواقع، وقد جاء في الحديث الصحيح أيضاً: (إن الله سبحانه وتعالى ينشئ السحاب، فينطق أحسن النطق، ويضحك أحسن الضحك) وقد فسَّره ابن كثير رحمه الله في تفسيره لما تعرض للحديث الذي رواه أحمد هذا بأن نطق السحاب وضحكه هو البرق والرعد.(285/3)
حكم الضحك
أما بالنسبة للضحك فلا شك أن الإكثار منه مذموم شرعاً، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الكسوف: (ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد! والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً).
إذاً: حال المؤمن الجاد المتصل قلبه بالله، المستحضر لعظمته سبحانه وتعالى، الذي يتذكر ما في اليوم الآخر وما يحدث يوم القيامة من الأهوال، ويعرف شدة عذاب النار لا يكثر من الضحك، فإننا ما خلقنا للضحك واللهو واللعب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً حكم كثرة الضحك وهو يوصي أبا هريرة: (كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً، وأقلّ الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب).
هذا الحديث يبين حكم الضحك، حتى ذكر ابن النحاس رحمه الله في كتابه العظيم تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين، قال في تعداد الصغائر -لأنه ذكر فصلاً يتعلق بالكبائر وفصلاً يتعلق بالصغائر- ومنها -من الصغائر-: كثرة الضحك بلا سبب، كذا عدها العلماء من الصغائر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: (إياك وكثرة الضحك! فإنه يميت القلب)، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو خير البشر متصلاً قلبه بربه، فكان لا يُكثر من الضحك، ولا يقهقه كما يفعل كثيرٌ من الناس، بل كان عليه الصلاة والسلام وقوراً متزناً هادئاً، فقد جاء في صحيح مسلم، عن جابر بن سمرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان طويل الصمت، قليل الضحك) وهاتان صفتان ينبغي أن يتخلق بهما المسلم الجاد، ولا شك أن هذا يعود إلى تقدير وتذكر ما خلق الإنسان من أجله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] وتصف عائشة رضي الله عنها ضحك النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح الإمام البخاري، قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً حتى أرى منه لهواته، وإنما كان يتبسم).
وجاء في رواية أخرى: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً قط حتى ترى لهواته).
واللهاة: شيء في الفم، تظهر إذا أغرق الإنسان في الضحك، فانفتح فمه من شدته، فتظهر هذه اللهوات، ولذلك فإن الإقلال منه والاقتصاد وجعل أكثره تبسماً هو السنة.
وكذلك فإن الضحك منه ما يكون كفراً كما إذا اشتمل على استهزاءٍ بشيءٍ مما أنزله الله سبحانه وتعالى، فإذا ضحك سخرية مما أنزله الله، أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو من شخص النبي صلى الله عليه وسلم فلا شك أنه كافر، وقد أتاك نبأ الكفار من قريش لما اجتمعوا عند الكعبة والنبي صلى الله عليه وسلم قائمٌ يصلي، قال قائلٌ منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي -انظر كيف يصفون النبي صلى الله عليه وسلم- أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم -أشقى القوم- ابن أبي معيط، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ساجداً، فضحكوا حتى مال بعضهم على بعضٍ من الضحك.
وفي رواية للبخاري أيضاً: فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض حتى جاءت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم فأزالته عن ظهره، ثم أقبلت عليهم تسبهم من شجاعتها بالرغم من صغرها رضي الله عنها.
ومن الأمور المتعلقة بآداب الضحك: أنه لا يجوز الكذب لإضحاك الناس، كما يفعل كثيرٌ من المضحكين الذين همهم إضحاك القوم، فإنهم يكذبون لأجل ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الحسن الذي رواه أحمد والترمذي وغيرهما: (ويلٌ للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويلٌ له ويلٌ له).
وبهذا تعلمون شيئاً من الأضرار الشرعية الناجمة عما يسمونه اليوم في عالم الفن والمسرحيات (بالكوميديا) الذي من أجله يعملون الأفلام والمسرحيات المضحكة، والغرض منها إضحاك الناس؛ فيكذبون لأجل ذلك، وكثيراً ما يستهزئون بالدين، أو بأسماء الله سبحانه وتعالى، يحرفون فيها، أو يلمزون المطوعين من المؤمنين من عباد الله الصالحين، ولا شك أن هذا كفر.
كثير من المسرحيات التي صدرت مؤخراً فيها هذا الكفر وهي في قالب (الكوميديا)، ثم لو قلنا: إنها لا تشتمل على الكفر فهي تشتمل على الكذب، فإن فيها كثيراً من الكذب، ثم إن قلنا: إنها سالمة من الكذب، فإن مبناها على إضحاك الناس ضحكاً متوالياً حتى أن بعضهم من شدة الضحك قد يُلقى على الأرض، وتعلو أصوات القهقهات من المتفرجين، فهي تقسي قلوب جميع الناظرين إليها، ولا شك أن كثرة الضحك تميت القلب.
وبذلك نعلم مخالفة هذه المسرحيات والأفلام الكوميدية لآداب الشريعة الإسلامية، ولذلك يقوم القائم منها وبطنه موجوعٌ من شدة الضحك، وقد علا قلبه غلاف سميكٌ من الران والغفلة التي نجمت عن مشاهدة هذا الفيلم أو المسرحية، وما عُهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحداً من أصحابه كانوا يجلسون مجلساً كله ضحك، من أوله إلى آخره، يجمعون به سائر الطرف وسائر الأشياء المضحكة ويعملون مجلساً للضحك، فبهذا يُعلم بأن هذه الأشياء كثيرٌ منها محرم والباقي مكروه.(285/4)
صفة ضحك النبي صلى الله عليه وسلم
الآن نتعرف على صفة ضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه أنه قال: (ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ومن طريقٍ أخرى عنه قال: (ما كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسماً)، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، لا رآني إلا ضحك) أي: تبسم، لأن تبسمك في وجه أخيك صدقة، وقد قلنا سابقاً: إن الضحك يُطلق على التبسم، وإن كل تبسمٍ في اللغة هو ضحك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أفصح خلق الله، وأعذبهم كلاماً، وأسرعهم أداءً، وأحلاهم منطقاً، قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في فصلٍ يتعلق بهديه صلى الله عليه وسلم في كلامه وسكوته وضحكه: "وكان يضحك مما يُضحك منه، وهو مما يُتعجب من مثله ويستغرب"، كان يضحك من الشيء الذي يدعو للضحك، لكن كان غالب ضحكه عليه الصلاة والسلام تبسماً، والأشياء التي يُضحك منها فسرها رحمه الله بقوله: "وهو مما يتعجب من مثله ويستغرب"، وستأتي شواهد لهذا.
وعقد الترمذي رحمه الله في كتاب الشمائل المحمدية: باب ما جاء في ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكر بعض الأحاديث الصحيحة منه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مما جاء عنه أنه ربما جلس في مجلسٍ وفيه بعض أصحابه، فذكروا أشياء مما يُضحك منها فتبسم صلى الله عليه وسلم، كما جاء في صحيح مسلم: عن سماك بن حرب قال: قلت لـ جابر بن سمرة: (أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم كثيراً، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون) أي: حصل في بعض المجالس أنهم كانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم.
مثال على هذه الأشياء: أنه ربما ذكروا قصة الرجل الذي كان يجعل صنماً من تمرٍ يزعم أنه إلهه فأينما حل وارتحل جعله معه، وأنزله معه يسجد له، فإذا جاع أكل منه، فهذا مما كان يتبسم منه صلى الله عليه وسلم، وربما كان في بعض أصحابه أناس من الظرفاء الذين عندهم طبعٌ فيه مزاحٌ وظرفٌ، فكان عليه الصلاة والسلام يضحك مما يحصل منهم من هذه الظرف، كما جاء في صحيح البخاري من حديث عمر بن الخطاب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم) فإذا وجد في طلاب أو جلساء العالم من عنده روح الدعابة والطرفة، فإذا حصل عند العالم أو هذا الشخص القدوة شيءٌ من الضيق أدخل على نفسه شيئاً من السرور بإضحاكه بحق، وهذا لا بأس به.(285/5)
أسباب الضحك
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد: وللضحك أسبابٌ عديدة هذا أحدها وهو الضحك مما يتعجب منه ويُستندر.
الثاني: ضحك الفرح: وهو أن يرى ما يسره أو يباشره -وسيأتي أمثلة لهذا إن شاء الله-.
والثالث: ضحك الغضب: وهو كثيراً ما يعتري الغضبان إذا اشتد غضبه، وسببه تعجب الغضبان مما أورد عليه الغضب، وشعور نفسه بالقدرة على خصمه، وأنه في قبضته، وقد يكون ضحكه لملكه نفسه عند الغضب وإعراضه عمن أغضبه، وعدم اكتراثه به، ومن الأشياء التي كان النبي صلى الله عليه وسلم في المناسبات يتبسم فيها تبسم المغضب قصة كعب بن مالك رضي الله عنه لما جاءه متخلفاً بعدما رجع النبي عليه الصلاة والسلام من الغزو، قال كعب: (فلما رآني تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المغضب) فإذاً: التعبير عن الغضب يكون أحياناً بالابتسامة.
وهذه بعض أسباب التبسم أو الضحك، وهي: مما يتعجب منه، وللفرح، وتبسم المغضب، وقد يكون -كما ذكرنا- ضحك سخرية واستهزاء وقد يكون كفراً، وقد يكون من قلة الأدب إذا كان ضحكاً بلا سبب.
ومن الأمور التي جاءت الشريعة فيها بالندب إلى المضاحكة: ملاعبة الزوجة، والبكر بالذات، كما جاء في صحيح البخاري في عدة مواضع من حديث جابر لما تزوج ثيباً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تزوجت يا جابر؟ فقلت: نعم.
فقال: بكراً أم ثيباً؟ قلت: بل ثيباً، قال: فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك؟) الحديث وهذا هو الشاهد منه، أن ملاعبة الزوجة ومضاحكتها لا شك أنها من الشرع الحنيف، ومن الأمور المحمودة.(285/6)
بعض كلام العلماء في الضحك
ومما أورده أهل العلم في الضحك:(285/7)
كلام الإمام الماوردي في الضحك
ما قاله الإمام الماوردي رحمه الله في كتاب: أدب الدنيا والدين تحت عنوان: (آفة الضحك) قال: "وأما الضحك فإن اعتياده شاغلٌ عن النظر في الأمور المهمة"، أي: أن الإنسان الذي يكثر الضحك إنسان غير جاد، وكثرة الضحك من علامات عدم الجدية المطلوبة من المسلم.
وقال في مفاسد الضحك: "والإكثار منه مذهلٌ عن الفكر في النوائب الملمة"، أي: إذا نزل بالإنسان نائبة ملمة وصار يُكثر من الضحك، لم يستطع فكره أن يجتمع لأجل مواجهتها، "وليس لمن أكثر منه هيبةٌ ولا وقار"، وهذه مضرة ثانية، فالشخص المكثر من الضحك يزول وقاره وهيبته من نفوس الناس، ولذلك يجترئون عليه، لما صار مكثراً للضحك، وتسقط هيبته من قلوب الناس، ولا شك أن هذه السلبية قاتلة لأثر الداعية على الآخرين، فإن الداعية لا ينبغي أن يكون من المكثرين من الضحك، فإن كثرة الضحك منه تزيل أثر كلامه أو لا تجعل لكلامه أثراً ووقعاً في قلوب الناس، وغاية ما يكون مع المدعو أنه يتندر معه ويأتي بالطرف ونحو ذلك.
نعم! إن الإتيان بالطرف أحياناً بأدبٍ وحكمة لها فوائد، منها: إيناس الشخص الآخر، وملاطفته للدخول إلى قلبه، لكن إذا كان الهدف إنما هو ضحك في ضحك، فأي شيءٍ هي الدعوة؟ هذا ما صار عبوراً إلى قلبه، بل صار كل شيءٍ هو الضحك.
ولذلك تجد بعض الذين يؤدون الأدوار الهزلية حتى من بعض المنتسبين إلى التدين يَسقط شيءٌ من هيبتهم من قلوب المشاهدين والحاضرين، لأجل أن الدور الهزلي لا يناسب الشخصية الجادة.
قال: "وليس لمن أكثر منه هيبة ولا وقار، ولا لمن وسم به خطر ولا مقدار"، لأن الناس يقولون: هذا مضحك القوم، اذهب إلى فلان يضحكك، اذهب إلى فلان تجلس إليه يوسع صدرك بالنكت والطرائف، ويا ليتها نكتاً يستفاد منها.
روى أبو إدريس الخولاني، عن أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه)، وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] قال: [الصغيرة الضحك، والكبيرة القهقهة].
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [من كثر ضحكه قلت هيبته].
وقال علي بن أبي طالب: [إذا ضحك العالم ضحكة مج من العلم مجة]، وقيل في منثور الحكم: ضحكة المؤمن غفلة في قلبه.
والقول في الضحك كالقول في المزاح: إن تجافاه الإنسان بالكلية -لا يضحك أبداً- نُفر عنه وأُوحش منه، وإن ألفه دائماً يضحك، كان حاله ما وصفناه، أي: من عدم الهيبة والوقار، وعدم اجتماع الفكر للأشياء المهمة، وأنه يلهي عن الأشغال والأمور المهمة.
قال: "فليكن بدل الضحك عند الإيناس تبسماً وبشرة، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [التبسم دعابة]، وهذا أبلغ في الإيناس من الضحك -لأن التبسم يؤنس الشخص أكثر من الضحك- الذي قد يكون استهزاءً وتعجباً، وليس ينكر منه المرة النادرة"، كمن يضحك نادراً، لا بأس لطارئٍ استغفل النفس عن دفعه، فبعض الأحيان تهجم الضحكة فلا يستطيع مدافعتها فهي تأتي فجأةً.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملك الخلق لنفسه قد تبسم حتى بدت نواجذه، وإنما كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي ذكرناه.(285/8)
كلام صاحب المنهج المسلوك في سياسة الملوك في الضحك
قال صاحب المنهج المسلوك في سياسة الملوك: "اعلم أن كثرة الضحك تضاهي المزاح في المذمة والقبح، ولا تقتضيه حال الملوك وأرباب المناصب؛ لما به من زوال الهيبة، وذهاب الوقار، وقلة الأدب، ومن أكثر من شيءٍ عُرف به، ولكن لا بد أن يرى الإنسان أو يسمع ما يغلب عليه الضحك منه، أو تمسه الحاجة إليه، لإيناس الجليس، فينبغي إذا طرأ شيءٌ من ذلك أن يجعله تبسماً"، إذا جاء الضحك وطرأ عليك فاجعله تبسماً من غير قهقهة واسترسال، وبالنسبة للذي لا يضحك أبداً أو يتطرف في القضية ويقول: ينبغي علينا ألا نضحك ألبتة، ولذلك دائماً يكون عبوساً وكالحاً، ويكون دائماً ممن لا يلقى الناس بوجهٍ سهلٍ لينٍ، ولا يتبسم مطلقاً، ويعتبر ذلك من علامات الجدية، وأنه من الوقار ومن السمت، هذا كله من تسويلات الشيطان.(285/9)
كلام الإمام الذهبي في الضحك
هناك تعليق لطيف للذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء في ترجمة يحيى بن حماد رحمه الله تعالى، قال: قال محمد بن النعمان بن عبد السلام: لم أر أعبد من يحيى بن حماد وأظنه لم يضحك، قلت - الذهبي -: الضحك اليسير والتبسم أفضل، وعدم ذلك من مشايخ العلم على قسمين، فالمشايخ الذين لا يضحكون ويتبسمون: أحدهما: يكون فاضلاً لمن تركه أدباً وخوفاً من الله، وحزناً على نفسه المسكينة، فإذا كان هذا لا يضحك خوفاً من الله وحزناً على نفسه المسكينة فهذا معه الحق.
والثاني: مذموم لمن فعله حمقاً وكبراً وتصنعاً.
إذاً: الذي يتصنع عدم الضحك ويريد بذلك وقاراً دائماً ونحو ذلك، وربما صنعه كبراً، أي أنه لا يضحك مما يضحك منه الناس، ومما يتندر منه، ومن الأشياء الطريفة بالحق، ويزعم أنه لا يتأثر بها فلا يبدي أي نوع من أنواع الابتسامة فهذا إنسان متصنع للهيبة والوقار، وتصنعه ممجوجٌ مذمومٌ.
إذاً: التكلف الموجود في بعض النفوس من عدم الضحك زعماً للوقار تطرفٌ مقيتٌ، كما أن من أكثر الضحك استخف به -ما صار له قيمة عند الناس- ولا ريب أن الضحك في الشباب أخف منه وأعذر في الشيوخ، هذه فائدة أخرى، أي: أنه ينبغي على من تقدمت به السن أن يراعي سنه وقربه من القبر، وأن الشاب ربما كان فيه من المرح وطبيعة روح الشباب ما يجعله يقع في هذا، لكن الشيخ الكبير لا ينبغي له الإكثار مثلما يقع من الشاب، ليس بنفس الدرجة هذا حكم السن.
قال: "وأما التبسم وطلاقة الوجه فأرفع من ذلك كله"، أي: التبسم وطلاقة الوجه لا علاقة لها بمسألة القهقهة والإغراق في الضحك، التبسم وطلاقة الوجه سنة، وإدامة التبسم سنة، "قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تبسمك في وجه أخيك صدقة)، وقال جرير: (ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم) فهذا هو خُلق الإسلام، فأعلى المقامات من كان بكَّاءً بالليل، بسَّاماً بالنهار"، هذه عبارة في غاية الجودة، فأعلى مقامات المسلم من كان بكَّاءً بالليل بسَّاماً بالنهار، هذا هو المطلوب.
وقال رحمه الله: "إذا كان الإنسان طبعه مرح -طبعه أنه يكثر من الضحك- ينبغي أن يقصر من ذلك"، لا يقول هذا طبعي اقبلوني على ما أنا عليه، ولا تلوموني، لا.
بل ينبغي عليه أن يعالج نفسه ويجاهدها ينبغي لمن كان ضحوكاً بساماً أن يقصر من ذلك ويلوم نفسه حتى لا تمجه الأنفس، وينبغي لمن كان عبوساً منقبضاً أن يتبسم، هذه عبارات تربوية من الإمام الذهبي رحمه الله.
إذا وجدنا إنساناً مفرطاً في المسألة نقول: جاهد نفسك ولومها حتى لا تمجك الأنفس، ونقول للشخص العابس المنقبض: تبسم وأحسن خُلقك "وينبغي لمن كان عبوساً منقبضاً أن يتبسم ويحسن خُلقه ويمقت نفسه على رداءة خلقه، وكل انحرافٍ عن الاعتدال فمذموم كما قال الشاعر:
كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ
" القصد: الوسط، وكلا الطرفين مذموم؛ الإكثار من الضحك مذموم، ودوام العبوس مذموم، "ولا بد للنفس من مجاهدة وتأديب".
انتهى كلامه رحمه الله، كانت هذه عبارة نفيسة علقها الذهبي في ترجمة يحيى بن حماد رحمهما الله تعالى.
وينبغي أن يعذر من كان عنده شيءٌ من هذه الجبلة أكثر من الذي يتصنع الضحك ويقهقه، فبعض الناس وصل بهم التقليد إلى درجة من السوء أنه صار يقلد في ضحك الممثلين، وينظر من أعلى الناس صوتاً في الضحك فيقلده، وكيف يقهقه فلان فيقهقه مثله!! وهذا لا شك أنه من الأمور المذمومة، وقد ذكر الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي الوليد الباجي في كتاب فرق الفقهاء، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي الوراق -وكان ثقةً متقناً- أنه شاهد أبا عبد الله الصوري وكان فيه حسنُ خلقٍ ومزاحٌ وضحكٌ، لم يكن وراء ذلك إلا الخير والدين، ولكنه كان شيئاً جبل عليه -أي: هذا العالم كان عنده شيءٌ من هذه الجبلة فهو مرحٌ أو يغلب عليه الضحك، لكنه لا يتقصد ذلك أو يتكلفه أو يكثر منه رغبة، لا.
لكن قد يكون عنده شيءٌ من هذه النفسية التي يهجم عليها الضحك هجوماً قوياً يصعب مدافعته- وكان فيه حُسن خلقٍ ومزاح وضحك، لم يكن وراء ذلك إلا الخير والدين، ولكنه كان شيئاً جُبل عليه، ولم يكن في ذلك بالخارق للعادة، فقرأ يوماً جزءاً على أبي العباس الرازي وعَنَّ له أمرٌ ضَحَّكَهُ، وكان بحضرة جماعة من أهل بلده فأنكروا عليه، وقالوا: هذا لا يصلح ولا يليق بعلمك وتقدمك أن تقرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم وأنت تضحك وكثّروا عليه، وقالوا: شيوخ بلدنا لا يرضون بهذا، فقال: ما في بلدكم شيخٌ إلا يجب أن يقعد بين يدي ويقتدي بي، ودليل ذلك: أني قد صرت معكم على غير موعد، فانظروا إلى أي حديث شئتم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقرءوا إسناده لأقرأ متنه، أو اقرءوا متنه حتى أخبركم بإسناده -أي: الإكثار عليه والتشنيع والتعنيف من أجل هذه الخصلة الجبلية وأنه حصلت منه مرة بمجلس ونجعل من الحبة قبة هو أيضاً أمر مجافٍ للعدل- ثم قال الباجي: لزمت الصوري ثلاثة أعوام فما رأيته تعرض لفتوى، أي: كان ورعاً عن الفتوى، قلت - الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي عبد الله الصوري -: كان من أئمة السنة وله شعرٌ رائق، وقد مات الصوري سنة (441هـ).(285/10)
أحاديث تبين هديه عليه الصلاة والسلام وأدبه في الضحك
والآن لنتجه إلى أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الضحك في مناسبات جاء فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحك، وننظر من خلال هذه الأحاديث هديه عليه الصلاة والسلام وأدبه في ذلك.
1 - عقد البخاري رحمه الله في كتاب الأدب فصلاً بعنوان: باب التبسم والضحك، وقالت فاطمة عليها السلام: (أسر إلي النبي صلى الله عليه وسلم فضحكت).
وقال ابن عباس: [إن الله هو أضحك وأبكى] أي: أن الله أنشأ هذا في الإنسان، وأنه قد يضحك اليوم ويبكي غداً، بل إنه يضحك في لحظة ويبكي في أخرى بعدها، أو العكس بحسب الدواعي والدوافع كما حصل لـ فاطمة رضي الله عنها كما سيأتي، يضحك الإنسان أحياناً في اليوم الواحد ويبكي، فالمشاعر والأحاسيس تتغير.
قال: عن عائشة رضي الله عنها: (أن رفاعة القرظي طلق امرأته فبت طلاقها، فتزوجها بعده عبد الرحمن بن الزَبِير فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة: يا رسول الله! إنها كانت عند رفاعة فطلقها ثلاث تطليقات فتزوجها بعده عبد الرحمن بن الزَبِير، فقالت: وإنه والله ما معه -يا رسول الله! - إلا مثل هذا الهدبة هذبة أخذتها من جلبابها، قال: وأبو بكر جالسٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن سعيد بن العاص جالسٌ بباب الحجرة ليؤذن له، فطفق خالد ينادي أبا بكر ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول صلى الله عليه وسلم وما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم، ثم قال: لعلكِ تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا.
حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك).
فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءت هذه المرأة وذكرت هذا الكلام ومقصود المرأة أنه لا يجامعها وأنه ليس له قدرة على الجماع، وأن ما معه إلا مثل هدبة الثوب، فهو غير قادر على الجماع.
ثم جاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنها تكذب، وإنه ينفضها نفض الأديم، المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع تعبير المرأة ضحك وتبسم، لأنه فَهِمَ مقصودها، وأنه ضحك ليبين أنه يفهم ماذا تريد؟ ولذلك قال: (لا.
حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) أي: تريدين الطلاق من زوجك الجديد لترجعي لزوجك الأول، لا.
حتى يقع الجماع في الزواج الجديد، لأنه لا يجوز العودة إلى الزوج الأول الذي طلق ثلاثاً وبعده تزوجت ثانٍ إلا إذا حصل وقاعٌ من الثاني في الزواج الثاني.
2 - ذكر البخاري في هذا الباب أيضاً حديث عائشة أنها قالت: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم)، وهناك أحاديث: (فضحك حتى بدت نواجذه) والنواجذ: جمع ناجذة وهي الأضراس التي لا تظهر إلا إذا كان الضحك فيه شيءٌ من السعة، لكن هل هناك تنافي بين حديث عائشة: (ما رأيته مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته)، وبين هذا الحديث: (ضحك حتى بدت نواجذه)؟
الجواب
إن المثبت مقدم على النافي، هذا من جهة، وأقوى من ذلك كما رجح ابن حجر رحمه الله أن الذي نفته عائشة غير الذي أثبته أبو هريرة، فضحك حتى بدت نواجذه لا يصل إلى درجة القهقهة، مستجمعاً ضاحكاً -أي: يقهقه- ربما ينقلب منها الشخص، لا.
وقال ابن حجر بعد أن استعرض عدداً من الأحاديث -كما سنمر عليها إن شاء الله- قال: "والذي يظهر من مجموع الأحاديث أنه كان في معظم أحواله لا يزيد على التبسم، وربما زاد على ذلك فضحك، والمكروه من ذلك إنما هو الإكثار منه، أو الإفراط لأنه يُذهب الوقار.
وقال ابن بطال: والذي ينبغي أن يُقتدى به من فعله ما واظب عليه في ذلك".
3 - وأتى البخاري رحمه الله كذلك في هذا الباب بحديث أم سلمة: (أن أم سليم قالت: يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة غسلٌ إذا هي احتلمت؟ قال: نعم.
إذا رأت الماء، فضحكت أم سلمة، فقالت: أتحتلم المرأة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فبم شبهها الولد؟!).
إذاً: المرأة تحتلم ويكون لها ماء، وإلا كيف يكون الشبه لها؟ يخرج الرجل لأعمامه إذا لم يكن لها ماء يعلو ماء الرجل أو يسبق ماء الرجل، فيحصل التذكير أو التأنيث أو يحصل أن يخرج لأعمامه أو لأخواله، فإذاً لا يُقال لها: فضحتِ النساء لإنها جاءت تسأل، وهنا ضحكت أم سلمة، قال ابن حجر: "والغرض من إيراد البخاري لهذا الحديث؛ لوقوع ذلك بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليها ضحكها، وإنما أنكر عليها إنكارها احتلام المرأة، فأثبت أنها تحتلم".
وأما حديث عائشة: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته) فذكر رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث أن اللهوات جمع لهاة: وهي اللحمة التي في أعلى الحنجرة من أقصى الفم، أي: لا يكون ضحكاً تاماً، مقبلاً بكليته على الضحك بحيث تبدو اللهاة التي في آخر الفم.
4 - ومن الأحاديث التي كان فيها ضحك النبي صلى الله عليه وسلم معبراً عن شيءٍ عظيم هذا الحديث، وهو آخر رجل يدخل الجنة، قص النبي صلى الله عليه وسلم قصة آخر رجل يدخل الجنة، يأتي وقد أخذ الناس أماكنهم، ويأتي ويقول: قربني إلى الجنة أبعدني عن النار اجعلني عند الباب أدخلني قال: (فيسمع أصوات أهل الجنة، فيقول: أي رب! أدخلنيها، فيقول: يا بن آدم! ما يَصْرِيْنِي منك أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟) الناس قد أخذوا أخذاتهم واعطياتهم، وهذا الرجل لم يكن عنده أمل أن يدخل الجنة، وإنما يسأل الله، والله يقربه خطوة بعد أخرى حتى يدخله الجنة، ويقول له: تريد أن أعطيك ملكاً مثل الدنيا مرتين؟ (قال: يا رب! أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟) فهذا الرجل ما ظن أنه يصل ويحصل على هذا الكرم، فيقول لله: (أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فضحك ابن مسعود -راوي الحديث- فقال: ألا تسألوني مم أضحك! فقالوا: ممَّ تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر).
فالله عز وجل ضحك من حالة عبده، والنبي صلى الله عليه وسلم ضحك لأن الله ضحك، وأثبت ضحك الله عز وجل، وابن مسعود ضحك، وهناك أحاديث اسمها (الأحاديث المسلسلة) وهذا مسلسل بالضحك، مثل حديث علي بن أبي طالب في ركوب الدابة فإنه ضحك.
5 - وكذلك من الأحاديث التي كان الضحك فيها معبراًُ عن شيءٍ مهم، ولم يكن ليضحك النبي عليه الصلاة والسلام عبثاً، ما جاء في صحيح البخاري في كتاب التوحيد: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه إذا كان يوم القيامة جعل الله السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك أنا الملك فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه تعجباً وتصديقاً لقوله) لقول هذا الحبر اليهودي.
فكان ضحك النبي عليه الصلاة والسلام هنا تعجباً وتصديقاً للحبر، ونفاة الأصابع نفاة الصفات يقولون: ضحك سخرية من هذا النقص الذي ألحقه الحبر بالله، والحديث يقول: تصديقاً لقول الحبر، كيف نقول: إنه ضحك منه لأنه نسب لله الأصابع، كما يقول نفاة الصفات؟! 6 - وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضحك من الفرح والاستبشار، فإذا بُشر بشيءٍ حسن ضحك، كما جاء في صحيح البخاري في كتاب الجهاد والسير، من حديث أم حرام بنت ملحان: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل عليها فتطعمه -وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت - فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك -وغالب ضحكه عليه الصلاة والسلام تبسم- فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناسٌ من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة فقلت: يا رسول الله! أدع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول صلى الله عليه وسلم أن يجعلها الله منهم).
7 - ومن البشائر التي أضحكت النبي عليه الصلاة والسلام قصة الإفك، بعد الغم العظيم، والهم الطويل، والعذاب والأذى الذي لقيه النبي صلى الله عليه وسلم من قبل المنافقين شهر كامل هو وأهل بيته يعيشون في شدة وغم، أخذه ما كان يأخذه من البرحاء لما نزل الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق -اللؤلؤ- في يومٍ شات، فلما سُري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، وهذا ضحك استبشار وفرحة بالوحي الذي جاء مفرجاً للهم العظيم الذي تراكم طيلة هذه الفترة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيته، فكان أول كلمةٍ تكلم بها أن قال لـ عائشة: (احمدي الله، فقد برأك) الحديث.
8 - وضحك النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً لما بشره الله سبحانه وتعالى بنهر الكوثر، ولذلك جاء عن أنس قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذ أغفي إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت علي آنفاً سورةٌ، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر(285/11)
ضحك الأنبياء والصالحين
الأنبياء عليهم السلام كان لهم أدبٌ في الضحك، (رأى النبي عليه الصلاة والسلام آدم وعن يمينه أسودة وعن يمينه أسودة، فسأل عن ذلك؟ فقال جبريل: هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم هم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، -أي: أن آدم مسرور أن هناك من ذريته بعض العدد يدخلون الجنة- وإذا نظر قبال شماله بكى).
وكذلك الرجل الصالح الذي يضربه الدجال فيفلقه نصفين، وهو رجل مؤمن، شاب من أهل المدينة، من خيرة أهل الأرض، ومن أفضل الشهداء في ذلك المشهد، فإذا أرجعه الدجال مرة أخرى يُقبل ووجهه يتهلل ضاحكاً.(285/12)
مواقف من ضحك الصحابة
ومما حصل للصحابة أيضاً من المناسبات التي ضحكوا فيها، وهو ضحك يدل على معنى، ويدل على مغزى، وله فائدة: 1 - ما جاء في صحيح مسلم في كتاب الحج، قال زيد بن ثابت لـ ابن عباس: تُفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ -أنت يـ ابن عباس تفتي أن الحائض تعود دون طواف الوداع؟ - فقال: إن لم تصدق فسل فلانة الأنصارية: هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس يضحك، وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت، أي: تعجب منه رغم صغره كيف أصاب الحق! أو أنه كان يقول: كلامك صحيح وأنا لم أكن أعلم به.
2/ وكذلك ما كان من ضحك بعض الصحابة الذين يحدثون بأحاديث من عجلة بعض طلابهم: قلنا: يا أبا سعيد، جئناك من عند أخيك أنس بن مالك فلم نر مثلما حدثنا في الشفاعة، فقال: هي هي -أي: هاتوا الحديث، ما الذي فعل؟ - قالوا: فحدثناه بالحديث، فانتهى إلى هذا الموضع، فقال: هي هي، فقلنا: لم يزد لنا على هذا، فقال: لقد حدثني وهو جميعٌ منذ عشرين سنة فلا أدري أنسي أم كره أن تتكلموا، قلنا: يا أبا سعيد! فحدثنا، فضحك وقال: خلق الإنسان عجولاً ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم، وحدثهم بالحديث.
3/ ولما استغرب بعض الناس من عائشة لما قالت: (كنا نرفع الكراع فنأكله بعد خمسة عشر يوماً -يدخرون الكراع إلى وقت الجوع- قيل: ما اضطركم إليه؟ فضحكت -لعدم تصورهم للموقف- قالت: ما شبع آل محمدٍ صلى الله عليه وسلم من خبز بر مأدومٍ ثلاثة أيام حتى لحق بالله).
4 - وهذه فاطمة رضي الله عنها بكت وضحكت، أسر لها النبي عليه الصلاة والسلام حديثاً فبكت لما أخبرها أن أجله قريب، وضحكت لما أسر لها أنها سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء أهل الجنة، وأنها أول أهل بيته لحوقاً به، فضحكت فرحاً رضي الله عنها.
5 - وحدثت عائشة رضي الله عنها ذات مرة بحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض نسائه -أبهمت- ويخرج إلى الصلاة بدون أن يتوضأ، فقيل لها: ما هي إلا أنت هذه المرأة -التي أبهمتها هي أنت- فضحكت عائشة رضي الله عنها) والحديث رواه أبو داود وهو حديثٌ صحيح.
6 - وكذلك ما حصل من ضحك الصحابة لما رأوا حماراً وحشياً وهم محرمون ومعهم أبو قتادة غير محرم، قال أبو قتادة: [فنظرت فإذا أنا بحمارِ وحشي، فحملت عليه فطعنته فأصبته واستعنت بهم أن يمسكوه معي فأبوا أن يعينوني فأكلنا من لحمه معاً إلخ] وقد عنون له البخاري، فقال: بابٌ إذا رأى المحرمون صيداً فضحكوا ففطن الحلال، أي: أن المحرم إذا نبه الحلال بالضحك أو التبسم على صيدٍ موجود لم يره الحلال، فصاده الحلال فأكل منه المحرم فلا بأس بذلك.
7/ ومن المواقف الطريفة التي حصلت في السنة: ما جاء في صحيح مسلم في كتاب الأشربة: لما كان النبي عليه الصلاة والسلام والمقداد وآخر -ثلاثة- مشتركين في إناءٍ من لبن يحلب لهم فيشرب كل واحد منهم الثلث، يقول المقداد: فأتاني الشيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي، فقال: محمدٌ يأتي الأنصار فيتحفونه، ويصيب عندهم، ما به حاجة إلى هذه الجرعة، فأتيتها فشربتها -قضى على نصيب النبي صلى الله عليه وسلم- فلما أن وغلت في بطني وعلمت أنه ليس إليها سبيل، قلت: ندمني الشيطان -هكذا الشيطان يفعل، يسول القضية ثم يُنَدِّم الشخص على الوقوع فيها، فقال: ويحك! أشربت شراب محمدٍ فيجيء فلا يجده فيدعو عليك فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك، وعلي شملةٌ إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرجت قدماي وجعل لا يجيئني النوم، وأما صاحباي فشربا نصيبهما وناما، ولم يصنعا ما صنعت، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسلم كما كان يسلم، ثم أتى المسجد فصلى، ثم أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيئاً، فرفع رأسه إلى السماء، فقلت: الآن يدعو عليّ فأهلك، فقال: (اللهم أطعم من أطعمني واسق من سقاني) قال: فعمدت إلى الشملة فشددتها عليّ وأخذت الشفرة وانطلقت إلى الأعنز أيها أسمن فأذبحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هي حافل وإذا هن حفلٌ كلهن، ووجدتها كلها مليئة فعمدت إلى إناءٍ لأهل محمدٍ صلى الله عليه وسلم ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه، فحلبت فيه حتى علته رغوة -امتلأ- فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أشربتم شرابكم الليلة؟ قال: قلت: يا رسول الله! اشرب فشرب ثم ناولني، فقلت: يا رسول الله! اشرب فشرب ثم ناولني، فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي وأصبت دعوته ضحكت حتى ألقيت على الأرض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إحدى سوءاتك يا مقداد!) الحديث.
فيكون هذا لو حصل مثل هذا الأمر الذي لا يتمالك فيه الإنسان نفسه، وهو خلاف الأولى أن يحدث، لكنه لم يكن في هذه الحالة يرتكب أمراً محرماً.(285/13)
النهي عن الضحك من الضرطة
وكذلك فإن الضحك قد يكون لتأليف الشخص أو إيناسه، وينبغي أن نعلم هنا أدباً هاماً جداً من آداب الضحك، وهو ما جاء في صحيح البخاري في حديث عبد الله بن زمعة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وعظهم في ضحكهم من الضرطة، وقال: لم يضحك أحدكم مما يفعل؟)، وجاء في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضحك من الضرطة) والضرطة: هي ما يخرج من الشخص من الفساء بصوت، فلو أن شخصاً سبقه الحدث في مجلس ولم يملك نفسه وتحرك بحركة، كان في بطنه شيء فخرج وله صوت، هل نضحك منه؟ لا.
كل الناس معرضون لذلك، أنت، وهو فيا أيها الضاحك! يمكن أن يقع منك هذا فلم تضحك من هذا الشخص الذي حصل منه؟ خصوصاً عندما يأتي من غير قصد، تحرك حركة فخرج منه أو تكلم كلمة، أو تنحنح فخرجت منه الضرطة، فلا ينبغي الضحك من هذا الشخص.(285/14)
حكم الضحك في الصلاة
وأخيراً: نختم الكلام في موضوع الضحك بمسألة فقهية وهي: الضحك في الصلاة.
إن الضحك بصوتٍ يفسد الصلاة عند جمهور الفقهاء إن ظهر حرفان فأكثر على مذهب كثيرٍ منهم، وقال بعضهم: إنها لا تبطل لأنها ليست بكلام، أما التبسم فلا يفسد الصلاة عند جمهور الفقهاء لأنه ليس بكلام.
أما بالنسبة للوضوء من الضحك فقد جاء حديثٌ ضعيفٌ جداً: (الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء)، وحديثٌ ضعيفٌ آخر: (من ضحك في الصلاة فليعد الوضوء والصلاة) لكن الصحيح وإن كان بعض الأحناف يقولون إلا أن الضحك لا ينقض الوضوء.
وإعادة الوضوء من القهقهة ومن الضحك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك نعلم أن الضحك لا ينقض الوضوء ولا القهقهة، لكن إذا قهقه الإنسان فجمهور الفقهاء على أن صلاته تبطل إذا صدر الصوت.(285/15)
علاج كثرة الضحك
علاج كثرة الضحك يكون بأمور، منها: أولاً: الإكثار من ذكر الله عز وجل.
ثانياً: تذكر عظمته.
ثالثا: تذكر اليوم الآخر.
رابعاً: أن يجاهد نفسه في كتم الضحك.
خامساً: ألا يكثر من مخالطة الشخصيات الهزلية.
سادساً: أن يساعده أصحابه على ذلك، لا يقولون: يا فلان، ما هي آخر نكتة؟ وأطرفنا، أو أضحكنا، وماذا عندك اليوم؟ بل عليهم أن يساعدوه على أن يكون جاداً، هذا ما ينبغي أن يكون.
ولعل تذكر الموت وما بعده من الأهوال مما يُعين على ذلك، والمسألة مسألة مجاهدة.
هذا ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا هادين مهديين، وأن يهدي بنا، وأن يتوب علينا أجمعين.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(285/16)
كمِّل شخصيتك
إكمال شخصية المسلم مطلب شرعي دلت عليه الدلائل من الكتاب والسنة.
وأحوال السلف الصالح، وتميزهم في ذلك واضح وجلي، لكن الواقع يشهد كثيراً من العيوب والنقائص لدى كثير من أفراد الأمة، وفي هذا الدرس بيّن الشيخ أهمية إكمال شخصية المسلم، كما تحدث عن ظاهرة ضعف الرجولة، إضافة إلى حاجة المسلم إلى التفاعل مع الواقع، مع بيان حاجة شخصية المسلم إلى العلم والعبادة والأخلاق.(286/1)
إكمال الشخصية المسلمة مطلب شرعي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فهذه فرصة طيبة أعبر لكم فيها عن سروري بلقائكم والحديث إليكم، وأنتم في هذه المدينة أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل مجلسنا هذا مجلساً نافعاً مباركاً، وأن يجعلنا ممن يذكرهم سبحانه وتعالى فيمن عنده، وأن يجعلنا من المتواصين بالحق والصبر، وأن يجعلنا من الصابرين والشاكرين والذاكرين الله كثيراً.
أيها الإخوة: هذا الحديث إليكم عن موضوع مهم، ولعل أهميته تكمن في الحاجة إليه في هذا العصر والزمان، الذي تدعو الحاجة فيه للتملي والتريث والتمعن في هذا الموضوع، والموضوع عن تكميل الشخصية الإسلامية.(286/2)
كمال الشريعة الإسلامية
الشخصية الإسلامية كاملة كما ورد في هذه الشريعة، والله سبحانه وتعالى أنزل هذا الدين كاملاً، وقال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] فقد كمل الله هذا الدين، والحمد لله أن شريعتنا شريعة كاملة.
ومن نعمة الله عز وجل علينا أننا وجدنا في هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، ودينها أتم الأديان، وشريعتها أكمل الشرائع، وشرائع الأنبياء من قبلنا بالنسبة إلى شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم شرائع ناقصة، وهي بالنسبة لكل أمة من الأمم كاملة لهم، لكن شرائعهم بالنسبة إلى شرائعنا ناقصة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وهذا هو المعنى المتضمن في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً، فأحسنها وأكملها وأجملها، وترك فيها موضع لبنة لم يضعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان، ويعجبون منه، ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة.
فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة) رواه الإمام أحمد وغيره، ورواه البخاري رحمه الله تعالى بلفظ: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة.
قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين) صلى الله عليه وسلم، فصارت هذه الشريعة هي أكمل الشرائع قاطبة من وجوه كثيرة ومتعددة، وشرائع الأنبياء من قبلنا منها ما كان فيها التركيز على الحلال والحرام كشريعة موسى، ومنها من كان فيه التركيز على أعمال القلوب كشريعة عيسى، لكن هذه الشريعة كاملة مكملة من جميع الجهات، فهي في الإيمان والعبادات والأعمال والمعاملات فيها ذكر وتبيان لكل شيء، والمسلم منا مطالب أن يتشبه بهذه الشريعة في كمالها، فيكمل شخصيته مما جاءت به هذه الشريعة.
وهذا المفهوم -مفهوم التكميل والإتمام- مفهوم إسلامي وشرعي، والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) فنحن إذن مطالبون بصياغة شخصياتنا على ضوء هذه الشريعة، وأن نتمم شخصياتنا من الوحي الذي جاء في هذا الدين، وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو نعيم رحمه الله عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه).(286/3)
تميز شخصية المسلم
الله سبحانه وتعالى أمرنا أن ندخل في السلم كافة، وأن نأخذ بجميع شرائع الإسلام وشعب الإسلام والإيمان، وأن نتمثل هذه الشريعة بجميع أبوابها، ولسنا مطالبين بالعلم فقط ولا بالعبادة فقط ولا بحسن الخلق فقط ولا بمعرفة الآداب والتمسك بها فقط، وإنما نحن مطالبون ومتعبدون بكل ذلك.
ينبغي أن تكون شخصية المسلم متميزة بالعلم والعبادة والخلق والأدب، وجميع هذه الأشياء موجودة متمثلة فيه، وانظر مثلاً إلى إخفاء ذكر بعض شعب الإيمان في الأحاديث، على أي شيء يدل؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة: فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) رواه مسلم وغيره.
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز) إذا أعطيت شاة عندك لرجل ليحتلبها وينتفع بها فترة من الزمن ثم يردها إليك، هذه تسمى منيحة العنز، وهي من أنواع الصدقات ومن أبواب الخير.
(أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة) ذكر ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث نقلاً عن ابن بطال رحمه الله: ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان عالماً بالأربعين المذكورة، وإنما لم يذكرها لمعنى هو أنفع لنا من ذكرها؛ وذلك خشية أن يكون التعيين لها مزهداً في غيرها من أبواب الخير، فإذاً ما ذكرت الأربعين لكي تحرص على تلمس الأربعين فتحرص على هذا الباب من أبواب الخير، وعلى هذا النوع من أنواع الصدقة، وعلى هذا المجال من مجالات العمل الصالح، رجاء أن تدرك هذه الأربعين، وهذا يدل على أنه ينبغي عليك أن تضرب بسهم في كل واد من أودية الخير، وأن تحرص على تكميل نفسك من جميع شعب الإيمان التي هي بضع وسبعون شعبة، ذكر لنا أعلاها وأدناها وعلينا أن نبحث عن الباقي ونتلمسه في النصوص الشرعية ونعمل به.
وهذه الأربعون كذلك مع أنها ليست من الأشياء الكبيرة كالصلاة والزكاة، لكن الذي يعمل بواحدة يرجو ثوابها عند الله، يصدق بموعودها يوعد بالجنة، إذاً المسألة مهمة، وسلعة الله غالية.(286/4)
كمال الشخصية في شخصيات الإسلام
إننا نجد كمال الشخصية موجوداً في شخصيات هذا الدين وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم صحابته، أما كمال شخصيته عليه الصلاة والسلام فهو مشهور ومعلوم، والنصوص كثيرة فيه، كيف كان النبي عليه الصلاة والسلام قائماً بأعمال الخير والبر، كيف كانت شخصيته عليه الصلاة والسلام كاملة علماً وعملاً.
وكذلك شخصيات أصحابه أخذت من هذا التمام والكمال، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، لما سأل النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه (من أصبح اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا) لا يريد أن يبين عمله، لكن لا بد من الإجابة، ولم يقلها رياءً ومفاخرة، وإنما قالها إجابة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سأل (من عاد منكم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا.
من تبع منكم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا.
من أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا) فإذاً هو رضي الله عنه قد كمل نفسه من خصال الخير، وأبواب الخير كثيرة.(286/5)
نقص الشخصية عيب وشين
وهذا الموضوع مهم -أيها الإخوة- أن نكمل فيه شخصياتنا؛ لأن النقص عيب وشين، وإذا نظرت في الواقع فنظرت إلى بعض الناس وجدت عنده جوانب من الخير فتراه: يصلي مع الجماعة، يقرأ القرآن، يذهب للعمرة والحج، يصوم، يتصدق، لكن في جوانب المعاملة مع الخلق تجده صاحب مثالب ومعايب، وعنده نقائص، وهذا المعنى موجود في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (أتدرون من المفلس؟) يسألهم عليه الصلاة والسلام، يلفت نظرهم إلى هذا الموضوع (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار، قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة -لاحظ ماذا عند الرجل، هذا الرجل عنده صلاة وصيام وزكاة، ومع ذلك يصفه عليه الصلاة والسلام بأنه مفلس، كيف يكون صاحب الصلاة والزكاة والصيام مفلساً؟! - يقول: ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا) كم خصلة نحن مشتركون فيها من هذه الخصال الذميمة؟ قد يقول البعض: ما سفكنا دماء، نقول: لكن انظر في الواقع، كم شتمنا، كم قذفنا، كم ضربنا! فأقول -أيها الإخوة- نظرة محاسبة لأنفسنا: كم عملنا من هذه المعايب والذنوب؟ وهل سنكون يوم القيامة في عداد المفلسين؟ نسأل الله السلامة، ماذا سيحصل؟ (فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته -يعطى للمظلوم من الظالم، صاحب الصلاة والزكاة والصيام- فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه؛ أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) إذاً: النقص عيب، لا بد أن نكمل شخصياتنا لأن هذه الأشياء تورد المهالك، ويمكن أن يدخل الإنسان النار بسببها، فينبغي أن نكمل شخصياتنا.(286/6)
تكامل شخصية المسلم عند السلف
إن السلف رحمهم الله لما شرحوا الدين أتوا بهذا المفهوم واضحاً في كلامهم، مأخوذاً من الكتاب والسنة والأدلة الشرعية، فما نقله الإمام ابن بطة رحمه الله تعالى في كتاب الإبانة الكبرى نقل عبارات عن بعض السلف، فمنها في هذا الجانب قوله: " إن من أخلاق المؤمنين: قوة في الدين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وحرص في علم، وقصد في غنى، وتجمل في فاقة، ورحمة للمجهود -المتعب- وعطاءٌ في حق، ونهي عن شهوة، وكسب في حلال، وتحرج عن طمع، ونشاط في هدى، وبر في استقامة، لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم في الحب -لا يتجاوز- ولا يدعي ما ليس له، ولا ينابز بالألقاب، ولا يشمت بالمصاب، ولا يضر بالجار، ولا يهمز، في الصلاة متخشع، وإلى الزكاة متسرع، إن صمت لم يغمه الصمت، وإن ضحك لم يعل صوته، في الزلازل وقور، وفي الرخاء شكور، قانع بالذي له، لا يجمح به الغيظ، ولا يغلبه الشح، يخالط الناس ليعْلم أو ليعَلم، ويصمت ليسلم، وينطق ليفهم، إن كان مع الذاكرين لم يكتب مع الغافلين، وإن كان مع الغافلين كتب من الذاكرين، وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له يوم القيامة ".
إذن: فهمهم لسمات الشخصية الإسلامية، لصفات الإنسان المسلم متكامل، صلاة وزكاة، وحلم وعلم، ويقين وصبر وشكر، تعلم وتعليم، وقار، إذاً المسألة متكاملة.(286/7)
آثار النقص في الشخصية
أيها الإخوة! إذا نظرنا في الواقع وفي أنفسنا وفيمن حولنا وجدنا أن النقائص الموجودة في شخصياتنا لها آثار سلبية علينا وعلى غيرنا، فمثلاً: صاحب الشخصية الناقصة نقصها سلبي عليه، فقد يكون النقص في شخصيته نقصاً في الإيمان، يسبب الوقوع في المعاصي، يسبب شقاء النفس، يسبب قلة التوفيق، وإذا كان هذا مرضاً صار مرض قسوة القلب.
النقص في الشخصية ينعكس علينا حتى في بيوتنا، لا معاشرة بالمعروف، ولا رحمة بالصبيان، ولا رفق بالبيت، والله سبحانه وتعالى إذا أراد بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق، فإذا وجدت البيت فيه شدة وعنت ومعاملة جافية وغليظة؛ فاسأل الله أن يرزقك خيراً وأن يمنحك الرفق، فإنه يخشى منك ألا تكون ممن أراد بهم خيراً وممن أراد الله ببيوتهم خيراً.
ثم إن النقص في شخصياتنا ينعكس أيضاً على علاقاتنا بإخواننا، النقص في الآداب يسبب البغض والقطيعة، والكره والتنافر، لا تضحية ولا إيثار، ولا سعة صدر وحسن استقبال.
ثم إنه ينعكس أيضاً على الناس عموماً، تأمل لو أن هناك إنساناً صلى في الجماعة، واجتنب بعض المحرمات، وقام ببعض الواجبات، والتزم ببعض الأشياء في ظاهر شخصيته مثل إطلاق لحيته ونحو ذلك من السنن والأشياء الواجبة، ثم صار عنده نقص في شخصيته: غلظة في التعامل، خشونة، إخلاف مواعيد، عدم صدق في الحديث ماذا سيكون أثر هذا على العامة؟ سيلوم الناس أصحاب اللحى، ويكون هذا ظلماً للغير، وفتح باب ينقد الآخرون من خلاله أهل الخير، وقد يصبح هذا الشخص بنقائصه من الذي يصدون عن سبيل الله، نحن بنقصنا وتصرفاتنا الخاطئة نعكس صورة مشوهة عن الإسلام في أعين غير المسلمين، ونعكس صورة مشوهة لمفهوم الالتزام بالدين في أعين غير الملتزمين بالدين.(286/8)
أهمية تكميل الشخصية الإسلامية
إن تكميل الشخصية الإسلامية مهم؛ لأننا من المفترض أن نرث عن الأنبياء دورهم في إصلاح المجتمع، فنذكّر الناس إذا غفلوا، ونعلمهم إذا جهلوا، ونقيم الحجة عليهم إذا عاندو، بالوسائل السلمية، وكذلك بالوسائل العملية كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(286/9)
حاجة الوقت إلى شخصية إسلامية قائدة
وتكميل الشخصية مهم؛ لأننا في هذا الزمان نحتاج إلى شخصيات إسلامية تقود، والناس بالتدريج سئموا من قيادة الغرب الكافر، وغيرهم لا يصلحون لقيادة العالم؛ فتجد كبيرهم واقعاً في الفواحش والزنا والسرقات والاختلاسات والسكر والخمور، وهمه في اللهو واللعب، وعزف القيثارة والمعازف، فمثل هذه الشخصيات لا تصلح لقيادة العالم، وإذا كانوا قد تحكموا في الناس بالقوة والسلاح لكن قيادتهم فارغة من مضامين الخلق والأدب الحسن والعدل؛ لأن العدل لا ينتج إلا باتباع الشريعة، وإذا زالت الشريعة حل الظلم، ولذلك فقيادتهم للعالم ظالمة، وهذه الرموز التي تقود لا بد أن تفلس، بل قد أفلست، والسقوط وشيك، وبمرور الزمن سيتهيأ المجال لأن تشغل مراكز التوجيه والتأثير في العالم شخصيات أخرى، والشخصيات الإسلامية هي المرشحة للقيادة في المستقبل، فلا بد أن يوجد من الشخصيات المكملة من إذا أتيح لها المجال لمنصب أو مركز إذا تبوأته أن تؤثر وتقوم بالعدل والإحسان: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل:90] ولا بد أن يوجد الاستعداد عند المسلمين لهذا الأمر، وهذه مسألة فيها عمق، وقد يتخيل أن فيها بعداً، لكن الله غالب على أمره والله متم نوره ولو كره الكافرون.
إننا نجد في الواقع القريب، أن أصحاب الشركات والموظفين فيها يترقون، فأنت تجد أنك تترقى في سلم الوظيفة وترشح لمنصب ولوظيفة أعلى من وظيفتك الحالية، وهكذا تتدرج في المستقبل، ولو كانت شخصيتك الإسلامية صحيحة ناضجة، لصار أثرك في منصبك ومركزك ووظيفتك أثراً إيجابياً إسلامياً نافعاً مباركاً، لكن لو كنت صاحب شخصية هزيلة وناقصة، وعندك من المعايب والمثالب والمعاصي والآثام؛ فإن هذا المركز سيكون وبالاً عليك، وسيظلم الناس من تحتك ولا شك، وسيكون كلام الناس عنك -أحياناً- كلام عن الدين نفسه الذي أنت تمثله، أو عن الالتزام الذي أنت تمثله ظاهرياً.
ولذلك أقول: إن هذا الموضوع مهم من جهة المستقبل للإسلام، من جهة أن الظرف الحالك الذي نمر به يحتاج إلى شخصيات قوية كاملة تقود، اذكر أبا بكر الصديق في زمن الردة، وكيف كانت شخصيته حازمة ومهمة في الخروج بالمسلمين من ذلك المضيق، اذكر شخصية الإمام أحمد رحمه الله في المحنة لما ثبت فثبت بثباته ملايين الناس، كانوا ينتظرون ماذا يقول الإمام أحمد ليكتبوا ويعملوا، اذكر ابن تيمية رحمه الله لما ثبت بشخصيته المتميزة بالعلم والحلم، بما جاء على ضوء هذه الشريعة، قيظه الله عز وجل لما ثبت في زمن التتر والمتصوفة والمتكلمين والفلاسفة؛ فأنقذ الله به فئاماً من الناس.
واذكر شيخ الإسلام المجدد/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لما صار الشرك عاماً في أنحاء العالم الإسلامي إلا من رحم الله، حتى في هذه الجزيرة عبدت الأصنام والأوثان، واضطربت أليات نساء بني دوس حول ذي الخلصة، والذي يقرأ تاريخ دعوة الشيخ يعرف أن بعض أصنام الجاهلية الأولى أعيدت، وبنيت القباب على القبور، وطاف الناس حول الأضرحة، وعبد الموتى من دون الله، فصارت تلك الشخصية العالمة المجاهدة إنقاذاً للناس ورحمة من رب العالمين.
إذاً: الظرف الذي نعيش فيه الآن من تسلط الكفار، ومظاهر الاستسلام التي تعم العالم الإسلامي والقنوط من رحمة الله، والخزي الموجود، والاستخذاء والضعف يحتاج إلى شخصيات قوية تنقذ الموقف، وهذه الشخصيات لا يصلح أن تكون شخصيات ناقصة مهلهلة مشوهة، ينبغي أن تكون شخصيات إسلامية، والتغيير حاصل حاصل، والله سبحانه وتعالى يداول الأيام بين الناس، وكما أن الغلبة اليوم للكفار ظاهرياً {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ} [غافر:29] ماذا قال مؤمن آل فرعون؟ {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29] فبأس الله سيأتيهم سيأتيهم، فمن سيملأ المواقع، ومن سيخلفهم، الله سبحانه وتعالى لا يؤتي النصر الذين لم ينصروه، وإنما ينصر من نصره وجاهد في سبيله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] سيحدث التغيير وسيبرق ضوء الفجر، لكن إذا صرنا على مستوى التغيير والمواجهة والجهاد، والقيام بأمر الله سبحانه وتعالى علماً وعملاً، عند ذلك ينصرنا الله عز وجل.(286/10)
الرد على من يهينون الدين وأهله
كذلك تكميل الشخصية مهم في الرد على الذين يسمون المسلمين وأهل الدين بالصفات السيئة، فيسمونهم بالتخلف والرجعية والانتهازية والإرهابية ونحو ذلك، فمن الذي يمحو هذه الصورة السيئة عن المسلمين التي يعممها أعداء الإسلام في الأرض إعلامياً؟ يعممون سمة المسلم بأنه رجعي متخلف، وأنه إنسان همجي متوحش وغرضه السلب والنهب والإغارة والإرهاب، ما الذي سيغير هذه الفكرة؟ ما هي الشخصيات التي ستغير هذه الفكرة؟ إنها الشخصيات الإسلامية التي يسعى أصحابها إلى تكميلها، وليست الشخصيات الهزيلة والمهلهلة.
وكذلك فإننا لا نريد أن نكون أولاً وأخيراً من الذين يصدون عن سبيل الله بتصرفاتنا المنحرفة، حتى عند الخادمة والسائق الموجود في البيت فكثير من الناس صدوا الخادمات عن سبيل الله، وصدوا السائقين عن سبيل الله؛ لأن الخادمة والسائق رأوا من رب البيت فسقاً ومجوناً وخلاعةً، رأوا منه ظلماً وعتواً ونفوراً ووحشيةً، ورأوا منه قهراً وإذلالاً؛ فلذلك كيف يفكر أن يسلم ويدخل في الدين وهو يرى هذا النموذج أمامه؟ كذلك الذي جاء من بلاد بعيدة مثل الهند وباكستان ليعمل وهو مسلم، ثم يجد أمامه هؤلاء الناس وفيهم هذه النقائص والمعايب والمثالب وهو يظنهم في هذا المكان عند الحرم، وفي المكان الذي هبط فيه الوحي فيظنهم أولاد الصحابة، فإذا جاء وجدهم بهذه الحالة من اتباع الهوى والشهوات والجهل.
بعض المستقدمين علموا أهل البيت أشياء يجهلونها، صحيح أن الأكثر العكس؛ لأنه يوجد عندنا من العلم ما ليس موجوداً عند الآخرين بالنسبة والكثرة، لكن الأمثلة في المقابل موجودة، فهناك خادمة مصحفها على رف المطبخ لكن صاحبة البيت كل يوم في سوق، وكل مرة في حفلة وسهرة، فماذا يعني هذا عند غير العرب من الأعاجم المستوردين؟ نحن مخاطبون بالشريعة قبلهم والذي نزل عندنا قبلهم، فنحن من المفروض أن نكون قدوة للآخرين، لكن أصبح البعض بسلبياته من العوائق التي تصد عن دين الله!(286/11)
إزالة القدوات السيئة من المجتمع
كذلك فإن تكميل الشخصية الإسلامية مهم في إزالة القدوات السيئة من المجتمع؛ لأن الناس يقتدون بشخصيات المغنين والمطربين والفنانين والرياضيين ونحو ذلك، وكثير منهم فسقة ومجرمون، ولا بد من إحلال شخصيات الشهداء والصالحين والصديقين؛ حتى يقتدي الناس بهؤلاء ويتركوا أولئك، حتى يكون هناك نجوم يقتدى بها بدلاً من هذه النجوم الوهمية.
أيها الإخوة! إن المسخ الذي حصل لكثير من شخصيات الناس خصوصاً الذين سافروا إلى الخارج ورجعوا بأفكار غربية غريبة، ورجعوا بأمور مخالفة للدين والشريعة بحكم الواقع الذي ضغط عليهم أو رباهم هناك، إن هذا يجعلنا نفكر مراراً وتكراراً في قضية تكميل الشخصية الإسلامية.
ولما نقول: يا مسلم يا عبد الله كمل شخصيتك؛ نذكر شخصيات الصحابة رضي الله تعالى عنهم، الله سبحانه وتعالى قص علينا أشياء كثيرة في الكتاب {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ} [مريم:56] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} [مريم:16] ذكر رجالاً ونساءً، وذكرهم بصفات في شخصياتهم من القنوت والعبادة وكثرة الذكر، والحكمة، وأنه لم يكن جباراً شقياً، ولم يكن عصياً إلى آخر تلك الصفات التي وردت لشخصيات الأنبياء.
وصحابة النبي عليه الصلاة والسلام الآخذون من تلك الشخصيات اقتدوا بهم وكملوا شخصياتهم من تلك السير، فجاءت تلك النماذج عطرة، جيدة للغاية، فأنت يا أخي المسلم! يا عبد الله! عندما تريد أن تكمل شخصيتك بمسألة العلم مثلاً، تذكر ابن عباس وابن مسعود، وتذكر معاذ بن جبل الذي يأتي وقد سبق العلماء يوم القيامة برمية سهم، وهو أعلم الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم بالحلال والحرام كما قال النبي عليه الصلاة والسلام عن معاذ، وتذكر علم زيد بن ثابت في الفرائض، وإذا جئت في الحفظ تذكر حفظ أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
وإذا جئت في جانب التضحية التي لا بد أن تكمل شخصيتك بها؛ تذكر تضحية مصعب بن عمير، الشاب الذي ترك جو النعومة والغنى والثراء والترف، وصار صاحب أطمار وأكسية بالية، مطارداً، مشرداً، غريباً في المدينة عن أهله وعن وطنه، لكنه كان من الذين فتحوا المدينة بالقرآن ولم تفتح بالسيف، وهو الذي وطد وهيئ للنبي عليه الصلاة والسلام الأجواء قبل مقدمه إلى المدينة.
وتذكر في الشجاعة حمزة، وتذكر في الجرأة في قول الحق أبا ذر رضي الله تعالى عنه، وتذكر في تحمل المسئولية أبا دجانة الذي حمل السيف بحقه، وتذكر في الثبات خبيب بن عدي الذي ثبت حتى آخر قطرة من دمه، وتذكر في العمل للإسلام حتى آخر لحظة عمرو بن الجموح، الذي أصر أن يطأ بعرجته في الجنة، وخرج وهو في الثمانين إلى الجهاد.
وإذا تفكرت في مسألة استخدام المنصب والمركز لخدمة الدين؛ فإنك تذكر النجاشي وتذكر سعد بن معاذ ورئاسته فيهم، وإذا جئت لجانب الإيثار تذكر سعد بن الربيع الذي طلب من أخيه المهاجري أن يختار إحدى زوجتيه فيطلقها ليتزوجها هو ويشاطره في ماله، وتذكر في الجود والبذل -وهي خصلة مهمة يجب أن تكون في شخصيتك- أبا طلحة الأنصاري لما نزل قول الله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] تبرع وتصدق بأحسن ما عنده وهو بيرحاء، بستان عظيم كان قريباً من المسجد النبوي، يدخل النبي عليه الصلاة والسلام إليه فيشرب من مائه أحياناً.
وأنت تذكر في كتم السر حذيفة، وألا تكون مهذاراً ولا كثير كلام ولا مفشياً للأسرار، المجالس بالأمانة، وكثير من الناس عندهم هذه الخصلة الذميمة وهي إفشاء أسرار الآخرين والكلام فيما يخص الآخرين، ينبغي أن يكون مستوراً فيعلنه، وأنت تذكر في حسن العبادة أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، الذي كان بعض الصحابة يجتمعون في الليل يسمعون صوته وهو يقوم الليل، ذلك الذي أوتي مزماراً من مزامير آل داود.
وهكذا في سائر الصفات والخصال التي من المفترض أن تكون في الشخصية الإسلامية منها: التواضع والبعد عن الظهور، شخصية أويس القرني وهو خير التابعين، وهكذا من بعدهم، نحن نقتبس وينبغي علينا أن نأخذ ونكمل شخصياتنا من سير السلف، بالإضافة إلى الشيء الأول وهو القرآن والسنة.(286/12)
نقائص وعيوب في الشخصيات (ضعف جانب الرجولة)
أيها الإخوة! يوجد في شخصياتنا نقائص وعيوب، فمن ذلك بالنسبة للرجال: ضعف جانب الرجولة، جانب الرجولة من الخصال المهمة، والله سبحانه وتعالى وصف خيرة عباده بأنهم رجال {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف:109] والذين اتصفوا بالصفات الحميدة يصفهم سبحانه وتعالى بأنهم رجال: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] وقال الله عن الذاكرين في المساجد؟ {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36 - 38] كان أحدهم إذا رفع المطرقة، فأذن المؤذن ألقاها وراء ظهره.
قال أحد السلف: كانوا يبيعون ويشترون، ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده يزن للناس خفضه -خفض الميزان، ترك البيع والشراء- وأقبل إلى الصلاة.
قال عمرو بن دينار: كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد، فمررنا بسوق المدينة وقد قاموا إلى الصلاة، وخمروا متاعهم -يعني: غطوا المتاع- فنظر سالم إلى أمتعتهم -دكاكين مغطاة، وأكوام البضاعة مغطاة- فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد، متاعه في السوق لوحده، الناس في المسجد، فتلا هذه الآية {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37] ثم قال: هم هؤلاء.(286/13)
الرجولة من أسباب الثبات
قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23] {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة:23] {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:20] أنت تقرأ الآية وتتأمل وتتملى في هذا الرجل الذي وصف بالرجولة جاء يسعى {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21] أما في قصة موسى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] من هو الرجل الذي يكون من صفاته الشخصية إغاثة الملهوف والسعي إلى نصرة المظلوم وإنقاذ الآخرين -الذين هم في خطر- فذهب إليه خفية مع المشوار بعيد؛ لأنه جاء من أقصى المدينة {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص:20] فإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم، وإنقاذ حياة الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، والسعي في تخليصهم وإبعاد الأذى والشرور والأخطار عنهم، هذه من صفات الرجولة التي ينبغي أن تتصف بها شخصياتنا، الرجولة التي تسبب القيام لله بالحق، وغضبة لله في أماكن المنكرات وإذا انتهكت محارم الله، فإن الرجل يغضب لله، والمرأة كذلك تغضب لله سبحانه وتعالى فتغير في مكانها.(286/14)
معاني الرجولة عند الناس
مع الأسف إن كثيراً من معاني الرجولة قد فقدت بين الناس، وظن بعضهم أن الرجولة هي تطويل الشوارب وحلق اللحى، أو الأخذ بالثارات وقتل الأبرياء، وبعض الناس يظن أن الرجولة هي التدخين، وبعضهم يظن أن الرجولة هي رفع الصوت والصياح وفرض الرأي بالقوة أو البطش بالعضلات، لكن الرجولة شيء آخر، هذه قضايا ضعف ومعاصي وآثام، فالمهم أن الإسلام يحتاج إلى رجال شخصياتهم قوية، قال عمر: تمنوا.
فتمنى كل واحد شيئاً، قال: لكني أتمنى ملء هذه الحجرة رجالاً أمثال أبي عبيدة، أخوض بهم الغمار، وأحمل بهم الأمم على الإسلام، فالرجولة ليست سناً أكثر مما هي صفات وشمائل وسجايا وطباع.
وماذا نفعت الرجولة الذين قال الله فيهم: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6]؟ وكأني بهذا الدين في هذا الزمان يهتف بأبنائه: أليس منكم رجل رشيد يحملني ويقوم بأمري؟(286/15)
تكميل الشخصية المسلمة بالتربية والصقل
شخصياتنا -أيها الإخوة- تحتاج إلى صقل وتربية وتكميل، وتكميلها بتربيتها، فتنظر إلى الجهل الذي في شخصيتك فتحل محله العلم، تنظر إلى القسوة والجفاف الموجود وتحل محله الإيمان والتقوى التي طريقها العبادة وممارسة الشعائر التعبدية والإقبال على الفرائض أولاً (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) وإتباع ذلك بالمستحبات والنوافل ثانياً (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) وهذا هو أشرف حديث في الأولياء، وقد رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى معلقاً في صحيحه، وهو صحيح بمجموع طرقه.(286/16)
تكميل الشخصية المسلمة بالتأثر والتفاعل مع الواقع
شخصياتنا إذا أردنا أن نكملها فينبغي أن نحرص على أن تكون هذه الشخصيات شخصيات متأثرة ومتفاعلة، والتأثر والتفاعل ميزة مهمة ينبغي أن توجد في شخصياتنا؛ لأن التفاعل مع الواقع يؤدي إلى الاستفادة والأخذ والتلقي، والتلمذة والتقبل والاقتداء، وهذا مهم في تقدم الشخصيات.
بعض الناس الآن إذا نظرنا في الواقع -وهم قلة- إذا جئته سنة بعد سنة وجدت التغير ملموساً، التقدم حاصل، إجازة بعد إجازة وجدت الرجل علمه زاد، عبادته زادت، أخلاقه ارتفعت وارتقت، وبعض الناس مثلما هو، (مكانك قف!) ما زالوا في نفس المكان، لم يتقدموا في شيء، لا علمهم زاد، ولا أخلاقهم تحسنت، ولا عبادتهم كثرت، فهم لا زالوا في نفس المستوى الذي عهدتهم فيه، كما خبرتهم، هم هم ما تغير فيهم شيء! واعلموا -رحمكم الله- أن وجوه أهل الإيمان والعبادة تزدان وتزداد حسناً وبهاءً، ووجوه أهل الشر والمعصية تسوء وتزداد قبحاً ودمامة، وقد نص على ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه العظيم الاستقامة فقال: وأنت ترى وجوه أهل الطاعة إذا تقدموا بالسن وكبروا ازدادت نظرة وجمالاً وعليها نور، وترى أهل المعصية والشر والبدعة يكون أحدهم في مقتبل عمره شاباً وسيماً أو أمرداً جميلاً، لكن لا يزال يواقع الفواحش ويقع فيها ويزاول المنكرات أو يستمر على البدع فيقبح وجهه في الكبر، تراه قبيحاً ذميماً، مع أنك لو رأيت صورته في شبابه ومقتبل عمره؛ لوجدته ربما يكون جميل الخلقة، فهكذا الطاعة تحسن المظهر، والمعصية تشوه المظهر.
ولذلك ترى أكثر أهل البدع حالهم في القبح والدمامة معروف، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى منهم في هذا الكتاب أهل الرفض قال: هم أقبح الناس منظراً، بل أثبت في كلامه أن بعضهم قد مسخوا قردة وخنازير، فقد مسخ الله اليهود قردة وخنازير من آثار المعاصي، وقبح حتى صورهم الظاهرة، ومسخهم في أسوء البهائم منظراً: قردة وخنازير.
نحن نحتاج -كما قلت- إلى قضية التأثر والتفاعل حتى نتقدم، يا أخي! عائشة رضي الله عنها لما حاضت في الحج تأثرت، تظن أنه الأجر فاتها حتى بكت، ودخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، وسألها فأخبرته أنها حاضت، فقال: (إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، إن حيضتك ليست بيدك) والآن تجد الكثير من الناس يظنون أن الحيض يمنع الإحرام، يقولون: وصلنا الميقات وما أحرمت المرأة التي معنا لماذا يا عباد الله؟ قال: لأنها حائض، لكن الحيض لا يمنع الإحرام.
وكثير من العامة يظنون أن عقد النكاح في الحيض لا يصلح، ولذلك يقولون: هل يجوز أن تعقد وعليها العادة الشهرية؟ نقول: نعم، وما المانع؟ الله سبحانه وتعالى حرم الوطء لكن ما حرم العقد، حرم الوطء في الحيض ولم يحرم العقد.
على أية حال تأثرت عائشة رضي الله عنها لهذا، انظر الآن تأثرت بأمر ليس بيدها وليس بتقصير منها، لكن انظر الآن إلى هذه الشخصيات الموجودة في المجتمع، تخرج أوقات العبادات وتفوت مواسم الخيرات، وتذهب فرصة ثمينة للأجر ولا تجد في نفوسهم تأثراً أو ندماً أبداً، مع أن التفريط منهم وما هم مثل عائشة، تلك رضي الله عنها تأثرت وبكت على شيء ليس بيدها، وهؤلاء لا يتأثرون ولا يبكون على تفريط وتضييع واضح مع أن الفرص بأيديهم.
وكذلك الإنسان إذا كانت شخصيته فيها تأثر وتفاعل إذا نبه للخطأ، إذا علم أنه أثم يستحي من الله، يرجع لأن عنده تأثراً، يتفاعل مع الكلام، يتأثر بالنصيحة، بالتوجيه، بالإنكار، لكن الناس إحساساتهم متبلدة، هذا أسامة بن زيد، ذهب يجاهد ويقاتل بسيفه مع صغر سنه رضي الله تعالى عنه، أدرك رجلاً من الكفار، فرفع عليه السيف، فقال الرجل: لا إله إلا الله، لكن أسامة طعنه، فشعر بشيء من الحرج، وحاك في نفسه شيء، ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقص عليه القصة، فقال له: (قال: لا إله إلا الله وقتلته؟ قلت: يا رسول الله! إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟ فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ) أي: لأن الإسلام يجب ما قبله، قال: تمنيت أنني دخلت الإسلام بعد الحادثة.
قال له في رواية: (فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ قلت: يا رسول الله! استغفر لي.
قال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ قال: فجعل لا يزيد على أن يقول: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟).
هذا رجل خارج في الجهاد ظن أن فعله صحيح، هذا رجل كافر أنكى بالمسلمين، فرفع عليه السيف قال: لا إله إلا الله، فقتله.
وبعض الناس الآن إذا عاتبته على منكر واضح لم يفعله باجتهاد خاطئ لا، وإنما منكر واضح جلي، حكمه وفتاوى العلماء معروفة عنده، لكن تجد أنه لا يتحرك فيه شيء ولا يتأثر، بل قد يستهزئ، وعلى أحسن الأحوال يأتيك باعتذارات باردة أو يقول لك: هذا ليس شأنك هذا هو حالهم إذا أنكرت عليهم منكراً الآن.
فنقول: إن شخصياتنا يجب أن تكون متأثرة، جانب الاستقبال فيها قوي حتى نتقدم ونتفاعل، النبي عليه الصلاة والسلام لما جاءه قوم من الأعراب مجتابي النمار، مقطعة ثيابهم، ورأى ما بهم من الفاقة والفقر المدقع؛ تأثر صلى الله عليه وسلم وحزن وقام خطيباً بالناس، وأمر بلالاً فأذن وجمع الناس، ثم أمرهم بالصدقة وحثهم عليها، فجاء الناس بصدقاتهم، منهم من جاء بصرة كادت يداه أن تعجز عنها، بل قد عجزت، ومنهم من جاء بما عنده حتى أن بعض الصحابة قالوا: كنا نحامل، أي: يذهبون إلى السوق يشتغلون حمالين -كما ثبت في الحديث الصحيح- واحد ما عنده صدقة، ما عنده مال، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (تصدقوا) أمرهم بالصدقة، وهذا ما عنده مال، من أين يأتي بالمال؟ وهو لا يريد أن يفوت الأجر، يريد أن يتصدق وأن يلبي رغبة النبي عليه الصلاة والسلام وطلبه، فيذهب إلى السوق ويشتغل حمالاً ويأخذ الأجرة ويتصدق منها أو يتصدق بها! فكان عندهم تأثر لو نصحوا، لو قيل لهم: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، انفروا خفافاً وثقالاً للجهاد في سبيل الله؛ لرأيت الاستجابة حاصلة، لكن نحن المشكلة في شخصياتنا أن جانب التأثر والتفاعل ضعيف، وعليه فالاستقبال ضعيف، فمهما جاءت موجات النصائح والإنكار والتعليم لا تجد أثراً، أو أن الأثر ضعيف والموجة مشوشة، فلا نعمل إلا شيئاً يسيراً، وقد نبخل بالأموال مع أن أحدنا إذا أحيل إلى التقاعد، وصار يأخذ راتباً أقل مما كان يأخذه وهو على رأس العمل، أو فصل من وظيفته أو استغني عن خدماته وذهب إلى وظيفة ثانية راتبها أقل؛ يصير مهموماً وحزيناً، ولا بد أن يعمل عملاً آخر لماذا؟ قال: لا أريد زوجتي وأولادي يعلمون أن هناك تغيراً في المستوى المعيشي.
أجل والفقراء والمسلمون والمجاهدون والمنكوبون الذين ليس عندهم مستوى معيشي أصلاً ما هو دورك بالنسبة لهم؟ هذا مستعد أن يعمل عملاً ثانياً وثالثاً، وإضافياً، يفتح مؤسسة ويشتغل من أجل ألا يتغير المستوى المعيشي، هو أصلاً ما ربى أهله على الزهد؛ ولذلك لما اختلف المستوى المعيشي صار عنده نكبة في البيت ومصيبة، وقامت الزوجة والأولاد عليه من جميع الجهات، كيف تخرج الولد من مدرسة خاصة وتدخله مدرسة حكومية؟ كيف تأتي لنا بسلعة من كذا وكذا وأين الذي كنت تأتي به من قبل؟ كيف نشتري تايوانياً وكنا نشتري أمريكياً؟ كيف نفعل فالآن طبعاً الخطأ منه أصلاً؛ لأنه ما عودهم على شيء دنيوي ولا رباهم على الزهد، ولذلك لما تغيرت الأحوال صار هناك ضائقة ومشكلة.
على أية حال أنا أقول: نحن في الأمور الدنيوية نعطي لأنفسنا أحسن الأشياء، ونأكل في أفخر المطاعم، ونطبخ الولائم في المطاعم، نفعل أشياء، نشتري، نبذخ على أنفسنا، لكن إذا دعا داعي الصدقة لغيرنا من المسلمين؛ رأيت الإمساك والشح! معاوية بن الحكم السلمي صحابي جليل، كان في البادية، وجاء ليتعلم عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقص عليه قصة، قال: (يا رسول الله! كانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوانية -موضع بقرب المدينة - فاطلعت ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون -أغضب- لكنني صككتها صكة- رأيت الشاة نقصت من الغنم؛ فضربت الجارية- فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي، قلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها، فأتيته بها فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء.
قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة).
هذا الصحابي تأثر لما لامه الرسول عليه الصلاة والسلام على ضرب الجارية، والناس اليوم يضربون الخدم.
يحدثني أحد الأطباء في مستشفى من المستشفيات يقول: يا شيخ! تكلموا في خطبة الجمعة، انصحوا الناس إن عندنا حالات محزنة، خادمات تأتينا فيها كسور، وهذه فيها جروح، والتي تأتي وقد أوشكت على الموت والهلاك مما يفتري بها رب البيت، يعني في الإذلال والإهانة والضرب.
فالشاهد -أيها الإخوة- أن هذا الصحابي الجليل تأثر، واليوم نحن نعتدي ونقسو ونفعل ونفعل، ذلك بلا شك لخلل في شخصياتنا.(286/17)
تكميل الشخصية المسلمة بالعلم والعبادة والأخلاق
الشخصية الإسلامية تكميلها -كما قلنا- بالعلم والعبادة والأخلاق والآداب، والعلم كثير، وعلى رأسه العلم بالله وأسمائه وصفاته وتوحيده سبحانه وتعالى، العلم بالإيمان، العلم كيف نعبد الله؟ إذا عرفنا الله بالتوحيد فكيف نعبده؟ فنحتاج إلى تعلم الفقه، فإذا أردنا بعد ذلك أن نعامل الخلق فنحتاج إلى معرفة أحكام البيوع، ومن اغتنى احتاج إلى معرفة أحكام النكاح؛ لأنه سيتزوج.
ولذلك العلماء لما رتبوا أبواب الفقه؛ رتبوها ترتيباً موضوعياً فبدءوها بالإيمان والعقيدة، ثم قالوا: إذا عرف الله؛ يحتاج أن يعرف كيف يعبده، فوضعوا كتاب الصلاة والزكاة والصيام والحج، ثم قالوا: إذا عرف العبادات؛ يحتاج أن يعرف المعاملات، فوضعوا البيوع، ثم قالوا: إذا اغتنى من البيوع؛ إنه يحتاج أن ينكح؛ فوضعوا النكاح بعد البيوع، ثم قالوا: إذا نكح؛ فإنه ربما يطغى ويضرب ويقتل ويجرح؛ فوضعوا كتاب القصاص والحدود والشهادات وما يتبع ذلك.
فالمهم شخصياتنا فيها جهل وتحتاج إلى تكميل بالعلم، فيها قسوة تحتاج إلى أن نهذبها بالعبادات، وفيها اعوجاجات تحتاج إلى تقويم بالأخلاق الحسنة، والآداب في التعامل مع الناس، فإذا كملت الشخصية وصارت شخصية لها هيبة، وهذه الهيبة ضرورية في الدعوة وإنكار المنكر، جاء في صحيح مسلم عن سعيد بن جبير قال: (مر ابن عمر بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم) يعني: كل سهم خطأ يعطوه لصاحب الطير، طبعاً لا يجوز اتخاذ شيء فيه روح غرضاً وهدفاً (فلما رأوا ابن عمر قادماً تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً).
فالآن شخصية ابن عمر المتكاملة بالعلم والعبادة والدين والأخلاق صار لها هيبة، أي أن تكميل الشخصية يسبب هيبة، هذه الهيبة مهمة في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والموضوع سيطول بنا إذا جلسنا نتكلم في تكميل الشخصية الإسلامية، وقد سبق محاضرة بعنوان "وسائل تكوين الشخصية الإسلامية" تكمل هذا الموضوع.(286/18)
جوانب يغفل عنها بعض الناس
بعض الناس كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ينتهون عن المحرمات لكن يفرطون في الواجبات، يقول: ما يزني ولا يأكل الربا ولا يشرب الخمر ولا ولا ولكن هناك واجبات مثل صلة الرحم، وحقوق الجار مفرط فيها، هذه من النقائص الموجودة في كثير من الشخصيات، حتى أن بعض المحسوبين على الالتزام تجده لا ينظر إلى النساء، لا يشاهد الأفلام، لا يسمع الأغاني، لا يسبل الثياب، فهو في المحظورات عنده شيء من الاهتمام، لكن في الواجبات مثل صلة الرحم، وبر الوالدين، وحقوق الأخوة، هناك تفريط واضح.
ولذلك أقول: ليس تكميل الشخصية فقط في مسألة الامتناع عن المحظورات وأخذ النقاط القوية، بعض الناس يظن أنه لا بد أن تكون الشخصية فيها نقاط قوة، فيظن أن الرحمة والشفقة والرقة واللين ليست من ضمن نقاط القوة في الشخصية الإسلامية، مع أنها في الحقيقة من ضمن نقاط القوة العظيمة في الشخصية الإسلامية، ولنأخذ عدداً من الأمثلة نختم بها الموضوع، وهذه أشياء نقلها ابن رجب رحمه الله في كتابه العظيم جامع العلوم والحكم: كان عند العرب الأوائل عيب على المرأة أن تحلب الشاة، وكان يستقبحون ذلك، ويحلبها الرجل، وإذا غاب الرجل الزوج أو الأب يحلب لهم الجار، فكان أبو بكر الصديق يحلب لأهل الحي أغنامهم، فلما استخلف وصار أمير المؤمنين قالت جارية منهم -يعني من نساء الحي- بعد أن صار أبو بكر خليفة: الآن لا يحلبها.
تقول: لقد صار قائد الدولة وأمير المؤمنين يسير الجيوش ويتحمل المسئوليات هل يلتفت إلى غنمنا ويحلبها؟ الآن لا يحلبها، فسمع بذلك أبو بكر رضي الله عنه فقال: بلى، وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله.
وكان عمر رضي الله عنه يتعاهد الأرامل، فيسقي لهن الماء بالليل، رآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة، فدخل طلحة إلى بيت هذه المرأة نهاراً، فإذا هي عجوز عمياء مقعدة، فسألها: ما يصنع هذا الرجل عندك؟ قالت: هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى! صار الواحد الآن إذا وجد أباه أو أمه أو جده مشلولاً لا يزيل عنه الأذى؟ وهذا عمر رضي الله عنه يزيل الأذى عن امرأة عجوز مقعدة عمياء ويأتي لها بما يصلحها، فقال طلحة لنفسه: [ثكلتك أمك يا طلحة! عثرات عمر تتبع!!].
وكان أبو وائل رحمه الله يطوف على نساء الحي وعجائزهم كل يوم، فيشتري لهن حوائجهن وما يصلحهن.
وقال مجاهد: [صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه فكان يخدمني] فقضية الرفق والشفقة واللين وخدمة الآخرين بعض الناس يغفلون عنها، ويظنونها ليست من نقاط القوة في الشخصيات، وبالعكس فإنها من نقاط القوة العظيمة في الشخصية.
السلام على الصبيان، في البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله.
فأين هذه الشخصيات التي فيها هذا الجانب المتكامل في العلم والعبادة والأخلاق والآداب، وحتى جوانب الرفق واللين والعطف والشفقة والرحمة بالصبيان موجودة؟ فإذاً -أيها الإخوة- هذه الشخصية الإسلامية تحتاج إلى تكميل، وقد ذكرنا أهمية الموضوع وبعض الجوانب التي نحتاجها لتكميل شخصياتنا، واستعرضنا بعض قصص السلف في الموضوع، والجوانب المشرقة في ذلك التاريخ العظيم الذي جله مشرق ونور وضاء، منارات يهتدي بها الخلف من تاريخ وشخصيات السلف.
إن الواقع الموجود الآن -واقع المسلمين- يحتاج في بعض الجوانب والأحوال إلى تخصص، أي: كثرت الثغرات، من جهة العلم هناك نقص في العلم، يحتاج هذا النقص إلى شخصيات تتفرغ للعلم، من جهة الإغاثة هناك حاجة ماسة للإغاثة لدرجة أنها تستدعي تخصص أناس في هذا الجانب، في قضايا الجهاد الحاجة تستدعي لتخصص أناس في هذا الجانب، حتى مساعدة الشباب في الزواج على النساء الخيرات يحتاج إلى تخصص أناس في هذا الجانب، البحث عن عوائل فقيرة، وإنكار المنكر الخ، والسؤال هو: هل التخصص الذي يفرضه وتدعو إليه الحكمة يتنافى مع التكامل المطلوب؟ طبعاً
الجواب
لا يتنافى، والسبب: أن المسلم ينبغي أن يكون عنده حد أدنى في كل شيء، فمثلاً: ما يمكن واحد أن يقول: أنا ما علي من العلم، سأشتغل بالإغاثة أو الجهاد أو مساعدة الفقراء خطأ، يجب أن يكون هناك حد أدنى من العلم وهو ما تصح به عباداتك ومعاملاتك، إذا أردت أن تنكح فإنك تحتاج إلى أن تعرف أحكام النكاح، وإذا أردت أن تبيع؛ ينبغي أن تعرف أحكام البيوع، أما الصلاة فلا بد أن تعرف أحكام الصلاة والطهارة والزكاة، هذه أشياء فيها ممارسة دائمة، وإن كنت قادراً وكان عندك مال؛ تحتاج أن تعرف أحكام الحج، هناك أشياء لا بد أن تعرفها الآن، وهناك أشياء يمكن أن تعرفها في المستقبل إذا احتجت إليها، إذا أردت أن تنكح، إذا أردت أن تطلق، إذا أردت أن تبيع، فتوفر الحد الأدنى في كل جانب مهم، وبذلك تبقى الشخصية الإسلامية في نوع من التكامل، لا يقول أحدنا: أنا أطلب العلم وما علي من الصدقات ولن أتبرع بشيء.
نقول: هذا الذي تقوله خطأ واعوجاج، أين إخراج الشح من نفسك ببذل الصدقات، صحيح أنك لا تذهب للعوائل وتبحث عنها وتوصل الأشياء بنفسك، لكن قدم.
فإذاً: وجود الحد الأدنى يبقي التكامل مع وجود التخصص المطلوب.
ثانياً: لا بد أن نقر بالجوانب الأخرى، يعني صاحب التخصص يقر بالحاجة إلى الأشياء الأخرى، ولا يقول: أنا مجالي فقط ومجال غيري ليس مهماً، لا.
كل واحد يبدع في مجاله بحسب إمكاناته وقدراته التي أعطاها الله إياه، وكذلك يشارك بما يستطيع في الجوانب الأخرى، فمثلاً: المشتغل بالجهاد أو غيره قد توجد لديه أوقات للتعلم فهل يقول: ما دام ليس هناك قتال، فأنا لا أتعلم لأنه ليس من اختصاصي ولا هو من شئوني، هذا شغل العلماءـ لا.
هذا خطأ وانحراف، فنقول: أنت يا صاحب التخصص! ينبغي عليك أن تشتغل في المجالات الأخرى ما دام عندك إمكانية، وما دامت الفرصة متاحة لك، وبذلك نحافظ على أكبر قدر من التكامل المطلوب مع الاختصاص المطلوب.(286/19)
الأسئلة(286/20)
علاج الشخصيات الهزلية
السؤال
أنا شاب عرف عني الهزل بين الشباب، فما جلست مجلساً إلا ابتليت بداء التعليق، وقد حاولت جاهداً أن أزيلها ولكني وجدت أن الأمر أصبح عادة ولا أستطيع تركها فأرشدني؟
الجواب
الشخصيات الهزلية دليل على خلل في الشخصية، وهذه الطبيعة لها أسباب منها: أن يكون قد نشأ على ذلك في بيته وأهله، فهم كلهم هزليون، وكل مسألة فيها ضحك ونكت، وما هي آخر نكتة؟ إضافة إلى تربية المدارس والفصول والطلاب مع بعضهم البعض، والناس في الدوائر والوظائف فتجدهم يبحثون عن آخر نكتة، فهذا مما يربي الهزل، وكذلك بعض النفوس -لهذه الشخصيات- عندها قدرة على إضحاك الآخرين، فبعض الشباب -مع الأسف- بدلاً من أن يساعدوا أخاهم الهزلي على أن يتخلص من هزليته، يجعلون الفرصة متاحة له أن يكمل فيها هزليته أكثر؛ ولذلك كلما جاء بحركة ضحكوا، كلما جاء بنكتة ضحكوا، وكلما جاء بتعليق أغرقوا في الضحك، فيحس أن له قبولاً بينهم، ولذلك فهو يكثر منها، ثم إن بعضهم قد يقصده للضحك، يذهب إليه يقول له: ما عندك آخر شيء وآخر كذا، وهذا من هنا ينغز، وهذا من هنا، أي: يجعلون فيه مداخل من أجل استجلاب ما عنده من الحركات المضحكة والكلام المضحك، وهذا من خطأ الذين حوله، فهناك مسئولية ملقاة عليه وهي: أولاً: ألا يكذب؛ لأنه ويل لمضحك القوم (ويل لمن يكذب ليضحك به القوم).
وثانياً: ألا يتخذ الإضحاك نفسه ميزته وأن يكون مضحك القوم، فهذه ميزة سخيفة وليست في الحقيقة تقضي على كل جانب جدي في شخصيته، وكيف يتقبل الناس منه علماً حتى يقول: واحد هذا إذا نصحني، والله ما أدري هذا فعلاً سامعها من شيخ أو هذه من ألاعيبه؛ بسبب أنه تكونت عنه فكرة أنه شخصية هزلية.
فإذاً لا يكذب ولا يجعل وظيفته مضحكة قوم.
ثالثاً: أنه لا يقهقه أو يأتي بما يجعل الآخرين يكثرون الضحك فيجعل قلوبهم ميتة؛ لأن كثرة الضحك تميت القلب، وعليه أن يجاهد نفسه ويكون جاداً، ويتجنب أن يتصدر المجالس ويتكلم، وما دام أنه لن يقول خيراً ولكن سيضحك الناس فليسكت، وعلى إخوانه ممن حوله أن يساعدوه على التخلص من هذا، ولا أقصد -طبعاً- أن يصل من مرحلة الهزل والضحك إلى مرحلة العبوس، والجمود والتكشير، وإن كان التكشير صار الآن مفهومه بعكس المعنى "إنا نكشر في وجوه أقوام" أي: يتبسم.
على أية حال لا نريد هذه النقلة المعيبة لكن نريد الاعتدال.(286/21)
دعائم الشخصية الإسلامية في هذا العصر
السؤال
ما هي دعائم الشخصية الإسلامية في هذا العصر الذي صارت الأمة فيه مهزومة ويذبحون ذبح النعاج؟
الجواب
أولاً: قضية الوعي لا بد أن تكون متوفرة في الشخصية الإسلامية، وكذلك معرفة ما يدور وما يحاك.
ثانياً: قضية العزة، لا بد أن تكون الشخصية الإسلامية عزيزة، لا تلين لأهل الكفر، ولا تخنع وتذل لأهل بدعة أو تلاطف وتجامل على حساب الدين، لا بد أن يكون هناك عزة، قضية الولاء والبراء من المفاهيم العقدية التي تصون الشخصية الإسلامية وتجعل الإنسان داعية بشخصيته وبأفعاله.(286/22)
أسباب الملل والكسل السريع
السؤال
كثير من الناس يسعى لتكميل شخصيته؛ لكن ما يلبث أن يدب فيه الملل والكسل؟
الجواب
من الأسباب: أنه هجم هجمة واحدة قوية أكثر مما يتحمله بدون فترات راحة وتخفيف، وإنما أخذها شدة واحدة، فهو في هذه الحالة سينقطع به الطريق؛ لأنه حمل نفسه أشياء لا تطيقها، فالنفس تتحمل يوماً أو يومين، أسبوعاً أو أسبوعين، شهراً أو شهرين ثم تمل النفس، ولذلك لو أن واحداً لا يقوم الليل أبداً وأراد أن يقوم الليل من هذه الليلة، فأحسن شيء أن يصلي إحدى عشرة ركعة، وبالنسبة للقرآن الصحابة كانوا يختمونه في أسبوع، فيقول: أنا سأنهيه في أسبوع، ممكن أن يكون مع الحماس والكلام الذي سمعه في الموضوع أو قرأ في الفضائل أن يفعل ذلك في الليلة الأولى، لكن هل تتحمل نفسه هذا؟ لا تتحمل نفسه، ولا تطيق ذلك.
أو يقول: ما هو أفضل الصيام؟ صيام داود، أصوم يوماً وأفطر يوماً، من غد أصوم يوماً وأفطر يوماً، هو ما تعود على الصيام، يريد أن ينتقل إلى هذه المرحلة مباشرة، طبعاً نحن لا نريد أن نميت الهمم ونقول: يا فلان! إن كنت تستطيع أن تفعل فلا تفعل لا.
المستطيع يفعل، النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: (فإنك إن فعلت ذلك؛ نفهت نفسك) تعبت عينك، ونفهت نفسك، أي: كلت وملت.
ولكن يرفق ما دمنا في النوافل، أما الواجبات فليس فيها تنازل أبداً ولا تساهل ولا شيء اسمه تدرج بمعنى: أول شيء نصلي العشاء في المسجد وبعد ذلك نصلي المغرب ثم نصلي العصر ثم نصلي الفجر في الخطة الخمسية إن شاء الله، هذا الكلام لا يصلح، هذه واجبات لا بد من اليوم أن يقوم الإنسان بها، نحن نتكلم عن النوافل ونقول: يرفق الشخص بنفسه ويتدرج.(286/23)
حكم طاعة الكافر في مجال العمل
السؤال
هل يجب على الإنسان المسلم طاعة الرجل الكافر في مجال العمل؟
الجواب
نقول: يجوز ذلك إذا كان في مجال العمل، وليس له علاقة في التنازل عن الدين، افرض أنك ابتليت برئيس كافر فقال لك مثلاً: اضغط الزر، اكتب هذا التقرير، احضر اجتماع العمل.
كذلك ليس هناك ارتكاب لمحرم، مثل أن يقول لك: احضر اجتماعاً مختلطاً أو اسمع هذا المقطع الموسيقي، أو مثلاً اكتب هذا الشيء الذي فيه ضرر بالناس أو المسلمين، ففي هذه الحالة يكون هذا حراماً.
نعم أن تسعى لأن تكون أحسن منه أو تكون أنت في مكانه هذا مهم، لكن إلى ذلك الوقت؛ فإن التعامل معهم في حدود العمل المباح جائز.(286/24)
حكم الإعجاب بالكفار
السؤال
بعض الناس أصيبوا بالمسخ في الشخصيات نتيجة الإعجاب بالكفار؟
الجواب
صحيح أن بعض شبابنا صار معجباً بالكفار والفسقة، والناس يعجبون بهم، لأنه ليس هناك قدوات بارزة في الساحة، ثم الناس أنفسهم شخصياتهم هزيلة، فصار كل فاسق يعجب به، يسهل عليهم أن ينخدعوا بالفاسق والماجن والمطرب مع أنه إنسان تافه، حتى لو قرأت كلامه أو سيرته الذاتية لوجدته فاشلاً، لماذا دخل الفن والموسيقى لأنه فاشل، لا يستطيع أن يدخل الطب ولا الهندسة ولا العلوم ولا الصيدلة ولا كذا، فاتجه إلى معهد الفن والموسيقى، فصارت حركاتهم ترفع وكلامهم يعرض، فصار الناس لهزالة شخصياتهم يتبعون ذلك.
ثم إني قلت: إن كثيراً من الناس الذين سافروا إلى الخارج والبعثات مسخوا مسخاً، وصاروا خلقاً آخر.
أحدهم ذهب إلى ألمانيا وعاش هناك وتزوج ألمانية، ثم جاء أهله ليزوروه -أمه وأبوه- في ألمانيا بعد سنين طويلة، فقالت له زوجته: اسمع، إذا جلسنا مع بعض؛ فممنوع تتكلم مع أهلك بالعربي، تكلم بالألماني، تسمع أو لا؟ -طبعاً هي قالتها بالألماني تسمع أو لا- فلما حضروا، جاء واستقبلهم في البيت بالألماني، وجلس يحييهم بالألماني، وكان هناك واحد يترجم؛ لأنه مسكين، شخصيته هزيلة ومهزوزة أمام هذه المرأة الكافرة التي تسلطت عليه، فصار المجلس من أضحك ما يكون، هذا يتكلم بالألماني وقريبه يترجم، ثم يرد عليه الأب والأم بالعربي ويترجم المترجم هذا من الأمثلة.
وبعضهم يذهب ثم بعد سنوات يرجع فيقول له الناس: هاه يا فلان! أين صلاة الفجر، الصيام، السحور؟ يقول: لا، أنتم ما عرفتم أن هذا يضعف الخلايا، نحن عرفنا أشياء، هذا الصيام يعمل كذا وكذا، فنقول: صار المسخ في العبادات وكذلك في اللغة، فتراهم يستخدمون لغة الكفار حتى في محادثاتهم الشخصية، لا يوجد كافر في مجلس، فتجد اثنين من الشباب جالسين في المكتب يرطنون بلغة الأعاجم لماذا؟ ما هي المصلحة؟ ما هي الحاجة؟ وكثير منهم يلبس عليه بقضية دعوة الكفار، يقول: لا بد أن نطور لغتنا ونحسن، سأسمع إذاعة كذا وأسمع كذا، وأقرأ آخر كورس لغة، وأقرأ في كتب، وليس هناك شيء من الدعوة.
بعض الناس والله من إخلاصهم ربما يسلم ناس على أيديهم وهم لا يعرفون لغة القوم، لكنه جاء بهذا الكافر إلى إمام المسجد أو على شخص يعرف لغة، أو على مركز توعية الجاليات مع أنه لا يعرف لغة هذا، لكن من إخلاصه أسلم ناس، فهو بلغة الإشارات والكلمات التي يعرفها تسبب في إسلام ناس، وهذا الأخ الذي جاء هنا جالس يقول: أتعلم لغتهم وأسافر إلى الخارج وأتحدث مع الكفار.
يقول: لأن هذه الأشياء "الأكسنت" ما اسمها؟ هل هي هكذا أو لا؟ عندما يقولون اللغة، لا بد أن نكتسبها.
لماذا يا أخي؟ هم يتكلمون بالعربي معنا؟ وإذا تكلموا يتكلموا الفصحى؟ لماذا نحن لا بد أن نتعلم اللكنة ونتكلم مثلهم؟ فالمهم أنا أقول: إنها من جوانب مسخ الشخصية الحاصلة.(286/25)
معاملة الكفار بالحسنى والتضييق عليهم
السؤال
كيف نجمع بين قول النبي عليه الصلاة والسلام: فاضطروهم إلى أضيقه، وبين معاملتهم بالحسنى؟
الجواب
طبعاً هذا يشير إلى حديث (فاضطروهم إلى أضيقه) يعني: إذا مشيت أنت وهو في الطريق، ولا تقول للكافر: تفضل أنت تدخل قبلي أو اخرج قبلي أو يقدم له شيئاً، لا، أنت لا تقدمه في شيء، يقول: كيف نجمع بين هذا وبين معاملتهم بالأخلاق الحسنة؟ نقول: أولاً: إذا كنا نريد أن نعاملهم بالأخلاق الحسنة؛ لا بد أن يكونوا من غير المعادين لنا والمحاربين في الدين {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8] فإذاً الإحسان إليهم ومعاملتهم بالحسنى عندما لا يكون محارباً لنا في الدين.
ثانياً: لا ينبني على ذلك إذلال للمسلم؛ لأن بعض الناس يجعل الإحسان في المعاملة إذلالاً له، يصبح ذلاً للإسلام، يذل الدين في عين الكافر بسبب هذه المعاملة، ليست معاملة بالحسنى.
ثالثاً: أن تعامله بالحسنى في مجال الدعوة؛ لتكسب قلبه، لكن أن تقول: أزوره في بيته، وأحضر معه في مناسباته حتى أكسب قلبه، هذا شيء خاطئ إذا كنت تظن أن هذه المعصية ستؤدي إلى طاعة وهي دعوة، يجب أن تكون وسيلتك في الدعوة شرعية كلين الكلام، تبسمك في وجهه صحيح، وتقديم الحجج والبراهين والمنطق في الكلام الشرعي طبعاً هذا مطلوب.
ثم إكرامه بوليمة أو شيء تدعوه إليه لتكسب قلبه نعم، لكن بعض الناس يفعلون ذلك دون أن يكون له قصد في الدعوة، يا أخي بدل أن تدعو هذا الكافر وتعمل له وليمة انظر إلى إخوانك المسلمين الذين يحتاجون إلى كل قرش فما بالك ترغب عنهم لتعطي ذاك؟ والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(286/26)
مجالات لخدمة الإسلام
إن دين الله سبحانه وتعالى منصور، لكنه يحتاج إلى بذل الأسباب الشرعية القولية والفعلية من قبل الدعاة إلى الله، فلابد لكل داعية وطالب علم أن لا يحتقر نفسه وأن يعرف ما يصلح أن يخدم به الدين، فالدعوة إلى الله لها مجالات متعددة منها ما هو فرض كفائي، ومنها ما قد يتعين على بعض الناس في بعض الأوقات والأماكن وهكذا.(287/1)
طاقات معطلة عن العمل للدين
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام، هو دين الله القويم، ومنَّ علينا بإرسال أفضل الأنبياء والمرسلين، بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، وداعياً إلى الله بإذنه، فتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخواني! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وانقضت معظم أوقات المسلمين في البحث عن اللذات، والعمل للدنيا، وانشغل جمهور المسلمين عن الآخرة بأنواع من الملاهي، والشُغل بالنفس، فصار العمل لدين الله قليلاً أو نادراً، فلا شك أن هذه علامة ضعف وخطر، وهي من أسباب تقهقرنا وتخلفنا نحن المسلمين، إننا لا نرى جمهور المسلمين يعملون للإسلام، ولا يحملون هم الإسلام.
ثم إننا إذا نظرنا إلى واقع الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أو المحسوبين على قطاع الدعوة إلى الله، والمتمسكين بالإسلام أو الذين ينتسبون إلى التمسك بالدين؛ لوجدنا أن هناك خللاً كبيراً أيضاً وتفريطاً عظيماً، وكما أن هناك غثاء في الأمة فهناك غثاء أيضاً في هذا القطاع الذين ظاهرهم التمسك بالدين.
وذلك أن كثيراً من الشباب قد اتجهوا في الآونة الأخيرة لأنواع من الملاهي والانشغال عن العمل للدين، وصار همهم هو أنفسهم، وعملهم للدنيا، ودراستهم للدنيا، وسعيهم للوظائف، وبناء البيوت وتحصيل الأموال وغير ذلك، والانشغال بالأثاث والمتاع والرياش، وحتى الأماكن التي يذهب كثير منهم إليها، ويسافرون إليها ليست لتحصيل مصلحة في الدعوة لدين الله ولا لتحصيل علم شرعي، ولا لتربية النفس على الطاعة وإنما هي أشياء من ضياع الوقت واللذات، حتى أن كثيراً منهم يذهبون في رحلات للصيد ويصيدون من الدواب أحقرها وأسوأها.
فصارت الهمة متدنية حتى فيما يصيدون، لم تعد كثير من تلك الجموع همها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الدعوة إلى الله أو طلب العلم، وتراخى كثير من الذين كانوا من القدوات والعاملين للإسلام في يوم من الأيام حتى صاروا في آخر الركب في مؤخرة الناس، وتحول كثير من الطيبين إلى طاقات معطلة، لا تستفيد منها الأمة ولا تعمل لرفع شأن الدين، وأصيب عدد آخر منهم بالإحباط، وهم يقولون: ما هو السبيل وماذا عسانا أن نفعل؟ وعدد منهم قد أشغلتهم الأحداث عن التمعن في الدين والتفكر فيه وانساقوا وراء أغراض لأعداء الإسلام، انشغال عن حقيقة الدين واتباع للتوافه أو لأشياء يحسبونها عظيمة، وهي عند الله هينة لا خطر لها.
وانطلت خدع أعداء الدين على عدد من هؤلاء؛ فصاروا يهتمون لا أقول بالقشور أو تحسبون أني أتكلم عن السنن؟ لا.
معاذ الله، فإن من صلب ديننا التمسك بالسنة والعمل من أجلها، لكن المسألة -أيها الإخوة- صارت عند كثير من المسلمين وعند كثير من هؤلاء الذين كانوا يعملون للإسلام ويضحون من أجله، صار الانشغال بالتوافه واللعب واللهو، أو الدخول في أشياء من النقاشات والجدل العقيم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
وصارت حتى المجتمعات والأندية التي يجلسون فيها خالية من ذكر الله، ومن العلم الشرعي وطرح الأفكار الجادة والأطروحات التي من شأنها رفع شأن الدين، وصارت القضية خلافات وجدل وأخذ ورد، وتفسخات في الجسد الإسلامي الذي ينبغي أن يكون جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
إن الذي يبحث وراء انشغال الكثيرين بالأمور التافهة أو بالأمور الدنيوية والمتاع الزائل، يجد أنهم لا يشعرون بالواجبات الشرعية التي أوجب الله عليهم القيام بها، الواجبات الدينية غير سائرة في الدماء، وليست خاطرة على البال في الوقت الحاضر، بل كانت تخطر في وقت عند البعض ثم أزيحت الآن، وليس هناك قلق يزعج نفوس هؤلاء وعقولهم إلى التفكير في وسائل جادة لخدمة الدين، ولا شك أن الواجبات الدينية والوظائف الشرعية كثيرة، لكنها غائبة عن أذهان الكثيرين، فمثلاً: من الوظائف الشرعية الإمامة والخطابة، والأذان، والقضاء، والفتيا، والجهاد، وكشف سُبل العدو، والحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله عز وجل، والقيام على سد حاجات الفقراء، وإغاثة المنكوبين من المسلمين، فالواجبات الشرعية كثيرة جداً في هذا الزمن؛ لأن الثغرات المفتوحة في المجتمعات الإسلامية عموماً متعددة وواسعة، وتحتاج إلى همم كثيرة وجهود متظافرة للقيام بسد الخلل وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ودفع عجلة العمل الإسلامي إلى الأمام، والنهوض بشأن هذا الدين ليعود إلى ممارسة دوره في الواقع.(287/2)
فروض الكفاية واهتمام العلماء بها
وهذا يقودنا أيها الإخوة! إلى مسألة مهمة ومفهوم مهم جداً؛ ألا وهو قضية فروض الكفاية، إن كثيراً من الشباب لا يدركون لهذا المفهوم حقه، وربما لم يطلعوا أصلاً على كلام العلماء في هذه القضية، هناك واجبات كثيرة في المجتمع الإسلامي وبلدان المسلمين، كلنا آثمون بتركها جميعاً إلا من سعى للقيام بها، وكأن الواحد يظن أن صلاحه في نفسه أو بعده عن بعض المنكرات والمعاصي هو الواجب عليه، وأنه لا يجب عليه أكثر من ذلك، لا يجب عليه أكثر من الامتناع عن سماع الأغاني، والامتناع عن الإسبال، والامتناع عن بعض المنكرات والمعاصي التي كان يفعلها في السابق، هذا كل ما من شأنه، والمداومة على صلاة الجماعة ومصاحبة بعض الأخيار ممن هو على شاكلته فقط.
لكن المسألة أعمق من هذا بكثير، وكما قال ذلك الرجل الصالح: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس:26] يا ليت قومي يعلمون بالثغرات الموجودة والواجبات الشرعية في سدها، يا ليت قومي يعلمون بمعنى: فرض الكفاية الذي دندن حوله العلماء كـ ابن تيمية رحمه الله والشاطبي والقرافي والموقري والعز بن عبد السلام ونحوهم، هؤلاء العلماء الذين عاشوا في فترة أو في أزمة صار فيها شأن المسلمين إلى تضعضع وانحسار، وشعروا بالثغرات الموجودة فتكلموا في كتبهم، وبالذات مواضع أصول الفقه من كتبهم على هذه الواجبات الشرعية، فروض الكفاية، الذي دعا العلماء إلى توضيحها شعورهم بوجود العجز في الأمة، وشعورهم بوجود الثغرات التي ليس هناك من يقوم بتغطيتها.
ولذلك تكلموا في مسألة فروض الكفاية، والكلام عنها الآن في هذا الوقت من الأشياء المهمة والمهمة جداً؛ لأن الكلام عن فروض الكفاية هو الذي يشعرنا بتخاذلنا، وهو الذي يشعرنا بضعفنا وتقصيرنا فلعلنا نتحمس للقيام بالدور المطلوب.(287/3)
تعريف العلماء لفرض الكفاية
العلماء يُعرفون فروض الكفاية: بأنها إيقاع الفعل مع قطع النظر عن الفاعل، المهم أن الفعل يقع، بغض النظر عمن أنجزه، ويقولون: فعل البعض يكفي في سقوط الإثم عن الباقين.
فرض الكفاية: إذا فعله البعض كفى وسقط الإثم عن الباقين، وإلا أثموا كلهم، والذي يقوم بفعل فرض الكفاية مأجور، ويُسقط الإثم عن الباقين.(287/4)
أمثلة على فروض الكفاية
ومن الذين تكلموا عن موضوع فروض الكفاية الشافعي رحمه الله واستدل بقوله تعالى: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة:39] النفير للجهاد والقيام به واجب، هذا فرض على الأمة يجب أن تقوم به لحماية الثغور ونشر الدين، وتحطيم الطواغيت ومقارعة جيوش الكفر لئلا يكون هناك فتنة ويكون الدين كله لله، ولئلا يوجد عوائق تحول دون انتشار الدين.
الجهاد واجب إذا قام به البعض سقط عن الباقين، استدل الشافعي بقوله تعالى {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة:39] أي: أنه إذا لن تنفر الأمة أثمت كلها، ويعذبهم الله عذاباً أليماً، فهو فرض على الأمة -فرض الكفاية- فرض عام على الأمة يجب أن تقوم به, فإذا قام به بعضهم بكفاية سقط الإثم عن الباقين وثبت الأجر لمن انتدب لإيقاعه وإلا أثم، من الذي يأثم؟ أثم من كان يستطيع القيام به فلم يفعل، لأن بعض فروض الكفاية يوجد من المسلمين أناس عجزة لا يستطيعون القيام بها، فإذا لم تقم الأمة بها أثم الجميع، ولكن من المقصود بالجميع؟ المقصود القادر على أن يقوم بالعمل ولم يقم به، وليس المشلول والأعمى، فإنهما لا يأثمان إذا تركوا الجهاد لأن الله عذرهم، وإذا نفر الكفاية حصل المطلوب وأنُقذت الأمة من الإثم، ومن كلام العلماء في فرض الكفاية: أنه ليس فرض الكفاية أن يقوم به البعض كما اتفق أي: على أي صورة حتى لو لم تكون صحيحة مجزئة، وإنما يجب أن يكون هذا البعض قادراً على تحقيقه، فيمكن مثلاً أن يقوم بعض الناس بإنكار المنكرات، لكن عددهم قليل جداً لا يكفي، فهل يكون الإثم قد سقط عن الباقين؟
الجواب
لا.
ليس القضية أن يقام به بأي طريقة، بل لا بد أن يقام به بطريقة صحيحة كافية تغطي العجز وتقوم بالمطلوب، إن لم يحصل فإن البعض الذين قاموا بالجزء من العمل لا يُسقطون الإثم عن الباقين، هم مأجورون ولكن لأنه مازال يوجد عجز فالباقون كلهم آثمون حتى يقوموا بهذا الواجب.
ومن أمثلة فروض الكفاية التي ضربها أهل العلم مثلاً: صلاة الجنازة، إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، رد السلام إذا رد السلام واحد أجزأ عن الجماعة، وقال الإمام أحمد رحمه الله عن فرض الكفاية: واجب على الجميع، ويسقط إذا قام به من تقوم به الكفاية ويأثمون إذا تركوه جميعاً، وهذا الإثم مقيد بالاستطاعة والطاقة فغير المستطيع والقادر لا يأثم، ونص على ذلك ابن تيمية رحمه الله تعالى.
ومن القواعد المهمة في فروض الكفاية -هذا الكلام مقدمة قبل الدخول في مسألة المجالات أو الحقول لخدمة الإسلام- لأن المسألة الآن مهمة في تنشيط الكسالى، وإعادة الذين انحرفوا عن جادة العمل وركنوا إلى الدعة والكسل إلى حقل الدعوة والعمل مرة أخرى، وهذه مسألة مهمة.(287/5)
قواعد فروض الكفاية
قواعد فروض الكفاية:(287/6)
سقوطه عن العاجز
الأول: أن العاجز يسقط عنه.(287/7)
أن فروض الكفاية تتعين على البعض
الثاني: أن فروض الكفاية تتعين على بعض الناس في بعض الأوقات، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في المجلد التاسع عشر في: مجموع الفتاوى قال: وفروض الكفايات تتنوع تنوع فروض الأعيان، يعني مثل الفروض التي فيها صلاة وصيام وحج مثلاً، كذلك فروض الكفايات تتنوع بتنوع فروض الأعيان، ولها تنوع يخصها وهو أنها تتعين على من لم يقم بها غيره، إذا وجد أحد في موقع ورأى ثغرة في المسلمين يجب عليه أن يقوم بها إذا لم يكن هناك من يقوم بها غيره، ربما تجد منكراً أمامك أنت الذي رأيته، سيفوت لو ذهبت تستدعي غيرك مثلاً، يجب عليك أن تنكر أنت بالقواعد والضوابط الشرعية ما لم يترتب عليه منكر أكبر إلى آخر ذلك، المهم أنه في بعض الأحيان والأوقات يكون فرض الكفاية متعيناً على هذا الشخص المعين في الوقت المعين في المكان المعين.
قال شيخ الإسلام: فقد تتعين في وقت ومكان وعلى شخص وطائفة، قد تكون متعينة على شخص، قد تكون متعينة على طائفة وفي وقت آخر أو مكان آخر على شخص آخر أو طائفة أخرى كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهاد والفتيا والقضاء وغير ذلك.
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله بعده كلاماً في المستحبات، وأنها تتنوع بشكل أبلغ، وأنه قد يستحب في حق فلان شيء أكثر مما يستحب في حق فلان، الذي صوته جميل يستحب في حقه الأذان أكثر من غيره، صاحب الحفظ والإتقان في القراءة ومراعاة أحكام الصلاة يتعين في حقه الإمامة أكثر من غيره، وصاحب الفصل بين المتخاصمين والعلم بالقضاء والقدرة على تمييز الحق من الباطل فهذا متعين عليه القيام بالقضاء أكثر من غيره.
الشخص الذي عنده قدرة على الحفظ والفهم يتعين عليه التفرغ لطلب العلم أكثر من غيره، صاحب الرأي السديد في القتال وصاحب النجدة والمروءة والمسارعة والقوة الجسدية والعقلية والمهارات القتالية يستحب في حقه الجهاد أكثر من غيره وهكذا، وحتى صاحب القدرة على التجارة الذي ينفع المسلمين وليس الذي يغوص في التجارة وينسى العلم والدعوة، وينسى الدين! لا.
وإنما صاحب القدرة على القيام بسد حاجة المسلمين من المال بأن يكون ماهراً بالتجارة قادراً عليها مثلاً، فهذا يتعين في حقه أكثر من غيره، من غير المجربين والذين ليس لهم سابق خبرة بالتجارة.
ومن الكلام الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله: الجهاد واجب على الكفاية، لكن وجوبه على المرتزقة الذين يُعطون مال الفيء للجهاد أوكد، الجيوش النظامية الإسلامية التي تُعطى من مال الفيء يعطون مرتبات من بيت المال، لأجل التفرغ للقتال، الجهاد عليهم أوكد هذا كلامه رحمه الله.
فإذاً القضية تتعين على طائفة أو على شخص في زمان أو مكان، هذه القضية تختلف باختلاف الأحوال، وقال رحمه الله: وكذلك أهل العلم الذين يحفظون على الأمة الكتاب والسنة صورة ومعنى، صورة: أي: يحفظون النصوص، القرآن والأحاديث، والمعنى: الفقه في النصوص، وأهل العلم الذين يحفظون على الأمة الكتاب والسنة صورة ومعنى، مع أن حفظ ذلك واجب على الأمة عموماً على الكفاية، واجب عيني على كل مسلم أن يعلم كيف يحج إذا أراد الحج، وكيف ينكح إذا أراد الزواج، وكيف يطلق إذا أراد الطلاق، وكيف يبيع إذا أراد التجارة، هذا واجب عيني على كل واحد أن يعلم، لكن على أصحاب العلم الذين لهم نظر ثاقب وفهم وفقه ودقة وحفظ الإلمام بالأشياء العلمية والتبحر في العلم هذا عليهم أوجب من غيرهم، وجوب ذلك عيناً وكفاية على أهل العلم الذين رأسوا فيه، أو رزقوا عليه أوجب منه على غيرهم، لأنه واجب بالشرع عموماً، وقد يتعين عليهم لقدرتهم عليه وعجز غيرهم، وهذا من أوجه التعيين.
ويدخل في القدرة استعداد العقل وسابقة الطلب.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: فروض الكفاية قد يتعين على بعض الناس في بعض الأوقات، ومن قواعد فروض الكفاية: أنه يلزم السلطان ما لا يلزم غيره بشأن فروض الكفايات، أي: واحد عنده قدرة وقوة يلزمه من فروض الكفايات مالا يلزم غيره، هذا شيء طبيعي بدهي، فإن لم يقم به صاحب القدرة أو السلطان وجب على غيره من المسلمين القادرين أن يقوموا به.
ولذلك ابن تيمية رحمه الله في وقت غزو التتار قام بعدد من فروض الكفاية مثل إقامة بعض الحدود هو وتلاميذه رحمه الله، كانوا يجلدون شُرَّابَ الخمور، أقاموا الحدود لما لم تقم في البلد وصارت فوضى؛ نتيجة هجوم التتار وذعر الناس وخوفهم واضطربت الأمور.
كان هو وتلاميذه رحمه الله تعالى ممن يقيمون شرع الله في البلد، وكانوا يقومون بوظيفة السلطان في الحدود؛ لأن أمر الحدود إلى السلطان، لكن لما ذهبت مع ذلك الواقع المختل قام بها شيخ الإسلام رحمه الله وتلاميذه، وأقاموا بعض الحدود.(287/8)
إذا تزاحمت الفروض قدم أوكدها
وكذلك فإن فروض الكفايات إذا تزاحمت فما هو الحل؟ قال شيخ الإسلام رحمه الله: إذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما في الوقت نفسه فيقدم أوكدهما إذا صار هناك فرضا كفاية لا تستطيع أن تجمع بينهما أو واجبان عموماً لا تستطيع الجمع بينهما فأنت تقوم بالأوكد والأوجب منهما في هذه الحالة، ولايكون الآخر عليك واجباً، ولذلك لا تأثم بتركه، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا بد من ارتكاب أحدهما، فإنك ترتكب الأدنى لدفع الأسوأ، ترتكب المحرم الأخف لدفع المحرم الأثقل والأسوأ، وفي هذه الحالة لا تكون آثماً بارتكاب المحرم الأخف.(287/9)
متى يسقط فرض الكفاية
متى يسقط فرض الكفاية؟ ذكر القرافي رحمه الله تعالى: أنه لا يشترط في فرض الكفاية تحقق الفعل ولكن غلبة الظن تكفي، أي: إذا غلب على ظنك أن هناك طائفة قد قامت به أو شخص آخر قام به سقط عنك، وإذا غلب على ظنك أنه لم يقم به أحد وهذا مفيد في علاج قضايا المنكرات، بعض الناس يقول: ربما يوجد غيري يقوم بها، ربما غيروه وأنا ما أدري، ربما قام به أحد وغيره، نقول: ما الذي يسقط عنك المسئولية أمام الله عز وجل؟ إذا غلب على ظنك أن طائفة أو شخصاً قد قام به سقط عنك، وإذا غلب على ظنك أنه لم يقم به أحد فإن التعيين باقٍ عليك، يتعين عليك القيام به.(287/10)
أن فرض الكفاية حسب الاستطاعة
وكذلك من قواعد فروض الكفايات: أن فرض الكفاية حسب القدرة والاستطاعة، بعض الناس عنده قدرة أكثر من غيره، ولذلك فإن بعض أصحاب الاستطاعة أو القوة والقدرة يكون إثمهم عند الله ومسئوليتهم أشد من غيرهم من الضعفاء، والدخول في المجالات التي تمكن من القيام بفرض الكفاية إذا تعين طريقاً واجب، يجب الدخول فيها لأجل القيام بفرض الكفاية، وكان هناك عدد من العلماء لهم وجهة نظر في تولي الولايات، مثل: إسماعيل بن علية رحمه الله فإنه أخذ ولاية الصدقات، تولى ولاية الصدقات وظيفة في بيت المال، يجمع الصدقات ويصرفها في مستحقيها، هذا اجتهاده رحمه الله وإن أنكر عليه من أنكر لكن رأيه دخل فيها لأجل إقامة هذا الفرض، وكذلك خالد بن الوليد لما قُتل الثلاثة الأمراء الذين عينهم النبي صلى الله عليه وسلم تقدم هو لسد الثغرة وحمل اللواء كل على حسب طاقته وكل بحسب موقعه.
من الأشياء اللطيفة التي أشار إليها الشاطبي رحمه الله في المسألة الحادية عشرة في المجلد الأول من كتاب: الموافقات في مسألة فروض الكفاية، بعد أن ساق الأدلة في قضية فروض الكفاية: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122] {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104] على أحد المعنيين في تفسير الآية ذكر أن القيام بالشيء هو بحسب القدرة والاستطاعة، وأن الذي يأثم هو صاحب القدرة والاستطاعة إذا لم يقم، واستدل بحديث أبي ذر: (يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأَمَرَنَّ على اثنين، ولا تولين على مال يتيم) وقال الشاطبي رحمه الله: وكلا الأمرين من فروض الكفاية، ومع ذلك فقد نهاه عنها، أي: تولي مال اليتيم من فروض الكفاية لئلا يضيع، وكذلك الإمارة من فروض الكفاية، لا يصبح الناس فوضى لا سراة لهم.
قال: ومع ذلك فقد نهاه عنه، لأنه يعلم أنه لا يطيق القيام بهذه المسئولية، فلو فرض إهمال الناس لهما لم يصح أن يقال بدخول أبي ذر في حرج الإهمال ولا من كان مثله، يعني: إذا لم يقم بهما العجزة أصلاً على القيام ليس عليهم حرج ولا يدخلون في الحرج، قال: وعلى هذا النهي جرى في تقليل كثير من فروض الكفايات فقد جاء عن مالك أنه سئل عن طلب العلم أفرض هو؟ قال: أما على كل الناس فلا، أي: الزائد عن الفرض العين، كل واحد عليه أن يعلم إذا أراد أن يطلق كيف يطلق، إذا أراد أن يبيع كيف يبيع، لكن طلب العلم كله والتفقه في الدين ليس بفرض، لما سُئل مالك قال: أما على كل الناس فلا، وقال أيضاً: أما من كان فيه موضع للإمامة فالاجتهاد في طلب العلم عليه واجب.
عموماً: الشاطبي رحمه الله أشار إلى نكتة بديعة في القضية وهي مسألة تهيؤ الناس لأداء فروض الكفاية، قال: الذين ليس عندهم قدرة للقيام بها يجب عليهم أن يدفعوا غيرهم على القيام، وأن يساعدوا غيرهم للقيام بها، قال: ومن لا يقدر عليها مطلوب بأمر آخر وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام به.
أبٌ ما يستطيع أن يطلب العلم ولمس في ولد من ولده القدرة، إذاً يجب عليه أن يدفعه لهذا لأجل سد الثغرة الموجودة عند الناس في قضية الإمامة في العلم والفُتيا والتعليم، ولذلك قال رحمه الله: فإذا فُرض أن واحداً من الصبيان ظهر عليه حسن إدراك، وجودة فهم، ووفور حفظ لما يسمع، ميل به نحو ذلك القصد الذي هو طلب العلم، وجهنا الصبي هذا لطلب العلم، وهذا واجب على الناظر فيه من حيث الجملة؛ مراعاة لما يرجى فيه من القيام بمصلحة التعليم، إذاً يجب على ولي الصبي أن يوجهه لهذا المجال إذا أَنَسَ من الولد القدرة، يجب أن يدفعه إلى هذا المجال أو إلى هذا الحقل لأجل أن يغطي في المستقبل، إذاً هذه قضية بعض الأشياء المتعلقة بفروض الكفاية.
وقد كان السلف رحمهم الله قد قاموا بذلك خير قيام، وكان كل واحد يقوم على قدر طاقته، هذا شبير في معركة القادسية واحد من المسلمين قزم قصير كانوا ربما استهزءوا به، تقدم واحد من فرسان الفرس للمبارزة والتحدي ما خرج إليه أحد، فهذا المسلم القصير قام وخرج حتى ضحك به ذلك الرجل وأمسكه وأنزله من الفرس ودقه في الأرض، ولكن تعلقت قدم ذلك الفارس بشيء فسقط على الأرض فقعد عليه شبير فذبحه بسيفه والناس ينظرون بين تكبيرة المسلمين وتأوهات الفرس الملاعين، كانوا يستشعرون أهمية القيام بالقضية، هذا كان على مستوى الضعفاء.
أما على مستوى الوزراء: انظر مثلاً في ترجمة الوزير ابن هبيرة رحمه الله يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعد بن الحسين هذا الرجل العظيم ولد في ربيع الآخر سنة (499هـ) وكان معاصر لـ نور الدين الشهيد، والرجل هذا نشأ فقيراً محتاجاً فدخل في بعض أعمال الخليفة حتى صار وزيراً، لكن الرجل هذا ما ضاع في متاهات المناصب والقصور والغنى والثراء، وإنما حافظ على دينه.
ولذلك لما تولى الوزارة مازال يطلب العلم وقد كان يطلبه وهو شاب، وتخرج على عدد من العلماء، صنف كتاباً وهو في الوزارة، وهذا الكتاب المشهور باسم: الإفصاح عن معاني الصحاح، اعتنى به وجمع عليه أئمة المذاهب وأوفدهم من البلدان إليه لأجله، بحيث أنفق على ذلك مائة وثلاثة عشر ألف دينار، وحدث به واجتمع خلق عظيم لسماعه عليه، وبُعث إلى الأطراف بنسخ منه حتى السلطان نور الدين الشهيد واشتغل به الفقهاء في ذلك الزمان على اختلاف مذاهبهم يدرسون منه في المدارس والمساجد، ويعيده المعيدون ويحفظ منه الفقهاء.
لكنه ما غصبهم عليه أو أنه استغل منصبه لفرض كتابه بالقوة أبداً، لكن كان يستعين بحكم منصبه بالفقهاء ويستقدمهم على نفقته ويتيح المجال لمناقشة ما في الكتاب والتصحيحات، وهو رجل عالم قبل أن يكون وزيراً، وكان هذا الرجل من فقهه يقول: لا تقولوا في ألقابي سيد الوزراء فإن الله سمى هارون وزيراً، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن وزيريه أبو بكر وعمر، وقال: (إن الله اختارني واختار لي أصحاباً فجعلهم وزراء وأنصاراً) ولا يصح أن يقال عني: أني سيد فهؤلاء السادة.
وهذا الشخص لما ولي الوزارة وكنيته أبو المظفر ابن هبيرة رحمه الله، بالغ في تقريب خيار الناس من الفقهاء والمحدثين والصالحين، واجتهد في إكرامهم وإيصال النفع إليهم، وارتفع به أهل السنة غاية الارتفاع، وقال مرة في وزارته: والله لقد كنت أسأل الله تعالى الدنيا لأخدم بما يرزقنيه الله منها العلم وأهله، فسعيه للمال أو المنصب من أجل خدمة أهل العلم، وكان مع كونه وزيراً يُنفق أمواله في سبيل الله.
ولذلك قال مرة: ما وجبت عليَّ زكاة قط، وقال ابن الجوزي: كان يتحدث بنعم الله عليه ويذكر في منصبه شدة فقره القديم فيقول: نزلتُ يوماً إلى دجلة وليس معي رغيفٌ أعبر به، وكان من ورعه لا يلبس ثوباً فيه الإبريسم وهو الحرير على القطن ولو كان مخلوطاً بالقطن، فإن شك في ذلك سل طاقته ونظر في نسجه هل دخل فيه الحرير أم لا! ونظر هل القطن أكثر أم الإبريسم، إذا دخل فيه شيء من الحرير نظر أيهما أكثر، فإن استويا لم يلبسه.
قال: ولقد ذكر يوماً في بعض مجالسه فقال له بعض فقهاء الحنابلة: يا مولانا! إذا استويا جاز لبسه في أحد الوجهين عند أصحابنا، قال: إني لا آخذ إلا بالأحوط، والشاهد أنه كان مُكرماً لأهل العلم ويقرأ عنده الحديث، وعلى الشيوخ في حضوره ويجني من البحث والفوائد ما يكثر ذكره، وكان مقرباً لأهل العلم والدين كريماً طيب الخلق، وكان شديد الإيثار لمجالسة أرباب الدين والفقراء، بحيث كان يقول لبعض الفقراء: لأنت أخي والمسلمون كلهم إخوة، وكان أكثر ما يحضره الفقراء والعميان إذا مد السماط، فلما كان ذات يوم وأكل الناس وخرجوا بقي رجل ضرير يبكي، ويقول: سرقوا مداسي ومالي غيره، والله ما أقدر على ثمن مداسي، وما بي إلا أن أمشي حافياً وأصلي، فقام الوزير من مجلسه ولبس مداسه وجاء إلى الضرير فوقف عنده وخلع مداسه والضرير لا يعرفه وقال: إلبس هذا وأبصره على قدر رجلك؟! فلبسه وقال: نعم.
لا إله إلا الله كأنه مداسي قال: خذه، فأعطاه إياه.
الرجل هذا لما مات رحمه الله تعالى من شدة كرمه وحلمه وخُلقه الحسن وخِدمته للمسلمين غُلقت أسواق بغداد وخرج جمع عظيم في الأسواق وعلى السطوح وعلى شاطئ دجلة وكثر البكاء عليه رحمه الله.
الشاهد من الكلام: أنهم كانوا يبذلون للدين على قدر طاقاتهم ومناصبهم وولاياتهم واستطاعتهم وأموالهم، وربما يكون الواحد ما عنده شيء فكان يوقف نفسه لأحد العلماء، كما جاء في سيرة القرافي أنه لما دخل بلداً جاءه شاب قال: وقفت نفسي عليك هذا اليوم، ماذا تريدني أن أفعل فعلت، كانوا يعملون ولو لخدمة العلماء إذا لم يجد ما يقدمه قام في خدمة أهل العلم، فهذا يكون مبلغاً في حلقة حديث لأنه صاحب صوت قوي مشترك في التبليغ، الأعرابي يشترك في تثبيت الإمام أحمد، حتى اللصوص في السجن سعوا في تثبيته رحمه الله تعالى، كل واحد كان يبذل ما يستطيع، هذه القضية الغائبة الآن عنا، كل واحد يبذل ما يستطيع.
ابن أم مكتوم الأعمى رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في غزوة قال: أقيموني مع السارية وأعطوني العلم لأني أعمى ما أفر، ما أرى ما حولي أمسك لكم العلم، والشاهد -أيها الإخوة- أننا نحن الآن في مشكلة كبيرة وهي قضية عدم خدمة الإسلام من المواقع التي نحن فيها، والواحد إذا كان في موقع صغير احتقر نفسه قال: مالي شيء ولا أستطيع أن أخدم الإسلام في شيء، احت(287/11)
إشارات في بعض مجالات خدمة الإسلام
والآن ندخل في موضوع: فرص لخدمة الإسلام ولنسم هذا الدرس: فرص لخدمة الإسلام.
إشارات سريعة لبعض المجالات التي يمكن للإنسان أن يقدم فيها خدمات للدين، أن يخدم الدين ويقوم بحمل الدين، مع التذكير مرة أخرى.(287/12)
طلب العلم
أيها الإخوة! لئلا نحقر أنفسنا الآن لا شك أن أعظم مجالات خدمة الدين طلب العلم، وقد تكلمنا سابقاً في موضوع طلب العلم، وطرق تحصيله والمنهج في ذلك، والحفظ والرحلة وبعض آداب الطلب، ولا شك أن تحصيل الدين والعلم من أعظم الخدمات التي تقدم لدين الإسلام، لأن المسلمين لا يمكن لهم الانتصار مطلقاً وهم يعيشون حالة جهل عام بدينهم، وهناك الملايين الملايين من المسلمين الذي يجهلون أبسط الأشياء والأساسيات في الدين الإسلامي.
فيجب على كل واحد منا أن يقوم بما يستطيع القيام به في التعلم وتعليم الغير، وربما يكون طالب علم في مكان فإذا انتقل إلى قرية صار شيخاً، لما يُوجد من التقصير عندهم.
فعلى الإنسان أن يقدر الأمر حق قدره، وأن يقوم بالمسئولية، وهناك أشياء كثيرة يمكن معرفتها بالكتب، الواحد إذا لم يكن عنده فقه أو لم يكن عنده طاقة في الحفظ، فيمكن أن يعمل أشياء كثيرة يخدم بها العلماء، كما حصل لذلك الشاب مع القرافي رحمه الله حيث وقف نفسه عليه، خدمة العلماء، القيام بشئونهم سواء ما يتعلق بالعلم أو بتوفير الوقت لهم لأجل تحصيلهم للعلم والتعلم، وكفايتهم الأرزاق مثلاً أو القيام بشئونهم الخاصة حتى يتوفر لهم الوقت.
وكان مع الإمام أحمد رحمه الله محمد بن نوح شاب ما عنده فقه، ليس ذا فقه وعلم كبير، لكن كان مع الإمام أحمد في محنته، كان يصبره ويصبر معه، محمد بن نوح رحمه الله، ولما مات في طريقه إلى المأمون صلى عليه الإمام أحمد ودفنه، وأثنى عليه ثناءً عاطراً، فالقيام مع أهل العلم في أحوالهم وفي شئونهم فضيلة.(287/13)
مساعدة أهل العلم وطلابه
كذلك مساعدة طلبة العلم وأهل العلم -مثلاً- يمكنك يا أخي المسلم! أن تجرد بعض المطولات في الكتب قراءة، ما تحتاج إلى قضية فقه وتثقيف وحفظ لا تطيقه إذا قلت أنني لا أطيقه، واستخراج العبر والعظات وجمعها في أوراق مستقلة وتقديمها لطلبة العلم، يمكنك أن تحضر خطبة أو عناصر موضوع تفيد به طالب علم أو محاضراً أو خطيباً من الخطباء، ألا تستطيع ذلك؟ بلى ولا شك، استخرج القصص في الصدق، القصص في ذم الكذب، القصص في الزهد، القصص في العبادة على سبيل المثال، قصص في تربية الأولاد من سيرة السلف هذا تستخرجه من كتب السير وغيرها.
انظر -مثلاً- إلى الفهرس الموجود في آخر كتاب: نزهة الفضلاء مختصر كتاب: سير أعلام النبلاء، وسر على منواله في تجميع هذه القصص والشواهد والأشياء الجيدة التي تساعد بها غيرك من المفوهين أو القادرين على الإلقاء إذا لم تكن أنت صاحب قدرة على الإلقاء.
وإذا كنت صاحب قدرة على الترجمة من لغة إلى أخرى، فإن عليك القيام بترجمة بعض الرسائل الصغيرة إلى الأعاجم الذين يتكلمون باللغات المختلفة، إذا استطعت، هناك أشرطة عند بعض الجاليات لما راجعها بعض طلبة العلم وجدوا فيها بدعاً وخرافات وشركيات، وتوزع عليهم وتعطى لأجل أنه لا يوجد غيرها، ويأتيكم الحجاج كل سنة مئات الألوف من أنحاء العالم، ماذا فعلنا من أجلهم؟ ماذا قدمنا لهم؟ ماذا خدمناهم في قضية تعليم الدين؟ وهم قد جاءوا إليك لا تكلف أنت بالنفقة للذهاب، حضروا عندك، لو أردت أن تكلمهم تزورهم، ربما تنفق الآلاف المؤلفة والأوقات لتلف حول العالم من أجل أن تزورهم، وهم قد حضروا عندك فماذا فعلنا إذاً لتعليمهم ولتثقيفهم؟ زيارتهم، معرفة ظروفهم، تقديم النصائح التي تصلح شأنهم، مراسلتهم ومواصلتهم بعد الحج.
هناك أيضاً من المجالات العلمية بعض الكتب العلمية التي ليس لها فهارس يمكنك عمل فهارس لها، وهذه قضية لا تحتاج إلى مزيد من العلم أو الفقه حتى تقوم بها، ثم توزع على طلبة العلم الذين عندهم مثلاً هذه الكتب حتى يستفيدوا منها، وأشرطة بعض المشايخ التي شرحوا فيها المتون الفقهية هذه لو أنك قمت بتفريغها وإصلاح شأنها، وعرضها على الشيخ، ولسنا ندعو أبداً إلى قضية تسرع الشباب في التأليف، هذه من الأشياء التي فيها خطر عظيم، أو نقول: أنزلوا إلى ميدان تحقيق الأحاديث والتخريخ، فتخرج علينا بعد ذلك كميات من الأوراق الغثائية المملوءة بالأشياء العجيبة؛ نتيجة لتسرع بعض هؤلاء الشباب في التأليف والكتابة والتحقيق والتخريج وهم ليسوا بأهل ولا درسوا قواعد الجرح والتعديل، ولا تخرجوا على علماء هذا الشأن، علماء الحديث، ثم بعد ذلك يكتب عليه تخريج وتحقيق فلان، فهذا من المصائب، وتكثير الأغلفة والعناوين دون فائدة، وينتج من المفاسد إضاعة كتب كثير من أهل العلم الحقيقية، فنحن نقول: خدمة كتب العلماء أو السعي إلى خدمة العلماء أنفسهم أو طلبة العلم.
هناك مشاريع علمية كثيرة لو أراد الشخص أن يعمل مشاريع علمية يمكن أن يدل عليها، سواء كان طالب علم أو كان إنساناً ما عنده علم لكن يريد أن يخدم في مجال طلب العلم.
وكذلك ترجمة بعض المقالات التي تفيد المسلمين من العلوم الأخرى الطبية أو الإنسانية أو الإدارية التي يسمونها العلوم الإنسانية مثلاً، دون أن يضطر الإنسان إلى الوقوع في معاصي أو يدخل في متاهات، لأن بعض الذين يراجعون هذه الكتب يطلعون على صور منحرفة وسيئة أو مقالات منحرفة، ربما تنطلي عليهم، فيحتاج الإنسان إلى شيء من الثقافة الإسلامية التي تبين له حكم الإسلام في هذه النظريات الوافدة أو الحديثة.(287/14)
المشاركة في الدورات العلمية
والمجالات كثيرة إذا أردنا أن نسرد من غير ترتيب، فنقول: المشاركة في الدورات العلمية التي تقام مثل فصل الصيف تقام فيه دروس ودورات علمية، يأتي مشايخ أو علماء إلى المنطقة أو بعض المساجد في بعض المناطق، فأين الناس الذي يزعمون الاهتمام بطلب العلم؟! وأنهم يريدون المنهج لطلب العلم! وأنهم حريصون على طلب العلم! فإذا جاء الشيخ أو العالم وبدأ في تدريس الكتاب رأيت هؤلاء يصدون عنك صدوداً، وقد تبخروا كما يتبخر الماء فوق النار، ويختفي هؤلاء الأشخاص فجأة بعد ما كانوا يطالبون ويلحون يقولون: نريد حِلق علم، نريد مشايخ، نريد علماء يأتون وبعد ذلك يهربون إذا جاء هؤلاء الصادقون المخلصون أو طلبة العلم.
الإنسان يتتلمذ على طلبة العلم إذا ما وجد العلماء، فيحصل خيراً كثيراً، وربما يكون عند بعض طلبة العلم من القدرة على الشرح أكثر مما عند بعض العلماء الكبار، أو ربما يستطيع أن يبسط القضية للمبتدئين بتبسيط جيد، فعند ذلك التخرج على هؤلاء يكون من الأفكار أو الأشياء الصائبة، وتقوم كثير من الهيئات الخيرية الإغاثية أو التي تساعد الفقراء في البلد، يحتاجون إلى تجميع الصدقات وتجميع الطعام من الولائم، والذهاب به إلى هؤلاء الفقراء، وإلى بيوتهم والتعرف على بيوت الفقراء، والقيام بإعانة الهيئات الرسمية في كل ما من شأنه دعم الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(287/15)
خدمة الحجاج
وكذلك كما سبق أن أشرنا في قضية خدمة الحجاج حتى في غير القضايا العلمية، لما صار هناك زحام في عرفة انتدب بعض الشباب أنفسهم بتوزيع بعض العصير والماء البارد على الحجاج، الحجاج كثيرون جداً، فكان لذلك أثر كبير على الناس، ليست القضية فقط تقديم العلم وإنما حتى تقديم الأشياء الأخرى التي فيها سد جوعة وزوال عطش.(287/16)
إهداء الهدايا وتوزيع الكتيبات
وإهداء الهدايا الجميلة كثير من هؤلاء الذين قلنا: أنهم يخرجون إلى البر، ولو كانوا يخرجون لضياع الوقت ولتزجية الوقت ماذا عليهم أنهم لو اصطحبوا معهم من هذه الأشياء الموجودة في المكتبات والمطبوعة ما يفيد الناس في دينهم، وما يستمعون به إلى الدروس المفيدة والمحاضرات القيمة؟ أين هؤلاء الذين يقيمون الدروس لأهلهم في البيت ويشرحون لهم الأحكام المتعلقة بالعبادات كالطهارة والصلاة، ويشرحون لهم شيئاً مبسطاً في العقيدة الإسلامية، ويذكرونهم من خلالها بالتوحيد وما يناقضه من الشرك، ويذكرونهم أيضاً باليوم الآخر؟!! لأنه لا يمكن فصل قضية البعث والنشور والتذكير باليوم الآخر عن مسألة العقيدة فهي من صلب العقيدة، فلا ينصرف الذهن إلى مسائل الأسماء والصفات ونترك قضايا اليوم الآخر لا نذكر بها الناس، لا شك أن هذا قصور كبير في تعليم الناس العقيدة.(287/17)
السفر إلى الخارج للدعوة وغير ذلك
كذلك بعض الذين يسافرون إلى الخارج لنقل: إنهم عصاة يسافرون إلى بلاد الكفار للسياحة، لو أنه صنع أشياء لتكفير ذنوبه مثلاً، ونحن لا نحثه على الذهاب أصلاً لكن من باب تكفير بعض الذنوب على الأقل أن يشارك في شيء من دعم المسلمين هناك، أو اصطحاب بعض ما ينفعهم إلى هناك، ثم لو خرج مضطراً لعلاج أو خرج لمصلحة شرعية كدعوة إلى الله مثل بعض الذين يذهبون ليؤمون المساجد في المراكز الإسلامية في رمضان أو في غيرها؛ أو يذهبون مع البعثات العلمية التي توفدها بعض الجامعات في هذا البلد، تقوم جامعة الإمام مثلاً بدور مشكور وعظيم جداً في إرسال البعثات إلى بلاد المسلمين مثل الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي سابقاً أو غيرها.
وأنشطة كثيرة تقوم بها بعض الهيئات الخيرية كما قد تقوم به في ألبانيا وغيرها، وهذه لا شك تحتاج إلى سواعٍ وإلى جهود وطاقات إدارية، وطاقات تنظيمية، وطاقات تجمع التبرعات وتقوم بالاتصالات، وهذه أشياء ينبغي أن يكون هناك شباب يقومون بها، وحتى لو رافق الإنسان أهله في رحلة داخل البلد وذهب معهم للصيد في الطائف أو أبها أو الباحة أو المناطق التي يغشاها الناس لاعتدال الجو فيها فسيلاقي هناك من المصطافين الكثير، وحتى الذين يأتون هنا في أوقات الإجازات إلى الشواطئ يجب أن نستشعر دورنا تجاههم، وأن نقوم بدورنا في النصح والتوجيه وإقامة الصلاة لهم مثلاً بأماكن قد لا توجد فيها مساجد، أو القيام بنصحهم إذا ارتكبوا منكرات، أو ارتفعت الأصوات في الغناء ونحو ذلك، وعقد درس لهم قد يستفيدون منه في تبيان بعض أحكام السفر أو غير ذلك من الأشياء الوعظية.(287/18)
سد الثغرات والقيام بالواجب
المسلم خير أينما حل انتفع به، وهو كالشجرة إذا رمي رمى بالتمر، فهو صابر على ما يصيبه من البلاء والأذى من الناس السفهاء من أجل تعليم الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهناك كثير من القرى والهجر محتاجة إلى إقامة المواعظ والدروس، وهناك مجال للتعاون مع كثير من الهيئات لأجل القيام بما يحتاج إليه هؤلاء، والمساجد قد تحتاج إلى عناية وصيانة، تحتاج إلى تنظيف وإصلاح أشياء، ينبغي أن يكون هناك في كل حي وفي كل مسجد من الناس ممن حوله من يقوم بهذه المهمات، ويوجد هناك حلقات تحفيظ قد يغيب مدرس التحفيظ، يكون هناك من يقوم مقامه، إذا غاب الإمام يكون هناك من يقوم مقامه، إذا غاب الخطيب يكون هناك من يخطب بدلاً منه.
إذاً: سد الثغرة والقيام بما يجب، ومن الخطأ أننا نسمع أحياناً أن جماعة من الناس في مسجد لم يحضر الخطيب، فصلوا صلاة الظهر ما فيهم واحد يستطيع أن يمسك مصحفاً ويصعد المنبر، ويحمد الله ويثني عليه ويتشهد بالشهادتين، ويقرأ آيات من المصحف ويجلس، ويقوم الخطبة الثانية يفعل شيئاً مشابهاً ويدعو للمسلمين وينزل، ومع ذلك تجد تراجعاً عن القيام بمثل هذه الأدوار؛ والسبب ولا شك أنها هزيمة نفسية وعدم جرأة مطلوبة ومحمودة في هذا الموطن، وتخاذل عن القيام بفرض الكفاية.
مسجد في البلد كيف لا تصلى فيه صلاة الجماعة؟ وهناك كثيرون من غير المسلمين من العمال الأجنبيين الموجودين يحتاجون إلى من يكلمهم بلغتهم، ويتحرك بينهم لتوعيتهم، وخصوصاً أنه يوجد عندهم كثير من التقبل، وكذلك المستشفيات التي فيها أصحاب الأمراض المزمنة الذين يحتاجون إلى مزيد من التصبير كأصحاب العاهات والشلل، العاهات المزمنة أو الدائمة، وكذلك ربما يكون هناك مجال للتعاون مع مستشفيات الأمل أو غيرها.(287/19)
زيارة الإخوان وطلاب العلم
ماذا بالنسبة للزيارات الأخوية؟ زيارة الإخوان في الله حتى لو كانوا في بلد آخر والتعرف عليهم والتعاون معهم والتناصح، وزيارة المشايخ وطلبة العلم في بيوتهم أو في مكاتبهم، لا شك أن مثل هذه الأشياء مما يُملأ به الوقت وهي فرص لعمل الخير.(287/20)
المراسلة عبر الكمبيوتر
وكذلك فإننا نحتاج أيها الإخوة! إلى سد عدد من الثغرات مثل مراسلة بعض الذين يكتبون في ركن التعارف، ونصحهم خصوصاً أنهم في الغالب يريدون تعرف الشاب بالفتاة أو الفتاة بالشاب، وقد آتت كثير من الثمار الدعوية في هذا المجال أكلها، ووجد هناك من الناس من جرب الاتصال بالكمبيوتر عبر جهاز الموديم في بعض الأجانب الذين عندهم أجهزة في بلدان أخرى، ودعوتهم إلى الإسلام وقد أثمرت بعض هذه الجهود.
يوجد أيضاً أيها الإخوة! ثغرات في الأحياء، التعرف على الجيران، جذبهم إلى المساجد، نصحهم وتقديم ما ينفعهم وينفع أسرهم.(287/21)
تصميم أشياء شرعية وإخراجها
وعندنا إشكالات في قضايا تحتاج إلى تصميم وإخراج، ما أكثر المنكرات الموجودة في ألعاب الأطفال، وفي أفلام الكمبيوتر، ألا يكون هناك من أولي الألباب من أصحاب القدرة والطاقات المكدسة الموجودة التي تسرح وتمرح وتلعب بالألعاب من يصمم أشياء تنفع أطفال المسلمين من شرح العبادات مثلاً؟ أو عرض تفسير سور قصيرة ونحو ذلك من الأشياء، بدلاً من ترك هذه الأشياء تغزو عبر الأجهزة أدمغة أطفالنا.(287/22)
دعوة الأعاجم والتجمعات
وكذلك فإن الإنسان المسلم يمكن أن يُوصل خيره إلى مجموعات كبيرة من العمال الأعاجم إذا أتاهم بواحد فقط منهم، يستطيع أن يتفاهم معه، قد اصطحبه وعقد معه آصرة الأخوة الإسلامية، وقام بتعليمه وإيصال الخير له، وهذا الرجل يكون رسولاً إلى بني قومه، وقد يأتيك بأسئلة من عندهم، وأنت بدورك تتصل بأهل العلم للمجيء بالإجابات عليها، ألا يكون هناك ممن ينتدب نفسه للإتيان إلى محلات الانتظار كصالونات الحلاقة والمستوصفات وأماكن النقل الجماعي والدوائر التي يكون فيها كثرة مراجعين ينتظرون؛ مستشفيات جوازات وغير ذلك، ويقوم بالإتيان بهذه الكتب التي طبعت ورخصت رسمياً، لكي تعطى لهؤلاء الأشخاص ليستفيدوا منها، فيكون هناك نشر عظيم للخير.
هناك من العوائل من يكون لهم ديوانيات أو مجتمعات خاصة للأسرة خاصة بالعائلة، ألا يكون هناك من ينتدب نفسه لعمل مجلة لهذه العائلة، فيها أخبار العائلة والأسرة، ومن سار ومن حضر ومن تزوج ومن توفي ونحو ذلك، ومن سافر ومن رجع ومن تخرج ثم تطعم هذه المجلة بالفتاوى والمقالات المناسبة وأشياء مفيدة وخيرة؟!(287/23)
استغلال المناسبات الاجتماعية
وهناك أيضاً مجال للمشاركة في المجلات، كتابة المقالات الإسلامية وإرسالها، هذه أشياء وأشياء كثيرة جداً، وهناك مجال أيضاً لقضية استغلال المناسبات الاجتماعية، كالعقيقة وغيرها وإذا حضر الإنسان يكون مفيداً في المجلس.
بعض الناس إذا أتوا إلى مجلس يكونون في غاية التقوقع، ما يقدم شيئاً ويترك المجال للعابثين لاستلام وإدارة زمام هذا المجلس، وهو قادر على أن يقوم بإلقاء كلمة أو فتح حوار مناسب.
أيها الإخوة! إن هناك عدداً من المناسبات الاجتماعية التي يمكن استغلالها لخدمة الدين وتعليم الناس وعلى الأقل إزالة ما فيها من المنكرات، كولائم الأعراس أو دعوة العقيقة وغيرها، كم نحن نهدي هدايا بمناسبات مختلفة، إذا جاء إنساناً مولود أهديناه هدية، وإذا نزل إنسان بيتاً جديداً أهديناه هدية، وإذا تزوج أهديناه هدية، وإذا رجع من سفر قد تخرج مثلاً أهديناه هدية، لماذا لا نرفق مع الهدية شيئاً مفيداً يقرؤه أو شيئاً طيباً يستمع إليه؟ ويمكن كذلك أن تؤخذ هذه الكميات من الأشياء التي سبقت وأن قرئت، والأشياء التي سبق وأن سمعت وصارت مستخدمة وهي عرضة للتلف لأن تؤخذ ويعاد توزيعها إلى من يستمع إليها ويقرأ فيها، وكذلك فإن الشاب الداعية إلى الله سبحانه وتعالى ينبغي أن لا تخلو سيارته أو جيبه من شيء يقدمه لغيره، إذا التقى مفاجأة في مناسبة من المناسبات أو سوق أو دكان ونحو ذلك بما يفيد الآخر، وهذا يعتمد ولا شك على حنكة هذا الداعية وتقديره للواقع، فإنه إذا ذهب إلى مكان يتوقع أن يوجد فيه منكر من المنكرات اصطحب معه فتوىً لأهل العلم في الموضوع نصح بها ذلك الشخص أو قدمها إليه، أو دلالة على خير يدل بها بعض الناس إلى خير، كما إذا زار بعض أرباب الأموال مثلاً قدم إليهم نصيحة عن المجالات التي يمكن أن يضعوا فيها أموالهم في خدمة الدين، والأماكن الموثوقة التي يمكن أن يعطوا تبرعاتهم وزكواتهم وصدقاتهم إليها.(287/24)
أصحاب الوظائف ودورهم في الدعوة
ولا ننسى أن هناك كثيراً من الأماكن التي لا يصل إليها النصر ولا يصل إليها الخير، وكأنها موقوفة على أهل الرذيلة والفساد، ولكن إذا كان الإنسان مجتهداً في الدعوة إلى الله فيمكن أن يصل إليها، وأن تكون بؤرة خير، والمدرس في مدرسته يستطيع أن يعمل للإسلام وهو في فصله يعمل للإسلام، والطبيب في عيادته يعمل للإسلام، ويستطيع الموظف في الدائرة أن يعمل للإسلام يستطيع الإنسان في أي موقع من المواقع أن يعمل للإسلام، وأصحاب الوظائف الدينية عليهم المسئولية الكبرى كأئمة المساجد والخطباء الذين لا بد أن يقدموا للناس ما يفيدهم، حتى من الأشياء التي ربما لا تكون شرعية بحتة، وإنما هي داخلة في الدين، لكن ليست مما يتعلق بالعلم الشرعي، كبعض النصائح أو الأشياء المفيدة طبياً واقتصادياً أو اجتماعياً مثلاً.
وكذلك هناك أشياء تحتاج إلى تجارة وضبط كأوقاف المسلمين التي ضاعت في كثير من المحلات والأماكن، وعندنا مجالات واسعة للعمل للدين حتى في الورش والمحلات التي ربما لا يغشاها إلا بعض الناس من أصحاب الأجور المتدنية، أو يعملون فيها، هؤلاء لنا واجب معهم، يذهب الواحد منا لإصلاح سيارته في الورشة أو يشتري طعاماً من المطعم، ونحو ذلك ربما يرى منكراً أو فرصة للخير والأمر بالمعروف يسأل هذا العامل عن اسمه، أمسلم أو كافر، فإن كان مسلماً نصحه بنصيحة أو علمه شيئاً أو سأله عن بعض أحوال بلده.
فربما قال له شيئاً فيه بدعة فعلمه أنها بدعة مثلاً، أو إذا كان كافراً دعاه إلى الإسلام ألقى كلمة: (لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار) على الأقل يقيم الحجة.(287/25)
المجالات النسائية
وعندنا مجالات كثيرة منها المجالات النسائية، النساء عليهن أيضاً مسئوليات عظيمة، المرأة تعلم المرأة التي لا تجيد تلاوة القرآن، وتعلم المرأة الأخرى تلاوة القرآن حتى لا نقع في حرج أن تجلس أو تتعلم امرأة عند رجل أجنبي ولو من وراء حجاب ثم تزين صوتها وتجوده، نقول: عندنا من النساء من يكون عندها علم بالتجويد وإتقان للتلاوة، على هؤلاء النساء فرصة ومسئولية كبيرة في تعليم النساء الأخريات.
وكذلك الرجال كل واحد يعلم النساء من محارمه طريقة التلاوة الصحيحة وأحكام التلاوة التي لا بد منها، أما أن يوجد عند أمك وأختك وخالتك لحن جلي في القراءة يُفسد المعنى ويغيره، وأنت لا تغير شيئاً ولا تحرك ساكناً فلا شك أن هذا من العجز والتفريط العظيم جداً.
وهؤلاء النساء في مراكز تحفيظ القرآن عليهن واجبات كثيرة، وداخل الأسر والعوائل، يمكن أن تلقى المرأة المتعلمة الملتزمة بالدين درساً لقريباتها، ونشر الحجاب.
المدرسات في المدارس نصائح مهمة جداً ربما تكتشف طالبة عندها عن منكر كصور، مراسلات، معاكسات هاتفية وأشياء من هذا القبيل، يجب عليها أن تقوم بواجب النصح والتحذير وتأليف القلوب على الدين، وأن إهمال القضيةلمجردإلقاء المنهج وأخذ الراتب لا شك أنه قصور عظيم في فهم مسئولية المرأة المسلمة، المسئولية عن هذا الدين: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف: 4].(287/26)
السفر إلى بلاد أخرى ومجال الدعوة فيها
ونحن ندخل المحلات التجارية وقد يكون فيها أشياء كثيرة تحتاج إلى نصح أصحابها أو استبدالها بأشياء طيبة فلا نتكلم ولا ننبس ببنت شفة، لا شك أن ذلك من الأشياء التي تُوجع القلب، عندما تحين الفرصة للسفر إلى بلاد أخرى فيها جاليات إسلامية لنصحهم، وهذه مهمات فبعض الناس عنده هواية للسفر، نقول: هناك مجالات للسفر إلى بلاد المسلمين فيها جهل عظيم تحتاج إلى إغاثة وعمل مشاريع ولو صغيرة، تحتاج إلى إقامة دروس، الذين طافوا تلك البلدان تأثروا جداً باستقبال أهلها لهم عندما علموا أنهم من بلاد الحرمين ومهبط الوحي، وتأثروا لما قدموا لهم من النصائح وتجمعوا عليهم بأعداد كبيرة يسألون عن أشياء في أساسيات الدين.
فإذا كان هؤلاء عندهم قدرة وعندهم رغبة في الإفادة فعلاً، ويقولون: لابد من السفر نقول: إذاً اذهبوا إلى تلك الأماكن فإن في العمل فيها خير عظيم جداً، ولو اصطحب معه بعض التبرعات لإقامة مسجد أو حفر بئر أو عمل شيء، المشاركة مع غيره في خدمة طبية أو علاج اصطحب معه من الأدوية المتداولة التي لا شك أن الناس يحتاجون إليها في كل مكان، كأدوية الحرارة والصداع مثلاً وغير ذلك.
ألا يكون في تقديمها أيضاً أجر ومساعدة وسبق لنشاط الجمعيات التنصيرية في بلدان المسلمين؟!! هذه الجهود ولو كانت بسيطة وفردية، لكن الله سبحانه وتعالى يبارك فيها ولا شك أيها الإخوة.
وكذلك فإن الإنسان المسلم يحاول دائماً أن يبرز الخير، وأن يعلن عن دين الإسلام وعن الأحكام الشرعية، إذا جاءت مناسبات عشر ذي الحجة، رمضان، عاشوراء، يوم عرفة، أشياء فيها فضائل يحتاج الناس فيها إلى تذكير في المساجد أو غيرها، وإعطاء الناس ما كتبه أهل العلم في فضائل هذه الأيام مثلاً، نحن الآن مقبلون على عشر ذي الحجة، إشاعة أهمية عشر ذي الحجة بين الناس، وأجر العمل في هذه العشر، والناس كثير منهم فيهم خير أو رغبة في الخير أو على الأقل يفتحون لك المجال للكلام، يستمعون إليك.
فأين عملك أنت في هذه المناسبة؟! كل واحد في موقعه، نكون في مواقع مختلفة، يمكن أن نذكر في تلك المواقع أناساً يحتاجون للسؤال عن أشياء من الدين لا يجدون، لكن أنت لو فتحت المجال وسألوا وأنت تنقل لهم فتاوى أهل العلم.(287/27)
لا تحتقر الجهود والدعوات العامة
وأعود وأقول أيها الإخوة! لا يصح أن نحتقر أنفسنا أو مجهوداتنا، ويجب أن نقدم، وهذه قصة شاب أبكم لا يتكلم، قصة لا شك أن فيها عبرة، كان يذهب إلى أماكن الورش، الأماكن التي فيها الصناع والعمال من هؤلاء المسلمين الذين كثير منهم لا يعلمون أشياء كثيرة عن الدين، فيعطيهم ما تيسر من الأشياء المقروءة والمسموعة التي فيها مواعظ والتي فيها تذكير وتعليم، وفي يوم من الأيام ذهب إلى ذلك المكان؛ ليقدم ما عنده فخرج إليه عامل ذو لحية واعتنقه وقبله وقال: ألا تعرفني ألا تذكرني أنت مررت بي ذات يوم وأعطيتني شريطاً قبل فترة طويلة، وكان سبب هدايتي، وهذا شاب أبكم كلامه عسير لا يتكلم، لكن شعوره بواجب التبليغ وواجب الدعوة دفعه إلى أن يقدم شيئاً.
نعود للمسألة ونقول: ماذا قدمنا للإسلام؟ هل قيامنا بهذه الفروض الكفائية موجود؟ وقد رغب في عرض بعض الأصول الشرعية للمسألة حتى لا يظن بعض الناس أن المسألة كلام، أو أن المسألة مجرد عرض للمجالات ليس لها مستند على أصل شرعي نقول: إنها مستندة على أصول شرعية موجودة في كتب العلماء، هناك وظائف إسلامية وشرعية يجب أن نعد أنفسنا للقيام بها، وتغطية هذه الثغرات الموجودة في المدن والقرى والأحياء والمساجد وأماكن الناس، وأن نعلمهم دين الله سبحانه وتعالى، نحن رسل خير وهداية، ونقفو آثار الأنبياء وهكذا ينبغي أن نكون.
أما أن تذهب أوقات الشباب سدى وتذهب في مجالس الغيبة والنميمة، والشجار والعراك، والجدل العقيم والتقوقع بدون فائدة، تكديس طاقات بدون أن تنطلق في خدمة هذا الدين، وكذلك فإننا نذكر أنفسنا بقضية المسئولية في العمل، نذكر أنفسنا أن هناك واجبات كفائية لا بد من القيام بها، ونذكر أنفسنا أن الدعوة إلى الله أياً كان مجالها وأياً كانت الوسيلة التي تسلك فيها، هي مسئولية سنسأل عنها، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44] سنسأل عن هذا، صحيح أن هذا شرف، الانتساب إلى الإسلام شرف عظيم، كثيرون يعبدون البقر وآخرون يعبدون الجواميس ويعبدون تمثال بوذا، ويعبدون الشيطان وبعضهم يعبدون المال، ويعبدون أهوائهم وشهواتهم، فضلك الله عليهم بأن جعلك مسلماً توحد الله عز وجل، لكن هذا الشرف له تكليف، لا بد للتشريف من تكليف، إذا شرفك الله بأن كنت من أهل الدين فماذا قدمت لرفع شأن الدين إذاً؟! فانقسم الكلام في موضوعنا السابق عن واجبات كفائية يجب السعي لسدها والإعداد، لأن السبق قد لا يكون حاصلاً الآن، لكن الإعداد لسد الثغرات.
وكذلك تنبيه على بعض الوسائل التي تستخدم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى التي تعين على سد بعض الثغرات، لكن القضية الأساسية قضية تحقيق فروض الكفاية، على أن لا يعيب المسلمون على بعضهم، ولا يحتقر بعضهم بعضاً في المجهودات التي يقدمونها، طلبة العلم لا يحتقرون الذين يقومون مثلاً بدعوة العامة ووعظهم، مع أن الذي يقدم المواعظ ما عنده علم، لكن يستطيع بهذا التقديم بفضل الله عز وجل أن ينقل أناساً من معسكر أهل الشر والضلال إلى طريق الهداية، ولا يعيب طلبة العلم ولا الوعاظ مثلاً على من يشتغل في خدمة قضايا المسلمين، وقضايا الجهاد وقضايا الإغاثة مثلاً.
الثغرات كثيرة جداً، ونحن نحتاج إلى عمل متكامل، المسلمون يكمل بعضهم بعضاً، ولا يعيب بعضهم على بعض، هناك حد أدنى من العبادة يجب أن يكون موجوداً، هناك حد أدنى من العلم، ما يصلح إغاثي ولا مجاهد أن يعمل لهذا الدين وهو ما عنده الأساسيات التي يعبد الله سبحانه وتعالى بها، يصلي ويصوم ويحج وينكح ويبيع خطأ لا يجوز له ذلك حتى لو كان مشتغلاً بعمل آخر غير قضية العكوف على طلب العلم.
فإذاً: أهل الحسبة والجهاد والعلم والوعظ والإغاثة، هذه الفروض الكفائية يجب أن تسد وأن يقوم لكل ثغر منها من يطيق القيام به، ويكون صاحب خبرة فيه ويستطيع أن يقدم فيه، ولا يعيب بعضهم على بعض، فبهذه الطريقة تجتمع الجهود، والقضية في النهاية نصرة الإسلام والعمل لدين الله سبحانه وتعالى.(287/28)
الأسئلة(287/29)
الجمع بين طلب العلم والدعوة
السؤال
إذا رأى الإنسان أن موقعه يستطيع من خلاله خدمة الإسلام ولكن نفسه تتوق لطلب العلم، فهل الأفضل له ترك موقعه والتفرغ لطلب العلم؟
الجواب
كيف كان العلماء يفعلون؟ أي: ابن المبارك ما كان يذهب للمرابطة في الثغور؟ ما فائدة طلب العلم أليس التبليغ وتعليم الناس؟!!.
فإذاً: لماذا الفصل المقيت بين المهمات المختلفة؟ ونقول: طالب العلم هذا لا يصح له مطلقاً أن يجمع تبرعات لعائلة فقيرة لماذا؟ هذا فصل مذموم، ولذلك ينبغي علينا أن نرتقي بهممنا حتى نستطيع الجمع بين أكثر من باب من أبواب الخير.(287/30)
خدمة الإسلام في المدارس والجامعات
السؤال
كيف نقوم بخدمة الإسلام في المدارس والجامعات؟
الجواب
نقول: لا شك أن المدارس والجامعات هي مجمع يجمع أعداداً من الطلاب، ولا شك أنه يحصل في هذه الأماكن اجتماع بهم لفترات طويلة خصوصاً عندما يكون هناك سكن داخلي مثلاً في الجامعة، فأنت لا تلتقي بهم فقط في الفصل الدراسي، تلتقي بهم في السكن وتلتقي بهم في المطعم وتلتقي بهم في أماكن مختلفة.
إذاً لا أقل من كلمة خير؛ نصيحة عابرة لهذا الشخص، فأقول: إن الشخص مادام موجوداً في مجمع من الناس، فإنه ينبغي أن يقدم ما يستطيع تقديمه في هذا المجال، ولا شك أن هذا الاحتكاك ينبغي أن يستثمر لصالح الإسلام، بأن تكون مصاحبة هذا الشخص في المدرسة والجامعة طريقة للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وهدايته أو إنقاذه من أهل الشر، ربما يكون جلوسك عنده مانعاً لأصحاب السوء من الإتيان إليه لأنهم إذا رأوك موجوداً عنده في مسكنه ما جاءوا إليه، مرة ومرتين وثلاثاً وفي النهاية يتركونه، فأنت تكون قدمت خدمة غير مباشرة عن طريق منع المنكر هذا.(287/31)
عوائق في طريق خدمة الدين
السؤال
إنني معلمة وأريد أن أخدم الدين في هذا المجال، فإذا كان يوجد لدي عوائق من إدارة المدرسة فماذا أفعل؟
الجواب
أقول: لا أقل من الصلة الشخصية بالطالبات، لو لم تستطيعي أن تقدمي لهن شيئاً لا في الحصة ولا في الفسحة، فلا أقل من أن يكون هناك ارتباط شخصي، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى -أيها الإخوة- هي تأثير شخصي، في كثير من الأحيان النجاح يكون وليد التأثير الشخصي؛ علاقات تقوى، إكرام الشخص، الدخول إلى قلبه، كسب محبته هذا هو الطريق للتأثير، بحيث في النهاية إذا قلت له الحكم نفذ، وإذا قلت له نصيحة قبل واستمع.(287/32)
لا إيثار في القرب
السؤال
إذا تساويت أنا وشخص في الطاقة أمام مجال من مجالات خدمة الإسلام، هل أتقدم لأنال الأجر أم أوثره لغيري؟
الجواب
لا، تقدم يا أخي تقدم أنت، لماذا تترك الأجر هذا ربما يكون دليلاً على عدم الحرص.(287/33)
الدعوة في الأهل والأقارب أولى
السؤال
كثير من الشباب فاشل في أسرته وتراه كالنحلة مع إخوته؟
الجواب
صحيح وهذا مثل جيد وتشبيه واقعي لعدد من الناس الذين عندهم هذه القضية وهي: أنهم فاشلون مع آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم، وأعمامهم وعماتهم، وأخوالهم وخالاتهم، وأجدادهم وجداتهم، أقرب الناس: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] هذا لا يعمل معهم شيئاً البتة، لو أنه جرب وقال: ما ما استطعت وقال: هم أكبر مني سناً ما تقبلوا، طردوني وأغلقوا فمي، وأسكتوني واحتقروني، لقلنا: أنت قمت بالواجب وبلغت وما تقبلوا منك فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد، لكن أنت مجهوداتك مع إخوانك وتنسى أهلك وأسرتك، وهذا لا ينبغي مطلقاً لشاب يفقه دين الله سبحانه وتعالى.(287/34)
الدعوة بالمراسلة
السؤال
ما رأيك في المراسلة لدعوة بعض الشباب المنحرفين؟
الجواب
وسيلة مجربة وناجحة، والشخص يمكن إذا ناقشته أن يجادلك وأن يضيع وقتك، وأن يسكتك وربما يفحمك إذا كان هو أقوى بالجدل، لكن إذا أرسلت له برسالة فإنه لن يقوم بهذا الجدال والمراء لأنه يقرأ شيئاً جامداً لا مجال للاعتراض، فربما تكون الرسالة أكثر تأثيراً مع بعض الأشخاص.(287/35)
سبب موت الهمم وعلاجه
السؤال
هل ترى أن قلة التوجيه وانعدامه عند بعض الدعاة هو السبب الرئيسي في موت الهمم والانشغال بالصغائر عن معالي الأمور؟
الجواب
نعم، لا شك في ذلك، لكن كونه ما وجد أحداً يُوجهه هل نعفيه من المسئولية؟ الجواب: لا.
ينبغي هو أن ينصح نفسه بنفسه، وأن يدل نفسه على الخير وأن يبحث عن أبواب الأجر وأن يقوي همته، ما معنى هذا الرجل الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه؟ هل أحد وعظه؟ هل أحد ذكره بالله؟ هل أحد تلا عليه آيات العذاب؟ لا، هذا رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، فنريد نحن من الشباب أن يذكروا الله وهم في خلواتهم، ويذكروا أنفسهم بالمسئولية تجاه الدين، فربما يحيا في أنفسهم واعظ الله عز وجل فيقومون للعمل بدلاً من الجلوس والكسل وتعطيل الطاقة.(287/36)
تسخير الشِّعْر في نصرة الإسلام
السؤال
أنا شاعر فكيف أجعل شعري لنصرة الإسلام؟
الجواب
وجه شعرك بأن تكتبه، تجعل هذه الأوزان والقوافي محملة بالمعاني الدينية والشرعية، وبالأحكام وبالأخلاق، وبالرقائق وبالآداب وبالذب عن الدين وبمهاجمة أعداء الدين (اهجهم وروح القدس معك) هكذا كان حسان بن ثابت يهجو كفار قريش، وكان شعره أشد عليهم من بعض سهام وسيوف المسلمين، عرض المآسي، استدرار العواطف، إيقاظ الهمم، إلهاب المشاعر، هذه أشياء يطيقها الشعراء.
فإذا وجه هذا إليهم بعض القصائد المؤثرة عن التوبة كان لها الأثر في نفوس الناس، قصائد عن التوبة وقصائد عن الموت واليوم الآخر والزهد في الدنيا وقصر الأمل، هذه كان لها آثار كبيرة على النفس، هي أبيات شعرية لكن آثارها كبيرة على النفس، بدل من الانشغال بألوان الجناس والطباق والبديع والأشياء التي هي أشبه ما تكون بالطرف الشعرية، والألغاز والأحاجي الشعرية، بدلاً من هذه لنسكب هذه المعاني الإسلامية في أشعارنا لمن كان يعمل الشعر.(287/37)
إقامة الحجة واجبة
السؤال
أنا طالب جامعي أعيش في مدينة تكثر فيها البدع والمعاصي، وأنا شخص ليست لدي حجة وبيان، ولا أستطيع النصح والدخول في مناقشات مع بعض السفهاء؟
الجواب
لا بد أن نقوم لله بالحجة، أن نتكلم فإذا اعترض واحد وسفه الآخر، واستهزأ الثالث يكون قد قمت بالواجب، ثم ماذا لقي الأنبياء من أقوامهم؟ هل لقوا الكلام الجميل والثناء العاطر والشكر الجزيل والإكرام؟ لا.
أكثرهم لقي الصدود والإعراض والاستهزاء، وقالوا عنه شاعر ومجنون وأفاك وبه جنة، قالوا عنهم أشياء كثيرة جداً، فإذا كان هذا سيتوقع أنه إذا نصح وعلم أنه سيقابل بالإكرام والحفاوة والترحاب، فلا شك أنه قد غابت عن باله دعوة الرسل، ثم إذا كنت لا تستطيع الكلام مطلقاً قدم شيئاً مسموعاً أو مكتوباً يستفيد منه وتقام به الحجة عليهم.(287/38)
كيفية الدعوة في الدول الأجنبية
السؤال
أنا شخص أدرس في آخر السنة ومسافر إلى أمريكا فما هي المجالات التي أفعلها هناك؟
الجواب
أولاً: ينبغي أن تتأكد من شرعية ذهابك إلى بلاد الكفار، وأن هناك حاجة للمسلمين في ذلك، وأن عندك عقلاً تدفع به الشهوات، وعلماً تدفع به الشبهات، وبعد ذلك تسافر فإذا سافرت فلا شك أنك ستجد من الأقليات الإسلامية هناك من تتعاون وتتناصر معهم، وتصطحب معك من الأشياء المفيدة ما يحتاجون إليه هناك، ولا شك أنك ستكون واحداً في خلية من المسلمين الذين يحمون أنفسهم من التأثيرات الكفرية في تلك البلاد، ولا شك أنك ستذكر نفسك كثيراً بقضية غض البصر عن الأشياء الموجودة هناك.(287/39)
بعض الثغرات التي لم تسد
السؤال
معلوم أن من فروض الكفاية دعوة أهل الكتاب، وبحكم وجود بعض النصارى فقد تجرد بعض الشباب لدعوتهم للإسلام، فهل تظن أن هذه الثغرة قد سدت؟
الجواب
لا.
لأنهم أكثر بكثير من هؤلاء الشباب الذين يدعونهم إلى الإسلام.
هذا عن بعض الفرص الدعوية، ذكرت أشياء وهناك أشياء أيضاً موجودة في كتاب كتبه بعض الأفاضل وهو إبراهيم بن عثمان الفارس عن اثنين وتسعين وسيلة أو طريقة دعوية، فأيضاً يمكن الرجوع إليه، وعنه نقلت بعض النقاط.(287/40)
معنى التفرغ لطلب العلم
السؤال
التفرغ لطلب العلم ماذا تعني هذه الكلمة؟
الجواب
إذا ذهب الإنسان إلى جامعة شرعية، تكون دراسته واختباراته مذاكرته وواجباته وبحوثه كلها شرعية، فهذا نوع من التفرغ، وإذا كان يأخذ مكافأة شهرية فماذا يريد أكثر من ذلك، لكن لو قال: وترك الدعوة إلى الله هل تعني ترك إنكار المنكر؟ الجواب: لا.
بطبيعة الحال، وإلا صار العلم الذي تتعلمه وبالاً عليك، ماذا استفدت من العلم إذا كنت ستترك الواجبات الشرعية.(287/41)
كيفية المحاسبة للنفس
السؤال
هل يشترط في معاتبة النفس أن يتحدث الإنسان مع نفسه بصوت مسموع، أم يكفي التفكير والمعاتبة داخل النفس؟
الجواب
يكفي التفكير والمعاتبة داخل النفس ولا يشترط أن يكون الكلام مسموعاً، وخصوصاً إذا كان حوله أشخاص فإنه لا يكون من الإخلاص في المحاسبة أن يرفع صوته.(287/42)
أهمية التقيد بالأذكار الشرعية
السؤال
هل يجوز أن يقول الإنسان بعد الأكل أو الشرب: اللهم جزاؤك الحمد والشكر، بدلاً من قولك: لك الحمد والشكر؟
الجواب
جزاؤك الحمد والشكر؛ بعض العبارات قد تكون صحيحة من ناحية المعنى، لكن لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمثل هذه الأذكار أذكار الطعام والشراب، والعطاس والسلام وغيرها، ينبغي أن تكون مقيدة بما ورد في السنة، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله بحثاً في الاستعاذة من الشيطان عند التثاؤب في كتاب الأدب من صحيح البخاري فليرجع إليه.(287/43)
حكم دخول الحائض المسجد
السؤال
هل يجوز للحائض أن تدخل المسجد لسماع المحاضرة؟
الجواب
قد اختلف أهل العلم في دخول الحائض إلى المسجد، الأحوط للحائض أن لا تدخل المسجد، وهذا المشهور من فتاوى علمائنا.(287/44)
صلاة النافلة في المسجد من أجل الأذان
السؤال
أستيقظ مبكراً لكي أصلي من الليل فلا أستطيع، ولكي أتمكن من أداء أذان صلاة الفجر أضطر للذهاب للمسجد، وأصلي هناك لكي أسبق غيري بالأذان، فهل أصلي في بيتي؟
الجواب
لا بأس أن يذهب إلى المسجد ليصلي ما تبقى له من قيام الليل لكي يكون هو الذي يؤذن.(287/45)
طريقة السؤال في الدرس
السؤال
أحضر حلقة تجويد ولا أجيد فهم الدرس، وأخشى أن أسأل الشيخ فأعطل زملائي وأضيع وقتهم؟
الجواب
أقول: اجعل السؤال في آخر الدرس بعد انتهاء الدرس، اسأل الشيخ حتى لا تعطل الزملاء من القراءة وحتى لا تفوت عليك الفائدة.(287/46)
بدعية محاسبة النفس بالكتابة
السؤال
ما حكم محاسبة النفس بالكتابة على ورقة وعمل جدول يومي؟
الجواب
هذا الجدول المعمول عند بعض الناس في بعض الأوراق ومكتوب فيه (صح وخطأ) وعلامات أو أرقام ليس من فعل السلف، وهو طريقة مبتدعة للمحاسبة، لكن الإنسان يذكر نفسه بما فعل من التقصير الذي حصل، أو بالذنوب، أو بما ترك من الواجبات، أو بما ترك من الأوراد المستحبة لكي يأتي بعوض عنها.(287/47)
تقديم شارب الدخان في الإمامة
السؤال
إذا اجتمع شخص يشرب الدخان وآخر يحلق لحيته فمن يتقدم لصلاة الجماعة؟
الجواب
إذا فرض أنه لا يوجد إنسان مطبق للسنة بهم، فإن الذي يتقدم هو الذي أطلق لحيته ولو كان مدخناً لأن منكره غير مستمر، بخلاف الذي حلق لحيته.(287/48)
كل ما خرج من السبيلين ناقض للوضوء
السؤال
هل كل خارج من السبيلين يعتبر ناقضاً للوضوء ولو حصاة صغيرة؟
الجواب
هذا المشهور من كلام الفقهاء، أن كل خارج من السبيلين فهو ناقض للوضوء حتى لو كان شعراً أو حصىً أو دوداً أو دماً فإنه يعتبر ناقضاً للوضوء.(287/49)
مس حلقة الدبر لا ينقض الوضوء
السؤال
هل إذا لمس الإنسان دبره ينقض الوضوء؟
الجواب
هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم فقال بعضهم: إنه ينقض لأنه فرج، وتعريف الفرج: أنه ما انفرج وأن فتحة الدبر مما انفرج، وقال في الحديث (من مس فرجه فليتوضأ) لكن الراجح والله أعلم أن لمس حلقة الدبر لا ينقض الوضوء وأن الفرج قد ورد مشروحاً ومبيناً في حديث آخر بقوله: (مس ذكره) فإذاً الراجح أن لمس حلقة الدبر لا ينقض الوضوء.(287/50)
الفرج بعد الشدة
الابتلاء والمحن والشدة خاصية وميزة من ميزات هذه الحياة الدنيا، فلا يكاد يوجد إنسان يسير على هذه الدنيا إلا وقد أصابه ابتلاء أو شدة أو محنة.
فالأنبياء ومن تبعهم قد ابتلوا وأصابتهم الشدائد، ثم جاءهم الفرج، لكن مع ذلك هناك فوائد للشدائد، وقد وجه الشيخ عدة نصائح لعدة شرائح في المجتمع المسلم وأوصاهم بالصبر والمصابرة، مبيناً أن بعد الشدة فرحاً، وأن مع العسر يسراً، إلخ.(288/1)
تفريج الكروب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة: حديثا اليوم عن موضوع من مواضيع الإيمان وأعمال القلوب، التي لا يستشعرها ولا يعيش لحظاتها إلا من أوقد الله قلبه بحرارة الإيمان، وعمَّره برياض ذكر الله سبحانه وتعالى والإقبال عليه، وخشيته في السر والعلانية.
إنه موضوع فيه احتساب للأجر، وفيه صبر لله وفي ذات الله عزَّ وجلْ، وصبر على أقدار الله سبحانه، يقول الله عزَّ وجلَّ في محكم تنزيله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62] فمن الذي يجيب المضطر إذا رفع يديه إلى الله سبحانه وتعالى يطلب منه المدد؟ ومن الذي يجيب المسلم في لحظات الكرب والشدة وهو يهتف داعياً ربه منيباً إليه طالباً منه العون وتفريج تلك الهموم؟ وقال الله تعالى: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:6] فهذا العسر معرفة، واليسر نكرة في الآية، ولذلك قال ابن عيينة رحمه الله: أي: إن مع ذلك اليسر يسراً آخر، كقوله سبحانه: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَرِه)، إن العباد إذا نزلت بهم الشدائد فإنهم سرعان ما يقنطون، والله سبحانه وتعالى جعل لكل أجل كتاباً، وجعل لهذا الهم نهاية ولهذا الكرب تفريجاً، ولكن العباد يستعجلون، والله سبحانه وتعالى يعجب ويضحك من قنوطهم ومن قرب فرجه.
وكتب عمر إلى أبي عبيدة يقول: [مهما ينزل بامرئ من شدة يجعل الله له بعدها فرجاً، وإنه لن يغلب عسر يسرين].(288/2)
تفريج الكروب عن الأنبياء والصالحين
وتأمل في أحوال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؛ فهذا يوسف لما صار في غيابة الجب، ثم في ضيق السجن، كرب على كرب، وهَمٌ على هَمْ، فماذا حصل بعد ذلك؟ تداركته رحمة الله عزَّ وجلَّ، وهي قريب من المحسنين، فأخرجته من ظلامة الجب ومن ضيق السجن إلى سعة الملك وبسط في العيش، وجمع بأهله في حال الرخاء بعد الشدة.
وهذا يعقوب عليه الصلاة والسلام عمي من كثرة البكاء والحزن على فقد ولديه، {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84]، ثم تداركته رحمة الله بعد سنوات من الشدة ومفارقة الأولاد الأحباء إلى نفسه، فجمعه الله سبحانه بهما على غير ميعاد منهم.
وهذا يونس في بطن الحوت، لما نزل به البلاء دعا ربه في مكان ما دعا به أحد من الناس ربه، في جوف البطن المظلم، فاستجاب الله دعاءه.
وهذه سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيها شدائد وأهوال وكرب وهموم، ومنها شدائد المواطن التي نصره الله بها في معاركه ضد المشركين.
وهذه عائشة رضي الله عنها، لما نزل بها من الضيق الشديد عندما اتهمها المنافقون، وردد ذلك معهم الذين لم يعوا الأمور من المسلمين ولم يتثبتوا فيها، فاتهموا تلك المسلمة العفيفة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها قد وقعت في الفاحشة، وهي منها بريئة، فصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليها فلا يكلمها ولا يتلطف معها كما كان يتلطف، واشتعلت الفتنة من حولها، والألسن تلوك في عرضها، وهي البريئة، حتى بكت الدموع أياماً متواصلة، حتى انقطع دمعها وكان لا يأتيها النوم، ثم جاءها فرج الله بتبرئتها من فوق السبع الطباق، وفرَّج الله همها وأذهب كربها.
وهؤلاء الثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خُلِّفوا فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، بعد أن عزلهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن المجتمع المسلم، ونهى الناس عن تكليمهم، فصاروا غرباء في أهلهم وذويهم، حتى وصل الحال إلى أن أمر زوجاتهم بفراقهم، فصاروا كالمبتوتين من المدينة الذين لا يتصل بهم أحد ولا يكلمهم أحد، حتى نزل فرج الله سبحانه وتعالى بالتوبة عليهم، فوسَّع الله عليهم بعد أن كانوا في ضيق، ونفس عنهم بعد أن كانوا في كربة.
وهؤلاء الثلاثة من بني إسرائيل الذين دخلوا في الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، ثم فرج الله سبحانه وتعالى عليهم بعد أن أيقنوا بالموت والهلاك.
وهذا إبراهيم وسارة نجاهما الله من الجبار الكافر الذي كان يريد أن يأخذهما.
بل إن رحمة الله واسعة تشمل الكافر لو كان في كربة عندما تنزل به إذا شاء ربك أن يفرج عنه.
فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها: أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب فأعتقوها، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، فكان لها خباء في المسجد أو حفش -وهو البيت الصغير في ناحية من نواحي المسجد- قالت عائشة: فكانت تأتيني فتتحدث عندي فلا تجلس مجلساً عندي إلا قالت:
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني
فقلت لها: ما شأنك لا تقعدين معي مقعداً إلا قلت هذا؟ قالت: خرجت جويرية -أي: صبية- لبعض أهلي، وعليها وشاح من أدم -وهذه القصة في الجاهلية قبل أن تسلم هذه المرأة- فخرجت صبية من الأهل الذين كانت تعيش معهم هذه الخادمة، وخرجت معها خادمتها، وكان على هذه الصبية وشاح من أدم أي: من جلد لونه أحمر، وفي الطريق وضعته هذه الصبية أو وقع منها، فمرت به حدأة فحسبته لحماً فخطفته، قالت: فالتمسوه فلم يجدوه، جاء أهل البنت الصغيرة فبحثوا عن الوشاح فلم يجدوه، قالت: فاتهموني به، فطفقوا يفتشون، فعذبوني حتى بلغ من أمرهم أنهم طلبوه في قبلي -فتشوا قبلها- قالت: والله! إني لقائمة معهم وأنا في كربي إذ مرت الحديات حتى وازت رءوسنا، فألقته، فوقع بينهم فأخذوه، فقلت: هذا الذي اتهمتموني به وأنا منه بريئة وهو ذا، ثم كان من أمرها بعد ذلك ما كان من إسلامها.
فتأمل حال تلك المرأة المسكينة -مع أنها كانت كافرة- كيف لما نزل بها الكرب فعذبت تداركتها رحمة الله بحادثة عجيبة، ليست بمعهودة؛ أن يأتي ذلك الطائر فيلقي بالقطعة التي خطفها، والله لطيف بعباده لطفه واسع ورحمته واسعة، فإنه ينقذ العباد من الضيق، ولو كان في أعتى صوره، ولا يتخلى سبحانه عن المخلوقين.
وهذه قصة نسوقها، وقد ذكرها القاضي بهاء الدين بن شداد -رحمه الله- في كتابه: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، وهو كتاب يحكي تاريخ معارك المسلمين بقيادة صلاح الدين مع النصارى.
قال رحمه الله في وقعة الرمل الذي على جانب عكا، يقول: ومن نوادر هذه الوقعة أن مملوكاً كان للسلطان يدعى سراسنقر، وهو من المسلمين، وكان شجاعاً قد قتل من أعداء الله خلقاً عظيماً وفتك بهم، فأخذوا في قلوبهم من نكايته بهم، فمكروا به وتجمعوا له وكمنوا له، وخرج إليه بعضهم، وتراءوا له يستدرجونه ليخرج من عسكر المسلمين ليقاتلهم، فحمل عليهم -وكان شجاعاً لا يخاف- حتى صار بينهم فوقع في الكمين، ووثبوا عليه من سائر جوانبه فأمسكوه، وأخذ أحد من النصارى بشعره، وضرب الآخر رقبته بسيفه، وهم يحيطون به من كل جانب، والآخر رفع سيفه فضرب رقبة المسلم؛ لأن هذا المسلم كان قد قتل قريباً لهذا الكافر، فرفع سيفه ليضربه فماذا تظن يا أخي أن يفعل الله في تلك اللحظات؟ ماذا تظن وتحسب أن يحدث وكيف ينقذ الله رجلاً في هذا الموقف؟ يقول: فوقعت الضربة في يد الماسك بشعره، فقطعت يده وخلى عن شعر المسلم فاشتد هارباً حتى عاد إلى أصحابه، وأعداء الله يشتدون عدواً خلفه، فلم يلحقه منهم أحد، وعاد سالماً ولله الحمد {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً} [الأحزاب:25] فتأمل لطف الله الذي أوقع ضربة الكافر على يد الماسك بشعر المسلم حتى قطعت فاستطاع أن يفلت منهم.
وهؤلاء الذين يركبون البحر فيسافرون كان لهم في الماضي شأن عظيم، وكانت تحل بهم النكبات والعواصف، حتى تكاد أن تغرقهم، يقول العلامة: صديق حسن خان -رحمه الله- في كتابه رحلة الصديق إلى البيت العتيق: ولما سار المركب من الحديدة سكن الهواء إلى ثلاثة أيام، ولم يتحرك المركب خطوة من محل القيام، وبعد ذلك هبت الريح الأزيز وجاء الغيل والمطر بالليل، ورجع المركب إلى عقبه، وسار إلى غير صوبه، فمكثنا بهذه الحالة في البحر إلى أيام، آيسين من الوصول إلى المأمول، وضاقت علينا الأرض بما رحبت من طول الركوب، ومخالفة الهواء وقلة المطعوم والمشروب، وبلغت الأنفس التراقي، وكانت الأيدي إلى السماء مرفوعة، فقلنا: سمع الله دعاء الآيسين، وهبت لنا ريح طيبة من رب العالمين إلى يومين، وكانت ضعيفة ولكنها أخرجت المركب من مجمع الجبال المستغرقة في الماء إلى ساحل النجاة، ولما قربنا من جدة قرب المركب ليلاً إلى جبل في الماء، ومن أخطر الأمور أن يقترب المركب إلى جبل في الماء، فاضطرب له المعلم اضطراباً شديداً، وربط أشرع السفينة، وعمل كل تدبير خطر له في البال، وأنزل الملاحون قوارب السفينة، وسعوا إلى جوانبه، وعلموا أن المركب لو سار قريباً لتصادمت بالجبال، فمضى هذا الليل في غاية الاضطراب، وتمت تلك الليلة بالاستغفار وإخلاص النية والتوبة، وكلمة الشهادة على الألسن، وسلموا أنفسهم للموت، ومنَّ الله علينا بالسلامة حتى طلع الفجر، وشاهدنا ذلك الجبل في ضوء النهار.(288/3)
فوائد الشدائد
وهذه الشدائد التي تصيب المسلم في حياته بشتى الصور، لا بد لها من فوائد، فإن للشدائد فوائد بالرغم من أنها مكروهة للنفس، فمنها: أولاً: أن الله يكفر بها الخطايا، ويرفع بها الدرجات، ويدفع الكربُ المكروبَ إلى التوبة، ويلجأ إلى الله وينكسر بين يديه، وهذا الانكسار أحب إلى الله من كثير من العبادات؛ أن ينكسر المخلوق لله سبحانه، وأن يشعر بذله أمام الله، وأن يشعر بحاجته إلى ربه وافتقاره إلى خالقه، فينقطع إلى الخالق ويترك المخلوق، وهنا يتحقق التوحيد ويتنقى من أدران الشرك بأنواعها، ويخلص الإنسان لربه.
وقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعية إذا نزل بنا الكرب واشتدت الأمور وضاقت علينا الأرض بما رحبت، فقد جاء في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم) وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قال: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث) وقال عليه السلام لـ أسماء بنت عميس: (ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب: الله ربي لا أشرك به شيئا) وقال عليه الصلاة السلام: (من أصابه هم أو غم أو سقم أو شدة فقال: الله ربي لا شريك له، كشف ذلك عنه) وعن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دعوة المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوة ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لا يدعو بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له).
وهذه ألطاف الله قد تخفى على الكثيرين.
وكم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي
وكم يسر أتى من بعد عسر وفرج لوعة القلب الشدي
وكم هم تساء به صباحاً فتعقبه المسرة بالعشي
إذا ضاقت بك الأسباب يوماً فثق بالواحد الأحد العلي
وقال أبو الحاكم علي السجستاني رحمه الله:
إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاق بما به الصدر الرحيب
وأوطأت المكاره واطمأنت وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضر وجهاً ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك خوف يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت فموصول بها فرج قريب
اللهم فرج كرباتنا، وفرج همومنا وأحزاننا، اللهم واجعل لنا من رحمتك نصيباً موفورا، اللهم واجعلنا من عبادك الصلحاء الأتقياء الأخفياء، وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وأستغفر الله لي ولكم.(288/4)
نصائح لبعض شرائح المجتمع المسلم
الحمد لله على إحسانه، وهو المتنعم على عباده بأفضاله، وأشهد أن لا إله إلا هو سبحانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
كيف نستفيد من هذا الموضوع في حياتنا العملية؟ وما هي الجوانب التي قد تحدث لنا فيها الكروب؟ وماذا يكون موقفنا فيها؟(288/5)
نصيحة للباحثين عن الحق
أخي طالب الحق الباحث عنه! قد يتعبك البحث، وتمضي عليك الأوقات والأحداث وأنت لم تصل بعد إلى ما تطمئن إليه نفسك، فلا تيأس وواصل البحث وادع الله وقل: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف منه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
ولا يزال هذا ديدنك وأنت تدعو ربك حتى يكشف الله لك الحق، ويضيء لك الطريق الذي تسير فيه.(288/6)
نصيحة لطالب العلم
أخي طالب العلم! قد يطول بك البحث في مسألة حتى يكاد صبرك ينفد، وتحس بالضيق، فاعلم أن بعد الهم فرجاً، وكان شيخ الإسلام إذا استعصت عليه المسألة يكثر من ذكره لربه ويقول: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني.
حتى ينبلج له فجر الصواب في تلك المسألة، فلا تضق يا طالب العلم إذا ضاقت بك الأحوال في بداية طلبك، فتشعر أنك تقرأ بلا فائدة ولا مردود، وتشعر بالسآمة والملل يدفعانك لترك القراءة وإغلاق الكتاب، اصبر فلن تلبث المعلومات أن تأخذ مكانها في ذاكرتك، وتتلاقى أطراف المسائل في ذهنك، فيبدأ عطاؤك بإذن الله كالغيث نافعاً مباركاً ينفع الله به نفسك والعباد.(288/7)
نصيحة للداعية إلى الله
أخي الداعية إلى الله! قد توصد بعض قلوب المدعوين أبوابها في وجهك، وقد تحاول وتحاول دون ما فائدة، فتصاب بضيق شديد وإحباط كبير، فلا تحزن إن الله معك ما دمت تدعو إلى سبيله، وذلك ما استقمت على الجادة، وتذكر صبر نوح على قومه، ينوع عليهم وسائل الدعوة ليلاً ونهاراً تسعمائة وخمسين عاماً وهو يدعوهم إلى الله.
أخي يا من تحاول أن تكون ربانياً تربي الناس بصغار العلم قبل كباره! قد تستغلق عليك بعض الأذهان، ولا تفهم المراد ولا تعي المطلوب، أو يذهب ما تريد أن ترسخه سريعاً، وقد تقع الأخطاء المخالفة لبعض أساسيات المنهج والتصور الصحيح في نفوس من تعاشرهم، وقد تواجه حالات من الاستعصاء في الانقياد وتتكرر الأخطاء في مسائل طال عليها التنبيه، وتكرر فتحس باليأس ولا جدوى، فلا يركبنك الهم، واعلم أن مع العسر يسراً، وأن فرج الفهم والتطبيق قريب، وتذكر موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة حاطب وكعب(288/8)
نصيحة للتاجر والموظف
أخي التاجر! قد تحل بك خسارة في تجارتك، أو كساد في بضاعتك، وتتراكم عليك الديون، ويطالبك التجار الآخرون، وينزل بك من الهموم والأحزان خطوب جسام، والخسارة تلو الخسارة، ولا تدري أين تذهب بوجهك من الديانة، فلا تحزن وإن صبرت واتقيت فسيفرج الله همك، ويذهب حزنك وغمك، ويجعل لك من الضيق مخرجاً، ويبدل حالتك بعد العسر يسراً.
قال الشافعي رحمه الله:
صبراً جميلاً ما أقرب الفرجا من راقب الله في كل الأمور نجا
أخي العامل أو الموظف! قد تمر بك ساعات شدة، قد تفصل من عملك، أو تفقد وظيفتك فينزل بك الكرب ويركبك الهم، وأسئلة تدور في خلدك: ماذا ستفعل؟ وكيف تعيش؟ ومن أين تكسب اللقمة التي تضعها في أفواه أولادك؟ وما مصيرهم؟ ولكن اعلم أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأنه يرزق الطير في جوها، والنملة في جحرها، وأن الله لا يضيع عباده، واتق الله في جميع أمورك حتى يجعل الله لك فرجاً ويرزقك من حيث لا تحتسب.
وأنبه هنا -أيها الإخوة- وأقول لبعض الناس الذين تركوا أعمالاً محرمة مثل بعض أعمال البنوك ووظائفها ولم يعثروا على وظائف، وبقوا فترات طويلة بدون عمل، حتى وقع بهم الشك والحيرة: أين قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]؟ ويقول: إني اتقيت الله فخرجت من العمل المحرم ولكني لم أجد عملاً.
يا أخي! إنك اتقيت الله في عمل واحد من أعمال حياتك وهو خروجك من العمل المحرم، ولكنك ربما لا تزال مقيماً على أعمال كثيرة محرمة، ربما أنك تمشي إلى معصية الله، وتنظر إلى ما حرم الله، وتسمع ما حرم الله، فكيف بعد ذلك تقول: إن الله يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] وأنا ما جعل الله لي مخرجاً؟! أنت لم تتق الله إلا في شيء واحد، أين تقوى الله في بقية الأشياء؟! إذاًَ: أخلص لله واترك جميع المعاصي، والله لا بد أن يجعل لك مخرجاً وفرجاً؛ لأنه وعد في الآية، لكن تقوى الله واسعة وعامة(288/9)
نصيحة للشباب
أخي أيها الشاب الذي تتعرض للفتن من كل جانب، وتتلقى العنت والمشاق في الصبر على الشهوات، وأنت تصبر عن الحرام وتدافع تلك الخطوات، ويحيط بك هم الحصول على الفتاة الملتزمة، وهم توفير المهر والزينة، اصبر فإن الله مع المحسنين، وكما فرج الله لغيرك فسيفرج لك، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32](288/10)
وصايا متفرقة
أخي، يا من اضطر لطلاق زوجته في ذات الله وإرضاءً لله! قد يجتمع عليك جيش الهموم، فهمٌ يحيط بك مما خسرت وتكلفت في ذلك الزواج، وهمٌ يحيط بك: هل ستجد امرأة صالحة أخرى تتزوجها؟ وهمٌ يحيط بك: هل كانت المطلقة قد خلفت لك أولاداً من يعتني بهم؟ وهمٌ يحيط بك من موقفك أمام الناس وإذا هم همزوك ولمزوك وأساءوا القول في جانبك، فلا تحزن ما دمت قد فعلت ذلك إرضاءً لله، فإن الله يقول في سورة الطلاق في نهايات الآيات: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1] {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق:7] {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً * وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:3 - 4] نهايات عجيبة تنتهي بها آيات الطلاق لماذا؟ لأن الطلاق شيء كبير، وفيه هَمٌ عظيم لمن اتخذ ذلك القرار إرضاءً لله عزَّ وجلَّ، إن الله سيجزيه على عمله ذلك ويعوضه خيراً.
أخي، يا من وقعت في ورطة فلم تعرف كيف الخلاص، وحاولت الفكاك ولكن ولات حين مناص! تذكر في لحظاتك هذه قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88].
أخي، يا من ابتلاه الله في جسده! فهو يئن تحت وطأة المرض، ويتلوى من الوجع على فراش الإصابة، تحيط بك هموم الآلام بأنواعها.
ويا من ابتلاه الله في حبيبه أو ولده فهو يحس حرارة الابتلاء في كبده، لا تيأس فإن فرج الله بالشفاء لآت، وإن لم يحصل الشفاء فهو ابتلاء ترفع به الدرجات في الجنات، وتضاعف الحسنات {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:83 - 84].
ومن رحمة الله أن جعل طعم البلاء يخف على الإنسان كلما امتد زمن البلاء، فأنت ترى المريض المزمن في مرضه اللحظات التي يعيشها الآن أهون عليه من اللحظات التي كانت عندما بدأ المرض؛ لأنه قد تعود مع أن المرض لم يخف بل إنه ربما يشتد؛ لكن الله يصبره، وعلى قدر البلاء تنزل المعونة.
تعودت مس الضر حتى ألفته وأسلمني طول البلاء إلى الصبر
ووسع صدري للأذى كثرة الأذى وكان قديماً قد يضيق به صدري
وكذلك الداعية إلى الله عندما يبتلى بأذى الناس ربما يجزع في المرات الأولى، ولكن يوسِّع صدره على الأذى كثرة الأذى، وعلى قدر البلاء تنزل المعونة(288/11)
إن النصر مع الصبر
وأخيراً! معشر المسلمين المخلصين، الذين تعملون لإعلاء دين الله وكلمته: لقد طال هذا الليل واسود جانبه، وأرقنا فعل الجاهليات بأهل الإسلام، لا تيأسوا، فإن النصر مع الصبر، وإن مع العسر يسرا يقول الله عزَّ وجلَّ: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ * {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:109 - 110] فهذه سنة الله في الدعوات؛ أن الخطوب تشتد عليها والأخطار من كل جانب، حتى يفعل جميعهم كل الإمكانيات فلا تفيد، وبعد أن يفقدوا الأمل ويصلوا إلى نقطة يحسون ألا نصر عندها إذا بنصر الله يأتي، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110].
متى أتى النصر؟ أتى النصر عندما اشتدت الأمور، وظنوا أنه لن يأتي {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110]، وهكذا لكي لا يكون النصر رخيصاً، فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دعيٌ بدعوة لا تكلفه شيئاً، ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثاً ولعباً، فإنما هي قواعد في حياة البشر ومنهاج لهم.
يا فارج الهم عن نوح وأسرته وصاحب الحوت مولى كل مكروب
وفارق البحر عن موسى وشيعته ومذهب الحزن عن ذي البث يعقوب
وجاعل النار لإبراهيم باردة ورافع السقم من أوصال أيوب
إن الأطباء لا يغنون عن وصب أنت الطبيب طبيب غير مغلوب
اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.
وصلى الله وسلم على النبي الأمي محمدٍ، صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.(288/12)
اليهود خونة العهود
اليهود شر وأبغض أمة على مر التاريخ، وقد لعنهم الله جل وعلا في كتابه، وعلى ألسنة رسله عليهم السلام، وهنا عدة وقفات مع فلسطين الجريحة وما يجري بها من أحداث، مع بيان لموقف الأطفال وشجاعتهم ورباطة جأشهم.
فيجب أن تعلم الأمة أن ما أخذ بالقوة لا يرجع إلا بالقوة، فالجهاد هو الوسيلة الوحيدة لاستعادة الأقصى.
وقد نبه الشيخ على أهمية الإعلام الإسلامي، وتساءل عن دوره في هذه القضية، وحذّر الأمة من الغفلة، ودعاهم إلى الاستيقاظ، وحث على تربية الأبناء على الجهاد وكره اليهود الأوغاد.(289/1)
اليهود في القرآن
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم العن اليهود {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:88].
اللهم العن اليهود {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ} [البقرة:89]-أي: محمد صلى الله عليه وسلم- {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].
اللهم العن اليهود {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:46].
اللهم العن اليهود {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [النساء:47].
اللهم العن اليهود {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة:13].
اللهم العن اليهود {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:60].
اللهم العن اليهود {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64].
اللهم العن اليهود {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بن مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78].
كم مرةٍ لعنهم الله في كتابه، وكم مرةً لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم؟: (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
(لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها).(289/2)
عداوة اليهود للأمة الإسلامية
عباد الله: هذه الأمة الملعونة في كتاب الله، وعلى لسان رسول الله من قبل، هي الأمة التي تعتدي اليوم على مقدسات المسلمين، وعلى دمائهم وبيوتهم وأولادهم، هي الأمة الملعونة التي لا ترقب في مؤمنٍ إلاّ ولا ذمة اليهود خونة العهود: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} [المائدة:13]، {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة:13] اليهود ليست لهم عهود اليهود خونة العهود، هؤلاء هم اليهود لمن لم يعرف اليهود.
إن القضية قضية تاريخية، والمسألة مسألة شرعية، والقضية قضية عقدية إن اليهود لا يمكن مسالمتهم أبداً وليس لهم عهد ولا ميثاق رغم أنف الذين يريدون أن يعقدوا معهم عهداً وميثاقاً، فهم يهود مثلهم.
اليهود لا يؤمن شرهم ولا يؤمن مكرهم اليهود خلق نجس ورجس شيطاني اليهود أعوان إبليس اليهود سبب شقاء البشرية مع غيرهم من ألوان الكفر والشرك في الأرض، يقودهم إبليس إلى جهنم وبئس المصير اليهود أعداؤنا، كرههم في قلوبنا، وجهادهم عبادتنا وقربتنا إلى الله اليهود: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] هؤلاء الذين أظهر الله مكرهم وأظهر بغضهم، وكشف سترهم وسرهم، وجعلهم باستمرار أعداءً للمسلمين.(289/3)
وقفات مع فلسطين الجريحة
وتثبت الأحداث التي يقدرها رب العالمين استمرار عداوة اليهود للمسلمين، وكلما قارب السلم المزعوم على الانعقاد يجري الله حدثاً، فيقدم هؤلاء على إطلاق النار على المصلين في المسجد الأقصى بعد صلاة الجمعة الماضية كان المسلمون في بني خزاعة لما أغارت بنو بكر -المشركة- عليهم، استغاثوا بالله ربهم، وتوجهوا لنبيه في المدينة يطلبون المدد ويقولون:
هم بيتونا بالوتير هجداً وقتلونا ركعاً وسجداً
فَجَيَّشَ النبي عليه الصلاة والسلام عشرة آلاف مقاتل للانتقام لهم، وكان هذا سبب فتح مكة، فمن ذا الذي ينصر المسلمين في المسجد الأقصى واليهود يطلقون النيران على المصلين؟ ولا ندري ماذا سيحدث في هذه الجمعة؟(289/4)
اعتداء اليهود الأنذال على المسلمين
أيها الإخوة: إن الله سبحانه يقول: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] ولما صار هذا التدافع بين المسلمين واليهود ظهرت أمور كثيرة؛ فكان قتل سبعين من المسلمين، وجرح أكثر من ألف وخمسمائة مسلم بكل أنواع الأسلحة، لم يوفر اليهود سلاحاً عندهم للمجابهة إلا واستخدموه حتى الصواريخ؛ فقد قتل مسلمٌ بصاروخ، فتشتت لحمه وتبعثر جسمه وتفرق دمه، حتى لم يعد أهله يستطيعون أن يتعرفوا عليه، وهكذا رصاص طائرات الهيلوكبتر التي تطلق على المسلمين في أرض فلسطين، فيتساقطون -فيما نرجو- شهداء عند الله عزَّ وجلَّ.
إنزال مظلي، وفرق متخفية، وكذلك دبابات وتعزيزات وتحصينات وهكذا يخترق الجيش اليهودي أراضي المسلمين ليعلم أهل النفاق أنه ليس لليهود أمان، وأنهم لا يحترمون عهداً ولا ميثاقاً، إن التشوهات التي أصابت أجساد المسلمين من رصاص الدمدم والقنابل الانشطارية، والأشياء التي يزعمونها محرمة دولياً، والله عزَّ وجلَّ حرم الاعتداء وسفك الدماء بأي وسيلة كانت.
ثم يحدث هذا -أيها الإخوة- في شهر رجب الذي نعيش أيامه هذا الوقت، هذا الشهر الحرام سفكوا فيه دماءنا، وهو أحد أربعة شهور هي الأشهر الحرم التي هي أعظم الشهور عند الله، هكذا لم يوقر شهر حرام، ولا دم حرام، وهكذا حصلت الاعتداءات.(289/5)
أمور مستفادة من الحدث
لقد أظهر هذا الحدث بشهادة الجميع حتى الكفار أموراً متعددة، لقد صرحوا بأنه فاجأ العالم بأمور كثيرة، ومن ذلك أيها الإخوة: البطولة العجيبة التي أظهرها المسلمون في أرض فلسطين، فيتصدى المسلمون لليهود المتترسين المتصفحين الذين يطلقون الرصاص الحي وغيره على المسلمين فأي شجاعة وأي جرأة تلك التي انبعثت في المسلم الذي يتصدى للرصاص بالحجارة؟! ولو كان -يا ترى- عند المسلمين سلاح فكيف سيكون الأمر؟! إذاً: هذه الأمة قابلة للعمل والإحياء، وقابلة للتصدي والجهاد، وفي أفرادها جرأة وشجاعة تنقصهم قيادة راشدة، وخطة حكيمة، وإعداد جيد، واستعداد على منهج الآية: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] المسلمون لم يهربوا عندما أطلق اليهود الرصاص عليهم، بل بقوا في الشوارع يذهبون يجرون ويركضون ويغيرون مواقعهم، ويصعدون الأسطحة، يرشقون الحجارة بالمقلاع بقذائف المولوتوف بما تيسر، تقدم الأسر القتلى تلو القتلى ويصعدون الأسطحة لقلع الأعلام الإسرائيلية.
لقد ظهرت أمور عجيبة، ومن ذلك: شجاعة الصبيان، وهذه قضية بالتأكيد قد فاجأت اليهود أنفسهم، فلا ينسى العالم مشهد ذلك الصبي ذي الأربعة عشر عاماً الذي صعد السطح لكي يقلع العلم اليهودي الإسرائيلي، وطائرات الهيلوكبتر تلاحقه، وزخات الرصاص تحاصره، والقناصة الإسرائيليون من النوافذ يطلقون النار عليه، ويمضي وهو مصاب بعدما اقتلع العلم ليرقد خمساً وأربعين دقيقة في الشارع حتى يتم إنقاذه إلى المستشفى وهو ينزف.(289/6)
الجهاد هو الحل لاستعادة فلسطين
أيها الإخوة: لقد ظهرت شجاعة الأطفال، فإذا كان هذا شأن الأطفال، فما هو شأن الرجال؟ ولو وجدت راية إسلامية وسلاح بأيديهم ماذا كانوا سيفعلون إذاً؟! لقد ظهر التلاحم بين المسلمين، وكان اليهود ليحسبوا حساب عرب إسرائيل في حدود ثمانية وأربعين -كما يسمونها- أن يقوموا بمثل هذا العمل! فإذا بهم يتصاعدون لمؤازرة إخوانهم وراء الخط الآخر المزعوم؛ لإثبات أن الإسلام هو النسيج الذي يربط بين هؤلاء جميعاً، وهكذا قدموا أيضاً قتلى، وظهر أن الهوية الإسرائيلية التي منحها اليهود لعرب الثمانية وأربعين لم تجدِ في تغيير ولائهم، بل تصاعد المجد الإسلامي بينهم ليكونوا لحمةً مع المسلمين في الطرف الآخر، وهكذا قام المسلمون في عدد من البلدان يتظاهرون تأييداً لإخوانهم المسلمين في الداخل، وسمع كلامٌ لم يكن يسمع من قبل في قضية إعلان الجهاد، وأنه الحل الوحيد، ونبذ الاستسلام والسلام الموهوم، والعودة إلى أن الذي أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.
أيها الإخوة: إن هذا التخطيط المسبق من اليهود لهذه القضية التي حصلت، وهذه الجرائم التي صارت؛ أيقظت في نفوس المسلمين الحمية.
إن هذه الأمة التي جرى تنويمها بالأفلام والملاهي والألعاب وغير ذلك من ألوان الترف، والتي جرى تخديرها بالمغنين والمغنيات، والراقصين والراقصات، والممثلين والممثلات، والسياحات والسفريات، وغير ذلك من أنواع الملهيات، إنها لتستيقظ اليوم وهي ترى هذه الدماء في أرض فلسطين، حتى اضطرت بعض جهات الفسق إلى تغيير برامجها مواكبةً للحدث، ومراعاة لمشاعر الجماهير كما يقولون، فأصبحت -بزعمهم- أكثر جدية من ذي قبل، وهذه ملاحظة مهمة: أن تكون القضية فرضت نفسها؛ بحيث إنهم اضطروا إلى أمور من تغيير البرامج مواكبةً للحدث.
أيها الإخوة: إن مشاركة المسلمين لإخوانهم في المشاعر، والتعبيرات التي ظهرت في الشارع الإسلامي جميعه، تدل على أن مفهوم الجسد الواحد يمكن أن يعود، وكذلك فإن ارتفاع الأصوات التي تدعو إلى الجهاد تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الخطوة القادمة لهذه الأمة أنه لامناص منها إطلاقاً، وأن الجهاد أمرٌ يفرض نفسه؛ لأن هذا الاحتلال لأرض الوقف الإسلامي أرض فلسطين، التي لا يجوز التنازل عن شبر منها؛ لا يمكن إزالته إلا بالجهاد، وبالانتقام لله من هذه الشرذمة الذين قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64].
وليست القضية قضية قديمة؛ فهذا موفادي يوسف كبير حاخاماتهم وأحبارهم، يقول: إن الله ندم على خلق الفلسطينيين!! فسب الله مستمر من اليهود قديماً وحديثا، فهم أمةٌ واحدةٌ ملعونة، وخط ملعونٌ مستمر في التاريخ من أول ظهورهم، هكذا كانوا يقتلون الأنبياء، ويعيثون في الأرض فساداً، ويسبون الله تعالى.
وضعوا السم للنبي عليه الصلاة والسلام، وتآمروا عليه وعلى المسلمين، واشتركوا في المؤامرة مع كفار قريش والمنافقين، والخيانة مستمرة والقضية مستمرة، وكما حُلَّت بالجهاد في الماضي فإنها لا تحل إلا بالجهاد في الحاضر.
أيها الإخوة: لقد رأينا وقاحتهم وهم يطلبون من الفلسطينيين الكف عن إطلاق النار، وضبط النفس، أي ضبط للنفس في هذا الموضوع؟! وكيف يملك أن يضبط نفسه من يرى أفراد أسرته يقتلون، ومنزله وغرف بيوته تهدم بقذائف صاروخية؟! ثم يقولون: ضبط النفس!! ورأينا -أيها الإخوة- كيف يتآمر الإعلام الغربي النصراني الحاقد مع الإعلام اليهودي وبينهما نسب كبير في قضية طمس الصورة الحقيقية وتشويه الأحداث، فالتركيز -مثلاً- على صورٍ لفلسطينيين قلة وندرة يطلقون رصاصاً من مسدس أو بندقية؛ لكي يظهروا للعالم ويوهموا الناس أن القضية قضية حرب جيشين أي جيشين؟! ومن هو الجيش الآخر؟ معظم الناس الذين اشتركوا من المسلمين بالحجارة وبأيديهم، ولو كانت الأسلحة موجودة فعلاً بأيدي مؤمنين حقاً لتغيرت النتيجة منذ أيام، وانقلبت القضية.(289/7)
أهمية الإعلام الإسلامي في القضية الفلسطينية
أيها الإخوة: إن هذه الفضائع التي حدثت كان لها أثر في النفوس، ونقول دائماً: ليس في أفعال الله شر محض، فلابد أن يوجد فيه خير بوجه من الوجوه، قد يقول الناس: الخسائر ضخمة، سبعون قتيلاً وألف وخمسمائة جريح، ومنازل متهدمة، لكن نقول: الوعي الذي أحدثته هذه الدماء في الأمة كبير جداً، المكسب في الوعي وإيقاظ الإيمان والنفوس المتخدرة أكبر بكثير من الخسارة التي حصلت، والله غالب على أمره، والله عزَّ وجلَّ يحدث في الواقع من المفاجئات ما تربك اليهود {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30] {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] بالتأكيد إنهم لن ولم يكونوا قد حسبوا لهذه المسألة تلك الحسابات، ولذلك هنا يبرز أهمية الإعلام الإسلامي الحقيقي عندما يقدم الصورة للناس.
تأملوا -أيها الإخوة- في كاميرا ذلك الفلسطيني الذي صوبها بمهارة على محمد جمال الدرة وهو يقتل بجانب والده، ووالده يتوسل لهم، لقد أقضت الصورة مضاجع العالم، لكن هذه صورة فأين بقية الصور؟ صورة واحدة فعلت هذا الفعل في العالم، والشجب والاستنكار والغثيان والاشمئزاز من أفعال اليهود، وهناك صبيان آخرون قد قتلوا مثله، لكن لم تدركهم الكاميرات، فإذا كانت هذه اللقطة التي كان اليهود سيدفعون مبالغ طائلة جداً جداً لمنع انتشارها، ومنع عرضها لو استطاعوا، فعلت هذا الفعل، فكيف كان سيحدث إذاً لو صورت المناظر الباقية؟!(289/8)
الانتقام من اليهود قضية متأصلة عند المسلمين
أيها الإخوة: إن اليهود يراهنون على أن القضية ستكون زوبعة في فنجان، وأننا لا نلبث أن نهدأ وننام، وأن يقوم القوم لمصافحتهم وتقبيل شواربهم، وتوقيع اتفاقية السلام، لكننا نؤمن بالله، وأنه على كل شيء قدير، وأن الله يقلب عليهم مخططاتهم، وأن الله قادر على إيقاظ الأمة التي يراهنون على عودتها للنوم من جديد.
أيها المسلمون: لقد أيقظ الحدث في نفوسنا أمراً مهماً جداً، أيقظ أمراً مهماًَ في نفوس المسلمين، وهو الرغبة في الانتقام، وهذه قضية يخشاها اليهود جداً أن يوجد عند المسلمين رغبة حية متصاعدة متدافعة للانتقام إنهم يريدون السلام لكي لا يحصل الانتقام؛ لأن دولتهم لا يمكن أن تواجه الانتقام، ولكن الانتقام رغبة متحققة متجذرة متأصلة في نفوسنا، ونفوس المسلمين الذين عرفوا الأحداث وشهدوها.
وسيستغل القضية المنافقون والعلمانيون والمشركون والباطنيون والقوميون، وأصحاب البدع الكفرية، سيستغلون قضية الحدث، وما صار في المسجد الأقصى، فهؤلاء يجب إسكاتهم، وعدم الالتفات إليهم، وإنما الالتفاف حول من يتكلم عن إسلامية القضية؛ لأن القضية لا يمكن أن توصف إلا بأنها إسلامية، وأي شعار آخر للقضية فهو كاذب؛ لأنك لو قلت: إن القضية قضية عرب، فالعرب فيهم نصارى، وفيهم كفار، ومرتدون، وزنادقة، وملاحدة واشتراكيون، فما علاقتهم بالمسجد الأقصى؟ قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة:17].
لقد تعالت أصوات المسلمين وهي تدعو للعمل قائلةً:
طلقوا الكلام ودعوا القرطاس فكلامهم قذائف وأقلامهم رصاص(289/9)
تربية الأبناء على الجهاد وبغض اليهود
إذاً أيها الإخوة: لقد أحسسنا فعلاً بأجواء جهادية، وقد طار النوم عن كثيرين، واستيقظت مشاعر دفينة، وتأججت مشاعر في النفوس كانت مطموسة، وكانت مغلقاً عليها بالشهوات، وهذا هو الذي نريده؛ أن يزيل المسلمون غبار النوم عنهم.
وأن يتركوا الانغماس في الشهوات، ويقوموا لتربية أولادهم على الجهاد، هذه هي الفائدة الكبيرة من الموضوع: تربية الأولاد على الجهاد، وكره اليهود والنصارى والكفار، تربية الأولاد على الجهاد، وإحياء جذوته في نفوسهم، هذا هو المطلوب الآن، والاستعداد لما سيجد في المستقبل.
اللهم إنا نسألك أن تخزي اليهود والنصارى، اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين، اللهم إنا نسألك أن تحفظنا بالإسلام قائمين وقاعدين وراقدين يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(289/10)
استيقاظ الأمة عقب الأحداث
عباد الله: إن الشعار العظيم الذي يرفعه المسلمون، ويتأجج من حناجرهم:
خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود
هو الذي يرهب اليهود حقاً.
إن اليهود لا يريدون -إطلاقاً- أن يتحول الحدث إلى عاصفة توقظ الأمة من رقادها، إنهم لا يريدون إطلاقاً أن تتعالى صيحات الجهاد، إنهم لا يريدون أبداً أن يكون المسلمون يداًَ واحدة، فقد فاجأهم الحدث حقاً في نتائجه، وما يترتب عليه.
إنني أجزم -أيها الإخوة- أنهم لم يكونوا يحسبون حساباً لتلك اللقطة التي حصلت لذلك الطفل الذي قتل بجانب أبيه، ولا لتلك الطفلة ذات الثمانية عشر شهراً التي تعمد مستوطن مجرم يهودي أن يطلق عليها الرصاص وهي في مقعد سيارة أبيها!! فماذا تفعل بنت رضيعة عمرها ثمانية عشر شهراً؟! وهل تملك أن تجري وأن تهرب أو أن تدافع عن نفسها؟! لكن هذه طبيعة اليهود، أرانا الله إياها، هذه طبيعتهم وهذا غدرهم، ثم يقولون: إن المستوطنين في كفر قاسم غير قادرين على التجول، والخروج إلى وظائفهم! مساكين!! وأما هؤلاء الذين يصلون نار الرصاص فلا عليهم شيء ولا بأس بزعمهم.
محمد أي ذنب جئت تحمله حتى قتلت على عين الملايين
يا درة المجد قد فجرت في شرف شرارة الثأر في وجه الشياطين
محمد أي جرح صغت في كبدي وما الذي بعد هذا الخطب يبكيني
كأنما طلقات الحقد في جسدي والهم يفتك بي فتك السكاكين
يا للأبوة والأشجان تخنقها والموت يبرق من أنياب تنيني
ماذا أثرت على الوجدان من شجن والقدس قبلك مغلول الذراعين
وخلف صوتك أصوات معذبةٌ من ليل صبرا وذكرى دير ياسين
وفي جفونك أحزانٌ مسطرةٌ للأرض والعرض والإحراق والهون
دموع عينيك تحكي ألف مجزرةٍ من صنع جولدا ومن أيام شارون
وفي المحيا سؤالٌ حائرٌ قلقٌ أين الفداء وأين الحب في الدين؟
أين الرجولةُ والأحداث داميةٌ؟ أين الفتوح على أيدي الميامين؟
ألا نفوسٌ إلى العلياء نافرةٌ؟ تواقةٌ لجنان الحور والعين؟
كرامة الأمة العصماء قد ذبحت وغيبت تحت أطباق من الطين
لكنها سوف تحيا من جماجمنا وسوف نسقي ثراها بالشرايين
نفديك بالروح يا أقصى وحيَّهلا بميتةٍ في سبيل الله تحييني
تهون للقدس أرواح وأفئدةٌ وكل حبة رمل من فلسطين
لكل خطبٍ عزاءٌ يستطب به لكن إذا ضاع قدسي من يعزيني
أيها الإخوة: لقد كانت حادثة قتل الطفل شرارةً فعلاً، وكذلك الأطفال الذين قتلوا، والأرواح التي أزهقت، والدماء التي سالت، والبيوت التي خربت، هكذا توقظ أقدار الله التي يجريها في الواقع القلوب الميتة، وتحيي النفوس التي طال صدؤها في مستنقع الرذائل، وتقول للمسلمين: انهضوا من الشهوات يا أيها الناس، تجرون وراء الشهوات والأقصى يحدث ما يحدث فيه من قتل المصلين!! وتنتهون بالمحرمات خمر وزنا، وفضائيات عاهرة، وأفلام، ومسرحيات، ومسلسلات، وملاهي، وهكذا يفعل بالمسلمين! فأين الخير فيكم إذاً؟!! هكذا تهتف الأحداث بنفوس المسلمين.
نسأل الله عز وجل أن يجعل من هذا الشهر العظيم شهر نصر للإسلام والمسلمين، اللهم أرنا في اليهود بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أنزل عليهم عذاباً من فوقهم، وزلزل الأرض من تحتهم، وائتهم من حيث لا يحتسبون اللهم يتم أطفالهم، ورمل نساءهم، وخرب بيوتهم، ودمر اقتصادهم، وعطل أسلحتهم إنك أنت القوي العزيز.
اللهم اجعلها عليهم ناراً ودماراً وشدةً وحصاراً.
اللهم أيقظ في نفوس المسلمين الحمية لقتالهم، واجمع كلمة المسلمين على جهادهم اللهم أفشل خطط المنافقين، ودمر النصارى والمشركين الذين يؤازرون اليهود الملاعين، اللهم شردهم وشرد بهم من خلفهم إنك يا جبار على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، اللهم آمنا في أوطاننا وسائر المسلمين يا رب العالمين، واجعلنا مدداً للجهاد يا حي يا قيوم، إنك على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(289/11)
انتشار مسألة الحلف بالله تعالى بالحق والباطل
لقد انتشر الحلف بالله تعالى انتشاراً كبيراً في أوساط المسلمين، فترى أحدهم يحلف بالله تعالى في كل شيء، في الأمر المهم والأمر الحقير، وفي الأمر الحلال والأمر الحرام، ترى أحدهم تسبق شهادته يمينه ويمينه شهادته غير مبال بالله تعالى، هكذا حال كثير من الناس، كالتجار وغيرهم، فيا ترى ما هي أسبابه؟ وما هي أحكامه وأنواعه؟ هذا ما تكلم عنه الشيخ حفظه الله، ثم تحدث عن كفارة اليمين وأحكامها، وبين خطورة هذا الأمر وعدم جواز التمادي فيه.(290/1)
انتشار الحلف بالله تعالى وأسبابه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخواني المسلمون: إن من أهداف خطبة الجمعة إيضاح المشاكل التي وقع فيها الناس مما يمس الإسلام بصفة عامة والعقيدة السمحة بصفة خاصة، ونحن اليوم إذا دققنا النظر في أحوال المجتمع وجدنا بأن الآفات التي تنخر في عقيدته كثيرة، وبأن الظواهر المحرمة قد انتشرت وعمت، ومن هذه الظواهر التي سنتكلم عنها إن شاء الله، ونبين علاقتها بالعقيدة الإسلامية، واستهان الناس بهذا الأمر الخطير ونبين جزءاً من أحكامه الفقهية بشكل مبسط؛ لعل الأمر يتضح عند الكثيرين إن شاء الله، وهذه القضية -أيها الإخوة- هي انتشار مسألة الحلف بالله تعالى بالحق والباطل.
فأنت ترى ألسنة الناس منطلقة بالقسم بالله عز وجل، بالأمر المهم وفي الأمر الحقير، وفي الأمر الحلال وفي الأمر الحرام، ترى أحدهم تسبق شهادته يمينه ويمينه شهادته غير مبالٍ بالله تعالى، وترى التجار يحلفون بالله تعالى أنهم قد أعطوا في السلعة كذا وكذا، وأن مشتراهم كذا وكذا، وأن ربحهم كذا وكذا، وهم مع ذلك غير صادقين، بل إن المسألة -أيها الأخوة- قد تطورت حتى صار الحلف بالله عز وجل في الأمور المهانة والحقيرة، فترى كثيراً من اللاعبين يقولون: والله هذا هدف، والآخر يقول: والله ليس بهدف، وهكذا فأصبح الله عز وجل في نفوس هؤلاء الناس ليس له وزن ولا قيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وإذا حلَّلت معي -يا أخي المسلم- الأسباب التي أدت إلى انتشار الحلف بالله تعالى والاستهانة بهذه القضية الخطيرة عند الناس اليوم لوجدت لها عدة أسباب، منها: أولاً: أن عظمة الله تعالى في نفوس كثير من المسلمين قد تلاشت أو قاربت، أصبح الله عز وجل ليس له مهابة في قلوب كثير من المسلمين، فهم يحلفون به في أي ساعة من ساعات الليل والنهار، سواء كان الأمر يستحق الحلف أو لا يستحق الحلف، وهذه قضية خطيرة لها مساس مباشر بالعقيدة الإسلامية إن من أسماء الله تعالى -أيها الإخوة- أنه العظيم، هذا الاسم العظيم الذي جهلته قلوب كثير من المسلمين، وهذا الجهل هو الدافع لانطلاق الحلف على ألسنة الناس.
ثانياً: انعدام ثقة الناس بعضهم ببعض.
ومن أسبابه: فشو الكذب بين الناس، فترى هذا لا يصدق هذا إلا بالحلف، ويقول له إذا قال له خبراً بقضية عادية بأسلوب عادي: اقسم بالله إن هذا صحيح، لأن الثقة بين الناس قد انعدمت، وفشا الكذب حتى لم يميز الصادق من الكاذب والأمين من الخائن، ومع انتشار القسم صار حتى القسم شيئاً عادياً، لا يصدق من يقسم.
هذه المسألة الخطيرة -أيها الإخوة- تحتاج إلى علاج، وتحتاج إلى تبيين شيء من أحكامها؛ لعل الله تعالى يوقظ تلك الأفئدة النائمة وتلك العقول الخامدة، التي سيطر عليها تبلد الإحساس، وانعدمت عظمة الله سبحانه وتعالى بين جنبتي نفوس كثير من الناس.
واعلموا -يا إخواني- أن الإفراط بالحلف أصلاً مذموم؛ لأن الله تعالى قال في القرآن العظيم: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم:10] وحلاَّف صيغة مبالغة وهو الرجل الذي يحلف كثيراً، وقال عز وجل: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224]، وقال تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] لا تقسم عند أي شيء، احفظ اليمين، ادخر اليمين للأمر العظيم، لا تجعله ألعوبة كما جعله اليوم كثير من المسلمين.(290/2)
أنواع اليمين وبعض أحكامه الفقهية
واعلموا يا إخواني أن اليمين ثلاثة أنواع: ما يجري على ألسنة الناس دون قصد فترى أحدهم يسأل: هل فلان موجود؟ فيقول له بعض الناس: والله غير موجود، أو والله ذهبت البارحة للمكان الفلاني، هذا النوع من القسم لا يعتبر قسماً، ولا تنعقد به اليمين، ولا تجب فيه الكفارة، لأن المتكلم ما قصد الحلف وإنما جرى على لسانه بغير قصد، وهذا هو معنى قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة:225] هذا هو معنى اللغو في اليمين، وهذه اليمين غير منعقدة.
أما النوع الثاني من اليمين فهو اليمين الغموس الكاذبة هذه اليمين التي يراد منها اقتطاع مال امرئ مسلم، أو أخذ حقه والاستيلاء عليه ظلماً وعدواناً اليمين الكاذبة التي قال العلماء بالإجماع: إنه ليس لها كفارة مطلقاً، لأنها أعظم بالذنب، لأن ذنبها عظيم لا يكفره كفارة مادية اليمين الغموس الكاذبة هي في عظمة ذنبها أكبر من أن تكفرها أية كفارة، ولذلك قال العلماء: إنه لا كفارة لها مطلقاً من أنواع الكفارات المادية، ولا يكفرها إلا التوبة والاستغفار، استغفار الله تعالى من هذا الجرم العظيم.
وكذلك هي التي ذكر الله تعالى أنها من صفات المنافقين الذين قال الله عنهم: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة:14] يحلف على الكذب وهو يعلم أن يمينه كذب، وهذه الخصلة صارت خلقاً لكثير من المسلمين اليوم.
أما النوع الثالث فهي اليمين الشرعية التي يحلف بها الإنسان بالله عز وجل على أمر مباح أو مشروع أو غير محرم هذه اليمين يشرع استخدام جزء منها -أيها الإخوة- كما كان صلى الله عليه وسلم يستخدمها -مثلاً- في التأكيد على الحقائق الإيمانية، من خلال الدعوة إلى الله عز وجل، فالداعية -أحياناً- يحتاج -لكي يقوي أسلوب العرض ويؤكد ويجزم بما يقول- إلى الحلف بالله بأن هذا الأمر حق، كعذاب القبر مثلاً، أو الصراط أو المحشر أو الحساب، إلى غير ذلك من أمور العقيدة؛ فإن الحلف في أثناء دعوة الناس إلى الإسلام بعرض حقائق الإيمان عليهم لا حرج فيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد استخدمه.(290/3)
الحلف لا يجوز إلا بالله تعالى أو أسمائه وصفاته
واعلموا -أيها الإخوة- أنه لا يجوز الحلف إلا بالله وصفاته، فإذا حلفت بالله أو بعلم الله أو قدرة الله أو عزة الله أو عهد الله تعالى لأن العهد من كلامه عز وجل، قال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60] أو حلفت بآيات الله تعالى؛ فإن الحلف بها جائز؛ لأن آيات الله هي كلامه، والكلام صفة من صفاته، والحلف بالله أو بصفاته جائز، أما الحلف بالمخلوقات فإنه لا يجوز مطلقاً، كالحلف بالكعبة مثلاً، أو الحلف بالأب، أو الحلف بالأمانة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بالأمانة فليس منا) حديث صحيح.
كثير من الناس اليوم تجده يقول: والأمانة، وأختم بأمانتي، أو وأقسم بالأمانة أنه كذا، يقول عليه الصلاة السلام: (من حلف بالأمانة فليس منا) وبعض الناس تتطور بهم أمور خطيرة تؤدي إلى الشرك والعياذ بالله، عندما تجد أحدهم يقسم بالولي الفلاني أو العبد الفلاني، وهؤلاء -أيها الإخوة- استحوذ عليهم الشيطان لدرجة أن أحدهم عندما تقول له: احلف لي بالله، يحلف لك بالله كاذباً، لكن إذا قلت له: احلف بحياة شيخك فلان، أو احلف برأس البدوي أو غيره من الأولياء، فإنك تجده لا يحلف بهذا الولي إلا إن كان صادقاً هذا شائع في بعض أمصار المسلمين، نسأل الله السلامة والبراءة من الشرك فإذا حلف إنسان بمخلوق من المخلوقات كما يجري على ألسنة كثير من المسلمين اليوم الذين يقولون في حلفهم: والنبي، مثلاً، يقولون: والنبي.
والنبي صلى الله عليه وسلم مخلوق من المخلوقات التي خلقها الله، فالحلف به لا يجوز مع عظم منزلته التي أنزله الله إياها، لأن الحلف -أيها الإخوة- عبادة لا يجوز صرفها إلا لله، لا يجوز القسم إلا بالله، إن الله يقسم بما شاء من مخلوقاته: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] لكن العبيد لا يجوز لهم أن يقسموا إلا بالله، فإذا أقسم إنسان بغير الله فإن قسمه لا ينعقد، لا يعتبر يمينه يميناً، ولو حنث فيه فلا تجب الكفارة، أما اليمين الشرعية فهي التي لا يحلف فيها إلا بالله، ويؤكد عليه الصلاة والسلام خطورة هذا الأمر فيقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) حديث صحيح.(290/4)
حكم الحلف بغير الله تعالى
وكذلك -أيها الإخوة- فإنك إن سألتني عن هذا الحالف بغير الله، كالذي يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً- ما حاله؟ هل هو مشرك كافر خارج عن ملة الإسلام؟ أم هو باق على إسلامه؟ فأقول لك: إن الجواب في هذا فيه تفصيل: فإن هذا الحالف إن قصد أن النبي صلى الله عليه وسلم، أو هذا الذي يحلف به كمن حلف بالكعبة أو حلف بأبيه أو حلف بشرفه إن قصد أن هذه المحلوفات أعظم من الله أو مساوية لله بالعظمة أو ما شابه ذلك، فهو كافر مرتد مشرك خارج عن ملة الإسلام، وإن لم يقصد هذا وإنما حلف بها لجهله أو سبق لسانه لأن مجتمعه كان متعوداً عليها؛ فهذا لا نخرجه عن ملة الإسلام ولا يعتبر كافراً.
ولكن من حلف بغير الله فعليه كفارة، يقول صلى الله عليه وسلم: (من حلف منكم فقال في حلفه: واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله) من حلف بولي من الأولياء، أو بالشرف، أو بالأمانة، أو بصنم، أو بما سوى ذلك مما يسبق على لسانه ويجري؛ فعليه أن يقول: لا إله إلا الله، من قال: والنبي، ما هي كفارة هذا الحلف المحرم؟ أن يقول بعد أن يتذكر مباشرة: لا إله إلا الله، كما ورد في الحديث الصحيح.
وكذلك -أيها الإخوة- لقد كان صلى الله عليه وسلم يحلف بالله وصفاته، ومن صفات الله أنه يقلب القلوب، فكان عليه الصلاة والسلام يقول: (لا ومقلب القلوب) وكان يقول: (والذي نفسي بيده) وكان يقول: (وأيم الله) وهكذا من صفات الله تعالى وأسمائه.(290/5)
التكفير عن اليمين وفعل الذي هو خير
وبعض الناس -أيها الإخوة- يقع عندهم إشكال فيما إذا حلفوا على أمر ليس من البر، فأحياناً يحلف إنسان فيقول: والله لا أدخل بيتك والله لا أطأ عتبة دارك والله لا آكل من طعامك أو أشرب من شرابك والله لا آخذ منك قرشاً أو والله لا أعطيك قرشاً، كمن يحلف ويقول لزوجته: والله لا أعطيك ريالاً أو فلساً، أو يقول لولده: والله لا أعطيك بعد الآن ريالاً واحداً هذا الحلف -أيها الإخوة- إذا جئت تنصح الحالف وتقول له: اتق الله في أهلك، أنفق عليهم، أعط أولادك النقود التي يحتاجونها، ادخل بيت فلان هذا، كيف تقطعه وتقطع صلته؟ فبعض الناس يقولون: ولكني حلفت، إنني حلفت ألا أفعل هذا الأمر، فكيف أفعله الآن وقد أخذت ميثاقاً غليظاً على نفسي وأقسمت بالله ألا أفعله؟ هذا الإشكال حله بسيط، مع التنبيه بأن الحلف -أصلاً- بمثل هذه الأشياء لا يرضاه الله تعالى، كيف تقسم بأن تمنع النفقة عن زوجتك؟! وكيف تقسم ألا تدخل بيت جارك؟! كيف تفعل هذا؟! هو أصلاً لا يرضاه الله، لكن وقد حدث فلا تقل إذا دعيت إلى الخير والبر لقد أقسمت، والموضوع خرج من يدي، ماذا أفعل؟ يقول الله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة:224] الآية والمعنى الذي قصد بهذه الآية: إذا دعيت إلى دخول بيت قد حلفت على عدم دخوله فلا تجعل الحلف بالله تعالى هو الذريعة أو ذريعة لا تجعل الحلف بالله هو عذر أو ذريعة لعدم دخول البيت وتحتج وتقول: لقد حلفت فما هو الحل؟ الحل أن تكفر عن يمينك وتدخل هذا البيت، وتكفر عن يمينك وتعطي المال للزوجة والولد، وما شابه ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لأن يلجّ أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه) متفق عليه.
أي: إن تمادي الإنسان في الحلف من هذا النوع، الحلف على ألا يفعل شيئاً من الخير، تماديه في الحلف وإصراره عليه آثم له عند الله من إخراج الكفارة وكسر اليمين، وإخراج الكفارة وفعل هذا الخير الذي منع نفسه منه بالحلف التمادي في اليمين آثم عند الله كما يقول صلى الله عليه وسلم، فالحل إذاً -يا أخي المسلم- أن تكفر عن يمينك، ثم تفعل هذا الشيء الذي منعت نفسك منه وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها -خلاف اليمين الذي حلفت عليه- خيراً منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك).(290/6)
حكم من فعل المحلوف عليه ناسياً
وكذلك -أيها الإخوة- لو أن إنساناً حلف بالله على ألا يفعل أمراً ثم فعله ناسياً، فهل تجب عليه الكفارة؟
الجواب
لا تجب عليه الكفارة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).(290/7)
حكم من حلف على شخص أن يفعل كذا فلم يفعله
وكذلك لو أن إنساناً أقسم بالله على إنسانٍ آخر أن يفعل أمراً ما، فقال إنسان مثلاً: أقسمت بالله عليك ألا تخرج من بيتك، أقسمت بالله عليك أن تتغدى عندي، هذا يعتبر يميناً، فلو أن الرجل الآخر خرج من بيتك، أو لم يتغدَّ عندك؛ فيجب عليك الكفارة، لو قلت: أقسمت بالله عليك يا فلان ألا ترفع هذا الشيء، فرفعه وخالف أمرك، فيجب عليك أنت الحالف الذي أقسمت بالله يجب عليك الكفارة ولذلك أوصى صلى الله عليه وسلم بإبرار المقسم، لو أن أخاك أقسم بالله عليك في أمر ما، وقال: أقسمت عليك بالله، أو حلفت عليك بالله يا فلان أن تفعل كذا، فالسنة والمستحب في حقك كواجب من واجبات الأخوة الإسلامية أن تبر بقسم أخيك، ولا تحرجه ولا تجعله يقع في الحنث الذي يوجب الكفارة، ولكن إن حصل الأمر وخالف المحلوف عليه؛ فإنه يجب على الحالف الكفارة.(290/8)
حكم تكرار اليمين على شيء واحد والعكس
وكذلك لو أن إنساناً حلف بالله وأسمائه وصفاته على شيء واحد، فهل يعتبر أكثر من قسم، أم يعتبر قسماً واحداً؟ لو قال إنسان: أقسم بالله وآياته وعزته وعهده وقدرته وعلمه أنني لن أفعل كذا، ثم إنه فعل، فإن هذا الحلف يعتبر يميناً واحداً يجب فيه كفارة واحدة؛ لأن موضوع الحلف واحد، وتلك إنما جاءت من باب التأكيد، فمهما أتبع القسم بالله أو آياته وصفاته وحلف على شيء واحد فإنه يعتبر يميناً واحدة، إذا حلف به تجب فيه كفارة واحدة، أو كرر اليمين على شيء معين، فقال: والله ثم والله ثم والله إنني لن أفعل كذا ثم فعله، فيجب فيه كفارة واحدة.
ولو حلف يميناً واحدة على أشياء مختلفة فقال: والله لا آكل ولا أشرب ولا أدخل بيتك، فقال (والله) مرة واحدة، فإنها تجب كفارة واحدة حتى لو كانت عدة أشياء، أما لو قال: والله لا أدخل بيتك والله لا آكل من طعامك والله لا أقعد في بيتك فصار اليمين "والله" متعدداً في العبارات، فعند ذلك تجب الكفارة في كل حلف، أما لو أقسم يميناً واحدة على عدة أشياء فإنه لو فعلها كلها فتجب فيها كفارة واحدة.
أعيد حتى لا يحدث الالتباس: لو أنه أقسم بيمين واحدة على عدة أشياء فقال: والله لا آكل في بيتك ولا أشرب ولا أقعد، فإن حنث بها كلها فقعد وأكل وشرب، فما دام قال: (والله) مرة واحدة، كان بداية الحلف مرة واحدة؛ فعليه كفارة واحدة، أما لو قال: والله لا آكل في بيتك والله لا أدخل بيتك والله لا أقعد في بيتك فعلى كل واحدة منها كفارة، فلو حنث فيها كلها فتجب عليه ثلاث كفارات.(290/9)
جواز إخراج الكفارة قبل الحنث وبعده
وكذلك -أيها الإخوة- لو أن إنساناً حلف بالله تعالى ألا يفعل أمراً، أو حلف أن يفعل أمراً ما فهل يجوز له أن يخرج الكفارة قبل الحلف أم لا؟ لو قال: والله لا أدخل بيت فلان، فهل يجوز أن يخرج الكفارة قبل أن يدخل؟ رجع إلى نفسه وقرر أن يدخل؟ فهل يخرج الكفارة قبل أو بعد الدخول؟ قبل الحنث أو بعده؟
الجواب
كلاهما مشروع وكلاهما صحيح، فيجوز أن يخرج الكفارة قبل أن يحنث في اليمين إذا كان يريد أن يحنث، أو بعد أن يحنث فيه.(290/10)
حكم من أتبع اليمين بقوله: إن شاء الله
وكذلك فإن حلف إنسان وقال في حلفه: إن شاء الله، فإن اليمين لا تنعقد، فلو قال: والله لا أفعل الشيء الفلاني إن شاء الله، فإن أتبع الحلف مباشرة بقوله: إن شاء الله؛ فإنها لا تعتبر يميناً، ولا تجب فيها الكفارة، وهذا خاص بما إذا كان قد أتبع الحلف مباشرة بقوله: إن شاء الله، أما لو قال أحد: والله لا أفعل كذا، وبعد ساعتين أو بعد يومين قال: إن شاء الله؛ فهذه لا تؤثر، ويعتبر يميناً، ولو حنث فيه وخالف ما أقسم عليه تجب عليه الكفارة والدليل على هذا الكلام قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف فقال: إن شاء الله فقد استثنى) فلاحظ أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من حلف فقال) والفاء تقتضي المباشرة: (من حلف فقال: إن شاء الله) وكان الخليفة أبو جعفر المنصور يأخذ برأي ابن عباس: بأن الإنسان إذا قال: إن شاء الله بعد سنة يكفي، فقال له أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين! أترضى أن يبايعك الناس ويعاهدوك على الخلافة ثم إذا خرجوا من عندك قال الإنسان منهم: إن شاء الله؛ فلا يلزمه شيء؟ فرجع أبو جعفر عن رأيه لما رأى عظم الأمر.
فهذا -أيها الإخوة- خلاصة بعض الأحكام المتعلقة باليمين، قصد منها ومن عرضها تنبيه الناس إلى خطورة هذا الأمر، وأن فيها الكفارة، كما سنفصل إن شاء الله في الخطبة الثانية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(290/11)
كفارة اليمين وأحكامها
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيله القويم.
ولما كان أمر الحلف بالله عظيماً فقد شرع الله تعالى صيانة لجنابه عز وجل، واحتراماً للحلف به، أوجب الكفارة على من يخالف الأمر الذي حلف عليه ويحنث في يمينه، فقال تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89] كلها بمنزلة واحدة، أنت مخير بين الإطعام أو الكسوة أو عتق رقبة، {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المائدة:89] فمن لم يستطع الإطعام أو الكسوة أو تحرير رقبة، فينتقل إلى الدرجة الثانية من الكفارة وهي صيام ثلاثة أيام، وهو مخير إن شاء أطعم وإن شاء كسا، فإن أطعم خمسة وكسا خمسة أجزأ ذلك باتفاق العلماء، ويشترط لمن يطعمهم أو يكسوهم أن يكونوا: أولاً: فقراء، فلا يجوز إعطاء الطعام الغني أو كسوة غني والفقير هو الذي لا يجد حاجته، ولا يجد ما يسد خلته وعوزه.
ثانياً: أن يكون من المسلمين بعض الناس يخرج كفارة فيلقى أقرب عامل بلدية في الشارع ويعطيه وهو لا يعرف إن كان هذا الرجل بوذياً أو هندوسياً أو مسلماً أو نصرانياً، فلا بد أن يتحرى لمن يعطي الكفارة، فيجب إعطاؤه للمسلمين.
ثالثاً: أن يكون هؤلاء قد أكلوا الطعام، ما معنى أكلوا الطعام؟ أي: أن يكونوا في سن يأكلون فيه الطعام، فمثلاً: لو وجدت عائلة فيها عشرة أشخاص كباراً فقراء، فيجوز إعطاؤهم الكفارة، لكن لو كان أحدهم طفلاً رضيعاً صغيراً، عمره شهر لا يأكل الطعام وإنما يرضع، فعند ذلك تكون قد أعطيت الكفارة لتسعة فقط والعاشر لا بد أن تبحث عنه حتى تكمل العشرة، فلا بد أن يكونوا قد أكلوا الطعام؛ لأن الله قال: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89].
وكذلك يتصدق الإنسان بحاجة الفقير ما يشبعه غداءً أو عشاءً، ما يشبع شخصاً واحداً، يتصدق على عشرة أشخاص بما يشبعهم، وليست صدقة وإنما هي كفارة، تجب عليه وجوباً وليس مخيراً فيها.
ويجوز أن يكون العشرة في عائلة واحدة أو في عدة عوائل، ويستحب طبخ الطعام لهم حتى لا يجدوا عناء في طبخه، ويجوز إعطاء الفقير الواحد حظه من كفارتين، لكن لا يجوز إعطاء طعام العشرة لشخص واحد أو لخمسة أشخاص، الكفارة الواحدة يجب أن تصرف لعشرة مختلفين، لكن لو كان عندك ثلاث كفارات فيجوز أن تعطي فقيراً واحداً ثلاثة أنصبة: الأولى عن الكفارة الأولى، والطعام الثاني عن الكفارة الثانية، والطعام الثالث عن الكفارة الثالثة لشخص واحد، أما لو كانت كفارة واحدة فيجب أن تبحث عن عشرة مختلفين لتعطيهم، ولا يجوز أن تعطي الواحد أكثر من نصيبه من الكفارة الواحدة.
وكذلك فإنه لا يجوز إعطاؤهم نقداً وإنما يجب إطعامهم طعاماً؛ لأن الله نص عليه فقال في القرآن: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] ولم يقل: التصدق على عشرة مساكين، وإنما قال: فإطعام فلا بد من الالتزام بالنص والوقوف عنده وإعطائهم طعاماً، وقد يكون رب الأسرة بخيلاً، فيأخذ المال إليه ويحرم عياله من الأكل، أما عندما يكون الطعام مطبوخاً فماذا سيفعل به؟ لا بد أن يطعمهم إياه، ثم إن الله جعل للنقد مصارف أخرى على الفقراء وهي الزكاة، فلا حاجة لجعل كفارة اليمين نقداً وقد جعل الله أبواباً أخرى فيها النقد وهي زكاة الأموال.
وكذلك -أيها الإخوة- لا يجوز الانتقال من الإطعام إلى الصيام إلا بعد العجز عن الإطعام، فبعض الناس يقول: أنا أريد أن أوفر على نفسي، لماذا أخرج طعاماً لعشرة أشخاص بمائة ريال كل واحد أشتري له طعاماً بعشرة ريالات مثلاً وتكلفني مائة ريال؟ سوف أصوم ثلاثة أيام أرخص لي! هذا لا يجوز، لأن الله قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] فعلَّق الصيام على عدم الوجود، سواء عدم وجود الفقير، أو عدم وجود المال الذي تشتري به الطعام، أو عدم وجود الطعام لديك، فكثير من الناس يصومون ثلاثة أيام وهو يستطيع أن يطعم، هذا غير جائز ومحرم ولا تقبل كفارته، ولا بد أن يعيدها، فإن عجز فعند ذلك ينتقل إلى الصيام.
انظروا -أيها الإخوة- هذه الآلاف الأيمان التي تنطلق من الناس يومياً ليست سهلة، وإنما فيها أحكام كثيرة، وفيها كفارة، تصور اليوم كم من المسلمين يهملون في هذه القضية العظيمة! وكم من الآثام تتراكم فوق ظهورهم وهم يحلفون بالله مستهينين به عز وجل ليلاً ونهاراً، في الأمور الحقيرة وغيرها! وفقنا الله وإياكم لهدي كتابه والالتزام بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والوقوف عند حدوده عز وجل، وتعظيمه حق العظمة، التي هو لها أهل سبحانه وتعالى.
واعذروني في إطالتي أيها الإخوة، ولكن انتشار الموضوع عند الناس اليوم وخطورته تستوجب ما قلنا وأكثر من هذا، نسأل الله المغفرة في التقصير.
وصلى الله على نبينا محمد.(290/12)
تربية الزوجة
إن القيام بتربية الأهل وتعليمهم من أوجب الواجبات على المسلم، فالأهل أمانة عظيمة ومسئولية يجب القيام بها وعدم التفريط فيها، والزوجة تعتبر من الأهل الذين يجب تربيتهم وتعليمهم، وقد تحدث الشيخ عن تربية الزوجة، ذاكراً هديه صلى الله عليه وسلم في تربية نسائه وتعليمهن أمور دينهن، ثم تكلم عن الغيرة وعلاج النبي صلى الله عليه وسلم لها.(291/1)
أمانة القيامة برعاية الأهل وتربيتهم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] ما هو وقود النار وبأي شيء تسعر؟ ما هو حطبها وبأي شيء توقد؟ إنها توقد بالناس والحجارة، إن الناس الذين يشتعلون هم وقود جهنم وحطبها.
وقد أمرنا الله تعالى في هذه الآية برعاية الأهل والقيام عليهم، وأن القيام عليهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر هو وقاية لهم من عذاب الله، وأهلك -يا عبد الله- مسئولية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) فأهل بيتك إذاً مسئولية ستسأل عنها يوم القيامة وتحاسب، وأهل بيتك هم أمانة في عنقك، أمانة من الأمانات التي حملنا الله إياها وناءت عن حملها السماوات والأرض والجبال وأبين أن يحملنها وأشفقن من حملها، لكننا حملناها نحن، ويجب علينا أن نقوم بأداء الأمانة.(291/2)
هديه صلى الله عليه وسلم في تعليم نسائه وتربيتهن
وفي هذه الخطبة نتحدث عن موضوع مهم يتعلق بهذا، وهو تربية الزوجة؛ نظراً للتفريط فيه، وكثرة الإهمال، حتى شاعت الفواحش في الزوجات، وانتشرت المنكرات في حياتهن، بسبب تفريط الرجال، وعم الجهل أوساط كثير من الزوجات؛ لتقصير الأزواج في تعليمهن، وسيسألون عنهن يوم القيامة.
ما هو هديه صلى الله عليه وسلم في تربية زوجته؟ وماذا كان يفعل مع زوجاته؟ وكيف كان يقوم بأمر تعليمهن وتأديبهن وأمرهن بالمعروف ونهيهن عن المنكر بل حتى ملاطفتهن صلى الله عليه وسلم؟(291/3)
تعليمه صلى الله عليه وسلم لنسائه أمور العقيدة
لقد كان عليه الصلاة والسلام يعلم زوجاته أمور العقيدة، ويخبرهن بتوحيد الله وعظمته سبحانه وتعالى كان شرح الأسماء والصفات يأتي في خلال الأحاديث التي يعظ بها النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته، وكان عليه الصلاة والسلام يقول فيما يقول لـ عائشة: (من حوسب يوم القيامة عذب، قالت عائشة: أوليس يقول الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:8] كيف تقول -يا رسول الله- من حوسب يوم القيامة عذب والله يقول عن صاحب اليمين الذي يؤتى كتابه بيمينه {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:8]؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم -موضحاً ومعلماً وشارحاً لهذا الأمر من أمور العقيدة لزوجته عائشة وواعظاً لها أيضاً-: ليس ذلك بالحساب، إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب يهلك).
إذاً: الحساب اليسير ليس هو الحساب الذي إذا نوقشه العبد فإنه يعذب، ولكن من نوقش الحساب ومن حوسب عذب، وإنما يتجاوز الله عن المقربين وأهل اليمين فينجيهم بفضل منه وكرم، وحسابهم يسير لا يسمى حساباً، أي الذي يؤدي إلى العذاب.(291/4)
تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لزوجته الأذكار والاستعاذة من الشرور
والنبي صلى الله عليه وسلم كذلك يعلم زوجته أذكار الصباح والمساء، وكيف تستعيذ بالله من الشرور، لما رأى القمر قد طلع قال: (يا عائشة! استعيذي بالله من شر هذا؛ فإن هذا هو الغاسق إذا وقب) لقد فسر لها تلك الآية من سورة الفلق: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:2 - 3] وقد فسرها تفسيراً عملياً، ووضح لها المراد لما أشار إلى هذا القمر، وهو آية الليل لما ظهر في السماء، وأخبرها وأمرها أن تستعيذ بالله من شره؛ فإن الشرور تحدث في الليل وفي النهار، فهي تستعيذ بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب، ومن شر ما يحدث في الليل من الفتن، والإثم والفواحش، والشرور والآفات بأنواعها، حتى لدغ الحية والعقرب.(291/5)
تربيته صلى الله عليه وسلم لنسائه على الخوف من الله
وكان صلى الله عليه وسلم إذا ظهر سحاب في السماء أو ظهرت ريح أقبل وأدبر ودخل وخرج منزعجاً مما يرى، فكانت عائشة تقول: (الناس يستبشرون إذا رأوا السحاب، وأنت أراك تفعل ما تفعل!!) فبماذا أجابها النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقد انتهز هذا السؤال ليخوفها بالله، ويبين لها كيف يكون المؤمن في عدم أمنه من مكر الله قال: (يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا) أرسل الله عليهم سحاباً وعليه ضلة، فظنوه مطراً ففرحوا واستبشروا، ولكن كانت ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها وهكذا يكون تخويف الزوجة بالله، وتوضيح عذاب الله، وأن المسلم لا يأمن مكر الله سبحانه وتعالى.(291/6)
تربيته صلى الله عليه وسلم لزوجته على عدم جواز القول على الله بغير علم
وكذلك قد تستعجل الزوجة في الإجابة عن شيء أو تتسرع في الحكم على شيء، وهنا يعلم الزوج زوجته مفهوماً مهماً من المفهومات الإسلامية، وقاعدة عظيمة، وهي: عدم جواز القول على الله بغير علم، وعدم جواز الحكم على الأشياء بغير دليل شرعي، وعدم جواز التسرع في الإجابة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي ميت من صبيان الأنصار، فصلى عليه صلاة الجنازة، قالت عائشة: فقلت: طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل سوءاً ولم يدركه) حكمت بأنه عصفور من عصافير الجنة، فإما أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن قد أوحي إليه بشيء في أطفال المؤمنين، أو أنه أراد أن يؤدبها على تسرعها وأن يلفت نظرها لذلك، فقال لها: (أو غير ذلك يا عائشة! خلق الله عز وجل الجنة وخلق لها أهلاً، وخلقهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً وخلقهم في أصلاب آبائهم) رواه الإمام مسلم وغيره.
فهذا من الأمور المهمة في المنهج العلمي الذي يقوم الرجل بتعليمه لزوجته.(291/7)
تربيته صلى الله عليه وسلم لنسائه على حفظ اللسان
ونظراً لكثرة آفات اللسان عند النساء؛ فإن على الزوج المسلم أن يراعي ذلك في زوجته، فإن الله تعالى قد ذكرهن داخلات في القوم وذكرهن منفصلات عنهم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} [الحجرات:11] فهؤلاء النساء داخلات في القوم، لكن مع ذلك كرر التنبيه سبحانه وتعالى، وخصصهن بالنهي أيضاً، ولذلك ترى -يا عبد الله- الغيبة والنميمة في أوساط النساء كثيرة، فماذا فعلت أنت في موعظة ومقاومة هذه الأخلاق الرديئة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليرضى من زوجاته شيئاً ولو كان قليلاً يسيراً فقد جاء في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، التي نقلت بأمانة حتى ما كان عليها، وما كان من أخطائها نقلته لتتعلم الأمة، عن عائشة قالت: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا) دافع الغيرة عند النساء قوي، ربما انزلقت في شيء من الغيبة، قالت: يكفيك من زوجتك هذه صفية أنها قصيرة، كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) لمزجته وطغت عليه من شدتها وعظمها قالت رضي الله عنها: (وحكيت له إنساناً -مثلت له حركة أو قولاً- فقال: ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا) فلا يجوز أن تمثل فعلاً لشخص، أو تحكي قولاً له على سبيل الاستهزاء والتنقص، مهما أوتيت لا تفعل ذلك، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم ينكر ذلك على زوجته ويوقفها لما قالت تلك الكلمة.
وروى النسائي -رحمه الله تعالى- بإسناد صحيح في كتاب عشرة النساء، عن أنس قال: بلغ صفية أن حفصة قالت: ابنة يهودي - صفية بنت حيي بن أخطب بنت زعيم اليهود قتل زوجها، قتله المسلمون في المعارك التي دارت والحصارات بين المسلمين واليهود، فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم صفية تأليفاً لها ولقومها، ورعاية لها لما صارت عنده مسلمة من أمهات المؤمنين، فهي أمنا وإن كانت من أصل اليهود؛ لأنها أسلمت والمسلمون إخوة والمؤمنون إخوة، لا يضر ما يكون من أصلهم، قالت حفصة عن صفية: بنت يهودي.
فبكت صفية لما سمعت ذلك تأثراً، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ قالت: قالت لي حفصة: ابنة يهودي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لابنة نبي، وإن عمك نبي، وإنك لتحت نبي) إنك من سلالة موسى وهارون، فجدك موسى نبي، وأخوه هارون عمك نبي، وإنك لتحت نبي، فهذا شرف فبم تسخر عليك؟ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقي الله يا حفصة -ذهب إلى حفصة توجه إليها بالكلام مذكراً بالله- كيف تقولين هذا؟!) هكذا يكون الموقف ممن زل لسانها في حق أختها، ولو كان الدافع قوياً، ولو كانت الغيرة عند النساء، لكن المنكر يبقى منكراً وينبغي إنكاره رضي الله عن أمهاتنا، فهن أمهاتنا كلهن رضي الله عنهن.(291/8)
إنكاره صلى الله عليه وسلم لما يراه من المنكرات عند نسائه
ومما ينبغي على الزوج المسلم في تربية زوجته: مقاومة ما يحصل لديها من المنكرات، مما تتخذه من اللباس أو الزينة ونحو ذلك، فقد روى البخاري رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير -مثل الستارة- فلما رآى رسول الله صلى الله عليه وسلم الستارة وفيها تصاوير ذوات الأرواح منقوشة عليها، وهذه ليست أصناماً، وإنما هي صور ذوات أرواح منقوشة ومرسومة على الستارة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل، لقد كان وعظه قوياً، لم يدخل البيت، قام على الباب ولم يدخل، هكذا التربية بالفعل والقول معاً قالت عائشة: (فعرفت في وجهه الكراهية، فقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبت؟ قال: ما بال هذه النمرقة؟ فقالت: اشتريتها لتقعد عليها وتتوسدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وقال: إن البيت الذي فيه صور لا تدخله الملائكة) فبالفعل والقول يكون الإنكار على الزوجة، وليس دائماً بالضرب كما يفعل بعض الناس، ولا بتقبيح الوجه، ولا بالفحش، وإنما بالموعظة.
أيها المسلمون: قارنوا -بالله عليكم- بين هذه التصرفات النبوية، وبين ما يفعله الناس اليوم، عندما يذهبون بزوجاتهم إلى السوق فيتركون الزوجات في السوق ويعطونهن الأموال، بناءً على طلبهن أو غير ذلك، ثم تشتري المرأة ما تشتري من غير رقيب ولا حسيب، من الأمور التي فيها منكرات ومحرمات أو غير ذلك، من هذه الألبسة التي فيها تصاوير، أو صلبان، أو الآنية المطلية بالذهب والفضة، أو التماثيل التي توضع في البيوت من ذوات الأرواح للزينة، أو غير ذلك من الأمور المحرمة، التي قد تزين بها المرأة بيتها، والزوج ساكت، بل إنه لا ينتبه فضلاً عن أن يدقق، وليس هناك متابعة ولا محاسبة.
والآن القضية ليست قضية تصاوير منقوشة أو مرسومة فقط، المسألة تعدت إلى أمور محرمة تدخل البيوت، أمور فيها إهدار للعرض الذي صانه الله، والشرف والكرامة التي جاءت بهما الشريعة أمور فيها إفساد للأولاد والبيت عموماً أشياء من اللهو المحرم الذي يبعث عليه الشيطان الرجيم، كل ذلك يدخل بيتك -يا عبد الله- عن طريق الزوجة أو غيرها، وأنت لا تحرك ساكناً، ولا تمنع منكراً، فما هذه العيشة؟! أي حياة هذه؟! وعلى أي شيء تقوم؟ {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة:109].(291/9)
تربيته صلى الله عليه وسلم لنسائه على العبادة
كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي زوجاته على العبادة، وعلى قيام الليل، كان يوقظهن صلى الله عليه وسلم (أيقظوا صواحب الحجرات، أيقظوهن، رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة) هكذا كان ينذر عليه الصلاة والسلام وكان يخوف، كان بيته شعلة من النشاط الدائم في طاعة الله ذكر بالنهار، وقيامٌ بالليل {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] وكانت المتابعة على العبادة، سواء كانت بدنية أو كانت مالية، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا عائشة! لا تحصي فيحصي الله عليك) لا تبخلي بالصدقة، لا تمنعي الصدقة، لا تقتري فيها، أطلقي يدك في الصدقة، ما بقي إلا كتفها، ما بقي إلا هذا، أما الباقي فإنه ذاهب، لكن عند الله الذي تصدقت به هو الذي يبقى ما بقي منها إلا الكتف، كان يقول لها: (لا تحصي فيحصي الله عليك ولا توكي فيوكي الله عليك) فإذاً: كانت المتابعة حتى في قضايا المستحبات، وليس فقط قضية الواجبات أو النهي عن المحرمات.(291/10)
مراعاته صلى الله عليه وسلم فلتات اللسان حتى على الأعداء
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يراعي فلتات اللسان -كما قلنا- وأمور اللسان، حتى قضايا الفحش في الأعداء كان يراعي ذلك، كما جاء في الحديث المعروف عن عائشة قالت: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم ناس من اليهود، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم! -السام أي: الموت- فقال: وعليكم، ولم يزد، قالت عائشة: فقلت: وعليكم السام واللعنة وغضب الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! لا تكوني فاحشة.
قالت: فقلت: يا رسول الله! أما سمعت ما قالوا؟ لقد قالوا: السام عليك.
قال: أليس قد رددت عليهم الذي قالوا؟ قلت: وعليكم، إن الله عز وجل لا يحب الفحش ولا التفحش).
حتى في الأعداء لا يكون الإنسان فاحشاً ولا متفحشاً إلا فيما دعت إليه المصلحة الشرعية الواضحة، كما حصل في بعض المواقف، أما أن يطلق الإنسان لسانه بكل شيء حتى في العدو، فهذا أمر ينبغي أن ينتبه له حتى لا يتعود اللسان على هذا.
تقول عائشة: (استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده، فقال: بئس أخو العشيرة -أي: هذا الرجل فيه شر، فذمه النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يرى وجهه ويدخله عليه- تقول: ثم أذن له فألان له القول، فلما خرج قلت: يا رسول الله! قلت له ما قلت ثم ألنت له؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إن من شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه) إذاً: انتبهي يا أيتها الزوجة، لا تكوني فاحشة فتكوني مذمومة، أو تكوني مكروهة مبغوضة من خلق الله منبوذة، وإنما هو طيب اللسان وحسن المعشر.
اللهم اجعلنا من القائمين بحقوق أهليهم، واجعلنا ممن ينقذون أهليهم من نار وقودها الناس والحجارة، اللهم كف عنا نار جهنم، وباعد بيننا وبينها كما باعدت بين المشرق والمغرب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(291/11)
عاقبة إهمال تربية الأهل
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى آله وأزواجه الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعه بإحسان وسار على سنته إلى يوم الدين.
أيها المسلمون: إن هذا التقصير الذي يوجد من قبلنا في حقوق أهلينا أمر مؤسف، يعود ضرره ووباله علينا نحن، فكم من إنسان أردته زوجته المهالك! وكم من إنسان قد جره أهله إلى الفتن والمحرمات! يقولون له في كل إجازة: إلى أين ستأخذنا؟ وأين ستذهب بنا هذه السنة؟ وقد لا يرضون إلا بالذهاب إلى بلاد الكفر وأماكن المعصية، والرجل ينجر إلى المهلكة ويكون عبداً لزوجته، فتعس ذلك العبد.
لا نقول -يا عبد الله- كن قاسياً فظاً غليظاً، ولا نقول: اضرب واكسر العظم وأخرج الدماء، كلا والله! لكن هذه سنة نبيك، وهذه معالم الهدى ظاهرة بينة، فعليك الاتباع، والأخذ بهذه السنن، والقيام على الأهل، والاحتساب عليهم في المنكرات، وأمرهم بالمعروف والعبادة والتقوى والطاعة، والحج والعمرة والصدقة، ومتابعة المرأة في صلاة الفجر وغير ذلك من الواجبات الشرعية.(291/12)
الغيرة وعلاج النبي صلى الله عليه وسلم لها
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني في ظل ما يعتني به علاج الغيرة، والغيرة أمر طبعي عند النساء، والغيرة هي: الحمية والأنفة، أمر معلوم ومشاهد، ومعروف ومنتشر، فإن من طبيعة النساء الغيرة صحيح أن التي تغار أو عندها هذه الغيرة الشديدة يحتمل منها ما لا يحتمل من غيرها من النساء اللاتي ليس عندهن هذه الغيرة، لكن لا بد من موقف، وقد كانت تربيته صلى الله عليه وسلم لزوجاته في قضية الغيرة تربية عظيمة، تدل على حكمته صلى الله عليه وسلم، وعلاجه للأمور بالرفق والتأني.
هذه المرأة التي خلقت من ضلع أعوج، إن جئت تقيمه كسرته وكسرها طلاقها، فعن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند إحدى أمهات المؤمنين، فأرسلت إليه أخرى بقصعة فيها طعام، قيل إنها صفية وكان طبخها جيد للغاية، فأرسلت بصحفة من طعام إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان عند عائشة، فضربت عائشة يد الرسول الذي أتى بها وهي الجارية التي أتت بالصحن، ضربت يدها فسقطت القصعة فانكسرت من غيرتها، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين بغاية الهدوء فضم إحداهما إلى الأخرى، فجعل يجمع فيها الطعام الذي انسكب على الأرض، أو ألقي على الأرض، جمعه في الصحفة، بعد أن لم الكسرتين بعضهما إلى بعض، ويقول عليه الصلاة والسلام لمن معه: (غارت أمكم، كلوا).
هذا تعليقه صلى الله عليه وسلم، أمكم أم المؤمنين غارت فكلوا، فأمرها حتى جاءت بقصعتها مكان التي كسرت، فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول -الجارية الصغيرة التي جاءت- وترك المكسورة في بيت التي كسرتها، غاية العدل والهدوء والاتزان منه صلى الله عليه وسلم في علاج هذا الأمر.
وفي رواية عن أم سلمة أنها أتت بطعام في صحفة لها إلى النبي صلى عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة مؤتزرة بكساءٍ ومعها فهر -وهو حجر ملء الكف- ففلقت به الصحفة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة وهو يقول: (كلوا غارت أمكم) مرتين.
وعن عائشة في رواية قالت: ما رأيت صانعة طعام مثل صفية، أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إناءً فيه طعام، فما ملكت نفسي أن كسرته، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن كفارته -ندمت ورجعت- فقال: (إناء كإناء وطعام كطعام) أن تردي لها إناءً كإنائها وطعاماً كطعامها، كالطعام الذي أفسدتيه.(291/13)
معرفته صلى الله عليه وسلم بأحوال نسائه
ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان يراعي زوجاته، وكان يدقق في الملاحظة والعبارة والكلمات، كان يراعي مشاعر الزوجة ويعرف هل الزوجة راضية عليه أم ساخطة، هل هي متضايقة أو مسرورة، لم يكن عليه الصلاة والسلام من نوع الرجال الذي لا يبالي بزوجته، أرضيت أم سخطت، أفرحت أم أنها اغتمت، كلا! بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يتابع كل هذا فيقول لـ عائشة رضي الله عنها: (إني أعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى.
قلت: بم تعلم يا رسول الله؟! قال: إذا كنت علي غضبى فحلفت قلت: كلا ورب إبراهيم، وإذا كنت عني راضية قلت: كلا ورب محمد) والقسم في الحالين بالله سبحانه وتعالى، لكن إذا كان بينها وبينه شيء فإذا أرادت أن تحلف بأي مناسبة قالت: لا ورب إبراهيم، وإذا كانت راضية ومسرورة قالت: لا ورب محمد قالت: (صدقت يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك) وهي باقية على محبتها له، لكنها لا تهجر إلا اسمه، لا تهجره هو صلى الله عليه وسلم، وهذا أيضاً من لطيف عبارتها، وتدليل المرأة نفسها عند زوجها.(291/14)
مواقفه صلى الله عليه وسلم في مراعاة أحوال نسائه
وكان النبي عليه الصلاة والسلام له مواقف طريفة مع زوجاته في هذه المراعاة أيضاً، كما حدَّث النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع صوت عائشة عالياً وهي تقول: والله لقد علمت أن علياً أحب إليك من أبي، فأهوى إليها أبو بكر أبوها ليلطمها وقال: يا ابنة فلانة! أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأمسكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج أبو بكر مغضباً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! كيف رأيت؟ أنقذت من الرجل) أمسك بأبيها قبل أن يضربها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة كيف رأيت؟ أنقذت من الرجل) ثم استأذن أبو بكر بعد ذلك وقد اصطلح رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة، فقال: (أدخلاني في السلم كما أدخلتماني في الحرب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد فعلنا) هكذا روي الحديث في كتاب عشرة النساء للنسائي رحمه الله.(291/15)
إباحته صلى الله عليه وسلم للهو البريء والمتعة المباحة
وقد كان من مراعاته لزوجته عليه الصلاة والسلام: إباحة اللهو البريء والمتعة المباحة للزوجة ولذلك يقول في الحديث: (كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو ولعب إلا أربعة: ملاعبة الرجل امرأته) فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاعبهن، وكان يسرب إلى عائشة جواري صغيرات السن في مثل سنها، فقد تزوجها وهي صغيرة، فيلعبن معها باللعب، وكان عليه الصلاة والسلام يتحاشا تنفير هؤلاء الضيوف من عند زوجته، وسابق زوجته صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة: (خرج معي مرة وكنت خفيفة اللحم في أول عمري فنزلنا منزلاً، فقال لأصحابه: تقدموا، ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك.
فسابقني فسبقته، ثم خرجت معه في سفر آخر بعد مدة وقد حملت اللحم، فنزلنا منزلاً، فقال لأصحابه: تقدموا ثم قال لي: تعالي أسابقك.
فسابقني فسبقني، فضرب بيده كتفي وقال: هذه بتلك).
هكذا كانت ملاطفته عليه الصلاة والسلام لزوجته، وهي جزء من تربيته عليه الصلاة والسلام، كان يراعي كل ذلك، وهذا باب طويل له شواهد كثيرة ومتعددة في كتب السنة تدل على عنايتة صلى الله عليه وسلم بأهله.
فنسأل الله أن يوفقنا أجمعين للقيام بحق أهالينا وإحسان تربيتهم، اللهم قنا وأهلينا ناراً وقودها الناس والحجارة، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل بيوت الطهر والعفاف، وأن تطهر بيوتنا من المنكرات والسيئات، اللهم اجعلنا ممن يقيم حدودك في بيوتهم، اللهم اجعلنا ممن أقاموا شريعتك في مساكنهم، اللهم طهر بيوتنا ومجتمعاتنا من النفاق والرياء والكذب والفحش يا رب العالمين، واجعلنا من عبادك الأخيار، اللهم ارحمنا برحمتك إنك أنت أرحم الرحمين، واغفر لنا يا غفار إنك أنت الغفور الرحيم.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، وارفع عنهم الظلم والاعتداء يا رب العالمين.
اللهم انشر السنة والتوحيد في أرجاء الأرض إنك أنت أكرم الأكرمين، وأقر أعيننا بنصرة دينك يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(291/16)
جوانب القدوة في شخصية الإمام أحمد
دراسة سير العلماء والأئمة مدعاة إلى الاطمئنان، لأن الله سبحانه يقيض لهذا الدين من ينصره، وهي كذلك مهمة نظراً لحاجة النشء والشباب إلى القدوة، التي لا توجد إلا عند أولئك العمالقة، أمثال الإمام أحمد بن حنبل، الذي تميز بصموده وبذل جهده، وصبره وزهده، ونصرته للحق.
وهذه المادة محاولة جادة لاستكشاف جوانب القدوة في شخصية هذا الإمام وحياته، في طلبه للعلم ومواجهة الباطل والطغيان، وفي تعامله مع أصناف الناس، وأصناف المغريات والفتن، كما أوردت هذه المادة نبذة عن نسبه وحياته ونشأته ووفاته.(292/1)
نسب الإمام وعناية العلماء بتدوين حياته
الحمد لله الذي جمعنا وإياكم في هذا المكان؛ في بيت من بيوته عز وجل، نسأله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوما، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوما، وألا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروما، وأن يجعل خروجنا من هذا المجلس بفوائد جمة، وأشياء تذكرنا بالله عز وجل واليوم الآخر.
أيها الإخوة: موضوعنا في هذه الليلة يدور حول جوانب من حياة الإمام أحمد رحمه الله عز وجل، الذي كانت حياته بما فيها من أحداث وتفاصيل تصلح أن يجعلها المسلم قدوة يقتدي بها في كثير من جوانبها، ولعلنا نستعرض وإياكم في هذه الليلة بعض الجوانب التي يسمح الوقت بها، والتي سيلمح الأخ المستمع فيها فعلاً أشياء عظيمة من حياة هذا الإمام.
وهذا الإمام أيها الإخوة صحيح أن شهرته قد طبقت الآفاق، وأن الكثيرين من الناس يعرفون شخصيته، ولكن كثيراً من الناس لا يعرفون تفاصيل حياته، ولا يعرفون أحداثاً كثيرة جداً من حياة الإمام أحمد لو عرفها الإنسان فعلاً لدهش، يعني: بعض الناس الشهرة العامة موجودة لكن التفاصيل غير موجودة، لعل الإمام أحمد واحد من هؤلاء الناس.
وقد اعتنى علماء الإسلام بحياة الإمام أحمد عناية كبيرة، وألفت في حياته مجلدات، فمنها ما كتبه ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية، ومنها ما كتبه الذهبي رحمه الله في كتابه السير، وفي كتابه تأريخ الإسلام، ومنها ما كتبه ابن الجوزي في مجلد مستقل عن حياة الإمام أحمد رحمه الله، وغيرهم من أهل العلم، دلالة على عظمة مكانة هذا الرجل في قلوب العلماء فضلاً عن قلوب عامة الناس.
وقال الذهبي رحمه الله في السير: هو الإمام حقاً وشيخ الإسلام صدقاً أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن إدريس الشيباني، يرجع نسبه إلى بكر بن وائل قبيلة معروفة من العرب، وقد مات أبوه في سن الشباب، وربي الإمام أحمد يتيماً، وقد ولد الإمام رحمه الله تعالى في ربيع الأول سنة (164هـ) وقد ضبطت سنة وفاة الإمام أحمد وسنة ولادته ولم يختلف فيهما أحد.
والإمام أحمد رحمه الله من رجال السنة، وينبغي أن ننبه قبل أن نبدأ إلى كلمة الإمام.
كلمة الإمام كلمة عظيمة وكبيرة، ولذلك لا يصلح أن تطلق على أي واحد من الناس، ولو ارتفع كعبه في العلم أو الدعوة إلا إذا وصل إلى مرحلة عظيمة أصبح فيها فعلاً يأتم به العالم من المسلمين، يأتمون به عن صدق وحق؛ لأنه يصلح أن يكون أهلاً للإمامة، ولذلك ما أطلق هذا اللقب على كثيرين من السلف إلا على أنفار معدودين مثل الإمام أحمد رحمه الله، فهذا اللقب لا يُعطى جزافاً، ولا يصلح أن يطلق جزافاً على أي شخصية من الشخصيات النابغة المشهورة.
وقد رحل الإمام أحمد رحمه الله إلى البصرة والكوفة وحج خمس مرات، وكان شيخاً مخضوباً طوالاً أسمر، حسن الوجه معتماً، عامة جلوسه متربعاً خاشعاً.(292/2)
صور من ثناء العلماء على الإمام
يقول إبراهيم الحربي رحمه الله: يقول الناس أحمد بن حنبل بالتوهم، والله ما أجد لأحد من التابعين عليه مزية، ولا أعرف أحداً يقدر قدره، ولقد صحبته عشرين سنة صيفاً وشتاءً، وحراً وبرداً، وليلاً ونهاراً، فما لقيته لقاة في يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس.
هذا شيء عظيم، وهذه فعلاً قدوة عظيمة أن الإمام أحمد رحمه الله كان يزيد يومياً على ما هو عليه، والواحد منا الآن قد يزيد في يوم وينقص في أيام، وقد يرتفع في أيام ويتدهور حاله في أيام أخرى، ولكن أن تجد الرجل يزيد يوماً بعد يوم معنى هذا أن الرجل يربي نفسه تربية عظيمة، ولذلك ينبغي أن يضع الواحد منا نفسه تحت المجهر، وأن يضع لنفسه خطة معينة بحيث أنه يرتقي يومياً إذا استطاع وقد لا يستطيع، لكن يحاول أن يكون خط سيره إلى الأعلى، وليس أن يتدهور ويتقلب ويتذبذب كما هو واقع الكثيرين، وهذا شيء فعلاً قدوة أن الإمام أحمد يومياً يزيد عن الأيام السابقة.
وقال علي بن المديني رحمه الله: إن الله عز وجل أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث: ب أبي بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة، وقد كان ل أبي بكر الصديق أصحاب وأعوان، وأحمد ليس له أعوان ولا أصحاب.
لما وقعت المحنة ما وقف إلى النهاية إلا الإمام أحمد رحمه الله فقط، هناك من وقفوا وقتلوا، ومن وقفوا ثم انتكسوا، وهناك من تخاذلوا أصلاً عن الوقوف، وهناك من تراجعوا وغيروا عقيدتهم، والذي ثبت إلى النهاية هو الإمام أحمد فقط في محنة خلق القرآن، قال الشاعر:
أضحى ابن حنبل محنة مرضية وبحب أحمد يعرف المتنسك
وإذا رأيت ل أحمد متنقصاً فاعلم بأن ستوره ستهتك
وعن الحسين الكرابيسي قال: مثل الذين يذكرون أحمد بن حنبل -يعني بسوء- مثل قوم يجيئون إلى أبي قبيس -وهو جبل في مكة - يريدون أن يهدموه بنعالهم.
وكان أحمد رحمه الله عظيم الشأن، رأساً في الحديث وفي الفقه وفي التألف، أثنى عليه خلق من خصومه فما الظن بإخوانه وأقرانه، وكان مهيباً في ذات الله حتى قال أبو عبيد: ما هبت أحداً في مسألة ما هبت أحمد بن حنبل.
حتى إذا جاء يسأله يهاب، يخاف، ألقى الله عليه هيبة الإسلام.
وعن علي بن شعيب قال: لولا أن أحمد قام بهذا الشأن لكان عاراً علينا أن قوماً سبكوا فلم يخرج منهم أحد.
يعني: حتى موقف الإمام أحمد رحمه الله رفع رأس العلماء كلهم، الحمد لله أنه خرج منا واحد.
وقال أبو عبيد عن الإمام أحمد: ذاك رجل من عمال الله، نشر الله رداء عمله، وذخر له عنده الزلفى، أما تراه محبوباً مألوفاً، ما رأت عيني بـ العراق رجلاً اجتمعت فيه خصال هي فيه، فبارك الله له فيما أعطاه من الحلم والعلم والفهم.
وقال آخر: قام أحمد مقام الأنبياء، وأحمد امتحن بالسراء والضراء، وتداولته أربعة خلفاء، بعضهم بالضراء وبعضهم بالسراء، كلهم بلاء على الإمام أحمد، ولكن طبعاً المأمون والمعتصم والواثق هم الذين عاملوه بالضراء، أما المتوكل الذي رفع الله به علم أهل السنة ورجع إلى عقيدة أهل السنة، فقد ابتلي الإمام أحمد في عهده بالسراء؛ لما أنعم عليه المتوكل به من الأموال الجزيلة التي رفضها كلها ولم يأخذ منها شيئاً.
وقال بعض السلف: أحمد بن حنبل قرة عين الإسلام.
وسئل أحد العلماء عن الإمام أحمد فقال: أنا أسأل عن أحمد بن حنبل!! إن أحمد أدخل الكير فخرج ذهباً أحمر.
وقال إسحاق بن راهويه: ما رأى الشافعي مثل أحمد، ولولا أحمد وبذل نفسه لذهب الإسلام.
يريد المحنة.
وقال الشافعي: خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل.
هذه شهادة الشافعي.
وعن المروذي قال: لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أحمد؛ كان مائلاً إليهم، مقصراً عن أهل الدنيا، وكان فيه حلم ولم يكن بالعجول، وكان كثير التواضع تعلوه السكينة والوقار، وإذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يُسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر، وكان كثير التواضع حسن الخلق، دائم البشر لين الجانب ليس بفظ، وإذا كان في أمر من الدين وتعرض للدين بحضرة الإمام أحمد كان يغضب في ذات الله عز وجل غضباً شديداً، وكان يحتمل أذى الجيران، وكان يجيب الدعوة في الأعراس والختان ويأكل، وربما استعفى من إجابة الدعوة، وكان إذا رأى إناءً من فضة أو منكراً في الوليمة خرج.
ومرة من المرات واحد من الناس كان عنده وليمة ختان، فدعى أهل العلم فدعى منهم الإمام أحمد، فجاء الإمام أحمد متأخراً مع صاحبٍ له والناس قد اجتمعوا للطعام، ولما يأكلوا بعد، فقيل للإمام أحمد: إن في البيت آنية من فضة، فنظر إليها، فلما رآها خرج من المنزل، فخرج الضيوف كلهم وراءه، ما بقي في البيت أحد، قال الراوي: ونزل بصاحب البيت أمر عظيم، وأرسل وراء الإمام أحمد يحلف له أنه لم يقصد، وأنه لم يكن يعلم، فلم يرد عليه الإمام أحمد بشيء، يعني: كان الإمام أحمد من القدوة بحيث يتابعه عامة الناس، ولذلك سنعلم عند وفاته ماذا حصل، وفاة الإمام أحمد تبين فعلاً مكانته بين الناس.
وقال إسحاق بن إبراهيم: ما رأيت أحداً لم يداخل السلطان ولا خالط الملوك مثل أحمد بن حنبل، ما كان أحد أثبت قلباً منه وما نحن في عينه إلا كأمثال الذباب.
وكانت وفاة الإمام أحمد في (12) ربيع الأول، في يوم الجمعة، (سنة:254هـ) فرحمه الله عز وجل.
وبالنسبة لجوانب تهم طالب العلم والداعية إلى الله والمسلم عموماً في حياة الإمام أحمد فنحن نعرض لبعضها الآن.(292/3)
طلب العلم في حياة الإمام
أما بالنسبة لطلب العلم الذي يدعيه الكثيرون اليوم، ويذهبون إلى المكتبات ومعارض الكتب ويشترون كتباً بالأكوام، ثم يكدسونها في بيوتهم، ويضعونها في رفوف مكتباتهم يعلوها الغبار، أو يخزنوها في كراتين تبقى عندهم لا يفتحونها يزعمون أنهم طلبة علم، إلى هؤلاء نسوق لهم هذه الأحداث: بالمناسبة الإمام أحمد ما كان يتكلم عن نفسه بقليل ولا كثير، لذلك ما رويت لنا أخباره إلا من الناس المقربين إليه جداً مثل أولاده، وخاصة تلاميذه، وبقية الأخبار شائعة عند الناس معروفة من حال الإمام، وما وصل إلى الناس من أخباره في المحنة وعند وفاته وغير ذلك.
قال عبد الله: سمعت أبي يقول: ربما أردت البكور في الحديث -يعني أذهب مبكراً في طلب العلم- فتأخذ أمي بثوبي وتقول: حتى يؤذن المؤذن، وكنت ربما بكرت إلى مجلس أبي بكر بن عياش.
سبحان الله! كان يخرج قبل صلاة الفجر، تقول له أمه: لا، اجلس حتى يؤذن المؤذن!! ومرة نزل في بيت رجل وأمه موجودة في الدار -أم الرجل- فذهب أحمد يطلب الحديث، فجاء سارق فسرق أمتعة البيت ومن بينها أمتعة الإمام أحمد، فلما رجع إلى البيت قالت المرأة: دخل عليك السراق فسرقوا قماشك، فقال: ما فعلت الألواح؟ فقالت له: في الطاق، وما سأل عن شيء غيرها، ما سأل إلا عن الألواح التي كتب فيها العلم.
وقال أحمد: كتبت عن ابن مهدي نحو عشرة آلاف حديث.
وعن عبد الله بن أحمد قال: قال لي أبي: خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع من المصنف، فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك بالإسناد، وإن شئت بالإسناد حتى أخبرك أنا بالكلام.
يعني: أعطني الإسناد أعطيك الكلام، أو أعطني الكلام أعطيك الإسناد؛ من حفظه للأحاديث التي كان يكتبها.
وقال أبو زرعة ل عبد الله (ولد الإمام أحمد): أبوك يحفظ ألف ألف حديث -يعني: مليون حديث- فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب فعرفت أنه يحفظ هذه الأحاديث.
قد يقول قائل مستغرباً: وهل هناك مليون حديث في الدنيا فعلاً؟!! فقال الذهبي رحمه الله معلقاً: فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله، وكانوا يعدون في ذلك المكرر والأثر، وفتوى التابعي، وما فسر، ونحو ذلك -هذه داخلة في المليون- وإلا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك، المرفوعة القوية تكاد تبلغ عشرة آلاف حديث.
وعن أبي زرعة قال: حزرت كتب أحمد يوم مات فبلغت اثني عشر حملاً وعدلاً ما كان على ظهر كتاب منها حديث فلان، ولا في بطنه حدثنا فلان، كل ذلك كان يحفظه.(292/4)
المواصلة في طلب العلم
وأما بالنسبة لمواصلته في طلب العلم، فآفة بعض طلبة العلم الآن أنه ربما يشتغل في الطلب فترة من وقته، وبعد زمن يتكاسل ويقعد عن الطلب ويقول: يكفيني ما حصلت في الأيام أو السنوات الماضية، ولكن الإمام أحمد رحمه الله رآه رجلٌ ومع الإمام أحمد محبرة، فقال له: يا أبا عبد الله! أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين -يعني: أنت تحمل المحبرة، وأنت بلغت هذا المبلغ- فقال الإمام أحمد: مع المحبرة إلى المقبرة.
يعني: لا أزال أكتب وأطلب وأدون حتى أموت، فالاشتغال بالعلم إذاً ليس فترة محدودة من الزمن، وإنما هي حياة متواصلة ومستمرة.(292/5)
تضحية الإمام في طلب العلم
وقال المروذي: قلت ل أحمد: أكان أغمي عليك أو غشي عليك عند ابن عيينة؟ قال: نعم، في دهليزه زحمني الناس فأغمي عليَّ.
يعني: تكاثر الناس عند سفيان بن عيينة وأحمد منهم في الزحام وليس المقصود بالمزاحمة أن يضرب بعضهم بعضاً، المزاحمة تعني الإقبال بكثرة، بعض الناس قد يرى حول العالم زحاماً فيقول: كيف نسأله ثم يذهب، ما عنده صبر، بعض الناس يصبرون حتى يصل العالم ليسأل، الإمام أحمد رحمه الله أغمي عليه في الزحام، وهو ينتظر كيف يدخل على سفيان.
وقال أحمد الدورقي: لما قدم أحمد بن حنبل من عند عبد الرزاق -الإمام أحمد رحمه الله رحل إلى عبد الرزاق في اليمن - رأيت به شحوباً بـ مكة، وقد تبين به النصب والتعب، فكلمته -يعني كأنه قال له: أتعبت نفسك في ذهابك إلى اليمن - فقال أحمد: هين فيما استفدناه من عبد الرزاق.
أي: هذا شيء يهون في سبيل الفائدة التي حصلناها من عبد الرزاق.(292/6)
شمول علم الإمام
قال أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله: ومن عجيب ما تسمعه من هؤلاء الأحداث الجهال أنهم يقولون: أحمد ليس بفقيه لكنه محدث -هذه فرية اتهمه بعض الناس بها، قالوا: هذا أحمد يجمع أحاديث، وليس بفقيه- فيقول أبو الوفاء: وهذا غاية الجهل؛ لأنه قد خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناءً لا يعرفه أكثرهم.
يعني: الفقه يأتي من أين؟ أليس من الأحاديث والآيات؟! فقال: عند أحمد اختيارات، وآراء فقهية بناها على أحاديث جمعها ما وصلت إلى كثير من هؤلاء.
وخرج عنه اختيارات من دقيق الفقه ما ليس نراه لأحد منهم.
وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله طائفة من عمق أو دقائق فقه الإمام أحمد رحمه الله.
هل كان الإمام أحمد رجلاً يحفظ العلم ثم يتلوه على الناس تلاوة، أو أنه كان أكبر من ذلك؟ مشكلة طلبة العلم، أو بعض أهل العلم في هذه الأيام، أن وظيفته فقط مقتصرة على الحلق، وعلى التعليم، وسرد الأحاديث أو سرد أقوال العلماء وسرد الآراء فقط، يعني: وظيفته فقط كأنه مسجل يتكلم، وبقية من بقي من أهل العلم ليست مهمته فقط سرد العلم على الناس، لا.
عن الحسين بن إسماعيل عن أبيه قال: كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، نحو خمس مائة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت.
فإذاً هذا هو التكامل المطلوب في صاحب العلم ليس فقط أن يعلم، وإنما يكون قدوة يأخذ الناس من أخلاقه، ومن سيرته، ومن مواقفه، ومن ورعه، ومن زهده، ومن عبادته، وتقواه، وخشوعه لله عز وجل، وهذه خصلة نفتقدها كثيراً في حلق العلم، أنك تجد الواحد يسرد عليك، لكن شخصيته في بيته مع أهله، أو في العمل الذي يعمل فيه مختلفة تماماً.(292/7)
صور من تواضع الإمام وعدم تطلعه إلى ما مع الناس
وأما تواضعه فكان شيئاً عجيباً، قال يحيى بن معين: ما رأيت مثل أحمد صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير أبداً.
وقال عبد الله: كان أبي إذا خرج يوم الجمعة لا يدع أحداً يتبعه.
والمشهور أن العالم إذا ذهب إلى مكان سار الناس وراءه، لكن أحمد رحمه الله من تواضعه كان لا يرضى أن يسير وراءه أحد.
وربما وقف حتى ينصرف الذي يتبعه.
يعني: لو رأى واحداً يتبعه، أو أحس به، فإنه يقف حتى يمضي ذلك الرجل، ثم يمشي بعده، لأن قضية الاتباع تؤثر في نفس المتبوع، ولذلك يقول ابن مسعود رحمه الله ورضي عنه وأرضاه لطائفة من الناس كانوا يتبعونه: [ارجعوا فإنها ذلة للتابع وفتنة للمتبوع].
وكان أيضاً غنياً عما في أيدي الناس، لما خرج إلى عبد الرزاق انقطعت به النفقة، فأكرى نفسه من بعض الجمالين؛ يشتغل عند أصحاب الجمال الذين ينقلون حتى يحصل نقوداً، إلى أن وصل صنعاء وعرض عليه أصحابه المواساة فلم يأخذ منهم شيئاً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان قال: بلغني أن أحمد بن حنبل رهن نعله عند خباز بـ اليمن.
يقول إسحاق بن راهويه زميله في الرحلة: كنت مع أحمد عند عبد الرزاق، وكانت معي جارية وسكنا في الأعلى، وأحمد أسفل البيت، قال: وكنت أطلع فأراه يعمل التكك -وهي الأشياء التي تربط الأزار أو السراويل حتى لا تقع، يعملها ويبيعها ليتقوى بها- ولما وصل إلى عبد الرزاق اطلع على فقر الإمام أحمد، فدمعت عيناه، فقال: بلغني أن نفقته نفذت، فأخذت بيده، فأقمته خلف الباب وما معنا أحد، فقلت له: إنه لا تجتمع عندنا الدنانير إذا بعنا الغلة أشغلناها في شيء، وقد وجدت عند النساء عشرة دنانير فخذها، وأرجو ألا تنفقها حتى يتهيأ شيء -يعني: لعلك ما تصرفها حتى يأتينا شيء آخر نعوضك إذا صرفتها- فقال لي: يا أبا بكر! لو قبلت من أحدٍ شيئاً قبلت منك -يعني: انظر إلى لطافة الرد، كيف يرد، يقول: لا أريد، لكن قال: لو قبلت من أحد شيئاً قبلت منك.
وكان ربما أخذ القدوم وخرج يعمل بيده ويبيع.
وقال صالح ولده: ربما رأيت أبي يأخذ الكسر ينفض الغبار عنها ويصيرها في قصعة ويصب عليها الماء، ثم يأكلها بالملح، وما رأيته اشترى رماناً ولا سفرجلاً ولا فاكهة، إلا أن تكون بطيخة فيأكلها بخبز وعنب وتمر، وقال لي: كانت والدتك في الظلام تغزل غزلاً دقيقاً فتبيع الأستار بدرهمين أو أقل أو أكثر، فكان ذلك قوتنا.
وقضية الاستغناء الآن ليست حاصلة عند الكثيرين، بل إن كثيراً من النفوس اليوم تتطلع وتتشوق إلى ما في أيدي الناس، وصحيح أن عصرنا يختلف عن عصر أولئك الناس في متطلبات المعيشة، ولذلك لا بأس أن يحرص الإنسان على الكسب، وأن يحرص على المعاش، وإذا كان به طاقة على الصبر على حالات الشدة قد يكون الأفضل الصبر، لكن قد لا يكون للإنسان صبر وقد تكون تعقيدات الحياة كثيرة، والاهتمام بالكسب الشخصي مهم، ولذلك يقول ابن المبارك رحمه الله وكان يشتغل في التجارة فسئل عن سبب اشتغاله، فقال: حتى لا يتمندل بنا هؤلاء.
يقصد لو أن الإنسان احتاج وما عنده ولا يصبر فلا بد أن يلجأ إلى غيره، فقد يستغل حاجته بعض السفهاء، وخصوصاً إذا كان يشتغل في وظيفة من الوظائف فيصبح كأنه عبد ذليل للشخص الذي يعمل عنده، أو أنه عبد ذليل ينتظر ماذا يعطى من الراتب مثلاً، ويخشى أن يقطع عنه الراتب، ولذلك التحرر في كسب العيش أمر مهم، وكلما استطعت أن تتحرر ولا ترتبط بالآخرين في كسب العيش، حتى أن الآخرين يحتاجون إليك لا أنت تحتاج إليهم فهذا أحسن، ولكن هذا الوضع صعب الآن، وليس كل الناس يستطيعون الاشتغال بالتجارة، بل قسم كبير منهم في الوظائف، لكن حاول قدر الإمكان حتى لا يتمندل بك أهل السوء، وإذا تمندل بك أهل السوء فإنهم لا بد أن يفرضوا عليك أشياء فيها تنازل عن دينك، أو مواقف مخزية قد تقفها مضطراً لأنك محتاج إلى المال، وكثير من الناس وقعوا في مواقف مخزية بسبب الحاجة.(292/8)
عظمة أدب الإمام
وأما أدبه رحمه الله مع الناس فقد كان عظيماً، قال حنبل: رأيت أبا عبد الله إذا أراد القيام قال لجلسائه: إذا شئتم.
يعني: مع أنه الآن هو الشيخ وهو العالم، لكن إذا أراد أن يقوم قال لجلسائه من التلاميذ: إذا شئتم تسمحوا لي فأمشي.
وقال الميموني: كثيراً ما كنت أسأل أبا عبد الله عن الشيء، فيقول: لبيك لبيك.
لبيك يعني: المسارعة في الاستجابة للسؤال، مع أن ذلك السائل هو المحتاج، ولكن الإمام أحمد هو الذي يقول: لبيك لبيك، كأنه خادم مطيع عند ذلك السائل.(292/9)
الحرص على تربية الأولاد
وكان الإمام أحمد رحمه الله لما كان مستغنياً عما في أيدي الناس حريصاً على أن يربي أولاده على هذا الأمر، وهذا شيء قد لا تجده في عامة المشايخ اليوم فضلاً عن عامة الناس، قد يكون الشخص قدوة لكن أهله لا يتأثرون به، ولم يقتبسوا منه هذه الأشياء الإمام أحمد رحمه الله كان حريصاً على أن يلقن أولاده مبادئ الاستغناء عن الناس.
الإمام أحمد جاءت له فرصة الأموال، وصارت تأتيه من كل حدب وصوب، وصار الناس يعطونه أشياء، حتى لما كان في وقت الشدة كانت تأتيه هدايا من أناس مخلصين، وكانوا يؤكدون له أنها من مال حلال ويقول أحدهم: هذا من إرث أبي، ويقول آخر: عندي اثنا عشر ألف درهم أعطيتك منها كذا (شيء بسيط) فكان يرفض.
ومرة كانوا يضعون له شيئاً في البيت، كصرة مال يضعها زائر خفية، فإذا اكتشفها الإمام أحمد أرجعها إليه، وإذا لم يعرف صاحبها فرقها على الفقراء، ومرة دق الباب، يقول ولد الإمام أحمد: دق الباب فتحت الباب فإذا بقصعة من الطعام مملوءة وضعها الرجل ومشى بسرعة، والإمام أحمد كان يجوع في فترات حتى لا يجد شيئاً، حتى أنه ربما اضطر إلى مواصلة الصيام، ما عنده شيء يأكله، فلما أدخل القصعة فرآها الإمام أحمد وقد امتلأت بأنواع الطعام قال: فمكث ساعة يفكر كيف يصنع؟ ثم قال: اذهبوا بهذا إلى بيت عمي، وأعطوا أولاد صالح، وكان أولاد صالح قد أتت له ذرية وكان فقيراً، فقال: وأعطوا ولد صالح هذا وهذا وزعه وما أكل منه شيئاً.
وجاءته بعد ذلك أموال في أيام المتوكل الذي رفع المحنة عن الإمام أحمد فكان يرجعها ولا يقبل منها شيئاً، ولو أدخلت عليه بالقوة فرقها.
ومرة جاءه مالٌ فرده، بعد سنة واحد من أولاده الذين عاشوا في الفقر، يقول: يا أبتِ لو أخذنا ذلك المال -يعني: لو كنا أخذنا ذلك المال الذي جاءنا قبل سنة- فقال أحمد: لو كنا أخذناه لكان الآن قد فني.
وقال صالح: قلت لأبي: إن أحمد الدورقي أعطي ألف دينار، فقال: يا بني! ورزق ربك خيرٌ وأبقى.
إذاً الإمام أحمد قدوة في تعليم الأولاد، قدوة في تربية الأهل، بعض الناس قد يكون عفيفاً متعففاً، صابراً على الشدة، لكن أهله بخلافه، وما أكثرهم! هو قد يصبر، وقد يحرم نفسه من أشياء كثيرة من متاع الحياة الدنيا، لكن أهله بخلافه لا يصبرون، فإذاً المسألة ليست أن تصبر أنت وأن تعف نفسك فقط، المسألة أن تربي من حولك وخصوصاً الأهل والأولاد على هذه الخصلة.(292/10)
لطف الإمام مع الصبيان
وأما لطفه مع الصبيان ومع أهل بيته واهتمامه بهم فكان كبيراً، قال الخلال: قلت ل زهير بن صالح: هل رأيت جدك؟ قال: نعم، مات وأنا في عشر سنين، كنا ندخل إليه كل يوم جمعة أنا وأخواتي وكان بيننا وبينه باب، وكان يكتب لكل واحد منا حبتين حبتين من فضة في رقعة إلى فامي يعامله.
كان هناك بائع ثوم، كان الإمام أحمد يتعامل معه، وكان أحمد ربما رهن عنده أشياء حتى يأخذ منه أموالاً يعطيها للصبيان فيفرحوا بها، ثم إذا فتح الله عليه بشيء رد المال إلى بائع الثوم.(292/11)
حرص الإمام على حسن المظهر
ومع فقره رحمه الله كان نظيف الهندام، قال عبد الملك بن عبد الحميد الميموني: ما أعلم أني رأيت أحداً أنظف بدناً ولا أشد تعاهداً لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوباً بشدة بياض من أحمد بن حنبل رحمه الله.
قارن هذا وبين واقع الناس اليوم الذين قد يدعون التدين ولكنهم من ناحية النظافة الشخصية في أسوأ الحالات، وربما نفروا من حولهم بسبب عدم اعتنائهم بأنفسهم، وبثيابهم، وبشخصياتهم، فسبَّب ذلك عند الكثيرين انطباعاً سيئاً عن الدين، ولذلك يجب أن يؤخذ الإسلام جملة بلا تفريط وخصوصاً ما يصد عن سبيل الله، هذا ينبغي أن تحافظ عليه على أن تمنع الأشياء التي تصد عن سبيل الله، خصوصاً إذا كنت أنت السبب لا بد أن تراقب نفسك مراقبة شديدة.(292/12)
محبة الإمام لخمول ذكره
وكان رحمه الله يحب الخمول جداً.
والخمول ليس الكسل، وإنما خمول الذكر، أي: لا يحب أن يشتهر بين الناس، وأن يتناقل الناس ذكره أبداً، وكانت مواقفه شديدة من هذا، مع كثرة الإنجازات التي قدمها لهذا الدين.
قال المروذي: رأيت طبيباً خرج من عند أحمد ومعه راهب -راهب نصراني- فقال: إنه سألني أن يجيء معي ليرى أبا عبد الله -انظر بلغت منزلة الإمام أحمد أن النصارى تشوقوا لرؤيته- وقال: وأدخلت نصرانياً على أبي عبد الله فقال له النصراني: إني لأشتهي أن أراك منذ سنين، ليس بقاؤك صلاحاً للمسلمين وحدهم بل للخلق أجمعين، وليس من أصحابنا أحدٌ إلا وقد رضي بك، فقلت لـ أبي عبد الله: إني لأرجو أن يكون يدعا لك في جميع الأمصار، فقال: يا أبا بكر إذا عرف الرجل نفسه فما ينفعه كلام الناس.
انظر! سبحان الله العظيم! يقول: إذا كنت أعرف قدر نفسي فماذا ينفعني كلام الناس وأنهم يدعون لي ويذكروني، وأنا أعرف نفسي أني لست بهذه المنزلة؟! وهو أعلى من هذه المنزلة.
وقال عباس الدوري: حدثنا علي بن أبي فزارة جارنا قال: كانت أمي مقعدة نحو عشرين سنة، فقالت لي يوماً: اذهب إلى أحمد بن حنبل فسله أن يدعو لي، فأتيت فدققت عليه وهو في دهليزه، فقال: من هذا؟ قلت: رجل سألتني أمي وهي مقعدة أن أسألك الدعاء، فسمعت كلامه كلام رجل مغضب، فقال: نحن أحوج أن تدعو الله لنا، فوليت منصرفاً، فخرجت عجوزٌ فقالت: قد تركته يدعو لها -رأته ذهب غاضباً، فقالت: قد تركته يدعو لها- انظر الآن واحد يقول للناس ويعلمهم يقول لهم هذا ولكنه في نفس الوقت يدعو لها (من استطاع أن ينفع أخاه بشيء فلينفعه) بدعاء، برقية، فجئت إلى بيتنا ودققت الباب، فخرجت أمي على رجليها تمشي!! استقبلته!! وبالمناسبة فإنه يجب أن نكون حذرين في الروايات، فنحن لا نريد أن نرفع الناس فوق المنزلة التي أنزلهم الله إياها، ونبالغ، والمبالغة خطيرة جداً؛ لأنها تفقد واقعية الشيء، خصوصاً من الناس المفكرين، إذا أنت الآن جلست تسرد على الناس أحاديث ضعيفة مقتوك، لذلك الحافظ الذهبي رحمه الله كان ينقد الروايات مثلاً في رواية تقول: لما مات الإمام أحمد أسلم يوم موته من اليهود والنصارى عشرون ألفاً.
لما تقول هذا الكلام قد يقول الناس: يا الله! إعجاباً، لكن الإمام الذهبي رحمه الله يقول: وهذه الحادثة لا يمكن أن تكون قد وقعت، ولم يروها إلا شخص واحد، ولو كانت وقعت لتوافرت الهمم والدواعي على نقلها، فلما لم ينقلها إلا واحد شككنا في صحتها، مع إعجاب الذهبي الشديد بالإمام أحمد، فأنا أنبه أثناء العرض هنا أن ليس المقصود أن نأتي بأشياء نهول فيها ونضخم ونكذب، ولكن الأشياء التي أتى بها النقاد فأقروها وسكتوا عليها ولم يتعقبوها تذكر، والإمام أحمد لا يستبعد منه أبداً أن يحصل هذه الكرامة، لا يستبعد أبداً أن يكون مجاب الدعوة وحياته هذه الحياة.
وقال المروذي: قلت لـ أبي عبد الله: ما أكثر الداعي لك، ما أكثر الناس الذين يدعون لك، قال: أخاف أن يكون هذا استدراجاً.
وقلت له: قدم رجل من طرسوس فقال: كنا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء، وكنا نمد المنجنيق ونرمي به عن أبي عبد الله -يعني: لا ينسون من محبة الناس للإمام أحمد، حتى المجاهدين يرمون المنجنيق ثم يقولون: هذه رمية عن الإمام أحمد - ولقد رمي عنه بحجر والعلج على الحصن متترس بدرقة فلما رموا الحجر فذهب برأسه وبالدرقة، قال: فتغير وجه أبي عبد الله وقال: ليته لا يكون استدراجاً.
أي: ليت هذا لا يكون استدراجاً حتى أنا أغتر من هذا الكلام وأخرج عن التقوى.
وعن عبد الله بن أحمد قال: حدثنا أبي وذكر عنده الشافعي رحمه الله فقال: ما استفاد منا أكثر مما استفدنا منه.
أحمد يقول عن الشافعي: ما استفاد منا أكثر مما استفدنا منه، نحن استفدنا منه أكثر، ومع ذلك عبد الله ولد الإمام أحمد يقول: كل شيء في كتاب الشافعي حدثنا الثقة فهو عن أبي.
هذه قضية مهمة في كتاب الشافعي.
الشافعي له مسند إذا قال: حدثنا الثقة -يعني أحمد بن حنبل - ما استعمل لفظ الثقة بدون اسم إلا للإمام أحمد.
وقال المروذي: وذكر ل أحمد أن رجلاً يريد لقاءه، فقال: أليس قد ذكره بعضهم أليس اللقاء شيء بغيض يتزين لي وأتزين له؟ وقال: لقد استرحت ما جاءني الفرج إلا منذ حلفت ألا أحدث، وليتنا نترك، فقلت له: إن فلاناً قال: لم يزهد أبو عبد الله في الدراهم وحدها وإنما زهد في الناس أيضاً، قال: ومن أنا حتى أزهد في الناس؟ الناس يريدون أن يزهدوا فيَّ.(292/13)
هروب الإمام من الشهرة
وقال: أريد أن أكون في شعب ب مكة حتى لا أعرف، قد بليت بالشهرة، إني أتمنى الموت صباحاً ومساء.
انظر الإمام أحمد يقول: بليت بالشهرة على أساس، والآن بعض الناس ابتلوا بالشهرة على غير أساس، فعلاً، الآن بعض الناس تسلط عليهم الأضواء، وقد يفتون في الصحف وفي الجرائد وفي المجلات، تطلع أصواتهم أنهم على شيء من الدين، وأنهم من أهل الفتوى، ويتصدرون ولكن على غير أساس، فهذا الإمام أحمد يقول: ابتلينا بالشهرة، ويعتبر أن هذا ابتلاء من الله، وهو الرجل الذي يستحق أن يشتهر، فكيف ببعض الناس اليوم الذين ابتلوا بالشهرة على غير أساس.
والشهرة مشكلة؛ لأنها تعدم الإخلاص إعداماً، فإنك: عندما ترى الناس يسيرون بذكر فلان وقصة فلان، وبعضهم يؤلفون القصص لرفعه، فيقولون مثلاً: فلان يحفظ كذا وكذا، فلان تتلمذ على يد فلان وفلان من العلماء، هو إذا سمع بذلك قد يسر ولا ينفي مع أن هذا كذب ويشتهر، ولكن هؤلاء سرعان ما يأفل نجمهم سريعاً، ولكن لا يبقى على مر العصور وعلى مر الأزمان إلا الناس الذين اشتهروا فعلاً على أساس من تقوى الله ورضوانه.
الواحد قد يضيق ذرعاً ببعض الأسماء اللامعة في الأفق وهي على غير شيء، ويقول: إنهم يذكرون صباحاً ومساء، ولكن يا أخي تخيل بعد مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة كيف يكون؟ اقرأ التاريخ، بعض الناس في وقت من الأوقات كانوا مشهورين جداً لكن بعد ذلك طوى الدهر صفحاتهم بعض الناس تقال لهم عبارات المديح ويسكتون وهم لا يستحقونها، الإمام يقال له عبارات الثناء وهو يستحق أكثر منها وكان لا يسكت، يقتدي به الإنسان، فيعرف إذا أثني عليه ماذا يقول، وكيف يكون موقفه، بل إن الواحد ليستحقر نفسه وهو لم يبلغ مبلغ شيء في الدين ويثنى عليه، ومن هو بجانب الإمام أحمد؟ وهذه فائدة تربوية مهمة، فمن أخطر الأشياء أن تثني على شخص في وجهه، حتى لو كان رجل دين تقياً وورعاً، إذا أثنيت عليه في وجهه فكأنك قطعت عنقه، ولذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن المدح في الوجه، وقد تفسد نيته وإخلاصه بمدحك له، ولذلك يا أخي وفر مدحك قليلاً، وفر الثناء قليلاً، اثن عليه إذا كان من أهل الخير لكن ليس في وجهه، وكثير من الناس وصلوا إلى الغرور ووقعوا في الهاوية، لأنه يثنى عليه في وجهه، فيصيبه الغرور ويدخله الكبر، ويقول: أنا أذكر، وأنا شأني مشهور، وأنا يعرفني فلان وفلان، وأنا كلماتي وصلت إلى تلك الأنحاء، فلذلك احذر من الثناء على واحد في وجهه.
وقال الخلال: أخبرنا علي بن عبد الصمد الطيالسي قال: مسحت يدي على أحمد بن حنبل وهو ينظر فغضب وجعل ينفض يده ويقول: عمن أخذتم هذا؟ أي: ممن تعلمتم هذه التصرفات؟ وقال المروذي: سمعت أبا عبد الله ذكر أخلاق الورعين، فقال: نسأل الله ألا يمقتنا أين نحن من هؤلاء؟! والإمام أحمد من أورعهم.
وقال المروذي: أدخلت إبراهيم الحصري على أبي عبد الله، وكان رجلاً صالحاً، فقال: إن أمي رأت لك مناماً وهو كذا وكذا وذكرت الجنة.
يقول: أمي رأت لك مناماً يا أحمد في أشياء وذكرت الجنة، فقال: يا أخي إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا فخرج إلى سفك الدماء، كان الناس يخبرونه بمثل هذا فصار أمره إلى أن سفك الدماء.
الرؤيا تسر المؤمن ولكن لا تغره.(292/14)
حرص الإمام على التربية الإيمانية
وقد كان الإمام أحمد رحمه الله بالإضافة إلى ذلك حريصاً على تربية طلبة العلم على الإيمان، وعلى تعويدهم على الطاعات بالإشارة.
فأن ترتقي بشخص مثلاً في إيمانه، وكيف تجعله أخشى لله وأتقى وأورع، هذه مسألة صعبة جداً؛ لأن الخشية في القلب بالقدوة لا بالقول، ولذلك الناس لا يصلحون في هذا الجانب إلا بالتربية وبالقدوة، وهذا مثال كيف كان الإمام أحمد رحمه الله يربي الناس على هذا عن عاصم بن عصام البيهقي قال: بت ليلة عند أحمد بن حنبل، فجاء بماء فوضعه، فلما أصبح جاء الإمام أحمد ونظر إلى الماء بحاله فقال: سبحان الله رجل يطلب العلم لا يكون له ورد بالليل!! فهو قد وضع له الأداة التي يقوم بها الليل، فلما رآه لم يقم عاتبه بلطف.
وكان الإمام أحمد رحمه الله شديد الاتباع للسنة جداً، حتى أنه مرة احتجم وأعطى الحجام ديناراً، وقال: لأنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام ديناراً.
وعن إبراهيم بن هانئ النيسابوري قال: كان أبو عبد الله حيث توارى من السلطان عندي.
الإمام أحمد جاءت عليه فترة في زمن الواثق اختبأ فيه من السلطان، فاختبأ عند إبراهيم بن هانئ النيسابوري، ولما يكون الإنسان له أصدقاء في الخير وله أعوان في الخير فإنه يستفيد منهم في لحظات الشدة، ولذلك اختبأ عنده الإمام أحمد رحمه الله في وقت الشدة، فذكر من اجتهاده في العبادة أشياء، وقال: وكنت لا أقوى معه على العبادة، وأفطر يوماً واحداً واحتجم.
وقال عبد الله بن أحمد ذاكراً عبادة أبيه: كان أبي يقرأ كل يوم سُبعاً -يعني: يختم القرآن في سبعة أيام- وكان ينام نومة خفيفة بعد العشاء، ثم يقوم إلى الصباح ويصلي ويذهب، ويقول: ربما سمعت أبي في السحر يدعو لأقوام بأسمائهم، وكان يكثر الدعاء ويخفيه، ويصلي بين العشائين، فإذا صلى عشاء الآخرة ركع ركعات صالحة، وكانت قراءته لينة، ولا يترك صوم الإثنين والخميس وأيام البيض.
وقال زهير بن صالح: حدثنا أبي قال: سمعت أبي كثيراً يتلو سورة الكهف، وكثيراً ما كنت أسمعه يقول: اللهم سلم سلم.
والدعاء باللهم سلم سلم ورد في دعاء الأنبياء عندما يجوز كل نبي بأمته على الصراط المضروب على متن جهنم، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ودعاء الأنبياء يومئذٍ: اللهم سلم سلم) وقد بلغ من عبادته أنه ما تركها وهو في السجن، بل إنه قال: كنت أصلي بأهل السجن وأنا مقيد.
وقال المروذي: كان أبو عبد الله إذا ذكر الموت خنقته العبرة، وكان يقول: هان علي كل أمر الدنيا إذا ذكرت الموت إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنما هي أيام قلائل، ما أعدل بالفقر شيئاً، ولو وجدت السبيل لخرجت حتى لا يكون لي ذكر.(292/15)
سبب ترك الهجران والاعتزال
الإمام أحمد رحمه الله كان يمكن أن يخرج حتى لا يكون له ذكر ويختفي عن أعين الناس كما يفعل كثير من المتصوفة، كما كان ابن القيم رحمه الله في بادئ الأمر، ابن القيم رحمه الله يقول: استأنست عند الذئب إذ عوى، وإذا صاح صائح طرت مع الصيحة فرحاً.
يعني: يذكر حاله يقول: أني كنت أستأنس بصياح الذئاب؛ لأنه كان رحمه الله في بادئ أمره متصوفاً من المتصوفة، وكان يخرج إلى الفلوات والبراري مثل الصوفية، ويعتزل الناس، والصوفية كانوا يستأنسون بعواء الذئب إذا ذهب واحد منهم في البرية وجلس بعيداً عن الناس وخلا، وإذا صاح الصائح بالذكر في حلق الذكر المبتدعة التي عندهم طار قلبه من الصيحة، ولكن بعد ذلك قيظ الله له شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فاهتدى على يديه، فرحمه الله به وهداه إلى الشريعة.
لماذا كان الإمام أحمد لم يخرج إلى خارج البلاد ويسكن في الصحراء ويعتزل الناس؟ هو يتمنى هذا الكلام، لماذا لم يفعله؟ لأن الناس يحتاجون إليه، لأن موقعه بين الناس موقع مهم، لأن عزلته عن الناس فيها ضرر على نفسه وعلى الناس، والإنسان المؤمن كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أحسن وأفضل من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم) والاعتقاد الموجود عند البعض بأن على الإنسان أن يخرج عن المجتمع ويعتزل الناس أحسن له في الدين اعتقادٌ خاطئ؛ لأنه سيضعف، لكن الذي يعيش المحنة يقوى عوده ويصمد، إلا في حالة واحدة، إذا كان آخر الزمان، وصارت الفتنة شديدة جداً بحيث أن الرجل لا يحتمل القعود، ولو قعد لفتن في دينه، فعند ذلك لا بد من الخروج، وقد يحصل حالات من هذا في بعض البلدان، فيترتب على المسلم أن يخرج؛ لأنه لو جلس واستقر لفتن في دينه، ونكص وارتد على عقبيه، فتكون السلامة في الخروج.
قال أبو داود: كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، ما رأيته ذكر الدنيا قط.
وعن المروذي قال: قلت ل أحمد: كيف أصبحت؟ قال: كيف أصبح من ربه يطالبه بأداء الفرائض، ونبيه يطالبه بأداء السنة، والملكان يطالبانه بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يراقب قبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة؟!!(292/16)
عفو الإمام عمن ظلموه
وقال ابن أبي حاتم، هذا الإمام أحمد رحمه الله كان من الأشياء التي اشتهر بها أن يعفو عمن ظلمه، والذين ظلموا الإمام أحمد كثيرون جداً، وظلمهم ليس بالسهل، وكان ممن ظلمه المعتصم، حتى أنه كان يأتي بالجلاد والإمام أحمد ممدود على الأرض قد علق، ويقول للجلاد: اضرب، ثم يقول: شد قطع الله يدك، يقول للجلاد، فيضربه سوطين بقوة، ثم يأتي الذي بعده يقف الجلادون صفاً يضربون الإمام أحمد، قال أحدهم: لقد ضربت أحمد ثمانين سوطاً لو ضربتها فيلاً لهدته.
الإمام أحمد رحمه الله مع كل هذا الظلم، قال ابن أبي حاتم: بلغني أن أحمد بن حنبل جعل المعتصم في حلٍ يوم فتح عاصمة بابك وظفر به أو في فتح عمورية.
لأن من حسنات المعتصم أنه فتح عمورية، فلما فتح عمورية عفا عنه الإمام أحمد، ولما أمسك بـ بابك، وهذا بابك زعيم الخرمية طائفة من الملاحدة وكان لهم عاصمة وصارت لهم شوكة، لما قاتلهم المعتصم وظفر بهم قال الإمام أحمد: هو في حل من ضربي.
مع أنكم ستسمعون بعد قليل كيف ضربه.
وقال ابن جماعة: سمعته يقول؛ الإمام أحمد: كل من ذكرني ففي حل إلا مبتدعاً -المبتدع لا أحله- حتى يرجع من البدعة.
وقال: وقد جعلت أبا إسحاق المعتصم في حلٍ ورأيت الله يقول: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم يوم القيامة بسببك؟! والناس اليوم حتى من طلبة العلم وبعض الدعاة قد يظلمون، وقد يساء إليهم جداً، ولكنهم قد يحملون في أنفسهم حقداً وغلاً، يحملون في أنفسهم أقل شيء سخطاً على من ظلمهم، ولكن المقتدي المتأسي بالإمام أحمد رحمه الله يرى العفو عن الظالم إذا رجع عن ظلمه للناس وعن بدعته، والعفو عند المقدرة من الأشياء التي تؤثر في الظالم جداً، وتجعله في صفوف الصلحاء، وكثيرٌ من الناس الذين عفا عنهم الإمام أحمد قد تحسنت أحوالهم جداً.
وقد كان الإمام أحمد رحمه الله ورعاً غاية الورع، ما أحوجنا إلى الورع في هذا العصر الذي كثرت فيه الشبهات، في الأموال والرواتب، وكثير من الوظائف، وكثير من المدخولات، كثر فيها الحرام وكثرت فيها الشبه، والمأكولات كثرت فيها كثيراً.
قال بعضهم: لقد حضرت من ورعه شيئاً بـ مكة أنه أرهن سطلاً عند فامي -بائع الثوم- فأخذ منه شيئاً ليقوته -أعطاه السطل رهناً وطلب شيئاً ليأكله - فجاء يوماً من الأيام فأعطاه فكاكه، فأخرج إليه الفامي سطلين فقال: انظر أيهما سطلك؟ فقال الإمام أحمد: لا أدري، ثم إن الإمام أحمد قال: أنت في حل منه -لأنه يخشى لو أخذ واحداً منهما ألا يكون سطله- وما أعطيتك الآن من المال فكاك السطل هو لك، قال الفامي: والله إنه لسطله وإنما أردت أن أمتحنه فيه، ولكن مع ذلك لما أخبره رفض الإمام أحمد أن يأخذه.
وقال: قال أحمد بن محمد الدستوري: ذكروا أن أحمد بن حنبل أتى عليه ثلاثة أيام ما طعم فيها، فبعث إلى صديق له فاقترض منه دقيقاً فجهزوه بسرعة، لاحظ الإمام أحمد أن الخبز جهز بسرعة فقال: كيف ذا؟ قالوا: تنور صالح مسجر -ولده صالح كان عنده تنور، وكان التنور هذا ساخن أصلاً، ولذلك نضج الخبز بسرعة- فخبزنا فيه، فقال: ارفعوا، وأمر بسد بابٍ بينه وبين صالح، قال الذهبي: لكون صالح قد أخذ جائزة المتوكل.
وكان قد أعطى أحمد وأولاده، فالإمام كان متورعاً عن المال الذي جاء من المتوكل في يد ولده صالح، حتى أنه ما رضي أن يأكل من الخبز الذي خبز في تنور ولده.(292/17)
شهادة الإمام على الناس بالحق
ونأتي الآن أيها الإخوة إلى نقطة مهمة من النقاط؛ وهي أن الإمام أحمد على ورعه وعلى خوفه من الظلم كان إذا طلبت منه الشهادة في أشخاص معينين أتى بها، وبعض الناس اليوم قد يسأل عن فلان من الناس، وهذا فلان قد يكون ذائع الصيت وقد يكون مشهوراً، وفلان هذا له أخطاء، وقد يتأثر السائل بأخطائه، يقول: لا، أنا أتحرج أن أتكلم، ولا أستطيع أن أطعن بأناس عظماء، هؤلاء ناس منهم من عذب في ذات الله، ومنهم من ابتلي، أنا لا أستطيع أن أتكلم فيهم، الإمام أحمد رحمه الله كان لا يمنعه ورعه أن يشهد بالحق على الناس، ولما طلب منه تعيين أسماء للقضاء هل تصلح أو لا تكلم عليها بما تستحقه.
سئل أحمد بن حنبل عن أحمد بن رباح فقال فيه: جهمي معروف بذلك، وإنه إن قلد شيئاً من أمر المسلمين كان ضرراً على المسلمين؛ لما هو عليه من مذهبه وبدعته، وسئل عن ابن الخلنجي فقال فيه أيضاً مثلما قال في أحمد بن رباح، وذكر أنه كان من شرهم وأعظمهم ضرراً، وسألته عن شعيب بن سهل، فقال فيه: جهمي معروف بذلك، وسألته عن المعروف ب أبي شعيب فقال فيه: إنه جهمي معروف بذلك، وسألته عن ابن الثلجي فقال: مبتدع صاحب هوى، وابن الثلجي هذا حنفي دافع عنه زاهد الكوثري في بعض كتبه، وزاهد الكوثري من أعيان المبتدعة في هذا العصر، وقد مات، وتأثر به كثيرون، فدافع عن ابن الثلجي وقال: لعل طعن أحمد فيه مشكوك فيه، ولعل الرواية فيه غير صحيحة وهذا ليس بكذا لماذا؟ دفاعاً عن المبتدعة، والإمام أحمد يقع فيهم.
فإذاً، منهج الورع لا يمنع أن يقول الإنسان بالعدل {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152] والإنسان إذا طَلَبَ رأيك في شخص وأنت تخاف أن يتأثر به هذا السائل فلا بد أن تبين له السلبيات التي هي فيه، وهذه المسألة فيها مزلقٌ خطير، يعني: بعض الناس يُسأل عن شخص، وهذا الشخص فيه عيب لكن لا يتأثر به كأن يكون عيباً خفياً، يعني: واحد عنده أخطاء لكن لا يتأثر الناس بها؛ لأن أخطاءه في بيته أو في شخصه، فيأتي واحد يقول: فلان فيه كذا وكذا وكذا، تقول: يا ابن الحلال اتق الله لماذا تطعن في فلان؟ يقول: الجرح والتعديل، فصار باب الجرح والتعديل مفتوحاً على مصراعيه كل واحد يتكلم كيف يشاء، وأحياناً تجد الناس بين إفراط وتفريط، إما أن تجده يطعن في أناس صالحين، أو يذكر سلبيات لا داعي لذكرها ولا حاجة لذكرها، أو تجد واحداً يسكت على فلان وعلى أخطائه ولا يغير، ولا يعترف بخطئه؛ لأنه يقدس ويعظم هذا الشخص، كلاهما بلية ابتلي بها كثيرٌ من المسلمين، وحتى من الناس الذين يدعون القيام بدين الله وحمل لواء الإسلام.
وعن عبد الله بن محمد الوراق قال: كنت في مجلس أحمد بن حنبل فقال: من أين أقبلتم؟ قلنا: من مجلس أبي كريب، فقال: اكتبوا عنه الحديث فإنه شيخ صالح، فقلنا: إنه يطعن فيك -يعني يتكلم عليك- قال: فأي شيء حيلتي شيخ صالح قد بلي بي، أي: ابتلاه الله عز وجل بأن يطعن علي ماذا أفعل له، لكن اكتبوا حديثه، هل هناك عدل مثل هذا؟ مقارنة بكثير من المسلمين اليوم قد تجد اليوم واحداً من الناس إذا سئل عن فلان وقد يكون عالماً، أو من أهل العلم، أو طالب علم ينفع الناس، فيقول: لا، لا تأخذ عنه حرفاً، ولا تحضر مجالسه، ولا تستمع له! وذلك لأن بينه وبينه خلافات شخصية! نقول: حتى لو كنت محقاً في خلافاتك الشخصية مع هذا الرجل، لكن العدل أن تقول للناس: اسمعوا له، واحضروا له، حتى لو كان بينك وبينه خلاف شخصي، ما دام أنه لا يقول ببدعة، ولا يدعو الناس إلى بدعة، وليس عنده أخطاء في الأصول، أو ليس عنده أشياء يضل الناس بها، أو يفتي بغير علم.(292/18)
صورة من فقه الدعوة والحركة
وكان من طريقة الإمام أحمد رحمه الله في باب الدعوة إلى الله، ما قاله أبو بكر المروذي قال: كان الإمام أحمد رحمه الله إذا بلغه عن شخص صلاحٌ، أو زهد، أو قيام بحقٍ، أو اتباع للأمر -يعني للسنة والجماعة - سأل عنه، وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله.
وهذا المنهج من الإمام أحمد رحمه الله في الدعوة والحركة مهم جداً، مهم جداً أن الإنسان المسلم إذا سمع بشخص فيه صلاح وتقوى، واتباع للسنة أن يتعرف عليه، وأن يستفيد منه، ونظم هؤلاء في سلك واحد مما يقوي دين الإسلام جداً؛ لأنه يجمع الجهود ويوجهها، ولذلك فإن كثيراً من الناس فيهم من الصلاح أشياء كثيرة، لكنهم متفرقون لا ينظمهم سلكٌ واحد، لو جاء إنسانٌ قدوة، فجمع هؤلاء ووجه طاقاتهم إلى الخير، واستثمر ما لدى هذا ولدى هذا من الأشياء لانتفع الإسلام جداً، الإمام أحمد رحمه الله كان يحاول أن يعرف أصحاب الطاقات في المجتمع الذين فيهم خير وصلاح، وفيهم دين، واتباع للسنة، يجري بينه وبينهم معرفة، فيستفيد الإسلام من هذه الجهود المتكاتفة.
وكان رحمه الله يعمق التصورات الإسلامية المهمة في الناس، فمثلاً: يدعو الناس إلى اتباع الكتاب والسنة، والإقبال عليهما، ويبين للناس خطورة رد أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إنه بلغ من أمره في هذا أنه نهى الناس عن كتابة الرأي، يعني: كتابة الآراء، وأمرهم أن يقتصروا على الآثار، لخوف الإمام أحمد رحمه الله أن يترك الناس الكتاب والسنة ويتعلقوا بأقوال الرجال، ولذلك كان كتب أقوال بعض الرجال ثم تخلص من كتبه، وسأله رجل: أكتب كتب الرأي؟ قال: لا، قال: ف ابن المبارك قد كتبها، قال: ابن المبارك لم ينزل من السماء، إنما أمرنا أن نأخذ العلم من فوق.
يعني: القرآن والسنة؛ لأنه وحي من عند الله.(292/19)
تخفي الإمام وفقاً للسنة
وكان من شدة اتباعه للسنة ما قاله إبراهيم بن هانئ: اختفى أبو عبد الله ثلاثاً، ثم قال: اطلب لي موضعاًُ وأتحول إليه، قلت: لا آمن عليك، قال: افعل، فإذا فعلت أفدتك، فطلبت له موضعاً، فلما خرج قال: اختفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام ثم تحول، فأنا أختبئ عندك ثلاثة أيام ثم أتحول.
طبعاً هذا الشيء يعتمد على الظروف والمناسبات؛ لأنه قد لا يجد الإنسان مكاناً آخر، ولكن إذا وجد وهو في جو المحنة فيكون من المناسب أن لا يمكث في مكان واحد فترة طويلة؛ لئلا يكتشف أمره فيتحول، لو جلس الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار مدة طويلة ربما اكتشفوا أمره، فهو جلس المدة التي خف فيها الطلب ثم تحول.(292/20)
تعامل الإمام مع أهل البدع
وكان الإمام أحمد رحمه الله حريصاً على أن يعرف أهل البدع ويكتشف أمرهم بنفسه، من باب التثبت ليحذر الناس منهم، وهذه القصة دليل على ذلك، وهذه القصة مهمة ينبغي أن تعقلوها جيداً، وأن نفكر فيها يا إخواني جميعاً: سمعت إسماعيل السراج يقول: قال لي أحمد بن حنبل يوماً، أي: قال الإمام أحمد لـ إسماعيل السراج: بلغني أن الحارث يكثر الكون عندك -يأتيك كثيراً- فلو أحضرته منزلك وأجلستني من حيث لا يراني، فأسمع كلامه فقلت: السمع والطاعة لك يا أبا عبد الله، وسرني هذا الابتداء من أبي عبد الله -انظر الآن الإمام أحمد هو الذي يبحث، وهو الذي ينقب، هو الذي يتثبت، ما يأتي واحد يقول له: عندي مبتدع فأخبرني رأيك فيه، بل هو الذي يبحث- ففعل الرجل ودعا الحارث المحاسبي وجماعة من المعجبين بـ الحارث المحاسبي، فحضر الإمام أحمد وصعد في غرفة في الدار، واجتهد في ورده إلى أن فرغ، وحضر الحارث وأصحابه فأكلوا، ثم قاموا لصلاة العتمة -العشاء- ولم يصلوا بعدها وقعدوا بين يدي الحارث وهم سكوت لا ينطق واحد منهم إلى قريب من نصف الليل، فابتدأ واحد منهم وسأل الحارث المحاسبي، فأخذ الحارث في الكلام وأصحابه يستمعون كأن على رءوسهم الطير، فمنهم من يبكي، ومنهم من يحن، ومنهم من يزعق في كلامه -وهذا شأن بعض المتصوفة - ولم تزل تلك حالهم حتى أصبحوا، فقاموا وتفرقوا، فصعدت إلى أبي عبد الله وهو متغير الحال، فقلت: كيف رأيت هؤلاء يا أبا عبد الله؟ فقال: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء القوم، ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا الرجل، وعلى ما وصفت من أحوالهم فلا أرى لك صحبتهم، ثم خرج.
ناس يجلسون بعد العشاء ما يصلون الليل يزعمون أنهم يذكرون الله، يجلسون صامتين هكذا إلى نصف الليل، وبعد ذلك واحد يذكر ويتكلم وناس يزعقون، والزعق هذا ما كان عند الصحابة ولا عند التابعين، فالإمام أحمد قال: ما أرى لك صحبتهم مع أن ظاهرهم الخير، لذلك كثير من الناس في هذه الأيام يخدعون ببعض المبتدعة من أهل الشر، لأنهم يرونهم يبكون، ويكثرون من ذكر الهل ويزعقون، فيقول: هذا من أولياء الله، وهو في الحقيقة من المبتدعة في دين الله، فإذاً التثبت في أحوال هؤلاء أمر مهم، أمر مطلوب حتى يعرف حالهم فيجتنبوا، وحتى يكون الإنسان على بصيرة.
ومن منهج الإمام أحمد رحمه الله اعتزال أهل البدع، وهذه قضية مهمة، تمس الحاجة إليها في هذه الأيام؛ قال المروذي: لما أظهر يعقوب بن شيبة الوقف حذر منه أبو عبد الله وأمر بهجرانه، أمر الناس بتركه، أي: الوقف في قضية خلق القرآن بعض الناس قالوا: القرآن مخلوق، بعض الناس قالوا: لفظي بالقرآن مخلوق، وهؤلاء أيضاً مبتدعة، وبعضهم قالوا: لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق؛ هؤلاء الواقفة، فالإمام أحمد بدع الواقفة، ونهى عن الصلاة وراءهم، وأمر بهجرهم، ولا عليه فلان كبير صغير، مشهور مغمور؛ ما دام أنه وقع في البدعة وما رجع منها حذروا الناس منه.(292/21)
تعامل الإمام مع أهله
ومن الأمور المهمة التي يقتدى فيها بالإمام أحمد رحمه الله علاقته بأهله، فقد كانت علاقته بهم طيبة جداً، فقال المروذي: سمعت أبا عبد الله ذكر أهله فترحم عليها -لأن زوجته ماتت قبله- فقال: مكثنا عشرين سنة ما اختلفنا في كلمة.
رجل يجلس مع زوجته لا يختلف معها في كلمة، هذا شيء ليس سهلاً، ولكن هذا الرجل رحمه الله بلغ عدله ورفقه حتى في أهل بيته حتى ما اختلف معهم في كلمة.(292/22)
صمود الإمام في وجه الطغيان
ومن أشهر الأشياء: صموده في وجه الطغيان، الإمام أحمد رحمه الله الشيء الذي فعله في وجه الطغيان ليس بالأمر السهل.
قال صالح: قال أبي: لما جيء بالسياط نظر إليها المعتصم، فقال: ائتوني بغيرها -هاتوا أشد منها- ثم قال للجلادين: تقدموا، فجعل يتقدم إلي الرجل منهم فيضربني سوطين، فيقول له: شد قطع الله يدك، ثم يتنحى ويتقدم آخر فيضربني سوطين، وهو يقول في كل ذلك: شد قطع الله يدك، فلما ضربت سبعة عشر سوطاً قام إليَّ المعتصم، فقال: يا أحمد! علام تقتل نفسك؟ انظروا الآن الفتنة عن الدين كيف تكون بالترهيب والترغيب، أول شيء حملوه فرفض، سجنوه رفض، ضربوه، ثم قال له المعتصم: لماذا تقتل نفسك؟ واحد يقول: شد قطع الله يدك، ثم يأتي ويقول: لماذا تقتل نفسك؟ إني والله عليك لشفيق، وجعل عجيف -وهو رجل من أعوان الظلمة- ينخسني بسيفه، وقال: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟ في وجود المعتصم وأعوانه وجنوده وعساكره وأحمد بن أبي دؤاد ومن معه من المعتزلة يناظرون الإمام أحمد وهو يرد عليهم، وجعل بعضهم يقول: ويلك! إمامك على رأسك قائم يقصد الخليفة، وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين! اقتله ودمه في عنقي، وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين! أنت صائم وأنت في الشمس قائم أرح نفسك منه، فقال لي: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله أقول به، فرجع فجلس، ثم قال للجلاد: تقدم وأوجع قطع الله يدك، ثم قام الثانية وجعل يقول: ويحك يا أحمد أجبني، فجعلوا يقبلون عليه ويقولون: يا أحمد إمامك على رأسك قائم، وجعل أحدهم يقول: من صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟! حتى يخذلونه، يقولون: من الذي من أصحابك وقف مثل موقفك؟! لا أحد وقف فلماذا أنت تقف؟ والمعتصم يقول: أجبني إلى شيءٍ لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي، ثم رجع وقال للجلاد: تقدم، فجعل يضربني سوطين ويتنحى، وهو في خلال ذلك يقول: شد قطع الله يدك، فذهب عقلي، ثم أفقت بعد ذلك، فإذا الأقياد قد أطلقت عني، فقال لي رجل ممن حضر: كببناك على وجهك، وطرحنا على ظهرك بارية -يعني حصيراً- ودسناك، قال أبي: فما شعرت بذلك -لأنه كان قد أغمي عليه- وكاد أن يموت من هذا الدوس على جسده، ولكن الله أنجاه.
فإذاً تعرض الإمام أحمد أيها الإخوة لشتى أنواع الطغيان، ضرب، جلد، حبس، داسوه، سبوه، لعنوه، شتموه، جمعوا عليه الأجناد والحراس، حتى في منظر قال: لما دخلت قصر المعتصم رأيت أجناداً قد أشهروا السلاح ما رأيتهم من قبل، ولكن مع ذلك صمد صموداً ما صمده أحدٌ ولذلك صار إمام أهل السنة، واستحقها بلا منازع.(292/23)
قوة حجة الإمام في فتنة خلق القرآن
وكانت حجته قوية، وهذا شيء مهم جداً للذي يواجه في خط النار، الذي في خط المواجهة لا بد أن يكون عنده حجة، وهذا يبين أهمية العلم في وقت المحنة، قال صالح بن أحمد: قال أبي: كان يوجه إلي كل يوم برجلين أحدهما يقال له: أحمد بن أحمد بن رباح، والآخر أبو شعيب الحجام فلا يزالان يناظراني في السجن حتى إذا قاما دعي بقيد فزيد في قيودي، فصار في رجلي أربعة أقياد، فلما كان في اليوم الثالث دخل علي فناظرني فقلت له: ما تقول في علم الله؟ قال: مخلوق، قلت: كفرت بالله، فقال الرسول الذي كان يحضر من قبل إسحاق بن إبراهيم الوالي: إن هذا رسول أمير المؤمنين كيف تكفره؟ فقلت: إن هذا قد كفر، فلما كان في الليلة الرابعة وجه المعتصم ببغى الكبير إلى إسحاق فأمره بحمله إليه، فأدخلت على إسحاق، فقال: يا أحمد! إنها والله نفسك، إنه لا يقتلك بالسيف، إنه قد آن إن لم تجبه أن يضربك ضرباً بعد ضرب، وأن يقتلك في موضعٍ لا يرى فيه شمس ولا قمر، أليس قد قال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الزخرف:3]-انظر الآن يحتجون على الإمام أحمد، يقولون: الله يقول جعلناه قرآناً عربياً، وجعل بمعنى خلق، جعل الأرض وجعل السماوات- فإذا كان مجعولاً أفلا يكون مخلوقاً؟! فقلت: قد قال الله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] أفخلقهم؟! فجعل ليست دائماً بمعنى خلق، قد تكون بمعنى صير، فكانت حجته قوية، ثم قال له المعتصم: ناظروه وكلموه، يا عبد الرحمن كلمه! فقال: ما تقول في القرآن؟ قلت: وما تقول أنت في علم الله؟ فسكت، فقال لي بعضهم: أليس قد قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] والقرآن أليس شيئاً؟! قلت: قال الله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف:25] أفدمرت كل شيء موجود؟ ما دمرت إلا ما أراد الله، فقال بعضهم: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء:2] أفيكون محدثاً إلا وهو مخلوق؟ فقلت: قال الله: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1] فالذكر المقصود به القرآن فيه ألف ولام وتلك ليس فيها ألف ولام، والمقصود بمحدث يعني لأنه كان ينزل حديث عهدٍ بربه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر بعضهم حديث عمران بن حصين عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الذكر) فقال الإمام أحمد: هذا خطأ حدثنا غير واحد: (إن الله كتب الذكر) انظر حتى يكتشف التحريفات، يحرفون الأحاديث، ولكن يقول: هذا خطأ، الصحيح: (إن الله كتب الذكر) واحتجوا بحديث ابن مسعود: (ما خلق الله من جنة ولا نار ولا سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي) وهذا طبعاً حديث موضوع فبينه لهم وهكذا قال صالح: جعل ابن أبي دؤاد ينظر إلى أبي كالمغضب، قال أبي وكان يتكلم هذا فأرد عليه، ويتكلم هذا فأرد عليه، فإذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فيقول: يا أمير المؤمنين! هو والله ضال مضل مبتدع -يعني: لما يفحمهم الإمام أحمد يطلع رئيسهم ويقول: هذا ضال وما عندهم إلا هذه الكلمة، وهذه حال بعض الناس، تناقشه وترد عليه وإذا أفحمته، قال: أنت غلطان أنا لا أسمع منك، أنت على باطل أنت كذا، وما عنده حجة، اتهامات فقط حتى يسكت- وكلما ناظروه يقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله حتى أقول به، حتى قال أحمد بن أبي دؤاد: أنت لا تقول إلا ما في الكتاب والسنة؟ -يعني يريد ابن أبي دؤاد أن يقول: ما عندك إلا الكتاب والسنة ما عندك غيرها؟ وكان يبصر الناس بالحق ويثبتهم عليه، سمعت ابن أبي أسامة يقول الراوي: حكي لنا أن أحمد قيل له أيام المحنة: يا أبا عبد الله! أولا ترى الحق كيف ظهر عليه الباطل؟ قال: كلا، إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل القلوب من الهدى إلى الضلالة، وقلوبنا بعد لازمة للحق -يعني: هذا الظهور لأهل البدعة ظهور ظاهري في قضية السلطة والسلاح، لكن ما زالت القلوب مطمئنة بذكر الله، فإذاً ما ظهر الباطل على الحق-.(292/24)
موقف الإمام من فتنة السراء
وأما موقفه من فتنة السراء لما أعطوه الأموال في عهد المتوكل، رفع المحنة المتوكل وأغدق على الإمام أحمد الأموال، فبكى الإمام أحمد وقد وجه إليه بمائتي دينار، وقال: سلمت منهم -طول المدة الماضية- حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم، عزمت عليك أن تفرقها غداً، فلما أصبح جاءه حسن بن البزار فقال: جئني يا صالح! بميزان وجهه إلى أبناء المهاجرين والأنصار وإلى فلان حتى فرق كل المال الذي أتاه، يقول ابنه: ونحن في حالة الله بها عليم.
وأعطي ثياباً فجعل يبكي ويقول: سلمت من هؤلاء منذ ستين سنة، حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم، وما أحسبني سلمت من دخولي على هذا الغلام فكيف بمن يجب علي نصحه، يا صالح! وجه هذه الثياب إلى بغداد تباع ويتصرف بثمنها، ولا يشتري أحد منكم منها شيئاً، فباعها وتصدق بثمنها.
وكان مع ذلك يخرج ويرابط، ولما صارت المحنة قالوا لـ أبي عبد الله: التقية، شرع الله التقية فقال: ما تقولون في حديث خباب؟ (إن من كان قبلكم كان ينشر بالمنشار لا يصده ذلك عن دينه) وقال: لست أبالي بالحبس ما هو ومنزلي إلا واحد، ولا قتلاً بالسيف إنما أخاف فتنة السوط فأتراجع.
فسمعه بعض أهل الحبس، فقال: لا عليك يا أبا عبد الله، فما هو إلا سوطان ثم لا تدري أين يقع الباقي.
فكأنه سري عنه وانبسط، يعني: ما دام أنه سيغيب عن الوعي بعد السوطين يتحمل السوطين وخلاص.
وكان قد استفاد من أحد السراق كان محكوماً عليه عند المعتصم بالسجن وكان يضرب، فقال: يا أحمد! إني أصبر على الضرب وأنا على الباطل، أفلا تصبر عليه وأنت على الحق؟! فقال الإمام أحمد: فثبتني كلامه.
الآن تصور كم الناس الذين اهتدوا في السجن على يد الإمام أحمد؟! جلس في السجن يصلي بالناس ويعلمهم.(292/25)
وفاة الإمام وعظمة جنازته
وختاماً أيها الإخوة: فإن الإمام أحمد رحمه الله في سنة (241هـ) أصابته الحمى، وصار يتنفس تنفساً شديداً، وكان ولده يمرضه فقال يوماً لولده: خذ بيدي، فأخذ بيده، فلما صار إلى الخلاء ضعف وتوكأ عليَّ، وكان يختلف إليه غير متطبب، ووصفت له وصفات، ثم بعد ذلك صار الناس يأتون إليه فيدخلون عليه أفواجاً حتى يملئوا الدار، فيدعون له ويخرجون، ويدخل أفواجٌ آخرون، وجاء رجل لنا قد خبض -يعني بالحناء- فقال الإمام أحمد وهو يحتضر: إني لأرى الرجل يحيي شيئاً من السنة فأفرح به.
واشتدت علته يوم الخميس ووضأته فقال: خلل الأصابع.
انظر ما نسي السنة وهو على فراشه، قال: خلل الأصابع، فلما كانت ليلة الجمعة ثقل وقبض صدر النهار، والذي يموت يوم الجمعة من أهل الصلاح ماذا له؟ يؤمن من عذاب القبر كما ورد في الحديث الصحيح، فلما مات صاح الناس وعلت الأصوات بالبكاء حتى كأن الدنيا قد ارتجت، وامتلأت السكك والشوارع، وصلى عليه الناس، وحزر الذين صلوا على الإمام أحمد ما بين سبعمائة ألف وألف ألف وستمائة ألف، اختلفت الإحصائيات، وهذا غير الناس الذين صلوا على ظهور السفن على شاطئ بغداد، وحتى بلغ الزحام أن الناس قد فتحوا بيوتهم للذين يريدون أن يتوضئوا لصلاة الجنازة، وتعطلت الأسواق ب بغداد، وأغلقت الدكاكين، واجتمع الناس من كل حدب وصوب، فصلوا عليه، اجتمعوا في فلاة فصلوا عليه فتقدم فجأة واحد من أعوان السلطان أمير البلد ليصلي حتى يظهر أمام الناس، والناس ما دروا من الذي كبر، فلما درى الناس بعد ذلك ذهبوا إلى المقبرة فأعادوا الصلاة أفواجاً، انظر ثقة الناس بالإمام أحمد ونصرتهم لماذا؟ لأن الإمام أحمد هو الذي علمهم بنفسه كيف ينفروا من الظلمة.
وقال أحمد قبل أن يموت رحمه الله: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز.
وفعلاً صار يوم موت الإمام أحمد آية من آيات الله البينات.
يقول عبد الوهاب الوراق: ما بلغنا أن جمعاً في الجاهلية ولا الإسلام شهد الجنازة مثل جنازة أحمد، حتى بلغنا أن الموضع مسح وحزر على الصحيح فإذا هو نحو من ألف ألف، وأظهر الناس في جنازة الإمام أحمد السنة والطعن على أهل البدع، فسر الناس بذلك والمسلمون على ما عندهم من المصيبة لما رأوا من علو الإسلام.
قال الذهبي رحمه الله: وكذا استفاض وثبت أن الغرق الكائن بعد العشرين وسبعمائة بـ بغداد عام على مقبرة أحمد وأن الماء دخل في الدهليز علو ذراع ثم وقف بقدرة الله وبقيت الحصر حول قبر الإمام بغبارها، هذا الإمام الذهبي يقول: وكذا استفاض وثبت، لما جاء الطوفان في بغداد وقف عند مقبرة أحمد حولها الماء وهي ما جاء لها الماء، وبقيت بغبارها، كرامة من الله لهذا الرجل.
وختاماً أيها الإخوة! فإن دراسة سير هؤلاء العلماء الأجلاء يطمئنك أن الله يقيظ لهذا الدين من ينصره، وأنه مهما كان ليل الجاهلية فإن الله يظهر أقواماً يقيمون هذا الدين.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم وابعث في المسلمين من يجدد لهم دينهم، ويعيدهم إلى الملة السمحاء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(292/26)
عقيدتنا
تحدث الشيخ في خطبته عن عدد من الأمور المتعلقة بالعقيدة، من حيث أثرها على حياة الفرد المسلم، مبيناً أن العقيدة كاملة لا تحتاج إلى بدعة العصرنة المزعومة، ثم قام بعرض جملة من الأصول الواجب على المسلم أن يعتقدها ويدين الله عز وجل بها.
وفي خطبته الثانية تكلم عن الواجب الذي أهملناه تجاه عقيدتنا، من تعليم الناس لها، وتبليغ الناس الدعوة، ونشر دين الله في الأرض.(293/1)
العقيدة وأثرها على حياة المسلم
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: لا بد أن يعلم المسلم عقيدته التي جاء بها القرآن الكريم وجاءت بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
هذه العقيدة التي يعتقدها القلب وينعقد عليها.
هذه العقيدة التي يقاتل من أجلها المسلمون.
هذه العقيدة التي تحميهم من الانحرافات.
هذه العقيدة التي يوالى من أجلها، ويعادى من أجلها.
هذه العقيدة التي لما خفيت أمورها؛ صرت تجد من كل حدب وصوب سهاماً طائشة أو مستهدفة لدين الإسلام وللمسلمين.
أيها الناس! أيها المسلمون! لا بد أن نعلم أن مصدر هذه العقيدة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع سلفنا الصالح.
هذه العقيدة موجودة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما صح منها يجب قبوله.
هذه العقيدة مرجع فهمها إلى الكتاب والسنة والنصوص الشرعية الواردة فيهما، وفهم السلف الصالح رحمهم الله، هذا الفهم الذي يحمينا عن الأخذ بكل فهم جديد، فإذا أردت معرفة شيء عن الإسلام فاقرأ ماذا قال السلف والعلماء الثقاة الذين يسيرون على نهجهم، فإنك تترك بذلك كل انحراف يمكن أن يأتيك.(293/2)
بدعة عصرنة الإسلام
أيها المسلمون: هذه العقيدة تضبط أفهامنا، تضبط مفاهيمنا وتصوراتنا، وعندما نقول: إن المرجع في فهم الكتاب والسنة هو النصوص المبينة لها وفهم السلف الصالح، فإننا بذلك نقطع الطريق على دعاة التجديد للإسلام بزعمهم، الذين لا يريدون إحياء ما اندرس كما هو معنى التجديد، وإنما يريدون تغيير الحقائق وقلب الأمور، يريدون الإتيان بأشياء جديدة بزعمهم، ولذلك فإن كل من حرم شيئاً أحله الله، أو أحل شيئاً حرمه الله، أو جاء بكلام يخالف فهم علماء الأمة، وفهم سلفها، فإننا نرده عليه.
وأنت ترى من ذلك الكثير في الواقع ممن يحلون على سبيل المثال: الفوائد الربوية، التي سموها فوائد، والتي حرمها الله ورسوله، ويضعون فهماً جديداً لنصوص الكتاب والسنة، لم تأت به الشريعة، ولم يقله أحد من علماء السلف، ولا من العلماء الثقاة، فيقولون على سبيل المثال: إن الربا الذي حرمته الشريعة هو ما كان بين الغني والفقير، وأما إذا كان بين غنيين أو أنه يقبضه كجزء من الأرباح التي ينمي المال بها صاحب المال الذي اقترضه أو استودع عنده، هذه الأفهام الجديدة ما الذي يحمي المسلم من عدم الركون إليها والانخداع بها، إنه الفهم الصحيح الناتج من تفسير الكتاب للكتاب، ومن تفسير السنة للكتاب، ومن كلام أهل العلم، فاحذروا يا أيها المسلمون كل جديد على الكتاب والسنة، أي أنه مبتدع، ولا يغرنَّكم تلك الأقاويل والأراجيف.
ولا يعارض الكتاب والسنة بأفهام أناس يريدون عصرنة الإسلام بزعمهم، ويريدون تطوير الشريعة بكذبهم على الله ورسوله، وكثير مما يكتب في الجرائد والمجلات الآن في هذا الوقت هو من هذا الباب، فارجعوا إلى تفسير السلف رحمهم الله للكتاب والسنة، لا عليكم من هؤلاء الجدد الذين يريدون إدخال البدع في دين الله.(293/3)
من أصول عقيدتنا(293/4)
التسليم لله ولرسوله ظاهراً وباطناً
فلا يعارِض المسلم شيئاً من الكتاب ولا من السنة لا بأقيسة عقلية ولا بقول شيخ أو كشف أو ذوق ونحو ذلك، ولا يكون المرجع إلا إلى الله ورسوله، وكلام العلماء الثقاة، وكلام السلف لا نعترض ولا نخصص شيئاً عممه الله ورسوله أبداً.
أيها المسلمون: إن الدين كامل ولا يجوز لأحد إحداث شيء فيه، ومن أحدث فيه فقد ابتدع وأمره عليه رد.(293/5)
النقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح
من أصول عقيدتنا: أن نصوص الكتاب والسنة لا يخالفان العقل الصريح الصحيح أبداً، ولذلك فلو جاء متهافت فقال: إن عقلي لا يقبل هذا النص من القرآن أو من السنة، ولو كان في صحيح البخاري قلنا له: اخسأ فلن تعدو قدرك، وأمرك مردود عليك، يا صاحب العقل المريض.
كثير من الذين يكتبون الآن يكتبون بهذا الدافع، ويقولون: لا يمكن عقلاً أن يكون معنى الآية كذا، لا يمكن عقلاً أن يكون الحديث صحيحاً، إن هؤلاء يفترون على الله الكذب فاحذروا منهم معشر المسلمين.(293/6)
الالتزام بالألفاظ الشرعية
من أصول عقيدتنا: الالتزام بالألفاظ الشرعية وتجنب الألفاظ البدعية، فدعوا ما استحدثه العوام من الألفاظ المخالفة للكتاب والسنة، وتجنبوا رحمكم الله الألفاظ التي توهم حقاً وباطلاً في نفس الوقت، واحرصوا على الألفاظ الواضحة التي لا لبس فيها ولا غموض.(293/7)
العصمة للرسول في التبليغ
من أصول عقيدتنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم في تبليغ الوحي، لا يمكن أن يخطئ في تبليغه، وأن ربه أمره بالتبليغ، وتوعده إذا لم يبلغ، وأن آحاد الأمة لا عصمة لواحد منهم فلا يوجد إنسان معصوم في أقواله الدينية، وآرائه الشرعية إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة، ولذلك فإننا نعلم أن الأئمة قد يخطئون ولكننا نعذر المخطئ باجتهاده ونرجو له أجراً عند الله، ونتبع المصيب باجتهاده ونرجو له أجرين عند الله.(293/8)
في هذه الأمة أناس ملهمون
من أصول عقيدتنا: أن في هذه الأمة أناس ملهمون يريهم الله الحق عند اشتداد الأمور، لهم فراسة لكن من هم؟ إنهم الصالحون الذين يظهر على أقوالهم التمسك والرجوع إلى الكتاب والسنة، ويظهر على أفعالهم الالتزام بالكتاب والسنة، هؤلاء الذين لهم عبادة وورع وصلاح وتقوى، لم تشغلهم الدنيا ولم تلههم عن ذكر الله وإقامة الصلاة.(293/9)
الحذر من البدع
من أصول عقيدتنا أيها المسلمون: أن نحذر من البدع، وأن نرد على البدعة ببيان السنة، وألا نرد على البدعة بالبدعة، ولا نقابل الانحراف بانحراف مثله، ودع قول من قال: إن هذه بدعة حسنة، فليس في الإسلام بدعة حسنة، قال صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) فيا أيها الناس! لا تغرنكم هذه الفكرة الشيطانية التي يأتي بها إلى الشيطان الرجيم عقول بعض الناس.
فإذا نصحه ناصح قال: هذا أمر حسن، لا أريد إلا الإصلاح، نقول له: يجب أن يكون طريقك لتحقيق الهدف الطيب وسيلة طيبة أيضاً، فإن طيبة الهدف لا يشفع لك في أن تكون وسيلتك غير شرعية.(293/10)
الإيمان بأسماء الله وصفاته
أيها المسلمون: من أصول عقيدتنا: الإيمان بأسماء الله وصفاته، وعدم التلاعب بها أو تحريفها، ومعرفة المعاني والتطبيق، فلا يكفي فقط العلم، فإذا لم يعمل الإنسان المسلم بمعنى كلمة الرزاق مثلاً وصار يقول ويعتقد أن فلاناً يقطع رزقه، أو أن فلاناً يقطع رزق فلان، وهكذا دل ذلك على أنه لا يعلم معنى كلمة الرزاق.
وإذا كان يخشى من عدو دنيوي يظن أن بإمكانه أن يقول للشيء كن فيكون، فهذا يعني أنه ما فقه معنى كلمة البارئ ولا الخالق ولا أن الله على كل شيء قدير.(293/11)
الإيمان بانقطاع الوحي
ومن أصول عقيدتنا أيها المسلمون: الإيمان بانقطاع الوحي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وأن من ادعى خلاف ذلك فهو كافر، فلا نقبل شيئاً جاء من غير طريق الوحي كما عليه بعض أئمة الضلال من الزعم بأنه قد جاءتهم نصوص جديدة بعد الوحي من طرق أو أئمة علويين كما يقولون.(293/12)
الإيمان باليوم الآخر
ومن أصول عقيدتنا: أن نؤمن باليوم الآخر إيماناً يدفعنا إلى العمل ويمنعنا من الوقوع في المحرمات، إيماناً نشعر به أن عذاب القبر وفتنته حق، فنتوقى أسباب عذاب وفتنة القبر.
وإيماناً نعلم به أن الحشر والحساب حق، فنتوقى الأشياء التي سوف تهلكنا يوم الحساب.
إيماناً باليوم الآخر يشعرنا أن الجنة والنار حق، فنسعى لكل أمر يدخلنا الجنة ونتجنب كل أمر يوصلنا إلى النار.
هذا الإيمان باليوم الآخر الذي فقد طعمه اليوم لدى الكثير من المسلمين.
فقد طعمه، فإذا ذكرت الجنة أو النار لم تتحرك القلوب.
فقد طعمه فإذا ذكرت الشفاعة لم تهف إليها النفوس.
تجمدت القلوب فإذا ذكر الحوض لم تتطلع إليه النفوس.
فإذا ذكر تطاير الصحف! وتفصيلات المحاسبة! ودنو الشمس من الخلائق! وظل الرحمن! لم تتشوق القلوب إلى هذا الظل ولم تخش النفوس تلك الشمس الساطعة بإحراقها فوق الرءوس.
إن هذه المعارف الباردة لا يمكن أن تغير واقعاً، ولذلك لم يكن لمعاني نصوص اليوم الآخر الأثر المطلوب في نفوس المسلمين.(293/13)
الإيمان بالقدر خيره وشره
من أصول عقيدتنا: أن نؤمن بقدر الله خيره وشره، وأن كل شيء يحدث بإذن الله سبحانه، وأنه لا يوجد هناك شر محض لأفعاله، ومهما كان الشر قد حصل فله جوانب خير.
ولذلك: تفيد هذه النقطة في إقناع اليائسين الذين لما رأوا تواصل الأحداث وجريان الأمور قالوا: لا قائمة للإسلام، لقد سيطر الكفر ولا أمل، نقول: أيها اليائسون المثبطون! لا بد أن تعلموا أن كل قضاء حدث ففيه خير من وجه من الوجوه، وإن كنا قد لا نفهمه أو لا نستوعبه الآن، لكن ستظهر الأيام أن فيما حصل خير للإسلام والمسلمين.
بعض الناس يظنون أن المسألة شر محض، نقول لهم: كلا ليس من عقيدتنا أن هناك في أفعال الله وقدره شر محض.
مهما حصل من نكبات للمسلمين ومن نكسات للمسلمين، فهناك خير ما موجود في هذه الأحداث: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88] ولا بد أن نعلم أن قدر الله عجيب في خلقه، وأن الناس تأتيهم أشياء من حيث لا يحتسبون، ولذلك أيها الإخوة فإننا لا نجزع ولا نيأس عند حصول أي أمر من الأمور، نواصل طريقنا ودربنا مهما أرجف المرجفون، ومهما خوف المخوفون، لكن المهم أن نموت على العقيدة الصحيحة وعلى الطريق الصحيح.
هب أن الدنيا أظلمت في أعين المسلمين المخلصين الصادقين.
هب أن النصر تباعد بمزيد من سيطرة الكفرة.
فإنه يكفينا أن نموت على المنهج الصحيح، وأن نعلم أن المهم هو انتصار المبادئ أكثر من الانتصار بالأشياء الأخرى، ألم يأتك نبأ أصحاب الأخدود، ألم يأتك نبأ المجتمع المسلم الصغير الذي أحرق أصحابه بالأخاديد، هل انتصروا بقوة السلاح؟ كلا.
لأنهم أحرقهم الملك الكافر في الأخاديد كما في قصة أصحاب الأخدود في سورة البروج، والحديث الصحيح الذي جاء في تفسيرها، ورواية القصة، فإذاً من الذي انتصر؟ انتصرت المبادئ، يكفيهم أن ماتوا على الملة الصحيحة وعلى العقيدة الصحيحة، وأي نصر أكبر من هذا؟! ولذلك فإننا نناشد نفوس هؤلاء الذين حصل عندهم كثير من اليأس والقنوط، نقول لهم: تمهلوا تمهلوا يا عباد الله، يكفيكم أن تعبدوا الله كما أمر، وتدعوا إلى الشريعة، وتموتوا على ذلك، مرابطين في المنافحة عنها، فتفوزوا بجنة عرضها السماوات والأرض، فماذا تريدون أكثر من ذلك؟ وإذا جاء نصر الله في المستقبل، فالحمد لله هذه البشرى الثانية والحسنى الثانية: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13].(293/14)
الإيمان بالغيب
ومن أصول عقيدتنا: أن نؤمن بالمغيبات ولا ننكرها، ولا نقف إثر الزاعم الذي يقول: شيء لا أراه لا أؤمن به.(293/15)
صرف العبادة لغير الله شرك
ومن أصول عقيدتنا: أن صرف نوع من العبادة لغير الله نوع من الشرك، وأن هذا الشرك قد يكون شركاً أكبر أو شركاً أصغر بحسب حال هذا المشرك، فمنهم من يشرك في بعض الألفاظ شركاً أصغر، ومنهم من يشرك بها شركاً أكبر حسب حالهم والله حسيبهم.
والواجب تغيير ذلك، وألا تكون هذه كلمة، والمهم الفعل، وكون الكلمة والمظهر والفعل والظاهر والباطن اهتمت بها الشريعة، فلا بد من إنكارها.(293/16)
الحكم لله وحده
من أصول عقيدتنا: أن نعلم أن الحكم لله، وأن الحكم بغير ما أنزل الله كفر أكبر إذا اعتقد صاحبه أنه يجوز العدول عن شرع الله، أو أخذ شرعاً غير شرع الله، أو أن شرع غير الله أحسن من شرع الله، أو أن شرع غير الله مثل شرع الله، أو أن شرع الله أحسن لكن يجوز الأخذ بذاك، أو أن شرع الله أحسن ولكن يجوز الأخذ بالقوانين الوضعية، من اعتقد ذلك كفر كفراً أكبر وصار خارجاً به عن ملة الإسلام.(293/17)
الغيب لله وحده
أيها المسلمون: من أصول عقيدتنا: الاعتقاد بأن الله وحده يعلم الغيب، وأنه قد يطلع بعض خلقه على الغيب كالأنبياء، ولذلك لا يجوز الذهاب إلى المنجمين أو الكهان، لا يجوز إتيانهم كما يفعل كثير من الناس؛ يسافرون إلى الدول القريبة والبعيدة من أجل أن يأتي كاهناً أو عرافاً فيسأله أو يصدقه أو يعمل بقوله، ويقول لك: جربنا القرآن ما نفع، ذهبنا إلى الشيوخ ليقرءوا ما نفع، لا بد من الحل الأخير أن نذهب إلى هؤلاء.
اتق الله، اعتبره ابتلاء من الله، تخسر عقيدتك من أجل هذا الأمر، اعتبره ابتلاء واصبر عليه إذا لم ينفع بزعمك، مع أن الغالب أنه ينفع لكن متى؟ إذا استخدم بالطريقة الصحيحة.(293/18)
التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته
من أصول عقيدتنا: أننا نتوسل إلى الله بأسمائه وصفاته، ولا نتوسل إلى الله بذوات الأنبياء ولا نقول: بجاه نبيك اغفر لنا، ولا نقول: بحق الولي الفلاني افعل لنا كذا وكذا، ولا بحرمة نبيك أعطنا كذا وكذا، هذا من التوسل البدعي وقد يكون شركياً إذا نادى الأموات وطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله.(293/19)
البركة من الله
ومن أصول عقيدتنا: أن البركة من الله يختص بها من يشاء من عباده، وهي تكثير الخير وزيادته ولزومه وثبوته، فلا ندعي ببركة أشياء لم ترد الشريعة ببركتها، ونعتقد ببركة الأزمنة التي جاءت الشريعة ببركتها كليلة القدر، وببركة الأمكنة التي جاءت الشريعة ببركتها كالمساجد الثلاثة، وفي الأشياء التي جاءت الشريعة ببركتها كماء زمزم، وفي الأعمال التي جاءت الشريعة ببركتها كالأعمال الصالحة، وفي الأشخاص المباركين كالأنبياء، ولا يجوز التبرك بهم إلا بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره، وبما أن آثاره قد انقطعت وخفيت فلا يجوز التبرك بشيء من ذلك الآن.
أما على عهده صلى الله عليه وسلم كان التبرك ببصاقه ووضوئه وشعره ولباسه حاصلاً، أما الآن وقد خفيت فلا يجوز لأحد أن يتبرك بشيء يزعم أنه من آثاره صلى الله عليه وسلم، كما هو شأن الصوفية الضلاَّل، يضع أحدهم يده على لحيته المزعومة، ثم يمسحها ليخرج منها شعره يعطيها لواحد يضعها في فنجان بماء فيشربه، لأنه يقول: هذا من السلالة النبوية، يستشفي بريقه وشعره ونتبرك بتمسيحه، فليس من ديننا ولا من عقيدتنا هذا الأمر.(293/20)
عدم الابتداع عند القبور
ومن أصول عقيدتنا أيها الإخوة: عدم الإتيان بالأمور المبتدعة والشركية عند القبور، نزورها ونتذكر الآخرة ونسلِّم على أهلها وندعو لهم، أما أن نقصد التبرك بها وإهداء الثواب عندها، والبناء عليها، وتجصيصها واتخاذها مساجد، وشد الرحال إليها، فهذه بدعة تنافي كمال التوحيد، وإذا صرف شيء لصاحب القبر صار شركاً بالله تعالى.(293/21)
الإيمان قول وعمل يزيد وينقص
ومن أصول عقيدتنا: أن الإيمان قول وفعل، يزيد وينقص، ولا يمكن أن يكون الإنسان عاصياً مقيماً على المعاصي وإيمانه كامل أبداً.
وبذلك نتجنب المزالق التي أرادت المرجئة أن توقع الأمة فيها عندما قالوا: إن إيمان العاصي مثل إيمان الطائع، وإن الإيمان في القلب فقط، ولا يحتاج إلى أعمال، فظهرت عندكم هذه النماذج المشوهة التي ترونها في المجتمع، تعصي الله وتقول: نحن مؤمنون بقلوبنا، تعصي الله وتقول: متكلون على رحمة الله ومغفرته، تعصي الله وتفعل وتفعل ويقولون: نحن نقول: لا إله إلا الله، وهم لا يفهمون أو يفهمون ويغالطون أنفسهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] الإيمان: قول وعمل، والعمل يؤكد صحة القول، إذا ادعيت أن في قلبك إيماناً فهات الدليل على ذلك: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31].
إن أصول عقيدتنا أيها المسلمون ثابتة ولله الحمد، تحمينا من الوقوع في انحرافات كثيرة، فينبغي على المسلمين أن يعلموا ما هي عقيدتهم، وأن يدعوا الناس إلى التمسك بهذه العقيدة، وأن يلتزموا بها قولاً وعملاً وأن يجتمعوا عليها فقط، لا يدخلوا فيها أجنبياً ولا غريباً، وأن يحذروا ممن يتشدقون بالتمسك بالعقيدة وليسوا من العقيدة في شيء، فأرونا الأعمال التي تبين وتثبت أن العقيدة عمل قلبي يؤدي إلى عمل الجوارح في الواقع، وإلا فإن العقيدة منخورة مشوشة، لا حقيقة للقائل بها.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم، أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يقيمنا على الملة الحنيفية، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(293/22)
تقصير المسلمين تجاه عقيدتهم
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، سبحانه وتعالى لا إله غيره، ولا مالك إلا هو، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة.
أيها المسلمون: من واجباتنا التي قصرنا فيها: الدعوة لهذه العقيدة والالتزام بها، ونشرها بين الناس، والتزامها قولاً وعملاً لنكون قدوات تدعو إليها.
كثير من الناس في العالم لا يعلمون عن الإسلام شيئاً، وقد يكون هؤلاء من أقرب الناس إليك، فما هي الجهود التي بذلناها من أجلهم، يوجد مسلمون في العالم لا يعلمون عن الإسلام إلا أشياء طفيفة.
وبعد كل عطلة يسافر فيها أناس إلى بلدانهم أو بلدان أخرى، وتقابل بعضهم إذا رجعوا يقولون لك: إن الناس في تلك البلدان مساكين، فلا يعرفون عن الإسلام إلا أشياء بسيطة جداً، ويقعون في منكرات وترهات لجهلهم بها.
أُتي المسلمون من داء اليهود والنصارى، فداء اليهود علموا الحق ورفضوه، وداء النصارى أضلهم الله فجهلوا فوقعوا بجهلهم فيما حرم الله، نفس الأدواء هذه الموجودة بين المسلمين الآن إنسان يعرف الحق فيرفضه، أو إنسان جاهل فيقع في الحرام بجهله، ما هو واجبنا أيها المسلمون؟ والله عندما نسمع أخبار المسلمين في العالم المفروض أن يستشعر المسلم المسئولية على الأقل في واجبه نحو المسلمين في كل مكان، وأن يحاول بأي طريق أن يهدي أولئك الناس الذين ضلوا أو جهلوا، ونحن الآن نشهد عودة عالمية للإسلام، وما أدراك ما يحدث اليوم في الجمهوريات الروسية التي يقتل فيها المسلمون؟ فيها مسلمون ما هي أحوالهم وقد قطعوا عن العالم الإسلامي عشرات السنين.
قبل ثلاث جمع في بلاد القرن من بلاد روسيا، أقيمت لأول مرة صلاة الجمعة في ذلك المكان، قبل ثلاث جمع من الآن أقيمت صلاة الجمعة لأول مرة في ذلك المكان، ووقف شيخ يعلم الناس الصلاة -في مسجد فتح الذي بناه أجدادكم- فازدحموا عليه، وفتحت النوافذ الجانبية في المساجد وأطلوا ليعرفوا كيف الصلاة، ما يعرفون الصلاة، والآن يتعلمون ما هي الصلاة، إسلام بالاسم، والآن عودة إلى الهوية الأصلية التي كانت مفقودة يريدون العودة.
وفي مدينة تيرانا عاصمة ألبانيا أقيم في مسجد كان مغلقاً مترباً صلاة الجمعة منذ فترة وجيزة جداً لأول مرة منذ سبعين عاماً، في ميدان مشهور في العاصمة التي أغلب الناس فيها مسلمون، أكثر من تسعين في المائة، ثمانية وتسعون في المائة منهم مسلمون في الأصل، والآن تقام صلاة الجمعة لأول مرة منذ سبعين عاماً.
وقف شيخ مسن طاعن في السن يبكي لذلك المشهد عند سماع نداء صلاة الجمعة وهو يقول: الحمد لله الذي أحياني -عمره أربع وتسعون سنة- الحمد لله الذي أحياني هذه الحياة، لأرى وأسمع هذا النداء بعد سبعين عاماً، سمعته منذ كان عمري أربعة عشر عاماً آخر مرة، والآن عمري أربعة وتسعون سنة، الآن أسمع النداء بعد ذلك الوقت وقد كان عمري أربعة عشر، والآن أسمع النداء بعد سبعين عاماً في هذا المكان، من هو المسئول أيها الناس؟ من هو المسئول؟ ماذا سيكون جوابنا لرب العالمين عندما يسألنا عن الشريعة التي أضعنا معانيها، والجهل في كل مكان، وفي أقرب الناس إليك أناس يجهلون الإسلام، ويجهلون أحكامه، من المسئول عن هذه القضية؟ ويا ترى ما هي الأشياء التي قمنا بها في بيوتنا، وأقربائنا، وجيراننا، يوجد أناس يجهلون أشياء كثيرة عن الصلاة، وأحكام الإسلام.
من المسئول عن تعليمهم؟ ليس هناك هيئة عامة مختصة عليها الإثم والوزر، نحن المسئولون عن هذا التخلف وعن هذا الجهل.
ألم يقل نبيكم: (بلغوا عني ولو آية) أين الآية التي بلغناها؟ (بلغوا عني ولو آية) نحن دعاة وكلنا دعاة، كلنا رجال لهذا الدين نبلغه، (بلغوا عني ولو آية) ما هي الآية التي بلغناها؟! كل واحد منا يستطيع أن يبلغ آية، فما هي الآية التي عرفنا معناها وبلغناها يا أيها المسلمون.
احرصوا رحمكم الله على فهم الدين وتطبيقه قولاً وعملاً، دعوا المنكرات وحاربوها، نحن المسئولون عن المنكرات، والمنكرات تعج في الأماكن والأسواق وأنت تراها، بكرة وعشية فماذا فعلنا من أجلها؟ هل ننتظر عقوبة ثانية من الله، ولم تكفنا الدروس العظيمة التي جاءتنا من بين أيدينا ومن خلفنا؟ هل ننتظر عذاباً أشد وعقوبة أعظم؟! واحرصوا على سنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وطبقوا ذلك في كل شيء.
ويسأل بعض الإخوان فيقول: نريد أن نصوم ستة شوال، في بعض الأيام الفاضلة، ليحصل لنا الأجران فهل يحصل لنا الأجران أم لا؟ نريد مثلاً هذا اليوم الإثنين القادم سيكون فاضلاً لأنه يوم إثنين مستحب فيه الصيام وسيكون فاضلاً لأنه أحد الأيام البيض، وسيكون فاضلاً إذا صامه على أنه ستة من شوال مثلاً، فتجتمع فيه ثلاثة فضائل، إن الله واسع الفضل ذو الفضل العظيم، فنعم.
تحسب ولماذا لا تحسب؟ ولكن اعملوا فسيرى الله عملكم، ولذلك فلو صام هذه الأيام الفاضلة على أنها ستة شوال أو غيرها، وصامها وقد أنهى الست وصامها فيحصل له الأجر العظيم إن شاء الله تعالى.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(293/23)
تلبيس إبليس
إبليس وطرق كيده لابن آدم حتى يوقعه في غضب الله ويدخله جهنم والعياذ بالله، هذا الموضوع هو الذي تحدث عنه الشيخ في هذا الدرس، وقد تكلم عن كثير من طرق الشيطان في إضلال الإنسان ومنها: الوسوسة في الطهارة والصلاة محاولة تخويف الشيطان للمؤمنين تزيين الذنوب والمعاصي التسويف إدخال الإنسان في مخادعة الله إلخ.
وبين الشيخ من خلال ذكر المكائد كيفية مواجهة مكائد هذا اللعين؛ لأن كيده في الحقيقة ضعيف.(294/1)
وقفة مع إبليس اللعين
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فقد خلق الله سبحانه وتعالى خلقه، وابتدأ خلق البشر بخلق أبيهم آدم عليه السلام، وكان من خلقه عز وجل الجن ومردتهم الشياطين وعلى رأسهم إبليس لعنه الله، واقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يخلق إبليس ليبلو عباده بهذا الشيطان فينظر كيف يعملون، فمن أطاع إبليس ذهب معه إلى دار العقاب، ومن عصاه نجا بنفسه إلى دار الثواب، ولقد أخذ إبليس العهد على نفسه منذ أن خلق الله أبانا آدم بإضلال البشر وإضلال سلالة آدم عليه السلام، فقال الله سبحانه وتعالى عن هذا العدو الخبيث {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16 - 17] وقال الله سبحانه وتعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ} [النساء:117 - 118] أي إبليس {وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [النساء:118 - 120].
وفي المقابل فإن الله سبحانه وتعالى تكفل من تاب بأن يتوب عليه، ولمن اعتصم به أن ينجيه من شر إبليس، فلم يتركنا هملاً ونهباً للشياطين، وإنما أعطانا من الأسلحة ما ندافع به عن أنفسنا شر هذا الشيطان الرجيم، وقد جاء في الحديث الحسن الذي رواه الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان قال: وعزتك يا رب! لا أبرح أغوي عبادك مادامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب: وعزتي وجلالي لا أزال اغفر لهم ما استغفروني).
ولقد تنوعت طرق إبليس في إغواء البشر وصار يقعد بكل صراط يصد عن سبيل الله من آمن، ويريده أن يعوج، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك فعصاه فأسلم، ثم قعد له في طريق الهجرة فقال له: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، فعصاه فهاجر، ثم قعد له في طريق الجهاد، فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال، فتقاتل وتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال، فعصاه فجاهد، فمن فعل ذلك كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح.(294/2)
الشيطان وكيده لابن آدم
وإذا تأملت -أيها الأخ المسلم- في الأحاديث الصحيحة التي جاءت عن أنواع إيذاء إبليس لبني البشر لوجدتها شيئاً كثيراً جداً، وهاك طائفة منها ملخصة من الأحاديث الصحيحة الثابتة في ذلك: إن الشيطان يحاول أن يأكل مع الإنسان وأن يشرب معه وأن يدخل بيته، ويبيت على خيشومه، ويدخل مع التثاؤب، ويتلعب بابن آدم في منامه، ويوسوس له في صلاته، ويذكره بما يلهيه عنها، ويدفع المار للمرور بين يدي المصلي، ويؤذي الصبيان عند المساء، ويدل الفأرة على السراج فتحرق على أهل البيت بيتهم، ويتخلل صفوف المصلين في الصلاة، ويتخبط الإنسان عند الموت، ويشكك المرء في ربه فيقول له: من خلق الله؟ ويقعد للإنسان بأطرق الخير المختلفة، ويحرش بين المصلين.
ويجري من ابن آدم مجرى الدم، ويزين المرأة في أعين الرجال إذا خرجت، ويدعو للتفرق ويكون مع الواحد ويهيج الغضب ويدعو إلى العجلة، ويسير مع الراكب المنفرد والراكبيْن في السفر، وهو مع من فارق الجماعة، ويسترق السمع لإغواء بني آدم، وينخس المولود فيصيح، ويضر الولد إذا لم يسم أبوه عند الجماع، ويكون على ذروة كل بعير، ويشارك ابن آدم في متاعه الزائد في البيت، ويستحوذ على الثلاثة فصاعداً في أي بلد لا يقيمون فيها صلاة الجماعة، ويكون مع المسافر إذا خلا بالشعر المذموم ونحوه.
ويجلس بين الظل والشمس، ويختلس من صلاة العبد بالالتفات، ويتعاظم إذا سبه ابن آدم، ويحضر البيع، ويعقد على قافية الإنسان ثلاث عقد يخذله عن القيام للصلاة، ويضع عرشه على الماء ويرسل سراياه يفتن الناس، ويدني من فرق بين الرجل وزوجته، وهو السبب في إخراج أبينا آدم من الجنة، لعنه الله وقاتله.
والأبواب التي ينفذ منها الشيطان على ابن آدم كثيرة وللشيطان فيها مراتب يتدرج فيها بالإغواء، فأول ما يهتم من إغواء ابن آدم بإغوائه بالشرك والكفر، ثم إذا لم يستطع فيحاول إغواءه بالبدعة، فإذا لم يستطع يحاول إغواءه بالكبائر بأنواعها، فإن لم يستطع أغواه بالصغائر، فإن عجز أشغله بالمباحات، فإن لم يتمكن أشغله بالمفضول عمن هو أفضل منه، فإن عجز مع ذلك كله سلط على هذا الإنسان المستقيم الرافض لسبل الشيطان سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى ليشوش عليه ويشغله ويحزنه ويخذله ولكن: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27].
نعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم من إغوائه وإضلاله وسُبُلَه، ونعوذ بالله من الشيطان الرجيم من كيده وعدائه لنا.
وفي هذه الليلة -أيها الإخوة- سنتعرض لبعض المكائد من تلبيس إبليس، هذا الكيد الذي يكيد به الشيطان للإنسان له أنواع متعددة وأبواب متفرقة وسنعرض في هذه الليلة -إن شاء الله- لعشر من هذه المكائد، نختصر في بعضها ونتوسع في البعض الآخر، وإن كنا لا نريد الإطالة في هذا الوقت الذي يقصر فيه الليل.(294/3)
تخويف الشيطان للمؤمن
أولاً: من مكائده أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه، يجعل المؤمن يخاف من جند الشيطان، الشيطان يجعل المؤمن يخاف من جند الشيطان وأوليائه، فلا يجاهدهم ولا يأمرهم بمعروف ولا ينهاهم عن منكر، كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران:175] يعني: يخوف المؤمنين من أوليائه، هو من أولياء الشيطان {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175].
ولذلك تجد كثيراً من المخلصين لا يقومون بما أمر الله به من الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الجهاد في سبيل الله، ذلك أن الشيطان عظم في أنفسهم شأن هؤلاء الأعداء والفسقة والمجرمين، الذين يريد أولياء الله أن يدعوهم إلى الله، ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر، ويجاهدون في سبيل الله، ولذلك تجد كثيراً من هؤلاء يحجمون في كثير من الأحيان عن سبل الخير مع هؤلاء الناس؛ لأن الشيطان يخوفهم ويقول لهم: ستقتلون؛ ستسجنون؛ ستؤذون، سيفعل بكم كذا وكذا، فلا يزال يهون شأن الأعداء في نفس المسلم حتى يقعد المسلم عن مقاومة الأعداء.
ويقول له: إن هؤلاء الأعداء كثيرون عدداً أقوياء في العدة لا قبل لكم بمجابهتهم، فيشعر المسلم بالإحباط واليأس فيقعد عن القيام الواجب.
والحقيقة -أيها الإخوة- أن أذى الشيطان في هذا الباب وفي هذا الزمان قد كثر جداً، ولذلك فقد حل اليأس في قلوب وعقول الكثيرين، فلا يريدون أن يقوموا لله بالواجب ويخافون من سطوة أهل الشر، ويخافون من كيد الأعداء والمنافقين في الداخل والخارج، يخاف الواحد على نفسه أو على أولاده أو على وظيفته أو على أمواله، فيقعد بسبب تخويف الشيطان.
وهذا التعظيم من الشيطان لأوليائه في نفوس المسلمين إذا عرف المسلم الصادق حقيقة الأعداء وأنهم جبناء فإنه سيمضي وسيثبت له أثناء هذا المضي أنهم جبناء فلا يخاف منهم ولا يخشى سطوتهم ويستعين بالله عليهم.(294/4)
تزيين الشيطان للذنوب والمعاصي
ومن كيد الشيطان أنه يزين الفعل الضار للإنسان حتى يخيل إليه أنه أنفع الأشياء، وينفره من الفعل الذي هو أنفع الأمور حتى يخيل إليه إنه يضره، فكم جلى الشيطان من الباطل وأبرزه في صورة الحق، وكم شنع الحق وأخرجه في صورة مستهجنة، لقد زين للمشركين عبادة الأوثان وقطيعة الأرحام ووأد البنات ونكاح الأمهات.
لقد زين للقاعدين عن الأعمال الصالحة المتواكلين الذين يظنون أن رحمة الله ستدركهم ولا بد، زين لهم المعاصي والكفر والفسوق والعصيان ووعدهم بجنات عرضها السموات والأرض، وزين ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب التودد إلى الناس وحسن الخلق معهم، وزين ذلك بقوله عز وجل: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة:105] فهو يقول للمسلم إذا أراد أن يتحرك: عليك نفسك لا تتحرك، هذا هو الدليل، وقد زين العشق في قالب الأخوة في الله، وزين وزين من الأمور الكثيرة جداً، فأخرج الباطل بصورة الحق، ويخرج الحق بصورة الباطل، فينصرف كثير من الناس عن الحق بسبب هذا التزيين ويقعون في الباطل بسبب تزيين الباطل.(294/5)
الشيطان يزين للإنسان التفريط أو الإفراط في أوامر الله
ومن كيد الشيطان أنه يتحسس نفس الإنسان وهذا من خبثه وكيده ليعلم هذا الشخص إلى أي الأمرين هو أقرب إلى الإقدام أو الإحجام، وإن نفوس الناس طبائع، النفوس بين هذين الأمرين، بعض النفوس مقدمة تحب الإقدام، وبعض النفوس محجمة تتراجع، والشيطان يتحسس طريقه ويتلمسه في نفس ابن آدم لينظر أهو من النوع المقدم أو من النوع المحجم، فإذا رأى الغالب على النفس الإحجام زاد في تثبيطها وتخذيلها وإضعاف همتها، وثقَّل عليها الأوامر، وهون عليها ترك هذه الأشياء من الواجبات التي أوجبها الله والتقصير فيها، وإذا رأى في المقابل أن النفس تريد الإقدام وتحب المضي، وعلو الهمة أخذ يقلل الأمور على صاحبها ويقول: إنما تفعله قليل لا بد أن تزيد، ويوهمه أن ما يفعله لا يكفيه، وأنه يحتاج إلى الزيادة، فماذا يفعل العبد، يقع في البدعة.
يقول له: إن هذه الأعداد التي جاءت في الصلوات والتسبيحات وغيرها من أنواع العبادات هذه أشياء قليلة عليك، أنت صاحب مطامح صاحب همة عليا، لا بد أن تزيد، لماذا ترمي الجمرة سبعاً؟ ارم تسعاً عشراً، وهكذا، فيدخل عليه عندما يحس أنه يحب الزيادة والإقدام من هذا الباب فيوقعه في البدعة.
ولذلك يقول بعض السلف: ما أمر الله سبحانه بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان إما إلى تفريط وتقصير وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر؛ لأنه سيحقق هدفه في الحالتين، فهلك الناس بين التفريط وبين الغلو إلا من عصم الله من المؤمنين الذين اعتصموا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هلك الناس في وادي التقصير وفي وادي المجاوزة والغلو، وثبت القليلون على الأمر الوسط، سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإليكم أمثلة: فقد دفع بعض الناس إلى التقصير بواجبات الطهارة، فترى أحدهم لا يستتر من بوله مثلاً، ولا يتعاهد المرفقين والكعبين عند الوضوء، وجاوز بقوم الحد فوقعوا في الوسوسة، وقصر بقوم في تناول ما يحتاجونه من الطعام والشراب حتى أضروا بأبدانهم، وتجاوز بقوم حتى أخذوا فوق الحاجة فأضر بقلوبهم وأبدانهم، وقصر بقوم في خلطة الناس، حتى اعتزلوهم في الطاعات كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلم العلم، وتجاوز بقوم حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام، وقصر بقوم حتى امتنعوا عن ذبح عصفور أو شاة ليأكلوها، وتجاوز بآخرين حتى جرأهم على الدماء المعصومة.
وقصر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذي ينفعهم، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو الغاية دون العمل به، وقصر بقوم حتى أطعمهم من العشب والنباتات البرية زهداً بزعمهم وعبادة دون غذاء بني آدم الآخر، وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص، وقصر بقوم حتى زين لهم ترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم في النكاح فرغبوا عنه بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا أنواع الحرام في هذه المسائل، وقصر بقوم في حق الأنبياء والصالحين حتى قتلوهم، وتجاوز بآخرين في مسألة الأنبياء والصالحين حتى عبدوهم.
وقصر بقوم حتى منعهم قبول أقوال أهل العلم بالكلية وعدم الالتفات إليها قاطبة، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما أحله هؤلاء الرجال، والحرام ما حرموه فقدموا أقوال متبوعيهم على أدلة القرآن والسنة، وقصر بقوم حتى قالوا: إن إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل وهم المرجئة، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة مثل الخوارج، وقصر بقوم حتى نفوا حقائق أسماء الرب تعالى وصفاته وعطلوها، وتجاوز بآخرين حتى شبهوه بخلقه ومثلوه بهم، وقصر بقوم حتى نفوا الأسباب والطباع والغرائز وقالوا: لا وجود لذلك البتة، وتجاوز بآخرين حتى جعلوها أمراً لازماً لا يمكن تغييره بل ربما جعلوها مأثرة بنفسها من دون الله.
فأنت ترى الآن -أيها الأخ المسلم- أن الشيطان إذا رأى الإنسان يريد الإحجام ويميل إلى الدعة والكسل ثبطه وزاد في تكسيله وتثبيطه، فوقع في التقصير وترك الواجبات وفعل المحرمات، وإذا رأى إنساناً يحب الإقدام ويحب العمل دفعه إلى الزيادة ولكن في مجالات بدعية، حتى أوقعه في الغلو ومجاوزة الحد فوقع في محرمات عظيمة من جهة أنه ظن أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يكفيه ولا بد من الزيادة عليه، ووقع في هذا الخطأ كثير من الزهاد، الذين تركوا أموراً من المباحات من أجل العبادة بزعمهم وأن هذه زيادة في العبادة فتركوا النكاح والملذات وصاموا الدهر، وفي الجانب المقابل قعد بكثير من أصحاب الشهوات في مستنقع المآثم والمحرمات فعصوا الله سبحانه وتعالى.(294/6)
تسمية المحرمات بأسماء أخرى
رابعاً: من كيد إبليس وتلبيسه أنه يحمل العبيد على اقتراف المحرمات بطريقة تسمية هذه الحرمات بغير أسمائها، إبليس لما خدع آدم وحواء في الجنة ما هي طريقته في خداعهم؟ لقد سلك عدة سبل، حلف بالله أنه ناصح وأنه يريد لهما الخير، ومن ذلك أنه سمى لهم الشجرة التي نهاهم الله عنها سماها شجرة الخلد: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] هذه الشجرة نهاه الله عنها لكي يوقع إبليس آدم في المعصية غير له اسم الشجرة، قال: هذه شجرة الخلد، فكان هذا من الدواعي إلى وقوع آدم في المعصية والأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها، ويحدث بالضبط من هذا الباب أمور كثيرة، فيسمي الشيطان الأمور المحرمة بأسباب تحبها النفوس.
فيسمى الخمر أم الأفراح والمشروبات الروحية، كما يسميها اليوم شياطين الإنس، وأوقع بعض الخلق في تسمية الربا فوائد واستثمارات أو بيع أو معاملة ونحو ذلك، وفوائد كما يسمونها اليوم في كثير من البنوك التي تحارب الله ورسوله، ودفع أقواماً إلى تسمية المكوس -وهي الضرائب المحرمة قطعاً- إلى تسميتها بالحقوق السلطانية وأن من حقوق أو حق السلطان أن يأخذها، وهي حرام لا يجوز أخذها وهي ظلم للعباد، وسمى الناس الآن الغناء والرقص والطرب فناً وسموا الرشاوي أتعاباً، وهكذا.
فقلب الأسماء التي ذكرها الله بالنص عليها ربا، زنا، خمر، رشوة، هذه أمور قد تتقزز النفوس السليمة من سماعها، لكن الشيطان يوحي إلى أوليائه أن يغيروا أسماء هذه الأشياء، فالبسطاء والسذج من الناس وأصحاب الشهوات وأصحاب الأغراض الدنيئة يعجبهم تغيير الاسم فيقعون في هذا الأمر المحرم، وإذا جئت تناقشهم في الربا يقولون: هذه فوائد استثمار بيع وشراء، والموسيقى والمعازف ونحت الأصنام فنون جميلة هكذا يسمونها.
ولاشك أننا أهل الإسلام لا نرضى بذلك ولا نقره، بل يجب علينا أن نفضحه وأن نبينه وأن نرد على قائله، وأن نقول له: كذبت، الحلال ما حلله الله، والحرام ما حرمه الله، وأن السكر لا ينقلب ملحاً إذا كتبت على كيس السكر: ملح، فإن الجوهر والحقيقة تبقى هي هي، وإن زخرفوه وقلبوا لك الأمور حتى تظن أن الأمر بخلاف ما هو عليه في الحقيقة.(294/7)
التسويف
خامساً: من كيد إبليس التسويف، فكلما جاء طارق الخير إلى نفس المسلم أرسل إبليس بواباً ليصرف هذا الطارق، فمن هو البواب؟ إن اسمه بواب لعل وعسى، في المستقبل، إن شاء الله، سيأتي الوقت، سوف، لعلني في المستقبل، وقد يكون من تلبيس إبليس في هذه المسألة، أنه يجعل الإنسان عائقاً، يقول له: إذا زال العائق افعل هذا الفعل.
فمثلاً: يأتي إلى الإنسان طارق طلب العلم، فيأتي إبليس يقول لهذا الشخص: أنت الآن منشغل بالدراسة هذه الدارسة وتحصيل الشهادة اجعل طلب العلم الآن على جنب، إذا انتهت الدراسة تطلب العلم إن شاء الله، فإذا انتهت الدراسة أتى له بعائق آخر، قال له: أنت الآن سوف تبحث عن وظيفة انتظر حتى تبحث عن وظيفة ثم تطلب العلم، فإذا وجد الوظيفة وجد له عائقاً آخر فقال له: ثبت نفسك أولاً فأنت الآن جديد في الوظيفة وهم سيجربونك في الوظيفة وبعد ما تثبت جدارتك وتشتغل ليلاً ونهاراً اطلب العلم، وهكذا.
وإذا جاءه الإنسان مثلاً: طارق الدعوة إلى الله يقول له: قم ادع إلى الله، فيقول له الشيطان: أصلح نفسك أولاص وتخلص من عيوبك ثم تشتغل بالدعوة، فينشغل الإنسان ويظن أنه على خير وأنه الآن يخلص نفسه من العيوب والزلات والآثام والمعاصي ثم يقول له إذا وصل إلى مستوىً يرضى بنفسه منه، يقول له: لا بد أن تطلب العلم أولاً، فإذا طلبت العلم وحفظت أشياء كثيرة من الكتاب والسنة بعد ذلك تدعو، فيقول العبد في نفسه: صحيح، أنشغل بهذا فإذا أتممت قسطاً وافراً من العلم أبدأ في الدعوة.
وهكذا يتدرج في وضع العوائق في طريقه كلما أتى ليعمل شيئاً وضع له عائقاً، إذا جاء ليتصدق قال: أولاً وفر مهر الزواج، ووفر أثاث البيت وهكذا، فيشغله بعائق عن العمل وعن الوصول لهذا الأمر المشروع، ولا شك أن ذلك من كيد إبليس وتلبيسه، والعاقل من عرف أنه لا بد أن يضرب في كل حقل بسهم مما يستطيع من طاعة الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يشغله خير عن خير فهو يعمل في أبواب الخيرات ما استطاع، ويكمل نفسه بمرور الوقت، يكمل نفسه ويعمل للإسلام، يكمل نفسه ويتصدق ويجاهد ويتعلم ويدعو ويعمل ما يستطيع من أبواب الخير.
سادساً: أنه يأتي أحياناً للإنسان، فيقول له: إن هذا الجانب الذي أنت فيه جانب عظيم من الخير، فعليك به واهتم بهذا الأمر، فينشغل العبد بهذا الجانب عن بقية الأشياء، فمثلاً يقول له: أليست النفقة على المال والأهل عبادة؟ إذاً أنت اعمل الآن في هذه الوظيفة واشتغل هذه تجارة أعطها جهدك وضع فيها تركيزك؛ لأنها عبادة وسوف تستفيد منها أموالاً وسوف تنفق على أهلك وأولادك، وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول، فيضخم له جانب العمل والوظيفة على أنها عبادة، يضخمها له حتى يظن الشخص فعلاً أنه الآن يؤدي خدمة عظيمة للإسلام بهذا الجانب، فينشغل عن بقية الجوانب، فينشغل عن الدعوة وعن طلب العلم، ينشغل عن أمور كثيرة من أمور الخيرات، بل قد ينشغل بها عن العبادة والشعائر التعبدية.
ونفس الشيء يقال له في الدراسة الدنيوية: أليست الدراسة عبادة؟ ألست تدرس لتكون طبيباً ينفع المسلمين؟ ألست تدرس لتكون مهندساً ينفع المسلمين؟ ألست تدرس لتكون إدارياً يدير مشاريع المسلمين؟ وهكذا وهكذا، إذاً: أنت في حقل عظيم عليك بهذا الحقل ركز فيه، اجعل فيه جهدك، فينسى العبد حتى العبادات وينسى أموراً مهمة في الدعوة إلى الله وطلب العلم بهذه الأضحوكة الشيطانية، وهذه اللعبة العفريتية.(294/8)
سماع المكاء والتصدية والغناء
سابعاً: ومن مكايد الشيطان ومصايد عدو الله التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى كلاماً مهماً جداً في هذا الموضوع، وأبلغ في العبارة غاية البلاغة، حتى إنني لأقول: لعله أي: ابن القيم من أعدى أعداء الشيطان من علماء المسلمين، فإنه قد بين وفصل في كتبه رحمه الله من وسائل الشيطان في الكيد والإضلال وخداع البشر، وبيَّن طريقة المواجهة وكيفية صد هذه الغارات الشيطانية ما نرجو به عند الله أجراً عظيماً ومثوبة جليلة، على ما بين ونفع، وخصوصاً في كتابه العظيم الذي ننقل منه أطرافاً بالنص إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، وهذا الكتاب العظيم يصد كثير من الناس عن قراءته لطوله، وتفرع ابن القيم رحمه الله في ذكر مباحث يتوسع فيها في هذا الكتاب، بحيث قد يمل القارئ من القراءة فيها، كأبواب الحيل والطلاق بالثلاث وهكذا مسائل الطلاق بالثلاث حتى إن الشخص الذي ليس عنده رسوخ قدمٍ في العلم يمل من القراءة إذا وصل إلى استطراد معين، فتفوته أشياء كثيرة جداً من الأشياء الموجودة في هذا الكتاب.
ولذلك أنصح من يتعرض للقراءة فيه أنه إذا وصل إلى مبحث طويل فيه أحكام فقهية وتفصيلية كثيرة مثلاً، ليتجاوز ذلك إلى الموضع الذي يرى أن نفسه يسهل عليها القراءة فيه، فيحصل شيئاً كثيراً من الخير في هذا الكتاب العظيم.
لقد خدع إبليس بعض العباد والزهاد في الماضي من المتصوفة بقضية الغناء، ولا زال خداعه سارياً في أجيال من البشر في هذه القرن ممن وصل إلى قناعة شيطانية بأن الغناء من العبادة، وأن بعض أصحاب الطرق الصوفية كما هم موجودون الآن بكثرة ولكن قد لا نشاهدهم في هذه البلاد، ولكنهم يشاهدون في أقطار إسلامية بكثرة، والذي يكون من تلك الأقطار أو يتجول فيها يعرف ذلك جيداً، يعملون حلق السماع فيها موسيقى وفيها أشعار وطرب، يقولون: إن هذا ذكر، وعند بعض الناس الذين يقيمون الموالد النبوية بزعمهم أشياء من هذا القبيل، طرب وألحان يتقربون بها إلى الله.(294/9)
كلام ابن القيم في الغناء
وذكر ابن القيم كلاماً جميلاً نسوقه بنصه لجماله، يقول رحمه الله عن الغناء: فهو قرآن الشيطان والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال العاشق من معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة وحسنه لها مكراً منه وغرورا، وأوحى عليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجوراً، فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة إليه، فتمايلوا له كتمايل النشوان، وتكسروا في حركاتهم ورقصهم، أرأيت تكسر المخانيث والنسوان؟! ويحق لهم ذلك وقد خالط خماره النفوس ففعل فيها أعظم ما يفعله حمي الكئوس فلغير الله بل للشيطان، قلوب هنالك تمزق، وأثواب تشقق، وأموال في غير طاعة الله تنفق، حتى إذا عمل السكر فيهم عمله، وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وحيله، وأجلب عليهم برجله وخيله، وخز في صدورهم وخزة وأزهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزاً، فطور يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالذباب ترقص وسط الديار، فيا رحمة للأرض والسقوف من دك تلك الأقدام، ويا سوأتاه من أشباه الحمير والأنعام! ويا شماتة أعداء الإسلام! فأعداء الإسلام إذا رأوا هذه الطرق الصوفية قالوا: هذا الدين؟! ولذلك في دعايات أعداء الإسلام عن الإسلام يعرضون أفلاماً فيها لقطات من هذه الطرق الصوفية والمذاهب البدعية التي فيها هذا الطرب والأغاني، ويعرضونها على أنها من الدين ويقولون لشعوبهم: هذا هو الإسلام الذي يريد دعاته أن يدعوكم إليه.
يزعمون أنهم خواص الإسلام، قضوا حياتهم لذة وطرباً، واتخذوا دينهم لهواً ولعباً، مزامير الشيطان أحب من استماع سور القرآن، ولو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما تحرك له ساكن، ولا أزعج له قاطنا، ولا أثار فيه وجدة، ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى الله زندة، حتى إذا تلي عليه قرآن الشيطان وولج مزموره سمعه تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت، وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زهراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت.
فيا أيها الفاتن المفتون، والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون! هلا كانت هذه الأشجان عند سماع القرآن، وهذه الأذواق والمواجيد عند سماع قراءة القرآن المجيد، وهذه الأحوال السنيات عند تلاوة السور والآيات، ولكن كل امرئ يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله، والمشاكلة سبب الميل عقلاً وطبعاً، فمن أين هذا الإخاء والنسب، لولا التعلق من الشيطان بأقوى سبب، ومن أين هذه المصلحة التي أوقعت في عقد الإيمان وعهد الرحمن خللا: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف:50].(294/10)
أبيات شعرية فيمن لبس عليه سماع الغناء
ثم قال رحمه الله في شأن هؤلاء المخدوعين بخدعة إبليس، ولقد أحسن القائل:
تُلِيَ الكتاب فأطرقوا لا خيفة لكنه إطراق ساه لاهي
وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا والله ما رقصوا لأجل الله
دف ومزمار ونغمة شادن فمتى رأيت عبادة بملاهي
ثقل الكتاب عليهمُ لا رأوا تقييده بأوامر ونواهي
سمعوا له برقاً ورعداً إذ حوى زجراً وتخويفاً بفعل مناهي
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن شهواتها يا ذبحها المتناهي
وأتى السماع موافقاً أغراضها فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه
أين المساعد للهوى من قاطع أسبابه عند الجهول الساهي
إن لم يكن خمر الجسوم فإنه خمر العقول مماثل ومضاهي
فانظر إلى النشوان عند شرابه وانظر إلى النسوان عند ملاهي
واحكم فأي الخمرتين أحق بالتحريم والتأثيم عند الله
فخمرة الغناء أعظم من خمرة السكر بأنواع الخمور، وقال آخر:
برأنا إلى الله من معشر بهم مرض من سماع الغنا
وكم قلت يا قوم أنتم على شفا جرف ما بها من بنى
شفا جرفٍ تحته هوة إلى دركٍ كم به من عنا
وتكرار ذا النصح منا لهم لنعذر فيهم إلى ربنا
فلما استهانوا بتنبيهنا رجعنا إلى الله في أمرنا
فعشنا على سنة المصطفى وماتوا على تنتنا تنتنا
ولئن كانت هذه الطائفة -ولله الحمد- في انقراض في العالم الإسلامي الآن مع انتشار هذه الصحوة المباركة وطريقة السلف الصالح، إلا أنه لا يزال فيهم في أنحاء العالم الإسلامي من هؤلاء الذين يعبدون الله بالرقص والأغاني والمواجيد والتمايل والمدائح النبوية وغيرها، التي يلحنونها تلحيناً مطرباً يزعمون أنهم يؤجرون على هذه المجالس، لا زال فيهم من يعيش بين أظهرنا، لا زال فيهم من هؤلاء النفر من يحتاجون إلى مجاهدة ومصابرة.(294/11)
الحيل والخداع
ثامناً: ومن مكائد الشيطان التي كاد بها الإسلام وأهله: الحيل والخداع، فإن الشيطان يتسلل إلى بعض نفوس بني آدم بأشياء من الحيل والمخادعات لله، يزينها لهم على أنها حيل شرعية ولا بأس بها وهي تتضمن إحلال الحرام وإسقاط الفرائض، هؤلاء الناس الذين يستجيبون للشيطان قال الله فيهم: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] هذه من صفات المنافقين.
ومن الأمثلة على ذلك: نكاح التحليل، فإنه إذا طلق امرأته ثلاثاً منفصلة بانت منه، ويريد الرجوع إليها استأجر تيساً مستعاراً بعشرة دراهم أو أكثر ليتزوجها زواجاً صورياً لا يريدها ثم يطلقها ليرجع إليها الزوج الأول، هذا الذي وصفه عليه الصلاة والسلام بالتيس المستعار: (لعن الله المحلل والمحلل له) هذه حيلة خبيثة شيطانية.
ومن أمثلة ذلك مثلاً: بيع العينة، بأن يبيع الإنسان شخصاً شيئاً، فيشتري من شخص إلى أجل بعشرة آلاف -مثلاً- إلى سنة، يسددها بعد سنة عشرة آلاف ثم يبيعها على نفس الشخص الذي اشتراها منه فوراً نقداً بثمن أقل بتسعة آلاف أو ثمانية آلاف مثلاً، فهذا هو بيع العينة، لكنه في الحقيقة هو ظاهره بيع وشراء إني أنا اشتريت منه بنقد إلى أجل بعشرة آلاف نسيئة إلى أجل عشرة آلاف ثم بعتها عليه نقداً بثمانية آلاف، ظاهرها أنها بيع وشراء ولكنها في الحقيقة حيلة إلى الربا.
ولذلك يعمد كثير منهم في خداعهم لله سبحانه وتعالى أن يذهب إلى دكان ويأتي بطرف ثالث عنده البضاعة والشخص الذي يريد أن يقرض ويقترض، فيضع يده على كومة الرز إلى آخر الحيلة المعروفة، يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، ولو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون، لأنه عندما يخادع ويرتكب المحرم يكون عليه إثمان، إثم الحرام وإثم المخادعة، لكن لو فعل الحرام دون خداع لكان عليه إثم الحرام فقط، لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون.
ومن ضمن الحيل كذلك: حيلة اليهود عندما حرم الله عليهم الصيد يوم السبت، فماذا فعلوا؟ نصبوا الشباك يوم الجمعة ورفعوها يوم الأحد وقالوا: لن نصيد يوم السبت، اتخذوا آيات الله هزوا.
ومنهم أقوام يشربون النبيذ المحرم، والآن هناك أنواع من الأشربة في السوق مسكرة لو شربت كثيراً لسكرت، وهي كثيرة جداً وتتنوع وهي تسكر، بل قد تكون أشياء جامدة، لكنها تسبب السكر، يسمونها بغير اسمها، وهي مسكرة، وهؤلاء الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) وقد حصل في هذا الزمان عياناً بياناً، مبيناً في الواقع كما نراه ونسمعه مشاهداً، شربوها وسموها بغير اسمها.
ومثل ذلك مثلاً: أنهم يستحلون الغناء، وإذا جئت تجادلهم قالوا لك: أليست أصوات الطيور مثل النغمات الموسيقية، فلماذا تبيح أصوات الطيور وتحرم النغمات الموسيقية كلامها سواء، والغناء نص الله على تحريمه في الكتاب والسنة، وأصوات الطيور أمر سكت عنه الشرع فهو مباح، فأين هذا من هذا؟! وهذا القياس الفاسد يستحلون محارم الله بهذه الخدع.
مثال آخر: استحلال الربا على أساس أن الربا المحرم هو ما بين الغني والفقير، فإذا استغل الغني الفقير هذا هو الحرام، لكن لو كان بين غني وغني فلا بأس بذلك، يقولون: تاجر يستلف من البنك -مثلاً- مليون ريال، يعمل بها مشروعاً تجارياً، يستلفها بفائدة خمسة عشر في المائة، يسمونها فائدة، ويعمل نسبة الأرباح بعد سنة يربح المشروع عشرة في المائة، يسدد جزءاً من الفوائد، بعد سنتين يربح المشروع أكثر ويسدد بقية فوائد الربا الذي عليه ثم هو يمتلك المشروع، إذاً: الغني استفاد، والبنك استفاد وليس هناك أحد خسران، إذاً هذا ليس ربا، هكذا يقولون تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، وهم يعلمون من الواقع أن البنوك سبب من أكبر أسباب نكبة كثير من التجار والمقاولين في هذا الزمان، الذين لم يستطيعوا تسديد المستحقات للبنوك في الأوقات المحددة بسبب أنهم لم يستطيعوا أخذ حقوقهم من الجهات الأخرى ومن الناس، فما استطاعوا تسديد هذه الفوائد التي يسمونها فصاروا رصيدهم بالناقص وبالسلب ثم أفلسوا وباعوا كل شيء، بل إن هذا الربا يفقر دولاً، وما لعبة صندوق النقد الدولي ببعيدة عن الحذقة من المسلمين الذين يعرفون أن هذه الفوائد المركبة تأخذ أموال ونعم ومقدرات شعوب بأكملها.
ولذلك فهؤلاء الذين يطنطنون اليوم في الجرائد والمجلات يقول قائلهم: إنه حلال وأنا أتحمل عنكم مسئولية هذه الفتوى عند الله يوم القيامة، ويبيحها لهم بأنها سندات استثمار وسندات وما شابه ذلك، وأن الذي يسلف يعطي نقوده إلى البنك ويأخذ سندات إنسان محسن إلى جهة أخرى تستفيد من الأموال التي في البنك، ولا بد أن يحسن إليه بأخذ فوائد، وهكذا يزخرفون القول زخرفة مما يوحي إليهم الشيطان الرجيم.
ومنهم أناس يظنون أن الربا حرام أكله وشربه، بمعنى: أنه لا يجوز أن تشتري به طعاماً، لكن لو اشتريت به بيتاً فهذا حلال، أو اشتريت به سيارة فهذا جائز، أو دفعت منه ضرائب -الضرائب حرام- ندفع من الربا للضرائب فهذا حلال، يالله! ومعلوم أن الربا لا يجوز الاستفادة منه أبداً، حتى في دفع الظلم عن نفسك.
لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، فاليهود لما حرم الله عليهم الشحوم، أذابوها، قالوا: الأشياء الجامدة هي الحرام لكن لو جعلناها مائعة وأذبناها، فالحرام دون المذاب، فأذابوها فباعوها وأكلوا ثمنها، فاستحقوا لعنة الله ومسخهم قردة وخنازير.
وقد ذكر أهل العلم في كتبهم من أنواع الحيل المحرمة أشياء منكرة، ذكر بعضهم: امرأة تريد أن تفارق زوجها فيرفض الطلاق والخلع ويرفض ويرفض، فذهبت إلى بعض هؤلاء المتلاعبين من أصحاب الحيل، فقال لها: لو ارتدت عن الإسلام انفسخ العقد وبانت منه ففعلت، فلما سمع الإمام أحمد هذا القول: (اكفري بالله تصيرين كافرة ثم ينفسخ العقد لأنه لا تحلي له لأنه مسلم وأنت كافرة ثم تسلمين بعد ذلك) فلما سمع الإمام أحمد قال: من أفتى بهذا أو عمل أو رضي به فهو كافر.
فانظر إلى أي درجة يستدرج الشيطان هؤلاء الناس بمسألة الحيل، قال ابن المبارك رحمه الله تعقيباً: ما أرى الشيطان يحسن مثل هذا، حتى جاء هؤلاء فتعلم الشيطان منهم.
والشريعة تعاقب على الحيل المخالفة لها، فالقاتل إذا قتل يحرم من الميراث في الشريعة، ولو عفا عنه أولياء المقتول وقالوا: لا نريد قصاصاً، لا يرث، والمريض في مرض الموت إذا طلق امرأته ليحرمها من الميراث ترث رغماً عنه، ومن سافر في الصيف إلى البلدان الباردة لا لأجل أنه يريد سفراً فليس عنده تجارة ولا علاج ولا شيء، لكن فقط لكي لا يصوم في الحر في الصيف، قال: أسافر حتى أفطر؛ لأني مسافر فأفطر، ثم أصوم في الشتاء، فهذا آثم بفعله ولا شك.
وكذلك فقد ضرب الله سبحانه وتعالى أمثلة من الأمور المحرمة، قال الله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19] فلو أن إنساناً لا يريد زوجته، لكن لا يطلقها لكي تطلب هي الفسخ، فيمسكها ويحبسها ولا يعاشرها معاشرة الأزواج لأنه لا يرغب بها، فيمسكها حتى تطلب الطلاق وتطلب الخلع وتدفع من المهر الذي أعطاها أو كل المهر، فيذهب بما آتاها من قبل، فإذا حبسها لكي تفتدي نفسها وهو لا يريدها فهو ظالم وما أخذ فهو حرام.
ولما قصد أصحاب الجنة حصد محاصيلهم بالليل في سورة القلم لحرمان الفقراء عاقبهم الله عز وجل: قالوا: نصرمها مبكرين أو في الليل حتى لا يكون هناك وجود وحضور للفقراء فلا يأخذون شيئاً، ومثل هذه الحيل المحرمة الشيطانية أن بعض الناس إذا جاء قبل الحول بقليل ملك ماله لزوجته، قال: ملكتك مالي فإذا عدا الحول وانتهى استرد المال منها، قال: ما كان عندي ما ملكته، وبعضهم لكي ينجو من الزكاة كلما قاربت النصاب باع منها وغير أشياء بحيث إنها لا تكتمل نصاباً ويحولها إلى أنواع أخرى من الأموال لينجو من الزكاة، وهذا حرام ولا شك.
ومثل إخراج المكوس في قالب إعانة المجاهدين وسد الثغور وعمارة الحصون كما ذكر أهل العلم، وبالخلاصة فإن الذي يريد أن يتحايل على الله فإن الشيطان سوف يفتح له أبواباً واسعة جداً جداً، ولكنه يوم القيامة سيكشف أمره ويهتك ستره على رءوس الخلائق يفضحه الله سبحانه وتعالى، نسأل الله السلامة.(294/12)
الوسواس في النية والطهارة والصلاة وغيرها
تاسعاً: ومن كيد الشيطان وتلبيس إبليس: ما بلغ به من الوسواس الذي أوقع فيه كثيراً من الخلق، وكادهم به كيداً عظيماً، فمرض الوسواس من الشيطان ولا شك، الوسواس كادهم به في الطهارة، وفي النية، وفي الصلاة، وحتى في قراءة القرآن، وفي الطلاق وغير ذلك، وألقاهم في الآصار والأغلال، وأخرجهم عن اتباع سنة محمد صلى الله عليه وسلم، حتى يخيل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفيه، حتى إن أحد هؤلاء الموسوسين ليرى أنه لو توضأ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اغتسل كاغتساله عليه الصلاة والسلام لم يطهر، ولم يرتفع حدث، وكيف يطاوع الموسوس نفسه أن يغتسل هو وامرأته من إناء واحد يغمسان أيديهما فيه، غسل الجنابة ويفرغان عليهما، فالموسوس يشمئز من ذلك كما يشمئز المشرك إذا ذُكِر الله وحده، مع أن من الذي فعل ذلك هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويزعم له الشيطان أن هذا من الاحتياط في الدين، ومن باب دع ما يريبك إلى مالا يريبك، وإذا مس الصبي أو ولده الصغير فإنه يجب أن يغسل يديه باستمرار وبعض الموسوسات، وهؤلاء يغسل أحدهم يده غسلاً يشاهده ببصره وربما قاله بلسانه، بعض الموسوسين من عذابهم يغسل يديه ويشك حتى يضطر أن يقول بلسانه: الآن أغسل يدي غسلت يدي، ويسمعه بسمعه وربما سمعه جاره ولا يصدق نفسه.
وربما أضر بجسده كالغوص في الماء البارد وكثرة استعماله وإطالة العرك والفرك وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان، ويستهزئ به من يراه، وذكر ابن الجوزي رحمه الله عن أبي الوفاء بن عقيل: أن رجلاً قال له: أنغمس في الماء مرات كثيرة وأشك هل صح الغسل أم لا، فما ترى في ذلك؟ فقال له الشيخ: اذهب فقد سقطت عنك الصلاة، قال وكيف؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: المجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يبلغ) ومن ينغمس في الماء مراراً ويشك هل أصابه الماء أم لا فهو مجنون! وربما شغله الوسواس حتى تفوته الجماعة، وربما فاته وقت الصلاة بالكلية.(294/13)
الوسوسة في الصلاة
وقد يشغله الشيطان بوسوسته في النية عند الصلاة في المسجد في الصف، حتى تفوت عليه التكبيرة الأولى، وربما فاته ركن أو أكثر، ومنهم من يحلف بالله ألا يعود إلى هذا ويكذب ويعود.
وقد كان هناك رجل شديد التنطع في التلفظ بالنية والتقعر في ذلك، فاشتد به التقعر والتنطع إلى أن قال مرة وهو حاضر في الصف، حيث كبر الناس وهو حاضر الآن يجمع النية، ويقول: أصلي أصلي أصلي ويعيدها عدة مرات، صلاة صلاة صلاة الظهر الظهر الظهر، جماعة جماعة جماعة، أداءً -يعني: ما هو قضاء- لا بد هذه العبارة تأتي بالكامل عند هؤلاء المبتدعة الذين يتلفظون بالنية وإذا صار موسوساً بعد فكيف ستكون العبارة، تكون شبراً فتصبح ذراعاً، فقال: أصلي أصلي أصلي، صلاة، صلاة، صلاة، الظهر، قال: أداءً بدأ يقول أداءً قال: فأعجم الذال وضع عليها نقطة قال: أذاءً، ولا بد أن يقول أداءً لله، وكان يصلي بجانبه شخص فما تمالك نفسه فقطع الصلاة فقال: إيذاءً لله ولرسوله وملائكته وجماعة المصلين.
وقد بلغ الشيطان منهم أن عذبهم في الدنيا وأخرجهم عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فعلى من أراد النجاة من هذه الوسوسة أن يسلك سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدع سبيل الشيطان، قال أحد السلف يوماً لابنه: يا بني! اتخذ لي ثوباً ألبسه عند قضاء الحاجة، فإني رأيت الذباب يسقط على الشيء ثم يقع على الثوب، نخصص ثوباً خاصاً بالمرحاض، إذا جاء الذباب على هذا الثوب وكان قد وقع على العذراء نفسخ الثوب بعد المرحاض ونصلي في ثوب نظيف، ما عليه من آثار الذباب، ثم انتبه فقال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ما كان لهم إلا ثوب واحد يقضون به حاجتهم ويصلون.
فتبين أن التفكير في قضية النجاسة التي يأخذها الذباب برجليه عندما يسقط على الثوب، ويضع فاصلة صفر صفر واحد من النجاسة أن هذا لا شك من أنواع الوسوسة الواضحة.
قال ابن القيم رحمه الله: قال شيخنا ابن تيمية: ومن هؤلاء من يأتي بعشر بدع لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه واحدة منها -عند النية في الصلاة- فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، نويت أصلي صلاة الظهر فريضة الوقت أداءً إماماً -أو مأموماً- أربع ركعات مستقبل القبلة ثم يزعج أعضاءه ويحني جبهته ويقيم عروق عنقه، ويصرخ بالتكبير كأنه يكبر على العدو، ولو مكث أحدهم عمر نوح يفتش هل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه شيئاً من ذلك لما ظفر به، فأهل الوسواس قرة عين خنزب وأعوانه، وخنزب هو شيطان الصلاة.
وكذلك الوسواس في انتقاض الطهارة، فإن الشيطان يشكك الإنسان خرج منه ريح، خرج، ما خرج، خرج شيء بسيط، خرج لكن فيه ماء، وهكذا قال صلى الله عليه وسلم مبيناً العلاج: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أو لا فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) رواه مسلم.
والشيطان يتلاعب بالشعيرات في مقعدة ابن آدم ليوهمه أنه خرج منه شيء وليس كذلك، فقد أخبر عليه الصلاة والسلام بهذا التلاعب وأن هذا من كيد الشيطان، ومن علاج الوسواس في الطهارة أن ينضح فرجه وسراويله مما يلي الفرج بالماء إذا بال، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم.(294/14)
وسوسة في الطهارة
هذا في الوسوسة في الطهارة، أما ما يفعله الشيطان بالموسوسين بعد البول فحدث ولا حرج، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: يفعلون عشرة أشياء: السلت والنتر والنحنحة والمشي والقفز والحبل والتفقد والوجور والحشو والعصابة والدرجة.
أما السلت فهو عصر الذكر ليخرج منه البول، يقول لا بد أن نفعل هذا الإجراء حتى نتأكد أنه ليس هناك نجاسة، والنتر وهو نفضه ليخرج ما بداخله بزعمهم بعد الاستنجاء هذا إجراء ثانٍ، والنحنحة: بأن يتنحنح لإخراج الفضلة الباقية بزعمهم، والقفز: أن يرتفع على الأرض ويهبط عليها لكي يفرغ ما كان عالقاً، والحبل يتخذه بعض الموسوسين فيتعلق به حتى يكاد يرتفع ثم يتخرط فيه ويقع على هذا لكي ينزل ما بقي، والتفقد: هو النظر في المخرج هل بقي فيه شيء أم لا، والوجور: هو فتح الثقب وصب الماء فيه، والحشو: إدخال قطن ونحوه، والعصابة: أن يعصب المخرج بخرقة لئلا يخرج منه شيء، والدرجة: أن يصعد في السلم قليلاً ثم ينزل بسرعة، أو يمشي خطوات ثم يعيد الاستنجاء.
قال ابن تيمية رحمه الله: وذلك كله وسواس وبدعة، فتبين بذلك أن ما يقضيه البعض من الأوقات الطويلة جداً داخل المراحيض يضيعون بها تكبيرة الإحرام والصلاة، هو من الأمور المحرمة ومن كيد إبليس وتلبيسه، ويكفي الإنسان بعد انتهائه من قضاء حاجته أن يستنجي ويغسل بالماء ويرش ما أمام المخرج من الثوب بالماء حتى يقطع على الشيطان طريق الوسوسة، وإذا كان صاحب سلس ويعرف نفسه صاحب سلس، إذا انتهى من قضاء الحاجة يغسل ويرش بالماء، وإذا وضع أمام المخرج لئلا تنتشر النجاسة في الثوب كمنديل بشكل عادي يشده عليه بلباسه العادي، ثم بعد ذلك يتوضأ ويصلي ولا يبالي بعد ذلك بما خرج منه لا بعد الاستنجاء ولا أثناء الوضوء، ولا بعده ولا قبل الصلاة ولا أثناء الصلاة وصلاته صحيحة، والحمد لله، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
ولا فرض الله على الخلق أن يقضوا ساعات في دورات المياه لكي يتأكدوا أنه ما بقي قطرة، وهذا السلس هو داء منتشر عند كثير من الناس، وهذه عيادات المسالك البولية تشهد بذلك، وإذا لم يكن هناك في الدين مثل هذه الرخصة المباحة الشرعية لهلك الناس: (بعثت بالحنيفية السمحة).
وهؤلاء الموسوسون لا يرضون بأمور كثيرة مما كان صلى الله عليه وسلم يفعله، فقد كان عليه الصلاة والسلام وأصحابه يخوضون في الطين والوحل وماء المطر وهم يأتون إلى المساجد، ويأتون المسجد ولا يغسلون أرجلهم، وهذه فتاوى الصحابة فيمن وطئ العذرة بقدمه إن كانت يابسة فليست بشيء، وإن كانت رطبة غسل ما أصابه، لا انتقض الوضوء ولا شيء من ذلك، بل يغسل ما أصاب جلده من النجاسة فقط، إذا كانت رطبة، وهذا الخف والحذاء يدلك في الأرض ثم يصلى فيه سنة ثابتة كما قال صلى الله عليه وسلم (إذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ثم لينظر فإن رأى خبثاً فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما) والموسوسون أكثرهم لا يرضون بالصلاة في النعال إذا كان الوضع مناسباً وكان المسجد مفروشاً بالحصى والرمل، ونحو ذلك.
وذيل المرأة، قالت امرأة لـ أم سلمة: (إني أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر، فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطهره ما بعده) هي تسحب على الأرض، لو سحبت على نجاسة يطهره ما بعده، وقد رخص للمرأة أن تطيل حجابها ذراعاً وراءها حتى إذا هبت الريح لا تنكشف عورتها وأكثر من ذلك يعتبر إسبالاً في حق النساء، وكان صلى الله عليه وسلم يصلي في مرابض الغنم، ونهى عن الصلاة في أعطان الإبل، فأين هذا ممن لا يصلي إلا على سجادة، تفرش فوق البساط أو فوق الحصير، وربما وضع عليها منديلاً ولا يمشي على البساط مكان المصلى إلا نقراً كالعصفور إذا اضطر، ووضع السجادة على السجادة الطاهرة من البدع والوسوسة.
وبعض الناس هذه عادتهم إذا دخل مكاناً مع أن البساط نظيف طاهر لا يعلم أن عليه نجاسة لا بد أن ياتي بمفرش الصلاة ليصلي، لماذا؟ وقد قال عليه الصلاة والسلام: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا فأي رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل) فإذاً وضع السجاجيد على السجاجيد نص أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية أنها من البدع، إذا كانت السجادة نظيفة وطاهرة، فلا يوضع عليها شيء ويصلي.
وبعضهم يقول: لا بد أن نضع للإمام سجادة خاصة لماذا؟! إن مثله مثل المسلمين، يصلي على بساط المسجد مثله مثل المسلمين، فلماذا توضع له سجادة منفصلة، وكان صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يحمل أمامة بيده، فإذا ركع وضعها وإذا قام حملها، وإذا قال قائل: كيف يصح هذا وفيها نجاسة قد تكون في هذه الحفاظة نجاسة، نقول: قد فعله من هو خير منك محمد صلى الله عليه وسلم فإذا رفع وضعها وإذا قام حملها، وكان يصلي في الليل وكان بجانبه عائشة وهي حائض، وربما لامس جسده جسدها.
وكان الصحابة يتوضئون من الحياض والأواني المكشوفة، لا يسألون هل أصابتها نجاسة أم لا، [مر عمر يوماً مع صاحب معه تحت ميزاب فسقط عليهما شيء من الميزاب، فقال صاحب عمر: يا صاحب الميزاب! ماؤك طاهر أو نجس، فقال عمر: يا صاحب الميزاب! لا تخبرنا، ثم مضى].
وكان صلى الله عليه وسلم يصغي الإناء للهرة حتى تشرب ويشرب هو منه صلى الله عليه وسلم ويتوضأ منه، وقال: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات)، يقول ابن القيم رحمه الله: والمراضع -المرأة التي ترضع- المراضع لا زلن من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الآن يصلين في ثيابهن والرضعاء يتقيئون ويسيل لعابهم على ثياب المرضعة وبدنها، ولا تغسل شيئاً من ذلك -هذا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم- ما يخرج من الطفل طاهر من القيء لصعوبة وتعذر التحرز من قيء الولد على المرضعة وهي ترضعه وتحمله وتضعه باستمرار.
ونص الإمام أحمد رحمه الله على أن حبل الغسال إذا نشر عليه ثوب نجس ربما جففته الشمس، أي: جففت حبل الغسال، ثم نشر عليه ثوب طاهر رطب، قال: لا بأس به، وكان صلى الله عليه وسلم يشرب من موضع فيّ عائشة ويتعرق العرقة فيضع فاه على موضع فيها وهي حائض ويأكل وراءها صلى الله عليه وسلم.
والوسوسة أشكالها كثيرة جداً مثل الوسوسة في مخارج الحروف والتنطع فيها قال ابن الجوزي: ولقد رأيت من يخرج بصاقه عند إخراج الضاد لقوة تشديده، والوسوسة في الطلاق فإنه يقول: طلقت أو ما طلقت، إذا فكر في الطلاق يوسوس ربما حتى في النهاية تلفظ بالطلاق.(294/15)
عشق الصور المحرمة
وأخيراً: فإن من مكايد الشيطان ومصايده ما فتن به عشاق الصور، والمقصود بالصور هي أشكال بني آدم، أجسادهم وأشكالهم ومناظرهم، والذين يعشقون الصور -أي: صور البشر وأشكالهم ومناظرهم وأجسادهم- هذا كيد عظيم من كيد إبليس فيه استعباد النفوس لغير الله، وتمليك القلوب لمن يسومها سوء العذاب، العاشق المتيم بمن عشقه، معذب القلب قد سلم قلبه إلى معشوقه يسومه سوء العذاب، ويسعى في رضا المعشوق والمحبوب وإن عارض رضا الله، ويتحرك عند سماع صوت محبوبه ما لا يتحرك عند سماع العلم وشواهد الإيمان ولا عند تلاوة القرآن، حتى إذا ذكر معشوقه اهتز وربا وتحرك باطنه وظاهره شوقاً إليه وطرباً.
وهؤلاء يقول الله في شأنهم من ضمن الذين يدخلون في قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة:166] أين هؤلاء العشاق الذين عشقوا الصور ومالوا بعواطفهم ميلاً شديداً وانغلقوا على هذه الأشكال وأقاموا هذه العلاقات المحرمة؟ أين هم من قوله صلى الله عليه وسلم في دلائل الإيمان: (أن يحب المرء لا يحبه إلا الله)؟ ومن كيد الشيطان وتلبيس الشيطان أنه يوهم هذا المتعلق بصاحبه أنه يحبه لله، وربما قال له: إنك تشاركه في الطاعات، وربما حمله أن يحضر معه بعض مجالس العلم، ويحفظ بعض آيات القرآن أو الأحاديث وهكذا، حتى يلبس عليه أن العلاقة علاقة شرعية، وحفظ قرآن وحضور مجالس علم ودعوة إلى الله مثلاً.
وقد ذكر ابن القيم في كتابه العظيم الجواب الكافي، وكتابه العظيم إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان في علاج العشق والتعلق بالمحبوب أموراً عظيمة ينبغي الرجوع إليها، ونذكر بعضاً منها فإن هذا الدرس ليس موضع استقصاء علاج عشق أو علاج المحبة مع الله، وإن كانت هذه المسألة قد تفشت بحيث صار لا بد أن توضح لها العلاجات حتى لا يقع بعض الناس فيها، قال ابن القيم رحمه الله: ووصل الأمر ببعضهم أن يؤاخي امرأة أجنبية في الله، كان مما ذكره أن وصل الأمر السوء بتلبيس إبليس أن يؤاخي امرأة أجنبية في الله لهذا الغرض، وقد حدث وربما يتصل بها ويقول: أنا أناقش معك مسائل فقهية وأنصحك وتنصحيني وهذا موجود ووصل إلينا وسمعنا أطرافاً منه عن أناس يتصلون بنساء أجنبيات يقولون: هذه محبة في الله وإني أحبك في الله، كيف يقول رجل أجنبي لامرأة أجنبية: إني أحبك في الله؟! أم كيف تقول له هي هذا الكلام؟! هو رجل شاب وهي امرأة شابة، أليس هذا من تلبيس إبليس ومن مداخله؟! قال ابن القيم رحمه الله: وبعضهم جعل الاتصال بالمردان من عبادة الله، وأنها قربة وطاعة، بل زعموا أيضاً أنها تزكي النفس وتخلصها من الشوائب، وجعل التلذذ بهم عبادة، وقد يقولون: تزوج فلان بفلان يستهزئون بآيات الله ودينه، قال ابن القيم: وقد آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى ترجيح وطء الولدان على نكاح النسوان، وقالوا: هو أسلم من الحبل والولادة ومؤنة النكاح والشكوى إلى القاضي وفرض النفقة.
سبحان الله العظيم! انظر إلى أي درجة يمكن أن يستجري الشيطان ابن آدم عندما يوهمه فعلاً بهذه القضية، فيوقعه في الفواحش ويظن هذا أنه الآن يتقرب إلى الله، سبحان الله العظيم! لا شك أن من هؤلاء ضلال، إذ كيف تروج هذه البضاعة الشيطانية على هؤلاء، إن في المسألة هوى، وما راجت بضاعة الشيطان إلا وفيها هوى واضح، وماذا تفعل بمن زين له سوء عمله فرآه حسناً، فقد تلاعب الشيطان بأكثر هذا الخلق كتلاعب الصبيان بالكرة، وأخرج الكفر والفسوق والعصيان في كل قالب من قوالب الخير والبر والأعمال الصالحة.(294/16)
كلام ابن القيم في خطر العشق
قال ابن القيم في خطر العشق: فإذا شغف الإنسان بمحبة صورة -يعني: إنسان آدمي ذكر أو أنثى- لغير الله، بحيث يرضيه وصوله إليها وظفره بها ويسخطه فواته ذلك، كان فيه من التعبد لها بقدر ذلك -غصباً عنه ورغماً عنه يعبدها من دون الله- ثم قال: والزنا بالفرج وإن كان أعظم من الإلمام بالصغيرة، كالنظرة والقبلة واللمس، لكن إصرار العاشق على محبة الفعل مع معشوقه وتوابعه ولوازمه وتمنيه له ولو لم يفعل، وتمنيه له وحديث نفسه به ألا يتركه واشتغال قلبه بالمعشوق قد يكون أعظم ضرراً من فعل الفاحشة مرة، بشيء كثير فإن الإصرار على الصغيرة قد يساوي إثم الكبيرة أو يربو عليها.
وأيضاً: فإن تعبد القلب للمعشوق شرك، وفعل الفاحشة معصية ومفسدة الشرك أعظم من مفسدة المعصية، وأيضاً: فإنه قد يتخلص من الكبيرة بالتوبة والاستغفار، وأما العشق إذا تمكن من القلب فإنه يعز عليه أن يتخلص منه، بل يصير تعبداً لازماً للقلب لا ينفك عنه، ومعلوم أن هذا أعظم ضرراً وفساداً من فاحشة يرتكبها شخص وهو عالم بتحريمها وقلبه غير معبد لمن فعل بها الفاحشة التي ارتكبها معها.
أما هذا العاشق فقلبه معبد ولو لم يفعل فاحشة.
وذكر كلاماً مهماً معبراً عن حال العاشق أو هذا المتعلق قلبه بهذه الصورة، قال: فأصحاب العشق الشيطاني لهم من تولي الشيطان والإشراك به بقدر ذلك، لما فيهم من الإشراك بالله، ولما فاتهم من الإخلاص له، ففيهم نصيب من اتخاذ الأنداد، ولهذا ترى كثيراً منهم عبداً لذلك المعشوق، متيماً فيه يصرخ في حضوره ومغيبه أنه عبده، فهو أعظم ذكراً له من ربه، وحبه في قلبه أعظم من حب الله فيه، وكفى به شاهداً على ذلك بنفسه: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] فلو خير بين رضاه ورضا الله لاختار رضا معشوقه على رضا ربه، ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه، وتمنيه بالقرب من معشوقه أعظم من تمنيه للقاء ربه وقربه، وهربه من سخطه عليه أشد من هربه من سخط ربه عليه، يسخط ربه بمرضاة معشوقه، ويقدم مصالح معشوقه وحوائجه على طاعة ربه، فإن فضل من وقته فضلة وكان عنه قليل من الإيمان صرف تلك الفضلة في طاعة ربه، وإن استغرق الزمان حوائج معشوقه ومصالحه صرف زمانه كله فيها وأهمل أمر الله.
يجود لمعشوقه بكل نفس ونفيسة، ويجعل لربه من ماله إن جعل له كل رذيلة وخسيس، فلمعشوقه لبه وقلبه وهمه ووقته، وخالص ماله وربه على الفضلة، قد اتخذه وراءه ظهريا، وصار لذكره نسياً، إن قام في خدمته في الصلاة فلسانه يناجيه -يعني: يناجي الله- وقلبه يناجي معشوقه، ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق، ينفر من خدمة ربه حتى كأنه واقف في الصلاة على الجمر من ثقلها عليه وتكلفه لفعلها، فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه فرحاً بها ناصحاً له فيها، خفيفة على قلبه لا يستثقلها ولا يستطيلها، ولا ريب أن هؤلاء من الذين اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله.
أما سبب هذه المصيبة العظيمة فهو سبب نقص محبة الله؛ لأن القلب لو امتلأ بمحبة الله ما كان له مجال أن يحب أشخاصاً وأشكالاً بهذه الطريقة المحرمة.(294/17)
فروق بين المحبة في الله والمحبة مع الله
ومحبتنا لإخواننا المسلمين نابعة من محبة الله، لا معارضة لها ولا مزاحمة لها، محبة الإنسان لأخيه في الله ليست مزاحمة لمحبة الله، بل هي نابعة من محبة الله، ولذلك كلما كان الشخص أكثر عبادة كنا أكثر محبة له، وكلما كان أكثر إخلاصاً وعملاً لله زادت محبتنا له، بغض النظر عن شكله ولونه ووسامته ودمامته ونحو ذلك.
ولذلك فإنه لا بد للإنسان أن يفرق بين العشق وبين المحبة في الله، فأما المحبة لله فهي محبة خالصة قوية، بغض النظر عن شكله ولونه وعاهته، بل ربما أحب أجذع أفطس أعرج أشل أعمى لأنه قريب من الله، ويكره جميلاً وسيماً فاتناً لأنه عدو لله، أما العشق فإنه انتقاء من الأشكال ما يوافق الهوى.
ثانياً: المحبة في الله تقرب إلى الله، أما العشق والمحبة مع الله فإنها تبعد عن الله سبحانه وتعالى بل تقطع الطريق على محبة الله، فهي محبة مع الله، ومحبة ما يبغض الله، ومحبة من تقطع محبته عن محبة الله.
ثالثاً: الذي يحب في الله ينفتح على إخوانه المسلمين جميعاً، فيقيم العلاقات معهم جميعاً، ولا يستثني أحداً يستطيع أن يستفيد منه دون أحد، بينما هذا العاشق أو المتعلق قلبه بمن معه ينغلق عليه فينفرد له ويكون خالصاً له ولا يرضى أن يقيم علاقات، أو لا يعطي إخوانه الآخرين إلا النزر اليسير.
رابعاً: إن هذه المحبة في الله تقود إلى استشعار لعظمة الله، وخشوع لله، أما المحبة مع الله فهي هيام وهموم وآلام عند الفرقة والابتعاد، المحبة في الله إذا خلا الإنسان عن الناس ففكره في طاعة الله، أما المحبة مع الله إذا خلا ففكره في معشوقه ومحبوبه، المحبة في الله تجعل الذي تحبه في الله يعينك على الابتعاد عن المعاصي، أما المحبة مع الله فإن هذا المعشوق والمحبوب يوقع في المعصية وربما في الفواحش.
خامساً: المحبة في الله ألفاظ شرعية مجردة عن العلاقات الدنيوية، إني أحبك في الله، أما المحبة مع الله أو العشق فهي ألفاظ غرام وكتابات ورسائل وهواتف وربما كتب له أو ناداه أو ناداها بما لا يصلح إلا بين الرجل وزوجته.
وهذا المجال الكلام فيه طويل وكثير وخصوصاً عند استشراء هذا الداء الذي ألم بكثير من بني البشر في هذا الزمان، حتى بين بعض الذين يظهر عليهم سيما الخير والصلاح، ولذلك كان لا بد من وقفة حازمة في قطع دابر هذا الشر بإخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى والإقبال عليه، والانطراح بين يديه أن يخلص قلبه مما علق به من محبة المحبوبين من البشر أو عشقهم، وكذلك الابتعاد عمن هو سبب للداء، وسبب لهذا العشق، وألا تقع عينه على أثر، ولا يسمع له حس ولا خبر قدر الإمكان، بحيث يتنقى قلبه تدريجياً من هذا الداء العضال.
ولعل هذا الموضوع يحتاج إلى مزيد من البيان والإيضاح، ولكن لعل فيما ذكر كفاية لأولي الألباب ومكائد الشيطان كثيرة في الحقيقة، والكلام عنها لا ينتهي، والرجوع فيها إلى أهل العلم الذين يبينون المكائد، ويبينون كيفية الصمود والمواجهة في وجه هذا العدو المبين الذي قال الله في شأنه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] فلا زالت العداوة بيننا وبينه قائمة منذ أن آذى أبانا آدم عليه السلام وزوجته حواء.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يخلصنا وإياكم من كيد إبليس، وأن يقينا وساوسه وخطواته، وأن يجعلنا من جند الله وحزبه المفلحين، لا من جند إبليس وحزبه الخاسرين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(294/18)
الباقيات الصالحات
بدأ الشيخ حفظه الله درسه بذكر أقوال أهل العلم في معنى (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) وثنى بذكر أجور هؤلاء العاملين للصالحات من كتاب الله عز وجل، ثم عدد أعمالاً كثيرة يبقى أجرها لفاعلها في حياته وبعد مماته، وأجاب في نهاية المحاضرة عن مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالصيام وغيره من الأحكام الشرعية.(295/1)
أقوال المفسرين في المراد بالباقيات الصالحات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فهذه أيام عشر ذي الحجة قادمة علينا، وليس هناك من أيام العمل الصالح أحب إلى الله تعالى فيهن من هذه الأيام.
وحول العمل الصالح والباقيات الصالحات يدور درسنا هذه الليلة.
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الكهف: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46].
ويقول سبحانه وتعالى في سورة مريم: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً} [مريم:76] مرداً، أي: عاقبة ومرداً على صاحبها.
أما بالنسبة للباقيات الصالحات فهذه طائفة من أقوال المفسرين في تفسير هذه الكلمة: قال ابن الجوزي رحمه الله: والباقيات الصالحات فيها خمسة أقوال: أحدها: أنها (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر).
والثاني: أنها (لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله ولا قوة إلا بالله).
والثالث: أنها الصلوات الخمس.
والرابع: أنها الكلام الطيب.
والخامس: جميع الأعمال الحسنة.
وقال الشيخ صديق حسن خان رحمه الله في تفسيره فتح البيان: {الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [مريم:76] أي: أعمال الخير التي تبقى لها ثمرتها أبد الأبد وهي ما كان يفعله فقراء المسلمين من الطاعات.
وقال في البحر المحيط: {الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [مريم:76] قال الجمهور: هي الكلمات المأثور فضلها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل: [هي الصلوات الخمس] وعن ابن عباس: [كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة] ورجحه الطبري.
وعن قتادة: كل ما أريد به وجه الله.
وعن الحسن وعطاء: إنها النيات الصالحة، فإن بها تقبل الأعمال وترفع.
ومعنى: {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ} [مريم:76] أنها دائمة باقية وخيرات الدنيا منقرضة فانية، والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي.
وقال القرطبي رحمه الله عن ابن عباس: [إنها كل عملٍ صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة].
وقال ابن زيد ورجحه الطبري وهو الصحيح إن شاء الله: بأن كل ما بقي ثوابه جاز أن يقال له هذا، أي: إنه من الباقيات الصالحات.
وقال علي رضي الله عنه: [حرث الآخرة الباقيات الصالحات] وقد قيل: إن الباقيات الصالحات هي النيات والهمات؛ الهمة الحسنة والنية الحسنة؛ لأنه بها تقبل الأعمال وترفع.
قاله الحسن.
وقال عبيد بن عمير -وهو قول فيه غرابة- في تفسير {الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [مريم:76]: هن البنات، يدل عليه أوائل هذه الآية، قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف:46] أي: البنات الصالحات هن عند الله لآبائهن خيرٌ ثواباً وخيرٌ أملاً في الآخرة لمن أحسن إليهن.
ثم استدل القرطبي رحمه الله بحديث عائشة في المرأة التي دخلت عليها وهي مسكينة ومعها ابنتان لها، فأعطتها عائشة تمرة كانت عندها، فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئاً، ثم أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فامتدح هذا الفعل وأخبر أن من عال هؤلاء البنات وابتلي بشيء منهن فصبر فإن الجنة ثوابه.
وقال الألوسي رحمه الله في حديثٍ فيه أن الباقيات الصالحات هن بعض الأذكار، قال: وهن الباقيات -هذه الأذكار- المفيد للحصر بعد التنصيص على ما لا عموم فيه، وأياً ما كان فالباقيات صفة لمقدر كالكلمات أو الأعمال، أي: الأعمال الباقيات الصالحات، أو الكلمات الباقيات الصالحات، فما هي الباقيات الصالحات؟ الباقيات صفة، والموصوف محذوف تقديره: الكلمات أو الأعمال، وكذا تدخل أعمال فقراء المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه دخولاً أولياً، فإن لهم من كل نوع من أنواع الخيرات الحظ الأوفر.
أما ابن كثير رحمه الله تعالى فكان من أكثر المفسرين نقلاً للآثار والتفسير في هذه الكلمات في سورة الكهف {الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف:46] وبعد أن ساق أقوالاً كثيرةً وآثاراً في هذا، ساق رواية الإمام أحمد رحمه الله عن الحارث مولى عثمان رضي الله عنه قال: جلس عثمان وجلسنا معه، فجاءه المؤذن فدعا بماءٍ في إناءٍ أظنه سيكون مداً -وهو كيل عند أهل الحجاز - فتوضأ ثم قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قام فصلى صلاة الظهر غفر له ما كان بينها وبين الصبح، ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين الظهر، ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين العصر، ثم صلى العشاء غفر له ما بينها وبين المغرب، ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته، ثم إن قام فتوضأ وصلى صلاة الصبح، غفر له ما بينها وبين العشاء، وهي الحسنات يذهبن السيئات.
قالوا: هذه الحسنات، فما الباقيات الصالحات يا عثمان؟ قال: هي: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله) قال الهيثمي رحمه الله في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح، غير الحارث بن عبد الله مولى عثمان وهو ثقة.
وختم ابن كثير كلامه في هذه الآية بقوله: وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي الأعمال الصالحة كلها، واختاره ابن جرير رحمه الله تعالى.
وقد ثبت حديثٌ مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم في الباقيات الصالحات، وهو ما رواه النسائي والحاكم عن أبي هريرة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خذوا جنتكم من النار) في رواية الحاكم قالوا: (من عدوٍ يا رسول الله؟ قال: بل من النار، قولوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدماتٍ ومعقبات ومجنبات، وهن الباقيات الصالحات) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير.
وقال الشوكاني رحمه الله -بعدما نقل آثاراً وأخرجها ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة - قال: كل شيء من طاعة الله فهو من الباقيات الصالحات.
وقال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان: وأقوال العلماء في الباقيات الصالحات كلها راجعة إلى شيء واحد، وهي الأعمال التي ترضي الله، سواء قلنا: إنها الصلوات الخمس كما هو مروي عن جماعة من السلف، منهم ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل، أو أنها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وعلى هذا القول جمهور العلماء، وجاءت أحاديث مرفوعة عن أبي سعيد الخدري وأبي الدرداء وأبي هريرة والنعمان بن بشير وعائشة رضي الله عنهم ثم قال الشنقيطي: قال مقيده عفا الله عنه -يعني نفسه-: التحقيق أن الباقيات الصالحات لفظ عام يشمل الصلوات الخمس والكلمات الخمس -والكلمات الخمس: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم- وغير ذلك من الأعمال التي ترضي الله تعالى؛ لأنها باقية لصاحبها غير زائلة ولا فانية كزينة الحياة الدنيا؛ لأنه قال في سورة الكهف: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:48] لكنها تفنى وتبيد: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46] لأنها باقية لصاحبها غير زائلة ولا فانية كزينة الحياة الدنيا، ولأنها أيضا صالحة لوقوعها على الوجه الذي يرضي الله تعالى.
وقال القاسمي رحمه الله في تفسيره محاسن التأويل: وقع في كلام السلف تفسير الباقيات الصالحات بالصلوات وأعمال الحج والصدقات والصوم والجهاد والعتق وقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر والكلام الطيب وبغيرها: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46] أي: والأعمال التي تبقى ثمراتها الأخروية، من الاعتقادات والأخلاق والعبادات الكاملات، خيرٌ عند ربك من المال والبنين في الجزاء والفائدة، وخيرٌ مما يتعلق بهما من الأمل؛ لأن الإنسان في الدنيا عنده آمال، لكن الأمل في هذه الأعمال الصالحة خير من الأمل في الدنيا، فإن ما ينال بهما من الآمال الدنيوية أمرها إلى زوال، وما ينال من الباقيات الصالحات من منازل القرب الرباني والنعيم الأبدي لا يزول ولا يحول.
وقال العلامة الشيخ/ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: وإن الذي يبقى للإنسان وينفعه ا(295/2)
أجور الذين آمنوا وعملوا الصالحات
والملفت للنظر في الذي يقرأ القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى كثيراً ما يذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ذكراً كثيراً جداً، وكذلك من عمل صالحاً، ورتب للذين آمنوا وعملوا الصالحات والذي عمل صالحاً أجوراً عظيمة ومكافآت جزيلة جداً، فمن ذلك: قوله سبحانه وتعالى في القرآن -وينبغي أن تحرك هذه الآيات النفوس وتحدوها إلى هذه الأعمال الصالحات-: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [البقرة:62].
{مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة:69].
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
{وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} [الكهف:88].
{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} [مريم:60].
{إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ} [سبأ:37] {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:40] وقال للنسوة: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} [الأحزاب:31] {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} [التغابن:9].
هذه بعض الآيات التي فيها ذكر جزاء العمل الصالح، أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فحدث عنهم في أجورهم وثوابهم مما ذكره الله في كتابه، ومن ذلك قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة:25].
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [البقرة:82].
{وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} [آل عمران:57].
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة:9].
{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:29].
{وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء:9].
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96].
{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه:75].
{فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الحج:50] وفي آية أخرى: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:8] وفي آية: {فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} [الشورى:22] يدخلهم ربهم برحمته.
{لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} [العنكبوت:9].
{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً} [العنكبوت:58].
{فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم:15] يسمعون الغناء اللذيذ.
هذا بعض ما ذكره الله في كتابه في أجر الذين يعملون الصالحات ومن عمل صالحاً، وهذه الأعمال الصالحة هي الباقيات الصالحات التي يبقى أجرها عند الله ذخراً لصاحبها، يحفظ حتى إذا جاء يوم القيامة وجده عنده، فيؤتى كتابه بيمينه، ويدخل الجنة برحمة الله سبحانه وتعالى جزاءً لهذه الأعمال الصالحة.(295/3)
بعض الأعمال الصالحة وما ورد فيها من ثواب وجزاء
أما الأعمال الصالحة فهي كثيرة جداً، والذي يستعرض القرآن وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام يجد من الأعمال الصالحة ما لا حصر له أبواب مختلفة، وأعمال متنوعة، وأجور عظيمة لهذه الأعمال الصالحة، وسنذكر -إن شاء الله- في هذا الدرس طائفة من الأعمال الصالحة في أبواب متنوعة من العبادات والمعاملات وغيرها، والأخلاق والآداب، ولكي تهفو النفوس إلى هذه الأعمال وتتحمس وتتوقد الهمم والعزائم لمواقعتها وفعلها.
فهذه الأحاديث التي سنذكرها -إن شاء الله- فيها ذكر للجزاء والثواب، والله سبحانه وتعالى ذكر الجزاء والثواب لكي يتحمس العباد، وما عيشنا في هذه الدنيا -أيها الإخوة- إذا لم يكن لأجل الأعمال الصالحة؟! وما قيمة أعمالنا وأوقاتنا إذا لم تكن مملوءة بالأعمال الصالحة؟! وبأي شيء ندخل الجنة بعد رحمة الله إلا بسبب أعمالنا الصالحة؟! وما الذي ينجينا من نار جهنم التي حرها شديد وقعرها بعيد إلا الأعمال الصالحة؟! وما الذي يثبت أقدام المؤمنين على الصراط فلا تزل ولا تقع في النار إلا الأعمال الصالحة؟! وهذا العمل هو مقتضى الإيمان، فلا إيمان بغير عمل، والله سبحانه وتعالى ذكر لازم الإيمان بعد ذكر الإيمان كثيراً جداً في القرآن؛ فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25] وهذا كثير جداً في القرآن، فلابد من الأعمال الصالحة.
وهذه الأحاديث التي سنذكرها من أقواله صلى الله عليه وسلم مما ذكر أهل العلم صحته، وهي من الأحاديث الصحيحة التي صححها أهل العلم، وعلى الأقل سيكون فيها دافع وباعث وتحميس لفعل هذه الأعمال والقيام بها.(295/4)
الطهارة والوضوء وبعض ما ورد فيهما
فمما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الأعمال الصالحة: الطهارة والوضوء قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (وأيما رجل قام وهو يريد الصلاة فأفضى الوضوء إلى أماكنه؛ سلم من كل ذنب وخطيئة هي له، فإن قام إلى الصلاة رفعه الله تعالى بها درجة، وإن رقد رقد سالماً) الوضوء لقيام الليل والوضوء للصلوات.
وروى البخاري رحمه الله عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ بلالٍ عند الفجر: (يا بلال! حدثني بأرجى عملٍ عملته في الإسلام؛ فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة -أمام النبي عليه الصلاة والسلام- فقال بلال رضي الله عنه: ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل أو نهارٍ إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي) فهذا أجر الطهور والصلاة.
وأما السواك وفي قيام الليل بالذات فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم يصلي من الليل فليستك -يستعمل السواك ويتسوك- فإن أحدكم إذا قرأ في صلاته وضع ملك فاه على فيه، ولا يخرج من فيه شيءٌ إلا دخل فم الملك) يطوف الملك بالمصلي، فإذا قرأ القرآن وضع الملك فمه على فم المصلي المتسوك المتطهر، فلا تخرج آية من فم المصلي إلا دخلت في فم الملك.(295/5)
فضل الأذان
وأما الأذان فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول المقدم، والمؤذن يغفر له مد صوته، ويصدقه من سمعه من رطبٍ ويابس، وله مثل أجر من صلى معه) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جنٌ ولا إنس ولا حجر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة) فمن أذن ولو أذاناً واحداً يحصل له هذا والمؤذن المحتسب لوجه الله لا يحتسب أجراً على الأذان الأمين على الوقت، الذي يوقظهم لصلاتهم الذي يخبرهم بوقت إفطارهم إذا صاموا ووقت إمساكهم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أذن ثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة، وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة، وبإقامته ثلاثون حسنة).(295/6)
فضل المشي إلى الصلاة
أما المشي إلى الصلاة؛ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى -كلما مشى من بعيد استفاد- والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصليها ثم ينام) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج إلى الصلاة لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله عز وجل له حسنة، ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط عنه سيئة، فليقرب أحدكم أو ليبعد، فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، فإن أتى المسجد وقد صلوا بعضاً وبقي بعضٌ صلى ما أدرك وأتم ما بقي، فإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة كان كذلك).
وقال عليه الصلاة والسلام مبيناً أجراً عظيماً في حديث صحيح رواه أبو داود: (من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم -والله واسع الفضل- ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغوٌ بينهما كتابٌ في عليين) كتاب يكتب في عليين.
أما الذي يصلي أربعين يوماً في جماعة، ويكون واقفاً في الصف عندما يكبر الإمام تكبيرة الإحرام، فيقول في شأنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن الذي رواه الترمذي: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق) فيحافظ على أربعين يوماً في جماعة، أن يكون واقفاً في الصف عندما يكبر الإمام تكبيرة الإحرام.
فهنيئاً لمن كان له براءات كثيرة.(295/7)
فضل إطالة الصلاة والأذكار بعدها
أما إطالة الصلاة وأجر ركوعها وسجودها فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا قام يصلي أُتي بذنوبه كلها فوضعت على رأسه وعاتقيه، فكلما ركع أو سجد تساقطت ذنوبه) فإذا كان الركوع طويلاً والسجود طويلاً كان تساقط الذنوب أكثراً.
وأذكار الصلاة منها ثلاث وثلاثون سبحان الله، ومثلها الحمد لله، ومثلها الله أكبر، وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
ومن أذكار الصلوات التي بعد الصلاة: سبحان الله خمساً وعشرين، والحمد لله خمساً وعشرين، ولا إله إلا الله خمساً وعشرين، والله أكبر خمساً وعشرين.
ومن أنواع الأذكار التي بعد الصلاة: سبحان الله عشر مرات، والحمد لله عشر مرات، والله أكبر عشر مرات، فلو كان هناك شخص مستعجل يقول هذه، وهذه أقصر صيغة، ومع هذا انظر إلى الأجر الوارد فيها:- روى الإمام أحمد والأربعة والبخاري في الأدب المفرد: عن ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خصلتان لا يحافظ عليهما عبدٌ مسلم إلا دخل الجنة، ألا وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل) كثير من الناس بعد الصلاة يقومون ويمشون مسرعين بدون تسبيح وتحميد وتكبير من غير حاجة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد قام مسرعاً بعض المرات ولكن لحاجة، وكثير من الناس اليوم يقومون بعد الصلاة دون هذه التسبيحات، يقول: (ومن يعمل بهما قليل، يسبح الله في دبر كل صلاة عشراً، ويحمده عشراً، ويكبر عشراً فذلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان) هذا بالنسبة لبعد الصلاة، خمسون ومائة باللسان وألف وخمسمائة في الميزان؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها.(295/8)
الذكر عند النوم
الذكر عند النوم: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين، قال في فضلها عند النوم: (إذا أخذ مضجعه يكبر أربعاً وثلاثين، ويحمده ثلاثاً وثلاثين ويسبحه ثلاثاً وثلاثين فتلك مائة باللسان وألف في الميزان) يكرر سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، صاروا ستة وستين، والله أكبر أربعاً وثلاثين صاروا مائة باللسان، لكن في الميزان ألف، فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفان وخمسمائة سيئة؟ يعني: عندك الآن ألف وخمسمائة ترتبت بعد الصلوات وألف قبل النوم هذه ألفان وخمسمائة حسنة، فهذه كافية لأن تكفر ألفان وخمسمائة سيئة، فمن الذي يعمل في اليوم ألفان وخمسمائة سيئة، وهذه في الحساب.(295/9)
صلاة الضحى وما تجلبه من أجر
قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن صلاة الضحى وهي من الصلوات النافلة: (يصبح على كل سلامى من أحدكم في كل يوم صدقة) والسلامى هو عظم المفاصل، فكم في الإنسان من مفصل؟ فيه ثلاثمائة وستون مفصلاً في الإنسان، كل مفصل من هذه المفاصل له حق ينبغي عليك أداؤه، يجب أن تتصدق بصدقة عن كل مفصل، يعني: تأتي في اليوم بثلاثمائة وستين صدقة: (يصبح على كل سلامى من أحدكم في كل يوم صدقة) فمن أين نأتي بهذه الصدقات؟ قال: (فله بكل صلاة صدقة، وصيام صدقة، وحج صدقة، وتسبيح صدقة، وتكبير صدقة وتحميد صدقة) فلو قال شخص: أنا ما أظمن أن آتي بثلاثمائة وستين صدقة عن المفاصل، قال: (ويجزئ عن أحدكم من ذلك ركعتا الضحى).
ووقت صلاة الضحى من بعد ارتفاع الشمس إلى قبيل صلاة الظهر، وأفضل وقتٍ لها حين ترمض الفصال ويشتد الحر، ويرفع البعير رجليه عن الأرض لاشتداد الحر، فتجده يرفع ويضع، فهذه صلاة الأوابين.
وصلاة الضحى تصلى ركعتان اثنتان أو أربعاً وثمان، فصلها على أي عدد وردت فيه السنة، فهو يجزئ عن ثلاثمائة وستين صدقة في اليوم.
وأما في شأن الصلاة عموماً قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من عبد يسجد لله سجدة إلا كتب الله له بها حسنة، وحط عنه بها سيئة، ورفع له بها درجة، فاستكثروا من السجود) فهذا فضل السجود في أي صلاة.(295/10)
ما ورد في الصيام من أجر
أما الصيام الذي له باب مخصوص وهو باب الريان، فمنه ما هو فرض معروف أجره، وهو صيام رمضان، ومنه ما هو نفل ورد ذكر أجره في الأحاديث الصحيحة، وصيام النفل مراتب: فهناك صيام عرفة، وصيام عاشوراء، والأيام البيض، والإثنين والخميس، والأيام الأخرى التي لم ينه عنها إذا صامها يكون له أجرٌ عظيم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم حر جهنم عن وجهه سبعين خريفاً) وفي رواية: (باعد الله وجهه من جهنم سبعين عاما) وفي رواية: (باعد الله عنه جهنم مسيرة مائة عام) وكلها أحاديث صحيحة.
أما يوم عرفة -ونحن مقبلون عليه- وصيامه لغير الحاج؛ لأن الحاج له شيء آخر، فأجر الحاج في عرفة شيء آخر، ويكفي أن الله يباهي بهم الملائكة، فلا يستحب له الصوم؛ لأنه يستعين بقوته في الحج وأعمال الحج وأعمال عرفة، أما المقيم فإنه يصوم، قال عليه الصلاة والسلام: (صوم يوم عرفة كفارة السنة الماضية والسنة المستقبلة) وقال صلى الله عليه وسلم: (صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) فصيام عرفة أعظم من صيام عاشوراء، وفي كل أجر.
وبعض الناس لا يكتفي بأن يصوم، بل يريد أجراً إضافياً، وبعض الناس لا يستطيع أن يصوم لمرضٍ مثلاً ويريد أجر صائم فلم تحرمه الشريعة، ولم يحرمه الله الرحيم الرءوف من الأجر، فقال عليه الصلاة والسلام: (من فطر صائماً فله مثل أجره) من فطره فأشبعه فله مثل أجره، فلو دعا عدداً من الصائمين، ففطرهم فله مثل أجورهم، مع أنه هو واحد لكن حصل أجوراً عن صائمين، لا ينقص من أجر الصائم شيء ولا من أجر المفطر شيء فله مثل أجره.(295/11)
ما ورد في فضل الحج والعمرة
أما الحج والعمرة فإنهما من سبيل الله، الحاج والمعتمر وفد الله دعاهم إلى البيت العتيق فأجابوه، وإذا سألوه أعطاهم، والحج والعمرة فيها عدد من الأعمال: إحرام وسفر وتلبية وطواف وسعي وحلق الشعر، وفي الحج أيضاً وقوف بـ عرفة ورمي وذبح، وكلها فيها أجر.
وانظر إلى التلبية مثلاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجرٍ أو شجر أو مدر -الطين اليابس- حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا) عن اليمين وعن الشمال.
أما الطواف فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من طاف بهذا البيت أسبوعاً -يعني: سبعة أشواط- فأحصاه كان كعتق رقبة لا يضع قدماً ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة).
يقول بعض الناس: نحن نذهب في رمضان إلى العمرة ونأتي بالعمرة فهل نأتي بعمرة أخرى؟ نقول: لا، المشروع لك أن تأتي بعمرة في السفرة الواحدة، يقول: فماذا نفعل إذا بقينا في مكة؟ افعل أشياء كثيرة من الطاعات والحسنات؛ لأن مكة المكان فاضل يضاعف لك فيه الأجر، ثم إنك تطوف في البيت سبعة وتصلي ركعتين في كل طوافٍ، وسبعة أشواط ليست عمرة، بل هو طواف نفل، فكل طواف سبعة ثم سبعة ثم سبعة، كل طواف له ركعتان، يكتب لك بها هذا الأجر (من طاف بهذا البيت أسبوعاً فأحصاه كان كعتق رقبة) كل طواف نفل مثل عتق رقبة.
وأما استلام الحجر الأسود في الطواف وما أدراك ما استلامه! يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (والله ليبعثنه الله يوم القيامة -يعني: الحجر الأسود- له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق) رواه الترمذي وهو حديث صحيح.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليأتين هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما -والله على كل شيء قدير- ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق) (وفي مسحه هو والركن اليماني ياقوتتان من يواقيت الجنة -كما في الحديث الصحيح- طمس الله نورهما، ولو أن نورهم لم يطمس لأخذ الأبصار) وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد: (إن مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطاً).
أما أجر أعمال الحج وثواب الحج، فقد جاء عند الطبراني بسندٍ حسنٍ عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأحد الصحابة: (أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله لك بها حسنة، ويمحو عنك بها سيئة).
وأما وقوفك بعرفة فإن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة، فيقول: (هؤلاء عبادي جاءوني شعثاً غبراً من كل فجٍ عميق، يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثل رمل عال -صحراء رملها كثير- أو مثل أيام الدنيا، أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك) وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك، فلم يذكر أجره.
وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك.(295/12)
قراءة القرآن وما فيها من أجر
وأما كتاب الله سبحانه وتعالى فإن تلاوته من أعظم أبواب الخير ومن أجلِّ الأعمال الصالحة، فإنه كلامه سبحانه، والله قد امتدح الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة، والذين يذكرون الله وأعظم الذكر قراءة القرآن، الذي يُكتب له بكل حرف عشر حسنات، والحسنة بعشر أمثالها (لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف) ومع كثرة التلاوة تكثر الحسنات، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن الذي رواه الترمذي وغيره: (يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله -لصاحب القرآن- فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب! ارض عنه، فيرضى عنه، فيقول: اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة) كل الآيات التي قرأها في الدنيا يرقى بها مراتب ويزاد حسنات في الآخرة.
وسجود التلاوة ترغيم للشيطان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار) رواه مسلم.(295/13)
ذكر الله وما لفاعله من عطايا جزيلة
وبعد قراءة القرآن يكون ذكر الله تعالى من الدعاء والاستغفار والتحميد والتهليل والتكبير والتسبيح والاسترجاع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في فضل التسبيح: (أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟! يسبح الله مائة تسبيحة فيكتب الله له بها ألف حسنة، ويحط عنه بها ألف خطيئة) رواه مسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الأربعة: (إن الله اصطفى من الكلام أربعاً: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فمن قال: سبحان الله كتبت له عشرون حسنة، وحطت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر مثل ذلك، ومن قال: لا إله إلا الله مثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه خالصاً لله كتبت له ثلاثون حسنة، وحط عنه ثلاثون خطيئة).
وأما التهليل: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، من قالها في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر -كأنما أعتق عشراً- رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا أحدٌ عمل عملاً أكثر من ذلك).
وأما إذا قال في الصبح: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة كان له عتق رقبة من ولد إسماعيل، وكتبت له بها عشر حسنات، وحط بها عنه عشر سيئات ورفع له بها عشر درجات، وكان في حرزٍ من الشيطان حتى يمسي وإذا قالها إذا أمسى كان له مثل ذلك حتى يصبح).
وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهي من أجل الأذكار وأعظم ما يشتغل به، حتى إن الله يكفي العبد إذا جعل دعاءه صلاة على النبي عليه الصلاة والسلام من الهم والغم، ويبلغ الله هذه الصلاة لنبيه بملكٍ مخصوص، قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: (إن الله تعالى وكل ملكاً أعطاه سمع العباد، فليس من أحدٍ يصلي علي إلا أبلغنيها، وإني سألت ربي ألا يصلي علي عبدٌ صلاة إلا صلى عليه عشر أمثالها) صلى الله عليه وسلم.(295/14)
حِلق الذكر والفضل الوارد لمرتاديها
ومن أعظم العبادات وأبواب الطاعات الباقيات الصالحات: حلق الذكر.
نسأل الله أن يجعلنا من أهلها، وأن يجعلنا من المكتوبين فيمن يذكرهم سبحانه وتعالى، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لأن أقعد مع قومٍ يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قومٍ يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة) رواه أبو داود.
وإذا كان مجلس علم وذكر ما قام أهله إلا وقد قالت لهم الملائكة: (قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات).
وإذا كان مجلس العلم في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام فأنعم به من أجر، قال عليه الصلاة والسلام: (من جاء مسجدي هذا) الناس إذا راحوا المدينة يقولون: ماذا نفعل في المدينة، لنذهب إلى الحرم؟ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو في منزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاءه لغير ذلك -ينظر إلى المنقوشات والزخارف- فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره) فالنية هي التي ترفع صاحبها.
أما مسجد قباء فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه كان له كأجر عمرة).
وتعليم العلم ممن يعلمه قربة عظيمة وفضل كبير، قال صلى الله عليه وسلم: (من علم علماً فله أجر من عمل به لا ينقص من أجر العامل) والدلالة على الخير أياً كان هذا الخير من الباقيات الصالحات، قال صلى الله عليه وسلم: (من دل على خيرٍ فله مثل أجر فاعله) والذي يدل الناس على حلق العلم ويدل الناس على العلماء، أو أعطيته رقم هاتف عالم يتصل به، والذي يدل الناس على سبيلٍ وطريقة ييسر لهم بها أمر الحج فله أجر.(295/15)
الجهاد وفضل المجاهدين في سبيل الله
ولا شك أن من أعظم القرب الجهاد في سبيل الله؛ لأن الجهاد فيه إراقة دماء وذهاب أموال وتيتم أطفال وترمل النسوة، فقد جاء فيه من الأجر العظيم ما تواردت به الآيات والأحاديث، وهي الصفقة التي عقدها الله مع المجاهدين في أعظم كتابٍ وفي أعظم كتب: التوراة والإنجيل والقرآن: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111] وجعل الثمن الجنة، وجعل ما يقدم لنيل الجنة الأنفس والأموال، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في أجر المجاهد: (من قاتل في سبيل الله فواق ناقة فقد وجبت له الجنة) (ومن سأل الله القتل في سبيل الله من نفسه صادقاً ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد، ومن جرح جرحاً في سبيل الله أو نكب نكبةً فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها لون الزعفران وريحها ريح المسك، ومن خرج به خراجاً في سبيل الله كان عليه طابع الشهداء) رواه أحمد والثلاثة وابن حبان والحديث صحيح.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً أجر الوقوف في ساحة المعركة: (موقف ساعة في سبيل الله خيرٌ من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود) وقال عليه الصلاة والسلام: (مُقام الرجل في الصف في سبيل الله أفضل من عبادة ستين سنة) رواه الطبراني وهو حديث صحيح.
وأما الرباط والسهر لحراسة المسلمين في الثغور التي هي متاخمة لبلاد العدو الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر ويريدون الإيقاع بهم والإغارة عليهم، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من رابط يوماً وليلة في سبيل الله كان له كأجر صيام شهرٍ وقيامه، ومن مات مرابطاً جرى له مثل ذلك من الأجر في قبره -لا ينقطع العمل بل يجري عليه- وأجري عليه الرزق وأمن الفتان) الذي يكون في القبر.
أما الرمي في سبيل الله فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أيما مسلم رمى بسهمٍ في سبيل الله فبلغ مخطئاً أو مصيباً فله من الأجر كرقبة أعتقها من ولد إسماعيل) هذه الرمية الواحدة؛ سهم رصاصة قذيفة صاروخ.(295/16)
فضل تجهيز المجاهدين والاستعداد للغزو
والإعداد للجهاد واحتباس الفرس استعداداً للمعركة إذا قامت، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والبخاري: (من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده، كان شبعه وريه وروثه وبوله حسنات في ميزانه يوم القيامة).
وقد يتعذر على بعض الناس الجهاد أو لا يجدون سبيلاً للجهاد وهم يتوقون للجهاد وللاستشهاد، فلهذه النفوس المتحرقة للجهاد والاستشهاد الطامعة في بلوغ منازل الشهداء لا يحرمهم الله من الأجر إذا كانوا صادقين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدقه بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) ولذلك من المستحبات في الدعاء أن نسأل الله القتل في سبيل الله، اللهم اجعل قتلتنا في سبيلك يا رب العالمين، اللهم اجعلنا شهداء في سبيلك يا أرحم الراحمين.
وأما الذين يجهزون الغزاة وينفقون على جيوش المسلمين ويتصدقون لدعم المجاهدين فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن أجرهم: (من جهز غازياً في سبيل الله كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الغازي شيئاً) يحتاج إلى تذكرة سفر وإلى ملابس وإلى عتاد وسلاح، فهو يزوده بما يحتاج فيكون له مثل أجره.
وعندما يخرج الغازي من بلده ويترك زوجة وأولاداً، ماذا له؟ لما شجع الإسلام على الجهاد جعل في إخلاف الغازي في أهله أجراً، فالذي يرعى له أهله وأولاده في غيبته قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه: (أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير) يعني: حتى لو نمى له ماله، مجاهد عنده مال فهو ينميه له والمجاهد غائب، وخلفه في أهله، أي: يتفقد أحوالهم وينفق عليهم ويقضي حوائجهم: (كان له مثل نصف أجر الخارج) فما بالك لو خلف اثنين أو ثلاثة؟! رواه الإمام مسلم.(295/17)
كفالة الأيتام والسعي على الأرامل
ومن أنواع الجهاد: كفالة الأيتام والسعي على الأرامل، فهذا المجتمع يموت فيه الرجال ويخلفون أيتاماً وأرامل، وهذه الشريعة تكفل وتحمس الناس على رعاية الضياع؛ والضياع هم الأيتام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم كهاتين) (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله) يكفل اليتيم ويسعى على الأرملة (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) من قربه من النبي عليه الصلاة والسلام.(295/18)
فضل رعاية البنات
ومن الباقيات الصالحات وأبواب الخير رعاية البنات، والله سبحانه وتعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} [الشورى:49 - 50] يعني: يعطيه إناثاًَ وذكوراً، هذا القسم الثالث: {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:50] لا إناث ولا ذكور وهو القسم الرابع، والنفوس قد تتسخط البنات، لما في البنت من النفقة عليها وهي لا تساعد؛ لأنها ضعيفة تحتاج إلى رعاية وقد يلحق به عارٌ بسببها، فقد تأنف النفوس البنات وتكره البنات، لكن لا يجوز في الشريعة تسخط البنات، فهذا عطاء الله.
ورعاية البنات فيه أجر عظيم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته) يعني: من ماله، فكساهن مما عنده ومما أعطاه الله (كن له حجاباً من النار يوم القيامة) فهو يصبر عليهن، يعني: يربيهن على الشريعة، ويتعاهدهن في الصلوات والصيام والزكاة، ويتعاهدهن في أمور العبادات والطاعات والتخلق بالأخلاق الحسنة ويتعاهدهن بالحجاب والعفة.(295/19)
الأخوة الإيمانية وفضل المحافظة عليها
أما الأخوة وهي العبادة العظيمة والوشيجة بين المؤمنين فينبغي أن نكون كما في الحديث: (كونوا عباد الله إخوانا) والأخوة لها حقوق وواجبات ومستحبات وآداب.
فمما تتضمنه الأخوة الزيارة في الله، يقول النبي عليه الصلاة والسلام في فضل الزيارة في الله: (زار رجلٌ أخاً له في قرية فأرصد الله له ملكاً على مدرجته -في طريقه- فقال: أين تريد؟ قال: أخاً لي في هذه القرية، فقال: هل له عليك من نعمة تربها؟ قال: لا، إلا أني أحبه في الله، قال: فإني رسول الله إليك أن الله قد أحبك كما أحببته) رواه أحمد ومسلم.
فبمجرد الالتقاء بالإخوان والمصافحة؛ ووضع سطح اليد في سطح اليد لله، يأخذ بيده لا يأخذها إلا لله، فيه أجر عظيم، فانتبه يا من تفرط في المصافحة أو لا تصافح، بعضهم يسلم عليك برءوس أصابعه، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلمين يلتقيان فيسلم أحدهما على صاحبه ويأخذ بيده لا يأخذ بيده إلا لله فلا يفترقان حتى يغفر لهما) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غُفر لهما قبل أن يتحركا).
وقد يمرض الأخ المسلم فزيارته فيها أجر مضاعف أكثر من أجر زيارة الأخ العادي غير المريض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من زار أخاه المسلم) تعرفه أو لا تعرفه، مادام مسلماً فهو أخوك (عائداً مشى في خرافة الجنة حتى يجلس) أي: ثمر الجنة وجني الجنة (فإذا جلس غمرته الرحمة، فإن كان غدوة) أي: زاره في الصباح (صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كان مساءً صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح) وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلمٍ يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة) ثمر في الجنة.
وقد يموت فيكون في غسله أجر، وتكفينه أجر، والصلاة عليه أجر، واتباع جنازته أجر؛ أما غسله فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (من غسَّل ميتاً فستره ستره الله من الذنوب، ومن كفنه كساه الله من السندس) وهو حرير الجنة، رواه الطبراني وهو حديث حسن.
واتباع جنازته يقول صلى الله عليه وسلم فيه: (من تبع جنازةً حتى يصلى عليها ويفرغ منها فله قيراطان، ومن تبعها حتى يصلى عليها) فقط دون اتباعها إلى المقبرة (فله قيراط، والذي نفس محمدٍ بيده لهو أثقل في ميزانه من أحد) وهذا القيراط من قيراطي الذي يتبعها حتى تدفن ويفرغ منها ويهال عليها التراب أثقل في ميزانه من جبل أحد، فكم وزن الجبل؟!! وقد يُغتاب أخوك المسلم في مجلس ويوقع فيه، فما هي مسئوليتك؟ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة) وقال: (من رد عن عرض أخيه كان له حجاباً من النار) فإذا وقعوا فيه لا تسكت، يجب أن تتكلم، فيرد الله عنك النار بدفاعك عن أخيك المسلم، وذبك عن عرضه، وإسكاتك للذي يغتاب.
وإلقاء السلام على المسلمين فيه أجر، قال صلى الله عليه وسلم: (السلام اسم من أسماء الله وضعه الله في الأرض فأفشوه بينكم، فإن الرجل المسلم إذا مر بقومٍ فسلم عليهم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجةٍ بتذكيره إياهم السلام) إذا مر بقومٍ فسلم عليهم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة بتذكيره إياهم السلام.
والآن نحن نعلم أن الذي يقول: وعليكم السلام له عشرة، ورحمة الله له عشرون، وبركاته له ثلاثون، فما للمُسَلِّم الذي سلّم؟ بعض الناس يعرف أجر رد السلام لكن لا يعرف أجر المسلِّم، في هذا الحديث: (إذا مر بقومٍ فسلم عليهم فردوا عليه، كان له عليهم فضل درجة -زيادة- بتذكيره إياهم السلام، فإن لم يردوا عليه -فبعض الناس تسلم عليه فلا يرد عليك، فتحزن، لكن إذا علمت الأجر الذي لك لا تحزن- رد عليه من هم خيرٌ منهم وأطيب من خلق الله من الملائكة) فلا تحزن إذا لم يردوا عليك، فقد رد عليك من هو خيرٌ منهم وأطيب.
والناس في المجتمع يحتاج بعضهم إلى بعض، وقد تنزل فاقة بأحدهم ويحتاج أن يستلف، وقد يقولون: الآن لا أحد يسلفنا، فهذه بنوك الربا ليس إلا هي، فنقول: الشريعة جعلت بدل الربا حسناتٍ كثيرة لمن يسلف أخاه المسلم أو يدينه، ويقرضه، بل لمن ينظره إذا حل الأجل ولم يستطع الوفاء، قال عليه الصلاة والسلام: (من أنظر معسراً فله بكل يومٍ مثله صدقة، قبل أن يحل الدين) يعني: سلفه المال إلى آخر السنة ففي كل يوم صدقة (فإذا حل الدين فأنظره) يعني: جاء آخر السنة فلم يوفه، فأمهله أيضاً (فله بكل يومٍ مثلاه صدقة).(295/20)
إماطة الأذى عن الطريق
وإماطة الأذى عن الطريق وهي مسألة قد يستحقرها كثير من الناس ويأنف منها أو يتركها، قال عليه الصلاة والسلام في أجر ذلك: (مر رجل على غصن شجرة في الطريق فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأُدخل الجنة) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم أيضاً: (لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس).
وحتى قتل الوزغ -هذا الحيوان الكريه- الذي كان ينفخ النار على إبراهيم عليه السلام، وهو يخرج في أيام الحر قتله صدقة، قال عليه الصلاة والسلام: (من قتل وزغة في أول ضربة كتب له مائة حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة، وإن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة) رواه مسلم رحمه الله.
والذين لهم بساتين أو حدائق أو مزارع أو يزرعون في بيوتهم إذا قصدوا وجه الله بزراعتهم وما قصدوا إضاعة المال ولا قصدوا المباهاة والمفاخرة وإنما زرعوا لله، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يغرس غرساً) وهذا الحديث يشجع على غرس الأشجار، ويشجع على البذر والرعاية للزرع: (ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أُكل منه له صدقة، وما سرق منه صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطيور فهو له صدقة، ولا يرزأه أحد -يعني: ينقص منه- كان له صدقة) رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه.(295/21)
مجموعة من الأجور الدائمة بعد الموت
وقد جاء في الشريعة أبواب كثيرة للخير، فمنها: الأشياء التي تنفع الإنسان بعد موته، والصدقات الجارية، ومن ذلك ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً نشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورثه) أقرأ واحداً وعلمه القرآن (أو مسجداً بناه) ولو كان صغيراً (أو بيتاً لابن السبيل بناه) يعني: على قارعة طريق السفر ينزل فيه المسافرون مجاناً (أو نهراً أجراه) يشرب منه المسلمون (أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته) وهذه أنواع الصدقات الجارية التي يجري ثوابها لابن آدم في قبره.
وهذه طائفة من الأعمال الصالحة وغيرها كثير مما ذكر أجره في النصوص ومما لم يذكر أجره وحثت عليه الشريعة، لقد صنف العلماء في هذا مصنفات، فمن ذلك: كتب الترغيب والترهيب ككتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري رحمه الله، ومما صنف في هذا الحافظ المقدسي في كتاب فضائل الأعمال، ومما صنف في ذلك أيضاً الدمياطي رحمه الله في المتجر الرابح أو في ثواب العمل الصالح، ولا تكاد تجد مصنفاً من مصنفات العلماء المحدثين إلا وتجد أبواباً في أعمال الخير وثوابه، وكل هذا مما تحث به الشريعة على فعل الخيرات، وعمل الصالحات وهن الباقيات للإنسان بعد رحيله من هذه الدنيا.
فنسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأن يضاعف لنا الأجور، وأن يعلي لنا الدرجات، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل في حياتنا عوناً لنا على طاعته، وأن يجعل أعمارنا مملوءة بذكره وشكره وحسن عبادته، والحمد لله رب العالمين.(295/22)
الأسئلة(295/23)
حكم السحب على الجائزة الموجودة في بعض البقالات
السؤال
يوجد في بعض البقالات سحب على المشتروات وأرقام توزع لمن اشترى بمبلغ معين أو لمن اشترى أي سلعة، فما حكم ذلك؟
الجواب
كما ذكرنا سابقاً أن هذا نوع من أنواع الميسر، فهو حرام، أي لا يجوز، أي محل يقول لك: اشتر مني وأعطيك رقماً سواء سلعة أو بمبلغ معين أعطيك رقماً ثم يجرى عليه السحب ويعطى جوائز فهو ميسر، فلا يجوز، وفيه أضرار كثيرة: من ذلك إغراء الناس بشراء أشياء لا يحتاجون إليها، وهذا الذي يدفع مبلغاً ثم قد يأخذ وقد لا يأخذ وقد يكسب وقد لا يكسب وقد يربح وقد لا يربح، فهذه مقامرة محرمة لا تجوز.
أما إذا جعل لكل شخص يشتري هذه السلعة يعطى الهدية الفلانية المعينة فهذا جائز، وليس فيه مقامرة وإنما هو هدية معينة معروفة لمن يشتري السلعة الفلانية.(295/24)
صفة قيام الليل
السؤال
ما هي صفة قيام الليل؟
الجواب
قيام الليل له صفات كثيرة من أفضلها مثنى مثنى ويوتر بواحدة، ويكون عددها إحدى عشرة ركعة، فهذه أفضل كيفية لصلاة الليل، وسواء سردها أو أنه قام ثم نام ثم قام وأكمل، فهو أيضاً طيب.(295/25)
كيفية قضاء الصوم لمن لا يعلم عدد الأيام التي أفطرها
السؤال
أفطرت في بعض أيام رمضان منذ عدة سنوات ولا أدري كم عدد الأيام؟
الجواب
اعمل بما يغلب على ظنك، فتقدرها تقديراً واقضها وأطعم مسكيناً عن كل يوم، ويدخل التأخير إذا كان مضى عليها أكثر من سنة.(295/26)
صفة المسكين
السؤال
ما صفة المسكين؟
الجواب
الفقير الذي لا يجد أي شيء، والمسكين الذي يجد بعض الشيء: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] لكن لا يكفيهم دخلهم وما يأتيهم من السفينة لذا سماهم الله مساكين، فقد يكون لا يعمل وما عنده مصدر أبداً، وقد يكون عنده مصدر لكن لا يكفي، فإذا كان لا يكفي فهو مسكين، أما من ليس عنده مصدر أصلاً فهو فقير.(295/27)
ما يفعله من يضحي عن آخر
السؤال
شخص يريد أن يضحي عن ميت بموجب وصية هل يمسك عن الشعر والأظفار؟
الجواب
لا؛ لأنه مجرد منفذ في المال عن الميت، وهو منفذ وصية ليس المال منه ولا الأضحية أضحيته، فهو لا يمسك، فهو مجرد وكيل أو منفذ، أما إذا تبرع من ماله عن ميت فيلزمه أن يمسك، أو ضحى هو فيلزمه أن يمسك عن الشعر والأظفار.(295/28)
ما تفعله من تريد أن تضحي
السؤال
هل المرأة التي تريد أن تضحي تتزين وتتجمل لزوجها وتتعطر؟
الجواب
نعم؛ لأنها ممنوعة عن الشعر والأظفار والبشرة فقط، لكن أخذ الجلد، أو القشور والبقية فلا بأس.(295/29)
حكم الجماع لمن أراد أن يضحي
السؤال
ما حكم الجماع لمن أراد أن يضحي؟
الجواب
لا بأس من ذلك، وليس بممنوع.(295/30)
حكم تساقط الشعر غير المتعمد لمن أراد أن يضحي
السؤال
امرأة تريد أن تضحي ولكنها حائض وطهرت أثناء العشر وهي تعلم أنها إذا اغتسلت سيتساقط بعض الشعر؟
الجواب
لا حرج عليها؛ لأنها ليست بمتعمدة وقاصدة لتساقط الشعر وإنما لابد من الغسل لأجل الصلاة، ولذلك لا حرج عليها.(295/31)
استعمال الصابون المعطر لمن يريد الأضحية
السؤال
ما حكم استعمال الصابون المعطر والشامبو لمن أراد أن يضحي؟
الجواب
لا بأس به.(295/32)
حكم زيارة المرأة لقبر النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
ورد في الحديث النهي عن زيارة القبور للنساء، فما حكم زيارتها لقبر النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
قال أهل العلم: إذا كانت في المسجد النبوي فمرت بالقبر سلمت وإلا لا تتقصد القبر، فإذا كان طريقها من هناك تسلم وتمشي.(295/33)
ائتمام المرأة بإمام مسجد وهي في بيتها
السؤال
ما حكم صلاة المرأة في بيتها حيث إنها تتابع إمام المسجد الذي يجاور المنزل؟
الجواب
لا يجوز؛ لأن الصفوف لم تتصل وبين المنزل والمسجد شارع يمر فيه الناس والدواب، فإذاً لا يصح والائتمام غير صحيح.(295/34)
حكم صلاة ذوات الأسباب في أوقات الكراهة
السؤال
هل فعل بلال في الصلاة بعد كل وضوء يشمل أوقات الكراهة؟
الجواب
صلاة ركعتين بعد الوضوء لها سبب، وصلاة ذوات الأسباب في وقت ذات الكراهة لا بأس بها، والصلوات التي ليس لها أسباب لا هي استخارة ولا هي كسوف وإنما هي من النفل المطلق، فهذه ينهى عنها.(295/35)
حكم قول: (صدق الله العظيم) بعد الانتهاء من القراءة
السؤال
ما حكم (صدق الله العظيم) بعد قراءة القرآن؟
الجواب
لم يرد في السنة ولم يثبت، ولذلك المداومة عليه من البدع، ولا شك في ذلك، ولو تتابع عليه الناس والقراء والإذاعات فإنه يبقى بدعة من البدع، لم يرد في السنة، فهو عبادة وليس عادة ولا سيارة ولا اختراع، بل هو عبادة، والأصل في العبادة المنع حتى يرد الدليل، وليس هناك دليل إذاً لا تفعل.(295/36)
حكم تعليق الإعلانات في المساجد
السؤال
ما حكم تعليق الإعلانات داخل المساجد؟
الجواب
إذا كانت إعلانات تجارية لا تعلق داخل المساجد وإنما تعلق خارج المساجد، وأما إعلانات المحاضرات والدروس فلا بأس بتعليقها في المساجد، وكل أعمال الخير والمراكز الصيفية التي فيها استفادة من الأوقات وغير ذلك من البرامج النافعة فهذه لا بأس.(295/37)
حكم إطعام نفس المسكين في كل الأيام
السؤال
هل يجوز لك إطعام مسكين واحد لكل الأيام؟
الجواب
نعم؛ لأنه لا يشترط أن يكون عدد المساكين بعدد الأيام، وإنما إطعام مسكين عن كل يوم أخره، فهو لو أعطاها لمسكين واحد جاز ذلك، هب أنه ترك صيام شهر فإنه يقضيه، وعن اليوم الواحد كيلو ونصف من الرز في ثلاثين تساوي خمسة وأربعين كيلو، فيخرج خمسة وأربعين كيلو من الرز مع ذبيحة مثلاً ويعطيها لعائلة من الفقراء.(295/38)
حكم ترك الصلاة في المسجد القريب للذهاب إلى البعيد
السؤال
يوجد في منطقة سكني مسجد قريب والآخر بعيد هل أذهب إلى البعيد؟
الجواب
لا بأس في ذلك إذا كان لا يؤدي ترك القريب إلى وحشة بينك وبين الإمام أو اتهامٍ له أو إفراغ القريب من المصلين.(295/39)
حكم التسبيح بعد الخروج من المسجد للمستعجل
السؤال
هل يجوز تأخير التسبيح بعد الصلاة إلى خارج المسجد في السيارة أو في الطريق إذا كان الإنسان مستعجلاً؟
الجواب
الأفضل أن يقوله وهو جالس بعد الصلاة، لكن لو كان مستعجلاً فقالها في الطريق وهو خارج فلا بأس، وهو مأجور إن شاء الله، لكن أجره في قعوده للذكر بعد الصلاة هو السنة.(295/40)
حكم إسبال الملابس بغير خيلاء
السؤال
ما حكم إسبال الملابس بغير خيلاء؟
الجواب
لا يجوز؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما تحت الكعبين -من الإزار- ففي النار) (ومن جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه) فرتب على عملين مختلفين جزاءين مختلفين، مجرد كونه تحت الكعب فهو في النار، وأما إذا جره خيلاء فله عقوبة أعظم، وهي أن الله لا ينظر إليه.(295/41)
حكم خروج المرأة إلى السوق بغير محرم
السؤال
هل خروج المرأة في الأسواق من غير محرم جائز؟
الجواب
إذا كان بغير فتنة وهي متحجبة الحجاب الكامل ولا يؤذيها الفساق؛ لأنه إذا كان الفساق يؤذونها لابد أن تخرج مع من يحميها، ولا تتعرض للفتنة، فإذا لم توجد هذه المحاذير فلا بأس.(295/42)
حكم الاستهزاء بالملتزمين
السؤال
ما حكم الاستهزاء بالملتزمين بأوامر الله ورسوله؟
الجواب
إذا كان الاستهزاء لالتزامهم فهو كفر، وإذا كان الاستهزاء بأشخاصهم أو ألوانهم أو أشكالهم فهو فسق.(295/43)
حكم الكشف على زوجة العم وتعزيتها
السؤال
هل يجوز أن أكشف على زوجة عمي؟ وهل لي أن أعزيها بالهاتف؟
الجواب
لا، ليست من المحارم، ولا بأس بالكلام الطيب بالمعروف.(295/44)
حكم وضوء من انتصب ذكره
السؤال
هل الانتصاب ينقض الوضوء؟
الجواب
لا.
لا ينقض إلا إذا أنزل شيئاً أو خرج منه شيءٌ مثل المذي.(295/45)
جمع النية في الصوم بين القضاء والنفل
السؤال
امرأة عليها قضاء وتريد أن تصوم ذي الحجة لما له من فضل، هل يجوز جمع النية؟
الجواب
نعم، هي تنوي القضاء، والله سبحانه وتعالى يعطيها.(295/46)
حكم المطالبة بزيادة المرتب
السؤال
هل المطالبة بزيادة المرتب يكون ظلماً؟
الجواب
يجوز للإنسان أن يطالب بزيادة المرتب، لكن إذا كانت المطالبة مقابل عمل من أعمال الخير فقد أخذ أجره في الدنيا.(295/47)
حكم صلاة الضحى في وقت الدوام الرسمي
السؤال
ما حكم صلاة الضحى في وقت الدوام الرسمي؟
الجواب
إذا كان يوجد عمل فلابد أن يؤدي العمل، وإذا كان لا يوجد عمل، وهو جالس هكذا فارغ فلو صلى فلا بأس.(295/48)
حكم قول: اللهم أجرني من النار بعد الفجر والمغرب
السؤال
ما صحة قول الإنسان بعد صلاة الفجر: اللهم أجرني من النار؟
الجواب
ثبت في الحديث (اللهم أجرني من النار سبع مرات) بعد المغرب والفجر.(295/49)
حكم الإفطار في يوم القضاء
السؤال
إذا كان على شخصٍ قضاء وبعدما نوى القضاء أفطر؟
الجواب
لا يجوز الإفطار في القضاء، بل يجب عليه أن يتمه، ولو أفطر فعليه أن يتوب ويقضي مكانه يوماً فقط.(295/50)
القضاء عمن مات في مرضه
السؤال
رجل لم يصم رمضان منذ سنتين لمرضٍ عضال ومات، فماذا عليه؟
الجواب
إذا كان المرض عضالاً لا يرجى شفاؤه فليس عليه شيء، إذا كان يرجى شفاؤه فعليه الكفارة أو الورثة يقضون عنه.(295/51)
كيفية ملء وقت فراغ الشباب
السؤال
عندنا مجموعات من الشباب في الأنشطة الإسلامية فكيف تملأ الأوقات؟
الجواب
أولاً: هذه المراكز وغيرها من الأشياء التي فيها منافع يجب أن تملأ بأشياء من الطاعات والقربات، فمثلاً: يجب أن يكون فيها حلق علم، وتدريس لعلوم شرعية، وحفظ قرآن وإلا تكون فائدتها لا تذكر.
ثانياً: لا بد أن يكون هناك تربية على الآداب والأخلاق الإسلامية ومتابعة للأخطاء وتنبيه عليها والنصح لله، ويجب أن تظهر أجواء الأخوة من الإيثار والتضحية وتقديم الغير على النفس، ويجب أن يكون فيها قدوات يتربى الشباب بأفعالهم حيث يرون منهم خيراً، وكذلك يجب أن يكون لهذه الأنشطة إسهامات في المجتمع مثل البحث عن الفقراء وإيصال الصدقات إليهم، وتنظيف المساجد المتسخة وتوزيع الكتب والأشرطة النافعة، ودعوة أولياء الأمور ونصح الآباء، ولكن من أعظم ما صرفت فيه هو طلب العلم والتربية، وجذب الشباب التائهين بدعوتهم إلى الله عبر هذه المجتمعات، لأنهم يتأثرون بها كثيراً.(295/52)
حكم فضلات ما أكل لحمه
السؤال
كنت ماشياً فنزل علي فضلة من طائر فوق شجرة، ثم نشف؟
الجواب
كل ما أكل لحمه فبوله وروثه طاهر.(295/53)
كيف يتصرف من كان له أسهم في بنك ربوي
السؤال
ورثنا أسهماً من البنك الأمريكي وبنك الرياض حيث إن هذه الأسهم تضاعفت فماذا نفعل؟
الجواب
أولاً: تسأل الله المغفرة لهذا الذي اشتراها إذا كان من المسلمين؛ لأنه ارتكب إثماً عظيماً.
ثانياً: عليكم التوبة إلى الله إذا كنتم تستطيعون التخلص منها قبل ذلك ولم تتخلصوا.
وثالثاً: تعرّفوا على رأس المال وبكم اشتراها الميت فتأخذونه وتجعلونه في التركة والباقي تتخلصون منه، سواء كان زيادة في السعر في السوق أو أرباحاً، أو بأي وجه من الوجوه، ويتخلص منها في وجوه الخير.(295/54)
الأفضل لمن وصل إلى مكة في اليوم الثامن
السؤال
سأذهب إلى الحج وسيكون وصولي إلى مكة يوم الثامن، فما هو النسك الذي تنصح به؟
الجواب
إذا كنت تستطيع أن تأتي بالعمرة وتتحلل وتحرم بالحج ولو بعدها مباشرة ولو بساعة، ولو ما غيرت المناشف، وأحرمت بالحج ففعلك صحيح.(295/55)
درجة الأحاديث المذكورة في المحاضرة
السؤال
الأحاديث التي ذكرتها في المحاضرة ما درجتها؟
الجواب
على أية حال هذه بعضها مما صححه المنذري رحمه الله، وبعضها مما صححه ابن حجر رحمه الله، ولكن ليس هناك إلا حديث قد صححه واحد على الأقل من أهل العلم، وتجد معظم هذه الأحاديث في كتاب صحيح الجامع الصغير وزياداته للعلامة الألباني نفع الله به.(295/56)
حكم من يخلط عملاً صالحاً بآخر سيئاً
السؤال
ما رأيك في رجل كبير السن عليه آثار الخير وهو معفٍ لحيته ولكنه يشرب الدخان؟
الجواب
هذا يؤجر على حسناته، ويأثم على سيئاته، وهي شرب الدخان؛ لأن الله يقول: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وهذا من الخبائث.(295/57)
حكم من أفطر في يوم عرفة
السؤال
إنسان صام يوم عرفة فلم يكمله، هل يحسب له أجر الصيام علماً أنه أفطر بسبب مرض؟
الجواب
يرجى له ذلك إن شاء الله؛ لقول الله للملائكة: (اكتبوا لعبدي مثلما كان يعمل صحيحاً مقيماً).(295/58)
حكم الفصل بين المضمضة والاستنشاق
السؤال
ما حكم الفصل بين المضمضة والاستنشاق؟
الجواب
إذا كان يسيراً فلا يضر، واليسير وغير اليسير عرف.(295/59)
وقت صلاة الضحى
السؤال
أصلي صلاة الضحى قبل أن أذهب إلى الدوام ويكون ذلك في الساعة السابعة والنصف، فهل هذا الوقت صحيح؟
الجواب
نعم، إذا كان بعد ارتفاع الشمس.(295/60)
حكم أخذ الأجرة على لقاح الحيوانات
السؤال
هل يجوز أخذ أجر على لقاح الحيوانات؟
الجواب
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل، فلا يجوز أن يعطي فحله ويأخذ أجراً، عسب الفحل أو منيه لا يجوز بيعه ولا تأجير الفحل.
وهذا مما ينبغي أن يعطى للناس عارية ويوسع الناس فيه بعضهم على بعض، ولا يأخذ عليه أجرة.(295/61)
ضرورة نصح الأصدقاء الذين لا يؤدون الصلاة
السؤال
يوجد لدي بعض الأصدقاء لا يؤدون الصلاة وحيلتي قليلة معهم، فماذا أفعل؟
الجواب
أعط من هذه الحيلة القليلة وانصحهم وأقم عليهم الحجة {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:20].(295/62)
ما يفعله من أتى والإمام في التشهد الأخير
السؤال
دخل المأموم الصلاة وكان الإمام في التشهد الأخير هل يجب عليه أن يكبر تكبيرة الإحرام ثم يدعو دعاء الاستفتاح أو يكبر تكبيرة واحدة ويجلس؟
الجواب
يكبر تكبيرة واحدة ويجلس؛ لأنه إذا كبر فلابد أن يتابع الإمام فلماذا يقف؟!(295/63)
حكم الجهر لمن فاتته الركعتان من صلاة جهرية
السؤال
إذا فاتت المأموم ركعتان جهريتان كصلاة العشاء فهل يجهر بالأخرتين؟
الجواب
الراجح أن الأخيرتين بالنسبة له هما الأخيرتان، وليستا قضاءً يعني على الترتيب، لحديث: (وما فاتكم فأتموا) وهي أرجح من رواية: فاقضوا، كما قال بعض أهل العلم.(295/64)
حكم الطهارة في الطواف والسعي
السؤال
هل يجب على الحاج والمعتمر التطهر عند الطواف والسعي؟
الجواب
يجب للأول ولا يجب للثاني، يعني: يجب على الحاج والمعتمر الطهارة للطواف ولا تجب للسعي.(295/65)
الحالات التي يجوز فيها الكذب وحكم مس المصحف بلا طهارة
السؤال
ما هي الحالات التي يجوز فيها الكذب؟ وما حكم مس المصحف بلا طهارة؟
الجواب
الإصلاح بين الناس، والحرب، وما يكون بين الرجل وزوجته، أما الكذب في الدعوة، فلا، بل قل الحق.
وأما الراجح من أقوال أهل العلم في مس القرآن فإن هذه خلافية شديدة فالأحوط أن يتطهر.(295/66)
أداء الحج يجب على الفور
السؤال
هل أداء الحج على الفور؟
الجواب
لا شك في ذلك.(295/67)
حكم من دخل المسجد في التشهد الأخير
السؤال
كما هو معلوم أن من لم يدرك ركعة تفوته الجماعة فهل إذا وصلنا المسجد وقد فاتت الركعة الأخيرة ننتظر أو نصلي مع الإمام؟
الجواب
هذه مسائل اجتهاد كما قال شيخ الإسلام، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بأن الإنسان إذا دخل المسجد يدخل مع الإمام في الحالة التي عليها الإمام.(295/68)
جواز الاعتداد بما زاد الإمام من ركعات لمن فاتته ركعات
السؤال
أتيت مرة إلى صلاة الظهر وقد فاتتني ركعة، لكن الإمام سها وصلى خمساً فزاد ركعة؟
الجواب
للعلماء فيها قولان بعضهم يقول: أنه يعتد بالزائدة، وبعضهم يقول: لا يجوز أن يعتد بالزائدة لأنها باطلة، وقد ذكر ابن قدامة رحمه الله أنه يعتد بها.(295/69)
حكم من يَقْتُلُ عند رمي الجمرات
السؤال
هناك بعض المسلمين عند رمي الجمرات يقتلون بعض الناس؟
الجواب
حرام.(295/70)
كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة
السؤال
هل يكفي في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أن أقول صلى الله عليه وسلم، أم آتي بالصلاة الإبراهيمية؟
الجواب
الصلاة الإبراهيمية أفضل، لكن لو اكتفيت بهذا فلا بأس.(295/71)
حكم الصلاة على الجنازة في المقبرة
السؤال
توفيت والدتي وكان هذا اليوم غزير المطر لدرجة أنه كان يستحيل وصول الجنازة إلى المسجد، فاضطر لصلاة الجنازة في المقبرة ونحن نرتدي الأحذية؟
الجواب
لا يشترط أن تصلوا عليها في المسجد، ولو صليتم عليها في أي مكان آخر جاز ذلك، أما في المقبرة فالصلاة عليها بعد دفنها.(295/72)
حكم النية لمن يريد أن يقضي
السؤال
هل يجب على من يريد أن يقضي الصيام أن يبيت نية الصيام؟
الجواب
نعم، القضاء لا بد له من نية قبل الفجر.(295/73)
حكم تأخير سنة العشاء إلى الوتر
السؤال
ما حكم تأخير سنة العشاء إلى الوتر؟
الجواب
إذا كان يصلي الوتر قبل منتصف الليل، فنعم، لكن إذا كان يصلي الوتر بعد منتصف الليل فإنه في خارج الوقت، يعني: تصليها قضاءً.(295/74)
حكم الكذب في الدعوة
السؤال
لدي زميل في العمل وأريد أن يلتزم ويحب الخير فهل يجوز أن أكذب عليه في سبيل أن يلتزم؟
الجواب
لا، لا تعود نفسك هذا.
نريد أن نكتفي بهذا القدر من الأسئلة، ونسأل الله أن يجمعنا وإياكم على طاعته وأن يجعل مجتمعنا هذا مجتمعاً مرحوما، وأن يكفر عنا سيئاتنا وأن يتوفانا مع الأبرار، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.(295/75)
غض البصر
إن الله عز وجل رحيم بعباده، ومن لوازم رحمته عز وجل أنه لا يشرع إلا ما ينفعهم، ومن رحمته جل وعلا بهم أن حرم عليهم إطلاق البصر في الحرام، وما ذلك إلا لفتكه بالقلوب كما تفتك الأمراض المزمنة بأجساد أصحابها.
وقد ذكر الشيخ أدلة غض البصر من الكتاب والسنة، وفند شبه الداعين إلى الانحلال والتفسخ، ووضح هدف الشرع من الأمر بغض الأبصار، وأنهى حديثه بذكر أحوال السلف وكيف أنهم صمدوا أمام الشهوات بقوة الإيمان الذي وقر في قلوبهم.(296/1)
تفسير آية غض البصر وأحكامها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:30 - 31] توجيهات علوية من الله سبحانه وتعالى لما فيه صلاحنا وفلاحنا وطهارتنا وعفتنا، جاء بها الله العليم الخبير ببواطن العباد، البصير بهم وبما يصلح لهم سبحانه وتعالى، وهذه التوجيهات ينبغي أن يكون لها في نفوسنا الأثر العظيم.
أيها المسلمون: إن هذا البصر سنسأل عنه يوم القيامة: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36].
هذا البصر نعمة من الله وفقده قد يكون عقوبة: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام:46] ففقده قد يكون بعقوبة من الله على ما أحدث العباد، وقد يكون نعمة من الله سبحانه يبتلي بها من يشاء فيصبر فله الجنة.
قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] ولم يقل: (يغضوا أبصارهم)؛ لأن هناك نظراً جائزاً كنظر الرجل إلى زوجته، ونظر القاضي إلى الشاهد، ونظر الخاطب إلى المخطوبة، ونظر الطبيب إلى المريضة عند الحاجة، فهذا من النظر الجائز المباح استثناه الله تعالى، وقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30].
وليس الرجال فقط مأمورون بغض البصر وإنما النساء أيضاً فقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] وذلك عند خشية الفتنة وثوران الشهوة فلا يجوز لها حتى هي النظر إلى الرجال، أدبٌ نفسي واستعلاءٌ على الشهوات، واستعلاءٌ على النفس التي تريد الاطلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام.
{ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] حتى لا تتلوث نفوسهم بالانفعالات الشهوانية المحرمة: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] أطهر للجماعة والمجتمع عموماً: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] هو العليم بحركات النفوس والجوارح.(296/2)
فائدة قوله (مِنْ أَبْصَارِهِمْ)
وتأمل يا عبد الله! لماذا قدم غض البصر على حفظ الفرج، فقال في الآية: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30].
ذلك لأن النظر بريد الزنا وهو الذي يوصل إليه، ولذلك أمر بغضه أولاً، والعين تزني وزناها النظر إلى ما حرم الله.
وقد قال الله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] وخائنة الأعين: اختلاس النظر إلى المحرم من غير أن يفطن إليه أحد، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال في هذه الآية: [يعلم خائنة الأعين: هو الرجل يكون في القوم فتمر بهم المرأة فيريهم أنه يغض بصره عنها، فإن رأى منهم غفلة نظر إليها، فإن خاف أن يفطنوا إليه غض بصره وقد اطلع الله عز وجل على قلبه أنه يود لو نظر إلى عورتها] يعلم خائنة الأعين فيه وعيدٌ لمن يخون بعين بالنظر إلى ما لا يحل له وقد جاءت الأحاديث موافقة للكتاب العزيز ومؤكدة لما اشتمل عليه من غض البصر فعن جرير رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري) رواه مسلم، وفي رواية: (نظر الفجاءة) وهو أن يقع النظر على الأجنبية بغير قصد، فإذا جاءت فجأةً أمام ناظريه فعليه أن يغض بصره ولا يديم النظر ولا ينظر المرة الأخرى، وهذا معنى حديث ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة) رواه أبو داود وهو حديث حسن.
لا تتبعها، أي: لا تعقبها ولا تجعلها تأتي بعدها بعد الأولى، لك الأولى لأنها بغير قصد وليست لك الآخرة والثانية والثالثة لأنها باختيارك فتكتب عليك، قال قيس بن حازم رحمه الله: [النظرة الأولى لا يملكها صاحبها ولكن الذي يدس النظر دساً].(296/3)
هدف الإسلام من غض البصر والأمر بالاستئذان
أيها المسلمون: إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة ولا تستثار فيه هذه الأمور المحرمة، ولذلك جاء بأمور وتوجيهات فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والجلوس على الطرقات، فقالوا: ما لنا بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها) كانت البيوت ضيقة، غرفة للرجل وزوجته، غرفة وحجرة فليست كل البيوت كانت متسعة لا يجدون مكاناً واسعاً للجلوس إلا على حافة الطريق، قال: (فإذا أتيتم إلى المجالس فأعطوا الطريق حقها، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر- فبدأ به أولاً- وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر).
إذاً: غض البصر لمن يكون في الطريق.
وكذلك جعل الله الاستئذان إجراءً احتياطياً وأمراً احترازياً من أجل عدم النظر إلى العورات، ولذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جاء باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر وذلك لأن الدور لم يكن عليها ستور وحتى لو كان لها أبواب فإن الباب إذا فتح فجأة قد يقع النظر على شيء من عورات أهل البيت، ولذلك يكون من طرف الباب الذي إذا فتح لم يقع النظر على شيء ولا يواجه الباب مباشرة.
فهو إجراء احترازي من أجل عدم وقوع البصر على الحرام.
أيها المسلمون: إن الاستئذان يكون حتى داخل البيوت، وقد علمنا الله في كتابه أن نؤدب أولادنا بألا نجعلهم يداهمون غرفة نوم الأبوين مداهمة وإنما لابد من الاستئذان في الأوقات التي يغلب فيها كشف العورة {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [النور:58]، وحتى المحارم في البيوت، الأم في حجرتها والأخت في غرفتها لابد من الاستئذان عليهن قبل الدخول، فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن نافع كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحلم لم يدخله عليه إلا بإذن.
وجاء رجل إلى ابن مسعود فقال: أستأذن على أمي؟ فقال: [ما على كل أحيانها تريد أن تراها].
وكذلك سأل رجلٌ حذيفة أستأذن على أمي؟ فقال: [إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره].
ومن طريق ابن طلحة [دخلت مع أبي على أمي فدخل فاتبعته فدفع في صدري، وقال: تدخل من غير إذن!].
ومن طريق عطاء سألت ابن عباس [أستأذن على أختي؟ قال: نعم، قلت: إنها في حجري، قال: أتحب أن تراها عريانة؟] وأسانيد هذه الآثار كلها صحيحة.
فحتى المحارم في البيوت وفي غرف النوم كل ذلك من أجل ألا يقع البصر على شيء لا يجوز أن يقع عليه، وألا تكون اللقطات والمناظر محفوظة في الأذهان، وإنما ينشأ الأطفال منذ نعومة أظفارهم على النظافة والسلامة وليس على الصور العريانة.(296/4)
الرد على شبهة المروجين للانحلال
قد شاع في وقت من الأوقات أن النظر المباح، والحديث الطليق، والاختلاط الميسور، والدعابة بين الجنسين، وإقامة العلاقات، والتعارف أمور تزيل الكبت، وتجنب العقد النفسية، وتخفف من الضغط الجنسي ونحو ذلك، ولكن الناظر إلى مجتمعات الانحلال وما عند الغربيين المحدثين وجد أنهم غرقوا في هذه الشهوات حتى الثمالة رشفوا من كأسها، هؤلاء الذين ليس عندهم حجاب ولا غض بصر ما عندهم إلا الانحلال ومطلق الحرية في إقامة علاقات هل حصل عندهم تهذيب الدوافع الجنسية؟ ما حصل عندهم إلا السعار المجنون الذي لا يرتوي ولا يهدأ وإنما يعود إلى الظمأ والاندفاع، وعندهم الأمراض النفسية والبدنية من البرود وغيرها، وأنواع العقد والشذوذ الجنسي، والتلهف على الجنس الآخر، وشيوع الاغتصاب بالرغم من كافة أنواع الحريات المطلقة في تلك المجتمعات؛ مما يدل دلالة على أن الله حكيم خبير وأنه سبحانه وتعالى لما شرع غض البصر، وأمر بالحجاب، ونهى عن الخلوة وسائر الإجراءات والاحترازات، إنما هو لمصلحة الناس أجمعين.
إن الإسلام يهمه أن يمنع المنكر من جميع جهاته، فليست القضية في غض البصر فقط وإنما أيضاً في تغطية العورة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان) يعني: زينها في أعين الناظرين، ولذلك كانت عورة كلها من أعلى شيء في رأسها إلى أخمص قدميها.
المرأة عورة بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا احتجبت المرأة وراء الثياب أو الجدران فإلى أي شيء ينظر الناس، ولو كان عند بعضهم رغبة في النظر.
إذاً: فهذه إجراءات متكاملة واحترازات عظيمة من الشارع سبحانه وتعالى، وحتى الرجال لهم عورة يجب عليهم تغطيتها، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة) مما يدل على أن لكل من الجنسين أمام بني جنسه عورة لا يجوز النظر إليها.
وكذلك أمر بالزواج ورغب في الصيام لمن لم يستطعه، وحتى المتزوج إن له إجراءً إذا وقع على شيء مما يثير الشهوة في نفسه ولذلك (كان صلى الله عليه وسلم جالساً في أصحابه فدخل ثم خرج وقد اغتسل، فقلنا: يا رسول الله قد كان شيء؟ قال: أجل مرت بي فلانة فوقع في قلبي شهوة النساء فأتيت بعض أزواجي فكذلك تفعلون فإن من أماكن أعمالكم إتيان الحلال) وللحديث شاهد من حديث أبي الزهير عن جابر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى زينب وهي تمعس منيئة -يعني: تدبغ أديماً أو جلداً فقضى حاجته- وقال: إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه).
ونظره صلى الله عليه وسلم لم يكن عمداً إلى حرام أبداً وإنما حصل فجأة، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أنزه من أن تثور في نفسه شهوة لأمر محرم وإنما فعل ذلك لكمال إعفاف نفسه وتعليم الأمة ماذا يفعل أحدهم إذا وقع بصره فجأة على امرأة فأعجبته أو رأى منظراً فجأة فثارت في نفسه الشهوة، فَعَلَّم الأمة.(296/5)
الوقاية بالغض من البصر خير من العلاج
ثم أيها الإخوة: إن الشارع قد منع إتيان أماكن الفساد والمحرمات بالإضافة إلى ذلك، وأمر بغض البصر عند دخول الأسواق وغيرها من المجامع التي فيها مظنة النظر إلى ما حرم الله أو شيء من انكشاف العورات.
ونحن اليوم ما أحوجنا إلى غض البصر أمام هذا الكم الهائل من الأجساد التي تعرت عما أوجب الله ستره، والتي كشفت بقصير أو ضيق أو شفاف أو برقع فاتن أو نقاب واسع أو عيون قد غشاها الكحل ونحو ذلك من وسائل الفتنة! ما أحوجنا إلى غض البصر في هذا العصر الذي شاعت فيه الصور في المجلات! ادخل أي مكان فيه مجلات فإذا نظرت إلى زخرفها هل تكاد ترى مجلة ليس على غلافها صورة امرأة؟ إنه أمر من الصعوبة بمكان، وهذه الدعاية التي تعرض فيها صور النساء للجذب بزعمهم حتى ولو لم يكن هناك علاقة بين المنتج والمرأة حتى في المبيدات الحشرية وغير ذلك، وقد بلغت بهم الدناءة أنهم يضعون صور الرجال في المنتجات الخاصة بالنساء عند الدعاية لها، وعكس ذلك أيضاً وصورة المرأة طاغية غالبة، وربما وقفت ساعات تتثاءب أمام سيارة ونحوها لعرض السيارات لابد من النساء.
وهكذا أيها المسلمون تقوم الدعاية المحرمة، أكثر من تسعين في المائة من أنواع الدعاية والإعلام في هذا الزمان محرمة، ومن أسباب التحريم غير الكذب والغش والتزوير أنهم يجعلون صور النساء فيها.
ما أحوجنا إلى غض البصر في هذا العصر الذي انتشرت فيه هذه الصور الفاتنة التي تنتقى فيها أجمل النساء للعرض وتوضع في المجلات والدعايات وهذه الأفلام والشاشات! ولذلك كانت فتاوى العلماء واضحة جداًَ في قضية النظر إلى صور النساء في المجلات أو الأفلام، ولو قال من قال: إن هذه الصور ليست حقيقية إنما هي صور ليست المرأة التي نراها تلمس أو يذهب معها، نقول: إن ذلك وسيلة للفتنة وثوران للشهوة، وقد أتى هذا الصحن الذي يلتقط الموجات ليكمل ما نقص من مسلسل إثارة الغرائز حتى صار الناس إلى الفساد جملة.
يا عباد الله! يا أمة الإسلام! يا أيها العقلاء! يا معشر المسلمين! يا أصحاب الغيرة! انظروا ماذا حصل في حالنا وكيف تبدلت الأمور، منذ سنتين كان يقال: في بيت فلان (دش) لقلته يشير الناس إلى بيته من بين البيوت في الحارة أو الشارع، الآن يدخل بعضهم إلى بيت أناس فيقول لهم: أنتم ما عندكم (دش) ما بعد اشتريتم (الدش)؟ مع أنه قبل فترة قصيرة كان نادراً وقليلاً، ولكن الآن صار من النقص في البيت ألا يكون فيه هذا الصحن، وصار أهل العمارة يشتركون في دفع المبالغ لشرائه، ويصطحب في المخيمات، وتجد صندقة من الصنادق التي يسكن فيها الفقراء (الدش) الذي فوقه أغلى منه، ماذا يعني ذلك؟ بيوت كالخرابات فيها هذه الصحون بأي شيء تأتي؟ إذاًَ: أيها المسلمون: اعلموا بأنه لما أمر الشارع بغض البصر كان حكيماً سبحانه وتعالى وهو يعلم ماذا سيخترع الناس وبأي شيء سيأتون.
عباد الله: لابد من إعادة النظر في البيوت، وإخراج المنكرات منها وسائر المحلات والمستشفيات والشركات.
وغض البصر أمر مهم جداً وإلا فالهلاك والدمار وشيوع الفاحشة والانحلال؛ هذه هي العاقبة التي لابد منها للمجتمع إذا انحرف عن شريعة الله.
وبعض الناس يستحي أن يغض البصر عندما يكلم امرأة أو ممرضة ويرى أن ذلك من العيب ألا ينظر إليها، ومن قلة الأدب ألا ينظر إليها وهو يكلمها، لو فرضنا أن الكلام للحاجة فأي حاجة في رفع البصر إليها، وهل قلة الأدب إلا في النظر إلى المرأة المتبرجة، وُوضعت الأحاديث منذ القديم: ثلاثة يجلون البصر: الماء والخضرة والشكل الحسن، فإذا قصد به النظر إلى الصورة الجميلة المحرمة فلا شك أنه حرام يستدل به الذين لا أدب عندهم اليوم في المجالس يتسكعون وينقلونه ويقولونه نسأل الله السلامة والعافية.
اللهم حصن فروجنا وطهر قلوبنا وارزقنا غض الأبصار والبعد عن الحرام، أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.(296/6)
ما حرم الله إطلاق البصر إلا لمصلحتنا
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله رب الأولين والآخرين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض بالحق وجعل الظلمات والنور، الحمد لله الذي استوى على عرشه، الحمد لله كما ينبغي له سبحانه وتعالى، له الحمد في الأولى والآخرة وهو الحكيم الخبير.
أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله عليه وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إن العاقل يناظر الشيطان ويقول: لماذا أنظر فإن كان قبيحاً أو كانت قبيحة أغتم وتأسف وآثم بالقصد إلى النظر لأنه قد اتضح بأن المسألة لا تساوي، وإن كانت حسنة جميلة فكيف أنظر وليس بالحلال فأبوء بعاجل الإثم والحسرة؟! وكذلك فإن كل نظرة يهواها القلب لا خير فيها، ولنعلم بأن النظرة سهم مسموم يسري السم إلى القلب فيعمل في الباطن قبل أن يرى عمله في الظاهر.
فاحذر يا عبد الله من النظر فإنه سبب الآفات، وعلاجه سهل في أول الأمر صعب جداً في منتهاه.
وخذ هذا المثل: لو كنت على دابة فدخلت الدابة في زقاق ضيق لا تتمكن من الدوران فيه، فإن صحت بها في أول الأمر وزجرتها رجعت بسهولة قبل أن تكمل الدخول، وأما إذا أكملت دخولها وصارت داخل السرداب والزقاق الضيق فكيف تخرجها فلا يمكن الاستدارة ولا الرجوع ولا شدها من ذنبها، فكيف الخروج؟ وهكذا الأمر إذا غض الإنسان البصر من أول أمره، أما إذا تساهل وأطلق وكرر فعند ذلك الهلاك ولابد الهلاك ولابد.
أيها المسلمون: إن النظر أصل لعامة المصائب التي تصيب الإنسان من هذه الشهوات المحرمة، فالنظرة تولد الخطرة، والخطرة تولد الفكرة، والفكرة تولد الشهوة، والشهوة تولد الإرادة، والإرادة تصبح عزيمة، والعزيمة تولد الفعل وتجعله واقعة:
يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
يا باعث الطرف يرتاد الشفاء له احبس رسولك لا يأتيك بالعطب
كمن أرسل لحظات فما أقلعت إلا وهو يتشحط بينهن قتيلاً
النظر يورث الحسرة لأن الإنسان يرى ما ليس قادراً عليه ولا صادراً عنه، وهذا من أعظم العذاب أن ينظر إلى صورة امرأة ليس قادراً عليها، قد تكون متزوجة قد لا يمكنه أن يقربها ولا أن يخطبها ثم بعد ذلك لا يصبر عنها فأي عذاب أعظم من هذا؟
وكنت كلما أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ عليه ولا عن بعضه أنت صابر
لا قادر ولا صابر وهذا هو العذاب الذي يأتي به النظر إلى الصور المحرمة، ولذلك يتعب القلب من كثرة النظر، واسأل المجربين في هذا المجال لتستمع إلى قصص عجيبة من العذاب الذي ابتلوا به نتيجة عدم غض البصر، وقد يعاقب الله عليه في الدنيا وهذا أسهل.
جاء رجل إلى أحد الصالحين وفي وجهه جرح، فقال: ما لك؟ قال: مرت بي امرأة فنظرت إليها فلم أزل أتبعها بصري فاستقبلني جدار فضربني فصنع بي ما ترى، فقال: إن الله إذا أراد بعبدٍ خيراً عجل العقوبة له في الدنيا.
أيها المسلمون: إن الله تعالى إذا حرم أمراً فامتنع العبد عنه فلابد أن يأتيه الله تعالى بخير منه: (ما ترك عبدٌ شيئاً لله إلا عوضه خيراً منه) خيراً منه بسعادة في القلب، خيراً منه بأجر يوم القيامة، خيراً منه بأن يكون من أصحاب الفراسة؛ لأن إصابة الحق لا تكون للواقعين في المعاصي: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} [النور:35] يعني: في قلب عبده المؤمن {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35] يورثه الله تعالى ويعوضه عز وجل عن غض بصره بشجاعة وقوة قلبه، ويجمع الله عليه أمره، وينور له بصيرته، ويسد عليه طرق الشيطان، فإن الشيطان يزين الصورة في القلب ويجعلها صنماً يعكف عليه القلب، ثم يعده ويمنيه ويوقد على القلب نار الشهوة، ويلقي عليه حطب المعاصي، فيصير القلب في اللهب، فمن ذلك اللهب تلك الأنفاس التي فيها وهج النار.
اسأل العشاق الذين وقعوا في عشق الصور، اسأل الذين ابتلوا بهذه الأدواء، وهجٌ كوهج النار وتلك الزفرات والحرقات فإن القلب قد أحاطت به النيران من كل جانب فهو وسطها كالشاة في وسط التنور، ولهذا كان عقوبة أصحاب الشهوات بالصور المحرمة أن جُعل لهم في البرزخ تنور من نار تودع فيه أرواحهم إلى حين حشر أجسادهم يعذبون في ذلك كما جاء في الحديث الصحيح.
إن القلب الذي فيه خواطر حسنة، القلب الذي فيه استنباطات فقهية، القلب الذي يعرف المصلحة، القلب الذي يختار الحق ليس قلباً مليئاً بالصور المحرمة الناتجة عن النظر إلى الحرام.(296/7)
موقف السلف من إطلاق النظر
يا عباد الله: لا تجتمع الصور المحرمة والفراسة الصادقة في قلب عبد مسلم، ولذلك لابد أن نحذر من هذه الأمور وأن نغض البصر في الطائرات والمطارات والفنادق والأسواق والمستشفيات والمنتزهات والمجمعات السكنية والعمارات والشواطئ ومدارس البنات والبيوت المختلطة وأسوار البيوت والشبابيك المطلة والصور والمجلات والأفلام والمسلسلات وحتى عند الكعبة في الحج والعمرة في أشرف مكان وأقدسه لابد من غض البصر وحتى الأقارب، وكثير من الناس من يبتلى بالنظر إلى وجوه بعض الأقارب من غير المحارم فيفتن أيضاً لابد من حفظ البصر، وكثير من وقع في الحرام بسبب ذلك، ولنتذكر حال سلفنا الصالح رحمهم الله.
جاء الربيع بن خثيم إلى علقمة فوجد الباب مغلقاً فجلس في المسجد، فمرت نسوة فغمض عينيه، ليس الواجب تغميض العينين إنما الواجب غض البصر، لكن الربيع فعل ذلك احتياطاً رحمه الله.
وعن سفيان قال: كان الربيع بن خثيم يغض بصره فمر به نسوة فأطرق وغمض عينية حتى ظن النسوة أنه أعمى فجعلن يتعوذن بالله من العمى ويحمدن الله على البصر.
وخرج حسان رحمه الله إلى صلاة العيد فقيل له لما رجع: يا أبا عبد الله! ما رأينا عيداً أكثر نساءً منه، قال: ما وقع بصري على امرأة ولا نظرت على امرأة، فجعل يتعجب من كلامهم.
وقال سفيان الثوري لما خرج من صلاة العيد: أول ما نبدأ به في يومنا هذا غض أبصارنا.
غض البصر عن صورة جميلة محرمة؛ فإن الشخص قد يفتن بصورة امرأة أو أمرد جميل، ولذلك لما رأى بعضهم إنساناً يقرئ غلاماً جميلاً وهو يضحك إليه فقام إليه وجلس إلى جنبه فقال: يا أخي! أما سمعت الله تعالى يقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ} [الحديد:16]؟ قال: بلى، قال: أفما سمعته تعالى ذكره يحذر من فعل قوم اغتروا بحلمه وأنسوا إلى كرمه، فقال: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]؟ قال: بلى، قال: فما بالك لا تخشاه عند قوله تعالى ولا ترجع عند تحذيره وما نزل في كتابه؟! إني رأيتك مغرقاً في الضحك إلى هذا الذي يقرأ عليك كأنك لا تُسأل عن ضحكك ولا توقف على فعلك، وبالله الذي لا يحلف المؤمنون إلا به لئن أخذك على ريب يكرهه ليجعلنك عبرة للعاقل ومذمة للجاهل فنكس الرجل رأسه وأقبل يبكي وقام وتركه.
وهكذا ينبغي الحذر من أي صورة جميلة ومن أي شخص يفتن به فإن العاقبة شنيعة، ولابد أن يكون العاقل وقافاً عند حدود الله مفكراً في العاقبة في الدنيا والأخرى.
هذا الإجراء البسيط -غض البصر- سببٌ في السلامة العظيمة، وما أكثر الحاجة إلى مثل هذا في هذا الزمان! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يجنبنا مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم جنبنا الهوى، اللهم جنبنا النظر الحرام، اللهم جنبنا المعاصي، اللهم جنبنا الفتن يا رب العالمين.
اللهم ارزقنا العفة والعفاف إنك أنت السميع البصير.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين، اللهم انصر المجاهدين واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم من أراد خدمة دينك والسعي إلى الدعوة في سبيلك فوفقه يا رب العباد، وافتح له قلوب العباد، ونور بصيرته، وأجزل له الأجر الكثير إنك أنت الكريم.
اللهم من أراد دينك بسوء فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم من أراد بلدنا هذا أو بلاد المسلمين بسوء فاجعله عبرة للمعتبرين يا رب العالمين.
اللهم وفق من ولي من أمر هذه الأمة شيئاً للعمل بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين واغفر لنا ذنوبنا أجمعين، ارحم موتانا، واشف مرضانا، واقض ديوننا، واستر عيوبنا يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(296/8)
معاتبة النفس
هذه المحاضرة تتحدث عن كثير من السلبيات التي نقع فيها، والتي لابد أن نراجع ونعاتب أنفسنا عليها، ومن هذه السلبيات: عدم الانقياد للحق بسهولة، وكذلك التجرؤ في الفتوى بدون علم، وعدم تعظيم كلام الله إلخ.
كما بين الشيخ الفرق بين السلف والخلف في حب المال، وحب الرئاسة، وكذلك حب الظهور.
وحث الشيخ على مراجعة أخلاقنا مع الأهل والأقارب والأصدقاء(297/1)
حاجتنا إلى معاتبة النفس
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18 - 19].
{وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
أيها الإخوة تعالوا نعاتب أنفسنا، هذا هو موضوعنا في هذه الليلة، ما أشد حاجتنا إلى معاتبة النفس ومحاسبتها، إن هذه المعاتبة والمحاسبة هي التي تجعل النفس تتحرر من أسر الشهوات، وتتحرر من الظلمات، وبالمعاتبة والمحاسبة تقام النفس على الصراط المستقيم، فإن الله سبحانه وتعالى ندبنا إلى ذلك فقال: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] وقد قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]].
وكان رضي الله عنه يحاسب نفسه وهو أمير المؤمنين كما جاء عن أنس رضي الله عنه قال: [سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعته يقول وبيني وبينه جدار وهو في جوف الحائط: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخٍ بخ، والله لتتقين الله يا بن الخطاب أو لعيذبنك] رجاله ثقات.
وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: [رحم الله عبداً قال لنفسه النفيسة: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله فكان لها قائدا].
وقال ميمون بن مهران رحمه الله: [التقي أشد محاسبة لنفسه من شريك شحيح] الذي يحاسب شريكه.
وكانوا رحمهم الله تعالى يحاسبون أنفسهم، ونحن -أيها الإخوة- فينا عللٌ كثيرة، وفي أنفسنا أمراضٌ كثيرة تحتاج إلى علاج وإذا استمرت الأحوال دون تصحيح فإنه يخشى علينا -والله- من الهلكة.
وإذا نظرت -أيها المسلم- فيما حولك تجد في بعض هذه الجموع التي جاءت إلى طريق الحق تريد الاستقامة خيراً كثيراً ولا شك، ولكننا -أيها الإخوة- لا نعتبر بالكثرة وإنما بالحقيقة، والحقيقة أنه يجب علينا أن نحاسب أنفسنا، وأن نعاتبها، هل فينا خوف من الله كما ينبغي؟ هل يوجد عندنا شيء مما كان يوجد عند السلف من البكاء من خشية الله تعالى؟ هل إذا تليت آيات الله حركت في أنفسنا ما يجب أن يتحرك، واقشعرت الجلود والنفوس والقلوب لذكر الله عز وجل ثم انقادت إلى طاعته ومرضاته؟: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ} [الرعد:28] {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23].
عن القاسم بن محمد قال: كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيراً ما كان يخطر في بالي فأقول في نفسي: بأي شيء فضل الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة؟! إن كان يصلي إنا لنصلي، ولئن كان يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو فإنا لنغزو، وإن كان يحج فإنا لنحج؟ حتى كنا في بعض مسيرنا في طريق الشام ليلة نتعشى في بيت إذ طفئ السراج فجأة، فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج يبحث عن شيء لإصلاحه وإيقاده، فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج، فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع، فقلت في نفسي: بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد السراج فصار إلى الظلمة ذكر القيامة.
وقال المروذي لـ أحمد رحمه الله: كيف أصبحت؟ قال: كيف أصبح من ربه يطالبه بأداء الفرائض، ونبيه يطالبه بأداء السنة، والملكان يطالبان بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يراقب قبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة؟ وكم مرة يأتي ذكر النار علينا، ونسمع ذلك كثيراً، فماذا حرك ذلك في أنفسنا؟ أليس فيها من الأهوال وأنواع العذاب ما لو نزل ذكره على جبل لصار خاشعاً متصدعاً من خشية الله؟! عبد الله بن مسعود يقول في قوله تبارك وتعالى: {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل:88] [عقارب أنيابها كالنخل الطوال] إسناده صحيح، وقد جاء مرفوعاً عن البراء بن عازب: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله تبارك وتعالى: {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل:88] قال: عقارب أمثال النخل الطوال تنهشهم في جهنم) فإذاً هذا عذاب فكيف بالعذاب الأصلي؟! فلا شك أن المؤمن يعاتب نفسه على عدم تحرك الخشية أو الخوف من الله عز وجل في نفسه إذا تليت مثل هذه الآيات، وإذا حصل من التذكير بالله عز وجل، فلم تحرك في نفسه شيئاً فلا شك أنها تحتاج إلى معاتبة، لا شك أن نفوسنا من كثرة المعاصي والانشغال بالدنيا وكثرة الوقوع في الآفات قد قست.(297/2)
الفارق بين السلف والخلف في حب الظهور
نحن -أيها الإخوة- ما هو حالنا ونحن نعاتب أنفسنا؟ ما هو حالنا في إخفاء العمل؟ العمل واجب ومطلوب ولا شك في ذلك، لكن هل حاولنا إخفاء العمل كما كانوا -رحمهم الله- يخفونه؟ أليس الواحد منهم كان يحمل جراب الدقيق على ظهره ليعطيه فقراء أهل المدينة؟! أليس الواحد منهم كان إذا نشر مصحفه فدخل عليه رجل غطاه بثوبه حتى لا يراه وهو يقرأ؟! ما رئي الربيع متطوعاً في مسجد قومه قط إلا مرة واحدة، كان يجعل تطوعه كله في البيت حتى لا يرى، أما نحن فنحب الشهرة ونتطلع إليها، ونريد أن نذكر وأن يعلو اسم الواحد منا بين الناس، على عكس ما كانوا عليه رحمهم الله تعالى.
خرج ابن مسعود ذات يوم فتبعه الناس فقال لهم: [ألكم حاجة؟ قالوا: لا.
ولكن أردنا أن نمشي معك؟ قال: ارجعوا فإنها ذلة للتابع، وفتنة للمتبوع] نحن نرى لأنفسنا حقاً وشأناً ومكانة وهم كانوا رحمهم الله تعالى يغمطون أنفسهم ولا يرون لها حقاً، بل كانوا يحتقرونها حتى قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [لو تعلمون ما أعلم من نفسي لحثيتم على رأسي التراب] وكان بكر بن عبد الله المزني إذا رأى شيخاً كبيراً في السن، قال: هذا خير مني، عبد الله قبلي، وإذا رأى شاباً قال: هذا خير مني ارتكبت من الذنوب أكثر مما ارتكب.
فعندنا -أيها الإخوة- طربٌ إذا سمعنا ثناء الناس بخلاف السلف رحمهم الله تعالى.
محمد بن واسع دخلوا عليه يعودونه وهو يقول: ما يغني عني ما يقول الناس إذا أخذ بيدي ورجلي فألقيت في النار.
وكان يقول لجلسائه: لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد أن يجلس إلي.
نحن أصحاب المجاملات، ونحن الذين يتزين بعضنا لبعض ويخفي بعضنا عن بعض أشياء كثيرة، نحن لو قارنا حالنا بحال السلف الذين كان يقول قائلهم هذا الكلام لأفلحنا، ولكن نفعل أشياء من الذنوب كثيرة، ثم نتجمل أمام الناس بالمظهر الحسن ونتظاهر بلباس التقوى، وفي أحدنا من الذنوب ما الله به عليم.
وقال رجل لـ ابن عمر: [لا نزال بخير ما أبقاك لنا الله، قال: ثكلتك أمك، وما يدريك ما يغلق عليك من أخيك بابه].
وإذا كان الواحد منا إذا أثني عليه في مجلس انتفش وانتفخ وأحس بنشوة وطرب فإنهم رحمهم الله كانوا بخلاف ذلك.
قال أحدهم: رأيت أثر الغم في وجه أبي عبد الله -يعني الإمام أحمد - وقد أثنى عليه شخص وقيل له: جزاك الله عن الإسلام خيراً، قال: بل جزى الله الإسلام عنا خيراً، ومن أنا؟ وما أنا؟ وفي أنفسنا نحن عجب كثير، يعجب الواحد بعمله، ويعجب برأيه، مع أن الإعجاب بالرأي مصيبة، وقد لا نفكر بالخوف على أنفسنا من هذا العجب رغم أنه يورد المهالك: (الشح المطاع، والهوى المتبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه) قال رجل لـ ابن عمر: [يا خير الناس وابن خير الناس! فقال: ما أنا بخير الناس ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله أرجو الله وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه].
كان الواحد منهم يرفض أن يثنى عليه، والواحد منا اليوم إذا سمع ثناءً لسان حاله يقول: هات الزيادة، وليثن غيرك ونحو ذلك، وهم رحمهم الله كانوا لا يرون أنفسهم شيئاً، يحتقرون أنفسهم غاية الاحتقار حتى كان الواحد منهم يقف في عرفة يُسمع بغير قصد وهو يقول: اللهم لا ترد هذا الجمع من أجلي، بل كانوا إذا لم يعرفوا سروا بذلك، كان للواحد منهم سمعة بغير قصد، فكان إذا جهل حاله في مكان أو بلد قدم إليه سراً في ذلك.
قال الحسن: كنت مع ابن المبارك يوماً فأتينا على سقاية والناس يشربون منها، فدنا منها ليشرب ولم يعرفه الناس، فزحموه ودفعوه، فلما خرج لي قال: ما العيش إلا هكذا، يعني: حيث لم نعرف ونوقر.
وبينما هو بـ الكوفة يقرأ عليه كتاب المناسك انتهى إلى حديث وفيه قال عبد الله بن المبارك وبه نأخذ، مكتوب تعليق على الكتاب قال عبد الله بن المبارك وبه نأخذ، فقال: من كتب هذا من قولي؟ قلت: الكاتب الذي كتبه، فلم يزل يحكه بيده حتى درس وذهب، ثم قال: ومن أنا حتى يكتب قولي، هذا وهو من السلف رحمهم الله تعالى.
إنهم كانوا حريصين على كسر الفخر وإذهاب العجب والرياء من أنفسهم، لا يمكن للواحد منهم أن يختال وأن يزدري الناس.(297/3)
فرق بين السلف والخلف في حب المال
وكذلك فإننا إذا نظرنا إلى أنفسنا في مسألة حرصنا على المال، نجد الواحد منا يفرح به فرح الأشرين، وربما حصل في نفسه الفرح في الدنيا والتعلق بها، والواحد منهم كان يأتيه المال فيفرقه يميناً وشمالاً، لما أرسل عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة أربعمائة دينار، قال للغلام: [اذهب بها إلى أبي عبيدة ثم تله ساعة -تشاغل في البيت ساعة- حتى تنظر ما يصنع، قال: فذهب بها الغلام فقال: يقول لك أمير المؤمنين: خذ هذه، فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: يا جارية! اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، فوجده قد أعد مثلها لـ معاذ بن جبل فأرسل بها إليه، فقال معاذ: وصله الله، يا جارية! اذهبي إلى بيت فلان بكذا، ولبيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا! ولم يبق في الخرقة إلا ديناران فدحى بهما إليها، ورجع الغلام فأخبر عمر فسر بذلك وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض] كيف لا يكونوا بعضاً من بعض قد رباهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك خرجت هذه النماذج -أيها الإخوة- متشابهة، زهدهم في الدنيا موجود، خوفهم من الله موجود، ليس في واحد منهم ما يقدح في إخلاصه أو في تقواه رضي الله تعالى عنهم، ولذلك أخبر الله أنه رضي عنهم: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119].
ولو نظرنا -أيها الإخوة- إلى ما أصاب الناس اليوم من جراء الاشتغال بالتجارة والبيع والشراء، دخل عددٌ من الناس في التجارات، دخلوا في أنواع من البيوع والشراء لكن دخولهم ما كان لله، أو أنهم دخلوا في البداية يحدثون أنفسهم أن دخولهم لله فإذا به ينقلب ويصبح انشغالاً بالدنيا فتعسوا فعلاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم).
الواحد من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لما كان يحتاج إلى العمل ويحتاج إلى الشغل، يحتاج عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يعمل في مزرعة، هل كان عمله في المزرعة شهوة للدنيا؟
الجواب
كلا.
وإنما كان يعمل للحاجة، لا بد أن يكسب قوته وأن يكسب حاجته، ولكن هل كان عمله في الدنيا يمنعه أو يشغله عن طلب العلم؟ كلا.
ولما عقد البخاري رحمه الله تعالى باباً في كتاب العلم بعنوان: التناوب في العلم، أتى بقصة عمر رضي الله عنه: [كنت أنا وجار لي من الأنصار] وذكر القصة وفيها أن واحداً منها كان يبقى ليعمل والثاني يذهب إلى المسجد، ليسمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم فيرجع إلى صاحبه فيخبره بما حصل وبما قيل، وبما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم، طالب العلم لا يغفل عن النظر في أمر معاشه، ليستعين به على طلب العلم وغيره، ولكنه يأخذ بالحزم بالسؤال عما يفوته في يوم غيبته، هذه الفائدة العظيمة التي ذكرها ابن حجر رحمه الله تعالى.
الآن بعض الشباب ربما جاءتهم بعض الخواطر للاشتغال في التجارة، فدخلوا فيها، وفتحوا محلات، وذهبوا يعملون في صفقات، ويذهبون في سفريات، ويستوردون البضائع، ويحضرون المعارض، ويأخذون وكالات ويشتغلون، وهذا أمر جيد إذا ما قيد بالضوابط الشرعية، لكن أيها الإخوة! هؤلاء الذين فتحوا المحلات وجلسوا يبيعون فيها أو راحوا في السفريات والأعمال كيف أصبح حالهم؟ لقد تدهور الكثيرون منهم تدهوراً شنيعاً، لقد اشتغلوا بالدنيا فقست قلوبهم، لقد أعرضوا عن مجالس ذكر كانوا يحضرونها، لقد تركوا كتب علمٍ كانوا يقرءون فيها، ولذلك باع بعضهم كتبه، أو قال: أهبها على استحياء، أو أجعلها وقفاً أو أجعلها في مسجد ونحو ذلك، تخلصوا من الكتب التي كانوا يقرءون فيها، وكان لهم صحبة طيبة يجلسون إليهم يتعلمون منهم ويستفيدون منهم فتركوا ذلك كله.
كنت أحادث شخصاً قبل يومين بالهاتف وقد دخل في تجارة من هذه الأنواع، وكان الرجل من قبل من المبكرين إلى الصلاة في المسجد، الذين يحافظون على الجماعة، ويحضرون حلق العلم والذكر، وفيه شيء من الرقة، ثم ذهب الرجل في شيء من التجارة وسافر، ودخل في وكالات واستثمارات، واشتغل في أنواع من هذه الصفقات، فقلت له: هل لا زلت تحضر درساً في الأسبوع؟ قال: لا وللأسف، ما عدت أحضر شيئاً مطلقاً من الدروس، لا مع أصحابي ولا في المسجد؛ ولذلك فإن هؤلاء الذين ينزلقون في متاهات الاشتغال بالتجارة ولا يقدرون أنفسهم حق قدرها، ولا ينضبطون بالضوابط الشرعية يكون ذلك وبالاً عليهم، ربما يدخل في التجارة يقول: أنا غرضي إفادة الإسلام، وسأجعل جزءاً من أرباحي في سبيل الله، وفعلاً قد يجعل أشياء من الصدقات، لكن لو نظر في النهاية إلى ما آل إليه أمره من قسوة القلب والابتعاد عن طلب العلم وعن الدعوة إلى الله وعن الأخوة الصالحة لوجد الفرق شاسعاً والبون عظيماً بين حاله الآن بعد اشتغاله وقبل ذلك.
وما أحد يقول: إنه لا يمكن الجمع بين التجارة والعبادة والطاعة، لقد كان هناك من أهل العلم من يشتغل في التجارة، ومن أشهرهم ابن المبارك رحمه الله تعالى، قيل له: أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة ونراك تأتي بالبضائع كيف ذا؟ فقال: يا أبا علي! إنما أفعل ذا لأصون وجهي، وأكرم عرضي، وأستعين به على طاعة ربي، قال: يا بن المبارك! ما أحسن ذا! وكان بعضهم يشتغل بالتجارة يقول: لولا المال لتمندل بنا هؤلاء.
يعني: لتلاعب بنا السلاطين وأذنابهم، وصاروا يذهبون بنا يميناً وشمالاً، واحتجنا إليهم في طلب الأموال، ولذلك كانوا يستقلون بالتجارة، لكن هل كانوا ينغمسون فيها بالكلية؟ أو يقول الواحد كما يقول الواحد في هذا الزمان: أنا أحتاج فترة تأسيس، أنا أحتاج تفرغاً للعمل سنتين أو ثلاثاً ثم بعد ذلك أرجع إلى ما كنت فيه؟ ولكن في الحقيقة ينغمس ويتدرج في الانغماس حتى تذهب السنوات الثلاث والسبع والعشر وهو يتردى من أسفل إلى أسفل، وهكذا حال كثير منهم.(297/4)
طلب الرئاسة بين السلف والخلف
وفينا من العيوب أيضاً أيها الإخوة: طلب الرئاسة، والحرص عليها، والسعي إليها، وتمنيها، وبذل الغالي والنفيس من أجلها، ولا شك أن الذي يحرص على الرئاسة دون أن يكون هناك تقوى من الله فإنه يفسد دينه، فإن الحرص عليها يفسد الدين كما يفسد الذئب في زريبة الغنم إذا أفلت فيها وهو جائع كما دل عليه في حديث: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) ما أفسد منها للدين، ما أفسد للدين من حرص الشخص على المال والشرف.
عن يوسف بن أسباط سمعت سفيان يقول: ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب فإن نوزع الرئاسة حامى عليها وعادى.
صارت هي المطمع، صار السعي إلى المنصب هو المطمع، حتى لو بذل دينه، حتى لو تنازل عن أشياء من الإسلام، حتى لو عمل مخالفات شرعية، همه الوصول إلى المنصب، حتى لو نافس غيره ممن هو أحق منه من المسلمين، يفعل ذلك، وليس الكلام موجهاً إلى من يتوجه لسد ثغرة يدرأ بها عن الإسلام وأهله شراً، ومن كان عنده استعداد لهذا النوع فهو مأجور إذا كان يعلم من نفسه القدرة والحكمة لفعل هذا ولا يطلبه للدنيا ويسعى إليه للفخر، ولكن كثيراً من الناس سعيهم ومسابقاتهم في الوظائف هي من جنس حب الرئاسة المذموم.(297/5)
عدم الانقياد للحق بسهولة
من العيوب التي فينا أيها الإخوة: أننا لا ننقاد إلى الحق بسهولة، وربما لا ننقاد إلى الحق أبداً، نبصر بعيوبنا فنكابر، والواحد ينصح فيدافع عن نفسه ويقول: ليس فيما تقول لي، لست بكذا ولست بكذا، ما قصدت هذا القصد، وهو في نفسه وفي قرارة نفسه يعلم يقيناً أن هذا قصده وهذه نيته، ولكنه يكابر ويأبى ويصر على تبرئة نفسه، وحتى في النقاشات العلمية بعضنا في المجالس إذا تبين له الدليل وعرف أنه ليس على شيء أصر على رأيه، إما تعصباً أو مكابرة أو حتى لا يقال إنه تراجع، ويعتبر أن التراجع ضعف ومهانة وذلة، فتقول له النفس الأمارة بالسوء: كيف تتراجع بالمجلس أمام فلان وفلان، لو تراجعت فقلت يا فلان جزاك الله خيراً بينت لي الحق أنا رجعت، أو يسكت لكن يعتبر أن السكوت أو التراجع ذل وأنه لا يصلح له أن يفعل ذلك فيكابر ويصر بغير دليل، ولا عنده حجة ولا برهان.
عن أبي حنيفة عن ابن سماك وحدثه ابن أبي ذئب وكان من كبار الفقهاء بالحديث، فقال له: أتأخذ بهذا الحديث؟ فضرب صدري وصاح كثيراً ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: تأخذ به، نعم آخذ به، وذلك الفرض علي وعلى كل من سمعه.
وقد مضى قول الشافعي رحمه الله: ما كابرني أحد على الحق ودافع إلا سقط من عيني، وما قبله أحدٌ إلا هبته واعتقدت مودته.
وقد ناظر الشافعي رحمه الله رجلاً من أهل العلم، انتهت المناظرة بأن رجع كل منهما إلى قول صاحبه، الشافعي ترك قوله واقتنع برأي الآخر، والآخر ترك قوله واقتنع برأي الشافعي، يعني: أنهم رضي الله تعالى عنهم ما كان التعصب رائدهم، ولا كانوا يتناقشون ويتجادلون لإظهار النفس، أو أن ينتصر الشخص في المجلس أو يفحم الخصم أو يسكته، بل إنهم كانوا يتناظرون للوصول إلى الحق.(297/6)
الفتوى السريعة في هدم الشريعة
ومن البلايا التي فينا -أيها الإخوة- والطامات: تسرعنا في الكلام في الدين، والإفتاء، والإخبار بأن هذا حلال وهذا حرام، مخالفين أمر الله عز وجل أو نهي الله عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116] فترى الواحد منا في المجلس إذا طرحت مسألة علمية أو قضية سارع بالكلام فيها والجزم والإخبار عن الحكم مع أنه بعيد كل البعد عن المعرفة به، ولا عنده فيه لا دليل ولا قول عالم، لا عنده فتيا عالم ولا دليل، ومع ذلك يسارع إلى الجزم بالحكم والكلام به عن رأيه المجرد دون أن يكون عنده قاعدة أو يكون عنده أهلية للكلام في مثل هذه المسائل، هذه الجرأة على دين الله مذمومة، لو كانت المسألة في آلة من الآلات أو دواء من الأدوية لهان الخطب، ولكن المسألة في الدين ومع الأسف صار دين الله في المجالس عرضة لأن يدخل فيه كل الناس ويدلون بآرائهم، ولكن إذا صارت القضية في مسألة اقتصادية أو طبية سكتوا إلا أهل القراءة والخبرة أو العلم بهذا الفن، فصار دين الله عند الناس أرخص من الدنيا، صار يتكلم في دين الله كل واحد من أوساط المتعلمين والمثقفين والجهلة والعامة.
عن نافع أن رجلاً سأل ابن عمر عن مسألة فطأطأ رأسه ولم يجبه، حتى ظن الناس أنه لم يسمعه فقال له: [يرحمك الله أما سمعت مسألتي؟ فقال: بلى.
ولكنكم كأنكم ترون أن الله ليس بسائلنا عما تسألونا عنه، اتركنا يرحمك الله حتى نتفهم في مسألتك، فإن كان لها جواب عندنا وإلا أعلمناك أنه لا علم لنا بها] كانوا يتدافعون الفتيا كل واحد يدفعها إلى الآخر ويقولون: اسأل فلاناً حتى تعود إلى الأول، تدور الفتوى على عشرة أو أكثر ويأبون الكلام فيها للتحرج بأن الواحد منهم يعلم الإثم المترتب على أن يفتي بشيء لا علم له به: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:169] هذا من أكبر الجرائم، (ومن أفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه) الإثم على من أفتاه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.(297/7)
عدم تعظيم كلام الله
ومن عيوبنا أيضاً التي نعاتب أنفسا فيها: عدم احترامنا لكلام الله تعالى، لا يظهر على الواحد منا أثر الحفظ، الآن الحمد لله انتشر حفظ القرآن، وصار هناك أعداد من الذين يحفظون القرآن الكريم، وهذا شيء طيب ولا شك، ويثلج الصدر، ويشعر الإنسان ببرد في نفسه مما يرى من كثرة الحفاظ وتوالي المتخرجين من حلق التحفيظ.
ولكن أيها الإخوة! هل ظهرت آثار هذا القرآن المخزون، أو هذا القرآن المحفوظ في النفس أو في القلب، هل ظهرت على نفوس الحفاظ وعلى محياهم؟! هل ظهرت في تصرفاتهم وأفعالهم؟! هل كان كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه واقعاً فينا، وفي الذين يحفظون كتاب الله أو أجزاء كثيرة من كتاب الله؟! قال عبد الله بن مسعود: [ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون, وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إلى الناس يختالون].
وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً، حليماً حكيماً سكيتاً، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافياً ولا غافلاً ولا صخاباً -ليس بذيئاً- ولا صياحاً -غير مرتفع الصوت بالصياح- ولا حديداً -لا يكون وقحاً ولا يكون جلفاً- وإنما يكون سهلاً ليناً ينقاد، المؤمن كالجمل المربوط إذا أقيد انقاد، وإذا أنيخ على صخرة استناخ، المؤمن يألف ويؤلف، فهل ظهرت آثار حفظ القرآن على الذين يحفظونه؟ وهل ظهر الأدب الذي يتأدب به عليهم؟ هذا مما ينبغي أن نعاتب أنفسنا به كذلك.(297/8)
قسوة القلوب
من الأمراض التي أصبنا بها: قسوة القلب، عدم النشاط في العبادة، الفتور والتكاسل عن الطاعات، هذه ولا شك من عيوبنا، وإذا جاء الملك للإنسان منا بخاطرة عبادة، ولا شك أن كل خاطرة عبادة مبعثها الملك؛ لأن الشيطان مع الإنسان موكل به يأمره بالشر والملك يأمره بالخير، ما من خاطر خير في نفسك إلا ومبعثه من هذا الملك الذي هو معك مقترن بك، وخاطر الشر من الشيطان المقترن بك، كلما جاء الملك إلى الواحد منا بخاطرة من صدقة أو صلاة أو صيام أو تلاوة أو دعاء أو ذكر واستغفار ونحو ذلك من أنواع الطاعات والعبادات كالعمرة أو الحج، إلا وتجد النفس الأمارة بالسوء تتثبط وتثبط، وتأتي قضية لعل وعسى والتسويف، بخلاف ما كان عليه السلف رحمهم الله تعالى من النشاط في العبادة والمسارعة فيها.
عن أسد بن الوداع عن شداد بن أوس أنه كان إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم، فيقول: اللهم إن النار أذهبت مني النوم فيقوم فيصلي حتى يصبح، وكان الواحد منهم يطيل الصلاة ويطيل العبادة مما نتبرم منه نحن اليوم، نحن لو أطلنا شيئاً من إطالتهم لسئمنا أشد السأم وتبرمنا أشد التبرم.
قالت بنت لجار منصور بن المعتمر: يا أبت! أين الخشبة التي كانت في سطح منصور قائمة لم أعد أراها؟ قال: يا بنية! ذاك منصور كان يقوم الليل ليس بخشبة، ذاك منصور كان يقوم الليل رحمه الله تعالى، لكن من قيامه وسكونه وخشوعه رضي الله تعالى عنه ورحمه حسبته البنت الصغيرة أنه خشبة، ونحن لا نصدق متى ننتهي من الركعات حتى نذهب ونندس للنوم، ولا شك -أيها الإخوة- أن هذا الداء الذي فينا أصابنا بسبب المعاصي والانغماس في الدنيا والبعد عن الله عز وجل، هذا من الصدأ الذي أصاب قلوبنا من دخان أنفاس بني آدم، ومن كثرة الأكل والنوم والخلطة والضحك والاهتمام بالدنيا، لا شك أن لهذه الأشياء آثاراً سلبية على النفوس.
قال عاصم بن عصام البيهقي: بت ليلة عند أحمد بن حنبل فجاء بماء فوضعه لي، فلما أصبح نظر إلى الماء بحاله ما تغير، فقال: سبحان الله! رجل يطلب العلم لا يكون له ورد في الليل كيف يتفق هذا؟! فكان الحث منهم على العمل والنشاط والمسارعة؛ لأنهم امتثلوا أمر الله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد:21] عرضها كعرض السماء والأرض، هذا العرض فما بال الطول؟ يا جماعة! العرض كعرض السماء والأرض، ومعروف أن الطول أطول من العرض، الجنة عرضها كعرض السماء والأرض فما بالك بطولها؟! كان مطرف بن عبد الله يقول: يا إخوتاه! اجتهدوا في العمل فإن كان الأمر كما نرجو من رحمة الله وعفوه كانت لنا درجات الجنة، وإن يكن الأمر شديداً كما نخافه ونحذر لم نقل: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] نقول: قد عملنا فلم ينفعنا ذلك، على الأقل ما نتندم ونقول: أرجعنا نعمل صالحاً، المهم أن نعمل.(297/9)
دوام المحاسبة
ومن الأشياء أيضاً التي نحن في سهو عنها: مسألة المحاسبة التي تنتج العمل، فإن مجرد أن يتذكر الإنسان بعض الأشياء دون أن يكون بعدها للعمل ليس أمراً مفيداً بالغاية المطلوبة، ونحن مع كثرة الخلطة ما صار الواحد فينا يجد مكاناً أو مجالاً لمحاسبة نفسه، صرنا في حال الخلطة مع الأصدقاء والأقرباء والزملاء في العمل وفي الدراسة وغيرها، ما عندنا مجال للخلوة بأنفسنا، فالواحد منا يكون مع أصحابه وكان مع أقربائه، أو كان مع أهله، أو كان مع جيرانه، كان مع الناس في الدكاكين، كان في الأسواق، وهذه الخلطة التي تمنع الإنسان من أن يجد لنفسه وقتاً يحاسب نفسه فيها لا شك أنه يخسر بذلك خسراناً عظيماً، وكانوا -رحمهم الله- لهم لحظات ساكنة يحاسبون فيها أنفسهم.
قال إبراهيم التيمي: مثلت لنفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أيْ نفس! أيُّ شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً قال: فقلت: فأنت في الأمنية فاعملي.
أنت الآن في الأمنية وهي أنك في الدنيا فاعملي.
وكانت هذه المحاسبة مستمرة عندهم بحيث أنهم -رحمهم الله تعالى- كانوا يذكرون من فضلهم ومن سبقهم، كما مر بعضهم على خباب رضي الله عنه وهو يبني حائطاً له، خباب اكتوى سبع مرات، مما أصابه من العذاب في مكة، اكتوى سبع مرات يعالج نفسه بعد ذلك والله سبحانه وتعالى مد له في الأجل، وجاءت الفتوحات ففتحت عليهم الدنيا، قال قيس: [أتيت خباباً وهو يبني حائطاً له، فقال: إن أصحابنا الذين مضوا لم تنقصهم الدنيا شيئاً، وإنا أصبنا من بعدهم شيئاً لا نجد له موضعاً إلا في التراب].
هذا المال نبني به شيء نجعله في التراب.
وعن أبي وائل قال: [عدنا خباباً فقال: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله تعالى فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد وترك نمرة فإذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها] مع أنهم كانوا يعملون في الحلال ولا أشغلتهم الدنيا عن طاعة الله، وإنما كانوا إذا نودي للجهاد قاموا وواصلوا الجهاد، مع أنهم قسموا الغنائم في المعركة التي قبلها، وعندهم أشياء كثيرة من الدنيا، لكن الدنيا ما قعدت بهم عن الجهاد في سبيل الله أبداً.
كان عبد الرحمن بن عوف لا يعرف من بين عبيده من تواضعه، لباسه مثل لباس عبيده، ليس له فضل عليهم، فهذا العمل منه يذكر إخوانه الذين سبقوه بالإيمان وأنهم أفضل منه لأنهم ما أخذوا من الدنيا شيئاً.
ولما قدم طعام الإفطار لأحدهم ذكر من مات من إخوانه الذين سبقوه أنهم ما أخذوا شيئاً، فبكى حتى ترك الطعام وقام عنه.
إذاً هذه النفسية التي يحاسب الإنسان بها نفسه ويذكر أن هناك من إخوانه من ذهب وما أخذ شيئاً من الدنيا، فيحصل في نفسه من هذه الأشياء التي تنفعل في نفسه وتعتمل في نفسه ما يجعله يذكر الله عز وجل ويحاسب نفسه على هذه الأموال التي بين يديه، إن هذه النفسية لا تكون إلا وليدة كثرة العبادة وذكر الله والتضحية في سبيل هذا الدين، والتربية على هذا الدين هي التي تنتج هذه النماذج.(297/10)
خطر السكوت عن المنكر
من العيوب التي فينا أيها الإخوة ونحن نعاتب أنفسنا عليها: قضية السكوت عن المنكر، وعدم التغيير، رغم أننا نرى أمامنا المعصية تفعل، نرى أن المنكر قائم، نرى أمامنا حدود الله تنتهك، نعلم يقيناً أن هذا حرام، نعلمه يقيناً بالأدلة وبفتاوى العلماء ثم لا نغير شيئاً، ولا يلتفت أحدنا أو يهمس ببنت شفه في سبيل تغيير هذا المنكر، وربما لا يفكر أصلاً، أو لا يختلج في نفسه شيء من قضية التغيير، حتى التردد ربما لا يحصل، ويمر أمام المنكر وكأن شيئاً لم يكن.
قال أبو عبد الرحمن العمري: إن من غفلتك وإعراضك عن الله بأن ترى ما يسخطه فتجاوزه، ولا تأمر ولا تنهى خوفاً ممن لا يملك ضراً ولا نفعاً.
وقد ضرب السلف رحمهم الله المثل الأعلى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر والجرأة في الحق، فهذا الأوزاعي لما بعث به إلى عبد الله بن علي وكان من كبار السفاكين والسفاحين اشتد ذلك عليه، وقدم ودخل عليه والناس سماطان -فريقان- هناك حصل كلام واختلاف في قضية خروج عبد الله بن علي هذا وسعيه في الحكم والإمارة، فقال عبد الله بن علي للأوزاعي: ما تقول في مخرجنا وما نحن فيه؟ قال: فتفكرت ثم قلت: لأصدقن واستبسلت للموت؛ لأن هذا الشخص سفاح ليس عنده شيء أسهل من سفك الدماء وأن تطير الرءوس عن أجسادها، ثم رويت له عن يحيى بن سعيد حديث الأعمال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله الحديث) كأنه يقول له: إن كان خروجك لله فأنت على خير، وإن كان طلباً لملك أو طلباً لإمرة أو طلباً لدنيا فأنت ولك، وبيده قضيب ينبذ به، ثم قال: يا عبد الرحمن! ما تقول في قتل أهل هذا البيت؟ قلت: حدثني محمد بن مروان عن مطرف بن الشخير عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل قتل مسلم إلا في ثلاث وساق الحديث) فقال: أخبرني عن الخلافة وصية لنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: لو كانت وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك علي رضي الله عنه أحداً يتقدمه.
وهذا فيه رد على أهل البدع الذين يقولون: إن علياً عنده عهد من النبي عليه الصلاة والسلام في الخلافة من بعده، قال الأوزاعي لذلك الرجل: لو كانت وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك علي أحداً يتقدمه.
قال: فما تقول في أموال بني أمية؟ قلت: إن كانت لهم حلالاً فهي عليك حرام، وإن كانت عليهم حراماً فهي عليك أحرم -إن كانت لهم حلالاً لا يجوز لك أن تأخذها فهي عليك حرام، وإن كانت عليهم حراماً أخذوها بغير وجه حق فهي عليك أحرم؛ لأنك ستأخذ المال الحرام وتضيف إليه إثماً آخر وهو الغصب- فأمر بي فأخرجت، قال الذهبي: قد كان عبد الله بن علي ملكاً جباراً سفاكاً للدماء صعب المراس، ومع هذا فالإمام الأوزاعي لصدعه بمر الحق كما ترى لا كخلق علماء السوء الذين يحسنون السوء للحكام فيقتحمون الظلم والعسف لأهل الجور، ويقلبون له الباطل حقاً قاتلهم الله، أو يسكتون مع القدرة على بيان الحق.(297/11)
إهمالنا لأهل بيوتنا
كذلك -أيها الإخوة- من الأشياء والعيوب التي عندنا مما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إهمالنا لأهل بيوتنا، إهمالنا للزوجات وعدم تعليمهن، إهمالنا للأولاد وعدم تربيتهم، ربما يكون أولاد الواحد يخرجون إلى الشوارع ويتعلمون الألفاظ البذيئة، وربما يمارسون الفواحش، ويكون المسئول عنه واحد ممن يظهر عليه آثار الالتزام والتدين، ومع ذلك هذا حال أولاده وإخوانه الصغار، فأين الإحساس بالمسئولية؟ وأين أثر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} [التحريم:6]؟ أين هذا من إهمالنا نحن لحال أهلينا وحال أولادنا وزوجاتنا بل وآبائنا وأمهاتنا؟ وقد كانوا -رحمهم الله- يهتمون بذلك اهتماماً عظيماً، قال عبد الرحمن بن رستة: سألت ابن مهدي عن الرجل يبني بأهله -واحد يدخل بزوجته- هل يترك الجماعة أياماً -هل يجوز له ترك صلاة الجماعة؟ هل يجوز للعريس أن يترك صلاة الجماعة أياماً؛ لأنه إذا دخل بها فانشغل بزوجته وهو حديث عهد بها وبشهوته فربما تفوت عليه الصلوات ويصعب عليه إدراك الجماعة، هل ترخص لهذا العروس الجديد إذا دخل بزوجته أن يترك الجماعة أياماً؟ وهذا تراه شائعاً عند بعض الناس يقولون: أول فجر وأول جمعة وأول ثلاثة أيام يبتدعون من عندهم مقادير معينة للصلوات أنه لا يأتيها ولا يصليها ولا يركعها في جماعة، وهذه رخصة، يؤكدون أنها رخصة وأنه ليس عليه إثم إذا فعل ذلك، فيترك الجماعة أياماً- قال: لا.
ولا صلاة واحدة.
الآن العلاقة بقضية الأهل والأولاد، وحضرته صبيحة بنى بابنته، ابن مهدي يفتي أنه لا يجوز لهذا الشخص أن يتخلف عن صلاة الجماعة، بني في ابنته في الصباح خرج فأذن ثم مشى إلى بابهما؛ باب البنت وزوجها، فقال للجارية: قولي لهما يخرجان إلى الصلاة، الرجل في المسجد والمرأة تقوم تصلي في البيت، فخرج النساء والجواري فقلن: سبحان الله! أي شيء هذا؟ هذه أول ليلة وهذا أول فرض، فقال: لا أبرح حتى يخرجا إلى الصلاة.
النبي صلى الله عليه وسلم كان يطرق بيت فاطمة وعلي ليلاً على صلاة النافلة، على الصلاة المستحبة، ويأمرهما بالصلاة، فكيف بقضية إهمال الأهل والأولاد في الأمر بالصلاة الواجبة: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]؟ الحقيقة أننا كثيراً ما نقصر في أمر أهالينا بالصلاة، وهذا أمرٌ مما نعاتب أنفسنا به أشد المعاتبة، ذلك لأننا سنشترك الإثم لو سكتنا عن القضية.
لو سكتنا عن محاربة المنكرات في البيوت سنأثم ولا شك، والآن المنكرات تزداد وتتنوع وتتشعب وتكثر، أصناف ألوان من المنكرات تغزو البيوت غزواً استعمارياً شديداً، وتسيطر على الأفكار، وتوقظ الشهوات في النفوس، وتلقي بضلال الشبهات في القلوب، هذه قضايا واقعة فما هو موقفنا تجاهها؟ أو ماذا فعلنا لأهلينا وأولادنا؟ هذه من الأشياء التي قصرنا فيها، ونعاتب أنفسنا فيها.
ما هو موقفنا من الجهاد؟ هل يوجد واحد منا يتمنى أن يجاهد؟ هل الواحد منا يتمنى الشهادة؟ هل الواحد منا يحدث نفسه بالغزو؟ وجد أعذاراً في وضعه وحاله أنه لا يجب عليه الجهاد، ولكن هل يحدث نفسه بالغزو أو الشهادة، أو أن القضية بعيدة المنال بحيث أنها لا تخطر له على بال، ولا تأتي له على قلب مطلقاً؟ لو كنا صادقين في موقفنا من الجهاد لكنا نحدث أنفسنا على الأقل بفرضيته وأهميته وأجر الشهادة وفضل الشهادة ونتمنى الشهادة حتى إذا مات الواحد منا على فراشه نال أجر الشهادة، هذا خالد بن الوليد لما حضرته الوفاة رضي الله عنه قال: [لقد طلبت مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عمل شيء أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتها وأنا متترس والسماء تهلني ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار] يقول: هذا أرجى عمل، أحرس أنتظر والسماء تمطر وأنا أنتظر الصباح لنغير على الكفار، ثم قال: [إذا مت فانظروا إلى سلاحي وفرسي فاجعلوه عدة في سبيل الله].
وابن أم مكتوم وهو أعمى معذور قال: [أي رب! أنزل عذري، فأنزلت: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95] فكان بعد يغزو ويقول: ادفعوا إلي اللواء فإني أعمى لا أستطيع أن أفر وأقيموني بين الصفين].
يقول: أنتهز فرصة أني أعمى فلا أفر فضعوا اللواء عندي.
حتى نساؤهم رضي الله عنهن، أم سليم اتخذت خنجراً يوم حنين، فقال أبو طلحة: (هذه أم سليم معها خنجر، فقالت: يا رسول الله! إن دنا مني مشرك بقرت به بطنه، من أجل ذلك وضعت عندي هذا الخنجر).
أبو طلحة قرأ قول الله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] فقال: [استنفرنا الله وأمرنا شيوخاً وشباباً جهزوني، فقال بنوه: يرحمك الله إنك قد غزوت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ونحن نغزو عنك الآن، قال: فغزا في البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فلم يتغير] ما يتغير مثلما يتغير الموتى.(297/12)
السلبية القاتلة
ومن الأشياء التي نعاتب فيها قضية السلبية، السلبية القاتلة التي تمنعنا عن القيام بالأعمال، السلبية القاتلة التي تقعد بنا عن ممارسة الأدوار الإسلامية المطلوبة في الواقع، السلبية القاتلة التي تمنعنا حتى من تثبيت إنسان مسلم يتعرض لفتنة، الآن إخواننا الذين يتعرضون لفتن كثر، واحد يتعرض لفتنة المال، وواحد يتعرض لفتنة المنصب، وواحد يتعرض لفتنة النساء، وواحد يتعرض لمحنة اضطهاد، ما هو دورنا؟ ولا شك أن كل واحد فينا يعلم على الأقل ممن يبتلى أو يتعرض لفتنة أو محنة، ما هو دورنا في تثبيته؟ هل قمنا بأشياء في تثبيتهم؟ هل مددنا لهم يد العون الإسلامية بالتذكير والموعظة؟ كانت أبواب التثبيت متداولة في العصر الأول، لو واحد تعرض لمحنة يجد من إخوانه من يقف بجانبه، لو تعرض لشدة وكربة يجد من إخوانه من يساهم في تفريجها عنه، يجد الواحد على الحق أعواناً، والآن يتعرض الإنسان لمحن وأنواع من الفتن فلا يجد ممن حوله من يقف، ولو حتى بكلمة ينصحه بها ويثبته، ولذلك تكثر حالة الانتكاس.
ومن أسباب الانتكاس: أن هناك سلبية من المحيطين بالشخص المنتكس، لقد أحسوا بتقهقر، لقد رأوا بوادر الشر، لقد لمسوا مواطن ضعف الشخص، لكنهم ما فعلوا شيئاً، ولذلك لو ناقشت بعض هؤلاء المنحرفين لقال لك: إن جزءاً من المسئولية يقع على عاتق أصحابي الأول، إنهم ما كانوا حولي لما حصل لي ما حصل من الضعف، ولا أحد جاء ونصحني ولا ثبتني ولا لازمني، هم يعرفون أنني أنحدر فما لازموني بل تركوني أنحدر إلى الهاوية لوحدي.
الإمام أحمد رحمه الله لما حمل إلى المأمون أُخبر أبو جعفر رحمه الله قال: فعبرت الفرات مع أنه الإمام أحمد لكن ما قال: هذا الإمام أحمد لا يحتاج إلى تأثير ولا يحتاج نصراً، لا.
لا بد من ممارسة دور حتى لو كان الإمام أحمد، فإذا هو جالس في الخان فسلمت عليه، فقال: يا أبا جعفر! تعنيت -أتعبت نفسك- فقلت: يا هذا! أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق، وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، -أي: كلهم ينتظرون كلمتك- ومع هذا فإن الرجل -يعني: الخليفة- إن لم يقتلك فأنت سوف تموت، فاتق الله ولا تجب، فجعل أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله، ثم قال: يا أبا جعفر! أعد علي فأعدت عليه وهو يقول: ما شاء الله ما شاء الله.
حتى أن أعرابياً ممن كانوا يعملون الشعر في البادية لما سمع أن الإمام أحمد متوجه ومحمول إلى المأمون، ذهب من مكان إلى مكان حتى وصل إلى مكان الإمام أحمد وهو أعرابي، وجلس يقول له كلاماً بالثبات على الحق، مع أنه أعرابي وهذا الإمام أحمد، لكن ما منعه ذلك من أن يؤدي دوراً في الموضوع.
حتى اللصوص في السجن كان أحدهم يقول للإمام أحمد: يا أحمد! إني أصبر على الضرب وأنا على الباطل، أفلا تصبر عليه وأنت على الحق؟! ويقول واحد من أهل السجن للإمام أحمد: إنما هي ضربة أو ضربتان بالسوط ثم لا تدري أين يقع الباقي، قال: فسري ذلك وخفف عني.
فالواحد عندما يكون في محنة ويجد من إخوانه من يقف بجانبه يسر بذلك، ويشعر بشعور عظيم ويشعر بتثبيت، واليوم نحن نتخلى عن أدوار مهمة جداً يمكن أن ينقذ الله بها أقواماً من الناس بسبب سلبيتنا القاتلة.(297/13)
التساهل في فتنة النساء
ومن الأمور -أيها الإخوة- التي نعاتب أنفسنا فيها في موضوع الفتن، هذا التساهل الذي يحدث منا في فتنة النساء، من النظرة المحرمة، مخالفين قول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] ومخالفين قول حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتبع النظرة النظرة) ولا شك أن النبي عليه الصلاة والسلام قد حذرنا من فتنة النساء، وقال: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) وقال: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).
واليوم بفعل هذا التبرج الشائع، وهذه الملابس التي هي زينة في نفسها والتي جعلت الأمر أشد، وهذه الروائح والأطياب التي شاعت وانتشرت ووضعت مما جعل الأمر أنكى وأسوأ، وهذا الخروج من البيوت وأماكن الاختلاط وموضوع التصوير، وشيوع الأفلام جعلت من فتنة النساء اليوم أمراً عظيماً لا يثبت أمامه إلا من عصمه الله.
ولا شك أننا في وضع لا نحسد عليه في هذه القضية، وكثيرون هم اليوم الذين يطلقون أبصارهم إلى ما حرم الله، ويقولون: نحن لم نفعل الفواحش، نعم لكنهم مصرون، لو فرضنا أن النظر من الصغائر فهم مصرون على الصغيرة والإصرار قد حولها إلى كبيرة.
كان أحد السلف في بعض المغازي فتكشفت جارية فنظر إليها فرفع يده فلطم عينه وقال: لحاظة إلى ما يضرك؟ وقال عمرو بن مرة بعدما عمي: ما يسرني أني بصير، قد كنت نظرت نظرة وأنا شاب.
وهو شاب حصل أنه نظر نظرة.
وعن سعيد بن المسيب قال: [ما يئس الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء].
وقال لنا سعيد وهو ابن أربع وثمانين سنة قال: علي بن زيد وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشو بالأخرى: ما من شيء أخوف عندي من النساء.
هذا عمره أربعة وثمانون سنة، واحدة ذهبت والأخرى يعشو بها ويقول هذا! ونحن اليوم يحصل عندنا من التساهل في موضوع النساء أمر عظيم جداً، سواء في قضية أمرهن بالتستر والحجاب، أو التساهل في إخراجهن إلى أماكن الاختلاط والفساد، أو التساهل في النظر إليهن سواء كانت صوراً حية واقعية تتحرك في الشوارع والأسواق وعلى أبواب مدارس البنات والكليات وغيرها، أو كانت صوراً متحركة في أفلام، أو كانت صوراً مطبوعة في مجلات وأوراق، أقول: إن ما حصل من التساهل في هذا أمر عظيم جداً، قد جعل الكثيرين يقعون في المعاصي، وأمور تحركها الشهوات بسبب عدم غض البصر، ولربما وقع الواحد في فاحشة -والعياذ بالله- نتيجة تساهله، هذا التساهل الموجود عند بعض الناس في بعض القطاعات كما يوجد عند بعض الأطباء تساهل في النظر إلى المريضات، كما يحدث من تساهل بعض الباعة في النظر إلى النساء، وهم يعيشون بيئة من أسوأ البيئات، الباعة الذين هم في المحلات من كثرة ما يرون من الأجناس والأخلاط من هؤلاء المتبرجات أو السافرات المتعطرات الملعونات اللاتي لعنهن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (العنوهن فإنهن ملعونات) والمقصود لعن الجنس وليس لعن المعين، لعن هذا الجنس: المائلات المميلات؛ رءوسهن كأسنمة البخت، هؤلاء الكاسيات العاريات؛ بأن تكون لابسة شيئاً قصيراً أو شفافاً أو ضيقاً، وهذا هو حال كثيرٍ من النساء، وهن متوعدات باللعنة وهي الطرد من رحمة الله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (العنوهن فإنهن ملعونات).
هذا التساهل الحاصل من قبل بعض هؤلاء الأطباء أو الباعة وغيرهم من الذين يتعاملون في أوساط فيها نسوة، أو الموظفين في بعض الشركات، أو بعض الذين يتساهلون فيمن يعمل بجانب سكرتيرة أو امرأة، ثم يقع بعد ذلك ما يقع، وهي تأتي في الصباح إلى العمل متبرجة متعطرة.
كان يونس بن عبيد من السلف يقول: لا يخلون أحدكم مع امرأة ولو كان يعلمها القرآن، ولو كانت القراءة منه وليست منها فإنه لا يجوز له ذلك.
لا يخلون أحدكم مع امرأة يقرأ عليها القرآن، فكيف بهؤلاء الذين يفعلون ما يفعلون من انتهاك المحرمات؟! فهذه قضية مهمة من القضايا التي تنبئ عن عيوبٍ خطيرة في أنفسنا.(297/14)
فلنراجع أخلاقنا
وإذا انتقلنا إلى مسألة الأخلاق، وجدنا أن عندنا تقصيراً عظيماً، وأننا نعاني من عيوب كبيرة في مسألة الأخلاق، فتجد الجبن والكذب والبخل؛ هذه ثلاثة من أسوأ الأخلاق، موجودة عند الكثيرين، أو يكون في النفوس نصيب من كل خلق سيئ من هذه الأخلاق.
النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة حنين أو بعد غزوة حنين لما جاء هوازن يطلبون نساءهم وأبناءهم وأموالهم قال: (يا أيها الناس! ردوا عليهم نساءهم وأبناءهم الحديث) ثم ركب راحلته وتعلق به الناس يقولون: اقسم علينا فيئنا حتى ألجئوه إلى سمرة فخطفت رداءه عليه الصلاة والسلام، فقال: (يا أيها الناس! ردوا علي ردائي، فوالله لو أن لي بعدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم لا تلقوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذوباً) حديث صحيح رواه أحمد والنسائي عن ابن عمرو رضي الله عنهما.
فإذاً هذه ثلاثة من أسوأ الأخلاق: الجبن والبخل والكذب، وهي موجودة ومنتشرة ومتفشية.
وكذلك فإن مما يبلغ بالسوء غايته أن يجعل الإنسان شعار التدين، ويكون في حال من التمسك بالظاهر لبعض السنن وتحدث منه أو تبدو منه هذه الأخلاق التي تدل الناس على شيء من الازدواجية التي يعاني منها هذا الشخص، أو مظهر من مظاهر النفاق ولا شك.
قضية الكلام الفاحش من سوء الخلق، ولعن من لا يستحق اللعن، وهذه قضية منتشرة، والغيبة والنميمة التي صارت فاكهة المجالس، وكثير من الذين يعظون في الغيبة يقعون فيها، والسلف رحمهم الله كانوا يحاسبون أنفسهم على الكلمات، التي قد تبدو عادية لبعض الناس فكانت عندهم ذات شأن.
عن مالك بن ضيغن قال: جاء رباح القيسي يسأل عن أبي بعد العصر، فقلنا: إنه نائم، فقال: أنوم هذه الساعة؟ ثم ولى منصرفاً، فأتبعناه رسولاً يذهب وراءه فقلنا: قل له: ألا نوقظه لك؟ فأبطأ علينا الرسول، ثم جاء وقد غربت الشمس، فقلنا: أبطأت جداً، فقال: هو أشغل من أن يفهم عني شيئاً، أدركته يدخل المقابر وهو يعاتب نفسه ويقول: أقلت: أنوم هذه الساعة؟ أفكان هذا عليك؟ ينام الرجل متى شاء وقلت هذا وقت نوم؟ وما يدريك أن هذا ليس بوقت نوم؟! ثم قال مخاطباً نفسه: تسألين عما لا يعنيك وتتكلمين بما لا يعنيك.
هذا على كلام يبدو عادياً جداً عند بعضنا، ومع ذلك كانوا يحاسبون أنفسهم على هذه الأشياء.(297/15)
صلة الرحم وبر الوالدين
مما نعاتب به أنفسنا تقصيرنا في صلة الرحم، زيارة الأقرباء، وبر الوالدين على رأس صلة الرحم، بل أهم شيء في صلة الرحم بر الوالدين، ومع ذلك قصرنا فيه كثيراً، فالذي يكون والداه معه في البيت فهو في شيء من سوء الخلق وعصيانه، وعدم تلبية رغباتهم، وعدم الإحسان إليهم، وكلمة (أف) عنده عادية، مع أن الله سبحانه وتعالى قال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] نهى عن الأذى بالكلام: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] ونهى عن الأذى بالفعل: {وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] وأمر بضد ذلك: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23] بدلاً من (أف) {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] بدلاً من: {وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] فاكتمل للأبوين الفعل الطيب والكلام والطيب والنهي عن الفعل السيئ والكلام السيئ كما أمر الله عز وجل.
والذي يكون معه والداه في البيت يفعل أشياء مشينة في هذا، وربما نفض يديه في وجههما، نفض الدين في الوجه، هذا يعتبر من أنواع العقوق، ولو كان الوالدان في بلد آخر لكان السؤال قليلاً والتفقد نادراً والوصل بهدية أو مال أو شيء أيضاً أمراً قليلاً، وربما قال: أنا أولى بذلك ونحو ذلك، وصار يجادل أباه على مال أو بيت ونحوه، ويفاوضه كأنه إنسان غريب أجنبي.
عن ابن عون قال: دخل رجل على محمد بن سيرين عند أمه فقال: ما شأن محمد يشتكي شيئاً؟ فقالوا: لا، ولكن هكذا كان عند أمه مثل المريض.
وعن ابن عون: أن أمه نادته فأجابها، فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين، كيف يعلو صوته على صوتها؟ وكان الهذيل بن حفصة يجمع الحطب في الصيف فيقشره ويأخذ القصب فيفلقه، فإذا كان الشتاء جاء بالكانون قالت أمه: فيضعه خلفي وأنا في مصلاي ثم يقعد فيوقد بذلك الحطب المقشر وذلك القصب المفلق لا يؤذي دخانه ويدفئني، نمكث بذلك ما شاء الله، قالت: وعنده من يكفيه لو أراد ذلك، أي: هناك خادم لو أراد يأتي بخادم، لكنه يمارس ذلك بنفسه، قالت: وربما أردت أنصرف إليه فأقول: يا بني! ارجع إلى أهلك ثم أذكر ما يريد فأدعه.
وكان واحد من كبار العلماء في المجلس تقول له أمه: يا فلان! وهو في المجلس وعنده طلبة العلم، وعنده ناس يكتبون الحديث، قم فألق الشعير للدجاج، فيترك الحلقة ويقوم ليلقي الشعير للدجاج، ويقوم ولا يقول: سكتوها، أو يتبرأ منها، ولست أنا المقصود.
من قضايا الأخلاق والبر والصلة: معاملاتنا مع إخواننا، يوجد من الصدود والنفرة والشحناء والبغضاء والقطيعة والهجران والمعاملة السيئة والألفاظ الخشنة والتعامل الخشن مع إخواننا، ولا شك أن هذا منافٍ للبر، وهو من الأشياء التي نعاني منها كثيراً، كل واحد يعاني من الثاني، وكل واحد يشتكي من الآخر، والعيب مشترك، الخلل فينا جميعاً وليس أحدٌ مبرأ إلا من أبعده الله عز وجل عن هذه الأخلاق.
حتى قضية الإنفاق على الإخوان من الأشياء التي صارت عزيزة، والواحد صار يؤثر نفسه على إخوانه بدلاً من أن يؤثر إخوانه على نفسه، كما قال الله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].
وابن المبارك رحمه الله كان يأخذ الاشتراكات من أصحابه عند السفر، ثم ينفق عليهم طيلة الطريق، وإذا وردوا البلد يشتري لهم هدايا لأولادهم مما يشتهون ويتمنون، ويقول: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم يا فلان ويا فلان ويشتري الهدايا، فيرجعون إلى أهليهم ثم يعيد إليهم نفقات الاشتراكات ويكون المال الذي صرفه عليهم في الرحلة كله من ماله، وهداياهم من كيسه، وهدايا أولادهم من كيسه.
وكان ابن عمر يخدم أصحابه، وكان يرحل رواحل أصحابه، البعير إذا صار وقت المسير يحتاج إلى تجهيز، فكان يفعل ذلك، وكان يفعل ذلك لخدمه أيضاً.
وكان بعض السلف يواسي أخاه في الحفاء، لما تنقطع نعله يحمل هو نعليه أيضاً ويمشي حافياً فيقول له صاحبه: ما حملك على ذلك رحمك الله؟ قال: أواسيك في الحفاء، أي: مادام أنك لا تريد أن تأخذ نعلي فسأمشي معك في الحفاء، فكان حسن التعامل موجوداً وقائماً.
من الأشياء التي نعاني منها في علاقتنا الأخوية: سوء الظن، إذا رأى من أخيه تصرفاً حمله على أسوأ المحامل، وأول ما يتبادر للذهن الاحتمال السيئ، وليس الاحتمال الحسن، ولا نطبق القاعدة السلفية التي يقولها أبو قلابة: إذا بلغك عن أخيك شيئاً تكرهه فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجد له عذراً فقل في نفسك: لعل في أخي عذراً لا أعلمه.
وكثيراً ما تكون هذه الصدامات بين الإخوان وبين الشباب سبباً لتفرقهم، والأشياء التي تزرع الشحناء والبغضاء في نفوسهم بسبب أن الواحد لا يعذر الآخر ويتصيد أخطاءه، ويقول الواحدة بالواحدة ويعامل بالمثل، مع أن الآخر ربما ما قصد الشر، لكن هذا يحملها على أنه قصد الشر ثم يعامله بالمثل، ويقول له: وجزاء سيئة بمثلها، من لم يؤاخِ إلا من لا عيب فيه قل صديقه، من الذي لا يوجد فيه عيب، ومن لم يرض من صديقه إلا بالإخلاص له دام سخطه، ومن عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوه، وهذه من الآفات.
إن بعضنا يعاتب أخاه على كل شيء، أي تصرف خاطئ لا يمره، لا بد أن يوقفه عند كل واحد، أنت فعلت كذا وأنت آذيتني بكذا، وضايقتني بكذا ونحو ذلك من الأشياء، ونتصيد ونجمع الأخطاء ثم تعتمد في نفوسنا وتتحول إلى شحناء وبغضاء، وإذا صار الانفجار يكون دفعة واحدة، ونسرد الأشياء سرداً، ولا عندنا صدر متسع لكي نتحمل أخطاء إخواننا علينا.
وحتى اختلاف الرأي، كم يتسع الصدر منا للخلاف مع إخواننا؟ الخلاف في الرأي لا الخلاف المذموم كأن تكون على سنة وهو على بدعة، أو أنت على علم وهو على جهل؟ لا.
الخلاف في الرأي.
قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى: ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟! لا يمكن أن يكون الناس على قلب رجل واحد في جميع الآراء.(297/16)
تضييع الأوقات
ثم -أيها الإخوة- من الأشياء التي نعاتب أنفسنا فيها جداً: قضية تضييع الأوقات، وتضييع الأوقات قد صار شعاراً لكثير من الناس، يضيعون الأوقات في التوافه، مع أن الوقت هو مخلوق لكي نملأه بالطاعات: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] فالله جعل الليل والنهار لكي نملأه بالطاعات: {خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] الليل وراء النهار والنهار وراء الليل، يختلفان لكي نعمرهما بالطاعات، فماذا فعلنا في ذلك؟ قال الحسن: أدركت أقواماً كان أحدهم أشح على عمره منه على درهمه.
كان هذا سيماهم رحمهم الله تعالى، يستغلون الأوقات بالعبادات أولاً، وبطلب العلم، يقول الرقاق: سألت عبد الرحمن بن أبي حاتم عن اتفاق كثرة السماع له وسؤالته لأبيه، فقال: ربما كان يأكل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه، يستغل كل وقت وكل دقيقة يقرأ على أبيه ويستفيد منه ومن علمه، والآن تضيع الأوقات فلا طلب علم ولا شيء، ويصبح الجهل متفشياً.
الشباب كانوا في سفر فجاءوا وقت صلاة المغرب لجمع المغرب مع العشاء فاختلفوا: هل تقصر صلاة المغرب أو لا؟ ثم استقر الرأي على أن تقصر وصلوا المغرب ركعتين، كيف يكون هذا؟ هذه من أبسط الأشياء، قصروا المغرب وصلوا ركعتين.
وآخرين نزل المطر في جماعة في مسجد صلوا ركعتين في البلد، جمعوا وقصروا في المطر في البلد.
وآخرون تأخر الخطيب فصلوا ظهراً أربع ركعات مباشرة، واحد يمسك مصحف ويخرج على المنبر ويقرأ آيات، يقول الشافعي: يقرأ آيات ويدعو.
ما أحد يحسن أن يفعل هذا؟ ما أشد جهل الناس، وما أجبنهم في الحق! ولكن إذا صارت الدنيا قام كل واحد ينافح عن ماله وعن نفسه.
فتضييع الأوقات بالأشياء التافهة، حفظ القصائد والأشعار ليست من الملح، كان بعض المحدثين يختم حلقته بملحة أو بطرفة، لكن اليوم صار كل الحلقة وكل المجالس في طرف ونكت وفوازير وصوت صفير البلبلِ، وهذا شغلهم عن حفظ الأهم، وليس أنهم يحفظون ليتهم يحفظون متوناً في طلب العلم أو الحديث أو الفقه، ونحو ذلك.
صارت الأوقات تضيع بالخلطة وكثرة النوم والسهر على غير منفعة، وكثرة الكلام وهكذا، وتضيع أيضاً بطلب الدنيا، هذا معجب بالكفار، وهذا ينزل قبل الدوام ويطلع بعد الدوام بساعات ويفخر بأنه نشيط في العمل، ونحو ذلك: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم) إنما يكفي أحدكم ما كان في الدنيا مثل زاد الراكب، لا نقل: تأخر عن الدوام، واخرج قبل الدوام، لا.
اجعل راتبك حلالاً لكن أن تكون عبداً للدنيا، تخرج من الصباح ولا ترجع إلا في الليل، وأعمال إضافية ما هذا؟ وكذلك هذه الزيارات الفارغة التي ليس فيها ذكر لله تعالى، مجالس ليس فيها صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حتى كفارة المجلس، تضيع الأوقات بمرور هذا على هذا وهذا على هذا وجلوس هذا عند هذا والإسراف بالمال في الاهتمام بالمظهر وإنفاق الأموال فيه.
ونجد عندنا كذلك مقابل الإسراف البخل بالصدقة، لو دعا داعي الصدقة تصدقنا بريالات، لكن لو دخل الواحد منا مطعماً أنفق العشرات، لا يحاسب نفسه عند الإنفاق في سوق ونحوه على ما ينفقه من المبالغ، لكن إذا أتت الصدقة وأخرج من جيبه بالغلط عشرين أرجع واحدة ووضع واحدة.
فنحن عندنا إذاً -أيها الإخوة- شيء من البخل والشح ينبغي أن نحاسب أنفسنا عليه.
عندنا توسع في الترفيه يصل إلى استخدام الأشياء المحرمة، عندنا مجاراة للأهل والأولاد إذا طلبوا منا أشياء محرمة كأنواع من الأفلام أو الألعاب المحرمة، إذا اشتهى شيئاً أعطيناه إياه، وجلبناه له، عندنا محبة للراحة والدعة والكسل، وانقلبت نقاشاتنا من أشياء مفيدة في طلب العلم إلى أشياء فيها أنواع من المباراة والمجادلة، لا يوجد شيء مبني على قراءة كلام العلماء، وإنما قضية ظنون وآراء شخصية.
وكذلك فإننا نعاني من إنفاق الأموال في غير طاعة الله، والسفر إلى بلاد الكفار في السياحة، صار هذا ديدن كثير حتى من المنسوبين إلى الخير، يسافر في السياحة إلى بلاد الكفار، لا ضرورة ولا حاجة شرعية، لو أنه يقيم فيها هارباً مثلاً، أو يقيم فيها مؤقتاً للحاجة كعلاج أو نحوه لقلنا: ذلك متوجه، لكن يذهب للسياحة وإنفاق الأموال، وهو لا يعطي في سبيل الله إلا النزر اليسير، فهل يكون هذا شأن المسلم الجاد؟! وكذلك فإننا نحتاج إلى سؤال أنفسنا عن هذه الأموال التي ننفقها من أين اكتسبناها وفيم أنفقناها؟ ونحن من خلال عرض هذه الأشياء -أيها الإخوة- لا نريد القول بأنه ليس في أحد خير، كلا والله، بل إن هناك كثيراً من الناس واقعهم طيب، وكثيراً من المجالس فيها خير كثير وفيها ذكر وعلم، وهناك كثير من الناس يبذلون في سبيل الله ويعطون وينفقون، وآخرون من المسلمين حريصون على طلب العلم، ويجتهدون فيه، ويحفظون القرآن، ويحفظون من السنة، ويحفظون متون العلماء أشياء لا بأس بها، وهناك الكثيرون عندهم سخاء وعندهم حسن خلق وعندهم تعهدٌ لأولادهم وبعضهم أنجز إنجازات كبيرة جداً في بيوت من إخلائها من المنكرات، أو من جمع الأهل على طاعة الله، ونجح بعض الدعاة إلى الله في تغيير بيوت وليس بيتاً واحداً، وأثروا في جيرانهم وأهل حيهم، وجماعة مسجدهم، بل وصل بهم الأمر لتعدي النفع إلى البعيدين من مراسلة هؤلاء الذين يرسلون بالرسائل التافهة إلى ركن المعرفة أو التعارف في المجلات، فأرسلوا لهم الكتب النافعة، والأشرطة الطيبة، وصار ذلك من أسباب هداية الخلق ممن كانوا بعيدين عن شرع الله.
أقول: إن هناك خيراً ولا شك من ذلك، ولا يمكن أبداً أن يكون الكلام السابق معناه الخروج بنظرة سوداوية عن الواقع، كلا والله، بل المقصود -أيها الإخوة- أن نعاتب أنفسنا، والإنسان إذا عاتب نفسه ذكر معايبها، ليست القضية الآن تقييماً للواقع، كان الكلام هو بعنوان: تعالوا نعاتب أنفسنا، أي: عن التقصيرات الموجودة عندنا، إذاً نحن نركز على السلبيات والمعايب، وننظر إليها لنصلح من شأنها، ونحن المقصودون بالكلام، وليس الكلام لغيرنا أو لأناس من غير الموجودين، إن المؤمن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذُكَّر ذَكَر، ونحن إذا ذكرنا أنفسنا يجب أن نتذكر كلنا وأنا أولكم، ينبغي أن نحمل أنفسنا على الحق، وأن ننظر إلى العيوب التي عندنا فنشتغل بتصحيحها، وإلى الخلل فنشتغل بتسديده، ولا يصلح أبداً أن يبقى الإنسان المسلم على معصية، أو يبقى على عيب مع أنه قد وجه إليه وعرف به وهو مصر على إبقاء ما هو عليه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(297/17)
يا باغي الخير! أقبل [2]
لقد يسر الله لهذه الأمة العمل، وضاعف لها الأجر، وفتح لها من أبواب الخير أموراً كثيرة، وفي هذه الخطبة يواصل الشيخ الكلام عن هذه الأعمال التي قد سبق ذكر شيء منها في خطبة سبقت.(298/1)
خلاصة الكلام في حكم أعياد الكفار
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.
تكلمنا في الخطبة قبل الماضية عن بعض أبواب الخير التي فيها أجر عظيم يجهلها أو يهملها كثير من المسلمين، وكنا نُريد إكمال تلك الخطبة بخطبةٍ أٌخرى كما فعلنا في المنكرات التي استهان بها الناس، وقطعنا بين ذلك، وهذه خطبة عن حكم مشاركة الكفار في أعيادهم لمناسبة تلك الخطبة في ذلك التاريخ، ومعلوم ما شاهدناه أيها الاخوة! من مشاركة كثير من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها للكفرة، وشاهدنا بأعيننا ما أخبرنا عنه صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمة من أنها ستتبع سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة.
بل وجدنا بعض أبناء المسلمين يتحمسون لأعياد الكفار أكثر من تحمس الكفار أنفسهم، وأشرنا إلى أن الأعياد التي ابتدعها الكفرة كلها محرمة في دين الله وإن كان ظاهرها الخير والفائدة، فمثلاً: لا يجوز الاحتفال معهم ولو كان الاحتفال بعيد ميلاد المسيح، كما لا يجوز لنا أن نحتفل بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أن نعمل بدعاً وموالد، وكذلك لا يجوز الاحتفال بسائر الأعياد، كعيد الأم أو عيد الأب، أو الطفولة، أو المعلم، أو عيد الوطن، أو عيد الثورة أو عيد العمال، أو عيد الربيع إلى آخر هذه البدع التي جاءتنا من الكفرة.
وقد آلمني قصة نقلها إليَّ بعض الإخوان، فقال: إن رجلاً من المسلمين دخل على أٌمه قبل فترةٍ من الزمن، فقالت له: أين هديتي؟ فقال لها: وأية هدية؟ فقالت: ألا تعلم بأن اليوم عيد الأم، وهذا فلان صاحبك أو قريبك قد أهدى لأمه هدية بهذه المناسبة، فلماذا لا تهدي إلي؟! تغلغلت البدع حتى عند بعض العجائز، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأولئك الكفرة المجرمون يبرون بأمهاتهم يوماً من السنة ويعقونهن بقية الأيام، فأي برٍ هذا؟! وديننا يأمرنا أن نبر أمهاتنا وآباءنا كل يوم وساعة، فأيهما أعظم؟ وتحويل البر وسائر الأنواع من الخيرات إلى مناسبات معينة يحتفل بها في السنة ثم تُنسى هذه الأمور في بقية السنة، فهذا ليس من العقل والدين في شيء.(298/2)
أبواب من الخير غفل الناس عنها
نعود أيها الاخوة! في هذه الخطبة إلى إتمام الكلام عمَّا سبق أن بدأناه بأبوابٍ من الخير استهان بها الناس أو غفلوا عنها:(298/3)
الحب في الله
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: (زار رجل أخاً له في قريةٍ فأرصد الله له ملكاً على مدرجته -على طريقه- فقال: أين تريد؟ قال: أخاً لي في هذه القرية، فقال: هل له عليك من نعمةٍ تردها؟ -هل أنعم عليك بشيء فتريد أن تقابله- قال: لا.
إلا أني أحبه في الله، قال الملك: فإني رسول الله إليك أن الله أحبك كما أحببته) إنه حديث عظيم في فضل السفر وشد الرحال لزيارة الإخوة في الله.
وهذه سنة ضائعة؛ إذ قلما يُسافر أناسٌ في هذا الزمان سفراً نيتهم فيه زيارة إخوانهم في الله في الأماكن الأخرى، وهذا أمر لو تحقق لساعد في إقامة العلاقات والروابط بين المسلمين، ولو تناءت ديارهم، وتباعدت أقطارهم، وعندما يُسافر المسلم بمشقة السفر ليزور أخاً له في الله، فإنه يُدلل على قيام أركان الأخوة الإيمانية في قلبه.(298/4)
نصرة المسلم والذب عنه
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من أحدٍ ينصر مسلماً في موطنٍ يُنتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطنٍ يُحبُّ فيه نصرته) حديث حسن، وقال: (من ذبَّ عن عرضِ أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يُعتقه من النار) رواه أحمد وهو حديث صحيح.
فانظر الآن كم من إخوانك المسلمين يتعرضون للغيبة ونهش اللحوم في المجالس أمامك وأنت تسمع! ثم قل لي بربك: ماذا فعلت أمام هذا الهجوم من هؤلاء آكلي لحوم البشر كما شبههم الله عز وجل؟! هل قمت بحق الدفاع عن أخيك المسلم -على الأقل- حتى يُكتب لك هذا الأجر؟! وزد على ذلك حتى لا تكون ساكتاً في هذا المجال، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
ثم إننا قد استسهلنا -أيها الاخوة- غيبة إخواننا المسلمين في المجالس حتى كانت هذه الانتقادات والغيبات ديدن الكثيرين في مجالسهم بحيث لا يستطيعون الانفكاك عنها، ولو كان من عقلاءِ عبادِ الله من يقوم في المجالس ويعظهم، ويقول: يا فلان! أمسك عليك لسانك لمَا حصل هذا الاستشراء الشيطاني لهذه الغيبات للمسلمين في المجالس، وإنك تجد أن المغتاب يأتي إلى المجلس فيشترك هو ومن اغتابه قبل قليل في غيبة شخصٍ ثالث وهكذا.(298/5)
زيارة المسلمين
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئٍ مسلمٍ يعود مسلماً -عندما يمرض- إلا ابتعث الله سبعين ألف ملك يُصلون عليه ويدعون له، في أي ساعات النهار كان حتى يمسي، وإذا زاره في الليل ابتعث الله سبعين ألف ملك يُصلون عليه تلك الليلة حتى يصبح) حديث صحيح، وفي رواية أخرى: (إذا عاد الرجل أخاه المسلم مشى في خِرافة الجنة) وخِرافة الجنة هي: الثمر الذي يُجتنى منها، فكأنه يمشي وتتساقط عليه ثمار الجنة، ويكون له مثل هذه الثمار في الجنة بحجم وبمدى ما مشى لزيارة أخيه المسلم سواء بعدت المسافة أم قصرت، قال: (فإذا جلس غمرته الرحمة، ثم ابتعث الله له هؤلاء السبعين ألفاً من الملائكة يدعون له) فانظر -رحمك الله- كم جمع هذا الحديث من الأجر والثواب المرغب للزيارة؟ ثم قل لي بربك: كم من المسلمين اليوم يهتمون بزيارة إخوانهم المرضى في المستشفيات وفي بيوتهم؟ وإننا لنسمع أن فلاناً مرض ثم قام من مرضه ولم يره أحد، أو عاده نفرٌ يسير من أقربائه، زوروا مرضاكم! وادعوا لهم عند حضوركم فرشهم، فإن الملائكة تؤمن والله يستجيب، وقد يُشفى من مرض خبيث ببركة دعائك أنت يا أيها الأخ المسلم.
ولا تصطحب معك ورداً ولا تشابه الكفرة، بل سن في زيارة المرضى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو بحاجةٍ شديدة إلى دعائك وسؤالك واهتمامك وليس إلى باقات وردك.(298/6)
اتباع الجنائز
وقال عليه الصلاة والسلام: (من تبع جنازة مسلمٍ إيماناً واحتساباً، وكان معها حتى يُصلى عليها، ويفرغ من دفنها -من البداية إلى النهاية- فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد) مثل جبل أحد من الأجر، هل رأيتم جبل أحد؟! إنه جبل عظيم مثله أجرٌ لمن يتبع جنازة أخيه حتى يصلى عليه ثم يدفن، (ومن صلى عليها ثم رجع إلى بيته فإنه يرجع بقيراط من الأجر مثل جبل أحد أجراً) فهل نريد بعد ذلك من المرغبات أكثر لكي نتبع جنائز إخواننا المسلمين، ونشهد الصلاة عليهم ودفنهم، ونتعظ بحضور ذلك الدفن وبشهود المقابر.(298/7)
صلة الوالدين بعد موتهما
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحبَّ أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده) حديث صحيح، وكثير من المسلمين إذا مات آباؤهم أو أمهاتهم انقطعت الصلة بين الأولاد وبين أصحاب الأب، ويتعذرون بفارق السن ونحو ذلك، والبر بالأب يقتضي أن تزور إخوانه وزملاءه وتصلهم بشتَّى أنواع الصلات والتحيات، حتى تكون باراً بأبيك ويصل برك إلى أبيك في قبره.
أنتم يا من تسألون: مات الأب ماذا نفعل له من القرب؟ أخبرنا ماذا نفعل له من الطاعات؟ إحدى الأشياء التي تستطيعون فعلها أن تصلوا إخوان آبائكم وزملاءهم وأصدقاءهم بعد أن يُولي الأب.(298/8)
ترك اللباس تواضعاً لله
وقال صلى الله عليه وسلم: (من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء أن يلبسها).
بعض الناس يتركون اللباس لعدم القدرة على شرائه، وبعض الناس يتركون اللباس بخلاً على أنفسهم، لكن إذا تركت اللباس والمقصود اللباس غالي الثمن، فإذا تركته تواضعاً لله لا لشيء آخر وأنت قادر عليه فإن الله يُعوضك يوم القيامة على رءوس الخلائق حلل الإيمان في الآخرة، تلبسها تواضعاً لله، ولا يعني هذا أن نلبس الثياب المتسخة التي تنفر الملائكة وعباد الله المسلمين منا.
وأيضاً لا يعني هذا أن نترك التزين لمجالس العلم والوعظ والخطب في المساجد! كلا.
بل هذه هي السنة، ولكن انظر اليوم إلى حجم المصروفات التي ينفقها الناس على ثيابهم، وكم تبلع الأسواق التجارية ومحلات الملابس من أموال المسلمين، والملابس التي تجدد كل موسم بدون حاجة بل لمجرد أن الموضة قد بطلت كما يزعمون! لتعلم بعد ذلك كم من الأموال تذهب هدراً والمسلمون في أقطار الأرض يحتاجون إليها.(298/9)
الاستياك قبل قيام الليل
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم يُصلي من الليل فليستك -ليستعمل السواك- فإن أحدكم إذا قرأ في صلاته -بعد استعماله السواك في الليل- وضع ملكٌ من الملائكة فاه على فيه -فم الملك على فم العبد المصلي- ولا يخرج من فيه شيءٌ -من فم العبد آيةٌ- إلا دخل فم الملك) لأنه استاك، فيضع الملك فاه على فيِّ العبد، فلا تخرج آيةٌ من المسلم إلا دخلت في فم الملك.
والحديث صحيح.
وفي حديث آخر مرسل صحيح رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب تعظيم قدر الصلاة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام الرجل يتوضأ ليلاً أو نهاراً فأحسن الوضوء واستن، ثم قام فصلَّى، أطاف به الملك ودنا منه حتى يضع فاه على فيه، فما يقرأ إلا في فيه، وإذا لم يستن أطاف به ولا يضع فاه على فيه) فانظروا! إلى فائدة هذا السواك في قيام الليل كيف أجلَّ الله صاحبه بإرسال هذا الملك المخصص لهذا الغرض؟!(298/10)
المكوث في المساجد والخروج إلى الصلاة
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد: (إذا تطهر الرجل ثم مرَّ إلى المسجد يرعى الصلاة ما أخرجه إلا الصلاة كتب له كاتبه بكل خطوةٍ يخطوها إلى المسجد عشر حسنات، والقاعد يرعى الصلاة -أي: ينتظر إقامة الصلاة- كالقانت -في الليل- يكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه).
فهذا إخلاص النية في إتيان المساجد لشهود صلاة الجماعة، ونحن نهدي هذا الحديث إلى المتأخرين عن الصلوات الذين لا يحتسبون أجراً ولا ثواباً اللهم إلا العادة في الخروج، ونهديه كذلك إلى الذي إذا تأخرت إقامة الصلاة شيئاً فإنهم يتململون في مجالسهم، ويتلفتون يميناً وشمالاً، وينظرون في ساعاتهم كأن خطباً جللاً ومصيبةً حلَّت بهم، ينتظرون متى يخرجون؟ {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:50 - 51] مع أن جلوسهم في المسجد ينتظرون الصلاة له أجر كأنهم في الصلاة، بل كأنهم من القانتين، فهل ترى بعد ذلك سيستعجلون وليس وراءهم حاجة تلجئهم إلى الاستعجال.(298/11)
التسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلوات وقبل النوم
وقال صلى الله عليه وسلم: (خصلتان لا يُحافظ عليهما عبد مسلم إلا دخل الجنة، ألا وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل، يسبح الله في دبر كل صلاة عشراً، ويحمده عشراً، ويكبره عشراً، فذلك خمسون ومائة باللسان) كيف صارت خمسين ومائة؟ ثلاثون بعد الصلاة في خمس صلوات في اليوم مائة وخمسون، عشر باللسان في ثلاثة بثلاثين بعد كل صلاة، في خمسة بمائة وخمسين في اللسان، وألف وخمسمائة في الميزان؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وهذه إحدى كيفيات الذكر بعد الصلاة، فقد ورد التسبيح ثلاثاً وثلاثين والتحميد ثلاثاً وثلاثين، والتكبير ثلاثاً وثلاثين، وتمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وورد: سبحان الله خمساً وعشرين، والحمد لله خمساً وعشرين، ولا إله إلا الله خمساً وعشرين، والله أكبر خمساً وعشرين، فهذه مائة.
وورد كيفية ثالثة: سبحان الله عشراً، والحمد لله عشراً، والله أكبر عشراً، فهذه كيفية أخرى، فتنوعت الكيفيات، وإن كان الأكثر التسبيح ثلاثاً وثلاثين كما هو واضح من الروايات.
ثم ذكر عليه الصلاة والسلام الخصلة الثانية (ويكبر أربعاً وثلاثين إذا أخذ مضجعه، ويحمد ثلاثاً وثلاثين، ويسبح ثلاثاً وثلاثين) فصار المجموع مائة: أربعة وثلاثون تكبيرة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وثلاث وثلاثون تسبيحة قبل النوم، فتلك مائة باللسان، وألف في الميزان، فأيكم يعمل في الليلة ألفين وخمسمائة سيئة، يقول عليه الصلاة والسلام: (أيكم يعمل ألفين وخمسمائة سيئة في اليوم) {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] ألفين وخمسمائة حسنة بهذه الأذكار بعد كل صلاة وقبل النوم، حديث صحيح.(298/12)
الصوم واغتنام الشتاء لذلك
وقال صلى الله عليه وسلم: (الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة) غنيمة تٌجر إليك وتساق مهداة بغير تعب، لأن النهار قصير وعدد ساعات الصيام فيه قصيرة، ولأنه لا جوع فيه ولا عطش ولا شمس ولا حر، فقال: (الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة) تٌهدى وتقدم بلا تعب كبير، ونحن الآن في فصل الشتاء ينبغي الاستكثار من الصوم.
وأقول أيها الإخوة: أرجو أن تعتبروا أن هذا الكلام الذي تسمعونه وكأنكم تقرءونه من كتاب، فإن مسئوليتي والله عظيمة، وأنا لا أرى أنني أقوم بهذه الأمور ثم أنصحكم بها، بل إنني أتواصى وإياكم -إن شاء الله- بالحق والصبر، فاعتبروها كأنكم تقرءونها في كتاب.(298/13)
كف الغضب وكظم الغيظ ونفع الناس بقضاء دين أو طرد جوع أو غيره
وقال صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربةً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجته أحب إلي أن من أن أعتكف في المسجد شهراً، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة) أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، سبحانه وتعالى جلَّ شأنه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الذي هدى الله به الناس وأرسله رحمةً للعالمين، فبيَّن لنا أبواب الخير وأمرنا أن نلجها، وبيَّن لنا أبواب الشر وحذَّرنا من ولوجها.
قال صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله أنفعهم) من الأعمال -أيها الإخوة- ما يقتصر نفعه على الشخص، ومنها ما يعم اثنين أو ثلاثة، ومن الأعمال ما يعم نفعها خلقاً كثيراً من الناس، فكلما كانت المنفعة لعباد الله أكثر كلما كان أجرك أكثر.
ويقول: (وأحب الأعمال إلى الله -عز وجل- سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً) بعض الناس يذبحون للضيوف، لكنه قد لا يعزم إلا كبار القوم ويترك الضعفاء والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (شر الطعام طعام الوليمة يُدعى إليها الأغنياء، ويترك الضعفاء والفقراء)، وأيضاً تجد الأغنياء عندما يذبحون قد لا يدور في بالهم النية الحسنة بإطعام الناس الطعام، وإنما العادات تقتضي ذلك، ولا يدور في باله الأجر المترتب على إطعام الطعام وهذه غفلة عظيمة، يقول: (ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهراً) هذا الأجر وزد على ذلك ما تنشئه هذه الأعمال في نفس الأخ المسلم الآخر.
ذكر لي أحدهم قال: رأيت رجلاً قد تغير عليه إطار سيارته في الطريق.
وهو واقف يؤشر للسيارات، فنزلت إليه فأخذت هذا الإطار وليس عنده إطار احتياطي، ثم أخذنا الإطار بسيارتي، وذهبنا إلى الورشة البعيدة وأصلحناه ورجعنا إلى السيارة، وركّبت له الإطار وهو قائم لا يتحرك، ثيابه ناصعة البياض وصاحبنا قد اتسخت ثيابه، يقول: هذا الرجل كان مندهشاً طيلة الوقت، كيف؟! السبب في عدم المشاركة أنه مندهش، كيف أقف؟ ثم آخذه إلى المكان البعيد ثم أرجعه ثم اشتغل له بنفسي؟! فانتهزتها فرصةً لأدعو الرجل إلى الله وأذكره، وإذا به يقول: إن لي ولداً متديناً مثلك، لكني في الحقيقة أقوم عليه وأنتقده وأظن أنه يضيع نفسه ودراسته بهذا التدين، والآن من تصرفك بانت لي حقيقة الأمر.
وهذا -أيها الإخوة- من فوائد مساعدة الناس، أن يقوم المستقيمون بتقديم الخدمات للناس، عسى الله أن يهدي الله بهم هذه الفرق والطوائف.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل).(298/14)
لا تحقرن من المعروف شيئاً
وقال صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يمشي بطريقٍ اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلبٍ يلهث -يأكل الثرى من العطش- فقال في نفسه: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ بي -كبد رطبة- فنزل البئر فملأ خفه ماءً ثم أمسك بفيه ثم رقى، فسقى الكلب، فشكر الله فغفر له) فالله شكر له صنيعه فغفر له كما قال صلى الله عليه وسلم: (في كل ذات كبدٍ رطبةٍ أجر) بل إنَّ بغياً من بغايا بني إسرائيل -زانية- (كان كلب يطوف بركيةٍ كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت لوقها -خفها- فاستقت له به فغفر لها) بأي شيء؟ برحمة هذا الحيوان.
قال صلى الله عليه وسلم: (اتق الله! ولا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وأن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط) كم يأخذ من الوقت إذا أتى إنسان بشيءٍ فارغ فتملأ له ثم تملأ لنفسك؟ لا شيء! لكن لا تحقرن من المعروف شيئاً، فقد تكون هذه مرجحةً لكفة حسناتك يوم القيامة.
وقال عليه الصلاة والسلام: (أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلن قلبك، وتدرك حاجتك) مسح رأس اليتيم عمل يلين القلب، فإذا رأيت -أيها المسلم- يتيماً فامسح على رأسه، ومن مات أبوه ولم يبلغ سن الحُلم فإنه يتيم، فامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، فإن الله يلين قلبك، ويأجرك على هذا أجراً عظيماً.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من كَظَم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء) أي: غضب وكظم الغضب، وتوقف ولم ينتقم، دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يٌخيره من الحور العين يُزوجه منها ما شاء.
أبواب الخير كثيرة، ولكن أين الوالجون؟ أبواب الخير أجورها كثيرة ولكن من الذي يعمل؟ ومن رحمة الله أن عدَّد لنا أبواب الخيرات، وضاعف الحسنات، ولكن أيها الإخوة! نحن في كسل وخمول، انشغال بالمعاصي، وغفلة عن الخيرات.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يُحبب إلينا الإيمان وأن يزينه في قلوبنا، وأن يكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن يجعلنا من الراشدين.
اللهم ليِّن قلوبنا وثبتها يا مقلب القلوب، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً، اللهم انصر إخواننا المسلمين في كل مكان، اللهم أهلك اليهود وأعداء الدين، اللهم واجعلهم غنيمةً للمسلمين، اللهم قنا شر أنفسنا، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(298/15)
كيف تتعامل مع والديك؟
إن موضوع بر الوالدين موضوع عظيم جداً، فينبغي على المسلم أن يعيره الاهتمام الكبير، وقد حكم الله عز وجل بالبر ونهى عن العقوق؛ فكان لزاماً علينا طاعته سبحانه.
التعامل مع الوالدين أدباً وفقهاً هو ما تحتويه هذه المادة، فإن هناك آداباً للتعامل مع الوالدين، وهناك أحكاماً فقهية تتعلق بهذا الأمر.(299/1)
أدلة وجوب بر الوالدين وفضل برهما
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على محمد بن عبد الله المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه الذين ساروا على هديه.
أما بعد: فإن موضوع بر الوالدين موضوعٌ عظيمٌ جداً ينبغي على المسلم أن يهتم به وأن يعيره الاهتمام الكبير، والله عز وجل قد حكم بالبر ونهى عن العقوق، فكان لزاماً علينا طاعته سبحانه وتعالى.
والتعامل مع الوالدين أدباً وفقهاً هذا هو موضوعنا، فهناك آدابٌ للتعامل مع الوالدين، وهناك أحكامٌ فقهية تتعلق بهذا الأمر.(299/2)
الأدلة من القرآن الكريم
جاء في القرآن الكريم آياتٍ في وجوب بر الوالدين وعظيم فضل البر، فقال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23].
كما قال في الآية الأخرى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36].
وقال: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23].
فأمر بالقول الحسن، والفعل الحسن، بعدما نهى عن القول السيئ، والفعل السيئ.
فقال: (لا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) وهي أدنى كلمة تدل على التضجر والاستثقال، أو تقال للاستقذار لما شمه الإنسان، ولو توجد كلمة أدنى منها لذكرها الله محذراً منها، فلا يؤذى الوالدان ولا بأقل القليل، ولا يسمعهما كلاماً سيئاً.
(وَلا تَنْهَرْهُمَا) لا تزجرهما بالكلام، ولا تنفض يدك في وجهيهما تبرماً.
(وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) لا تسميهما باسميهما ولا تكنيهما، وإنما تقول: يا أبي! أو يا أبت! ويا أمي! وكذلك تقول لهما قولاً كريما، وهو قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ.
وقد بين الله عز وجل الباعث على البر تهييجاً للنفوس، فقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14].
قال ابن كثير رحمه الله: وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلاً ونهاراً؛ ليذكر الولد بإحسانهما، المتقدم إليه كما قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24]، ولهذا قال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14] أي: فإني سأجزيك على ذلك أوفر جزاء.
ولقد امتدح عبده يحيى عليه السلام بأنه كان تقياً وباراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً، فكان مسارعاً لطاعتهما عليه الصلاة والسلام، ولم يكن مستكبراً لا عن طاعة ربه، ولا عن طاعة والديه، وحدثنا عن عيسى عليه السلام كذلك بقوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} [مريم:31 - 32].
وحدثنا عن بر إسماعيل عليه السلام بأبيه، وأن الله لما أوحى لإبراهيم عليه السلام أن يذبح ولده إسماعيل استجاب الولد، وأذعن لأمر الله، وتواضع للأب، وقال: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:102 - 105].
هذا الولد الصالح البار قام يساعد أباه في بناء البيت العتيق، وقاما ببناء الكعبة معاً، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127] وكذلك تحلق أولاد يعقوب عليه السلام حوله عند موته وهو يوصيهم: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133].
وحتى في القرآن ضرب الله لنا المثل بالبنتين الصالحتين اللتين خرجتا تسعيان على أبيهما الكبير العاجز عن العمل، وهما تذودان الغنم عن الرعاة الأجانب، حتى لا تختلط بغنم أولئك القوم، وتقفان حتى يفرغ الناس من السُقيا؛ ليسقيا، فيسر الله لهما موسى.
هاتان البارتان يسر الله لهما نبياً كريماً يسقي لهما، ويتزوج إحداهما، ويكفيهما مئونة العمل، ويقوم هو بالسُقيا عشر سنين، فإن نبي الله إذا قال فعل، هل سقى ثمانية أو عشرة؟ عشر سنين، فقضى أتم الأجلين وأوفاهما أو أكملهما.(299/3)
الأدلة من السنة النبوية
ومن السنة النبوية قال عليه الصلاة والسلام لما سأله عبد الله بن مسعود: (أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) رواه البخاري ومسلم.
معنى ذلك: أن بر الوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله، بل الخروج سعياً على الوالدين، والعمل لأجل الإنفاق على الوالدين، وتحصيل ما ينفق عليهما، ويسد حاجتهما هو نوعٌ من الجهاد، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبويه شيخين كبيرين فهو في سبيل الله) والحديث صحيح.
ولا يمكن لشخص أن يجزي أباه حقه إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه، كما قال عليه الصلاة والسلام.
وهناك نموذج من البشر دعا جبريل عليه السلام عليه وأمن النبي عليه الصلاة والسلام: (رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه -من هو هذا؟ - قال: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة) رواه مسلم.
(رغم أنفه) ذل، وحل به الخزي، والتصق أنفه بالتراب رغماً عنه، وهذا دليلٌ على حقارة هذا الإنسان.
إن بر الوالد والوالدة باب عظيم من أبواب الجنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الوالد أوسط أبواب الجنة) يعني: خير الأبواب وأعلاها، وهناك أبواب للجنة.
وجعل الله رضاه في رضا الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين، ما لم يأمره بمعصية.
وقال عليه الصلاة والسلام يوصي معاوية بن جاهمة بوالدته: (الزمها فإن الجنة تحت رجليها) (الزم رجلها فثم الجنة) وهما حديثان كلاهما حسن، وقوله: الزم رجليها ورجلها يعني تواضع، فهو لم يقل: رأسها، بل قال: (رجلها) يعني: تواضع للوالدة، وأن الجنة عند رجلها، وأن الجنة لا تنال إلا برضاها.
ولذلك -أيها الإخوة! - يجب أن تكون معاملتنا لوالدينا أعظم من معاملتنا لأصحابنا، لماذا؟ لأن الله قال عن الوالدين: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] وقال عن الأصحاب: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215].
انتبهوا معي! أيهما أعظم؟ {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215] أم {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24]؟ {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] معناها: لا بد أن تعامل والديك أعظم من معاملتك لأصحابك المتدينين؛ لأن الله قال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215] وقال عن الوالدين: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24].
وكذلك قال عليه الصلاة والسلام، لما قال الرجل: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، فكررها الرجل ثلاثاً والنبي صلى الله عليه وسلم يجيبه الإجابة نفسها، ثم قال: ثم أبوك).
إذاً المعاملة الحسنة تكون للوالدين مقدمة على الإخوان والأصحاب.(299/4)
بر الوالدين عند السلف
كيف كان بر الوالدين عند الصحابة؟ كيف كان عند السلف؟ كان شيئاً عظيماً، كان عروة بن الزبير يقول في سجوده: [اللهم اغفر للزبير بن العوام، وأسماء بنت أبي بكر] فهو في سجوده يدعو لوالديه.
كان هناك رجل من التابعين هو خير التابعين أويس القرني، وقد أخبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام أنه خير التابعين، وذكر من أسباب ذلك أنه: (له والدةٌ هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره) والحديث في صحيح مسلم.
ويقول محمد بن المنكدر: "بت أغمز رجل أمي، وبات أخي يصلي ليلته، فما تسرني ليلته بليلتي".
أي: لو قال: بادلني لا أبادله، ولا يسرني أن أقوم الليل وأمي تحتاج إلى أن أغمز رجلها لأجل الألم.
وكان زين العابدين -من سادات التابعين- كثير البر بأمه، حتى قيل له: [إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة؟ قال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها].
عبد الله بن عون نادته أمه فأجابها، فارتفع صوته فوق صوتها فأعتق رقبتين.
أبو يوسف الفقيه الذي تتلمذ على يد أبي حنيفة، وانتفع بـ أبي حنيفة جداً، كان يقول: "اللهم اغفر لأبوي ولـ أبي حنيفة ".
طلق بن حبيب كان يقبل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيتٍ هي تحته إجلالاً لها.
مسعر بن كدام له أمٌ عابدة، كان يحمل لها اللبد إلى المسجد، فيدخله، ويبسطه، ويصلي عليه، ثم يتقدم هو لمقدمة المسجد يصلي، ثم يقعد ويجتمع الناس فيحدثهم، وهو شيخ عالم معروف، ثم بعد ذلك ينتهي مجلس الحديث، فيقوم فيطوي لبدة أمه ويرافقها إلى البيت.
حيوة بن شريح من كبار العلماء، كان يقعد في حلقة الدرس يعلم الناس، وعند مضي بعض الوقت تأتي أمه وتقول: يا حيوة! قم ألقِ الشعير للدجاج، فيقوم ويقطع الدرس! الشيخ العالم الكبير حيوة يقطع الدرس وهو يدرس الطلاب؛ ليضع الشعير للدجاج، ثم يرجع يكمل الدرس، وهكذا فالوالدة حقها عظيم، وبأي شيء يجزيها الإنسان؟ هؤلاء الذين يحملون أمهاتهم، ويأتون بهم من أماكن بعيدة، هذا الحمل هل يجزيها عن حملها الذي حملته لما كان في بطنها؟ يقول ابن أبي بردة: [سمعت أبي يحدث أنه شهد ابن عمر ورجل يماني يطوف بالبيت قد حمل أمه وراء ظهره يقول:
إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر
فقال: يا بن عمر! أتراني جزيتها؟ قال: لا.
ولا بزفرةٍ واحدة] إسناده صحيح.
وفي رواية يقول: [الله أكبر! الله أكبر! ذو الجلال الأكبر! هل ترى جازيتها يا بن عمر؟! قال: لا.
ولا بطلقة واحدة] فالأم عند الولادة لها طلقاتٌ، قال: [ولا بطلقة واحدة، ولكن أحسنت، والله يثيبك عن القليل كثيراً].
هناك رجلان صالحان كانا في الطواف، فإذا أعرابيٌ معه أمه يحملها على ظهره، وهو يرتجز ويقول:
أنا لا أزال مطيتها لا أنفر وإذا الركائب ذعرت لا أذعر
وما حملتني ووضعتني أكثر لبيك اللهم لبيك
فقال أحدهم للآخر: تعال بنا ندخل في الطواف، لعلَّ الرحمة تنزل فتعمنا؛ لأجل هذا المشهد الذي رأياه.
قالوا في تعريف بر الوالدة: حملها عند ضعفها، والإنسان قد يرى أحياناً أبواباً من الخير فيأتيها، ويغفل عن بر الوالدين، وربما يعاني الوالد والوالدة نفسياً من غياب هذا الولد -ولو كان صالحاً- عنهما.
وقد كان أمية رجل أدرك الجاهلية والإسلام، وله ابن اسمه كلاب، فاستعمل عمر كلاباً على الأيلة، وأرسله إلى هناك أميراً عليها -كان رجلاً أميناً صاحب دين، فاستعمله عمر - وهذا الرجل أمية اشتاق إلى الولد، فمن الحنين أنشد يقول:
لمن شيخان قد نشدا كلاباً كتاب الله لو عقل الكتابا
أناديه فيعرض في إباءٍ فلا وأبي كلابٍ ما أصابا
إذا سجعت حمامة بطين وادٍ إلى بيضاتها أدعو كلابا
تركت أباك مرعشةً يداه وأمك ما تصيغ لها شرابا
فإنك والتماس الأجر بعدي كباغي الماء يلتمس السرابا
أنشدها عمر فرق له، وأرسل خلف كلاب ليأتي من الأيلة، فقدم وسأله عمر: ماذا كان يفعل بأبيه؟ ولماذا يقول هذه الأبيات؟ فقال: إنه كان يحلب له، فقال عمر لـ كلاب: احلب لبناً، فحلب واختفى -أخفاه- ثم استدعى الأب فجاء أمية، فقدم له عمر الإناء، فقال الأب: إني لأشم رائحة يدي كلاب، فبكى عمر وقال: هذا كلاب، فخرج فضمه إليه، وقال: جاهد في أبويك وأعفاه.
يقول ابن عبد البر عن الخبر: إنه صحيح.
لماذا كان الصحابة يقولون للنبي عليه الصلاة والسلام: فداك أبي وأمي؟ لو كان عندهم شيء أغلى من أمور الدنيا لقالوه، لكن ما عندهم، لقد ضربوا لنا أمثلة رائعة، ابن عمر مع عمر ابن عمرو مع عمرو بن العاص عائشة مع أبيها جابر مع أبيه سعد بن عبادة ولده قيس علي وأبناؤه الحسن والحسين والزبير وابنه عبد الله العباس وعبد الله بن عباس، وهناك أمثلة كثيرة جداً تترى من واقع الصحابة رضوان الله عليهم.(299/5)
فوائد بر الوالدين
إن سأل سائلٌ فقال: ما هي فوائد بر الوالدين؟ وما هي النتائج الطيبة التي تترتب على بر الوالدين؟ نريد أن نتحمس لأجل أن نعمل بهذا الأدب العظيم، وهو بر الوالدين؛ لأن الإنسان إذا عرف أن الفائدة طيبة تشجع للقضية.
أولاً: هو من أسباب إجابة الدعاء، وأنتم تذكرون قصة أصحاب الغار، وكيف أن أحدهم كان له أبوان شيخان كبيران يسعى عليهما، وقدمهما على أولاده، وهم يتضاغون عند قدميه طيلة الليل، حتى استيقظ والداه فشربا قبل أولاده، ففرج الله شيئاً من الصخرة بسبب هذا.
ثانياً: ثم بر الوالدين يكفر الكبائر، والدليل على ذلك: أن رجلاً أتى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: (يا رسول الله! إني أصبت ذنباً عظيماً، فهل لي من توبة؟ قال: هل لك من أم؟ قال: لا.
قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم.
قال: فبرها) حديثٌ صحيح رواه الترمذي.
وهذا الرجل لما أذنب الذنب العظيم والكبيرة ماذا رأى له عليه الصلاة والسلام لتكفيرها؟ بر الوالدة.
وجاء رجل إلى ابن عباس فقال: [إني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري فأحبت أن تنكحه، فغرت عليها فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: أمك حية؟ قال: لا.
قال: تب إلى الله عز وجل، وتقرب إليه ما استطعت] فذهب، قال الراوي: فسألت ابن عباس: لم سألته عن حياة أمه؟ فقال: [إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة] رواه البخاري في الأدب المفرد، وإسناده على شرط الشيخين.
وروت عائشة أيضاً أن امرأةً كانت تعمل السحر بـ دومة الجندل، قدمت المدينة تسأل عن توبتها، قالت: فرأيتها تبكي، لما لم تجد النبي عليه الصلاة والسلام فيشفيها، حتى قالت: إني لأرحمها، فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يومئذٍ متوافرون -هذه المرأة جاءت تسأل عن التوبة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد مات، فحزنت أنها لم تدركه، فجاءت تسأل الصحابة-: إني كنت أعمل السحر، فكيف أتوب؟ فما دروا ماذا يقولون، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلم، إلا أنهم قالوا: لو كان أبواكِ حيين أو أحدهما لكانا يكفيانكِ.
جود إسناده ابن كثير رحمه الله تعالى.
ثالثاً: بر الوالدين سبب البركة وزيادة الرزق، أوليس هو من صلة الرحم؟! (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه).
رابعاً: من بر أباه وأمه؛ بره أبناؤه، ومن عقهما؛ عقه أولاده، وهكذا قال ثابت البناني: رأيت رجلاً يضرب أباه في موضعٍ، فقيل له: ما هذا؟ فقال الأب: خلوا عنه، فإني كنت أضرب أبي في هذا الموضع، فابتليت بابني يضربني في هذا الموضع، بروا آباءكم تبركم أبناؤكم.
خامساً: ثم رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين.(299/6)
صور البر
فإذا قال قائل: عرفنا الأمر وأدلته وفوائده، فنريد أن نعمل ببر الوالدين، فما هي صور البر؟ أو كيف نبرهما فعلاً؟ فنقول: البر قولي وبدني ومالي، فيه رفقٌ ومحبة، وتجنب غليظ القول، وعدم رفع الصوت، فضلاً عن السب والشتم واللعن المناداة بأحب الألفاظ وليس بالاسم المجرد تقبيل اليد والرأس الإنفاق عليهما تعليمهما ما يحتاجان إليه في أمور دينهما ودنياهما طاعتهما فيما أمرا في غير معصية الله إدخال السرور عليهما.
لو أغضبت والدك أو والدتك وما أكثر ما يقع، فكيف تكفر؟ تكفر بإضحاكهما لحديث: (ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما) هذه هي الكفارة، فتضحكهما كما أنك أبكيتهما، وتجعل السرور يدخل عليهما كما جعلت الحزن يدخل عليهما أولاً.
لا تتقدم عليه في المشي إلا لضرورة، كظلامٍ وخوفٍ ونحوه.
لما مات عمر بن ذر قال أبوه: اللهم إني قد غفرت له ما قصر فيه من واجب حقي، فاغفر له ما قصر فيه من واجب حقك، قيل له: كيف كانت عشرته معك؟ قال: ما مشى معي قط بليلٍ إلا كان أمامي، وما مشى معي في نهارٍ إلا كان ورائي، ولا ارتقى سقفاً كنت تحته.
على الابن ألا يستنكف عن عسل البول والنجاسة التي تخرج من الوالدين عند كبر السن والإصابة بمرض السلس وعدم القدرة على التحكم في البول ثم عليه أن يساعدهما في الوضوء، كل ذلك أخذاً من قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23].
لا يحد النظر إليهما، قال بعضهم: ما بر أباه من سدد النظر إليه.
ثم يدعو لهما أحياءً وأمواتاً، فالله عز وجل قال في كتابه مرشداً إلى هذا: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24] وقال نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28].
إذا احتاج للطعام تطعمه، والكسوة تكسوه، كله من قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15]، إذا احتاجا إلى الخدمة تخدمهما، إذا دعواك فأجبهما فوراً، إذا أمراك بأمرٍ فأطعمهما ما لم يكن معصية خطابك لهما بلين بدون عنف ترضى لهما ما ترضى لنفسك تنفذ عهدهما تكرم صديقهما تستغفر لهما.
بر الوالدين مراتب: أنت الآن لو حضرك طعامٌ لذيذ فأرسلت أحداً يدعو أباك لحضور الطعام فأنت بار، وأعظم منه أن تذهب أنت بنفسك لتدعو أباك، فأنت ممكن تقول للخادم أو العامل: اسكب الماء على يد أبي للتنظيف، لكن لو سكبت أنت بنفسك بدلاً من الخادم فهذا أبلغ في البر.(299/7)
أنواع البر التي تصل الأبوين بعد الموت
هل بر الوالدين مقتصر على حياتهما؟ نحن نعلم هؤلاء الذين عندهم عقوق, ومات الأب وماتت الأم، هل يمكن أن يتدارك ما فات؟ وما هي أنواع البر التي تصل الأبوين بعد الموت؟(299/8)
الدعاء لهما
أعظمها على الإطلاق الدعاء، وأعظم الدعاء للوالدين الدعاء بالمغفرة والرحمة؛ لأن الله أوصى به في القرآن: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح:28] وأيضاً: {رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24].
إذاً: أعظم شيء الدعاء للوالدين بالمغفرة والرحمة، (إن الله عز وجل يرفع درجة العبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب! أنى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك) حديث صحيح.(299/9)
الصدقة عنهما
والصدقة عن الوالدين تصل، فقد قال رجل للنبي عليه الصلاة والسلام: (إن أمي توفيت، أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم.
قال: فإن لي مخرافاً -يعني: بستاناً يخرف الثمر فيه، أي: يجنى- فأشهدك أني قد تصدقت به عنها) وقال رجل للنبي عليه الصلاة والسلام: (إن أمي سلبت نفسها ولم توصِ، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجرٌ إن تصدقت عنها ولي أجر؟ قال: نعم.
فتصدق عنها).(299/10)
صلة أصدقاء الوالدين والإحسان إليهم
صلة أصدقاء الوالدين والإحسان إليهم، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي الأب) رواه مسلم، ولذلك حدث أن كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما راكباً على حماره في الطريق، فرأى رجلاً من الأعراب في الطريق، فسلم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حماره وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقال ابن دينار: أصلحك الله، إنهم الأعراب، وأنهم يرضون باليسير -ما يحتاج كل هذا- قال عبد الله: (إن أبا هذا كان وداً لـ عمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه) ومعنى: "إن أبا هذا كان وداً لـ عمر " أي: صديقاً من أهل مودة عمر، ولذلك فعل لأجله هذه الأشياء.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من أحب أن يصل أباه في قبره، فليصل إخوان أبيه من بعده).(299/11)
إنفاذ وصيتهما
وطبعاً لو كان له وصية يجب إنفاذها، ويجب تطبيقها.(299/12)
العقوق وخطره
أما العقوق فتداركه ليس بالأمر الهين، وقد سئل النووي رحمه الله: إذا كان الإنسان عاقاً لوالديه، وماتا ساخطين عليه، فما طريقه إلى إزالة ذلك، وإسقاط مطالبتهما له في الآخرة؟ فأجاب: أما مطالبتهما له في الآخرة، فلا طريق إلى إبطالها.
ولكن ينبغي له بعد الندم على ذلك أن يكثر من الاستغفار لهما والدعاء، وأن يتصدق عنهما إن أمكن، وأن يكرم من كانا يحبان إكرامه من صديقٍ لهما ونحوه، وأن يصل رحمهما، وأن يقضي دينهما، أو ما تيسر له من ذلك.
ما حكم الحج عن الوالدين والعمرة عنهما؟ لو كانا حيين عاجزين لم يحجا الفريضة جاز الحج عنهما، وكذلك العمرة.
قارن بين من عق والديه وماتا ساخطين عليه، وبين من يموت أبوه وأمه راضيين عنه، قال رجل: عزيت شخصاً في أمه، فقال: لكن الذي يخفف عني، أن أمتي ماتت بين يدي وأنا أحملها، وهي تقول: أموت وأنا راضية عنك، وتشهدت وماتت.
وإيذاء الوالدين -أيها الإخوة- وعقوقهما أمر سيئ جداً ذكره الله في كتابه، وقد ذكر صورة شنيعة، فقال: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف:17 - 18].
فهذا نعت عاق الوالدين، وهما يجتهدان له في النصيحة، ويدعوانه إلى الله، فلا يزيده ذلك إلا عقوقاً، ونفوراً، وعتواً، وتمرداً، وتمادياً في الجهل، وما قصة ولد نوح عنا ببعيدة، {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود:41 - 43] الأبوة الملهوفة تهتف بالولد الشارد، ولكن البنوة العاقة، والفتوة المغرورة تأبى هذا، والأبوة المدركة ترسل النداء الأخير، (لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) والمغرور يأبى الإجابة، والموجة تحسم الموقف، ولما هدأت العاصفة، وسكن الهول، استيقظت لهفة الوالد المفجوع {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45] فجاء الرد بأن الأهل عند الله ليسوا قرابة الدم واللحم، وإنما هم قرابة العقيدة، {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46] انقطعت العلاقات لأجل التوحيد والشرك.
لقد حرم الله العقوق، وجعله من أكبر الكبائر، (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات) والله لا ينظر إلى العاق يوم القيامة، كما جاء في الحديث الصحيح: (ثلاثةٌ لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان عطاؤه) وفي رواية: (لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، والرجلة من النساء) وفي رواية: (ثلاثةٌ لا يقبل الله عز وجل منهم صرفاً ولا عدلاً: عاقٌ، ومنان، ومكذب بالقدر) وإسناده حسن.
وجاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (يا رسول الله! شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت رمضان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا -ونصع بإصبعيه- ما لم يعق والديه) رواه ابن خزيمة وابن حبان، وأخرجه أحمد والطبراني بإسنادين أحدهما صحيح، والحديث: (ملعون من عق والديه).(299/13)
تعزير من أصر على عقوق والديه
فهذا الجزاء في الآخرة، فهل هناك شيء في الدنيا يعاقب به من عق والديه؟ ماذا يفعل القاضي لو أن هناك شخصاً متمرداً عق والديه، وأصر على العقوق، وارتفعت القضية إليه؟ قال العلماء: أما جزاؤه في الدنيا فهو من باب التعزير، ويختلف قدره باختلاف حاله وحال فاعله، فإن تعدى على أبويه أو أحدهما بالشتم، أو بالضرب -مثلاً- عزراه، أو عزره الإمام بطلبهما -والقاضي نائب عن الإمام- إن كانا مشتومين، أو مضروبين معاً، أو بطلب من كان منهما معتدى عليه بذلك، فلو اشتكت الأم على الولد عند القاضي فإنه يعزره، إذا ثبت عليه العقوق بالشتم أو الضرب أو غيره، فإن عفا المشتوم أو المضروب كان ولي الأمر بعد عفوه على خياره، في فعل الأصلح من التعزير تقويماً، أو الصفح عنه عفواً، فإن تعافوا عن الشتم والضرب قبل الترافع للإمام سقط التعزير.
لكن كيف يكون التعزير؟ شخص عاق رفع أمره إلى القاضي ماذا يفعل فيه القاضي؟ يكون تعزيره بالحبس على حسب الذنب والهفوة، أو بالضرب، أو التأنيب بالكلام العنيف، أو بغير ذلك مما به ينزجر ويرتدع، ومن الممكن أن يكتب لمرجعه في العمل في القضية، ليعزر بما يردعه.(299/14)
صور واقعية من عقوق الوالدين
وبعض الناس مع الأسف يطيع زوجته ويعق أمه، ويبر صديقه ويجفو أباه، ويجاهر بالسوء والفحشاء لأبويه ويقهر وينهر، ويرفع الصوت ويحتج على أبويه بالكلام، ويصفق الأبواب، ويرفض الخدمة، ولا يجلب الأغراض لهما، وربما يقاطع أبويه لأمور دنيوية، ولا يكلم أباه، ولا يكلم أمه، وإذا رفض أبوه أن يشتري له سيارة لا يتكلم مع أبيه، أو رفض أن يسمح له بالخروج للعب بالنادي قاطع أمه، مهمل في الدراسة وإذا قال له أبوه: ممنوع الخروج هذا الأسبوع لأجل الدراسة، فإنه لا يكلمه، وربما يتأفف ويقول: أراحنا الله منك وأخذ عمرك، وعجل بزوالك يا شيبة النحس، ويا عجوز الويل!! وحاله وحال أبيه كقول الشاعر:
أريد حياته ويريد موتي
والأب ربما يتمنى أنه لم يولد له هذا الولد، وأنه لو كان عقيماً كان أحسن.
كان هناك شاب مكب على اللهو واللعب لا يفيق عنه، وكان له والد صاحب دين، وكان كثيراً ما يعظ هذا الابن، ويقول: يا بني! احذر هفوات الشباب وعثراته، فإن لله سطوات ونقمات ما هي بالظالمين ببعيد، وكلما ازداد عليه بالنصيحة ازداد ذاك في العقوق وجار على أبيه، وفي يوم من الأيام، وهو ينصحه على حسب العادة وإذا بالولد يمد يده على أبيه ويضربه، فحلف الأب بالله مجتهداً ليأتين بيت الله الحرام ويتعلق بأستار الكعبة ويدعو على ولده، فخرج حتى أتى بيت الله الحرام، وامسك بأستار الكعبة وقال:
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا عرض المهامه من قربٍ ومن بعد
إني أتيتك يا من لا يخيب من يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد
هذا منازل لا يرتد عن عققي فخذ بحقي يا رحمن من ولدي
وشل منه بحولٍ منك جانبه يا من تقدس لم يولد ولم يلد
فما استتم كلامه حتى يبس شق الولد الأيمن.
وهذا ينهب مال أبيه، وهذا يطرد أباه من البيت، وهذا يمنع عنه النفقة، وهذا يرفسه، وهذا يطالب بالحجر على أبيه، وهذا يقول لأبيه: أنت أخذت حقك من الدنيا فيكفيك، قد مَلَّكَ الزمان، وسئمتك الحياة، فيكفي ما أخذت.
ويذكر أن أباً كان له ولد يضربه، فيقول: دعوة والد، لقد ضربت أبي في هذا الموضع.
ثلاث دعوات مستجابات -يا إخوان! - لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده.
فليحذر الأبناء من دعوة الآباء والأمهات، فقد تكون ساعة إجابة وحينئذٍ لا ينفع الندم.
وبعضهم يتكبر على أبويه؛ لأنه صاحب شهادة جامعية، وهما أميان، وعندما جاء مع بعض أصحابه الذين يدرسون معه في الخارج خجل أن يقول لهما: هذا القروي أبي، فقال: هذا الخادم الذي ينظف البيت، ماذا تتصورون موقف أبيه لو علم بذلك؟ ولا يستحي أن يقول لزملائه في المجلس وهو يشير إلى أبيه الطاعن في السن، خفيف السمع: هذا (اكس فاير) وهو قد أتى من الخارج متعلماً الإنجليزية، يقول: هذا (اكس فاير) وهي كلمة بالإنجليزي معناها انتهت صلاحيته.
يأخذ المال من أحد أبويه ويقول: أعطني سلفة وأنا أرجعها لك، ثم لا يردها، ويغافل أمه المسكينة، ليستلف منها ثم لا يردها، وهناك شخص استلف من أمه عشرين ألفاً ولم يرجعها، وآخر أخذ من والده اثنى عشر ألفاً ولم يرجعها، ولما طالبت الأم الأول قال: أنتِ ساكنة معي في البيت ثلاث سنين، تأكلين وتشربين، اعتبري العشرين ألفاً إيجار حق الثلاث السنوات، ليس لكِ شيء.
وبعض الأبناء لا يلبون احتياجات آبائهم، ولو طُلب منه شيء جلس يتهدد ويتوعد، وبنت تقول لأمها: إذا طلبتِ مني شيئاً زيادة لا أدخل بيتكِ، ولا أسمح لكِ أن تدخلي بيتي.
قال لي شخص يعمل في الإسعاف في ليلة الأحد: طلبنا مرةً إلى أحد البيوت، وهو بيت كبير عظيم، فدخلناه، فقادنا الذي فتح لنا وقال: تعالوا ورائي، فهنا حالة مرضية، وأخذنا إلى غرفة صغيرة موجودة في البيت، يقول: نظنها مخزن أو غرفة غسالة، وعندما فتحنا وجدنا عجوزاً على سرير، في غرفة منتنة، قذرة، رائحتها عفنة، وعرفنا بعد ذلك أنه أبوه، قال: عالجوه، وانظروا وضعه فإنه إذا مات علينا تصير مشكلة، قالوا: هذا البيت الكبير ما وسع هذا الأب، ضاق هذا البيت الكبير عن هذا الأب.
وآخر ذهب وقال لزوجته: اركبي معي، قالت: أين ستذهب بي؟ قال: اركبي، وأخذها إلى المحكمة.
قالت: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أسجل لك البيت باسمك.
فهو عنده قصر كبير، قالت: ما يحتاج، أنا وعيالي لن نختلف، قال: لا.
أسجله باسمك أحسن، فسجل البيت باسم زوجته، فما مر على الزوج عشرة أيام إلا واختاره الله ومات، وأول ما مات جاء الأولاد، وقالوا لأمهم: هذا البيت كبير علينا، وما في داعي لكل هذا، فنحن نريد أن نبيعه ونأخذ لك شقة صغيرة على قدرك، وهذا البيت ما تحتاجينه، قالت في نفسها: الله يرحم الشيخ -زوجها- فعلاً حسب للمستقبل.
قالت لهم: الآن فترة العدة، وتعرفون أن في العدة يجب على الزوجة أن تعتد في بيت الزوج، اتركوا لي البيت حق عشرة أيام وإذا انتهت العدة تعالوا إليَّ.
وفي اليوم العاشر على الموعد جاءوا، قالوا: موضوع البيت، قالت: موضوع البيت، انظروا الورقة هذه؟ هذه صورة العقد وعندي عشر صور، وعندي الأصل في مكان غير البيت هذا، هذا البيت سجله أبوكم -يا عاقين- باسمي قبل وفاته رحمه الله، فهو يعلم هذه الخلفة التي خلفها قبل أن يموت، فهو حسب حسابكم، فكل واحد يأخذ أثاثه ويخرج خارج البيت، ما أحد له حق في البيت.
هذا بيتي، اطلعوا من البيت.
فأخذ كل واحد أثاثه وطلع مدحوراً مقبوحاً.
وهذا كله في الوفاء، وهذا شيء من الأمثلة الكثيرة التي تحدث في هذا الزمن.
وآخرون أبوهم عنده عمارة، وهم يريدون أن يأخذوا العمارة، وأبوهم صار يخرف في آخر عمره، وصار يفقد الذاكرة أحياناً، فقالوا له: أنت تحب البر، فلذلك سوف نخرج إلى البر، ففرح وظن أن أولاده في النهاية سيعملون له رحلة، فهو يطالبهم بها منذ زمن وهم يرفضون بحجة أنهم مشغولون، فأخذوه إلى البر في مكان بعيد في الصحراء، ونصبوا الخيمة وجلسوا، إلا أن الرجل هذا جاءت له الحالة المعروفة التي يغيب فيها عقله، ويدخل في حالة الخرف هذه، فقال أحدهم: أنتم تقدموا وأنا ألحق بكم، ولما اطمأن أن الأب هذا لن يعود إلى عقله بسرعة، ترك أباه ومشى، وبقي الأب مرمياً بالصحراء وحده، فقدر الله أن يعود إلى عقله قبل أن يموت، فقام يمشي في الصحراء هائماً على وجهه، لا يدري أين يذهب، فهام على وجهه، لكن قدر الله أن يصل إلى الطريق الرئيسي بعد مدة، ليراه صاحب سيارة فيركبه، وفي الطريق بدأ الأب يستوعب، ويعود إليه عقله، وصاحب السيارة يقول: أين تريد؟ فقال: أوصلني إلى البلدة الفلانية، فأول ما وصل وجد صاحب المكتب العقاري الذي قال له: إن أبناءك قالوا أنك تريد تبيع العمارة، فأخذ أوراق العمارة وذهب إلى ملجأ العجزة، ودخل على مدير الملجأ وقال: اسمع! أنا لم يعد لي مكان خارج الملجأ هذا، وقد ضاقت عليَّ الدنيا، وحدَّثه بالقصة، فهذه العمارة وقف على الملجأ، ومن الآن فصاعداً أنا سأسكن فيه، وأنا والذين معي في الملجأ نستفيد من إيراد هذه العمارة.
فهذا نتيجة العقوق الذي يفعله هؤلاء، وهم من المسلمين وموجودون بين المسلمين، هكذا يفعلون، وربما لا يقدر الولد أنه ربما يسقى بالكأس نفسه، وأن تكون أشد قسوة.
هذا عاق كان يجر أباه برجله إلى الباب، فجاء له ولد أعق منه، فكان يجره برجله إلى الشارع، فيقول: حسبك ما كنت أجر أبي إلا إلى الباب، فقال: الزائد صدقة مني عليك، أنت كنت تجر أباك إلى الباب، وأنا أجرك إلى الشارع صدقة.
أراد ولد أن يذهب بأبيه إلى مغارة ليتخلص منه؛ لأن زوجته تقول: هذا العجوز مللنا منه، فقد وسخ علينا البيت، ونجاساته في كل مكان، أخرجه وإلا لن أجلس معك.
فأخذ أباه يريد أن يذهب به إلى كهف، وقال لولده -حفيد الجد-: هات لحافاً لجدك، والولد كان ذكياً فشق اللحاف نصفين، وأخذ نصفه، فانتبه الأب فقال: لماذا أتيت بنصف اللحاف فقط؟ قال: أنا مخبي لك النصف الثاني في المستقبل.
في بعض حالات العقوق يكون زواج الابن هو السبب، فما أن تزوجه أمه حتى ينقلب رأساً على عقب، بعد أن كان باراً بأمه، ومتفقداً لاحتياجاتها أصبح الآن بعيداً عنها، لا يخدمها، ولا يستمع لنصحها، ولا يسأل عن حاجتها، ولا يتفقدها، فهو قد انشغل بالزوجة، وأخذت عليه حياته، فتشعر الأم بفراغ كبير من جهة الولد، وتزداد الغيرة، وتحس أن الزوجة أخذت ولدها عنها بالكلية، وربما تأتي زوجة الابن إلى أم زوجها في زيارة خاطفة، للمجاملة وتكلم زوجها من بيت أمه، تقول: خذ كلِّم أمك وسلم عليها، أي: هو ما عنده وقت ليزورها، فيرسل مندوبة خمس دقائق للمجاملة وانتهى الأمر.
وبعض الأبناء ينشغلون عن آبائهم باللهو مع أصدقاء السوء، والسفر إلى خارج البلاد، وينفقون أموالهم على متعهم وملذاتهم الشخصية، وإذا احتاجت الأم أو الأب نفقة تذمروا.
أنت الآن تضيع الآلاف المؤلفة في السفريات المحرمة، ولما يجيء أبوك ويقول: أعطني خمسمائة ريال، أو الأم تقول: أعطني خمسمائة، تقول: ليس عندي انتهى الراتب، وربما يلقي عليه بالفتات اليسير، والأم تبكي، ومن المعاناة ربما تدعو على نفسها، وعلى البطن الذي حمل الولد، وعلى الثدي الذي أرضع الولد، والولد هذا راتبه كبير ومع ذلك لا يعطي أباه، ويجعله واقفاً كالشحاذ على الباب!! اعترضت أم على ابنها في استعمال المخدرات، قال: هاتي مالاً، فرفضت إعطاءه المال، وهي تعرف أنه يريد يشتري مخدرات، فأخذ السكين وجلس يطعن فيها حتى ظنها أنها ماتت، فأخذ النقود وهرب، فالأم صاحت وجاء الجيران والشرطة، وأمسكوا بالابن الجاني، وكان المنظر المؤثر أمام القاضي في المحكمة أن الأم تتوسل إليه ألا يوقع العقاب بالولد.
لكن لو قال شخص: لماذا لا نصلح القضية هذه بعيد الأم، وهو عيد لطيف، فنقول: هذا العيد الذي اخترعوه الكفار وأحدثوه لما رأوا الأمومة المنسية، وأرادوا أن يذكروا أبناءهم وبناتهم المهملين لآبائهم وأمهاتهم، هل يحتاجه المسلمون؟ المسلم كل يوم يقبل رأس أبيه وأمه، ويستأذنهما في الدخول والخروج، وذاك يأتي يوماً في السنة ليرمي لها هدية ويذهب! فهم اخترعوه لقلة الوفاء، يعصي أحدهم أمه في السنة كلها ثم يأتيها يوماً في الس(299/15)
تعريف العقوق وضابطه
أيها الإخوة: نريد أن نعرف ما هو تعريف العقوق وضابطه.
العقوق: كل فعلٍ يتأذى به الوالد -الأب والأم- تأذياً ليس بالهين، والعقوق أن يؤذي الولد أحد أبويه بما لو فعله مع غير أبويه لكان من جملة الصغائر، فيكون في حق الأبوين من الكبائر.
أنت الآن لو قطبت وعبست في وجه صديقك، قد لا يكون حراماً، أليس كذلك؟ لكن لو فعلت هذا العبوس في وجه أبيك أو أمك، لعد ذلك عقوقاً.(299/16)
من أحكام بر الوالدين
والبر واجب ولو كان الأب مشركاً كافراً، وكذلك الأم لو كانت مشركة كافرة، وقد ضرب لنا ربنا في القرآن أمثلة: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:41 - 42] انظر إلى التأدب معه في الكلام، فقد أتى له بهذه اللفظة الرقيقة: (يا أبتِ) استعطافاً له، وقال: {إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم:43] لم يقل: إني أعلم منك وأنت جاهل، ثم بيَّن له الحجة والدليل: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:42] فهو يقول: أنا وإن كنت أصغر منك، وأنا من صلبك، لكن الله أطلعني على علم لم تطلع عليه أنت ولم تعلمه، ولم يقل له: يا جاهل! وأبدى الشفقة على أبيه والخوف عليه، قال: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم:45] ولم يقل من الجبار، لاحظوا! إبراهيم عليه السلام ما قال: إني أخاف أن يمسك عذابٌ من القوي العزيز الجبار، وإنما قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم:45]، يعني: حتى الأسماء الحسنى ينتقي منها ما يناسب الحال، وهذا أبوه العنيد يقول: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [مريم:46] وهو يقول: {سَلامٌ عَلَيْكَ} [مريم:47]، يعني: قابله بغاية الأدب مع أن ذاك قابله بغاية الصلافة والجبروت والعناد، {سَلامٌ عَلَيْكَ} [مريم:47] يعني: لا ينالك مني مكروه ولا أذى لحرمة الأبوة، وسأسل الله أن يهديك.
وماذا قال الله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] ومع ذلك قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15].
سعد بن أبي وقاص نزلت هذه الآية فيه، فقد حلفت أم سعد ألا تكلمه أبداً ولا تأكل ولا تشرب حتى يكفر بدينه، قالت: زعمت أن الله أوصاك بوالديك، وأنا أمك فأنا آمرك أن ترجع عن دينك، فمكثت ثلاثاً حتى غشي عليها من الجهد، فقام ابنٌ لها فسقاها، فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله هذه الآية: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} [لقمان:15] وفيها: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] لا يمكن أن يقدم رضا أمه على العقيدة والدين إطلاقاً: [لو كان لكِ مائة نفسٍ فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني].
أبو هريرة كانت أمه مشركة، وقد دعاها مرة ً إلى الإسلام فوقعت في النبي عليه الصلاة والسلام فذهب يبكي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويقول: (يا رسول الله! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليَّ فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبي هريرة) فـ أبو هريرة من اليقين بأن النبي عليه الصلاة والسلام مستجاب الدعوة، قال: (فخرجت مستبشراً بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجافى -مغلق- فسمعت أمي خشف قدميَّ -صوتهما- فقالت: مكانك يا أبا هريرة! وسمعت خضخضت الماء، فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة! أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي من الفرح، -وكان قبلها يبكي من الحزن- فقلت: يا رسول الله! أبشر، فإن الله قد استجاب دعوتك وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال خيراً، قلت: يا رسول الله! ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم حبب عُبيدك هذا -يعني: أبا هريرة - وأمه إلى عبادك المؤمنين وحبب إليهم المؤمنين، يقول أبو هريرة: فما خلق مؤمنٌ -ليس رافضياً ولا باطنياً- يسمع بي ولا يراني إلا أحبني) رواه مسلم.
أسماء جاءت تستفتي النبي عليه الصلاة والسلام في أمها المشركة، فقد جاءت أمها من مكة راغبة في صلتها، فخشيت أسماء إذا وصلت أمها أن تكون قد أخطأت في عقيدة الولاء والبراء، فجاءت تستفتي، تقول: (يا رسول الله! قدمت عليَّ أمي وهي مشركة وهي راغبة في صلتي، أفأصل أمي؟ قال: نعم.
صلي أمك) {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8] فالرحم الكافرة توصل من المال ونحوه.
وبعض العلماء فهموا وجوب النفقة على الأبوين الكافرين، فقالوا: الأبوان الكافران لهما نفقة، وعليه أن يجتنب غليظ القول معهما، ويناديهما بالكلام الطيب، ولا يتبرم بهما مع أنهما كافران، أما الاستغفار لهما بعد الممات فممنوع؛ لأن الله قال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة:113].
ونحن عندنا الآن في المجتمع مع انتشار الفجور والعياذ بالله هناك آباء فجرة وأمهات فاجرات، فالمعاصي قد دخلت على الكثيرين، حتى الآباء والأمهات، فقد يأتي شخص ويقول: أمي تعمل بالسحر والكهانة، وعندها ثلاث عمارات بنتها من أجرة السحر والكهانة.
والذي أبوه مرتد يسب الدين صباح مساء، ويسخر من أهل الدين، ومن الأحكام الشرعية، أو أن أباه يسكر، أو قد يجلب أدوات السكر إلى البيت، ماذا يفعل مع أبيه أو أمه في هذه الحالة؟ يقول الإمام أحمد رحمه الله: "يأمر أبويه بالمعروف وينهاهما عن المنكر -إذا رأى أباه على أمرٍ يكرهه يكلمه بغير عنفٍ ولا إساءةٍ- ولا يغلظ له في الكلام وإلا تركه -إذا ما استجاب يتركه- ويدعو له، ليس الأب كالأجنبي" هذه كلمة الإمام أحمد، قال: إذا كان أبواه يبيعان الخمر، لم يأكل من طعامهم، وخرج عنهم.
وسأل رجلٌ أبا عبد الله: إن أباه له كرم -يعني: أشجار عنب- يريد أن يعاونه على بيعها، قال: "إن علمت أنه يبيعها ممن يعصرها خمراً فلا تعاونه".
وإذا قال: فإذا اشتغلت -والعياذ بالله- أمه في أمور الدعارة، هل يبلغ عنها؟
الجواب
يبلغ عنها، وتقوم البنت بوعظ أمها الزانية، وتصبر على ما تلاقيه منها نتيجةً لذلك، وإن هددتها أنها ستغضب عليها، ولو دعت عليها صباح مساء، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا يقبل الله هذا الدعاء؛ لأنه اعتداء والله لا يحب المعتدين، ولا يقبل دعاء المعتدين.
ولو رأى أباه يضرب أمه هل يتدخل أم لا؟ نقول: يتدخل، وإن كان قد يستعمل القوة مع أبيه، لكن يبدأ يدفع بالأسهل فالأسهل، ولو أدى ذلك إلى استعمال القوة.(299/17)
حق الوالدين في المال
ما هو حق الوالدين في المال؟ نأتي الآن إلى بعض المسائل الفقهية: ما هو حق الوالدين في المال؟ مال الولد حلال للأب وأطيب ما أكل الوالد من مال ولده؛ لأن ولده من كسبه كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم) حديث حسن صحيح.
ولما جاء رجل يقول للنبي عليه الصلاة والسلام: (إن أبي يريد أن يجتاح مالي، قال: أنت ومالك لأبيك) والعلماء أخذوا منه وجوب الخدمة على الولد من قوله: (أنت) فمالك لأبيك واضح، لكن ما معنى: أنت لأبيك؟ أنت لأبيك يعني تخدمه، وتقوم عليه.
وهذه أقوال العلماء في مسألة أخذ الأب من مال الابن: القول الأول: قالوا يد الوالد مبسوطة في مال ولده يأخذ منه ما شاء، سواءً أذن الولد أم لا، ما لم يكن على وجه السرف والسفه، يعني: يضيع المال في المعاصي، والتافهات.
القول الثاني وهو قول الجمهور: لا يأخذ من ماله إلا عند الحاجة.
فالنفقة واجبة للأبوين المحتاجين، فلو كانت الأم متزوجة فلا يجب على الابن أن ينفق عليها؛ لأن عندها زوجاً ينفق عليها، لكن لو كان ليس لها نفقة فيجب عليه أن ينفق عليها.
ولا يحق للابن أن يمنع أمه من الزواج، وهذه مهمة، حيث إنه قد يكون بعض الناس عندهم عادات مخالفة للشريعة، فيمنع أمه من الزواج إذا طلقها أبوه أو مات، وربما يعيرها إذا تزوجت، وهذا حرام لا يجوز، أليس من شرع الله أن تتزوج بعد انقضاء العدة؟! فلماذا يمنعوها؟! إذاً: حديث: (يا رسول الله! إن لي مالاً وولداً وإن أبي يريد أن يجتاح مالي، قال: أنت ومالك لأبيك) يدل على وجوب إعطاء الأب.
وقد علق الخطابي رحمه الله على حديث: (إن أبي يريد أن يجتاح مالي) فقال: يشبه أن يكون ما ذكره السائل من اجتياح والده ماله إنما هو بسبب النفقة -يعني الأب محتاج للنفقة عليه- وإن مقدار ما يحتاج إليه للنفقة عليه شيءٌ كثير لا يسعه عفو ماله -يعني مال الوالد- والفضل منه، إلا أن يجتاح أصله ويأتي عليه، فلم يعذره النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرخص له في ترك النفقة وقال له: (أنت ومالك لوالدك) على معنى: أنه إذا احتاج إلى مالك أخذ منك قدر الحاجة كما يأخذ من مال نفسه، وإذا لم يكن له مال وكان له كسبٌ لزمه أن يكتسب وينفق عليه.
يعني: لو كان الأب محتاجاً والولد ما عنده، الأب قال: أنا بيتي كبير، وعندي زوجتان، وعندي أولاد، وعندي فواتير الكهرباء والهاتف وأجرة الخادمة والسائق، هذا مصروفي.
والابن عنده دخل لكنه محدود يكفيه فقط هو، لكن الابن يستطيع أن يعمل عملاً إضافياً ويصرف على الأب، فهل يلزم الولد أن يعمل عملاً إضافياً وينفق على الأب؟
الجواب
نعم.
يلزمه ذلك.
قال: "فأما أن يكون أراد به إباحة ماله واعتراضه حتى يجتاحه ويأتي عليه لا على هذا الوجه، فلا أعلم أحداً من الفقهاء ذهب إليه والله أعلم".
إذاً: أخذ الأب من مال الابن بسبب النفقة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقوله عليه الصلاة والسلام: (أنت ومالك لأبيك) وأمثال ذلك مما جاءت به اللام للإباحة، يعني: يباح لك أن تأخذ منه، وليست اللام للملك، ولذلك يقول ابن القيم: واللام في الحديث ليست للملك قطعاً، ومن يقول: هي للإباحة أسعد بالحديث، وإلا تعطلت فائدته ودلالته.(299/18)
شروط جواز أخذ الوالد من مال ولده بغير إذنه
فإذا قلت: هل هناك شروط لأخذ الأب من مال ولده؟ قال ابن قدامة: فصلٌ: ولأبٍ أن يأخذ من مال ولده ما يشاء ويتملكه مع حاجة الأب إلى ما يأخذه ومع عدمها، وهذا رأي الحنابلة، صغيراً كان الوجه أم كبيراً بشرطين: أحدهما: ألا يجحف بالابن ولا يضر به، ولا يأخذ شيئاً تعلقت به حاجته.
الثاني: ألا يأخذ من مال ولده فيعطيه الآخر، نص عليه أحمد.
فإذاً: ما هي الشروط؟ أولاً: أن يكون فاضلاً عن حاجة الولد، فلا يجوز للأب أن يقول للولد: اخرج من بيتك واجلس في الشارع، هات سيارتك واذهب على رجليك مسافة ساعتين حتى تصل إلى مكان العمل، أو هات ملابسك ويتركك عارياً.
فالابن يحتاج لأولاده وزوجته مبلغاً معيناً، وما فضل عن حاجة الولد وحاجة زوجته وأولاده فللأب أن يأخذ منه.
لا ضرر ولا ضرار.
وكذلك من الشروط: ألا يأخذ من ولد ويعطي للولد الآخر.
فالأب واجب عليه أن يعدل في العطية لأولاده من ماله هو، فمن باب أولى ألا يأخذ من ولد ويعطي للثاني، فهذا يوغر صدور الأولاد على بعض.
وكذلك ألا يكون في مرض موت أحدهما.
وكذلك ألا يكون الأب كافراً والابن مسلماً؛ لأنه إذا كان الأب كافراً فلا يمكَّن في مال الولد، فالإسلام يعلو ولا يعلى كما قال العلماء.
وكذلك أن يتملك عيناً موجودة، فلا يتملك دين ابنه، فالابن إذا أقرض شخصاً لا يجوز للأب أن يقول: أنا تملكت الدين الذي لك عند فلان.
إذاً: ينبغي أن يكون عيناً موجودةً.
فإذاً: بعض العلماء قالوا: الأب يأخذ على حسب الضرورة والحاجة، وبعضهم قال: حتى بغير حاجة، لكن من الشروط أن يكون فاضلاً عن نفقة الولد وما تقدم من الشروط أيضاً.(299/19)
حكم مطالبة الابن لأبيه بدين عليه
فهل يجوز للابن أن يطالب الأب بالدين؟ أي: أب استلف من ابنه، فهل للابن أن يطالب أباه بالدين، يقول: اقترضت مني فأعد إليَّ مالي.
ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي أن له ذلك؛ لأنه دينٌ ثابت، فجازت المطالبة به كغيره، وأما الحنابلة فقد قال ابن قدامة رحمه الله: ليس للولد مطالبة أبيه بدينٍ عليه، وهو مقتضى قول سفيان بن عيينة، واحتجوا بحديث: (أنت ومالك لأبيك).
لكن لو فرضنا أنه يريد أن يطالبه فلا يكون برفع دعاوى عند المحاكم، وإنما يقول: يا أبتِ أنا أحتاج إلى المال الذي اقترضته مني إذا أمكن، أي: بكل لطف يطالب به، فحتى على القول بجواز المطالبة فليس معنى ذلك أن يرفع عليه دعاوى ويشهر به ويؤذيه، ويلاحقه في بيته والأماكن التي يذهب إليها.
لذلك -أيضاً- لا تقطع يد الأب فيما أخذ من الولد، ولو بغير علم الولد، وهذا أجمعوا عليه.(299/20)
حكم إنفاق الولد الموسر على أبيه وزوجته
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجلٍ عجز عن الكسب وليس له شيء، وله زوجة وأولاد ماذا على ولده الموسر، الذي عنده زوجة وأولاد؟ فقال: على الولد الموسر أن ينفق على أبيه وزوجة أبيه.
يعني: حتى الابن مكلف أن يعطي أباه نفقته ونفقة زوجته التي ليست أمه، وعلى إخوته الصغار ولو كانوا من أم ثانية، وإن لم يفعل ذلك كان عاقاً لأبيه، أليس الولد ميسراً؟ إذا لم يفعل ذلك كان عاقاً لأبيه، قاطعاً لرحمه، مستحقاً لعقوبة الله تعالى في الدنيا والآخرة.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجلٍ له ولد وطلب منه ما يمونه، قال: إذا كان موسراً وأبوه محتاج فعليه أن يعطيه تمام كفايته، وكذلك إخوته إذا كانوا عاجزين عن الكسب فعليه أن ينفق عليهم إذا كان قادراً على ذلك، ولأبيه أن يأخذ من ماله ما يحتاجه بغير إذن الابن وليس للابن منعه.
إذاً: أجمع العلماء على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد.(299/21)
شروط وجوب الإنفاق على الوالدين
ما هي شروط وجوب الإنفاق؟ أولاً: أن يكونوا فقراء لا مال لهم، ولا كسب يستغنون به.
وثانياً: أن يكون ما ينفقه عليهم فاضلاً عن نفقة نفسه.
وثالثاً: أن يكون المنفق وارثاً.(299/22)
حكم إنفاق الابن الموسر على أبيه الفقير القادر على العمل
مسألة: إذا لم يكن للأب مال، لكنه ما يزال فيه قوة وهو قادر على العمل فهل يقال للأب: لا تطلب من ولدك، بل اذهب اعمل واشتغل، أو أنه يجب على الابن أن ينفق على أبيه إذا كان الأب ليس عنده مال ولو كان الأب قادراً على العمل؟
الجواب
يجب أن ينفق عليه ولو كان الأب قادراً على العمل.
قال ابن قدامة رحمه الله: ولا يشترط في وجوب نفقة الوالدين نقص الخلقة ولا نقص الأحكام، قال: وهذا ظاهر كلام الخرقي: فإنه أوجب نفقته مطلقاً إذا كانوا فقراء وله ما ينفقه عليهم.
فإذاً: لو كان الأب ليس عنده مال وكان قادراً على العمل يجب على الابن أن ينفق عليه.
لكن لو كان له عقارات تكفيه، هل يجب على الابن أن ينفق عليه؟ لا.
لا يجب عليه.(299/23)
حكم استئذان الوالدين في السفر(299/24)
حكم استئذان الوالدين في السفر للجهاد
وكذلك من أحكام بر الوالدين قضية السفر للجهاد، فقد صرح الحديث الصحيح بوجوب إذن الوالدين للجهاد.
فقد جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، قال: (أحيٌ والداك؟ قال: نعم.
قال: ففيهما فجاهد) رواه البخاري ومسلم.
وفي حديثٍ آخر: (أقبل رجلٌ إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، قال: فهل من والديك أحدٌ حيٌ؟ قال: نعم، بل كلاهما، قال: فتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم.
قال: ارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما) رواه مسلم.
قال النووي رحمه الله: هذا كله دليلٌ لعظيم فضيلة برهما، وأنه آكد من الجهاد، وفيه حجة لما قاله العلماء: إنه لا يجوز الجهاد إلا بإذنهما إذا كانا مسلمين، أو بإذن المسلم منهما، فإن كانا مشركين لم يشترط إذنهما عند الشافعي ومن وافقه.
وسألت الشيخ ابن باز رحمه الله، قلت: يا شيخ! إذا كان أبوه كافراً تاركاً للصلاة بالكلية، قال: هذا مرتد ليس له إذن ولا يستأذنه، وإذا كانت أمه مسلمة تصلي يجب عليه أن يستأذن أمه.
هذا كله إذا لم يحضر الصف ويتعين القتال، لكن إذا التقى الصفان أو استنفر الإمام الناس للخروج، أو دهم العدو البلد، لم يعد هناك استئذان للأبوين، بل يخرج للدفاع وللجهاد.
وما معنى الإذن؟ لأن بعض الأبناء يريدون الجهاد فيظل يلح على والديه حتى يملا منه، ويقولا له: اذهب، فتجده يقول: أنا فرحان؛ لأنهم وافقوا.
ماذا قال العلماء في هذا؟ قال الإمام أحمد رحمه الله: إن أذنت لك من غير أن يكون في قلبها حرجٌ أو كراهةٌ وإلا فلا تغز -انتبه معي- لأن بر الوالدين فرض عين.
وكنت يوماً واقفاً عند باب الحرم فجاء رجل يقول للشيخ ابن عثيمين: يا شيخ! أنا أريد أذهب أجاهد، فهل يجب أن أستأذن أبواي؟ قال: نعم.
قال: أليس الجهاد فرض عين؟ فقال الشيخ ابن عثيمين: أليس بر الوالدين فرض عين؟ ولا ننس قبل ذلك أن أهل الأعراف قيل فيهم: إنهم أناس خرجوا إلى الجهاد بغير إذن آبائهم وأمهاتهم فماتوا في الجهاد، فمنعهم القتل في سبيل الله من دخول النار، ومنعهم عقوق آبائهم من دخول الجنة، فوقفوا على الجبل بين الجنة والنار، هذا جبل الأعراف.(299/25)
حكم استئذان الوالدين في السفر لطلب الرزق
ماذا بالنسبة للسفر في طلب الرزق؟ إذا كان في سفره مصلحة للإنفاق على نفسه وعياله لا يمكن تحصيلها في البلد، أي: بحث عن وظيفة في البلد فلم يجد وظيفة مطلقاً، وعنده زوجة وأولاد، فجاء يريد السفر لطلب الرزق ببلد ثانية فقال أبوه: لا تسافر، فعند ذلك لا تجب طاعتهما، فهذا المضطر لا بأس، ويمكث فقط قدر الحاجة.
أما إذا وجد في البلد عند أبويه ما يغنيه فلا يجوز الخروج بغير إذن أبويه.
ولو قال: في البلد أجد آلافاً وهناك أجد ملايين، فنقول: إذا كانت تكفيك الآلاف فلا يجوز أن تسافر إلى الملايين، وإنما يبقى عند أبويه إذا منعاه من السفر والخروج.(299/26)
حكم استئذان الوالدين في السفر لطلب العلم
ماذا بالنسبة للسفر في طلب العلم؟ نقول: طلب العلم الذي لا يتحصل إلا بالسفر، وهو يحتاجه -لاحظ هذين الشرطين- يخرج بغير طاعتهما، أما إذا كان يستطيع تحصيله في البلد فلا يجوز الخروج بغير إذنهما.
والآن فيه كتب، وأشرطة، ونشرات، وهاتف، ويمكن للإنسان أن يسأل.
إذاً: لا بد أن تدقق في شرط عدم إمكانية تحصيله في البلد.
قال النووي: وقد قال الشيخ الإمام أبو محمد بن عبد السلام رحمه الله: وقد حَرُم على الولد الجهاد بغير إذنهما لما شق عليهما من توقع قتله أو قطع عضو من أعضائه، ولشدة تفجعهم على ذلك، وقد ألحق بذلك كل سفرٍ يخافان فيه على نفسه أو عضوٍ من أعضائه.
إذاً: كل سفر لا يؤمن فيه الهلاك -انتبه معي، هذا الضابط مهم في قضية أسفار الولد بغير إذن الوالدين- ويشتد فيه الخطر، لا يحل للولد أن يخرج إليه بغير إذن والديه، لماذا؟ لأنهما سيخشيان ويشفقان ويتضرران ويقلقان عليه إذا خرج.
أما إذا كان السفر لا يشتد فيه خطر يحل له الخروج إذا لم يضيعهما، فإذا كان له حاجة، والسفر غير خطير، والأبوان عندهما ما يكفيهما، وعندهما من يخدمهما، والسفر غير خطير، ليس سفر الجهاد -مثلاً- فيجوز له الخروج بغير إذنهما، كما ذكر في بدائع الصنائع.
ماذا بالنسبة لمنع الوالدين ولدهما من الطاعات؟ مثلاً: شخص يريد أن يحفظ القرآن، فقالا له: لا.
أو يريد أن يدرس في مسجد فقالا له: لا.
أو قال: أريد أن أصبح إماماً، فقالا: لا.
أو يريد أن يصحب الأخيار، فقالا: لا، فما هو الموقف؟ سأل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله سائلٌ فقال: إنني أشتغل منذ عدة سنوات بتحفيظ القرآن الكريم في مكان بعيد عن المدينة التي يسكن فيها والداي، ولهذا يطلبان مني أن أترك التدريس وأعمل مع أحد إخواني الذين يسكنون عندهما، وأنا متردد في هذا الأمر؛ لأنني أخشى أن أترك التدريس، فيضيع الطلاب وينسوا ما حفظوه من القرآن الكريم، فما تنصحونني جزاكم الله خيراً؟ فأجابه رحمه الله: ننصحك بالاستمرار في تحفيظ القرآن الكريم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، ولما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين -طبعاً ما في سفر خطير هنا- ولا تلزمك طاعة والديك في ترك ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) ويشرع لك الاعتذار إليهما بالكلام الطيب والأسلوب الحسن، وبالله التوفيق.
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: إذا أمرني والداي بأن أترك أصحاباً طيبين وزملاء أخياراً وألا أسافر معهم لأقضي عمرة، مع العلم بأني في طريقي إلى الالتزام، فهل تجب عليَّ طاعتهما في هذه الحالة؟ فأجاب: -هذا سؤال يعرض لكثير من الشباب الآن- ليس عليك طاعتهما في معصية الله، ولا فيما يضرك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) فالذي ينهاك عن صحبة الأخيار لا تطعه، لا الوالدان ولا غيرهما، ولا تطع أحداً في مصاحبة الأشرار أيضاً، لكن تخاطب والديك بالكلام الطيب وبالتي هي أحسن، كأن تقول: يا والدي! كذا، ويا أمي! كذا، هؤلاء طيبون، وهؤلاء أستفيد منهم، وأنتفع بهم، ويلين قلبي معهم، وأتعلم العلم، وأستفيد، فترد عليهم بالكلام الطيب، والأسلوب الحسن، لا بالعنف والشدة.
وإذا منعوك فلا تخبرهم بأنك تتبع الأخيار وتتصل بهم -اكتم الأمر- ولا تخبرهم بأنك ذهبت مع أولئك إذا كانوا لا يرضون بذلك، لكن عليك ألا تطيعهما إلا في الطاعة والمعروف، وإذا أمروك بمصاحبة الأشرار، أو أمروك بالتدخين، أو بشرب الخمر، أو بالزنا، أو بغير ذلك -طبعاً لا تستغربوا؛ لأن هناك آباء فسقة، قد يقول أحدهم لولده: لماذا لم تتعرف على بنت إلى الآن؟! ويقول للبنت: لماذا تتحجبي عند الخروج؟ ويشد الحجاب عنها وهي في الشارع، فهذه حال بعض البنات المسكينات، أو يريد من ابنته أن تذهب وتتعرف وتختلط، ويغضب إذا لم تختلط بالرجال الأجانب، وهذا من الفسق والفجور، والعياذ بالله-.
قال: فلا فلا تقطعهما ولا غيرهما في ذلك للحديثين المذكورين آنفاً، وبالله التوفيق.
فإذاً: عرفنا الآن ما هي الفتوى في قضية منع الولد من مصاحبة الأخيار، ومن حضور حلق العلم، وتحفيظ القرآن، ورحلة العمرة إلخ.
قال بعض العلماء: فإن كان في بلده من يفيده -يعني: هذا العلم- فلا يخرج إلا بإذنهما.
وأجاز بعض العلماء للطالب الذي عنده أهلية، وقدرة على أن يصبح مفتياً -مثلاً- أو مجتهداً ولا يستطيع تحصيل درجة الفتوى والاجتهاد إلا بالسفر من البلد، أن يخرج بغير إذنهما إذا كان السفر غير خطيرٍ، وكان عندهما ما يكفيهما، ومن يقوم عليهما بالخدمة.(299/27)
حكم طاعة الوالدين في مخالفة الأحكام التكليفية
فلنقسِّم الموضوع في النهاية إلى طاعة الوالدين في ترك الواجب، وفعل المحرم، وفي المباحات، وفي ترك المستحبات، وفعل المكروهات.(299/28)
حكم طاعة الوالدين في ترك الواجبات
أما بالنسبة لترك الواجبات، فقد روى البخاري عن الحسن قال: [إن منعته أمه عن العشاء في جماعة شفقةً عليه فلا يطعها] لأن صلاة العشاء في الجماعة من الواجبات.
وسئل الأوزاعي رحمه الله عن رجل تمنعه أمه من الخروج إلى الجمعة والجماعة؟ قال: ليطع ربه وليعص أمه.
إذاً: لا يجوز طاعة الوالدين في ترك واجب.
وإذا كان الأب والأم في بلاد الكفر، ولا يستطاع إقامة شعائر الدين فيها، والولد قد كبر ومن الممكن أن ينفصل عن الأبوين، ويستقل بنفسه، وعنده قدرة على الوظيفة، قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في هذه المسألة: الواجب على المسلم أن يحذر الإقامة في بلدٍ يدعوه إلى ما حرم الله، أو يلزمه بذلك ترك الصلاة، أو حلق اللحى، أو إتيان الفواحش مثل الزنا والخمور، فيجب عليه ترك هذه البلاد والهجرة منها؛ لأنها بلاد سوء، فلا يجوز الإقامة فيها أبداً، بل يجب أن يهاجر منها، وأن خالف وعصى والديه؛ لأن طاعة الله مقدمة، وطاعة الوالدين إنما تكون في المعروف، فكل بلدٍ لا يستطيع إظهار دينه فيه أو يجبر على المعاصي فيه يجب أن يهاجر منها.
ما حكم منع الأب ولده من حج الفريضة؟ قال ابن مفلح الحنبلي رحمه الله: لا يجوز لوالدٍ منع ولده من حجٍ واجب، ولا تحليله منه، فإذا قال له تحلل وارجع، فإنه لا يجوز له ذلك، ولا يجوز للولد طاعته فيه.
وقال ابن قدامة: ليس للوالد منع ولده من الحج الواجب، ولا تحليله من إحرامه.
وقد سألت الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فقلت: يا شيخ! هذا شاب يسأل ويقول: إن أباه هدده وقال: لو ذهبت إلى الحج -وهو حج الفريضة- لأعاقبنك بعد رجوعك وأضربنك ضرباً مبرحاً، وهدده وتوعده بالعقوبة الشديدة.
فقال الشيخ رحمه الله: العقاب ظني فيذهب، ويكفيه الله شره.(299/29)
حكم طاعة الوالدين في ترك المستحبات
وننتقل إلى قضية طاعة الوالدين في ترك المستحبات.
المستحبات متعددة، فهناك سنن راتبة، وهناك صلوات نافلة أخرى، وصيام نفل، وحج نفل، فما هو الحكم في هذه القضية؟ أما السنة الراتبة مثل حضور الجماعات في المساجد، وركعتي الفجر، والوتر وما أشبه ذلك، فإن دعواه لحاجتهما المرة بعد المرة فليطعهما، يعني: مرة دعواه وهو يصلي سنة راتبة، فعليه أن يقطع ويطيع، لكن لو قالا له: ممنوع أن تصلي السنن الرواتب أبداً، فلا يلزمه طاعتهما.
قال الطرطوشي رحمه الله: وأما إن كان ذلك على الدوام واللزوم فلا طاعة لهما فيه؛ لأن فيه إماتة لشعائر الإسلام، وسئل الإمام أحمد عن رجلٍ يصوم التطوع فسأله أبواه أو أحدهما أن يفطر، قال: يروى عن الحسن أنه قال: -طبعاً الإمام أحمد كان يفتي بأقوال التابعين كثيراً-: [يفطر وله أجر البر وأجر الصوم].
وقال: إذا أمره أبواه ألا يصلي إلا المكتوبة -هذه حالة أخرى- فقال: يداريهما ويصلي.
قال الشيخ تقي الدين: ففي الصيام كره الابتداء فيه إذا نهاه، واستحب الخروج منه، وأما الصلاة، فقال: يداريهما ويصلي.
أما الخروج من الصلاة أثناء الصلاة فإنه يقطع الصلاة، فإذا كان يصلي صلاة نافلة فنادته أمه إذا كان في نهاية الصلاة أنهاها بسرعة وأجاب والدته، لكن إذا كان في أول الصلاة، وخشي أن تغضب أمه، حيث أنها نادته مرة وثنتين وثلاثاً، وهو في أول الصلاة، فإنه يقطع الصلاة النافلة ويجيبها لحديث جريج.
فبالجملة منع الولد من المستحبات عموماً كالسنن النوافل، وعلم النافلة، وحلق الرأس في الحج والعمرة، ليس لهما حقٌ في ذلك، ولا يلزم طاعتهما مع المدارة.(299/30)
حكم طاعة الوالدين في فعل المشتبهات
قال الطرطوشي: لا طاعة لهما في ترك سنة راتبة، وترك ركعتي الفجر والوتر إذا سألاه ذلك على الدوام.
أما فعل المشتبهات، فقد يكون أبوه عنده كسب فيه شبهة، والابن يأكل منه، فقد قال العلماء: الأولى أن يتورع ويداريهما، فإن أكل أو أخذ فلا حرج عليه إن شاء الله.
فإن كان تركه لأكل الطعام، وتركه لأخذ المال مؤثراً فيهم، -يعني: الأب كسبه مشبوه، والابن لو امتنع لتأثر الأب وترك الكسب المشبوه- يجب على الابن الامتناع والترك حتى يجعل الأب يترك المشبوه، لكن لو كان لا يترك ويأمر ولده بالأكل، قال بعض العلماء: يأكل.
الآن المشبوه ممكن ينتج من اختلاط الحلال بالحرام، أبوه يضع الأموال في البنك ويأخذ ربا ويخلطها بالإيجارات تبع العقارات، فدخل أبيه فيه الحلال والحرام متداخل، والآن يعطيه نفقة، ويعطيه مال من هذا ويقول: كل من طعامي هذا.
فماذا يفعل؟ قال بعض العلماء: لا يجوز، وقال بعضهم: إذا زاد الحرام على الثلث لا يجوز، وقال بعضهم: إن كان الأكثر الحرام لا يجوز.
وقال بعضهم: جائز مطلقاً ولعله هو الأقوى في المذهب، لكن يكره، وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته.
وهذه المسألة الإمام أحمد رحمه الله تردد فيها، ورفض أن يفتي وقال: ما أحسن أن يداريهم، يعني: ما يأكل ويحاول أن يداريهم، قال السفاريني رحمه الله: والذي استقر عليه المذهب عدم الحرمة، بل يكره ذلك، يقول: الكسب المختلط من الحلال والحرام الذي استقر عليه المذهب عدم الحرمة، بل يكره ذلك، وقوة الكراهة فيه وضعفها بحسب كثرة الحرام أو قلته.
وإذا كان الولد له كسب مستقل فليأكل من كسبه، وإذا كان لا كسب له فليأكل من كسب أبيه.
لكن إذا كان كسب الأب كله حرام؟ وكان الولد محتاجاً وليس له نفقة إلا من مال أبيه، فإنه يأخذ وليس عليه إثم، لكن لا يتوسع كما قال علماؤنا، بل يأخذ الكفاية فقط، وإذا علم الحرام بعينه يجتنبه ويأخذ من الآخر، قد يقول لك: أخذته رشوة من الحرام، ويقول: خذ يا ولد المصروف فالابن إذا عرف أن هذا بعينه الحرام لا يأخذه، بل يأخذ من مالٍ آخر.(299/31)
حكم طاعة الوالدين في فعل المباحات وتركها
طاعة الوالدين في المباحات، ما حكمها؟ مثلاً: قال: يا ولد! يجب أن تأكل هذا النوع من الأكل، ويجب أن تتزوج هذه المرأة، فلا يجب الطاعة في هذه الحالة، ولا التزوج ممن لا يرغب، وإذا كان الشخص لا يجب عليه أن يطيع في أكلةٍ تنغصه ساعة، فكيف يجب عليه أن يطيع في الزواج بامرأةٍ لا يريدها تنغص عمره كله؟! قال الإمام أحمد رحمه الله: إن كان الرجل يخاف على نفسه، ووالداه يمنعانه من التزوج فليس لهما ذلك.
لو قال: يا ولد! لا زواج إلا بعد التخرج، والولد يستطيع أن يتزوج قبل التخرج، وهو يخشى على نفسه الحرام فلا تلزم طاعة أبويه.
قال الشيخ تقي الدين: ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وإذا امتنع لا يكون عاقاً.
وإذا قال له: يا ولد! طلق زوجتك، لماذا؟ قال: هي لم تأتِ لي بالحذاء إلى عندي، قلت لها: هاتي الحذاء فلم تأتِ به، فخلاصة مسألة طلاق الزوجة: أنه إذا كان الأب عدلاً، وكانت المرأة فيها سوء في الدين أو الخلق فيلزمه طاعة أبيه، فـ عمر أمر ولده بطلاق زوجته، وأمره عليه الصلاة والسلام أن يطيع أباه عمر؛ لأن عمر عدل، ليس عنده هوى في القضية هذه، لكن إذا كان الأب صاحب هوى، والزوجة صاحبة دين وخلق حسن فلا يلزمه الطلاق.
وإذا أصرت عليه أمه يطلق زوجته للغيرة والزوجة حسنة الدين والخلق، يقول ابن تيمية: هذه من جنس هاروت وماروت في السعي في التفريق بين الزوجين، فلا يطعهما، ولا يحل له أن يطلقها لقول أمه، بل عليه أن يبر أمه وليس تطليق امرأته من برها.
إذاً: هذا بالنسبة لقضية طلاق الزوجة، وقد سئل ابن تيمية عن امرأة وزوجها متفقين، وأمه تريد الفرقة، فلم تطاوعها البنت، فهل عليها إثم في دعاء أمها عليها؟ قالت: يا بنت! تطلقي من زوجك، واطلبي الخلع، أو نكدي عليه إلى أن يطلقك.
فأجاب ابن تيمية رحمه الله وقال: إذا كانت الأم تريد التفريق بينها وبين زوجها فهي من جنس هاروت وماروت، فلا طاعة لها في ذلك، ولو دعت عليها.
اللهم إلا إذا كانا مجتمعين على معصية، أو يكون أمره للبنت بمعصية الله، فالأم تتدخل تريد أن تطلق البنت؛ لأن زوجها يأمرها بالمعصية.(299/32)
حكم طاعة الوالدين في فعل المحرمات
إذا كان الوالدان يأمرانه بالخروج لشراء منكر، فقد أفتى الإمام أحمد في رواية الحارث في رجل تسأله أمه أن يشتري لها ملحفة للخروج، تقول: اذهب اشترِ لي عباية، قال: إن كان خروجها في بابٍ من أبواب البر، كعيادة مريض أو قرابة أو لأمرٍ واجب لا بأس، وإن كان في غير ذلك فلا يعينها على الخروج.
وسئل الإمام أحمد سؤالاً لطيفاً: أب يقول لولده: ادخل عليَّ الغرفة، والغرفة مفروشة حريراً، فقال: يلف البساط من تحت رجليه ويدخل.
فيلف البساط ولا يطأ عليه إذا كان من حرير ويدخل.
وأفتى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله بعدم جواز طاعة الوالدين في حلق اللحية.(299/33)
إذا تعارض بر الأب مع بر الأم فما الحل؟
إذا تعارض بر الأب مع بر الأم ماذا يفعل؟ يحاول التوفيق بشتى الوسائل، لكن لو قالت أمه: لا تبر أباك، فإن أباك طلقني، ولو زرته فإني سأدعو عليك إلى قيام الساعة، فيزوره ويخفي الزيارة، أو قال الأب للابن: لو زرت أمك وخالك وجدك وجدتك أغضب عليك إلى قيام الساعة، فيزورهم ويخفي أمر الزيارة.
لكن إذا كان لا يستطيع الإنفاق إلا على الأب أو الأم؛ لأن المال قليل عند الولد، فمن يقدم؟ يقدم الأم، فإذا أراد أن يحج عن أبيه وأمه اللذين ماتوا من غير حج الفريضة يقدم الحج عن الأم.
وهكذا في هذه المسألة.
وقد أفتى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فقال: لا نرى أن يتوكل لأمه على أبيه، أي: في المحاكم، فإذا قالت أمه له: وكلتك في المحكمة تترافع ضد أبيك بطلب نفقة أو كذا، فنقول: لا نرى أن يتوكل لأمه ولو كانت أمه مظلومة، ولكن يشير على أبيه في دفع الضرر.
إذاً: لا يتوكل عنها في المحاكم.
بهذا انتهى الوقت وقد وصلنا تقريباً إلى نهاية الموضوع.
ونسأل الله تبارك وتعالى أن يغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا.(299/34)
لماذا نحب الرسول [2]؟
إن الناس تجاه محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع هديه وسنته قد انقسموا إلى أقسام عدة؛ فمنهم المستهزئ بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومنهم المتبع لبعض هديه التارك للهدي الآخر وهلم جرا، وإن من علامة حب الرسول صلى الله عليه وسلم ذكره بالصلاة عليه في المواطن المستحب ذكره فيها.(300/1)
أحوال الناس تجاه رسول الله وسنته وهديه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة! إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً عظيماً علينا، رسول الهدى الذي أرسله الله رحمة للعالمين، فبلغ رسالة الله للناس، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وأقام الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فاعتدلت الملة على الصراط المستقيم بعد أن كانت عوجاء، فتح الله به قلوباً غلفا، وآذاناً صما، وأعيناً عميا، ما ترك خيراً إلا ودلنا عليه، وما ترك شراً إلا وحذرنا منه، وكان صلى الله عليه وسلم أعظم الأمة أجراً؛ لأن الدال على الخير كفاعله، ولا يعمل منا أحدٌ اليوم عملاً صالحاً إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم أجر المثل، بالإضافة لأجره هو صلى الله عليه وسلم.
هذا الرسول -أيها الإخوة- كما ذكرنا في مناسبة سابقة، لابد أن نحبه حباً عظيماً، وطريقة أهل السنة والجماعة في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقٌ بين باطلين، طريقة الوسط بين الغلو ورفعه فوق المنزلة التي أنزله الله إياها، وبين الجفاء وهو: قسوة القلب وعدم محبته صلى الله عليه وسلم المحبة الكافية، فضلاً عن كرهه أو سبه كما يفعل اليوم كثير من الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لقد كافأ الناس -أيها الإخوة- رسول الله صلى الله عليه وسلم مكافأة شنيعة، فمنهم من يستهزئ به أو بشخصه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومنهم من يستهزئ بمظهره أو لباسه صلى الله عليه وسلم، فأنت تذكر للناس صفة مظهره أو لحيته أو ثوبه عليه الصلاة والسلام، فتجد ألسنة المستهزئين قد انطلقت بلا عنان، تكيل الشتائم والسباب بشكل مباشر أو غير مباشر لصفة هذا النبي الكريم، وبعض الناس بلغ من تقصيرهم أنهم أخذوا أطرافاً من سننه وتركوا الباقي، فقالوا: هذه سنن أساسية، وهذه لبابٌ يجب أن نأخذ بها، وتركوا أشياء كثيرة مما سوى ذلك، وزعموا أنها قشور لا يجب على المسلم أن يأخذ بها، خالفوا قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
مظهر المسلم اليوم يختلف اختلافاً كبيراً عن مظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخلاق المسلمين اليوم، وعقائد المسلمين اليوم، وسير المسلمين اليوم تختلف اختلافاً كلياً عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وشمائله، وقع التقصير -أيها الإخوة- بشكل يدعو إلى الأسى والأسف، هل هذه هي المكافأة التي يكافئ بها المسلمون نبيهم صلى الله عليه وسلم على تلك الخدمات الجليلة التي أداها عليه السلام لهم ولدينهم؟!(300/2)
فضل الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم
إننا -أيها الإخوة- نحتاج إلى مراجعة حساباتنا وتصرفاتنا تجاهه صلى الله عليه وسلم، ونحن قد ذكرنا في درس ماض محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والطريق إليها، ونخصص هذه الخطبة إن شاء الله لبيان حق واحد من حقوقه عليه السلام وهو: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فضلها وأهميتها ومواطنها، وقبل أن نبدأ -أيها الإخوة- أذكركم بأن من آداب خطبة الجمعة، الإنصات للإمام، وعدم رفع الصوت من قبل المأمومين حتى ولو كان الرفع بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وإنما تكون الصلاة عليه إذا ذكر في النفس، سراً كما قال العلماء.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، فأمر الله سبحانه وتعالى بالصلاة والسلام، ولهذا قال النووي رحمه الله: والمشروع الجمع بين الصلاة والسلام معاً، وعدم إفراد كلٌ منهما لوحده، هذا هو المستحب مصداقاً لما جاء في الآية، إلا ما ورد الدليل بتخصيص أحدهما، وصلاة الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام، كما قال أبو العالية فيما جاء عنه بإسناد حسن: هو ثناؤه عليه عز وجل، الصلاة من الله: ثناء الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن الملائكة ومن المؤمنين الدعاء له عليه الصلاة والسلام.
وقد عد رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي يترك الصلاة عليه بخيلاً، فقال: (البخيل من ذكرت عنده فلم يصلِّ علي).
رواه أحمد، وهو حديث صحيح، ولذلك قال العلماء: بأن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم واجبة لابد منها، وأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمد! أما يرضيك أن ربك عز وجل يقول: إنه لا يصلي عليك من أمتك أحد صلاة، إلا صليت عليه بها عشراً، ولا يسلم عليك أحد من أمتك تسليمة إلا سلمت عليه بها عشراً، فقلت: بلى أي ربي) رواه أحمد وهو حديث صحيح.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني آت من عند ربي عز وجل، فقال: من صلى عليك من أمتك صلاة، كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، ورد عليه مثلها) أربع مكافآات لمن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، عشر حسنات تكتب، وعشر سيئات تمحى، وعشر درجات ترفع، ويرد عليه بمثل ما صلى على رسوله صلى الله عليه وسلم.
رواه أحمد وهو حديث صحيح.
ولأجل هذه النعمة التي أنعم الله بها على نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد سجد عليه السلام شكراً لربه على هذه النعمة كما جاء في الحديث الصحيح، وأخبر عليه السلام أيضاً، بقوله: (ما من عبدٍ يصلي عليّ إلا صلت عليه الملائكة، مادام يصلي علي، فليقِل العبد من ذلك أو ليكثِر) ولابد من الإكثار، وهذا حديث حسن.
بل إن الله قد خص ملائكة معينين وظيفتهم السياحة في الأرض لتبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم سلام أمته عليه، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام أحمد وغيره: (إن لله تعالى ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام) بل إنه أكثر من ذلك، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن الذي رواه الطبراني عن عمار بن ياسر مرفوعا: (إن لله تعالى ملكاً معيناً أعطاه الله سمع العباد، فليس من أحد يصلي عليّ إلا أبلغنيها، وإني سألت ربي ألا يصلي عليّ عبد صلاة إلا صلى الله عليه عشر أمثالها).
وقال عليه الصلاة والسلام موضحاً أكثر: (أكثروا الصلاة عليّ، فإن الله وكل بي ملكاً عند قبري، فإذا صلى علي رجل من أمتي قال لي ذلك الملك: يا محمد! إن فلان بن فلان صلى عليك الساعة) ملك أعطاه الله أسماء العباد يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام كل واحد باسمه، وهذا حديث حسن.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من واحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي، حتى أرد عليه السلام) حديث حسن، رواه أبو داود رحمه الله تعالى.
فترد الروح إليه صلى الله عليه وسلم لكي يرد على المصلي منا عليه صلاته وسلامه، فأي أجر وأي فضل أعظم من هذه الأشياء.
ولقد بلغ من فضل الله علينا أنه جعل صلاتنا على رسوله صلى الله عليه وسلم تبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أينما كان المصلي عليه في أي مكان من أقطار الأرض، فقال عليه الصلاة والسلام: (حيث ما كنتم فصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني) سواء كنت عند قبره أو كنت في هذا المكان، أو كنت في أقصى الأرض، فإذا صليت على رسول الله بلّغ الله تعالى صلاتك لرسوله صلى الله عليه وسلم.(300/3)
المواطن التي يشرع فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
إننا -أيها الإخوة- نحتاج إلى مراجعة حساباتنا وتصرفاتنا تجاهه صلى الله عليه وسلم، ونحن قد ذكرنا في درس ماض محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والطريق إليها، ونخصص هذه الخطبة إن شاء الله لبيان حق واحد من حقوقه عليه السلام وهو: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فضلها وأهميتها ومواطنها، وقبل أن نبدأ -أيها الإخوة- أذكركم بأن من آداب خطبة الجمعة، الإنصات للإمام، وعدم رفع الصوت من قبل المأمومين حتى ولو كان الرفع بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وإنما تكون الصلاة عليه إذا ذكر في النفس، سراً كما قال العلماء.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، فأمر الله سبحانه وتعالى بالصلاة والسلام، ولهذا قال النووي رحمه الله: والمشروع الجمع بين الصلاة والسلام معاً، وعدم إفراد كلٌ منهما لوحده، هذا هو المستحب مصداقاً لما جاء في الآية، إلا ما ورد الدليل بتخصيص أحدهما، وصلاة الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام، كما قال أبو العالية فيما جاء عنه بإسناد حسن: هو ثناؤه عليه عز وجل، الصلاة من الله: ثناء الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن الملائكة ومن المؤمنين الدعاء له عليه الصلاة والسلام.
وقد عد رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي يترك الصلاة عليه بخيلاً، فقال: (البخيل من ذكرت عنده فلم يصلِّ علي).
رواه أحمد، وهو حديث صحيح، ولذلك قال العلماء: بأن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم واجبة لابد منها، وأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمد! أما يرضيك أن ربك عز وجل يقول: إنه لا يصلي عليك من أمتك أحد صلاة، إلا صليت عليه بها عشراً، ولا يسلم عليك أحد من أمتك تسليمة إلا سلمت عليه بها عشراً، فقلت: بلى أي ربي) رواه أحمد وهو حديث صحيح.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني آت من عند ربي عز وجل، فقال: من صلى عليك من أمتك صلاة، كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، ورد عليه مثلها) أربع مكافآات لمن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، عشر حسنات تكتب، وعشر سيئات تمحى، وعشر درجات ترفع، ويرد عليه بمثل ما صلى على رسوله صلى الله عليه وسلم.
رواه أحمد وهو حديث صحيح.
ولأجل هذه النعمة التي أنعم الله بها على نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد سجد عليه السلام شكراً لربه على هذه النعمة كما جاء في الحديث الصحيح، وأخبر عليه السلام أيضاً، بقوله: (ما من عبدٍ يصلي عليّ إلا صلت عليه الملائكة، مادام يصلي علي، فليقِل العبد من ذلك أو ليكثِر) ولابد من الإكثار، وهذا حديث حسن.
بل إن الله قد خص ملائكة معينين وظيفتهم السياحة في الأرض لتبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم سلام أمته عليه، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام أحمد وغيره: (إن لله تعالى ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام) بل إنه أكثر من ذلك، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن الذي رواه الطبراني عن عمار بن ياسر مرفوعا: (إن لله تعالى ملكاً معيناً أعطاه الله سمع العباد، فليس من أحد يصلي عليّ إلا أبلغنيها، وإني سألت ربي ألا يصلي عليّ عبد صلاة إلا صلى الله عليه عشر أمثالها).
وقال عليه الصلاة والسلام موضحاً أكثر: (أكثروا الصلاة عليّ، فإن الله وكل بي ملكاً عند قبري، فإذا صلى علي رجل من أمتي قال لي ذلك الملك: يا محمد! إن فلان بن فلان صلى عليك الساعة) ملك أعطاه الله أسماء العباد يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام كل واحد باسمه، وهذا حديث حسن.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من واحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي، حتى أرد عليه السلام) حديث حسن، رواه أبو داود رحمه الله تعالى.
فترد الروح إليه صلى الله عليه وسلم لكي يرد على المصلي منا عليه صلاته وسلامه، فأي أجر وأي فضل أعظم من هذه الأشياء.
ولقد بلغ من فضل الله علينا أنه جعل صلاتنا على رسوله صلى الله عليه وسلم تبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أينما كان المصلي عليه في أي مكان من أقطار الأرض، فقال عليه الصلاة والسلام: (حيث ما كنتم فصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني) سواء كنت عند قبره أو كنت في هذا المكان، أو كنت في أقصى الأرض، فإذا صليت على رسول الله بلّغ الله تعالى صلاتك لرسوله صلى الله عليه وسلم.(300/4)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم آخر التشهد في كل صلاة
ومن المواضع التي يشرع فيها الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، الموضع الأول: وهو أهمها وآكدها في الصلاة عليه في آخر التشهد، وهي الصلاة الإبراهيمية المعروفة: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، ولهذه الصلاة صيغ كثيرة، يستحب للإنسان المسلم أن ينوع في ذكرها في صلاته، فمن هذه الصيغ قوله عليه الصلاة والسلام: (صلوا عليّ واجتهدوا في الدعاء، وقولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل ومحمد، وبارك على محمد وآل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد) ومن هذه الصيغ قولوا: (اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد) والصيغ كثيرة ذكرها أهل العلم في موضعها.(300/5)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول من كل صلاة
والموضع الثاني أيها الإخوة: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول من الصلاة، بعد التشهد الأول من الصلاة يسن الصلاة على رسول الله كذلك، ليس فقط في التشهد الأخير كما يعلمه عامة الناس، وإنما حتى في التشهد الأول للحديث الوارد عند أبي عوانة والنسائي: أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي على نفسه في التشهد الأول وغيره، الفرق بينهما أن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير واجبة، أما الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأول فهي سنة، إن تركها الإنسان فلا حرج، ولكن يسن له أن يصلي على رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى بعد التشهد الأول قبل أن يقوم إلى الركعة الثالثة.(300/6)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت
وكذلك من المواضع: الصلاة عليه في آخر دعاء القنوت في صلاة الوتر أو غيره إذا قنت الإنسان، لما جاء في حديث عبد الرحمن بن عبد القاري، أنهم كانوا على عهد عمر يلعنون الكفرة في النصف من شعبان، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم الإمام، ويدعو للمسلمين بما استطاع من خير، ثم يستغفر للمؤمنين، وذكر بعض العلماء أن هذه الصلاة مقيدة بقول الراوي أو بقوله أحياناً، أي: قوله في النصف الثاني من هذا الشهر.(300/7)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة
وكذلك يستحب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قل: هي جزء من صلاة الجنازة، وهو الموضع الآخر، فإنه قد قال الزهري رحمه الله: سمعت أبا أمامة سهل بن حنيف يحدث سعيد بن المسيب -وأبو أمامة صحابي صغير- إن السنة في صلاة الجنازة أن يقرأ بفاتحة الكتاب، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يخلص الدعاء للميت.
ففي التكبيرة الثانية من صلاة الجنازة يصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسناده صحيح.(300/8)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد إجابة المؤذن
والموطن الخامس أيها الإخوة: بعد إجابة المؤذن، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا عليّ، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة الحديث) بعد الانتهاء من الترديد مع المؤذن يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم.(300/9)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الدعاء
ومن الأماكن والمواطن كذلك: الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند الدعاء، وقد بلغ من خطورة هذه المسألة أنه عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الحسن المروي عن أنس مرفوعاً: (كل دعاء محجوب-لا يقبل- حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم) يحجب الدعاء، يعلق بين السماء والأرض، كما ذكر ابن القيم رحمه الله في جلاء الأفهام، حتى يصلي الداعي الذي يدعو ربه على رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك كان للصلاة عليه في الدعاء مراتب، فمنها: الصلاة عليه قبل الدعاء، وبعد حمد الله، بعدما تحمد الله وتدعوه بأسمائه الحسنى، وقبل أن تسأل حاجتك تصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم، لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله تعالى والثناء عليه، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع بعد ما شاء).
والمرتبة الثانية: أن يصلي عليه في أول الدعاء وأوسطه وآخره، والمرتبة الثالثة: أن يصلي عليه في أول الدعاء وآخره، ويجعل حاجته متوسطة بينهما، المهم أنه لابد من قرن الدعاء بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.(300/10)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الهم والشدائد
ومن المواطن كذلك: الصلاة عليه عند الهم والشدائد وعند طلب المغفرة، فعن أبي بن كعب قال: (قلت: يا رسول الله! إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟) قال ابن القيم رحمه الله: وقد سئل شيخنا أبو العباس ابن تيمية رحمه الله عن هذا الحديث، فقال: كان لـ أبي دعاء يدعو به، دعاء خاص، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أنا أدعو وأثناء دعائي أصلي عليك، فكم النسبة التي أخصص لك الصلاة عليك فيها في دعائي؟ فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: ما شئت، فقلت: الربع؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير، قلت: النصف؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قلت: فالثلثين؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قلت: أجعل لك صلاتي كلها، قال: إذاً يكفى همك ويغفر لك ذنبك).
فإذاً: هذا الصحابي أبي بن كعب صار دعاؤه كله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام له: أنه إذا فعل هذا يكفى الهم، ويغفر له ذنبه، فصار إذا نزل بالإنسان هم يستحب له الإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(300/11)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد والخروج منه
ومن المواطن المعروفة كذلك: عند دخول المسجد والخروج منه، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قال: (بسم الله، اللهم صل على محمد-ويضيف إليها- اللهم افتح لي أبواب رحمتك)، وإذا خرج قال: (بسم الله، اللهم صل على محمد-ويضيف إليها- اللهم إني أسألك من فضلك).(300/12)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند اجتماع القوم وقبل تفرقهم
وعند اجتماع القوم وقبل تفرقهم، قال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم ثم تفرقوا عن غير ذكر لله، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلا قاموا على أنتن جيفة) خذ أكثر جيفة نتناً وأشدها تعفناً، ثم تصور أنك إذا جلست في أي مجلس، وقمت من ذلك المجلس بغير ذكر الله وصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنك تقوم على هذا النتن الصادر من هذه الجيفة، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح أيضاً: (أيما قوم جلسوا فأطالوا الجلوس، ثم تفرقوا قبل أن يذكروا الله تعالى أو يصلوا على نبيه، كانت عليهم ترة من الله -حسرة- إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم) عذاب من الله، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم.
أيها الإخوة! فكروا في مجالسنا اليوم التي نجلس فيها، كم من المجالس التي نجلس فيها ونقوم من غير ذكر لله ولا صلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما تكون مجالسنا غيبة ونميمة، وتفكهاً في أعراض الناس، والجهر بالسوء من القول، والنكت والضحك، والاستهزاء بعباد الله الصالحين، والكلام في أخبار فلان وفلان من الناس، أو الكلام في عروض التجارة وأنواعها، ولكننا قلما نقوم من مجلس فنذكر الله تعالى ونصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لو لم نخرج من هذه الخطبة أيها الإخوة إلا بهذه الفائدة لكانت فائدة عظيمة، نتواصى فيما بيننا يا إخواني، أننا إذا جلسنا في أي مجلس كان، جلس الإنسان مع أهله، أو أصدقائه، أو مسئول، أو موظف، أو فصل دراسي، أو في دكانه، ألا يقوم من ذلك المجلس إلا وقد ذكر الله وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ولو مرة على الأقل، هذه سنة لابد أن تحيا، ولابد أن يذكر بها بعضنا بعضا.
وقال عليه الصلاة والسلام مبيناً خطورة ترك الصلاة عليه: (من ذكرت عنده -في مجلس، أو حتى ولو قراءة- فخطئ الصلاة عليّ، خطئ طريق الجنة) حديث صحيح رواه الطبراني عن الحسين رضي الله عنه.
ولذلك جاء في حديث جبريل لما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن ذكرت عنده يا محمد! -صلى الله عليه وسلم- فلم يصل عليك، فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين).
ولذلك قال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله: تجب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كلما ذكر اسمه، شفهياً أو تحريرياً، وهذه مسألة وقع فيها تقصير عند كثير من المسلمين، فإنهم إذا جاءوا يكتبون اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم لا يصلون عليه عند الكتابة، ولا يكتبون الصلاة عليه، وبعضهم يكتب بين قوسين صاد، وبعضهم يكتب صلعم، هذه لا تغني شيئاً مطلقاً، كأنها غير موجودة، لابد كما ذكر العلماء أنك عندما تكتب اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصلي عليه عند كتابتك فتكتب: صلى الله عليه وسلم، أو عليه الصلاة والسلام ونحو ذلك من الألفاظ.
بل لقد بلغ من دقة بعض العلماء، وهو عبد الرحمن بن مهدي من المحدثين أنه قال: كنا في عجلة من أمرنا ونحن نكتب الحديث، ولم يكن عندنا وقت لكتابة صلى الله عليه وسلم لأننا نكتب عن الشيخ، والشيخ يسرع في الحديث فتركنا فراغاً بيضنا له، فإذا انتهى مجلس الإملاء ذهبنا فملأنا الفراغات كلها صلى الله عليه وسلم، وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: بحسب أهل الحديث خيراً أنهم كلما كتبوا حديث رسول الله صلوا عليه وسلموا.
فكان أهل الحديث -أيها الإخوة- المشتغلين بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تقع لهم هذه الفائدة أكثر مما تقع لغيرهم، جعلنا الله وإياكم من أهل الحديث وأتباع السنة، وصلى الله على نبينا محمد.(300/13)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصباح والمساء
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين.
فإكمالاً لما كنا نتكلم عنه، فإن من أذكار الصباح والمساء -أيها الإخوة- الصلاة على رسولكم صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الحسن الذي يرويه الطبراني عن أبي الدرداء مرفوعاً: (من صلى علي حين يصبح عشراً، وحين يمسي عشراً، أدركته شفاعتي يوم القيامة).(300/14)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل اجتماع
ومن المواطن كذلك: كل اجتماع فيه ذكر لله، سواء كان تفسيراً أو حديثاً أو فقهاً وما شابه ذلك، لابد أن يقرن بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كغيره من المجالس، بل إنه في هذا المجلس يكون التكرار فيه أكثر.(300/15)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في تكبيرات صلاة العيد
ومن المواطن التي يصلى فيها عليه صلى الله عليه وسلم: الصلاة عليه في تكبيرات صلاة العيد، لما روي عن عبد الله بن مسعود في صفة صلاة العيد، لما جاء يعلمها للوليد بن عقبة، وكان عنده صحابيان جليلان، قال ابن مسعود وهو يعلم هذا الرجل -وكان أميراً على بلده-: كيف يؤم الناس في صلاة العيد؟ يقول له: تبدأ فتكبر تكبيرة تفتتح في الصلاة وتحمد ربك، وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تدعو وتفعل مثل ذلك، ثم تكبر وتفعل مثل ذلك، إلى آخر الحديث، فقال حذيفة وأبو موسى رضي الله عنهما: صدق أبو عبد الرحمن، الكلام كما قال أبو عبد الرحمن ابن مسعود، قال المخرّج لكتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، الجهضمي: إسناده حسن.
فإذاً أيها الإخوة! إذا صففنا في صلاة العيد التي فيها تكبيرات، فإذا كبرنا الأولى والثانية والثالثة، بين كل تكبيرة وتكبيرة يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعون ما شاءوا.(300/16)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا والمروة
ومن المواطن كذلك: الصلاة عليه فوق الصفا والمروة؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: [إذا قدمتم فطوفوا بالبيت سبعاً، وصلوا عند المقام ركعتين، ثم أتوا الصفا، فقولوا: من حيث ترون البيت -تقف وأنت تنظر إلى البيت- فكبروا سبع تكبيرات بين كل تكبيرتين حمد لله وثناء عليه، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومسألة لنفسك، وعلى المروة مثل ذلك].
قال المخرِّج في المصدر السابق: إسناده صحيح.(300/17)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره
ومنها كذلك أيها الإخوة: الصلاة والسلام عليه عند قبره، إذا جاء الإنسان ليزور القبر إذا كان في المدينة دون شد الرحال والسفر من أجل القبر، نذهب للصلاة في المسجد، ونية السفر الذهاب للصلاة في المسجد، فإذا وصلنا إلى هناك، وكنا على مقربة من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يستحب لك يا أخي المسلم أن تأتي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقف أمامه وتفعل كما فعل ابن عمر، عن عبد الله بن دينار قال: [رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر]، أخرجه في الموطأ، قال في المصدر السابق: إسناده صحيح.
وعن عبد الله بن دينار قال: [رأيت ابن عمر إذا قدم من سفر دخل المسجد فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه] هذا الحديث قال عنه في المصدر السابق: إسناده صحيح.
هذه من المواطن التي ورد فيها الصلاة على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فكثرة الصلاة وتعددها وتنوعها واختلافها يدل على دخولها أي: الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم في أمور كثيرة من الدين، نظراً لأهميتها وعظمها وفضلها.
فنسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا وإياكم من أهل الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وأن يرزقنا وإياكم شفاعته، واتباع سنته ظاهراً وباطناً في الصغيرة والكبيرة.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، اللهم واجعلنا من المسلمين لك المخبتين لك، الأوابين الأواهين التوابين، وارزقنا ذكرك آناء الليل وأطراف النهار، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ذات بيننا، اللهم واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.(300/18)
جنة الدنيا [2]
الإيمان مصدر سعادة المؤمن، كما أن الكفر أصل شقاء الكفار، فمع الإيمان أمان ورزق، وطمأنينة وسكينة، وصبر على البلاء مع الرضا بالقضاء، ومع الكفر شقاء وجزع، وحيرة وقلق وهلم جرا، وهذا تجده واضحاً مبيناً في هذه المادة فتابعها لترى الفرق بين المؤمن والكافر.(301/1)
أثر الإيمان في حياة الإنسان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإنه لعظيم حقاً أثر الإيمان في حياة الإنسان، وكيف يغير الإيمان مسار الإنسان ليخرجه خلقاً آخر متمتعاً بصفات عالية وأخلاق سامية، إنه يحتوي على مواصفات عظيمة وقد سبق أن ذكرنا -أيها الإخوة- بعضاً من هذه الصفات التي يتصف بها المؤمن عند إيمانه وماذا يفعل الإيمان للإنسان، ومن ذلك الأمن النفسي الذي قال الله تعالى فيه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] فكما لا يتحسر المؤمن على الماضي باكياً حزيناً، ولا يلقى الحاضر جزوعاً ساخطاً، ولا يواجه المستقبل خائفاً وجلاً، ولا يعيش في فزع ورهبة وغموض وتوجس من المستقبل كأنه عدو شرير، بل إنه يعيش آمن النفس مطمئناً؛ لأن الإيمان مصدر أمنه.
والأمن من ثمرات الطمأنينة والسكينة التي وهبها الله للمؤمنين، ولا عجب أن جعل الله الجنة دار أمن وسلام، فأهلها في الغرفات آمنون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، تتلقاهم الملائكة منذ دخولهم قائلة لهم: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46].
إن أهل الجاهلية البعيدين عن الدين يعيشون في خوف وقلق وهم لازم، إنهم يخافون من المستقبل خوفاً عظيماً، فلا ترى أحدهم مرتاحاً في عيشته ولا آمناً باله، ولا مطمئنة نفسه، كما يقول الواحد منهم معبراً عن نفسه: إنني أعيش في خوف دائم في رعب من الناس والأشياء ورعب من نفسي لا أغنت عني الثروة التي أملكها، ولا المركز الممتاز الذي أتبوءه، ولا السهرات الحمراء ولا غير ذلك من مباهج الدنيا الحلال والحرام؛ فإنني أرى الأشباح من حولي وأرى الخوف فاتحاً فاه ليلتهمني، إنني تائه في الحياة مع أنني بلغت قمتها، إنها صارت عدوي رغم كل ما أملكه فيها، إنني أخاف من الحياة ذاتها هكذا يعيش الواحد من البعيدين عن الدين في ضيق الصدر، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124].
فهذا الضنك في المعيشة والضيق في العيش يذيقه الله للبعيد عن دينه المعرض عن شرعه، رغم كثرة ماله وفسحة بيته إلا أن الفسحة الحقيقية في الصدر -أيها الإخوة- لا في البيوت ولا في السيارات الفارهة.
ولذلك يعيش المؤمن آمناً مطمئناً في سلام وسكينة وأمن نفسي رغم أن بيته ضيق، ورغم أن سيارته قديمة، ورغم أن ملابسه بالية؛ لأن السعادة الحقيقية ليست في المظاهر وإنما هي في الحقائق.
وهذا الأمن الذي يوفره الإيمان للإنسان، فقد ضرب لنا القرآن الكريم نموذجاً حياً لأم مؤمنة صار إيمانها مصدر أمنها رغم أنها في حال خوف وقلق، ولكنها لم تخف؛ لأن الله ثبتها: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7] إذا خافت؛ ألقته في اليم مع أن إلقاءه في اليم بحد ذاته مصدر خوف عظيم {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7] ألقيه في البحر امرأة تلقي ولدها في البحر! {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ} [القصص:7 - 8] هذا المؤمن النبي ليكون لهم في المستقبل {عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8] واستجابة الأم لصدق موعود الله الذي وعدها، والله لا يخلف الميعاد: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:13].
إن الناس -أيها الإخوة- يخافون من أشياء كثيرة وأمور شتى، ولكن المؤمن سدت أبواب الخوف عنده فلم يعد يخاف إلا الله وحده؛ يخافه أن يكون فرط في حقه، أو اعتدى على خلقه، أما الناس فإنه لا يخافهم؛ لأنهم لا يملكون له ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً، ولا حياة، ولا نشوراً {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175].
ولما دعا أبو الأنبياء إلى توحيد الله وقام بتحطيم الأصنام وخوفه قومه من آلهتهم قال لهم متعجباً: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81] وقرر الله الحقيقة بنفسه قائلاً {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] وفسر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم بالشرك، ففسره بقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
فيتبين لنا أن أساس الأمن، ومنبع الأمن هو التوحيد والإيمان الخالص لله تعالى، وأن الشرك هو مصدر الخوف ومصدر القلق ومصدر الهم بكل نوع من أنواعه، والكفر بالله تعالى هو القلق والهم والغم والصعاب النفسية، وهو أهم أسباب الخوف والاضطراب والرعب، ولذلك قال الله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} [آل عمران:151] أي: بسبب شركهم سنلقي في قلوبهم الرعب.(301/2)
الفرق بين المؤمن والكافر في مسألة الرزق
أيها المسلمون: إن الناس يتكلمون عن الرزق، وعن الرواتب، وعن الوظائف، وعن التجارات، وعن الأرباح، وعن الأسهم، وعن المشاريع، وعن الخاسر منها وغير الخاسر، إن الناس في قلق في القضية المادية في قضية الدخل الطرد من الوظيفة إيجاد وظيفة؛ ولكن المؤمن آمن حتى من جهة رزقه؛ فهو يعلم أن رزقه لن يفوت، وأن الأرزاق في ضمان الله الذي لا يخلف وعده، ولا يضيع عبده، وقد خلق الأرض مهاداً، وفراشاً وبساطاً، وبارك فيها، وقدر أقواتها وجعل فيها معايش، وتكفل بأرزاق العباد، وكرر وأقسم ووعد سبحانه وتعالى، {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم:6] قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] وقال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الذاريات:22 - 23] فهو يحلف بنفسه سبحانه: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23].
إن المؤمن يعلم أنه ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، وإن المؤمن يعلم أن الله يرزق كل أحد {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:60] وأنه مهما كان له رزق فسيأتيه ولا ينافي ذلك سعيه، فهو من الأسباب، والأسباب من التوحيد، ولكن مع الإيمان بالمسبب وخالقها، والاعتماد على خالق الأسباب، وأن الإنسان سيأتيه رزقه قل أو كثر؛ لكنه إذا قل لا يسخط من ربه، وإذا كثر لا يطغى على شريعة ربه.
إن المؤمن يعيش بالضمانات التي ذكرها الله تعالى في كتابه من أنه هو الرزاق والعالم اليوم يريدون في اتفاقياتهم ضمانات ويبحثون عن ضمانات وهم دائماً يطلبون الضمانات؛ لأنهم خائفون من نقض العهود والمواثيق والمستقبل.
فإذا كان المؤمن عنده الضمانات في هذه الآيات من ربه؛ فمم يخاف؟ وعلى أي شيء في رزقه يخشى وهو يعلم أن الله رزق الطير في أوكارها، والسباع في فلواتها، والأسماك في البحار، والديدان في الصخور؟ ولذلك كان المؤمن يذهب إلى ساحات الجهاد حاملاً رأسه على كفه متمنياً الموت في سبيل عقيدته، من خلفه ذرية ضعافاً يخشى عليهم
.
وأفراخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ومع ذلك هو يوقن أنه تركهم في رعاية رب كريم حقاً.
أيها الإخوة! إنه لموقف صعب أن يطلب من أحدنا أن يذهب إلى ساحات الجهاد وعنده أطفال صغار!! فمن الذي يفعل ذلك ويضحي ويقدم؟! إنه الإنسان الذي يوقن بأن هناك رباً رحيماً أمره بالجهاد فهو يطيع، وتكفل له برعاية أولاده ورزقهم فهو لأجل ذلك يغادرهم، وإلا ما غادر مؤمن أولاده إلى ساحات الجهاد قط، وتقول الزوجة عن زوجها وهو ذاهب في سبيل الله: إني عرفته أكالاً وما عرفته رزاقاً، ولئن ذهب الأكال لقد بقي الرزاق.(301/3)