أذكار السفر والنكاح والطعام
عند السفر أنتم تعلمون الأذكار التكبير ثلاث مرات {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13] (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى) الخ، (اللهم أنت الصاحب في السفر)، والاستعاذة من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب، وعند الصعود يكبر، وعند النزول يسبح، سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذاً بالله من النار في بداية النكاح خطبة الحاجة المعروفة، وإذا دخل بزوجته: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه)، ماذا نهنئه؟ (بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير)، ماذا نقول له أيضاً؟ (على الخير والبركة وعلى خير طائر) كما قالت نساء الأنصار.
عند الجماع قدمنا الذكر فيه، وإذا رزقنا بمولود فتأسى ببنت عمران: وأعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم، كان حسناً.
وعند الطعام: بسم الله، وإذا نسي: أضاف: أوله وآخره، وبعده: الحمد لله، وأيضاً: (اللهم إنك أطعمت وسقيت، وأغنيت وأقنيت، وهديت واجتبيت، اللهم فلك الحمد على ما أعطيت، الحمد لله الذي كفانا وأروانا -وفي رواية: وآوانا- غير مكفي ولا مكفور)، (الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع -يعني متروك- ولا مستغنىً عنه ربنا، الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه، الحمد لله الذي كفانا وآوانا).
(إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل: اللهم بارك لنا فيه وأبدلنا خيراً منه، وإذا شرب لبناً فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيءٌ يجزي من الطعام والشراب إلا اللبن).(209/16)
أذكار المطر والريح والفزع
عند المطر: (مطرنا بفضل الله ورحمته)، وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى المطر يقول: (رحمة رحمة) ويقول: (اللهم صيباً نافعاً) وإذا رئي القمر قال لـ عائشة: (استعيذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب).
وإذا جاء لمريض: (طهور، لا بأس إن شاء الله) بالإضافة للأدعية الأخرى.
وإذا بدأ صلاح الثمرة -الثمر بدأ الآن ينضج ويستوي- (اللهم بارك لنا في مدينتنا وفي ثمارنا، وفي مدنا وفي صاعنا، بركة مع بركة)، وإذا جيء به إلى شخص يعطيه إلى أصغر الصبيان عنده ليأكله كما هي السنة.
وإذا عصفت الريح: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به)، وإذا اشتدت قال: (اللهم لقحاً لا عقيماً) يعني: مفيدة لا ضارة.
وإذا فزع من النوم: (أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فلو قالها: لا يضره شيء)، وكان إذا تضور من الليل قال: (لا إله إلا الله الواحد القهار، رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار).(209/17)
أذكار الغضب والمصائب
وعند الغضب ماذا يقول؟ (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وإذا جاءه الشيطان في الصلاة: (يستعيذ ويتفل عن يساره ثلاثاً)، وإذا نزل منزلاً في رحلة في بر في سفر: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، وإذا ذكر رسول الله ماذا يقول؟ صلى الله عليه وسلم، وفي كل مجلس يقول: صلى الله عليه وسلم، وقبل الدعاء يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم، يوم الجمعة في التشهد الأول أحياناً ثبت أنه يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الأخير وجوباً يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعند المصيبة: (اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إنا لله وإنا إليه راجعون)، في التعزية: (إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب).(209/18)
أذكار أخرى متفرقة
وعند وضع الميت في القبر: (بسم الله وعلى ملة رسول الله)، وعند التعجب من أمر: سبحان الله، وعند السرور من أمر: الله أكبر، لما أخبرهم قال: (أنتم ربع أهل الجنة فكبروا، أنتم نصف أهل الجنة فكبرنا)، عند السرور بشيء، وعند البشارة بشيء: الله أكبر، عند اللقاء: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وردها، وأيضاً: مرحباً، كان يقولها صلى الله عليه وسلم، وإذا تعثرت الدابة يقول: بسم الله، والمسافر يقول: (استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)، ماذا يرد؟ (أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه) فإن قال المودع: (أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه) ورد في السنة أيضاً.
وعند لبس الثوب الجديد: (البس جديداً وعش حميداً ومت شهيداً)، ويقال: ابلي واخلقي، وماذا يقول اللابس؟ (اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له)، وإذا رأى رؤيا طيبة يحمد الله، وإذا رأى حلماً سيئاً يستعيذ بالله من الشيطان ومن شر ما رأى ثلاث مرات، ويتفل عن يساره ثلاثاً.
وإذا سبك أحد عند الصيام تقول: (إني صائم إني صائم).
أذكار الحج في طوافه وسعيه وتلبيته ورميه ووقوفه كثيرة جداً، وإذا خاف قوماً: (حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم إني أجعلك في نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم)، وإذا قدم إنسان بصدقة ماذا نقول له؟ (اللهم صل على آل أبي فلان) لو كان اسمه عبد الرحمن نقول: اللهم صل على آل عبد الرحمن كما ورد في السنة.
إذا خاف إنسان أن يصيب نفسه بالعين أو أولاده أو صديقه أو مالاً من الأموال ماذا يقول؟ (إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة فإن العين حق)، (استعيذوا بالله من العين فإن العين حق) حديثان صحيحان.
إذا عطس يقول: الحمد لله رب العالمين، فيقول له صاحبه: يرحمك الله، فيقول هو: يغفر الله لنا ولكم، هذه إحدى الصيغ.
الصيغة الأخرى: الحمد لله على كل حال، يقول له من حوله: يرحمك الله، يقول هو: يهديكم الله ويصلح بالكم.
صيغة ثالثة: يقول: الحمد لله، يقول له صاحبه: يرحمك الله، يقول هو: يهديكم الله ويصلح بالكم، وهي المشهورة، وكل الثلاثة صحيحة ومن ينكر على من يفعل واحدة منها فإنه جاهل.
إذا عطس الكافر وقال: الحمد لله، ماذا نقول له؟ نقول: يهديكم الله ويصلح بالكم.
كما رد عليه الصلاة والسلام على اليهود الذين كانوا يتعاطسون عنده.
في كفارة المجلس: (سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك)، إذا رأيت شيئاً ساراً ماذا تقول؟ إذا جاءك خبر طيب، إذا جاءك الخبر كما تريد: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
إذا رأيت شيئاً مكروهاً وحصل لك ما ليس مرغوباً تقول: الحمد لله على كل حال.
إذا نزل بك كرب أو هم أو غم أو بلاء (ألا أخبركم بشيء إذا نزل بأحد منكم كرب أو بلاء من أمر الدنيا دعا به ففرج عنه دعاء ذي النون: ((لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) [الأنبياء:87])، (دعوة ذي النون إذ دعا بها وهو في بطن الحوت ((لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) [الأنبياء:87] لم يدعُ بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب له).
(ألا أعلمك كلمات تقولهن عند الكرب: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً)، (كان إذا راعه شيءٌ قال: الله الله ربي لا أشرك به شيئا).
(كان إذا كربه أمر قال: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث).
دعوات المكروب: (اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت).
(من أصابه هم أو غم أو سقم أو شدة فقال: الله ربي لا شريك له، كشف عنه).
كلها أحاديث صحيحة.
إذا صابك دين هم من الدين وأصبح الدائنون يطاردونك ويقضون مضجعك ويقلقون راحتك: (ألا أعلمك كلمات لو كان عليك مثل جبل صبير ديناً أداه الله عنك قل: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك) حديث صحيح.
هذه -أيها الإخوة- طائفة من الأذكار التي تقال عند الأحوال المختلفة، فلماذا يقصر الناس في الأذكار؟ لأنهم لا يعلمون ماذا يقولون، ما هو الواجب؟ قراءتها وحفظها، واستعمالها دائماً لترسخ في الذهن.(209/19)
من أسباب إهمال الأذكار(209/20)
الجهل بأجر الأذكار
ومن الأسباب التي نعالج بها قضية الإهمال في الأذكار: معرفة الأجر؛ لأنك إذا عرفت الأجر يحصل حماس للعمل.
فمثلاً: إذا قلت بعد الوضوء الذكر الذي ذكرناه تفتح أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل، وإذا خرجت من المنزل وقلت الدعاء المعروف في خروجك من المنزل حفظت من الشيطان، وإذا قلت: آمين، في الصلاة (من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)، (من وافق قوله: اللهم ربنا لك الحمد، قول الملائكة بعد الرفع من الركوع غفر له ما تقدم من ذنبه)، من قال: (ربنا ولك الحمد حمداً كثيرً طيباً مباركاً فيه، قال صلى الله عليه وسلم: رأيت بضعاً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أولاً)، (وإذا سبح ثلاثاً وثلاثين بعد الصلاة وحمد وكبر وأكمل المائة لا إله إلا الله، غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)، (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت)، (من صلى صلاة الصبح في مسجدي جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين تسبيحة الضحى كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة) حديث صحيح من روايات مجتمعة.
والمرأة إذا صلت في بيتها لأن السنة لها أن تصلي في البيت، وقعدت في مصلاها تذكر الله إلى طلوع الشمس يرجى لها نفس الأجر.
سيد الاستغفار إذا قيل في الصباح ومات الإنسان وقد قاله موقناً به أو في المساء دخل الجنة.
(من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي).
بل ورد في الحديث الصحيح: (أن الله يبعث له مسلحة تحرسه في النهار -يعني: ملائكة- ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل عملاً أكثر من ذلك).
(من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) قال عليه الصلاة والسلام: (أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يسبح الله مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة ويحط عنه ألف خطيئة).(209/21)
الجهل بمعاني الأذكار
من الأسباب أيضاً أيها الإخوة التي تؤدي إلى إهمال الأذكار: عدم معرفة معانيها.
فمثلاً أسألكم: سيد الاستغفار ما نصه؟ (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي) ما معنى أبوء؟ يعني: أعترف بنعمتك علي وأقر بذنبي، وأبوء بذنبي الذي لا يعرف معنى: أبوء سيصبح هذا لغزاً بالنسبة له، فلن تتشوق نفسه وتنجذب إلى قوله، ولذلك ينبغي فهم معاني الأذكار وهناك كتاب اسمه تحفة الذاكرين للشوكاني جيد في معرفة معاني الأذكار وفيه في أحاديث صحيحة وضعيفة لكن خذ شرح الأحاديث الصحيحة من هذا الكتاب.(209/22)
البيئة الفاسدة من أسباب إهمال الأذكار
لقيت شخصاً مرة من المبتعثين إلى الخارج فقلت له: برأيك ما السبب في إهمال الناس للأذكار؟ فقال: أنت يا أخي إذا سافرت إلى ذلك المكان، كل الذين حولك لا يذكرون الله أبداً، فكيف سيخطر ببالك ذكر الله؟ قال: نحن في أمريكا نعيش مع ناس كفار من جميع الجوانب معك دائماً في كل مكان لا يمكن أن نتذكر ذكر الله، كل أحاديثهم عن الدنيا.
إذاً: من الأسباب أن بعض الناس يعيشون في بيئات لا تذكر بالله أصلاً أصحاب معاصٍ وفجور وفسق وكفر واستهزاء بالدين، أو على أقل أحوالهم اقتصار الكلام في الدنيا والدنيا: الأسعار والأسواق والسلع والوظائف والترقيات! فكيف سيتذكرون أصلاً ذكر الله؟! ولذلك لا بد للإنسان أن يعيش في جو يذكره بالله.
هذا من العلاجات المهمة.(209/23)
التلفظ بالأذكار وإسرارها
بعض الناس يعتقدون أن التلفظ بالأذكار بدعة، فقال لي واحد: أنا كنت أظن منذ أن تعلمت أن النية محلها القلب والتلفظ بها بدعة، أقول: معنى ذلك ينبغي أن ننوي الأذكار نية بالقلب، فلا نتلفظ بشيء، لأن التلفظ بدعة، فهذا أتي من باب عدم التفريق بين النية وبين الأذكار، النية شيء و (سبحان ربي الأعلى) شيء ثان، النية شيء و (الله أكبر) في تكبيرة الإحرام شيء آخر، فإذاً من أسباب الإهمال: اعتقادات خاطئة مغلوطة مثل هذا الاعتقاد.
أحياناً بعض الناس يظن أن الجهر بالأذكار والتلفظ بها يخالف الحضارة والرقي، وأن المدير والطبيب والمهندس لا يليق يعني في صالة الاجتماعات في المستشفى وفي القاعات وهذه الأمكنة الراقية كما يقولون مطعم راق، فندق راق، يعني هذا ليس محلاً يقال فيه: سبحان الله، يعني لا يتلاءم، بهو المستشفى، وفخامة القاعات والناس الذين يأتون للتجارة والأعمال والوظائف، كيف أقول فيها: بسم الله ولا إله إلا الله، فلذلك تجد بعض الكبار في السن يدخل في أكبر قاعة فتجد لسانه من عادته تحصله يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بعض الناس ينظرون إليه ويقولون: انظروا إلى هذا المتخلف القادم من العصور الحجرية، قادم من آخر الدنيا لكي يقول: لا إله إلا الله، انظر إلى أي درجة تصل الأمور الآن فعلاً أضرب لك مثالاً: ذهب أحدهم ليحضر مؤتمراً دولياً مثلاً يمثل البلد في مؤتمر دولي، وحضر الكفار وأجهزة الإعلام والتصوير والمصورون من كل جانب والقاعات والأنوار والكراسي الفخمة هل تراه سيقول في ذلك الموضع: لا إله إلا الله وحده لا شريك له؟ أحياناً الواحد يحضر مثلاً بحثاً في جامعة، يقدم بحثاً في جامعة ويحضره الدكاترة، وهذا البرفسور فلان والبرفسور فلان، شيء أبهة، فالآن يرى أن (سبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم)، ليست مناسبة ولا تتلاءم مع هذا الديكور الموجود.
وإذا دخل واحد مجمعاً تجارياً ضخماً وسوقاً وطوابق وسلالم كهربائية تطلع وتنزل ونوافير! كيف يقول دعاء دخول السوق: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير)!! يرى أن المسألة لا تتناسب، نعم صحيح هذا موجود، هذه الهزيمة النفسية التي أصبنا بها.
وإذا دخل غرفة مسئول كبير قد لا يجرؤ على أن يتلفظ بأي ذكر من الأذكار، يقول لك: هذا مكان عمل، مكان عمل ماذا يعني مكان عمل؟! يعني لا نذكر الله في مكان العمل؟! أيها الإخوة! من أسباب التفريط في الأذكار: النوم بعد الفجر مباشرة، ثم الذهاب إلى العمل بسرعة، فهذا كيف يقول أذكار الصباح؟! بعد الفجر مباشرة نام ووضع الساعة وقام من النوم فزعاً إلى العمل والشغل! يلبس بسرعة، ويقود السيارة بسرعة، ويدخل بسرعة، ويوقع بسرعة!! من أين له بوقت لأذكار الصباح والمساء؟! هذه مشكلة أخرى.(209/24)
مشكلة التسويف في وقت الأذكار
ومن المشاكل أيضاً: التسويف في الأذكار في الوقت المعين، فمثلاً: قد يخطر لشخص بعد الصلاة أن يخرج من المسجد بسرعة ويقول: سأذكرها في الطريق، فينسى في الطريق ولا يقول شيئاً! وإذا خرج من المسجد بسرعة ليلحق شخصاً فإنه يقول: سأذكرها بعد مقابلته، فينساها ولا يذكرها.
بعض الناس مثلاً قبل النوم يريد أن يقرأ كتاباً يقول: بعد القراءة أذكار النوم، فلا يلبث أن ينام ويسقط الكتاب بجانبه، لا هو قرأ ولا ذكر أذكار النوم.
فإذاً، إذا ما ذكرتها في لحظتها قد تفوت عليك إذا فاتت عليك حاول أن تتداركها بسرعة.(209/25)
إهمال الأذكار بسبب الأعباء والأشغال
من الأسباب أيضاً: كثرة الأعباء والأشغال، فالمسلم أيها الإخوة ينبغي أن يكون له خلوة بربه، وقت يخلو فيه بالله، فعصرنا هذا عصر المادة الذي طغت فيه المادة على كل شيء حتى ذكر الله، ولم يعد الفرد يجد وقتاً يذكر الله فيه، يقوم مسرعاً ويلبس مسرعاً ويخرج مسرعاً ويشتري الأغراض ويذهب للوظيفة، ثم يرجع وينام ويأكل، ثم يقوم وعنده موعد وعنده أشغال، وشغل مع فلان، وموعد مع فلان، صار اليوم مملوءاً بالأشغال لدرجة أن الإنسان ما عنده وقت يذكر الله، وهذه لا بد من التخفيف منها، ليس معقولاً أن نصل إلى مرحلة أننا نطارد وراء الأشغال والوظائف والتجارات والأعمال والدراسات ولا يكون عندنا وقت نذكر الله فيه، فهذا خطأ واقع ينبغي تصحيحه.
ولذلك تجد بعض الناس المنشغلين إذا أذن المؤذن لا يحس أنه أذن أصلاً حتى يردد معه! مع الاشتغال والانهماك في العمل لا يسمع، لا ينتبه أنه أذن أصلاً، وكذلك في اللحظات الخطيرة والطارئة الناس عادة يصيبهم الصدمة تشغلهم عن ذكر الله، مع أن المفروض أنهم في الصدمة يذكرون الله.(209/26)
إهمال الأذكار بسبب الذنوب
ومن أسباب التقصير في الأذكار الشرعية: كثرة الذنوب، وعدم تذكر الموت، والتوسع في المباحات فالمعاصي أيها الإخوة إذا لم يتحرز منها الإنسان ولو كانت صغائر وتراكمت الصغائر عليه فإنها توقعه في مصائب {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] كيف يعفو عن كثير؟ {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] لو أن الله عز وجل يريد أن يحاسب الناس فعلاً على ما يعملون ما ترك على ظهرها من دابة لكنه يعفو عز وجل.
يقول أحد السلف وهو الضحاك رحمه الله: ما نعلم أحداً حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب، ثم تلا: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] ثم يقول الضحاك رحمه الله: وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن.
ودخل بعضهم على كرز بن وبرة وهو يبكي، فقال له: أتاك نعي بعض أهلك؟ قال: أشد، قال: وجعٌ يؤلمك؟ قال: أشد، قال: وما ذاك؟ قال: بابي مغلق ولم أذكر حزبي البارحة.
ما الذي حز في نفسه وأبكاه؟ فات عليه الحزب، فاتت عليه الأذكار ونام عنها فهو يبكي، ثم قال: لم أقرأ حزبي البارحة وما ذاك إلا بذنب أحدثته.
الله عز وجل لم يفوت عليه هذه الأذكار إلا بذنب كم من ذنب منع من صلاة جماعة؟! وكم من أكلة منعت من قيام ليلة؟! وكم من نظرة منعت من قراءة سورة؟! وكما أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فالفحشاء تنهى عن الصلاة والخيرات.
وقال ابن القيم رحمه الله: من آثار المعصية حرمان الطاعات.
فالعبد إذا أذنب ذنباً حرم بسبب هذا الذنب طاعة وثانية وثالثة ورابعة حتى يصبح بعيداً عن الطاعات وعمله في المعاصي، وهذا كرجل أكل أكلة أوجبت له مرضة طويلة منعته من أكلات، مع أن المرضة التي تمنع من أكلات دنيوية بسيطة فإن الشخص يشفى ويأكل فهذه ليست مشكلة، لكن المشكلة عندما يحرم من الطاعات بسبب مرض القلب أو بسبب الذنوب.(209/27)
إهمال الأذكار بسبب الأسوة
ومن أسباب التفريط في الأذكار أيضاً: مشاهدة بعض ذوي الأسوة والقدوة على شيء من التفريط.
فلو أن واحداً يقتدي بفلان معين، ففلان هذا بشر، صحيح أنه قد يكون أحسن منه، لكن الشخص هذا عندما يعتقد أن هذا القدوة نمط فريد من الناس فإذا رأى منه تفريطاً في شيء يقول: هذا الشيء الذي فرط فيه ليس مهماً، لو كان مهماً لما فرط فيه هذا القدوة، فيحاكيه في التفريط، وتنقص هذه الطاعة في نفسه لأنه يرى القدوة لم يفعلها، ونحن أيها الإخوة نعتقد أن البشر كلهم خطاءون، ونحن لا نقلد بشراً في تقصير أو معصية، فلو شاهدت أكبر شيخ انشغل عن الأذان وما ردد مع المؤذن تعتقد أن الترديد مع المؤذن ليس شيئاً مهماً؟! فلو أنك رأيت أكبر شيخ أذن المؤذن أمامه وانشغل عن الترديد أو نسي، هل تعتقد وتظن بأن الترديد شيء غير مهم؟ لا طبعاً.
ومن الأمور المهمة: أن نربي أطفالنا على هذه الأذكار، فنحفظهم إياها ونعلمهم إياها منذ نعومة أظفارهم، وما أحسن الأب وهو يهتم بولده فيعلمه أذكار الصباح والمساء وعند النوم والأكل والشرب والعطاس والسلام ودخول الخلاء والخروج منه أذكار بسيطة تناسب الولد الصغير حتى ينشأ ويدرج على هذه الأذكار، هذه ترى مسألة مهمة، فتصبح الأذكار سهلة عليه في المستقبل، بدلاً من أن يأتي وهو بالأربعين سنة يريد أن يحفظ الآن الأذكار، فيجد في ذلك صعوبة.(209/28)
فوائد مراجعة الأذكار
وكذلك من المسائل المهمة: مراجعة الأذكار بين فترة وأخرى، فلو أنك حفظت أذكاراً فبعد شهر أو شهرين أو ستة أشهر راجع الأذكار، فإن في مراجعتها فوائد: منها: تذكر ما نسيته، أحياناً تكون نسيت ذكراً كاملاً فتقول: قد غاب هذا الذكر، ولم أذكره منذ فترة، أو أنك نسيت شيئاً من الذكر كلمة أو كلمات فتستعيدها.
وكذلك: قد تصحح كلمة خاطئة بالمراجعة، أحياناً يكون الواحد يلفظ الذكر بطريقة خطأ، فعندما يراجع يقول: أنا دائماً أقولها كذا والصحيح خلاف هذا، فتصحح الأخطاء التي عندك.(209/29)
تنويع صيغ الأذكار
ومن الأمور التي تمنع انقلاب الأذكار وهي عبادة إلى عادات وتصبح أموراً روتينية كما يقولون، من هذه الأسباب التي تمنع هذا: الإتيان بالصيغ المختلفة للأذكار والتنويع فيها، ولذلك للصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير صيغ مختلفة، أدعية الاستفتاح فيها صيغ مختلفة، أدعية الفراغ من الطعام فيها صيغ مختلفة، فإذا أتيت بهذا مرة وبذاك أخرى، تقضي على الرتابة؛ وتحدث تغييراً، إلا إذا كانت الأذكار من السنة أن تجمعها كلها في موضع معين فتجمعها، وإلا فإنك تذكر هذا مرة وهذا مرة وهذا مرة.
ومرافقة الصالحين والمعيشة معهم من أهم الأشياء والأسباب التي تؤدي إلى استرجاع الأذكار والمداومة عليها والانتباه لها، ماذا قال موسى في دعائه؟ {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} [طه:29 - 34] فقد طلب العون من الله بأخ صالح يشرك معه في النبوة لماذا؟ ليستعين به على ذكر الله.(209/30)
بعض الآداب والأحكام المتعلقة بالأذكار
وختاماً: فإننا نذكر هنا -أيها الإخوة- طائفة من الآداب والأحكام المتعلقة بالأذكار على وجه من السرعة إذا عرفت ذكراً معيناً اعمل به ولو مرة واحدة، وواظب عليه ما استطعت.
كذلك: اعلم بأنه كما يستحب الذكر فإنه يستحب مجالسة أهل الذكر.
كذلك: اعلم أن الذكر يكون بالقلب ويكون باللسان، وهو مراتب أعلى مرتبة إذا وافق القلب اللسان.
(رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) ماذا يحتمل؟ أنه رجل في خلوة ذكر عظمة الله في قلبه وما قال شيئاً، ذكر عظمة الله في قلبه ففاضت عيناه، ويحتمل أنه ذكره بلسانه، فذكر الله يحتمل الأمرين: ذكر في القلب مثل: تذكر عظمة الله، عذاب الله، الخوف من الله، صفات الله، معاني أسماء الله.
وذكر باللسان، لكن من الخطأ أن يذكر باللسان دون القلب، مثلما نفعل نحن في الصلوات، نقول الأذكار في الصلوات وقلوبنا في وادٍ واللسان في وادٍ آخر.
كذلك من الأشياء المهمة: أن نعلم أن الذكر ليس منحصراً في التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، بل كل واحد يعمل بطاعة يعتبر ذاكراً لله عز وجل، فليحضر حلقة علم ويسمع، فماذا يعتبر؟ ذاكر لله، جلس في مجلس يذكر الله، وعندما يصلي أيضاً، والدليل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين الله كثيراً والذاكرات)، ولذلك قال بعض أهل العلم: إذا واظب على الأذكار المأثورة صباحاً ومساءً في الأوقات والأحوال المختلفة ليلاً ونهاراً كان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
وهنا مسألة: نحن نعرف أن أفضل الذكر هي تلاوة الذكر فهل الذكر هو سماع الصوت؟ فبعض الناس عندما تراه في الصلاة يكبر ويطبق شفتيه من أول تكبيرة في الإحرام إلى الركوع، مطبقاً شفتيه، فهل يعتبر هذا قرأ الفاتحة بدون حركة لسان وشفتين؟ هل يعتبر قرأ الفاتحة؟ لا، هل يعتبر قرأ أذكار الركوع والسجود؟ لا، لذلك انتبهوا فهذا خطأ شائع جداً، وهو قضية أن بعض الناس يذكرون ويقرءون الفاتحة بدون حركة لسان ولا حركة الشفتين، ولذلك بعض العلماء قال: لا يعتبر الذكر ذكراً ولا ينال أجره إلا إذا أسمع نفسه، فقد قال النووي بهذا القول، وبعض العلماء قالوا: لا، المهم أنه يحرك لسانه وشفتيه، وإلا (إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي) لكن نقول: على الأقل لا يعتبر ذكراً ولا تؤجر عليه إلا إذا حركت لسانك وشفتيك، وجرى الهواء به، سمعته أو ما سمعته فلا بد أن تحرك.
كذلك: يجوز الذكر بالقلب وباللسان للمحدث والجنب والحائض والنفساء، ولو كان جنباً يذكر الله، (كان يذكر الله على كل أحيانه) ولو كان جنباً لكن لا يقرأ القرآن، الجنب لا يقرأ القرآن، لو أن واحداً أجنب وصارت له مصيبة هل يقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] أم لا؟ لو أن واحداً نام وهو جنب، هل يقول: الحمد لله والحمد لله موجودة في القرآن؟
الجواب
نعم، يقولها لا بنية تلاوة القرآن ولكن بنية الإتيان بهذا الذكر الذي علمناه في هذا الموضع.
ولو أن جنباً ركب سيارته هل يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13]؟ نعم، ليس على أنه من القرآن لكن لأنه ذكر يقال في هذا الموضع.
وكذلك يستحب أن يكون الذاكر مستقبل القبلة متذللاً متخشعاً بسكينة ووقار، وإن ذكر الله على كل أحيانه، فحسن {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] وأن يكون المكان الذي يذكر الله فيه نظيفاً خالياً ما أمكن.
وأن يكون متسوكاً نظيف الفم، وأن يتدبر ما يقول، ولو أن واحداً لا يعرف معنى ذكر معين حفظه لكن دون أن يعرف المعنى هل يقوله؟ هل يؤجر عليه؟ نعم.
لكن ليس مثل أجر الذي يعرف المعنى ويتدبر المعنى.
وكذلك: ينبغي إذا فات على الإنسان ذكر معين أن يتداركه، فلو فاته: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين والحمد لله ثلاثاً وثلاثين بعد الصلاة، وخرج من المسجد ووصل إلى البيت فهل يقوله؟ نعم، يتدارك ما فات من الذكر.
ولا بأس أن يقطع الذاكر الذكر لحاجة شرعية مثل: أن يسلم عليه إنسان وهو يسبح بعد الصلاة، فيرد السلام؟ وإذا عطس عاطس عنده يشمته، وإذا أذن المؤذن، يترك الذكر ويؤذن مع المؤذن بطبيعة الحال، أو رأى منكراً وهو يذكر الله فليغيره ويقول: يا فلان لا تفعل.
ولو سأله أحد عن مكان معين فيرشده إليه وهكذا.
وإذا غلبه النعاس يقطع الذكر وينام حتى لا يسب نفسه كما أخبر عليه الصلاة والسلام.(209/31)
إسرار الذكر من علامات الإخلاص
والإسرار بالذكر أيها الإخوة من علامات الإخلاص: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205] إلا ما دل الدليل على الجهر به ورفع الصوت، فالأفضل أنك تسره، فلا تسمع الناس إلا في حالات مثل: التلبية، وتعليم الناس، والأذان، والإقامة، يجهر طبعاً، والتكبير في العيدين في الشوارع وهم ذاهبون إلى المسجد يكبرون، وبعد الصلوات يجهر بالذكر، وإن كان في المسألة خلاف بين أهل العلم، لكن دلت الأدلة كما في صحيح البخاري: عن ابن عباس: (كنت أعرف قراءة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالتكبير، وكان رفع صوتي بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم) لكن انتبهوا لا يحدث ذكراً جماعياً؛ لأنه في بعض البلاد إذا التفت الإمام بعد الصلاة يبدأ الجميع بالأذكار بصوت واحد فهذا بدعة من البدع.
وأيضاً الأذكار التي تقال للناس الآخرين مثل: تهنئة بالزواج، فهذه يجهر فيها، وغير ما ورد فيه الجهر والإسماع للآخرين فإن الإنسان يسر به أفضل (ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي).
واعلموا أيها الإخوة أن الثواب في الأذكار ليس دائماً فيها على قدر المشقة، فهناك أذكار قصيرة لو قورنت بغيرها أطول منها كانت أكبر، والدليل: عن جويرية: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله عدد خلقه، ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته) إذاً ليس الثواب دائماً على قدر المشقة، فبعض الأذكار أكثر أجراً من أذكار أخرى مكانها ولو كانت أطول منها.(209/32)
تحذير من الأذكار المبتدعة
وختاماً: احذروا -أيها الإخوة- من الأذكار المبتدعة سواء في النص، فبعض الأذكار وردت في أحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو مثلاً درج عليها الناس، إذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قالوا: "استعنا بالله" قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة "أقامها الله وأدامها" بعد الصلاة: "حرماً" وذاك يقول: "جمعاً" وبعد الوضوء: "زمزم" وذاك يقول: "الله يزمزمك" فهذه أشياء لم ترد في السنة، فهذه أذكار مبتدعة فلا يصح أن نأتي بها ولا أن نواظب عليها، لا نخترعها بالنص ولا بالهيئة والكيفية، واحفظوا هذه القاعدة المهمة جداً جداً: كل ذكر مقيد بزمان أو مكان أو كيفية أو عدد لم يرد به الشرع فهو بدعة.
فإذا جاء شخص وقال: (سبحان الله) هذه من الدين أم لا؟ قلنا: من الدين، قال: سأقولها ثلاثاً وسبعين مرة الساعة اثنين ونصف بعد الظهر واضعاً إحدى رجلي على الأخرى، نقول: بدعة، لماذا بدعة؟ كل ذكر قيد بعدد، أو زمن أو كيفية أو هيئة لم ترد في الكتاب والسنة فهو بدعة.
هذا ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لذكره، واللهج به، سبحانه عز وجل.
وصلى الله على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(209/33)
تأملات في الزلزال الأليم [2]
الزلازل والمحن والابتلاءات إنما تحدث بقضاء الله وقدره، ولا يحق لنا أن نعترض على قضاء الله وقدره، بل يجب علينا التسليم لله في كل ما يفعل وما يريد دون اعتراض، كما يجب الثبات على الدين مهما أصابت المسلم مصائب في الدنيا، وإن مما يخفف أثر المصائب على المسلم اللجوء إلى الله، وذكره، وكذلك مواساة المسلمين له.(210/1)
لا يجوز الاعتراض على مقادير الله
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: إخواني: إن الله سبحانه وتعالى يرسل علينا الآيات لنتعظ ونتدبر، ويُحدث لنا من الأحداث ما يجب علينا به أن نتعقل ونتفكر، ونحن أمة لا يصح لها أن تنسى تاريخها، ولا الأحداث التي ألمت بها، وإن كثيراً من الناس عن لقاء ربهم لغافلون، وأكثرهم عن الاعتبار بما يحدث من حولهم لاهون معرضون، وقد تكلمنا في الخطبة الماضية عما ألم ببعض المسلمين من الكوارث التي أنزلها الله لحكمة.
ونتكلم أيضاً لكي لا نكون غافلين عن بعض ما يتعلق بهذا الأمر من العبر والعظات؛ لأنه لا يصح لنا أن ننسى ما حدث في الأمس القريب، ولابد أن نظل على اعتبارٍ واتصالٍ بما يشاء الله سبحانه وتعالى أن يكون في ملكه؛ لكي تبقى القلوب حية والأفئدة بذكر الله عامرة والنفوس بالعبر قائمة، قد يقول بعض المسلمين: لماذا يُنزل الله كارثة بالمسلمين؟ لماذا تحل بهم الحروب وتنزل بهم المصائب وتُرسل عليهم الزلازل وهم مسلمون؟
الجواب
أيها الإخوة! إن هذا الكون ملكٌ لله سبحانه وتعالى يتصرف فيه كيف يشاء، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] إذا شاء الله أمراً كان، وما لم يشأ لم يكن، وكثيرٌ من الناس عن قضية مشيئة الله غافلون، ما يشاء الله لابد أن يحدث، وكل أمرٍ يحدث لحكمٍ يعلمها سبحانه وتعالى، وأمر المشيئة أمرٌ عظيم، والمشيئة واردةٌ في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ في نصوص كثيرة تدل على مشيئته النافذة سبحانه وتعالى.
يختص برحمته من يشاء، ويغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، ويجتبي من رسله من يشاء، يخلق ما يشاء، ينفق كيف يشاء، ويتوب الله على من يشاء، ويُسمع من يشاء، ويُدخل في رحمته من يشاء، ويهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ} [الأعراف:128] يمحو الله ما يشاء ويثبت، وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، وربك يخلق ما يشاء ويختار، كذلك الله يفعل ما يشاء: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} [الرعد:13] كما قال الله عز وجل.
هذه النصوص تدل على مشيئة الله النافذة وأنه يفعل ما يشاء، هذا ملكه، وهؤلاء عبيده، مهما فعل بهم فإنه لا يسأل عن ذلك سبحانه، ولا يعترض على قضائه، ولا يقال: يا رب! لم أنزلت كذا؟ ولماذا فعلت بنا كذا؟ وماذا فعلنا لأجل أن تفعل بنا كذا؟ ما جاءنا وما حل بنا فبما كسبت أيدينا وبمشيئته سبحانه، لا اعتراض على فعله، مهما كان ومهما حصل، ومهما حدث، فإن هؤلاء الناس والعبيد ملك لله، ومهما نزل من الحروب، ومهما حل فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي قدره، وهو الذي شاءه، قال الله عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] بعض الناس يقولون: إن بعض الحروب التي حلت قد أخرت المسلمين إلى الوراء كثيراً، وتسببت في تسلط الكفار بمزيد، فنقول: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253].(210/2)
التسليم لأوامر الله والثبات على دينه أمام المحن
لابد أن يسلم المسلم تسليماً تاماً لمشيئة ربه، ولا يعترض على ما حل من المصائب مطلقاً، هذه مشيئته سبحانه.
وثانياً: إذا قال بعض الناس: نحن مسلمون، فلماذا تنزل بنا الكوارث؟ هل يظنون أن الإسلام ينبغي أن يمنع عنهم كل كارثة وكل مصيبة؟ إذاً اسمع معي -أيها المسلم- هذا الجواب، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] قال ابن عباس رضي الله عنه كما جاء في البخاري وغيره: [كان الرجل يقدم المدينة -كان الأعراب يأتون من النواحي يسلمون في المدينة - فإن ولدت امرأته غلاماً وأنتجت خيله قال: هذا دينٌ صالح، وإن لم تلد امرأته غلاماً أو ولدت جارية -وكانوا يكرهون البنات- ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء] وفي رواية أخرى بسندٍ صحيح عن ابن عباس قال: [كان ناسٌ من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون، فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيثٍ وعام خصبٍ وعام ولادٍ حسن قالوا: إن ديننا هذا صالح، فتمسكوا به، وإن وجدوا عام جدبٍ وعام ولاد سوء، وعام قحطٍ قالوا: ما في ديننا هذا من خير] فأنزل الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} [الحج:11] الآية.
أي: كارثة أو حلت به مصيبة أو مرض، أو جدب انقلب على وجهه وارتد: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
ونحن المسلمون نبقى مسلمين سواءً حلت بنا النعم أو النقم، سواءً جاءنا الرخاء أو القحط، وسواءً حل بنا الأمن أو الحرب والفزع، فإن إسلامنا يبقى على حاله، لا نرتد ولا نغير، هذا ما ينبغي أن نكون عليه، فإن الإسلام لا يُعتبر دين سوء أو دين حسن بناءً على الأحداث التي تمر بالشخص، بل هو الذي رضيه الله وشرعه، فما يحدث من الأحداث والكوارث لحكمٍ يعلمها سبحانه وتعالى، والله عز وجل يبتلي بالسراء ويبتلي بالضراء، ويبتلي بالرخاء ويبتلي بالشدة، ويبتلي بالغنى ويبتلي بالفقر، والله يبتلي بالأولاد ويبتلي بالعقم سبحانه وتعالى، فلا يقولن إنسان: لو أن الإسلام دين حق لما حل بنا الذي حل، وإنما يقول لنفسه: ما أصابك من حسنة فمن الله وهو الذي قدرها، وما أصابنا من سيئة فبما كسبت أيدينا، بسبب ذنوبنا ومعاصينا، والله يذكرنا فيكون من حكمته سبحانه ومن رحمته أن بعض الناس يتذكر بعد الغفلة، ويعود بعد السوء والذنوب إلى الله عز وجل، فيكون الحدث مذكراً، يكون الحدث معيناً، يكون الحدث نافعاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى لما مسنا بشيءٍ من العذاب تفكرنا في أنفسنا فعلمنا أن التقصير منا، فهنا يجب أن نرجع ونتذكر.
أما الذين يقولون: نتمسك بالدين، وندخل مشوار الالتزام بالإسلام والاستقامة على دين الله فننظر، فلو عافانا الله في الأبدان وأعطانا الأموال فهذه الاستقامة نستمر عليها، وإن استقمنا على الدين وتركنا المنكرات فحلت بنا الكوارث أو جاءتنا الأحداث المفزعة تركنا الاستقامة، هذا مبدأ خاطئ وخطير جداً، فإنه لا ارتباط بين الاستقامة وأقدار الله من المصائب التي تحدث، لكن المسلم إذا ابتلاه الله يصبر ويعلم أن الأمر لله، وأن كل شيءٍ بيد الله، وأن الاستقامة تنتج الصبر على الأقدار والمصائب، وأن الذين لا استقامة لديهم يصابون بالجزع، يصابون بسوء الظن بالله، يرتدون على أعقابهم، ينكصون، يرتدون على أدبارهم.
ولذلك -أيها الإخوة- ينبغي أن نستقيم على الشريعة مهما حل بنا، ومهما حدث، ولا نقول: إن الإسلام دين غنائم، إذا جاءتنا الغنائم استقر بنا الحال على الإسلام، وإذا حلت بنا المصائب تركنا الإسلام والاستقامة على الدين، وكثير من الناس يربط بين هذا وهذا، فتزل قدم ويرتد على أدباره بعد أن هداه الله.(210/3)
أثر ذكر الله في تخفيف المصائب
ينبغي كذلك من هذه الأحداث والعبر أن نعلم -أيها الإخوة- أن الكوارث إذا وقعت بالناس يخففها ذكر الله سبحانه وتعالى، التصبير على الابتلاء أن يقول الناس بعضهم لبعض: إن لله وإنا إليه راجعون، يخفف الكارثة أن يقول الإنسان إذا حلت به الكارثة: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، حسبنا الله ونعم الوكيل.
ولذلك عندما حل بالمسلمين في مصر ما حل من الزلزال قام أهل الخير والدين يعزون الناس بالأذكار النبوية والأدعية المشروعة، يخفف على الناس أن تقول لهم: جبر الله مصيبتك وأحسن الله عزاءك، وأخلف لك خيراً منها، وعوضك الله في الدنيا والآخرة، وغير ذلك من العبارات، أما أن تقوم مذيعة فاجرة تلف على أسرة المجروحين المنكوبين في المستشفيات لتقول لهم: ماذا تودون من سماع وأي أغنية تريدون؟ فهذا -والعياذ بالله- من الغفلة العظيمة، هذا -والعياذ بالله- من أنواع الردة، الله يُذكر وبعض الفجرة يأبى إلا الغفلة، وإلا أن يتسبب في إيصال الإثم والسيئات لغيره، إن المصيبة التي نزلت بإخواننا المسلمين في مصر مصيبة عظيمة.
يا أيها الناس ينبغي أن نكون معهم بقلوبنا، إننا نشكو الآن من غلاء الإيجارات وارتفاعها، وعدم وجود البيوت المناسبة، وبعض المسلمين الآن لا يجدون نتيجة الزلزال بيتاً أصلاً لا بإيجارٍ مرتفع ولا منخفض، تأمل عندما يكون بيتك ومتاعك وأثاثك وربما أولادك تحت الأنقاض، تخرج لا تملك شيئاً أبداً إلا الملابس المهترئة التي عليك، كيف يكون حالك؟ فينبغي أن نقف مع الملهوف نغيثه، ومع المصاب نساعده، أما ما يحدث من بعض الناس من الشماتة بإخوانهم المسلمين، فهذا حرامٌ عليهم، لا يجوز لهم ذلك، كما قال بعض السلف: من أظهر الشماتة بأخيه يعافيه الله ويبتليه.
فقد يعافي الله أخاه ويبتليه هو، التخفيف من المصيبة يكون بالتذكير بالله والدعاء للمصابين وتقديم المعونة.
إن المصيبة كما قلنا -أيها الإخوة- كبيرة، كل ما يحل بأوطان المسلمين الآن، المصائب كبيرة في كشمير في البوسنة في الصومال وفي المقدمة ما يحل بالمسلمين في فلسطين من أنواع الاضطهاد الذي يدبره اليهود، الذين يزعمون السلام، وهم يريدون ضرب المسلمين بعضهم ببعض في سبيل مخططاتهم.
نسأل الله أن يحبط كيدهم، وأن يردهم على أعقابهم، وأن يجعل دائرة السوء عليهم.
إن المصاب يخفف بالأذكار الشرعية والأدعية النبوية، المصاب يخفف بتقديم المساعدات، ليس بالأغاني ولا بالمسلسلات، الكارثة التي ألمت بإخواننا كبيرة تحتاج إلى إمامٍ عادل، وليس إلى عادل إمام، الوقت ليس وقت مسرحيات ومسلسلات، لكن الوقت وقت اتعاظ وتدبر وتفكر وتقديم المساعدة والمعونة، وليس وقت شماتة، ولا غفلة، ولا إعراض، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] وربما يصيبنا ما أصاب غيرنا، إذا لم نتعظ ونتفكر ونعود إلى الله.
اللهم إنا نسألك أن تردنا إلى الإسلام رداً جميلا، اللهم إنا نسألك أن تعافينا في أبداننا، اللهم عافنا في ديننا، وعافنا في أسماعنا وأبصارنا، اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(210/4)
انتشال رجل حيِّ من بين الأنقاض بعد مرور أربعة أيام
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيءٍ عليم، سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
كان من العبر التي حدثت في ذلك الزلزال -أيها الإخوة- مما رأيتم وقرأتم ذلك الرجل الذي خرج من تحت الأنقاض والحطام بعد مرور أربعة أيام، تأمل في قدر الله سبحانه كيف يحيي ويميت، يحيي من يشاء ويميت من يشاء، وينقذ من يشاء ويهلك من يشاء، تلك العمارة المرتفعة التي سقطت على من فيها من الأحياء وهم بداخلها وتحتها، تأمل كيف نجى الله منها رجلاً حتى لا يقولن أحد: إنهم كلهم يموتون ولا ريب، ولا يقطع أحد بحياة حيٍ، ولا بموت ميت؛ لأن الأقدار مكتوبة والأعمار عند الله معلومة، لا يتخطى شيءٌ شيئا: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] بعد مرور أكثر من ثمانين ساعة على انهيار العمارة في الزلزال عُثر على أحد سكانها حياً تحت الأنقاض، وانتشل وسط ذهول أفراد قوات الإنقاذ والدفاع المدني وجموع الناس المتحلقين حول الأنقاض، الذين أخذوا يصيحون: الله أكبر الله أكبر، والناس لو ترك بينهم وبين الدين يرجعون إلى الفطرة، فيوحدون الله لما يرونه أمامهم من الآيات، فوجئ رجال الإنقاذ بصراخٍ شابٍ ينبعث من تحت الأنقاض، يستغيث بالإنقاذ، يطلب الإنقاذ، وأعطي زجاجة ماء، وبعض الإسعافات، ثم أخذ يذكر أن والدي لم يكن موجوداً معي في العمارة وقت الحادث، فهل هو حيٌ أم ميت؟ فلما خرج قال: كان يوجد شخصٌ بجواري يفصلنا دولاب خشب، وكنا نتعامل بالطرق على الدولاب لكنه مات قبل ساعات، عند وقوع الزلزال كنت في الشقة مع والدتي وزوجتي وبنتي، ولما اهتزت العمارة في الهلع والذعر فتحنا باب الشقة وخرجنا على أمل أن نهبط على السلم، إلا أن العمارة قد انهارت في لحظات وتشابكت أيدينا ووجدنا أنفسنا في مكانٍ ضيق ومظلم، تحسسناه فإذا بنا وسط ركامٍ وأخشابٍ وطوب ورمال، وشعرت أن قدمي محشورة وسط هذا الحطام، وتحدثنا مع بعضنا البعض، ما الذي جرى؟ وهل سنخرج من هذا المكان، أم أن هذه هي النهاية المحتومة؟ تساؤلات وخواطر كثيرة كانت تمر، وبعد أن استوعبت ما حصل وبعد ساعاتٍ قليلة كنت أسمع أنين الضحايا بقربي في أماكن مختلفة، وكان هذا الأنين يتوقف تدريجياً لأنهم فارقوا الحياة، وشاهدت بعيني والدتي وهي تحتضر وتفارق الحياة، وكذلك ابنتي الصغيرة، ثم زوجتي وكانت هذه أصعب لحظات تمر عليَّ في مثل هذه الظروف، واضطررت أن أشرب من بولي بعد ما شعرت بالعطش الشديد، وكان قلبي يتمزق لرؤية من مات من الأقرباء، ولكن ماذا يمكنني أن أفعل؟ أُخرج الرجل من تحت الأنقاض بعد مرور ساعات طويلة قرابة أربعة أيام، لم يكن يتوقع أحد وجود حي تحت هذا الركام، لكن لنعلم أن الله على كل شيءٍ قدير، أربعة أيام يجلس تحت الأنقاض ليس عنده إلا بوله يشربه فقط.
فإذا أراد الله أن ينجي أحداً نجاه، وإذا أراد الله أن يهلك من يشاء أهلكه، إن في ذلك لآيات، يا أيها الناس! إن في ذلك لآيات، هذه فيها عبر، لكن أين المعتبرون؟ ولو جلسنا نتتبع الأخبار وأصحاب المآسي، وعندهم أحداثٌ أخرى وقصص لم نسمعها، لكن يبقى الدرس الكبير أن الله يفعل ما يشاء، ويبقى الدرس الكبير أنه يجب علينا أن نعود إلى الله، ونتمعن فيما أصابنا، ويبقى الدرس في أن نقف بجانب إخواننا، أن تشمت بكنيسة انهارت نعم، أو بنصراني أجل، أو فاجرةٍ أو فنانةٍ قد انهد بيتها، لكن بإخوانك المسلمين هذا لا يجوز قطعاً.
ثم يسأل بعض الناس يقولون: ما حكم إعطاء الزكاة لمن أصابهم هذا الزلزال؟ ف
الجواب
أن ذلك جائزٌ إذا كانوا لا يملكون شيئاً، صاروا فقراء معدمين بعد أن ذهبت ممتلكاتهم كلها، وكانوا مسلمين، ووجدت الطريقة الآمنة الصحيحة الموثوقة لإرسالها إليهم، فإذاً أَرسل زكاتك إليهم -يا عبد الله- فإنهم من المستحقين، ونحن ندعو الله سبحانه وتعالى لمن مات في ذلك المصاب من المسلمين أن يتغمده برحمته.
اللهم ارحمهم واغفر لهم، اللهم اجعلهم في قبورهم من الآمنين، واجعل ما أصابهم من المحنة تكفيراً عن ذنوبهم يا رب العالمين، واجبر مصاب أقربائهم وإخوانهم يا أرحم الراحمين، اللهم عوض من أوذي من المسلمين خيراً، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا في بيوتنا آمنين.(210/5)
جوانب التكامل في شخصيات السلف
إن الله نظر إلى قلوب الأمة، فوجد الصحابة أطهرها قلوباً فاختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فضرب الصحابة أروع الأمثلة في تبجيل النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، فلذلك كملت شخصياتهم، وكلٌّ شجعه النبي صلى الله عليه وسلم حسب ميله وحبه، ونمى موهبته؛ فصار مجتمعاً متكاملاً في جميع جوانب الدين والحياة.(211/1)
لا يصلح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فأرحب بكم -أيها الإخوة- في هذه الليلة في هذا اللقاء الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون لقاء خير وبر، وأن يجعلنا وإياكم فيه من المتعظين، وأن يرزقنا الاقتداء بسيرة السلف الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين.
أيها الإخوة: إن هذا الدين يحمله من كل خلف عدوله، يحمل هذا الدين رجالٌ صدقوا بالله وآمنوا، وصدقوا المرسلين، هذا الدين لا يمكن أن يتحرك في الواقع ولا يمكن أن يؤثر إلا إذا كان هناك أناس آمنوا به فجعلوه عقيدة تحركهم، وجعلوه حياتهم وهمهم، فصار يحركهم للعمل لأجل رفعة شأنه ونصرة أمره هذا الدين العظيم دين الإسلام، وخيرية هذه الأمة على بقية الأمم من أسبابها ما وجد في هذه الأمة من الرجال الذين حملوا لواء الإسلام، ما وجد فيها من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23]، {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:36 - 37] هؤلاء الرجال هم الذين يحملون هذا الدين، وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يوجد في هذه الأمة من هذه النوعية من حملة الدين عدداً كثيراً والحمد لله على فضله وإحسانه.
أيها الإخوة: إنا حين ننشد التغيير الذي نحلم به من منطلق إسلامي من قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] عندما ننشد هذا التغيير في الواقع المر الذي نعيش فيه، إننا لنعلم علماً يقينياً أن هذا التغيير لن يحدث إلا إذا وجد هناك النفر المخلصون من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، هم الذين يخلصون الأمة وينقذونها من الشتات وعالم الضياع، إن هذه الفئة -جيل الإنقاذ- التي تريد أن تصل بسفينة المجتمع وسفينة الأمة إلى بر الأمان هم من نوعية مخصوصة اختارها الله سبحانه وتعالى، جعل فيهم من الصفات والميزات ما يستطيعون به حمل هذا الدين، والصبر على تبليغه، وعلى أذى المخالفين في سبيل الله سبحانه وتعالى، ونحن لا نريد أن نكون بمنأى عن هؤلاء الأشخاص، ولا نريد أن نقف متفرجين، وأن نرقب النصر المنشود من أناس آخرين، نحن نريد أن نكون من هذا الركب، ومن هذه الطائفة، ولكن المسألة تخليص الأمة من الهاوية التي انحدرت إليها أمرٌ في غاية الصعوبة، ويحتاج إلى تربية عميقة تصقل مواهب الرجال، وتنشئ فيهم حب الله ورسوله، وتجعل منهم قادة يقودون الأمة نحو الصلاح المنشود، وإننا في هذا الطريق نتلفت إلى الوراء لنرى من سلفنا عَبر تاريخنا فننشد من تلكم الشخصيات هذه الصفات التي ينبغي أن يكون فينا بعضها، ودرجات منها على الأقل، ولا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
من أجل هذا سنتحدث في هذه الليلة عن موضوع بعنوان: جوانب التكامل في شخصيات السلف.
الشخصيات التي خرجت في صدر الإسلام، والتي كُتبت سيرتهم في تاريخ هذه الأمة، هذه الشخصيات قد تميزت بميزات، من أجل ذلك كانت الأمة منصورة، وكان علم الدين قائماً، وكانت راية الجهاد مرفوعة، وكان المسلم يسير عزيزاً من شرق بلاد المسلمين إلى غربها رافعاً رأسه، كان الكفر في ذلة، وكان أهل الذمة في صغار، وكان أعداء الدين يَرهبون المجتمع الإسلامي، كان المجتمع فيه من الخصائص ما ضاع كثير منه في هذه الأيام، طبقت الشريعة، وأقيمت الحدود، وعقدت حلق العلم، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وجردت السيوف للجهاد، وعقدت الألوية، وحورب أهل البدعة، كان مجتمعاً فيه من الأخلاق الإسلامية والآداب الشرعية ما يفوق الوصف.
لقد جاء على المسلمين يوم يقدمون فيه المال للزكاة والصدقة فلا يوجد من يقبل منه؛ لأن أمير المؤمنين عمر قد أغنى الناس.
ونحن في هذه المحاضرة سنستعرض بعض الجوانب من تلكم الشخصيات التي ظهرت في هذه الأمة، وإن هذه الشخصيات كثيرة وكثيرة جداً لمن استعرض كتب التراجم والسير والتاريخ الإسلامي، ولعلنا سنذكر بعضاً منها من جيل الصحابة وتابعيهم، إذ أن الوقت لن يُسعف في أن نستقصي حتى جيل الصحابة والتابعين، ولن تخلو الأمة من خير أبداً، ولا تزال الشخصيات التي تحمل لواء هذا الدين تظهر بين آونة وأخرى، ولا يزال المجددون الذين تكفل الله بإظهارهم يظهرون بين حين وآخر، والحمد لله على نعمه وآلائه.(211/2)
أبو بكر الصديق يبذل ماله ونفسه في سبيل الله
أليس منا أبو بكر الصديق الذي كان من أمن الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه وماله؟ أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرجال وأولهم إسلاماً (ما نفعني مالٌ قط ما نفعني مال أبي بكر) وهو يقول: (وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله، وهل نفعني الله إلا بك يا رسول الله) أتى بماله كله وقال: (أبقيت لهم -لأهلي- الله ورسوله).
دافع عنه لما أرادوا ضربه، ونفض له الضرع وظلل عليه في طريق الهجرة، وجمع من خصال الخير ما لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح إيمان أبي بكر رضي الله عنه، إن جئت إلى الرأفة فهو أرأف الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم: (أرأف أمتي بأمتي أبو بكر) وإن جئت إلى القيادة فهو حازم خليفة جمع الله عليه المسلمين، وإن جئت إلى الأعمال الصالحة: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، من عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، من تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، من أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا).
كان حازماً في حرب المرتدين، فأرانا بسيرته البصيرة التي تكشف ظلمة الشبهات حزم العادلين، وكيف يكون موقف الرجل المسلم في موقف الأزمة لما ارتد المرتدون، وإن جئت إلى كونه أباً للزوجة كان موقفه من زوجة النبي صلى الله عليه وسلم -ابنته- موقفاً يدل على عقل وحكمة حتى في الجوانب الاجتماعية.(211/3)
عمر بن الخطاب رضي الله عنه المحدث الملهم
أليس منا عمر رضي الله عنه الشهيد العبقري، صاحب القصر في الجنة، المحدث الملهم؟ جعل الله الحق على لسانه وقلبه، ينطق على لسانه ملك، وافق ربه في عدة مواضع، أنزل الله فيها قرآناً يتلى إلى يوم الساعة، ما لقيه الشيطان سالكاً فجاً إلى وسلك فجاً غير فجه، شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر، ما زال المسلمون أعزة منذ أسلم عمر، وهو الباب بين هذه الأمة وبين الفتن؛ فلما كسر الباب جاءت الفتن، كان وقافاً عند كتاب الله، إن جئت على الشدة في أمر الله فـ عمر رأس المقدم وأشدها في أمر الله، عمر أشد الناس على أهل البدعة، ما تجرأ أحد من المبتدعة أن يخرج لسانه وأن يرفع رأسه في عهد عمر، إن جئت إلى محاسبة الولاة فـ عمر المقدم الظاهر، وإلى استشعار المسئولية: [لو أن دابة عثرت بأرض العراق لخشيت أن أسأل عنها يوم القيامة، لِمَ لَمْ تذلل لها الطريق يا عمر].
إن جئت على تفقد الرعية فهو يسير بين البيوت يتفقد أهلها، ويحرس المسلمين بالليل، ويخرج إلى الأرض البعيدة؛ ليرقب خيمة فيها امرأة وحولها أولاد صغار يبكون، ليتأثر عمر فيحمل لهم الطحين على ظهره.
شديد في أمر الله، وفي المعارك على الكفار لا يملك نفسه أن يرد على عدو الله في ذلك الوقت رداً تشعر فيه بعزة المسلم.(211/4)
عثمان بن عفان رضي الله عنه أصدق الأمة حياءً
أليس منا عثمان رضي الله عنه الشهيد الذي بشر بالجنة على بلوى تصيبه؟ أصدق الأمة حياءً تستحيي منه الملائكة، جهز جيش العسرة (ومن جهزه فله الجنة) اتفقت الأمة على البيعة له، مات ودمه على المصحف، إن جئت إلى خلق الحياء فأعظم وأصدق الأمة حياءً عثمان، وإلى الإنفاق في سبيل الله فقد جهز جيشاً كاملاً من ماله، وإلى قراءة كتاب الله فقد كان له مصحف يقرأ فيه حتى كانت نهايته وهو يقرأ في المصحف، وقيام الليل، هو الذي فدى الأمة بدمه كان بإمكانه أن يقول للصحابة وأبناء الصحابة: دافعوا عن خليفتكم لكنه نهى الناس عن الدفاع عنه لما جاء هؤلاء الثوار الذين حرضهم عبد الله بن سبأ اليهودي وغيره، وصارت الفتنة، وفدى عثمان الأمة بدمه رضي الله عنه.(211/5)
علي بن أبي طالب رضي الله عنه أقضى الأمة بعد نبيها
أليس منا علي؟ أول من أسلم من الصبيان، رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، أعطاه الراية يوم خيبر ففتح الله عليه، هو من رسول الله بمنزلة هارون من موسى (لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق)، (أنت مني وأنا منك) كما قال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من سب علياً فقد سبني، من آذى علياً فقد آذاني، من كنت مولاه فـ علي مولاه) رابع الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، إن جئت إلى القضاء فأقضى الأمة بعد نبيها علي بن أبي طالب، وإن جئت إلى قتال أهل البدعة والخوارج والقضاء على الفتن فـ علي بن أبي طالب الرأس المقدم في ذلك، إن جئت إلى لحكمة والعلم تجده قاضياً مفتياً رضي الله تعالى عنه.(211/6)
طلحة بن عبيد الله الذي فدى الرسول بيده
أليس منا طلحة بن عبيد الله؟ أحد العشرة المبشرين، وقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شلت، طلحة ممن قضى نحبه، أوجب طلحة، أي: عمل عملاً يوجب له الجنة.(211/7)
الزبير بن العوام الذي تولى الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم
أليس منا الزبير بن العوام؟ حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح، جمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبويه فقال: (فداك أبي وأمي) تولى الدفاع عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وعن القائد، ضَرب هذا الرجل والذي قبله وغيره من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في ذلك.(211/8)
سعد بن أبي وقاص صاحب الدعوة المستجابة
واعتزل الفتنة سعد بن أبي وقاص وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله (ارم سعد فداك أبي وأمي) صاحب الدعوة المستجابة، نزلت آيات من كتاب الله: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت:8] فاخر به صلى الله عليه وسلم فقال: (هذا خالي فليرني امرؤٌ خاله) حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتح الله على يديه بلاد فارس.
فإن جئت إلى القيادة وإلى الحكم وتخطيط المدن وبعد النظر في مصلحة المسلمين فـ سعد بن أبي وقاص.(211/9)
أبو عبيدة أمين الأمة
أليس منا أبو عبيدة أمين هذه الأمة؟ نعم الرجل أبو عبيدة تولى فأحسن الولاية، وقاد الجيش فأحسن القيادة رضي الله تعالى عنه.(211/10)
حمزة رضي الله عنه أسد الله ورسوله
حمزة سيد الشهداء، أسد الله ورسوله، نافح عن الإسلام، وقد عليه الصلاة والسلام مع أفواج من المسلمين الذين استشهدوا في أحد يصلي عليهم في كل مرة، (ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة النار) أعز الله به الدين كما أعزه بـ عمر بن الخطاب، فأعز الله بـ حمزة وبـ عمر ما لم يعز بغيرهما من كفار قريش الذين أسلموا.(211/11)
بلال الحبشي مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهذا بلال سابِق الحبشة إلى الإسلام، الذي سَمع رسول الله صلى الله عليه وسلم دف نعليه في الجنة، وصابر مع النبي صلى الله عليه وسلم في حصار الشعب ما ارتد عن دينه، ضرب لنا المثل في الصبر في وقت الشدة، وكان مؤذناً محتسباً لله يؤذن بلا أجرة، كان يؤذن فيأتي الناس إلى المسجد لأذانه، ضرب لنا مثلاً في المؤذن المحتسب، هانت عليه نفسه في سبيل الله، ألبسوه الدروع، وصهروه في الشمس، وأعطوه الولدان يطوفون به وهو يقول تحت الصخرة: أحد أحد، فإن أردت مثالاً في الثبات على دين الله تحت التعذيب فخذ بلالاً رضي الله عنه، فعن أسلم مولى عمر قال: قدمنا الشام مع عمر فأذن بلال والناس مجتمعون في الشام في ذلك الوقت عند فتحها، جاء عمر رضي الله عنه يشهد الفتح، وأذن بلال فتذكر الناس النبي صلى الله عليه وسلم وأيامه، فما رئي يوم أكثر باكياً منه في ذلك اليوم.(211/12)
عمار بن ياسر الصابر في الفتنة
أليس منا عمار بن ياسر؟ من آل ياسر موعدهم الجنة، ملئ عمار إيماناً إلى مشاشه، أجاره الله من الشيطان، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما وأرشدهما، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار (أبشر عمار) فضَرب مع بلال وخباب وغيرهم المثل في الثبات مع وقوع الفتنة.(211/13)
ابن مسعود صاحب النعلين والوساد
أليس منا عبد الله بن مسعود؟ ساقاه أثقل في الميزان من جبل أحد، مِن أقرب الناس عند الله وسيلة يوم القيامة: (من سره أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) أقرب الناس سمتاً وهدياً ودلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، صاحب النعلين والوساد، وكان كاتماً لسره عليه الصلاة والسلام، والمطهرة فكان يصحبها لطهور النبي صلى الله عليه وسلم، أخذ من فم النبي صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، قال فيه: (إنك غلام مُعلَّم كنيِّف ملئ فقهاً) فضرب لنا مثلاً في المقرئ الذي يقرئ الناس ويعلمهم، رجل بأمة يأتي إلى الكوفة فيدرس هناك فيخرج أجيالاً من التابعين من الفقهاء العلماء المفتين عبد الله بن مسعود، وقل عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم من نفس هذا المثال، علماء يخرجون علماء، ما دفنوا علمهم، ولا قبعوا في بيوتهم، وإنما برزوا للناس فتصدروا فأفتوا وعلموا وصاروا كالسحابة تمطر الخير حيثما جاءت، وكالآبار يُستقى منها، وكالعيون العذبة رضي الله تعالى عنهم.(211/14)
مصعب بن عمير داعية الإسلام
مصعب بن عمير ألم يضرب لنا مثلاً بشخصيته في صبره على الأذى، وترك النعيم، وحياة الترفه، والشباب اللاهي واللذات؟ كل ذلك في سبيل الله، يضرب لنا مثلاً في الدعوة بالقرآن قبل السنان، أسلم على يديه كثير من أهل المدينة فوطأ المكان لقدوم النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك مات بين يديه حاملاً اللواء في غزوة أحد، فوقع أجره على الله، مضى ولم يأكل من أجره شيئاً، ترك اللذات في حياة الشباب، وهاجر وترك الوطن، وكان داعية ناجحاً وغازياً مجاهداً، ما أدرك وقت الفتوح ولا الغنائم ولا كثرة الأموال، حتى ما وجدوا شيئاً يغطون به جسده عند موته من الكفن، فغطوا رأسه بالثوب ورجليه بشيء من الإذخر، فمضى إلى ربه محتسباً ما نقص من أجره شيء.(211/15)
البراء بن مالك البطل الكرار
أليس منا البراء بن مالك البطل الكرار الذي ضرب لنا مثلاً بشخصيته في حرب مسيلمة لما أمرهم أن يحتملوه على ترس على أسنة رماحهم ويلقوه في حديقة مسيلمة فاقتحم عليهم وشد وقاتل حتى افتتح باب الحديقة، رجل بأمة، مقدام وجريء.
هذه شخصياتهم رضي الله عنهم تتكامل في جميع الجوانب، وتكون ذلك المجتمع الذي لن يمر على الأمة مثله أبدا، فجرح بضعاً وثمانين جرحاً، وقتل في حروبه مائة من الشجعان مبارزة، كان من الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (كم من ضعيف متضعَّف ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره) فكان المسلمون في الفتوحات يقدمونه فيقولون: ادع يا براء.(211/16)
جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه صاحب الجناحين
وهذا جعفر بن أبي طالب أبو المساكين، هاجر الهجرتين ودعا النجاشي إلى الله، ضرب لنا مثلاً في عدم كتم الحق والمواجهة بالحق، أشبه خَلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وخُلقه، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشهد في غزوة مؤتة، له جناحان يطير بهما في الجنة.(211/17)
أبو دجانة آخذ سيف رسول الله بحقه
وأبو دجانة سماك بن خرشة الذي أخذ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقه، خرج يتبختر عليه عمامة حمراء في مشية يبغضها الله إلا في ذلك الموطن، ففلق بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم هام المشركين، إنهم أناس يقدرون المسئولية، من يأخذ السيف بحقه؟ أخذه سماك بن خرشة رضي الله عنه بحقه، ففعل به الأفاعيل، رمى بنفسه يوم مسيلمة إلى داخل الحديقة؛ فانكسرت رجله فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.(211/18)
خبيب بن عدي رضي الله عنه يقتل صبراً
وخبيب بن عدي الذي سن لنا الركعتين عند القتل وقال: [والله لولا أن تظنوا أنما طولت جزعاً من القتل؛ لاستكثرت من الصلاة] كان يأكل وهو محبوس قطفاً من عنب ولم يكن في مكة عنب أبداً، كرامة من الله عز وجل لهذا الرجل، فيعلمنا الصبر ومعنى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يرضى أن يشاك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشوكة وأن يكون هو حراً طليقا، فهل جزع لما ربطوه ولما أطلقوا عليه رماحهم وسهامهم؟ كلا، بل دعا الله أن يبارك على أوصال شلوٍ ممزع، وصبر في ذات الله سبحانه وتعالى.
حتى شيبان المسلمين وكبار السن ضربوا لنا مثالاً فكانت شخصياتهم مثالاً يحتذى.(211/19)
عمرو بن الجموح يطأ بعرجته الجنة
عمرو بن الجموح الذي قاتل في أحد وهو أعرج ليطأ بعرجته في الجنة وهو ابن ثمانين سنة، فقتل فيها شهيداً رحمه الله تعالى.(211/20)
عبد الله بن حرام يكلم ربه كفاحاً
أليس كذلك من هذه النوعية من كبار السن الذين أبلوا في الإسلام بلاء على تقدم أسنانهم وعلى شيخوختهم عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أحد النقباء ليلة العقبة الذي استشهد في أحد؟ قال عليه الصلاة والسلام لولده جابر: (تبكيه أو لا تبكيه ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه) كفن هو وصاحبه أخوه في الله: عمرو بن الجموح، الشيخ الكبير الآخر، قتلا سوياً في معركة أحد، ما توقف العطاء رغم كبر السن، يضربون لنا المثل بكبر سنهم وأفعالهم في سبيل الله، يقول عليه الصلاة والسلام لـ جابر: (ألا أخبرك أن الله كلم أباك كفاحاً -مباشرة بعد موته- فقال: يا عبد! سلني أعطك؟ قال: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: يا رب! فأبلغ من ورائي) فأنزل الله عز وجل رسالة تبليغ من عبد الله بن عمرو بن حرام إلى المسلمين من إخوانه الأحياء: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].(211/21)
سعد بن معاذ يهتز عرش الرحمن لموته
أليس منا سعد بن معاذ الذي ترك السيادة لله عز وجل، وكان سيد قومه فتنازل للرسول صلى الله عليه وسلم، أسلم على يد مصعب فقام في قومه وهو سيدهم يضرب لنا مثلاً في الداعية كيف يحمل قومه على الإسلام، قال: [إن كلامكم عليَّ حرام رجالكم ونساؤكم، حتى تؤمنوا بالله ورسوله] قال: فوالله ما بقي في دار بني الأشهل رجل ولا امرأة إلا أسلموا، وهو الذي تحدى أبا جهل بـ مكة ليظهر لنا عزة المسلم في الطواف، فقال: [والله لو منعتني لقطعت عليك متجرك بـ الشام] جرح يوم الخندق فقال: [اللهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني في بني قريظة] مع أنهم كانوا حلفاءه في الجاهلية، لكنه نسي الأحلاف والعلاقات كلها التي تقطعت بسبب الإسلام، فحكم فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات، ثم دعا الله أن يقبضه لكي لا يفوته وجه الشهادة، فمات فنزلت الملائكة تحمل جنازته، اهتز العرش فرحاً لموت سعد، فتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألف ملك، إنه يضرب لنا مثلاً.
هذه الشخصيات أيها الإخوة! نرى منها العجب والعجاب نتيجة التربية النبوية، ماذا ظهر من الشخصيات؟ وما هي جوانب التكامل التي بناها أولئك الأشخاص في ذلك المجتمع؟(211/22)
ثابت بن قيس خطيب الأنصار
ثابت بن قيس خطيب الأنصار، لقد كان للمسلمين دور في الخطابة، كانت منبراً إعلامياً، قال عند مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم: [نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا] إعطاء العهد والوثاق، ولما جاء وفد تميم فافتخر خطيبهم، قال له ثابت بن قيس بخطبة فأسكتته، ولما نزل قول الله: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] يضرب لنا هذا الصحابي مثلاً في حساسية المؤمن وتأثره وتفاعله مع الآيات، وكان امرأً من طبعه أنه صيت جهوري الصوت بطبعه، إذا تكلم كان صوته عالياً فقال: [ويلي هلكت فقعد في بيته] لما نزلت الآية أخشى أن أكون قد هلكت، هذا الذي تحنط يوم اليمامة ولبس ثوبين أبيضين فلما انهزم المسلمون في بداية الأمر قال: [اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - مسيلمة وأصحابه- وأعتذر مما صنع هؤلاء، بئس ما عودتم أقرانكم، خلوا بيننا وبينهم ساعة] فتحمل فقاتل حتى قتل، ولم تنفذ لرجل وصية بعد موته إلا هو فقد حكم بذلك الصديق.(211/23)
معاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنه وغيرته على رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومعاذ بن عمرو بن الجموح الفتى الصغير، حتى الشباب الصغار كانت في جوانب شخصياتهم أمور تحمل على العجب، يميل على عمه في الإسلام عبد الرحمن بن عوف يقول: [يا عم! أتعرف أبا جهل؟ فقال له: لماذا؟ ماذا تصنع به؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم] هل سمعه يسب رسول الله؟ لا.
لكن أخبرت وأريد أن أنتقم من رجل سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحمية لرسول الله في نفوس الفتيان الناشئة في ذلك المجتمع [والذي نفسي بيده لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا] فحمل على عدو الله فضربه فقتله، وأصيبت يده فصارت معلقة بجلده على جنبه فصار يقاتل ويسحبها خلفه، فلما آذته قال: [وضعت قدمي عليها ثم تمطأت عليها حتى طرحتها].(211/24)
سعد بن الربيع وإيثاره للصحابة
وسعد بن الربيع، وما أدراك ما سعد بن الربيع! وجانب الإيثار في شخصية سعد بن الربيع واضحة عندما قال لـ عبد الرحمن بن عوف: [أشاطرك مالي، واختر أي زوجتيّ أحب إليك أطلقها كي تتزوجها]، وهو أحد النقباء في ليلة العقبة، قُتل في أحد شهيداً، ضرب لنا مثلاً في الثبات والوصية عند الممات بالثبات إلى آخر لحظة على المنهج والبيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال في آخر رمق: [أبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل: إن سعداً يقول: جزاك الله عني خير ما جزى نبياً عن أمته، وأبلغ قومك السلام، وقل لهم: إن سعداً يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خُلص إلى نبيكم ومنكم عين تطرف] فالوصية بالثبات والاستمرار، فإن الرجل إذا مات وانتقل فإنه لا زال يوصي لمن بعده بالثبات على ما مات هو عليه.(211/25)
ابن أم مكتوم خليفة النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة
حتى المعوقون في المجتمع الأول كانت لهم أدوار، وقد فعل الإسلام فعله العجيب بنفوس أولئك القوم، فهذا ابن أم مكتوم الأعمى من السابقين المهاجرين، الضرير مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم، والخليفة على المدينة في غيابه عليه الصلاة والسلام يصلي ببقايا الناس، أنزلت فيه سورة عبس، كان حريصاً على طلب العلم وعلى الفائدة، يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [علمني مما علمك الله] وتظهر غيرته على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كانت امرأة تخدمه من اليهود، وكانت تسب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فينهاها فلا تنتهي، فغفلها يوماً فضربها بحربة في صدرها واتكأ عليها حتى ماتت، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها، هو الذي لما سمع قول الله: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:95] قال: يا رب! أنزل عذري، فنزل قول الله عز وجل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95] وكان يغزو وهو ضرير ويقول: [ادفعوا اللواء إلي؛ فإني أعمى لا أستطيع أن أفر، وأقيموني بين الصفين].(211/26)
خالد بن الوليد ومواهبه العسكرية
ظهرت المواهب العسكرية والشجاعة الحربية في شخصيات أولئك النفر تكاملاً على تكامل، وزينة على زينة، فهذا خالد بن الوليد سيف الله وفارس الإسلام قائد المجاهدين أبو سليمان هاجر مسلماً سنة ثمان ثم سار غازياً فشهد مؤتة فاستشهد أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الراية قال: رأيتني يوم مؤتة اندق في يدي تسعة أسياف فصبرت في يدي صفيحة يمانية -سيف يماني- وقد احتبس أدراعه ولأمته في سبيل الله، وكان مغرماً بالجهاد، فجعل أدراعه ومتاعه وقفاً في سبيل الله، وحارب أهل الردة ومسيلمة وغزا العراق وانتصر، ثم اخترق البرية السماوية وقطع المفازة من حد العراق إلى أول الشام في خمس ليال في عسكره، وشهد حروب الشام، ولم يبق في جسده قيد شبر إلا وعليه طابع الشهداء، وكان يقول: [ما من ليلة يهدى إلي فيها عروس أنا لها محب، أحب إلي من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد، في سرية أصبح فيها العدو].(211/27)
النجاشي وإكرامه للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته
حتى الملوك لما دخل فيهم الدين، فهذا النجاشي الملك المعدود في الصحابة من وجه وفي التابعين من وجه آخر، هو الذي بكى لما قرأ عليه جعفر بن أبي طالب صدر سورة مريم، فحمى المسلمين وأكرمهم، وآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لمهاجرة الحبشة: [أنتم شيوم بأرضي -آمنون- من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم] آثر الحق ولم يخش ثورة البطارقة لما نخروا حوله فقال: وإن نخرتم والله.
زوج النبيَّ صلى الله عليه وسلم من أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان التي كانت في أرض الحبشة ودفع الصداق إليها أربعمائة دينار إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجهزها، لذلك لما مات قام صلى الله عليه وسلم وقال: (إن أخاً لكم قد مات بأرض الحبشة) فخرج بهم إلى الصحراء فصفهم صفوفاً ثم قام فصلى عليه.(211/28)
جرير بن عبد الله ومبايعته للنبي صلى الله عليه وسلم
وقريبٌ منه جرير بن عبد الله البجلي، الذي جاء من اليمن أميراً لكنه ترك الإمارة بيعةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(211/29)
سلمان الفارسي الباحث عن الحق
وسلمان الفارسي الذي كان في شخصيته مضرب المثل في البحث عن الحق، الذي ظل يبحث عن الحق والتوحيد حتى أوذي وقيد وسجن، وعمل خادماً، واسْتُرِقَّ، وظل يتنقل حتى رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه وآمن به، كان متواضعاً يخدم صاحبه في السفر، حتى قال صاحب له: إن أنا عجنت خبز، وإن خبزت طبخ.
وهو الذي أشار بحفر الخندق (سلمان منا آل البيت).(211/30)
أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن أغنياء المسلمين قد ضربوا المثل منهم أبو طلحة الأنصاري وكان من أعيان أهل بدر، وأحد النقباء ليلة العقبة الأولى: (صوت أبي طلحة في الجيش خير من مائة أو خير من فئة) لما كان يوم أحد جوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجفة، ورمى وكسر يومئذ قوسين أو ثلاثة وهو ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل فيقول صلى الله عليه وسلم: (انثرها لـ أبي طلحة، ويقول أبو طلحة: يا نبي الله! بأبي أنت لا تشرف لا يصيبك سهم، نحري دون نحرك) قتل يوم حنين عشرين رجلاً، وهو صاحب الأموال الكثيرة وقد تصدق بأحب ماله إليه (بيرحاء) بستان عظيم جداً، تفاعل مع الآية لما نزل قول الله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] قال: (يا رسول الله! ضعها حيث أراك الله، إنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله) هذا الرجل العظيم الذي يضرب به المثل في النفقة في سبيل الله والإيثار رغبةً فيما عند الله وقد غزا آخر عمره في غزوة في البحر، وكان قد قرأ أمام بنيه قول الله عز وجل: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] فقال: [استنفرنا الله وأمرنا شيوخنا وشبابنا، جهزوني، فقال بنوه: يرحمك الله إنك قد غزوت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ونحن نغزو عنك الآن] قال: فغزا البحر فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فلم يتغير.(211/31)
خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وتثبيتها للنبي صلى الله عليه وسلم
والطائفة الأخرى من المجتمع والنوع الثاني: النساء.
أليست منا خديجة بنت خويلد؟ أم المؤمنين، أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم على الإطلاق قبل كل أحد، حمته وآزرته وثبتت من جأشه، مصونة كريمة، كاملة من بين النساء، وأنفقت عليه من مالها، أنفقت على الدعوة من مالها، كانت وزيرة صدق، تحميه، وتدافع عنه رضي الله تعالى عنها: (بشر خديجة ببيت في الجنة، من قصب لا صخب فيه ولا نصب).(211/32)
عائشة بنت الصديق العالمة الكريمة
وعائشة أم المؤمنين ضربت لنا مثلاً في جمع العلم فروت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم علماً كثيراً طيباً مباركاً فيه، قال أحد أئمة الإسلام: لا أعلم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بل ولا في النساء مطلقاً في أي امرأة في العالم منذ أن خلق الله آدم إلى وقتها امرأةً أعلم منها، بَرَّأها الله من فوق سبع سموات، ولا يستبعد أن تكون هي أعلم نساء العالمين على الإطلاق، وأنزل الله في شأنها قرآناًَ يتلى إلى يوم القيامة، وأنزل بسببها آية التيمم، هذه الصديقة بنت الصديق تضرب لنا مثلاً لطالب العلم في جمع أنواع العلم، فإن بعض الناس يتخصص في فن ولا يدري عن بقية الفنون، وقد يحسن في بعض أنواع العلم وهو لا يحسن في أنواع أخرى كثيرة، عن أبي الضحى قال: قلنا لـ مسروق: هل كانت عائشة تحسن الفرائض؟ قال: والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض.
وعن عروة ابن أخت عائشة قال: [لقد صحبت عائشة -خالته- فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآية أنزلت، ولا بفريضة، ولا بسنة، ولا بشعر، ولا أروى له، ولا بيومٍ من أيام العرب، ولا بنسب ولا بكذا ولا بكذا ولا بقضاء، ولا طب منها، فقلت لها: يا خالة! يعني: ربما بعض العلوم الأخرى نعلم لكن الطب من أين علمتيه؟ قالت: كنت أمرض فينعت لي الشيء ويمرض المريض فينعت له، وأسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فأحفظه] وفي بعض الرواية: (إن أهل الخبرة من الطب في البادية، كان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فينعت الدواء، فتحفظه عائشة).
وتضرب مثلاً في الإنفاق فقد بعث إليها معاوية بمائة ألف، فقسمتها بين أمهات المؤمنين، وبعث لها ابن الزبير بمال في غرارتين يكون مائة ألف، فدعت بطبق، فجعلت تقسم في الناس، فلما أمست قالت: هاتي يا جارية! فطوري، فقالت: يا أم المؤمنين! أما استطعت أن تشتري لنا لحماً بدرهم؟ ما عندنا أكل، كل المال هذا الذي وزعتيه أما اشتريت لنا لحماً بدرهم؟ قالت: لا تعنفيني لو ذكرتيني لفعلت.(211/33)
حذيفة بن اليمان أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم
وحذيفة بن اليمان الذي تصدق بدية أبيه على المسلمين؛ فازداد خيراً إلى خير يعلمنا درساً في كتمان السر، حافظ أسماء المنافقين، اهتم برواية أحاديث الفتن الكائنة في الأمة وضبطها [كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أساله عن الشر مخافة أن يدركني] ومثل في حسن تصرفه وشجاعته يوم الخندق لما انتدبه الرسول صلى الله عليه وسلم ليأتي بخبر المشركين وسرعة بديهته لما قال أبو سفيان: لينظر كل رجل من بجانبه، فقال لمن بجانبه: من أنت؟ وضبط نفسه في عدم قتل أبي سفيان وكان يستطيع قتله، وَليَ إمرة المدائن فعدل وعلى يده فتحت الدينور؛ بلد من البلدان.(211/34)
أبو موسى الأشعري رضي الله عنه صاحب الصوت الحسن
وأبو موسى الأشعري الإمام الكبير الفقيه المقرئ قدم على أهل البصرة فأقرأهم وفقههم، كانوا سادة يعلمون الناس وجاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وحمل علماً غزيراً، وكان حسن الصوت بالقرآن جداً، حتى إن من الصحابة من كان يخرج بالليل قريباً من دار أبي موسى ليسمع صوته وهو يقرأ القرآن في قيام الليل، أُعطي مزماراً من مزامير آل داود، وكان فارساً مقداماً فلما رمي عمه بسهم من أحد الكفار؛ لحقه أبو موسى قال: ألا تستحي؟ ألست عربياً؟ ألا تثبت؟ فكف، وكان في العرب من الكفار نخوة قد زالت اليوم، فالتقيا فاختلفا ضربتين فقتله أبو موسى، وهو من قواد الصحابة الستة، والمفتين الأربعة في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، اجتهد قبل موته اجتهاداً شديداً في العبادة فقيل له: لو أمسكت ورفقت بنفسك، فقال: [إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها] الخيل إذا جاء نهاية السباق أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقل من ذلك فأنا أجتهد بأكثر ما عندي، وقال: [إني لأغتسل في البيت المظلم فأحمي ظهري حياء من ربي] رضي الله تعالى عنه.(211/35)
أبو أيوب الأنصاري وإكرامه للنبي صلى الله عليه وسلم
وأبو أيوب الأنصاري الذي نزل صلى الله عليه وسلم في بيته وخصه بالنزول من باب إكرام الضيف، فكان أسفل البيت وأبو أيوب أعلاه، فانسكب الماء، فقام مع أم أيوب بالقطيفة ينشف الماء بسرعة؛ خشية أن ينزل منه شيء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا رسول الله! انتقل إلى العلو، لا يمكن أن أمشي فوقك، لا يمكن أن أسكن في الدور العلوي وأمشي فوقك، وهو الذي نزل القرآن بلفظه لما قال في حادثة الإفك: {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] فنزل القرآن على لفظه، وكان يحب الغزو، وكان ورعاً لا يأتي وليمة فيها منكر، ولما مات في غزو القسطنطينية أوصى بأن يوغل به في أرض العدو، فدعي فدفن عند أسوار القسطنطينية، حتى قيل: إن الروم كانوا يستسقون به عند القحط.(211/36)
زيد بن ثابت شيخ أهل الفرائض
وجوانب التكامل في شخصيات الصحابة كثيرة، ولقد عدَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بعضها لما قال: (أرأف أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدها في أمر الله عمر، وأصدقها حياءً عثمان، وأقضاهم علي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرؤهم أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت) وزيد بن ثابت شيخ أهل الفرائض، وأحد المفتين في المدينة، رُبي يتيماً وكان أحد الأذكياء، أسلم وله أحد عشر عاماً، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نجابته، والمجتمع الإسلامي يحتاج إلى رجل يتعلم لغة اليهود، لأن اليهود قوم بهت لا يؤمنون على كتاب، فأمره عليه الصلاة والسلام بتعلم السريانية لغة اليهود، فتعلمها زيد بن ثابت في سبعة عشر يوماً، وكان يكتب الوحي، وهو الذي تولى جمع القرآن.(211/37)
أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
فالطاقات تنبغ في المجتمع المسلم عندما تقام فيه الشريعة ويتولى أمر المجتمع رءوس الناس.
وأسامة بن زيد حبه وابن حبه صلى الله عليه وسلم، شديد السواد خفيف الروح، رباه عليه الصلاة والسلام منذ صغره، أمَّره على جيش لغزو الشام وعمره ثمانية عشر عاماً، وفي الجيش عمر وكبار الصحابة.(211/38)
حسان بن ثابت وكعب بن مالك شاعرا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وحسان بن ثابت كان منبراً إعلامياً منافحاً عن الدعوة، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، المؤيد بروح القدس، يهاجي الكفار ومعه جبريل، انتدب لنصرة الإسلام بشعره، وقال: [والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني هذا، والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم سل الشعرة من العجين] حتى قال عليه الصلاة والسلام: (لقد شفيت واشتفيت).
ومثله كعب بن مالك شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم، صادق ضرب لنا المثل بصدقه، فما حدث حديثاً إلا صدقاً بعد حادثة تبوك، قيل: أسلمت دوس فرقاً من بيت قاله كعب، وهو:
نخيرها ولو نطقت لقالت قواطعهن دوساً أو ثقيفا
يعني: السيوف نخيرها ولو نطقت لقالت، لأن البيت الذي قبله:
قضينا من تهامة كل ريب وخيبر ثم أجمعنا السيوف
نخيرها ولو نطقت لقالت قواطعهن دوساً أو ثقيفا
فكانت أبياتهم ترهب العدو فجاءت قبيلة دوس مسلمين.(211/39)
أبو هريرة أحفظ الصحابة للحديث
وأبو هريرة الذي يعلمنا درساً في الحرص على طلب العلم، وتقديم طلب العلم على طلب الدنيا، الفقيه المجتهد الإمام الحافظ الذي روى عنه أكثر من ثمانمائة نفس، هذا الرجل العظيم الذي دعا أمه للإسلام، واجتهد إلى أن أسلمت، بسط ثوبه لسماع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الناس يشغلهم الصفق بالأسواق وكان مرابطاً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفظ حديثه، وعن أبي الزعيزعة كاتب مروان الخليفة أن مروان أرسل إلى أبي هريرة وجعل يسأله، وأجلسني خلف السرير، وأنا أكتب، حتى إذا كان رأس الحول دعا به -بعد سنة- فأقعده من وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب فما زاد ولا نقص ولا قدم ولا أخر رضي الله عنه، لقد كان حفظه متيناً، وعن أبي عثمان النهدي قال: تضيفت أبا هريرة سبعاً فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثاً، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا، ويصلي هذا، ثم يوقظ هذا، حتى الخادم والمرأة لها تربية من نصيب أبي هريرة من عنايته في قيام الليل، وهو الأمير المتواضع لما ولي الإمارة كان يحمل حزمة الحطب على ظهره، ويقول: طرقوا للأمير طرقوا للأمير.
وعن محمد قال: كنا عند أبي هريرة فلما تمخط مسح بثوبه وقال: [أبو هريرة يتمخط في الكتان، لقد رأيتني وإني لأخر في ما بين منزل عائشة والمنبر مغشياً علي من الجوع، فيمر الرجل يحسبني مصروعاً فيقعد عليَّ -ليرقيه- فأقول: ليس الذي ترى إنما هو الجوع] وقال: [والله إن كنت لأعتمد على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، وكان مع أهل الصفة] رضي الله تعالى عنه، وصلى بالناس يوماً فلما سلم رفع صوته مرة فقال: [الحمد لله الذي جعل الدين قواماً، وجعل أبا هريرة إماماً بعد أن كان أجيراً لابنة غزوان على شبع بطنه وحمولة رجليه].(211/40)
نماذج من شخصيات التابعين(211/41)
عامر بن عبد قيس وزهده وعبادته
ولما مضى جيل الصحابة وهم أكثر مما ذكرنا بكثير جداً، ومناقبهم أكثر مما ذكرنا بكثير جداً، فقد رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعهم على عينه، خرج ذلك الجيل الذي فتح الأرض فربى الجيل الذي بعده، فانتقلت تلكم الصفات الكريمة من صفات الصحابة إلى صفات الجيل الذي بعدهم، وكان لهم أتباع وتلاميذ حملوا علمهم واقتبسوا خلقهم، فهذا مجاب الدعوة أبو مسلم الخولاني رضي الله تعالى عنه ورحمه، وهذا عامر بن عبد قيس الولي الزاهد القدوة من عباد التابعين، كان يقول: من أقرئ؟ فيأتيه ناس فيقرئهم القرآن، ثم يقوم فيصلي إلى الظهر، ثم يصلي العصر، ثم يقرئ الناس إلى المغرب، ثم يصلي ما بين العشائين، ثم ينصرف إلى منزله فيأكل رغيفاً وينام نومة خفيفة، ثم يقوم لصلاته، ثم يتسحر برغيف ويخرج، ولما احتضر بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: [ما أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الليل].(211/42)
أويس القرني وبره بأمه
أويس القرني سيد التابعين له والدة كان بها بر؛ كان به برص أذهبه الله إلا موضع درهم يذكر به نعمة ربه، هذا الذي لما توجه حاجاً وفطن له عمر وطلب أن يدعو له وطلب أن يستوصي به قال: أُحب أن أكون في أغمار الناس، ولما تفطن له الناس يطلبون منه الدعاء هرب منهم فلا يدرى أين ذهب، إخفاء العمل، والتواضع، وخمول الذكر إخلاصاً لله.(211/43)
علقمة بن قيس مقرئ الكوفة
علقمة بن قيس النخعي فقيه الكوفة وعالمها ومقرئها لازم ابن مسعود حتى صار رأساً في العلم والعمل، وكان أشبه الناس بـ ابن مسعود، قال علقمة: ما حفظت وأنا شاب فكأني أنظر إليه في قرطاس، أوتي عبد الله بن مسعود بشراب فقال للآتي: أعط علقمة أعط مسروقاً فكلما أعطى واحداً قال: إني صائم، فقال ابن مسعود: ((يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)) [النور:37] وكان علقمة يقرأ القرآن في خمس ويقول: أطيلوا ذكر الحديث لا يدرس، أي: كرروا الحديث حتى لا ينسى.(211/44)
مسروق بن الأجدع الإمام القدوة
والتلميذ الآخر مسروق بن الأجدع الإمام القدوة العلم أبو عائشة، يقال: إنه سرق وهو صغير ثم وجد بعد ذلك فسمي مسروقاً، حج فلم ينم إلا وهو ساجد، وكانت امرأته تقوم وهو يصلي حتى تتورم قدماه، فربما جلست تبكي مما تراه يصنع بنفسه، وكان لا يأخذ على القضاء أجراً، أرسل إليه أمير الكوفة ثلاثين ألفاً فلم يأخذ منها شيئاً وهو محتاج.(211/45)
عقبة بن نافع فاتح أفريقيا
عقبة بن نافع الفهري المجاهد القائد فاتح أفريقيا، الشجاع الحازم الذي اختط القيروان، وكان مجاب الدعوة، ولما أراد أن ينزل بجيشه في غابة نادى: يا أهل الوادي! إنا حالون إن شاء الله فاضعنوا، ثلاث مرات، فلم يبق شيء من السباع والأفاعي إلا خرجت، حتى الأمهات تحمل صغارها، ثم قال: انزلوا باسم الله.(211/46)
سعيد بن المسيب عالم أهل المدينة
سعيد بن المسيب عالم أهل المدينة، الذي ما فاتته الصلاة أربعين سنة، وما أذن المؤذن ثلاثين سنة إلا وهو في المسجد، وحج أربعين حجة، وكان يكثر أن يقول في مجلسه: اللهم سلم سلم، ويسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد، وكان جريئاً عزيز النفس، لما قدم عبد الملك بن مروان، وقف على باب المسجد، وأرسل إلى سعيد رجلاً يدعوه ولا يحركه، قال: لا تحركوه ادعوه لي فقط، فأتاه الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين واقفٌ في الباب يريد أن يكلمك، فقال: ما لأمير المؤمنين إلي حاجة ومالي إليه حاجة، وإن حاجته لي لغير مقضية، فرجع الرسول فأخبره، فقال: ارجع وقل له: إنما أريد أن أكلمك ولا تحركه، فرجع إليه وقال: أجب أمير المؤمنين، فرد عليه مثل ما قال أولاً، فقال: الرسول لولا أنه تقدم إلي فيك ما ذهبت إليه إلا برأسك، يرسل إليك أمير المؤمنين يكلمك تقول مثل هذا، فقال: إن كان يريد أن يصنع بي خيراً فهو لك، وإن كان يريد غير ذلك فلا أحل حبوتي حتى يقضي ما هو قاض.
وعن قتادة قال: أتيت سعيد بن المسيب وقد ألبس تبان شعر، وأقيم في الشمس تعذيباً له، فقلت لقائدي - قتادة رجل ضرير لكن يطلب العلم ويأخذ عن سعيد بن المسيب - فقلت لقائدي: أدنني منه، فأدناني فجعلت أسأله - قتادة يسأل سعيداً وهو في الشمس يعذب- فجعلت أسأله خوفاً من أن يفوتني -أخشى أن يفوتني فيموت قبل أن أسأله ما في نفسي- وهو يجيبني حسبة والناس يتعجبون! أما قضيته في تزويج ابنته فهي مشهورة معلومة، فهي تضرب مثلاً للآباء الذين لا يضعون العراقيل أمام زواج بناتهم، ولا يغالون في المهور، ويرأفون بالشاب الصالح، كانت بنت سعيد قد خطبها عبد الملك لابنه الوليد، فأبى عليه مع أنه ابن الخليفة، فلم يزل يحتال عليه فأبى، حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد، وصب عليه جرة ماء، وألبسه جبة صوف، فلم يرضخ، فهو ليس الرجل المناسب، وكان من تلاميذه كثير بن أبي وداعة، قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: توفيت زوجتي فاشتغلت بها، فقال: ألا أخبرتنا فشهدناها، ثم قال: هل استحدثت امرأة فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني ولا أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال: أنا، قلت: وتفعل؟ قال: نعم.
ثم تحمد، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجني على درهمين أو ثلاثة، فقمت وما أدري من شدة ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي، وجعلت أتفكر ممن أستدين، فصليت المغرب ورجعت إلى منزلي، وكنت صائماً، فقدمت عشائي أفطر، وكان خبزاً وزيتاً، فإذا بابي يقرع، فقلت: من هذا؟ قال: سعيد، ففكرت في كل من اسمه: سعيد إلا ابن المسيب، فإنه لم ير أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فخرجت وإذا سعيد، فظننت أنه قد بدا له -يمكن غير رأيه- فقلت: يا أبا محمد ألا أرسلت إلي فآتيك، قال: أنت أحق أن تؤتى؛ إنك كنت رجلاً عزباً، فتزوجت وعقدنا لك، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة من خلفه في طوله من خلف الباب، ثم أخذ بيدها فدفعها في الباب ورد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم وضعت القصعة في ظل السراج لكي لا تراه فأول عيشتها خبز وزيت، ثم صعدت إلى السطح فرميت الجيران، فجاءوني فقالوا: ما شأنك؟ فأخبرتهم ونزلوا إليها، وبلغ أمي فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام، فأقمت ثلاثاً، ثم دخلت بها فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحق الزوج -هذه تربية العلماء لأولادهم وبناتهم، هذه تربية العلماء لبناتهم- فمكثت شهراً لا آتي سعيداً -يأخذ عن بنت سعيد الآن- ثم أتيته وهو في حلقته، فسلمت، فرد عليَّ السلام، ولم يكلمني حتى تقوض المجلس، فلما لم يبق غيري قال: ما حال الإنسان؟ قلت: خير يا أبا محمد، على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا، فانصرفت إلى منزلي فوجه إلي بعشرين ألف درهم، قال عبد الرحمن بن حرملة: دخلت على سعيد بن المسيب وهو شديد المرض، وهو يصلي الظهر وهو مستلقٍ يومئ إيماءً، فسمعته يقرأ بالشمس وضحاها.(211/47)
الربيع بن خثيم من عباد التابعين
والربيع بن خيثم الإمام القدوة العابد من عقلاء الرجال، قال له ابن مسعود: يا أبا يزيد لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك، وما رأيتك إلا ذكرتُ المخبتين، ما تكلم الربيع بن خثيم بكلام منذ عشرين سنة إلا بكلمة تصعد، أي: من الكلم الطيب كله، وعن بعضهم قال: صحبت الربيع بن خثيم عشرين عاماً ما سمعت منه كلمة تعاب، إنهم أناس يحفظون كلامهم، وعن الثوري عن أبيه قال: كان الربيع بن خثيم إذا قيل له: كيف أصبحتم؟ قال: ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا.(211/48)
سعيد بن جبير وثباته أمام الحجاج
وسعيد بن جبير الذي قرأ القرآن على ابن عباس، قال: ربما أتيت ابن عباس فكتبت في صحيفتي حتى أملؤها، وكتبت في نعلي حتى أملؤها، وكتبت في كفي، وكان لا يدع أحداً يُغتاب عنده، وعن الربيع بن أبي صالح قال: دخلت على سعيد بن جبير حين جيء به إلى الحجاج، فبكى رجل فقال سعيد: ما يبكيك؟ قال: لما أصابك، الآن الحجاج سيقتلك، قال: فلا تبك، كان في علم الله أن يكون هذا، ثم تلا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] ولما جيء بـ سعيد بن جبير وطلق بن حبيب وأصحابهما، دَخلتُ عليه السجن، فقلت: جاء بكم شرطي من مكة إلى القتل؟ أفلا كتفتموه وألقيتموه في الطريق -تغلبتم عليه فأنتم اثنان وهو واحد- ألا كتفتموه وألقيتموه في البرية؟ قال سعيد: فمن كان يسقيه الماء إذا عطش؟ وكان قد فر من الحجاج لكنه في النهاية ثبت، وقال: والله لقد فررت حتى استحييت من الله، ولما علم فضل الشهادة ثبت للقتل ولم يقترف ولم يعامل عدوه بالتقية، وكان لـ سعيد بن جبير ديك يقوم من الليل على صياحه، فلم يصح ليلة من الليالي حتى أصبح، ففاتت الصلاة على سعيد، فشق عليه ذلك، فقال: ماله؟ قطع الله صوته - سعيد بن جبير يقول عن الديك الذي لم يصح تلك الليلة: ماله؟ قطع الله صوته- فما سمع للديك صوت بعد ذلك، فقالت له أمه: يا بني! لا تدع على شيء بعدها.(211/49)
زين العابدين وصدقته في ظلمة الليل
وهذا زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، كان يدخل المجلس فيشق الناس حتى يجلس في حلقة عبد من العبيد مولىً من الموالي هو زيد بن أسلم وهو من هو؟ زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان يقول له نافع بن جبير: غفر الله لك أنت سيد الناس، وتأتي حتى تجلس مع هذا العبد، فقال علي بن الحسين: العلم يبتغى، ويؤتى، ويطلب حيث كان، وكان يقول: يا أهل العراق! أحبونا حب الإسلام، ولا تحبونا حب الأصنام.
وكان يتذلل إلى الله تعالى بفناء الكعبة، وإذا أحرم ولبى ربما غُشي عليه، وإذا صلى أخذته رعدة وهيبة ممن يناجي، وكان يحمل الخبز في الليل على ظهره يتبع به المساكين في الظلمة، وربما قال: إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب.
وكان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين يأتي معاشهم، يأتيهم الطعام ولا يدرون المصدر، فلما مات علي بن الحسين فقدوا الطعام، فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم بالليل، ويضع الطعام على باب بيوتهم، ولما مات وجدوا بظهره أثراً مما كان ينقل الجرب بالليل إلى منازل الأرامل، ولما مات وجدوه يعول مائة بيت، وهو لما حج هشام بن عبد الملك قبل أن يتولى الخلافة كان إذا أراد أن يستلم الحجر زُوحم عليه، وإذا دنا علي بن الحسين من الحجر تفرقوا عنه إجلالاً له فوجم هشام وقال: من هذا فما أعرفه؟ فأنشأ الفرزدق وكان حاضراً يقول:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم
إلى أن قال:
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا
وهو النبي صلى الله عليه وسلم.(211/50)
عروة بن الزبير أحد الفقهاء السبعة
وعروة بن الزبير بن العوام عالم المدينة وأحد الفقهاء السبعة، قال: لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حجج وأنا أقول: لو ماتت في اليوم ما ندمت على حديث عندها لأني وعيت كل الأحاديث، وقد كان يبلغني من الصحابي الحديث فآتيه فأجده قد قال -من القيلولة- فأجلس على بابه حتى يخرج وأسأله عنه، وكان يقرأ ربع القرآن كل يوم في المصحف نظراً، ثم يقوم به في الليل، وإذا كانت أيام الرطب سلم حائط البستان الذي له، وأذن للناس أن يدخلوا، فيدخلون فيأكلون ويحملون، وقد ابتلاه الله عز وجل بابتلاء عظيم فصبر، فإنه قد قدم في أحد السنوات على الوليد ومعه ابنه محمد وكان ابنه محمد بن عروة بن الزبير من أحسن الناس وجهاً، فأصابه بالعين بعضهم، فخرج الولد متوسلاً به نعاس، فوقع في اصطبل للدواب فلم تزل الدواب تطؤه بأرجلها حتى مات، وبعدها بقليل حدث أن الآكلة وقعت في رجل عروة فبعث إليه الوليد الأطباء فقالوا: إن لم تقطعها سرت إلى باقي الجسد فتهلك، فعزم على قطعها، فقالوا: لو سقيناك شيئاً كي لا تتوجع، قال: إنما ابتلاني ليرى صبري، فنشروها بالمنشار، فقطعها الطبيب من نصف الساق فما زاد أن يقول: حسبي، فقال الوليد: ما رأيت شيخاً أصبر من هذا.
فلما صار المنشار إلى قصبة الساق وضع رأسه على الوسادة ساعة؛ فغشي عليه، ثم أفاق والعرق يتحدر من وجهه، وهو يقول: لا إله إلا الله والله أكبر، فأخذ رجله المقطوعة وجعل يقبلها في يده ثم قال: أما والذي حملني عليك إنه ليعلم -سبحانه وتعالى- أني ما مشيت بك إلى حرام، ولا إلى معصية، ولا إلى ما يسخط الله، ثم أمر بها فغسلت وطيبت ولفت في قطيفة وبعث بها إلى مقابر المسلمين، فلما رجع إلى المدينة وقد أصيب بولده ورجله تلقاه أهل بيته وأصدقاؤه يعزونه، فما زاد أن يقول: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} [الكهف:62] وكان يقول: اللهم إنه كان لي بنون سبعة فأخذت واحداً وأبقيت لي ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت طرفاً وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليت لقد عافيت ولئن أخذت لقد أبقيت.(211/51)
ابن سيرين وزهده وورعه
وهذا ابن سيرين العالم إذا سئل عن الحلال والحرام تغير لونه حتى نقول: كأنه ليس بالذي كان، وذلك ورع من الفتيا، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يبر أمه ولم ير رافعاً صوته عليها قط، كان إذا كلمها كهيئة المصغي إليها، وكان إذا كان عند أمه لو رآه رجل لا يعرفه ظن أن به مرضاً، من شدة ما يخفض صوته عند أمه.
هذه طائفة من سيرة أولئك النفر الذين قيضهم الله لحمل دينه ونشر دعوة نبيه، ضربوا لنا الأمثال في التقوى والورع والزهد والعبادة والتعليم والشجاعة والجرأة والجهاد والصبر وبر الوالدين والآداب العظيمة، هؤلاء أيها الإخوة حري بنا فعلاً إن كنا نريد أن نكون اليوم نحن حملة الرسالة، وأن نكون نحن من الطائفة التي يكون إنقاذ الأمة على أيديها، أن نبلو أخبارهم وأن نقتدي بهم، وفي التاريخ سطر كثير من العبر من حياة أولئك القوم، وإن تربية لا تأخذ في عين الاعتبار سير أولئك الكرام لهي تربية ناقصة، ونحن اليوم أشد ما نكون إلى معرفة هذه السير للتأسي والعمل، نحن بأشد حاجة إلى تربية متكاملة، ولذلك كنا نقول اليوم: جوانب التكامل في شخصيات السلف تربية متكاملة لا تركز على العبادة فقط، ولا على العلم فقط، ولا على الآداب فقط، ولا على الجهاد فقط، ولا على العقيدة وأمورها النظرية فقط، وإنما تلم كل ذلك وتحويه، وكل نقص في أبناء الإسلام اليوم مرده إلى عدم التكامل في التربية، وضعفت هذه التربية، ولن نستطيع أن نجابه كفار الشرق والغرب بنفوس مهلهلة وضعيفة، ونحن نعلم أن الدنيا ما فتحت لأسلافنا إلا لما كان فيهم أمثال من ذكرنا، في صفات أعظم، وما ذكرنا قطرة من بحر، ولذلك فإننا نرى اليوم ونحن نتطلع إلى فجر إسلامي قادم، أن طلائع الصحوة هذه لا يمكن أن تثبت وأن تؤدي دورها في العالم الآن إلا إذا ربيت التربية على منهاج هؤلاء السلف، وتخلقت بمثل أخلاق أولئك السلف.
وإن الوصية العظيمة في الاقتداء بهم والتأسي بأفعالهم لهي أمر متعب جداً؛ لأن جمع الفضائل لا يطيقه كل أحد، فإن الإنسان قد يجمع فضيلة أو فضيلتين، وقد ينشط في نوع من أنواع العبادة، أو يتجلد في بعض مجالس العلم أو في قراءة كتاب أو كتابين، لكن الجمع والتكامل مع الاستمرار على ذلك هذا هو الذي في غاية الصعوبة، وهو الذي نحتاج إليه اليوم في أشد الحاجة.
وإننا أيها الإخوة في هذا العصر الذي ضعف فيه أهل الإسلام لنرى من بصيص الأمل والنور أمراً كبيراً ولله الحمد، في أن الله سبحانه وتعالى لن يخلي هذه الأمة من مجددين ومجاهدين ومصلحين، ونحن نسمع اليوم من أخبارهم في الواقع من جرأتهم وجهادهم وصبرهم ودعوتهم ما هو فعلاً أمل في الله كبير بأن ينصر الإسلام وأهل الإسلام، ولكن نرجو أن نكون نحن من هؤلاء، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن لهم حظ وافر من نصر الدين وأهله، وأن يجعلنا ممن يحملون لواء هذا الدين ويتبعون سنة سيد المرسلين.(211/52)
الأسئلة(211/53)
نصيحة في الاطلاع على سير الصحابة والسلف وكتبهم
السؤال
من الملاحظ أن بين الصالحين والدعاة ضعفاً في العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والسير والتاريخ، ونجد كثيراً من الملتزمين لا يعرف بعض الكتب المهمة في السيرة كـ البداية والنهاية، وسير أعلام النبلاء، ولا يفتح هذه الكتب، فما هو التعليق؟
الجواب
هذا من القصور ومن ضعف الهمة، فإن بعض الشباب إذا رأى كتباً طويلة متعددة المجلدات هاب أن يفتحها، وأنا أقول: افتح ما تيسر منها، واقرأ ما تيسر، ومن الأسباب التي ربما حملت بعض العلماء على اختصار بعض الكتب: معالجة مسألة ضعف الهمة الموجودة عند مثل هؤلاء القوم.
فأقول: أيها الإخوة! لابد أن نحرص على القراءة في تاريخ المسلمين وأوصيكم بكتابين: البداية والنهاية لـ ابن كثير وسير أعلام النبلاء للذهبي، وهو مختصر في ثلاثة مجلدات لمن لا يطيق القراءة في الكتاب الكبير، فإنه يمكن أن يرجع إليه ويستفيد أمراً عظيماً، ووالله الذي لا إله إلا هو لو أنك فتحت هذه الكتب بقلب مفتوح مقبل على الله؛ لربما دمعت عيناك من موقف صحابي، أو خشعت لله من عبادة أحد السلف، أو حصل في قلبك نوع من الخلق ما كان موجوداً من شدة ما تجد وأنت تقرأ، المهم هو التفاعل مع هذه القصص وتحس وأنت تقرأ فيها أنك انتقلت إلى ذلك الجو العطر، وأنك ابتعدت عن هموم هذا العالم المليء بالترهات، الذي يجلب الصداع للإنسان عندما يفكر، ولكن أقول: هناك شيء مهم كنت بالأمس قد سجلت سؤالاً من فترة ثم تسنى لي أن أسأل عنه الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله سؤالاً فيه إزاحة لجزء كبير من الهم، وفيه باب مهم من الأبواب، قلت له بنص السؤال: هل يؤجر الشخص على تفكيره بمصلحة الإسلام؟ يعني: لو أن شخصاً استلقى على فراشه ثم قعد يفكر في المسلمين ومشاكلهم وأوضاعهم في العالم، والأقليات الإسلامية، وأوضاع الجهاد، وأسباب تفرق المسلمين واختلافهم، وما هي الوسيلة المثالية في جمعهم؟ وكيف تكون الدعوة والتربية وطريق الدعوة ووسائل الدعوة؟ وكيف يبدأ بالدعوة والتربية وما هي الأشياء التي يتربى عليها؟ وموضوع الإخوة في الله، وكيف يلم شعث إخوانه؟ ويفكر بمسائل وأوضاع المسلمين في العالم ما يحصل لهم الآن هل يؤجر الشخص على تفكيره بمصلحة الإسلام مجرد التفكير وهو مستلقٍ على فراشه؟ أو هكذا ساهم وهو يقود السيارة مرة من المرات يفكر في أوضاع المسلمين، فقال الشيخ: لا شك أنه يؤجر، كيف لا يؤجر؟ وقلت: وهو مستلقٍ على فراشه؟ قال: نعم.
يؤجر وهو مستلقٍ على فراشه يفكر في مصالح المسلمين، يفكر في مصلحة الإسلام.
فالذي يجعل الإسلام همه، ويفكر دائماً بمصلحة الإسلام على الأقل يأخذ من الأجر، يخرج بأجر عظيم وهو يفكر.(211/54)
المرء مع من أحب
السؤال
إن بعض الشباب قد يوهم عليه الشيطان أنه لا يستطيع أن يعمل عملاً كأعمال بعض الصحابة فيستصعب ذلك، فما هي النصيحة؟
الجواب
هذا واقعي وصحيح ونحن نعترف أنه لا يمكن ونحن في قصورنا وضعف إيماننا أن نعبد الله كما عبده الصحابة، ولا أن تكون فينا الميزات التي كانت في الصحابة، لكن -أيها الإخوة- إن التشبه بالكرام فلاح، ونحن نعلم أننا لن نصبح مثلهم لكن لا بد أن نجاهد لكي نحصل شيئاً مما حصلوه، وما يدريك ربما تكون أنت داخلاً في حديثه عليه الصلاة والسلام: (المرء مع من أحب) ربما إذا أنت قرأت في سيرة سعد بن معاذ، وتفكرت فعلاً في هذا الرجل العظيم الذي ضحى بالملك وقام وقاتل وبذل لله سبحانه وتعالى، وما أُصيب المسلمون في رجل مثل سعد بن معاذ، فقلت في نفسك: اللهم احشرني مع سعد، من حبك له قلت: اللهم احشرني مع سعد، ربما يكون هذا من أسباب نجاتك يوم القيامة فـ (المرء مع من أحب) وقد جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم) لا صلاة مثلهم، ولا صيام مثلهم، ولا جهاد مثل جهادهم (قال: المرء مع من أحب قال الصحابة: ما فرحنا بشيء فرحنا بتلك المقولة وذلك الحديث).(211/55)
حكم من يعيش في البيت مع غير محارمه
السؤال
أهل أخي يعيشون معنا في البيت وهي لا تتغطى.
فهل يجوز أن أجلس معهم؟
الجواب
أنت تنكر، وتجلس وتغض البصر، وتنكر عليهم فعلهم ذلك، فإذا لم تتمكن من غض البصر فتفارق ذلك المجلس.(211/56)
ذكر مراجع تتكلم عن آل البيت
السؤال
لماذا نحن لا نعرف شيئاً عن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أني قرأت كتب الأحاديث ففهمت أن حبهم واجب، وقوله: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به وأذكركم أهل بيتي) الصالحون من أهل بيته هم الذين يتبعونه؟
الجواب
الحقيقة هذا الموضوع مهم، من مواضيع العقيدة محبة آل بيت رسول الله والاقتداء بالصالحين منهم، وقد ذكرنا منهم زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى، ولعله يتاح هناك مجال معين لتبيين مراجع موثوقة لموضوع العقيدة في آل البيت إن شاء الله.(211/57)
كيفية تقوية الإيمان في حب الصالحين
السؤال
إني أحب الشباب الملتزم، وأريدهم أن يكونوا أصدقائي، لكني ضعيف النفس أفعل المخالفات الشرعية، كيف أجعل صدق حبي للملتزمين يترجم على صدق إيماني؟
الجواب
خذ منهم ما تراه موافقاً للإسلام، خالطهم وتشبه بهم، استنصحهم واقتد بهم، رافقهم والزمهم، فلاشك أنك ستتأثر عاجلاً أم آجلاً، سيرتفع إيمانك مثل هؤلاء الأشخاص، وأقول مرة أخرى: (المرء مع من أحب) وربما يكون قصورنا مغفوراً لنا بسبب محبتنا لأشخاص من أولياء الله الصالحين.(211/58)
ضرورة ضبط النفس عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
رجل أراد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فاتهم الشخص الذي أمامه بالكفر؟
الجواب
هذا الأمر خطير، فإذا كان الرجل ما أبدى كفراً بواحاً فلا يجوز لنا أن نرميه بالكفر، ولو كنا في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستلزم ضبط النفس؛ لأن الشخص المجادل الذي أمامك قد يستفزك، وبعض الشباب إذا أراد أن ينهى عن المنكر وهناك شخص يستفزه في المجلس ويجادله بالباطل ربما تَسرع فأطلق عليه كلمة الكفر، فلابد من ضبط النفس عندما نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر.(211/59)
حكم من فضَّل علياً على أبي بكر
السؤال
ما رأيك فيمن يفضل علياً رضي الله عنه على أبي بكر الصديق؟
الجواب
لقد أزرى بالمهاجرين والأنصار بفعله هذا.(211/60)
ضوابط تتعلق بموضوع المساهمة
السؤال
ما حكم الاشتراك في المساهمات؟
الجواب
ذكرنا في خطبة الجمعة بعض الضوابط التي تتعلق بموضوع المساهمة فذكرنا أنه ينبغي أن يكون مجال عمل الشركة حلالاً كالزراعة والصناعة وغير ذلك.
ثانياً: ألا يكون عندهم تعاملات محرمة كالتعامل بالربا، وذكرنا بعض الوسائل التي يعرف منها بعض هذه الأمور إذا كانت موجودة أم لا، لكن لابد أن تتثبت وتسأل وتتأكد، وإذا ما وجدت شيئاً حراماً خذ بالظاهر، وإذا أردت أن تشارك وتساهم لا أحد يمنعك، فإذا اكتشفت حراماً في المستقبل فتتخلص من الأسهم حالاً، وما نتج عنها في وقت جهلك بالمحرم الذي لديهم فهو لك، وما جاء منها وأنت تدري بالمحرم من الذي عندهم يجب أن تتخلص منه ولك رأس مالك، وبعض الناس مع الأسف لا يتأكدون ولا شيء من ذلك، وربما يكون مساهمة في بنك يقوم بها البنك موضع شبهة، فبمجرد ما يكتب له البنك: أنت معرض للربح أو الخسارة قال: هذه مساهمة إسلامية، فهل عرفت أنهم يتاجرون بماذا؟ وهل طريقتهم في شراء وبيع العملات صحيحة؟ وهل طريقتهم في شراء وبيع الذهب صحيحة؟ هل يدخلون أشياء في الربا ويعطونك أرباحاً في الربا؟ فبعض الناس يُضْحَك عليهم بأشياء من هذه الشعارات التي تكتب: معرض للربح والخسارة إذاً حلال، لابد أن تسأل وتتأكد، ثم أي عمل استثماري يقوم به البنك فهي مسألة شبهة ولا شك، بنك ربوي شبهة، وبعض الناس مع الأسف اندفاعاتهم عجيبة فلا يتأكدون المهم الربح يقول: هذا مشروع لابد، حتى اسم الشركة فقد اتصل بي شخص يقول لي: ما هو الحكم في الاشتراك في شركة فاصوليا؟ فاصوليا يا أخي هذه تباع في سوق الخضرة! يعني: حتى اسم الشركة المهم يشترك ويذهب أحدهم مثل المجنون يسأل أين الفاصوليا؟ دون أن يتحرى.
فمسألة التحري عند الناس فيها خلل واضح فالمهم عندهم جمع المال أولاً، ويأتي بعد ذلك السؤال هل هي حلال أم حرام.(211/61)
حكم من ترك صلاة الوتر والضحى
السؤال
ما هو حكم من ترك صلاة الوتر والضحى؟
الجواب
بعض العلماء يفسق تارك السنة، وصلاة الوتر أوكد من صلاة الضحى، ولاشك في المحافظة عليها ولو على الأقل ركعة.(211/62)
حكم من عمل بدون راتب ابتغاء الأجر
السؤال
أعمل في دائرة عملاً إضافياً بدون راتب، فأنا أريد أن أعمل ذلك للأجر، ولكن الناس يقولون: لا تعمل إلا براتب؟
الجواب
هذا جيد فإذا أردت أن تعمل لوجه الله عملاً إضافياً وأُعطيت مالاً، فخذه وتصدق بهذا الأجر الإضافي ويكون عملك إن شاء الله لوجه الله وأجرك محفوظ.(211/63)
حكم لبس الأحمر من الثياب
السؤال
هل يجوز لبس الفنيلة الحمراء؟
الجواب
لا.
لا تلبس أحمر قانياً لما ورد من النهي عن لبس الأحمر، وإنما البس الأحمر إذا كان مخططاً أو فيه خطوط.(211/64)
حكم استئجار الذهب ليلة العرس
السؤال
هل يجوز استئجار الذهب في ليلة العرس؟
الجواب
يمكن أن يستأجر الحلي استئجاراً ويرجعه، لكن المهم أنه لا يتشبع بما لم يعط، فتقول المرأة: انظري ماذا أهدي إلي، وهو مستأجر، انظري ماذا أعطاني زوجي، وهو مستأجر، فهذا (من تشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور).(211/65)
حكم كشف المرأة لخطيب ابنتها
السؤال
هل يجوز لأمي أن تكشف حجابها لخطيب أختي؟
الجواب
لا.
لأنه لازال خطيباً ولم يصبح زوجاً، فإذا تزوج وعقد كشفت له.(211/66)
حكم كشف والدة زوج البنت أمام أبي البنت
السؤال
هل يجوز لأبي أن يكشف على والدة زوج أختي؟
الجواب
لا.
لأنه ليس هناك علاقة نسب ولا مصاهرة ولا رضاعة.
فختاماً: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص، والاستقامة والسداد، في القول والعمل، وأن يرزقنا حسن الختام، وأن يتوب علينا أجمعين، ويهدينا الصراط المستقيم، والله تعالى أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.(211/67)
حكم المشاركة في أعياد الكفار
من أعظم البدع والضلالات مشابهة الكفار من اليهود والنصارى، ومن أعظمها مشابهة الكفار ومشاركتهم في أعيادهم قولاً وفعلاً.
وفي هذه الخطبة بيان مفصل لما يجب على المسلمين تجنبه من أعمال وتصرفات في أيام عيد الكفار؛ لأنها دليل المشابهة والمشاركة، والتي تورث التعارف والتآلف وتلغي حقيقة الولاء للمسلمين والبراء من الكفرة والمشركين.(212/1)
حث الشريعة على الاتباع ونبذ التشبه بالكفار
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
ومن أعظم البدع والضلالات التي هي في النار مشابهة الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم، ومن مقاصد شريعة الإسلام تمييز شخصية المسلم عن كل ما يخالطها من شعائر أهل الكفر، لتبقى هذه الشخصية نقية متميزة عن غيرها من شخصيات أهل الأرض، ومن مقصود هذا الدين إعلاء الإسلام وعزله عن شوائب الشرك، وإظهار ميزاته وتفرداته عن سائر الملل والأديان، ولذلك كان من أخص خصائص هذا الذين اتباع السنة والابتعاد عن مشابهة الكفار في كل صغيرة وكبيرة، ولذلك فإنك تجد ربنا عز وجل قد تكلم بهذه الآيات الدالة على تمييز الملة الإسلامية وأهلها عن سائر الملل: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:48] ويقول: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48].
فشريعتكم غير شريعتهم، ومنهاجكم غير مناهجهم: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:5 - 6] ودينكم غير دينهم، وجاءت هذه الملة الحنيفية ناسخة لسائر الملل من قبلها، مستعلية عليها، وصار هذا الإسلام بحمد لله دين الله القويم، وكان مهيمناً على الدين كله من قبل.
ولذلك تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين بقوله: (من تشبه بقوم فهو منهم) وهذه قاعدة أساسية من قواعد هذا الدين في تحريم التشبه بالكفرة، وقال في أكثر من مناسبة: (خالفوا المشركين) وأنت تقرأ في الصلاة سورة الفاتحة، وفيها قول الله عز وجل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] لا اليهود ولا النصارى، بل اهدنا لطريق الحق وسبيله الذي ليس مثل سبيل اليهود ولا سبيل النصارى.
اهدنا الصراط المستقيم، صراطاً مستقيماً لا يشابه سبيل اليهود ولا النصارى ولا سائر الكفار، ولذلك نجد في شريعتنا الأمر بمخالفة الكفرة في كثير من الأمور منها: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، والصلاة بالنعال خصوصاً إذا كان المكان مناسباً، وتوجيه قبور المسلمين إلى الكعبة بخلاف قبور الكفار، وكثير جداً من الأمور التي أُمرنا فيها بمخالفة الكفار وعدم مشابهتهم، حتى صيام يوم عاشوراء نصوم يوماً قبلهم أو يوماً بعدهم تحقيقاً لهذه المخالفة، ونحن أحق بموسى منهم وهو يوم نجى الله فيه موسى، ولكن تمعناً في المخالفة، حتى أن اليهود تضايقوا أشد المضايقة فقالوا: ما ترك صاحبكم شيئاً إلا خالفنا فيه.(212/2)
ارتباط الأعياد بالعقائد
ومن الأمور الخطيرة التي أُمرنا بمخالفتهم فيها: قضايا الأعياد، والعيد اسم لما يعود ويتكرر، وقد يكون عيداً سنوياً، أو شهرياً، أو أسبوعياً، أو أكثر من ذلك، فسمي عيداً، ونحن المسلمون لنا ثلاثة أعياد فقط، عيدان سنويان وعيد أسبوعي، عيد الفطر وعيد الأضحى في السنة، والجمعة عيد الأسبوع، وليس لنا أعياد أخرى غير هذه البتة، والعيد يرتبط بالعقيدة ارتباطاً وثيقاً، وليس هو مناسبة فرح وعادات فقط، والذي يظنون أن الأعياد مسألة عادات فقط فهم أناس ما فقهوا دين الله، لا عندنا ولا عند غيرنا، الأعياد مرتبطة بالدين.
فانظر مثلاً عيد الفطر يعقب صوماً، وفيه زكاة الفطر وصلاة العيد أهم شعائر ذلك اليوم، وعيد الأضحى بالإضافة للصلاة هناك نحر الأضحية تقرباً إلى الله، وهو أعظم أيام السنة، والأيام التي بعده من أيام التشريق أيام أكل وشرب، وتأمل كيف أن الشارع أمر بالفطر في هذين اليومين وحرم الصيام يومي العيد.
فالمسألة إذاً مرتبطة بالدين وليست مسألة عادات، وعند الكفرة من اليهود والنصارى أعيادهم أيضاً مرتبطة بدينهم ويقومون فيها بطقوس من صميم عقيدتهم، وليست قضية عادات وتقاليد.(212/3)
أدلة وجوب مخالفة اليهود والنصارى في أعيادهم
ومن الأدلة الدالة على وجوب مخالفة اليهود والنصارى في أعيادهم وعدم مشاركتهم فيها البتة، قول الله عز وجل: ((وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)) [الفرقان:72] فهي صفة مهمة من صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72].
قال محمد بن سيرين: هو عيد الشّعانين عند النصارى، عيد يقيمونه يوم الأحد السابق لعيد الفصل، ويحتفلون فيه بحمل السعف، ويزعمون أن ذلك ذكرى لدخول بيت المقدس.
فانظر إلى ارتباط العيد عندهم بقضية دينية وليست قضية عادات وتقاليد.
وقال مجاهد: الزور أعياد المشركين.
وكذا قال الربيع بن أنس.
وقال عكرمة: لعبٌ كان لهم في الجاهلية مؤقت بأوقات معينة.
وعن الضحاك قال: عيد المشركين.
وقال بعضهم: لا يشهدون الزور أي: لا يمالئون أهل الشرك على شركهم، ولا يخالطونهم.
فإذاً هذه الآية: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] نص صريح في عدم جواز مشاركة الكفار في أعيادهم، وإذا كان الله قد قال: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ} [الفرقان:72] مجرد الشهود والحضور لا يجوز، فكيف بالمشاركة والممارسة معهم لأحوال ذلك اليوم وذلك العيد! وانظر كيف سماه الله زوراً، وهذا من أدلة التحريم: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] فسماها زوراً، وروى أبو داود عن أنس قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ولأهل المدينة يومان من أيام الجاهلية يلعبون فيهما فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر) إسناده صحيح على شرط مسلم.
والإبدال يقتضي ترك المبدل، فبدلهم الله بهذين اليومين يومين آخرين هما الفطر والأضحى، وهذا يقتضي ترك الأيام السابقة، وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: (نذر رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً بـ بوانة -موضع قريب من مكة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان فيهما وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك) بعد أن تأكد بأنه ليس في هذا الموضع مكان لعيد للكفار ولا وثن من أوثانهم، وإسناده صحيح على شرط الشيخين وأصله فيهما.
فإذا كان صلى الله عليه وسلم نهى عن الذبح في مكان العيد مع أنه قد لا يكون في ذلك الوقت عيد، لكن مجرد أن هذا المكان يجتمعون فيه يوماً من الأيام لا يجوز الذبح فيه؛ لعدم إحياء تلك البقعة؛ لأن المشركين يعيدون فيها، فكيف بمن وافقهم في نفس العيد؟ وكيف بمن فعل معهم بعض الأعمال التي تفعل في عيدهم؟ وبهذا الحديث يتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حريصاً أشد الحرص على طمس أعياد الكفرة وإزالتها، ودرسها وعدم إحيائها البتة، واقتلاعها من جذورها.
والعيد أيها الإخوة! عندنا وعند غيرنا، مع ما فيه من صلاة أو ذكر أو نسك، يجتمع معه عادات مثل التوسع في الطعام واللباس واللعب، فإذاً ليس العيد قضية فرح وتوسع باللباس والمأكل والهدايا فقط، وإنما هو مرتبط بالعقيدة وبالدين وبالملة.
ومن الأدلة أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل أبو بكر عليه يوم العيد وجد عنده جاريتان تغنيان في بيت رسول الله، فنهرهما أبو بكر فقال: (دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً وإن هذا عيدنا) عيدنا نحن مختص بنا، ولكل قوم عيد مختص بهم.
هذا دليل آخر على تميز المسلمين بأعيادهم وعدم مشاركة الكفرة، وبالمناسبة أقول: احتج بعض التافهين السفهاء بجواز الأغاني والمعازف الموجودة والمنتشرة بهذا الحديث، من الذي كان يغني؟ جاريتان صغيرتان، هل ورد في الحديث أن معهما معازف؟ كلا، إذاً هو بالصوت لبنتين صغيرتين، كلام طيب وإلا ما وافقه رسول الله، كلام طيب لبنتين صغيرتين بدون معازف، هل يدل على هذه الأغاني الموجودة الآن؟ اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
وكذلك حديث: (فإن الله أضل عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة) رواه مسلم.
ولذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن إفراده بالصوم لما فيه من معنى العيد.(212/4)
حكم المشاركة في أعياد الكفار
الأعياد من أهم ما تتميز به الشرائع والأديان، والمشاركة في أعياد الكفرة تتراوح بين المعصية والكفر، قد تكون معصية، وقد تكون كفراً، وفيها من المخاطر أمورٌ كثيرةٌ جداً، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه العظيم اقتضاء الصراط المستقيم بحثاً في هذا الموضوع، لا أظن أنه يوجد في مكان آخر لغيره، واشتكى فيه شيخ الإسلام رحمه الله من حال المسلمين المجاورين للكفار في بلادهم.
بلاد المسلمين واسعة، فمنها ما هو في القلب، مثل جزيرة العرب، ومنها ما هو في الأطراف، مثل حال بلاد الأندلس الملاصقة للنصارى ومنذ زمن كان الإسلام يهيمن على تلك الديار، فاشتكى شيخ الإسلام رحمه الله من تغير حال المسلمين الملاصقين لبلاد الكفار من تلك البلاد، فقال: لقد صار من حال المسلمين فيها أمراً عجيباً -معنى كلامه- قل علمهم وإيمانهم فصاروا يشاركون الكفرة في أعيادهم، حتى صارت مشاركتهم لأعياد الكفار أبهى في أنفسهم وأعظم من أعياد المسلمين، لما يفعلونه في أعياد الكفار من الهدايا والخروج والاجتماع والنفقات والكسوة للأولاد.
وإذا علمنا أيها الإخوة أنهم يشاركون النصارى في أكل البيض واللحم واللبن والخروج في الخميس إلى تبخير البخور، ويأخذون معهم ذبائح يزفونها بناقوس صغير، وكثير من المسلمين يفعلون ذلك كما ذكر شيخ الإسلام في ذلك الزمن، حتى أنه كان في يوم الخميس تبقى الأسواق مملوءة من أصوات هذه النواقيس الصغيرة، وكلام المنجمين، وتباع فيها صور الحيات والعقارب التي يلصقونها في بيوتهم؛ لزعمهم واعتقادهم أنها تمنع السموم، وتمنع العين، وكانوا يصبغون أبوابهم ومراكبهم ودوابهم بالطين الأحمر أو الخلوط مشابهة للنصارى لما يفعلونه، ويحملون أوراق الزيتون، ويكشفون رءوسهم لاعتقادهم بأن مريم تمر فوق رءوسهم فتنزل عليهم بالبركة.(212/5)
الشروط العمرية على أهل الذمة
إذا تأملنا في شروط أهل الذمة التي تمنع الوصول إلى هذا المستوى التي شرطها عليهم عمر رضي الله عنه، تعلمون عظمة هذا الدين، فإن عمر رضي الله عنه شرط على أهل الذمة توقير المسلمين، والقيام لهم من مجالسهم إذا أراد المسلمون أن يجلسوا فيها، ولا يتشبهون بهم في شيء، لا في اللباس ولا غيره، ولا يفرقون رءوسهم؛ لأن الفرق من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والإسدال من عادات اليهود والنصارى، فألزمهم بإسدال شعورهم وعدم فرقها، ولا يتكنون بكنى المسلمين ولا يتقلدون سيفاً ولا سلاحاً، ولا ينقشون خواتيمهم بالعربية، وأن يشدوا الزنانير على وسطهم حتى يتميزوا عن المسلمين، ولا يظهرون صليباً على كنائسهم ولا كتباً، ولا تبنى كنائس جديدة، وبالنسبة للكنائس القديمة في البلاد التي فتحها المسلمون، فلا يظهر الصليب فوق الكنيسة، ولا تباع كتبهم وأناجيلهم، ولا يضربون بنواقيسهم في الكنائس إلا ضرباً خفيفاً لا يسمع من خارج الكنيسة، ولا يرفعون أصواتهم في صلواتهم، ولا يبيعون خمراً، ولا يجاورون مسلماً بخنازير، ولا يخرجون في باعوث، وهذا عيد من أعيادهم، يخرجون فيجتمعون فيه، فإذا تأملنا هذه السنن التي شرطها عليهم أمير المؤمنين، كيف يوجد فيها من الصغار عليهم وإذلالهم، وكبت دينهم وشعائرهم حتى لا تظهر أمام المسلمين، تميزاً لهذه الملة وأهلها عن تقاليد الكفر وشعائرهم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يميزون هذا الدين، ويحافظون على نقائه، وصلى الله على نبينا محمد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(212/6)
حدوث المشابهة للكفار ومشاركتهم أعيادهم
الحمد لله الذي لا إله إلا هو لا شريك له، لم يكن له صاحبة، ولم يتخذ ولداً، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى سائر إخوانه من الأنبياء، وصحابته من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الإخوة! أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أننا سنقلد اليهود والنصارى، بلام التوكيد والنون: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، وحتى لو أن أحدهم نكح أمه علانية، لكان في أمتي من يفعل ذلك) وكلام رسول الله وحي يوحى، فهو لا ينطق عن الهوى، وما أخبرنا به قد حصل، فأنت ترى اليوم واقع بلاد المسلمين من جهة مشاركتهم للكفار في أعيادهم أمراً مؤلماً وواقعاً سيئاً، هذه المشابهة التي تهنئ فيها النصراني بعيد رأس السنة مثلاً، أو تشاركه فيه، فإن هذا إقرار ضمني منك ولو غير صريح على عقيدته ودينه ومنهجه.
إقرار غير صريح منك على هذا الأمر، بل إنهم سيغتبطون سروراً عندما يرون المسلمين يشاركونهم في أعيادهم، وإن المشرك ليتمنى أن موحداً يشاركه في عيده، لكي يحس بأنه لا فرق بين الأديان، وأن الكل سواء، ولا يحس بخطئه هو.
ومن المقاصد من وراء عدم مشابهة الكفار تحسيسهم بغربتهم وتحسيسهم بخطئهم، وأننا لماذا لا نشاركهم؟ لأنها خطأ، شرك، فعندما تشاركهم وتهنئهم كأنك تقول لهم: ليس عليكم ضير في هذا الدين، فنحن نفرح معكم، ونسر كما تسرون، وكم في هذا من إماتة لشعائر الإسلام! وكم في هذا من إقرار لأهل الباطل على باطلهم إقراراً لا يرضاه الله! ويتربى أطفالنا اليوم منذ الصغر على التشوق لهذه الأيام -أيام رأس السنة واحتفالات عيد الميلاد كما يقولون- لما يأتيهم من الهدايا والحلويات في هذه الأيام في كثير من بلدان المسلمين، فصار الأطفال من الصغر يتوجهون قلبياً لهذه الأيام.(212/7)
المشابهة والمشاركة تسبب التآلف
واعلموا أن مشابهة اليهود والنصارى بمشاركتهم في أعيادهم تجر إلى المشاركة في أمور أخرى تسبب نوعاً من التآلف معهم، ألا ترى أن أصحاب المهنة الواحدة! النجار يميل إلى نجار مثله، وصاحب سيارة الأجرة يميل إلى مثيله؛ لاشتراكهم في صنعة واحدة، وهي قضية دنيوية، بل إن الذي يسير في الشارع في سيارة ويرى أمامه سيارة مماثلة لسيارته التي يركبها تماماً، يشعر بنوع من التقارب لصاحب هذه السيارة شاء أم أبى، هذه الطبيعة ركبها الله في النفس، فإذا شاركناهم في أعيادهم؛ فإن هذا مشابهة لهم توجب تقارباً وتآلفاً شئنا أم أبينا.
كيف نشعر بعدائنا لليهود والنصارى، وكيف نشعر أن دينهم شرك، وكيف نتبرأ من شركهم ونعلن أن هذا لا يرضاه الله ثم نشاركهم في أعيادهم؟! لا يمكن أن يجتمعا.(212/8)
محرمات في أيام أعياد الكفار
واحذروا من طاعة كثير من النساء في مثل هذه الأيام اللاتي يردن الذهاب للتفسح والسفر في مثل هذه الأيام.
ومن الأشياء المحرمة تخصيص أيام معينة لطبخات معينة، كما يفعل اليهود والنصارى؛ مثل أكل رز باللبن في أيام معينة في السنة، أو البسيسة وربما تكون هي البسبوسة، أو العدس أو البيض المصبوغ كما يفعلون، بيض ملون بألوان مختلفة، يفعلونه في عيد من أعيادهم، مثل عيد الربيع عندهم وأعياد أخرى، يصبغون البيض بألوان مختلفة ويوزعونه على الأطفال، أو الاغتسال بغسالة ورقة الزيتون كما يعتقدونه، أو التعطيل في أيام عيدهم، تعطيل الصنائع والتجارات والوظائف، فإنها من أكبر المحرمات لما في ذلك من مشاركتهم في عيدهم، ويقول شيخ الإسلام رحمه الله مضيفاً: والواجب أن تجعل أيام عيدهم عندنا كسائر أيام السنة دون قطع، طمساً لهذا الدين المحرف، ولا يعين المسلم على التشبه بهم، ولا تجاب دعوتهم إلى ولائمهم في تلك الأعياد، وقال شيخ الإسلام: ولا تقبل هداياهم التي يهدوننا إياها بمناسبة عيدهم، تقول: لا.
آسف لا أقبل منك: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6].
وكذلك لا يجوز بيعهم ما يستعينون به على شعائر أعيادهم مثل الديك الرومي، وإذا علمت أن المشتري واحد منهم أو يريد أن يعينهم، لكن بيع الديك الرومي في سائر أيام السنة لا بأس به، وبيعه لمسلم بالطريقة العادية لا بأس به، لكن بيعه لكافر تعلم أنت أنه سوف يستعين به على إظهار شعائر دينه لأن من تقاليده في أعيادهم طبخ الديك الرومي فلا يجوز، ولا يجوز تأجيرهم الصالات ولا الفنادق لإقامة احتفالاتهم، لأن في ذلك رفعاً لدينهم وإظهاراً لأعيادهم، والله يأبى ذلك، وما يفعلونه ليلة خمسة وعشرين من ديسمبر، ويوم خمسة وعشرين من الشهر نفسه فيه من المنكرات ما الله به عليم، وفي الساعة العاشرة ليلاً أكثر من تسعين في المائة من الشعب الأوروبي والأمريكي يكونون سكارى في هذا اليوم، ويعملون الولائم ويخصصون لها الأكلات المعينة، ويلبسون ثياباً مثل ثياب المهرجين، وبعضهم يمثل دور بابا نويل كما يقولون، الذي يسمونه سنتا كلوز، شيخ بلحية بيضاء يوزع الحلويات على الأطفال، والبيت الذي ليس أمامه شجرة عيد ميلاد عندهم هو بيت بؤس وتعاسة، حتى أن فقراءهم يتقاسمون هذه الشجرة، ويزينونها بالأنوار، ويجعلون الحلويات التي تقدم إلى الأطفال على شكل عكاز بابا نويل، وطبعاً بعض أطفال المسلمين يشترون ذلك ويأكلون منه، أو على شكل دمى مثل بابا نويل أو غيره.
وقبل الساعة الثانية عشرة ليلاً بدقيقة تطفأ الأنوار في رأس السنة، وترتكب أنواع الفواحش، يودعون السنة التي أعطاهم الله إياها بأنواع الفواحش.
ويقولون: وألقى كثير من الشباب المخمرين أنفسهم في النافورة الكبيرة المشهورة في ميدان الطرف الآخر في مدينة لندن، يشربون الخمر ويلقون أنفسهم في النوافير ابتهاجاً في تلك الليلة بهذا اللعب.
وما يحدث من المسلمين من المشاركة سيأثمون عليه عند الله إن لم يغفر الله لهم، ويتوبوا إلى الله من هذا، مثل إرسال بطاقات المعايدة لهم المخصصة لتلك الأعياد، أو تهنئتهم مثلما يقولون: هبي النورين ونحو ذلك، أو ميري كرسميس ونحو ذلك، ولا يجوز تبادل الهدايا بهذه المناسبات، وبعض المسلمين يتعمد زيارة الكفار في بيوتهم مع ما فيها من المنكرات والفواحش بيتاً بيتاً، وبعض المسلمين يسافرون إلى بلاد أخرى لحضور هذه المناسبات، وبعض المسلمين يشترون الهدايا لأولادهم في هذه المناسبات، حتى أنهم شابهوا الكفرة في إعطاء الشراب الأحمر للطفل الصغير ليجمع فيه الحلويات والهدايا واللعب، ويضعونها لهم تحت وسائدهم، كما يفعل النصارى.
وتوقد الشموع في هذه المناسبات، وتجلب الأشجار حتى وهي اصطناعية.
وبالمناسبة حتى تعلموا أن القضية متعلقة بالدين، وليست قضية عادات وتقاليد وأفراح فقط، يزعمون أن هذه الشجرة هي التي ولد عيسى تحتها، فهي شجرة خير وبركة، فلذلك يجلبونها ويضعونها ويزينون بها مقدمات بيوتهم وأبوابها.
وبعض المسلمين من السذج البسطاء يقولون: لماذا تقيمون الدنيا وتقعدونها، هم يهنئوننا في أعيادنا، أفلا نهنئهم في أعيادهم؟ أفلا نقابل الإحسان بالإحسان؟ نقول: إذا كنت أنت تعلم أنك على الحق، وهم هنئوك بعيدك اعترافاً منهم فالحمد لله، لكن إذا كنت تعلم أنهم على الباطل فكيف تهنئهم بعيدهم؟ كلامك يقال عندما يكون الدينان سواء، النصرانية مثل الإسلام كلها صحيحة، عند ذلك تهنئهم ويهنئونك! لكن إذا كنت تعلم أن الله قال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:72].
كفروا وخرجوا عن الملة وعادوا الدين وأهله، ثم تهنئهم بأعيادهم!! وكذلك أيها الإخوة فإنما يجب أن نسعى بالتواصي بالحق والصبر، والحمد لله إن لبعض الجهات المسئولة إسهاماً جيداً في هذا الأمر، نسأل الله أن يوفق هؤلاء المسئولين المخلصين إلى إقامة شعائر الدين، وكبت شعائر أهل الكفر والزيغ.
اللهم إنا نسألك أن تقيمنا على الملة الحنيفية من غير اعوجاج، اللهم اجعلنا ممن يخافك ويتقيك ظاهراً وباطناً، اللهم إنا نسألك أن ترينا الحق حقاً وترزقنا اتباعه، وأن ترينا الباطل باطلاً وترزقنا اجتنابه، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، واللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل التوحيد أحياءً وأمواتا، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أفغانستان في هذا الشتاء، اللهم كن لهم معيناً وناصراً يا رب العالمين، اللهم انصر إخواننا من أهل السنة في لبنان وفلسطين، اللهم اكبت اليهود والعنهم، اللهم أخزهم ودمرهم.
اللهم إنهم عاثوا في بلاد المسلمين فأظهروا فيها الفساد، اللهم صب عليهم سوط عذاب، اللهم أرنا فيهم يوماً كيوم فرعون وعاد وثمود، اللهم واجعل نصرة الموحدين من هذا الدين قريبة، اللهم لولا ثقتنا بك ما دعوناك، اللهم لا تخيب رجاءنا فيك يا رب العالمين، اللهم انصر الإسلام نصراً مؤزراً، وأعل كلمته على سائر الملل وأديان الكفر المنحرفة، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(212/9)
خذوا حذركم
القرآن الكريم مصدر التصورات والمفاهيم والموازين التي يزن بها المسلم ما يعرض له في حياته، وفي هذه الخطبة ذكر الشيخ جزءاً من تلك المفاهيم المتعلقة بشئون الناس والتي تجد المخالفة على أرض الواقع، من هذه المفاهيم: رد الشائعات إلى أهل العلم والبصيرة الهجرة في سبيل الله الحذر من الكفار بمفهومه الشامل مفهوم الفرق بين قتال المسلمين للكفار وقتال الكفار للمسلمين(213/1)
رد الشائعات والأمور إلى أولي البصيرة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
الجواب
=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
الجواب
=6000493> يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لا زلنا نؤكد ونتكلم يا إخواني على أهمية القرآن الكريم كمصدر من التصورات والمفاهيم والموازين التي يزن بها المسلم ما يعرض له في حياته، هذا القرآن الذي شكى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه ما لقي هذا القرآن من الهجران: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30] أعرضوا عنه وكذبوه، وخالفوه وهجروه ولم يعتمدوه مصدراً لأخذ التصورات الإسلامية التي عليها يسيرون، وبنورها يستضيئون، وبقوتها يواجهون.
وأسرد لكم في هذه الخطبة أربعة من التصورات الأخرى، أفصل في واحد منها.
من التصورات القرآنية المهمة، والمفهومات القرآنية العظيمة؛ مفهوم رد الشائعات والأمور إلى أولي البصيرة من أهل العلم والعقيدة، وعدم نشر الاضطرابات وإثارة البلبلة في صفوف المؤمنين، قال الله عز وجل: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:83] تنشأ أخبار كثيرة وتنتشر شائعات عظيمة، وتحصل الاختلافات في مسائل متشعبة في حياة المسلم إلى أولئك الذين يثيرون البلبلة، وينشرون هذه الأشياء بغير علم وبغير بصيرة، ينشرون الشبهات بين الناس، وليس عندهم رد قوي عليها، يثيرون المسائل العلمية، وليست لديهم أجوبة قاطعة أو واضحة عليها، ينشرون الأخبار التي تفرق صفوف المسلمين، وتشتت شملهم، وتثير الخوف والرعب في نفوسهم، إلى هؤلاء يوجه القرآن هذا التصور الذي يجب أن ترجع فيه الأمور إلى أهلها، وتوضع فيه الأمور في نصابها {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] لأنه لا زال والحمد لله بين المسلمين من يوضح الحق ويبطل الباطل، الرجوع إلى أهل العلم والبصيرة وعدم التشدق والتكلم في الصفوف وفي المجالس.(213/2)
مفهوم الهجرة في سبيل الله
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [النساء:97 - 98] قد تضيق الأرض بأهلها، وقد تضطرب الأمور في إقامة الديانة وإحقاق الحق وإقامة شرع الله، فيبقى المسلم في وسط يخشى فيه على نفسه، لا يستطيع أن يقيم شعائر الإسلام الظاهرة، فعليه أن ينتقل إلى بيئة أفضل وأحسن يستطيع فيها أن يعبد الله.
وهذه الأمور نسبية قد لا يوجد المثال في وقت من الأوقات، ولكن اتقوا الله ما استطعتم: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] فإنه يؤجر ويفتح الله عليه وييسر له أموره.
قارن بين هذا الأمر في القرآن وبين ذهاب الكثيرين من أبناء المسلمين للإقامة وسط الكفار، ودعم الكفار، وإفادة الكفار من عقول المسلمين وطاقات المسلمين.
لماذا أمر الله المسلمين بالهجرة من بلاد الكفر والشرك إلى بلاد الإسلام؟ حتى تستثمر الطاقات الإسلامية في بلاد المسلمين وليس في بلاد الكفر، وحتى يحرم الكفار من الانتفاع بها، من تكثير العَدد والعُدد أو القوة المادية والمعنوية، فعند ذلك يصبح الانتقال إلى معسكر أهل الإسلام من الأمور المهمة الذي يقتضيها التميز ومفاصلة الكفار وموالاة المسلمين ومعاداة الكفار.(213/3)
مفهوم أخذ الحذر من الكفار
قال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} [النساء:102] انظر كم مرة يتكرر الأمر بأخذ الحذر من الكفار.
في هذه الآية التي هي نموذج على هذا المفهوم وهذا التصور: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} [النساء:71] خذوا حذركم فإن الكفار يتربصون بكم، إنهم منبثون في كل مكان، يتربصون بكم الدوائر، لا تخرجوا فرادى ووحدانا، إما أن تخرجوا ثبات يعني: جماعات جماعات، وسرايا بعد سرايا، وقطعة بعد قطعة، أو انفروا جميعاً في جيش كامل حسب المصلحة التي يقتضيها واقع الحرب، لكن لا تخرجوا وحداناً لا تخرجوا آحاداً، إن الكفار يتربصون بكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} [النساء:71] وتلك الآية في صلاة الخوف ولماذا كانت هذه الكيفية في صلاة الخوف أن يقف الإمام فيكبر ويقف وراءه صف من المسلمين يصلون معه ووراءهم صف آخر، فإذا ركع وسجد الصف الأول والصف الثاني قائم ينظر ويحذر ويترقب حتى لا يؤخذ المسلمون على حين غرة؟ إذا انتهت الركعة الأولى بدأ الصف الثاني بالاقتداء بالإمام بالركعة الثانية في ركوعها وسجودها، والصف الأول قائم بعد أن يرجع إلى الخلف ويتقدم الثاني إلى الأمام حتى يحوز كلا الصفين أجر الصف الأول، ويقف القسم الأول يراقبون والقسم الثاني يصلون الركعة الثانية، ثم تقضي كل طائفة ما فاتها بالحذر والترقب، ولصلاة الخوف سبع كيفيات أو أكثر كلها بحسب الحال التي يكون فيها المسلمون من الأعداء، لماذا أيها الإخوة شرعت؟ لماذا نص القرآن على هذه المسألة؟ لماذا نبه إليها؟ لماذا قال: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ} [النساء:102]؟ ولماذا قال بعد ذلك: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102]؟ لأن الكفار أعداء.
ومن المفاهيم المهمة التي غابت عن أذهان المسلمين اليوم المفهوم الشامل الواسع للحذر من الكفار، الحذر من الكفار: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102] إن هناك محاولات للدس وتشويه الإسلام، والافتراءات على رجال خير القرون، والشخصيات الإسلامية المؤثرة في الكتب والمؤلفات والدوريات التي كتبها الكفار أو أشرفوا عليها، أو ربوا جيلاً من أبناء المسلمين يكتبون فيها لحرب الإسلام، وتقرأ هذه من قبل الناشئة وغيرهم، فتترسخ المفهومات المغلوطة المشوهة عن الإسلام وأهله، حدث هذا لأننا لم نأخذ حذرنا من الكفار، ولم نطبق قول الله: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102].(213/4)
الحذر من الخدم والسائقين الكفار
الكفار والكافرات في بيوت المسلمين من الخدم والسائقين، كم منهن قتلت رب البيت أو ولده؟ كم منهن علمت الأولاد الأمور المنافية للعقيدة؟ كم منهم كانوا وكن بؤراً للفساد والفواحش؟ تسمع القصص المخزية الحزينة المؤلمة التي تفتت الكبد والقلب وتعصره، الزوج مع الخادمة، الزوجة مع السائق، الأولاد الشبان معها، تحطمت البيوت وتهاوت تلك الصروح، بقيت بيوت المسلمين خاوية على عروشها، نتيجة أي شيء حصل هذا؟ لأننا لا نطبق قول الله في الكفار: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102].(213/5)
الحذر من حالات الاحتيال والسرقة في البضائع
حالات الاحتيال والسرقة في البضائع التي يستوردها التجار المسلمون وقد كتبت المجلات والصحف عن ذلك مراراً، البضائع التي لا تشحن أصلاً وقد دفعت قيمتها، البضائع التي تفقد وتضيع في الطريق خلال توقف السفينة في بعض الموانئ، البضائع المزورة بغير المواصفات المطلوبة، البضائع التي يكتشف حين وصولها أنها أكياس من رمل أو قوالب أسمنت أو من القش وغيره، لماذا حصل هذا؟ نتيجة عدم تطبيق قول الله عز وجل: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102].(213/6)
الحذر من بضائع الكفار
حتى بضائع الكفار التي تأتي إلينا لم تسلم من كتابة لفظ الجلالة على الأحذية، ولا الشهادتين على الملابس الداخلية، ولم تسلم كثير من الأطعمة من شحوم ودهون الخنزير والكلب، وتصدير الميتة ونحوها حتى السمك مكتوب عليه: ذبح على الطريقة الإسلامية، لماذا حصل هذا؟ لأننا لا نفقه قول الله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102].
والحمد لله أن الوعي بدأ ينتشر بين كثير من المسلمين ولكننا نريد المزيد، كم سمعنا عن هؤلاء الكفار الذين يديرون تجارات المسلمين، أو جعلوا أمناء عليها، كم خانوا فيها؟ كم سرقوا؟ كم نهبوا؟ كم من التجار اكتشف أنه كان ضحية لمن سلم له أشياء من عمله من نصب واحتيال واختلاسات؟ تنبيهان: قد يقول قائل: إن المسلمين يغشون ويخونون.
نقول: نعم.
هناك منهم من يغش ويخون لضعف العقيدة، ولكن الكفار يغشون أكثر ويغشون انطلاقاً من عداوة العقيدة، المسلم قد يغش لضعف الوازع الديني ولضعف خوف الله في قلبه، الكافر لا يغش لهذا فقط لكنه يغشك ويخونك لعداوته لك في العقيدة، وهذا أخطر وأكبر وأعظم.
وقد يقول قائل: لقد لمسنا من التعاملات مع بعض الكفار أمانة، نقول: نعم.
إن الله قد قال في القرآن: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} [آل عمران:75] فما بالك بما هو أكثر من الدينار؟ لماذا حصل هذا منهم؟ لماذا يخونون المسلمين ويسرقونهم؟ كيف استباحوا ذلك؟ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:75] قال ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى عن اليهود بأن فيهم الخونة ويحذر المؤمنين من الاغترار بهم، ولو رأيت بعض الكفار فيهم أمانة؛ فاعلم بأن تلك الأمانة في الغالب أمانة تجارية.
إنهم ينظرون إلى بعيد وتهمهم مصالحهم، إنهم يريدون أن يتعاملوا بالأمانة لكي يكسبوك أكثر لو تعاملوا بالأمانة، ولكن الغش والخداع فيهم كثير، وأرباب الأعمال والأموال يعرفون الأضعاف المضاعفة عن مثل هذه الأخبار، يحصل هذا مرة أخرى لأننا لم نعمل بقول الله: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102].(213/7)
حوادث تعقيم نساء المسلمين
حوادث تعقيم النساء المسلمات في المستشفيات في بعض بلدان المسلمين أو البلدان التي فيها أقليات إسلامية، كيف يحصل هذا؟ صورة من صور الكيد تنشأ عن عدم أخذ الحذر من الكفار، والغرض تحديد نسل المسلمين، والغرض الحد من تكاثرهم، ويحدث هذا؛ لأننا لم نفقه قول الله: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102].(213/8)
تسلل الديانات المنحرفة والأفكار الهدامة
كم تسلل المبشرون بالديانات المنحرفة والأفكار الهدامة إلى مجتمعات المسلمين، فأثروا في العقول، وفتنوا المسلمين عن دينهم بسبب عدم أخذ الحذر من الكفار.(213/9)
حقد الكفار على المسلمين وعداوتهم لهم
الأمثلة كثير جداً، لكن ينبغي أن نعلم أن الكفار جبلوا على أن في قلوبهم حقداً وعداوة على المسلمين، ينبغي أن نعلم أن الله عندما قال: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً} [الممتحنة:2] يعني هم أعداء فعلاًَ بكل ما تحمل الكلمة من المعنى، وعندما يقول الله فيهم: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10] يعني: ليس لهم عهد ولا أمان: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] يريد الكفار ويتمنون لو كفرنا مثلهم حتى نكون سواء في الكفر، لا يريدون أن نكون أصحاب مبادئ، وأصحاب أمانة وأصحاب ديانة، وحملة رسالة ومجاهدون في سبيل الله.
تحذير قرآني: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:149].
استنكار قرآني لواقع بعض المسلمين: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1] كيف يكون هذا؟ لو سكت الكفار فترة وهجعوا فإنما يريدون زيادة التَقَوِّي لمواصلة الحرب على المسلمين واستئنافها، وليس أنهم يعيشون معنا، وليس لأنه يمكن أن نعيش معهم في سلم، إنهم جبلوا على حرب الدين، وكره الدين، وعداوة المسلمين، لا يمكن أن يتوقفوا لحظة واحدة، مكر الليل والنهار بالإسلام وأهله.
إذاً، أيها المسلمون خذوا حذركم.
وفقنا الله وإياكم لأن نسير على هدي كتابه، وأن نأخذ حذرنا من الكفار، وأن يرزقنا العداوة لهم والموالاة لإخواننا المؤمنين.
وأستغفر الله لي ولكم.(213/10)
الفرق بين قتال المسلمين للكفار وقتال الكفار للمسلمين
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد ولد آدم وخاتم الأنبياء والمرسلين.
عندما نقارن أيها الإخوة بين التصورات والمفهومات القرآنية وبين واقع المسلمين، عندما تقارن وتفكر في عمق القرآن وهذه التصورات القرآنية، ومحبة الله لعباده المؤمنين ينبههم ويحذرهم ويوعيهم ويبين لهم سبيل الهداية، ويحذرهم من الكفار ومن طرقهم، وبعد ذلك تجد المسلمين في غفلة وفي نوم تستغرب، ويأخذك العجب، وتقول في نفسك: يا ترى لمن أنزل هذا الكتاب؟ من هم المعنيون به؟ ومن المفهومات الأخرى التي نختم بها حديثنا في هذه الخطبة مفهوم الفرق بين قتال المسلمين للكفار وقتال الكفار للمسلمين، وهذه الآية نزلت ووردت في القرآن بعد آية الخوف، ولذلك فالرابط بها قوي، يقول الله عز وجل منبهاً العباد المسلمين الذين يقاتلون ويجاهدون، هم يجرحون ويقتلون ويألمون في القتال، أليس كذلك؟ إن هذا يحصل للمسلمين ويواجهون الشدائد والمصاعب، ويتغربون عن أهلهم، يواجهون مصاعب كثيرة جداً، ولكن عندما تقرأ هذه الآية تجد أن البلسم القرآني ينزل برداً وشفاءً على أولئك الذين يجاهدون في سبيل الله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] إن كنتم تألمون أيها المسلمون؛ فإن الكفار يألمون كما تألمون، ويصيبهم الجراحات والقتل والمصائب كما تصيبكم، ولكن ما هو الفرق الجوهري؟ ما الذي يدفع المسلم إلى البذل وإلى العطاء وإلى التقدم والتضحية؟ إنه قول الله عز وجل: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104].
تأمل يا أخي في هذه الآية: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] ولكن: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] أنتم تنتظرون جنة عرضها السماوات والأرض، تنتظرون الحسنيين: النصر في الدنيا الذي وعدكم الله، والجنة في الآخرة، هم لا ينتظرون، لا يوجد أحد وعدهم بالنصر إذا طبقوا شروط النصر، بل قد يطبقون شروط المعركة ثم ينهزمون كما حدث لأقوى الدول.
ثانياً: لا أحد وعدهم بفوز في الآخرة، هذا مقتصر على المسلمين، فإنكم أنتم ترجون من الله، انظروا أيها الإخوة كيف يدفع القرآن المسلم دفعاً إلى العمل، كيف يهون عليه الشدائد، كيف يقول له: ضحِ وتقدم وجاهد؛ لأنك ترجو من الله ما لا يرجو أولئك.
إذاً أنت أحق بالجهاد من الكفار، أنت أحق بالمواجهة من الكفار، لأنك ترجو من وراء عملك شيئاً لا يخطر لهم على بال ولا يتوقعونه ولا ينتظرونه، هذا مثال كيف القرآن يربي النفوس؟ كيف القرآن يرفع المسلم إلى مستويات عليا؟ هذا الذي أعرضنا عنه نسأل الله أن يعيدنا إليه.
اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السموات والأرض أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، اللهم اجعلنا ثابتين على الحق شرعة ومنهاجاً، اللهم اجعلنا من الذين يعودون إليه ويفيئون، اللهم اجعلنا ممن يبطل الباطل ويعادي أهله، اللهم اجعلنا من الموالين لك ولدينك ولشريعتك ولعبادك الصالحين، اللهم إنا نسألك الفوز بالجنة والنجاة من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم إنا نعوذ بك من حميمها ويحمومها وغسلينها وغساقها، اللهم أعتق رقابنا منها ونجنا منها برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انقلنا من ضيق اللحود ومواطن الدود إلى جنات الخلود، اللهم ارفع منازلنا في الجنة، اللهم واجعلنا ممن يصاحب نبيك وصحابته فيها يا رب العالمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون، وصلى الله على نبينا محمد.(213/11)
خلاصات في أحكام الزكاة
تطرق الشيخ في هذه الخطبة إلى الكلام عن الزكاة ومسائلها الكثيرة، فتحدث عن: حكم إخراج الزكاة مصارف الزكاة عقوبة مانع الزكاة في الدنيا والآخرة زكاة الذهب والفضة زكاة الحلي زكاة الدين زكاة عروض التجارة زكاة الزروع والثمار إضافة إلى مسائل أخرى في ثنايا الخطبة.(214/1)
الزكاة الركن الثاني من أركان الإسلام
إن الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم لك الحمد على ما بلغتنا من هذا الشهر الكريم، وعلى ما أنعمت به علينا من البدء في صيامه، فأتمم نعمتك علينا إنك سميع مجيب.
أيها المسلمون: بدخول شهر رمضان تتجدد أمور كثيرة من الذكريات، ويطوف ببال المسلم قضايا مهمة من الأمور التي يعيشها إخوانه المسلمون في هذا العصر والأوان، ويرتبط بشهر الصيام أمور متعددة سنقتصر على بيان واحد منها: أولاً: لأنه ركن من أركان الإسلام.
وثانياً: أنه يهم كل مكلف، وهو فرض عين، بل حتى غير المكلفين يشملهم هذا الحكم، ونظراً لأن كثيراً من الناس قد ارتبط قيامهم بهذا الأمر وهو الزكاة في هذا الشهر العظيم؛ كان لا بد من الكلام عنه، وبيان شيء من أحكامه؛ ليكون المسلم على بينة، ويعبد ربه بالدليل والبينة فيما يقوم به من أموره وعباداته كلها.(214/2)
الزكاة في القرآن
أيها المسلمون: يقول الله عز وجل: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [البقرة:177] إذاً لا بد من إخراج الزكاة وهي من البر، قال سبحانه وتعالى مبيناً من هم المسلمون، ومن هم إخواننا في الدين، ومن هم الذين يجب الكف عن قتالهم، قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:5] وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] ومن هذه الآية وغيرها أخذ بعض أهل العلم أن تارك الزكاة كافر ولو لم يكن جاحداً {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] فإذا لم يتوبوا من الشرك، ولم يقيموا الصلاة، ولم يؤتوا الزكاة؛ فليسوا بإخواننا في الدين.
وذهب بعض أهل العلم إلى عدم كفر تارك الزكاة إذا منعها بخلاً ولم يمنعها جحوداً، قال الله عز وجل عن إسماعيل عليه السلام: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم:55] ووصف الله المؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:4] وهدد وتوعد وقارن بين الربا والزكاة فقال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] فبعض الناس يخرج الزكاة ابتغاء عرض دنيوي من ذكر أو شهرة أو ثناء من الناس ونحو ذلك، أو يخرجها لا عن طيب نفس فقال الله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] أي: الذين يضاعف لهم الأجر.
أيها المسلمون: ولأن الزكاة ركن من أركان الإسلام والشريعة تبين الأركان كما تبين غيرها؛ فقد بين الله في كتابه من هم الذين يستحقون الزكاة، وإلى أي أصناف الناس تصرف: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60] عليم بعباده، حكيم فيما شرع لهم.(214/3)
حكم مانع الزكاة في الدنيا
أيها المسلمون! قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس؛ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله) لقد فهم أبو بكر رضي الله عنه هذا الحديث، فلما ارتد العرب وبعضهم منع الزكاة جاء في حديث أبي هريرة تفاصيل ما حدث فقال: (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر لـ أبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله؛ عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق) رواه البخاري وغيره.
ولذلك جاء حكم مانع الزكاة في السنة، فقال صلى الله عليه وسلم عن الزكاة: (من أعطاها مؤتجراً، يبتغي الأجر؛ فله أجرها، ومن منعها؛ فإنا آخذوها -بالقوة- وشطر ماله -وفي رواية- وشطر إبله -لأن المناسبة كانت في الإبل- عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى، لا يحل لآل محمد منها شيء) حديث حسن.
إذاً: يجب على إمام المسلمين أو من يقوم مقامه أن يأخذ الزكاة من مانعه بالقوة ولو اضطروا لقتاله، زائد شطر ماله عقوبة على المنع، هذا هو الحكم الشرعي في مانع الزكاة.(214/4)
عقوبة مانع الزكاة في الآخرة
قال صلى الله عليه وسلم عن حكمه في الدار الآخرة: (ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؛ حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار).
أيها المسلمون: ليست صفيحة واحدة ولكنها صفائح من نار، ليست نار الدنيا ولكنها نار جهنم فضلت على نارنا بتسعة وستين جزءاً.
أيها المسلمون: لا يكوى بها طرف واحد من جسده، ولكن يكوى بها جنبه وجبينه وظهره.
أيها المسلمون: إذا بردت لا ينتهي الأمر، كلما بردت أعيدت له.
أيها المسلمون: ليس في ساعة ولا في يوم ولا في جمعة، ولا في أسبوع، ولا في سنة يستمر ذلك العذاب، إنما هو في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد.
(ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها عليه حلبها يوم وردها للفقراء على الماء، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً، تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها، كلما مرت عليه أولاها؛ رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد).
وفي البقر والغنم قال صلى الله عليه وسلم: (تأتي وتمر عليه تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، كلما مرت عليه أولاها رد عليها أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة).
فماذا بعد أيها المسلمون؟ ماذا تريدون من الأدلة التي تدفع المسلم إلى إخراج زكاته عاجلاً عند حلول الحول، قبل أن يتوفاه الله، فيلقى ربه غضبان عليه، ويعذب في قبره، وفي الدار الآخرة بما جنى من منع الزكاة وعدم إخراجها، ماذا يقول الأغنياء من المسلمين الذين تصل زكاتهم إلى الملايين، وهم يمنعونها لأنهم قد استكثروا هذه الزكاة ولم يخرجوها كما أمر الله.(214/5)
بعض أحكام الزكاة
أيها المسلمون: هاكم طائفة من الأحكام -وإن أطلنا قليلاً- نظراً للحاجة إليها والبيان في هذا المجتمع العظيم الذي أنتم فيه.(214/6)
شروط إخراج الزكاة
الزكاة: هي النماء والزيادة، ومن ملك أي صنف من الأصناف التي تجب فيها الزكاة من الذهب والفضة أو ما يقوم مقامهما من الأوراق النقدية أو عروض التجارة، أو الغنم والإبل والبقر، وغيرها من الأصناف الزكوية إذا بلغت نصاباً وحال عليها الحول وجب إخراج الزكاة فيها، حق الله ويشترك فيها حق للفقير أيضاً، لا بد من إخراج الزكاة، ولو كان المال ليتيم أو مجنون لا بد من إخراج الزكاة، ويخرجها عنه وليه.(214/7)
نصاب الذهب والفضة في الزكاة
أيها المسلمون: قال صلى الله عليه وسلم: (ليس في أقل من عشرين مثقالاً من الذهب ولا في أقل من مائتي درهم -يعني: من الفضة- صدقة) فهذا هو الحد في زكاة النقدين.
حديث صحيح.
وبناءً على ذلك: فإنك إذا سألت: كم يساوي الذهب الآن بالأوزان المتداولة؟ قوّم أهل العلم هذا النصاب الوارد في الحديث بما مقداره إحد عشر جنيهاً ذهبياً متداولاً هنا، وثلاثة أسباع من الذهب، أو ستة وخمسون ريالاً من الفضة، وإذا أردتها بالغرامات فإنها تقريباً خمسة وثمانون غراماً من الذهب تنقص قليلاً أو تزيد قليلاً، بحسب ما رأى أهل العلم والخبرة المقدرون لذلك.
ونصاب الفضة ما يعادل ستمائة وأربعة وثلاثين واثنين في العشرة غراماً من الفضة، هذا هو النصاب في النقدين، ولأن الريالات في هذه البلد أول ما خرجت وتجولت كانت مبنية على الفضة وكانت مقدرة، وكان المستعمل هو ريال الفضة، ولأن هذا هو الأحظ للفقير، صار النصاب من الأوراق النقدية مقدراً بالفضة في مبدأ الأمر، ولو تغير بعد ذلك فإنه الأحظ للفقير.
أن الرجل إذا كان عنده ستة وخمسون ريال فضة فأكثر، يخرج عن كل مائة اثنان ونصف، فإذا قيل لك: إن ريال الفضة الآن في السوق يساوي عشرة ريالات مثلاً أو تسعة، فإنك تعلم أن نصاب المال تقريباً الآن خمسمائة ريال فأكثر، وهو الأحظ للفقير يخرج من كان عنده هذا المبلغ، وأكثر الريالات الموجودة الزكاة الآن في كل ألف خمسة وعشرين ريالاً، والحمد لله إن أكثر الناس يملكون أكثر من هذا النصاب، فالواجب عليهم إذاً المبادرة لإخراج الزكاة فيها.
ويقول الناس: إنا لا نستلم رواتب فماذا نفعل؟ نقول: خذوا أول يوم استلمتم فيه مرتباً وليكن الثلاثين من شعبان في عام (1410هـ) مثلاً، فإذا جاء عندك في ثلاثين من شعبان (1411هـ) فانظر مثلاً ماذا عندك من الرصيد؟ أخرج في كل ألف خمسة وعشرين ريالاً، وأرح نفسك من العناء حول كل راتب، ومعرفة ما أخذت منه وما وفرت؛ فإنك ستتعب، فإن أردت سبيل الراحة والسماح وطيب النفس؛ فأخرج بهذه الطريقة.
فإن كنت متعوداً على إخراج زكاة المال مثلاً في الخامس عشر من رمضان، فإذا جاء هذا اليوم؛ فانظر ما عندك من الأموال؟ فأخرج على كل ألف خمسة وعشرين ريالاً، فإذا كان عندك أو عند زوجتك سبائك ذهب أو حلي وغيرها؛ فلا بد من إخراج الزكاة من كل، خمسة وثمانين غراماً فأكثر، ويعامل بمفرده في قيمة الذهب الحالية في السوق عند حلول الحول.
وكذلك فإن كل ما لدى الإنسان من أقلام أو ساعات ذهب وغيرها مع أنه لا يجوز أصلاً لبس الذهب للرجال، ولكن نقول: من ملك أشياء فيها ذهب، كلها تدخل مع النصاب، فإذا وصل خمسة وثمانين غراماً تقريباً تجب فيه الزكاة أو في قيمته الحالية في السوق في كل ألف خمسة وعشرين ريالاً.(214/8)
حكم الزكاة في المعادن الثمينة
وأما المعادن الثمينة فإنه لا زكاة فيها ولو كانت أغلى من الذهب، مثل الألماس وغيرها لا زكاة فيها، لعدم ورود النص فيها، والأصل براءة الذمة إلا إذا أعدت للتجارة فصارت من عروض التجارة.
ولا يجب تكميل نصاب الذهب بالفضة التي عندك، فإنك تعامل الذهب بنصاب مستقل والفضة بنصاب مستقل، وتعامل ما ملكت البنت الأولى كنصاب مستقل وما ملكت البنت الثانية كنصاب مستقل، ولا يجب أن تجمعه جميعه.
وكذلك فإنه إذا نقص عن النصاب شيئاً يسيراً جداً، فأخرج الزكاة لأنه يصعب ضبطه، وكذلك إذا كان عندك شيء مخلوط بالذهب والفضة أو ذهب وألماس؛ فقدر الذهب عند أهل الخبرة، ثم ضم الذهب بعضه إلى بعض مما كنت تملكه أنت، أو ضم بعضه إلى بعض فيما تملكه زوجتك؛ لتعلم كم مقدار الزكاة فيه؟ ومن كان عنده هواية جمع نقود، فيجب إخراج الزكاة فيها إذا بلغت مع بقية ماله نصاباً.(214/9)
حكم الزكاة في عروض التجارة
وأما عروض التجارة فتقوم السلع المعدة للبيع في آخر السنة، ويجب إخراج قيمة الزكاة عند حلول الحول في كل ألف خمسة وعشرين ريالاً.
وأما أموال السيولة في البنك مثلاً فإنه يخرج زكاتها أيضاً، والأراضي المعدة للبيع يجب إخراج الزكاة فيها؛ لأنها صارت من عروض التجارة إذا نوى بها البيع وعرضها للبيع، فبمجرد نية البيع وعقد العزم يبدأ الحول، فإذا حال عليها الحول؛ وجب إخراج الزكاة في قيمتها الحالية عند حلول الحول؛ لأن الأراضي معرضة للارتفاع والانخفاض، وأما الأرض المعدة للإيجار أو للسكن أو لبناء مشروع عليها أو محطة بنزين أو عمارات أو دكاكين للإيجار فلا زكاة فيها، وإنما الزكاة في الإيجارات إذا استلمت وحال عليها الحول، وأما إذا أعدت للبيع؛ فيجب فيها الزكاة، وإذا ترددت النية بين البيع والتأجير أو الاحتفاظ للنفس مثلاً؛ فإنه لا زكاة حتى تجزم بالبيع.(214/10)
حكم زكاة الحلي
تجب الزكاة في حلي الزوجة على الزوجة لأنها صاحبة المال، إلا إذا تبرعْتَ بطيب نفس أن تخرج عنها؛ فلك الأجر بعد أن تعلمها بإخراج الزكاة عنها، وإذا كانت تجهل حكم الزكاة في الماضي؛ فلا إعادة عليها فيما مضى؛ لجهلها بهذا الحكم الذي وقع فيه اختلاف، لكن جاء الدليل الصحيح به في امرأة جاءت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب (سواران) قال: (أتؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا.
قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار يوم القيامة) فدل على وجوب إخراج الزكاة في الحلي سواءً ما كان مستعملاً أو للإعارة، أو يلبس مرة في السنة أو طيلة السنة أو لا يلبس أبداً، تجب فيه الزكاة على القول الراجح المسنود بالدليل من أقوال أهل العلم.(214/11)
حكم زكاة الأسهم
وأما الأسهم فإنها تقوم عند حلول الحول، فيعرف قيمة الأسهم في السوق الآن وتخرج قيمتها، وأرباحها تضاف إليها، فليس هناك حول منفصل للأرباح ورأس المال، ولكن إذا حال الحول على رأس المال وهو الأسهم؛ تخرج زكاتها مع زكاة الأرباح ولو خرجت الأرباح قبلها بيوم.(214/12)
حكم الزكاة فيما هو معد للاستعمال الشخصي
وأما ما أعده الإنسان لسكنه من أنواع الأثاث والأواني والسجاجيد وغيرها فلا زكاة فيها، كذلك السيارات إذا كانت معدة للاستعمال؛ فليس فيها زكاة ولو بلغت مائة سيارة والحمد لله، وصاحب سيارة الأجرة (التاكسي) لا يخرج الزكاة على سيارته؛ لأنها ليست معدة للبيع، فكل ما هو معد للاستعمال الشخصي لا زكاة فيه إلا الذهب والفضة.
يجب على المرأة إخراج الزكاة في الصداق إذا كان عندها، أو إذا كانت متى طالبت زوجها أعطاها، أما إذا لم تستطع المطالبة، فإنه ليس عليها إلا حين تقبضه وتخرجه مرة واحدة.(214/13)
زكاة المزارع والزروع والثمار
وكذلك فإن المزارع لا زكاة فيها إلا إذا أعدت للبيع، وما يخرج من المزارع إذا كان من الأصناف الزكوية كالحبوب والثمار تجب فيها الزكاة حسب ما ورد في النصوص الشرعية من المقادير، وأما إذا كانت خضروات مثلاً فلا زكاة فيها لحديث: (ليس في الخضروات زكاة) فمن كان عنده بيوت محمية فيها خضروات؛ فلا زكاة فيها والحمد لله، الإسلام لا يهدف لإضرار الناس أبداً، في كل مائة اثنين ونصف في الأموال التي عندك، وبقية الأشياء مقادير يسيرة للمصالح العامة ولمصلحتك أنت قبل كل شيء.(214/14)
حكم الزكاة في المنافذ المؤجرة
المنافذ المؤجرة وغيرها لا تجب فيها الزكاة إلا في الأجرة إذا حال عليها الحول، والأموال المعدة لشراء بيت أو للزواج أو لقضاء دين يجب فيها الزكاة؛ إذا كانت لا زالت عندك، أما إذا صرفتها في تسديد الديون قبل الحول؛ فلا زكاة فيها.(214/15)
حكم الزكاة على الدين
إذا كان عليك ديون وعندك أموال، فالصحيح أن الدين لا يمنع إخراج الزكاة التي عندك، ولو كان الدين أكثر من المال الذي عندك، تخرج منه اثنين ونصف في المائة، إلا إذا أخرجت المال لتسديد الدين قبل حلول الحول فلا زكاة فيه.
وكذلك إذا كان لديك أموال عند الناس أسلفتهم إياها؛ فلا يجب عليك إخراج الزكاة فيها إلا إذا قبضتها منهم، فإذا كانوا أغنياء متى طالبتهم أعطوك -هذا تعريف الغني في هذا الحكم- تخرج عن كل السنوات الماضية، أما إذا كان مماطلاً أو فقيراً؛ فلا زكاة عليك إلا إذا قبضتها، وتخرجها مرة واحدة فقط.
ويحسن إخراج زكاة المال من جنسه، من الثمار ثمار، ومن الغنم غنم، ومن التجارة أموال، وهكذا تقوم، ويحسن ولكن لا يجب، فلو أخرجها مالاً كلها فلا بأس.(214/16)
مصارف الزكاة
ويجب إعطاء الزكاة لمستحقيها والمستحقون هم المذكورون في الآية، والفقير هو من لا يجد شيئاً من الأشياء الضرورية، إذا كان لا يجد طعاماً أو شراباً أو سكناً أو أشياء ضرورية في البيت كالثلاجة والمكيف مثلاً ضرورية في البيت لكن الكنب ليس ضروري، فإذا كان لا يجد الأشياء الضرورية فهو فقير يعطى.
ويجوز إعطاء الزكاة للذين عليهم ديون لا يستطيعون أداءها وهم مطالبون الآن، أو مهددون بالسجن مثلاً، أو تخرجه من السجن لتسديد ما عليه.
وكذلك أصحاب الجنايات والديات يجوز إعطاؤهم منها؛ ليسددوا الجنايات والديات التي عليهم، ولا يجوز إعطاء الزكاة لتارك الصلاة والكافر أبداً، ويجوز إعطاؤها للفاسق الذي يرتكب شيئاً من المنكرات ولكن إعطاؤها للتقي أولى، ولا حرج في دفع الزكاة للأخ الفقير، الخال الفقير، العم الفقير، الأخت الفقيرة، العمة الفقيرة وهكذا، إلا من يلزمك نفقتهم فلا يجوز إعطاؤهم كالأصول (الآباء والأجداد) والفروع (الأبناء) والزوجة؛ لأنك مكلف بالنفقة عليهم شرعاً.
وكذلك لا يجوز صرف الزكاة لبناء مساجد أو طباعة مصاحف؛ لأنها ليست من مصارف الزكاة، ولا يعطى الخادم ولا السائق ولا الخادمة من الزكاة؛ لأن لهم راتباً إلا إذا كان فقيراً لا يكفيه راتبه وهو فقير في أهله؛ ولا يزال محتاجاً؛ فيجوز إعطاؤه، مع أن الأولى ألا يعطى؛ لئلا تحصل مكاسب وأشياء تعود عليك من إعطائه الزكاة، كأن يحسن خدمته أو لا يريد أن يجلس عندك، فيجلس عندك؛ لأنك أعطيته هذه الزكاة.(214/17)
حكم النية في الزكاة
لا بد من النية عند إخراجها، فإن الإنسان لو تصدق قبل شهرين بخمسمائة ريال صدقة ولما جاءت الزكاة قال: أحسب الخمسمائة من الزكاة نقول: لا يجزئ؛ لأنك ما نويت الزكاة عند إخراج تلك الصدقة، فأما إذا نويت من قبل قلت هذه الزكاة مقدم خمسمائة ريال؛ فتحسب من الزكاة ولا بأس بذلك.(214/18)
حكم إعطاء الزكاة للجمعيات الخيرية
واحذروا إذا دفعتم زكواتكم للجمعيات الخيرية، فلابد من التأكد أنها تصرف للمستحقين، وإلا من يعطي للجمعيات من غير تدقيق في من يأخذ وأين تصرف؛ فإن هذا على خطر عظيم.
وكذلك فإن أموال صناديق البر والصناديق الخيرية والرصيد في البنك لبناء مسجد والمجمع من متبرعين لا زكاة فيه.(214/19)
حكم التصرف في مال الزكاة
وكذلك لا يجوز التصرف في المال بل لا بد من إعطائه الفقير، لا تشتر له بها أشياء ثم تعطيه، أعطه المال وهو يتصرف، إلا إذا كان أحمق أخرق لا يحسن التصرف؛ فيجوز أن تتصرف بشراء أشياء ضرورية له؛ لأنه لا يحسن التصرف، وأما إن كان عاقلاً يحسن التصرف، فلا تتصرف له في أمواله.(214/20)
حكم إعطاء الزكاة للأقارب
وإذا لم يوجد عندك فقراء هنا؛ تعطيها لفقراء آخرين في بلدان أخرى خصوصاً إذا كانوا من الأقارب، فأنت تعطيها لهم إذا كانوا من الذين لا تلزمك نفقتهم.
افرض أن لك عماً فقيراً في مصر أو الأردن أو غيرها من البلدان، فيجوز أن ترسلها إليه وتعطيها إياه، وهو أولى من غيره.(214/21)
حكم تأخير الزكاة بسبب الضرر
وكذلك فإنه لو قال إنسان: أنا أتضرر لو أخرجت الآن، أي: إذا أخذت بعض ممتلكاتي أتضرر، نقول: لا بأس أن تتأخر الشهر والشهرين؛ فتخرج الزكاة مقسطة خلالها، ولكن لا تؤخر حق الله وحق الفقير.(214/22)
حكم أخذ موزع الزكاة من زكاة الغني
وكذلك فإنه لا يجوز لإنسان أن يأخذ الزكاة من غني لنفسه وإن قال: آخذها وأعطيها محتاجين، لا يجوز أن يأخذها إلا بعد أن يخبر صاحب المال أنه هو المحتاج.
ولا يلزم إخبار الفقير عند إعطائه الزكاة أنها زكاة، فلا داعي للحرج، تعطيها وترسلها بأي طريقة، ومن يوقف الفقراء أمام بيته بالطابور؛ فعليه أن يخشى الله من إذلال الناس، إنما يوصلها إليهم في بيوتهم مخفية، لا يطلع عليها إلا الله، ومن فاتت الزكوات الماضية منه؛ فعليه أن يخرجها الآن، ويتدارك أمره قبل العذاب الأليم المترتب على عدم إخراجها.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا وإياكم في دينه، وأن يرزقنا اتباع سنة نبيه، اللهم اجعلنا ممن يحفظ حدودك، ويؤدي حقوقك، اللهم اجعلنا من الوقافين عند حدودك لا من المعتدين، واغفر لنا أجمعين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(214/23)
أحكام الزكاة في البقر والغنم والإبل
الحمد الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد السراج المنير، والداعي إلى الله بإذنه، تركنا على البيضاء ليلها كنهارها.
أيها المسلمون: من كان عنده سائمة من الإبل أو البقر أو الغنم؛ فإن كان يعدها للتجارة؛ فيجب إخراج الزكاة في قيمتها؛ لأنها صارت من عروض التجارة، أما إن كانت عنده يعدها لاستعماله الشخصي، أو يذهب إليها بين حين وآخر فقط ولم يعدها للبيع فلا زكاة، وإذا كانت ترعى من هذه الأعشاب في الأرض، فتجب فيها الزكاة كما جاء في الحديث: (في كل أربعين شاة) وهكذا في الإبل في كل خمس إبل شاة، وهكذا في البقر إلى آخر الأنصبة.
وإما إن كان هو الذي يطعمها ويشتري لها شعيراً وهو الغالب في أمره؛ فإنه لا زكاة فيها إلا إذا أعدت للتجارة والبيع منها؛ فإنها تجب فيها الزكاة ولو كان هو الذي يعلفها.(214/24)
أحكام الدَّين
وكذلك فإننا نقول ونعيد الكلام في الدين؛ للحاجة إلى بيانه لكثرة المداينات التي تحصل بين الناس: إذا كان عندك نقود، وعليك دين؛ أخرج الزكاة على المال الذي عندك؛ إذا حال عليه الحول، وإذا كان لك مال عند الناس فإذا قبضته، فإن كان الشخص الذي أسلفته غنياً، ويمكن أن تأخذ مالك في أي وقت، فأخرج الزكاة عن كل سنة مضت والمال عنده، وإن كان المال عند فقير أو مماطل؛ فليس عليك إلا إخراج زكاة واحدة عند الاستلام، وإذا مات إنسان قبل حلول الحول؛ فلا زكاة في ماله؛ لأنه لم يكن حياً وقت الوجود، وليس على الورثة الزكاة، فإذا صارت من نصيب الورثة؛ بدأ الحول على الورثة، فإذا استمر المال مجموعاً لم يقسم وحال عليه الحول، فإنه يخرج كل وارث الزكاة من نصيبه من الإرث ولو لم يقسم بعد، وإذا استلمه، يجب عليه أن يخرج ما مضى من الزكوات في نصيبه وهو منذ أن ملك المال بوفاة المورث.(214/25)
أحكام مختلفة في الزكاة
وكذلك فإن الإنسان إذا كان عنده أموال يحول حولها في رمضان مثلاً، فاشترى بها في شعبان عروض تجارة، فالصحيح أنه إذا جاء رمضان وقت حلول الحول على المال والسيولة الأصلية؛ تجب الزكاة فيها، ولو حولها إلى عروض تجارة، لأن هذا بعضه من بعض.
وكذلك فإننا لا بد أن نتقي الله في إخراجها، فبعض الناس لا يضبطونها وإنما يأخذ من عرض المال كمشة من المال ويقول: هذه زكاة، وقد تكون أكثر، فيجب عليه أن يحسب ويضبط، وإذا أراد أن يخرج زيادة، الحمد لله له الأجر.
والمقاولون الذين عندهم رافعات أو آلات أو تركتلات -كما يسمونها- أو قلابات وشاحنات؛ فليس فيها زكاة إلا إذا أعدت للتجارة، وإنما الزكاة في المكاسب التي تأتي منها.
وكذلك الفقير يعطى ما يكفيه لمدة سنة، فإذا قال إنسان: كم أعطي الفقير أكثر ما أعطيه؟ نقول: يجوز لك أن تعطيه مصروف سنة من الزكاة.
ويجوز إعطاء الشاب الذي لا يستطيع الزواج من الزكاة؛ إذا كان سيقع في الحرام لو لم يتزوج ويخشى على نفسه العنت، ولا يجوز محاباة الأقرباء بها، فبعض الناس يعطون أقرباء وليسوا فقراء، وبعض الناس يعطون عائلات كانت فقيرة منذ عشر سنوات، لكن تغير حالها، واشتغل الأولاد فيها، وصاروا أغنياء فلا يجوز إعطاؤهم جرياً على العادات السابقة، وإنما يبحث عن المستحقين الحقيقيين الجدد.
وكذلك فإنه لا يجوز إسقاط الدين من الزكاة مقابل الزكاة على القول الصحيح، فلو أن لك ألف ريال عند فقير، ولا يستطيع إعطاءك إياها، وعليك زكاة ألف ريال، فلا يجوز أن تقول: يا فقير سامحتك بالألف وبالتالي ليس علي زكاة.
والسبب أن الزكاة أخذ وإعطاء: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] وأنت لا أخذت ولا أعطيت، وإنما أسقطت شيئاً بشيء، وكذلك فإن هذا العمل نفعت به نفسك؛ لتحصيل مال غير متحصل، ولا يجوز الانتفاع من إخراج الزكاة بأي شيء من الدنيا، لأن هذا المال غير المتحصل دنيء، فكيف تفدي به مالاً عزيزاً وهو الزكاة.
فإذاً، احرصوا على إخراج الزكاة بالطريقة الشرعية، ومن كان عنده بضاعة في المخازن استوردها وخزنها ومضى عليها سنة وهو معدها للبيع، ففيها الزكاة، لكن لو قال: لا أعلم ثمنها الآن في السوق نقول: انتظر حتى تبيع، ثم أخرج الزكاة عن هذه السنة التي مضت.(214/26)
عقوبة مانع الزكاة يوم القيامة
أيها المسلمون: قال صلى الله عليه وسلم: (يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعاً أقرع) شجاع: الحية الذكر، أقرع: الذي سقط شعره من كثرة سمنه (يفر منه صاحبه) الذي منع الزكاة وكنز المال {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35] هذا مانع الزكاة يفر من ماله يوم القيامة، وماله يتحول إلى ثعبان عظيم سام (يفر منه صاحبه، فيطعمه هذا الثعبان، ويقول: أنا كنزك، قال: والله لا يزال يطلبه حتى يبسط يده -حتى يحاصر الرجل ولا بد له من مواجهة الثعبان- فيبسط يده فيلقمها -يجد نفسه مضطراً لبسط يده لفم الثعبان- فيلقمها فاه) رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله مالاً؛ فلم يؤد زكاته؛ مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع، له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه -بشدقيه- يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ((وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) [آل عمران:180]).
وعن الأحنف بن قيس قال: (قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب أخشن الجسد، أخشن الوجه، فقام عليهم فقال: بشر الكانزين برضف -حجار محماة بالنار- يحمى عليها في نار جنهم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم؛ حتى يخرج من نغض كتفيه -هذا العظم الرقيق في أعلى الكتف- يتزلزل من الألم يقول: فرأيت القوم وضعوا رءوسهم فما رأيت أحداً منهم رجع إليه شيئاً) رواه البخاري.
وعن الأحنف بن قيس قال: (كنت في نفر من قريش، فمر أبو ذر وهو يقول: بشر الكانزين -والكانز الذي لا يخرج زكاة ماله- بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم، وبكي من قبل أقفائهم -من تحت- يخرج من جباههم، قال: ثم تنحى فقعد، قال: فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو ذر، قال: فقمت إليه، فقلت: ما شيء سمعتك تقول قبيل؟ -قبل قليل- قال: ما قلت إلا شيئاً قد سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم) هذا عقاب الذي لا يؤدي الزكاة، فأنت وشأنك يا عبد الله! اتق الله في مالك وأد الزكاة.(214/27)
عاقبة إخراج الزكاة
أيها الناس! لو أن المسلمين أخرجوا زكاة أموالهم الآن كما يرضي الله عز وجل؛ من مِن المسلمين سيبقى فقيراً على وجه الأرض؟! ولكن لما عصت هذه الأمة؛ سلط الله علينا ذلاً وهزيمة وضعفاً، وحروباً وجوعاً، وخوفاً ومصائب لا يعلم بها إلا الله، ما طبقوا الشريعة لا في أنفسهم ولا في مجتمعاتهم؛ صار أمرنا الآن إلى ما ترون من تلاعب أمم الكفر بنا.
أيها المسلمون: عوداً عوداً إلى الدين، وهذا شهر رمضان؛ فليكن شهر عودة إلى الله، وليكن شهر توبة وإنابة، وتصحيح الأوضاع وتصحيح الأخطاء واستدراك ما فات.
نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى أن يجعلنا وإياكم من المغفورين لهم في هذا الشهر العظيم.
اللهم اغفر لنا في يومنا هذا أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم كثرت ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وتقصيرنا، فاغفره لنا يا رب العالمين، وارزقنا التوبة والإخلاص وعبادتك كما تحب وترضى.
اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.(214/28)
زلزال الدنيا وزلزال الآخرة
جعل الله في الكون آيات يستدل بها الخلق على عظم قدرته وعظمته وجلال سلطانه وملكه، وجعل من هذه الآيات كذلك عبراً يتذكر بها الناس عذاب الآخرة علَّهم يتوبون إلى بارئهم وخالقهم، ومن هذه الآيات الزلازل.
كان هذا هو محور كلام الشيخ في خطبته، ثم عظم حرمة شهر رجب، وخطر ما يفعله بعض الناس من بدع لا تجوز، ولم يأت عليها دليل من الشرع.(215/1)
أثر الزلازل على حياة السلف
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! إن الله تعالى يخوف عباده، ويرسل عليهم ما يشاء من جنده؛ لعلهم يئوبون إليه ويرجعون، قال الله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الإسراء:59] وقال عز وجل: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء:60]، وقال تعالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126] وقال: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام:43] وقال: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} [الإسراء:68] وقال: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام:65] قال مجاهد رحمه الله: " الصيحة والحجارة والريح (أو من تحت أرجلكم) قال: الرجفة والخسف، وهي عذاب أهل التكذيب "، وعن مجاهد قال: " عذاب أهل التكذيب بالصيحة والزلزلة " إسناده صحيح.
فالله عز وجل أهلك أقواماً من قبلنا بالرجفة كما أهلك قوم شعيب: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف:78] {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [الأعراف:155] أخذتهم الرجفة؛ لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادتهم، ولم ينهوهم عن عبادة العجل، قال شيخ الإسلام رحمه الله: والزلازل من الآيات التي يخوف الله بها عباده، كما يخوفهم بالكسوف وغيره من الآيات، والحوادث لها أسبابٌ وحكم، فكونها آية يخوف الله بها عباده هي من حكمة ذلك.
عن صفية بنت أبي عبيد قالت: [زلزلت الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر، فخطب عمر الناس فقال: أحدثتم لقد عجمتم، لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم].
وقد تكلم أهل العلم هل للزلازل صلاةٌ تخصها عند حدوثها؟ فقال الشافعي رحمه الله: آمر بالصلاة منفردين، ويستحب أن يصلي منفرداً ويدعو لئلا يكون غافلاً، وكذلك سائر الآيات كالصواعق والريح الشديدة.
وقال أحمد رحمه الله: يصلي للزلزلة الدائمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل الكسوف بأنه آيةٌ يخوف الله بها عباده، والزلزلة أشد تخويفاً، فأما الرجفة الواحدة فلا تبقى مدةً تتسع للصلاة.
وعن جعفر بن برقان قال: " كتب إلينا عمر بن عبد العزيز في زلزلة كانت بـ الشام أن اخرجوا يوم الإثنين من شهر كذا وكذا، ومن استطاع منكم أن يخرج صدقةً فليفعل، فإن الله تعالى قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15] " سنده حسن.
عباد الله! إن من أشراط الساعة كثرة الزلازل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج وهو القتل) رواه أحمد والبخاري عن أبي هريرة مرفوعاً.
وقال صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: (يا بن حوالة! إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام، والساعة يومئذٍ أقرب من الناس من يدي هذه من رأسك).
وهذه الزلازل من حِكَم الله تعالى، فإذا وقعت بالمسلمين فإنها من الرحمة بهم، بالإضافة لما فيها من التخويف والتذكير، والعقوبة للعصاة، قال عليه الصلاة والسلام: (أمتي هذه أمةٌ مرحومة، عذابها في الدنيا: الفتن والزلازل والقتل والبلايا) رواه أبو داود، وهو حديثٌ صحيح.(215/2)
علاقة زلزال الدنيا بزلزال الآخرة
عباد الله! إن من أكبر العظات في الزلازل التذكير باليوم الآخر، روى الترمذي رحمه الله عن عمران بن حصين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بعض أسفاره، وقد تفاوت بين أصحابه السير، رفع بهاتين الآيتين صوته: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2] فلما سمع أصحابه بذلك حثوا المطي وعرفوا أنه عند قولٍ يقوله، فلما تأشهوا حوله -أي التفوا- قال: أتدرون أي يومٍ ذلك؟ قال: ذاك يوم ينادى آدم عليه السلام فيناديه ربه عز وجل، فيقول: يا آدم! ابعث بعثك إلى النار، فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألفٍ تسعمائة وتسعة وتسعون) فعند ذلك تشيب الولدان، وعند ذلك تضع كل ذات حملٍ حملها، وعند ذلك ينزل بالناس الكرب العظيم.
وقال عز وجل مذكراً بذلك اليوم: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً} [الواقعة:4 - 5] ورج الأرض: زلزلتها، وقال تعالى مذكراً بيوم الدين في سورةٍ عظيمة من السور: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة:1 - 3] (إذا زلزلت الأرض زلزالها) أي: تحركت من أسفلها، (وأخرجت الأرض أثقالها) أي: ألقت ما فيها من الموتى، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] وكقوله: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق:3 - 4].
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تقيئ الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة) تتقيأ تقيئاً وتخرج ما في بطنها (تقيئ الأرض أفلاذ كبدها أمثال الاسطوان) جمع اسطوانة، عبر عن ذلك لكثرة الشيء الذي يخرج من الذهب والفضة، مثل الاسطوان تلقيه الأرض على ظهرها، من الذهب والفضة، مما فيها: {وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة:3] استنكر أمرها بعد أن كانت قارةً ساكنةً ثابتة، وهو مستقرٌ على ظهرها، فتقلبت الحال، فصارت متحركةً مضطربة، قد جاءها من أمر الله ما قد أُعد لها من الزلزال الذي لا محيد لها عنه.
ثبات الأرض نعمة من الله.
يا أيها الناس! الذين تمشون عليها ساكنين آمنين مطمئنين، اذكروا أن ثبات الأرض واستقرارها نعمة من الله، فهو الذي أرساها، وهو الذي ثبتها، فيذكر عباده ببعض الزلازل بهذه النعمة، ولذلك يستغرب الإنسان يوم القيامة، ما يحدث للأرض بعد أن كانت ثابتةً قارةً ساكنة؟!
الجواب
=6006141> يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4] عن أبي هريرة قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبدٍ أو أَمَّة بما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها) إذاً: الأرض ستخبر بما عملنا عليها، وذلك بما أوحى الله إليها وأمرها، ويقول لها: قولي فتقول.
: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:5] فتخرج ما في بطنها وتحدِّث بما أمرها الله به، عندما يقول لها: قولي فتقول.
فإذاً تأمل يا عبد الله! وتفكر في هذه القضية، وهي أن الأرض ستخبر بما عملت عليها في جميع الأماكن علت أو نزلت، ستخبر الأرض بما عملت عليها {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} [الزلزلة:6] أي: فرقاً {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6]، فيجازون عليها من خيرٍ أو شر: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] قال: [ذلك لما نزلت هذه الآية: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان:8] كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه، فيجيء المسكين إلى أبوابهم، فيستقلون أن يعطوه التمرة والكسرة والجوزة، ونحو ذلك، فيردونه ويقولون: ما هذا بشيء، إنما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه، أي: نؤجر على الكثير، وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير، الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك، يقولون: إنما وعد الله النار أهل الكبائر، فرغبهم في القليل من الخير أن يعملوه، فإنه يوشك أن يكثر، وحذرهم اليسير من الشر فإن يوشك أن يكثر، فنزلت: ((فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)) [الزلزلة:7]].
ذرة: أي: وزن أصغر النمل، فمن يعمل مثقال ذرة من خيرٍ فإنه يراه حاضراً يوم القيامة، ومن يعمل مثقال ذرةٍ من الشر يجده حاضراً أمامه يوم القيامة، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30].(215/3)
انقطاع الأنساب يوم القيامة
وروى ابن جرير بإسنادٍ صحيح له حكم الرفع عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: [يؤتى بالعبد والأمَّة يوم القيامة، فينادي منادٍ على رءوس الأولين والآخرين: هذا فلان بن فلان، من كان له حقٌ فليأتِ إلى حقه، فتفرح المرأة أن يكون لها الحق على أبيها أو أخيها أو زوجها، ثم قرأ ابن مسعود: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]] فهي لا ترحم أحداً ولا يرحمها أحد، وكل واحد يطالب الآخر بحقوقه، كل واحد يحتاج إلى حسنة، ولذلك العلاقة الزوجية لا تشفع، والعلاقة الأبوية لا تشفع، والعلاقة الأخوية لا تنفع، وعلاقة البنوة لا ترفع، وإنما كل واحد يطلب حقه من الآخر ولو كان أقرب الناس إليه، حتى إن المرأة تفرح أن تطالب أباها وأخاها وزوجها بالحقوق التي لها عليهم، [ثم قرأ {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] فيغفر الله من حقه ما يشاء، ولا يغفر من حقوق الناس شيئاً]؛ لأن حقوق الناس مبنية على التشاح ولا بد من أدائها في الدنيا أو في الآخرة: [فينصب للناس، فينادى: هذا فلان بن فلان، ما كان له حقٌ فليأتِ إلى حقه، فيقول -يقول هذا الذي عليه الحقوق التي ما أداها، والذي لطم هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا-: يا رب! فنيت الدنيا من أين أوتيهم حقوقهم؟ فيقول الله للملائكة: خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل ذي حقٍ حقه بقدر طُلبته، فإن كان ولياً لله ففضل له مثقال ذرة ضاعفها الله له حتى يدخله بها الجنة، ثم قرأ علينا ابن مسعود: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40] قال: ادخل الجنة، وإن كان عبداً شقياً قال الملك: رب فنيت حسناته -أعطينا أصحاب الحقوق حقوقهم وفنيت حسناته، من أين نعطيهم ولا مال ولا حسنات باقية وبقي طالبون كثير؟ عمال ما أخذوا رواتب، زوجات ما أخذن نفقة، أولاد ما أخذوا كفاية، أقارب ما أخذوا المستحقات، بقي طالبون كثير، ناس مظلومون في العرض، ناس مظلومون في الدم، ناس مظلومون في المال- فيقول: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكاً إلى النار].
عباد الله! بماذا تذكرنا الزلازل؟ بهذا اليوم، فلمثل هذا اليوم اعدوا يا إخواني! أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يؤدي إلى أهل الحقوق حقوقهم، وأن يتجاوز عنا بمنه وكرمه وفضله، وأن يرحمنا برحمته وعفوه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(215/4)
حرمة شهر رجب وما يبتدع فيه
الحمد لله الذي لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء، والظاهر فليس فوقه شيء، والباطن فليس دونه شيء، هو الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله عليه بما علمنا وهدانا وأرشدنا وأدبنا، صلى الله عليه وعلى أصحابه الذين بلغوا حديثه وأدوا سنته، صلى الله عليه وعلى آله وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.(215/5)
تعظيم الشرع لشهر رجب
عباد الله! هذا شهركم، شهر رجب المحرم قد دخل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حُرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان).
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض) فقد ذكر بعض أهل العلم في معناه: أن أهل الجاهلية كانوا يتلاعبون بالأشهر الحرم، فإذا طال عليهم توالى ثلاثة أشهر حُرم: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم لا يقاتلون فيها أنفسهم، شق ذلك عليهم وثقل وأرادوا القتال، فماذا يفعلون بمحرم؟ يقدمونه، يؤخرونه، ويستعملونه في القتال، ويحرمون صفر مكانه، ويتلاعبون في الأشهر الحرم، فيقدمون ويؤخرون، ويزيدون وينقصون، ويحلون ما أرادوا تحليله ويحرمون بدلاً منه، إلى أن جاء الإسلام فوافق حجة الوداع رجوع التحريم إلى محرم الحقيقي، ورجع كل شهرٍ إلى حقيقته التي خلق الله عليها السماوات والأرض، وصارت المطابقة بين الواقع وبين ما قدره الله وشرعه، في تلك الحجة -حجة الوداع- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض).
أما قوله: (ورجب مضر) فإن مضر: حيٌ من أحياء العرب وقبيلة من قبائلهم، أضاف رجب إليهم؛ لأنهم كانوا أشد العرب تعظيماً له، وسميت الأشهر الحرم لعظم حرمتها، وحرمة الذنب فيها، ولذلك قال الله: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] وكان القتال محرماً على المسلمين في الأشهر الحرم في أول الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك وأمر بقتال المشركين في أي زمان وفي أي مكان، وهذا قول جمهور أهل العلم، ونص على نسخه الإمام أحمد رحمه الله وغيره.(215/6)
ما يفعله الناس من بدع في رجب
فشهر رجب شهرٌ محرم، الذنب فيه أضعاف، وأكثر وأسوأ من الذنب في غيره من الأشهر غير الحرم، ولا شك أن الذنوب تعظم في الأزمنة الفاضلة والأمكنة الفاضلة، والناس عددٌ منهم بدلاً من أن يمسكوا عن ظلم أنفسهم في رجب، فإنهم يظلمون أنفسهم بأشد أنواع الظلم، أو من أشدها وهي البدعة التي هي أشد ذنبٍ بعد الشرك بالله، فيحولون شهر رجب إلى شهر بدعة، فيجعلون فيه صلاة الرغائب التي هي أول ليلة جمعة من شهر رجب، فيصلونها على كيفيةٍ معينة وهي بدعةٌ عند العلماء، ويجعلونه صياماً، والإكثار من الصيام إنما يكون في شعبان والمحرم، والشهر الوحيد الذي يصام كله هو رمضان، ويعتقدون أن عمرة رجب أفضل من غيرها، والمفروض أن الإنسان يعتمر في أي وقتٍ يتيسر له، والعمرة في رمضان تعدل حجة، فاعتمر في رجب أو في غير رجب دون اعتقادٍ لفضلٍ معين، وقد اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات كلهن في ذي القعدة، وبذلك أثبتت عائشة وسكت ابن عمر، ويحتفلون ببدعة الإسراء والمعراج في السابع والعشرين منه؛ علماً بأن الإسراء والمعراج لم يثبت أصلاً أنه في السابع والعشرين من رجب فضلاً عن الاحتفال به.
ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله مقعداً هذه القاعدة العظيمة: الزمان ثلاثة أنواع: أولاً: يوماً لم تعظمه الشريعة أصلاً، ولم يكن له ذكرٌ في السلف، ولم تحدث فيه حادثة معينة.
فتعظيمه وتخصيصه بعبادة أو زينة أو احتفال بدعةٌ شنيعة، كأول خميس من رجب ليلة الجمعة التي يصلون فيها صلاةً يسمونها صلاة الرغائب، ويومٌ في وسط رجب فيه صلاة يزعمون أنها صلاة أم داود، وكل ذلك بدعةٌ منكرة، وتخصيص بعض الأيام بصيام وليلها بقيام من بين سائر الليالي والأيام لا يكون ذلك، فينبغي أن يصام منه كأي شهرٍ آخر، مثل أيام البيض والإثنين والخميس، أو صيام يوم وإفطار يوم ونحو ذلك.
ثانياً: ما جرت فيه حادثة معينة لم تجر في غيره، ولكن هذا الجريان لهذه الحادثة لا يوجب أن تجعل موسماً، ولا تجعل عيداً ولا تُعظم، كخطبة النبي صلى الله عليه وسلم في غدير خم، أو المولد، فيوم المولد حدث فيه حدثٌ معين، وهو ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا اليوم ولا الحدث يوجب أن نحتفل به أو نخصصه بعبادةٍ معينة من بين سائر أيام العام، وقد حدث للنبي صلى الله عليه وسلم خطبٌ وعهودٌ ووقائع ومعارك في أيام كثيرة لم يحتفل بها الصحابة، ولم يخصصوها بعبادةٍ معينة.
ثالثاً: ما هو معظمٌ في الشريعة، كيوم عاشوراء، ويوم عرفة، والعشر الأواخر من رمضان، والعشر الأوائل من ذي الحجة، وليلة الجمعة ويومها، والعشر الأُول من محرم، ونحو ذلك، فهذه يقتصر فيها على ما فعله السلف، ولا يحدث فيه أشياء جديدة، وإنما يقتصر على ما ورد عن السلف من الاجتهاد فيها بالعبادة، طول القيام، الصيام، فيما ورد فيه ذلك، والحمد لله.
وهكذا تكونون أمةً وسطاً، لا إفراط ولا تفريط ولا غلو، وإنما العبادة وفق ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف من بعدهم.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من القائمين بالملة الحنيفية، وأن يجعلنا من المستقيمين على السنة النبوية، وأن يجعلنا من العاملين بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الشريعة السمحة.
اللهم اغفر لمن مات من المسلمين من الموحدين يا رب العالمين، اللهم ارحم موتى المسلمين الذين ماتوا في هذه المصيبة، اللهم خفف عن المصابين مصابهم، اللهم واشف مرضى المسلمين مما أصابهم، اللهم إنَّا نسألك أن تجعل ما أصاب الموحدين من المسلمين كفارةً ورفعةً لهم في الدنيا والآخرة يا رب العلمين.
اللهم آمنا في البلاد، وأرشد الأئمة ولاة أمور العباد، وانشر رحمتك على العباد يا رب العالمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله الجليل العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(215/7)
صدقات مهجورة
لقد تحدث الشيخ في هذه الخطبة عن أبواب كثيرة من أبواب الصدقة، والتي هجرت في يومنا هذا، وحث على المبادرة إلى اغتنامها والسعي في نيل أجورها، ومن هذه الأبواب: صلاة الضحى الذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر احتساب الأجر في الإنفاق على الأهل غرس الأشجار رفع الأذى عن الطريق إلخ.(216/1)
مقدمة عن الصدقة بالأموال وغيرها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
أيها المسلمون: لقد ندب الله عباده إلى الصدقة ودعاهم إليها وحثهم عليها، وبين لهم الثواب الجزيل فيها، وجعل باباً من أبواب الجنة خاصاً بالمتصدقين، فكما أن للجنة باباً يقال له باب الصلاة يدخل منه المصلون، وكما أن لها باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون، فكذلك فيها باب للجهاد يدخل منه المجاهدون، وبابٌ للصدقة يدخل منه المتصدقون كما ورد بذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والصدقة بالمال يربيها الله لصاحبها فتتضاعف أضعافاً كثيرة، ولا يجزي أحد على شيء كما يجزي ربنا على الصدقة التي تخرج خالصةً لوجهه سبحانه وتعالى، هذا من حكمة الدين، هذا من الحكمة في تشريعات هذا الدين أن جعل الله للفقراء من المسلمين فرجاً ومخرجاً من صدقات إخوانهم المسلمين.
والحديث عن الصدقة طويل، فإن الحديث عن حكمتها ومشروعيتها وفضلها وأجرها وأحكامها حديث طويلٌ لعلنا نتطرق إليه في وقت آخر، وذلك لأن الشح قد كثر في المسلمين وخصوصاً بعد هذه الأحداث العادية صار الكثيرون يدخرون ويوفرون أموالهم للمستقبل زعموا، فبخلوا بالصدقات ونسوا الأجر الذي كان مكتوباً في كتاب الله سبحانه وتعالى للمتصدقين، وكثيرٌ من الناس الذين يريدون التصدق وأموالهم قليلة قد يتحسرون، فهل جاءت الشريعة بأمور من الصدقات غير الصدقات المالية؟ وكثيرٌ من المتصدقين الذين يتصدقون بأموالهم يغفلون عن جوانب خفية للصدقة جاءت بها الشريعة، وكثيرٌ من المسلمين تصورهم للصدقة ناقص، فيتصورون أن الصدقة بالأموال فقط، من أجل ذلك كانت هذه الخطبة التي نبين فيها جوانب للصدقة قد يغفل عنها الناس مع أنهم قد يسمعون أحاديثها ولكنهم لا يقدرون قدرها، فهذا التنبيه على هذه الأبواب الخفية أو المتغافل عنها أو غير المحتسب فيها الأجر، فإن كثيراً من الناس قد يقومون بها دون احتساب أجر.(216/2)
الصدقة على المصلي المنفرد بالصلاة معه
من ذلك الصدقة على المصلي المنفرد الوحيد، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا رجلٌ يتصدق على هذا فيصلي معه) وله قصة، فعن أبي سعيد الخدري: (أن رجلاً دخل المسجد وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يتصدق على ذا فيصلي معه؟ فقام رجلٌ من القوم فصلى معه) فإذاً صدقتك على المصلي المنفرد بالصلاة معه تؤجر عليها كما ورد في الحديث الصحيح، ولو كان عقب صلاة الفجر أو عقب صلاة العصر، قيام الرجل مع أخيه يكسبه أجر الجماعة ويرأف بحاله خصوصاً المتأخر لعذر الذي فاتته صلاة الجماعة يجد أخاً مسلماً في المسجد يواسيه فيصلي معه.(216/3)
احتساب الأجر في الإنفاق على أدوات الجهاد
واحتساب الأجر في الإنفاق على الخير وأدوات الجهاد في سبيل الله فيها أجرٌ عظيم، قال صلى الله عليه وسلم: (المنفق على الخيل في سبيل الله كباسط يديه بالصدقة لا يقبضها) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح، وهذا باب عظيم من أبواب الأجر لئن كنا حرمنا منه نتيجة عدم رفع راية الجهاد الصادقة في سبيل الله، فإن المخلصين من المسلمين يبحثون عن أمثال تلكم الأبواب ولو كانت قليلة شحيحة في هذا الزمن ليضعوا فيها أموالاً من أموالهم، يحبسون بها أدراعاً وأسيافاً وخيلاً في سبيل الله، فكذلك يحبسون اليوم من أدوات القتال الحديثة يعينون به المجاهدين في سبيل الله، وما ينفق فيها من صيانتها وذخيرتها فهي تجري عليهم باباً عظيماً من أبواب الصدقة لا يغلق لهم؛ جزاءً وفاقاً على ما أعانوا المجاهدين في سبيل الله.(216/4)
أبواب متفرقة في الصدقة
قال صلى الله عليه وسلم: (على كل سلامى من ابن آدم في كل يوم صدقة، ويجزي عن ذلك كله ركعتا الضحى) وقال مبيناً ذلك في الحديث الصحيح الآخر: (في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة) حق الله في هذه المفاصل التي أنعم بها علينا يجب علينا في كل يوم صدقة عن كل مفصل، فكيف يا ترى نحصل ثلاثمائة وستين صدقة في اليوم لكي نقوم لله بشكر نعمة هذه المفاصل؟ فقال صلى الله عليه وسلم رافعاً هذا الحرج: (النخاعة في المسجد تدفن -هذا البلغم والأذى والبصاق المتجمع في جدران المسجد أو في أرضه أو في بابه تحكه فتنظف المسجد منه- ذلك صدقة، والشيء تنحيه عن الطريق صدقة).
وقال عليه الصلاة والسلام: (يصبح على كل سلامى من ابن آدم صدقة، تسليمه على من لقيه صدقة، وأمره بالمعروف صدقة، ونهيه عن المنكر صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وبضعه في أهله صدقة، ويجزئ من ذلك كله ركعتان من الضحى) (فكل تسبيحة صدقة -كما في رواية- وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان تركعهما من الضحى) وقال صلى الله عليه وسلم: (ابن آدم ثلاثمائة وستون مفصلاً، على كل واحدٍ منها في كل يوم صدقة، فالكلمة الطيبة يتكلم بها الرجل صدقة، وعون الرجل أخاه على الشيء صدقة -لو أعنته على فتح قارورة لا يستطيع فتحها كان ذلك منك صدقة- والشربة من الماء يسقيها صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة).
وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً أيضاً: (كل سلامى من الناس عليه صدقة -على كل مفصل صدقة- كل يوم تطلع فيه الشمس؛ تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة -وضعك المتاع في سيارة أخيك ومساعدته في حملها على دابته صدقة- والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة، ودل الطريق صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة).
من أبواب الصدقة: التكبير وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله وأستغفر الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعزل الشوك عن طريق الناس والعظم والحجر، وتهدي الأعمى، وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه، تشير له تفهمه حتى يفهم ما يريد، وتدل المستدل على حاجة قد علمت مكانها، لو سألك عن دكان خبزٍ فدللته عليه صدقة، وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك، ولك في جماع زوجتك أجرٌ: (أرأيت لو كان لك ولدٌ فأدرك ورجوت أجره فمات، أكنت تحتسب به؟ فأنت خلقته، فأنت هديته، فأنت ترزقه، فكذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه، فإن شاء الله أحياه وإن شاء أماته، ولك أجر) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: (يصبح على كل سلامى من أحدكم في كل يوم صدقة، فإنه بكل صلاة صدقة، وصيام صدقة، وحج صدقة، وتسبيح صدقة، وتكبير صدقة، وتحميد صدقة، ويجزئ أحدكم من ذلك ركعتا الضحى).
فإذا أردت أن تعرف كيف تحصل ثلاثمائة وستين صدقة في اليوم، وهو حق الله في هذه المفاصل فارع سمعك لهذه الأبواب المتعددة التي يذكرها محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
هؤلاء الفقراء من المسلمين قالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور -أهل الأموال ذهبوا بالأجر- يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم) -لقد تفوقوا علينا بالأموال يتصدقون منها فيؤجرون ونحن فقراء، كيف نفعل لاستدراك ما فاتنا وتعويض النقص الذي عندنا في هذا الباب من أبواب الأجر؟ فماذا قال لهم صلى الله عليه وسلم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة ونهيٌ عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجرٌ؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أليس يكون عليه وزرٌ، فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون له أجر) وجماعك زوجتك أيها المسلم تبتغي إعفاف نفسك وإعفافها، وابتغاء الولد لك صدقة عند الله، وقال صلى الله عليه وسلم: (أمط الأذى عن الطريق فإنه لك صدقة) وقال عليه الصلاة والسلام: (أفضل الصدقة سقي الماء) حديث حسن.
وقال عليه الصلاة والسلام وجاء في الحديث أيضاً: (إن سلامك على عباد الله صدقة) وقال صلى الله عليه وسلم: (على كل مسلم صدقة، فإن لم يجد فيعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، فإن لم يستطع فيعين ذا الحاجة الملهوف، فإن لم يفعل فيأمر بالمعروف) هذا كله من أبواب الصدقات.
وقد كانت أمنا زينب أم المساكين تعمل بيدها لتتصدق، فقال عليه الصلاة والسلام: (أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً) فكانت زينب رضي الله عنها أول من لحق به من أزواجه.(216/5)
قرض الناس له أجر عظيم
ويبين عليه الصلاة والسلام باباً آخر من أبواب الصدقة، فيقول: (إن السلف يجري مجرى شطر الصدقة) حديث صحيح رواه الإمام أحمد، وقال موضحاً: (من أقرض ورقاً مرتين كان كعدل صدقة مرة).
فأنت أيها المسلم إذا أسلفت رجلاً سلفاً، إذا أعطيته مالاً ديناً -مثلاً- ألف ريالٍ فكأنك تصدقت بخمسمائة والألف سترجع إليك، فلو أسلفتها لرجل مرة أخرى له أو لغيره، كان لك أيضاً أجر نصفها صدقة، فصار لك أجر المال كله صدقة لك والمال سيرجع إليك، وهذا يبين فضل إقراض الناس وفك أزمة المحتاجين بالإقراض.
إن قال قائل: هذه البنوك الربوية لا تقرض إلا بالربا ونحن نحتاج مالاً، من الذي يقرضنا مثلاً بمثل دون زيادة؟ وما هو الدافع على إقراض الناس للناس إذا كانوا لا يأخذون فوائد ربا، الربا مهم لأجل إقراض الناس وفك الأزمات؟ فنقول: هذا في شريعة الكفرة لا في شريعتنا، أما شريعتنا فإن الحوافز على إقراض الناس للناس موجودة، في شريعتنا لا نحتاج إلى ربا، لا نحتاج إلى فوائد زعموا، في نار جهنم يأكلونها في بطونهم يوم القيامة، فإن في شريعتنا الحث على إقراض المحتاج من المال، ومن يقرض أخاه المسلم كان له من الأجر نصف ما أقرض صدقة، هل سمعت بفائدة خمسين في المائة؟ وأي بنك يعطيك ذلك؟ فاعلم بعد ذلك أن الإسلام قد أوجد الحل لمشكلة الإقراض بأبواب من الأجر أخروية ليست في الدنيا، فجعل في الإقراض الأجر العظيم، فمن أقرض مسلماً قرضاً كان له شطره صدقة، فكأنه تصدق بنصف المال ترغيباً للناس في إقراض الناس، فتنحل هذه الأزمة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من منح منحةً غدت بصدقة وراحت بصدقة صبوحها وغبوقها) وفي رواية للبخاري: (نعم الصدقة اللقحة، الصفي منحةً، والشاة الصفية منحةً، يغدو بإناء ويروح بإناء) تصور لو أنك تصدقت بشاة حلوب كان الإناء الذي يذهب به في أول النهار (شرب أول النهار الصبوح) والإناء الذي يشرب في أول الليل ويحلب من هذه الشاة وهو الغبوق، كل إناء يروح بصدقة في أول النهار، وكل إناء يغدو منها بصدقة.
فإذاً، أبواب الصدقة كثيرة، فمن الذي يتحفز ويتحمس لولوج هذه الأبواب الخفية التي قد يغفل عنها الناس؟! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من التوابين والمتطهرين، ونسألك أن تجعلنا من المتصدقين الذين يلجون أبواب الصدقة فيؤجرون عليها يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(216/6)
فضل الضيافة وإحياء الأرض
الحمد لله الذي لا إله إلا هو الكريم المنان مالك الملك، المال ماله، والخلق خلقه سبحانه وتعالى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، علمنا فأحسن تعليمنا، ووعظنا وأدبنا بكلامه وكلامه صلى الله عليه وسلم، جزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته، ورضي عمن تابعه وسلك سبيله إلى يوم الدين.
أيها المسلمون: مبيناً لباب آخر من أبواب الصدقة يقول صلى الله عليه وسلم: (الضيافة ثلاثة أيام، فما زاد فهو صدقة) وفي رواية: (فما كان وراء ذلك فهو صدقة) نقولها للذين حلَّ عليهم ضيوفٌ فأكثروا عليهم في أيام الضيافة، فإن كانوا من المحتاجين الذين لا مأوى لهم فليحتسبوا هذا الأجر عند الله.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من غرس غرساً، لم يأكل منه آدمي ولا خلق من خلق الله إلا كان له صدقة) يوضحه فيقول: (ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطيور فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة) رواه الإمام مسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يزرع زرعاً، أو يغرس غرساً فيأكل منه طيرٌ أو إنسان أو بهيمة إلا كانت له به صدقة) وقال: (من أحيا أرضاً ميتةً فله فيها أجر، وما أكلت العافية منها فهو له صدقة) فهذه الأغراس وهذه النباتات التي تزرع لو نوى بها وجه الله ونوى بها أجر الصدقة عندما يؤكل منها، بل عندما يعبث الأطفال فيها فيأكلون ويرمون الشجر فيأخذون من ثمره له فيه صدقة، وهذه الطيور التي تغدو وتروح على أغصان الأشجار فتأكل.(216/7)
تصدق الرجل بشيء من جسده
يا أيها الناس: أي دين أعظم من هذا الدين الذي جعلت فيه لنا كل هذه الأبواب؟! وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من رجلٍ يجرح في جسده جراحةً فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثلما تصدق) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح، فيه قصةٌ توضحه، مثالٌ من أمثلته فيها انقطاعٌ لكن فيها عبرة في مسند الإمام أحمد، قال: (كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار فاستعدى عليه معاوية وكان خليفة، فقال الأنصاري: إن هذا دق سني، قال معاوية: كلا.
إنا سنرضيك، وكأن معاوية رضي الله عنه رأى أن الدية أنفع للأنصاري وأرحم بالقرشي، قال: فلما ألح عليه الأنصاري، يعني: يطلب القصاص، قال معاوية: شأنك لصاحبك، وأبو الدرداء جالس، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم يصاب بشيء في جسده يتصدق به إلا رفعه الله به درجة، قال: فقال الأنصاري: أأنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم سمعته أذناي ووعاه قلبي، فعفا عنه) فهذا الذي يشهد له الحديث السابق وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (ما من رجلٍ يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثلما تصدق).
يبين أن الإنسان إذا اعتدي عليه بشيء فتصدق بدية هذا الجرح أو هذا السن، أو تصدق بدية الولد عندما يقال: فلان صدم ولد العائلة الفلانية بالسيارة فسامحوه بالدية، كلمة فسامحوه بالدية -أيها المسلمون- لها معنى عظيم جداً، تصور عندما يسامحونه بأكثر من مائة ألفٍ مثلاً كم يكون لهم من أجر الصدقة، والناس يغفلون، يحسبون فقط أنه من مكارم الأخلاق مع أن فيها أجراً عظيماً جداً، هذا من أنواع الصدقة.
وبالجملة يقول عليه الصلاة والسلام: (كل معروف صدقة) وقال: (كل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة).(216/8)
الإنفاق على الأهل
ولما كان بعض الناس يستخسرون في صرف الأموال على أهليهم، ويبخلون على زوجاتهم وأولادهم بالصرف جاءت هذه الأحاديث لتبين لك -يا عبد الله! يا أيها المسلم! - أجر الأموال التي تنفقها على أهلك، قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك -من المحتاجين- فإذا فضل عن ذي قرابتك شيءٌ فهكذا وهكذا من الأموال التي تنفق في أوجه الخير) وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة، وما أطعمت نفسك فهو لك صدقة) إذا كنت تبتغي وجه الله.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أعطى الرجل امرأته فهو صدقة) بعض الناس يبخلون على زوجاتهم بالمصروف، يقول لهم عليه الصلاة والسلام: (ما أعطى الرجل امرأته فهو صدقة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كل ما صنعت إلى أهلك فهو صدقة عليهم) وقال عليه الصلاة والسلام: (نفقة الرجل على أهله صدقة) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة) فاحتسبوا إذاً هذه الأموال التي تنفق على أهاليكم من المصروفات اليومية، مصروف الأكل واللبس والسكن وغيره صدقة.
(أربعة دنانير: دينارٌ أعطيته مسكيناً، ودينارٌ أعطيته في رقبة، ودينارٌ أنفقته في سبيل الله، ودينارٌ أنفقته على أهلك، أفضلها الذي أنفقته على أهلك) رواه البخاري في الأدب المفرد، وهو حديث صحيح.
إن صدقة من مالك صدقة، وإن نفقتك على عيالك صدقة، وإنما تأكل امرأتك من مالك صدقة، وإنك إن تدع أهلك بخير خيرٌ من أن تدعهم يتكففون الناس.
(ما كسب الرجل كسباً أطيب من عمل يده) و (ما أنفق الرجل على نفسه وأهله وولده وخادمه فهو له صدقة).
فإذاً يا عبد الله! أي دين أعظم من هذا الدين الذي يجعل حاجة الرجل النفسية في الإنفاق على من يعول صدقةً له؟! لكن نحن ننسى الاحتساب عندما ننفق على الأهل، وننسى الاحتساب عندما نشتري المأكولات من السوق، وننسى الاحتساب عندما نشتري ألبسة لأولادنا، وننسى الاحتساب ونحن ندفع إيجار السكن من أجلهم ومن أجلنا، إذا ابتغيت وجه الله فعليك الاحتساب.
أيها المسلمون: الاحتساب: حضور النية عند إخراج المال أن ذلك لوجه الله، وتنفيذاً لحكم شرعي ودرء المفسدة الشرعية الأخوية عن النفس.
(كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) كل هذا صدقة، فإن لم يحصل كل هذا المعروف، يقول عليه الصلاة والسلام: (كف شرك عن الناس فإنها صدقةٌ منك على نفسك) حديث صحيح.
فاغتنموا -أيها المسلمون- هذه الأبواب من أبواب الصدقات، واحرصوا ألا يفوتكم منها شيء، فإن هذه الدنيا دار عمل والآخرة دار حساب.
وأنت تتصدق الآن وتنفق، ولا تنتظر حتى إذا صرت في سياقة الموت، ونزل بك وبلغت الروح الحلقوم، قلت: أعطوا من هنا، وتصدقوا من هنا، ولا تنسوا هذا وهذا، كيف؟ لا يمكن أن يقبل تصرفك في مالك إذا بلغت الروح الحلقوم، صار المال لغيرك ولمن وراءك من الورثة، فاغتنم الفرصة إذاً وتصدق بما تجود به نفسك: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة:110] الصدقة بالكلمة، والصدقة بالبدن، والصدقة بالمال، الصدقة بالنية عند الاحتساب.
اللهم إنا نسألك أن تطهر قلوبنا من الشح والبخل، وأن تجعلنا من الكرماء في سبيلك، اللهم اجعلنا ممن ينفقون ويبذلون، اللهم اجعلنا ممن تضاعف لهم الأجور في صدقاتهم، واكتب لنا بها أجراً عندك يا رب العالمين، وأدخلنا من باب الصدقة في جنات النعيم.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(216/9)
عشر وقفات بعد رمضان
أتى الشيخ بعشر وقفات لابد أن يقفها من أحسن في شهر رمضان ومن أساء، فمن أحسن فليستمر، ومن أساء فما أحوجه إلى التوبة الجادة على ما فرط.
ثم ذكر أحكاماً متفرقة في باب الكفارات في الصيام؛ للمرضع والنفساء وغيرهما، وأنهى كلامه بنداء لكل من فرَّ أن يعود، ولكل من يئس أن يحسن الظن بربه وبعفوه ومغفرته.(217/1)
عشر وقفات للتأمل
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
عباد الله: لقد مر ذلك الشهر الكريم وانقضى رمضان وولى عنا، فواحزناه على ذلك الشهر الذي تولى! ووا أسفاه على رمضان الذي انقضى! ولكن السعيد من كان قد استودعه الأعمال الصالحة، والشقي من ضيع حق رمضان، وبعد انقضاء الشهر لنا وقفات نقفها في هذا الموقف حول رمضان الذي انقضى.(217/2)
الوقفة الأولى: من الذي استفاد من رمضان؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وقال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
وقال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
فمغفرة الذنوب لهذه الأسباب الثلاثة، كل واحدٌ منها مكفرٌ لما سلف من الذنوب، وهي صيام رمضان وقيامه وقيام ليلة القدر، فتحصل المغفرة والتكفير بقيام ليلة القدر ولمن وقعت له وأصابها، سواء شعر بها أم لم يشعر.
أما في صيام رمضان وقيامه فيتوقف التكفير بهما على تمام الشهر، فإذا تم الشهر فقد كمل للمؤمن صيام رمضان وقيامه، فيترتب على ذلك مغفرة ما تقدم من ذنبه، ومن نقص من العمل الذي عليه نُقص له من الأجر بحسب نقصه، فلا يلومن إلا نفسه.
الصلاة مكيال، والصيام مكيال؛ فمن وفاها وفّى الله له، ومن طفف فيهما فويلٌ للمطففين، أما يستحي من يستوفي مكيال شهواته، ويطفف في مكيال صيامه وصلاته؟ إذا كان الويل لمن طفف في مكيال الدنيا: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:1 - 3] فكيف حال من طفف مكيال الدين؟! {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5].
وهذا الويل لمن طفف، فكيف حال الذي فرط بالكلية؟ كيف حال الذي لم يقم ولم يصم وهم أعداد ممن ينتسبون إلى الإسلام؟! ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدركه رمضان فلم يغفر له، فأبعده الله -وقالها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم- ثم قال له: قل آمين، فقلت: آمين) دعاءٌ عليه بالإبعاد عن رحمة الله والطرد عنها؛ لأن ذلك الشهر قد مر ولم يستفد منه؛ لأن ذلك الموسم العظيم قد حصل ولم ينهل منه، لم ينتهز الفرصة فتباً له.
وإذا كان لم ينتهز الفرصة العظيمة فهو لإهمال ما هو أدنى منها من باب أولى، أي: إذا فرط في رمضان فتفريطه في غير رمضان من باب أولى، ولذلك أبعده الله؛ لأنه لا يستحق أجره، ولا يستحق الرحمة ولا المغفرة، ولا شك أيها المسلمون! أننا قد حصل منا تطفيف بالصيام والقيام، وقد حصل منا إخلالٌ بآداب الصوم الواجبة والمستحبة.(217/3)
الوقفة الثانية: التوبة من التقصير في العبادة
وهذا ما يدفعنا للوقفة الثانية وهي: توبة المقصر في صيامه وصلاته، والاستغفار عما مضى من الإخلال والتفريط في حق الله تعالى، وحق ذلك الشهر الذي انقضى ولم نستفد منه كما ينبغي: الاستغفار وهو الدعاء بالمغفرة، وقد جاء في حديث أبي هريرة: (يغفر فيه إلا لمن أبى، قالوا يا أبا هريرة! ومن يأبى؟ قال: من أبى أن يستغفر الله عز وجل) قال الحسن رحمه الله: [أكثروا من الاستغفار، فإنكم لا تدرون متى تنزل الرحمة] وقال واحدٌ ممن مضى لولده: يا بني! عوَّد لسانك الاستغفار، فإن لله ساعات لا يرد فيهن سائله.
وقد جمع الله بين التوحيد والاستغفار في قوله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] فعطف هذا على هذا مبيناً أهميته.
قال إبليس: أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار.
والاستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها، فتختم به الصلاة والحج وقيام الليل، وتختم به المجالس، فإن كانت مجالس ذكر كانت كالطابع عليها، وإن كانت مجالس لغوٍ كانت كفارة لها لما حصل فيها، فكذلك ينبغي أن يختم صيام رمضان بالاستغفار.
كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار والصدقة -صدقة الفطر- فإن صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، والاستغفار يرفع ما حصل من الخروق في الصيام باللغو والرفث.
وقال بعض أهل العلم: إن صدقة الفطر للصائم كسجدتي السهو.
وقال عمر بن عبد العزيز في كتابه: " قولوا كما قال أبوكم آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] وقولوا كما قال نوحٌ عليه السلام: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47] وقولوا كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] وقولوا كما قال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16] وقولوا كما قال ذو النون عليه السلام: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] صيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع وعملٍ صالح له شافع، كم نخرق من صيامنا بسهام الكلام ثم نرقعه وقد اتسع الخرق على الراقع، كم نرفو خروقه بمخيط الحسنات، ثم نقطعه بحسام السيئات القاطع ".
كان بعض السلف إذا صلى صلاةً استغفر من تقصيره فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه، إذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم، فكيف حال المسيئين؟ أنفع الاستغفار ما قارنته التوبة، والتوبة حل عقدة الإصرار على الذنب، فمن استغفر بلسانه وقلبه عن المعصية زالت، ومن كان عزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد رمضان ويعود فهذا صدقه غير موجود وباب القبول عنه مسدود، وصومه عليه مردود، يصوم ويقوم ويتابع على المعاصي كيف يكون ذلك؟! فالمهم أيها المسلمون أن نكثر من الاستغفار بعد هذا الشهر، علَّ الله أن يتجاوز عنا إسرافنا وتفريطنا وما حصل منا من المعاصي والسيئات في ذلك الشهر الذي تعظم فيه السيئة لفضله وشرفه.(217/4)
الوقفة الثالثة: (إنما يتقبل الله من المتقين)
لقد مضت الأعمال، والصيام، والقيام، والزكاة، والصدقة، وختم القرآن، والدعاء، والذكر، وتفطير الصائم، وأنواع البر التي حصلت، والعمرة التي قام بها الكثير، لكن هل تقبلت أم لا؟ هل قبل العمل أم لا؟ يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله، ويخافون من رده، وهؤلاء الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، يعطي ويخشى ألا يقبل منه، يتصدق ويخشى أن ترد عليه، يصوم ويقوم ويخشى ألا يكتب له الأجر.
قال بعض السلف: " كانوا لقبول العمل أشد منهم اهتماماً بالعمل ذاته، ألم تسمعوا قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] " فغير المتقين ما هو حالهم؟ وعن فضالة بن عبيد قال: لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبةٍ من خردل، أحب إليَّ من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]! يقول بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني ركعتين لا أهتم بعدها؛ لأنه يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]! وقال عبد العزيز بن أبي رواد رحمه الله: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا؟! وقع عليهم الهم، وليس وقعوا في المعاصي، وكان بعض السلف يقول في آخر ليلة من رمضان: يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنئه، ومن هذا المحروم فنعزيه.
أيها المقبول! هنيئاً لك، أيها المردود جبر الله مصيبتك، فإذا فاته ما فاته من خير رمضان فأي شيء يدرك، ومن أدركه فيه الحرمان، فماذا يصيب؟ كم بين من كان حظه فيه القبول والغفران ومن كان حظه فيه الخيبة والخسران؟ أيها المسلمون: من علامات التقوى: الامتناع عن الفسق بعد رمضان؛ إن الذي يخشى على عمله ولا يدري هل قبل منه أم لا؛ يجتهد في العبادة ويواصل في الطاعة، والذي يظن أنه قد عمل حسنات أمثال الجبال، فلا يهمه بعد ذلك ويقول: عندي رصيد وساعة لربك وساعة لقلبك.(217/5)
الوقفة الرابعة: المواصلة على العمل والطاعة بعد رمضان
عباد الله! إن الذي يتقي الله حق تقاته يواصل على الطاعة والعبادة، والله تعالى لما ذكر صفات المؤمنين لم يقيدها بوقت، ولم يخصها بزمان، قال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:1 - 3] ليس معرضين في رمضان فقط: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:4] متى ما دار الحول يزكي في رمضان أو في غيره، وبعض الناس إذا حال الحول في رمضان زكى ويهمل الزكاة في الأموال التي يحول عليها الحول في غير رمضان، فانتبهوا لهذه المسألة: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5] ليس في رمضان فقط، بل وفي غير رمضان.
أيضاً: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] دائماً هكذا مشيهم: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] هكذا هم في العادة: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:64] هم باستمرار يفعلون ذلك، وليس قيام رمضان فقط، وهكذا من سائر صفات المؤمنين، والسبب أننا مطالبون بالعمل إلى الموت بأمرٍ من الله تعالى، مرسومٌ رسمه الرب، وأمرٌ صدر من الرب، قال الله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] واليقين هو الموت، وقال الله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم:65] فلابد من الصبر والمصابرة على الطاعة.
وهذه وقفةٌ مهمة جداً في قضية الاستمرار على الطاعة، ولعله لهذا السبب شرع لنا صيام الست من شوال بعد رمضان، حتى لا تنقطع العبادة الجميلة وهي عبادة الصيام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام ستة أيامٍ بعد الفطر كان تمام السنة) {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160] هكذا يقول الله تعالى، وفي رواية: (جعل الله الحسنة بعشر أمثالها) وفي رواية: (فشهرٌ بعشر ذي أشهر) وفي رواية: (صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بشهرين فذلك صيام السنة) ستة في عشرة بستين، ستون يوماً هي شهران مع الشهر الذي صمناه في عشرة بعشرة أشهر، فتمت السنة وفضل الله عظيم، وكرمه واسع، وهباته مستمرة، وعطاؤه لا ينقطع، لكن أين العاملون؟ فمن فعل هذا دائماً فكأنما صام عمره، من كان كلما صام رمضان صام ستاً من شوال، فإنه يكون قد صام العمر وله أجر صيام الدهر.(217/6)
الوقفة الخامسة: عدم الاغترار بما حصل من طاعات
بعض الناس اجتهدوا فعلاً، صاموا وحفظوا جوارحهم، وختموا القرآن وبعضهم أكثر من مرة، وعملوا عمرة في رمضان، وصلوا قيام رمضان كله من أوله إلى آخره، لم يخرموا منه يوماً أو ليلة، وفعلوا ما فعلوا من الصدقات وقدموا ما قدموا، وجلسوا في المساجد من بعد الفجر إلى ارتفاع الشمس، وبعد الصلاة يقرءون القرآن، وقبل الصلاة ينتظرون الصلاة، حصلت عبادات كثيرة، لكن إذا كانت النفس سيئة، إذا كان الطبع متعفن فإن كثرة العبادة لا تنفع، بل إن الشيطان يوسوس ويقول: لقد فعلت أشياء كثيرة وطاعاتٍ عظيمة، خرجت من رمضان بحسنات أمثال الجبال، رصيدك في غاية الارتفاع، صحائف حسناتك مملوءة وكثيرة فلا عليك بعد ذلك ما عملت، ويصاب بالغرور وبالعجب، وتمتلئ نفسه تيهاً وفخراً، ولكن آية من كتاب الله تمحو ذلك كله، وتوقفه عند حده، وتبين له حقيقة الأمر وهي قول الله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] أتمن على الله؟ أتظن أنك عندما فعلت له هذه الأشياء تكون قد قدمت له أشياء عظيمة؟ تظنها كخدمة من خدمة البشر؟ {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] لا تمن على الله بعملك، لا تفخر، لا تغتر، لا تصاب بالعجب {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] وتتخيل أن أعمالك كثيرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الحسن: (لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضات الله تعالى لحقره يوم القيامة) لجاء يوم القيامة فرآه قليلاً ضعيفاً، لرأى عمله لا يساوي شيئاً، فإنه لو قارنه بنعمة واحدةٍ من النعم كنعمة البصر أو غيره، لصار هذا قليلاً لا يساوي شيئاً.
ولذلك فإن الناس لا يدخلون الجنة بأعمالهم، وإنما يدخلونها برحمة الله تعالى، ليست الأعمال ثمناً للجنة، لكنها سببٌ لدخول الجنة، لا ندخل الجنة إلا بالأعمال الصالحة، الذي لا يعمل صالحاً لا يدخل الجنة، فهي سبب لكنها ليست الثمن، فبدون رحمة الله الأعمال لا تؤهل لدخول الجنة، بل ولا تسديد حق نعمة واحدة من النعم.(217/7)
الوقفة السادسة: عدم تكليف النفس ما لا تطيق
أيها المسلمون: ونُذكر أيضاً بأن الاستمرار في العبادة والطاعة وهضم النفس مع وجوبهما، فإن ذلك لا يعني أن يكلف الإنسان نفسه فوق ما يطيق (خذوا من العبادة ما تطيقون، فإن الله لا يسأم حتى تسأموا) حديث صحيح.(217/8)
الوقفة السابعة: الحال بعد رمضان لا يكون كرمضان
وهنا وقفة سابعة وهي: أنه لا يشترط أن نكون بعد رمضان كما كنا في رمضان، فنحن نعلم أن ذلك موسمٌ عظيم، لا يأتي بعده مثله إلا رمضان الذي بعده، لا يأتي شهرٌ فيه خيرات ومغفرة ورحمة وعتق كما في هذا الشهر الذي انصرم، فنحن لا نقول: كونوا كما كنتم في رمضان من الاجتهاد، النفس لا تطيق ذلك، لكن لا للانقطاع عن الأعمال، الخطورة في الانقطاع يا عباد الله! لابد من أخذ الأمور بواقعية، ليس من المطلوب أن نكون بعد رمضان مثل رمضان، كان ذلك شهر اجتهاد له وضعٌ وظرفٌ خاص، لكن الانقطاع عن الأعمال لا.
ترك الصيام بالكلية لا.
ترك القيام بالكلية لا.
ترك ختم القرآن بالكلية لا.
ترك الدعاء والذكر والصدقة والعمرة لا.
استمروا على العمل وإن كان أقل مما كان في رمضان، ثم إن الله سبحانه وتعالى إذا كان العبد مواصلاً على عمله، لو أصابه عارض؛ لو مرض، لو سافر، يكتب له من الأجر مثلما كان يعمل صحيحاً مقيماً، وجاء في الحديث: (إذا مرض العبد قال الله للكرام الكاتبين: اكتبوا لعبدي مثل الذي كان يعمل حتى أقبضه أو أعافيه) حديث صحيح.
إذاً هذه من فوائد المواصلة على الطاعة والعبادة.
أيها المسلمون! من الوقفات المهمة أن الاستمرار على الطاعة والعبادة سببٌ لحسن الخاتمة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعمله، قيل: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعملٍ قبل الموت ثم يقبضه عليه) فإذا كان من الصالحين كانت عبادته حسنة، وكذلك فإن عبادتنا لله تعالى في جميع الأوقات والأحيان سواءً في السراء أو الضراء في رمضان أو في غير رمضان، في أوقات الرخاء والشدة، في أوقات المحنة والنعمة، إذا كانت مستمرة فإن الأجر يعظم: (عبادة في الهرج والفتنة كهجرة إليه) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، العبادة في وقت الفتن واختلاط الأمور أجرها كأجر المجاهد في سبيل الله تعالى، عندما لا يشجع الجو على العبادة، عندما يرجع كثير من الناس إلى فتورهم بعد رمضان، عندما تقوم أنت بالعبادة لا شك أن لك أجراً عظيماً، عندما فتر الناس أنت نشطت، عندما تقاعس الناس أنت قدمت، عندما تخلفوا أنت تقدمت.
أيها المسلمون: إن هنا مفهوماً عظيماً، وهي أن العبادة هي أصلٌ في حياتنا، إنها ليست قضية طارئة، إنها ليست قضية مؤقتة، إنها ليست قضية محددة بزمانٍ أو مكان، إنها مستمرة، من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله شابٌ نشأ على طاعة الله تعالى.(217/9)
الوقفة الثامنة: إلى كل من دخل وخرج بالمعاصي من رمضان
أيها المسلمون: من الوقفات العظيمة التي نقفها الوقفة الثامنة: للذين دخلوا رمضان بالمعاصي وخرجوا بالمعاصي إنهم لم يستفيدوا شيئاً، قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} [المائدة:61] قال ابن كثير رحمه الله: هذه صفة المنافقين، وقد دخلوا، أي: عندك يا محمد! بالكفر، يعني: مستصحبين بالكفر في قلوبهم، ثم خرجوا من عندك والكفر كامنٌ فيها، لم ينتفعوا بما سمعوا، لم يفد فيهم العلم، لم تنجح فيهم المواعظ والزواجر.
فالذين دخلوا رمضان ثم خرجوا مثلما كانوا قبل رمضان، أو أسوأ تنطبق عليهم هذه الآية، دخلوا بالمعاصي وخرجوا بالمعاصي، بعد رمضان رجعوا إلى ما كانوا فيه من المنكرات، لم يستفيدوا من رمضان، رمضان لم يورث توبةً عندهم، ولا استغفاراً ولا إقلاعاً عن المعاصي، ولا ندماً على ما فات، لقد كانت محطةً مؤقتة ثم رجعوا إلى ما كانوا فيها.
هذه النفسية السيئة هل عبدت الله حق عبادته؟ هل وفت حق الله؟ هل أطاعت الله أصلاً؟ هذه مصيبة كبيرة أن يعود شراب الخمور إلى خمورهم، ومتعاطو المخدرات إلى مخدراتهم، وأصحاب الزنا إلى الزنا، وأصحاب الربا إلى الربا، وأصحاب الفسق ومجالس اللغو إلى اللغو، أن يعود أصحاب السفريات المحرمة إلى السفريات المحرمة، هذه مصيبة والله وكارثة، دخلوا بالمعاصي وخرجوا بالمعاصي، لم يستفيدوا شيئاً أبداً! أيها المسلمون: بعض الناس يتصور أن ما حصل في رمضان كافٍ للتكفير عن سيئات الإحدى عشر شهراً القادمة، ولذلك فهو يحمل على ما مضى، ويعول على ما مضى، وكأن هذا باعتباره ونظره ما حصل منه كافٍ، مستند يستند عليه، ومتكئ يتكئ عليه لمعصية الله تعالى وهو ما درى، ربما رد على أعقابه ولم يقبل منه عملٌ واحدٌ في رمضان.(217/10)
الوقفة التاسعة: مآسي ما بعد رمضان
لقد حصل كثير من البلايا في رمضان، هذا أكل مجاملة لكفار، دخل عليهم المكتب وهم يأكلون أكل معهم وهذه حصلت، وهذا وقع على زوجته في نهار رمضان، وانتهك حرمة الشهر الكريم بأسوأ مفطر من المفطرات، وعليه الكفارة المغلظة عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع لمرضٍ وعذرٍ حقيقي لا تلاعب فإنه يطعم ستين مسكيناً، فكيف بمن زنا في رمضان، وفعل الفاحشة في رمضان، من وطئ في قبلٍ أو دبرٍ حلالٍ أو حرامٍ أو بهيمةٍ لزمته الكفارة المغلظة، هذا كلام العلماء فيمن حصل له ذلك في نهار رمضان، قتلى حوادث السيارات في العيد الذين يخرجون متهورين لا تسعهم الفرحة، الفرحة بالمعصية، الفرحة بانقضاء موسم الطاعة، ماذا يكون حالهم؟(217/11)
الوقفة العاشرة: الفائزون في رمضان
يقول الناس لبعضهم البعض في العيد من العبارات التي يقولها العامة: من العايدين ومن الفايزين، هل تعلمون منهم الفائزون؟ قال الله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] وقال الله عن أهل الجنة: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100] {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11] فالفوز الحقيقي الفوز في الجنة.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل الجنة، نسأل الله أن يجعلنا ممن قبل أعمالهم في رمضان، اللهم تقبل ما حصل من العمل، واغفر لنا الخطأ والتقصير والزلل، اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تلم بها شعثنا، وتغفر بها ذنبنا، وترحم بها ميتنا، وتشفي بها مريضنا، وتقضي بها ديننا، اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تجعلنا فيها بعد هذا الشهر الكريم خيراً مما كنا قبله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(217/12)
أحكام الكفارات والقضاء في الصيام
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم، رب الأرض والسماء، وأصلي وأسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أشهد أنه رسول الله حقاً، والمبلغ عن الله صدقاً، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين.
عباد الله: لقد غادرنا رمضان وترك في قلوبنا شيئاً من الحزن وغصة في النفس.
دع البكاء عن الأطلال والدار واذكر لمن بان من خلٍ ومن جار
واذر الدموع نحيباً واضحاً أسفاً على فراق ليالٍ ذات أنوار
على ليالٍ لشهر الصوم ما جعلت إلا لتمحيص آثام وأوزار
يا لائمي في البكا زدني به كلفاً واسمع غريب أحاديثي وأخباري
ما كان أحسننا والشمل مجتمعٌ منا المصلي ومنا القانت القاري
أي شهرٍ قد تولى يا عباد الله عنا
حق أن نبكي عليه بدماءٍ لو عقلنا
كيف لا نبكي لشهرٍ مر بالغفلة عنا
ثم لا نعلم أنا قد قبلنا أو طردنا
ليت شعري من هو المحروم والمطرود منا
ومن المقبول ممن صام منا فَيُهَنّا
كان هذا الشهر نوراً بيننا يزهر حسنا
فاجعل اللهم عقباه لنا نوراً وحسنا
هذا شهرٌ مبارك الذي نحن فيه أيضاً وهو شهر شوال، وعوضنا الله لنا بأشياء، به تبتدأ أشهر الحج (شوال وذي القعدة وعشر ذي الحجة) ويأتي بعده موسم الحج بأشهر الحج دلالة على الاستمرار في الطاعة وحتى لا ينسى الناس العبادة، موسم عظيم بعد موسم عظيم، وفي هذا الشهر -شهر شوال- صوم الست وقضاء الاعتكاف، فقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم عشراً من شوال لما فاته الاعتكاف في رمضان، وربما كان يفوته في الغزو والجهاد، وهو شهر بناءٍ ونكاح وإعفافٍ بالحلال، قالت عائشة: [تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، وبنا بي في شوال، وكانت عائشة تستحب أن تدخل نسائها في شوال] كما جاء في صحيح مسلم.
أيها المسلمون: تذكروا بعض الأحكام الشرعية، من فاته شيءٌ من رمضان كالمسافر والمريض والحائض والنفساء فإنه يقضي بعدد الأيام التي أفطرها لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فإن كان الشهر ثلاثين وأفطره لزمه ثلاثين، وإن كان تسعة وعشرين أفطره لزمه تسعة وعشرون، ويجوز أن يقضيه متتابعاً أو مفرقاً، وهذا هو الراجح، فإن الله لم يشترط التتابع، وإنما أطلق فقال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184].
وتنبغي المبادرة إلى القضاء، والأولى أن يكون من حين زوال العذر؛ لأنه أسبق إلى الخير وأسرع في إبراء الذمة، ويجوز أن يؤخره حتى لا يكون بينه وبين رمضان الثاني بعدد الأيام التي بقيت، ولا يجوز تأخير القضاء أكثر من ذلك أبداً، ومن فعله فهو عاصٍ وعليه التوبة وكفارة التأخير، ولكن من أخر لعذرٍ فليس عليه شيء، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: [كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان].
ومن شرع في صومٍ واجب كالقضاء أو الكفارة والنذر، فلابد له من إتمامه، وليس مخيراً في الإفطار، ولابد من نية لصيام القضاء من الليل.
واعلموا رحمكم الله أن قضاء رمضان قبل صيام الست: (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر) ولو لم يكف شهر شوال للقضاء والست فليبدأ بالواجب، بل إن صيام الكفارة الواجب يقدم على صيام الست، ولا قضاء للست بعد شوال ولكن يصوم من ذي القعدة إذا لم يكف الوقت لاستدراك ما يمكن استدراكه من الخير.
والأفضل النية لصيام الست من الليل خروجاً من خلاف أهل العلم، ولكن من أصبح فصام في الصباح ونوى ولم يأكل شيئاً فصيامه صحيح، ونفله مقبول عند الله عز وجل، والصائم متطوعاً يجوز له أن يفطر أثناء النهار لحديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ: يا عائشة! هل عندكم شيءٌ؟ قالت: فقلت يا رسول الله! ما عندنا شيء، قال: فإني صائم، قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهديت له هدية، قالت: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله! أُهديت لنا هدية وقد خبأت لك شيئاً، قال: ما هو؟ قلت: حيسٌ -طعام من التمر والأقط والسمن- قال: هاتيه، فجئته به فأكل، ثم قال: قد كنت أصبحت صائماً) قال طلحة: فحدثت مجاهداً بهذا الحديث، قال: ذاك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله، فإن شاء أمضاها وإن شاء أمسكها رواه مسلم، لكن إن سلمها للفقير فلا يجوز له الرجوع فيها.
فإذاً حثوا النساء على القضاء (الحامل والمرضع كذلك) فالراجح أن عليهما القضاء فقط، أفطرتا عن نفسيهما أو ولديهما، وإن أطعمت مع القضاء أحسن، لكن الراجح أن عليهما القضاء فقط كالمريض، وكذلك نذكر الذين لم يخرجوا الزكاة، بعضهم أخرج جزءاً من الزكاة في رمضان، سارعوا بإخراج بقية الزكاة يرحمكم الله.(217/13)
وأخيراً نداء
يا من أعتقه مولاه من النار! إياك أن تعود إليها بعد أن صرت حراً من رق الأوزار، أيبعدك مولاك من النار وأنت تقترب منها، وينقذك منها وأنت توقع نفسك فيها ولا تحد عنها؟!! إن كانت الرحمة للمحسنين فالمسيء لا ييأس منها، وإن تكن المغفرة مكتوبةٌ للمتقين فالظالم لنفسه غير محجوب عنها ورحمة الله واسعة.
إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ فمن الذي يرجو ويدعو المسلم
ونعم الله متوالية متعددة فالحمد لله على نعمائه.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، كن مع المجاهدين، اجمع شملهم على الحق والتوحيد يا رب العالمين، دمر أعداء الدين، اكبتهم وزلزل الأرض من تحتهم، واجعلها عليهم سني كسني يوسف، اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، واغفر لنا سائر الآثام والأوزار.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.(217/14)
قصة أبي هريرة وإناء اللبن
أورد الشيخ حفظه الله حديث أبي هريرة وقصته مع إناء اللبن، ثم استطرد في شرحه وبيان كيف كان حال الصحابة رضوان الله عليهم في العيش ومعاناة الجوع، وختم ذلك بذكر فوائد من الحديث، ثم أسئلة مبينة لما انبهم من الدرس.(218/1)
نص حديث أبي هريرة وإناء اللبن
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على النبي المصطفى الأمين، خير خلق الله وخاتم رسله أجمعين، وعلى آله وصحبه والذين ساروا على هديه واقتفوا سنته ومنهجه القويم، ومن تبعهم بإحسان وتأسى بهم إلى يوم الدين.
أيها الإخوة: سنتحدث إن شاء الله إليكم في هذه الليالي المباركة عن سلسلة من القصص من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع ذكر شرحها وفؤادها، وفي هذه الروائع من الكلام الذي جاء عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم مما رووه عن نبينا صلى الله عليه وسلم دروسٌ عظيمة وفائدة كبيرة لنا جميعاً.
وفي هذه الليلة نتحدث عن قصة أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مع أهل الصُّفة في إناء اللبن، وهذه القصة تبين عيش النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف كان عيش أصحابه رضي الله تعالى عنهم.
روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: (آلله -وفي رواية-: والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: يا أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق، ومضى فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبناً في قدح، فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية، أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أنا أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: يا أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: خذ فأعطهم، قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إليّ فتبسم، فقال: أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله! قال: اقعد فاشرب فقعدت فشربت، فقال: اشرب فشربت، فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً، قال: فأرني، فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة).
هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب الرقاق من صحيحه، وأخرجه الترمذي وأحمد في كتبهم.(218/2)
أحاديث تبين حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
هذا الحديث يبين كيف كانت عيشة النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن اليوم في هذا الشهر من رمضان على طعام الإفطار نضع ألواناً من الطعام والشراب، فحريٌّ بنا أن نتذكر كيف كانت عيشة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن نستحضر في أنفسنا ما كانوا عليه من شظف العيش، فقد كانوا يعانون ويقاسون ومع ذلك صبروا، واجتمعت عليهم أمم الأرض فلم يغيروا ولم يبدلوا.
لقد كان بإمكان النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيش ملكاً من الملوك، لقد كان بإمكانه أن تجبى إليه خزائن الدنيا، ولكنه صلى الله عليه وسلم فضَّل أن يعيش على الزهد وعلى هذا الحال، حتى أن زوجته عائشة رضي الله عنها تقول لـ عروة: (يا بن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار -شهران كاملان لا يوجد طبخ، ولا توقد نار؛ لم يكن عندهم شيء يطبخونه- فقلت: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء -سميا بالأسودين من باب التغليب، وإلا فالماء شفاف لكن أطلق عليه الأسود تغليباً مع التمر الأسود- قالت: إلا أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كان لهم منائح -والمنحة هي العطية من الشاة أو البقر- وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبياتهم فيسقيناه)، وكذلك قال سهل رضي الله عنه: (ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله) ما رأى الخبز الأبيض النقي حتى قبضه الله، فقلت: (هل كانت لكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مناخل؟ قالت: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله، قلت: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ قالت: كنا نطحنه وننفخه فيطير ما طار وما بقي ثريناه فأكلناه) رواه البخاري رحمه الله أيضاً.
وروى مسلم، عن عائشة قالت: (جئنا بـ عبد الله بن الزبير إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحنكه، فطلبنا تمرة فعز علينا طلبها) بحثنا عن تمرة فعز علينا طلبها.
وكذلك روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: [ما شبعنا حتى فتحنا خيبر] ما شبعوا من التمر إلا في العام السابع من الهجرة، وقال الصحابي: (ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً ولا شاةً مسموطةً حتى لقي الله) الشاة المسموطة: الصغيرة ذات الجلد الطري التي تطبخ مع جلدها ثم تقشر فتؤكل، وهي من طعام المنعمين، هذه ما رآها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أكلها.
وكذلك روى البخاري رحمه الله عن عائشة أنها سُئلت: (أنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث؟ قالت: ما فعله إلا في عام جاع الناس فيه، فأراد أن يطعم الغني الفقير، وإن كنا لنرفع الكُراع -الكُراع: ما استدق من الساق ما فيه إلا شيء قليل من اللحم- فنأكله بعد خمس عشرة، قيل: ما اضطركم إليه؟ فضحكت، قالت: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز بر مأدوم ثلاثة أيام حتى لحق بالله).
وقالت أيضاً فيما رواه البخاري رحمه الله: [لقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وما في رفي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير -نصف- في رفٍ لي، فأكلت منه حتى طال عليّ، فكلته ففني] لو تركته بدون كيل لبقي، فلما كالته انتهى وفني.
وقال سعد: (لقد رأيتني سابع سبعة مع النبي صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الحُبلة أو الحَبلة -أي: ورق الشجر- حتى يضع أحدنا ما تضع الشاة ما له خلط) لا يتبرز إلا مثل الشاة.
وكذلك فإن هذا الحديث الذي سقناه في بداية الدرس دليل على ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعانون.(218/3)
شرح قصة أبي هريرة وإناء اللبن
هذه القصة العظيمة التي رواها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (آلله -أو- والله الذي لا إله إلا هو -يحلف- إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع) أي: ألصق بطني بالأرض من الجوع، فإما أن يكون المعنى أنه كان يشد الحجر على بطنه حتى لا يشعر بالجوع، أو أنه كناية عن سقوطه إلى الأرض مغشياً عليه، كما قال هو رضي الله عنه (فمشيت غير بعيد فخررت على وجهي من الجهد والجوع)، فكان يصل إلى درجة الغشيان، قال: (لقد رأيتني وإني لأخر ما بين المنبر والحجرة -يطوف بينهما ما عنده شيء في غاية الجوع- مغشياً عليّ من الجوع، فيجيء الجائي -يراه مغشياً عليه- فيضع رجله على عنقي يرى أن بي جنوناً وما بي إلا الجوع) كأنه كان يريد أن يقرأ عليه ليخرج الجن، يحسبه مصروعاً فيه جن، فيخرج الجن وما به جن ولا صرع ما به إلا الجوع، وقال: (كنت من أهل الصفة، وإن كان ليغشى عليّ فيما بين بيت عائشة وأم سلمة من الجوع)، وفي رواية: (وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطني) يلزمه بأخذ الأحاديث والعلم وليس له إلا الطعام فقط، وقال في رواية: (وكنت ألصق بطني بالحصى من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية وهي معي -أي: أحفظها وأعلم بها منه كي يتفطن لحالي- كي ينقلب بي فيطعمني، وكنت إذا سألت جعفر بن أبي طالب -وكان يلقب بأبي المساكين رضي الله عنه- لا يعطيني جواب السؤال حتى يذهب بي إلى منزله ويطعمني)، قال: (وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع) وفي رواية: يقول عبد الله بن شقيق: [أقمت مع أبي هريرة سنة، فقال: لو رأيتنا وإنه ليأتي على أحدنا الأيام ما يجد طعاماً يقيم به صلبه، حتى إن كان أحدنا ليأخذ الحجر فيشد به على أخمص بطنه، ثم يشده بثوبه ليقيم به صلبه] الحجر في حالة الجوع الشديد إذا شد على البطن يفيد في الاعتدال والانتصاب، لأن الإنسان مع الجوع الشديد ينحني، فيشد الحجر على بطنه ويساعده على الاعتدال والانتصاب، أو يمنع كثرة تحلل الغذاء الذي في البطن فيبقى الطعام أكثر لكي يقتات به أكثر، أو حتى يبرد بالحجر حرارة الجوع في بطنه، فهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في شظف العيش، صبروا معه وما ذهبوا عنه يميناً ولا شمالاً.
يأخذون صفائح رقاق من الحجر بطول الكف أو أكبر قليلاً، فيربطها الواحد منهم على بطنه وتشد بعصابة فوقها فتعتدل قامته بعض الاعتدال، قال أبو هريرة: (ولقد قعدت على طريقهم الذي يخرجون منه)؛ لأن طرق الصحابة من منازلهم إلى المسجد كانت متحدة في طريق واحد إلى المسجد (فمر بي أبو بكر فسألته عن آية ما سألته إلا ليشبعني -وفي روية- ليستتبعني) أي: يطلب مني أن أتبعه ليطعمني، ما كان أبو هريرة يريد أن يقول: هات وأعطني، كان متعففاً عن السؤال، لكنه كان مع ضرورة الحال يسأل السؤال وهو يعلم الجواب لعل المسئول يتفطن لحاله فيدعوه لطعام أو يعطيه شيئاً، مرَّ أبو بكر رضي الله عنه ولم يفطن لحال أبي هريرة، ثم مرَّ به عمر رضي الله عنه فسأله أبو هريرة فلم يفطن عمر رضي الله عنه لذلك أيضاً.
وعمر بعد ذلك علم، يقول أبو هريرة: (فلقيت عمر فذكرت له وقلت له ما حصل، أو ما كان مني) فتأسف على عدم إدخال أبي هريرة داره، وأنه لم يفطن له، وقال: لـ أبي هريرة معتذراً بعد أن عرف القصة: [والله لئن أكون أدخلتك أحب إليّ من أن يكن لي حمر النعم].(218/4)
تفطن النبي صلى الله عليه وسلم وتفقده لأحوال أصحابه
قال: (ثم مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم أبو القاسم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي) فالتبسم يكون تارة للعجب، وتارة لإيناس الشخص الذي تتبسم إليه، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان متفطناً لحال أصحابه، فأول ما رأى أبا هريرة عرف في وجهه الجوع، وعرف أنه يحتاج إلى ما يسد رمقه، (ثم قال لي: يا أبا هر!) وهذا نوع من التحبب وأبو هر على التكبير، وأبو هريرة على التصغير؛ لأن هريرة تصغير هر، وكان لـ أبي هريرة هرة يلازمها فكني بـ أبي هريرة، قال: (يا أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله) وفي رواية: (فقلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: الحق ومضى فتتبعته فلحقته، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام على أهله فاستأذن)، وفي رواية: (فاستأذنت فأذن لي، فدخل أبو هريرة رضي الله عنه).
وفي رواية: (فدخلت فوجد النبي عليه الصلاة والسلام في البيت عنده لبناً في قدح، فسأل عليه الصلاة والسلام: من أين هذا اللبن؟ -ما هو مصدره؟ من أين لكم هذا؟ يقول - قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة) والنبي عليه الصلاة والسلام كان يأكل الهدية، ولكن لا يأكل الصدقة، مقامه أرفع من أن يأكل صدقات الناس، لكن الهدية يأكل منها؛ لأن الهدية ليس فيها إزراء ولا تنزيل من المقام، ولا إسفاف على النفس، والنبي عليه الصلاة والسلام لما وجد اللبن ما قال لـ أبي هريرة: خذ واشرب، قال: (الحق إلى أهل الصفة).(218/5)
تعريف بأهل الصفة ومكانهم وتحديد مكان الروضة
أهل الصفة: أضياف الإسلام، هؤلاء أناس فقراء أسلموا، جاءوا من القبائل إلى المدينة، ما عندهم أهل ولا مال، ولا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، وكان عليه الصلاة والسلام إذا جاءه الرجل وله قريب في المدينة أو عريف نزل عليه، فإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة، وكان أهل الصفة أناساً فقراء لا منازل لهم، فكانوا ينامون في المسجد لا مأوى لهم غيره، أين مكان أصحاب الصفة الآن في المسجد النبوي؟ هل القبلة شمال البيت النبوي والقبر النبوي أو جنوب البيت النبوي؟ جنوب؛ لأن مكة جنوب المدينة، على الناحية الأخرى، أي: شمال القبر النبوي.
منبر النبي عليه الصلاة والسلام معروف، ومكانه موجود، وبيت النبي عليه الصلاة والسلام في حجرة عائشة التي دفن فيها صلى الله عليه وسلم ما بين البيت والمنبر روضة من رياض الجنة -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- لعله أراد تشجيع حلق الذكر في هذا المكان، وحلق الذكر من رياض الجنة.
والمكان هذا فيه فضل، وقد ذهب ابن القيم رحمه الله إلى أن ما بين البيت والمنبر روضة من رياض الجنة أي: على الحقيقة، وأن هذا المكان هو من الجنة، أو يكون هذا المكان في الجنة يوم القيامة.
كان النبي عليه الصلاة والسلام له حجرات، باب حجرة عائشة يفتح من جهة المنبر، وكذلك بيوت نساء النبي صلى الله عليه وسلم، لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم دفن في حجرة عائشة كما قال: (ما من نبي يموت إلا دفن حيث يموت).
ودفن أبو بكر إلى جانبه وإلى جانبهما عمر رضي الله عنهما، ثم في العهود السابقة جاء من أدخل الحجرة في المسجد في عهد الوليد، وإلا لكانت الحجرات خارج المسجد، ولما جاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى سداً لذريعة الشرك والبدع بنى جدراناً مثلثة حول القبر النبوي، وقبر صاحبيه، بحيث لا يستطيع أحد أن يستقبل القبر مع القبلة، جعلها بطريقة مثلثة سداً لذريعة الشرك، ولذلك لا يوجد الآن باب يدخل إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام، لأن بناء عمر بن عبد العزيز بناء مثلث مصمت ليس له أبواب لكنه مفتوح من الأعلى إلى القبة، وفي القبة فتحة إلى السماء، لكن القبة بنيت بعد ذلك، وأساء من أساء في علو النجارين على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ودق الخشب، ثم تركت على حالها إلى الآن، وإلا فإنه لا يجوز البناء على القبور ولا وضع القباب عليها.
لكن حجرة النبي عليه الصلاة والسلام مفتوحة ليس مبني عليها في الأصل، وكان القبر داخل الحجرة، ثم جاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله وبنى عليها ثلاثة جدران ليس لها مدخل، ثم جاء بعده من بنى سوراً ثانياً حول الحجرة ثم وضع القفص الأخضر، فهو محاط بثلاثة أسوار، ولا يمكن الدخول إلى القبر مباشرة، وإنما يأتي الإنسان بمحاذاة القبر فيقول: السلام عليك يا رسول الله، ثم يخطو خطوة، فيقول: السلام عليك يا أبا بكر، ثم يخطو أخرى، فيقول: السلام عليك يا عمر، وفي العصور السابقة جاء من أدخل جزءاً من الحجرة في هذه الأسوار، فجزء من الروضة (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) مأخوذ داخل القبر، وإلا فإن الروضة أوسع من ذلك، ما بين المنبر وبيت النبي عليه الصلاة والسلام روضة من رياض الجنة، فهذا الذي كان أبو هريرة يطوف بينهما ويقع مغشياً عليه من الجوع.
كان طريقهم إلى المسجد من البيوت، والآن زيدت التوسعة، وأزيلت كل البيوت القديمة، بل مدينة النبي عليه الصلاة والسلام كلها الآن زالت بالتوسعة، ولم يبق منها شيء، ومن العجائب أن الإنسان في القديم لو نظر من جبل أحد لا يمكن أن يرى المسجد النبوي؛ لأنه بناء محدود وحوله بيوت، وحول البيت مزارع ونخل، أما الآن فقد وسع المسجد توسعة كبيرة، وصار حوله ساحة كبيرة، ويغلب عليه اللون الأبيض من الخارج، فالآن يمكن أن يرى من جبل أحد.
ومن العجائب ما رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده، بسند رجاله ثقات (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس، فقال: يوم الخلاص وما يوم الخلاص! يوم الخلاص وما يوم الخلاص! يوم الخلاص وما يوم الخلاص! ثلاثاً، فقيل له: وما يوم الخلاص؟ قال: يجيء الدجال، فيصعد أحداً، فينظر المدينة، فيقول لأصحابه: أترون هذا القصر الأبيض، هذا مسجد أحمد).
أي: يراه الدجال من جبل أحد، وهو الآن كذلك، فهذا يعني أن الساعة قد اقتربت، ومن قبل لم يكن المسجد النبوي يُرى من جبل أحد، والآن يرى، وفي الحديث (ثم يأتي المدينة -يحاول دخول المدينة - فيجد بكل نقبٍ ملكاً مصلتاً -أي: بيده سيف، لا يستطيع الدجال الدخول إلى المدينة، وهذه من ميزات المدينة، ولا يدخل الدجال مكة - مصلتاً فيأتي سبخة الحرف -وهي الجانب والطرف- فيضرب رواقه في تلك المنطقة، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق ولا منافقة، ولا فاسق ولا فاسقة إلا خرج إليه، فذلك يوم الخلاص).
هذا يوم الخلاص يوم يخرج منافقو المدينة وفساقها إلى الدجال ولا يبقى فيها إلا المؤمنون.(218/6)
أبو هريرة يدعو أهل الصفة إلى لبن رسول الله
جلس أبو هريرة رضي الله عنه على طريقهم فلم يتفطن له أحد، حتى فطن له النبي صلى الله عليه وسلم، فأدخله إلى بيته ووجد لبناً في قدح، فسأل: (من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: الحق إلى أهل الصفة) هات أهل الصفة، وأهل الصفة: أضياف الإسلام، هؤلاء أناس ليس عندهم مال ولا مأوى، كانوا يأوون إلى المسجد النبوي، يقول أبو هريرة في رواية: (كنت من أهل الصفة، كنا إذا أمسينا حضرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر كل رجل فينصرف برجل أو أكثر، فيبقى من بقي عشرة أو أقل أو أكثر فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعشائه فنتعشى معه، فإذا فرغنا، قال: ناموا في المسجد) ما عندهم إلا المسجد.
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يقول: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث)، (طعام الاثنين يكفي الثلاثة) خذوا واحداً من أهل الصفة، كل واحد من أهل المدينة معه طعام اثنين يأخذ ثالثاً من أهل الصفة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قسم ناساً من أصحاب الصفة بين أناس من أصحابه، فيذهب الرجل بالرجل، والرجل بالرجلين، حتى ذكر عشرة.
لما جاء هذا القدح من اللبن قال: (يا أبا هر! الحق إلى أهل الصفة ادعهم، وكان عليه الصلاة إذا أتته صدقة بعث بها إليهم -إلى أهل الصفة- ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم وفي رواية: شركهم فيها، وكان يَقبل الهدية ولا يَقبل الصدقة، وإذا قيل له: صدقة، قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل، وإذا قيل: هدية ضرب بيده فأكل معهم) فإذا كان صدقة، قال: اذهبوا بها إلى أهل الصفة، وإذا كان هدية قال: ائتوا بأهل الصفة فيشركهم في هذه الهدية، ويأكل هو وأهله صلى الله عليه وسلم.
والأحوال كانت مختلفة معهم بحسب ما يتيسر في ذلك الوقت، وقد جمع بعض العلماء أسماء أهل الصفة، كما فعل أبو سعيد بن الأعرابي وأبو عبد الرحمن السلمي، وجمع بينهما أبو نعيم في أوائل كتاب: الحلية فسرد جميع الأسماء، وقيل: إنهم كانوا سبعين، والصحيح أنهم كانوا يقلون ويكثرون بحسب الأحوال، فلما قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي هريرة: (ادع أهل الصفة، قال أبو هريرة: فساءني ذلك وفي رواية: أحزنني ذلك) أي: أنا الآن في غاية الجوع، وغاية الجهد، ومحتاج إلى شربة لبن، يقول: اذهب إلى أهل الصفة! نعم.
وأهل الصفة ماذا يكفيهم؟! وإذا كفاهم ماذا يبقى لي؟! لا شيء، لذلك أبو هريرة: (فأحزنني ذلك، فقلت -أي: في نفسي- وما هذا اللبن؟! -أي: ماذا يجزئ؟ وماذا يكفي؟ - في أهل الصفة؟ وأين يقع هذا اللبن من أهل الصفة وأنا ورسول الله؟ وكنت أرجو أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها).
ثم الأمر سيكون -أيضاً- زيادة: (فإذا جاء أهل الصفة؛ أمرني عليه الصلاة والسلام فكنت أنا أعطيهم)، أي: بالإضافة إلى ذلك لو دعوت أهل الصفة ولو كنت أنا أول من يشرب، أو ثاني من يشرب أو ثالث من يشرب، كان ذلك طيب، لكن المشكلة سوف أدعوهم ثم أكون أنا المضيف، ويقول لي: ضيفهم، وسأمر بالقدح عليهم واحداً واحداً، فإذاً أنا ساقي القوم: (ساقي القوم آخرهم شرباً) إذاً ذهبت! (فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن) أي: ماذا سيصل إلي بعدما يشربوا منه؟ ولكن يقول أبو هريرة: (ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد) لكن لا يمكن أن نحيد، من يطع الرسول فقد أطاع الله.
قال: (فأتيتهم فدعوتهم، فجاءوا، فاستأذنوا فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت) قيل: إن هؤلاء كانوا سبعين، وقيل: مائة، ولكنهم كانوا يتفاوتون بسبب اختلاف الأحوال، مرة تأتي سرية يخرج بعضهم مع السرية، لتبليغ الدعوة، ويأتي أحياناً أناس من خارج المدينة يزيدون، إذاً كان عددهم يتزايد ويتناقص بحسب الأحوال.(218/7)
معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في بركة اللبن
قال النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء أهل الصفة كلهم وجلسوا: (يا أبا هر! خذ فأعطهم) خذ القدح الذي فيه اللبن وأعطهم (فجعلت أعطي الرجل فيشرب حتى يروى من إناء اللبن، ثم يرد عليّ القدح فأعطيه الرجل -أي: الذي إلى جانبه- فيشرب حتى يروى) وهكذا واحد وراء الآخر يشربون من القدح نفسه، حتى انتهوا كلهم حتى روي القوم جميعاً، (حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعدما شرب القوم كلهم من الإناء) وهذا معجزة من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام، بركة تكثير الطعام والشراب للنبي عليه الصلاة والسلام، بقي النبي عليه الصلاة والسلام، (أعطيته القدح، فأخذ القدح وقد بقيت منه فضلة) أي: هو نقص لكن بقيت منه فضلة ما انتهى، (فأخذ القدح فوضعه على يده صلى الله عليه وسلم، فنظر إليّ فتبسم) كأنه يقول: يا أبا هريرة! أظننت في نفسك ألا يبقى منه شيء؟ انظر لقد بقي منه، هذا معنى الابتسامة، (فوضعه على يده، فنظر إليّ فتبسم، فقال: أبا هر! فقلت: لبيك يا رسول الله! قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله! قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فقال: اشرب فشربت، فما زال يقول: اشرب حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً، قال: فأرني، فأعطيته القدح فحمد الله -أي: على البركة التي حصلت ووقعت في اللبن مع قلته وكثرة القوم- وسمى وشرب الفضلة) أي: شرب البقية.(218/8)
فوائد من قصة أبي هريرة وإناء اللبن
هذا الحديث فيه فوائد كثيرة، منها: أولاً: استحباب الشرب جالساً، وهذا مذهب جمهور العلماء، وقال بعضهم بتحريم الشرب واقفاً ووجوب الجلوس، لكن مذهب جمهور العلماء هو استحباب الشرب جالساً وعدم الشرب واقفاً، اللهم إلا إن كان لحاجة، مثل: أن تكون القربة معلقة، أو مثل بعض برادات الماء -الآن- في بعض ممرات المستشفيات والمباني، يكون براد الماء مرتفعاً لا يمكن أن تشرب منه إلا وأنت واقف، فهذه حالة يمكن أن يشرب الإنسان وهو واقف، أو مثلاً في زمزم مع الزحام لا يمكن القعود وسط الزحام، فالنبي عليه الصلاة والسلام شرب واقفاً، لكن الأصل أن يشرب الإنسان جالساً، والمسألة عليها تأكيد شديد في الأحاديث النبوية في قضية الشرب جالساً.
ثانياً: أن خادم القوم إذا دار عليهم بما يشربون يتناول الإناء من كل رجل ويدفعه إلى الذي يليه، ولا يدع الرجل يناول رفيقه لئلا يكون فيه استخدام للضيف وهذا من باب زيادة الإكرام.
ثالثاً: في هذا الحديث معجزة واضحة للنبي عليه الصلاة والسلام في تكثير الطعام والشراب ببركته عليه الصلاة والسلام، وهذه لها أمثلة كثيرة.
رابعاً: في هذا الحديث جواز الشبع، أي: الأصل أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فإن كان لا بد، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث لنفَسك) فهنا في الحديث: تركه يشرب وأمره أن يشرب حتى قال: (لا أجد له مسلكاً) فالعلماء حملوه على ما إذا كان الإناء بعد مسغبة شديدة -جوع شديد- فيمكن في بعض الأحوال أن يشبع الإنسان، لكنه دائماً يأكل حتى الشبع فهذا مذموم؛ ويؤدي إلى الكسل عن العبادة والنوم ونحو ذلك، ويكون فيه سبب للأمراض، فإذا كان بعد شدة جوع أو أنه يستبعد حصول شيء قريب فيشبع، ويتزود.
خامساً: في هذا الحديث فائدة لطيفة في الخلق الكريم، وهي: أن كتمان الحاجة أولى من التصريح بها، وإذا اضطر فيلمح، لكن لا يصرح ويمد يده: أعطوني هاتوا، وإنما يلمح إذا اشتدت عليه الوطأة.
وفيه حسن خلق النبي عليه الصلاة والسلام كيف قدَّم كل أصحاب الصفة وقدم أبا هريرة على نفسه وشرب آخرهم، مع أنه عليه الصلاة والسلام هو -أيضاً- جائع.
سادساً: فيه طاعة النبي عليه الصلاة والسلام وتقديم أمره على حظ النفس مع شدة الحاجة.
وفيه فضل أهل الصفة هؤلاء الذين جاءوا لنصرة الله ورسوله، وتركوا أهلهم وديارهم.
سابعاً: فيه أنه لا بد من الاستئذان قبل الدخول.
ثامناً: فيه جواز دعاء الإنسان خادمه بالكنية، لما قال: (يا أبا هريرة أو يا أبا هر) وهذا يؤخذ منه ترخيم الاسم، وفيه كذلك تفطن الإنسان لحاجة من حوله، النظر في الوجه (الفراسة) (فعرف ما في وجهي، وما في نفسي) فهذه فراسة، وأن الإنسان عليه أن يدقق النظر في أحوال من حوله ليعرف ماذا يخبئون أو ماذا تنطوي عليه نفوسهم أو ما هي حاجتهم.
تاسعاً: فيه كذلك أن الإنسان إذا رأى في منزله ما لا عهد له به فإنه يسأل عنه من أين؟ وممن هو؟ عاشراً: فيه قبول الهدية ولا ترد مادامت حلالاً، وإيثار الفقراء بنصيب منها.
حادي عشر: أن ساقي القوم آخرهم شرباً.
ثاني عشر: حمد الله على النعم، إذا حدثت لك نعمة، تقول: الحمد لله، لما رأى البركة، قال: الحمد لله، والتسمية عند الشرب.(218/9)
نبذة مختصرة عن أبي هريرة وحاله بعد النبي صلى الله عليه وسلم
أبو هريرة رضي الله عنه التي وردت قصته في هذا الحديث كان متفرغاً للعلم، يقول أبو هريرة كما روى البخاري في صحيحه: (إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة) دائماً يحدثنا بأحاديث أكثر من غيره، لماذا؟ يقول أبو هريرة معللاً: [وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني، حتى لا آكل الخمير، ولا ألبس الحبير -أي: الثياب المزينة- ولا يخدمني فلان ولا فلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني، وكان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة -قربة من الجلد يحفظ فيها السمن- التي ليس فيها شيء فنشقها ونلعق ما فيها] أبو هريرة رضي الله عنه هذا الرجل الكريم الراوي الذي روى قرابة خمسة آلاف حديث، والذي يعد من أكثر الصحابة رواية على الإطلاق، ما سمع من النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً فنسيه؛ كما دعا له عليه الصلاة والسلام مع أنه جاء في عام خيبر، في آخر العهد النبوي المدني، ومع ذلك فهو أكثر الصحابة رواية؛ لأنه لزم النبي عليه الصلاة والسلام، لم يذهب في تجارة ولا صفق بالأسواق ولا زراعة ولا شيء، كان متفرغاً لسماع العلم، يلزم النبي عليه الصلاة والسلام على شبع بطنه فقط، يقول: أنا أسمع منك ولا أريد إلا الطعام، هذا الرجل العظيم صار أميراً بعد ذلك، أَمَّره عمر رضي الله عنه على مصرٍ من الأمصار.
هل تغير أبو هريرة لما صار أميراً وانفتحت عليه الدنيا، وجاءت الغنائم؟ لم يتغير أبداً، كان يحمل حزمة الحطب على ظهره وهو أمير، ويقول: طرقوا للأمير، أي: خذوا الدرب، أي: خذوا الطريق للأمير، هو يقول بنفسه، وروى البخاري في صحيحه عن محمد قال: (كنا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتان، فتمخط فقال: بخٍ بخٍ، أبو هريرة يتمخط في الكتان، لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة مغشياً عليّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويُرى أني مجنون، وما بي من جنون، ما بي إلا الجوع) فإذا رأيت الإنسان يذكر حال الشدة وهو في حال الغنى فاعلم أن عنصره جيد ومعدنه طيب، لأن بعض الناس إذا ورث شيئاً أو غني بعد الفقر، يقول: ورثت هذا المال كابراً عن كابر، كذلك كان أبي وجدي، وينكر أيام الشدة، وأيام الفقر.
فإذا رأيت الإنسان بالرغم مما فتح الله عليه يذكر أيام الشدة وأيام الفقر، ويقول: كنا في كذا وكانت حالتنا كذا ومنّ الله علينا وأعطانا، فهذا رجل طيب المعدن، جيد العنصر وهكذا أبو هريرة رضي الله عنه، ما تغير ولا تكبر مع أنه فتحت عليه الدنيا.
هذه القصة وبعض ما اشتملت عليه من فوائد نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن أحب هؤلاء القوم واتبعهم.(218/10)
الأسئلة(218/11)
أجر صلاة الجماعة الأولى مضاعف على الثانية
السؤال
إذا فاتت صلاة الجماعة الأولى فوجدت مجموعة من المصلين ممن لم يكونوا قد صلوا، هل نحن وهم في الأجر سواء، أم أجر الجماعة أكثر؟
الجواب
لا شك أن الأجر للجماعة الأولى، أما الجماعة الثانية فلهم أجر لكن ليس مثل الجماعة الأولى قطعاً.(218/12)
كفارة من أتى زوجته وهي حائض
السؤال
ما كفارة من أتى زوجته وهي حائض؟
الجواب
جاء في الحديث الذي حسنه بعض أهل العلم، عن النبي عليه الصلاة والسلام: (كفارة من أتى امرأته وهي حائض دينار أو نصف دينار، يخرجه الرجل صدقة) الدينار: مثقال، والمثقال: أربعة غرامات وربع من الذهب، أو نصفها، هذه كفارة الذي يأتي زوجته وهي حائض مع التوبة.(218/13)
حكم إفطار الطفل قبل الغروب
السؤال
أنا طفل عمري سبع سنوات، صمت من الفجر حتى العصر ثم أفطرت، فهل عليّ إثم؟
الجواب
ليس عليك إثم ولكنك ما أتممت الصوم، ولا يؤجر الإنسان إلا إذا أتم صومه، وإذا لم تقدر على الصيام لك أن تفطر ولا بأس بذلك.(218/14)
حكم الخارج من الرجل حال تقبيل زوجته
السؤال
إذا قبل الرجل امرأته فخرج منه شيء شفاف بلا لون هل يكون عليه غسل؟
الجواب
إذا كان الذي خرج مذي وليس بمني، فإنه نجس، يغسل موضع الخروج وما حوله، ويتوضأ للصلاة، ويغسل ما أصاب الثوب من هذا، ولا يبطل الصيام على الراجح، ولكن عليه أن يتوب إلى الله لأنه جَرَحَ صومه.(218/15)
حكم من قتل خطأ وليس له مال يؤدي منه الدية
السؤال
ما حكم من قتل خطأ ولم يكن عنده مال يؤدي منه الدية؟
الجواب
الذي عليه دية وقتل خطأ وليس عنده من المال يعطى من الزكاة.(218/16)
(حال حديث: (قراءة يس تعدل قراءة القرآن عشر مرات
السؤال
هل قراءة يس تعدل قراءة القرآن عشر مرات؟
الجواب
هذا حديث موضوع فلا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام.(218/17)
فتنة الدجال تكون على الأحياء
السؤال
إذا مات الشخص ودفن في الأماكن التي لا يدخلها الدجال هل يأمن فتنة الدجال؟
الجواب
الفتنة تكون على الأحياء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ظهر وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم).(218/18)
كتب فيها ترجمة لابن تيمية
السؤال
أرجو من فضيلتكم أن تدلني على كتاب لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن نشأته وتعليمه وحياته؟
الجواب
هناك كتب كثيرة جداً تتكلم عن شيخ الإسلام ابن تيمية، ولعل من أفضلها كتاب ابن عبد الهادي رحمه الله العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية مع أن الكتاب ليس موجوداً متوفراً بكثرة، لكن هو من أحسن المراجع التي كتبت عن شيخ الإسلام ابن تيمية.
أيضاً مقدمة رسالة: موقف ابن تيمية رحمه الله من الأشاعرة، فيها تعريف جيد بحياة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.(218/19)
حكم التعامل مع المرأة الأجنبية في المستشفى
السؤال
إذا اُضطر للتعامل مع المرأة في المستشفى للضرورة؟
الجواب
إذا لم يجد الإنسان للضرورة إلا ذلك ولم يستطع أن يجلب رجلاً أو ممرضاً، فإنه يتحاشى أن تمسه ما أمكنه ذلك؛ لأن مس المرأة الأجنبية للرجل لا يجوز.(218/20)
حكم مشاهدة المنكر في رمضان
السؤال
هل أُحضر جهاز المنكر لهؤلاء الذين زاروني في رمضان؟
الجواب
لا تعرض لهم شيئاً منكراً في رمضان! هذا زيادة في الإثم، لأن السيئات تعظم في الزمان الفاضل والمكان الفاضل.(218/21)
حكم الخلوة ومتى تزول ومتى لا تزول
السؤال
ذكرت بعد خطبة الجمعة سؤالاً عن الخلوة متى تزول ومتى لا تزول، الرجاء إعادة الإجابة؟
الجواب
الخلوة بالمرأة الأجنبية قال بعض العلماء: لا تزول إلا بمحرم، ولو داخل البلد، أما السفر فلا يجوز إلا بمحرم هذا واضح ومنتهي منه، لكن داخل البلد متى تزول الخلوة مثلاً في بيت أو في سيارة؟ بعض العلماء يقول: لا تزول إلا بمحرم، وقال بعضهم: إذا وجد رجل ثقة آخر مع هذا الرجل والمرأة الثالثة أو امرأة أخرى ثقة، فإن الخلوة تزول، أو وجد صبي يفهم ويعقل ويستحيا منه، أي: لو أراد أن يفعل لها شيئاً أو تفعل له شيئاً يستحيان من وجود الولد إذا كان يميز، كابن عشر سنين يزيل الخلوة، أما أن يأخذ طفلاً لا يفهم أو شخصاً نائماً فهذا حرام، والحوادث أكثر من أن تقال.(218/22)
حكم من أحرم من الميقات ثم ذهب لقضاء بعض حاجاته
السؤال
إذا نويت العمرة، ثم ذهبت ومكثت في جدة يوماً واحداً لقضاء بعض الحاجة؟
الجواب
لا بأس، لكن الإحرام باقٍ عليك، فلا يمكن أن تحرم من جدة لأنك من أهل الميقات الذي هو: قرن المنازل ميقات السيل، فتحرم من السيل.(218/23)
حكم وضع المرهم في فم الصائم
السؤال
هل يجوز وضع المرهم على الجرح داخل فم الصائم؟
الجواب
إذا كان لا يدخل إلى الجوف فلا بأس بذلك إذا احتاج فيضعه، وإذا دخل إلى جوفه قضى صومه، لكن إذا لم يدخل فلا بأس بذلك.(218/24)
هل الدجال الآن موجود على أبواب المدينة؟
السؤال
حديث الدجال هل يفهم أنه على الأبواب؟
الجواب
إن كنت تقصد أبواب المدينة، فهو خارج أبواب المدينة، لكن الدجال لم يخرج بعد.(218/25)
حكم من مات وعليه صلاة وصيام
السؤال
كان والدي في حياته صلاته منقطعة، وصيامه متقطع، ولكن مرض ولزم الفراش وبقي على حاله إلى حين وفاته، وحججت عنه وأنا أدعو له، ماذا بالنسبة للصيام عنه؟
الجواب
إذا كان حين ترك الصيام مصلياً فإنك تصوم عنه إذا أردت ذلك: (فإن مات وعليه صيام صام عنه وليه).(218/26)
حكم طواف الوداع على المعتمر
السؤال
هل للمعتمر طواف وداع؟
الجواب
جمهور العلماء على أنه ليس على المعتمر طواف وداع وجوباً إن طاف فهو مستحب، ويؤجر على ذلك.(218/27)
(معنى قوله: (واجعله الوارث منا
السؤال
ما معنى: واجعله الوارث منا، في قولك في الدعاء: ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا؟
الجواب
قيل: اجعل هذه الأعضاء والحواس والسمع والبصر بأبصارنا وقواتنا، اجعلها وافرة وصابغة وكثيرة وكاملة عند وفاتنا كأننا نورثها إلى من بعدنا، يعني: أنها من الكمال والقوة كأنها تبقى لمن بعدنا، تفيض وتزيد، وقيل: اجعل ما بقي من قوتنا وسمعنا وبصرنا للورثة من بعدنا من أولادنا، انقل لهم هذا واجعله فيهم.(218/28)
عدد الأسوار حول قبر النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
أشكل عليّ فهم عدد الأسوار حول قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
قلنا: إن هذا البناء الذي بناه عمر بن عبد العزيز المثلث، ثم وراءه سور آخر، ثم القفص الأخضر المذهب، ثلاثة، فإذا نظرت من خلال القفص الأخضر لا ترى القبر، بل ترى الجدار.
أحد العمال الأتراك الذين كانوا يعملون في صيانة القبة وصل إلى هذه الفتحة في القبة -متروكة مفتوحة- فأشرف عليها فرأى ثلاثة قبور فأغمي عليه، لكن ماذا فعل به بعد أن رجع إلى تركيا الله أعلم.(218/29)
حكم تزيين المساجد
السؤال
ما حكم تزيين المساجد؟
الجواب
إذا كانت زخرفة فإنها منهي عنها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحمر ولا تصفر) زخرفة نقوش كتابات، كل ذلك ممنوع، فالمساجد بيوت الله لا يشغل فيها المصلون عن الصلاة في أي حال من الأحوال.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(218/30)
كيف تقرأ كتابا؟
إن من نعم الله عز وجل على عباده أن يسر لهم الخط البياني: القراءة والكتابة، لذا استطرد الشيخ في هذه المادة بدءاً باهتمام السلف بالقراءة وبيان أهميتها، ثم بين كيفية القراءة الواعية، وذكر أسباب النفور عن القراءة وطلب العلم وعلاجه، ثم ختم ذلك ببيان طرق القراءة وأنواعها.(219/1)
نعمة البيان الخطي
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب فقال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] والحمد لله القائل {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1] وقال عز وجل: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:3 - 4] قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في مفتاح دار السعادة: ثم تأمل نعمة الله على الإنسان بالبيانين، البيان النطقي، والبيان الخطي، فقال في أول سورة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5] التعليم بالقلم الذي هو من أعظم نعمه على عباده، إذ به تخلد العلوم وتثبت الحقوق وتعلم الوصايا وتحفظ الشهادات، ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس، وبه تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين، ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض، واندرست السنن، يعني: ذهبت واضمحلت، وتخبطت الأحكام ولم يعرف الخلف مذاهب السلف، وكان معظم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم، ما يعتريهم من النسيان الذي يمحو صور العلم من قلوبهم، لما صار الناس ينسون من نعمة الله عليهم أن جعل لهم الكتاب وعاء حافظاً للعلم من الضياع، كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان، فنعمة الله عز وجل بتعليم القلم بعد القرآن من أجل النعم، فهو الذي علم الإنسان الكتابة، علمه ما لم يعلم، علمه الكلام فتكلم، وأعطاه الذهن الذي يعي به، واللسان الذي يترجم به، والبنان الذي يخط به، فكم لله من آية نحن عنها غافلون في تعليمنا بالقلم! وأنزل الله أعظم كتاب، فدعانا رسوله إلى القراءة فيه، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف).(219/2)
اهتمام السلف بقراءة الكتب
ثم دونت السنة، والعلم والفقه، وكان لهذه الكتب التي دون فيها العلم بالأقلام، كان لها في نفوس علمائنا أثراً عجيباً ومكانة عظيمة.
قال أصحاب ابن المبارك له: ما لك لا تجالسنا؟ فقال ابن المبارك: أنا أذهب فأجالس الصحابة والتابعين، وأشار بذلك أنه ينظر في كتبه، وكان الزهري رحمه الله قد جمع من الكتب شيئاً عظيماً، وكان يلازمها ملازمة شديدة، حتى إن زوجته قالت: والله إن هذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر.
وكان العلماء يحسبون عند تفصيل ثيابهم حساب الكتب، فهذا أبو داود رحمه الله، كان له كُم واسع -وكان الكُم يستخدم كالجيب- وكُم ضيق، فقيل له في ذلك فقال: الواسع للكتب والآخر لا يحتاج إليه، وكان منهم من إذا أصابه مرض من صداع أو حمى، كان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة قرأ فيه، فإذا غلب عليه الصداع ترك الكتاب، فدخل عليه الطبيب يوماً، وهو على هذه الحال يأخذ الكتاب متى استطاع أن يقرأ ويدعه إذا غلبه الصداع، فلامه على ذلك.
وكان سلفنا وعلماؤنا رحمهم الله يقرءون في الكتب على كل أحيانهم، فكان الخطيب البغدادي يمشي وفي يده جزء يطالعه، وكانوا يقرءون عند الاضطجاع، وينفلت الكتاب من يد أحدهم مرة أو مرتين أو أكثر فيعود إليه، فيأخذه، يسقط من النعاس ويعود إليه فيأخذه، وكان البخاري رحمه الله يقدم له الطعام، طعام الإفطار مثلاً وهو يقرأ ثم تأخذه الخادمة بعد فترة، فتأخذ الطعام ولم يمسه، لم ينتبه أصلاً أن الطعام قد جاء، ثم يأتي وقت الغداء، فيوضع له الطعام وهو يقرأ، وتأتي بعد فترة فتأخذ الطعام ولم يمسه؛ لأنه لم يدر أن الطعام وضع ولا أنه، وبعضهم كان يجلس يقرأ في الظل فينحسر عنه، وتأتي عليه الشمس وهو لا ينتبه.
قال ابن الجوزي رحمه الله: وإني أخبرك عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتاباً لم أره فكأني وقعت على كنز، فلو قلت: إني قد طالعت عشرين ألف مجلد لكان أكثر، وأنا بعد في طلب الكتب، فاستفدت بالنظر فيها ملاحظة سير القوم وقدر هممهم، وحفظهم، وعاداتهم وغرائب علوم لا يعرفها من لم يطالع.
أرسل أحد الخلفاء في طلب أحد العلماء، ليأتيه فاعتذر إليه، بأن عنده قوماً من الحكماء يحادثهم، ثم عرف الخليفة أنه لم يكن عنده أحد، فعاتبه وسأله: من الذي كان عندك؟ فقال:
لنا جلساء ما نمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً ومشهدا
يفيدنونا من علمهم علم ما مضى ورأياً وتأديباً ومجداً وسؤددا
فلا غيبة نخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا
من المقصود؟ الكتب.(219/3)
قدر الكتب ومنزلتها
والكتاب -أيها الإخوة- جار بار، ورفيق مطاوع، لا يعصيك أبداً، ومعلم خاضع، هل رأيت معلماً يخضع للتلميذ؟ كذلك الكتاب يخضع للقارئ، وصاحب كفء، وشجرة معمرة، دائماً مثمرة، يجمع الحكم الحسنة والعقول الناضجة، وأخبار القرون الماضية، والبلاد المترامية، يجلو العقل، ويشحذ الذهن ويوسع الأفق ويقوي العزيمة، ويؤنس في الوحشة، يفيد ولا يستفيد، ويعطي ولا يأخذ.
نعم الأنيس إذا خلوت كتاب تلهو به إذا خانك الأصحاب
لا مفشياً سراً إذا استودعته وتنال منه حكمة وصواب
هذه الكتب لا تعترف بالفواصل الزمانية ولا المكانية ولا الحدود الجغرافية، فيستطيع القارئ أن يعيش في كل العصور، وفي الممالك والأقطار وأن يصاحب العظماء، وأعمالهم وإن استغرقت أعواماً، وتأمل حال المسلم عندما يقرأ قصص الأنبياء في القرآن الكريم، أين عاشوا؟ في بلاد متباعدة، متى عاشوا؟ في أزمنة متطاولة قديمة جداً، ومع ذلك يقرأ قصة موسى وفرعون كأنه يعيش معهم، وكذا إبراهيم، وكذا هود، وصالح وآدم وغيرهم من الأنبياء والصالحين في القرآن والسنة نقرأ أخبارهم كأننا نعيش معهم، كيف أتتنا إلا بالكتاب، فشأنه عظيم جداً، وبعض الناس يجمع الكتب ولكن لا يقرأ فيها ولا يحصل منها شيئاً، قال الشاعر في شأن مثل هؤلاء:
عليك بالحفظ دون الجمع في كتب فإن للكتب آفات تفرقها
الماء يغرقها والنار تحرقها والفأر يخرقها واللص يسرقها
إذا لم تكن حافظاً واعياً فجمعك للكتب لا ينفع
تحضر بالجهل في مجلس وعلمك في البيت مستودع
ولذلك أيها الإخوة: النصيحة إذا اشتريت كتاباً فلا تدخله مكتبتك، إلا بعد أن تمر عليه جرداً أو على الأقل قراءة لمقدمته أو فهرسته ومواضع منه، حتى إذا احتجت في المستقبل إلى هذا العنوان أو هذا الموضوع، تعرف أنه موجود في الكتاب الذي اشتريته، أما إذا جعلته في المكتبة مباشرة، فربما يمر عليك، زمان وقد يفوت العمر دون النظر فيه، أليس هذا قد حصل؟(219/4)
أمور تجعل القراءة واعية
موضوعنا في هذه الليلة أيها الإخوة بعد هذه المقدمة عن: كيف تقرأ كتاباً؟ كيف نستفيد من القراءة؟ ما هي الطريقة الصحيحة للقراءة؟ ما هي العوامل التي تسبب العداوة بين الناس والكتاب وكيف نزيلها؟ ما هي أسباب الفهم الخطأ أثناء القراءة؟ وكيف نقضي عليها؟ ما هي أنواع القراءة؟ إلى مسائل أخرى ستستمعون إليها إن شاء الله في هذا الدرس.
عند تعرضنا لموضوع القراءة، تبرز ثلاثة أسئلة: السؤال الأول: لماذا نقرأ؟ وما هي أهمية القراءة؟ السؤال الثاني: ماذا نقرأ؟ وما هي الكتب التي نقرؤها؟ السؤال الثالث: كيف نقرأ؟ والكلام عن لماذا نقرأ، وماذا نقرأ قد يكون أكثر أهمية من كيفية القراءة، ولعلنا نتعرض لهذين السؤالين في درس قريب إن شاء الله.
لا بد أن تكون قراءتنا -أيها الإخوة- قراءة واعية، المنهج الجاهلي يقول: القراءة للقراءة، الفن للفن، أي أنهم يجعلون القراءة غاية وليست وسيلة، ولذلك فهم يقرءون ما هب ودب، دون تمحيص ولا تمييز، أما المسلم فإن القراءة عنده وسيلة لتحقيق الهدف وهو أشياء متعددة، وعلى رأسها طلب العلم الذي يعرف به المسلم كيف يعبد ربه، هذا الهدف، الوسيلة: القراءة، وهذا المنهج الجاهلي الذي أشرنا إليه وهو: القراءة من أجل القراءة مهما كانت المهم أن يقرأ، ويعتبر الشعب مثقفاً إذا كان فيه أعداد كبيرة من القراء بغض النظر عما يقرءون، هذا المفهوم الجاهلي، قد نتج عنه في مجتمعات المسلمين تكوين فئة من القراء بما يصلح أن نطلق على هذه الفئة: القارئ الإمعة، الذي يكون بوقاً مضخماً لهجمات أعداء الإسلام، لأنه لا يعرف ماذا يقرأ، فيقرأ الضار، ويقرأ أشياء سطرتها أيدي أعداء الإسلام وينشرها بين الناس، دون وعي ولا إدراك.(219/5)
البدء بالمرحلة التأسيسية الأولية مع سلامة المعتقد
كيف تكون قراءتنا واعية؟ لا بد أن يكون التكوين العقدي للقارئ المسلم سليماً وقوياً حتى يستطيع أن يقرأ بوعي، وهذا يعني أن تكون قراءاته الأولية تأسيسية ينتقي ماذا يقرأ في البداية، حتى يؤسس وعياً يستطيع من خلاله أن يعرف بعد ذلك إذا قرأ في أي كتاب، هل هذا يتفق مع الإسلام، أم هو ضد الإسلام، أم بغير تكوين وبغير تأسيس وتربية، لا يمكن للناس أن يعرفوا هل ما يقرءون مخالف للشريعة أو موافق للشريعة.
يجب أن نقرأ بطريقة نقدية، يعني: أن ننقد ما نقرأ على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة، وما نعرفه من الأدلة الشرعية ورصيدنا من الأحاديث الصحيحة والسقيمة، على ضوء تأسيساً السابق نستطيع أن ننقد ما نقرأ، أو موثوقية العلماء الذين ينقل عنهم الكاتب، ومن الأخطاء أن يغير الشخص قناعاته فجأة لأدنى قراءة يقرؤها، مثل بعض المسائل الفقهية، تجد بعض الناس يغير قناعته الفقهية لأدنى قراءة، بل يجب أن يمحص ويفكر وينقد قبل أن يتبنى فكرة أو موقفاً أو رأياً، ومن الخطأ أن ننسى ما قرأناه من قبل، وما سمعناه من قبل، وما تعلمناه من قبل لأجل أول قراءة نقرؤها، لا بد أن تمر مرحلة تكوين القناعة مروراً تأسيسياً صعباً، حتى نستطيع بعد ذلك أن نصمد أمام كل ما نقرؤه من الأفكار التي تصادم القناعات الشرعية التي لدينا.
وبعض الناس -أيها الإخوة- عندهم عقدة، وهي الثقة بكل شيء مطبوع، أحياناً يعرض لك شخص من الناس فكرة خاطئة، تقول له: يا أخي! هذا الكلام خطأ، هذا الكلام مصادم للشريعة، يقول لك: هذا مكتوب في الكتاب، انظر! لو كان خطأ ما كانوا طبعوه.
سبحان الله العظيم!! التقليد الأعمى لكل ما هو مكتوب، آفة أصيب بها كثير من قراء المسلمين، وبعض الناس يشكون في معلوماتهم المؤكدة لمجرد أن الشيء المخالف مطبوع في كتاب! ونحن أيها الإخوة: قد نلتمس الأعذار للكتاب فنقول: ربما أخطأ لكذا ربما وهم لكذا لكن هذا لا يجعلنا نتابعهم في أخطائهم مهما كان الكاتب عظيماً.(219/6)
ملاحظة التناقضات التي يقع فيها الكاتب
وكذلك من القراءة الواعية أن نلاحظ التناقضات التي يقع فيها الكاتب أثناء الكتاب، وإن تباعدت المواضع، أحياناً يأتي كاتب بفكرة في موضع، ثم يأتي بعكسها في موضع آخر، القارئ الواعي يحفظ ماذا قال هنا وماذا قال هنا، ثم تجده يراجع فيقول: عجباً إنه كتب في البداية أشياء غير التي كتبها هنا، فأيهما هو الصحيح يا ترى؟(219/7)
تقويم الأشخاص والكتب
ومن القراءة الواعية أيضاً: أن نقرأ لنقوم الأشخاص والكتب، وننصح بناء على ذلك الناس بها، والمسلم عندما يقرأ فإنه يكون متجرداً، فمن الخطأ مثلاً أن يصدر القارئ حكماً مسبقاً على أفكار الكتاب من خلال اسم المؤلف فقط، أو الناشر أو العنوان -مثلاً- بل يقرأ ويفكر، ونحن بهذا الكلام لا ندعو إلى الإقبال على كتب المبتدعة، أو الناس الذين نعرف أنهم مضلون من خلال كتاباتهم، كلا، لا ندعو الناس لهذا أبداً، بل إننا ندعوهم إلى الحذر عند قراءة كتب المبتدعة، بل إن كتب المبتدعة أصلاً لا يصلح أن يقرأها أي شخص، الناس في البداية لا بد أن يقرءوا الكتب السليمة، كتب أهل السنة والجماعة، بل إننا ندعو الناس ألا يفتحوا صدورهم لأي فكرة، وخصوصاً إذا كان المؤلف مجهولاً، والقراءة الواعية هي التي تكشف لنا خداع المضللين، الذين يجتزئون أشياء من أحاديث مثلاً، يجتزئون: يأخذ جزءاً، كأن يقول: حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود والنصارى) ويحذف: (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) لماذا يحذفها؟ لأن له غرضاً، لأنه يعتقد ببناء المساجد على القبور، فيحذف جزء الحديث ويقول لك: انظر هذا الحديث الذي تستدلون به، ليس فيه دليل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى) وكذلك بعض المضللين يأخذون من كلام علمائنا الثقات جزءاً ويتركون الأجزاء الباقية، سواء كانت قبله أو بعده، ويقول: انظر فلان العالم يقول: كذا، لكن لأنه أتى بجزء من الكلام غير المقصود، كما فعله الكوثري المتعصب الهالك الذي كان ينقل كلام بعض أئمة الجرح والتعديل في شخص، ويخفي الأقوال الأخرى مثلاً، وكشف زيفه العالم الجليل عبد الرحمن المعلمي اليماني رحمه الله في كتابه: التنكيل.(219/8)
أسباب نفور الناس عن قراءة الكتب الشرعية وعلاجها
وأما بالنسبة للمشكلة الحاصلة اليوم بين أكثر الناس وبين الكتاب وهي: النفور، الذي يصل إلى حد العداوة، بعض الناس لا يريدون أن يقرءوا نهائياً -المراد الكتب المفيدة كتب العلم الشرعي- وإلا الناس أكثرهم يقرءون الجرائد، يقرءون المجلات التافهة وأخبار الرياضة، يقرءون في الغالب ولا يوجد أحد لا يقرأ نهائياً، إلا إذا كان أمياً، لكن المشكلة أيها الإخوة! لماذا لا يقبل الناس على الكتاب الإسلامي، لماذا ينفرون من القراءة، لماذا توجد عقدة عند بعض الناس وعداوة بينه وبين الكتاب، كيف ننشئ العلاقة بين المسلم والكتاب؟ كيف نجعل الكتاب صديقاً؟ بحيث يصبح الأمر كما قال القائل: إذا قرأت كتاباً جديداً للمرة الأولى، شعرت أنني كسبت صديقاً جديداً، وإذا قرأت ثانية أحسست بأنني أقابل صديقاً قديماً.(219/9)
الاصطدام بالأمور الصعبة في أول الكتاب
في الحقيقة أن هناك أسباباً للعداوة والنفور بين الناس وبين الكتاب منها مثلاً: الاصطدام بأمور صعبة في بداية القراءة منها مثلاً: عدم معرفة المصطلحات المتكررة أثناء القراءة.(219/10)
المكث لمدة طويلة في مكان واحد وطول الموضوع
كذلك: أن بعض الناس طبيعتهم حركية ويحبون الذهاب والمجيء لا يحبون الجلوس في مكان واحد لمدة طويلة.
منها مثلاً: طول الكتاب أو طول الموضوع، وهكذا.
فإن هذه المشكلات لها علاجات ولا شك، فمنها مثلاً: أن القارئ المسلم ينبغي أن يقرأ في الكتب السهلة في البداية قبل الكتب الصعبة، الخطأ الذي يصد بعض الناس عن القراءة أنه يقرأ كتباً متقدمة في الفن، أقصد الموضوع العلمي، الفن كلمة شريفة، كلمة جميلة عند المسلمين، ويقولون: فن الفقه، فن التجويد، فن القراءات، فن الأصول، فن النحو، فن الصرف، وهكذا، لكن الآن أهل الجاهلية هم الذين استخدموا هذه الكلمة، استخداماً معيناً، وجعلوا لها مدلولاً معيناً في نفس المستمع، فهو إذا سمع كلمة الفن، فإنها تعني الموسيقى، الغناء، الرقص، نحت التماثيل، وكما يسمونها الفنون الجميلة، ولا أقبح منها عند الله.
نعود فنقول: إن القراءة في الكتب المتقدمة في الفن قبل الكتب المبسطة أو الأساسية من الأخطاء التي تجعل بعض الناس ينفرون من القراءة، فمثلاً: لماذا يقرأ الشخص المراجع الكبيرة قبل الكتب الصغيرة المبسطة؟ لماذا يبدأ بالأصعب قبل الأسهل؟ بعض الناس عندهم نوع من الغرور، فيقول: أنا مثلها، وأنا على مستوى القراءة ولا يهمني أنه كبير أو صغير، ولكن النتيجة تنعكس على نفسيته، فمثلاً: أليس من الخطأ أن يبدأ إنسان يريد أن يقرأ في الفقه بكتاب المغني قبل كتاب العدة؟ أليس من المفروض مثلاً: أن الإنسان إذا أراد أن يقرأ بالتفسير.
نأتي بأمثلة توضح الفكرة، وفي نفس الوقت نعطي شيئاً في الموضوع، لو أردت أن تقرأ في التفسير -مثلاً- وأنت لم تقرأ نهائياً من قبل، أليس من الأفضل أن تأخذ كتاباً مبسطاً في التفسير جداً مثل: زبدة التفسير من فتح القدير، فتح القدير للشوكاني، بسطه محمد سليمان الأشقر، مثلاً: في كتاب: زبدة التفسير، كلمة ومعناها، مع أشياء أخرى إضافية مفيدة، ثم إذا أردت أن تتوسع تأخذ مثلاً تفسير ابن سعدي رحمه الله، الذي ليس فيه ذكر المرويات بالأسانيد التي تنفر بعض الناس، وهو بأسلوب -أيضاً- مبسط وسهل، ثم إذا أردت أن تنتقل إلى تفسير ابن كثير، تنتقل إلى تفسير ابن كثير ثم إلى غيره مما هو أطول وأصعب، وكذلك أليس من الحكمة إذا أردت أن تقرأ في السيرة النبوية أن تبدأ بكتاب دروس وعبر -مثلاً- للسباعي رحمه الله، ثم تنتقل للرحيق المختوم للمباركفوري، هذا قبل أن تصل إلى البداية والنهاية لـ ابن كثير.
كذلك إذا أردت أن تقرأ في العقيدة، أليس من المناسب أن تقرأ لمعة الاعتقاد مع شرحه، ثم الواسطية، قبل أن تنتقل إلى الطحاوية فـ السفارينية، أليس من المناسب إذا أردت أن تقرأ في الحديث على سبيل المثال: أن تقرأ الأربعين النووية مع شرح مبسط، قبل أن تنتقل إلى رياض الصالحين ومشكاة المصابيح بعد ذلك، ومن الأمور التي تجعل بعض الناس ينفرون من القراءة في كتب القدامى، من علمائنا الأجلاء، أن هذه الكتب التي يسمونها بالكتب الصفراء، مع أنها الآن والحمد لله بدأت تطبع طبعات بيضاء، وأكثر العلم موجود فيها، ومؤلفات الأولين قليلة ولكنها كثيرة البركة، ومؤلفات المتأخرين كثيرة ولكنها قليلة البركة.(219/11)
أسلوب الكتاب وبلاغته المناسبة لعصر مؤلفه
من الأسباب التي تنفر بعض الناس من الكتب القديمة -أقصد التي ألفت قديماً- التي كتبها علماء المسلمين الأجلاء: أسلوب الكتاب، أسلوب الكتاب الذي قد يكون مكتوباً بلغة ذلك العصر، ويناسب مستوى القارئ في ذلك العصر، وذلك العصر كان مستوى القراء يختلف في العربية عما عليه قراؤنا الآن وهذا بلا شك، والقراءة في كتب القدامى إذا انتقيت ومشيت بالأسلوب المبسط ستصل إلى مستوى تستطيع به أن تقرأ كتب القدامى، ولو استصعبت عليك بعض الألفاظ، لكن ستخرج بفوائد عظيمة.(219/12)
أن كتب القدامى ألفت في عصر العزة والانتصار للإسلام
كذلك أن كتب القدامى قد كتبت في عصر كان الإسلام فيه في عزة، وعندما يكتب الكاتب بروح العزة الإسلامية وروح الانتصار يكون أسلوبه وروح كتابته تختلف عما يكتب به أحد الكتاب الآن في الوقت الذي أصبح المسلمون فيه في ذلة وهزيمة، وهذه نقطة مهمة جداً، قراءة كتب الماضين تأسس في نفوسنا الثقة بهذا الدين لأنهم يكتبون من منطلق القوة، ومن منطلق الاستعلاء، ولذلك نرشد الناس أن يقرءوا الكتب الحديثة التي يكتب فيها الكاتب المسلم من روح الاستعلاء كما هي كتابات سيد قطب رحمه الله مثلاً، هناك كتاب يتأثرون بالانهزامية الموجودة الآن، فتحس وأنت تقرأ بالانهزام، وتحس بأن الكاتب يتراجع عن كثير من الأمور الإسلامية الشرعية، تحت ضغط الحضارة الغربية مثلاً.
ولذلك الحذر الحذر -أيها الإخوة- عندما تقرأ للكتاب المحدثين، وهذا يقودنا إلى مسألة وهي الاهتمام باللغة العربية، وتعميق فهمنا لهذه اللغة، والوقوف أمام من يدعو إلى إشاعة اللهجات العامية كما يريد المستشرقون وأعداء الدين، فخرجوا علينا بلغة شرشر ونحو ذلك من الأمور التافهة، وهنا قاعدة: كلما كان الكتاب ألصق بالقرآن والسنة، أي: فيه استشهادات من القرآن والسنة كثيرة، كلما كان أيسر، وكلما كان المؤلف الذي يكتب قريباً من القرآن والسنة، كان كتابه أيسر وأبسط وأقرب للفهم، لأن الله قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17].
وينبغي -أيضاً- بالنسبة للمؤلفات القديمة، أن ننتقي أصحاب الأسلوب الرشيق، والقلم السيال، والعبارة الجميلة، مثل ابن القيم رحمه الله، لأنك إذا قرأت في كتبه، أو بعض كتبه على الأقل، تحس بانجذاب لكتب القدامى، هذا قبل أن تنتقل إلى قراءة كتب من في أسلوبهم شيء من التعقيد أو تداخل العبارات، أو كثرة الاستطرادات، بعض الناس يقولون: نقرأ لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لكن لا نفهم، نقول: نعم.
يحصل كثيراً، ابن تيمية رحمه الله كان ذهنه سيالاً، كان يكتب وعندما يكتب تتدفق الأفكار، كالسيل العارم الجارف، فيخرج كل ما عنده ويفرغ في الكتاب.
ولذلك تجد في المسألة الواحدة أقاويل كثيرة جداً وتعليقات ونقد وعرض بشكل مذهل، لكن قد لا يستطيع القارئ البسيط أن يفهم مثل هذا، لكن في نفس الوقت له رحمه الله كتب بسيطة مثل كتاب: العبودية مثلاً.(219/13)
كون الكتاب مكتوباً بلغة عربية قوية
ومن أسباب النفرة بين القارئ والكتاب: صعوبة اللغة، أن يكون مكتوباً بلغة عربية قوية، أو تكون الكلمات غير معتادة الاستعمال في وسط الشخص القارئ، ولذلك من الممكن التغلب على مثل هذا بأن يكون لدى القارئ المسلم -مثلاً- قاموساً مختصراً جداً مثل: مختار الصحاح، وهو كتاب يمكن أن يوضع في الجيب، فتجده كل كلمة ومعناها، أو القاموس المحيط، وإذا مرت عليه كلمات في الأحاديث غريبة فعنده كتاب: النهاية في غريب الأثر والحديث يستطيع به أن يفك رمز هذه الكلمة التي لا يعرف معناها.
فإذاً هناك كتب بسيطة يمكن أن يحتفظ بها القارئ، بجانبه تساعده أثناء القراءة، وهو سيلاقي صعوبة في البداية، لكن بعد فترة سيتعود، والكلمة الصعبة الآن إذا عرفت معناها في المستقبل لن تحتاج أن تنظر في معناها مرة أخرى أليس كذلك؟ وستتقوى الملكة اللغوية تدريجياً مع كثرة القراءة، ونعود فنقول: إن تعلم قواعد اللغة العربية، شيء ضروري، فمعرفة الفاعل من المفعول، يؤثر كثيراً عند القراءة، ومعرفة المضاف من المضاف إليه يؤثر كذلك، المبتدأ والخبر، الشرط، فعل الشرط وجواب الشرط، تقديم ما من شأنه التأخير، ماذا يعني في لغة العرب، وهكذا.
وإذا لم يفهم القارئ شيئاً في البداية، فليس من الضروري أنه يقف حتى يفهم، بل يتجاوز الآن ويكمل حتى يسهل عليه الأمر في المستقبل.(219/14)
كثرة الملل لدى القارئ
ومن الأمور التي تنفر الناس عن القراءة: الملل، أنه يقرأ نصف ساعة أو ساعة أو ساعتين وبعد ذلك يمل، فماذا يفعل؟ يستريح بين فترة وأخرى، يريح عينيه، يقوم يتحرك، حركة بسيطة، ثم يرجع إلى القراءة، ومن الأساليب أيضاً أن يغير الكتاب الذي يقرأ فيه، أو يغير نوعية العلم الذي يقرأ فيه، كما ذكر عن ابن عباس رضي عنه أنه كان إذا مل قال: هاتوا ديوان الشعراء، وأيضاً الشعر مفيد، يفهم لغة العرب، تقوى سليقته، وكان محمد بن الحسن رحمه الله قليل النوم في الليل، وكان يضع عنده الدفاتر، فإذا مل من نوع ينظر في نوع آخر، وكان يضع عنده الماء ويزيل نومه بالماء كلما نعس.
من الأمور التي تشد أو تحبب القراءة للشخص أن يحس بالمردود، وإذا كان المردود سريعاً، كان تحبيب القراءة أو حبه للقراءة أكثر، فمثلاً: لو أن الإنسان قرأ مسألة فقهية، ثم تعرض لها، فإنه يستأنس جداً لأنه يعرف الجواب، مثلاً: لو قرأت عن الحج ثم ذهبت إلى الحج سيكون إحساسك بفائدة القراءة كبيراً، لو قرأت كتاباً في صفة الوضوء، أو صفة الصلاة، وأنت تطبق ذلك يومياً، ستشعر بحب للقراءة، لأن الثمرة مرئية ومشاهدة وسريعة.
ومن الأمور أيضاً أن يقيد الإنسان الفوائد الجميلة، اللآلئ التي يقرؤها، وليس كل ما يقرأ يشد انتباهه، وليس كل ما يقرأ يقع في نفسه موقعاً جميلاً، فلو أن القارئ يدون الأشياء الجميلة التي يقرؤها، الأحداث المؤثرة، فإنه بعد فترة ستتجمع عنده أشياء، لو فهرسها، ستخرج في كتيب جميل، إذا قرأه استأنس لأن عنده فواكه عذبة مما قرأه، وكثير من العلماء لهم مصنفات، هي عبارة عن فوائد، حصلت لهم أثناء البحث والقراءة، انظر إلى كتاب: بدائع الفوائد لـ ابن القيم رحمه الله مثلاًُ، يتحدث الناس بأحسن ما يحفظون، ويحفظون أحسن ما يكتبون، وأحياناً يحب الإنسان القراءة أكثر لأنه يعيد القراءة فيستفيد من إعادة القراءة معاني جديدة، لم يكن قد عرفها من قبل، وبالذات الذين يتدبرون القرآن الكريم، فإن هذا القرآن لا يشبع منه العلماء، كلما قرأت بتدبر وجدت معاني جديدة، وكذلك عندما تقرأ في كتب العلم وتعيد الكتاب مرة أخرى، تثبت ما كنت حفظته، وتحفظ شيئاً جديداً وتفهم شيئاً جديداً، وهذا يحببك في القراءة بزيادة.
عندما نقول: أن من الأشياء التي تنفر القارئ من الكتاب أنه يمر بأشياء لا يفهمها، يجب أن يكون للقارئ موقف مهم جداً في هذا المكان وهو: ما جاءنا من سنة علمائنا أنهم كانوا إذا استغلقت عليهم المسألة، أو مر بهم الأمر الصعب أثناء القراءة، كانوا يلجئون إلى الله، ويتضرعون إليه ويسألونه أن يفتح عليهم سر هذه المسألة، مثلما كان يقول شيخ الإسلام رحمه الله مناشداً ربه: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، لأن الله قال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79].
وهذه المناشدة لله هي التي تفتح عليك هذا الذي استغلق من المسألة أو الكلمة أو العبارة الصعبة في الكتاب، لكن بعض الناس مع الأسف ليست عندهم هذه الروح، أو هذه النفسية، التوجه إلى الله إذا استصعب عليه شيء في القراءة، ومن الأشياء التي تحبب الإنسان إلى الكتاب: الاعتناء بالكتاب، وكان علماؤنا رحمهم الله يعتنون بكتبهم اعتناء شديداً، فكانوا يقولون مثلاً: لا تجعل كتابك بوقاً ولا صندوقاً، بعض الناس يأتي بكتاب ويلفه على شكل دائرة، ويمسكه بيده فيكون كالبوق، وهذا ملاحظ في طريقة الحمل، يلف الكتاب ويحمله بيده، أو يجعله صندوقاً، يضع فيه الأوراق والأقلام والدفاتر، وينتفخ الكتاب ويتشقق بفعل هذه الأشياء التي تكون داخله، فتجد كل شيء في الكتاب، وذكروا في صفة القراءة قالوا: لا يفرشه، بعض الناس لما يأتي بكتاب يفتح الكتاب ثم يدعكه بيده بشدة حتى يفتحه، فالكتاب يتفلت، وتتفلت الأوراق، هذا الخيط الذي يمسك الأوراق والملازم يتفلت، والصمغ يتفكك، لا يفرشه لكي لا يتقطع حبله بسرعة، ولا يوضع على الأرض مباشرة.
إذا جاء يرص الكتب في الخزانة أو في الدولاب أو في الرفوف، لا يضعه على الأرض مباشرة وإنما فوق خشبة، لئلا يبتل، وإذا وضع على خشب وضع فوقها جلداً، وتحتها جلداً إذا لم يكن هناك عازل، أو بينه وبين الحائط يضع جلداً، ويراعي في وضعها أن يكون أعلاها هو أشرفها، ثم يراعي التدريج: القرآن ثم الحديث ثم شرح الحديث، ثم العقيدة، فالفقه فالنحو فأشعار العرب، حتى الكتب لها ترتيب، فإن استوى كتابان في فن معين، صاروا مثل بعض، جعل أعلاهما أكثرهما قرآناً أو حديثاً، فإن استويا فبجلالة المصنف، فإن استويا فأقدمهما كتابة، فإن استويا فأكثرهما وقوعاً في أيدي الصالحين والعلماء، أي: الكتاب الأكثر استخداماً، فإن استويا فأصحهما، وهكذا.
وحفظ الكتاب يشرح الصدر، عندما ترى كتابك جميلاً جيداً، يفتح نفسك للقراءة، بعض الناس يضعون كتبهم على الرفوف بشكل مائل، ماذا يحدث للكتاب، تختلف الصفحات، ولا بد من الاعتناء بتجليدها وتلصيق ما تمزق منها، ولا يرمي الكتاب، بعض الناس إذا أراد أن يناول أحداً كتاباً رمى له بالكتاب، وهذا يساعد في تشققه وتلفه، بل يناوله مناولة، ولا يكتب عليه بأقلام لا تمحى، إلا الأشياء المهمة، طبعاً الإنسان عندما يشتري ينتقي الطبعات النظيفة، والأوراق التي يسهل القراءة فيها، والحرف ترى له أهمية في القراءة، فعندما يكون صغيراً جداً يتعب في القراءة، لذلك بعض السلف قال: لا تقرمط، فتندم وتشتم، لا تقرمط أي: لا تكتب بحروف صغيرة جداً، فإذا احتفظت فيها ثم كبرت وصار بصرك ضعيفاً تندم في المستقبل، لأنك ما تقرأ بسهولة، وإذا ورثتها لغيرك مثل المخطوطات التي كانت تورث؛ تشتم، ويقال: فلان هذا كاتب الخط، هذا الذي ما يقرأ.
وكذلك لا يبقي الكتاب مفتوحاً لفترة طويلة، أو مقلوباً بعدما يفتح لفترة طويلة، ولا يضع ذوات القطع الكبيرة فوق ذوات القطع الصغيرة لئلا تسقط، ولا يجعل الكتاب خزانة للكراريس، أي يضع فيه أشياء: كراريس أو مخدة، فبعض الناس ينام عليها، أو يجعله مروحة، أو مكبساً يكبس به، ولا مسنداً ولا متكأً ولا مقتلة للبعوض، ولا يطوي حاشية الورق.
بعض الناس إذا أراد أن يعلم المكان الذي وقف عليه، طوى الصفحة، ثم يطوي صفحة ثانية، وكان العلماء يكتبون: بلغ، حتى يعرف أين وصل، ونحن الآن نطوي الأوراق، وإذا أراد الإنسان أن يضع علامة يضع ورقة رقيقة في المحل الذي وصل إليه، ولا يُعلِّم بعود أو شيء جاف، وحتى طريقة قلب الصفحات، بعض الناس يقلب بعصبية كأنه يريد أن ينتقم من الصفحة، مع أنه يمكن أن يقلب بكل تؤدة وسهولة ويحافظ على صفحات الكتاب، ويتفقده عند الشراء، حذراً من المسح أو النقص أو عكس الملازم وقلبها، وهذا يلاحظ كثيراً في الكتب، ويعيرها لمن يأتمنه عليها، حتى لا تضيع، ولا يجوز له أن يحبس الكتاب المعار عنده، المستعير إذا استعار كتاباً لا يحبسه، ولا يحشيه ويكتب في بياضه إلا إذا علم رضا صاحبه، إذا علمت أن صاحبه يرضى أنك تكتب اكتب وإلا لا تكتب، ولا بد من الاهتمام بالكتب ذات علامات الترقيم الجيدة، فواصل ونقط، ويبدأ فقرة جديدة من أول السطر.
وكذلك إذا حصل على كتب فيها تقسيمات وتفريعات في أشكال توضيحية تساعد في فهم الفكرة، مثل: كتابة الجداول الجامعة للعلوم النافعة، فيكون هذا جيداً.(219/15)
اقتناء الأشرطة وسماعها بدلاً عن الكتب
ومن الأشياء التي صرفت الناس عن القراءة أيها الإخوة: الأشرطة، وهذا حق، ونحن لا نقول: يجب أن نلغي الأشرطة، لا، ولكن نقول: لا بد أن يكون المسلم عنده توازن، بين سماع الأشرطة وقراءة الكتب، لأن بعض الناس اهتموا بالأشرطة فأصبحوا لا يقرءون شيئاً، كل شيء بالأشرطة، مع أن هناك فروقاً كبيرة، فمثلاً الأشرطة لا يمكن أن تستخدم مراجع، وإذا أردت أن تبحث عن شيء في الأشرطة فمن الصعب أن تجده بخلاف الكتاب، وهذه الأشرطة تقتل روح البحث العلمي عند من يسمع الأشرطة ولا يقرأ الكتب والأشرطة لها مجالات معينة، مثلاً: في السواقة، أي في الأوقات أو الظروف والأوضاع التي لا يستطيع فيها الشخص أن يقرأ.
ويمكن أن يسمع عند الاسترخاء، مثل ما فعل جد شيخ الإسلام ابن تيمية، إذا دخل الخلاء أمر قارئاً أن يرفع صوته ليسمع ويستفيد، أفضل من أن يغتسل الإنسان نصف ساعة، ويجلس فارغاً، ممكن يفعل هذا، يسمع الشريط، لكن أن نقلع عن الكتاب ونرغب عنه بالأشرطة فقط، فهذا خطأ كبير جداً، حتى الفهارس التي صدرت فإنك تجد مع إيجابيتها الكبيرة إلا أنها قتلت روح البحث عند الناس، فالباحث يرجع إلى المسالة ولا يمر على أي مسألة أخرى، قد يكون بدون الفهرس سيمر عليها.(219/16)
متابعة المسلسلات والبرامج
وكذلك من الأمور التافهة التي شغل بها الناس: متابعة المسلسلات والبرامج في الشاشة الصغيرة -مثلاً- أو هذه الأفلام في الفيديو ونحو ذلك، هذه قتلت القراءة عند الناس قتلاً، وذبحت القراءة ذبحاً، لأن الناس انشغلوا تماماً بهذه الأشياء، كم ساعة يجلسون أمام الشاشة؟! وبعد ذلك يقول: ما عندي وقت أقرأ! طبعاً صور ملونة وأحداث وأشياء تتحرك، من أين له أن ينجذب إلى الكتاب، مع أنه ماذا يستفيد من النظر والمتابعة؟ تقريباً لا شيء.
ونستطيع أن نشجع الناس على القراءة بأمور كثيرة، مثلاً: معارض الكتاب لها دور، الغرب عندهم أسبوع الكتاب، ونادي الكتاب، واتحاد القراء وأشياء كثيرة، لكن نحن نستطيع إقامة معارض الكتاب والإعلان عن الكتب في الوسائل المختلفة، إقامة محاضرات عن القراءة، وفقرات منهجية في المدارس والجامعات، وحصص خاصة بالقراءة الحرة إذا أمكن، وإنشاء مكتبة في البيت، وتكون هناك مسابقات للقراءة، الشاهد: هناك وسائل يمكن أن نشجع عامة الناس على القراءة من خلالها.(219/17)
شرود الذهن أثناء القراءة وعدم التركيز
نأتي الآن -أيها الإخوة- إلى مسألة شرود الذهن أثناء القراءة ومشكلة عدم التركيز، وهذه المشكلة فعلاً تسبب نفور الناس من القراءة وشعورهم بأنهم لا يستفيدون شيئاً، وكثيراً ما تلاحظ على نفسك أنك وأنت تقرأ قد ختمت الصفحة دون أن تفهم شيئاً، لأن العين هي التي تشتغل ولكن القلب لاهٍ.
هناك نوعان من الشرود: شرود النظر والفكر معاً، وشرود الفكر فقط، أنت أحياناً قد تقرأ كما ذكرنا والعين تعمل والقلب لا يعمل، فهذا شرود الفكر وشرود القلب: النظر موجود لكن القلب لا يوجد، لاتوجد متابعة، وأحياناً تجد نفسك وأنت تقرأ قد نظرت في شيء وجلست تبحلق فيه فترة من الزمن، أو وضعت يدك على خدك وجلست تسرح في موضوع، أو ترى نظرك في جهة والكتاب في جهة، وقد ذهبت في وادٍ آخر أثناء القراءة، هذا الشيء طبيعي بالنسبة للشخص الذي يريد أن يتعود على القراءة في البداية، والناس كل واحد فيهم تقريباً لا بد أن يشرد، لكن المشكلة والقضية أنهم يختلفون في الشرود، فمنهم من يطول شروده ومنهم من يقصر، ومنهم من تخطر له خاطرة أو خاطرتان ومنهم من تخطر له عدة خواطر.(219/18)
أمور تساعد على التركيز(219/19)
المجاهدة والصبر وعدم الانشغال بالمؤثرات الخارجية
هذه المسألة أكبر حلٍ لها هو المجاهدة، مجاهدة النفس عند قدوم الخواطر الطارئة، وعندما يقفز النظر بين السطور وينهي الصفحة والصفحتين، وإذا توقفت فجأة وجدت نفسك لم تستوعب شيئاً، لا بد أن تراجع طريقتك في القراءة، التجاوب مع القراءة من أكبر الأسباب التي تؤدي للتركيز، ولذلك -مثلاً- إذا نظرت إلى قراءته صلى الله عليه وسلم للقرآن وجدت فيها أمراً عجيباً، فمثلاً: كان إذا مر بآية تسبيح سبح، وإذا مر بآية عذاب استعاذ، وإذا مر بآية نعيم سأل الله، {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40].
قال: بلى، إذا مر بآية فيها سجدة سجد، ما معنى هذا؟ التفاعل مع القراءة، التفكر في الأشياء التي تقرأ، بعض الناس إذا نظرت إليه وهو يقرأ تجد في قسمات وجهه أنه أحياناً يعبس، وأحياناً تجده ينبسط، وأحياناً تجده يبتسم، وأحياناً تجده مستغرباً، وأحياناً تجده مندهشاً، وأحياناً تكون أنت جالساً في حجرة شخص يقرأ في سكون وفجأة تسمعه يقهقه، ماذا حصل؟ قرأ شيئاً مضحكاً، فهذه العلامات على الوجه أثناء القراءة تدل على أن الشخص متابع لما يقرأ، التركيز لا يأتي من أول وهلة، ولا يأتي بسهولة جداً لا بد له من تمرن مستمر، وصبر وعدم استجابة للمؤثرات الخارجية، وإذا استطاع القارئ بالمجاهدة أن يرد عقله مرة بعد أخرى إلى الموضوع فإن الخواطر الطارئة لا تلبث أن تعود من حيث أتت وبتكرار ذلك يصبح تركيز الذهن من الأمور المألوفة، فالقضية قضية صبر ومجاهدة.
العين -أيها الإخوة- ترى رسم الحروف لكن لا تفهمك معنى الكلام، وإنما القلب هو الذي يفهمك المعنى، وعن طريق التدبر تلتذ القراءة، هناك أمر وهو: إذا لاحظنا القراء الآن نجد أنهم يختلفون، فمنهم قارئ سماعي، لا يقرأ إلا برفع الصوت، يوجد أناس لا يعرف يقرأ أبداً ولا يفهم ولا يستوعب إلا إذا رفع صوته، ولذلك يصير مزعجاً بالنسبة لشخص آخر.
هناك قارئ آلي، يحرك شفتيه لكن بدون صوت، تجده يقرأ بالشفتين، وهناك قارئ بصري لا يقول شيئاً ولا يسمع شيئاً، لكن فقط ينظر ويفكر، لا تسمع صوتاً ولا ترى حركة، وإنما يتابع ببصره وقلبه، بعض الناس المفكرين يقولون: إن الأخير هو أجود الأنواع لأنه يركز تركيزاً شديداً جداً، بحيث أنه لا يحتاج إلى أشياء أخرى تنبهه وتجعله يعيش داخل الموضوع، ولكن الناس يتفاوتون، وممكن شخص لا يستوعب إلا برفع الصوت، وممكن شخص لا يستوعب إلا بتحريك الشفتين، وممكن شخص لا يركز إلا بالنظر مع استعمال الفكر والقلب، فالناس يتفاوتون، كل واحد يرتاح بطريقة معينة.
وكذلك الأشياء نفسها المقروءة تختلف فمثلاً: ذكر بعض أهل العلم قال: ينبغي للدارس أن يرفع صوته في درسه حتى يسمع نفسه فإن ما سمعته الأذن رسخ في القلب، ولهذا كان الإنسان أوعى لما يسمعه منه لما يقرؤه، وإذا كان المدروس مما يفسح طريق الفصاحة يكون رفع الصوت به مهماً، مثل قراءة الشعر، قراءة الأشياء التي تحسن الأسلوب، التي تحسن النطق، التي تجلب الفصاحة، هذه رفع الصوت بها مهم، ويقول أحد أهل العلم وحكي لي عن بعض المشايخ أنه قال: رأيت في بعض قرى النبط فتى فصيح اللهجة حسن البيان، فسألته عن سبب فصاحته مع لكنة أهل جلدته فقال: كنت أعمد في كل يوم إلى خمسين ورقة من كتاب الجاحظ -والجاحظ من المعتزلة ضال في العقيدة، لكن له كتب جيدة في أسلوب الفصاحة، مثل كتاب البيان والتبيين - فأرفع بها صوتي فما مر بي إلا زمان قصير حتى صرت إلى ما ترى، لذلك رفع الصوت كأن يسمع القارئ نفسه القرآن من الأمور التي تجعله فصيحاً جداً.
أيها الإخوة: من الأمور السيئة أنه وجد مطرب مغني ينصح الشباب الذين يريدون الإقبال على الغناء، فيقول لهم: وصية: أنصحكم بدراسة التجويد، لأنه يساعدكم على أداء الأغنية بكفاءة عالية، فالتجويد فيه علم مخارج الحروف، والتفخيم والترقيق، أي أشياء كثيرة، لكن انظر السفيه يريد أن يستغل التجويد في الغناء.(219/20)
استخدام القلم أثناء القراءة
من الأمور المهمة التي تساعد على التركيز استخدام القلم أثناء القراءة، وهذه وصية مهمة نافعة إن شاء الله لك أيها الأخ المسلم، استخدم القلم أثناء القراءة، إن كثرة التعليقات التي تكون موجودة على كتابك دالة على تركيزك وتفاعلك مع القراءة، واستعمال القلم عند القراءة لشد الانتباه والتعبير عن الموقف المقروء أو الاستيعاب يدل على الاستيعاب أصلاً، إذا قرأت ورأيت أنك ملأت الصفحة بالكتابة فاعلم بأنك ناجح في الاستيعاب، وربط الجمل والأفكار، الكتابة على الهوامش، هامش الكتاب سواء كان الأعلى أو الجانبي أو الأسفل، ينبغي أن تكون التعليقات كأنها حوار بينك وبين الكاتب، وليس المقصود ما يفعله بعض القراء، وبعض الناس الذين يقرءون من خرابيش، تفتح الكتاب تجد سيارة، طيارة، مثلثاً، دوائر، مكعبات، وأشكالاً، ورسوماً سريانيه، ونحو ذلك، لا، المقصود باستخدام القلم مثلاً: وضع خط تحت النقط الأساسية والأفكار الهامة، وضع خطوط رأسية في الهامش للإشارة إلى أهمية الفكرة.
أحد الشباب كان في المذاكرة أيام الجامعة، يذاكر وكان الكتاب ضخماً فيه ما هب ودب، فكان يستخدم الألوان، اللون الأصفر للأشياء المهمة جداً، قانون يجب حفظه، الشيء الأزرق أقل أهمية، الشيء الأحمر أقل شيء، ويترك الباقي بياضاً أو يرقمه، فيجعل للشيء المهم جداً رقم واحد، وللمتوسط رقم اثنين، وما يمكن تأجيله في المذاكرة رقم ثلاثة، فإذا وجد وقتاً قرأه وإلا تركه.
فهذه أشياء مهمة نافعة جداً في التحصيل، وكذلك وضع الأرقام بالإشارة إلى أهم النقاط، ترقيم الأشياء، وقد تجد بعض الكتب ليس فيها شيء مرقم، فإذا رقمته فإنك تحس بنوع من التركيز أكثر، والإشارة إلى أرقام الصفحات التي ذكرت فيها النقاط لها علاقة بهذه النقطة، وهذا يدل على أنك مستوعب، ولذلك يقول -مثلاً-: انظر صفحة كذا تقدم الكلام عن هذا الموضوع في صفحة كذا، فمعنى ذلك أنك متابع وأنك تربط بين هذه الفكرة والفكرة التي سبقت، وأيضاً: القيام بكتابة أسئلة، فأحياناً الشخص يكتب سؤالاً على أساس أنه يقول: سأسأل عنه العالم كذا، أو يذكر نقطة فيكتب سؤالاً: هل يدخل فيها كذا، أو تبسيط الفكرة في الهامش، أنت إذا نظرت إلى كتاب: اقتضاء الصراط المستقيم طبعة الشيخ: محمد حامد الفقي رحمه الله، ماذا تلاحظ في هذا الكتاب؟ فيه عناوين جانبية كثيرة جداً، في كل مقطع عنوان جانبي، وذلك لأن الأولين كانت كتبهم عبارة عن فصل ويسرد لك فيه عشرين صفحة، ثم فصل ويسرد فيه خمسين صفحة، يعني ذهن سيال ما شاء الله! حفظة، الناس الآن بدءوا يكتبون بهذا التفصيل وهذا التنقيط، وهذا الترقيم الموجود، فأنت إذا قرأت في كتب الأقدمين استخدم هذه الوسائل، العناوين الجانبية مثلاً: اكتب موضوعاً لكل فقرة ستلاحظ أول شيء التعريف اللغوي، ثانياً: التعريف الشرعي، اكتب: التعريف الشرعي، ثالثاً: الأدلة، رابعاً: أقوال العلماء، خامساً: القول الراجح، حاول أن تكتب في الهامش العنوان الذي يدلك ماذا يوجد في هذه الفقرة، وإذا كنت لا تحب أن تكتب في كتابك أو لم يكن الكتاب كتاباً لك، استعرته مثلاً، خذ ورقة خارجية ودون فيها الملخص، وإذا كنت لا تحب الكتابة حتى في كتابك أنت، خذ ورقة ودون فيها الأشياء، تكون مناسبة لمقاس الكتاب ثم ألصقها في الغلاف من الأخير أو من الأول، وبعض الناس يقول: يا أخي! الكتاب يضيع الوقت، أنا كل شيء أكتبه هذا معناه أن أجلس في الكتاب أسبوعاً، نقول: اجلس أسبوعاً واستفد أحسن من أن تكمله في ساعتين ولا تستفيد.
حاول أن تجعل كتابك ثرياً، كيف؟ بعض الناس يثرون كتبهم، يصير الكتاب عنده يساوي أضعاف أضعاف قيمته في المكتبة، وليس عنده استعداد أن يعطيه لأحد لأنه يخشى عليه، لأن الكتاب صار ثميناً، كيف صار ذلك؟ مثلاً: إذا مر على قول ذكره الكاتب قال -مثلاً- للعلماء أقوال أخرى، ونقل من كتب أخرى الأقوال في الهامش، حديث مر عليه ذهب إلى كتب التصحيح والتضعيف وخرج الحديث وبين صحته: صحيح، انظر صحيح الجامع رقم كذا، تلخيص الحبير رقم كذا، وهكذا، ينقل درجة الحديث، أو يكتب نقداً لفكرة خاطئة، يقول: وهم الكاتب هنا، والصحيح كذا، لأن فلاناً يقول من العلماء كذا ونحو ذلك.
أو يصوب الخطأ المطبعي فيضع إشارة بالقلم الرصاص، ويكتب فوق الكلمة: الصحيح كذا، ولكن لا تستعجل؛ لأن الشخص أحياناً يظن ما ليس بخطأ خطأً فيصحح، وتصحيحه خطأ، والموجود في الكتاب هو الصحيح، مثلاً: قرأ تذهيب التهذيب وهناك كتاب: تذهيب التهذيب قال: تذهيب التهذيب ما سمعت به ولكن المعروف: تهذيب التهذيب، فشطب على تذهيب وكتب فوقها: تهذيب، مع أن هناك كتاباً اسمه: تذهيب التهذيب، لكنه لا يدري، ومثلاً: قال الباوردي، يقول: من هذا الباوردي؟ لا، البارودي هذا المعروف، فيشطب على الباوردي وكتب: البارودي، مع أن هناك عالماً معروفاً اسمه: الباوردي وهكذا، فلا تستعجل بالتصحيح، وليكن بقلم رفيع وخط دقيق، يوضع فوق الكلمة، وبعض الناس يحك حتى إنه يخرق الورقة، ومن المفيد عند انتهائك من قراءة الكتاب أن تكتب مذكرة على جلدة لكتاب، عبارة عن تقويم عام، أو اختصار للكتاب يحوي ما تضمنه من أفكار والملاحظات عليه سواء ما يتعلق بالشكل والمضمون أو الأسلوب، المربي والداعية الذي يعلم الناس يهمه جداً هذا الكلام، لأنه يعرف من خلال هذا التقويم من يصلح أن يهدى إليه هذا الكتاب ومن يصلح أن يقرؤه.
وإذا أردت أن تلخص كتاباً فلا بد أن تعرف فن التلخيص، والتلخيص له فن لا بد من الاستيعاب والفهم أولاً، ثم تقدر حجم التلخيص ثانياً، ثم تتحرر من عبارات الكاتب الأصلي إلا إذا كانت مهمة جداً، وتصيغها بكلماتك أنت وعباراتك، والتلخيص قدرات عند البشر، لذلك بعض الطلاب عندما يقول المدرس: لخص لي الكتاب الفلاني، تجدهم يأخذون من هنا سطرين ومن هنا سطرين، وهنا سطرين، فتجده ينقل نقلاً، ثم يخرج في النهاية كلام ليس بينه ترابط على الإطلاق، لأنه استعمل عبارات المؤلف، فلابد من صياغته صياغة كاملة تامة مترابطة.(219/21)
تلمس الأوضاع المريحة عند القراءة
وكذلك من الأمور التي تساعد على التركيز أثناء القراءة: تلمس الأوضاع المريحة عند القراءة، ولا بد أن يحاول الإنسان أن يكون مرتاحاً، ولا شك أن القراءة التي بعد النوم والراحة أفضل من القراءة في حال النعاس، وإذا كان الإنسان يحتاج نظارة يقيس له نظارة، القراءة في ضوء النهار أفضل من القراءة في الضوء الاصطناعي، وكذلك القراءة في النور الكافي، أما النور الخافت جداً فإنه يتعب البصر، مثلاً: يكون وضع الضوء بحيث لا يلقي ظلاً على الكتاب، أو انعكاساً على صفحاته فيرتد على العين فتؤذيك، ويستحسن أن يمسك الكتاب بحيث أن الضوء يقع عليه بشكل متساوٍ، والنصيحة العامة في طريقة مسك الكتاب التي ذكرها بعض أهل الخبرة في هذا المجال أن يكون الظهر مستقيماً، لا هو منحني ولا هو راجع للخلف، والكتاب في مستوى وسط الجسم مرفوعاً بزاوية خمس وأربعين درجة تقريباً، والرأس مائل إلى الأمام قليلاً، بحيث تكون المسافة بينك وبين الكتاب ثلاثين (سم) تقريباً، فهذا وضع ذكره أهل الخبرة أنه وضع مثالي، لكن لا يعني أنك لا بد أن تقرأ على هذا الوضع وإذا لم تستطع لا تقرأ، لا، علماؤنا كانوا يقرءون في ضوء القمر رحمهم الله، كانوا يقرءون على ضوء السراج والشمعة، ويقرءون وهم في حالة الجلوس ويقرءون في القيام، ويقرءون وهم يمشون، ويقرءون وهم مضطجعون، ولكن الإنسان يحرص على أن يلتزم الوضع المريح، حتى يستطيع أن يستمر فترة أطول، لأن بعض الناس يجلس بكيفية خطأ ثم تؤلمه رجله فيترك القراءة، أو تؤلمه رقبته فيترك القراءة، أو تؤلمه عيناه فيترك القراءة، السبب أن طريقته في القراءة غير صحيحة، انظر إلى تصميم المكتبات العامة، تجد أن مكان الجلوس فيه حواجز من اليمين واليسار والأمام معنى ذلك: أن الشخص عندما يقرأ ينبغي أن يكون في مكان هادئ بعيد عن الضجيج والأصوات وبعيد عن المناظر، أي: الصور البراقة، الألوان الزاهية، المناظر المتحركة، الروائح الفائحة، كروائح الطبخ، كذلك عدم تلبية المقاطعات والشواغل أثناء القراءة مثل إجابات جميع الهواتف الهامة وغير الهامة، واستقبال كل طارق على الباب وكل نداء، إلا ما كان مهماً مثل نداء الوالدين فلا بد من إجابتهما.
الكفرة يقولون: الموسيقى الهادئة تساعد على القراءة، هم يقولون: أنها تساعد على حلب البقر الهولندي، لكن أنها تساعد على القراءة! لا حول ولا قوة إلا بالله! وبالمناسبة نحن نقول أيضاً: ليس المقصود أنك تستبدل وتفتح القرآن وتقرأ، القضية أن فيها حرجاً، أنك تلهو، أن يصير فقط اللحن وأنت تقرأ في شيء ولا تنصت للقرآن.(219/22)
أسباب الخطأ في الفهم أثناء القراءة
أما بالنسبة لأسباب الخطأ في الفهم أثناء القراءة، فهي من الأشياء المهمة جداً، ولعلنا نوجزها لكم فيما تبقى من الوقت، لماذا نقرأ ونخطئ في الفهم؟(219/23)
عدم فهم المراد من العبارة
فقد يكون أحياناً عدم فهم المراد من العبارة، مثلاً: شخص قرأ حديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يسق بمائه زرع غيره) وعنده بستان وعند جاره بستان، فيمر الماء من بستانه إلى بستان جاره، والحديث (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق بمائه زرع غيره) فيقطع الماء عن الجار، فإذا اشتكى قال: معي حديث وعندما يراجع يعرف أن معنى: لا يسق بمائه زرع غيره، يعني: لا تدخل بامرأة فيها حمل من زوج سابق، ولما يتبين الحمل وتضع حملها، لا بد أن يستبرئ الرحم أولاً، براءة الرحم لا تدخل ماءك على زرع غيرك، وانظروا أين المقصود الصحيح وأين الذي فهمه الرجل.(219/24)
أن يكون للكلمة أكثر من معنى
أحياناً يكون للكلمة أكثر من معنى، أو لها معنى في اللغة ومعنى في الشرع، فيقرأ الإنسان في كتب الفقه مثلاً: والعقل على كذا، ويظنه عقل الإنسان، لكن في الفقه العقل هو من العاقلة والدية أثناء القتل، وهذا شيء آخر غير العقل الذي هو يفهمه، أو مثلاً: الإسلام، كلمة الإسلام يفهم منها الدين، لكنه يجد في بعض الكتب: ولا يجوز الإسلام في كذا ويجوز الإسلام في كذا وإذا أسلم في خمسة دنانير وكذا فيصح الإسلام، كيف يفهم هذا الكلام؟ المقصود بالإسلام الذي هو بيع السلم، وهو نوع من أنواع البيوع.(219/25)
أن تكون عنده خلفية خاطئة
أحياناً تكون عنده أفكار خاطئة سابقة، خلفية سابقة خاطئة تجعله يحمل الكلام المقروء على غير الوجه الصحيح بسبب الخلفية الخاطئة، مثلاً: أحياناً المفوض والأشعري يقرأ كلام ابن تيمية يقول: وهذا يؤيد مذهبنا، لأن فكرته خطأ هو، فهو سيحمل كل كلام يقرؤه على هذه الخلفية.(219/26)
عدم إكمال القراءة إلى آخرها
وبعض الناس من أسباب عدم الفهم أنهم لا يكملون القراءة للأخير، لا بد من إكمال المقروء، بعض الناس يقول: إن اللبيب بالإشارة يفهم، يقرأ ثلاث كلمات والباقي واضح، أكمل العبارة أكمل الفقرة اكمل المقطع، فقد يقرأ شخص أول الآية فيقول: يقصد الآية الفلانية ويترك مع أنه يقصد الآية الأخرى حيث أن فيهما تشابه في البداية، وكثيراً ما نتراجع في معلومات ونتأكد أنا قرأناها بشكل صحيح، ويقول الإنسان: يا أخي! هل أنت متأكد؟ يقول: نعم متأكد أني قرأتها في الكتاب الفلاني، نراجع ونتبين خلاف المقصود.
فلا بد -إذاً- من التوثق والمقارنة، كل ما أشكل شيء نرجع إلى الأصل، نرجع إلى الأصل وهكذا، أحياناً تكون صياغة المؤلف قصيرة جداً أو مختصرة، فتحتاج إلى تركيز في القراءة، وهذا شأن علمائنا، وقد يكون الكلام طويلاً متداخلاً يحتاج إلى تحليل، وحذف الأشياء الزائدة، وترتيب العبارات من جديد لتفهم.(219/27)
عدم المتابعة والتركيز في قراءة كل الفقرات
أحياناً يقول العالم أولاً ثانياً وبعد ذلك يستطرد وبعد عشرين صفحة يقول: ثالثاً فينبغي أن يكون القارئ متابعاً، لا يفقد الخيط، وهذا الخطأ في الفهم يؤدي إلى مشاكل منها: نسبة الكلام إلى غير قائله، ومنها تعميم الخاص، يكون الكاتب يقصد شيئاً معيناً، فيقول: يقصد أي: في كل الحالات الأخرى، أحياناً يفهم شيئاً أنقص مما قصده المؤلف، وأحياناً يفهم خطأً أن هذا هو رأي المؤلف وليس كذلك، بعض الناس من المشاكل التي يقعون فيها يفتح الكتاب من منتصفه ويقرأ، مثلاً: مجموع الفتاوى لـ ابن تيمية، يقرأ من منتصفه كلاماً في العقيدة، يا أخي! هذا غريب مخالف لعقيدة أهل السنة والجماعة، لكن مادام أنه ابن تيمية فهو صحيح، ثم يقفل الكتاب، ثم بعد ذلك ينسبه لـ ابن تيمية في المجالس وقال ابن يتمية وبعد المراجعة يتبين أن ابن تيمية رحمه الله نقل هذا عن مبتدع من المبتدعة، وهو كلام طويل جداً ثم بدأ يرد عليه، وصاحبنا فتح من منتصف الكتاب، فقرأ كلام المبتدع كله وقبل رد ابن تيمية أقفل الكتاب، ويقول: قال ابن تيمية وهذا يحدث كثيراً، ويظلم العلماء بنسبة كلام إليهم لم يقولوه.
من الأشياء التي تساعدك على فهم الكلام إذا قرأت -مثلاً- أدلة المسألة ثم أراد المؤلف أن يذكر الحكم، أغلق الكتاب ثم حاول أن تستنبط ماذا سيقوله الكاتب أو المؤلف أو العالم، حاول أن تفكر في المقدمات وتستنبط النتيجة، ثم افتح وقارن ما فكرت فيه واستنبطته بما كتبه العالم، هذا يساعد على تمرين الذهن للفهم وخصوصاً في المسائل الفقهية.(219/28)
الدخول في قراءة الكتاب وترك المقدمة
ومن الأمور التي تسبب سوء الفهم أثناء القراءة، الدخول في الكتاب بدون قراءة المقدمة، ويقول: الناس يريدون الزبدة، مع أنه أحياناً جزء كبير من الزبدة موجود في المقدمة، مثال: المصطلحات، أعطيكم مثالاً واحداً: يفتح تقريب التهذيب لـ ابن حجر يقول: فلان من الطبقة التاسعة، مات سنة إحدى وسبعين، ماذا سيفهم؟ مات سنة إحدى وسبعين هجرية، مع أنه إذا رجع إلى مقدمة الكتاب سيجد ابن حجر يقول: وذكرت وفاة من عرفت سنة وفاته منهم، فإن كان من الأولى والثانية -الطبقة الأولى والثانية، وهو عرف الطبقة الأولى والثانية- فهم قبل المائة، وإن كان من الثالثة إلى آخر الثامنة، فهم بعد المائة، وإن كان من التاسعة إلى آخر الطبقات، فهم بعد المائتين، فلما يقول ابن حجر: من التاسعة مات سنة إحدى وسبعين، ما معناها؟ مائتين وإحدى وسبعين، لكنه ما يكرر ويقول: من التاسعة مات سنة مائتين وإحدى وسبعين، فقد ذكر ذلك في البداية، فالذي لا يعرف مصطلح العالم لا يعرف ماذا يقصد بالكلام.
مثلاً الرموز: (خ) البخاري، (م) مسلم، (ت) الترمذي، (ن) النسائي، (هـ) ابن ماجة، أحياناً هذه الرموز تختلف من مصنف إلى آخر، بعضهم (ق) متفق عليه، وبعضه يقول: (ق) ابن ماجة مثلاً، أحياناً يختلف من كتاب إلى آخر لنفس المصنف، وعلى أقل الأحوال لو أن الإنسان ما فاته مصطلحات، ستفوته فوائد من عدم قراءة المقدمة، وإن لم يقع في أخطاء، كمثل أنه لا يعرف ما معنى سكوت ابن حجر على حديث في كتاب: تلخيص الحبير، ما معناه؟ إذا أنت ما قرأت المقدمة، وعرفت أن ابن حجر يقول: إذا سكت عنه -ما قلت شيء بعده- أي: أنه حسن، لا يمكن أن تعرف درجة الحديث، خلاص ذكره ابن حجر وما قال شيئاً.
وبعض الناس يقولون: ما معنى نا، ثنا، أنا؟ يقول: هذا كل حين يقول: أنا فلان، أنا فلان، يقول: ما شاء الله الرواة يعرفون بأنفسهم! والمقصود أنا، أي: أنبأنا، ثنا: حدثنا، اختصارات.
وأحياناً يحتاج القارئ أن يقرأ كتاباً آخر ليعرف طريقة مؤلف أو كتاب، مثل صحيح البخاري، العلماء استقرءوا منهج البخاري ووضعوه في كتب، وبعض كتب الفقه لها مصطلحات مثلاً: مغني ذوي الأفهام عن الكتب الكثيرة في الأحكام لـ ابن عبيدان الحنبلي، هذا إذا قال: اتفقوا يقصد الأئمة الأربعة مثلاً، أحياناً إذا قال: اتفقت يقصد ثلاثة إلا فلاناً، أحياناً إذا قال: اتفقا يقصد فلاناً وفلاناً، ولكن ليس دائماً يقول هذا، فلابد أن تعرف ذلك، وقد ذكر لك الاصطلاح في البداية.
ما معنى قول الترمذي حسن صحيح؟ ما معنى قوله: حديث غريب؟ وما هو مصطلح البغوي في المصابيح؟ المنذري في الترغيب والترهيب له مصطلح معين يدل على درجة الحديث، بعض الناس عندهم سطحية تسبب سوء فهم، وبعض الناس عندهم بعد نظر أكثر من اللازم فيتجاوزن العبارة ويحملونها ما لا تحتمل، وهكذا.(219/29)
وجود الأخطاء المطبعية
الانتباه للأخطاء المطبعية، والأخطاء في التشكيل من الناسخ أو من المطبعة يغير المعنى تماماً ويجعلك تفهم خطأ، أحياناً يقع في السند، أحياناً يقع في الحديث، بعض الناس صحفوا في القرآن، مثلاً: في الجامع لأخلاق الراوي عن محمد بن يونس الكديمي قال: حضرت مجلس مؤمل بن إسماعيل، فقرأ عليه رجل من المجلس: حدثنا سبعة وسبعين، وهذه الكلمات كانت تكتب في ذلك الزمن بغير نقاط، فمثلاً: كلمة (سبعة) ما فيها نقطة عند الباء، ولذلك كانت القراءة هذه لها خبرة، فالسين لها طريقة، والباء لها طريقة، والتاء لها طريقة حتى يدل على أنها تاء، ما كان في تنقيط، التنقيط ظهر فيما بعد، فقال مؤمل: كيف حدثنا سبعة وسبعين، فضحك وقال: الفتى من أين؟ قال: من أهل مصر، فقال: حدثنا شعبة وسفيان، فقرأ كلمة شعبة: سبعة، وسفيان: كانت تكتب من زمان مثل سفين ما كان يكتب الألف، كانت تكتب ألف بسيطة فوق.
وعن الفضل بن يوسف الجعفي قال: سمعت رجلاً يقول لـ أبي نعيم: حدثتك أمك عن فلان، وعن فلان، ماذا أمك؟ يقصد راوي اسمه: أمي الصيرفي، فقرأها هذا (أمي) وقال: حدثتني أمي، أعطني الحديث حدثتني أمك عن فلان، فقال: سنينك، سنينك متى كانت أمي تدخل يدها في جرة العسل.
وعن أبي العيناء قال: حضرت مجلس بعض المغفلين، فأسند حديثاً قدسياً، فقال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل، عن الله، عن رجل، فقال: من هذا الذي يصلح أن يكون شيخ الله؟! فأخذ الكتاب ففحصه، فوجد أن قوله عن الله عن رجل، فإذا هي: عز وجل، لكن عز الزاء صارت من طرفها طويلة قليلاً إلى الأعلى، وكلمة (وجل) صارت فيها الواو راء.
وبعضهم كان لا يحلق يوم الجمعة، لماذا؟ قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلق يوم الجمعة، كيف عن الحلق يوم الجمعة؟ حديث: (نهى عن الحِلَق يوم الجمعة) أي: النهي عن تحلق الناس قبل الصلاة، لئلا يقطعوا الصفوف في صلاة الجمعة، وحتى لا يلتهوا ويفوت غرض الخطبة والتهيء النفسي لها بالحلقات والأحاديث.
وجاء رجل إلى الليث بن سعد فقال: كيف حدثك نافع عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي نشرت في أبيه القصة؟ قال: أعطني حديث الذي نشرت في أبيه القصة، فنظر فإذا هو حديث: (الذي يشرب في آنية الفضة، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم) فبدَّل يشرب في آنية الفضة: نشرت في أبيه القصة.
وبعضهم صحف حديث: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عنزة) العنزة هي حربة كانت تركز له فيصلي وراءها إذا صار في الخلاء، فقال: (صلى عليه الصلاة والسلام إلى عنزة) جاء بعنزة وجعلها سترة، وبعضهم عرف أنها عنزة لكن جاء الخطأ من شيء ثانٍ، هذا الرجل اسمه: محمد بن مثنى العنزي من قبيلة عَنَزَة، قال لهم يوماً: نحن قوم لنا شرف، نحن من عنزة قد صلى إلينا النبي صلى الله عليه وسلم، فتوهم أنه صلى إلى قبيلته.
وأما التصحيف في القرآن مع الأسف فهو كثير، اجلس بجانب أي واحد من العامة واسمع قراءته لتسمع التكسير والتخبيط في القراءة، شيء عجيب، أحدهم صحف فجعل السقاية في رجل أخيه، وهي في رحل أخيه، قال: في رجله، وهكذا.
سمع أعرابي إماماً يقرأ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221] أي: لا تتزوجوا المشركة حتى تؤمن: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221] معنى لا تنكحوا المشركين أي: لا تزوج بنتك أو أختك إلا لواحد مسلم، فالقارئ أخطأ، قال: ولا تَنكِحُوا المشركين حتى يؤمنوا فقال الأعرابي: ولن ننكحهم حتى ولو آمنوا، كيف نكاح الذكر للذكر! والرجل للرجل؟! قبحه الله لا تجعلوه بعدها إماماً فإنه يحل ما حرم الله.
وهذا أعرابي جاء من البادية.
لذلك -أيها الإخوة- العلماء القدماء كانوا يضبطون، ما هو مثل المطابع الآن بالضمة والفتحة والكسرة، يقول: بفتح المثلثة وكسر المعجمة، ما المثلثة؟ أي: الثاء، المثناة الفوقية: التاء، بالموحدة: الباء أو النون، فيكتبون كتابة: بضم أوله، وفتح ثانيه وهكذا، حتى ما يحصل الخطأ في هذا.
ولذلك لا بد من الضبط والانتباه والتركيز والتثبت أثناء القراءة، وقد وصف رجل رجلاً فقال: كان يغلط في علمه من وجوه أربعة: يسمع غير ما يقال له، ويحفظ غير ما يسمع، ويكتب غير ما يحفظ، ويحدث بغير ما يكتب، ما بقي شيء، وإذا كتب لحان عن لحان صار الحديث بالفارسية، إذا جاء شخص يغلط ونقله، وجاء شخص آخر ونقل من نسخة الذي يغلط، وآخر يغلط مثله ضاعف الغلط ثانياً، ولذلك الناس يشتغلون بالمخطوطات، ويهمهم المخطوطة الأصلية، حتى يتجنبوا تحريف النّساخ.(219/30)
القراءة طرقها وأنواعها
ويأتي شخص يتساءل ويقول: هل نقرأ كل شيء عن شيء معين ونتوسع فيه أم نقرأ بعض الأشياء في كل شيء فنأخذ نتفاً من كل موضوع؟ نقول: كلاهما خطأ، في البداية لا بد أن يكون هناك قاعدة عند الشخص، فلا بد أن يكون عنده قاعدة في كل شيء يحتاجه، قاعدة في التفسير، وقاعدة في العقيدة، وقاعدة في الفقه، وقاعدة في التجويد، وقاعدة في الحديث والمصطلح، وهكذا، ثم يتبحر الإنسان بحسب إقباله على هذا الفن وحاجته له ويتخصص فيه.
وأما بالنسبة لسرعة القراءة فقد كان علماؤنا رحمهم الله يقرءون بسرعة، كان ابن حجر يقرأ قراءة سريعة مركزة، كيف سريعة ومركزة؟ قرأ السنن لـ ابن ماجة في أربعة مجالس، وقرأ صحيح مسلم في أربعة مجالس، سوى مجلس الختمة في يومين وشيء، وقرأ السنن الكبرى للنسائي في عشرة مجالس كل مجلس نحو أربع ساعات، وأسرع شيء وقع له أنه قرأ في رحلته الشامية، معجم الطبراني الصغير في مجلس واحد بين صلاتي الظهر والعصر، وهذا الكتاب مجلد يشتمل على نحو ألف وخمسمائة حديث، وقرأ صحيح البخاري في عشرة مجالس كل مجلس أربع ساعات، يقرأ على شيخ، حتى قراءة الضبط، فالقراءة أنواع: قراءة دقيقة متأنية، أي: بمعدل مائة وخمسين كلمة إلى ثلاثمائة كلمة تقريباً في الدقيقة، هذه قراءة بدقة متأنية، لماذا؟ مثلاً: شخص يريد أن يرد على كتاب، فلابد أن يقرأ بتؤدة شديدة.
فالقراءة السريعة بمعدل ثلاثمائة كلمة إلى ستمائة كلمة في الدقيقة مثل مراجعة الحفظ، قراءة الحدر.
قراءة التصفح والاستعراض أي: بواقع تقريباً ألف وخمسمائة كلمة في الدقيقة، كيف ألف وخمسمائة في الدقيقة؟! مثلاً: يقرأ أول جملة من كل مقطع، يقرأ أسطراً معينة حتى يأخذ فكرة عن الكتاب قبل شرائه مثلاً، أو شخص -مثلاً- مسئول مكتبة يريد أن يعرف هل الكتاب جيد أو لا؟ الكتب كثيرة جداً، كيف يفعل؟ فيقرأ من كل صفحة ويأخذ مقاطع.
فيتحكم في سرعة القراءة أمور منها: الغرض من القراءة، والخلفية عن الموضوع، بعض الناس يستطيع أن يسرع، وبعض الناس ما يستطيع، لماذا؟ واحد عنده خلفية، وواحد ما عنده خلفية، وهكذا، هناك قراءة إطلاع، مثل واحد يقرأ الجرائد والمجلات فهذه قراءتها ليست مثل قراءة كتب العلم التي تكتسب فيها أشياء جديدة، وحتى قراءة كتب العلم تختلف من فن إلى آخر، فمثلاً: قراءة كتب الفقه ليست مثل أصول الفقه، قراءة كتب التاريخ ليست مثل قراءة كتب العقيدة، ولذلك يجب على الإنسان ألا يتأثر، المبتدئ يقول: والله فلان ينجز كتاباً في ساعتين أنا ما أنجزه إلا بعشر ساعات فتتحطم معنوياته، لا، إذا توسع عدد الكلمات التي يعرفها الشخص فإن قراءته تصبح أسرع، يتحكم في سرعة القراءة، بعض الخبراء يقترح لزيادة سرعة القراءة أشياء، يقول: إذا كانت سرعة القراءة أقل من مائة وخمسين كلمة في الدقيقة، طبعاً أنت اقرأ خمس دقائق ثم عد الكلمات، اقسم على خمسة يطلع سرعتك في الدقيقة كذا، فإذا كان أقل من مائة وخمسين كلمة في الدقيقة معناها أنك بطيء في المواضيع العادية، فيقترح بعض الخبراء، أن تقرأ خمس دقائق لمدة شهر بأسرع ما تستطيع من غير أن تهتم بما فاتك من المعاني، مع مرور الزمن ستلاحظ أنك بدأت تفهم مع السرعة.
الحل الثاني: توسيع نطاق النظر، بإقلال زمن الوقت على رسم الكلمة الواحدة، بدل أن تقف هنا، ثم هنا، حاول أن تسرع في الانتقال من كلمة إلى الأخرى، وثالثاً: عدم تحريك الشفة ورفع الصوت وعدم تكرار الكلمة ولو فاتك معناها، فإن الغالب أنك سوف تفهم من سياق الكلام.
هناك القراءة الجماعية، القراءة الجماعة مفيدة أحياناً، مثلاً: شيء قد لا تفهمه أنت، وقد يفهمه زميلك، ولذلك لما تكونون مجتمعين وشخص يقرأ والبقية يستمعون، فإن هذا مفيد من هذه الناحية، وبالعكس، قد لا يفهمه زميلك وتفهمه أنت، بالإضافة أنه يشجع بعضهم بعضاً، بالإضافة للفوائد والاقتراحات المفيدة أثناء القراءة، إلى غير ذلك من الأسباب التي تولدها البركة في الاجتماع، لكن هناك شرط مهم جداً جداً في القراءة الجماعية وهو الجدية، لأن كثيراً من الطلاب يجتمعون في المذاكرة فيضيع بعضهم وقت بعض، بالنكت والأضحوكات، والتسالي، وكل واحد يأتي بشيء، فيدور الشاي، وضاع الوقت، فالقراءة الجماعية لها شروط حتى تنجح.
وأخيراً: كما يحدث في الجامعات، هناك اثنان في غرفة أو أكثر، عندما تقرأ أنت وزميلك في الغرفة، فلا بد من وضع معاهدة، ولو غير مكتوبة عن أوقات معينة يحترمها الطرفان، لا تنتهك إلا لمرض مفاجئ أو حريق لا سمح الله، وإذا كان جدول الشخصين متفقاً، فإن هذا يسهل، لأن بعض الناس إذا جلس مع شخص في الغرفة فكل منهما يضيع وقت الآخر، وهذا يؤثر على النتيجة الدراسية، فلا بد من احترام أوقات المذاكرة من قبل الطرفين.
أيها الإخوة: هذا بعض الأمور في كيفية القراءة، والمسألة جهاد ومجاهدة وجد ومثابرة، وتوفيق من الله عز وجل، لتستوعب وتفهم وتحفظ، فإليه الملتجأ وعليه التكلان والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(219/31)
كيف تكون مجالسنا إسلامية؟ [2]
إن المجالس التي يجلس فيها الناس تختلف وتتنوع، فبعضها مجالس دنيوية بحتة ليس فيها أي ذكر لله تعالى، ومجالس فيها معاصٍ ومنكرات ونحو ذلك، فموقف الداعية وطالب العلم من ذلك أن يبادر إلى الإنكار، فإن لم يستطع فليخرج وليفارق ذلك المجلس الذي يعصى الله تعالى فيه، أو يشغل الناس بقراءة كتاب أو تفسير آية وغير ذلك من الأمور.(220/1)
أقسام المجالس
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أيها الإخوة! تكلمنا في الأسبوع الماضي عن أنواع المجالس التي يجلس فيها الناس، وتكلمنا أيضاً عن أهمية هذه المجالس وأنها مرآة المجتمع، وأن أفكار الناس وتصوراتهم وآراءهم تطرح في مجالسهم في الغالب، وأن المجالس لها تأثير كبير على عقول الناس، وأن ما يحدث في المجلس ينعكس على داخل الأسرة بشكل مباشر أو غير مباشر، وأن المجلس -أيها الإخوة- فرصة خير لمن أراد الله تعالى به خيراً، ومن أراد الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً، وهو فرصة للازدياد من الشر والسيئات، والوقوع في حبائل الشيطان لمن أغواه عدو الله إبليس وجعله من جنده وأعوانه.(220/2)
مجالس دنيوية بحتة
ولذلك -أيها الإخوة- ذكرنا في المرة الماضية أن غالب مجالس الناس: إما أن تكون حديثاً دنيوياً بحتاً من أول المجلس إلى آخره ليس فيه ذكر لله تعالى، ولا تسمع فيه آية ولا حديثاً واحداً، وذكرنا بأن هذه المجالس مذمومة، وأن رسول الله عليه الصلاة والسلام وصف أهلها الذين لا يذكرون الله تعالى فيها أبداً، ولا يصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم يتفرقون على مثل جيفة الحمار.(220/3)
مجالس منكرات ومعاصٍ
والنوع الثاني من المجالس في الغالب مجالس السوء والمعصية التي تمتلئ غيبة وبهتاناً في عباد الله تعالى، وتمتلئ استهزاءً وسخرية بآيات الله وأحكامه وشرعه، وهي كذلك -أيها الإخوة- تمتلئ بالملهيات التي تشغل عن ذكر الله، فمنهم من يقعد يلعب بالورق أو بالألعاب الأخرى حتى يطلع الفجر، أو ينام قبل الفجر بقليل، أو يسهر سهراً طويلاً يضر بحضوره في صلاة الفجر، فتفوته هذه الصلاة بالكلية، لا يصليها في بيته فضلاً عن أن يصليها مع الجماعة في المسجد.
وكذلك -أيها الإخوة- فإنك ترى في المجالس من الاشتغال بأحاديث المنكر والاشتغال بالملهيات عن ذكر الله أمراً فظيعاً، أمراً لا تكاد تحتمله عقول المسلمين ولا فطرهم الصافية، إنك ترى الناس كثيراً ما يشتغلون بأحاديث الرياضة، والملهيات، وأخبار الكرة، ويوالون عليها ويعادون فيها، ويتقسم الناس أحزاباً وشيعاً بفعل انقسامهم بحسب ميولهم الرياضية ونحوها.
ونحن أيها الإخوة نعلم جميعاً بأن الإسلام حث على تقوية البدن وعلى الاشتغال بما يفيده، ولكن منع أيما منع من الالتهاء بها حتى تكون هم الإنسان الشاغل، وحتى تكون معاداة الناس وموالاتهم على مثل هذه الأشياء التي لا يرضاها الله عز وجل.
وبالجملة: فإن مجالس الناس في هذه الأيام لا يرضى الله عنها لما امتلأت به من أنواع المنكرات والفواحش.
ونريد أن نوضح في هذا المقام كيف نجعل من مجالسنا مجالس إسلامية يرضى الله تعالى عنها وعن أهلها، ويثيب الله تعالى القاعدين عليها درجات.(220/4)
فلينظر أحدكم من يخالل
لا بد يا إخواني! بادئ ذي بدء لا بد لكل واحد فينا يجلس في مجلس، أو يدعو الناس إلى مجلسه، أو يجيب دعوة الناس أن ينظر في حال من يجالس، إن انتقاء الجليس من الأمور الأساسية المهمة، ولذلك أخبر الله تعالى بأن رجلاً من أهل النار قد وقع في سوء العذاب بسبب قرينه: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:27 - 28] لماذا؟ {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:29] لا نريد أن نأتي يوم القيامة -أيها الإخوة- ويتحسر الواحد منا، ويقول يوم لا تنفع الحسرة والندامة: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:27 - 28] يا ليتني ابتعدت عنه ونبذته، يا ليتني لم أقترب منه ولم أجلس معه لحظة واحدة، لقد كان سبباً في ضلالي وفي وقوعي في حبائل الشيطان، لقد كان يزين لي المنكر ويحثني عليه ويجعلني شريكاً معه في الإثم وعبادة الطاغوت.
ومدح الله رجلاً من أهل الجنة، وأخبر أن سبب نجاته أنه تخلص من حبائل صديقه وجليسه وخليله الفاسق أو الكافر في اللحظات الأخيرة، فقال الله تعالى حاكياً عن رجل من أهل الجنة قعد يبحث عن جليسه وصديقه الذي كان يخالله في فترة من الدنيا، فوجده في النهاية: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55] اطلع هذا الرجل من الجنة فرأى صاحبه في سواء الجحيم؛ في وسط جهنم: {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] لترديني معك فيها: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] في هذا الحساب والعذاب.(220/5)
السلف وحرصهم على مجالسة الصالحين
أيها الإخوة! إن الجليس له خطورة كبيرة على جليسه وتأثير بالغ، وبعض الناس قد أعطاهم الله قدرة في الإقناع وقدرة في الجذب، فقد يجذبك معه إلى سوء الضلالة والعياذ بالله، ويستطيع أن يتفنن في إغوائك وأن يضلك عن سبيل الله ومنهج الله، إن أناساً يستطيعون أن يجذبوا نفوس الناس، ويسحروا عقولهم ليردوهم في نار جهنم، إن هناك شياطين من الإنس كما أن هناك شياطين من الجن، قل لي من تجالس؛ أقول لك من أنت.
إذاً، كان الجليس عنوان جليسه، هذه هي النقطة الأولى، والشيء الثاني الذي يجعلنا على أن يكون جلساؤنا من أهل الخير والصلاح: حال السلف رحمهم الله تعالى عندما كانوا يبحثون عن جلساء الخير، وهذه القصة التي رواها الإمام البخاري رحمه الله تبين هذا المقصود: عن علقمة؛ وكان من كبار التابعين وأجلائهم، قال: قدمت الشام فصليت ركعتين في المسجد ثم قلت -انظروا أيها الإخوة كيف كان السلف يدعون الله، وبماذا كانوا يدعون الله، ثم قلت -بعد أن فرغ من تحية المسجد-: اللهم يسر لي جليساً صالحاً.
هذا كان دعاؤه، يذهب إلى المسجد إلى مظنة وجود الجلساء الصالحين، أين تجد الجلساء الصالحين؟ في الأسواق؟ في الدكاكين؟ في الشوارع وفي الطرقات؟ كلا.
إنك تجدهم في المجالس، إنك تجدهم في المساجد أولاً، فلتكن نقطة الابتداء من المسجد.
ثم قلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً، فأتيت قوماً من الناس -جالسين في المسجد- فجلست إليهم، فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي، قلت من هذا؟ قالوا: أبو الدرداء الصحابي الجليل صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم أبو الدرداء، فقلت -يقول علقمة - فقلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً، فيسرك لي إلى آخر الحديث.
كانوا يدعون الله بشروط الدعاء المستجاب؛ فيستجيب الله لهم في الحال وييسر لهم جلساءً صالحين، فهذا الرجل التابعي رزقه الله بصحابي جليل ليجلس إليه ويستمع منه ماذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ويقول.
الجليس -أيها الإخوة- له صفات كثيرة وله حقوق.
قال سعيد بن العاص رحمه الله تعالى: لجليسي عليَّ ثلاث خصال: إذا دنا رحبت به، وإذا جلس وسعت له، وإذا حدث أقبلت عليه.
لنا جلساء ما تمل حديثهم ألباء مؤملون غيباً ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا
بلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا
هذه صفات جلساء الصلاح والتقوى.
وفقنا الله وإياكم لأن نجلس معهم وأن نجدهم ونتأدب معهم بآداب رسول الله عليه الصلاة والسلام.(220/6)
ما يجب على من يجلس مجالس المنكرات
فإذا جلست يا أخي في مجلس من المجالس، فإنه يجب عليك لكي يكون هذا المجلس مجلس خير أن تفعل أشياء كثيرة:(220/7)
الذب والدفاع عن أعراض المسلمين
منها: أولاً: سيقول كثير من الناس كلاماً منكراً، وزخرفاً من القول وزوراً، وستنطلق ألسنة السفهاء في غيبة عباد الله ونهش لحومهم، كثير من المسلمين يجلسون بلا مبالاة ولا ينكرون هذه المنكرات التي يسمعونها، ورسول الله عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الصحيح: (من ذب عن عرض أخيه بالغيبة -عندما يكون أخوه غائباً- كان حقاً على الله أن يعتقه من النار) ويقول في اللفظ الآخر الذي رواه أحمد بإسناد صحيح: (من رد عن عرض أخيه؛ رد الله عن وجهه النار يوم القيامة).
المجالس اليوم مجالس غيبة كبيرة وكثيرة، لا بد أن ترد الغيبة عن أخيك، لا بد أن تنكر على هذا الذي يتكلم في عرض أخيك، وإلا فلا يجوز لك الجلوس ولا السكوت، لا بد أن تتكلم وتنكر ما يقولون، وتبين بالحق خطأ ما يفعلون.(220/8)
الخروج من المجالس المستهزئة بكتاب الله وآياته
وكذلك أيها الإخوة تتعرض مجالس المسلمين اليوم لغارات يشنها أعداء الله من داخل المجالس لا من خارجها، إنهم يستهزئون بشرع الله ودينه، إنهم يغيرون على أحكام الله تعالى بسهام القدح والاستهزاء والسخرية، حتى يجعلوا من نصوص الكتاب والسنة أضحوكة في عقول الناس، إنهم يريدون أن يميعوا قضايا التميز والولاء في عقول المسلمين، بعض هؤلاء الناس -أيها الإخوة- يفعلون هذه القضية بجهل، ولكن الله تعالى لا يعافي هؤلاء من هذا الجهل، إنه جهل مذموم لا يعذر الله تعالى صاحبه، وبعض الناس يتقصد آيات الكتاب وأحاديث رسول الله بسوء نية وخبث طوية، فيجعل منها أضحوكة وسخرية في المجالس، يستهزئ بالأحكام، وبالمظاهر الإسلامية، يستهزئ بثياب المسلمين وأشكالهم، وبالأحاديث التي تذم الغناء والملاهي والمنكرات.
إنهم يستهزئون بأشياء كثيرة، ماذا يكون موقف المسلم الجاد الذي يريد أن يسلك طريق الله المستقيم، ويغير واقع المجالس الفاسدة، ماذا يفعل؟ وكيف يتصرف؟ وأنى له معرفة الطريق السليمة في هذه الحالة؟ اسمع معي -أيها المسلم- لهذه الآية التي تهز كيان المؤمن هزاً عنيفاً، كأن قلبه سينخلع عندما يسمع وقع هذه الآية على قلبه، يقول الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:140] {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} [النساء:140] ما هو التصرف؟ {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140] حتى يغير الموضوع، ويقلع عن هذه المعصية، وهذا الكفر أعظم المعاصي، يقلع عن الكفر ويبدأ في موضوع آخر: {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140] تقوم من المجلس وتنكر عليهم إنكاراً شديداً وتقرأ عليهم هذه الآية توبخهم بها على هذا الفعل الشنيع: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء:140] وتقول لهم: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:140].
أيها الإخوة! المسألة خطيرة جداً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فهناك أناس كثيرون اليوم من المسلمين يستهزئون في المجالس بأشياء كثيرة من أحكام الدين وشرائع الله وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ما هو الحل؟ الحل موجود في هذه الآية، وكثير من المسلمين لم يسمع الآية من قبل مطلقاً: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء:140] ماذا نزل عليكم في الكتاب؟ نزل علينا أيها الإخوة آية أخرى تشبه هذه الآية، ومضمونها مضمون هذه الآية، الآية المذكورة في سورة النساء، والآية المشار إليها التي سنقرؤها الآن في سورة الأنعام، ما هي الآية الثانية؟ {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68] أعرض عنهم بالقول، وبترك المجلس، وبالتوبيخ والزجر، وأعرض عن الاشتراك معهم في هذه الجريمة، فالساكت عن الحق شيطان أخرس: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68] فإذا نسيت وأنساك الشيطان أن تترك المجلس، نسيت الموضوع واسترسلت معهم في الكلام ما هو الحل؟ ليس هناك مشكلة في الإسلام ليس لها حل، قال تعالى في تمام السياق: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68] {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} [الأنعام:68] في حالة أن أنساك الشيطان الموقف الصحيح، فماذا تفعل؟ إذا تذكرت ورجعت إلى رشدك وانتبهت من غفلتك: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} [الأنعام:68] بعد التذكر {مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
إنها آيات مفاصلة، آيات شديدة أيها الإخوة، تعاليم الإسلام اليوم مضيعة بين الناس، لا يفهمون حدود الله تعالى، فليس في الإسلام تلاعب، ولا تمييع للعقيدة، ولا سماح لأي مغرض بأن يمس العقيدة بأدنى سوء، المسألة إذاً خطيرة فلذلك كان الجواب حاسماً: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} [النساء:140]، {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]، {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء:140] مثلهم في الكفر، إنها الخطورة أيها الإخوة، الإسلام لا يرضى أن تمس عقيدتك يا أخي المسلم بأي سوء.
وكذلك مجالس أهل البدع، مجالس المنكرات والفسق والمعاصي، وكثير من الناس يجلس في مجلس فأهل المجلس يدخلون في أعراض الناس أو يتبادلون قصص المنكرات، يقول هذا: أنا فعلت كذا وكذا، وأنا سافرت إلى مكان كذا وفعلت كذا، ويتبجحون، يسترهم الله تعالى وهم يكشفون ستر الله عليهم، يتبجحون بالمعصية، هؤلاء أيضاً لا يجوز لك أن تسكت عما يقولون مطلقاً، لا بد أن يكون لك موقف، يا أخي المسلم! لا بد أن تفهم أنك صاحب موقف، لا بد أن تفهم أنك صاحب رسالة، ما خلقك الله هملاً.
قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
مع الأغنام والماشية، لا تمش بلا هدف، فالمؤمن صاحب رسالة وهدف وحق ومواقف إيمانية، أينما حل، وأينما ارتحل، وأينما جلس في أي مجلس يفصح عن عقيدته، ويلقن الناس الدروس الإيمانية فيما يحمله في طيات قلبه من مبادئ وأفكار أنزلها الله في القرآن والسنة.
لا تكن يا أخي المسلم غير مبال، لا، هذا خطأ كبير، إن الله لم يخلقك لتجلس في هذه المجالس ثم تصمت على هذه المنكرات وتكون شيطاناً أخرس.(220/9)
دعوة أهل الخير والصلاح إلى هذه المجالس لسد الفراغ
كذلك يا إخواني! من المقترحات التي ينبغي الأخذ بها لتحسين أحوال مجالسنا، اليوم الناس غارقون في هذه المنكرات والمجالس، والتحسين يحتاج إلى وقت وإلى جهد، يحتاج إلى عمل دءوب، يحتاج إلى نوع من التمرس والمرونة في قلب هذه المجالس المنكرة إلى مجالس خيرة.
فمن المقترحات أيها الإخوة: أن يدعى أهل الخير لحضور المجالس، كثيراً ما يقيم الناس ولائم للزفاف، أو يعمل الإنسان عقيقة فيذبح لولده ويدعو الناس، أو بعضهم يعمل مثلاً وليمة عند قدومه من سفر، أو عند نزوله في بيت جديد، أو يكون هناك دورية بين الناس، كل يوم في الأسبوع على واحد منهم، هذه المجالس -أيها الإخوة- هي الآن من شغل الناس الجالسين، تسأل عن فلان بعد صلاة العشاء غير موجود أين؟ عنده دعوة، عنده دورية، عنده ديوانية، عنده مجلس، عنده ضيوف، وهكذا.
هذه الأوقات -أيها الإخوة- لا يصح بأي حال من الأحوال أن تذهب سدى، لا بد أن تستغل، ماذا نفعل؟ من الحلول أن ندعو وأهل الخير أهل العلم وطلبة العلم؛ لكي يجلسوا في هذه المجالس ويلقوا علينا وينصحونا ويعظونا ويذكرونا ويبينوا لنا شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يذكرون بالله وبأيام الله، وباليوم الآخر، وبعذاب القبر، وبأشياء كثيرة وأحكام فقهية، ويحيون واعظ الله في قلوبنا.
إننا نحتاج إلى هذه النوعية أشد الحاجة، أن ندعو هؤلاء الناس إلى مجالسنا، هؤلاء الناس الذين نتوسم فيهم الخير، قد يكون لك قريب خيّر طيب ملتزم بأحكام الله ادعه إلى هذا المجلس، ألح عليه بالحضور، واطلب منه أن يفتح في ذلك المجلس حديثاً إسلامياً، يستفيد الجالسون منه، وإذا خاض الناس في إفكهم فقل لهم: لحظة يا جماعة! فلان موجود نريد منه أن يحدثنا عن كذا وكذا موجود فلان الذي عنده سؤال يطرح السؤال، لا بد أن ننتهز وجود هؤلاء الناس فنطرح عليهم هذه الإشكالات التي تواجهنا، والشبهات الممتلئة بها عقولنا، كثير من الناس عندهم شبهات، نجلس في بعض المجلس تجد أن بعض الناس عنده شبهات ضد الأنبياء، شخص يقول في مجلس: نبي الله يوسف كان شهوانياً، ويقول دليلاً على ذلك: {وَهَمَّ بِهَا} [يوسف:24] ولا يعرف ما معنى قول الله: {وَهَمَّ بِهَا} [يوسف:24] ولا يعرف ما الفرق بين قول الله: {وَهَمَّ بِهَا} [يوسف:24] ولا الفرق بين هم يوسف وهم امرأة العزيز.
إذاً: أيها الإخوة إن عقول المسلمين اليوم نتيجة ابتعادهم عن دينهم، أصبحت ممتلئة بهذه الشكوك والشبهات، ممتلئة بالشبهات حتى أعلاها.(220/10)
استغلال المجلس في قراءة كتاب أو تفسير آية
كذلك أيها الإخوة ما المانع أن يكون في مجلس الواحد منا كتاب؛ تفسير قرآن، كتاب: رياض الصالحين فيه أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، كتاب عن أحكام، خطب جمعة مكتوبة، أحاديث ترقيق وترغيب وترهيب، فإذا جاء جلساؤه قال: يا جماعة لحظة لا نريد أن يضيع المجلس، فيأخذ الكتاب ويفتح ويقرأ، يقرأ الأحاديث يا أخي، (رب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) ربما ينتفع من هذه الكلمة أناس يخرجون من المجلس فيغيرون من واقعهم، وأنت السبب ويعود لك مثل أجورهم، ما المانع أن يقول الإنسان لولده الطيب الصالح: تعال يا بني! أنا لا أقرأ أنت تقرأ، أنا تقدم بي السن وفاتني علم كثير وأنت فتح الله عليك، تعال يا ولدي اجلس في هذا المجلس حدثنا، ماذا سمعت من مدرس الشريعة؟ ماذا سمعت في خطبة الجمعة؟ ماذا سمعت في الدرس الفلاني في المحاضرة الفلانية؟ أعطني ملخصاً لشريط سمعته من خطيب أو عالم من علماء المسلمين.
وبعض شيباننا ولله الحمد أيها الإخوة فيهم طيبة كبيرة، ولقد سمعنا ورأينا أناساً من كبار السن الذين أنعم الله عليهم بفطرة صافية، وخشية لله تعالى، يقول لولده: تعال يا ولدي لقد فاتني كثير وأنت عندك شيء كثير أعطني مما عندك، ويأتي به على أعين الناس في المجالس ويقول له: علمنا واقرأ علينا وحدثنا، هذه النوعية أيها الإخوة موجودة ولكنها تحتاج إلى تكثير وتحتاج إلى تشجيع.
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، اللهم إنك تقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، واجعلنا من الجالسين على ذكرك، ومن المرافقين لأهل طاعتك، ووفقنا اللهم لذكرك وإحسانك، وصلى الله على نبينا محمد.(220/11)
أسباب الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وحِكمه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير.
أيها الإخوة! ولا بد من الإكثار من ذكر الله تعالى في المجلس، وذكرنا بأن ذكر الله والصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام واجبة في كل مجلس من المجالس، ولهذا أسباب وحكم منها: إنه من الصعب على الإنسان أن يقول في المجلس: لا إله إلا الله اللهم صل على محمد فلان بخيل وفلان كذا وكذا، فإنه لا يحدث التوافق بين هذه الأمور، يريد الله منك أن تذكره في المجلس حتى تطرد الشيطان، ويريد أن تشغل لسانك بذكره حتى لا تنشغل بذكر الناس وعيوب الناس.
كذلك في الوقت الذي نحث الناس فيه على إحياء مجالسهم بذكر الله تعالى وأهل الخير، نحث الدعاة إلى الله تعالى على انتهاز مثل هذه الفرص، ومجامع الناس ومجالسهم؛ ليعلموا الناس دين الله تعالى، واجب ومسئولية عظيمة وخطيرة على الدعاة إلى الله في الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يغشى الناس في مجامعهم فيعرض عليهم الدعوة إلى الله ويعلمهم العقيدة، المجالس -أيها الإخوة- فرصة مهمة جداً إذا فوتت فقد فات خير كبير، أين تجد هؤلاء الناس مجتمعين حتى تتكلم معهم؟ إذا لم أتكلم أنا ولم تتكلم أنت ولم يحضر المجلس فلان وفلان من أهل الخير من الذي يحضر؟ ومن الذي يتكلم؟ ومن الذي يعلم وينصح؟ إنها مسئوليتنا جميعاً أن تجلس مع الناس، انتهز كل فرصة لتطرح الخير الذي عندك، صحح تلك المفهومات الخاطئة في العقيدة والعمل، وفي التصورات التي امتلأت بها عقول الناس، إذا سمعت رجلاً في مجلس يقول: ودخلت على المدير الفلاني في المشكلة الفلانية وقلت له: مالي إلا الله وأنت، وأنا مشكلتي كذا قل له: يا أخي! هذه الكلمة التي تفوهت بها كبيرة عند الله، ما يجوز لك أن تقول: مالي إلا الله وأنت، هذا شرك بالله، تقول له: مالي إلا الله ثم أنت، أعتمد على الله ثم عليك، وهكذا، وأحياناً نسمع كلمات تخرج في المجالس عفوية من الناس لكن لها مدلولات خطيرة تقدح في العقيدة، أجلس مع واحد من الناس فأقول له: ما حال فلان وفلان؟ فيقول: أما فلان فهذا ربنا افتكره ومات، فهل الله عز وجل كان ناسياً هذا الرجل ثم تذكره وأخذ روحه؟!! هذه كلمات تنطلق على ألسنة الناس، أخطاء عظيمة تدل على أن هذا الرجل لا يعلم ولا يفهم ولا يعي أن الله يعلم كل خافية: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:61] فالناس عندهم أخطاء إذا لم تصلح هذه الأخطاء فمن ذا الذي يصلحها؟! فإذاً أيها الإخوة القضية عظيمة والمسئولية مشتركة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم للقيام بها حق القيام.(220/12)
كيف تكون مجالسنا إسلامية؟ [3]
تكلم الشيخ حفظه الله في هذه المادة عن مسألة التناجي بين الناس، وحكمه وأحواله، ومتى يجوز ومتى لا يجوز، ثم أتبع ذلك بذكر صور يجوز فيها التناجي، وصور لا يجوز فيها التناجي، ثم ختم ذلك بالحديث عن التميز في التناجي وذمه، وأنه لابد من الوضوح في الشخصية اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.(221/1)
التناجي وأحكامه في الإسلام
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: أيها الإخوة! ذكرنا في الخطبتين الماضيتين شيئاً من أحكام المجالس وآدابها في الإسلام، وقلنا: إن ذلك الموضوع حساس ومهم، ونحن اليوم نتكلم عن أدب آخر من الآداب وهو وإن كان داخلاً في ضمن آداب المجالس إلا أن العلماء قد أفردوه في أبواب مستقلة من خلال مصنفاتهم، نظراً لأهميته؛ ولشدة الآيات والأحاديث الواردة فيه؛ ونظراً لفشو هذه القضية بين الناس اليوم في مجالسهم، فكان لا بد من إلقاء الضوء على هذه المسألة، وإيجاد حل لها، من خلال كلام ربنا سبحانه وتعالى، وأحاديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ألا وإن هذا الموضوع -أيها الإخوة- هو موضوع التناجي، الذي قال الله سبحانه وتعالى في شأنه في ثلاث آيات متتابعة في سورة المجادلة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:8 - 10].(221/2)
الحكمة في تحريم النجوى
فبين الله سبحانه وتعالى أن الحكمة في تحريم النجوى: أنها تحزن الذين آمنوا.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} [المجادلة:10] يعني: عندما يصدر هذا عن المتناجين عن تسويل الشيطان وتزيينه: {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:10] أي: ليسوءهم: {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [المجادلة:10] مطلقاً، ومن أحس من التناجي ضرراً فماذا يفعل؟ فليستعذ بالله وليتوكل على الله فإنه لا يضره شيء بإذن الله.
فإذا أحسست يا أخي المسلم بحزن من جراء تناجي بعض الناس أمامك، فإنه يشرع لك أن تستعيذ بالله وتتوكل على الله، وتنزل هذه الضائقة بالله عز وجل فيكشفها الله عنك.(221/3)
سبب نزول آيات التناجي
والتناجي -أيها الإخوة- من صفات المنافقين فإنهم كانوا يتناجون دون المؤمنين؛ حتى يحزنوا الذين آمنوا، وكان اليهود يتناجون أيضاً إذا رأوا مسلماً يمر من أمامهم فيتناجون حتى يخيفوا ذلك المسلم ويوهموه بأنهم يدبرون حوله مؤامرة، ويحيكوا حوله أخدوعة لعلهم يهلكونه بها، فكان المسلمون يحزنون لذلك فيجتنبون تلك الطرق، فنزلت هذه الآية تشتد على هؤلاء اليهود والمنافقين، وتبين للمؤمنين بأن هذا التناجي لا يضر مطلقاً إلا بإذن الله: {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:10] فهم يتوكلون على الله؛ فيمنع الله عنهم ذلك الكيد، وذلك العداء.(221/4)
العلة في النهي عن التناجي
وقد جاءت سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مبينة لهذه الأحكام، فقال ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس) لماذا؟ ما هي العلة المهمة جداً التي ينبغي لنا أن نفقهها؟ لأن عليها مدار الحكم فإذا انتفت العلة انتفى الحكم، وإذا وجدت العلة وجد الحكم، ما هي العلة في منع التناجي؟ يقول صلى الله عليه وسلم في بقية الحديث: (فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس؛ من أجل أن ذلك يحزنه) فصار الحزن -أيها الإخوة- هو المانع من التناجي وهو السبب، لماذا يحزنه؟ يحزنه لأسباب ذكر العلماء بعضها فقالوا: أولاً: ربما توهم هذا الرجل الثالث أن نجواهما لتبييت رأي أو تجسيس غائلة ضده، ربما يتوهم هذا الرجل الثالث بأن هذين المتسارين يبيتان له أمر سوء ويحيكان شراً حوله، فلأجل ذلك منع التناجي.
والعلة الأخرى: من أجل الاختصاص بالكرامة، يعني: كأن هذين المتناجيين يقولان بلسان الحال لا بلسان المقال: إنك أيها الثالث الذي تناجينا دونك لست بأهل لسماع كلامنا، وهذا الكلام ليس على مستواي إلا أنا وصاحبي، أما أنت فلست بأهل له، وليست هذه كرامة لك، وإنما كرامة لنا نحن المتناجيين، فهذه العلة أيها الإخوة أيضاً فيها الحزن الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: أن فيها احتقاراً للشخص الثالث؛ لأنه ليس على مستوى الكلام كما يدعيان.(221/5)
النهي عن التناجي يحتمل التحريم
وإذا نظرنا إلى الحكم في التناجي فقد ذكر بعض العلماء أن حكمه الكراهة، وذكر بعضهم أن حكمه التحريم، والظاهر أيها الإخوة أن الحكم في ذلك التحريم؛ لأن النهي يقتضي التحريم، ولأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58] وأذية المؤمن محرمة، ولذلك يقول الله في هذه الآية: {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58] وبما أن في التناجي إيذاء للمؤمن، إيذاء المسلم لأخيه المسلم، والإيذاء محرم بنص القرآن، فلذلك صار التناجي محرماً.
وقد فهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المسألة حق فهمها، فروى الإمام مالك في الموطأ عن عبد الله بن دينار قال: (كنت أنا وابن عمر عند دار خالد بن عقبة في السوق، فجاء رجل يريد أن يناجيه -جاء رجل عند ابن عمر، وابن عمر يريد أن يناجيه- وليس مع ابن عمر أحد غيري، فدعا ابن عمر رجلاً آخر من السوق -قال لرجل رابع تعال- حتى كنا أربعة، ثم قال لي وللرجل الثالث الذي دعا استأخرا شيئاً -واستأخرا من التأخر حتى يبلغ المناجي مراده، تأخر أنت والرابع شيئاً حتى أتمكن من كلام هذا الرجل الذي معي- فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يتناجى اثنان دون الثالث).(221/6)
إذا وُجِد رجلان يتناجيان فلا يُدخَل بينهما
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه لما جاءه رجل يريد أن يدخل بينه وبين رجل آخر؛ لكزه في صدره وقال له: (ألم تسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كان اثنان يتناجيان فلا تدخل بينهما).
فالحكم الثاني من أحكام المناجاة: أنك يا أخي المسلم إذا رأيت اثنين يتناجيان فيما بينهما، وأنت لم تكن معهما وإنما دخلت عليهما الآن فإنه لا يجوز لك أن تدخل وتجلس بينهما، أو تقرب رأسك منهما حتى تسمع كلامهما، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (إذا كان اثنان يتناجيان فلا تدخل بينهما).
قال ابن عبد البر رحمه الله: لا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجيين في حال تناجيهما.
وقال في الآداب الكبرى: ويكره أن يدخل في سر قوم لم يدخلوه فيه، والجلوس والإصغاء إلى من يتحدث سراً.
وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بمنع الرجل أن يدخل بين اثنين.
وهذا يعم عدم الدخول بينهما حتى ولو تباعد عنهما، حتى لو جلس بعيداً عنهما إلا بإذنهما، إذا قال: عن إذنكم أنا أدخل وأجلس في المجلس وهما يتكلمان، فأذنا له فيجلس بعيداً عنهما؛ لأنهما لما افتتحا حديثهما سراً وليس عندهما أحد دل على أن مرادهما ألا يطلع أحد على كلامهما، ويتأكد ذلك إذا كان صوت أحدهما جهورياً لا يتأتى له إخفاء كلامه ممن حضره، بعض الناس طبيعة صوته أنه مرتفع، فقد لا يستطيع أن يهمس همساً ويسر إسراراً فلذلك نهي عن الدخول بين المتناجيين، وقد يكون لبعض الناس قوة فهم، بحيث إذا سمع بعض أطراف الكلام استنتج فحوى الكلام كله، ولذلك لا يجوز الدخول على المتناجيين، أما المسألة الأولى التي تكلمنا عنها فإنه لا يجوز لاثنين أن يتكلما بحضرة رجل ثالث وهو موجود أصلاً.
ويقول عليه الصلاة والسلام في تأكيد المنع في هذه المسألة: (ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون؛ صب في أذنه الآنك) والآنك أيها الإخوة: هو الرصاص المذاب من شدة الحرارة، يوم القيامة يصب في أذنه الآنك وهو الرصاص المذاب؛ لأنه قد دخل في حديث رجلين يستسران بينهما بغير إذنهما، وهذا يبين خطورة التجسس والتنصت على أسرار المسلمين.(221/7)
شروط التناجي
ويشترط في جواز التناجي شروط منها: أولاً: أن تكون هناك مصلحة راجحة على مفسدة التناجي، ولذلك قال النووي رحمه الله في رياض الصالحين باب: النهي عن تناجي اثنين دون الثالث بغير إذنه إلا لحاجة.
فصار هناك شرطان لجواز التناجي: أولاً: أن يكون بإذن الشخص الثالث، ويجب أن يراعى -أيها الإخوة- ألا يكون الشخص الثالث مكرهاً، لأن بعض الناس عندما يجلس في المجلس ثلاثة أشخاص يقول: عن إذنك يا فلان! ويتكلم مع الثاني، بدون أن يأخذ إذنه وبدون أن يستمع إلى إذنه، بل وبدون أن يكون الشخص الثالث راضياً، لأنه قد يحرج فيأذن وهو غير راض، لا بد أن يأذن الثالث الإذن الذي يدل على رضاه، وإلا فلا تناجي، وهذه أيها الإخوة من المسائل المخالفة للشريعة، الواقعة كثيراً، المنتشرة في المجالس.
والشرط الثاني: أن يكون هناك حاجة فعلاً، يعني: مصلحة راجحة مؤكدة تتغلب على مفسدة مشكوك فيها وهي: إحزانه، فإذا كانت المصلحة قوية جداً، وإحزان الشخص هذا مشكوك فيه عند ذلك يجوز التناجي.(221/8)
صور التناجي المحرمة والمباحة
هذا هو الضابط الذي ذكره العلماء، ومن هذه الصور مثلاً: أحياناً يأتيك ضيف أنت وهو في المجلس فيأتي إليك ولدك أو خادمك فتضطر أن تسر في أذن الولد أو الخادم كلاماً عن تجهيز الطعام مثلاً، أو عن تفريغ طريق مثلاً، أو أحياناً يقول لك ولدك: إن أمي تقول كذا وكذا، وفي هذه الحالة فقد درجت مروءة الناس على عدم الجهر بهذه الأشياء أمام الضيوف، فهذه المسألة هي مصلحة راجحة تقاوم المفسدة المشكوك بها، لأن الضيف سوف يقدر أن ولدك هذا عندما تسر إليه بكلام لن تقول كلاماً سيئاً عنه، وإنما سوف ترتب أنت وإياه أمراً يتعلق بالضيافة، أو يتعلق بداخل أهلك بداخل البيت، فلذلك لن يحزن، هذا مثال على التناجي الجائز، وإلا أيها الإخوة فأغلب صور التناجي الواقعة اليوم هي صور محرمة.
وكذلك لو سأل إنسان: هل يدخل في التناجي أن يتكلم اثنان بلغة أخرى جهراً أمام ثالث لا يفهم هذه اللغة؟ لنفترض أن هناك ثلاثة رجال في مجلس واحد أحدهما لا يعرف اللغة الإنجليزية مثلاً، فأنت تكلمت مع صاحبك وأنت وإياه تفهمان هذه اللغة والثالث لا يفهم اللغة، تكلمتما بصوت مسموع، هل يدخل هذا في التناجي؟ قال العلماء: نعم.
يدخل ذلك في التناجي.
ومنه قول النووي رحمه الله وفي معناه معنى التناجي: ما إذا تحدثا بلسان لا يفهمه لأن العلة موجودة، كأنك أنت وهو تساررتما لأن الشخص الثالث لا يفهم شيئاً، ففي هذه الحالة لا يجوز التناجي بهذه اللغة الثالثة.
أما لو كان عندك في البيت مثلاً خادم أو سائق لا يتكلم بالعربية فهل يكون تناجياً أن تتكلم بالعربية مع صاحبك في البيت بحضرة الخادم؟ الظاهر أن هذا لا يدخل في الحديث لماذا؟ لأن هذا الخادم موجود في البيت أصلاً، وكلامك مع صاحبك ليس عن الخادم، ولا من أجل الإضرار به.
وكذلك فإن الخادم لن يحزن في هذه الحالة.
وكذلك لأن التناجي هنا في الحديث خاص بالثلاثة الموجودين في المجلس في بعض الحالات، وليس الناس الموجودين في البيت من الخدم وأصحاب البيت مثلاً.
فلذلك لا حرج أن يتكلم مثلاً اثنان من أهل البيت أمام الخادم باللغة العربية وهو لا يفهمها إذا كانا لن يتكلما في شأنه أو يغتابانه مثلاً، فإنك تجد بعض الناس الآن للأسف عندما يأتي خادم مسلم قد لا يتكلم اللغة العربية فتجد شخصاً يقول للثاني: انظر إلى هذا الغشيم كيف يضيف الناس، هذا عمره ما يتعلم، لو جلست، فيغتاب الرجل، ويشرِّح في عرضه، وينبذه بالألقاب التي نهى الإسلام عنها، والخادم أمامه مسكين لا يفهم، فإنه في هذه الحالة لا يجوز ذلك مطلقاً.
وكذلك لو سأل إنسان فقال: هل يدخل في التناجي مثلاً عندما أكون أنا مع اثنين وأكتب لثالث صاحبي كتابة في ورقة وأريه الورقة والشخص الثالث لا يعلم ما هو المكتوب؟ الجواب أيها الإخوة: إن هذا داخل في التناجي قطعاً، بل ربما كانت الكتابة في الأوراق أشد من الكلام، وبعض الناس يستعمل هذا، تجد ثلاثة في مجلس واحد يتكلم مع الثاني فيقول له: بكم اشتريت هذه أو كذا وكذا فلكي لا يخبر الثالث يكتب هذا في ورقة ويريه الورقة، يزعم أنه قد تخلص من هذا المحظور ولم يقع فيه، والحقيقة -أيها الإخوة- أنه ما تخلص منه مطلقاً، بل إنه وقع في عين التناجي، لأن هذه الكتابة في الورقة ستحزن الشخص الثالث ولا شك في ذلك.
فلو كان هناك في المجلس أكثر من ثلاثة أو أربعة أو عشرة، هل يجوز أن تناجي تسعة دون العاشر، أو تناجي الثمانية دون التاسع؟ الجواب كلا، بل هو ربما أشد من ذلك، يعني: ذكرت الثلاثة في الحديث لأنه أقل ما يتصور فيه التناجي لكنه عام، لو كان في المجلس خمسة أشخاص فاجتمع أربعة على جنب يتكلمون سراً والخامس موجود ألا يعتبر هذا تناجياً؟
الجواب
نعم.
وكذلك أيها الإخوة فإنه يجوز أن يتناجى جماعة دون جماعة؛ لأنه وقع في الحديث الصحيح من حديث ابن مسعود أنه قال: (فأتيته وهو في ملأ فساررته) فلو كان هناك جماعة وجاء واحد منهم وأسر في إذنك شيئاً، والبقية موجودون فلا حرج في ذلك كما ذكرنا آنفا.
هذه بعض الأحكام المتعلقة بالتناجي.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبا وإياكم المحرمات والمنهيات، وأن يوفقنا لاتباع دينه، والتأدب بآداب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.(221/9)
ذم التميز في المناجاة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيله القويم.
أيها الإخوة! قد جرت عادات بعض الناس في مجالسهم أنهم يتناجون، أو يأتي شخص ويتكلم مع واحد والآخر موجود، وصار هذا عرفاً في بعض المجالس ومنها وللأسف مجالس الدعاة إلى الله عز وجل.
واعلموا -أيها الإخوة- أن هذه العادة عادة سيئة مرذولة، وكثير من الأحيان يتوهم الشخص أن فيها مصلحة وأن المصلحة راجحة، والحقيقة أنه ليست هناك مصلحة على الإطلاق، أو قد تكون المصلحة مرجوحة وإحزان الشخص الثالث أمر مؤكد لا شك فيه.
فلذلك ينبغي ألا يلبس الشيطان على عباد الله الصالحين فيوقعهم في حبائله، فيظنون أن بعض أنواع التناجي للمصلحة لا شيء فيها، وهي ليست كذلك، وكما ذكرنا فإن العلة هي الإحزان، فإذا انتفت العلة مطلقاً وهذا أمر يصعب التأكد منه جداً، فإنه لا بأس من ذلك، بل إنه في كثير من الأحيان قد يدفع الشيطان إنساناً ليسر شيئاً في أذن أخيه بحضرة أخ له ثالث موجود، يحسب أن ذلك مصلحة، وقد يكون هذا خدعة من خدع الشيطان كيف ذلك؟ قد يأتي في نفس الإنسان -أيها الإخوة- أحياناً حب التميز عن الآخرين، فيأتي في مجموعة وفيهم شخص فيسر إليه بحديث، ويأتي الجواب من ذلك الرجل ثم يتكلم، ويأتي كلام آخر سراً، لا لأن هناك مصلحة في هذا التسار ولكن لأن الشيطان قد لعب بنفس هذا الرجل وأدخل فيه قضية حب التميز عن إخوانه الآخرين، فهو يحب أن يكون له أسرار وأن تكون له قضايا خاصة، وأنها ليست بمستوى الموجودين، وأنه يتكلم مع شخص بعينه ولا يتكلم مع الآخرين، ليبدي لهم بأنه أعلى شأناً منهم، هذا أيها الإخوة من مداخل الشيطان على عباد الله.
وفيه إدخال لحظوظ النفس وخلطها في مصالح الدعوة إلى الله، وهذا خلط لا تقره الشريعة ويأباه الإسلام ويدفعه بكل وسيلة؛ لأن الإسلام أيها الإخوة يحرص على وضوح شخصية الداعية إلى الله، وهذا أمر مهم جداً، لا بد أن تتصف شخصية الداعية بالوضوح التام أمام الناس، سواء كانوا من إخوانه الخلص أو من عامة الناس.(221/10)
الوضوح في الشخصية وفوائده على صاحبه
لا بد أن يكون الوضوح هي الصفة المتميزة لهذه الشخصية، ولهذا الوضوح يا إخواني فائدة عظيمة في الدعوة إلى الله، فمن فوائده: أنه يمنع قابلية إشاعات المغرضين على نفسه، إذا كان الإنسان غير واضح وتحيطه هالات من الغموض، فإن الناس المغرضين سيتكلمون فيه، ويقولون: انظر فلاناً ماذا حوله! إن أمره مريب، إنه كذا وكذا فتبدأ إشاعات المغرضين تلوكه، وهو السبب لأن شخصيته غير واضحة أمام الناس، وإذا أردتم مثالاً من السيرة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص على وضوح الشخصية أمام المجتمع بأسره، فتأمل معي يا أخي المسلم في هذه الحادثة، إنها قصة ابن أبي السرح؛ وهو صحابي جليل أسلم، وكان من كتبة الوحي، ثم ارتد عن الإسلام وصار يقول لكفار قريش: أنا كنت أكتب الوحي لمحمد وأنا أصرفه حيث أشاء، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، ولما فتح مكة أمن الناس كلهم إلا أربعة منهم ابن أبي السرح هذا رضي الله تعالى عنه.
وستعرفون من القصة لماذا رضي الله تعالى عنه، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في الصارم المسلول على شاتم الرسول؛ وهو كتاب ممتاز ذو فوائد قيمة قال: قصة ابن أبي السرح مما اتفق عليه أهل العلم واستفاضت عندهم استفاضة تستغني عن رواية الآحاد كذلك، وهذا أقوى مما رواه الواحد العدل: (لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن أبي السرح عند عثمان بن عفان، فجاء حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم) - عثمان أتى بهذا الرجل عبد الله بن أبي السرح وأوقفه أمام الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الفتح- (فقال: يا رسول الله! بايع عبد الله، بايع هذا الرجل، يريد الآن أن يتوب بايعه، فرفع رأسه صلى الله عليه وسلم فنظر إليه ثلاث مرات، ثم كل ذلك يأبى أن يبايعه، فبايعه بعد الثلاث، فلما بايع النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي السرح على توبته ودخوله في الإسلام مرة أخرى، قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: أما فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟!) الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للصحابة: يا جماعة! ما فيكم رجل لبيب يفهم ويعقل ويستنتج من أني امتنعت عن مبايعة هذا الرجل ثلاث مرات أني لا أريد مبايعته فيقتله، لأن الرسول كان قد أحل دمه قبل أن يأتي تائباً.
(فقال رجل من الصحابة: ما ندري يا رسول الله! ما في نفسك -ما اطلعنا على دخيلة نفسك- ألا أومأت إلينا بعينك، إشارة إلى أنك تريد قتله وأنك لا تريد بيعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين) قال ابن تيمية: رواه أبو داود بإسناد صحيح، وخرجه جماعة من أهل العلم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد الغموض ولا يحبه، ولا يريد حتى الوصول إلى المقصود بالإشارات الخفية، بل يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون واضحاً.
وهذا أيها الإخوة من أسباب عدم قبول كفار قريش لكثير من الإشاعات التي أشاعها المنافقون واليهود عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واضحاً في شخصيته وضوحاً بيناً.
لذلك يقول عبد الله بن سلام لما جاء يختبر الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم يقول: (فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب)؛ لأن فيه وضوحاً ليس فيه مواربة ولا أسرار ولا غموض، (فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب).
فإذاً أيها الإخوة! ينبغي أن يحرص الدعاة إلى الله عز وجل حرصاً كبيراً جداً على وضوح شخصياتهم أمام الناس؛ لأن في ذلك أكبر الإعانة والمساعدة على تقبل دعوتهم، وعلى إبعاد ألسنة أهل السوء عنهم.
ونختم هذا الموضوع بهذه الأبيات الجامعة لهذه الآداب وغيرها، قال الشاعر:
وقد خص بالصفع في الدنيا ثمانية لا لوم في واحد منهم إذا صفعا
المستخف بسلطان له خطر وداخل في حديث اثنين قد جمعا
وآمر غيره في غير منزله وجالس مجلساً عن قدره ارتفعا
ومتحف بحديث غير حافظه وداخل بيت تطفيل بغير دعا
وقارئ العلم مع من لا خلاق له وطالب النصر من أعدائه جمعا
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المتخلقين بأخلاق الإسلام المتأدبين بآدابه.
اللهم اجعلنا من المسلمين لك، المخبتين لك، المنيبين إليك الأواهين.
اللهم واجعلنا ممن يقيم حدود هذا القرآن ويحل حلاله ويحرم حرامه.
اللهم وانصر المجاهدين في كل مكان، وفي بلاد الأفغان، وفي فلسطين ولبنان.
اللهم دمر اليهود ومن شايعهم، اللهم إنهم عاثوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد اللهم فشتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل دائرة السوء عليهم يا رب العالمين! وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(221/11)
كيف تلقي موضوعاً؟
بدأ الشيخ حفظه الله بالحديث عن أهمية الموضوع، ثم ذكر عشرين وسيلة تعين الملقي على إلقاء الموضوع الذي يريد طرحه، من ناحية الإخلاص والتحضير وكيفية جذب أنظار الناس وشد انتباههم، وإزالة الملل عنهم، وكان آخر ما ذكره هو: أن الإلقاء موهبة من الله تنمو مع المراس والتعود، وقد ذكر في ثنايا الكلام قصصاً لأناس أرتج عليهم الموقف.(222/1)
أهمية الموضوع
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
موضوعنا في هذه الليلة بعنوان: (كيف تلقي موضوعاً) وهذا الأمر نحتاج إليه يحتاج إليه خطيب الجمعة، والذي يلقي الدروس المذهبية، أو المدرس الذي يلقي في مدرسته وفصله، وكذلك المربي الذي يلقي على من يرعاهم، والمحاضر الذي يحاضر، والواعظ الذي يعظ.
هناك مناسبات كثيرة يحتاج الدعاة إلى الله إلى غشيانها، والكلام فيها، وإلقاء البرامج للمستمعين والمشاهدين فيما أباح الله سبحانه وتعالى من الوسائل.
أقول: إن هذه الأشياء وغيرها من الأمور التي تجعل هذا الموضوع مهماً وهو معرفة طريقة الإلقاء الصحيحة، وكيف يكون إلقاء الإنسان مؤثراً ومفيداً.
فهلم بنا لاستعراض بعض الوسائل والأمور المهمة في هذا الموضوع.(222/2)
أولاً: ضرورة الإخلاص لله سبحانه وتعالى
رُبَّ كلمات غير معدة سلفاً من شخص مخلص متوكل على الله عز وجل؛ يكتب الله بها أثراً عظيماً في نفوس السامعين، ورب موضوع معد ومحضر تحضيراً ممتازاً؛ يشعر السامعون منه بالسآمة والملل، وأن الملقي يريد أن يكون أستاذاً عليهم، ويفقد سمة التواضع وهو يلقي الموضوع ويتسلح بالتعالي والكبر على إخوانه وعلى المستمعين، فتكون النتيجة نفوراً ومللاً.
فلا بد لمن يريد أن يلقي موضوعاً أولاً: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، لا تلق ليقال عنك: ملم، أو ليقال عنك: مؤثر، أو ليقال عنك: فصيح، أو ليقال عنك: فاهم مفهم.
وكثير من الذين يلقون المواضيع يعتمدون على تحضيرهم وينسون الله والاتكال والاعتماد عليه فوكلهم الله لأنفسهم، وقد يصاب بالتلعثم فجأة، وقد يخطئ أخطاء مضحكة ليست بالحسبان، وقد تخونهم أنفسهم في وقت يحتاجون إلى الثبات وهم يلقون المواضيع والخطب.(222/3)
ثانياً: الافتتاح بالحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
كيف نفتتح الموضوع؟ لا شك أننا معشر المسلمين نفتتح بالحمد والثناء على الله عز وجل كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فكان كثيراً ما يقول الراوي: فحمد الله وأثنى عليه، يعني النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخطب أو يتكلم حمد الله وأثنى عليه، فلا بد من الحمد والثناء على الله.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يفتتح كلامه بخطبة الحاجة المعروفة، وكان أيضاً يفتتح بالحمد والثناء في مثل حديث مسلم افتتح بكلمات كانت سبباً في إسلام الصحابي الجليل ضماد الأزدي لما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد) أسلم الرجل من هذه الكلمات.
وكذلك في الافتتاح لا يمكن أن ينسى المسلم التشهد، كيف والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال: (كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء) أي: اليد المشوهة المصابة بالجذام؛ هذا حال من يفتتح بغير تشهد.
وكثير من الناس الذين يلقون الموضوعات والمدرسين الذين يلقون الدروس ينسون أن يفتتحوا بالحمد والثناء والتشهد، فيفوتهم أجر عظيم.(222/4)
ثالثاً: اختيار العنوان المناسب
بعد ذلك يكون ذكر العنوان جامعاً ومركزاً للأذهان حول ما تريد عرضه على السامعين، وتبيان السبب الباعث على عرض الموضوع، وأهمية الموضوع، واستعراض فقراته الرئيسية.(222/5)
رابعاً: الدخول مباشرة إلى الموضوع
لأن من أشد ما يكره الناس المقدمات الطويلة التي تحول بينهم وبين الموضوع، وكثيراً ما تجد الأصوات تتعالى قائلة أعطنا الزبدة، وهات ما عندك بسرعة، وعجل، أوصلنا للمقصود.
ويمكن أن يكون الافتتاح بعد الحمد والثناء بذكر حادثة أو قصة أحياناً تناسب الوضع.(222/6)
خامساً: براعة الاستهلال
كان العلماء يهتمون ببراعة الاستهلال، وهو أن يقدم بين يدي موضوعه مقدمة فيها إشارة لما يريد أن يتكلم عنه، وما سيذكر فيه، وبرز بعض الناس الذين إذا أرادوا الكلام في موضوعات أن يقولوا اعتذارات بارزة، ينبغي على الإنسان أن يحرص وينتبه لها؛ لأنها أحياناً تعطي شيئاً من التزكية، كأن يقول: لست بخطيب ولست بكذا ولست بكذا ونحو ذلك، يذم نفسه في الملأ وفيه شيء من المدح، أو أن يقول: ليس لدي ما أقوله ويطنب في ذكر إفلاسه وفقره وإذا قلنا: إن بعض الناس سيكتشف ذلك فلا فائدة من الإخبار، وإذا قلت: إن بعضهم لن يكتشف ذلك فلا داعي للإخبار بالحقيقة المرة.(222/7)
سادساً: الاهتمام بدرجة الصوت عند الإلقاء
ينبغي لمن يلقي موضوعاً أن يرفع صوته رفعاً يفهم السامعين، ويوصل إليهم الكلام، ولا شك أن درجة رفع الصوت تختلف بحسب الموضوع، فالذي يلقي خطبة من خطب الجمعة يختلف في رفعه لصوته عمن يلقي درساً فقهياً فيه بيان لأحكام شرعية وأقوال العلماء والأدلة ونحو ذلك.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه (كان إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبه، وعلا صوته) وفي رواية (كان إذا ذكر الساعة احمرت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه صلى الله عليه وسلم) ورفع الصوت أحياناً يكون لإسماع الناس شيئاً له أهمية خاصة، كما جاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر: (تخلف النبي صلى الله عليه وسلم عنا في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقنا العصر -صلاة العصر أدركتهم وغشيتهم- قال: فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا) فصارت بعض الأجزاء في الأرجل لم يمسها الماء (فنادى صلى الله عليه وسلم بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثاً).(222/8)
سابعاً: الاستشهاد بالأمثلة
من الأمور التي تجعل إلقاء الموضوع إلقاءً حسناً: الاستشهاد بالأمثلة: والقرآن مليء بالأمثال، ضرب الله لنا أمثلة في القرآن كثيرة، وقرب إلى أفهامنا كثيراً من الموضوعات بذكر المثال، ألم تر -مثلاً- أنه قرب التوحيد والشرك بقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [الزمر:29].
فأما المشرك الذي يعبد عدة آلهة فإنه يكون متوزعاً، مقسم النفس، هائماً على وجهه؛ لا يدري أي إله يرضي، وأي طرف يجيب، أما الذي يرضي الله فقط، ويعبد الله عز وجل فقط، فإنه على صراط مستقيم، متوحد الوجهة، يعرف إلى أين يسير.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يضرب أثناء عرضه للمواضيع المختلفة أمثلة مختلفة تناسب الأفكار التي يريد إيصالها للناس، فقد ضرب لنا مثل حامل المسك ونافخ الكير في موضوع الجليس الصالح وجليس السوء، وضرب المثل بالنخلة في المؤمن وانتفاعه ونفعه للناس والآخرين بكل وسيلة، وضرب لنا مثل المرآة في النصيحة من المؤمن لأخيه (المؤمن مرآة أخيه) وضرب لنا مثل خرق السفينة في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما أراد قوم أن يخرقوا السفينة فلو أن أهل السفينة تركوهم لغرقوا جميعاً، وضرب لنا صلى الله عليه وسلم، مثلاً بالفتيلة في موضوع الذي يعلم الناس وينسى نفسه: (مثل معلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها).
واستعمل عليه الصلاة والسلام أشياء مختلفة، فمثلاً استعمل التمرة وقال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) وكذلك استعمل البعوضة لما قال: (إن هذا الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة) وخاتم الحديد لما قال للرجل الذي يريد أن يتزوج: (ابتغ ولو خاتماً من حديد) وقضيب الأراك لما قال عليه الصلاة والسلام: (من اقتطع حق امرئٍ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار ولو قضيباً من أراك) واستعمل الإبرة كالمخيط إذا أدخل البحر، واستعمل الحبة من خردل والشعيرة في حديث الإيمان وغير ذلك.
المهم أن ضرب الأمثلة في المواضيع الملقاة يكون عاملاً من عوامل التشويق، وسبباً من أسباب التفهيم وتقريب الفكرة.(222/9)
ثامناً: تنويع الأسلوب
من الأمور المهمة تنويع الأسلوب: مثل أسلوب التقرير، والاستفهام، والتعجب، وضرب الأمثال، وقص القصص كما ذكرنا، فأسلوب التقرير يختلف عن أسلوب الاستفهام، يختلف عن أسلوب التعجب.
مثال على الاستفهام من الأحاديث: (أتدرون من المفلس؟) (أتدرون ما الغيبة؟).
أسلوب تعجب: (مطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنا يستجاب له؟!).
وكذلك الإقبال على المخاطبين بالوجه؛ فإن الإقبال على المخاطبين بالوجه مما يسبب الانجذاب في الإلقاء، وقد جاء في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة) رواه ابن ماجة وهو حديث حسن.
فالنظر في وجوه المستمعين والناس الحاضرين لا شك أنه يوجد صلة مهمة بين السامع والمتكلم خلال الإلقاء، وبعض الناس لا يهتم بالنظر إلى السامعين والحاضرين، فتراه ينظر في السماء ويميناً وشمالاً، أو يطلق بصره طيلة الوقت، وبعضهم له عذرٌ في تفكيره في الكلام الذي يريد أن يقوله، فهو يركز في التفكير في الكلام ولكن هذا يوجد حاجزاً بينه وبين الحاضرين، ولا بد من تواصل بين المتكلم والمستمع حتى يدخل الكلام إلى القلب.
ولا بد من استعمال عبارات تجعل المستمعين متصلين بالمتكلم، ولذلك لو أن إنساناً أثناء إلقائه للموضوع أو عرضه له يأتي باعتراض ويبرزه ثم يفند هذا الاعتراض وهكذا.(222/10)
تاسعاً: النظر إلى الحاضرين
والنظر إلى السامعين والحاضرين يبين لك أثر كلامك على الناس، واستعمال الكلمات التي فيها إشراك للحاضرين في الموضوع مثل: وقد تتعجبون، أو ربما لا تصدقون، أو تصور معي.
ونحو ذلك؛ إن مثل هذه الألفاظ مهمة في ربط السامع بالمتكلم، والنظر كما أسلفنا مهم، والعين تخاطب كما أن اللسان يخاطب، والنظر إلى الناس يتبين لك من خلاله إقبالهم أو إدبارهم، يقظتهم وانتباههم أم رقودهم وشرودهم، انجذابهم أو مللهم، فتغير الأسلوب أو تستمر، تقصر الكلام أو تستمر تبعاً للحالة الموجودة.
ولو كان الإنسان يقرأ من أوراق فلا بد من أن تكون هناك نظرات بين الحين والحين، صحيح أن الخطيب إذا نظر إلى الناس وكلهم ينظرون إليه يشعر بالرهبة والهيبة والرعشة ولكن يتجلد ويتصبر، فإذا اعتاد الأمر هان عليه.
ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ينظر إلى السماء أثناء الكلام، ولكن ليس هذا هو شأنه الدائم، بل قد بينا في الحديث أنه كان يقبل بوجهه على المتكلم، ولما أتى شخص من الناس كان فيه فجور وشر أقبل عليه بوجهه إقبالاً عجيباً، حتى تعجب أهل بيته من إقباله على هذا الرجل الذي فيه شر، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتألفهم.
أما النظر في السماء فقد ورد في صحيح الإمام مسلم (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان كثيراً ما يرفع بصره إلى السماء) وروى أبو داود بإسناد ضعيف: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا جلس يتحدث ربما وقع بصره على السماء) لكن لو قال إنسان: ما هو الجمع بين حديث النهي عن رفع البصر إلى السماء، والتهديد بأن يحول الله رأس هذا الناظر رأس حمار، أو أن يخطف بصره، وبين هذا الحديث الذي رواه مسلم، فقد ذكر ابن حجر رحمه الله الجواب فقال: فحافل طريق الجمع أن النهي خاص بحالة الصلاة.(222/11)
عاشراً: الاهتمام بوضوح الكلمات
ينبغي أن يكون كلام المتكلم واضحاً، قالت عائشة رضي الله عنها: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه) رواه الترمذي في الشمائل وهو حديث صحيح.
فمن العيوب أن يأكل الإنسان أجزاء من الكلمات، أو حروفاً من الكلمات، أو أنه يسرع فيها إسراعاً يهذه هذاً.
فكما أن من عيوب الإلقاء البطء الشديد الذي يسبب الملل، فمن عيوب الإلقاء الإسراع الشديد الذي تضيع بسببه بعض الكلمات فلا تصل إلى المستمع، ولا بأس عند إلقاء موضوع من إعادة بعض جمله وكلماته وأجزائه لأهميتها، كما روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه قال: باب من أعاد الحديث ثلاثاً ليفهم عنه، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه) وهذه الكلمات المهمة التي تكون في ثنايا الجمل والفقرات يحسن أن يركز عليها الملقي حتى تستقر في الأذهان، ولهذا وسائل: منها: الضغط على الكلمة أثناء النطق بها.
ومنها: تغيير النبرة عند النطق بالكلمة خفضاً أو رفعاً، إسراعاً أو إبطاءً.
ومنها: التوقف قبلها أو بعدها توقفاً يسيراً للفت النظر إليها.
ومنها: إعادة الكلمة والعبارة كما سبق ذكره في الحديث، ولا بد من التذكير بعدم الإكثار من التركيز على كلمات كثيرة لئلا يفقد التركيز أهميته.
ومن أمثلة السكتات التي كان النبي عليه الصلاة السلام يريد من خلالها أن يبين أموراً مهمة هذا الحديث: (خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى.
قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس ذي الحجة؟ قلنا: بلى.
قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس بالبلدة الحرام؟ قلنا: بلى.
قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا).(222/12)
حادي عشر: استخدام الإشارة
كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم الإشارة أثناء الكلام، والإشارة ملفتة للنظر طاردة للشرود؛ فالناظر يرى الإشارة ويسمع العبارة، وكلما أشركت المستمعين بحواسهم معك كلما كان حضور فهمهم واستيعابهم أكثر، خذ معي هذه الأمثلة: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، فأشار بإصبعيه السبابة والوسطى) والإشارة بهاتين الإصبعين ورد في أحاديث كثيرة، وقال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه) وقال: (التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات).
وكان أحياناً يغير الجلسة، لما تكلم عن أكبر الكبائر قال: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) ولا بد من مراعاة عدم الإكثار من الحركات والإشارات؛ لأن كثرتها تصرف السامع عن الانتباه، وإنما يأتي بها في مواضعها الملائمة، ويجعلها موافقة، وأن لا يحجب عن الناظرين وجهه بيده أو يديه.(222/13)
ثاني عشر: جودة التحضير
من الأمور التي تجعل الإلقاء ناجحاً، عامل مهم جداً وهو: جودة التحضير للموضوع: يجب أن لا يفهم مما سبق عندما تكلمنا في قضية التوكل على الله أن نترك الأخذ بالأسباب، فإن من أعظم وسائل نجاح إلقاء الموضوع جودة تحضيره، وحفظ الأدلة والشواهد وإعجاز القصص والأمثال، ومراعاة المدخل، وطريقة العرض، وتزوير الكلمة في النفس سلفاً، كما قال عمر رضي الله عنه: [فلما سكت -يعني خطيب الأنصار- أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر] يعني: أعددت مقالة في نفسي لهذا الخطب الجسيم وأردت أن أقولها.
ولا شك أن درجة الإعداد تختلف بحسب الموضوع، أو بحسب الحالة، فإعداد خطبة الجمعة غير إعداد الموعظة، أو إعداد الكلمة التي بعد الصلاة غير إعداد خطبة العيد، غير الخطبة التي أمر صلاح الدين شيخاً معيناً أن يخطبها ويلقيها في المسجد الأقصى أول جمعة بعد تحريره من أيدي النصارى، هذا أمر يسهر له الليل لتحضيره، والذي يلقي من غير تحضير قد يكون شخصاً موهوباً يستطيع أن يحضر في ذات الوقت، وأن يرتب الكلمة، وأن ينسقها في ذهنه فهذا شيء ممتاز، لكن الكثير من الناس قد لا يستطيعون ذلك، قد لا يكون طالب علم، ولا حافظاً مستحضراً للأدلة، أو جريئاً سريع البديهة، يحتاج أكثر الناس عند الإلقاء إلى تحضير، لا بد من الإعداد الجيد والذي يلقي من غير إعداد كالذي يخوض معركة بعدة فاسدة أو بلا عدة أصلاً.
والتحضير هذا يحتاج إلى محاضرة مستقلة (كيف تحضر موضوعاً) لعلها تكون في وقت آخر إن شاء الله، لكن لا بد من جودة التحضير: جمع النقاط، انتقاء وطرح النقاط الرديئة، أو غير المهمة، وإن كان الإنسان لا يحسن أن يتكلم ارتجالاً فيكتب النقاط ليذكر نفسه بها أثناء الكلام، وإن كان لا يستطيع هذا يكتب الكلام كله، اكتب ما ستقوله وما تريد أن تقوله فتنفي عن نفسك كثيراً من الكلمات الرديئة أو غير المهمة.(222/14)
ثالث عشر: محاولة الإلمام باللغة العربية
ثم لا بد -أيها الإخوة- عند إلقاء المواضيع أو الموضوعات من الإلمام باللغة العربية، وأن يكون هناك اهتمام من قبلك -يا أيها الملقي- باللغة، لأن اللحن في الكلام والخطأ أقبح من الجدري في الوجه، ويتضايق من عنده إلمام ومعرفة باللغة من الخطيب أو المتكلم الذي يرفع المنصوب وينصب المجرور ويجر المجزوم، لذلك لا بد من محاولة دراسة متنٍ مختصر في اللغة العربية، كـ متن الآجرومية مثلاً على شيخ أو مدرس للغة العربية، ثم التطبيق، القراءة في الجماعة ويصوب الحاضرون بعضهم لبعض، وأثناء إلقاء موضوع مع الأصحاب يكون التصحيح وتبيين الصواب.
قال بعض السلف: رحم الله امرئٍ أصلح من لسانه، وقيل: إن عبد الله بن عمر كان يضرب ولده على اللحن، يعني الخطأ في اللغة، وقال بعضهم:
رأيت لسان المرء رائد عقله وعنوانه فانظر بماذا تعنونُ
ولا تعدُ إصلاح اللسان فإنه يخبئ عما عنده ويبينُ
ويعجبني زي الفتى وجماله فيسقط من عيني ساعة يلحنُ
رأى أبو الأسود الدؤلي أحمالاً للتجار -بضاعة مكتوب- عليها: لأبو فلان -ما هو الصحيح؟ لأبي فلان- فقال: سبحان الله! يلحنون ويربحون.
وفي رواية أن إعرابياً سليم اللسان جاء من البادية فدخل السوق فسمعهم يلحنون فقال: سبحان الله! يلحنون ويربحون ونحن لا نلحن ولا نربح.(222/15)
رابع عشر: الاهتمام باللغة والبلاغة والبيان والبديع
قيل لـ بشر بن مالك: ما البلاغة؟ قال: التقرب من المعنى، والتباعد عن حشو الكلام، ودلالة بقليل على كثير.
وقيل البلاغة ليست كثرة الكلام، ولا خفة اللسان، ولكن إصابة المعنى، وقيل لرجل: ما البلاغة؟ فقال: حسن الإشارة، وإيضاح الدلالة، والبصر بالحجة، وانتهاز موضع الفرصة.
وقال خالد بن صفوان: خير الكلام ما غرست معانيه، وشرفت مبانيه، فالتذت به آذان سامعيه.
وقال الحسن بن سهل العسكري في كتاب الصناعتين: الكلام -أيدك الله- يحصل بسلاسته، وسهولته، ونصاعته، وتخيل لفظه، وإصابة معناه، وجودة مطالعه، ولين مقاطعه، واستواء تقاسيمه، وتعادل أطرافه، وموافقة مآخذه من مبادئه، فإذا كان الكلام كذلك، كان بالقبول حقيقاً، وبالتحفظ خليقاً.
ولا بأس من استعمال السجع غير المتكلف، هناك سجع متكلف، وسجع غير متكلف، انظر مثلاً في قوله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) تلاحظ هذا السجع الجميل ليس بمتكلف، ولكنه طبيعي خرج من النبي عليه الصلاة والسلام الذي أعطي جوامع الكلم.
وكذلك لا بد من الابتعاد عن وحشي الألفاظ، ألم تر أنه صلى الله عليه وسلم كره لنا التشدق في الكلام، بل إنه قد أخبر بمثل شنيع، فقال: (إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة) هل رأيت البقرة كيف تتخلل بلسانها؟ كره لنا عليه الصلاة والسلام التكلف في الكلام، والتشدق، والإتيان بالألفاظ الغريبة الوحشية والتقعر في الكلام، كره لنا هذا وشبه من يفعل ذلك بالبقرة التي تتخلل بلسانها.
ولا شك أن التقعر في الكلام واستخدام الألفاظ الوحشية والغريبة مما يسبب عدم الفهم، ويسبب النفور أيضاً.
دخل أبو علقمة على أعين الطبيب، وأبو علقمة هذا لغوي مشهور باستخدام الألفاظ الغريبة، فدخل وهو يشتكي، فكيف وصف مرضه؟ قال: أمتع الله بك! إني أكلت من لحوم هذه الجوازل، فطفئت طفأة فأصابني وجع ما بين الوابلة -طرف الكبد- إلى دأنة العنق -يعني الفقرة- فلم يزل يربو وينمي حتى خالط الخلب والشراتيت، فهل عندك دواء؟ فهذا اللغوي يقول للطبيب هذا الكلام، فقال أعين: نعم.
خذ خربقاً وشلفقاً وشبرقاً فزهزقه وزقزقه واغسله بماء روث واشربه، فقال أبو علقمة: لم أفهم عنك، فقال أعين: أفهمتك كما أفهمتني.
ومر أبو علقمة ببعض الطرق بـ البصرة فهاج به مرة -يعني عصارة المرارة هاجت به- فنزل على الأرض من الألم، فسقط ووثب عليه قوم -يعني ظنوه صرعته الجن- فأقبلوا يعصرون إبهامه ويؤذنون في أذنه، ظنوا به جناً، فأفلت من أيديهم وقال: ما لكم تتكأكئون علي كما تتكأكئون على ذي جنة؟! افرنقعوا عني، فقال رجل منهم: دعوه فإن شيطانه هندي.
أما تسمعونه يتكلم بالهندية؟ وجلس أعرابي إلى أبي المكنون النحوي في حلقته وهو يريد أن يدعو بدعاء الاستسقاء فشرع في الدعاء، ثم قال: ومن أراد بنا سوءاً فأحط ذلك السوء به كإحاطة القلائد على كرائد الولائد، ثم أرسخه على هامته كرسوخ السجيل على هام أصحاب الفيل، ثم قال: اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً مريعاً مجلجلاً مسحنفراً مزجاً سحاً طبقاً غدقاً متعنجراً -ألاحظ بعض الألفاظ وردت في الحديث، وبعض الألفاظ من تقعراته- فقال الأعرابي: يا خليفة نوح! هذا الطوفان ورب الكعبة، دعني آوي إلى جبل يعصمني من الماء.(222/16)
خامس عشر: ضبط الكلمات المكتوبة بالشكل
لا بد إذا كان الإنسان يقرأ من ورقة أن يضبط بالشكل لضعفنا في اللغة، يعني: يحسن أن يضبط بالشكل ما يقرأ، ويوضح الحروف، ولا يسرع في الكتابة؛ لأنك إذا كتبت ولو لنفسك بسرعة دون توضيح فقد تقرأ الخاء غيناً، أو الحاء هاء ويحدث لها تصحيف، أو تكون النقطة بعيدة عن الحرف فتصعد إلى الحاء في سطر علوي فتصيرها جيماً، أو تنزل على الحاء السفلية فتصيرها خاءً، وينبغي وضع الشكل فوق الحرف.
ثم تقطيع العبارات، والصمت المناسب بين الكلمات أو الجمل يؤدي إلى فرز المعاني ومنع اختلاطها، والاستمرار بالكلام على نسق واحد بالتوازن دون توقف قد يتعب المعطي والمتلقي ولا بد من راحة، ودمج العبارات بعضها ببعض من غير إعطاء فواصل زمنية صامتة يؤدي إلى اختلاط الأمر على السامع.
ولذلك الوقت مهم في تبيين المعنى، الوقت في استراحة المتكلم بأخذ النفس والمتلقي في السماع، ولماذا كان هناك الوقف في القرآن؟ هذا من العلوم المهمة، وقد صنف العلماء فيه مصنفات مهمة فمثلاً: ينبغي أن يعلم أن هناك وقفاً ممنوعاً محرماً فلا يجوز أن يقول الإنسان: (فاعلم أنه لا إله) ويقف، أو يقول: (إن الله لا يستحي) ويقف، فهذا محرم، وقد يكون وقفاً قبيحاً يغير المعنى أيضاً كما لو أنه قرأ {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ} [يوسف:17] ويقف، فيكون ما قاله أن يوسف أكل المتاع، وهناك وقف تام، ووقف حسن، ووقف جائز، ويكون وقفاً صحيحاً والوصل أولى، أو الوصل صحيحاً والوقف أولى، فهذا من علوم القرآن.
وخلال الإلقاء هناك وقفات صغيرة من غير أخذ شهيق للتفريق بين الكلمات والمقاطع في الكلمة أحياناً، مثل حرف اللين مع حرف صحيح، أو وقفة متوسطة للتفريق بين جملة وأخرى، أو للتركيز على جملة مهمة أو كلمة، أو وقفة طويلة يأخذ فيها الشهيق تستعمل للتفريق بين المعاني والأفكار وغالباً تكون في نهاية الفقرة أو الجملة الكاملة المعنى، ويجب ألا تكون طويلة إلى الحد الذي يؤدي إلى اتساع سلسلة الأخطاء.
ويمكن للملقي من ورقة أن يشير إلى أماكن الوقفات المناسبة وينظمها سلفاً بالتقطيع والنقاط والفواصل، ولا بد من إجادة مكان أخذ النفس حتى لا تجهض الكلمة أو الجملة عند الإلقاء، وكذلك أن يتعلم الملقي مخارج الحروف، فما الذي يفرق بين الذال والضاد، والذل والظاء، والكاف والقاف، ما هو الفرق الرئيسي بين هذه الأحرف، التفخيم والترقيق، الدال إذا فختها صارت ضاداً، والضاد إذا رققتها صارت ظاء، والطاء إذا رققتها صارت تاء، أما ترى أهل الدلع يقولون: (أكلنا بتاتة)؟.
فالشاهد: أن عدم معرفة صفات الحروف يسبب انقلاب المعنى، لأنك إذا غيرت الحرف انقلب المعنى، وكذلك التفريق أثناء الإلقاء بين أنماط الجمل، فلست تلفظ الجملة الإثباتية كما تلفظ الجملة الاستفهامية، كما تلفظ الجملة المنفية.
حديث فيه جملة استفهامية: (أتدرون ما الغيبة؟) حديث فيه جملة منفية (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) والجملة الإثباتية على سبيل المثال: (إن الصدق يهدي إلى الجنة) لاحظ هذه الجملة كل واحدة لها طريقة في الإلقاء (إن الصدق يهدي إلى الجنة) (أتدرون ما الغيبة؟) لا والله، لا والذي نفسي بيده.
فإذاً كل واحدة من الجمل وكل نوع له طريقة، كما أن النبرة في الكلام ستختلف لو كان الموضوع فيه فرح أو حزن مثلاً.
وكذلك لا بد من التفريق بين إلقاء الداعية، أو إلقاء الخطيب، أو طالب العلم، كما يكون الفرق بين إلقاء هؤلاء وإلقاء الممثل والمسرحي، وبعضهم يدرسون فنون الإلقاء في التمثيل والمسرح، وفيها تكلف وسخافة، ولكن المقصود منها الإشارة إلى الفرق بين حال الخطيب وهو يخطب، أو حال الشخص وهو يلقي درساً، أو وهو يلقي موعظةً فكل واحدة لها نبرة.
وكذلك لا بد من توضيح الاصطلاحات التي تعرض أثناء الموضوع، والكلمات الغريبة، فيبين المعنى، حتى لا تتشوش الأفكار، وينبغي منع المقاطعات المشوشة، ومن عيوبنا في المجالس إذا ألقينا الموضوعات أننا ننشغل بصب الشاي، وتقديم الضيافة، ويحجب نظر المتكلم عن بعض الناس.
فنقول: إذا أردتم أن تكونوا جادين في إلقاء الموضوعات في جلساتكم فعليكم بألا تشوشوها بهذه الضيافات، اجعلوا لها وقتاً خاصاً، استراحة أثناء الموضوع يؤتى فيها بالشاي مثلاً وغيره، هذه مجالس السلف لما كانوا يتكلمون ويلقون فيها كان الناس فيها كأن على رءوسهم الطير، ولو ألقيت إبرة لسمع صوتها.(222/17)
سادس عشر: فتح المجال للأسئلة المهمة
إعطاء المجال لتوجيه الأسئلة من الأمور المعينة على فهم الموضوع الذي يلقى، طبعاً هناك أشياء ليس فيها أسئلة كخطبة الجمعة مثلاً لا يسأل الخطيب فيها الناس ويريد فيها الجواب في العادة، لا يفعل ذلك، أو أن شخصاً يسأل الآخر عن شيء أثناء الخطبة، وكذلك يحدث أحياناً أن يتطرق إلى الأذهان سؤال أثناء عرض الدرس، فالملقي يستحسن أن يجعل وقتاً لطرح الأسئلة كلما انتهت فقرة كبيرة جعل وقتاً محدداً للأسئلة، أو إذا كان الدرس قصيراً أو معتدلاً جعل الأسئلة في نهاية الموضوع مثلاً بحسب المصلحة.(222/18)
سابع عشر: الاهتمام بالأمور التي تعين على إزالة الملل
بالنسبة لإزالة السآمة والملل أثناء الإلقاء: فإذا كان قصصياً ومن السيرة وطريقة الإلقاء شيقة فإن الناس قد لا يملون ولا تحتاج إلى شيء لإزالة الملل؛ لأنه غير موجود أصلاً، لكن في الدروس العلمية، وسياق أقوال العلماء، والأدلة المتعارضة، وذكر الترجيح، هذه الدروس المكثفة يحتاج الإنسان إلى طرد النعاس عن بعض الحاضرين، الدروس التي فيها سرد طويل ينبغي فيها إعادة الشارد وإيقاظ من به سِنة.
يزال الملل بأشياء: منها: طرح سؤال على الحاضرين، تغيير الجو بأن ينتقل الكلام إلى السامعين، أو إيراد طرفة جائزة شرعاً يحصل فيها تلطيف للجو وترويح عن النفوس أو اختصار الكلام، أو زيادة إضاءة، أو فتح نافذة، أو الإتيان بشيء من المشروبات التي يجعل لها وقت، أو أخذ راحة فيتوقف -مثلاً- لأخذ راحة.
أقول: هذا من الأمور المهمة التي ينبغي الانتباه لها في إلقاء الموضوعات.
إذا نسيت نقطة وأنت تلقي وأنت ترتجف {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] وأعد النقطة السابقة فربما تتصل النقطة السابقة بالنقطة المنسية فتأتي، أو لخص ما سبق منتظراً أن تأتي النقطة المنسية، والإعادة ولو كانت فيها شيء من التكرار خير من الصمت المطبق الطويل، وربما سأل الإنسان من عنده أن يعينوه، أو سأل سؤالاً يأتيه بالجواب، تأتيك الفكرة المنسية ريثما يأتيك الجواب، وبعضهم قد يقول -يأتي بحيل- يقول: هل الصوت جيد؟ هل الجميع يسمع بوضوح؟ وهو لا يقصد هذا وإنما يقصد أن تأتي الفكرة المنسية.(222/19)
ثامن عشر: ضبط الوقت
ومن الأمور المهمة جداً: ضبط الوقت، المقدمة كم لها، الموضوع ينقسم إلى كم قسم، والخاتمة كم لها، كم ستعطي لأقسام الموضوع، كل فقرة ستتكلم عنها في كم دقيقة من الوقت، بعض الناس إذا تكلم نسي نفسه ولا يحسب حساب الوقت الذي سيأخذه هو، وقد يكون هناك موضوع سيلقى بعد موضوعه، أو كلمة ستلقى بعد كلمته، أو أنه يسهب في نقطة، ويختصر في نقطة مهمة نظراً لضيق الوقت.
فمراعاة الوقت وضبط الوقت من الأمور المهمة جداً في الإلقاء، وبعض الناس يكتبون عدد الدقائق على أطراف الورقة، هذا كم يأخذ وهذا كم يأخذ، ويجعل أمامه ساعة حتى يضبط نفسه، وبعض الناس قد يجيد بسط نفسه تلقائياً، فالمهم أنه لا بد من مراعاة هذه المسألة.(222/20)
تاسع عشر: الاهتمام بخاتمة الموضوع
أما بالنسبة للخاتمة وإنهاء الكلام فلا شك أننا نحن المسلمين ننهي كلامنا بذكر الله كما نبدأ بذكر الله، وقد يقول الخطيب: أستغفر الله لي ولكم، وقد يختم المتكلم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالنسبة لخاتمة الموضوع النهائية فهي أستغفر الله لي ولكم، أو صلى الله على نبينا محمد مثلاً، دعاء كفارة المجلس، أو ختام الكلام، الخاتمة خاتمة الموضوع، لأنه آخر ما يبقى في أذهان المستمعين، فينبغي أن يجهزه بعناية خاصة، وبعض الناس لا يعرف كيف يختم، وبعضهم يختم فجأة لدرجة أنه يذهل الموجودين، وبعضهم يختم ويعيد الدخول مرة أخرى في الموضوع، وبعضهم يبحث عن مخرج فلا يهتدي لمخرج، ولا يستطيع الخروج، ولا يتوصل إلى نهاية أبداً، فهو يعيد ويكرر باحثاً عن مخرج ولا يجد مخرجاً فليكتب هذه الكلمة وهذه الخطبة خيراً له.
ومن الأمور المهمة في الخاتمة إعادة اختصار الموضوع وعرض النقاط حتى تتركز في أذهان المستمعين.(222/21)
عشرين: التعود على الإلقاء
واعلموا -أيها الإخوة- أن الإلقاء موهبة، وكذلك الإلقاء الجيد وليد التدريب، والإنسان قد لا يلقي موضوعاً طويلاً من البداية، أو يلقي موضوعاً صعباً يحتاج إلى مزيد شرح وإيضاح، أو أنه يلقي خطبة فجأة على مجموعة كبيرة من الناس، لكنه يتدرج في الإلقاء فيلقي على إخوانه شيئاً، ثم قد يلقي كلمة بسيطة في مسجد، ثم يلقي شيئاً في قاعة الدراسة، وبحثاً على الطلاب، ثم ينتقل بعد ذلك في إلقاء خطبة في مسجد على مستوى أوسع ونحو ذلك، ويلقي في وسط أناس لا يعرفهم، هذا بعد أن يكون قد ألقى وسط أناس يعرفهم، لأن الوجوه المألوفة والصداقة مع المستمعين هذا مما يسهل عليك الإلقاء في البداية.
ولذلك أقول: لا بد من التدرج وليس أمر مثل الخطابة أمر سهلاً، بل إن عدداً من الخطباء قد يصاب بأمور صعبة على نفسه، إذا أراد أن يخطب المرة الأولى في خطابة وتسمع أحياناً عن قصص في هذا كإذا غاب الخطيب واضطر الناس في المسجد إلى الطلب من أحد الموجودين أن يقوم فيخطب، وليس هناك أحد مجهز خطبة، لأن الكل في حسبانهم أن باب المنبر سيفتح ويدخل الخطيب.
ولذلك فإن إلقاء خطبة مفاجئة أمر صعب لا يستطيعه إلا الجرآء الذين عندهم قوة نفس وصبر وتحمل؛ لأن أعين الناظرين إليك وأنت على المنبر كالسهام التي تخترقك.
ولذلك يقال: إنه في مسجد من المساجد تأخر الخطيب فرأوا أحد الموجودين صاحب لحية، وهو في الصفوف المقدمة، فضغطوا عليه: قم فيك الخير والبركة، فقام المسكين متعثراً متردداً فصعد الدرجات متثاقلاً، فلما وقف واستدار إليهم فوجد أنه لوحده في المنبر وكل الناس ينظرون إليه، فمن هيبة الموقف أغمي عليه وسقط.
وهناك عدد من الخطباء كما يروى في الكتب يصابون بعملية الحصر ويُرتَج عليهم، يعني: يقفل عليه ويغلق عليه وما يدري ما يتكلم، وما يدري ماذا يقول، وقد يكون بعضهم عنده نوع من الظرافة فيتخلص بها من الموقف المحرج، وفي السابق ما كانوا يكتبون في أوراق ويصعدون وإنما يرتجلون الخطبة ارتجالاً.
صعد روح بن حاتم المنبر فلما رآهم قد فتحوا أسماعهم وشقوا أبصارهم، حصر وأرتج عليه، فقال: نكسوا رءوسكم، وغضوا أبصاركم، فإن أول كل مركب صعب، وإذا يسر الله فتح قفل يُسفر.
وصعد أحد الظلمة -وكان خطيباً- على المنبر فحمد الله ثم أرتج عليه الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وبعد: ولم يستطع أن يقول شيئاً، فجعل يقول: أما بعد أما بعد وقبالة وجهه رجل أصلع فقال: أما بعد يا أصلع! والله ما غلطني غير صلعتك، فأمر به فضرب أسواطاً عند المنبر، يعني هذه الخطبة.
وخطب آخر فقال: أما بعد أما بعد وجعل لا يدري ماذا يقول: ثم نظر فإذا إنسان ينظر إليه فقال: قاتلك الله! ترى ما أنا فيه وتلمحني ببصرك أيضاً.
وارتج على عبد الله بن عامر بـ البصرة وهو أميرها في خطبة عيد الأضحى -وهذه حالة نفسية، يعني: قد لا يتخيل الشخص حال الخطيب إذا أغلقت دونه الأبواب ولم يجد شيئاً يقوله وهو يرتجل وليس عنده شيء ولا ورقة- ارتج عليه في خطبة عيد الأضحى فمكث ساعة ثم قال: والله لا أجمع عليكم عياً وبخلاً، من أخذ شاة من السوق فهي له وثمنها علي، يعني الأضاحي على حسابي.
وكان عبد ربه اليشكري أميراً على المدائن، فصعد المنبر فحمد الله، فارتج عليه فسكت، ثم قال: والله إني لأكون في بيتي فتجيء على لساني ألف كلمة، فإذا قمت على أعوادكم هذه جاء الشيطان فمحاها من صدري، ولقد كنت وما في الأيام يوم أحب إلي من يوم الجمعة، فصرت أغتم لها، وما ذلك إلا لخطبتكم هذه.
ودعي رجل ليلقي كلمة في نكاح فحصر، أراد أن يقول ماذا يتكلم؟ ماذا يقول؟ ما وجد شيئاً، فقال: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله.
فقالت أم العروس: عجل الله موتك لهذا دعوناك؟! وهذه مسألة الخطابة مسألة تدريب وتعود، والإنسان إذا كان يخشى على نفسه يكتب الخطبة، وهذا -والله المستعان- حال أكثر الخطباء اليوم، يعني نحن الآن فينا من الضعف ما لا نستطيع أن نرتجل ونحفظ النصوص ونتفوه بهذه الكلمات بخطبة متقنة، فيحتاج الإنسان أن يكتب.
وكذلك الملقي تعتريه عيوب، فقد يكون عنده لثغة وهي التردد في الكلام أو قبل كلمة معينة أو قبل بداية الجملة، وقد يكون عنده تأتأة يتردد عند حرف التاء، أو فأفأة يتردد عند حرف الفاء، أو لتغة مثل أن يغير الراء غيناً، لا يستطيع أن ينطق بالراء، أو تمتمة يتردد اللسان في حرف التاء، ورتلة وهي قلب الراء كما قلنا غيناً أو واواً، فهذا من العيوب، بعضها لها علاجات عند الأطباء النفسيين، وبعضها يحتاج إلى تدريب، أو هو العلاج أكثره تدريب وإن كان التدريب شاقاً.
وقد قيل لرجل كان لديه فطنة وكان يقلب الراء غيناً لا يجيده، قل: أمر الأمير بحفر بئر في قارعة الطريق، فقال: أوعز القائد أن يقلب قليب في الجادة.
القليب هو البئر، والجادة هي قارعة الطريق، فكان بعضهم يتخلص من الحروف التي لا يجيد نطقها بكلمات ليس فيها هذا الحرف، وهذا يحتاج إلى ثروة لغوية، مثل كتاب جواهر الألفاظ وهو كتاب جيد في المترادفات، إحكام صنعة الكلام في البديع والبلاغة أيضاً كتاب مهم، الشاهد أن هناك كتباً تتكلم عن مثل هذه الأمور التي ذكرناها.
ولا بد أن يتغلب الملقي على العقدة النفسية، خصوصاً في الإلقاء للمرة الأولى، كالارتباك وعدم القدرة على التفكير، والتلعثم، وسرعة النبض، وبعضهم قد يفضل أن يبقى خلف طاولة أو منبر شبه مغلق ولا يستطيع أن يقف في مكان مفتوح ليس أمامه إلا مكبر الصوت.
وينبغي أيضاً على الملقي أن يتجنب العبث بالأزرار أو اللعب بالقلم، أو التشبث بقوة غير طبيعية، أو فرك اليدين، أو حك اللحية المتواصل أو العبث بالشارب، وكثرة تعديل الغترة، وتقليب الأوراق وطيها تقليباً مزعجاً، لأن هذا يشوش أفكار المستمعين الناظرين إليه.
هذا ما تيسر ذكره من الأمور المعينة على حسن الإلقاء.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الدعاة إلى سبيله الذين يبذلون النفس والنفيس في مرضاته سبحانه، ونسأله أن يجعل ما أعطانا من القوة والبيان عوناً على طاعته، وألا يجعلنا ممن يستخدمون ما آتاهم من المواهب في الشر والصد عن سبيله.
ونختم بدعاء موسى لما أرسله الله إلى فرعون فقال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25 - 28].
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يشرح صدورنا، وأن ييسر أمورنا، وأن يرزقنا البيان والحجة، وأن يجعلها عوناً على الدعوة إلى سبيله والله تعالى أعلم.(222/22)
الأسئلة(222/23)
حكم الاعتكاف للمصلي
السؤال
هل يجب على المصلي إذا دخل المسجد أن ينوي نية الاعتكاف؟
الجواب
لا يجب.
بل اختلف العلماء في مدة الاعتكاف ما هو أطول وقت للاعتكاف، وما هو أقل مدة للاعتكاف، فقال بعضهم: يوم وليلة، وقال بعضهم: ليلة، واحتجوا بحديث عمر كما في البخاري: [إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام] فلو كان اعتكف ليلة أو يوماً وليلة فهذا أقل ما ورد، وهذا من الأقوال القوية في أقل ما ورد.(222/24)
من دخل عليه رمضان وهو لم يصم ما عليه
السؤال
امرأة أفطرت قبل سنة شهر رمضان، وجاء رمضان هذه السنة وبقي عليها ثلاثة عشر يوماً ولم تقضها، فماذا يجب عليها وما هي الكفارة؟
الجواب
إذا فرطت في القضاء حتى جاء رمضان القادم ولم تقض فعليها بالإضافة إلى القضاء بعد رمضان إطعام مسكين عن كل يوم كفارة التأخير، كما قضى به الصحابة، طعام مسكين، أو نصف صاع، يعني كيلو ونصف من الرز -مثلاً- مع شيءً من الإدام.
افرض أنه أخر الشهر كله، وفرط فيه حتى دخل رمضان الذي بعده، كم يخرج؟ مثلاً خمسة وأربعين كيلو من الرز، مع -مثلاً- كرتونين من الدجاج مثلاً، يعني شيء من الإدام أو اللحم لو أعطيه لمسكين واحد أو عائلة واحدة جاز ذلك.(222/25)
وضعية الطفل في الطواف
السؤال
رجل يشترط أن يكون البيت عن يسار الطفل وهو محمول في الطواف؟
الجواب
لا دليل على هذا، سواء حملوه على اليمين أو الشمال لا بأس بذلك.(222/26)
العدل بين الزوجات
السؤال
كيف أعدل بين زوجتين؟ وكيف أفعل إذا أردت أن أصطحب معي إحداهن لدرس أو محاضرة وكانت حائضاً؟
الجواب
هناك أشياء أساسية: العدل في المبيت والنفقة، فلا تأتِ ليلة هذه في ليلة الأخرى، ولا تأتِ هذه في ليلة الأخرى، ولا تعط هذه أكثر من هذه، أو تجدد أثاث هذه ولا تجدد أثاث الأخرى، أو تدخل أولاد هذه مدرسة خاصة وتبقي أولاد الأخرى، ونحو ذلك من الأشياء الكثيرة التي يجور فيها بعض الناس ويظلمون؛ لأن الذي لا يعدل بين زوجتيه يأتي يوم القيامة وشقه مائل.
وإذا أردت اصطحاب إحداهن فما عليك في اصطحاب غير المعذورة حرج.(222/27)
الصلح بين الأقارب
السؤال
إن لي أعماماً متخاصمين بسبب مشكلة صغيرة وبعضهم لا يدخل على بعض.
الجواب
حاول أن تكون واسطة في الخير وأن تصلح بينهم، وأن تعذر إلى الله فأنت قد حاولت أنت عليك البلاغ وعليك العمل والله بصير بالعباد.(222/28)
كيفية التعود على الإلقاء
السؤال
أريد أن أرشد الناس في المسجد أو في البيت ولا أقدر.
الجواب
يا أخي! هذه قضية تعود، الإنسان يبدأ مع معارفه، يبدأ مع أقربائه ثم ينتقل إلى المسجد؛ لأنه إذا قفز إلى المسجد فجأة يريد أن يرشد الناس وهو ليس عنده تعود، أو خبرة سابقة في الكلام مع الناس يزل، أو أنه يتلعثم ويرتج عليه، فلذلك المسألة تؤخذ بالتدريج، ومن البرامج الجيدة يعني في بعض المراكز الصيفية أو المدارس في الأنشطة الخطابة، يعني عمل برامج لتأهيل الخطباء، تأهيل خطباء من الشباب يلقون الموضوعات في خطب على زملائهم، تأهيل الخطباء هذه مسألة مهمة جداً.(222/29)
حكم إلقاء السلام على المتحلقين في المسجد
السؤال
في حديث الثلاثة الذين دخلوا المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم في حلقة في أصحابه، هل هذا الحديث فيه دليل على عدم أداء التحية أثناء الدخول؟
الجواب
ذكر ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث رواية فيها إلقاء السلام.(222/30)
حكم شراء السلعة ممن ليست عنده
السؤال
ما حكم ما تفعله بعض الشركات من أن المشتري يعين السلعة فتذهب الشركة فتشتريها؟
الجواب
لا يجوز له عقد البيع إلا بعد أن تملك الشركة السلعة وتنقلها إلى مخزنها أو مستودعها ومكانها وإلا لا يجوز البيع، فإذا لم يجد عندهم السلعة يقول لهم: هل ستأتون بالبضاعة الفلانية؟ ومتى؟ إذا أتيتم بها فأنا عندي رغبة في الشراء مثلاً، فمن فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز في هذا أنه يجوز أن يقول لهم: لو أتيتم بها فأنا عندي رغبة في شرائها، فإذا جلبوها يذهب ويشتري، أما قبل ذلك فلا يجوز أن تباع السلع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (لا تبع ما ليس عندك) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.(222/31)
اعتقاد باطل في العقيقة
السؤال
يقول بعض الناس: من لم يعق عند ولادته يلزمه الهدي في الحج.
الجواب
هذا غير صحيح، هذا من الاعتقادات الفقهية عند العامة، وبعض الناس يعتقد أنه إذا لم يعق عنه فليس له حج، وهذا خطأ، له حج ولو ما عق عنه، ثم إن الإنسان يمكن أن يتدارك الأمر ويذبح العقيقة ولا مانع حتى لو صار كبيراً.(222/32)
حكم الصور
السؤال
أنا طالب في المرحلة المتوسطة من الطلبة الجيدين دراسياً، وطلب مني إحضار صورة لتعلق في المدرسة.
الجواب
لا.
لا تحضر، هذه ليست ضرورة.(222/33)
توزيع الأسئلة أثناء المحاضرة
السؤال
ألا تظن أن توزيع أوراق الأسئلة فيه تشويش؟
الجواب
أرى ذلك، لذلك أرى أن توزع أوراق الأسئلة في آخر المحاضرة؛ لأن بعض الناس أحياناً يكتب سؤالاً وبعد قليل يأتي جوابه في المحاضرة، فلو وزعت في آخر المحاضرة يكون أحسن.(222/34)
أسلوب التنفس قبل الإلقاء
السؤال
لإزالة الرهبة عند إلقاء موضوع: أن يأخذ نفساً عميقاً طويلاً، ويشد جسمه بادئاً بصدره وذراعيه وساقيه ثم يزفر الهواء المحبوس.
الجواب
هذا قرأته في أثناء تحضير هذا الموضوع في الكتب المترجمة عن بعض كتب الغربيين، ولكن لم أر نقله؛ لأن فيه بعض التكلف أنه يقف ويمد يديه ويرخي ويأخذ زفرة طويلة، ربما لم أر ذلك من الأشياء المهمة في الموضوع ولكن لعل بعض الناس يستفيد من هذا.
والنفس يحتاج أثناء الإلقاء على أية حال.(222/35)
كتاب (حوار صحفي مع جني مسلم)
السؤال
ما رأيكم بكتاب ظهر حديثاً بعنوان: حوار صحفي مع جني مسلم؟
الجواب
هذا الكتاب صاحبه دجال كذاب أشر، وقد سبق له أن ألف كتاباً في المسيح الدجال وهو نفسه دجال، وقد بينا هذا سابقاً، بينا أن هذا الرجل يأتي بأشياء عجيبة ليس لها أدلة من الكتاب والسنة في الأعضاء التناسلية للجن، ويأتي ببعض الآيات والأحاديث الصحيحة ويموه فيها على القارئ، يظن أن الكتاب ما دام فيه آيات وأحاديث يعني أنه كتاب جيد، ولذلك أحذر منه وبالرغم من ذلك فهذه الطبعة العاشرة، وينفذ من المكتبات بسرعة، والناس لأنهم يخافون من الجن أو يريدون أن يعلموا العوالم الخفية أو عندهم حب استطلاع، فيقبلون على هذه الأشياء ولو لم تكن صحيحة وهذا خطأ في منهج التلقي.(222/36)
من أقيمت الصلاة وهو يصلي النافلة
السؤال
إذا صلى رجل صلاة النافلة قبل صلاة الفرض فأقيمت الصلاة وهو في قيام الركعة الثانية؟
الجواب
صلى صلاة النافلة قبل المكتوبة، (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) إذا كان قبل ركوع الركعة الثانية يقطع الصلاة ويدخل في الفريضة، إذا كان بعد ركوع الركعة الثانية يتمها خفيفة، وفي هذه الحالة الغالب أنه لا تفوته ركعة، وهذا أحد أقوال أهل العلم.(222/37)
موقف محرج
السؤال
هل وقع لك موقف محرج في أثناء الخطابة؟
الجواب
نعم حصل موقف قبل فترة، ولا بأس بالمصارحة وأنتم إخواني، كتبت خطبة أذكر أنها كانت عن عذاب القبر، وأكثرها نصوص لا أستطيع أن أحفظها، فكتبتها وتعبت في كتابتها، وكان هناك إضافة كتبتها قبل الصلاة بقليل، ووضعت الأوراق، وكان بجانب الأوراق الموضوعة أوراق الخطبة السابقة، فذهبت وتجهزت للصلاة وخرجت مسرعاً فأخذت الأوراق التي وجدتها وذهبت وصعدت المنبر وجلست، فبدأ الأذان، أخرجت الخطبة تمهيداً لوضعها أمامي فإذا هي -ويا لهول الموقف- خطبة الجمعة الماضية، يعني لو كانت الخطبة من السنة الماضية كان يمكن أن الناس نسوها فنعيد، لكن هذه خطبة الجمعة الماضية!! فلا أكتمكم أنني كنت أفكر وهو يقترب من إنهاء الأذان والوقت يمضي: وأنا أريد أن أعثر على موضوع، فكان التفكير في ذلك الوقت في موضوع ما هو رأس الموضوع.
وللأسف انتهى ولم أنتق موضوعاً، هذا فضلاً عن التفكير في نقاط الموضوع، وشرعت في خطبة الحاجة وأنا لا أدري عما سأتكلم، ولكن يسر الله وفتح وتكلمت في موضوع عن أثر الإيمان باليوم الآخر في نفس المؤمن ومشت الأمور والحمد لله، ولحسن الحظ أنني سألت شخصاً بعدها فقلت: ما رأيك في الخطبة؟ فقال: يظهر أن فيها تحضيراً، فقلت: الحمد لله أنهم لم يكتشفوا هذا.(222/38)
الدم الخارج بعد السقط
السؤال
إذا أسقطت المرأة مضغة لم تتخلق ونزف دم فهل تصوم وتصلي؟
الجواب
إذا أسقطت شيئاً يتبين فيه خلق إنسان، يعني بعد الثمانين يوماً، بعد الأربعين الأولى والأربعين الثانية يبدأ التخلق والتكون وظهور هذا الشيء، تخطيط يد أو رجل أو رأس، وما بعد ذلك من الجنين المتكامل أو ما كان فيه روح، إذا أسقطت فالدم نفاس، وقبل هذا يعني إذا كان لم يظهر فيه تخطيط، أو كان فيه قطعة من الدم، أو اللحم ليس فيه تخطيط، فهذا دم فساد واستحاضة وعليها بالصلاة والصيام.(222/39)
استخدام الأسلوب العامي في المحاضرات
السؤال
بعض المشايخ يستخدمون الأسلوب العامي عند تقديم المواضيع.
الجواب
طبعاً هذا لا يصلح في خطبة الجمعة مثلاً، لكن قد يصلح أن يقال أحياناً في بعض الدروس مع العامة، كذلك الدروس العلمية ينبغي أن نتكلم باللغة العربية الفصحى، لكن يعني في بعض الدروس مع العامة قد يصلح هذا من باب أن يكون قريباً إليهمن وهذا لبعدهم هم عن اللغة العربية الفصحى، يعني ليس هذا هو الوضع الصحيح والمثالي، لكن ببعدهم هم عن اللغة العربية الفصحى يشعرون بنوع من الحواجز إذا تكلمت معهم بها، أو يشعرون أنك أنت متكلف، وربما يكون وسيلة.(222/40)
خلق الله العرش قبل السماوات والأرض
السؤال
هل العرش خلق قبل السماوات والأرض؟
الجواب
لا شك خلق العرش قبل خلق السماوات والأرض، والمسائل الغيبية التي لا يجد فيها الإنسان جواباً من الكتاب والسنة يمسك ولا يتكلم (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) قضايا الغيب وما يتعلق بالله سبحانه وتعالى ينبغي على المسلم أن يقف عند حده فيها {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان:59] ولا يجوز أن يتكلم عن الله بغير علم فهذا من الكبائر.(222/41)
ضبط العواطف بين الشباب
السؤال
الإسراف في العواطف بين شباب الصحوة وما هو ضد ذلك من الحسد والحقد والإحساس بالنقص.
الجواب
إن شاء الله أرجو أن يكون لهذا درس خاصٌ، وقد بدأت في كتابة شيء فيه، فأرجو أن يأتي عليه الوقت الذي يقدم فيه.(222/42)
حكم صلاة الرجل في بيته لغير عذر
السؤال
كثير من الشباب يفضلون الصلاة في البيت وليس فيهم أي علة.
الجواب
هؤلاء مقصرون مفرطون، صحيح أن صلاته صحيحة لكنه آثم، والأدلة على وجوب صلاة الجماعة كثيرة، لا صلاة له إلا من عذر، والله أوجبها في حال الخوف فكيف بحال الأمن، ولم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم للأعمى، وهم بتحريق البيوت.(222/43)
اختيار الموضوع المناسب
السؤال
لم تشر إلى اختيار الموضوع الذي يناسب الحادثة فضلاً عن الحاجة إليه.
الجواب
هذا يدخل في موضوع: كيف تحضر موضوعاً، فلعلنا إن شاء الله نأتي عليه في مناسبة أخرى.
السؤال: كيف تختار الموضوع المناسب إذا كان هناك كلمة أسبوعية أو دورية في مسجد أو مع الأصحاب؟ الجواب: هذا تابع للسؤال الذي قبله لكن ممكن أنه يأتي مرة بتفسير آية غامضة لا يعرف كثير من الناس تفسيرها، أو آية مهمة فيها أحكام، أو حديث في أدب أو خلق، أو موعظة، أو يعلق على حادثة حدثت في المجتمع، أو قصة من السيرة مع ذكر فوائد فينوع عليهم.(222/44)
حكم الإلقاء بالعامية
السؤال
إذا كنت لا أجيد اللغة العربية فهل يمنعني هذا من إلقاء موعظة.
الجواب
لا والله، فقد تكون موعظة عامي تؤثر أكثر مما تؤثره إلقاء موعظة باللغة العربية الفصحى، هذه قدرته وهذه طاقته، فإذا حصل الإخلاص والعلم الحمد لله.(222/45)
معنى قوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)
السؤال
ما معنى قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24].
الجواب
{ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] يؤخذ منها أن الإنسان إذا نسي شيئاً يذكر الله سبحانه وتعالى، سبحان الله ولا إله إلا الله، وقيل أيضاً في معناها: إذا نسيت أي: عصيت، يعني نسيت الله وأنساك الشيطان فوقعت في المعصية اذكر الله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135].(222/46)
التهيب والخجل من الإلقاء
السؤال
ما أن أبدأ بالإلقاء حتى ينتابني الشعور بالرهبة ورجفة الأعضاء.
الجواب
هذا لأنك في البداية، لكن تعود وتجلد وواصل الطريق فتصل إن شاء الله، من الناس من يصل بسرعة ومنهم من يصل ببطء، لكن:
ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
فلا بد أن نصل بمشيئة الله سبحانه وتعالى.
وهذا ليس من الحياء بل هذا خجل، والنبي عليه الصلاة والسلام كان أحسن الناس إلقاءً وهو أشد حياءً من العذراء في خدرها.
فإذاً لا تجعله حياءً هذا بل خجل ينبغي أن يعالج نفسه، الإنسان أولاً يجعلها تعليقاً على كلمة لشخص آخر، ما يقول هو الكلمة محادثة، كيف يبدأ الإنسان يتعود، تعليق يستنبط فائدة ويقولها، ثم بعد ذلك يكون له إضافة مثلاً، ثم يقول كلمة قصيرة، ثم يقول كلمة أطول، ويبتدئ بموضوع سهل، ثم ينتقل لموضوع أصعب، يكون درساً ثم يكون خطبة وهكذا.(222/47)
الرياء في عمل الخير
السؤال
أعمل أعمال خير فيأتيني الشيطان فيقول: إنك تعملها رياءً.
الجواب
إذا تركتها وقعت في الرياء؛ لأنك تركتها من أجل الناس، حتى لا يقولوا عنك أنك مراءٍ، فاعملها وتوكل على الله واقصد وجه الله.(222/48)
حكم الحج لمن عليه دين
السؤال
عندي جمعية وأريد أن أحج.
الجواب
ما دام عندك من المال ما لو حصل لك شيء ما يوفى به للجمعية فلا مانع من الحج.(222/49)
صيام الست من شوال
السؤال
بدأت في قضاء ما أفطرته في رمضان لعذر ووصلت الصيام بست شوال، ولحقتني الدورة في آخر ست من شوال ولم يتبق إلا يوم واحد؟
الجواب
لا يلزم طبعاً الفصل بين القضاء والست من شوال، ولا بأس من صيام الأيام المتبقية من ذي القعدة.(222/50)
حكم المطلي بالذهب
السؤال
ما حكم الشيء المطلي بالذهب؟
الجواب
رأي الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن صالح بن عثيمين كالتالي: إذا كان الطلاء عاماً في الشيء فلا يجوز للرجل لبسه، وكذلك الأواني لا تستخدم، إذا كان الطلاء في شيء يسير مثل عقارب الساعة، أو الأرقام التي فيه، أو ريشة القلم، أو زاوية النظارة فلا بأس في لبسه.(222/51)
حكم القراءة والبقية يسمعون
السؤال
قراءة أحد الطلبة في مدرسة تحفيظ القرآن قبل الصلاة والباقي يستمعون له.
الجواب
أرى ألا يجعل ذلك عادة، فقد كان المسلمون يدخلون مسجد النبي عليه الصلاة والسلام وكل واحد يقرأ لوحده: (ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن) فما كان النبي عليه الصلاة والسلام يرتب لكل صلاة شخصاً من الصحابة يقرأ والبقية يستمعون، يدخلون المسجد ويصلون التحية وكل واحد يقرأ لوحده، والذي يريد أن يدعو يدعو لأن الدعاء بين الأذان والإقامة مستجاب، والذي يريد أن يذكر الله يذكر، والذي يريد أن يستمع إلى قراءة من بجانبه يستمع، وهكذا.(222/52)
زواج الصغير قبل أخيه الكبير
السؤال
هل يحق لي أن أتزوج قبل أخي الأكبر مني؟
الجواب
طبعاً لا يمنع، وإن كان ينبغي التلفظ في قضية استئذانه أو تهوين المسألة عليه، حتى لا يكون هناك ضيق؛ لأنها قد تكون ظروفك أحسن من ظروفه فتبين له الأمر والحمد لله.(222/53)
البداية للمبتدأ بمتن الآجرومية
السؤال
هل الأفضل البداية بـ متن الآجرومية أو ألفية بن مالك؟
الجواب
لا شك أن متن الآجرومية أسهل من ألفية بن مالك.(222/54)
الأسلوب العلمي في الإلقاء
السؤال
نسمع كثيراً عن الأسلوب العلمي في الإلقاء؟
الجواب
هو أسلوب إلقاء الدروس العلمية، لكن المواعظ أو الآداب والأخلاق، أو مشكلات المجتمع، عرضها لا يصلح فيه الأسلوب العلمي.(222/55)
الخروج إلى الأسواق مع الأهل
السؤال
تعلمون ما يحدث في الأسواق من الفتن من لبس النساء الكاسيات العاريات، وإظهار الأعين والسيقان وإبداء الزينة، وإذا نزلت إلى السوق أتحرج من أخذ أهلي معي، وإذا جلست في السيارة فتجلس بدون محرم.
الجواب
لا بأس أن تجلس في السيارة في مكان آمن وتغلق الأبواب وتشتري أنت الشيء وترجع، وهذا إذا كان الوضع غير مناسب، وإذا كان مناسباً نزلت بكامل حجابها معك.(222/56)
حكم إزالة الشعر المجاور للعين
السؤال
ينبت الشعر قرب العين؟
الجواب
إذا كان يؤذيك فلا بأس من إزالته.(222/57)
حكم كشف الزوجة أمام عم الزوج أو خاله
السؤال
ما حكم عم وخال الزوج؟
الجواب
لا يجوز للزوجة أن تظهر أمامهم.(222/58)
حكم الدم الذي ينزل في فترة انقطاع الحيض
السؤال
زوجتي ترضع ولا تأتيها الدورة عندما ترضع، وعمر الطفل الآن أربع أشهر وأخذت موانع الحمل وهو ما يسمى باللولب وعند وضعه خرج دم؟
الجواب
تسأل الطبيبة فإذا قالت لها: إنه ليس بدم حيض فإنها تصلي وتصوم.(222/59)
حكم الصلاة في مصلى بجواره مسجد
السؤال
عندنا مصلى في المكتب والمسجد مجاور؟
الجواب
لا يجوز الصلاة إلا في المسجد، (حافظوا عليهن حيث ينادى بهن).(222/60)
حكم المني الذي ينزل بعد الاغتسال
السؤال
اغتسل وبعد الغسل نزل المني مرة أخرى؟
الجواب
هذا المني الذي ينزل بغير شهوة بعد الاغتسال لا يوجب إعادة الاغتسال.(222/61)
موضع النهي عن استقبال القبلة
السؤال
هل النهي عن استقبال أو استدبار القبلة أثناء قضاء الحاجة أو في كل الأحوال حتى لو كان عرياناً؟
الجواب
الذي ورد فيه الدليل في حال قضاء الحاجة، فلذلك لا يجب عليه أن يتجنب استقبالها أو استدبارها إذا كان يغير ملابسه مثلاً.(222/62)
موقف الواعظ إذا خرج شخص وهو يعظ الناس
السؤال
بعض أئمة المساجد ألقى نصيحة أو موعظة أمام المستمعين، ثم قام أحدهم فأثر في نفسه، ما نصيحتك لهؤلاء؟
الجواب
أن يقدروا أن بعض الناس لديهم أشغال، لديهم أعمال ولديهم ظروف، وأنهم لا يجب عليهم شرعاً أن يجلسوا ويتركوا ما عندهم، قد يكون عنده أطفال في سيارته، فلماذا نشعر بنوع من الحقد عليهم، دع الذي يريد أن يجلس يجلس والذي يريد أن يذهب يذهب، هذه خطبة العيد، من يريد أن يذهب يذهب ومن يريد أن يجلس يجلس، وليست كلمتك بأفضل من خطبة العيد.(222/63)
اختيار موضوع خطبة الجمعة
السؤال
ما رأيكم في موضوع خطبة الجمعة؟
الجواب
خطبة الجمعة يمكن أن تكون فيها موعظة لليوم الآخر وذكر الموت، أو بيان عظمة الله وذكر أسمائه وصفاته وآثار الإيمان بالأسماء والصفات، ويمكن أن يكون في خطبة الجمعة بيان أحكام يحتاج إليها الناس في البيع والشراء والعبادات والمعاملات، ويمكن أن تكون خطبة الجمعة بياناً لأشياء من عبادات من الأخلاق والآداب، ويمكن أن تكون خطبة الجمعة فيها ذكر لشيء من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، أو أخلاقه وشمائله، أو معارف إسلامية، أو منكرات موجودة في الواقع، أو أحداث يحتاج الناس إلى بيان الرأي الصحيح فيها.
أرى الاكتفاء بما حصل من الأسئلة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين.(222/64)
كيف نضبط انفعالاتنا؟
خلق الله البشرية وجعل لها ميزاناً تسير عليه؛ فهو خالقها وأعلم بما يصلحها، ومن أهم ما يظهر على هذه النفس من الانفعالات اليومية: الحب والبغض، وهي طاقة بشرية مخزونة في النفس، ولكن الحكيم من الناس هو الذي يوجهها إلى الوجهة الشرعية السليمة.
والناظر في أحداث الكون الآن يلحظ هوان المسلمين في مقابل رفعة عدوهم؛ وهذا مما يؤدي إلى الغضب، ومن هذا الباب فقد ذكر الشيخ عدداً من الأمور التي يستعملها الإنسان في مراجعة هذا الغضب، وكيف يستفيد من سيرة الرسول وأصحابه في مدافعته وتحويله لصالحهم.(223/1)
الأصل في تكوين النفس البشرية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، وصلى الله وسلم على رسول الله الذي علمنا فأحسن تعليمنا، وبعثه الله متمماً مكارم الأخلاق وصالحها.
أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فعنوان درسنا في هذه الليلة: كيف نضبط انفعالاتنا؟ وهذا الموضوع موضوع مهم نظراً لأن الإنسان المسلم الذي يعيش في هذه الحياة يتعرض لكثيرٍ من الأمور التي تسبب انفعاله، ولا بد له أن يعلم كيف يكون الانفعال في مرضات الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل قد خلق النفس وخلق فيها انفعالات، فالنفس تحب وتبغض، وترضى وتسخط، وتغضب وتهدأ، وتحزن وتفرح إلى آخر ذلك من أنواع الانفعالات التي تعتمل داخل هذه النفس.
هذه النفس البشرية شديدة التعقيد التي لم ينته علماء الطب وعلماء النفس من دراسة آثار الانفعالات في هذه النفس حتى اليوم، ولا زالوا يخرجون بنتائج جديدة، وأبحاث متعددة في مجال هذه النفس، هذا المجال الواسع الرحب، ولا يعلم ما في هذه النفس إلا الذي خلقها، ولا يعلم حدودها وما يصلحها إلى الذين فطرها رب العالمين.
ولذلك أيها الإخوة! ينبغي أن نرجع في تعاملنا مع أنفسنا إلى القرآن والسنة، فإنه مهما أتى البشر بنظريات ونتائج وأبحاث وتجارب فلا يمكن أن يأتوا بمثل ما جاء في هذا القرآن وهذه السنة المطهرة.
والله سبحانه وتعالى خلق آدم من قبضة من جميع الأرض؛ فجاء بنو آدم على قدر ذلك، فكان منهم السهل والحزن، يعني: الناس الذين تتميز أنفسهم بالسهولة والسلاسة، والناس الذين تتميز أنفسهم بالشدة والصلابة، بحسب التربة التي خلقوا منها، فناس أخذوا من تربة من أرضٍ سهلة، فجاءت أنفسهم مثل التربة التي خلقوا منها، وناس كان خلقهم من قبضة من جميع التربة فجاء أولاد آدم على قدر هذه القبضة التي خلق الله آدم منها، فمن الناس من يكون في صلابتهم وشدتهم مثل صلابة الصخر وشدة الجبال ووعورة مسالكها، كذلك وعورة أنفسهم، ولأن تربة الأرض مختلفة الألوان فمنها تربة سوداء ومنها تربة صفراء ومنها تربة بيضاء فجاء بنو آدم على قدر ذلك، فكان منهم الأبيض والأحمر والأصفر والأسود وهكذا، إن الله خلق آدم من قبضة من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر ذلك.
فتأمل ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، ثم تأمل في الواقع فستجد انطباق ما أخبر به على الواقع انطباقاً تاماً، ونفوس العباد إذاً ليست سواء، وما يعتلج في هذه النفوس ليس أمراً واحداً بل هو عدة أمور، ولذلك فشخصيات الناس أنواع، منها شخصيات تتميز بالهدوء والرزانة، وشخصيات تتميز بالحكمة، وشخصيات تتميز بالضعف، وشخصيات تتميز بالقوة، وشخصيات تتميز بانضباط النفس، وشخصيات تتميز بالعصبية، وشخصيات تتميز بالعاطفية، وشخصيات تتميز بالغضب، وشخصيات تتميز بالهدوء وهكذا من أنواع الخطوط المتقابلة الموجودة في النفس البشرية.
ولذلك نجد من الناس من هو عصبيٌ لا يستقر على حال فهو في قلقٍ وتغيرٍ دائم، ومن الناس من يكون غضوباً ينفجر دون أدنى مقدمة، ومن الناس من يكون عاطفياً تغيظه أتفه المضايقات ويتملكه اليأس أمام أيسر العراقيل، ومن الناس من يكون ولوعاً إذا تعلق بفكرةٍ تحمس لها جداً، وتعصب لها وتصدى لتسفيه كل مخالف لهذه الفكرة أنى كان ذلك.
ومن الناس من تسيطر عليهم المفاجآت فلا يستطيعون أن يتحركوا ولا أن يتصرفوا، فيتسمرون وتقعد بهم أنفسهم الضعيفة عن مواجهة الواقع، وعن السعي في التحكم في الأمور فتفقده المفاجئة السيطرة على نفسه.
ومن الناس من يتبدل مزاجه فجأة، فتكون جالساً معه فتخطر بباله فكرة، ثم تبدأ تتفاعل مع نفسه وتتحرك، ثم يغمره أنواع من الانفعالات مع هذه الفكرة، ويستغرب الجالس من هذا التغيير المفاجئ الذي حصل في الشخص مع أنه لم يقع في المجلس أي حادثٍ يذكر، إلا مجرد الفكرة التي طرأت في ذهن ذلك الشخص العاطفي.
ومن الناس من ينجر بسهولة مع أفكاره ومع أحداث الساعة فينتقل فوراً إلى العمل بسبب ما حصل له من تهييج دون أدنى تفكير، فتكون أفعاله ردات فعل لما يحدث في الواقع.
ومن الناس من يكون رابط الجأش؛ فيتلقى الصدمات ويدرس الوضع قبل أن يتخذ قراراً عملياً ويفكر قبل التنفيذ.
ومن الناس من لا يستطيع كتمان الأخبار، ولا حفظ الأسرار، فهو في قلق، فيسهل استخراجها منه مثل الناس الذين يتميزون بالعاطفية الشديدة، وبعض الناس عندهم أنسجة عصبية متقلبة، وقد يحب إنساناً فيفرط في حبه، ثم يتنكر له لسببٍ بسيط فيفرط في بغضه إلى أبعد الدرجات.
ومنهم من يكون عنده نتيجة اضطرابٍ في نفسه غلوٌ في الوصف، فإذا عمل مغامرة عادية أخرجها لك على أنها المعركة الفاصلة، ومنهم من يعيش مع انفعالاته فهي التي تنشطه وتحفزه، فإذا لم ينفعل ولم يستثر، فإنه باردٌ لا حراك فيه.
ومنهم من يستسلم للنزوات والإسراف في الأشياء، وهل الصحيح أن يكون الإنسان منفعلاً أو لا يكون منفعلاً؟ الصحيح أن يكون منفعلاً؛ لأن الشخص الذي لا ينفعل أبداً ولا تهزه الحوادث إما أن يكون مجنوناً لا يعي ما حوله، أو أنه مدمن مخدرات مثلاً فهو مصاب بتغليف لذهنه ومخه وقلبه فلا يحس بشيء، ولكن المهم الآن أن نعرف متى تكون الانفعالية إيجابية ومتى تكون الانفعالية سلبية؛ لأننا إذا قلنا: لا بد أن ينفعل الإنسان الصحيح السوي ويتفاعل مع الواقع، ويتفاعل مع الأحداث، ويكون للأحداث تأثيرٌ عليه، فإذا كان هذا الأثر موافقاً للشريعة فهذا هو الانفعال الإيجابي المطلوب، وإذا كان الانفعال مضاداً للشريعة ومخالفاً لها فهذا هو الانفعال المذموم، وليس المقصود من وراء هذه المحاضرة أن نتوصل إلى نموذج نقول من خلاله: إن المطلوب منا ألا ننفعل على الإطلاق، وألا تتحرك فينا أدنى عاطفة، ولا أدنى شعور، ولا أي غريزة ولا دافع لعمل أي شيء، ليس هذا أبداً هو المقصود من وراء عرض هذا الدرس.(223/2)
أمثله على الانفعالات
أيها الإخوة! لا بد أن نعلم أن دين الإسلام قد جاء لتهذيب وتربية النفس المشاعر وتنقيتها، وتنحية العنصر المذموم في النفوس والتأكيد على استجلاب وجذب وتركيز وتأسيس العناصر الجيدة المفتقدة أو المفتقر إليها، وقد جاءت هذه الشريعة أيضاً بقواعد وضوابط للمشاعر والعواطف، فلنذكر أمثلة على سبيل الإيضاح، وهذا موضوع طويل جداً، وهو ما هي الضوابط والقواعد التي جاءت بها الشريعة لتهذيب ومواجهة انفعالات النفس البشرية.
هذا شيء كبير جداً، وبذلك لن نستطيع في هذه المحاضرة أن نغطيه، وإنما سنركز على قضايا معينة، نختصر الكلام عليها ثم نتجه إلى الكلام عن علاقة هذا الموضوع بالواقع المرير الذي يعاني منه المسلمون في هذا العصر وفي هذا الزمان.(223/3)
كتم السر
خذ على سبيل المثال: كتم السر، بعض النفوس لا تستطيع أن تكتم السر، لقد جاء في الشريعة أوامر معينة وتوجيهات إرشادية في مسألة كتم السر، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن المجالس بالأمانة، وأن الرجل إذا حدث بالحديث ثم التفت فهي أمانة، وأن كتم السر من الإيمان، ومن حسن العهد وحقوق الأخوة الإسلامية وذلك إذا لم يحدث من كتمه ضررٌ على الإسلام والمسلمين، وإنك لتدهش وتتعجب من يوسف عليه السلام لما جاء إخوته وهم لا يدرون أنه الحاكم في مصر على خزائن الأرض، وأراد أن يبقي أخاه عنده، لما جاءه إخوته بأخيهم فعمل حيلة، فجعل صاع الملك في رحل أخيه {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف:70 - 72] المهم أنهم نفوا أن يكونوا سرقوا، وقالوا: فتشوا رحالنا، وقبل أن يفتشوا رحالهم قال: ما جزاؤه؟ {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:75] على شريعة يعقوب عليه السلام أن السارق يؤخذ عبداً عند المسروق منه كما قيل، فلما وجد الصواع في رحل بنيامين -إن صح اسمه- وهو أخو يوسف الأصغر، قال إخوة يوسف: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [يوسف:77] لقد كان هذا الاستفزاز غير المقصود ليوسف كافياً طبعاً لأن يعرف عن نفسه ويقول: من تتهمون، أتعرفون من تتهمون وعمن تتكلمون إنه أنا، وكان يمكن أن يقول لهم أشياء كثيرة جداً لكنه كتم هذا الأمر: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [يوسف:77] لم يأت بعد الوقت المناسب لتوضيح القضية، ولم يأت الوقت المناسب للكشف عن الحقائق.(223/4)
الحب أو البغض المفرط
وإذا جئت مثلاً للأشخاص الانفعاليين الذين يحبون شخصاً فيصعدون به إلى السماء، ثم قد يبغضونه بعد ذلك فينزلون به إلى أسفل السافلين لوجدت في حديثه عليه الصلاة والسلام: (أحبب حبيبك هوناً ما؛ عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما؛ عسى أن يكون حبيبك يوماً ما) لعرفت أيها المسلم من هذا الحديث الصحيح قاعدة إسلامية في الاقتصاد في المحبة وعدم الإسراف في المشاعر؛ لأنك لا تدري عن تقلبات الزمان، وقد يصبح هذا العدو يوماً من الأيام صديقاً لك، وقد يصبح الصديق عدواً لك، وذلك بحسب الأطر الشرعية.
فإذاً ينبغي الاقتصاد، وهذا درس في الاقتصاد في المشاعر.(223/5)
الغضب المطلوب وعلاجه
ونأتي إلى مثالٍ واضحٍ جداً يبين لنا موقف الإسلام من بعض الانفعالات، وهو أحد الانفعالات التي تكون في النفس البشرية، ألا وهو انفعال الغضب؛ لنبين من خلال هذا الشعور والانفعال الذي يحدث في النفس، ما موقف الإسلام من هذه الانفعالات، وكيف يندفع المسلم لضبط انفعاله بضابط الشرع.
الغضب انفعالٌ يحدث في النفس لا شك في ذلك، فكيف كان علاج الشريعة لهذا الانفعال؟ نأخذه مثالاً نركز عليه لنبين أن في الشريعة علاجات كافية لهذه المشاعر، هل الغضب مذمومٌ دائماً أم لا؟ إن المتتبع لسيرته عليه الصلاة والسلام يجد أنه صلى الله عليه وسلم كان حليماً متزناً، ولكنه في بعض الأحيان يغضب غضباً شديداً صلى الله عليه وسلم، فهل لنا أن نتعرف على الغضب في الإسلام وكيف يواجه كنموذج لموضوعنا في هذه الليلة؟ لا شك أن الغضب في الجملة خلقٌ مذموم، ولا شك أن هذا الغضب له أضرار كثيرة وعواقب وخيمة، ومن أجل ذلك جاءت الشريعة بعلاجات لهذا الغضب، وعلى هؤلاء الناس أصحاب الطبيعة الغضبية الذين يستفزهم الشيطان أن يتأملوا جيداً في علاج الشريعة لهذا الانفعال الحادث في النفس، ويتعلموا كيف يضبطون انفعالهم هذا وهو انفعال الغضب.
من الإجراءات الإسلامية التي جاءت لعلاج الغضب: أولاً: تنفيذ وصيته صلى الله عليه وسلم، فقد ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أوصني؟ قال: لا تغضب، ردد ذلك مراراً) كل ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب) وهكذا.
وفي رواية لـ أحمد قال: قال الرجل: (ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله) فإذا أردت أن تهذب نفسك من الغضب فعليك بتنفيذ وصيته عليه الصلاة والسلام.
ثانياً: أن تعلم الحافز لترك الغضب، وهذا الحافز قد يكون ميزة دنيوية بينها عليه الصلاة والسلام في حال الرجال الأفاضل، أو ميزة وثواباً أخروياً يكون لمن ملك نفسه عند الغضب، فمثلاً: عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقومٍ يصطرعون فقال: (ما هذا؟ قالوا: فلانٌ لا يصارع أحداً إلا صرعه، قال عليه الصلاة والسلام: أفلا أدلكم على من هو أشد منه؟ رجلٌ كلمه رجلٌ فكظم غيظه، فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه) فهذا الرجل لما استفزه رجل بكلمة فأغضبه صار حليماً، فأمسك زمام نفسه فكظم غيظه، فغلب الرجل الآخر بحلمه وغلب شيطانه هو حتى لا يدفعه إلى عمل شيءٍ ما من الرد، وغلب شيطان صاحبه، فهو قد تغلب على نفسه وعلى شيطانه وعلى صحابه وعلى شيطان صاحبه، قال الحافظ ابن حجر: رواه البزار بسندٍ حسن.
وهذا أصله في الحديث الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (ليس الشديد بالصرعة -يعني: إذا صارع غلب- إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وبهذا لو قلنا: أيهما أصعب: أن يغلب الرجل الرجل في المصارعة أو أن يتغلب على غضبه؟ لا شك أن التغلب على الغضب أصعب من التغلب على الرجال في المصارعة.
وفي رواية أخرى في حديث حسنٍ قال عليه الصلاة والسلام: (الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه، ويحمر وجهه، ويقشعر شعره، فيصرع غضبه) حديث حسن.
إذاً: هذا الانفعال الذي له آثار على النفس، ويحدث منه احمرار الوجه واقشعرار الشعر، هذا إذا كان صاحبه يستطيع أن يغلبه ويكبته فهو الشديد حقاً.
ثالثاً: ومن العلاجات: التذكر وقبول النصيحة والرجوع إلى النفس، جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً استأذن على عمر رضي الله عنه فأذن له، فقال له: يا بن الخطاب والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر رضي الله عنه حتى هم أن يوقع به، فقال الحر بن قيس وكان من أصحاب عمر: يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وإن هذا لمن الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل.
فإذاً التذكر وقبول النصيحة والرجوع إلى النفس، عندما يتذكر الإنسان قول الله عز وجل: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37]، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] إن التذكر والرجوع إلى الكتاب يورث في النفس دافعاً لكتمان الغضب وعدم الانقياد وراء التصرفات الهوجاء التي يدفع إليها الغضب.
رابعاً: ومن العلاجات أيضاً: تذكر الآخرة وما فيها، ولا شك أن تذكر اليوم الآخر بالنسبة للمؤمنين يعني شيئاً كثيراً، كما أنه بالنسبة للفساق لا يعني شيئاً على الإطلاق، بالنسبة للمؤمنين تذكر اليوم الآخر يعني أشياء كثيرة من التحميس للطاعات، والامتناع عن المعاصي، وضبط النفس.
أحد الملوك أو الخلفاء صعد على المنبر يوماً وقال: من أحق منا بهذا الأمر فيظهر لنا قرنه، فكان ابن عمر موجوداً قال: [فكدت أن أقول له: الذي أولى منك بهذا الأمر هو الذي ضربك وأباك على الإسلام] لأن هذا الخليفة كان كافراً ثم أسلم وكان أبوه كافراً ثم أسلم، لكني تذكرت الآخرة، قال ابن عمر: لكني تذكرت الآخرة، فكتم غيظه ولم يرد، والإنسان يستفز بأشياء والشيطان يقول له: رد ويدفعه للرد، لكن الذي يكظم غيظه ويكون الرد غير مناسب شرعاً ما الذي يضبطه ويصرفه عن الرد؟ تذكر الآخرة.
خامساً: وكذلك من علاجات الغضب: معرفة الجزاء لمن يكتم غضبه ويكظم غيظه، فقد قال صلى الله عليه وسلم لرجل: (لا تغضب ولك الجنة) وهذا فيه بيان أن منع الغضب يورث صاحبه الجنة، وأن أجر منع الغضب دخول الجنة، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة) وكذلك في حديث آخر حسن: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء) فهل إذا تأمل الإنسان الأجر في كظم الغيظ وكتم الغضب في لحظة الغضب تذكر هذا الحديث، وماذا سيحصل؟ (من كتم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء) فليتأمل الإنسان هل لو أنه انتصر لنفسه الآن ورد، وعافس الناس بالكلام، وربما كان بليغاً فأسكت الشخص الآخر الذي استفزه ورد عليه وأفحمه، هل يكون أجره أكبر أم لو احتفظ بهذا إلى الدار الآخرة لكي يخيره الله من الحور العين يزوجه منها ما شاء، وحتى يملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة؟ فلا شك أن العاقل سيقول: أحتفظ لنفسي بهذا الموقف إلى الدار الآخرة، ولو أن هذا الشخص استفزني ومن المصلحة أن أرد عليه لرددت عليه، لو أنه من أعداء الإسلام أو رجل يثير الشبهات لأسكته نصرة لدين الإسلام، ورفعاً للراية، لكن كثيراً من الشباب والناس في مجالسهم تحدث بينهم مناقشات ومخاصمات كلامية وجدل عقيم، وكلٌ منهم يريد إثبات صواب نفسه وخطأ الآخر، لا لشيء، لا لنصرة لمسألة علمية ولا لقضية في الدعوة إلى الله وإنما (أنت أخطأت لا.
أنا ما أخطأت لا.
أنت الخطأ منك) وهذه القضية إذاً صارت انتصاراً للنفس فليتأمل العبد إذاً بدلاً من ضياع الأوقات، وازدياد الحمق والغيظ عليه في نفس أخيه، واستهلاك كلٍ منهما لجهد الآخر؛ ليتأمل الأجر الموجود في الدار الآخرة، دعاء الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء، إنه لأجرٌ عظيم، أجرٌ كبيرٌ جداً يدفع كثيراً من الناس وبالذات الشباب في مجالسهم إلى تجنب الخصومة والمراء والجدل، ومحاولة إفحام أخاه المسلم وإثبات خطأ الآخر والانتصار لنفسه وتبرئتها وهكذا من الأشياء التي لا يترتب على الدفاع فيها شأن يذكر.
سادساً: ومن علاجات الغضب: تبين مساوئه، ومعرفة ماذا ينتج عن الغضب من الأضرار.
ينتج عن الغضب أضرارٌ كبيرة جداً سواء كانت على النفس أو على الآخرين.
فمما يحدث على الآخرين إليك هذا المثل العجيب من صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى: عن علقمة بن وائل أن أباه رضي الله عنه حدثه قال: (إني لقاعدٌ مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسبة -حبل مبتور علقه في رقبة غريمه وجاء يجره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! هذا قتل أخي، فقال رسول الله عليه وسلم للمجرور: أقتلته؟ فقال صاحب الدم: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة، فقال الرجل المتهم الذي في رقبته الحبل: نعم قتلته، قال: كيف قتلته؟ قال: كنت أنا وهو نختبط -يعني: نضرب الشجر ليسقط ورقها فنأخذه علفاً للدواب- من شجرة، فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه -أداة حادة قاتلة على جانب رأسه- فقتلته) فنتج الغضب عن أي شيء؟ نتج عن قتله لأخيه المسلم، فقال له صلى الله عليه وسلم: (هل لك من شيء تؤديه عن نفسك؟ - أي: لو شفعنا لك فهل عندك دية تؤديها؟ - قال: مالي إلا كسائي وفأسي، قال: فترى قومك يشترونك؟ قال: أنا أهون على قومي من ذاك، فقال عليه الصلاة والسلام: دونك صاحبك -خذه يا ولي الدم، يعني قصاص القتل- فانطلق به الرجل، فلما تولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قتله فهو مثله، فرجع فقال: يا رسول الله! إنه بلغني أنك قلت: إن قتله فهو مثله وأخذته بأمرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تريد أن تبوء بإثمك وإثم صاحبك؟) أي: أما تكتفي أن عليه إثم القتل وإثمك أنت لأنه فجعك بقتل أخيك فصار عليه إثمان (قال: يا نبي الله بلى، قال: فإن ذاك كذاك، قال: فرمى بنسعته وخلَّى سبيله).
فسبحان الله! كيف(223/6)
ما يجوز وما لا يجوز من الغضب
هل المطلوب من الإنسان المسلم ألا يغضب أبداً ولا في أي حالة من الحالات؟ طرحنا هذا السؤال في بداية عرض هذا الموضوع، وإليكم هذا
الجواب
الإمام البخاري رحمه الله تعالى عقد بابين متتاليين في كتاب الأدب من صحيحه قال في الباب الأول: باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى، وقال في الباب الذي يليه: باب الحذر من الغضب، فتبين إذاً أن هناك غضباً محموداً شرعاً وهو ما إذا انتهكت محارم الله، فهو لأجل دين الله عز وجل، الغضب إذا أريد على أمر من الدين، كان عليه الصلاة والسلام إذا غضب احمرت وجنتاه، فقد كان عليه الصلاة والسلام يغضب، توضح عائشة رضي الله عنها هذا الغضب وأين يكون موقعه، فتقول في حديث مسلم: (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها) من أجل الله يغضب، من أجل النفس لا، فتبين الآن متى يكون الغضب مذموماً ومتى يكون محموداً؟ يكون مذموماً إذا كان انتصاراً لأجل النفس، ويكون محموداً: إذا كان انتصاراً لله عز وجل، وهذا الغضب من أجل الله غضب محمود، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30] ومن تعظيم حرمات الله أنك لا ترضى بالمنكر، وتغضب لو انتهكت حرمات الله أمامك، وقد قال رجلٌ مرة: (إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلانٍ مما يطيل بنا، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذٍ، فقال: يا أيها الناس! إن منكم منفرين، فأيكم أم بالناس فليتجوز، فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة) متفق عليه.
وهذا حدث آخر في مناسبة أخرى: لما رأى عليه الصلاة والسلام ستراً فيه صور من ذوات الأرواح في بيت عائشة هتكه وتلون وجهه وقال: (يا عائشة! أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله).
ولما كلمه أسامة في شأن المرأة المخزومية التي سرقت لكي لا تقطع، قال: (أتشفع في حدٍ من حدود الله تعالى، ثم قام فاختطب ثم قال: إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) غضب جداً عليه الصلاة والسلام لما جاء يشفع في حدٍ من حدود الله.
ولما رأى النخامة في قبلة المسجد حكها وشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه صلى الله عليه وسلم.
وعن زيد بن خالد الجهني: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن اللقطة؟ فقال: اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، ثم استمتع بها، فإن جاء ربها فادفعها إليه، فسأله عن ضالة الغنم؟ قال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب، قال: فضالة الإبل؟ فغضب صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه فقال: مالك ولها، معها سقاءها وحذاءها ترد الماء وترعى الشجر فذرها حتى يلقاها ربها) يعني: صاحبها، فغضب فعنون عليه البخاري رحمه الله: باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره.
وروى أيضاً حديث أبي موسى قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها -مثل: متى الساعة؟ ونحو ذلك- فلما أكثر عليه غضب ثم قال للناس: سلوني ما شئتم -إلى آخر الحديث- فلما رأى عمر ما في وجهه عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله! إنا نتوب إلى الله عز وجل).
هذا حاله عليه الصلاة والسلام فكيف حال أصحابه؟ أخرج ابن أبي شيبة بسندٍ حسن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: [لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منحرفين ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيءٍ من دينه دارت حماليق عينيه] وفي رواية للبخاري في الأدب المفرد: [فإذا أريد أحدهم على شيءٍ من أمر الله دارت حماليق عينيه كأنه مجنون] قال الألباني: وهذا سند حسن، هذا يدل على أن الصحابة إذا أريد أحدهم على أمرٍ من دين الله، وانتهاك حرمات الله، فإن أحدهم لا يرضى بالباطل أبداً.
فلا بد أيضاً من الغضب، لكن الغضب لمن؟ الغضب لله عز وجل، هذه الغضبة المحمودة التي أخرجت خلفاء وأمراء جيوش إلى قتال الأعداء بسبب كلمة يستغيث بها مسلم بإخوانه، فيخرج الجيش والخليفة والمسلمون للقتال غضبةً لله تعالى، ودفاعاً عن دينه، وحمية ونصرة لهذا الدين.(223/7)
استخدام التصبر والتحلم لمعالجة الانفعالات
ومن الأمور المهمة في معالجة الانفعالات: التصبر والتحلم، والصبر هو الخلق الذي يكاد يكون اعتماد ضبط الانفعالات عليه، ومدار تهذيب النفس وتقييد الانفعالات على الصبر.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيناً من الأنبياء صلوات الله عليهم ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) هذا هو الخلق العام الذي ينبغي أن نؤسسه في أنفسنا لضبط الانفعالات، الصبر والتحلم.
الصبر بالتصبر والحلم بالتحلم، والرسول عليه الصلاة والسلام لقي ما لقي حين خرج يعرض نفسه على ابن عبد ياليل هذا الذي رفض أن يجير رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصره، فانطلق عليه الصلاة والسلام هائماً على وجهه من المصيبة والضعف والشدة حتى لقي ملك الجبال قال: (إن الله أرسلني إليك إذا أردت أن أطبق عليهم الأخشبين قال: لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله).
والرسول عليه الصلاة والسلام يضرب لنا المثل الأعلى في الصبر والحلم، الإنسان إذا استفز بأي تصرف فيه حق لنفسه يمكن أن يتنازل ويتغاضى، أما في حق الله فلا يمكن أن يتنازل ويتغاضى، إذا كان حقاً لنفسه يتنازل به لأخيه المسلم، ولا يتنازل لكافر ليذل نفسه، لمسلم ولو لجهلة المسلمين فيحلم على جاهلهم ويصفح عن مسيئهم، لو قطعوا رحمه وصلها، انظر إلى هذا المثل في حلمه عليه الصلاة السلام.
في الحديث المعروف عن أنس رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌ فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم -بين العتق والكتف العاتق- وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة الجذب) أعرابي جلف يجيء ويسحب البرد ويشده حتى احمرت صفحة عاتقه من شدة الجذبة (ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك).
يالله! هذه جلافة الأعراب (يا محمد!) انظر لم يقل: يا رسول الله! يا نبي الله! بل قال: (يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك) ما هو رأيك في موقف مثل هذا؟ واحد يأتي من ورائك ويشدك حتى يجرح جسمك ثم يقول: يا فلان! (فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم فضحك ثم أمر له بعطاء) المقصود الآن استمالت قلب الأعرابي، والنتيجة تأليف قلبه، هذه النتيجة التي يريد عليه الصلاة والسلام الوصول إليها، (فضحك ثم أمر له بعطاء) متفق عليه.
ولذلك ينبغي علينا أن ندرس شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن في شخصيته الكثير من جوانب العظمة عليه الصلاة والسلام، فلا يمكن استيعابها، ولا يمكن من عظمته صلى الله عليه وسلم أن نحيط بها إحاطة تامة، ولكن يجب علينا أن نسعى ونجهد من أجل ذلك ما استطعنا لأجل الارتقاء بالنفس ومزيدٍ من التربية.
وهكذا سار خلفاؤه صلى الله عليه وسلم في حلمهم على المسيء وصفحهم.
وهذا عمر بن عبد العزيز دخل المسجد ليلة في الظلمة فمر برجلٍ نائم فعثر به، فرفع النائم رأسه قال: أمجنونٌ أنت؟ يقول للخليفة عمر بن عبد العزيز: أمجنون أنت؟ فقال عمر: لا، فهم به الحرس، فقال عمر: مه؛ إنما سألني أمجنون أنت؟ فقلت: لا.(223/8)
موقف المسلم أمام العاصفة الإلحادية
وبعد عرض هذا المثل وهو الغضب، وما هو الخلق المهم وهو خلق الحلم والصبر في مجابهة الانفعالات، نأتي الآن إلى الجزء الثاني من هذا الدرس وهو: ما هو موقف المسلم من الأحداث التي تعصف بالمسلمين اليوم، والتي فيها عددٌ كبير وهائلٌ جداً من الاستفزازات التي تكاد تخرج الفرد المسلم عن صوابه، ويطيش به عقله، ويذهب في عددٍ من الأودية والمهاوي؟! وماذا نريد من المسلم: هل نريد منه أن يكون رجلاً بارداً لا يتحرك فيه انفعالٌ أبداً ولا يثور في نفسه شيءٌ مطلقاً تجاه ما يحدث من قضايا العالم الإسلامي اليوم؟!(223/9)
الحكمة الحقيقية في التعامل مع الأحداث
إن المسلمين يعانون في العالم أفراداً وجماعات من الاضطهاد والتعذيب، وقضايا الفقر، وهيمنة الأعداء والتسلط، وأنواع الظلم وسلب الحقوق، إنهم يعانون من الظلمة الذين يسوسونهم بغير شرع الله، وتعم مدنهم وبلدانهم المنكرات، ويراد منهم بالقوة أن ينحرفوا عن شرع الله، وكلما رفع بعضهم رأسه جاءت ضربة لتذهب بهذه الرءوس المرفوعة، مما يجعل المسلمين يعيشون في أجواء من الإحباط والانهيار النفسي، وبعضهم قد يكون من النوع الانفعالي العصبي الغضبي، فيثور ويغضب ويحدث من ذلك نتائج لا تحمد عقباها، فما هو موقف المسلم حيال ذلك؟ هل المطلوب تجاه كثرة المنكرات الشائعة، وتوالي حدوث الأحداث التي يدبرها المنافقون والعلمانيون في العالم الإسلامي وغيرهم من أذناب الكفار هو برودٌ تام، وعدم إحساس، ولا تفاعلٍ؛ أم أن المطلوب ثورة وهيجان ضد هذا الظلم؟! إن هذه القضية هي التي تشغل بال الحريصين والمتفقهين في الدين من المصلحين المخلصين في العالم الإسلامي اليوم، وإن هذه القضية هي لب المشكلة التي نعيش فيها، إن فهمها يُسهّل معرفة الموقف الصحيح من المشكلات التي يواجهها المسلمون اليوم.
وإن من الخطأ الكبير أن نقول للمسلمين ولشباب المسلمين بالذات الذين هم إلى الحركة والنشاط أقرب: هونوا على أنفسكم ولا تأبهوا لما يدور حولكم، وإن الله سينصر الدين فلا تكترثوا.
كلا والله.
إن هذا الكلام هو من اللهو والباطل، وإنه ليس من الصحيح أن تستقبل متحمساً ينقل إليك منكراً من المنكرات، أو يشكو إليك ظلماً من هذه المظالم الكثيرة التي تقع في المسلمين صباح مساء فتقول له: هون على نفسك واجلس في بيتك ولا تتدخل في أي شأن من الشئون، وإنما يكون من المناسب أن يؤخذ بيده فيقال له: تعال ننظر في الوسيلة المناسبة لمواجهة هذا المنكر، ثم تفكر معه في الوسيلة المناسبة لمواجهة هذا المنكر الذي يحدث.
لأنك عندما تقول: هون على نفسك ولا تشتغل بشيء، فإما أن يدفعه ذلك إلى الإحباط وهذا أمر لا نريده، أو يدفعه ذلك إلى التمرد والانصراف عنك والسخرية من حكمتك التي جاءت في غير محلها، مما يدفعه إلى التفكير في قضية من قضايا العنف أو استخدام القوة المذمومة في غير محلها فتكون أنت السبب الذي أديت به إلى تلك الحال.
ونحن اليوم على أعتاب مرحلة جديدة ونتطلع لفجرٍ قادمٍ بإذن الله، وإن هذه الظلمة التي ادلهمت واشتدت وإن كثرة المنكرات التي حصلت والتي تستفز نفوس المؤمنين فعلاً لا بد من معرفة الموقف المناسب حيالها، وقد بينا أنه لا بد أن ننفعل، وأن الذي لا ينفعل إنسان بارد لا نريده، وإن الذي لا يتحرك ضميره ولا قلبه مع مشكلات المسلمين وما يحل بهم مع الأوضاع المتردية هو إنسان لا يعيش هَمَّ الإسلام، ولا يصلح أن يحمل همَّ الإسلام وهو بهذا القلب البارد وهذه النفس الميتة، لكن ما هو الموقف اليوم وأنت ترى كلا الاحتمالين الخطيرين: الإصابة بالإحباط والقعود، أو التدهور في مهاوي العنف واستخدام القوة المرذولة غير محمودة العواقب.
كيف يصل شباب الإسلام إلى الحل الوسط أو الوسطية في مواجهة هذه الأمور؟ كيف يضبطون انفعالاتهم التي تحدث في أنفسهم من وراء تكرر المنكرات وكثرة حصولها وانتشارها، وكلما انتهت قصة ظهرت قصة جديدة، وكلما قام حدث لا يلبث أن يحدث حدث آخر، وهكذا تتوالى الأخبار من أنحاء العالم الإسلامي في عددٍ من حالات الأذى والاضطهاد التي يلاقيها المسلمون من منعٍ وقمعٍ وحيالةٍ بينهم وبين القيام بشرع الله عز وجل، فما هي الطريقة يا ترى وما هو الحل لأجل ذلك؟(223/10)
الطريقة النبوية في رد الانفعالات إلى الوسطية
أيها الإخوة! إن هذا هو ما نريد أن نلقي عليه الضوء في بقية الحديث في هذه الليلة.
إن المفتاح لمعرفة الجواب عن هذه الأمور يكمن في: أولاً: معرفة المرحلة التي نمر بها، والتقويم الصحيح لهذا الوضع الذي نعيش فيه، هل نحن في مكانٍ أو في مرحلة لا نستطيع فيها قول الشهادة على الإطلاق؟ أو أننا في وقتٍ فيه عزة للإسلام تستطيع فيه أن تغير ما شئت من المنكرات كيف شئت؟ الصواب: لا هذا ولا ذاك، وإننا نعيش اليوم مرحلة من مراحل الاستضعاف ولا شك، وإن الهيمنة للكفرة ولا شك، ولكننا نوقن بأن الله ناصرٌ دينه، ومعزٌ أولياءه، ومظهرٌ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فعلينا إذاً لضبط انفعالاتنا في مواجهة هذه الانحرافات والمنكرات وهذا الطغيان والظلم أن نعود بأذهاننا إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف كان حاله وحال أصحابه عندما كانوا في وضعٍ يشابه الوضع الذي نعيش فيه الآن، من جهة غربة الدين ووقوع الظلم عليهم؛ كما هو واقع على كثير من المسلمين اليوم، ماذا كان يفعل صلى الله عليه وسلم عندما كان يظلم وهو بـ مكة؟ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ يصلي عند الكعبة وجمعٌ من قريشٌ في مجالسهم إذ قال قائلٌ منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، الآن الرسول عليه الصلاة والسلام في أسوء الحالات، وضعوا على ظهره سلى الجزور وهو ساجد عند الكعبة وهو رسول الله وأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم، ثم أخذوا يتضاحكون حتى كاد بعضهم يسقط من الضحك، ماذا يمكن للإنسان أن يفعل في هذه الحالة؟ لا بد أن نسائل أنفسنا ونقوم الموقف ماذا يمكن للإنسان أن يفعل في هذه الحالة؟ هل يأخذ أقرب سيف ويتجه إلى أقرب مشرك ويضرب رأسه بالسيف؟! لم يكن المسلمون الذين شاهدوا الحادثة بعاجزين أن يتجه واحدٌ منهم إلى أقرب مشرك ويضربه بالسيف، أو يقطع رقبة الذي وضع سلى الجزور على ظهر الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنهم لم يفعلوا ذلك، فانطلق منطلقٌ إلى فاطمة وهو جويرية صغيرة فأقبلت تسعى وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً حتى ألقته عنه وأقبلت عليهم تسبهم، إذاً الإنكار كان من فاطمة الصغيرة بالقول هذا الذي تستطيعه، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: اللهم عليك بقريش، فأنكرت عليهم فاطمة ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا كل ما حصل، تحمل الأذى صلى الله عليه وسلم.
قال له أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ ما قال: اسكت يا كذا، الوضع لا يسمح بذلك، جاء في بعض الأحاديث: أن أصحاب بيعة العقبة الثانية رأوا أنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه في مكة، فتحمسوا وأخذتهم الحمية قالوا: (إن أردت أن نغير على أهل منىً غداً، قال عليه الصلاة والسلام: إنا لم نؤمر بذلك) وهذا الحديث فيه كلام، وهو من رواية ابن إسحاق عن معبد بن كعب عن أخيه عبد الله بن كعب بن مالك، لكن فيه معنىً مفيد ومهم للوضع الذي تعايشه الدعوة اليوم، تحمل عليه الصلاة والسلام الأذى لما كان مستضعفاً، وحتى لما صار في المدينة وهي القاعدة ما دام أن الرد ليس في مصلحة الإسلام لم يرد، كم مرةٍ آذاه عبد الله بن سلول؟ وكم بلغ شر هذا الرجل؟ أوقع بين فئتين من المسلمين حتى اقتتلوا، وقذف عائشة حتى انتشر خبر الإفك في المدينة، وأوذي عليه الصلاة والسلام في ذاته، ماذا فعل عندما انخذل في أحد؛ ربما انخذل بعددٍ كبير من الجيش، فعل طامات كبيرة لكن ما كانت المصلحة في قتله، لو قتلوه لقال الناس: إن محمداً يقتل أصحابه، فصار ذلك سداً ومانعاً من الدخول في الدين بالنسبة للناس البعداء الذين لا يعرفون حقائق الأمور وإنما يظهر لهم أن عبد الله بن أبي رجل من المسلمين ثم يقتله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) لما كانت الأفضلية في عدم قتل الرجل ما قتله عليه الصلاة والسلام مع أن الرجل كان له شرٌ كبير مستطير.
المسلمون في مكة اضطهدوا اضطهاداً شديداً، أخذهم المشركون وألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس، لا شك أنه كان يمكن اغتيال بعض الكفار في مكة لكن ما هي الفائدة؟ كانوا يضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي نزل به، فكيف واجه عليه الصلاة والسلام هذه القضية مع أصحابه؟ بثلاثة أشياء: 1 - كان يذكرهم بالأجر الذي ينتظرهم ويقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).
2 - كان يقص عليهم من أنباء ما قد سبق ما هو مشابه لمرحلتهم وظروفهم التي يعيشون فيها، فكان يقول لهم: (إن الرجل كان فيمن كان قبلكم يؤتى وينشر بالمنشار الحديد ما بين اللحم والعظم ما يصده ذلك عن دينه) وقصة أصحاب الأخدود من أروع الأمثلة الدالة على هذا المبدأ.
3 - كان يذكرهم أن المستقبل للإسلام ويقول: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه).(223/11)
المستقبل لهذا الدين
نحن اليوم في أشد الاحتياج إلى هذه الأمور التي يتربى عليها أبناء الإسلام.
عدم الرد إذا لم يكن الرد من مصلحة أهل الإسلام، وتصبير النفس بالثواب والعقبى في الآخرة، وأخذ العبرة من أنباء ما قد سبق وعلى رأسهم رسول الله صلى عليه وسلم في مكة هو وأصحابه، وأن نتيقن أن المستقبل للإسلام.
لأن الإسلام في طريق العودة إلى حياة المسلمين رغم جميع الضربات، الإسلام الآن في تقدم مستمر على جميع الأصعدة، وبعد انتهاء حرب الشرق والغرب انتقل مجال الصراع إلى التحدي بين الشمال والجنوب، أي بين الكفار والمسلمين، وصحيح أن المسلمين لا يملكون سلاحاً للمواجهة والتحدي يحصل به نوعٌ من الموازنة بين القوى، ولكن ماذا يملك المسلمون من الأشياء التي تستثير الكفار فعلاً؟ يملك المسلمون منهجاً حضارياً ينافسون به الكفار، هذا المنهج يعلن تقدمه باستمرار ويتأكد فشل المنهج الغربي يوماً بعد يوم، إن هذا الذي يقلق الكفار فعلاً؛ لأن النظام الحضاري لما درسه المستشرقون وقدموه لأسيادهم، وجدوا أن النظام الحضاري الإسلامي يفوق غيره بكثيرٍ جداً، وهذا ما سيقنع العالم بعد فترة من الزمن، أولئك الناس يخططون ويعرفون أن حضارتهم أنتجت الجنون والأمراض العصبية والنفسية والانتحار والمجاعات، والربا ازداد ازدياداً بحيث فقر الفقير جداً، واغتنى الغني غناءً فاحشاً، وعرفوا بأنه سبب هذه الأمراض التي تفتك بالملايين منهم، يقول لك: الآن موجود في تلك البلد مليون ونصف مصابون بالإيدز، الآن في عام [2000] سيصل العدد إلى كذا، ربما إلى أربعين مليون مصاب بالإيدز، وبعد كذا سنة سيموت هؤلاء؛ لأن هذه الدراسات التي يعملونها تؤكد أنه يمكن أن تنهار حضارتهم بالمرض فقط من غير حرب، ولا يحتاج إلى شيء يمكن أن تنهار بالمرض فقط والله عز وجل على كل شيء قدير.
فهم يعلمون أن عند المسلمين نظاماً حضارياً هائلاً وقوياً جداً، ويعلمون أن حضارة الإسلام أفضل من حضارتهم، وأن هذا العلم بالدنيا الذي اكتشفوه جعل لهم ميزة من التفوق لن يصمد طويلاً وأنه سينهار، فنحن اليوم بأمس الحاجة إلى أن نعرف أن المستقبل للإسلام كعلاج نهدئ به أنفسنا في موازنة الانفعالات التي تحدث، وتمنعنا ونحن نسير على يقين بأن المستقبل لنا بإذن الله، المستقبل للإسلام بلا شك؛ لأن هناك عدداً من البشائر الموجودة في القرآن والسنة تؤكد هذا المعنى وهذا المفهوم، هذا الأمر الذي ينبغي أن يتيقنه المسلم حتى اليائس ماذا يفعل؟ اليائس الذي يعلم أنه غارق وأنه لا مستقبل له يخبط يميناً وشمالاً، يائس لا مستقبل له، لكن ليس هذا وضع المسلمين، لو كنا نعلم أنه لا مستقبل للإسلام وأنه إلى زوال، لكن نحن نعلم يقيناً أن المستقبل للإسلام وأن الله ناصر دينه، وأن هذه فترة مرحلية ستنتهي بالتأكيد، وأن تساقط الحضارات والمجتمعات الكبيرة جداً فيها دلالة قاطعة على بقاء الإسلام، فهناك أفكار بدأت وانتهت وصارت نسياً منسياً، ونظريات زالت وبقي الإسلام موجوداً في الواقع، رغم المحاولات الكثيرة والحملات المتعددة إلا أن الإسلام بقيت جذوره موجودة، ماذا يعني هذا؟ بل إنه في ازدياد كما تدل عليه الحوادث الجارية الآن، والمسلمون في ازدياد وتقدم من الوعي وغيره عدداً وكماً وكيفاً، فمعنى ذلك: أنه لا حاجة إلى أن نخبط خبط عشواء ونحن نعلم أن المستقبل لنا، إذا كنا نحن جيل الصحوة فأولادنا جيل النصر إن شاء الله، ولن نيئس وربما نرى النصر في حياتنا فما يدرينا.
فإذاً نقول: أن تعلم أن المستقبل للإسلام هذا مهم في ضبط الانفعالات، لأن الذي يعلم أن المقتول مقتول والزائل زائل فلنخلد ذكراه ولو باللعنات، لكن الذي يعلم بأن المستقبل له فعلام يسير بشكل أهوج ويخبط بدون حساب؟! هذا لا يمكن أن يكون.(223/12)
الوسائل الشرعية في إنكار المنكر وضبط الانفعالات
أولاً: أن نعرف سيرته عليه الصلاة والسلام كيف انضبط هو والصحابة رضوان الله عليهم في مكة في مرحلة الاستضعاف، ما استعملوا القوة مطلقاً في مواجهة ما واجهوه، وإنما صبر عليه الصلاة والسلام هو ومن معه، و (صبراً آل ياسر) ويصبر ويذكرهم بالجنة ويعطيهم أنباء ما قد سبق، ويبشرهم أن المستقبل للإسلام، هذا ما كان يحدث، إذاً هذا الذي كان يحدث عملياً في مكة.
ثانياً: إذا كان استعمال العنف واستخدام اليد ليس من مصلحة الإسلام فلا يجوز الإقدام عليه في أي حالٍ من الأحوال، خصوصاً ونحن نعلم أن القاعدة الشرعية: أن إنكار المنكر بطريقة تؤدي إلى منكر أكبر منه لا تجوز، وبالتالي فقد يقول قائل: فما هو الموقف إذاً حيال المنكر؟ وكيف يتصرف المسلم؟ فنقول: لا بد أن يكون للمسلم موقف، ومن الخطأ ألا يكون له موقف، ولذلك جاءت مراتب الإنكار بالمنكر، ومن أجل ذلك نقول: إن الإنكار باللسان لو استطاع عليه المسلم لا يجوز أن يتركه، لا بد أن يقوم لله ببيان الحق والحجة والصدع بالدين وبيان الحكم، لا بد أن يبلغ الدعوة ويعلم الناس، ولا بد أن يقول لهذا المنكر إنه منكر، ولو أدى ذلك إلى قتله فلا بأس، فإنه عليه الصلاة والسلام قد قال: (أفضل الجهاد كلمة حقٍ عند سلطان جائر) فينبغي أن يقول كلمة الحق، وهذه ليس فيها محذور، كاستخدام العنف واليد والتغيير بالقوة؛ لأن التغيير باللسان قصاراه أن يموت صاحبه ويذهب شهيداً، ولا يمكن ممالأة الناس عليه ولا استخدام الحادثة في استعداء الجمهور على هذا المسلم، لأنهم يعلمون أنه قد ذهب شهيد كلمة الحق، وأنه لم يستعمل شيئاً من الأشياء التي ينفر عنها الناس من استخدام القوة المتنوعة ولكنه استخدم كلمته ولسانه في قول الحق.
أما استخدام اليد والعنف فيسهل إقناع الغوغاء بأنه باطل واستعداء الناس على صاحبه، ولا شك أن الصحوة الآن نبتة لم يشتد عودها بالدرجة الكافية بعد، وأنها لا تتحمل أحداث عنفٍ جديدة، وإن التجارب الحالية والماضية قد أثبتت الحاجة إلى الاستمرار في الدعوة والتربية والاقتصار على إنكار المنكر باللسان إن استطاع صاحبه، أو اليد إذا لم يترتب عليه منكر كما ينكر رب الأسرة المنكر في بيته باليد لكسر آلة لهوٍ ونحوها، أو أي صاحب سلطانٍ في سلطانه يستطيع أن يزيل المنكر بيده دون أن يترتب عليه منكرٌ أكبر منه.
أما هذا الفقه فإنه فقه دقيقٌ جداً، وليت شعري متى يصل شباب الصحوة اليوم إلى الوضع الذي يفرقون فيه بين الصدع بالحق، وصيحة النذير العريان، وإعلان النصيحة، وإقامة الحجة، وتبليغ الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وبين إظهار التحدي، وفرد العضلات، وتصعيد الموقف، واستخدام القوة في غير موضعها والتهور في ذلك.
لو أن شباب المسلمين فقهوا الفرق بين القضيتين وعرفوا بأن المناصحة والإنكار باللسان بالحكمة والموعظة الحسنة هو الدور المناسب المطلوب في هذه المرحلة، وأن استخدام العنف لا يجدي شيئاً، بل يجدي بالضرر لعلموا ماذا يصنعون وفي أي اتجاهٍ يتحركون.
ولذلك فإن من الحكمة التي تقتضيها طبيعة هذه المرحلة عدم التصعيد والابتعاد عنه بكل سبيل.
ثالثاً: من الوسائل المهمة لضبط انفعالاتنا في هذه المرحلة: توجيه الطاقات إلى المجالات الأقل حساسية والأكثر فائدة للإسلام، مثل الدعوة والتربية كما قلنا، فإن الإسلام يحتاج اليوم لكسب عناصر جديدة إلى هذا الدين، يحتاج إلى مزيدٍ من الانتشار في الأرض، ولتعلم أيها المسلم أن كل بقعة يدخل فيها الإسلام ويذهب إليها نور الحق إنما هي عبارة عن عمقٍ مهمٍ واستراتيجيٍ للإسلام، وإن صدى صوت الحق يتردد في تلك الأعماق الضاربة في أقصى الأرض التي وصل إليها الإسلام، وأن هذا سيكون مفيداً في نصرة الإسلام إن شاء الله، فكلما انتشر الإسلام، وتعمقت جذوره في الأرض، وازداد أتباعه كسب طاقات جديدة، وازداد هؤلاء الأفراد معرفة بمعنى التربية التي ينشئون عليها؛ فإن هذه القاعدة ستكون هي التي يقام عليها البناء الإسلامي الشامل في المستقبل إن شاء الله.
رابعاً: من وسائل ضبط الانفعالات: استشارة الحكماء من أهل العلم والبصيرة والفقه في الأحوال قبل الإقدام على أي خطوة، وإن بعض الناس يظن أنه يحيط بالواقع وأنه قد درس الأمر دراسةً جيدة، لكنه ربما لا يعلم حديثه عليه الصلاة والسلام: (البركة في الجماعة) وإنه لا بد أن يتعلم فائدة قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159].
وخامساً: إننا نحتاج إلى الصبر، وحبس النفس عما يمكن أن يؤدي إلى المهلكة، وإلى شيء لا يكون فيه فائدة للإسلام والمسلمين بل ربما ضر.
سادساً: لا بد أن نفهم التحكم في انفعالاتنا عند الإقدام على أي خطوة: هل المسلمون على مستوى المواجهة وفتح جبهاتٍ جديدة أم لا؟ لا شك بأن الأمر يحتاج إلى مزيدٍ من الصبر، وما دام الإسلام في الانتشار فلم العجلة؟ وما دمنا نرى الآن أن هذه الصحوة تعم وتشمل وتدخل بيوتاً ويخرج الله بها أقواماً من الضلالة إلى الهداية، ومن الظلمات إلى النور، فنحن إذاً نرى أثر الدعوة إلى الله واضحاً، ونرى أثر التربية في قيام أناسٍ من أهل العلم والفقه في الأحوال، ما دمنا نرى أن التربية ولدت لنا كل هذه العناصر، فلماذا اللجوء إلى حلول أخرى لا يكون فيها فائدةً كما نرى من التجارب المتلاحقة الموجودة؟ فاسأل نفسك: ما المصلحة في الإقدام على أي أمرٍ من هذه الأمور؟ فإذا قالت لك نفسك: إن فيه نجاحاً ففكر: هل هو نجاحٌ جزئي أم هو نجاحٌ شامل؟ هل سيترتب عليه مصلحة للإسلام أكبر، أم المفسدة ستكون فيه أكبر؟ قد يخطر لبعضهم أن يتخلص من بعض الأشرار، فنقول: إن الأشرار كثر، فإن ذهب بعضهم جاء البعض الآخر.
سابعاً: فكر ما هي المضرة وما هي المفسدة التي ستنتج عن ذلك؟ ولتعلم يا أخي المسلم أن قطع الطريق على الأعداء في توظيف أحداث العنف لتشويه سمعة الدعاة عند الناس هو مخطط معروف، وإن من أُمنيات أعداء الإسلام أن يخرج المسلمون عن اتزانهم، وأن يسهل استغضابهم واستثارتهم ليقوموا بما لا تحمد عقباه، وإنه ينبغي علينا أن نتأسى بسيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حبس النفس في المواقف الحرجة، إن النفس تميل أحياناً إلى العجلة وإلى التخلص من أي شيء فيه عداء للإسلام.(223/13)
أثر عدم استخدام السلاح حال الضعف
لكن تعال معي ننظر في هذه الحادثة: روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، عن يزيد التيمي قال: (كنا عند حذيفة فقال له رجل: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت، قال له حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، في ليلة ذات ريحٍ شديدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا رجلٌ يأتيني بخبر القوم يكون معي يوم القيامة، فلم يجبه منهم أحد، ثم الثانية ثم الثالثة مثله، ثم قال: يا حذيفة! قم فائتنا بخبر القوم، فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم، فقال: ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم عليَّ، قال: فمضيت، كأنما أمشي في حمام -مع أن الجو كان بارداً جداً- حتى أتيتهم، فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار -وكان أبو سفيان مشركاً وهو قائد المشركين- لكي يتدفأ فوضعت سهماً في كبد قوسي وأردت أن أرميه ثم ذكرت -وهذه ثمرة التربية- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تذعرهم عليَّ، قال حذيفة: ولو رميته لأصبته فرجعت كأنما أمشي في حمام) الآن ربما المشركون يتهيئون للرحيل والريح شديدة، لكن لو قتل زعيمهم، ربما تقوم لهم حمية فيذعرون وتحدث أشياء أخرى، وأنت إذا تأملت واقع المسلمين في مكة لعلمت بأن الحكمة كانت دائماً معهم في عدم استخدام القوة في المواجهة وليس هناك تكافؤ.
عمر رضي الله عنه لما قيل إنه قاتل المشركين في مكة، ولكن ما قاتلهم بالسلاح بل قاتلهم بيديه، فلم يزل يقاتلهم منذ غدوة حتى صارت الشمس حيال رأسه، قال: ورعي وقعد، فدخل عليه رجل؛ قيل: إن هذا الرجل هو العاص بن وائل السهمي دافع عن عمر ورد عنه القوم، قال عمر يومئذٍ: [يا أعداء الله! والله لو قد بلغنا ثلاثمائة لقد أخرجناكم منها] حديثٌ حسن، وصرح فيه ابن إسحاق بالتحديث.
فإذاً، هذا تقدير الموقف الذي أشرنا إليه كان أيضاً مع المسلمين دائماً في مخيلتهم لا يمكن أن ينسوه.
هذا الإسلام مسئولية وأمانة، ولا بد من نشره بالطريقة الصحيحة، ولا بد من استغلال الفرص لنشر هذا الدين، وهذه الأمانة تأبى وترفض من المسلم أن يتصرف فيها بأي شكلٍ كان لا يعود بالنفع على الإسلام، وفي كل مجتمعٍ متهورون، وهؤلاء طبقة نعلم أنه لا يمكن القضاء عليها مطلقاً، لكن يمكن التخفيف من شرهم بإسداء النصح لهم ومناقشتهم.
وقد يقول قائل: إن في بعض هذه الأعمال جوانب إيجابية؟ نقول: نعم، قد يكون ذلك فعلاً، فقد يكون في بعضها إرهابٌ للأعداء، أو ذهاب الشهداء إلى الله تعالى، لكن يبقى الخطأ خطأ، وإن كان فيه بعض الجوانب الإيجابية، فإن المفسدة إذا كانت أكبر من المصلحة غلبت المفسدة.
إذا أخطأ المخطئون فقلَّ من يخطئ في شيء فيه مفسدة مائة في المائة، لا بد من مصلحة ومفسدة، مصلحة من وجه ومفسدة من وجه، لكن المشكلة التي تحدث في تقدير هل المفسدة أكبر أو المصلحة؟ ولذلك قلنا: لا بد من مشاورة أهل العلم والحكمة والفضل ورجاحة العقل والبصيرة في هذا الأمر.
ولا بد أن نعود ونذكر أيها الإخوة بأن المستقبل لهذا الدين، وأن الله سبحانه وتعالى متمٌ نوره ولو كره الكافرون، وأن الله سيظهر هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون.
اللهم أعزنا بالإسلام وأعز الإسلام بنا يا رب العالمين، اللهم اجعل نصرة الدين على أيدينا، اللهم اجعل بلاد المسلمين آمنة مطمئنة بالإسلام، واجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً بهذا الدين، اللهم من أراد للدين خيراً فوفقه إليه وكن يا مولانا عوناً له عليه، ومن أراد بدينك شراً فاردد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين.
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وهذه الأمانة أمانة الدين في أعناقكم، فاحملوه وادعوا إليه وقوموا بتربية أنفسكم على منهجه، وإياكم وسبل الشيطان الرجيم، واضبطوا أنفسكم بضوابط الحكمة في هذا الدين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(223/14)
محرمات استهان بها الناس [1]
إن الله سبحانه وتعالى ما حرم علينا الحرام وأحل لنا الحلال إلا رحمة بنا، وشفقة علينا، ولكن أبى قوم إلا أن يستحلوا حرمات الله، ويتهاونوا فيها، ويتساهلوا في ارتكابها مع علمهم بتحريمها، وقد تكلم الشيخ في هذه المادة عن بعض المعاصي سواء كانت من الكبائر أو الصغائر التي استهان بها كثير من الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله!(224/1)
أنواع الذنوب والمعاصي وخطرها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون! لقد أوجب الله على عباده طاعته، وحرم عليهم معصيته، وكان ذنب إبليس لعنه الله أنه عصى ربه معصية عظيمة، كان سببها الكبر، إذ قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] فلعنه الله وأعطاه بحكمته المهلة إلى قيام الساعة؛ فتعهد إبليس بإضلال البشر وإغوائهم، بشتى أنواع الإغواء وتعهد بإيقاعهم في حبائل المعصية، كبيرها وصغيرها.
والذنوب تنقسم إلى قسمين: كبائر وصغائر دل عليها قول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] وهي صغائر الذنوب.
والمشكلة في هذا الزمان -أيها الإخوة- أن الناس عدوا أموراً من الكبائر ظنوها من الصغائر، وثانياً: أنهم استهانوا بأمور من الصغائر استهانة ألحقتها بالكبائر.
وقد اختلف أهل العلم في الكبائر ما هي؟ هل هي محدودة بحد أو بعد؟ فمنهم من قال: إنها محدودة بعدٍ فعدها بسبعين، وبعضهم أوصلها إلى تسعين، وظن بعض الناس أن بعض الكتب المؤلفة في الكبائر هي التي تحصر الكبائر فقط، وأنه لا يوجد كبائر غيرها، وبعض أهل العلم قال: إنها ليست محدودة بعدٍّ ولكن الحد فيها: هو كل معصية ورد فيها لعن، أو غضب، أو طرد من رحمة الله عز وجل، أو نفي الإيمان عن صاحبها (والله لا يؤمن) مثلاً، أو وعيد بالنار، أو بنوع من العذاب في الدنيا أو في الآخرة، في الدنيا مثل إقامة الحدود ونحوها، ولعل هذا التعريف جامع لأنواع كثيرة من الكبائر.
والأمر الثاني أيها الإخوة: وهو أن بعض الناس قد استصغروا أشياء من الكبائر، أو أنهم قد احتقروا صغائر الذنوب التي يعملونها، خلافاً لاعتقاد الصحابة رضوان الله عليهم كما وقع في حديث أنس عند البخاري رحمه الله: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر -ترونها تافهة جداً- كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات) وكما وقع لـ ابن مسعود رضي الله عنه في معنى قوله: [إن المؤمن يرى ذنوبه كجبل يوشك أن يقع عليه، وإن المنافق يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا، فطار] وهذا معنى أن الناس اليوم يحتقرون الذنوب، وقد يقترن بالذنب الصغير، فبالتهاون به واحتقاره وتكراره والإصرار عليه ما يجعله كبيرة من الكبائر، وهذا معنى قول علمائنا: لا صغيرة مع الإصرار -فإنها مع الإصرار تصبح كبيرة- ولا كبيرة مع الاستغفار، إذ إن التوبة تمحو الذنوب.(224/2)
الرشوة
وإليكم أيها الإخوة طائفة من الذنوب المذكورة في القرآن والسنة التي استهان بها كثير من الناس حتى أصبحت عندهم لا شيء، أو أنهم يعتقدون أنها ليست بذنوب أصلاً، وتأمل العذاب المقترن بها في الآية أو الحديث لتعلم منزلة هذه المعصية عند الله عز وجل، فمثلاً: يقول الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188] هذه الآية نص في تحريم الرشوة التي يدفعها الراشي إلى الحاكم كالقاضي، أو الموظف والمسئول في أمر من الأمور؛ فيحكم له بالحق مع أنه على الباطل، أو يحكم على خصمه بالباطل مع أن خصمه على الحق، هذا المال الذي يدفع إلى هذا الحاكم الذي يفصل بين الأمور هو الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم دافعه وآخذه: (لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم) حديث صحيح.
وتأمل ما فعلت الرشوة اليوم في أحوال الناس، من تضييع الحقوق، وتفويت الحق على أهله، ومن أخذ كثير من الناس لأمور ليست من حقهم، وإنما هي بأموال توصلوا بها إلى إبطال الحق وإحقاق الباطل، وهذا لعمر الله من الأمور التي تهدم المجتمعات، إذ إنها من الظلم الذي لا يرضاه الله، وإن سماها كثير من الناس بأسماء يوهمون بها أنفسهم وغيرهم أنها ليست رشوة، وهي عين الرشوة، كما يسميها بعضهم بالحلاوة ونحوها، قاتلهم الله!(224/3)
الفرح بالمعصية وحب الحمد بغير فعل
ومنها كذلك: الفرح بالمعصية، وحب الحمد بغير فعل، كما قال الله عن أهل ذلك: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188] وتأمل حال كثير من العصاة اليوم الذين يباهون بالمعاصي التي ارتكبوها ويتبجحون بها في المجالس، ويرون الناس صورهم حال ملابستهم للفسق والمعصية، ويتباهون بذلك ويقولون: سافرنا وعملنا، وفعلنا وارتكبنا، دون حياء من الله ولا خلقه: (يصبح أحدهم وقد ستره ربه، وهو يكشف ستر الله عليه) هؤلاء الذين يفرحون بالمعصية، وفي الوقت ذاته أيضاً يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فترى أحدهم يحب أن تنسب إليه الأعمال العظيمة التي ليس له فيها مغرز إبرة، وليس له فيها جهد ولا عمل ويحب أن يقال عنه: إنه هو الذي فعلها وهو الذي ابتدأها، فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب، والذين ينتحلون أعمال الآخرين، ليوهموا الناس أنهم هم الذين فعلوها، هذا من الظلم والتزوير، وهو واقع ومنتشر في المجتمع ولا حول ولا قوة إلا بالله!(224/4)
قتل المرء نفسه
وكذلك ينظر بعض الناس إلى المنتحر على أنه مسكين، ويعذرونه بأعذار شتى، ويظنون بأنه لا ذنب له، وأن المجتمع هو الذي جنى عليه.
قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [النساء:29 - 30]، قال صلى الله عليه وسلم: (من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا) وتأمل الأخبار التي تسمعها عن الناس اليوم ممن قتلوا أنفسهم بالسلاح بأنواعه أو بأخذ جرعات زائدة كبيرة من الدواء، أو من يقتلون أنفسهم بالمخدرات وهؤلاء كثر، والمخدرات سم لمن يعرفها ويعرف شأنها، وكل الناس يعلمون ذلك، والذي ألقى بنفسه من شرفة العمارة أو سطحها ونحوه فقتل نفسه، هؤلاء الذين ظنوا بأنهم قد نجوا من العذاب، إنهم قد رموا بأنفسهم في عذاب الجحيم.
ينبغي -أيها الإخوة- أن نعلم الناس الصبر على أقدار الله، وأن نشيع في أنفسهم أجواء الأمل برحمة الله، وعدم اليأس والقنوط من رحمته عز وجل، وضعف الإيمان هو الذي يؤدي في لحظات اليأس القاتل إلى أخذه لتلك السموم وإلى قتل نفسه؛ فهو يتردى في جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا.
كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل به جراحٌ فقتل نفسه فقال الله: (عبدي ابتدرني بنفسه فحرمت عليه الجنة) وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم رجل به جرحٌ، فجزع، فأخذ سكيناً فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، فقال الله: بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة).(224/5)
تغيير خلق الله
ومن الأمور الشائعة أيضاً بين الخلق: تغيير خلق الله عز وجل، تغيير الخلقة التي خلق الله الناس عليها، وهذا هو عين ما توعد به إبليس فيما قال الله تعالى عنه: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [النساء:119 - 120] وتغيير خلق الله في هذا الزمان قد زاد وأربى وصار متفشياً عظيماً، فمن ذلك: وصل الشعر بأن يضاف فيه ما ليس منه، كما لعن صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة، بل إن المرأة لما جاءته فقالت: (إن ابنتي أصابتها الحصبة فامَّرق شعرها، وإني زوجتها أفأصل فيه؟ قال صلى الله عليه وسلم: لعن الله الواصلة والموصولة) وجاءت المرأة قالت: (يا رسول الله! إن لي بنتاً عروساً، وإنها تشكت فتحرق شعرها -وفي رواية: فتمعط شعرها- فهل علي جناح إن وصلت لها فيه؟ فقال: لعن الله الواصلة والمستوصلة) ومن ذلك الوشم الذي لعن صلى الله عليه وسلم من فعله: (لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة) وكان بعض الجاهلية يعتقدون أنه يدفع العين، فيضعون هذه الرسومات تحت الجلد بهذه المواد التي يحقنونها فيها حتى يصبح الوشم علامة لا تزول، هذا الوشم لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله وأخبر أنه تغييرٌ لخلق الله عز وجل.
وأنت أيها الأخ الكريم تسمع بين حين وآخر بالعمليات التي يسمونها عمليات التجميل، من تصغير الأنف، أو الثدي ونحو ذلك، هؤلاء ملعونون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل طبيب يجري عملية فيها تغيير لخلق الله فهو ملعون على لسانه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك برد الأسنان والأخذ منها وتفليجها بالمبرد ونحوه، لعن صلى الله عليه وسلم المتفلجات للحسن، فإجراء العمليات التي يقصدون منها التجميل والتحسين زيادة أو نقصاناً على ما خلقهم الله عليه، إنهم ملعونون على لسانه صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل في ذلك عمليات تقويم الأسنان فإنها ليست تفليجاً ولا برداً ولا إزالة، ولا يدخل في ذلك العمليات الناتجة عن إزالة التشويه، كالأصبع الزائد، أو الحروق فإنها ليست داخلة، وإنما المقصود خلقة خلقها الله عليه لم يحدث فيها تشويه يذهب هو ويعمل العمليات ليحسنها فهو ملعون على لسانه صلى الله عليه وسلم، وانظر ماذا فعلت عمليات التلاعب بالجينات الوراثية في خلق الله؟ وأنتم تقرءون على صفحات المجلات والجرائد العشرات من هذه الأحوال، إنه فعل إبليس: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119].(224/6)
الجلوس في المجالس التي يُكْفَر فيها ويُستهزأ فيها بالدين وأهله
ومن الأمور التي تساهل الناس فيها: الجلوس في المجالس التي يُكْفَر فيها ويستهزأ فيها بآيات الله: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً * وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:138 - 140] كم من المسلمين اليوم يجلسون مع أناس يستهزئون بدين الله، ويلمزون شرع الله، أو عباد الله الصالحين، لا لشيء إلا لأنهم تمسكوا بدين الله، أو يعترضون على حكم الله وشريعته، ويقرون في مجالسهم غير شرع الله عز وجل، ويعتبرون أن الدين رجعية، وأن الشرعية تخلف، وأنها لا تناسب هذا الزمان، وأنه يجب الأخذ من قوانين الشرق والغرب، إلى غير ذلك من الأمور، ويلك! ثم ويلك! ثم ويلك! إن جلست معهم وهم يخوضون في هذا الحديث، بل يجب عليك أن تنكر وتفارق حالاً قبل أن ينزل عليك السخط.(224/7)
اتباع الأئمة المحللين للحرام والمحرمين الحلال
ومن الأمور أيضاً: اتباع بعض الناس للأئمة المضلين في تحليل الحرام وتحريم الحلال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] تأخير الأشهر الحرم، أهل الجاهلية كانوا يؤخرونها، بحسب أهوائهم إذا أرادوا القتال في وقت معين فصادف شهراً حراماً أجلوا الشهر الحرام إلى غير وقت من أوقات السنة: {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة:37] وأنت تسمع اليوم ممن ينادون بتحليل الحرام كالربا ونحوه، ويعطون الفتاوى الرخيصة يكتبونها بأيديهم: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:79] وينشرونها بين الناس ويقولون للناس خداعاً وتضليلاً وتمويهاً: نحن نتحمل المسئولية أمام الله، تباً لهم على هذا الصنيع، وويل لهم يوم القيامة مما كسبت أيديهم، وسيتحملون مسئوليتهم عند الله، وسيجزون بجهنم قعرها سبعون عاماً لا تدرك، وويل للذين يتابعونهم ويقولون: أفتى واحد، هذه حجة، ففيها فتوى، وقد صدر فيها شيء، وحللها بعض العلماء، ويل لهم يلعبون بشريعة الله ويخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، ويظنون أن الله سينجيهم يوم القيامة لأنهم الآن اتبعوا بعض الأئمة المضلين.(224/8)
محبة إشاعة الفاحشة بين المؤمنين
وكذلك الذين يحبون إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، ونشر الفساد في الأرض، وتخريب الأخلاق والعلاقات الأسرية والزوجية بهذه الإباحية التي تنشر في جميع الوسائل ويل لهم، هؤلاء الذين قال الله في شأنهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
وبعض الناس مع الأسف ببغاوات يرددون ومكبرات يضخمون أقوال أعداء الإسلام، وينقلون الفساد إلى بيوتهم، وإلى أنفسهم تقليداً لغيرهم، أو علماً بما ينطوي عليه ذلك الأمر من الخطورة، ويساهمون في نشر الفساد، ويل لهم عند الله عز وجل.(224/9)
شراء لهو الحديث للإضلال عن سبيل الله
وقل مثل ذلك فيمن يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بأنواع الأغاني الفاحشة، والموسيقى الصاخبة أو غير الصاخبة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليكونن أقوام من أمتي يستحلون -يعني: هي حرام وهم يستحلونها- الحر -يعني الفرج كناية عن الزنا- والحرير -للرجال- والخمر والمعازف) فنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريمها، والناس اليوم يستمعون إليها صباحاً ومساءً، ومع وجبات الطعام، وأثناء العمل والمذاكرة، غير آبهين بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي جاءت وصحت في أن هؤلاء الناس سيمسخهم الله في ليلة، يمسون فيصبحون على غير الخلقة التي خلقهم الله عليها، سيحدث ذلك في يوم من الأيام.(224/10)
إيذاء المؤمنين والمؤمنات
ومن أمثلة هذه المعاصي التي استخف بها الناس: إيذاء المؤمنين والمؤمنات، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58] بأنواع الأذى، اللمز، الهمز، السخرية، السعي بالشكاية والنكاية، وتدبير المؤامرات وحبكها للإيقاع بعباد الله الصالحين، ويل لهم ثم ويل لهم، وأنت تنظر اليوم في أبسط الأشياء وهي قضية المعاكسات الهاتفية المعاكسات الهاتفية ماذا تعتبر في شرع الله؟ {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:58] فهو إيذاء فعلاً: {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} [الأحزاب:58] بلا ذنب، بلا جريرة: {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58] تأمل في أحوال الطائشين اليوم بكل سهولة يرفع السماعة ويتصل بالرقم عدة مرات، وأحياناً في آخر الليل يزعج المسلمين، ويريد أن يكلم حريمهم، هذا ماذا يعتبر وماذا يكون؟(224/11)
التطفيف في المكيال والميزان
ومن هذه الذنوب أيضاً: التطفيف في المكيال والميزان: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين:1 - 2] إن كان له يأخذ: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} [المطففين:3] وباعوا هم: {يُخْسِرُونَ} [المطففين:3] يخسرون في الميزان، ويطففون فيه، ويدخل في ذلك أيها الإخوة جميع أنواع الغش التجاري، ابتداءً من الكتابة على الصندوق محتويات ليست بداخله، أو مواصفات لا تنطبق على ما بداخله، أو غش الأشياء وشوبها بالماء مثلاً، أو بنشارة الخشب وبيعها على أنها خشب خالص إلى آخر ذلك من الأمور، أو بيع البضائع المقلدة على أنها أصلية وهي في مواصفاتها تختلف عن الأصلية والمشتري يظن أنها أصلية، وما يفعله بعض التجار أو المقاولين في الغش في أثناء أعمالهم إنهم داخلون ولا شك تحت قول الله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] ويل تهديد ووعيد.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا وإياكم هذه الفواحش والآثام، وأن يرزقنا وإياكم الابتعاد عن هذه الكبائر والذنوب، ونسأله أن يسلمنا ويسلمكم من سائر أنواع الفحش والمعاصي.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(224/12)
التطفيف في الصلاة
الحمد لله الذي لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي جاء بالإنقاذ من الضلال، وهدانا لما اختلف فيه من الحق، وعرفنا شريعة ربنا صلى الله عليه وسلم، هدانا هداية الدلالة والإرشاد، وأمرنا بأن نتمسك بما أمر الله به لا نحيد عنه ونهانا عن معصية ربنا عز وجل لسائر أنواع المعاصي والآثام.
ومن أعظم أنواع التطفيف أيها الإخوة التطفيف في الصلاة، [رأى حذيفة رضي الله عنه رجلاً يصلي فطفف في صلاته -أنقص في الركوع والسجود والقراءة، وأسرع إسراعاً مخلاً بالصلاة- فقال له حذيفة: مذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال: منذ أربعين سنة، قال: ما صليت منذ أربعين سنة -كل الصلوات الماضية باطلة- ولو مت وأنت تصلي هذه الصلاة مت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن الرجل ليخفف ويتم ويحسن] رواه النسائي، وهو حديث صحيح، وأصله عند البخاري رحمه الله.
وأنت ترى حال المصلين اليوم من نقر الصلاة والإسراع فيها إسراعاً مخلاً، حتى إنك تعجز في بعض الأحيان عن قراءة الفاتحة، أو قول سبحان ربي العظيم ولو مرة واحدة وراء بعض الأئمة، وكذلك انظر إليهم حين ينفردون بالصلاة في السنة مثلاً بعد صلاة الجماعة إلى أحوالهم في تطفيف هذه الصلاة، كيف تكون مقبولة عند رب العالمين؟! ولو قال قائل: إنني فعلت هذا في الماضي وأنا أجهل فهل علي الإعادة؟ نقول: كلا، لأنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الرجل يطفف في صلاته، أمره بإعادة هذه الصلاة في الوقت، ولم يأمره بإعادة الصلوات الماضية، وإنما الواجب التوبة، والإكثار من صلوات النوافل، وإكمال وتحسين الصلوات القادمة.(224/13)
ترك الشارب بدون قص
ومن الأمور كذلك التي يتساهل فيها الناس ويقولون: هي مظهر، ونقول: قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يأخذ من شاربه فليس منا) تأمل هذا الحديث، مع أنه شيء في المظهر لكن قال: (ليس منا) ما معنى: (يأخذ من شاربه)؟ يعني: يقص ما طال عن الشفة العليا، الذي ينزل ويتدلى من الشارب عن الشفة يجب قصه حتى تظهر حدود الشفة العليا: (من لم يأخذ من شاربه فليس منا).(224/14)
حلق اللحى وعدم إعفائها
وكذلك المسألة التي يزعم بعض الناس أنها من القشور، وليس لها تأثير، وهي إعفاء اللحى، كم كلمة وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ (أعفوا اللحى)، (وفروا اللحى)، (أرخوا اللحى)، (أرجوا اللحى)، (خالفوا المشركين)، (خالفوا المجوس)، (من رغب عن سنتي فليس مني)، (ملة أبيكم إبراهيم)، (سنن الفطرة خمس) أحاديث كثيرة جداً، والناس عنها غافلون.
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: يا معشر الأنصار! حمروا أو صفروا) يعني: غيروا الشيب لكن ليس باللون الأسود، وهذا منكر يقع فيه كثير من الناس، فيظهرون بما لم يعطوا، ويوهمون الناس بسن غير سنهم الحقيقية، يصبغون الشيب بالسواد وهو حرام، وإنما غيروا الشيب بأي لون من الألوان الأخرى، وخالفوا أهل الكتاب، قال: (فقلنا: يا رسول الله! إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون، فقال صلى الله عليه وسلم: تسرولوا وائتزروا وخالفوا أهل الكتاب -البسوا السروايل والإزار وخالفوا أهل الكتاب- قال: فقلنا يا رسول الله! إن أهل الكتاب يتخففون ولا ينتعلون -يلبسون الخف ولا يلبسون النعال- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فتخففوا وانتعلوا وخالفوا أهل الكتاب، قال: فقلنا: يا رسول الله! إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم -لحاهم- ويوفرون سبالهم -الشارب- فقال صلى الله عليه وسلم: قصوا سبالكم، ووفروا عثانينهم -اللحى- وخالفوا أهل الكتاب) حديث حسن.(224/15)
طلب المرأة الطلاق من زوجها بدون بأس
وكذلك من المعاصي المنتشرة: طلب الخلع بغير عذر، وطلب الطلاق من غير بأس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أيما امرأة اختلعت من زوجها من غير بأس لم ترح رائحة الجنة)، وفي رواية: (أيما امرأة سألت زوجها طلاقاً من غير بأس -من غير حاجة ملجئة لهذا الطلب- حرام عليها رائحة الجنة)، وفي رواية صحيحة: (إن المختلعات هن المنافقات) التي تطلب الخلع دون حاجة إليه.(224/16)
سرور بعض الناس بالقيام له
ومن هذه المنكرات التي تساهل فيها الناس: سرور بعضهم عندما يقوم الناس له، وطلب ذلك منهم ولو بلسان الحال دون لسان المقال، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) حديث صحيح.
وورد أيضاً في الحديث الصحيح: أن معاوية خرج على ابن عامر وعلي بن الزبير، فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير، فقال معاوية لـ ابن عامر: (اجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحب أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) وعند الترمذي: (من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) وبعض الناس اليوم لو لم تقم له يغضب ويحقد، ويأخذ في نفسه ويحمل عليك، ويبغضك وأنت تطبق السنة في عدم القيام، اللهم إلا القيام للحاجة كفتح الباب، أو استقبال قادم من سفر ومعانقته، أو توسيع المكان له، ونحو ذلك، أما الكبر الذي انطوى عليه صدور كثير من الناس وهو أنهم يغضبون إذا لم يقم لهم، فليتأملوا هذا الحديث: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار).
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم كره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم كره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.(224/17)
محرمات استهان بها الناس [2]
تكلم الشيخ في هذه المادة عن بقية المحرمات التي تهاون فيها كثير من الناس وظنوها من الصغائر التي لا يأثم عليها العبد، أو قد يتجاوز عنها، وهذا لا يجوز، فإنه مع الإصرار تكون الصغيرة كبيرة من الكبائر ولا حول ولا قوة إلا بالله.(225/1)
من المحرمات تعليق التمائم والرقى الشركية
إن الحمد لله، نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
تكلمنا منذ أسبوعين أيها الإخوة عن بعض المنكرات التي يتهاون بها الناس، مع ورود الوعيد الشديد في الشرع عليها، وعلى مرتكبها من النار أو الغضب، أو التوعد بسلب الإيمان أو بالوقوع في الكفر ونحو ذلك، ونحن نتم الكلام إن شاء الله في هذه الخطبة عن بقية مما يتعلق بهذا الموضوع.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك، قالت زوجته له: لم تقول هذا؟ والله لقد كانت عيني تقذف وكنت أختلف إلى فلان اليهودي -رجل معروف بأنه يرقي ويصنع التمائم- فيرقيني، فإذا رقاني سكنت عيني وسكن الألم، فقال عبد الله رضي الله عنه: إنما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده فإذا رقاها كف عنها) هذا الشيطان يتعاون مع ذلك اليهودي: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] ويتعاونون على الإثم والعدوان.
هؤلاء منهم هذا الرجل اليهودي كان إذا بدأ يقرأ نخس الشيطان بيده على مكان الألم، فيحس المريض بأن الألم قد زال وأنه قد سكن، فيعتقد بأن رقية هذا اليهودي مفيدة وأن لها أثراً، ثم يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أذهب البأس رب الناس، اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقما -لا يترك مرضا-) رواه أبو داود وهو حديث صحيح، وهذا ما يفسر لنا عندما نقول لبعض الناس: يا أيها الناس! لا تذهبوا إلى الدجالين.
يا أيها الناس! لا تذهبوا إلى المشعوذين.
يا أيها الناس! لا تذهبوا إلى العرافين والكهان؛ فنسمع بعض هؤلاء يقولون: لقد ذهبنا واستفدنا، فنقول: لو أنك استفدت فإن ذلك من صنيع الشيطان، ثم ما هي الفائدة وأنت تقع في الشرك لكي تحصل على فائدة دنيوية؟ وأين هذا من هذا؟ ولذلك: لا يجوز التوصل إلى أي منفعة مهما كانت إذا كانت الوسيلة الشرك بالله: (والله لم يجعل شفاء الأمة فيما حرم عليها) كما ورد في الحديث الصحيح، لذلك تكون هذه خداعات من الشياطين، وأوهاماً في كثير من الأحيان، وفي الأغلب فإنهم لا يستفيدون شيئاً عند الذهاب إلى العرافين والكهنة سوى الوقوع في الشرك، وخسارة الأموال، ويردون على أعقابهم.
لم يرجعوا إلا بخف من خفي حنين.
ولذلك فإن استخدام الرقى الشركية التي فيها استغاثة بالجن والشياطين، والتي فيها خزعبلات وأرقام وحروف وكلمات وطلاسم مجهولة، لا تجوز بأي حال من الأحوال، لا يجوز الذهاب إلى من يصنعها، ولا يجوز تعلقيها، بل قال أهل العلم: الأرجح منع التعليق حتى لو كان آيات من القرآن، لا يجوز التعليق، لأسباب منها: أنه يتعلق من يعلقها بها دون الله عز وجل، فيظن أن هذا المعلق في صدره هو الذي يشفي وهو الذي يمنع العين والأمراض دون الله عز وجل.
وثانياً: أنها تفضي إلى تعليق غيرها، وعندما ترى الناس يعلقون في صدورهم وأعناقهم، وعلى عضد واحد منهم أو في يده شيئاً من هذا، فما يدريك أن بداخل تلك اللفائف والأوراق أشياء من الشرك والطلاسم وعمل الشيطان.
فسداً للذريعة المنع من ذلك.
وثالثاً: أن هذا ليس بعلاج محسوس أبداً، فما هو العلاقة بين التعليق وبين علاج المرض؟! أما لو قلت: إنني أقرأ وأنفث فإن هذا النفس الخارج بالقرآن له تأثير فعلاً، ولذلك كانت القراءة والنفث من الطب النبوي الذي لا شك فيه، قارن بينه وبين أفعال الدجالين، اقرأ على نفسك، اجمع يديك وانفث فيهما بعد القراءة وامسح بهما على جسدك قبل النوم وغيره كما كان عليه الصلاة والسلام يفعل، وافعل مع ولدك المريض.
نعم، هذا علاج مشروع تؤجر عليه.
وكذلك فإنه عندما يدخل المعلق الخلاء فإن فيه إهانة لما يعلقه في صدره من الآيات والأحاديث والأذكار على فرض أنها شرعية، ولو تتبعنا ما في ذلك من المنكرات لكان طويلاً، ويكفي أن نختم بأن صاحب هذا التعليق داخلاً تحت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له) وأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن تعليق التمائم، ولم يخص القرآن من غير القرآن، نهى عن التعليق مطلقاً.(225/2)
من المحرمات إطلاق لفظ التحليل والتحريم على الأشياء
وكذلك من الأمور التي يتهاون بها الناس: إطلاق ألفاظ التحليل والتحريم على الأشياء، فيقولون: كما نهى الله، هذا حلال وهذا حرام، يصفون بألسنتهم هذا حلال وهذا حرام ويفترون على الله الكذب، وترى بعضهم يقول عن الشيء المعين: حلله الشيخ فلان أو حرمه الشيخ فلان، وأكبر عالم في الدنيا لا يحلل ولا يحرم، وغاية ما يفعل أنه ينقل للناس الحلال والحرام الذي حلله الله وحرمه الله في القرآن وفي السنة، إنه ينقل لك الحكم فقط بالأدلة إن كان من أهل الطريقة المستقيمة، ولكن لا يحلل من عند نفسه، فلا يجوز أن تقول: حللها الشيخ فلان وحرمها الشيخ فلان، ولا يجوز أن تقول من عندك هذا حلال وهذا حرام بلا علم، فإن الله قد عد ذلك كبيرة وحذر: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:169] وحرم ربي هذا الكلام.(225/3)
التأخر عن الصف الأول
ومن الأمور التي يتهاون بها الناس: التأخر عن الصف الأول؛ عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار) حديث صحيح، قارن بين هذا وبين تأخر الناس عن الصلوات، وإتيانهم متأخرين دون حاجة أو عذر شرعي، وقارن بينه كذلك وبين ما يفعله بعض الجهلة عندما يكون في طرفي الصف الأول نقص من ميمنته وميسرته فيبقون في منتصف الصف الثاني متكاسلين لا يتحركون لسد الفرجة؛ تكاسلاً عن المشي إلى ناحية الصف، ولو أنهم تفكروا في مقدار الأجر الذي يفوتهم دون الأجر الذي يلحقهم، الأجر الذي يفوتهم من المشي لسد تلك الفرجة، المشي فيه أجر، وسد الفرجة فيه أجر، والصلاة في الصف الأول فيها أجر، ثلاثة أنواع من الأجر تفوتهم بتكاسلهم وتهاونهم.(225/4)
إغضاب الإخوة في الله بغير حق
ومنها كذلك: إغضاب الإخوة في الله بغير حق؛ عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر في المدينة، فقالوا: (ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها -كان المفروض أن السيوف تأخذ مكانها في عنق عدو الله أبي سفيان وكان لم يسلم بعد- فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك -بكلمة قالها لإخوانه أتقولون هذا الكلام الشديد لسيد قريش- فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه! أغضبتكم؟ قالوا: لا، ثم قالوا: يغفر الله لك) أخرجه الإمام مسلم.
قارن بين هذا وبين ما يقع في أوساط الإخوة من اعتداء على حق الجماعة، أو أنه يقوم بأفعال وتصرفات تغضب من حوله، هذه حرمة من وسط الأخوة الإسلامية، له حرمة يجب أن تصان، وللإخوة في الله حق يجب أن يقام به، ومن أغضب إخوانه في الله بشيء فهو معرض لهذا الوعيد الوارد في الحديث.
فافقهوا ذلك يا دعاة الإسلام! يا من تحرصون على تكوين أجواء التربية الإسلامية لتعيشوا فيها وتنقلوا فيها وتنقلون الناس إليها! احذروا من مداخل الشيطان للتفرقة، ولإيقاع العداوة والبغضاء فيما بينكم.(225/5)
التحايل لأكل حقوق الناس بغير حق
ومن الأمور: التحايل لأكل حقوق الناس بغير حق؛ عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصمٍ بباب حجرته فخرج إليهم، فقال: (إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضهم يكون أبلغ من بعض) واحد من الخصمين يكون عنده قدرة في الجدال، ولسانه يكون أبلغ من صاحبه وهو الظالم، ولكن يقنعني بأنه الحق له، (فأحسب أنه صادق -لأن لي الظاهر، وأحكم بالظاهر والله يتولى السرائر- فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليحملها أو يذرها) وكذلك في الرواية الصحيحة الأخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أن بشر وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه -لأنه لسن ومجادل ويستطيع أن يثبت ولو على باطل- فإنما أقطع له قطعة من النار) أخرجه البخاري ومسلم.
قارن بين هذا وبين ما يتم اليوم من بعض الخصوم عند الحاكم؛ وهم يعلمون أنهم ظلمة من الكلام أمام القاضي بالباطل فيتكلم بلسانه، وإن من البيان لسحراً، فيبين ويتكلم، ويرفع صوته، ويقنع وهو على الباطل، وقد يكون خصمه (صاحب الحق) ضعيفاً ليس عنده مثل بيانه، ولا مكانته، فيخرج المظلوم مسكيناً؛ لأن القاضي يقضي بالظاهر إذا لم تتبين له الأدلة، وقارن بين هذا أيضاً وبين عمل كثير من المحامين المشتغلين في مجال المحاماة الذين لا يتقون الله ليس كلهم، ولكن كثيراً منهم لا يتقون الله، فيهمه أن يكسب القضية لموكله ويأخذ المبلغ والأتعاب، ولا يدري أو لا يبالي إن كان خصمه محقاً أم لا، فانظر في المنكرات الحاصلة من هذه المهنة على ضوء هذا الحديث.(225/6)
ترك الحج مع الاستطاعة
ومن الأمور كذلك: ترك الحج مع الاستطاعة، فإن كثيراً من الناس اليوم يستطيعون الحج لكنهم لا ينوونه ولا يعزمون عليه ولا يبادرون إليه، قال تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] ماذا قال بعد ذلك؟ {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97] فإذاً هو وعيد لمن استطاع الحج ولم يحج قال: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97] وقال صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) ولذلك قال أهل العلم على القول الراجح من أقوالهم: إن الحج واجب على الفور من استطاع وجب عليه أن يحج، ولا يجوز له أن يؤخر إلى السنة التي بعدها أو التي بعدها، فما يدريه لعله يموت، لعله يمرض، لعله تعرض له حاجة، لعله يحال بينه وبين الحج، فليبادر الآن إذا استطاع ولا يؤخر، وإلا فالآية حسبه وعيداً.(225/7)
الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب
ومن المنكرات الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة؛ عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة).
قارن بين هذا وبين ما يقع من الناس اليوم من الفخر بمآثرهم وبطولاتهم، أو بمآثر قبائلهم وعوائلهم يفخرون بها على الناس، وقد يكونون فحماً من فحم جهنم، أهون عند الله من الجعلان التي تدهده الأذى بفمها وبرجلها وبرأسها، يكونون أهون عند الله من أولئك، ولكن يفخرون ويقولون: نحن ونحن، وفعلنا وفعلنا، وأصلنا وحسبنا كذا، ولا يكتفون بل يطعنون بالأنساب، فيقولون: أنت ما لك أصل، أنت خضيري، أنت ليس لك منزلة، أنت حقير ومهين، ومن افتراءاتهم: أنت لست من ولد آدم، إن آدم تناسل منه فقط أهل القبائل، وغيرهم احتلم آدم على التراب فخلق الخضيريين منهم، وهذه من الفرى المضحكة إذ أننا نعلم أن البشر كلهم من ولد آدم، وهل كان آدم من قبيلة معروفة أو من غير قبيلة معروفة؟! وهل كان قبلياً أو خضيرياً كما يقولون؟! فكر وتدبر.(225/8)
إتيان النساء في أدبارهن
ومن المنكرات: إتيان النساء في أدبارهن؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ملعون من أتى امرأة في دبرها) أخرجه أبو داود، وهو حديث صحيح.
تأمل في قوله: (ملعون) لتعلم عظم الذنب، والمقصود إتيانها في الدبر، أما إتيانها في مكان الولد فيجوز بأي طريقة شئت من الأمام أو الوراء، متى كان الجماع في مكان الولد فجائز، أما إتيانها في الدبر في مكان خروج الغائط فهو ملعون صاحبه: (ملعون من أتى امرأة في دبرها).
وإنني أحذركم أيها الإخوة من هذه الأفلام الإباحية الداعرة المنتشرة بين كثير من الناس التي تروج لمثل هذه الشذوذات، إذ أن الله أجاز للمتزوج أن يطأ زوجته أو أمته في مكان الولد: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] كيف شئتم ما دام في مكان الولد.
هذه بعض تلك المنكرات التي لا يتورع كثير من الناس عن الوقوع فيها رغم الوعيد.
نسأل الله السلامة والعافية، وأن ينجينا وإياكم من هذه المهلكات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(225/9)
التصاوير التي تصور والرسوم
الحمد لله الذي لا إله إلا هو، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، بين للناس ما أنزل إليهم من ربهم، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى من تبعه بإحسان واستقام على سنته إلى يوم الدين.
أيها الإخوة! ومن الأمور التي تساهل فيها كثيرٌ من الخلق في هذا الزمن: هذه التصاوير التي يصورونها؛ عن عائشة رضي الله عنها أنها اشترت نمرقة -مخدة أو مرتفق- فيها تصاوير، صور ذات الأرواح على هذا القماش، فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية، فقالت: (يا رسول الله! أتوب إلى الله ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال هذه النمرقة؟ قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم) ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إن البيت الذي فيه صور لا تدخله الملائكة) ثم تعال وقل بعد ذلك: إن المقصود بها التماثيل، تماثيل على القماش، أم أنها صور ذوات الأرواح؟! وقال صلى الله عليه وسلم لها أيضاً: (أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، وأن من صنع هذه الصور يعذب يوم القيامة فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم) زاد في رواية أنها قالت: (فأخذته فجعلته مرفقتين، فكان يرتفق بهما في البيت) أزالت الوجه وقطعته وجعلته مرفقتين، تصرفت بالقماش، أزالت الصورة فصار صلى الله عليه وسلم يستعمله، حديث صحيح.
وجاء رجل إلى ابن عباس فقال: (إني رجل أصور هذه الصور فأفتني، فقال له: ادن مني، فدنا منه، ثم قال: ادن مني، فدنا منه، حتى وضع يده على رأسه وقال: أنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفساً فيعذبهم في جهنم) ثم قال له: (إن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له) ما دامت ليست من ذوات الأرواح افعل، وفي رواية عن النضر بن أنس قال: كنت جالساً عند ابن عباس، فجعل يفتي ولا يقول قال رسول الله، حتى سأله رجل فقال: إني أصور هذه الصور، فقال ابن عباس ادن، فدنا الرجل، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ، فربا الرجل ربوة شديدة، واصفر وجهه، فقال ابن عباس: ويحك! إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر) كل شيء ليس فيه روح إن أردت أن تصنع فاصنعه.
قارن بين هذا وبين الصور المعلقة اليوم في بيوت الناس، والتماثيل التي يزينون بها الرفوف في بيوتهم، ويشترونها بالأثمان الباهظة، يبذرون أموالهم في الحرام، ويكونون سبباً لعدم دخول الملائكة إلى بيوتهم، ويدخلون في هذا الوعيد الوارد في الأحاديث، وتأمل في حال بعض مدرسي التربية الفنية في المدارس الذين يأمرون التلاميذ والتلميذات برسم صور ذوات الأرواح، أو يقولون: هذه وسائل فنية فينحتون منها هذه التماثيل على شكل صور ذوات الأرواح، مالهم وهم يأمرون بإحيائها يوم القيامة، وإنما تباح الصور في حال الضرورة كالوثائق الرسمية، وتتبع المجرمين، ونحو ذلك من الحاجات التي تمس الضرورة وتدعو إليها في بعض الأحيان، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أشد الناس عذاباً عند الله المصورون) وقال في الحديث الصحيح: (لعن الله المصورين).
وكذلك من المنكرات التي يتساهل فيها بعضهم قوله عليه الصلاة والسلام: (من تحلم كلف أن يعقد بين شعيرتين) الذي كذب في المنام وذكرنا ذلك، ثم قال: (ومن استمع إلى حديث قوم يسرونه عنه صب في أذنيه الآنك يوم القيامة) الذي يتجسس على الناس بغير حق، ويسمع كلامهم وهم لا يريدون أن يصل إليهم، فإنه يصب في أذنيه الآنك؛ الرصاص الأسود المذاب في أذنيه يوم القيامة.(225/10)
الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة
ومن المنكرات التي يستهان بها: الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) وقال: (إن الذي يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم)، للكفار في الدنيا، وللمؤمنين في الجنة، فلا يجوز الأكل بها، سواءً كانت صحناً أو ملعقة أو شوكة أو سكيناً لا مطلياً بذهب ولا فضة، أو ما كان خالصاً -وهو أشد- من الذهب والفضة، ثم قارن بين ذلك وبين الأطقم النفيسة الثمن المذمومة عند الله التي يزينون بها خزانات بيوتهم، ولا يجوز الاحتفاظ بها للزينة سداً للذريعة، لأنه قد يستخدمها، ولو قال: أنا لا أستخدمها نقول: أخرجها من بيتك، لا تحفظ في البيوت ولا يؤكل بها، ولا يشرب بها، ثم بعد ذلك فكر وتدبر في لوحات المكتوبات على بعض المطاعم، مطعم الصحن الذهبي، ومطعم الملعقة الفضية لتعلم مدى تغلغل هذه الأمور في أفكار الناس، يتهاونون ويقولون: وما هو الفرق بين ملعقة الذهب وملعقة النحاس، أو ملعقة الألمنيوم ونحوها؟ نقول: الفرق هو الحديث، إن كنت مسلماً استسلم.
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم اجعلنا ممن يخافك ويتقيك، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.(225/11)
مظاهر نقص الاستقامة
حث الإسلام على الاستقامة في الدين وأخذ الإسلام كله، لكن واقع الناس مع الاستقامة عجيب جداً، فإن الناظر يجد التباين بين الظاهر والباطن ظاهراً، ولزيادة الإيضاح فقد ذكر الشيخ صوراً من مرض نقص الاستقامة إضافة إلى آثارها السلبية.(226/1)
فضل الاستقامة وتعريفها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: إخواني! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نسأل الله تعالى أن يجعل لقاءنا هذا لقاءً نافعاً، وأن يرزقنا وإياكم الإخلاص والاستقامة، فالله سبحانه وتعالى قد أوصانا بالاستقامة وأمرنا بها، فقال جل وعلا: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6]، ورسولنا صلى الله عليه وسلم قال لنا: (استقيموا ونعما إن استقمتم)، وقال: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن).
وقد أمر الله نبيه بالاستقامة، فقال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود:112]، وقال لموسى وهارون: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} [يونس:89]، ولما أراد رجلٌ من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصيه وصية لا يسأل بعدها أحداً غيره عن شيء، قال: (قل آمنت بالله ثم استقم)، وفي رواية قال لرجل: (استقم وليحسن خلقك)، وقد وعد الله أهل الاستقامة بالثواب العظيم، فقال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13] {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن:16] والله سبحانه قال: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:27 - 28].
أما الاستقامة فقد تنوعت ألفاظ السلف في تعريفها، فمنهم من قال: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله.
- ومنهم من قال: استقاموا على أداء الفرائض.
- ومنهم من قال: أخلصوا الدين والعمل.
- ومنهم من قال: استقاموا على طاعة الله.
- ومنهم من قال: لم يروغوا روغان الثعلب.
قال ابن رجب رحمه الله: "الاستقامة سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القيم من غير تعريجٍ عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك".
إذاً: نحن الآن أمام التعريف الجامع للاستقامة، وهو: فعل الطاعات وترك المنهيات؛ فعل الطاعات الظاهرة والباطنة وترك المنهيات الظاهرة والباطنة.(226/2)
واقع الاستقامة في حياة الناس
أيها الإخوة! عند النظر للواقع الذي نعيش فيه الآن، نرى أن أكثر الناس على غير دين الله، وأكثرهم يصدون عن سبيل الله، وفي وسط هذه الظلمات قامت الدعوة بدين الله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهي لا تزال في تقدمٍ وانتشارٍ ولله الحمد.
إن بوادر اليقظة الإسلامية التي تعم اليوم أرجاء العالم الإسلامي وحتى الأقليات الإسلامية في بلدان كثر هي أمر واقع، وإن ظهور علامات التدين على كثيرٍ من الأشخاص لا شك أنه نتيجة لهذه الصحوة وظهور هذه اليقظة هو أمرٌ من أمر الله سبحانه وتعالى.
ونحن مع فرحنا واستبشارنا بهذه النعمة الإلهية من ظهور أمر الدين وانتشاره؛ فإننا في نفس الوقت نحذر حذراً عظيماً مما يخالط هذه الصحوة، وهؤلاء الناس الذين تظهر عليهم بوادر الاستقامة ومظاهرها، الخشية العظيمة التي نخشاها على أنفسنا وعلى الآخرين من فشو الأمراض الباطنة ونقص الاستقامة الذي هو عيب أي عيب، فإن الكثير ضعف عندهم معيار الالتزام، وتقلص المفهوم الحقيقي للتمسك بهذا الدين، ولقد ظهرت علامات التدين على كثيرٍ من الأشخاص تأثراً بالجو العام، وإذعاناً لبعض الفتاوى، أو حماساً بعد سماع موعظة أو محاضرة، فهؤلاء الذين يغشون اليوم التجمعات الإسلامية من هم هؤلاء؟ ما هي صفاتهم؟ ما مقدار تمسكهم بهذا الدين؟ لا بد أن ننقد أنفسنا لنصحح الواقع، ولا بد أن نعلم مواطئ أقدامنا ومواقعنا حتى ننظر هل نحن على الصراط المستقيم أم أنه يوجد عندنا من الانحرافات ما يجب علينا أن نصححه؟ فهذا بيان للحقيقة، وتنبيه للغافلين، ونصيحة للمقصرين، وكلنا مقصرون.
بيان الاستقامة أمر مهم؛ لأننا لن نسلم إلا إذا جئنا الله بقلب سليم، وكذلك فإننا لا نريد أن نكون عقبة في طريق التزام الناس بالإسلام لا نريد أن نكون منفرين عن شرع الله لا نريد أن يكون عندنا من التصرفات ما يكون سداً بين الناس وبين الدخول في هذا الدين والشريعة، فكم من الكفرة لما رأوا بعض التصرفات من بعض المسلمين عدلوا عن الدخول في دين الله، وكم من العامة الذين رأوا تصرفات بعض الذين عندهم شيء من الالتزام الظاهر حملوا على هذا الدين وعلى هذه الاستقامة، وقالوا: هؤلاء المتدينون انظروا إليهم ماذا يفعلون! هل تريدون أن نكون مثل هؤلاء؟ والناس كثيرٌ منهم جهلة، لا يفرقون بين الإسلام والمسلمين، يقولون: الإسلام هو هذه التصرفات التي نراها من المسلمين الاستقامة والالتزام والتدين هو هذه المعاملة التي نلقاها من المتدينين الناس عندهم هذا المبدأ وهم لا يميزون، ليتهم يعرفون الرجال بالحق، لكنهم مع الأسف يعرفون الحق بالرجال! ولذلك فإن كثيراً منهم يكون عنده تصورات خاطئة وقناعات مغلوطة عن حقيقة الاستقامة مما يرونه من تصرفات بعض المتدينين في الظاهر.(226/3)
الاستقامة على الدين ظاهراً وباطناً
إن الالتزام بالإسلام والاستقامة على دين الله هو ظاهرٌ وباطن، هو مخبرٌ ومظهر، هو حقيقة وجوهر كما أنه شكل ومظهر ينتج ويظهر على المسلم في الخارج، ونحن نريد أن يكون التزامنا بالإسلام داخلي وخارجي، شيء يقر في القلب فينعكس على التصرفات وعلى الأعمال أعمال القلب وأعمال الجوارح.
ينبغي أن نعالج القلب قبل أن نعالج العادات والتقاليد والملابس مع أن الكل من الدين، لكن هناك أولويات، ونحن نوقن بالارتباط بين الظاهر والباطن، ونحن نعتقد أن هناك مضغة في الجسد إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله.
نعتقد أن تحكيم الشريعة في كل شيء يقود إلى إصلاح الظاهر والباطن، وأن ديننا قد أمر بإصلاح الظاهر والباطن، والله سبحانه وتعالى قال: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] لم يقل: ذروا ظاهر الإثم فقط، ولا قال: ذروا باطن الإثم فقط، قال: ذروا ظاهر الإثم وباطنه، فظاهر الإثم كل ما يظهر للناس من البذاءة والفحش والسب واللعن والشتم ونحو ذلك.
وباطن الإثم كل ما يكون في القلب من الحقد والحسد والعجب والغش واحتقار الخلق ونحو ذلك: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] الباطن مهم جداً والظاهر مهم كذلك، ولولا أن الظاهر مهم ما جاءت الشريعة بأحكام اللباس وسنن الفطرة والزينة والشعر والانتعال والنظافة وكل أمرٍ من الأمور التي تميز المسلم ظاهرياً عن غير المسلم، ولما شرعت الشريعة لنا وجوب مخالفة أهل الكتاب وغير المسلمين حتى في صبغ الشعر وفي الصلاة حفاة بغير نعال، وفي اللحية والشارب وغير ذلك، حتى نهينا عن التشبه بالحيوانات والبهائم، والذين يطيلون شواربهم اليوم مخالفون للهدي النبوي الذي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وحذرنا: (من لم يأخذ من شاربه؛ فليس منا) يجب قص ما طال عن الشفة، وأولئك النسوة اللاتي أطلن أظافرهن مثل الوحوش وصبغنها بالمناكير الحمراء وغيرها، هؤلاء المتشبهات بالحيوانات والبهائم والوحوش الكاسرة هن على استعداد بالخدش بها في أقرب مناسبة تقوم بها قائمة.
إذاً أيها الإخوة! الظاهر أمر عظيم وليس هناك في الإسلام شيء اسمه قشور ولب، والذين ينادون بتقسيم الإسلام إلى قشور ولباب أناسٌ ضالون مخطئون، الإسلام كلٌ لا يتجزأ الإسلام يؤخذ كله ويطبق كله، ومع الأسف فإن الناس اليوم يغترون بالظاهر، وليت أن ظاهر الأكثرية ظاهراً إسلامياً؛ إذاً لقلنا: إنهم على الأقل قد امتثلوا شيئاً من الدين، لكن الناس اليوم يعتنون بالمظاهر في الثياب والحفلات والزينات والطعام والشراب والسياحة، حتى العبادات إذا سمعوا قارئاً يقرأ بصوتٍ جميل، قال: صوتٌ رائع، ويجعلون حجهم سياحة، وعمرتهم أكل وحكايات في الحرم، هذا حالهم.
وطائفة أخرى من الناس دخلوا في الدين ظاهرياً؛ فهذا أطال لحيته وأعفاها، والتزم الثوب بطوله الشرعي الذي لا ينزل عن الكعبين، ولكن قلبه ينطوي على أنواع من المفاسد، والأمور العظيمة، ولذلك التصرفات الناتجة عنه والتعامل مع الناس بل مع زوجته وأولاده في البيت وأقربائه وجيرانه من أسوأ ما يمكن.
وأناسٌ قد أخذوا بنصيبٍ من هذا وهذا الالتزام الظاهري والباطني، ولكن عندهم نقص، نحن كلنا مقصرون ولذلك هذه دعوة حقيقة للالتزام بالإسلام ظاهراً وباطناً.
ولسنا من الذين ينخدعون بالظاهر، ولا بالذين يقومون الناس على الظاهر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً وعنده رجل، فمر رجلٌ فقال النبي عليه الصلاة والسلام للرجل الذي عنده: (ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجلٌ من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجلٌ آخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجالس عنده: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجلٌ من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خيرٌ من ملء الأرض مثل هذا) هذا الضعيف المستضعف خيرٌ من ملأ الأرض من أمثال هذا الذي تقول عنه: إنه من أشراف الناس.
ولما كانت امرأة من بني إسرائيل ترضع صبياً لها، أقبل رجلٌ ذو شارة حسنة وهيئة وفخامة ولباس وحشم، فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الصبي الثدي، وأقبل وقال: اللهم لا تجعلني مثله، أنطقه الله في المهد، ونحن اليوم في خضم هذه الجاهلية التي يتعارك فيها ومعها؛ فإننا نحتاج إلى شخصيات إسلامية قوية ذات إيمان وإخلاص ذات علم وعمل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66] نحتاج إلى أناسٍ يتمسكون بالدين ظاهراً وباطناً نحتاج إلى أناس لا يلعبون بالدين، وإنما يكونون صادقين مع الله سبحانه وتعالى في تمسكهم به، وقلنا أن الناس اليوم قد اهتموا بالمظاهر السيئة، وبعضهم عنده مظاهر طيبة وبواطن سيئة، ولكن الأكثرية -كما قلنا- بعيدون عن شرع الله يلعبون بهذا الدين لعباً، وهؤلاء هم الذين ذمهم الله سبحانه وتعالى، فقال: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98] {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2] {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} [الطور:11 - 12]، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة:57 - 58] {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام:70].
هذه النوعية التي تلعب بالدين ابتداءً من العقيدة:
ولا تك مرجياً لعوباً بدينه ألا إنما المرجي بالدين يمزح
وقل إنما الإيمان قولٌ ونيةٌ وفعل على قول النبي مصرح
فهذا الإيمان قول وعمل واعتقاد، والذين يقولون: إن الإيمان بالقلب فقط هم أناسٌ يلعبون بالدين، ويتخذونه لعباً ولهواً، هؤلاء الذين يتحايلون على شرع الله قد عرفناهم، وقد جاءت تصريحاتهم موافقة لما في قلوبهم من الاستهزاء بالدين هؤلاء الذين سموا الربا فوائد وعوائد استثمار، والذي سموا الخمر مشروبات روحية، والذين سموا الرقص والموسيقى والغناء والتماثيل فن، والذين سموا الرشوة أتعاب، هؤلاء الذين يلعبون بالدين قد عرفناهم، وميزناهم جيداً في الواقع، هؤلاء الذين يتتبعون الرخص ويضربون كلام العلماء بعضه ببعض، هؤلاء يلعبون بالنار، الذين يفتون في المجالس في الأهواء ويتكلمون في الدين يخبطون بغير علم، كما قال الأول:
ما قال ربك ويلٌ للأُلى سكروا وإنما قال ويل للمصلين
قد عرفنا الذين يقولون: لِمَ يأخذ رجل أربعة نسوة ولا تأخذ المرأة إلا واحد؟ فلماذا لا تأخذ المرأة أكثر من رجل؟ قد عرفنا هؤلاء.
أيها الإخوة! نريد أن نلقي الضوء على عقيدتنا وتصرفاتنا نحن؛ نحن الذين نرى أننا نريد الصراط المستقيم والهداية، نسعى للتمسك بهذا الدين نريد أن نرى أنفسنا على ضوء الشريعة، الشريعة أمرتنا بأي شيء؟ هل أمرتنا بجزء من الإسلام أو أمرتنا بالإسلام كله؟ هل قالت: أسلموا في وقت الرخاء، ثم تراجعوا في وقت الشدة؟ بماذا طالبتنا الشريعة؟ ما هو المنهج والموقف من هذه الشريعة؟ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:208 - 209] {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] كلكم ادخلوا في الإسلام أو ادخلوا أنتم جميعاً في شعائر الإسلام كلها، لا تتركوا شعيرة إلا وطبقتوها بما تستطيعون: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:170] فالله عز وجل قال: يُمسِّكون بالكتاب، فيها معنى التكرير والتكثير للتمسك، هذا الفرق بين يمسِكون بالكتاب ويمسِّكون بالكتاب، إنها صيغة القبض على الكتاب بقوة وجد وصرامة، وهذه الصورة هي التي يريد الله منا أن نأخذ بها كتابه، ونحن نعلم كما علمنا الله ورسوله أن الجد والقوة في أخذ الدين شيء والتعنت والتنطع والغلو والتطرف هو شيء آخر، ولذلك نحن نعلم جيداً الذين يوجهون إلينا سهام التطرف والتنطع بلفظة الأصولية اليوم، نعرفهم ونميزهم ونعرف معنى التمسك بالدين على وجهه صحيح.
إن الجد والقوة والصرامة لا تنافي اليسر، لكنها تنافي التميع إنها لا تنافي سعة الأفق، لكنها تنافي الاستهتار لا تنافي مراعاة الواقع، لكنها تنافي أن يكون الواقع هو الحكم على الشريعة، لأن الدين يقول: إن الشريعة هي الحكم على الواقع، وليس العكس.
والله سبحانه وتعالى علمنا ونبهنا إلى أن كتابه الكريم هذا قولٌ فصل وما هو بالهزل، بل هو حقٌ وجد، ليس فيه سائبة هزلٍ بل كله جدٌ محض، هو فاصل بين الحق والباطل قد بلغ الغاية في ذلك، فليس بالهزل ولم ينزل باللعب، ويجب أن يكون مهيباً في الصدور: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:63] خذوا ما ألزمناكم من(226/4)
هل نحن مستقيمون على الشريعة؟
أيها الإخوة! نحن نريد أن نعرف جيداً ما مدى التزامنا وتمسكنا بهذا الدين، وهل نحن صادقون فعلاً فيما نزعمه من أننا مستقيمون على الشريعة وأننا متدينون، السؤال الكبير: هل نحن متدينون حقاً؟ السؤال المطروح: هل نحن فعلاً في أنفسنا مستمسكون بالكتاب؟ هل نحن قد أخذنا الكتاب بقوة كما أمرنا الله فقال: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} [البقرة:63] {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا} [البقرة:93] وكما قال الله آمراً موسى: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف:145]، وقال عن يحيى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] أم أننا نحن عندنا تلاعب وعندنا قصورٌ كبير؟ ما مدى حرصنا على الاستقامة؟ هل استقامتنا كاملة أم أن عندنا نقص في الاستقامة؟ مرض نقص الاستقامة أسوء من مرض نقص المناعة، فإن الأشياء الجسدية ابتلاء، أما الأشياء التي تكون في الدين؛ فإن مصيبة الدين لا تعدلها مصيبة، ولذلك إذا ألقينا الضوء الآن على الواقع الموجود وعلى هذه النوعيات الموجودة من الذين يقولون آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم من جهة وقد عرفنا صفاتهم، ونريد أن نلقي الضوء أيضاً على هذه الفئة التي تقول باستقامتها على الشريعة، والذي يقول لنفسه: قد تدينت والتزمت واستقمت، نريد أن نناقش أنفسنا ونقدم كشف حساب.
إن نظرةً في الواقع وفي النفس لتوحي بأن هناك تقصيراً كبيراً للغاية، وأن هناك مرضاً يستشري وهو مرض نقص الاستقامة.(226/5)
صور مرض نقص الاستقامة
مرض نقص الاستقامة له عدة صور في الواقع: - مرض نقص الاستقامة الذي أودى بالإيمان في وادٍ سحيق.
- مرض نقص الاستقامة الذي شوه صورة الإسلام وشوه جمال الإسلام في أعين الناظرين إلى بعض الذين يزعمون التدين.
- مرض نقص الاستقامة الذي سبب الانتكاس حقيقة، والارتداد على الأعقاب، والنكوص على الأدبار.
- مرض نقص الاستقامة الذي أوجد عناصر مشوهة تزعم الانتساب إلى الدين، وليس عندها منه إلا النزر اليسير.
- مرض نقص الاستقامة الذي جعل بعض الناس يقولون: نحن نلتزم بالإسلام إلى حدٍ معين لأنه لا طاقة لنا بأخذ الدين كله، والذين يقولون: ما عندنا استعداد لتقديم التضحيات.(226/6)
من مظاهر نقص الاستقامة: عدم الاستعداد لتقديم التضحيات
أيها الإخوة! الذي يسير معك ثم يقول: ليس عندي استعدادٌ لإكمال المشوار، أنت تطالبنا بأمورٍ لا طاقة لنا بها، والحقيقة أنك تطالبهم بالدين، ليس عندنا استعداد للتضحية والتقديم والعمل لهذا الدين، نحن نريد أن نكون طيبين في أنفسنا، مصلين مزكين صائمين نحج ونعتمر، نذكر الله وندعو، لكن أن نقدم تضحيات لهذا الدين ليس عندنا استعداد، أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونتحمل الأذى ليس عندنا استعداد هل هؤلاء فعلاً أصحاب تدين حقيقي؟ إذا احتاجت الدعوة إلى الله إلى إنفاق وبذل أموال وبذل أنفس وبذل جهد وبذل الأعمار تراجعوا، فقالوا: إن أموالنا نحتاج إليها، وأوقاتنا نحتاج إليها، إننا لا نصبر على الأذى، ولا نتحمل ولا نطيق، حتى الأذى الكلامي لا يريدون سماعه، ثم يقولون: نحن متدينون، هذا الالتزام البارد وهذه الاستقامة الناقصة لا تغني شيئاً، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ظهر السوء في الأرض؛ أنزل الله بأسه بأهل الأرض، وإن كان فيهم قومٌ صالحون، يصيبهم ما أصاب الناس من العذاب، ثم يرجعون إلى رحمة الله ومغفرته) فأين النوعية المصلحة التي تكفل الله بإنجائها إذا حلَّ العذاب بأهل القرى: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:165].(226/7)
الرياء والنفاق في الأعمال
إن الذين يتحركون بعباداتٍ جسدية ليس فيها إخلاص ولا روح ولا توجه لله، بل إن الكثير من أعمالهم يغشاها الرياء والنفاق، هؤلاء يجب أن يعودوا إلى الله ويتوبوا إليه من هذا الخطر العظيم وهذا السوس الذي نخر عظامهم من الداخل، والذي أودى بعباداتهم وقلل أجرها أو أعدمها بالكلية، الذين لا يصلون إلا مع الناس، ولا يطيلون الصلاة والخشوع إلا أمام الناس، الذين لا يتعلمون العلم إلا للمباهاة، الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم: (من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله جهنم).
وفي رواية: (لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، أو تماروا به السفهاء، ولا لتجترءوا به المجالس، فمن فعل ذلك؛ فالنار النار).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، أو لتماروا به السفهاء، أو لتصرفوا به وجوه الناس إليكم، فمن فعل ذلك؛ فهو في النار).(226/8)
من مظاهر نقص الاستقامة: عدم مقاومة للنفس وهواها
الذين يقولون: إننا مستعدون للالتزام والاستقامة على الأمور التي لا مغالبة للنفس فيها ولا مقاومة، نحن نطلق اللحى ونقصر الثياب، ولا نشعر أن هناك شهوة نريد أن نقاومها، لكن لا تطلب منا غض البصر عن المرأة الأجنبية؛ هذا أمرٌ صعب، لا تطلب منا ترك الغناء؛ لأنه شيءٌ قد تأصل في نفوسنا هل هؤلاء الناس صابرون على منهج الله؟!! أين الصبر بأنواعه؟ أليس الصبر على طاعة الله نوع، والصبر عن معصية الله نوعٌ آخر، والصبر على أقدار الله وقضائه نوعٌ ثالث؟ أم أنهم لا يصبرون عن الأشياء التي فيها شهوات ومقاومة على النفس، ويقولون: الأمور التي فيها سهولة نعملها من الدين، والأمور التي فيها مشقة وصعوبة نتركها، هل هؤلاء الناس صادقون في استقامتهم أم أنهم مرضى؟!(226/9)
من مظاهر نقص الاستقامة: الخلل في معيار الحرام
إن الذين يفعلون أنواعاً من المحرمات وقد فقدوا معيار الحرام بدرجاته، فيرون أشياء كبيرة وعظيمة وهم يعملون أكبر منها وأعظم، الذين يرون -مثلاً- أن حلق اللحية أمرٌ خطير، وهو أمرٌ خطير فعلاً ومحرم في الشريعة، لكنهم يتساهلون جداً في الغيبة وهم يعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الربا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربا الربا استطالة الرجل في عرض أخيه) فكم الذين يقعون في الغيبة ويستطيلون في أعراض إخوانهم وهم يزعمون أنهم أهل صلاح وتدين؟ (أتدرون ما الغيبة؟ ذكرك أخاك بما يكره، إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته).
يأكلون لحم إخوانهم كالذي يأكل لحم أخيه ميتاً، وأسوؤهم على الإطلاق -وقد ظهرت نابتة في عصرنا هذا كما ظهرت في عصور الإسلام السابقة- الذين يقعون في أعراض الدعاة إلى الله وأهل العلم، فيستطيلون في أعراض الدعاة إلى الله ويتهمونهم بشتى التهم بحجة الإصلاح، ويلبسون الغيبة لباس النصيحة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه عز وجل: (من عادى لي ولياً؛ فقد آذنته بالحرب) فإذا قام يعادي أولياء الله، الذين قاموا لله بالحجة، ونصحوا الأمة، وحذروا وبينوا يُقام عليهم بالتشهير والشتم والتنقص ويُترك أعداء الله سالمين، هؤلاء معادين لأولياء الله، هل هم مستقيمون على الشريعة فعلاً أم أن عندهم مرضاً داخلياً مستشرٍ مثل السرطان يأكل الخلايا من الداخل؟! الذين يتساهلون في النميمة، ولا يعدون خطورة النميمة كخطورة أمرٍ آخر مثل الإسبال، فيرون الإسبال شيئاً كبيراً وهو كبيرٌ فعلاً عند الله، فالله يحرق من الإنسان الجزء الذي يكون أسفل من كعبه (ما تحت الكعبين من الإزار ففي النار) فالمسبلون تحت المشيئة إذا كانوا من أهل التوحيد، لكن النظر إلى هذا الأمر على أنه أمرٌ خطير، والنميمة ونقل كلام الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم لا يعتبرونه أمراً خطيراً، فهؤلاء أناسٌ مغفلون عندهم جهلٌ أو هوى.
الذي يزعم أنه متمسك بالشريعة في الظاهر هو مفلسٌ أشد الإفلاس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما المفلس؟ إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيامٍ وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار).
إذاً هناك أناس يذهبون إلى مكة فيحجون ويعتمرون ويقرءون القرآن ويبكرون ربما إلى المساجد لكن في الوقت نفسه عندهم من أنواع الظلم لإخوانهم وللمسلمين ولعباد الله عموماً ما يأكل حسناتهم أكلاً، فيأتون يوم القيامة من المفلسين.(226/10)
من مظاهر نقص الاستقامة: سوء الخلق
هؤلاء الذين يقولون: نحن متدينون، لكن عندهم من سوء الخلق ما أفسد عليهم تدينهم، لديهم أخلاق سوقية فهم يتعاملون مع الناس بشراسة وعناد وقبح وفحش، عندهم من الكبر في أنفسهم ما هو أكثر من كثيرٍ من المعاصي والموبقات والفواحش، عندهم عنجهية واحتقار للخلق، هؤلاء وإن كان مظهرهم حسناً لكن الله سبحانه وتعالى سيحاسبهم على سوء الخلق (وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل) هؤلاء الذين يعاملون آباءهم وأمهاتهم بفضاضة وغضاضة، ويعاملون زوجاتهم أسوأ المعاملة، ويظلمون أولادهم، كيف يكون هؤلاء متدينون ومستقيمون فعلاً وهم بهذه الطريقة؟ لقد قلنا: إن السفهاء من الناس إذا رأوا هؤلاء يقولون: هذا هو التدين المطلوب الذي تقولون لنا عنه وتأمروننا به؟! فيكون سيئ الخلق من الذين يصدون عن سبيل الله.
الذي يزعم أنه مستقيم على الشريعة ولكنه ظالمٌ للناس للعمال، للخدم، للمراجعين، للزملاء (اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام، يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) (اتقوا دعوة الله المظلوم، فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة) (اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً؛ فإنه ليس دونها حجاب) فلنتق الله في أكل الحقوق وظلم الناس.(226/11)
من مظاهر نقص الاستقامة: الكذب وخلف الوعد والفجور في الخصومة
الذي يقول: إن عنده تدين واستقامة؛ لكنه إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، والذين يكذبون في الحديث كثرٌ جداً، وبعضهم مع الأسف قد يكون عنده من لبوس التدين ما عنده، لكنه يكذب في الحديث، بل قد يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ويكذب على العلماء، وقد علمنا أن من هؤلاء من يجلس في المجالس ويقول: هذا حديث صحيح أخرجه فلان وفلان، وقال فيه فلان كذا، وهو كذاب ما في كلامه حرفٌ واحدٌ صحيح، أو الذين يجترئون على العلماء في المجالس ويقولون: الشيخ الفلاني أفتى بكذا، وقال: إنها حلال، والشيخ الفلاني حرمها، وقال: إنها حرام، وهو كذاب ما سمع الفتوى من الشيخ، ولم يتثبت منها وليس عنده طريقٌ صحيح من العالم، ومع ذلك ينقل على لسان الشيخ ما ينقل.
الذين يكذبون في الفتوى ويكذبون على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وينسبون الأحاديث إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهم ليسوا متأكدين فعلاً من صحتها، هل هؤلاء مستقيمون على الشريعة أم أن عندهم مرضاً خطيراً هو مرض نقص الاستقامة؟ وهذا الذي إذا وعد أخلف، يخلف وليس عنده عذر، ويخلف دون اعتذار، ماذا يسمى؟ والذي يتخلف عن الموعد بدون عذر، والذي لو وعدك الساعة السابعة يخرج من بيته الساعة السابعة، وإخلاف الموعد درجات، فقد يخلف بالكلية، وقد يخلف جزءاً منه، لماذا تعد؟ وإذا وعدت لماذا لا تثبت على الموعد؟ وإذا لم تستطع لماذا لا تعتذر؟ أليس هذه من صفات المنافق؟ (أربعٌ من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهن؛ كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذَب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر).
هذا الكذاب الذي يقول لك أشياء لم تحصل، ويقول لك من القصص ما يخترعه، هذا هو الكذاب الذي يكذب فتبلغ كذبته الآفاق، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال: (إذا اقترب الزمان، ولم تكد رؤيا الرجل المسلم تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً) فجعل صدق الحديث من أسباب صدق الرؤيا وانطباق الرؤيا في الواقع حتى يرى الرؤيا، فتكون تنبيهاً له وتعريفاً له بأمر سيحصل.
إن الذين إذا أتوا أهل الخير جلسوا معهم، وأعطوهم من الكلام الطيب ما يقنعونهم به أنهم مثلهم وأنهم على طريقتهم وأنهم متدينون فعلاً، ثم إذا ذهبوا إلى أهل الشر جلسوا معهم وشاركوهم، وقالوا لهم من الكلام ما يدل على أنهم مثلهم ومن شيعتهم، هل هؤلاء مستقيمون على الشريعة؟! ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تجدون الناس معادن، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقِهوا أو فقُهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية قبل أن يقع فيه، وتجدون شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه هؤلاء) حديث صحيح، هؤلاء الذين يلعبون على الحبلين ويظنون أنهم حكماء، وأنه من الذكاء والفطنة والحنكة أن تسايس أهل الدين وتسايس أهل الفسق، وأن تكون مع هؤلاء بالألفاظ الطيبة والكلام الحسن والسمت الحسن، ثم تذهب إلى أهل الشر، فتكون مثلهم وتشاركهم في منكراتهم، هؤلاء الذين إذا ذهبوا إلى أهل الشر قالوا: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] نحن إنما نأتي هؤلاء المتدينين ما يناسبهم (من كان له وجهان في الدنيا؛ كان له يوم القيامة لسانان من نار) أخرجه أبو داود من حديث عمار مرفوعاً، وهو حديث صحيح.
تجد أحدهم من سوء التعامل أنه إذا حدث بينه وبين أخيه خصومة؛ فجر في الخصومة، ثم هجر أخاه المسلم هجراً تاماً، لا يسلم عليه إذا لقيه، ولا يجلس معه في مجلس، ولا يزوره ولا يرد سلامه مع أنه مسلم مثله، لو ترك السلام عليه؛ لأنه صاحب بدعة؛ لقلنا: أحسنت، لو ترك السلام عليه؛ لأنه صاحب منكر ظاهر؛ لقلنا له: في الله هجرت، لكن من أجل الدنيا يهجرون إخوانهم المسلمين ويقطعونهم قطعاً، ويبتونهم بتاً، هل هؤلاء من المستقيمين على شرع الله أم أن عندهم مرضاً في الاستقامة؟ (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث، فمات؛ دخل النار) أخرجه أبو داود عن أبي هريرة مرفوعاً، وهو حديث صحيح.
وفي حديث صحيح آخر: (هجر المسلم أخاه كسفك دمه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه) (تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين: يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبدٍ مؤمن إلا عبداً بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يصطلحا، اتركوا هذين حتى يفيئا) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر فيهما لكل عبدٍ لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلٌ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا) رواه مسلم.
فإذاً الذين يقطعون حبال الوصل مع إخوانهم المسلمين في الله هل هؤلاء من المستقيمين على شرع الله فعلاً؟ وبالمناسبة نقول: إنه لو انقطعت أخبار أخيك عنك لا لشحناء ولا لبغضاء، وانقطعت صلتك به لانشغالك وليس لعداوة؛ فإنك لا تكون هاجراً له، لكن احرص على وصل أخيك المسلم، لكن من أجل الدنيا تقطع أخاك المسلم فتهجره سنين ولا تسلم عليه! وهذا متفشٍ وكثير، ودقق في أحوال الناس واستمع للأخبار تجد ذلك عياناً بياناً.(226/12)
من مظاهر نقص الاستقامة: الكبر
تجد الذين عندهم كبر يحرصون على صدور المجالس ولا يجلس حيث انتهى به المجلس، فيرتكبون أمراً حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بقوله: (اتقوا هذه المذابح -أي: المحاريب- حضور المجالس، تواضعوا لله) اجلس حيث ينتهي بك المجلس، هذا الذي مهما كانت هيأته ومظهره هذا الذي يجد في نفسه حنقاً لو أنه لم يقم له في صدر المجلس ليجلس، فأين يكون موقعه من الاستقامة؟ إن الذين يأتون بالكفرة من الخدم والموظفين وهم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)، وقال: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) ولو كانت سيماهم سيماء أهل الخير، لكنه يرتكب منكراً ومعصية.
الذين يظلمون الخدم في البيوت بالضرب والإهانات والخصم، كيف به وهو يسمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فاكتفاه علاجه ودخانه، فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه؛ فليناوله أكلةً أو أكلتين) هذا طبعاً في غير النساء مع الرجال، فإن المرأة لا تجلس مع الرجل الأجنبي.
إن الذين عندهم نوع من الكبر يظنون أن نوعاً معيناً خاصاً من الدماء يجري في عروقهم، وأنهم من نسلٍ غير نسل آدم، وأنهم من طبقة من البشر ليست كباقي طبقات الناس الذين لو جاءهم خاطبٌ يخطب منهم احتقروه، وقالوا: كيف تتجرأ أصلاً أن تطرق بابنا وأنت تعلم أننا أصحاب حسب ونسب وشرف وأنت حقير؟ هؤلاء ما هو موقعهم من الاستقامة مهما كانت أشكالهم وصورهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه؛ فزوجوه إلا تفعلوا؛ تكن فتنة في الأرض وفسادٌ عريض) إذا كنت تخشى مفاسد وقطيعة داخل العائلة؛ إذاً اعتذر بأدب، أما أن يحتقر خلق الله لماذا يتقدم أصلاً للزواج؛ لأنك ترى في نفسك خاصية من دون عباد الله، وكأنك لست لآدم الذي هو من تراب: (كلكم لآدم وآدم من تراب) فهذه النوعية من البشر أين موقعهم من الاستقامة؟(226/13)
من مظاهر نقص الاستقامة: أذية الجار
إن الذين يشتكي منهم جيرانهم من أنواع الأذى التي يعاملونهم بها ويؤذونهم بها، هل هؤلاء مؤمنون حقاً والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن! قيل: من يا رسول الله! قال: من لا يأمن جاره بوائقه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أثنى عليك جيرانك أنك محسن؛ فأنت محسن، وإذا أثنى عليك جيرانك أنك مسيء؛ فأنت مسيء).(226/14)
من مظاهر نقص الاستقامة: أذية المصلين في المساجد
إن الذين يضايقون خلق الله في المساجد بالروائح الكريهة من روائح البصل والثوم ونحوه، أو يتنخم في المسجد نخامة تصيب بدن أخيه أو ثوب أخيه، كيف هو؟ لقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا تنخم أحدكم وهو في المسجد؛ فليغيب نخامته لا تصيب جلد مؤمنٍ أو ثوبه فتؤذيه) حتى هذه الأشياء الإسلام يراعي فيها مشاعر المسلمين.(226/15)
من مظاهر نقص الاستقامة: ظلم الزوجة
إن الذي تكون عنده زوجة فيظلمها ويأكل حقها، فلا يدع لزوجته ريالاً من راتبها إلا ويأخذه في آخر الشهر، حتى رواتب الصيف ومكافئة نهاية الخدمة يأخذها بدون رضاها وهو ما اشترط عليها في العقد شيئاً، فيأخذ مال أخيه المسلم بغير حق، هذا كيف يكون حاله؟ هؤلاء الذين يظهرون بالبشاشة في وجوه إخوانهم، ثم يكونون من أسوء خلق الله في التعامل مع زوجاتهم.
الذي يكون عنده أكثر من زوجة وهو يهمل إحداهن ويغيب عنها، ويتركها ولا ينفق عليها، ويقول: أنت موظفة أنفقي على نفسك، كأن الشريعة قالت: إذا كانت الزوجة موظفة فالنفقة عليها، والشريعة ما قالت هذا، وربما أدخل أولاد هذه في مدارس خاصة، وترك أولاد تلك ونحو ذلك، تفريط بدون سبب شرعي (إذا كانت عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما؛ جاء يوم القيامة وشقه مائل) جزاءً وفاقاً لظلمه لزوجته.
وكذلك الزوجة التي تظلم زوجها، فترفض خدمته وتتعالى عليه أو تقول: راتبي أكثر من راتبك، وشهادتي أعلى من شهادتك، وتطلب الطلاق منه من غير ما بأس؛ فحرام عليها رائحة الجنة، ومهما كان حجابها وشكلها؛ فإن استقامتها ليست بكاملة.(226/16)
من مظاهر نقص الاستقامة: مماطلة الأجراء
إن الذين يستأجرون الأجراء ويماطلونهم ولا يعطونهم حقوقهم، ويخصمون عليهم من الرواتب والمستحقات والبدلات، ويقف في طريقه إذا أراد أن يعف نفسه (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) هؤلاء استقامتهم ليست بكاملة.
إن الذين يقترضون الأموال ويستدينون، وهم يعلمون أنهم لن يؤدوا هذه الأمانة، ويتساهلون في الاستدانة، مهما كانت أشكالهم وصورهم ومظاهرهم، فكيف يكون حالهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها؛ أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها؛ أتلفه الله)، وقال صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله! ماذا أنزل من التشديد في الدين، والذي نفسي بيده! لو أن رجلاً قتل في سبيل الله، ثم أحيي، ثم قتل، ثم أحيي، ثم قتل وعليه دين، ما دخل الجنة؛ حتى يقضى عنه دينه) وبعض الناس الآن يتساهلون في الدين وهو يعلم أنه لن يرد، وإن كان عنده مال يماطل ويقول: لا أريد أن تنزل مدخراتي عن مستوى كذا، إذا ارتفعت فوق كذا؛ رددت إليك مالك، هؤلاء المماطلين عليهم أن يعلموا أن استقامتهم ناقصة مهما كانوا.(226/17)
من مظاهر نقص الاستقامة: عدم أخذ الدين بالقوة
ونحن أيها الإخوة! نعاني ونعاني كثيراً من عدم أخذ الدين بالقوة كما أمرنا الله، نعاني من تسيبات، حتى على مستوى الصحوة توجد أنواعٌ من الغثائية والتفريط، فهذا إغراق في الضحك، وتضييع للأوقات في النكت والطرائف وليس نكت بمعنى الفوائد لكنها نكت بمعنى آخر فيه إغراق في الضحك، والنبي صلى الله عليه وسلم قد علمنا بأن كثرة الضحك تميت القلب، فأين استشعار المسئولية تجاه هذا الدين؟ وأين حديث: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً).
نحن اليوم نعاني على مستوانا الداخلي من أنواع التسيب وعدم الجدية في طلب العلم، فهناك من الشباب من لا صبر له على القراءة ولا اهتمام له بحضور حلق الذكر والعلم، ولا دافع عنده للسؤال عن الأحكام الشرعية وتعلم دين الله، ولو سئل عن دليلٍ شرعيٍ في حجاب المرأة ما عرفه، أو في حكم الزنا ما أثبته، وكل كلامه: أو كما قال أو كما قال.
والذين يشتغلون ببعض أنواع الملهيات من الألعاب وغيرها ويجعلون جُل وقتهم فيها ويتركون العمل لهذا الدين والسعي لنصرة الدين والدعوة للدين، فهؤلاء فقههم في دين الله ضعيف.
إن واقع المجالس اليوم التي نجلس فيها مع أنواع القضايا التي تثار في هذه المجالس والمواضيع التي تطرق تحتاج إلى مراجعة كبيرة، ليتهم يتناقشون في مسائل في العلم، أو يعرضون شيئاً من أحوال المسلمين، أو يفكرون في حلول مشكلات المجتمع، أو يتداولون الخبرات، أو يذكرون شيئاً؛ ليزدادوا به إيماناً! وإنما مجالسهم لهوٌ ولعب وسهر وتضييع لصلاة الفجر ساعات طويلة تنفق من العمر.
إن مرض نقص الاستقامة قد أصاب مجالسنا إصابات بالغة، وجعل هذه المجالس قليلة الخير نادرة الفائدة، ولو كان هناك استقامة صحيحة لصارت المجالس مثمرة.(226/18)
من مظاهر نقص الاستقامة: تمييع الأخوة الإسلامية
إن مرض نقص الاستقامة قد انعكس كذلك على مفهوم الأخوة الإسلامية فميعه، وصارت العلاقات كثيراً ما تكون استئناسات وترويحات وتبادل للألفاظ العاطفية، وخلطة زائدة، وأضرار سلبية، وانخفاض إيمان، وتعلق بغير الله، ووصول إلى درجات العشق ونحو ذلك وإعراض عن الجلوس مع من يستفيد منهم، ومع من يكون عندهم علمٌ نافع، وإنما التقوقع على فلانٍ واحدٍ أو اثنين أو أكثر وترك البقية والحرمان -حرمان النفس من فوائد جمة- وإنما هي شجين وعواطف تنطلق بلا حساب.(226/19)
من مظاهر نقص الاستقامة: التهاون في السنن والمستحبات
إن مرض نقص الاستقامة قد أدى إلى حصول تهاونٍ بالسنن والمستحبات، وهناك قسمان: نقص الكمال الواجب ونقص الكمال المستحب، فأما نقص كمال الاستقامة الواجب فقد ذكرنا أمثلة منه كثيرة، ولكن ينبغي أن ننتبه لمرض نقص كمال الاستقامة المستحب.
الكمال كمالان: كمال واجب لا بد أن يؤتى به.
وكمال مستحب ولكن التفريط والتضييع أدى إلى الوقوع في أنواع من التهاونات.
فأقول: إن مرض نقص الاستقامة قد أدى فيما أدى إلى الاستهانة بالسلوك، حتى السواك ورص الصفوف التي يعتبرها بعض الناس أشياء ثانوية وجانبية، أي: أنهم يمكن أن يهملوها، مع أنك يا أخي المسلم لو تتبعت الأحاديث الواردة في السواك لرأيت أمراً عجباً، وقد صنف بعض العلماء كتباً في السواك فقط، والذي يتتبع هذا الأمر يخرج بانطباع أن الشريعة تريد تكميل المسلم وإحاطته من جميع الجوانب، وأن تجعله في أحسن صورة، لكن بعض الناس يصرون على الإهمال والتضييع لهذه السنن، ويقولون: هذه قشور، اترك وابتعد.
نحن لم نقل: اجعلها أولويات في الدعوة، أو قدمها على ما هو أعظم منها من الأعمال، لكن ألا تعملها وتتركها نهائياً، والذي حصل من أنواع التأخرات والتهاونات في السنن أدى إلى أشياء سيئة، فمثلاً: التهاون في النوافل، قال صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة، فإن صلحت؛ فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت؛ فقد خاب وخسر، وإن انتقص من فريضة -لو انتقص من الطهارة أو الشروط أو الأركان أو الواجبات أو الخشوع- قال الرب: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك) أي: لو نقص من الزكاة؛ يكمل من الصدقة، لو حدث رفث وفسوق وجدال في الحج؛ يكمل من حج النافلة، فكيف نضيع النوافل إذا كانت النوافل مهمة في تكميل النقص الحاصل في الصلوات الواجبة والفرائض؟ وكذلك التهاون في الصدقات وصيام النافلة وغيرها من العبادات.
ومن الأشياء التي تحدث في هذا الجانب أيضاً: التكاسل عن التبكير للصلاة، وخاصة صلاة الجمعة وصلاة الجماعة، ولقد هدد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ولا يزال أناس يتأخرون حتى يؤخرهم الله)، وقال صلى الله عليه وسلم: (احضروا الجمعة وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد؛ حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها) حديث صحيح.
وكذلك يوقع في أخطاء، فمن الأخطاء التي يوقع فيها مثلاً: الإسراع أثناء الحضور إلى المسجد إسراعاً يخل بالخشوع، مع أن السنة الإتيان إلى المسجد بالسكينة والوقار: (إذا ثُوب للصلاة؛ فلا تأتوها وأنتم تسعون، وائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا، فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة؛ فهو في صلاة) فلماذا يركض؟ ولماذا يستعجل؟ ولماذا يجري فيدخل في الصف لاهثاً لا يلتقط أنفاسه إلا بصعوبة، فيفوت عليه الخشوع وحسن القراءة؟ قد نقع في أخطاء من جهة التطويل في الإمامة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف، فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض وذا الحاجة، وإذا صلى بنفسه فليطول ما شاء) والمقصود التطويل غير الشرعي، أما أداء الصلاة كما أمر الله وإتقانها كما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا من اتباع السنة.
من الأمور التي يحصل فيها تفريط أيضاً في قضايا المستحبات: عدم التورع عن المشتبهات والوقوع في الشبه، وهذا يؤدي إلى الوقوع في الحرام، وهذا يقول لك: هذا مطلي بالذهب، وهذا يقول: هذا كذا، وموقفنا الصحيح إن كان فعلاً عندنا استقامة جادة على الشريعة أن نترك هذه المشتبهات (اجعلوا بينكم وبين الحرام ستراً من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن ارتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه، وإن لكل ملكٍ حمى، وإن حمى الله في الأرض محارمه).
إن كثرة النزول إلى الأسواق، وما فيها من المنكرات وغشيان أماكن الاختلاط لغير حاجة ما هو إلا نقص في الاستقامة (أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها) ومن الناس من همه الصفق في الأسواق.(226/20)
من مظاهر نقص الاستقامة: حصول الطفرات والانتكاسات
وأقول: إن مرض نقص الاستقامة قد أدى فيما أدى إليه حصول الطفرات التي ليست مؤسسة على تقوى من الله ورضوان، وحماس على غير أساس، فينقطع الطريق بالإنسان ولم يؤسس نفسه كما يريد الله عز وجل، ولذلك ترى الرجل حين يصعد فجأة من عالم الجاهلية إلى عالم الدين والعبادة، ثم يهبط فجأة وتهوي به ريح الانتكاس في وادٍ سحيق، وسبب ذلك: أن تحصيل الاستقامة يحتاج إلى تربية تحصيل الاستقامة يحتاج إلى وسط إسلامي تحصيل الاستقامة يحتاج إلى إخوة في الله يجالسهم تحصيل الاستقامة يحتاج إلى حلق ذكر يغشاها تحصيل الاستقامة يحتاج إلى تربية جماعية وفردية تحصيل الاستقامة يحتاج إلى تناصح بيننا، ولذلك فهؤلاء الذين تحدث عندهم نوع من الحماسة بعد الخطبة أو محاضرة أو شريط يستمع إليه يخفق في الوصول إلى الهدف وينكص ويرجع؛ لأنه لم يعرف كيفية تحصيل الاستقامة الكاملة ولا الطريق إلى ذلك، هو الذي يريد أن يكون فرداً لا صلة بينه وبين إخوانه، ولا يريد أن يكون مع الجماعة، ويد الله مع الجماعة.(226/21)
من مظاهر نقص الاستقامة: عدم التفاعل مع قضايا المسلمين
ومن آثار نقص الاستقامة: ألا نتفاعل مع قضايا المسلمين، ولا نعرف أخبار إخواننا المسلمين، ولا نمد يد العون لإخواننا المسلمين! مسلمون يشردون وآخرون يقتلون وفئة يسجنون وغيرهم يعذبون، ونحن حتى الدعاء بخلنا به، فهل هذه الاستقامة صحيحة؟ وأين مفهوم الجسد الواحد الذي حثَّ عليه الإسلام؟ ونحن نتكئ على الأرائك نتبرد ونأكل من الملذات، فهذا واحد لا يأتي بالحلوى إلا من البحرين، وعنده مشاوير خاصة من أجل الحلوى، ولو أخذت وقتاً طويلاً أو قصيراً فالأمر عادي، ولو ضاعت صلاة الجماعة فذلك ليس مهم، يعني: أحياناً نضرب في تحصيل لذائذنا أكباد الإبل، ونمتطي ونرحل، ولأجل صلاة أو حلقة علم لا نبذل شيئاً من الوقت فهذا من نقص الاستقامة.(226/22)
من مظاهر نقص الاستقامة: التعلق بالدنيا
إن التخلي عن الزهد والاهتمام بالمظهر والثياب والعطور والأرياش والتنعم والتحف في البيوت من الأشياء المشغلة؛ لأنها تؤدي إلى التعلق بالدنيا، والتعلق بالدنيا ينافي الاستقامة، فمفهوم الزهد أيضاً ناقص، والذي تكون استقامته كاملة يكون زهده كبيراً، فعندنا اهتمام بالمظاهر إسراف تضييع أموال كماليات، هذا يقول: أشتري قارباً بثلاثين ألفاً، من أجل إذا كانت هناك تمشية أتمشى هل هذا فكر مرة أخرى وراجع نفسه هل القرار هذا صحيح؟ أليس هناك مجالات أحسن وأفضل وأكثر أجراً لتضع فيها هذه الأموال؟ إذاً: هناك قضايا كثيرة تحصل ولكن محاسبة النفس ضعيفة، ولأجل ذلك فإنه تخترقنا كثيرٌ من سهام الشيطان.(226/23)
من مظاهر نقص الاستقامة: بقاء رواسب الجاهلية عند الإنسان
من نقص الاستقامة: أن توجد عند الإنسان رواسب من الجاهلية لا يسعى لتخليص نفسه منها، ولذلك فانحرافه من أسهل ما يكون، فقد تكون له علاقات محرمة لا يقطعها، وصور موجودة لا يتلفها، وأفلامٌ سيئة لا يتخلص منها، وأرقام هواتف لا زال يحتفظ بها، كل ذلك من أثر مرض نقص الاستقامة، ولو أنه جلس في مجلس فظهرت على الشاشة مباراةٌ لكرة القدم؛ لانخرط في التشجيع وانهمك به، واتخذ جانباً معيناً وصارت القضية قضية مهمة عنده، هذا لنقص استقامته، وأقرب نوعية للانتكاس هي هذه النوعية.(226/24)
من مظاهر نقص الاستقامة: عدم القيام بواجب الإصلاح والإنكار
من آثار نقص الاستقامة: عدم الاهتمام بالبيت وإصلاح البيوت، ويكون هذا الإنسان الذي يزعم الاستقامة شبه معطل ليس عنده طاقات يبذلها لله لا إنكار منكرات، ولا قيام لله بواجب الذب عن شريعته، وربما لو أن المجلس حصل فيه اتهامٌ للإسلام أو طعنٌ في الدين ما قامت له قائمة ولا تحرك له رمشٌ ولا اختلج فيه عرق؛ لأن من الخذلان -والعياذ بالله- ما يمنعه عن الدفاع عن بيضة الدين وحفظ هذه الشريعة.
أن تمر بالمنكر فلا تنكره، لماذا؟ أتخشى الناس؟! فالله أحق أن تخشاه: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] أين إنكار المنكر ولو بالكلام؟ إن لم تستطع باليد فبالكلام، وماذا يضرك لو تكلمت؟ ثم إننا مطالبون بالنصيحة والكلام والصبر على الأذى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17].
إلقاء التبعات على العلماء والخطباء والقول إنهم مسئولون عن تصحيح الانحرافات أنا مسلم عادي ما عندي شيء مقصوص الأجنحة لا أستطيع أن أفعل شيئاً، من قال ذلك؟ أنت يمكن أن ترى منكرات لا يراها أولئك العلماء والخطباء، وأن تكون في بيئات لا يأتي إليها العلماء والخطباء، وأنت تجلس في أوساط ومجالس لا يغشاها أولئك القوم؛ فعليك المسئولية والتبعية، فلماذا التخاذل عن إنكار المنكر؟ لماذا الاستسلام للدعة والخشية من أن يرد عليك أو يقال فيك كلمة؟ أين النصيحة؟ (الدين النصيحة) النصيحة لله أن تذب عن دينه وشريعته أن تقوم له سبحانه النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم النصيحة لكتاب الله، أين النصيحة لكتاب الله وهم في المجلس يتكلمون على الإسلام وأنت ساكت؟(226/25)
من مظاهر نقص الاستقامة: ضياع الأوقات في الأسفار
وكذلك نعاني أيضاً من ضياع الأوقات في الأسفار التي لا طائل من ورائها، وحياة الاصطياف التي يعملها كثيرٌ من الناس لا مصلحة شرعية فيها، بل فيها كثيرٌ من المضرة وإنفاق الأموال الكثيرة، ويحصل فيها من قسوة القلب ورؤية المنكر ما يجعل الإنسان مختل الإيمان ينزل إيمانه إلى الحضيض يرجع من الإجازة لم يزدد إيماناً وإنما نقص إيمانه ونقص دينه وفرط في أشياء كثيرة.(226/26)
مظاهر أخرى مخالفة للاستقامة
ينبغي أن تكون استقامتنا على الدين استقامة صحيحة كاملة واعية، أن نمسك بهذا الدين فعلاً، لا نترك إلقاء السلام على الناس بحجة أنهم غير متمسكين، وأن عندهم نوعاً من الفسق؛ بل أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وابتسامتك في وجه أخيك صدقة، دع الغيبة التي تكون بخلاف النصيحة، ودع التظاهر بالانشغال وليس عندك شيء لتبدي نفسك شخصاً مهماً، واترك الضعف والوهن، ودافع عن عرض أخيك المسلم، أليس من السوء كل السوء أن كافراً يستهزئ بمسلم مثلاً وتضحك أنت مشاركةً لهذا الكافر؟ أليس من الخلل في الاستقامة أن يكون عندنا السرعة في الحكم على الآخرين وانطلاقه من الهوى والعاطفة؟ أليس بخلاف الاستقامة أن نحكم بالنيات بالفساد ولا يعلم النيات إلا الله، ولم يظهر لنا هذا الرجل شيء؟ وينبغي أن نحمل أمر أخينا المسلم على أحسنه، أليس مما ينافي الاستقامة إهدار الأموال العامة من المياه والكهرباء وغيرها ولو كنت أنت لا تدفع الفواتير؟ أليست هذه ملك لبيت مال المسلمين في الأصل وإن فرط فيها من فرط وضيع فيها من ضيع، فهل أنت تشارك المفرطين والمضيعين؟ أليس مما ينافي الاستقامة أن نتشدد مع من تحتنا من الناس بشيء لا تأمر به الشريعة بحجة الحزم في العمل، وننفر الناس من أهل الدين مع أن المسألة لا تساوي كل هذا الأمر من الحملة والعقاب؟ أليس مما ينافي الاستقامة أن يتأخر الإنسان من عمله ويخرج قبل الوقت ويتكلم مع بقية زملائه، والمراجعون يقفون في الطوابير، فيترك العمل ويعطل العالم؟(226/27)
محاسبة النفس وتقويمها
أيها الإخوة: إن الكلام في هذا الموضوع يطول ويطول، والمظاهر المخالفة للاستقامة سواءً كانت مخالفة لكمال الواجب أو لكمال المستحب كثيرة، وأعود فأقول: نحن نحتاج أن نحاسب أنفسنا وننظر في أمرنا ونسأل الله سبحانه وتعالى السداد.
أيها الإخوة: إن العمر قصير، وإننا مقبلون على يومٍ لا بد منه: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
إننا نحتاج أن نقوم أنفسنا فعلاً على ضوء هذه الشريعة، وأن نكون عباداً ناصحين مخلصين مستقيمين، لا نريد أن نكون أصحاب مظاهر، ولا نعمل ليقال: إننا عملنا كذا، وإنما نربي أنفسنا ونستقيم على الدين وعلى الشريعة.
ينبغي أن نكون دعاةً بأفعالنا قبل أن نكون دعاة بأقوالنا، لا بد أن تزول هذه الغثائية الموجودة في عالم الصحوة لماذا تأخر النصر؟ لماذا استمرأ الأعداء؟ لماذا طال ليلنا؟ السبب من أنفسنا نحن، فإذا كنا نريد أن نكون صادقين مع الله وصادقين في اتباع الشريعة؛ فلا بد أن نقوم بتنزيه أنفسنا من هذه النقائص والعيوب.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلنا وإياكم هداةً مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يتوب علينا أجمعين، وأن يرزقنا حسن الخاتمة، إنه سميع مجيبٌ كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(226/28)
نيران الدنيا [الاستدانة]
إن كثيراً من الناس قد خالفوا أمر الله في إبراء ذممهم، فأقدموا على أمر يقلق أنفسهم ويقض مضاجعهم، ألا وهو الاستدانة وأخذ القرض، حتى ركبت كثيراً منهم الديون، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً أشد الحرص على قضاء الدين؛ لأن الدين مذلة ومهانة، وهو كذلك مدعاة للكذب وإخلاف الوعد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.(227/1)
اهتمامه صلى الله عليه وسلم بوفاء الدَّين
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
عباد الله: إن كثيراً من الناس قد خالفوا أمر الله ورسوله في إبراء ذممهم، وأتوا على أمر من الأمور الذي يقلق أنفسهم ويقض مضاجعهم، ألا وهو الاستدانة من الغير وأخذ القرض والسلف؛ حتى ركبت كثيراً منهم الديون، واجتمع عليهم من الهموم ما لا يذوقون معه طعماً للنوم ولا يهنئون بعيش.
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذرنا من الاستدانة، الاستدانة التي لا يكون لها داعٍ وإنما يدفع إليها عدم القناعة والحرص على الاستكثار من الدنيا، والتوسع في الملذات الفانية، إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (لو كان لي مثل أحدٍ ذهباً ما يسرني ألا يمر عليَّ ثلاثٌ وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين) كان اهتمامه بأمر وفاء الدين عظيماً.
إن الإنسان قد يضطر أحياناً للاستدانة، وإنه عليه الصلاة والسلام يقول: لو كان عندي مثل أحدٍ ذهباً لأنفقته في سبيل الله، لا يمر عليَّ ثلاث إلا أنفقت في سبيل الله ما عدا أمراً واحداً وهو إعداده لإيفاء الدين.
أيها المسلمون: ولقد حرصت الشريعة أيما حرص على حقوق العباد، فإن حقوق العباد عظيمة، والله قد يتسامح في حقوقه لكن حقوق العباد باقية، ولذلك فقد جاءت الشريعة بالأمر بقضاء الدين قبل الوصية، فلو مات الميت وعليه دين وقد أوصى بوصية ولأهل الميراث حقوق، فإن الدين يقدم على الوصية، وعلى ميراث الورثة، فيقضى الدين أولاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (الدين قبل الوصية).
إن الذين يرهبون أنفسهم بالدين لا يعلمون المعنى الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بقوله: (لا تخيفوا أنفسكم بالدين) لأنه خوفٌ ومخافة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل من دعائه شيئاً يستعين به ربه على هذا الأمر، فكان يقول: (اللهم استر عورتي، وآمن روعتي، واقض عني ديني) وكان عليه الصلاة والسلام يقول أيضاً: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال) أما ضلع الدين: فهو غلبة الدين؛ لأنه يرهق صاحبه إرهاقاً، وضلع الدين: هو الذي لا يجد الدائن من يدينه، وكان يقول -أيضاً- في رواية: (اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين) بل إنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو في الصلاة بقوله: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المأثم والمغرم! فقال: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف) وانظر إلى حال هؤلاء الذين يركض أصحاب الديون وراءهم لأخذ الديون، ترى العجب في الكذب في الحديث وإخلاف الوعد، يعده مرات كثيرة ثم لا يوفي، لو قال له: لا أستطيع، أو ليس لدي مال لكان أهون، لكنه يعد ويخلف، ويعد ويخلف، ويعد ويتهرب وهو على هذا الحال.(227/2)
إجراءات الشريعة لحفظ الدَّين وتوثيقه
والشريعة قد جعلت للدين إجراءات لحفظه وتوثيقه، فمن ذلك توثيقه بالكتابة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282].
ثانياً: توثيقه بالشهادة لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282].
ثالثاً: توثيق الدين بالرهن لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] فيرهن أرضه أو شيئاً عنده لأجل أن يوثق الدين لصاحب الدين.
رابعاً: توثيقه بالكفالة، كل هذه الإجراءات دالة على أن الشريعة تحفظ حقوق العباد، وأنها حريصة على عدم تضييعها.(227/3)
مذلة الدَّين
إن الدين مذلة؛ لأنه قد يدخل صاحبه السجن فتسوء سمعته وسمعة أولاده وأهله بين الناس، وقد يحرج مع الديَّانة حتى يلجأ إلى الكذب وربما علمه لأولاده، فيقول: قل لهذا الطالب للدين الطارق للباب إن أبي غير موجود، وكذلك إذا اتصل به بالهاتف -مثلاً- يكذب ويعلم أولاده الكذب، وقد يحلف حراماً بالحرام، أو يطلق وهو حانث وكذاب، أو يضطر للتخفي ويتحرج من مواجهة الناس الذين يطالبونه فيتوارى عن الأنظار والمجالس، ويحرم المعيشة الطبيعية ومعاشرة الخلق، وربما ذهب الحياء منه وصار ليس في وجهه ماء، فمهما ألح عليه الديَّانة وطاردوه قابلهم بوجه صلف ونفس ليست بنفس طيبة، فيزول من حيائه ومن ماء وجهه ما الله به عليم، ويكفي وقوعه في بعض آيات المنافق (وإذا وعد أخلف) فهو كثيراً ما يعد فيخلف، وقد يضطر للوقوع في الربا ليس اضطراراً شرعياً وإنما نفسياً لا يجيزه له الله ولا رسوله، فيقترض من المرابين ليسدد بالزيادة ليفر من السجن، والسجن أهون وأحب للمؤمن من الاقتراض بالربا؛ لأنه إذا سجن وهو مغلوب على أمره كان السجن ابتلاء وكفارة، وإذا اقترض بالربا ليسدد الدين فهو ملعون؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لعن الله آكل الربا وموكله) والموكل: الذي يدفعه إلى المرابي، وقال: (الآخذ والمعطي سواء) فالسجن أحب إلى المؤمن من الاستلاف بالربا لو كانوا يعلمون، ولو كانوا يعقلون، ولكنهم قوم لا يفقهون، وربما استدان من مرابٍ ليوفي مرابياً آخر، وهكذا يزداد عليه الدين ويعظم حتى لا يكون له أملٌ في السداد مطلقاً في حياته.
يقول بعض السلف: لأن تلقى الله وعليك دَين ولك دِين -لأنك لم تدفع بالربا- خيرٌ من أن تلقاه وقد قضيت دَينك وذهب دِينك.
وهو مذلة لما فيه من شغل القلب والبال، والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمل منة الناس بالتأخير إلى حين أوانه، وربما مات فصار مرتهناً بدينه، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر أن نفس المؤمن مرتهنةٌ بدينه، فهو محبوس مأسور حتى يوفى عنه دينه، وهو يجعل المستدين ذليلاً من جهة أنه يحس في قرارة نفسه أنه محتاجٌ إلى غيره، وقد يجر على نفسه تسلط غيره عليه، فإن كان الدائن الذي أعطاه لا يراعي حقوق الأخوة فقد يبدأ بالتدخل في شئونه الخاصة، وقد يتكلم فيما يؤذيه في أهله وولده ومسكنه، بل قد يتدخل في تجارته ومصروفه وراتبه، فيقول: بع كذا، ولا تشتر كذا، وارهن كذا، والمدين المسكين يحرج ولا يستطيع أن يخالف حتى وجهة نظر دائنه، وهو مذلة -أيضاً- لأنه سيسمع من الدائن كلاماً قاسياً ومن الناس كذلك، ويضطر إلى السكوت على مضض، وربما لا يجد جواباً، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: [رآني عمر وأنا متقنع، فقال: يا أبا خالد! إن لقمان كان يقول: القناع بالليل ريبة، وبالنهار مذلة، فقلت: إن لقمان لم يكن عليه دين].
وقال عياض بن عبد الله: الدين راية الله في أرضه، فإذا أراد أن يذل عبداً جعلها طوقاً في عنقه.
ومن أمثالهم: لا هَمَّ إلا هَمُّ الدين، ولا وجع إلا وجع العين.
ويروى عن عمر أنه قال: [إياكم والدين فإن أوله هَمٌّ وآخره حرب].
وقال عمر بن عبد العزيز: " الدين وقر طالما حمله الكرام ".
ومن أمثالهم: الدين رق فلينظر أحدكم أين يضع رقه.
وساير بعضهم رجلاً وهو يحادثه وفجأة قطع الحديث واصفر لونه، فقال له الرجل: ما هذا الذي رأيت منك؟ فقال: رأيت غريماً لي من بعيد.
ونفَّس بعض المدينين عن نفسه بقوله:
ألا ليت النهار يعود ليلاً فإن الصبح يأتي بالهموم
حوائج ما نطيق لها قضاءً ولا دفعاً لروعات الغريم
الدين هم بالليل وذل بالنهار، نقول هذا الكلام -أيها الإخوة- لأننا نجد في الواقع من الأمراض الاجتماعية تساهل الناس بأمر الدين والاستدانة، نحن لا نعتب على الذين استدانوا اضطراراً فهذه ضرورة وحاجة، لكن الذين يشترون الكماليات التي لا يملكون قيمتها أو بعض قيمتها، فيصبح الاقتراض عندهم من أسهل الأمور، الدين سهل حلو عند أخذه في البداية، ولكنه حنظل مر عند حلول أجله والمطالبة به.
التبذير والإسراف من العادات القبيحة التي فشت بين الناس، وهم لا يرضون بأن يمدوا أرجلهم على قدر لحافهم ولكنهم يريدون أن يصلوا من لحاف غيرهم بلحاف أنفسهم حتى يمدوا أرجلهم أقصى ما يستطيعونه، ولو أنهم تعقلوا فأنفقوا على قدر طاقتهم واستطاعتهم ما حصل لهم هذا الخزي، والعجيب أنك ترى بعض هؤلاء يسكن بيتاً فخماً ويركب سيارةً فارهة، وربما وضع بها هاتفاً سياراً كل ذلك بالدين، ولعله لا يجد في جيبه ما يملأ به خزان وقود سيارته من أجل المظهر، حب المظاهر والشهرة، وحب الظهور أمام الخلق، والمراءاة، وحتى يقال عنه: صاحب كذا وله كذا، مرض والعياذ بالله، يجدد سيارته وليس عنده مال، ويشتري بالتقسيط ولا يقنع، وبعض البنوك تعطي بعض الناس مبالغ يقولون: هذه مليون ضارب بها، يعطونه إياها بالربا، فيعطون المجال لبعض الناس بأن يسلفوهم مالاً يركبه الدين والربا، وهذا الذي يريد المخاطرة والمجازفة وليس عنده دين يأخذه ليضارب به، ثم قد يكسب وقد يخسر، والدين والربا عليه باقيان.
وبعض الناس يستلفون من البنوك بالربا ليعملوا المشاريع، ويشتروا الأراضي ويقول: هذه أرض جيدة وليس عندي مال وفيها مربح، فيستلف من البنك على أمل أن يبيع الأرض بربح يسدد به الدين ويبقى له ربح ولا يعلم بأنه لم يبق له دين.
هؤلاء الجشعين الذين يريدون أن يتوسعوا في التجارات، وليس التوفيق حليفهم والله، ولا بركة لهم في مكاسبهم، يأخذون بالربا، وبعض الناس يتساهلون في الاستلاف من أموال اليتامى أو النساء، ويكون بعض النساء عندهن أموال من الوظائف والرواتب فيأخذها سلفاً ليضارب بها، ولو أنه أخذها إحساناً لأجر، ولكن توسعاً في الدنيا وجرياً، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أحرج عليكم حق الضعيفين اليتيم والمرأة).
وبعض الناس يستلفون من أموال الأمانات والصدقات التي عندهم وهذا حرام، لا يجوز أن تأخذ من الأمانة، ولو أعطيت صدقة لا بد أن تؤديها إلى مستحقها؛ لأنك وكيل، أعطيت الصدقة فلا يجوز أن تأخذ منها شيئاً.(227/4)
أنواع المدينين
والمدينون ثلاثة أنواع: أولاً: أن يستدين وهو يعلم من حاله ودخله أنه سيوفي.
ثانياً: منهم من يستدين وهو يعلم من حاله ودخله أنه يستحيل عليه أن يوفي.
ثالثاً: منهم من يستدين وهو لا يدري هل يستطيع الوفاء أم لا.
وأشدهم الأوسط الذي يستدين وهو يعلم من حاله ودخله أنه لا يمكنه الوفاء.
والدين دينان كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الدين دينان: فمن مات وهو ينوي قضاءه فأنا وليه، ومن مات وهو لا ينوي قضاءه فذاك الذي يؤخذ من حسناته ليس يومئذٍ دينارٌ ولا درهم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه دين فليس ثَمَّ دينار ولا درهم ولكنها الحسنات والسيئات).
إذاً: من الناس من يستلف وهو ينوي الأداء، ومن الناس من يستلف وهو ينوي عدم الأداء، وهذه من المصائب الموجودة في الناس، وهي من أسباب العداوات، قال عليه الصلاة والسلام: (ما من أحدٍ يدّان ديناً يعلم الله منه أنه يريد قضاءه إلا أداه الله عنه في الدنيا) ما من عبدٍ كانت له نية في أداء دينه إلا كان له من الله عون.
من أخذ ديناً وهو يريد أن يؤديه أعانه الله، خصوصاً إذا احتاج إلى الاستلاف لكي يتزوج لإعفاف نفسه، لأنه يخشى على نفسه الوقوع في الحرام، أو اضطر إلى الاستدانة لإطعام أولاده وهو ينوي الأداء خالصاً لله وفياً لصاحبه، فالله يعينه ويكون معه: (إن الله تعالى مع الدائن حتى يقضي دينه ما لم يكن دينه فيما يكره الله).
هؤلاء الذين يتوسعون ويشترون بالأقساط، كثيرٌ من الذين يشترون بالأقساط في الحقيقة يجرون وراء الدنيا ليسوا بمحتاجين، وهذه الشركات التي فتحت أبوابها لإغراء الناس بالشراء بالأقساط -أيضاً- تتحمل جزءاً في ذلك، وقال النبي عليه الصلاة والسلام مبيناً خطورة الذي يستدين وهو لا يريد الوفاء: (أيما رجل تدين ديناً وهو مجمع -أي: عازم- ألا يوفيه إياه لقي الله سارقاً) وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) فهذا الذي يؤخذ من حسناته يوم القيامة وترمى عليه السيئات، هذا إنسان متساهل في الدين، يستدين بدون حاجة فيما يكره الله، هذا الذي لا يعينه الله، بل إنه يكون عليه وبالاً يوم القيامة، فالمسألة مسألة نية، ومن علاج الاندفاع للدين أمور: منها: القناعة، فإنه لو قنع بحاله فرزقه الله القناعة بعيشه لم يتطلب أكثر، لكن الناس لا يقنعون، القناعة كنزٌ مفقود.
وثانياً: الزهد في الدنيا، فإنه لو علم أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وأن (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه) ملعونة لا تساوي عند الله جناح بعوضة، حقيرة زائلة فانية، ما ركض وراء متاعها وركب الديون على ظهره.
وقد تكون الاستدانة لضرورة مثل علاج لا يملك قيمته، أو صاحب زواج يخشى على نفسه الحرام، لكن يشترط أن ينوي الوفاء عند الاستدانة، وأن يبحث بكل الوسائل من تجارات طيبة، واستثمارات، وأعمال إضافية حلال؛ ليخلص نفسه من رق الدين.
ألم تعلم -يا عبد الله- أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر كفر الله عنك خطاياك إلا الدين، كذلك قال لي جبريل آنفاً) وقال عليه الصلاة والسلام: (أول ما يهراق من دم الشهيد يغفر له ذنبه كله إلا الدين) حديث صحيح.
(من فارق الروح جسده وهو بريء من ثلاث دخل الجنة الكبر، والدين، والغلول) والغلول: السرقة من الغنيمة، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (سبحان الله ما أنزل من التشديد في الدين! والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحيي، ثم قتل ثم أحيي، ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه) حديث حسن.
وقال صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه).
مات في عهد النبي عليه الصلاة والسلام رجل، قال جابر: (فغسلناه وكفناه وحنطناه ووضعناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل، ثم آذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه، فجاء معنا فتخطى خطاً ثم قال: لعل على صاحبكم ديناً؟ قالوا: نعم ديناران، فتخلف وقال: صلوا على صاحبكم، فقال له رجل منا يقال له أبو قتادة: يا رسول الله! صل عليه وعلي دينه، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لقيه عليه السلام من الغد -لقي أبا قتادة - فقال: ما صنعت الديناران؟ قال: يا رسول الله! إنما مات أمس، ثم لقيه من الغد، فقال ما فعل الديناران؟ قال: قد قضيتها يا رسول الله! قال: الآن حين بردت عليه جلده، أو الآن حين بردت عليه جلدته) لما قضي عليه الدين بردت عليه جلدته وهو في القبر.
وأخبر رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهماً، وترك عيالاً، قال: فأردت أن أنفقها على عياله، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أخاك محبوس بدينه فاقض عنه) النبي صلى الله عليه وسلم رفض أن يصلي على من كان له دين لم يقضه، وهذا محمول على الذي استلف وهو متهاون لا يريد القضاء، أما من استلف وهو يريد القضاء ثم مات فالله يعينه، ويتكفل الله له بحسن نيته بأن يقضي عنه في الدنيا، ويبرئ ذمته بمحسنين أو بورثةٍ، أو أنه يعطي الدائن حسنات يوم القيامة نظراً لحسن نية المدين الذي استدان اضطراراً وهو يريد الوفاء، قال عليه الصلاة والسلام: (هاهنا أحدٌ من بني فلان؟ إن صاحبكم مأسورٌ بدينه عن الجنة، فإن شئتم فافدوه وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله) هذه النصيحة للورثة؛ إذا علموا أن على ميتهم ديناً أن يسارعوا إلى قضائه، الحقوق في الشريعة مكفولة، والله لا يضيع حقاً لعبد حتى الكفار غير المحاربين، الكفار حقوقهم باقية، ويجب أداء الديون لهم، ويجب إعطاء الناس حقهم.
اللهم إنا نسألك القناعة، اللهم إنا نسألك القناعة، اللهم قنعنا بما رزقتنا، اللهم اقض عنا ديوننا.(227/5)
تقديم الدين على الحج
الحمد لله رب العالمين.
عباد الله: إن هذا البلاء الاجتماعي الذي أصبنا به وهو التوسع في الدنيا ولو بالديون أمرٌ خطير، إن من الناس من يجعل له أرصدة في الداخل أو في الخارج ثم يقترض بالربا ليتاجر ويقول: أخاطر بمال غيري ثم أدعي أنه ليس عندي شيء، وحتى النساء سمعنا فيما سمعنا أنه قد صار عندهن شراء الذهب بالدين والأقساط، شراء الذهب بالأقساط حرام لأنه فيه ربا، شراء الذهب يجب أن يكون يداً بيد، تسلم النقود وتشتري الذهب في نفس المجلس في الدكان أو المحل، ولا يجوز لك أن تستلم الذهب وتؤخر القضاء والسداد، والآن لطمعهن في الدنيا وقلة عقول الرجال معهن صار شراء الذهب بالأقساط من أجل التفاخر والتكاثر: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1].
والدين -يا عباد الله- منه ما هو دينٌ لله مثل الكفارات والنذور، وقضاء الصوم والزكاة، والحج من أعظم الديون التي في رقبة العبد لربه.
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم.
حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك ديناً أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء).
إذا كان على الإنسان دين يستغرق ما عنده من المال -وقد طرحنا الموضوع لقربه من الحج، وسؤال بعض الناس عن مسألة الحج والديون- إذا كان على الإنسان دين يستغرق ما عنده من المال، فإنه لا يجب عليه الحج؛ لأنه في هذه الحالة ليس من أهل الاستطاعة ولا داخلاً في قول الله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] فعليه أن يوفي الدين أولاً.
وأما إذا كان الدين أقل مما عنده بحيث يتوفر عنده ما يحج به من بعد أداء الدين، فإنه يقضي الدين ويحج وجوباً حج الفريضة، وإذا كان مطالباً من أصحاب الدين فلا يجب عليه الحج إذا لم يكن عنده وفاء وهو مطالب، ولا يحج إلا بعد الوفاء ما لم يطالبوه، فإذا علم منهم التسامح وأذنوا له وقالوا: قد أجلناك، فإنه يجوز له الحج، وربما يكون الحج سبباً في قضاء دينه، ولا يلزمه الاستدانة ولو وجد من يسلفه، الذي ليس لديه مال لا يلزمه شرعاً أن يستدين للحج ولو وجد من يسلفه، ولو حج بمال غيره بأن أهداه له، أو تبرع له به، أو حج على نفقته، فحجه صحيح ولو كان حج فريضة.
والذين عليهم أقساط سيارات أو بيوت أخذوا قروضاً من صندوق التنمية ونحو ذلك، إذا كانوا منتظمين في التسديد، فإنه لا حرج عليهم في الحج، وكذلك إذا كانوا يملكون من المستحقات ما يكفي لتسديد ديونهم لو حصل لهم شيء من أمر الله فمات الشخص وعنده من التقاعد أو مكافأة نهاية الخدمة ونحو ذلك ما يسدد به، يكتب في الوصية ويذهب إلى الحج.
ومن حج بمالٍ اقترضه فحجه صحيح، لكن الأفضل والأولى ألا يفعل ذلك؛ لأن الله إنما أوجب الحج على من استطاع إليه سبيلاً، ولا يصلح أن تشغل ذمتك وتستدين، والله لم يوجب عليك أن تستدين، إذا كان الدين غير محدد القضاء لوقت معين، بل على التيسير، وأصحاب الدين متسامحون فلا بأس أن يذهب إلى الحج، وإذا طالبوا وشددوا وقالوا: هات المال، فيعطيهم المال ويخفف عن نفسه.
وبعض الناس -يا عباد الله- يعتقد أن الإنسان إذا كان عليه صيامٌ فإن حجه غير صحيح، وهذا غير صحيح، وبعضهم يعتقد أنه إذا لم تذبح عقيقة الشخص فلا حج له، وهذا غير صحيح -أيضاً- وهو من المعتقدات الخاطئة؛ لأن العامة عندهم معتقدات فقهية خاطئة، فالذي لم يعق عنه فحجه صحيح.
وأذكركم وأذكر نفسي في ختام هذه الخطبة، بأن الله سبحانه قد جعل للدين آداباً للمدين والدائن في الإقراض والاستقراض والأداء لا يمكن ذكرها الآن لقصر الوقت.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(227/6)
وسائل محاربة الشيطان وأتباعه
لقد حذرنا الله عز وجل من دخول سبل الشيطان، الذي هو عدونا وعدو أبينا آدم، هذا الشيطان الذي طرده الله من رحمته وتوعده بالنار خالداً فيها، فطلب من رب العزة أن يمهله وأخذ العهد على نفسه أن يعمل على إضلال بني آدم، ولما كان الشيطان بهذا الخبث والمكر شرع الله لنا كل طريق للاستعاذة منه ومن شره، والوقاية منه ومن مكره.(228/1)
وسائل الوقاية من الشيطان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:5 - 6].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:208].
على رأس كل طريق شيطان يدعو إليه، فإياك أيها المسلم! من دخول سُبل الشيطان التي حذرنا الله منها، هو عدوك وعدو أبيك آدم، هذا الشيطان الذي طرده الله من رحمته وتوعده بالنار خالداً فيها، فطلب من رب العزة أن يمهله وأخذ العهد على نفسه أن يعمل على إضلال بني آدم، ولما كان الشيطان بهذا الخبث والمكر شرع الله لنا كل طريق للاستعاذة منه ومن شره، والوقاية منه ومن مكره، وتجنبه ورد كيده في نحره.
ومن أعظم طرق الشيطان ما قاله الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90 - 91] وكم من المسلمين يقعون اليوم في شرب الخمور التي هي من أعظم وسائل الشيطان لصد المسلم عن طاعة ربه وعبادة الله الواحد الأحد، وكذلك أنواع الميسر التي انتشرت بين الناس في بيوعهم وشراءاتهم، فلا يزالون يقعون فيها ويلعبون مختلف الألعاب التي تقوم على فكرة الميسر: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
فهناك مجالس لأعوان الشيطان؛ يزين الشيطان للمسلم أن يقعد فيها، فيحذر الله من هذا أشد التحذير، وللشيطان سُبل كثيرة، لكن ما هي الوسائل التي تقي المسلم كيد إبليس؟ وما هي الأعمال التي يقوم بها فيبتعد بها عن شر هذا العدو؟ إن الشريعة قد جاءت بأمور كثيرة فمن ذلك: الأذان: (إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة أحال -تحول من موضعه- وله ضراط حتى لا يسمع صوت التأذين، فإذا سكت -يعني: المؤذن- رجع فوسوس، فإذا سمع الإقامة ذهب حتى لا يسمع صوته -صوت المؤذن- فإذا سكت رجع فوسوس للمصلي) فعليكم -عباد الله- بالأذان وإقام الصلاة، ولا تفعلوا كبعض الضعفاء الذين يستحيون إذا صاروا في بر أو موضع فيه أناس يستحيون من التأذين، وهذا شعار الإسلام ومطردة للشيطان.
ومما شرعه الإسلام لنا قول: باسم الله إذا وضع أحدنا ثوبه؛ لأن باسم الله ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم.
ومن ذلك: أن المرء المسلم ينبغي أن يخلو بذكر الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من راكب يخلو في مسيره بالله وذكره إلا كان رادفه ملك، ولا يخلو بشعر ونحوه -من هذه الأمور المذمومة- إلا كان رديفه شيطان) فانظر إلى أصحاب السيارات والمسافرين كم يحملون معهم من أشرطة الأشعار والأغاني التي هي من سبل الشيطان، يصحبون بها أنفسهم في السفر بدلاً من أن يصحبوا أنفسهم بذكر الله فيصحبهم الله في سفرهم.
وكذلك إذا قمت من النوم -يا عبد الله- فاستنثر ثلاث مرات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاث مرات، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه) فاعتن بهذا الاستنشاق والاستنثار، ودع عنك ما يفعله الجهال من وضع الماء على طرف الأنف دون سحبه إلى الداخل.
وإذا سمعتم نهيق حمار أو نباح كلب بالليل، فتعوذوا بالله من الشيطان فإنهن يرين مالا ترون، وكذلك استعذ بالله عند قراءة القرآن كما قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] وعند الغضب (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لذهب عنه ما يجد) وعند دخول الخلاء قل: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) هؤلاء ذكران الشياطين وإناثهم، وأنت تستعيذ بالله منهم ومن شرهم قبل دخول الخلاء.
وكذلك فإن مما شرعه الله للمسلم أن يتعوذ بالمعوذتين: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، يتلوهما بعد كل صلاة ثلاث مرات وقبل النوم ثلاث مرات مع السورة العظيمة التي تعدل ثلث القرآن، إن مجموع هذه السور تحصن المسلم أشد تحصين من الشيطان وشره، من عين أو سحر أو كيد ونحو ذلك.
وهؤلاء ينامون كالجيف لا يذكرون الله قبل النوم، ولا يتعوذون بالله فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:1 - 4].
والعوام تعودوا إذا حصل لهم شيء أن يلعنوا إبليس وأن يسبوا الشيطان بدلاً من أن يذكروا الله عز وجل، وهذا أقل ما فيه أنه يفوت عليه خيراً عظيماً، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الشيطان وتعوذوا بالله من شره) وأرشدنا إلى أمر أهم وقال: (لا تقل تعس الشيطان فإنه يعظم حتى يصير مثل البيت، ويقول: بقوتي صرعته ولكن قل: باسم الله، فإنك إذا قلت ذلك تصاغر حتى صار مثل الذباب).
أرشدتنا الشريعة إلى قراءة سورة البقرة في البيت، وقال عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا سورة البقرة في بيوتكم؛ فإن الشيطان لا يدخل بيتاً يُقرأ فيه سورة البقرة) فكم من قارئ لسورة البقرة في بيته! وإذا مررت بسورة فيها سجدة فاسجد -يا عبد الله! - فإن سجودك إرغام للشيطان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويلاه! أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار) هكذا يتحسر إبليس.
وأنت يا أيها الزوج مع زوجته تجنب الشقاق والفراق، فإن هذا من أعظم مداخل إبليس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم -من الشياطين الصغار إلى القائد إبليس- فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً، ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله، فيدنيه منه ويقول: نعم.
أنت الذي قمت وعملت) أنت الناجح في عملك.
وهؤلاء المغتاظون من الرجال يطلقون ألفاظ الطلاق مرات عديدة متوالية، يؤزهم الشيطان أزاً، ولا يفكرون بمستقبل الأولاد، يعميهم الشيطان بالغضب أن يفكروا في مصالح أنفسهم.
رصوا الصفوف -يا عباد الله! - فإن رص الصفوف من وسائل محاربة الشيطان؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقيموا الصفوف ولا تذروا فرجات للشيطان، أقيموا صفوفكم وتراصوا فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشياطين بين صفوفكم كأنها غنم عفر -بيضاء ليست بناصعة- بين أظهركم) فإذاً: ما حال الذين يتباعدون بينهم وبين جيرانهم في الصف، ولا يريدون إلزاقاً ولا سداً للفرجة، هؤلاء من الذين تشتد وسوسة الشيطان عليهم في صلاتهم، فإذا صليت يا أيها الإمام! ويا أيها المنفرد! اجعل سترةً أمامك فإنها مهمة في دفع الوساوس في الصلاة، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يمر الشيطان بينه وبينها -وفي رواية- لا يقطع الشيطان عليه صلاته) فإذا جاءك في الصلاة فوسوس لك وذكرك بموضوعات الدنيا، وأدخلك في أوديتها ومتاهاتها، وأولجك شعبها فإن لك من نبيك نصيحة.
قال أحد الصحابة: (يا رسول الله! إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي، وقراءتي يلبسها عليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذا أحسسته؛ فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً، قال: ففعلت فأذهبه الله عني) فإذا كنت تصلي وحدك أو ليس بجانبك أحد وجاء الوسواس في الصلاة؛ فإنك تتفل عن يسارك كما في الحديث مع الاستعاذة، وإن كان بجانبك أحد فلم تحب أن تؤذي أحداً فاستعذ بالله من الشيطان أثناء الصلاة، فإن الله يُذهب عنك كيده ووسوسته، وما سجدتي السهو بهذه المناسبة إلا ترغيماً للشيطان الذي يوسوس للمصلي، فابن على الاستيقان وهو الأقل، إذا شككت ولم تعرف ترجيحاً لعدد الركعات التي صليتها، ثم بعد ذلك تسجد سجدتين للسهو ترغم بها أنف الشيطان.
ويا أيها المصلي المتشهد القارئ للتحيات! لا تنس رفع الإصبع أثناء التشهد في الصلاة، فإنه أثقل على الشيطان من الحديد، ارفعه وحركه، واجمع بين الرفع والتحريك دون عبث ولا سرعة شديدة جداً.
فإذا تثاءبت في الصلاة فلا يصدر منك ذلك الصوت الكريه، فإن الشيطان يضحك منك، وعليك أن تغطي فاك ولا تذره يدخل، فإنه يدخل مع التثاؤب ويضحك منك، بل اكتم التثاؤب ما استطعت ورده، وأغلق الفم ولا تذرها مضحكة للشيطان تؤذي عباد الله بصوتك ومنظرك الكريه.
وإذا دخلت بيتك فاذكر اسم الله تعالى حين تدخل وحين تطعم، فإنك إذا فعلت ذلك قال الشيطان لأعوانه: لا مبيت لكم ولا عشاء هاهنا وإذا دخل فلم يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإن لم يذكر اسم الله عند مطعمه؛ قال الشيطان: أدركتم المبيت والعشاء.
ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمسك بيده يد أعرابي وجارية جاءا يسعيان إلى الطعام لم يذكرا الله عز وجل؛ معهما يد ثالثة وهي يد الشيطان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (فوالذي نفسي بيده إن يده مع يديهما في يدي) وانظر إلى حال المتفرجي(228/2)
أتباع الشيطان وحربهم للإسلام
الحمد لله الذي لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، لا إله إلا الله يفعل ما يشاء، لا إله إلا الله الحي القيوم، لا إله إلا الله مالك الملك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، أشهد أنه عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وتابعيه إلى يوم الدين.
ومن أعظم أتباع الشيطان: اليهود والنصارى والمشركون، الذين عاثوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، هؤلاء الذين يقتلون إخواننا يومياً، يقتلون المسلمين في أرض فلسطين، ويقتلونهم اليوم في البوسنة، ويقتلونهم اليوم في الهند، هؤلاء الكفرة المشركون عباد الشيطان الوثنيون.
إن هذه الحادثة التي حدثت مؤخراً من إقدام الهندوس الكفرة الوثنيين عبدة الشيطان والأصنام، الذين يعتقدون البقرة إلهاً، ويستعد أحدهم ليحرف قطاراً عن مساره من أجل بقرة، عقولهم الوثنية التي تجعلهم يستحمون في نهرهم المقدس ويحرقون المرأة بعد موت زوجها، لأنه لا قيمة لها عند ذلك.
هذه التقاليد العفنة التي أورثها الشيطان لأولئكم القوم، والذين قاموا اليوم بتحريكٍ من أوليائهم من اليهود والنصارى بهدم مسجد تاريخي للمسلمين مسجد البابلي في الهند، هؤلاء الذين فعلوا فعلتهم ثم أتبعوها بفعلة أشنع وأقسى، ولكن كثيراً من الناس عنها غافلون، ألا وهي الإقدام على قتل المسلمين الذين احتجوا في الهند على هدم المسجد بالرصاص، حتى بلغت الإحصائيات المعلنة نحواً من تسعمائة شخص حتى الليلة الماضية.
وزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مؤمن بغير حق، وقتل المؤمن أعظم من هدم المسجد، ولكنهم أتبعوا هدم المسجد بقتل نحو من تسعمائة مسلم، هذا ما أعلن وما خفي كان أعظم، قتل المؤمن أشد من هدم المسجد، ولكنهم قتلوا مؤمنين ومسلمين كثر، وأنت يمكن أن تعرف حجم المأساة في صبيحة ذلك اليوم الذي وصلت فيه الأخبار أنك لو دخلت إلى البقالات والدكاكين التي يوجد بها عمال مسلمون من الهند، لوجدت حجم الكارثة على وجوههم، ونحن غافلون، ونحن نوظف الكفرة من الهندوس في الوظائف المختلفة عندنا.
يا أصحاب الأعمال! توبوا إلى الله، أما كفاكم أن يقوموا بتقتيل إخوانكم وهدم مساجدكم ونحن أمة واحدة لا فرق بين شرقيها وغربيها، ثم توظفونهم وتعطونهم الرواتب لكي يدفعوا منها إلى منظماتهم المنحرفة هناك، لتقوم بتمويل أعمال الاضطهاد ضد المسلمين، وتقوونهم اقتصادياً بهذه الرواتب والتحويلات الهائلة، حرام عليكم أن تفعلوا ذلك، كيف وقد نهاكم نبيكم أن تبقوهم في جزيرة العرب، فاتق الله يا من تستخدم هندوسياً أو كافراً وقد أعلنوا الحرب على إخوانك، ثم أنت توظفهم فلعنة الله على الظالمين.
ثم إن هؤلاء الهندوس قد فرحوا حتى وهم بين أظهرنا، ووزعوا الحلويات وهم بين أظهرنا بعد هدم المسجد، أقصد الذين يعيشون بيننا منهم ويشتغلون عندنا وزعوا الحلويات فرحاً بهدم المسجد.
يا من وضعت المسلمين والكفار في سكن واحد! كيف شعور إخوانك وهؤلاء يكيدون لهم ويغيظونهم الآن بعد هدم المسجد؟ أين رجل الأعمال المسلم، والتاجر المسلم، والمقاول المسلم، وصاحب البيت المسلم وهو يوظف هؤلاء الكفرة؟ نعم.
هم تآمروا على أن يجعلوا الوظائف، وعمال الاستقدام، ومكاتب الاستقدام تدفع بهم إلينا، لكن نحن لنا عقول ولنا وسائل، والمفروض أن نتجه لنصرة دين الله.
لقد نوى أمير المؤمنين عمر أن يفتح الهند، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عصابتان من أمتي أحرزهما الله من النار: عصابة تغزو الهند وعصابة يقاتلون مع المسيح ابن مريم) إذاً: هذا الجيش الذي فتح الهند ووصل إليها أحرزه الله من الشيطان، وأحرزه الله من النار بشارة بفتح الهند.
وقد تولى البداية في ذلك محمد بن القاسم رحمه الله تعالى لما استولى الوثنيون على سفينة فيها نساء للمسلمين، فاستنجدن بالمسلمين فجرد الجيش، وفتحت الأطراف، وخاض المسلمون البحر إليهم ودخلوا الدبيل وهي مدينة كراتشي اليوم، ثم اكتملت الفتوحات الإسلامية، وأشهر من توغل في بلاد الهند من المسلمين محمود بن سبكتكين الغزنوي رحمه الله، الذي انطلق من قاعدته غزنة في أفغانستان ليدخل بلاد الهند فاتحاً منصوراً، مكسراً أصنامهم، هادماً لمعابدهم، رافعاً راية التوحيد، عاملاً بين كل ثلاثة أميال مسجداً ورتب له إماماً ومؤذناً، وارتفعت راية التوحيد في بلاد الهند، فقتل الله من ملوكهم خلقاً عظيماً، قاتلوا المسلمين بالفيلة ولكن الله نصر عسكر التوحيد، هذا السلطان الذي آثر ما عند الله على أن يُعطَى من الجواهر واللآلئ والذهب والفضة مقابل أن يترك صنمهم الأعظم، لكنه آثر أن ينادى: يا عبد الله هادم الصنم عند الله يوم القيامة، أحسن من أن يقال: يا عبد الله يا آخذ اللآلئ والذهب والجواهر والفضة مقابل أن تتركها لهم.
هؤلاء اليوم يريدون القضاء على تاريخ المسلمين في الهند، حتى لو كان هناك مساجد لا يصلى فيها فهم يريدون هدمها، ولعلهم قد وقتوا ذلك مع هجوم شنيع على عاصمة البوسنة سراييفو، لتكون المصائب مجتمعة على المسلمين في آن واحد، وهذا تخطيط ماكر ولا شك، يريدون إيقاع المصائب متعددة في وقت واحد للمسلمين، فيوقتون هذه الأشياء لِنُصاب نحن بالإحباط، ونحن مع اعتقادنا ويقيننا أننا أكثر أمة مستهدفة في العالم.
نحن الذين نعرف كما اعترف اللورد البريطاني في الهند حينما كانت مستعمرة، قال: إننا نرى أن عدونا الأكبر هم المسلمون، إن هؤلاء القوم في قلوبهم عداوة لنا شديدة فلا بد أن نتجه إلى الهندوس، ولذلك في أيام الاستعمار ولوهم المناصب وأعطوهم أشياء كثيرة جداً، حتى آل الحال إلى ما آل إليه الآن، رغم أن الهند كانت تحكم قروناً بالإسلام.
إن جمع المصائب على المسلمين، وإغراق المسلمين بالأخبار السيئة والهجمات الشرسة التي يراد منها إحباط روح المعنوية، إنها -أيها المسلمون- خطة ماكرة، ولكننا على ثقة بأن الله سينصر دينه، المهم أن ننصر الله حتى ينصرنا الله، فإذا لم ننصر الله ولا شريعة الله ولا دين الله فكيف ينصرنا الله.
ولذلك: فإننا نتوجه إلى الله العلي العظيم مالك الملك الجبار، اللهم إنا نسألك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، نسألك بأسمائك الحسنى أن تنصر الإسلام والمسلمين، وتقمع الكفر والكافرين، اللهم أفشل مخططات الكفار، واجعل كيدهم في نحرهم، واجعل دائرة السوء عليهم، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم الكافرين، واشدد وطأتك عليهم يا قوي إنك على كل شيء قدير.
اللهم اجعل بأسهم بينهم، واردد سهامهم في نحورهم، ورد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً، اللهم اهد فاسقنا إلى الدين، وثبت المهتدي منا على السنة والحق المبين، اللهم طهر بيوتنا من المنكرات، اللهم أصلح ذرياتنا ونياتنا، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(228/3)
الأسماء والكنى والألقاب في ميزان الشريعة
أورد الشيخ -حفظه الله- في درسه هدي الشريعة الإسلامية في الأسماء والكنى والألقاب، فبدأ بذكر الهدي في الأسماء، وبين أثر الاسم على المسمى، ثم ثنى بذكر الكنى وذكر طائفة من الفوائد المتعلقة بالكنية للرجل والصبي، وما فائدة هذا الأدب في الشريعة الإسلامية.
ثم ثلث بذكر الألقاب وأن الإسلام قد منع منها إلا ما كان لضرورة.
وختم الشيخ كلامه بذكر أحاديث اشتهرت على الألسنة، وهي في الحقيقة موضوعة أو ضعيفة.(229/1)
مدخل إلى الأسماء في الإسلام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ومن هديه صلى الله عليه وسلم المحافظة على آداب الإسلام في التسمية والكنى والألقاب، وهذه من الآداب الإسلامية العظيمة التي غفل عنها كثيرٌ من المسلمين.
ونظراً لما في هذا الموضوع من الأهمية، إذ أن الاسم هو عنوانٌ للمسمى ودالٌ على معانيه، فإنه لا بد أن يحسن الاهتمام بالتسمية من قبل المسلمين.(229/2)
قول أهل السنة في أسماء الله وصفاته
اعلموا رحمكم الله تعالى أن ربكم قال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] له الأسماء الحسنى التي بلغت في الحسن غايته، فهي ليست حسنة فقط، وإنما هي حسنى.
ولأن العباد قد قصرت معرفتهم وعقولهم أن تدرك ما هو الأحسن في أسماء الله؛ فكان من رحمة الله أن علمنا نحن العباد نحن البشر علمنا طائفة من أسمائه سبحانه وتعالى لكي نعبده بها ونتوسل إليه بها، ونتقرب إليه بها سبحانه وتعالى؛ ولذلك كان من قواعد أهل السنة والجماعة: عدم جواز إطلاق أسماءٍ على الله سبحانه لم ترد في القرآن والسنة، كالقديم والموجود مثلاً.
ومن الأدب مع الله والأدب مع خلقه ألا نسمي ملائكة الله بأسماءٍ نجزم لهم بها لم يرد في القرآن ولا في السنة تسمية عباد الله المكرمين بهذه الأسماء، ومما شاع على ألسنة الناس تسمية ملك الموت (بعزرائيل) مثلاً، وهذه التسمية لم ترد في نصٍ صحيح؛ ولذلك كان لا بد من التوقف في هذه القضايا لأنها من عالم الغيب.(229/3)
حرص الإسلام على جانب الأسماء الشرعية
وقد حرص الإسلام على تثبيت الأسماء الحسنة حتى لفروض الصلاة، فإنك تجد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر المسلمين من أن يغلب عليهم تسمية الأعراب لصلاة العشاء بصلاة العتمة، وأمرهم بأن يسموها صلاة العشاء، لما في الكراهة من هجر الاسم المشروع، والاسم المشروع هو صلاة العشاء، وكان الأعراب يسمونها بالعتمة فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأوصاهم باستعمال الاسم الشرعي، وإن ورد في بعض الأحاديث تسميتها بصلاة العتمة عند من هجر الاسم الشرعي، وإنما يجب أن يكون الاسم الشرعي متداولاً.(229/4)
حكم التسمي باسم أو صفة تتعلق بالله تعالى
ولعلاقة بعض الأسماء التي يطلقها العباد بأسماء الله وصفاته كان من أكبر الجرائم منازعة الله سبحانه وتعالى في اسم من أسمائه أو صفة من صفاته تطلق على مخلوقٍ من المخلوقين، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن أخنع اسم عند الله: رجل تسمى ملك الأملاك؛ لا ملك إلا الله) وقال صلى الله عليه وسلم: (أغيظ رجل عند الله يوم القيامة وأخبثه: رجلٌ كان يسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله).
ويدخل في هذا ما يسمي به الأعاجم ملوكهم (شاهٍ شاه) فإن معنى (شاهٍ شاه): ملك الملوك، والمتسمي بهذا الاسم هو أغيظ رجل عند الله، وأخبث رجل، ومعنى أخنع: أي أذل وأفجر وأفحش.
وبالقياس على ذلك أنكر بعض أهل العلم تسمية: (قاضي القضاة) لأنه ليس قاضي قضاةٍ يقضي بالحق إلا الله عز وجل وهو خير الفاصلين، وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون، وقس على ذلك من الأسماء كسلطان السلاطين مثلاً.(229/5)
أحب الأسماء إلى الله وحق الولد على أبيه في ذلك
وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم العباد بأن يسموا بأسماء هي أحب الأسماء إلى ربهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن) فلما علم العباد أن أحب الأسماء إلى ربهم عبد الله وعبد الرحمن كان من المستحب لهم أن يسموا أبناءهم بهذه الأسماء.
وتسمية المولود من حق الابن على أبيه، فإن هناك حقوقاً للولد على والده، وللوالد على ولده، ومن حقوق الولد على والده التي يجب على الوالد أن يهتم بها إحسان اسم المولود، ولهذا أثر عظيم في الواقع كما سيمر معنا إن شاء الله.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الرجل وله اسم لا يحبه حَوَّله، كما ورد في الحديث الصحيح: (وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع بالاسم القبيح حوله إلى ما هو أحسن منه) حديث صحيح، ولذلك كان لا يقتصر هذا التغيير على أسماء الناس بل إن الأمر قد تعدى في فعله صلى الله عليه وسلم إلى تغيير أسماء الأمكنة والأراضي التي سميت بأسماء قبيحة.
جاء في الحديث الصحيح: (كان إذا سمع اسماً قبيحاً غيره، فمر على قرية يقال لها: عثرة، فسماها خضرة) مع أنها أرض، ولكن إشاعة الأسماء الحسنة وإطلاق الأسماء الحسنة من شعائر الإسلام.
يقول خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة أن أباه قد ذهب مع جده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (ما اسم ابنك؟ قال: عزيز، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسمه عزيزاً ولكن سمه عبد الرحمن، ثم قال: أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن والحارث) أخرجه الإمام أحمد بأكثر من إسناد وابن حبان مختصراً وكذا الحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي وهو في السلسلة الصحيحة.
وفي الصحيحين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي له بـ المنذر بن أبي أسيدٍ حين ولد، فوضعه على فخذه، فأقاموه، فقال: أين الصبي؟ فقال أبو سعيد: قلبناه يا رسول الله -أي: رددناه- قال ما اسمه قالوا: فلان -ولم يعين الراوي ما هو اسم المولود، ولكن بالتأكيد اسم غير جميل- فقال صلى الله عليه وسلم: ولكن سمّه المنذر) حديث صحيح.
وروى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه: (أنه عليه الصلاة والسلام غير اسم عاصية -بنت سماها أهلها عاصية- إلى جميلة، وأتي برجل يقال له: أصرم -وأنتم تعلمون ما في الصرامة من المعاني المقبوحة- فسماه صلى الله عليه وسلم زُرعة) رواه أبو داود وهو حديث صحيح.
وكان رجلٌ من الصحابة يسمى حزناً فسماه صلى الله عليه وسلم سهلاً، فأبى الرجل وقال: السهل يوطأ ويمتهن، كأنه لم يفطن إلى مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم من التسمية بسهل من السهولة، فقال: كلا إن السهل يوطأ ويمتهن ويمشي عليه العباد، وفي رواية قال: لا أغير اسماً سمانيه أبي، ولنا مع هذه الجملة وقفة إن شاء الله.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله سمى المدينة طيبة أو طابة) ولذلك يكره تسميتها بالاسم الذي كان مشتهراً في الجاهلية وهو يثرب من التثريب وهو العيب، فسماها الله طيبة أو طابة فكان هذا هو الاسم الصحيح أو هو الاسم المستحب أن يطلق على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما حكى الله سبحانه وتعالى في القرآن تسميتها ولكن عن المنافقين، فقال عز وجل: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب:12 - 13].(229/6)
أسباب المنع من التسمي بأسماء معينة(229/7)
كراهية بعض الأسماء لاشتمالها على تزكية للنفس
وكما أن تغيير الاسم يكون لقبحه ولكراهيته فقد يكون لمعنى آخر فيه مع أن الاسم قد يكون في ظاهره جميلاً، فقد روى البخاري في الأدب المفرد وأبو داود عن محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن عمر بن عطاء: (أنه دخل على زينب بنت أبي سلمة فسألته عن اسم أخت له عنده، قال فقلت: اسمها برة، قالت: غير اسمها فإن النبي عليه الصلاة والسلام نكح زينب بنت جحش واسمها برة فسمعها تدعوني برة، فقال: لا تزكوا أنفسكم فإن الله أعلم بالبرة منكن والفاجرة، سمها زينب، فقالت أم سلمة: فهي زينب، فقلت لها اسمي، فقالت: غير إلى ما غير رسول الله صلى الله عليه وسلم سمها زينب) قال في السلسلة الصحيحة: وهذا سند حسن، فلأنه قيل إنها تزكي نفسها، مع أن اسم برة اسم جميلٌ في الظاهر فغيره عليه الصلاة والسلام لهذا السبب، وقال: لا تزكوا أنفسكم؛ الله أعلم بأهل البر منكم، ولذلك كان التغيير في هذا الاسم مستحباً لا واجباً.
ويدخل في هذه الكراهية التسمية بالتقي والمتقي والمطيع والطائع والراضي والمخلص والمنيب والرشيد والسديد كما ذكر ابن القيم رحمه الله وقال: وأما تسمية الكفار بذلك -إطلاق اسم الطائع أو المنيب أو الرشيد أو البر أو برة على كافر أو كافرة- لا يجوز أبداً، ولذلك لو رأيت تاركاً للصلاة هاجراً دين الله واسمه محسن فلا تناديه بمحسن، وإذا رأيت تاركاً للصلاة هاجراً دين الله قد سمي مطيعاً فلا تناديه بمطيعٍ أبداً، ولو رأيت تاركاً للصلاة عاصياً لأمر الله مصراً على الفواحش واسمه منيب فلا تناديه بمنيبٍ أبداً، فإنه لم ينب إلى ربه.
وأما تسمية الكفار من ذلك فلا يجوز التمكين منه، ولا دعاؤهم بشيء من هذه الأسماء، ولا الإخبار عنهم بها، والله عز وجل يغضب من تسميهم بذلك.
وأما بقية الأسماء التي فيها معنى الصلاح، فلا يجب تغييرها وخصوصاً إذا كانت من أسماء الأنبياء، كصالح مثلاً، ولذلك كان تغيير اسم برة فيه خصوصية معينة في تلك الحالة وتلك الواقعة لا ينطرد على جميع الأسماء التي فيها معنى شبيه بمعنى برة.(229/8)
اشمئزاز بعض أصحاب النفوس الضعيفة
ومن الأسباب على تغيير بعض الأسماء الحسنة أحياناً كما ورد في الحديث الصحيح: (لئن عشت إن شاء الله لأنهين أن يسمى رباح ونجيح وأفلح ويسار) وفي رواية صحيحة: (لأنهين أن يسمين بنافعة وبركة ويساراً) وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسمين غلامك يساراً ولا رباحاً ولا نجيحاً ولا أفلح) ما هو السبب؟ هل لأن الاسم قبيح؟ كلا، يقول عليه الصلاة والسلام: (فإنك تقول: أثمت هو؟) تأتي وتسأل عنه في البيت فلان موجود؟ فلا يكون موجوداً فيقال: لا، فيحصل التشاؤم والتطير بأن هذا البيت لا يسار فيه أو لا رباح فيه، وذلك عند الناس الذين تشيع بينهم مسألة التشاؤم.
وفي معنى هذا: خير وسرور ونعمة وما أشبه ذلك فإنه لو كان في البيت رجلٌ يقال له خير أو سرور أو بنت يقال لها: نعمة، فجاء إنسان فسأل: عندكم نعمة؟ فلو لم تكن موجودة سيقولون: لا، عندكم خير؟ فلو لم يكن موجود سيقولون: لا، عندكم سرور؟ فلو لم يكن موجوداً سيقولون: لا، ولذلك يحصل في بعض النفوس التي لم تتمكن منها عقيدة التوحيد نوعٌ من التشاؤم فلذلك كاد أن ينهى صلى الله عليه وسلم عنها إذا عاش، أو نهى أن يسمى العبيد بهذه الأسماء حتى لا يحصل التشاؤم بذلك ليس لأن الأسماء هذه قبيحة.
فلأن بعض النفوس قد تشمئز وتتطير ويدخل هذا في باب المنطق المكروه نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وإلا فإن الاسم الجميل له فوائد في التفاؤل الذي هو من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك ورد في الحديث الصحيح: (كان يعجبه إذا خرج لحاجته أن يسمع يا راشد) من الرشاد والنجاح فيتفاءل به وهو خارج إلى حاجته، إذا سمع يا راشد يتفاءل لأن الرشاد حليفه، والتوفيق صاحبه في هذه الحاجة.(229/9)
التعبيد لغير الله عز وجل
ومن الأشياء المحرمة تسمية كل شيء وتعبيده لغير الله، كعبد الجن، وعبد الدار، وعبد الكعبة، وعبد تميم، وعبد الحجر، وعبد العزى، وعبد الرضا، وعبد الحسين، وعبد الرسول، وعبد المسيح، وعبد علي، وعبد الإمام، وعبد الحسن، وعبد الأمير، وعبد السجاد، وعبد الباقر، وعبد الصادق، وعبد الكاظم، وعبد المهدي، وعبد الونيس، وعبد النعيم، وعبد الراضي، وعبد النبي، وعبد طه، وعبد المقصود، لأنها ليست من أسماء الله.
وكذلك كل ما عبد لاسم لم يثبت لله كعبد العال والصحيح عبد المتعال، فإن المتعال هو اسم الله، وكذلك عبد الوحيد، وعبد الفضيل، وعبد الصاحب، وعبد السادة، وعبد الخضر، وعبد العاطي، وعبد الزبير، وعبد النور كلها لا تجوز؛ والنور ليست من أسماء الله.
هذه طائفة من الأسماء المحرمة لعلة أنها معبدة لغير الله وهو نوع من أنواع الشرك.
ومن الأدلة على أنه لا يجوز منازعة الله في اسم من أسمائه أو صفة من صفاته الحديث الصحيح الآتي: روى أبو داود في سننه عن هانئ أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مع قومه، سمعهم يكنونه بـ أبي الحكم، فدعاه عليه الصلاة والسلام فقال: (إن الله هو الحكم وإليه الحكم فلم تكنى بأبى الحكم، فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين ولذلك كنوني: أبا الحكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحسن هذا) فالحكم بين الناس بالعدل وإرضاء الفريقين بذلك شيء حسن، ولكن هذا شيء والتكنية بـ أبي الحكم أمر آخر، قال عليه الصلاة والسلام: (فما لك من الولد؟ قال: لي شريح ومسلمة وعبد الله، قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح، قال: فأنت أبو شريح).(229/10)
جواز التسمي بأسماء الأنبياء
وأما التسمية بأسماء الأنبياء فهي من الأشياء الطيبة وهو مما هو معروف من تاريخ المسلمين، وقد سمى صلى الله عليه وسلم ولده بـ إبراهيم، وقال البخاري في صحيحه: باب من تسمى بأسماء الأنبياء، وساق حديثاً عن إسماعيل قال: قلت لـ أبي أوفى رأيت إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم مات صغيراً، ولو قضي أن يكون بعد محمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً عاش ابنه ليكون نبياً من بعده، ولكن لا نبي بعده.
وفي صحيح مسلم: باب التسمي بأسماء الأنبياء والصالحين، ثم ذكر حديث المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت نجران سألوني فقال النصارى في نجران، إنكم تقرءون: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، اعترضوا عليه قالوا له: أنتم تقولون في القرآن عن مريم: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28] ومريم بينها وبين هارون أخو موسى مئات السنين وربما آلاف السنين، فكيف تقولون في القرآن: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] عن مريم ومريم ليست أختاً لهارون.
يقول: فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك، فقال: (إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم) فإذاً هارون أخو مريم وليس هو هارون أخو موسى، وإنما هو هارون آخر ولكن من عادة قوم مريم أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين من قبلهم ومنهم هارون.
ومن الأسماء المكروهة المقبوحة التسمية بأسماء الفراعنة والجبابرة كفرعون وقارون وهامان.
واختُلِف في حكم التسمي بأسماء الملائكة كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل فكرهه ابن القيم في تحفة المودود والأحوط الابتعاد عن ذلك.(229/11)
حكم التسمي بالحروف المقطعة
ومما يمنع من التسمية به: أسماء القرآن وسوره، مثل طه ويس وحم، وقد نص الإمام مالك على كراهية التسمية بـ يس، وأما ما يذكر العوام أن يس وطه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فغير صحيح، ليس في ذلك حديثٌ واحد صحيح، وإنما طه من الحروف المقطعة مثل حم، ويس من الحروف المقطعة مثل كهيعص وليست أسماء ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإن قال آلاف الناس أنها أسماء للنبي صلى الله عليه وسلم فليست كذلك، وقد سمعت بنفسي عن رجلٍ من شبه القارة الهندية قد سمى ولده طس.
ومن البدع الحاصلة في هذه الأيام: تسمية الأولاد بطريقة فتح المصحف، فيفتحون المصحف فإذا وقعوا على اسم من الأسماء سموه للولد أو للبنت، فإذا وجدوا (أفنان) سموا البنت (أفنان) وإذا لم يجدوا شيئاً سموها آية، وهذه طريقة مبتدعة ولو كانت خيراً لسبقنا السلف إليها، وعندنا ولله الحمد في أسماء أبناء الصحابة وأبناء التابعين وأبناء من تبعهم رجالاً ونساءً ذكوراً وإناثاً أسماء في غاية الجمال.(229/12)
العلاقة بين الاسم والمسمى
ولما كانت الأسماء قوالب للمعاني ودالة عليها، اقتضت الحكمة أن يكون بينها وبينها ارتباطٌ وتناسب، فللأسماء تأثير في المسميات، وللمسميات تأثير في أسمائها سواء كان في الحسن أو القبح، أو الخفة والثقل، أو اللطافة والكثافة كما قال الشاعر:
وقلما أبصرت عيناك ذا لقبٍ إلا ومعناه إن فكرت في لقبه
كان عليه الصلاة والسلام يستحب الاسم الحسن، وإذا أرادهم أن يبرزوا إليه بريداً أمرهم أن يجعلوه حسن الاسم حسن الوجه حتى لا يحصل تشاؤم من أصحاب النفوس المريضة، وحتى يكون هناك مجالٌ للتفاؤل من أهل التوحيد.
وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ المعاني من أسمائها في المنام واليقظة، (كما رأى عليه الصلاة والسلام في منامه ليلة أنه وأصحابه في دار عقبة بن رافع فأتوا برطب من رطب ابن طاب فأوله صلى الله عليه وسلم -أول هذا المنام- بأن لهم الرفعة في الدنيا من كلمة رافع، والعاقبة في الآخرة من كلمة عقبة، وأن الدين الذي قد اختاره الله لهم قد أرطب وطاب، وذلك عندما أتي برطب ابن طاب).
وكذلك تأول سهولة أمرهم يوم الحديبية من مجيء سهيل بن عمرو فقال عليه الصلاة والسلام: (سهل لكم من أمركم) فتفاءل باسم سهيل عندما قدم عليه.
ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واسمها يثرب زال عنها ما في لفظ يثرب من التثريب وحل فيها الطيبة التي تضمنها اسم طابة أو طيبة كما سماها الله عز وجل ورسوله.(229/13)
مثال لتأثير الأسماء في مسمياتها
وإذا أردت أن تعرف تأثير الأسماء في مسمياتها فتأمل الحديث: عندما قدم حزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جد سعيد بن المسيب، فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم حزن إلى سهل، فقال ذلك الرجل: لا أغير اسماً سمانيه أبي، فيقول سعيدٌ رحمه الله: [فما زالت تلك الحزونة فينا بعد] والحزونة هي الشدة والصلابة والعسر قال: لا زالت تلك الشدة معروفة في عائلتنا وأسرتنا لقاء عصيان ذلك الرجل تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم له باسم سهل وإصراره على اسم حزن مع ما يتضمنه ذلك الاسم من القبح، فصارت تلك الغلظة في طبعهم وأخلاقهم موجودة لقاء ذلك العصيان.
ومن تأمل السنة وجد معاني في الأسماء مرتبطة بها، حتى كأن المعاني مأخوذة من تلك الأسماء، وكأن الأسماء مشتقة من تلك المعاني فتأمل قوله عليه الصلاة والسلام مثلاً: (أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها -ولكن قبيلة عصية قال:- عصية عصت الله ورسوله) مع أن الأحداث التاريخية تخبر بأن أسلم وغفار تلكما القبيلتين قد أسلمتا لله رب العالمين وجاء أفرادهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما عصية فإنها حاربت رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتركت مع رعل وذكوان في قتل أصحابه عليه الصلاة والسلام، فتأمل كيف جرى ذلك القدر أن يكون أسلم وغفار ممن جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منيبين مهتدين وبين عصية التي عصت الله ورسوله.
ولما نزل الحسين رضي الله عنه وأصحابه في كربلاء سئل عن اسمها، فقيل له: كربلاء، فقال: كرب وبلاء وكان ذلك فعلاً، ولما وقفت حليمة السعدية على عبد المطلب تسأله رضاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صغير قال لها: ومن أنت؟ قالت: امرأة من بني سعد، قال: ما اسمك؟ قالت: حليمة، قال: بخٍ بخٍ سعدٌ وحلمٌ هاتان خلتان فيهما غناء الدهر.
ولأجل هذا كان من الأسباب التي تدفع إلى اختيار الاسم الطيب الذي يحمل من المعاني أشياء حسنة فيسمي به الوالد ولده من ذكر أو أنثى، والله سبحانه بحكمته في قضائه وقدره يلهم النفوس أن تضع الأسماء على حسب مسمياتها، ولتناسب حكمة الله بين اللفظ ومعناه كما تتناسب بين الأسباب ومسبباتها.(229/14)
تأثير الاسم على من يسمعه
قال أبو الفتح بن جني وهو من علماء اللغة: ولقد مر بي دهرٌ وأنا أسمع الاسم ولا أدري معناه، فآخذ معناه من لفظه ثم أكشفه فإذا هو ذلك بعينه أو قريباً منه.
يقول ابن القيم رحمه الله بعد سياق الكلام المتقدم: فذكرت ذلك لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: وأنا يقع لي ذلك كثيراً.
فتأمل مثلاً في لفظ سعيد كيف تدل تلك الكلمة على معناها، ثم تأمل لفظ شقي كيف تدل الشين والقاف مع الياء على معنى مكروه من النفس، ولو ذكرت كلمة خنزير مثلاً إلى أحد الأشخاص الذين لا يعرفون معناها ولا يعرفون مدلول هذه الكلمة ثم سألته هل هذا الاسم حسنٌ أو قبيح؟ لكان تأثير اجتماع الخاء والنون والزاي في نفسه أثراً قبيحاً، ولقال لك: إن اسم خنزير قبيح ومدلوله قبيح، لو كان سليم الفطرة.
وبالجملة فإن الأخلاق والأعمال والأفعال القبيحة تستدعي أسماء تناسبها وأضداد ذلك تستدعي أسماء تناسبها أيضاً.
وكما أن ذلك ثابت في الأوصاف فهو كذلك ثابت في الأعلام، وإن صاحب الاسم الحسن قد يستحي من اسمه وقد يحمل اسمه على فعل ما يناسب ذلك الاسم، ولهذا ترى أكثر السفلة كما يقول ابن القيم: أسماؤهم تناسبهم، أبو لهب، وأكثر العلية أسماؤهم تناسبهم محمد صلى الله عليه وسلم، عمر وهكذا، علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
هذه مقدمة لطيفة في العلاقة بين الاسم والمسمى وقد لا تطرد دائماً ولكن هناك علاقة ما.(229/15)
منكرات تقع في باب الأسماء
وتغيير الاسم الحرام واجب، وتغيير الاسم المكروه مستحب، ويجب أن يتعاون العباد فيما بينهم على هذا التغيير، فبعض الناس قد يكون اسمه محرماً كأن يكون معبداً لغير الله كما ذكرنا آنفاً، فعندما يغير اسمه فإنه ينبغي لأصحابه وأصدقائه أن ينادوه بالاسم الجديد وأن يتفادوا مناداته بالاسم الأول القبيح، وأن يعينوه على ذلك حتى لا يحرج، وحتى يشعر بأن الأمر طبيعي وهذا داخل في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] ومن أسلم وكان اسمه معبد لغير الله أو يدل على شركٍ أو كفرٍ فإنه يجب عليه أن يغيره، وأن ينتقي بدلاً منه اسماً من أسماء أهل التوحيد، ولا يجب عليه تغيير اسم أبيه أو جده لأنه عليه الصلاة والسلام لم يغير في أسماء أجداده ولا أصحابه وقد كان فيهم عبد العزى وعبد الكعبة وعبد الدار وغيرهم، إذ أن مسئولية الإنسان عن اسمه هو.(229/16)
التسمي باسم من أسماء الله
ومما يمتنع التسمية به: تسمية الإنسان نفسه بأسماء خاصة بالله عز وجل، كالأحد، والصمد، والخالق، والرزاق وهكذا.
ولا يجوز تسمية عظيمٍ من العظماء أو ملك من الملوك أبداً بأسماءٍ أو تلقيبه بألقابٍ أو وصفه بصفاتٍ هي من صفات الرب عز وجل، فلا يجوز أن يلقب بالقاهر ولا بالظاهر، كما لا يجوز أن يلقب بالمتكبر أو الأول والآخر والباطن وعلام الغيوب ونحو ذلك، وقد وقع لبعضهم في العصر الحديث أن أطلقوا على عظمائهم أسماء خاصة بالله عز وجل فقال قائلهم -عامله الله بما يستحق- عن عظيمٍ من عظمائه، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهذا من الكفر الشنيع والشرك القبيح، ومن أعظم الجرائم عند الله سبحانه وتعالى أن ينازعه رجلٌ في اسم من أسمائه أو صفة من صفاته، وأن يتعدى كائنٌ من كان على ذلك الاسم وتلك الصفة.(229/17)
التلاعب بالأسماء المعبدة لله عز وجل
ومما ينبغي الحذر أيضاً فيه: التلاعب بالأسماء المعبدة لله عز وجل، كعبد الرحمن فلا يصح أن يقال: رحم، أو دحيم أو دحيّم أو دحمان أو دحمي ونحو ذلك، وإنما يبقى الاسم المعبد لله كما هو.
وكان الحافظ/ عبد الرحمن بن إبراهيم يعرف بـ دحيمٍ بين الناس وكان يكره أن يقال له: دحيم، وقال ابن حبان: دحيم تصغير دحمان، ودحمان بلغتهم، الرجل الخبيث.
ولا بأس أن يترك المسلم اسماً أحسن لاسم حسن، أو اسماً حسناً لاسم لا بأس به لمصلحة شرعية، فمثلاً: لو أراد رجلٌ أن يسمي ولده عبد الرحمن فأحس أن رغبة أبيه أن يسمي ولده سعيد؛ لأن اسم الأب سعيداً، ولأن اسم سعيد لا حذر فيه شرعاً، فإنه قد يكون من المستحب لهذا الولد أن يسمي ولده على اسم أبيه براً بالأب الذي هو جد المولود إذا أحس هذا الوالد بأن لأبيه رغبة قوية في هذا، فقد ينضاف لترك اسم أحسن إلى اسم حسن قد ينضاف إليه مصلحة شرعية لا بأس بها كالبر بالأب وهو مأجور على ذلك إن شاء الله.
وبعض الناس عندهم عقدة وهي: أنهم لا يريدون التسمية باسم معروف ويقولون: هذا اسم منتشر مستهلك، فيلجئون إلى الغرائب والشواذ؛ فيأتون بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وكأن المسألة هي طلبٌ للشهرة؛ فيقعون في أسماء قبيحة سعياً وراء التفرد والشهرة، وليست هكذا عادة السلف أبداً، فإنهم سموا بأسماء مشهورة منتشرة معروفة متكاثرة في الصحابة والتابعين ومن تبعهم، فإذا استعرضت كتب الرجال مثلاً لوجدت طائفة كبيرة من اسمه محمد أو إبراهيم أو عبد الله أو عبيد الله أو عبد الرحمن وهكذا، ولم يقولوا نحن نريد اسماً شاذاً غير معروف بين الناس.(229/18)
التسمية بأسماء الفساق حباً لهم
ومن المنكرات الحادثة في التسميات ما يلجأ إليه بعض الناس ممن رق دينهم وكان لهم نصيبٌ من الفسوق والعصيان أن يسموا أولادهم على أسماء الممثلين والممثلات أو المغنين والمغنيات أو الراقصين والراقصات، فترى واحداً منهم مع أنه أب مسئول لا يتورع أن يسمي ابنته على اسم مغنية أو ساقطة من الساقطات لأنه معجبٌ بها، وترى ديوثاً يقر الخبث في أهله لا يتورع أن يسمي ولده باسم داعرٍ أو راقصٍ أو ماجن ولو كان اسمه قبيحاً لأنه معجبٌ به، والمرء يحشر مع من أحب.
وقد يكون الاسم جميلاً أو حسناً ولكن الباعث إلى التسمية به ليس إرضاء الله وإنما اتباعاً لذلك المغني، كمن يسمي (عبد الحليم) مثلاً فهو اسمٌ حسن والحليم من أسماء الله، ولكن ما هي النية والباعث على التسمية بهذا الاسم، هل لأنه تعبيدٌ لاسم من أسماء الله، أم لأنه إعجاب بمغنٍ من المغنين أو مطربٍ من المطربين مثلاً، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى؟! وكذلك من المنكرات في هذا التسمية بأسماء تكره النفوس معانيها، كحرب ومرة وحية وحنش ومثل ذلك ثعلب وثعيلب وثعيل وكليب وخنفس وخنيفس، وهذا منتشر بين البادية كثيراً، وأحياناً التسمية بأسماءٍ ذات ألفاظ وحشية كخربوش وعجيريف من العجرفة أو متحس وطفشير ونحو ذلك، وهذه أسماء واقعية يسمون بها، وقد تقدم أنه عليه الصلاة والسلام لما أقيم بين يديه قاتل حمزة وسأله عن اسمه فكان اسمه وحشي، فقال: (غيب وجهك عني) فعمله واسمه منافٍ للحق وفيه نفور تحس به النفس.
وكذلك من الأسماء القبيحة ما يفعله بعضهم من التسمي بأسماء الحيوانات، كثعيلب وثعيل ووحش ونحو ذلك، أو أن يكون الاسم قبيح المعنى مثل عناد وغسيس وغصاب وعاشق ومتروك ونحو ذلك، وهذه أسماء منتشرة كما ذكرنا، وتأمل عندما يقف رجل أمام الناس فيقال له ما اسمك؟ فيقول: اسمي كذا، وإذا كان اسمه قبيحاً فكيف يكون موقفه بينهم؟ حدثني بعضهم عن طالبٍ من الطلاب في مدرسة من المدارس لما جاء المدرس يسأل عن أسماء طلابه فلما أوقف أحدهم قال له: اسمي خايس، هذا هو اسمه خايس، كيف يكون موقف ذلك الطالب بين زملائه وهو يقول: اسمي خايس، وهذا لعمر الله من الجرائم التي يجرم بها بعض الآباء وهم لا يتقون الله في تسمية أولادهم، أو يكون لبعضهم أسماء تافهة مثل قوطي ونحو ذلك، وهذا موجود.
ومن الشناعة أن يقول بعض هؤلاء كما قال ذلك الرجل حزن لا أغير اسماً سمانيه أبي، فقد يعاقب على ذلك، كما عوقب سلفه من قبل.
ومبدأ {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] مبدأ جاهلي آخذه القرآن وعاب أهله وذمهم، فكيف يأتي أناسٌ من المسلمين اليوم ويقولون: هذه أسماء آبائنا وأجدادنا وقبيلتنا وعشيرتنا لا نغير فيها، ومن الذي قال: إن هذا شرع وإن تسمية آبائكم وأجدادكم وقبيلتكم وعشيرتكم إن هذا في القرآن والسنة، من الذي قال بهذا؟ ولماذا نسمي أنفسنا مسلمين إذاً إذا لم نكن سنستسلم لآداب الإسلام وأوامر الله ونواهيه، فإذاً شرع الله فوق عادات القبائل وفوق أعراف المجتمعات، يجب أن يتبع شرع الله.(229/19)
المنكرات الواقعة في أسماء البنات
أيها الإخوة: وأما بالنسبة لأسماء البنات فحدث ولا حرج عما حدث فيها من التلاعب والتغيير والابتعاد عن آداب الإسلام وهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب، فتجد بعضهم يسمي ابنته اسماً عجيباً، فمنهم من يسميها (فتنة) أو (فاتن) ومعلوم أن الفتنة شر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعاذ منها، ولكنهم يسمون بتلك الأسماء.
وقبل أن أسرد لكم طائفة من الأسماء المنتشرة بين الناس في تسمية البنات، أوضح نقطة ذكرتها تكلمنا عن بدعية فتح المصحف لتسمية الأولاد أو البنات، فقال بعض الإخوة: إن في القرآن أسماء حسنة مثل مريم وكوثر ونحو ذلك؟ فأقول توضيحاً: إننا لا نعيب على من يسمي بأسماء في القرآن مثل مريم، بل إن هذا شيء محمود، ولكن الانتقاد في الطريقة التي يسمي بها هؤلاء الناس بناتهم أو أولادهم، الطريقة وليس الاسم، ففتح المصحف للتسمية ليس معروفاً على عهد السلف رحمهم الله، بل هو أقرب إلى البدعة، أما أن يجول الإنسان بذاكرته فينتقي اسماً حسناً من الأسماء الموجودة في القرآن إذا كان ذلك الاسم حسناً فعلاً وليس متكلفاً كما يفعل بعضهم إذا لم يجد شيئاً سماها آية، فإذا كان اسماً حسناً فلا يضر كونه في القرآن بل هذا شيء طيب، ومن التأسي بأسماء الأنبياء والصالحين من قبلنا أن نسمي بأسمائهم كما تقدم.
بعض الناس في مجال تسمية البنات يقتبسون من الكفار ويأخذون منهم، وإليكم طائفة من الأسماء الواقعية التي سمي بها في هذا الزمان، من آباء مسلمين، فمنهم من يسمي ابنته: (سوزان أو سالي أو منوليا أو مايا أو هايدي أو ليندا أو لارا أو لسندا أو انجلا أو جلوريا أو ديانا) ونحو ذلك، انظر إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن!) من غيرهم؟ وهؤلاء المسلمون الآن تبعوا اليهود والنصارى في التسمية في الأسماء حذو القذة بالقذة، ولذلك ترى من المسلمين من سمى ابنته بمثل هذه الأسماء، وهي أسماء لكافرات بنات كفارٍ وكافرات، وينبغي أن يبحث المسلم لابنه أو ابنته عن اسم عربي جميل المعنى سهل اللفظ؛ لأن هذا عنوان سيحمله ذلك المسمى من ذكرٍ أو أنثى يسير به بين الناس، لابد أن يكون شيئاً مشرفاً جميلاً، وليس شيئاً يجلب الخجل والعار، ولا ينبغي أن يلجأ إلى أسماء الأعاجم كما يفعل بعضهم، فيسمي مثلاً (ميرفت وناريمان وشيريهان ونيفين وشيرين) ونحو ذلك.
وتفكر في حال من سميت (بفيفي أو ميمي) مثلاً في تفاهة هذا الاسم وعدم دلالته على أي معنى، تأمل في حال تلك المرأة عندما تكبر وتصبح أماً أو جدة واسمها (ميمي) كيف يكون موقفها أمام أولادها أو أحفادها وهم ينادونها بهذا الاسم.
وبعض الناس لا تتعدى نظرتهم أرنبة أنوفهم، فلا يفكرون في المستقبل وقد ينتقون اسماً يناسب الطفل الصغير الوليد فيه تدليل، ولكن لا يحسبون الحساب عندما يكبر هذا كيف سيكون، وقد يقولون: انتهت الأسماء فلم نجد اسماً مناسباً ماذا نفعل؟ نقول: ارجعوا إلى كتب أسلافكم، ارجعوا إلى كتب العلماء، انظروا ماذا سمى الصحابة بناتهم وماذا سمى التابعون بناتهم، وماذا سمى أتباع التابعين بناتهم، عند ذلك ستجد الأسماء العربية ذات المعنى الحسن واللفظ السلس التي يحسن بأب أن يسمي بها ابنته، وأنا أعرض لكم أمثلة لهذا.
فمن أسماء المسلمات في الماضي: (آمنة وأروى وأسماء وأمامة وجمانة وأميمة وحكيمة وحسانة) حسانة هذا الاسم العظيم، لماذا؟ (جاءت عجوزٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن اسمها فقالت: جثامة المزنية، فقال: بل أنت حسانة) فقد غير الرسول صلى الله عليه وسلم اسم جثامة إلى حسانة، وعاملها بلطفٍ واحترامٍ وأقبل عليها فأدركت الغيرة أمنا عائشة فقالت: يا رسول الله ما رأيتك تقبل على امرأة كما أقبلت على هذه العجوز ما شأنها، فأخبرها عليه الصلاة والسلام أنها من صديقات خديجة، وكانت تأتيهم أيام خديجة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وإن حسن العهد من الإيمان) الاحتفاظ بالفضل لأهل الفضل، وبالمعروف لأهل المعروف، وتذكر أصدقاء الماضي وعدم نسيانهم (إن حسن العهد من الإيمان) فما أخلق المسلم أن يسمي ابنته حسانة كما سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المرأة.
(وأمينة وأنيسة وبشيرة وجميلة وحميدة وحليمة وحبيبة وحسنة ورفيدة ورقية وزينب وروضة وريحانة وسارة وسعيدة وسكينة وسلمى وسمية وسهلة وشفاء وصفية وعائشة ويسيرة وعميرة وفاضلة وفاطمة ولبابة ولبنى ومريم ومعاذة وميمونة ونائلة ونسيبة وهند) وغير ذلك من الأسماء طافحة بها كتب الأعلام في الماضي، فهل انتهت الأسماء فعلاً حتى نسمي بأسماء الكافرات، والماجنات والمغنيات والتافهات؟ فعوداً أيها المسلمون إلى شخصيتكم الإسلامية، اعلموا بأن هذه الأمور ليست فكرية أو سطحية تافهة وإنما لها معنى.
ومن الأسماء من لا تصلح إلا لله، لا لفظاً ولا معنىً لا تصلح إلا لله، ولا يجوز تسمية المخلوق بها في أي حالٍ من الأحوال، كالخالق والرازق والرحمن لا بـ (ال) ولا بغير (ال) لا يجوز أن يسمى بها المخلوق.(229/20)
الاعتقاد بأن الاسم يدفع العين
ومن الأمور الشائنة الحادثة والمعتقدات الباطلة: اعتقاد بعضهم -وخصوصاً في البادية- أنه لو سمى الولد باسمٍ بغيضٍ أو قبيح فإن العين لا تصيبه أو أنه لا يموت صغيراً ونحو ذلك، ولهذا صار بعضهم يسمي أسماء قبيحة كما سمى بعضهم ولده طمث ونحو ذلك والعياذ بالله، وتأمل في حال الولد وهو يُنادى بين الناس بالاسم القبيح ولو كان اسمه غريباً تستك منه الأسماع، فإن الذي يسأله عن اسمه لأول مرة فيقول له: ما اسمك؟ فيقول: فلان فيستغرب السائل ويعيد السؤال، فيقول: ماذا؟ فيعيد المسئول الاسم وهكذا يضل الولد في إحراجٍ بسبب جهل الأب وإعراضه عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يؤدي في كثيرٍ من الأحيان إلى أن يكره الأبناء آباءهم لأن ذلك الأب قد جر على ولده القبح في مجامع الناس والاشمئزاز منه.
وعلى وجه العموم نختم قضية الأسماء بما ذكره الطبري رحمه الله فقال: لا ينبغي التسمية باسم القبيح المعنى، ولا باسمٍ يقتضي التزكية لهذا الشخص، ولا باسم معناه السب، ولو كانت الأسماء إنما هي أعلامٌ للأشخاص لا يقصد بها حقيقة الصفة ولكن وجه الكراهة أن يسمع سامعٌ بالاسم فيظن أنه صفة للمسمى، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يغير الأسماء القبيحة.
وليعلم أن من الأسماء التي فيها تزكية وقد ذمها أهل العلم ما راج في هذا العصر والعصور السالفة المتأخرة في الإسلام من التسمية بزكي الدين وتقي الدين ونحو ذلك، مثله فخر الإسلام مثلاً فإن هذه الأسماء حادثة في العصور المتأخرة من الإسلام، لا يعرف أن الصحابة ولا السلف الصالح تسموا بهذه الأسماء، ومن العجيب أن هذه الأسماء قد شاعت في الوقت الذي ضعف فيه المسلمون، ولما كان المسلمون أقوياء كانوا لا يحتاجون إلى التسمية بهذه الأسماء ولكن لما صار الضعف حاصلاً صارت عقدة نقصٍ عند الكثيرين فصاروا يسمون زكي الدين وسراج الدين وتقي الدين وفخر الإسلام ونحو ذلك.
وهذا مركب نقص في النفوس دفع إليه الشعور بالضعف، زد على هذا السبب وهو: أن المسألة محدثة مبتدعة، زد عليه: أن فيه تزكية للنفس ومخالفة لقول الله: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يرخم الاسم عند النداء للملاطفة بأن يحذف الحرف الأخير منه مثلاً، ولذلك كان عندما ينادي عائشة يقول: يا عائش! من باب الملاطفة فهذا لا بأس به؛ لأن فيه مداعبة وتحبباً وكما يكون من ينادي فاطمة يا فاطم، ونحو ذلك.(229/21)
الهدي الإسلامي في الكنى
وأما بالنسبة للكنى فإنها من هدي السلف الصالح رحمهم الله، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يكني أصحابه وكان له عليه الصلاة والسلام كنية وهي أبو القاسم.(229/22)
جواز التكني ولو لم يوجد ولد
ولما أرادت زوجته عائشة أن تكتني ولم يكن لها ولد قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! كل نسائك لها كنية غيري، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتني بابنك عبد الله) يعني: ابن الزبير، مع أنه ليس ولدها وهي خالته ولكن أطلقه عليها لأن الخالة بمنزلة الأم كما ورد في الحديث الصحيح، فقال: (اكتني بابنك عبد الله أنت أم عبد الله) وهذا سندٌ صحيح، والحديث رواه الإمام أحمد، فلو كانت المرأة ليس لها كنية فإنه يسن لها أن تكتني بأقرب الناس إليها، مثل أن تسمى بأم فلان، وهذا فلان ولد أختها مثلاً.
وقال البخاري في صحيحه: باب الكنية للصبي وقبل أن يولد الرجل، وساق حديث (يا أبا عمير ما فعل النغير) وهذه الجملة التي داعب بها الرسول صبياً صغيراً من صبيان الصحابة، وهو أخا أنس بن مالك رضي الله عنهما فقال له عليه الصلاة والسلام: (يا أبا عمير! -مع أنه صغيرٌ جداً- ما فعل النغير) اسم طائرٍ كان عنده.(229/23)
الكنية للصغير
وكنى صلى الله عليه وسلم ابن مسعودٍ أبا عبد الرحمن قبل أن يولد له، رواه الطبراني قال الحافظ: إسناده صحيح، ولذلك من السنة أيضاً أن يكنى الرجل بأبي فلان حتى قبل أن يرزق بمولود.
قال العلماء: كانوا يكنون الصبي تفاؤلاً بأنه سيعيش حتى يولد له، وكذلك للأمن من التلقيب، ولهذا قال قائلهم: بادروا أبناءكم بالكنى قبل أن تغلب عليهم الألقاب.(229/24)
جواز التكني بأكثر من كنية
وكنى النبي صلى الله عليه وسلم علياً بـ أبي تراب، كما ورد في الحديث الصحيح الذي عنون عليه البخاري رحمه الله: باب التكني بـ أبي ترابٍ وإن كانت له كنية أخرى، فعن سهل بن سعد قال: إنه إن كانت أحب أسماء علي رضي الله عنه إليه لـ أبو تراب، وإن كان ليفرح أن يدعى بها، وما سماه أبا ترابٍ إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فقد غاضب يوماً فاطمة، حصل بين علي وفاطمة ما يحصل بين الرجل وزوجته، فخرج فاضطجع إلى الجدار في المسجد، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم يتبعه فقال: هو ذا مضطجع في الجدار، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وقد امتلأ ظهر عليٍ تراباً من جراء الاضطجاع على الأرض أو على الجدار، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح التراب عن ظهره ويقول مداعباً: اجلس يا أبا تراب، مع أن علياً له كنية أخرى وهي كنيته بابنه الحسن، فكان يقول: أنا أبو الحسن.
قال ابن حجر رحمه الله: وفيه جواز تكنية الشخص بأكثر من كنية، والتلقيب بلفظ الكنية وبما يشتق من حال الشخص، كما اشتق عليه الصلاة والسلام أبا تراب، وأن اللقب إن صدر من الكبير في حق الصغير تلقاه بالقبول ولو لم يكن لفظه لفظة مدح، ولكن لا يصح أن تكون الكنية أبداً قبيحة، كأن يقول: أبو كذا، وهي من أسماء الحيوانات على سبيل المثال، وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم لبنتٍ صغيرة لبست لبساً حسناً قال: (هذا سنا يا أم خالد) يعني: جميل بلسان الحبشة.(229/25)
فوائد التكني
والتكني ولو لم يكن له ولدٌ أدب إسلاميٌ ليس له نظير عند الأمم الأخرى، ولذلك انظر إلى حال الكفرة في بلاد الغرب والشرق مثلاً، هل رأيت أمريكياً يقال له: أبو فلان، أو رأيت إنجليزياً يقال له: أبو فلان كلا، وإنما التكنية أدبٌ إسلاميٌ شاع بين المسلمين ومن فوائده: أولاً: توقير الشخص واحترامه فإنك عندما تقول: يا أبا فلان، هذه منزلة أعلى من أن تقول يا فلان باسمه.
ثانياً: إن تكنيته بها يمنع من تلقيبه بالألقاب السيئة لأن له كنية، فلا يطلق عليه لقبٌ سيئ فتكون التكنية حائلة بينه وبين اللقب السيئ.
ثالثاً: إن تكنية الصغار فيه إشعار لهم بالمسئولية كأنهم آباء، فعندما يقال للولد الصغير: يا أبا فلان، فإنه يعظم في نفسه ويكبر في عين نفسه، ويشعر بأن الكبار يحترمونه وكأنه يُخاطب على أنه رجلٌ كبير، وهذا من دقائق التربية الإسلامية التي غفل عنها كثيرٌ من المسلمين.
وبناءً على ذلك أيها الإخوة! فإن ما حدث من ترك التكني قد ولد استخدام ألقاب مقتبسة من الكفرة أو من الأعاجم (كالبيك والأفندي والباشا والمسيو أو السيد والسيدة والآنسة) ونحو ذلك، وليس في هذه الطائفة كلها من الألقاب أبداً أدبٌ إسلاميٌ واحد؛ فهو إما أن يكون اقتباساً من الأعاجم وإما أن يكون تشبهاً بالكفار الذين يطلقون على المرأة سيدة، ومتى كانت المرأة سيدة؟ ولذلك ترى هؤلاء المعجبين بالكفرة يتشدقون عند تقديم البرامج بقولهم مثلا: (سيداتي آنساتي سادتي) وليس في ذلك شيء أبداً من أدب الإسلام، وإنما يقال للمرأة: يا أم فلان إن كان لا يصلح أن تسمى باسمها أمام الناس، ويقال للرجل: يا أبا فلان، ونحو ذلك، ولا بأس بتلقيب أهل العلم بألقابٍ دالة على فضائلهم، أما هذه الألقاب فليست أبداً من الإسلام في شيء، وخصوصاً إذا كان في بعضها تزكية، مثل كلمة الأفندي.
واعلموا أيها الإخوة أن كثيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كنوا بكنى ولم يكن لهم أولاد بنفس هذه الكنية، فلم يكن لـ أبي بكرٍ ابنٌ اسمه بكرٌ، ولا لـ عمر ابن اسمه حفص، ولا لـ أبي ذر ابن اسمه ذر، ولا لـ خالد ولدٌ اسمه سليمان، وكذلك أبو سلمة لم يكن له ولد اسمه سلمة، فعلى ذلك يجوز التكنية باسم الولد ولو لم يكن كذلك، وهذا مثلما يحدث أحياناً أن يكنى رجل بكنية ثم يأتيه ولد فيسميه باسم آخر، فيجوز أن يطلق عليه هذه الكنية وهذه الكنية إذا كان يحب ذلك.
ومن الفوائد للكنى: التنبيه، ولذلك جاء على لسان بعض السلف: أشيعوا الكنى فإنها منبهة، يعني يا أبا فلان تنبهه أكثر من يا فلان وهكذا.
ومن الكنى القبيحة أبو مرة؛ لأن العرب كانت تطلقه على الشيطان، وهذا ما يحدث عند كثيرٍ من الناس في السباب والشتائم.
ومن الأمور المحرمة تكنية الكافر والمبتدع بكنى المسلمين، ولا يجوز تكنيته على سبيل التوقير، فلو رأيت تاركاً للصلاة أو مستهزئاً بالدين لا يصح لك أن توقره بأن تقول: يا أبا فلان على سبيل التوقير للفاجر والعاصي لا يصح أو للكافر أو المبتدع، وكذلك أن يطلق عليه عدو الدين أو خراب الدين ونحو ذلك.(229/26)
الهدي الإسلامي في الألقاب
وأما بالنسبة للألقاب: فإن الله يقول: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات:11] وقبل أن نذكر ما تحت اللقب من الفوائد نقول: إنه عليه الصلاة والسلام قد نهى عن الجمع بين اسمه وكنيته، وسمح بأن نتسمى باسمه: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي) وهذا الحديث صحيح.
واختلف العلماء في توجيهه: فمنهم من قال: لا يجوز أن يجمع لإنسان بين محمد وأبي القاسم في حياته عليه الصلاة والسلام فقط وبعد حياته زال المحذور، ومنهم من قال: النهي عام في حياته وبعد مماته، ومنهم من قال: إن النهي عن الجمع بأن يقال: يا محمد يا أبا القاسم، لكن لو أفرد كلاً منها عند النداء فلا بأس، والأحوط ألا يجمع لإنسان بين كنيته صلى الله عليه وسلم واسمه، فلا ينادى بمحمد ويكنى بأبي القاسم في نفس الوقت.(229/27)
المنع من التلقيب للسخرية وجوازه للحاجة
وأما التنابز بالألقاب الذي نهى الله عنه في القرآن فقد أخرج الترمذي في سننه وغيره عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: (كان الرجل يكون له الأسماء الاثنان والثلاثة، فيدعى ببعضها، فعسى أن يكره) كان الجاهليون يسبون بعضهم ويلقبون بعضهم بألقاب سيئة، فعسى أن يكره عندما ينادى بعدما دخل في الإسلام، فنزلت هذه الآية {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات:11] ولذلك روى أبو ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من دعا رجلاً بالكفر أو قال: يا عدو الله! وليس كذلك إلا حار عليه) رواه مسلم.
فهذا من الألقاب (يا عدو الله) هذا لقب سيئ، أو يا كافر ونحو يا فاجر، فإذا لم يكن المنادى هكذا رجع الاسم على المنادي وحار عليه.
ومن الألقاب ما يكون فيه نوعٌ من العيب، مثل يا أعرج، يا أحول، يا أعمش، يا أفطس، ونحو ذلك، فهذا من هذا الباب منهيٌ عنه بنص الآية {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11] إلا في حالة واحدة نص عليها أهل العلم: إذا كان الرجل لا يعرف ولا يميز إلا بهذا اللقب، فإنه يجوز للتعريف، كأن تحتار في كيفية وصف إنسان لآخر فتضطر أن تقول له: هو الرجل الذي في رجله عرج، أو هو الأعرج، فيتميز من الواصف للموصوف، فإذا كان ليس على سبيل التنقص فلا بأس بذلك، كما ورد في صحيح مسلم عن عبد الله بن سرجس قال: [رأيت الأصلع يقبل الحجر] وفي رواية: [رأيت الأصيلع يقبل الحجر] يقصد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه قصد تمييزه وتعريفه لا عيبه وذمه وانتقاصه.(229/28)
ألقاب يمنع منها الشرع
ومن هذه الأمور أيضاً: التلقيب بسيد الكل وسيد الناس، وست الكل وست الناس فإنها من الأمور المذمومة الجامعة بين الكراهة والقبح والكذب؛ لأن هذا من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (أنا سيد ولد آدم) فعندما تقول لإنسان: أنت سيد الكل أو أنت سيد الناس أو يقال لامرأة أنتِ ست الكل فإنه عليه الصلاة والسلام يدخل في هذا الكل، ولذلك صار أمراً معيباً ينبغي اجتنابه خصوصاً عند الشعراء الذين يمدحون والذي يكذبون كثيراً في مدحهم، ومن هذا الباب تسمية البنت بست الناس أو ست العلماء أو ست النساء أو ست الفقهاء كما كان ذلك شائعاً في بعض العصور الماضية.
ومن الألقاب أيضاً التي ذكر بعض أهل العلم الكراهية فيها: تلقيب الذي يحج بلقب الحاج، فيقال: الحاج فلان ونحو ذلك، وقد حكى بعض أهل العلم أنه بدعة، وحكى بعضهم أنه لا بأس به، والأحوط عدم استخدامه لما فيه من إظهار الأعمال المفضية للوقوع في الرياء، يعني: كأنه يقال له بين الناس: الحاج فلان لأنه حج، فهذا يكون فيه نوعٌ من إظهار عمله الصالح بين جميع الخلائق، وبعضهم لا يرضى إلا أن ينادى بالحاج فلان، ولو قلت له: يا أبا فلان أو يا فلان لم يرض بذلك، ولم يرد هذا التلقيب عن الصحابة ولا عن السلف الصالح رحمهم الله، فلم يعرف بأنه قيل الحاج أبو بكر والحاج عمر والحاج عثمان والحاج سعيد بن المسيب، والحاج أحمد بن حنبل، ونحو ذلك، وإنما هو لقبٌ حادثٌ في الأزمان المتأخرة.
وأما تسمية النصارى الذين يحجون إلى بيت المقدس، يزورونه ويشدون الرحل إليه بأنهم حجاج فإنه أمرٌ ممنوع لما فيه من تشبيه المشرك الكافر بالمسلم في عبادة من العبادات.
وكذلك أصحاب القبور الذين يعظمون القبور في بعض البلدان عندما يزور قبر البدوي يقال له: الحاج فلان، ولذلك ترى بعضهم عندهم كتب مكتوب على الغلاف مناسك حج المشاهد، مناسك حج القبور، يعني: يقال في الشوط الأول حول قبر البدوي كذا وكذا، وفي الشوط الثاني كذا وكذا وهكذا، وعند الدخول على القبر كذا وكذا، وعند قبر الحسين كذا وكذا، وهذا من الشرك العظيم الذي وقعت فيه هذه الأمة ولا حول ولا قوة إلا بالله.(229/29)
هديه صلى الله عليه وسلم في تلقيب أصحاب المهن
ومن هديه صلى الله عليه وسلم تسمية أصحاب المهن الذين غلبت عليهم أسماء فيها نوعٌ من القبح بالأسماء الحسنة، حتى أصحاب المهن والصناعات، فقد روى ابن ماجة في سننه وهو حديث صحيح عن قيس بن أبي غرزة رضي الله عنه قال: (كنا نسمى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم السماسرة -جمع سمسار- فمر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمانا باسم هو أحسن منه، فقال: يا معشر التجار! -ما قال: يا معشر السماسرة- إن البيع يحضره الحلف واللهو فشوبوه بالصدقة) يا معشر التجار! إن البيع يكثر فيه الحلف واللغو فاخلطوه بالصدقة كي يزكوا وتطرد تلك الآثام التي وقعت أثناء البيع.
ومن الألقاب السيئة التي يلقب بها كثير من الناس أولادهم (يا شاطر) فإنك إذا رجعت إلى كلام العرب ومعاني هذا في قواميس العربية لوجدت أن الشاطر هو الحرامي اللص قاطع الطريق، وقال في لسان العرب: الشاطر هو الذي أعيا أهله ومؤدبه خبثاً يعني: أتعبهم فلا فائدة من تربيته فهو خبيث إلى أبعد الدرجات قد تعبوا في تربيته بدون فائدة، هذا معنى الشاطر، ولذلك الأحسن ألا ينادى به الأولاد؛ لأن معنى الكلمة قبيح، وإن غلب على الناس أنها كلمة حسنة.(229/30)
اختصار الصلاة والسلام على النبي كتابة
ونختم بأمر درج بين كثيرٍ من الناس وخصوصاً عند الكتابة وهو أنهم إذا قالوا: فجاء النبي بدل أن يقول: صلى الله عليه وسلم يكتب بين قوسين (صلعم) وبعضهم يضع بين قوسين (ص) وهذا استخدام قبيح.
قال: ابن حجر الهيثمي رحمه الله: لا يجوز بل الواجب الصلاة والتسليم (صلى الله عليه وسلم).
وقال الفيروز أبادي: ولا ينبغي أن ترمز الصلاة كما يفعله بعض الكسالى والجهلة وعوام الطلبة فيكتبون صورة (صلعم) بدلاً من صلى الله عليه وسلم.
وقال العلامة أحمد شاكر رحمه الله: هو اصطلاح سخيف، وللعلامة الأثري الشيخ عبد العزيز مقالة عن هذه المسألة وأنا أتساءل عندما يكتبون صلعم ماذا يختصرون؟ في الحقيقة يختصرون الأجر، بدلاً من أن يكتب بيده صلى الله عليه وسلم فيكون له أجر الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم يسيئون الأدب معه عليه الصلاة والسلام فيكتبون اختصاراً (ص) و (صلعم) وهل هناك بابٌ جيد من أبواب الأجر مثل أن تكتب بيدك صلى الله عليه وسلم، عليه الصلاة والسلام، فإذاً: ينبغي الحذر من ذلك وكتابتها كاملة ليحصل الأجر.
ومن الأسباب التي ذكرها العلماء في تفضيل أهل الحديث المشتغلين بالحديث: أنهم كثيراً ما يتعرضون لصلى الله عليه وسلم فهو دائماً يحدث الأحاديث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودائماً يكتب الأحاديث ويقول: قال النبي ويكتب صلى الله عليه وسلم، ولذلك هم من أكثر الناس أجراً في هذا الباب العظيم من أبواب الأجر، وهو الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
عن عائشة قالت: (جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي عنده، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنت؟ قالت: أنا جثامة المزنية، فقال: بل أنت حسانة المزنية، كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف بعدنا؟ -يعني: كيف حالكم بعدنا- قالت: بخيرٍ بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فلما خرجت قلت: يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال، فقال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان) هنا أدركت الغيرة أمنا عائشة رضي الله عنها فقالت: تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة وإن حسن العهد من الإيمان، وهذا حديث صحيح.
وأما تغييره صلى الله عليه وسلم لاسم شهاب فإنه ورد أيضاً بإسنادٍ حسن عند البخاري في الأدب المفرد عن عائشة رضي الله عنها: (ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ يقال له: شهاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنت هشام) وهذا الحديث يفيد أمرين: تغيير شهاب، وسنة التسمية باسم هشام، وأنت ترى التقارب بين شهاب وهشام في الأحرف.(229/31)
فائدة لمن ولد له مولود على كبر
وهذه قصة عن إمام من أئمة المسلمين: أبو نصر المروزي رحمه الله تعالى: فقد حُكي أن الإمام المروزي كان يتمنى على كبر سنه أن يولد له ابن، فرزقه الله مولوداً في كبر سنه فقال الحاكي: كنا عنده يوماً وإذا برجل من أصحابه قد جاء وساره في أذنه، فرفع الإمام المروزي يديه وقال: الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل، وهذا جزء من آية، قال: فرأينا أنه استعمل في تلك الكلمة الواحدة ثلاث سنن، تسمية الولد، وحمد الله على الموهبة، وتسميته إسماعيل لأنه ولد على كبر سنه، وقال الله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] قال رحمه الله: فنستفيد من هذا أنه يستحب لمن ولد له ابن على الكبر أن يسميه إسماعيل، وهذه مسألة حسنة، والقصة في كتاب تعظيم قدر الصلاة.
وسأل بعض الإخوان عن بعض أسماء فسألت عنها شيخنا عبد العزيز بن باز، وهذه بعض الأسماء المضافة إلى لفظ الجلالة، مثل: (نفع الله وفتح الله وجار الله ومد الله ولطف الله) ونحو ذلك، فأفتى الشيخ عبد العزيز بأنه لا بأس أن يسمى بهذه الأسماء، لا بأس يسمى: رزق الله، دفع الله، مد الله، مد الله أي مدد الله، وسألته عن اسم غرم الله، فقال: في النفس من هذا شيء والأحسن أن يترك، لا يسمى غرم الله وإنما يسمى ببقية الأسماء الحسنة.(229/32)
أحاديث مشتهرة لا أساس لها
ونختم أيها الإخوة موضوع الأسماء والكنى والألقاب في ميزان الشريعة ببعض الأحاديث المشتهرة على الألسنة مما لم يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الحديث الموضوع بلفظ: (أحب الأسماء إلى الله ما تعبد به).
وكذلك الحديث المشابه له: (أحب الأسماء إلى الله ما عبد وما حمد) فإنه أيضاً حديث لا أصل له، ويغني عن هذين الحديثين الحديث الصحيح المذكور آنفاً: (أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن) فقد رواه الإمام مسلم وغيره، وهذا الحديث الصحيح يغنينا عن الأحاديث السابقة التي لم تثبت.
إضافة إلى أنه قد فهم البعض حديث خير الأسماء (ما عبد وحمد) مفهوم أدى إلى وقوعهم في بدعة جديدة وهي إضافة اسم محمد أو أحمد إلى اسم الشخص فيكون له اسمان، فلو أن أناساً سموا ولدهم مثلاً: سالم، فتراهم يسمونه محمد سالم، أو أحمد سالم يضيفون أحمد ومحمد للبركة هذا في بعض البلدان منتشر واقع يضيفون محمد أو أحمد للبركة على اسم الشخص، فيصبح له اسمين، وهذا أيضاً خطأ ومستنده محدث، لا أصل له عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة.
وكذلك يوجد حديثٌ آخر موضوع وهو: (من ولد له ثلاثة فلم يسم أحدهم محمداً فقد جهل) فهذا الحديث مكذوب على الرسول صلى الله عليه وسلم، وهناك كثيرٌ من السلف جاءهم ثلاثة أولاد ما سموا ولا واحداً منهم محمد مع أنهم فقهاء علماء صلحاء، وربما سمى بعضهم: عبد الله، عبد الرحمن، عبد اللطيف، عبد الرحيم، ولكن تسمية محمداً أثر طيب كما يقول عليه الصلاة والسلام: (تسموا باسمي) تسموا باسمه فلا بأس ولكن أن يوصف بالجهل من لم يسم أحد أولاده بمحمد فهذا غير صحيح أبداً.
وعموماً فإن هذه الأسماء أيها الإخوة تذكرنا بحديث البراء الطويل الصحيح الثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل صاحب الروح الطيبة من أهل الجنة عندما تقبض روحه ويصعد بها إلى السماء، فإذا جاءت السماء نادى منادٍ من معكم؟ فيقال: فلان بن فلان بأحب أسمائه التي كان ينادى بها في الدنيا، وإذا كان صاحب روح خبيثة والعياذ بالله وسئل عن اسمه على باب السماء فوق يقال: فلان بن فلان بأخبث أسمائه التي كان ينادى بها في الدنيا، ثم تطرح روحه طرحاً وتلا عليه الصلاة والسلام: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]).
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن حسنت أسماؤهم في الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا ممن تفتح لهم أبواب السماء يلجون فيها ويعرجون إلى ربهم، ونسأله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من السعداء في دار المقامة.
وصلى الله وسلم على نبيه الكريم، والله أعلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(229/33)
التساهل في الاحتجاج بالضرورة
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن الجهل سوف ينتشر في هذه الأمة، بسبب موت العلماء الربانيين، واتخاذ علماء ضلالاً يفتون الناس بغير علم فيضلونهم، وهاهم قد ظهروا في عصرنا، فأصبحوا يفتون الناس بارتكاب المحرمات بحجة الضرورة، فأعملوا القاعدة الشرعية في غير مكانها، واستدلوا بها على غير مدلولها، وذلك يرجع إلى أسباب ذكرها الشيخ حفظه الله، مع بيان أن لهذه القاعدة الشرعية ضوابط لا بد أن تراعى عند تطبيقها.(230/1)
قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات أدلتها وصورها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
أيها المسلمون: حديثنا في هذه الخطبة عن موضوعٍ صعب، ولكننا نستعين الله سبحانه وتعالى في فهمه، وإدراك بعض المسائل المتعلقة به، وهو موضوع حصل فيه خلط كثير، وحصل فيه استغلالات سيئة كثيرة من كثير من أصحاب النوايا السيئة، ولذلك كان لا بد للمسلم من فهمه، وفهم ما يتعلق به، ألا وهو القاعدة الشرعية العظيمة: الضرورات تبيح المحظورات، هذه القاعدة التي ظُلمت ظلماً عظيماً من كثير من أبناء المسلمين، هذه القاعدة التي أصبح الاستدلال بها على ما هب ودب من الأمور ديدن عامة الذين يعصون الله سبحانه وتعالى.
كلما أراد أحدهم أن يفعل معصية أو فعلها فناقشته في ذلك كان من حججه: الضرورات تبيح المحظورات.
فما هي حقيقة هذه القاعدة؟ وما هي أدلتها وصورها؟ وما هي ضوابطها؟ وما هي الاستخدامات الصحيحة أو المجالات وبعض المجالات التي استخدمت فيها من قبل علماء الشرع الثقات؟ وذكر أمثلة على بعض الاستخدامات السيئة التي استخدمت فيها هذه القاعدة.
قال الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:145] وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173] وقال عز وجل: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:145] {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] لماذا شرع ربنا جواز أكل الميتة للضرورة وجواز تناول الأمر المحرم للضرورة؟ لأنه قال عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:6] وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:28] ولأن الله رحيم شرع لنا هذا.
وقد أجمع الفقهاء على أن للجائع المضطر الذي لا يجد شيئاً حلالاً يدفع به الهلاك عن نفسه أن يتناول المحرم إذا لم يجد غيره، فيتناول منه بقدر ما يزيل ضرورته، لأن الله قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3] وقال الله سبحانه وتعالى مبيناً حالة أخرى من حالات الاضطرار: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106] فإذا كان المسلم قد تعرض لتهديد حقيقي وتعذيب وحشي يُراد منه أن ينطق بكلمة الكفر نطق بها لسانه وقلبه مطمئن بالإيمان.
كان جبابرة مكة يعذبون المسلمين المستضعفين حتى ربما قالوا لأحدهم: هذا الجُعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم.
تحت وطأة التعذيب، فإذاً هذه القاعدة في الشريعة محفوظة بأدلتها، قائمة من علامات وميزات هذا الدين، ومن رحمة الله بالأمة وبالناس.
ولكن أيها المسلمون! متى يصبح الشيء ضرورة؟ ما معنى كلمة الضرورة؟ إن كثيراً من الناس يفسرون الضرورة بأي مشقة تعرض، بأي درجة تكون، أو يفسرون الضرورة بحاجتهم إلى التوسع في الأمور الدنيوية، ولأجل ذلك ينتهكون حرمة الشريعة.
فأما الضرورة فقد ذكر العلماء تعريفها، وقالوا: إذا ترتب على عدم فعل شيء محرم هلاك، أو إلحاق الضرر الشديد بأحد الضروريات الخمس وهي: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض، فإنه عند ذلك يجوز له أن يتناول المحرم للضرورة.
فتأمل كلامهم رحمهم الله في قولهم: هلاك أو إلحاق ضرر شديد كتلف عضو من الأعضاء مثلاً، عند ذلك يجوز له أن يرتكب هذا المحرم للضرورة، وهذا الكلام أيضاً فيه تفصيل، ولذلك فإننا لا يجوز لنا أن نترك الجهاد في سبيل الله من أجل المحافظة على النفوس، ونقول: إن ترك الجهاد ضرورة لأن الجهاد يسبب قتل النفس، كلا.
لأن حفظ الدين أعلى، والجهاد لا بد منه لحفظ الدين، وهناك أمور تقدم وتؤخر في أبواب الضرورة، فلو أنه غص بلقمة لم يجد إلا خمراً ليبتلعها أمامه وإلا لمات وهلك واختنق، جاز له أن يتناول ما يسلك به تلك الغصة وينجو به من الهلاك، فتنجو نفسه ولو أدى لإلحاق ضرر بعقله.(230/2)
ضوابط قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات
ولكن لا بد لنا أن نعلم ونعرف ما هي القواعد أو بعض القواعد التي ذكرها العلماء لنكون على بينة عند استخدام هذا الأمر الخطير الذي إن لم يُحسن استخدامه تعرض المستخدم للهلاك في العاجل والآجل.
أولاً: يجب ألا يتسبب الإنسان لإيقاع نفسه في الضرورة، فلو أنه أتلف ماله وطعامه الطيب، وهو يعلم أنه سيضطر لأكل طعام محرم كان آثماً عند الله بفعله هذا.
وكذلك فإن الضرورة لا بد أن تقدر بقدرها.
إن باب الضرورة أيها المسلمون! ليس مفتوحاً على مصراعيه يدخل منه كل من هب ودب بأي طريقة شاء، وإنما هو مضبوط بضوابط وقواعد يعلمها أهل العلم الثقات، ذكروها في كتبهم، ويذكرها المفتون المخلصون للناس إذا سئلوا.
فالضرورة لا بد أن تقدر بقدرها، فمن اضطر إلى الكذب مثلاً فإن أمكنه التورية لا يجوز له أن يكذب، والتورية أن يأتي بلفظ له معنى بعيد في نفسه، ومعنى قريب في نفس الوقت يقصده الشخص السامع، أو يفهمه السامع، فعند ذلك لا يجوز أن يكذب، ويستخدم التورية، وإذا اضطر إلى الكذب كأن يكون عنده مال إنسان معصوم مخبأ، فجاء ظالم يقول له: هل عندك المال؟ ولم يجد طريقة للتورية، فيجوز له أن يكذب في هذا الأمر فقط، بجملةٍ محددة لا ينتشر الكذب إلى غيرها، ومن أكره على النطق بكلمة الكفر، لا يجوز له أن يكفر بقلبه مثلاً، لأن الكفر على اللسان فقط إذا اضطر إلى ذلك.
ومن جاز له التيمم للضرورة، فإذا قدر على استعمال الماء لا يجوز له أن يواصل في التيمم، ومن اضطر للإفطار في شهر رمضان من أجل المرض مثلاً، فإذا اشتد وقوي وأطاق الصيام ما جاز له أن يكمل في إفطاره، وكذلك المسافر لو أقام لا يجوز له الإكمال في الإفطار في رمضان.
وخذ مثلاً من الأمثلة التي يتعرض لها كثير من الناس في هذه الأيام بسبب عدم الاحتياط في الشريعة، وعدم وجود الجهود الصحيحة التي تزيل الحرج عن كثير من نساء المسلمين، كشف الطبيب على المرأة المسلمة أو على المرأة عموماً.
كشف الطبيب على المرأة المريضة، بسبب تقصيرنا وإهمالنا، وعدم تخطيطنا وانتباهنا للمحرمات وحرمات رب العالمين؛ حصل تقصير شديد في تنظيم الأمور، فصارت المرأة تضطر في كثير من الأحيان للكشف عند الطبيب الأجنبي، وهنا لا بد أن نفهم معنى تقدير الضرورة بقدرها في مثل هذا الموضع.
فمثلاً: لا بد أن تبحث عن طبيبة مسلمة لزوجتك أو بنتك، فإن لم يوجد طبيبة مسلمة مؤهلة، في أي مكان تستطيع الوصول إليه وتستطيع دفع أجره، جاز اللجوء إلى طبيبة كافرة، فإن لم توجد طبيبة كافرة مؤهلة أيضاً جاز اللجوء إلى الطبيب المسلم المؤهل، فإن لم يوجد جاز اللجوء إلى الطبيب الكافر، فهل يتبع الناس هذا التنفيذ؟ ثم: إذا جاز للطبيب الكشف عن المرأة الأجنبية، فيجب أن يكون بغير خلوة، وأن يحضر محرمها مثلاً، وأن يكشف على موضع العلة فقط، وإذا كان النظر إلى موضع العلة يكفي فلا يجوز له أن يلمس، وإذا كان يكفيه لمس من وراء حائل لا يجوز له أن يلمس بغير حائل، وإذا كان يتوجب أن يلمسه بغير حائل فلا يلمس ما حوله من المنطقة التي لا علاقة لها بالعلة، ولا علاقة لها بالعلاج أيضاً، وإذا كان يكفيه أن يفحص لمدة دقيقة مثلاً، فلا يجوز له أن يتعدى هذه الفترة، وكل إنسان مؤتمن على حريمه، وما أكثر التفريط في هذا الأمر في هذه الأيام! ثم إن الضرر لا يزال بمثله أو شيء أكبر منه، فمثلاً لو قالوا له: اقتل فلاناً وإلا سلبنا مالك، فلا يجوز له أن يقتله، بل لو قالوا له: اقتل فلاناً وإلا قتلناك، وفلان هذا مسلم معصوم، لا يجوز له أن يقتله لأن النفوس في الشريعة سواسية، فكيف يجوز له أن يقتل غيره من المسلمين لكي يدفع القتل عن نفسه؟ ولذلك قال العلماء: لا يجوز للجنود المسلمين قتال الجنود من المسلمين بغير وجه حق، ولو كانوا مكرهين، ولو كان الإكراه بالقتل.
وكذلك لو أكره جندي مسلم بالقتل على أن يدل العدو على ثغرة ينفذون منها إلى البلد المسلم، لكي يحتلونه ويوقعون القتل والتشريد في أهله، ما جاز له أن يدلهم ولو قتلوه.
ويرى أكثر أهل العلم أنه لو أكره على الزنا بامرأة مسلمة عفيفة، لا يجوز له أن يزني بها، ولو أكره بالقتل لما يترتب على ذلك من المفسدة العظيمة المنتشرة، من انتهاك عرضها، وتحطيم شرفها وشرف أسرتها، أو زوجها، واختلال النسب، وإنما يصبر على القتل صابراً محتسباً لوجه الله تعالى.(230/3)
ضوابط الإكراه وشروطه
ثم إن كثيراً من الناس يقولون لك: نحن أكرهنا فما هو الإكراه الذي يباح به الأمر المحرم؟ هل هو ضرب سوط أو سوطين مثلاً لأن ينتهك حرمة الله بالزنا على سبيل المثال؟ قال الفقهاء: الضرب الذي يعتبر إكراهاً هو ما كان فيه خشية تلف النفس، أو أحد الأعضاء، أو ألم شديد لا يطيق تحمله، فعند ذلك قد يجوز أن يفعل أمراً، وينبغي أن يدرك الأمر أيضاً قبل الإقدام عليه، فما هو الإكراه؟ ليست المسألة سهلة أيضاً، بل إنهم ذكروا شروطاً للإكراه، كأن يكون المكره متمكناً من التنفيذ، أو يكون المكرَه عالماً أو غالباً على ظنه أن المكرِه سينفذ وعيده، فلو قال الظالم لزوجته: إن لم تكشفي وجهك على إخواني، فأنت طالق، أو إني سأطلقك، فإن هذا الإكراه إذا كانت تعلم أنه سيوقعه جاز لها الكشف عن وجهها في هذه الحالة للضرورة مع كرهها لذلك؛ لأن الإكراه بالطلاق في بعض المواضع يعتبر إكراهاً سائغاً.
وكذلك أن يكون المكره عاجزاً عن دفع الإكراه عن نفسه، إما بالمقاومة أو الفرار.
وكذلك أن يكون الإكراه بشيء فيه هلاك للمكره، أو ضرر عظيم كالقتل أو إتلاف عضو من الأعضاء، أو التعذيب المبرح، أو السجن الطويل الذي لا يخرج منه، وكذلك أن يكون الإكراه فورياً كأن يهدده بالقتل فوراً إذا لم ينفذ، أما إذا قال له: إذا لم تفعل كذا ضربتك غداً أو بعد غدٍ فلا يعتبر إكراهاً صحيحاً، فتأمل الشروط التي وضعها الفقهاء لهذا؛ لتعلم -أيها المسلم- أن المسألة ليست ألعوبة، وأن القضية ليست سهلة.(230/4)
أسباب التساهل في إفتاء الناس بحجة الضرورة
ثم قارن بين هذا وبين ما يقوم به كثير من مفتي السوء بإفتاء الناس ببعض الأمور بحجة الضرورة في غير محلها، فما هي أسباب ذلك؟ لماذا يتساهل بعضهم في إفتاء الناس في أمور بحجة الضرورة وليس فيها ضرورة؟(230/5)
عدم الخوف من الله سبحانه
أولاً: عدم خوفهم من الله، وعدم تمكنهم من العلم أيضاً، وكذلك سيطرة روح التيسير ورفع الحرج في غير محله على نفوسهم، والتيسير أيها الإخوة! أمر معتبر في الشريعة، لكن التيسير إذا تعارض مع أحد مقاصد الشريعة فلا يعتبر تيسيراً شرعياً، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:97] فلماذا لم يعتبروا مكرهين؟ لأنهم كانوا يستطيعون الهجرة من بلاد الكفر، أقاموا تحت راية الكفر يفتنون في دينهم، ويتنازلون عن أمور الدين، وقالوا: مستضعفين، لماذا لم تهاجروا؟ وكذلك لو قال إنسان: إن من التيسير ألا نخرج إلى الجهاد في وقت الحر، فاسمع ماذا يقول الله: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81].(230/6)
الحرص على موافقة رغبة المستفتي
ومن الأمور التي تجعل بعض المفتين بالباطل يفتون الناس بالضرورة: الحرص على موافقة رغبة المستفتي لإغراءاته مثلاً أو ضغوطه على المفتي، من جهة ترغب مثلاً استصدار فتوى لتوافق ميولها وأهواءها، فالمفتي إذا لم يكن عنده خوف من الله أفتى بما يوافق رغبة القوم مستنداً إلى رفع الحرج أو التيسير على الأمة، أو أن الضرورة تبيح المحظورات، أو أن اختلاف الأمة رحمة، أو أن هذا الزمان والعصر يختلف، وأن له حكماً خاصاً، وأن الأحوال قد تغيرت، ونحو ذلك من أبواب الكلام الخطير الذي يقول به بعضهم، كلام يحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم.(230/7)
تورط بعض المفتين في محرم من المحرمات
وقد يكون الشخص الذي يقول للناس: افعلوا ولا حرج هذه ضرورة، قد يكون متورطاً في أمر محرم في حياته الشخصية، فلكي لا يلومه الناس يفتيهم بالجواز.
وكذلك عدم العلم الدقيق والقدرة على تصور الواقع، وهناك أناس عندهم حسن نية يقولون للناس: افعلوا ضرورة، ما هو السبب؟ قالوا: نحن نريد أن نحبب الناس إلى الدين، ولذلك نحن نيسر عليهم ونفتح المجالات لهم، ونقول: اعملوا ولا حرج، وهذه ضرورة، لماذا؟ لتحبيب الناس في الدين.
هؤلاء -أيها الإخوة- يدخلون الناس إلى الدين من باب، ثم يخرجونهم من الدين من باب آخر، مسيئون وليسوا بمحسنين، وأضرب لكم مثلاً: شيخ في حلقة جاءه شخص فقال -ومع الأسف أيها الإخوة أهل العلم المتمكنون من العلم قلة جداً، ولذلك الناس لا بد لهم أن يذهبوا إلى المأمون ولا يسألوا أي شخص- جاءه شخص وقال: يا شيخ! أريد أن أنقل عفش بيتي في نهار رمضان، وهذا أمر متعب في رمضان هل يجوز أن أفطر؟ قال: لا بأس؛ للضرورة أفطر، حتى قال أحد الحاضرين من النبهاء من عامة الناس، قال: يا شيخ! لماذا لا تقول له أن ينقل عفش بيته في الليل؟!(230/8)
توجيهات لابد أن يعلمها المستفتي(230/9)
أن يعلم أن الضرورة حالة استثنائية
ولذلك لا بد للشيخ والمفتي أن يقول للناس إذا وقعوا في ضرورة فعلاً أن يبين لهم أموراً، ومن هذه الأمور أن يقول: أيها الناس! إن الضرورة حالة استثنائية، وليست هي الأصل، لكي يشعر المستفتي أنه يعيش في دائرة ضيقة وهو يفعل هذا الأمر المحرم، وأن عليه أن يخرج منها بأي وسيلة.(230/10)
أن المباح للضرورة ليس من الطيبات
ثانياً: أن المباح للضرورة ليس من الطيبات، الميتة إذا أبيحت للضرورة لا تصبح طيبة لا زالت خبيثة نتنه، لكن الفرق أن الذي يتناولها للضرورة يسقط عنه الإثم، فلا بد أن يشعر الذي يأكل الميتة للضرورة أنه يأكل شيئاً منتناً حراماً لا يجوز في الأصل، لا بد أن يستشعر هذا.(230/11)
أن يحمل المفتي المستفتي المسئولية في صحة المعلومات
ثالثاً: أن يحمل المفتي المستفتي المسئولية عن كامل التفاصيل التي يقدمها له، وأن فتواه له بالضرورة مبني على صحة المعلومات، فإذا كان المستفتي مزوراً ويقدم معلومات خاطئة، ويقول: ما دام الشيخ سيفتي فأنا أخرجت نفسي من العهدة ما دام أخذتها من فمه، وهو يقدم معلومات خاطئة، يقدم معلومات ليشعر الشيخ أنه في حرج وأن المسألة لا مخرج منها، حتى يقول له الشيخ: افعل للضرورة.(230/12)
أن الإفتاء بالضرورة عند عدم وجود حلول أخرى
رابعاً: لا يجوز الإفتاء بالضرورة إلا بعد انسداد جميع الأبواب، واستنفاذ جميع الحلول والبدائل، وكذلك لا بد أن يشعر المضطر عند الاضطرار بالحرج وهو يقدم على هذا الفعل، وأضرب لكم مثلاً: أفتى العلماء الثقات بجواز وضع النقود في البنوك الربوية للضرورة إذا لم يوجد غيرها، هل يشعر الشخص اليوم وهو يدخل بنكاً ربوياً ليضع فيه مالاً أو يأخذ منه ماله، هل يشعر بالحرج الشديد؟ هل يشعر وكأنه يأكل ميتة؟ هل يدخل وهو يستغفر الله ويخاف أن يقع عليه عذاب في هذه القلعة من قلاع الربا؟ أم أن الناس يتباهون بشعارات البنوك، ودفاتر البنوك، وبطاقات السحب الآلي للبنوك، ودعايات البنوك، ويتفاخر أنه قد أودع في البنك الفلاني، وأن أمواله في البنك الفلاني، ويتفاخر بتسهيل الخدمات المصرفية في البنك الفلاني.
ماذا الذي يحدث أيها الناس؟ الشعور بالحرج وأنت تضع أموالك في البنوك الربوية للضرورة وبدون فوائد أو ربا أم أن الذي يحدث أحياناً نوع من التفاخر بالبنك وشد النفس به؟ مثلاً: وأنت تعلم أن تناول كوباً من الشاي من مال هذا البنك كضيافة من البنك أنه حرام لا يجوز أين الحرج وأنت ترتكب الضرورة؟(230/13)
لابد من التخلص من الضرورة وإزالتها
ثم إن من القواعد المهمة: أنه لا بد من السعي لإزالة الضرورة، على المضطر أن يسعى بكل قوته أن يتخلص من الضرورة، لا أن يستسلم لها، لا بد أن يتخلص، كم من الناس الآن إذا وقعوا في ضرورة يحاولون التخلص فعلاً من هذا المجال الضيق الحرج الذي وقعوا فيه، وأن المضطر إذا لم يسعَ للخروج من الضرورة فإنه يأثم، فإذا قدر -مثلاً- كما ضرب العلماء مثلاً حياً في كتبهم، ولو اطلعوا على حالنا اليوم ماذا سيقولون أيها الإخوة؟ قالوا في كتبهم: إذا جاز للمسلمين في عصر من العصور مصالحة العدو لضرورة مع توفر الشروط الشرعية فلا بد أن يسعى المسلمون للخروج من هذه الضرورة التي ألجأتهم إلى مصالحة العدو، ومعنى الشروط الشرعية: أن يتولى عقد الصلح مثلاً خليفة المسلمين الذي وكله المسلمون عليهم أو نائبه الذي وكله الخليفة، أما أن يتولى عقد الصلح مع العدو رجل ظالم تسلط على المسلمين، أو كافر أو قومي علماني، أو نصراني أو ملحد أو لاديني يتكلم باسم المسلمين ويفاوض عنهم من الذي وكله، ومن هي الأمة الإسلامية التي وكلته في شئونها؟! وأن يكون هذا الصلح هو أفضل حل للمسلمين فعلاً، وألا يؤدي إلى مفاسد أكثر بترك الصلح، وأن يكون موقتاً بوقت معين كما اشترط الفقهاء لذلك، وأكثر مدة اشترطها الفقهاء للصلح عشر سنين بناء على صلح الحديبية إذا توفرت الشروط في الصلح فعلاً، توفرت الشروط فإنه يجب على المسلمين أن يسعوا لإزالة الضعف والتقوي والشعور بأنهم في ذل، وأنه لا بد أن يعدوا العدة للجهاد حتى ينهوا هذا الظلم والهوان المفروض عليهم، ولذلك تعلم أن كثيراً مما يحدث في هذه الأيام لا علاقة له بالإسلام أصلاً، ولم يسأل عنه الإسلام ابتداء.(230/14)
أن الضرورة تقدر بقدرها
ومن قواعد الشريعة: أن الضرورة التي تقدر بقدرها لا بد أن تكون ضرورة فعلاً، فيها حرج عظيم على الشخص، لا يطيق تحمله فعلاً، وليست مسألة توسع في مكاسب وزيادة أرباح مثلاً، أو مشقة بسيطة يمكن تحملها، فهذه ليست ضرورة ولا داعي لأن نخادع أنفسنا ونكذب على الله سبحانه وتعالى، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهل فقهنا -أيها الإخوة- شيئاً مما يتعلق بهذه القاعدة العظيمة التي ذكرها أهل العلم؟ وهل عرفنا الآن سبيل المتلاعبين وأنه يجب أن نصدق مع الله سبحانه وتعالى؟ اللهم فقهنا في ديننا، وقنا شر أنفسنا، اللهم كن لنا عوناً على طاعتك يا رب العالمين! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(230/15)
أمثلة لحالات الضرورة فيها صحيحة وحالات فاسدة
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، لا إله إلا هو سبحانه وتعالى خلق الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأقام الحجة، لا إله إلا الله يفعل ما يشاء، لا إله إلا الله الحي القيوم، لا إله إلا الله فعال لما يريد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد الرحمة المهداة، السراج المنير، والبشير النذير، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.
أيَّها المسلمون: لا بأس أن نذكر الآن بعض الحالات التي فيها ضرورة صحيحة، وبعض الحالات التي ليس فيها ضرورة وإنما يستخدم الناس كلمة الضرورة زوراً وبهتاناً على الشريعة.
فمثلاً: الكذب في الحرب ضرورة مع الكفار، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الحرب خدعة) والكذب لأجل الإصلاح بين المتخاصمين ضرورة من أجل التوفيق بين المتخاصمين من المسلمين، إذا لم يجد حلاً إلا ذلك.
وكذلك غيبة رجل لا يصلح في الزواج تُقدِّم إلى أناس وأنت تعلم حاله، يجوز أن تغتابه للضرورة لا حرج في ذلك.
وسفر المرأة بغير محرم يكون ضرورة في حالات: كمن مات محرمها في الطريق، أو أجبرت على الخروج من بلد بالقوة وليس عندها محرم، أو مضطرة للهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام وليس عندها محرم، وعائشة رضي الله عنه في غزوة بني المصطلق لما تركها الجيش وذهبوا وظنوا أنها في الهودج، وهي كانت تبحث عن عقدها بعيداً عن الجيش تركوها وذهبوا، فلما مر بها صفوان بن معطل السلمي رضي الله عنهما اقتاد بعيرها وذهب بها للضرورة؛ لأنها مقطوعة.
لو شاهدت حادث سيارة في طريق سفر وامرأة تحتاج إلى إسعاف تأخذها للضرورة لا حرج في ذلك، ترك الجماعة في المسجد لوجود مجنون أو مريض في البيت يخشى عليه، يحتاج إلى من يقف بجانبه ويرعاه لأن حالته خطرة، هذه ضرورة تترك لأجلها صلاة الجماعة.
لكن ترك صلاة في المسجد لأجل المباريات والكلام الفارغ، ما حال أكثر المسلمين؟ وضع النقود في البنوك الربوية لحفظها إذا لم يوجد إلا هي ضرورة، لأن المال بالتجربة يضيع أو يترك، وهناك مؤسسات عندها أموال كثيرة، وأناس أغنياء من المسلمين أين يضعون نقودهم؟ فيضعونها إذاً في البنوك الربوية إذا لم يوجد إلا هي مع وجوب السعي لإقامة البنوك الإسلامية -كما ذكرنا قبل قليل- من القادرين على السعي لا بد منه.
السفر إلى بلاد الكفار لعلاج لا يوجد إلا في بلاد الكفار جائز للضرورة، وذكر بعض أهل العلم في حالة عصرية الاضطرار إلى عقد التأمين المحرم في بلد لا تستطيع قيادة سيارتك فيه إلا بعقد التأمين، لا تستطيع، يمنعونك ويخالفونك ويسحبون رخصتك، ويمنعونك من قيادة السيارة، أنت مكره في هذه الحالة لأنك لا بد أن تستعمل سيارتك، لا تستطيع أن تمشي المسافات الطويلة، ولكن ما رأيكم بمن يؤمنون على سيارتهم لغير ضرورة؟ ما أحد دفعه إليها ولا ضرب يده عليها، ومع ذلك يقوم بعقد التأمين المحرم، يقول: أخشى أن يحدث حادث، أتوقع يمكن وبناءً على هذه الممكنات يرتكبون عقد التأمين المحرم قطعاً، وهو نوع من أنواع الميسر والقمار لا يجوز فعله.
العمل في البنوك الربوية حرام ليس بضرورة أبداً ولا يجوز، الأعمال الأخرى موجودة وأرض الله واسعة، إذا لم تجد في البلد فأرض الله واسعة، وإذا لم تجد يجوز لك أن تمد يدك إلى الناس، لو قال واحد ما وجدت، نقول: الشحاذة جائزة للضرورة، لكن العمل في البنوك لا يجوز، الشحاذة جائزة، العلماء أباحوا التسول للضرورة، فيجوز.
الاستلاف من البنوك الربوية للمشاريع التجارية أو الزواج ونحوه، حرام لا يجوز، وكذاب الذي يدعي أنها ضرورة، لا يجوز.
الاستلاف من البنوك الربوية: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
السماح ببيع الخمور في بلاد المسلمين، وفتح الملاهي، ودخول الكفار إلى المساجد للفرجة بحجة أن البلد مضطر إلى العملة الصعبة التي يأتي بها هؤلاء السياح، سبحانك هذا بهتان عظيم! سفر المرأة بغير محرم لغير ضرورة لا يجوز وحرام، والعلاج بالمحرمات فإن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها، أو العلاج بالموسيقى كما يقولون، أو الإفطار في رمضان لأجل نقل عفش أو وظيفة أو عمل غير ضرورة، لو كان جهاداً في الجيش لقلنا: أفطر تَقوَّ على جيش الكفار.
رجال المطافئ يطفئون حريقاً صعباً طويلاً جداً يتقوون لإطفاء الحريق، لكن هذا يقول: وقت طويل وعمل طويل.
حلق اللحية لمجرد الخوف من توقيف بسيط أو مساءلة كما يفعل في بعض البلدان الذين لا يخافون الله سبحانه وتعالى، فيوقفون أصحاب اللحى ويفتشونهم، واحد ذهب إلى بلد وهو ملتحي أوقفه موظف التفتيش وين يا أخ؟ ماذا؟ ما هذا الذي عليك؟ قال: لحية، ما تعرف أن اللحية ممنوع؟ سبحان الله! ومن الذي منعها؟ فحلق اللحية لمجرد خوف توقيف بسيط أو مساءلة لا يجوز وليس بضرورة، لكن لو خاف أنه يسجن سجناً مؤبداً أو يقتل ويلحق به ضرر عظيم، يجوز له حلقها للضرورة، أما لمجرد كلمة أو كلمتين يسمعها من الأذى يجب عليه أن يتحمل ذلك في سبيل الله.
وضع البنات في مدارس مختلطة بدون حجاب للدراسة، والمرأة هذه تفتن وربما تفعل الفاحشة، وتجعل لها خليلاً من أجل الشهادة، لا، لا نريد الشهادة وليست بضرورة، قالوا: حتى يرغب المتقدمون لها بالزواج؛ لأنها صاحبة شهادة، لا يا أخي! يرزقها الله.
وزعموا أن الربا ضرورة عصرية، قاتلهم الله أنى يؤفكون، وجلب عمال الكفار إلى جزيرة العرب لفتح أعمال تجارية لا يجوز.
إجهاض الجنين من المرأة التي تريد أن تحافظ على رشاقتها، قال: هذا الجنين الآن يشوه الشكل ويسبب انتفاخ البطن، وتجعد الجلد نجهض، حرام.
أو إجهاض الزانية لكي تتوسع في الزنا بزيادة حرام.
كشف الطبيب على المرأة الأجنبية بغير حاجة ولغير ضرورة، وترك المرأة للحجاب عند السفر للخارج ليس بضرورة، وأصرفكم بهذه المسألة سمعتها في الليلة الماضية من فتاوى إذاعة لندن أستغفر الله برنامج بين السائل والمجيب.
السؤال عن حكم مصافحة المرأة الأجنبية.
بدأ المفتي يفتي في إذاعة لندن يقول: إن هناك كثيراً من الأمور التي تساهل الناس فيها، وأحوال كثيرة في الواقع مخالفة للشرع، فاستبشرنا خيراً وبعد ذلك، قال: وقد وردت الأدلة المانعة لتحريم المصافحة وقالت عائشة: (ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط) ولا كذا وكان يبايعهن فيكتفي في المبايعة من بعد، وو إلخ، قال: ولكن في النهاية كل هذه الأدلة ليس فيها دليل على التحريم لأنها خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم.
الله أكبر! {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] وهو الذي قال عليه الصلاة والسلام وهذا دليل ما جاء به المفتي الضال المضل، قال عليه الصلاة والسلام: (لأن يطعن أحدكم بمخيط في رأسه خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) وإنما قال: جاءت امرأة في المركز الفلاني ومدت يدها للمصافحة، هذا إحراج، قال: هذا إحراج ماذا نفعل؟ هذا إحراج صارت ضرورة يصافح المرأة الأجنبية، قال: وجاءت امرأة اسكتلندية مهرولة تريد أن تعانقني، إحراج.
أيها الإخوة! إن هذا الموضوع مؤلم وخطير، وقد آثرت أن أطرقه بنوع من التفصيل لكني أرجو من الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا وإياكم في دينه، لأن الفقه في الدين أيها المسلمون! أمر مهم جداً لكي لا نقع في هذه المحظورات بحجج واهية لا يقبلها الله، هذا دين، وهذه أمانة، وهناك حساب، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يخفف عنا أهوال يوم القيامة.
اللهم إنا نسألك أن تتجاوز عنا يا رب العالمين! وأن تغفر لنا ذنوبنا وتكفر عنا سيئاتنا، وأن تدخلنا الجنة مع الأبرار، اللهم سامحنا في تقصيرنا في حقك، اللهم تجاوز عنا ما فعلنا من المآثم والمعاصي والسيئات، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.(230/16)
الدنيا معلونة
الكثير من الناس اليوم قد اشتغل بالدنيا ولذتها ونسي الآخرة ونعيمها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد ربى الصحابة على احتقار الدنيا، وعدم الاغترار بها، وعظَّم في قلوبهم الآخرة التي هي دار القرار.(231/1)
حقيقة الدنيا
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.(231/2)
حقيقة الدنيا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
أيها المسلم: وصية لك من النبي صلى الله عليه وسلم، تحملها ثنايا هذه العبارة الموجزة الجامعة من جوامع الكلم التي أوتيها نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن عمر: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) كن في الدنيا: هذا إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم يبين لك الحال التي ينبغي أن تكون عليها في الدنيا: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
هذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ولا مسكناً، ولا يطمئن إليها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كمن كان على جناح سفر، يهيئ جهازه للرحيل: (ما لي وللدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة -قيلولة- ثم راح وتركها) هكذا أوصانا صلى الله عليه وسلم.
هذا ما ينبغي أن يكون عليه حالنا في هذه الدنيا، ينبغي أن يعتبر بهذا الحديث التاجر الذي تعلق قلبه بتجارته، وصاحب المال الذي تعلق قلبه بماله، وصاحب المنصب الذي تعلق قلبه بمنصبه، وصاحب القصر الذي عمره وزخرفه ونقشه، هكذا ينبغي أن يكون حال كل واحد منا ممن أوتي شيئاً من الدنيا ألا يغتر به، وأن يعلم أن الرحيل حاصل حاصل -يا عباد الله- ولكننا غافلون لا تذكرنا إلا أخبار موت فلان أو موت فلان ممن حولنا من الناس أو من الأقرباء، اعتبروها ولا تعمروها، اعمروها بطاعة الله ولكن لا تعمروا بطول الأمل والزخارف والزينات
من الذي يبني على موج البحر داراً تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً(231/3)
حقيقة الدنيا عند السلف
دخل رجل على أبي ذر رضي الله عنه فجعل يقلب بصره في بيته فقال: [يا أبا ذر! أين متاعكم؟ لا أرى أثاثاً في البيت ولا متاعاً! أين متاعكم؟ قال: إن لنا بيتاً نوجه إليه صالح متاعنا وليس هذا.
قال: لا بد لك من متاع ما دمت هاهنا.
قال أبو ذر: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه، لا بد أن يأخذه منا ويأخذنا منه يوماً من الأيام].
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: [إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل].
قال بعض الحكماء: عجبت ممن الدنيا مولية عنه والآخرة مقبلة إليه، يشتغل بالمدبرة ويعرض عن المقبلة! وإذا لم تكن الدنيا -يا إخواني- دار إقامة للمؤمن ولا وطناً له فينبغي أن يكون حال المؤمن فيها أحد حالين: إما أن يكون كأنه غريب، مقيم في بلاد غربة همه التزود للرجوع إلى وطنه، كن في الدنيا كأنك غريب لا تحس بالتعلق في هذه البلد التي أنت فيها، وإنما همك رجوعك إلى بلدك الأصلي، وإنما تأخذ من هذه البلد ما تتزود به لبلدك الأصلي كأنك غريب، أو عابر سبيل مسافر غير مقيم البتة لا في بلد غربة ولا في البلد الأصلي.
ولذلك فالمسافر إحساسه بأنه مسافر في الدنيا أعلى من إحساسه بأنه غريب فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وعابر السبيل المسافر يسير باستمرار ليصل إلى المكان، لو وقف وجلس انقطع هدفه في الوصول إلى مكانه الذي يريد، وكذلك الذين يركنون إلى الدنيا ينقطع هدفهم في الوصول إلى الآخرة بسلام؛ لأنه يتيهون في أوديتها.
نزل نفسك -يا عبد الله- منزلة الغريب غير المتعلق قلبه ببلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الأصلي الذي يريد أن يرجع إليه، المؤمن في الدنيا مهموم محزون؛ همه أن يصل إلى المكان الذي يريد، ولذلك من كانت هذه حاله فإنه لا ينافس أهل البلد الذي هو متغرب فيه، لا ينافسهم في عزهم، ولا يجزع من الذل عندهم، قال الحسن: [المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، لها شأن وللناس شأن].
ما هو وطننا الأصلي أيها المسلمون؟ أين موطننا الأصلي نحن؟ أسكن آدم وزوجه الجنة ثم أهبطا منها إلى الأرض، ووعدا بالرجوع إليها مع صالح ذريتهما، فالمؤمن أبداً يحن إلى موطنه الأصلي، إلى وطنه الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل
موطننا الأصلي إذاً هو جنات عدن، هذا هو موطننا الأصلي، وما نحن فيه الآن كله غربة في غربة، وشيء مؤقت وإنما المصير النهائي في دار الكرامة أو دار الهوان
فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مغرم
وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكم
كان بعض السلف يقول: اللهم ارحم في الدنيا غربتي، وارحم في القبر وحشتي، وارحم موقفي غداً بين يديك.
وقال يحيى بن معاذ الرازي: الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموت نادماً مع الخاسرين.
قيل لـ محمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم إلى مرحلة من مراحل الآخرة؟ وقال الحسن: يا بن آدم! إنما أنت أيام مجموعة كلما مضى يوم مضى بعضك.
وقال: ابن آدم! إنما أنت بين مطيتين يوضعانك (يوضعك النهار إلى الليل والليل إلى النهار) حتى يسلمانك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا بن آدم خطراً؟ وقال: الموت معقود في نواصيكم والدنيا تطوى من ورائكم.
كل يوم يمضي من حياتنا يقربنا إلى الموت
سبيلك في الدنيا سبيل مسافر ولا بد من زاد لكل مسافر
ولا بد للإنسان من حمل عدة ولا سيما إن خاف صولة قاهر
كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته؟ كل يوم يهدم شهرك، اليوم يجعل الثلاثين تسعة وعشرين، والتسعة والعشرين ثمانية وعشرين وهكذا، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، وكيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته؟ قال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة.
قال: فأنت من ستين سنة تسير إلى ربك، يوشك أن تبلغ.
فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون! فقال الفضيل: أتعرف تفسير ما تقول؟ أنا لله وأنا إليه راجع، أنا لله عبد وإليه راجع، إنا لله وإنا إليه راجعون فمن علم أنه لله عبد وأنه لا بد إليه راجع فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسئول، ومن علم أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة.
قال: وما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وبما بقي.
قال بعض الحكماء: من كانت الليالي والأيام مطاياه سارت به وإن لم يسر.
وتأمل هذا المعنى الذي نظمه الناظم:
وما هذه الأيام إلا مراحل يحث بها داع إلى الموت قاصد
هذه الأيام مثل المطايا التي تسير، تسير بنا:
وأعظم شيء لو تأملت أنها منازل تطوى والمساكن قاعد
العادة أن المسافر يمضي، يحس أنه يمشي ويذهب، لكن هذه الأيام تذهب والمسافر قاعد حتى يفاجأ بأنه قد وصل، لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار وتقريب الآجال، هيهات قد صحب نوح وعاد وثمود وقرون بين ذلك كثيراً، وقدموا على ربهم ووردوا على أعمالهم، وأصبح الليل والنهار غضين جديدين، بليت الأجساد والليل والنهار يعودان: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] ففي الليل والنهار تقع الأعمال والعبادات.
وقال الأوزاعي لأخ له: أما بعد فقد أحيط بك من كل جانب، واعلم أنه يسار بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله والمقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به، والسلام.(231/4)
قصر الأمل عند السلف الصالح
أيها المسلمون: ينبغي علينا ألا نظن لحظة واحدة أننا مقيمون في هذه الدنيا، ينبغي أن يلازمنا هذا الشعور باستمرار، فإن الذي يلازمه هذا الشعور لا يقع في المعاصي، ولا يتعلق بالفاني وإنما يسارع إلى الله بالعبادة.
قال ثلاثة من العلماء لبعضهم، كل اثنين يقولان للآخر: ما أملك؟ فقال أحدهم: ما أتى علي شهر إلا ظننت أني سأموت فيه.
فقال صاحباه: إن هذا لأمل.
فقالا للآخر: ما أملك؟ قال: ما أتت علي جمعة إلا ظننت أنني سأموت فيها.
فقال له صاحباه: إن هذا لأمل.
فقالا للأخير: ما أملك؟ قال: ما أمل من نفسه بيد غيره؟ قال داود الطائي: سألت عطوان بن عمر التميمي قلت: ما قصر الأمل؟ قال: ما بين تردد النفس.
فحدث بذلك الفضيل بن عياض فبكى، وقال -يقول في معنى كلامه-: يتنفس فيخاف أن يموت قبل أن ينقطع نفسه، يأخذ الزفير يخاف أن يموت بعده فلا يرد الشهيق هذا حال الصالحين؛ لأننا فعلاً لو تأملنا في الميت يموت إما بعد أخذ النفس أو بعد رده، واحدة منهما فيحدث الموت فيها، فتأمل الآن وتفكر في نفسك أنك ستموت بعد هذا أو بعد هذا، فماذا يكون حالك وشعورك؟ قال بعض السلف: ما نمت نوماً قط فحدثت نفسي أني سأستيقظ، وإنما أوطن نفسي أني ربما لا أقوم: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:42] وكان حبيب أبو محمد يوصي كل يوم بما يوصي به المحتضر عند موته من تغسيله ونحو ذلك، وكان يبكي فكلما أصبح وأمسى أوصى، فسألت امرأته عن بكائه فقال: يخاف الله إذا أمسى ألا يصبح، وإذا أصبح ألا يمسي.
وكان محمد بن واسع إذا أراد أن ينام قال لأهله: أستودعكم الله فلعلها أن تكون منيتي التي لا أقوم منها.
وقال بكر المزني: إن استطاع أحدكم ألا يبيت إلا وعهده -وصيته- عند رأسه مكتوب فليفعل، فإنه لا يدري لعله يبيت في أهل الدنيا فيصبح في أهل الآخرة.
وكانت امرأة متعبدة بـ مكة كلما أمست قالت لنفسها: يا نفس! الليلة ليلتك، لا ليلة لك غيرها فاجتهدت في العبادة، فإذا أصبحت قالت: يا نفس! اليوم يومك ستقبضين فيه، لعلك تؤخذين فيه، اليوم يومك لا يوم لك غيره، فاجتهدت، وهكذا سارت من اجتهاد إلى اجتهاد.
إذا أردت أن تنفعك صلاتك يا عبد الله فقل: لعلي لا أصلي غيرها، صل صلاة مودع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك عندما اجتمع بعض السلف للصلاة فقدم، كل منهم صاحبه، حتى قدموا رجلاً منهم، فقال هذا الرجل وهو يتقدم بحرج: إن صليت بكم الظهر لا أصلي بكم العصر، يصلي غيري.
فقال له بعض الحاضرين من السلف: نعوذ بالله من طول الأمل، أو تأمل أن تصلي الصلاة الأخرى؟ عندك يقين بأنك ستصلي الصلاة الأخرى؟ تشترط تقول: إن صليت بكم الظهر لا أصلي العصر؟ وهكذا -أيها الإخوة- كل يوم يمضي يذهب فيه من عمرنا جزء، فماذا قدمنا في هذه الأيام التي تمضي؟ نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذنا وإياكم من طول الأمل، وأن يجعلنا متصلين بحبله المتين، قائلين بالركن الركين، متعبين لسنة سيد المرسلين.
أيها الناس: خذوا من الصحة للمرض، ومن الحياة للموت، فإن الاعتراضات التي تعترضنا كثيرة، فربما يمرض الإنسان ولا يستطيع العمل، وربما يقع له ظرف يؤدي به إلى الأجل ويكون الخسران هو العاقبة لقلة العمل وضعفه، فأنيبوا إلى ربكم كما قال الله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54] قبل أن تتحسر النفس وتقول: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:56 - 58] ماذا ننتظر؟ ننتظر هرماً أو مرضاً أو فقراً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال -اعملوا قبل أن تأتي أشياء- بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أو أمر العامة) بادروا بالأعمال فاستبقوا بها قبل أن يحين الأجل، وقبل أن يأتي ما يقطع عن العمل، والناس مغبونون في الصحة والفراغ، فعندهم الصحة لا يفكرون في المرض، وعندهم المال لا يفكرون في الفقر، عندهم الفراغ لا يفكرون في الشغل فإن الله يشغل بعض الناس بنفسه.(231/5)
ماذا قال الله في كتابه عن الدنيا؟
إن الله سبحانه وتعالى قد بين لنا حقيقة هذه الدنيا في كتابه، وذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه ذكراً كثيراً جداً حتى لا ينطلي أمرها على المسلمين، وحتى يعرفوا حقيقتها وفناءها وزوالها وهوانها على الله، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} [الكهف:45] نزل الماء فاختلط بنبات الأرض فأصبح مورقاً أخضر يانعاً، ونضجت الفواكه والثمار وطابت واصفرت واحمرت، ولكن ماذا بعد هذا؟ قال الله تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف:45] أصبح يابساً متكسراً متفتتاً، تفرقه الرياح وتنسفه لخفته: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف:45].
وقال الله عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} [الحديد:20] في النهاية، هشيماً متكسراً يابساً: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] فهي تغر بفتنتها وزينتها ولكنها هينة، ولكنها عند الله لا تساوي شيئاً، هذه الحياة الدنيا وصفها ربنا بأنها لهو ولعب، وعقد المقارنة بينها وبين الآخرة وقال الله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنعام:32] {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] هي الحياة الحقيقية، هي الحيوان: يعني الحياة الدائمة المستقرة الباقية: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ * أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ} [القصص:60 - 61] في الآخرة: {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:61] أي: للجزاء والحساب.
هذه الحياة الدنيا سميت دنيا لدنوها وسفولها، الحياة الدنيا، هي القليلة الصغرى، هذه الحياة الدنيا مليئة بالشهوات والفتن ولكنها شهوات زائلة، وأمور تفتن ولكن لحظات عابرة لا يستمتع بها حق الاستمتاع أحد: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران:14] الأشياء المتشهاة: {وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} [آل عمران:14] المضاعفة بعضها فوق بعض: {مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} [آل عمران:14] المعلمة المطهمة: {وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14] يعني: الزرع والثمار والشجار والنبات: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14] هذه أنواع البهجات الدنيوية هذا متاع الحياة الدنيا: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14].(231/6)
الدنيا بالنسبة للآخرة
إن الدنيا بطبيعتها خضرة حلوة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، لها بهجة وجاذبية، والله سبحانه وتعالى قد استخلفنا فيها لينظر كيف نعمل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء) رواه مسلم.
هذه الدنيا -أيها الإخوة- مقارنتها بالآخرة ونسبتها إلى الآخرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يمشي أحدكم إلى اليم فأدخل إصبعه فيه فما خرج منه فهو الدنيا) هذه الدنيا بالنسبة للآخرة، رجل أدخل إصبعه في اليم ثم أخرجها فما علق في الإصبع من ماء البحر هو نسبة الدنيا إلى الآخرة.
وهذه الدنيا التي احتقرها ربنا وذكر فناءها وزوالها لأنها فانية وزائلة، وما فيها من الفتن والشهوات التي تفتن وتجذب لا تساوي عند الله شيئاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً) لأنها هينة على الله لا تساوي شيئاً عند الله، متاعها يغر أصحاب الاغترار.
يكفيك يا طالب الدنيا أن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه إلا ما ابتغي به وجه الله مما في الدنيا، إذا ابتغيت وجه الله خرجت من هذه الأشياء الملعونة في الزوجة والولد والمال والعلم -قبل ذلك- والعبادة هذا الذي ليس بملعون، والباقي كله ملعون بنص الحديث.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على تهوين شأن الدنيا في نظر الصحابة، وانتهاز الفرص لعرض هذا المفهوم، وهو مفهوم حقارة الدنيا لما ينبني على إيضاح هذا المفهوم من الفوائد العظيمة والتربية الجسيمة في نفوس الصحابة.
روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن جابر رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى العالية -ناحية في المدينة - فمر بالسوق، فمر بجدي أسك -صغير الأذن- ميت فتناوله، فرفعه، فقال: بكم تحبون أن هذا لكم؟ قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، ولا نشتريه بفلس، وما نصنع به؟ قال: بكم تحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حياً لكان عيباً فيه أنه أسك -صغير الأذن- فكيف وهو ميت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم).
وعاقبة الدنيا إلى فناء وزوال، عاقبة الدنيا إلى شيء كريه بغيض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مطعم ابن آدم -الطعام الذي نأكله- قد ضرب مثلاً للدنيا وإن قزحه وملحه، فانظر إلام يصير) أشهى أكلة في الدنيا خذها، قزح وملح، وضع والتوابل، وزين الأكلة واجعلها أشهى ما تكون، ثم كلها والتهمها فماذا تكون في البطن وكيف تخرج في النهاية؟ كيف تخرج أشهى أكلة في الدنيا؟ كيف تخرج من دبر الإنسان في النهاية؟ (إن مطعم ابن آدم قد ضرب مثلاً للدنيا، وإن قزحه وملحه فانظر إلام يصير).
ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على التقلل منها، وكان صلى الله عليه وسلم يتقلل منها أيضاً، وأوصى بوصايا في هذا المجال، من ذلك قوله: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) والغريب وعابر السبيل لا يثقل بدنه وكاهله وظهره بالمتاع؛ لأن عابر السبيل يريد أن يتحرك ويتنقل، وكثرة المتاع على ظهره تثقله وتعيق حركته، ولذلك عندما أوصانا بقوله: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) يعني: تخففوا من المتاع، قللوا من زينة الدنيا، لا تأخذوا منها وتعبوا عباً، وإنما كلما كان أخذك أيسر كلما كان حسابك أخف.
وضرب عليه الصلاة والسلام المثل بذلك فقال: (ما لي وللدنيا؟ وما للدنيا ومالي؟ والذي نفسي بيده، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من النهار ثم راح وتركها) فارقها وذهب عنها، ساعة من النهار، ظل، والظل من طبيعته أنه يزول.
والله سبحانه وتعالى إذا أحب عبداً حماه من الدنيا، وباعد بينه وبين زخرفها وزينتها، والانغماس فيها والانشغال فيها؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا كما يحمي أحدكم سقيمه الماء) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه) رواه أحمد وهو حديث صحيح.(231/7)
عدم الاغترار بما عليه الكفار من نعيم الدنيا
وكان صلى الله عليه وسلم متقللاً متخففاً، لا يكاد يُرى في بيته شيء، دخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم -في قصة مع نسائه مشهورة- قال: فرآه وإنه على حصير ما بينه وبينه شيء، ليس بين جلده وجسده الشريف وهذا الحصير حائل، وتحت رأسه وسادة من أدم -من جلد- حشوها ليف وإن عند رجليه قرضاً مضبوراً مجموعاً، وعند رأسه أُهباً معلقة -والإهاب: هو الجلد الذي لم يدبغ- فرأيت أثر الحصير في جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكيت، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله! كسرى وقيصر فيما هما فيه -يعني: من الملك والنعيم والرياش والقصور والحرير، وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير؟ هذا متاعك من الدنيا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ -وفي رواية- ولك الآخرة) وقال لـ عمر أيضاً: (أوفي شك أنت يا بن الخطاب! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا).
ولذلك إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج، حديث صحيح.
إذا رأيت -أيها المؤمن- الدول الكافرة ومجتمعات الكفر والكفرة والفسقة والمجرمين، إذا رأيت عندهم متاع الدنيا: سيارات فارهة، وقصور مرتفعة، وثمار ناضجة، وصحة وأجساد، وإذا رأيت عندهم الرياش والنعيم، ورأيت عندهم بهجة الدنيا وزينتها وزخرفها؛ فاعلم أنما هذه طيباتهم عجلت لهم في الحياة الدنيا لأنه ليس لهم في الآخرة من نصيب.
وإذا رأيت الفسقة يتطاولون ويتفاخرون بالأموال، ويتكاثرون في الأرصدة، إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج لهذا الفاسق حتى يزداد {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178] ولأن هذه الدنيا وضيعة عند الله لا تساوي شيئاً جعل الله في حكمته أنه لا يدوم فيها شيء، متاع زائل، أعمار منقضية، وأجساد للتراب، دول تنقرض ومجتمعات تزول، والثمار نراها تتعففن أمامنا، وهؤلاء المتفوقون في الدنيا حتى في الرياضات انظر إليهم هل يحتفظ أحدهم بقوة عنده في رياضته وتدوم له؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن حقاً على الله تعالى ألا يرفع شيئاً من أمر الدنيا إلا وضعه) فكر في هذا السر وهذه الحكمة: (إن حقاً على الله تعالى ألا يرفع شيئاً من أمر الدنيا إلا وضعه) فترى صاحب الحافظة في النهاية ينسى ويخرف، وصاحب القوة في النهاية أمره إلى ضعف: {مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم:54] وصاحب المال قد يفتقر ويزول ماله أو يموت وهو غني فلا يستفيد من ماله في قبره بشيء، وصاحب الملك يزول ملكه وهكذا، أو يموت فلا يستفيد من ملكه شيء: (إن حقاً على الله تعالى ألا يرفع شيئاً من أمر الدنيا إلا وضعه).(231/8)
أعمالٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها
أما الذين يعملون للآخرة فإن الله يبقي لهم ذكراً جميلاً وأجراً عظيماً، وأعمالهم تنمو وتزداد، وهذه العبادات بالنسبة للدنيا لا شيء؛ لأن الدنيا زائلة والعبادة أجرها باق؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة -في الصباح أو في المساء في سبيل الله- خير من الدنيا وما عليها) لماذا؟ لأن العبادة أثرها وأجرها باق، خير من الدنيا وما عليها، حسنة واحدة يوم القيامة أجرك عليها خير من الدنيا وما عليها، وموضع السوط في الجنة، المكان الذي يأخذه السوط من الجنة، المكان هذا القليل خير من الدنيا وما عليها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم أو موضع قدمه في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما -ما بين السماوات والأرض- ريحاً، ولأضاءت ما بينهما بالنور والضياء، ولنصيفها على رأسها -خمارها على رأسها- خير من الدنيا وما فيها).
(ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) هاتان ركعتان خير من الدنيا وما فيها! واعقلوا -يا عباد الله- كيف أن النعيم في الدنيا حساب في الآخرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حلوة الدنيا مرة الآخرة، ومرة الدنيا حلوة الآخرة) قد يكون مرضاً، مصاباً، كموت حبيب أو قريب يصبر عليه حلو في الآخرة، هو مر في الدنيا، كفقر، أو شيء مؤلم، لكنه حلو في الآخرة، وحلوة الدنيا من المناصب والأموال والرياش مُرة في الآخرة.
والله سبحانه وتعالى جعل الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر كما ورد في الحديث الصحيح، كثير من المؤمنين لا يرون فيها زينة وبهجة، بل يمكن أن يكون ابتلاء متوالياً، سلب أموال وسجن وتقييد حرية، مرض وموت قريب، قلة الملابس وما يستر به جسده، يجد الطعام يوماً ولا يجده يوماً آخر، الدنيا سجن المؤمن، نفسه تضيق بالدنيا لأنه يتطلع إلى العالم الفسيح، وجنة الكافر لأن هذا منتهى أملهم وهذا هو كل ما يعيشون لأجله: الدنيا، ولذلك تراهم حريصين كل الحرص على الاستمتاع بها، ما عندهم إيمان بالآخرة ولا تطلع للآخرة، ولا أمل أن يكون لهم شيء في الآخرة؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة أصلاً.
ولذلك ترى عند الكفرة انتشار قضية الترفيه، قضايا الترفيه والألعاب؛ لأن هذا هو عيشهم وأملهم الوحيد، فهم يريدون أن يستمتعوا من هذه الدنيا بكل لحظة، فترى انتشار قضية الاستمتاعات ولو كانت محرمة، وانتشار قضية الترفيه، ونحن مقبلون على إجازة، والناس سيسيحون سياحة يطلبون ملذات الدنيا، والله أعلم بما هم صانعون، لكن الدنيا هذه ولو ساحوا فيها فهي سجن للمؤمن وجنة للكافر.(231/9)
إزالة النبي صلى الله عليه وسلم لكل شيء يذكره بالدنيا
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يزيل كل شيء يذكره بمتاع الدنيا من الأشياء المحرمة المنهي عنها، والتي تشغل ولو بالصلاة، كان لنا ستر فيه تماثيل طير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! حولي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا).
وماذا نحتاج من الدنيا أيها الإخوة؟ أمور قليلة يسيرة هي التي تبلغنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم موضحاً هذه الضروريات الثلاث: (من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) حديث حسن، من أصبح منكم آمناً في سربه: آمناً في بيته، لا يخاف على نفسه ولا على ماله ولا على أهله وعرضه، معافى في جسده: صحيح ما فيه مرض، عنده قوت يومه فهو شبعان، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، هذا كل ما هو موجود مما نحتاجه في الدنيا، أما البقية فهي استكثارات مشغلة ملهية.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر بمثل الدنيا في الآخرة، وبمثل الدنيا في نعيم الجنة، ولذلك قال في الحديث: (سأل موسى ربه فقال: يا رب! ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما يدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة.
فيقول: أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت ربي.
فيقول: هو لك ومثله ومثله ومثله ومثله -لك الأولى وأربعة وخمسة- فقال في الخمسة: رضيت ربي، فيقول: هذا لك -الذي ذكرنا لك قبل- هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك.
فيقول: رضيت ربي، -هذا أدنى أهل الجنة منزلة، خمسة في عشرة بخمسين، ضعف ملك من ملوك الدنيا، خمسين ضعفاً! هذا أدنى أهل الجنة منزلة، بالإضافة إلى ذلك لك ما اشتهت نفسك ولذت عينك- قال ربي: فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر) رواه أحمد وهو حديث صحيح.(231/10)
نعيم الدنيا وبؤسها بالنسبة للآخرة
وهذه الدنيا نعيمها في الآخرة أيضاً لا يساوي شيئاً، كما أن نعيم الآخرة بالمقارنة بالدنيا لا يمكن أن يقارن، ضرب النبي عليه الصلاة والسلام المثل فقال: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار -أنعم واحد من أهل الدنيا، أكثرهم مالاً وأكثرهم لذات في الدنيا لكنه من أهل جهنم، يؤتى به في يوم القيامة- فيصبغ في جهنم صبغة ويرفع، ثم يقال له: يا بن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة -مؤمن فقير، كان عارياً، مريضاً، مصاباً، مضطهداً- يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة واحدة فيقال له بعد ما صبغ بهذه الصبغة: يا بن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط) هذا على غمسة فكيف وهم سيعيشون فيها خالدين {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7].(231/11)
ولا تنس نصيبك من الدنيا
إن الآيات والأحاديث -أيها الإخوة- تركز على هذا المفهوم تركيزاً عظيماً، يجب أن يستقر هذا المفهوم في أنفسنا، وينبغي أن يكون حياً في أذهانناً ومشاعرنا لأن الأحوال لا تستقيم، حال المؤمن لا يستقيم إلا وهذه جزء منه وركيزة من ركائزه، لا يصلح أن يكون من انعكاسات هذا الموضوع في أنفسنا ترك الأخذ بالأسباب التي أمرنا بالأخذ بها شرعاً، لا يصلح ولا يعني عرض هذا الموضوع ترك السعي لتحصيل القوة التي نهزم بها الكفار، وليس معنى هذا أن نترك السعي لطلب الرزق الذي نعيش به الأنفس التي نحن مسئولون عنها، وليس الموضوع لترك العلاج والتداوي أو ترك الدراسة والجد والتحصيل، أو ترك الغرس والبناء وعمارة الأرض كما أمر الله؛ بل إن القضية بعدم التعلق بالدنيا مع الأخذ بنصيبنا منها فإن الإسلام وسط، وهذه الأمة التي اصطفاها الله وأخرجها لعمارة هذه الأرض والجهاد في سبيل الله لا بد أن تأخذ بالأسباب، قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص:77] أولاً {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77].
إذاً لا تنس نصيبك من الدنيا، فخذ ما تحتاج إليه، واعمل ما تقتات به، واكسب عيشك، الله سبحانه وتعالى جعل في الدنيا معايش وأخبرنا بأنه جعل لنا فيها معايش، لا بد من الطعام والشراب، لا بد من الغذاء والسكن واللبس.
ولكن -أيها المسلمون- الانشغال الحاصل الآن في هذا التنوع والتوسع والكماليات -مع الأسف- التي غرق فيها الناس وأدخلوها بيوتهم، وأنفقوا فيها الأموال الطائلة، الكماليات والتعلق بالزينة، إذا مرت سيارة فارهة قال: آخ لو أن عندي مالاً.
وإذا رأى قصراً مشيداً ضرب كفاً بكف وقال: لو أن لي مثله.
اعلم أن الذين رأوا أموال قارون التي تنوء بمفاتحها الرجال أولو القوة قالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79] لكن ماذا قال أهل العلم؟ {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [القصص:80].
فإذاً -أيها الإخوة- لا بد من أخذ الأسباب التي نرفع بها شأن الدين، وإن نحن ابتعدنا بأنفسنا عن هذه المهالك في الدنيا، وكذلك الدنيا هذه هي الفرصة للعمل، فلا يعني هم الدنيا أن نقعد عن العبادة وننتظر الأجل لا.
لأن الدنيا هي الفرصة للعمل للتزود للآخرة والعبادة، الدنيا ساعة فاجعلها طاعة.
يا بن آدم! الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما.(231/12)
فوائد معرفة حقارة الدنيا
يستفاد من عرض هذا المفهوم ألا نتعلق بزينة الدنيا فنهلك، ألا نمد أعيننا إلى ما متع الله به أقواماً من الكفرة والفسقة {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131] قال بعض السلف: بيننا وبين الأغنياء والملوك يوم واحد، أما أمس فقد مضى علينا وعليهم، وذهبت لذتهم وذهب بؤسنا في الأمس، فنحن وإياهم سواء، وفي الغد هم على وجل وخوف أن يذهب ملكهم أو غناهم، ونحن ما جاءنا بؤس الغد بعد، فنحن وإياهم في الغد سواء، وإنما هو اليوم هذا الذي نعيشه، فما عسى أن يكون ساعات وينقضي.
هذا يستفاد منه -أيها الإخوة- الاستعداد ليوم الرحيل بالعمل، قال سليمان بن عبد الملك لـ أبي حاتم الواعظ: ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم أخربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمار إلى الخراب.
كل جهده وضعه في هذه الدنيا، بناء بيوت وتحصيل أموال؛ فيكره الانتقال من الدنيا إلى الآخرة، ما عمل للآخرة شيئاً، عمله للآخرة قليل، لكن هذه الدنيا التي وضع فيها حيله وحاله.
وكذلك فإن الآخرة تقدم في العمل على الدنيا، الله سبحانه وتعالى يقول: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] وابتدأ بالآخرة بالأمر بالعمل ثم الدنيا، قال في الدنيا: تمشي، وقال في الآخرة: تسعى، والسعي أسرع من المشي، إذا اشتغلت بالدنيا أضررت بالآخرة والعكس بالعكس كما قال بعض السلف: مثل الدنيا والآخرة مثل ضرتين إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.
هذا الموضوع -يا أيها المسلمون- حتى إذا رأينا صاحب متاع لا نتأسف ولا نتحسر، وإنما نقول: هذه زينة، إن كان إنساناً تقياً فهو يطيع الله في هذا المال، وإن كان فاسقاً فهو استدراجٌ له، وإن كان كافراً فهذا غاية مناه وقصارى ما يأمل في هذه الحياة.
الدنيا مثل الحية لين مسها قاتل سمها، الدنيا إما نقمة نازلة أو نعمة زائدة، لا بد إذاً أن توطن النفس على الذهاب من هذه الدنيا والرحيل، الدنيا لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة ولا من محنة، فأعرض عنها قبل أن تعرض عنك، واستبدل بها قبل أن تستبدل بك، فإن نعيمها يتنقل، وأحوالها تتبدل، ولذاتها تفنى، وآثارها تبقى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] خطوات المشي إلى المساجد تبقى عند الله، والصدقات تبقى للآخرة، الآثار هذه الآثار وليست الآثار التي يتفرج عليها الناس في السياحة.
وهذا المفهوم أيضاً يجعل الإنسان سخياً بما في يده في سبيل الله، يضع ما عنده في سبيل الله؛ لأنه يعلم أن هذا الذي ينفق هو الذي يبقى، والذي يدخره عنده هو الذي يزول كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عائشة، ما بقي منها إلا كتفه، أنفقت وبقي جزء، فأخبرها أن الباقي هو الفاني وأن ما أنفقته هو الباقي.
روى ابن المبارك في كتابه الزهد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة، ثم قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح، ثم تلهَّ ساعة في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها الغلام إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حوائجك.
فقال أبو عبيدة: وصله الله ورحمه كما وصلني، ثم قال: تعالي يا جارية! اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها وانتهت كلها! فرجع الغلام إلى عمر بن الخطاب فأخبره، ووجده قد أعد مثلها لـ معاذ بن جبل فقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل، ثم تلهَّ في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذا في حاجتك.
فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية! اذهبي إلى فلان بكذا، وإلى بيت فلان بكذا، وإلى بيت فلان بكذا.
فاطلعت امرأة معاذ، فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا، هذه زوجته تقول: اجعلنا في عداد المساكين، نحن محتاجون، فلم يبق في الخرقة إلا ديناران فدحا بهما إليها.
فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض.
فحقارة الدنيا إذاً وزوالها يدفع الإنسان للإنفاق والبذل والعطاء؛ لأن ما عندكم ينفد وما عند الله باق، ولو أنفقتها فقد جعلتها في كف الرحمن، وما عند الله باق، فهي في كفه سبحانه وتعالى يربيها لصاحبها حتى تكون كالجبل العظيم.(231/13)
الدار الآخرة هي الباقية
وفوائد هذا المفهوم -أيها الإخوة- وهو زوال الدنيا وفناؤها وحقارة زينتها، ودوام الآخرة وبقاء ونعيمها أمر عظيم جداً يحتاج إلى كثير من الوقت لبيان فوائده.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من المتعلقين بدار كرامتك، العاملين لآخرتهم يا رب العالمين! وضاعف لنا الأجور والحسنات وارفع لنا الدرجات، واجزنا الجزاء الأوفى، اللهم لا تجعلنا بدار الهوان والدنيا من المتعلقين، اللهم اصرف عنا نقمتها وفتنتها وبأسها وشدتها يا أرحم الراحمين.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم ارفع الظلم عن المستضعفين من المسلمين، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وإنهم عراة فاكسهم، وجياع فأطعمهم، أنت أعلم بهم وأرحم إنهم عبادك وإنك لا تضيعهم، اللهم فانصرهم على عدوهم، واجمع شملهم على الحق المبين يا رب العالمين! اللهم اجعل آخرتنا إلى خير، واجعل أمرنا إلى نعيم، اللهم إنا نسألك الثبات عند الممات، والأمن من فتنة القبر، اللهم إنا نسألك الثبات على الصراط، جز بنا عليه بأسرع ما يمر عليه يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(231/14)
الرد على من أحل الربا
للربا صور كثيرة مختلفة، نهى الشرع عنها وبينها، وفي هذا العصر كانت الطامة في وجود من يفتي بجواز الربا ويلبس على الناس في ذلك، ويسميه بغير اسمه، لذلك كان لا بد من البيان والإيضاح.(232/1)
حرب الله على أهل الربا
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275] يقوم آكل الربا من قبره يتخبط كأنه حبلى، جزاءً بما أكل في بطنه من المال الحرام، يخرج الناس من الأجداث سراعاً، ولكن آكل الربا يتخبط في مشيته عقاباً له من الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 279] لا تَظلمون: بأخذ الزيادة، ولا تُظلمون: فيكون لكم رأس المال كما أعطيتموه، تأخذونه عدلاً من الله عز وجل.
{فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} [البقرة:279] ولم يحدد الله هل الحرب عسكرية، أم مرضية، أو وبائية، أو جوع، أو خوف، إنها كلمة عامة تتضمن جميع أنواع الحرب، ولذلك قال أهل العلم: إن من كان مقيماً على الربا لا ينزع؛ فحق على إمام المسلمين -واجب- أن يستتيبه من أكل الربا، فإن نزع وإلا ضرب عنقه، وإذا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الحرب على أكلة الربا وشنها عليهم منوطة بنوابه وخلفائه عليه الصلاة والسلام، وكل إمام يسير على نهجه.
والربا باب من السبع الموبقات الكبيرة التي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعلها، وحذر الأمة فقال: (اجتنبوا السبع الموبقات) وحذر عليه الصلاة والسلام منه تحذيراً شديداً: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية؛ فقد أحلو بأنفسهم عذاب الله) حديثان صحيحان، ولذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الربا وآكله وموكله وجميع من يساعد عليه فقال: (لعن الله الربا وآكله وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم فيه سواء) وفي لفظ آخر: (الآخذ والمعطي فيه سواء) لا تقولن: إني محتاج سأقترض من البنك، أنت والبنك ملعونان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن أبواب الربا اثنان وسبعون باباً، فهو إذاً كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن أبواب الربا اثنان وسبعون باباً) فهو متنوع وله صور متعددة، فلا تغتروا أيها المسلمون باستهزاء المستهزئين، وألاعيب المتلاعبين، وحيل المتحايلين على الله سبحانه وتعالى، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور (إن أبواب الربا اثنان وسبعون باباً، أدناه كالذي يأتي أمه في الإسلام) أدنى باب من أبواب الربا كالذي يزني بأمه في الإسلام، وقال عليه الصلاة والسلام: (الربا سبعون حوباً -والحوب هو الذنب الكبير- أيسرها أن ينكح الرجل أمه) وقال صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد عند الله من ست وثلاثين زنية) أحاديث صحيحة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد أخبرنا عليه الصلاة والسلام: (أنه قد رأى في الرؤيا الصالحة -ورؤيا الأنبياء حق- رجلاً يسبح في نهر، ورجلاً آخر قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة، فيفغر له فاه، فيلقمه حجراً) وهكذا يظل يفعل به عقاباً من الله وعذاباً.
ولذلك كان كل من ساهم في معاملة ربوية، أو إنشاء مكان ربويٍ حتى ولو بنظافته وصيانته، أو تأجيره أو بنائه داخل في لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مستحق للعقاب إذا لم يمتثل ذلك النهي، قال ربنا: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فكم من أناس ملعونون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الزمان؟ ولقد وصل الأمر إلى مهازل، أناس يخرجون زكواتهم من الربا، وأناس يحجون من الربا، وآخرون يتصدقون من الربا، وطائفة يبنون المساجد من الربا، وبعضهم يطبع الكتب الإسلامية من الربا، يتقربون إلى الله بالحرام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) هذا بخلاف من يتخلص منها اتقاء غضب الله، فإنه يجوز أن يصرفها في أي مصرف خير، لكن تخلصاً لا صدقة ولا قربة إلى الله عز وجل.
وبعضهم يظن أن الربا في المطعومات والمشروبات، ولذلك فهو يبني سكنه من الربا، ويدفع أجور العمال والخادمات من الربا، ويشتري السيارات من الربا، ويقول: الشريعة حرمت أكله ولكنه إنسان متلاعب، مستهزئ بآيات الله، فإن الله حرم الانتفاع به من أي وجه كان، وجاء التعبير بالأكل في بعض الآيات والأحاديث؛ لأن أكثر ما يستخدم الناس الربا في الأكل، وإن كانوا يستخدمونها في أشياء أخرى كلها من الحرام، سحت في سحت، يبنون أجسادهم خلية خلية من الربا والمال الحرام، لا يتقون الله (وكل لحم نبت من سحت، فالنار أولى به) يأكل منه، ويطعم أولاده وزوجته من المال الحرام، ثم يريد مغفرة الله، ثم يريد أن ينجو من عذاب الله، كيف له ذلك وهو مصر على أكل الربا، حتى لو صلى صلاة الفجر في المسجد.(232/2)
أنواع الربا وضوابط البيع المشروع
لكي يكشف عليه الصلاة والسلام أنواع الربا، ولكي يضبط الأمر ويحدده قال: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، فإن اختلفت الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم؛ إذا كان يداً بيد) رواه مسلم وغيره.
ولذلك يشترط في بيع الأشياء المتماثلة من الأشياء المكيلة والموزونة شرطان: أولاً: التماثل، مائة غرام ذهب بمائة غرام ذهب، بلا زيادة هللة.
ثانياً: التقابض في مجلس العقد، سلمني مائة غرام ذهب الآن، وأسلمك مقابلها مائة غرام ذهب الآن، أو ما يقوم مقام الذهب من العملة النقدية الآن؛ لو تأخر لحظة واحدة وقع في الحرام، لو قال: هات الذهب وسأذهب إلى البيت وآتيك بالمال، فيكون هذا البيع حراماً، فالشرط واضح في الحديث: (يداً بيد) لو قال: هذا مائة غرام من الذهب القديم آخذ منك سبعين غراماً من الذهب الجديد، فهذا لا يجوز، وإنما يبيع الذهب القديم أولاً، ويقبض المال، ثم يشتري به ذهباً جديداً لو أراد، عقدان لا ترابط بينهما لكي تصبح المسألة حلالاً.
(فإذا اختلفت الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم) سيارة بسيارة مع دفع الفرق جائز، ساعة بساعة مع دفع الفرق جائز، لكن ذهب بذهب مع دفع الفرق حرام، تمر بتمر غير متماثلين حرام، يجب أن يكون التماثل وزناً في الأشياء الموزونة، وكيلاً في الأشياء المكيلة، يداً بيد في مجلس العقد، لا يتأخر الدفع لحظة واحدة.
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه: (جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني-نوع جيد من التمور يقال له: التمر البرني- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين هذا؟ فقال بلال: كان عندي تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع -تمر أقل جودة، أعطيته صاعين، وأخذت صاعاً من النوع الجيد، والغرض شريف يريد به نفع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يريد أن يأكله هو- ولكنه عليه الصلاة والسلام قال: أوه أوه! عين الربا، عين الربا، لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري؛ فبع التمر بيعاً آخر ثم اشتر به) وهكذا يحدد عليه الصلاة والسلام المسألة، ويقطع الطريق على المتلاعبين المتحايلين.
ولذلك قال أهل العلم: الربا أنواع: منه ربا الفضل، ومنه ربا النسيئة، ومنه ربا اليد، ومنه ربا القرض الذي يجر منفعة، لو وضعت ألف ريال في بنك، وأخذت عليها زيادة، فهو حرام لا يجوز، كذلك لو أعطيته ذهباً وأخذت أكثر من الذي أعطيته، مثلاً أعطيته مائة غرام وأخذت مائة وعشرة أو أخذت سبعين؛ كان ذلك حراماً، لو قلت: هات الذهب؛ وسأدفع لك بعد خمس دقائق أو أذهب إلى البيت وأحضر الثمن، فذلك حرام.
ولو أنك أقرضته على أن يرجع لك الشيء المقترض بسلة؛ فالسلة حرام، لو قلت له: أقرضك على أن توصلني بسيارتك إلى البيت، وترجع لي القرض نفسه، فذلك حرام، كل قرض جر نفعاً فهو ربا، تأخذ مثلما أعطيت، نفس الشيء بلا تلاعب.(232/3)
فتاوى مضلة في جواز الربا
هذه مقدمة أقولها بمناسبة أن بعض إخواننا جزاهم الله خيراً من الحريصين قد أراني مقالة نشرت في بعض الجرائد في الخارج عن فتوى أفتى بها أحد الضالين في هذه المسألة على الأقل، يقول في هذه الفتوى، ومن كلامه نقلت مختصراً بعد تعليلات وأدلة وليٍ لأعناق النصوص، واجتزاءٍٍ من أقوال بعض أهل العلم كما يهوى هو، قال بعد ذلك: وبناء على كل ما سبق فإن () ترى أن المعاملات في شهادات الاستثمار وفيما يشبهها كصناديق التوفير جائزة شرعاً، وأن أرباحها كذلك حلالٌ وجائزة شرعاً، إما لأنها مضاربة شرعية -كما يظن هذا المفتري- وإما لأنها معاملة حديثة نافعة للأفراد وللأمة، وليس فيها استغلال من أحد طرفي التعامل للآخر.
ثم قال حاثاً الناس أن ينهجوا هذا النهج المحرم: ومن الخير أن يشتري الإنسان هذه الشهادات، وأن يتقبل ما تمنحه -يعني ما يمنح- من أرباح نتيجة لذلك، ثم قال متبجحاً: وقد اقترحت على المسئولين -في بلدته- أن يتخذوا الإجراءات اللازمة لتسمية الأرباح التي تعطى لأصحاب شهادات الاستثمار بالعائد الاستثماري، أو بالربح الاستثماري، وأن يحذفوا كلمة الفائدة لارتباطها في الأذهان بشبهة الربا.
الجواب
=6002806> سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] يريد أن يحلل للناس الحرام، ثم يقترح بأن تسمى الفائدة أرباحاً استثمارية وعائدات استثمارية، لكي يلبس على الناس بزيادة، وليس هو الجديد الذي فتح هذا الباب، فقد فتحه اليهود من قبله، وغيروا الأسماء لكي يلبسوا على الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأنه (سيأتي من هذه الأمة أناس يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها) سمها ما شئت؛ خمراً، مشروبات روحية، كحولاً، وسكي، كله حرام، كل مسكر خمر وكل خمر حرام، طلعت أو نزلت، ذهبت يميناً أو شمالاً، دخلت جحر ضب نصراني أو يهودي فهو خمر حرام.
وكذلك نقول: سمها ما شئت؛ ربا، فوائد، أرباحاً، عوائد استثمارية، أرباحاً استثمارية، سمها ما شئت، هو حرام أولاً وأخيراً، طلعت أو نزلت فهي حرام؛ لأنها ربا منصوص على تحريمه في الكتاب والسنة.
ثم قال: إن دخول الإنسان في مضاربة دون تحمل للخسارة أيها الإخوة! حرام -هذا الكلام نقوله نحن ولم يقله هو- إذا كان دخوله في مضاربة مع اشتراط ألا يتحمل خسارة حرام، فكيف يدخل في مضاربة وهو يشترط نسبة معينة من الأرباح 8% أو 10% أو 11% ونحو ذلك؟! إنه حرام أكثر، فكيف يقول هذا في فتواه مستنداً يقول: تحديد الربح مقدماً حماية لصاحب المال، وهكذا يجادلون في آيات الله، وهكذا يريدون أن يضلوا الناس.
ورغم هذه الشنشنة التي يطلقونها يقولون متبجحين: الربا ما كان بين طرفين غني وفقير، الربا ما كان فيه استغلال، أما إذا كان بين غني وغني؛ فلا بأس.
من الذي قعد هذه القاعدة؟ ومن الذي وضع هذا الاستثناء؟ هل هو موجود في القرآن؟ لما قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة:278] هل قال: ذروا ما بقي من الربا بين الأغنياء والفقراء؟ أم أن الآية عامة تشمل كل شيء؟! غني وغني، غني وفقير، فقير وفقير، الآية عامة ولذلك مهما حاول هؤلاء أن يخرجوها فإنها لن تخرج؛ لأنها نزلت من عند الحكيم الخبير.
وأهل الباطل يستغلون هذه الفتاوى العوجاء، ويبحثون عنها بتنقيب شديد، ويستغلونها أبشع استغلال، ويصورونها ويطبعونها وينشرونها ويوزعونها، لكن هل دخلت مرة مكاناً ربوياً فوجدت معلقاً عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279] هل وجدت هذه الآية؟ هل إذا دخلت مكاناً فيه ربا وجدت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم؛ أشد عند الله من ست وثلاثين زنية) لا تجد هذا، لكن تجد الفتاوي الرخيصة مطبوعة ومنشورة لتضل الناس، ويل لهم من عذاب الله، ثم ويل لهم ثم ويل لهم.
بلال عنده صاعان من التمر غير الجيد، ذهب إلى السوق، واشترى صاعاً من التمر الجيد، هل هناك أحد مظلوم؟ هل جرت المعاملة وهل فيها استغلال؟ أليست قد تمت برضا الطرفين؟ هذا رضي أن يعطي صاعين من التمر الرديء، وهذا أعطاه مقابلها صاعاً من التمر الجيد، تمت برضا الطرفين بدون استغلال، ومع ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (أوه أوه! عين الربا، عين الربا، لا تفعل) إذاً هؤلاء الذين يقولون: نحن نستثمر في البنوك بالربا، البنك قوي وأنا غني، أو أنا فقير محتاج نقول له: أين هذا في حديث بلال؟ كيف تتلاعبون على الدين؟ كلاهما قد استفاد بلال استفاد والآخر قد استفاد، ربما كان عنده عائلة كبيرة والصاعين عنده شيء جيد، وبلال أخذ صاع تمر لشخص واحد للرسول صلى الله عليه وسلم، كلاهما قد استفاد، كلاهما لا ينكر أن يكون قد حقق رغبته، بل هناك تراض، وليس فيها استغلال، لكنه عليه الصلاة والسلام رفض هذا، ذلك لتعلموا مدى تحايل هؤلاء الناس، وتتابعهم على الشر والإثم والعدوان.
وبعضهم يثير الشبهات، يقول: الله قال: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] يعني لا تأخذ (100%، 200%، 300%) نحن نأخذ فقط (10%) نقول له: هل نسيتم بقية الآيات: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة:278] ولو (1%).
ثم لو أنني قلت لشخص: حرام عيك أن تزني بعشرات النساء، هل يعني هذا أنه لو زنى بامرأة واحدة صار حلالاً؟! لو قلت لواحد مرتشٍ كبير: حرام عليك أن تأخذ مئات الآلاف أو تأخذ آلاف النقود بالرشاوي، بمعنى: لو أخذ ريالاً واحداً برشوة كان ذلك جائزاً، إذاً فانظروا كيف يتلاعبون بكتاب الله عز وجل، ويستهزئون به، ثم نقول لهم: أين تذهبون بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد عند الله من ست وثلاثين زنية) درهم واحد يمكن هذا (1%) يمكن (0.
5%).
والمؤسف أيها الإخوة أنني سمعت أن بعض الفقراء لديه ألف ريال مثلاً يضعها في البنك، لكي يأخذ عليها فوائد، والفائدة مقدارها؟ عشرة ريالات! هكذا تغلغل الربا في الأمة، حتى لم يكد يسلم منه أحد إلا من رحم الله، ونسأل الله العافية.
فإذاً، الذي يقول البنوك غير معروفة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، نقول له: لكن مبدأ الربا معروف على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقول له: إن الله يعلم أنه سيكون في الزمان بنوك، وهذه الشريعة تصلح لأول الأمة كما تحصل لآخر الأمة، وتلك مهزلة إذا كانت الشريعة تصلح للزمن الذي قبل وجود البنوك، ولا تصلح لزمن وجود البنوك.
أيها الإخوة! يقول تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] كل شيء موجود حكمه، وإن تغيرت الوسائل والأساليب، فإن هذا التبيان والحكم موجود في كتاب الله العزيز، فما بال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً؟! اللهم سلمنا من الحرام، وباعد بيننا وبينه، واجعل أموالنا ورزقنا حلالاً يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(232/4)
التحذير من علماء السوء
أحمد الله وحده لا إله إلا هو الحكيم الخبير، الذي بيّن لنا الحلال في القرآن فأحله، وبيّن الحرام فحرمه، وأرسل رسوله صلى الله عليه وسلم ليبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، فجاء كلامه عليه الصلاة والسلام مؤكداً للكتاب العزيز شارحاً له ومفصلاً ومبيناً، فصلوات الله وسلامه عليه.
ماذا نقول لهذه الفتاوى العوجاء التي تصدر من أولئك الذين لا يخافون الله، يتبعون شهواتهم وأهواءهم، ويقبضون ثمن الفتوى عاجلاً، ويبيحون الربا المعجل ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا نملك أن نقول إلا كما قال الله: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].
والمشكلة أن في المسلمين ضعفاء إيمان، يقولون: ضعها في رقبة عالم واخرج منها سالماً، ضع بينك وبين النار شيخاً أو مطوعاً كما يقولون، هؤلاء ضعاف الإيمان الذي سيستغلون مثل هذه الفتاوى العوجاء وسيقولون: نحن مضطرون، نحن محتاجون، ويضعون أموالهم في الربا، هؤلاء لو قالوا لنا: هذا عالم، هذا مفتي، هذا مشهور، نقول لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بأن أخوف ما يخاف على أمته الأئمة المضلين، الذين يأتم بهم الناس فيضلونهم، ولذلك وضح الله في القرآن بأن هؤلاء سيحملون أوزارهم كاملة يوم القيامة زائد: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25] لا تحسب المسألة ستمضي في الدنيا، سيحملون أوزارهم يوم القيامة؛ جراء هذه الفتاوى مع أوزار كل الناس الذين اتبعوهم، وأنت أيها الأخ المسلم لا تغتر بقول فلان وفلان، فعندك المسألة في الكتاب والسنة واضحة جداً ولا تحتاج بعدها إلى شيء.
ثم اعلم بأن هؤلاء سيتبرءون ممن اتبعهم يوم القيامة: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166 - 167].
وهذا أيها الإخوة تاريخ سيكتب أنه في 8/صفر/1410هـ صدرت الجريدة الفلانية في البلد الفلاني يقول فيها المفتي كذا وكذا، وستلعن الأجيال القادمة هذا الرجل الذي أفتى بهذا ومن معه من الذين يضلون الناس بغير علم، ولو لم يكتبه الناس؛ فهو مكتوب عند الله، وأرض بلاد النيل والحمد لله فيها خير عظيم، وما عقمت نساء مصر أن ينجبن العلماء الصلحاء الأخيار أبداً في القديم ولا في الحديث، والمتدينون من أهل مصر يعلمون أن هذه الفتاوي حرام، وأنها خزعبلات فارغة، ولو أتينا بصبي صغير في المدرسة وقلنا له: لو أخذت مالاً من بنك أو مصرف، وأخذت عليه (10%) نسبة ثابتة فما هذا؟ سيقول الولد الصبي: هذا حرام إنه ربا، وإذا قالوا: إن وظيفة البنك في الاقتصاد كوظيفة القلب في الجسم، فقل لهم: كلا، إن وظيفة البنك في الاقتصاد هي كوظيفة السرطان في الجسم.
المشكلة أن النقاش صار الآن في الأساسيات، ومنذ زمن بعيد كان النقاش في أشياء أصغر، لكن النقاش الآن صار في أساسيات، الربا من السبع الموبقات، من كان يتصور أنه سيأتي زمان على المسلمين يتناقشون في الأشياء الأساسية المفروغ منها، والتي أجمعت الأمة على تحريمها، يأتي أناس اليوم يحلونها والله عز وجل يقول: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] وقد فسرها عليه الصلاة والسلام لـ عدي بن حاتم: أحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، وهكذا يحدث.
وإذا أردت أن تعلم عظم جريمة الربا فتأمل هذه القصة: جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله، قال: يا أبا عبد الله! إني رأيت رجلاً سكران يتعاقر، قد بلغ السكر أوجه، يريد أن يأخذ القمر -سكران يقفز ليأخذ القمر- فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشد من الخمر، فما حكم امرأتي الآن؟ فقال له الإمام مالك: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فأتاه من الغد، فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك، مسألة طلاق المرأة أو بقائها ليست سهلة، فأتاه من الغد، فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فلما أتاه قال له: امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلم أر شيئاً شراً من الربا؛ لأن الله أذن فيه بالحرب ولم يحارب أحداً آخر، فالخمر ضرره على الشارب في الغالب، والزنا ضرره على الزاني والزانية في الغالب، أما الربا فليس ضرره على فرد ولا فردين ولا دولة ولا دولتين، بل أضراره على أمم تتحطم بهذا الربا، ذلك لتعلموا حكمة الله في تحريم الربا، فهذا الدين عظيم وليس دين لهو ولا لعب.
وكذلك فإن مما يؤسف له أنني قرأت خبراً في جريدة خارجية، ليست خارجية عن البلاد فقط ولكن خارجية عن الإسلام أيضاً، يرد فيها كاتب على الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، في أي شيء؟ في قضية تحريم الربا، يقول: قال ابن باز حتى كلمة توقير واحترام واحدة لم ترد، ما هو المأخذ؟ يقول: أنت يا بن باز لو حرمت العمل في البنوك، معناه أن البنوك سيعمل فيها الكفار؛ لأن المسلمين سيتركون البنوك حسب الفتوى، فإذاً نسلم البنوك للكفار، انظر إلى هذه الشبهة.
نقول أيها الإخوة باختصار شديد رداً على الشبهة: لو كان هناك مصنع خمر في بلد من بلدان المسلمين، قلنا: يا أيها المسلمون العاملون في هذا المصنع! حرام عليكم العمل في مصنع الخمر، يجب أن تتركوا وظائفكم فيه، هل سيأتي عاقل ويقول: لا، أصلاً إذا ترك المسلمون هذا المصنع معناه عمل فيه الكفار وسلمنا مصنع الخمر للكفار؟! لو كان هناك بلد دعارة يشتغل في المسلمون قلنا لهم: يا أيها المسلمون حرام عليكم أن تعملوا في هذا المكان، رواتبكم سحت، هل سيأتي قائل وعاقل يقول: لكن لو ترك المسلمون بيت الدعارة سيستلمه الكفار، هل هذا عقل؟! فانظروا أيها الإخوة كيف يفعل هؤلاء، ثم إن كثيراً منهم يبتغون الشهرة بكلامهم هذا، يأتي واحد مغمور لا يساوي الوسخ الموجود تحت الأظافر، فيرد على عالم جليل في فتوى صحيحة لا غبار عليها ليشتهر فيقال: فلان رد على الشيخ فلان، هؤلاء مثل الأعرابي الذي جاء وبال في ماء زمزم، فقام الناس عليه: لماذا تبولت في ماء زمزم؟! قال: أحببت أن أُشتهر بين الناس حتى لو باللعنات المهم أن يُشتهر، وهذا دأبهم.
ونقول لهذا الخبيث: اطمئن ولتقر عينك قراراً لا حركة بعده بإذن الله، أنه سيبقى هناك من الفسقة والعصاة من المسلمين من سيعملون في بيوت الربا، حتى لو صدرت الفتاوى بتحريم أعمالهم، فاطمئن ونم قرير العين، فإن مخاوفك لن تتحقق.(232/5)
أهل الربا في القبور
ختاماً فإننا نقول أيها الإخوة: إن علماء الأمة الثقات آراؤهم واضحة، وفتوى هيئة كبار العلماء في المملكة صريحة والحمد لله في تحريم الربا، وفوائد شهادات الاستثمار وصناديق التوفير، وغيرها من المشاريع الكاذبة الخاطئة في البنوك، والحمد لله أنه ما زال لدينا من أهل الفتوى من يوثق بدينهم ولا يشترون بعهد الله ثمناً قليلاً.
ذكر ابن حجر الهيتمي في مقدمة كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر قال: كنت وأنا صغير أتعاهد قبر والدي، فخرجت يوماً بعد صلاة الصبح بغلس في رمضان، فلما جلست عند قبره ولم يكن بالمقبرة أحد غيري، إذ أنا أسمع التأوه العظيم والأنين الفظيع بآه آه آه وهكذا، بصوت أزعجني من قبر مبني بالنورة والجص وله بياض عظيم، فاستمعت صوت ذلك العذاب من داخله وذلك الرجل يتأوه تأوهاً عظيماً، يقلق سماعه القلب ويفزعه، فاستمعت إليه زمناً، فلما وقع الإسفار -أسفر الفجر خفي حسه- فمر بي إنسان فقلت: قبر من هذا؟ قال: هذا قبر فلان، لرجل أدركته وأنا صغير، وكان على غاية من ملازمة المسجد والصلوات في أوقاتها والصمت عن الكلام، وهذا كله شاهدته وعرفته، فكبر علي الأمر جداً لما أعلمه من أحوال الخير التي كان ذلك الرجل متلبساً بها في الظاهر، فسألت واستقصيت الذين يطلعون على حقيقة أحواله، فأخبروني أنه كان يأكل الربا؛ فأوقعه ذلك في العذاب الأليم.
وذكر الشيخ محمد بن أحمد السفاريني رحمه الله في كتابه المسمى بـ البحور الزاخرة في علوم الآخرة قال: أخبرني بعض إخواني وهو عندي غير متهم -صادق- أن رجلاً من بلدهم ماتت زوجته، وكانت تتعاطى الربا، فلما كان وقت العشاء، سمع زوجها صريخاً من داخل القبر، وكان جالساً في باب داره، فلما سمعها أخذه الغضب والغيرة من أجلها، وكان ذا شدة وبأس، فأخذ سلاحه وذهب إلى عند قبرها، فوقف عليه وقال لها: لا تخافي، فأنا عندك، زعماً منه أنه سينقذها مما هي فيه لشدة عتوه وجهله، وتناول حجراً من القبر.
قال: فما رفع رأسه حتى ضربه ضربة أبطلت حركته، وأرخت مفاصله وأدلع لسانه، فرجع على حالة قبيحة وهيئة فضيحة، قال: فوالله لقد رأيته وقد رض حنكه وبصاقه ينزل على صدره قال: وهذا خبر استفاض عند أهل البلدة عندنا.
النقل قرآن وسنة، وأقوال الصحابة والتابعين، والعلماء الثقات، وما شهد به الثقات في الواقع، ماذا تريدون أكثر من ذلك أيها الإخوة؟ اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم احم بلدنا هذا من الحرام والربا، اللهم واجعل رزق هذا البلد وفيراً يا رب العالمين، اللهم واجعل الطمأنينة والسكينة فيه وفي سائر بلاد المسلمين، اللهم باعد بين المسلمين وبين أكل الربا، اللهم طهر أموالنا من الربا والحرام واجعلها حلالاً يا أرحم الراحمين.(232/6)
السامري دروس لأهل التربية
لقد وردت قصة العجل في القرآن الكريم في أكثر من سورة، وقد عاش موسى حياتين وتاريخين، عاش مع فرعون حتى أهلكه الله، ثم جاهد مع بني إسرائيل حتى أضلهم الله في الصحراء، وهذه القصة فيها الكثير من الدروس والوقفات لأهل التربية.(233/1)
قصة موسى مع قومه
الحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام دين الله القويم، ومَّن علينا بإرسال أفضل الأنبياء والمرسلين بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة وداعياً إلى الله بإذنه، فتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: لقد وردت قصة العجل في القرآن الكريم في سورة البقرة، وسورة الأعراف، وسورة طه، وموسى عليه السلام من أولي العزم من الرسل، وهو ثالث أفضل رسول في البشرية بعد محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم، وقد عاش موسى حياتين وتاريخين، كان كل نبي يعيش مع قومه حتى يهلكهم الله وينجو بمن ينجو من أهل الاتباع والإسلام، لكن موسى عليه السلام عاش حياتين؛ عاش مع فرعون حتى أهلكه الله، ثم جاهد مع بني إسرائيل حتى أضلهم الله في الصحراء، ومات موسى وبني إسرائيل في التيه.(233/2)
إغراق فرعون وجنده
لقد عانا موسى عليه السلام معاناة شديدة جداًَ، وصبر وكان ذا شخصية عظيمة، وجاهد في سبيل الله وقدم أشياء كثيرة، وهيأه الله سبحانه وتعالى واصطنعه لأجل القيام بهذا الدور العظيم في جهاد فرعون وقومه ثم في قيادة بني إسرائيل، وجاهد موسى عليه السلام وقال كلمة الحق عند الملك الظالم الذي ادعى الربوبية والألوهية، وخلص ببني إسرائيل إلى البحر وأتبعه فرعون بجنوده، فلما نظر بنو إسرائيل وراءهم فرعون وجنوده، قال أصحاب موسى: إنا لمدركون لا محالة، وسيقضى علينا، ولكن موسى عليه السلام قال: كلا.
لا يمكن أن يحصل ذلك ولو كانوا وراءنا بمسافة بسيطة: {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] وأوحى الله إلى موسى فضرب بعصاه البحر {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63]، كان جبلاً كبيراً عن اليمين والشمال وفي الوسط درب أيبسه الله؛ لأن قاع البحر طين لكن الله أيبسه، وأمره أن يسلك في البحر يبساً لا يخاف دركاً ولا يخشى، ودخل موسى ومن معه في هذا الطريق، وعبروا إلى الجانب الآخر، ولما وصل فرعون وجنوده إلى المكان فوجئوا بهذه القضية، فضرب فرعون فرسه ومشى وتشجع وأظهر الجلد، ومشى في ذلك الطريق، ولما استكمل دخول فرعون وجنوده في هذا الدرب أطبق الله عليهم البحر، فعاد كما كان {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} فصار الماء فوقهم بمسافة، فأعلاهم وأغرقهم وقضى الله على ذلك الطاغية وجنوده جميعاً.
عبر موسى البحر ومعه بنو إسرائيل الذين نجاهم الله وامتن عليهم بأن نجاهم من فرعون وجنوده.(233/3)
السامري وتشكيله للعجل وافتتان بني إسرائيل به
ثم إن الله سبحانه وتعالى واعد موسى عليه السلام، كما قال سبحانه: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [طه:80] لما نجاهم من عدوهم فرعون وأقر أعينهم منه، واعد الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام وبني إسرائيل على جانب الطود الأيمن عند الجانب الأيمن من الطور، ولكن موسى عليه السلام استبق قومه للقاء الله سبحانه وتعالى، وسأله ربه عم أعجله؟ فقال: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] لتزداد عني رضاً، ولما سأله ربه: لماذا سبق قومه؟ قال: {هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي} [طه:84] قادمون سينزلون قريباًً من الطور، فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه أنه قد فتن قومه بعبادة العجل في أثناء غيابه، قال الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف:148] كان بنو إسرائيل قد استعاروا من القبط -وهم سكان مصر الفرعونيين- استعاروا منهم حلياً ولما هرب بنو إسرائيل أخذوا معهم الحلي؛ لأن هذه أموال محاربين فهي جائزة للمسلمين أخذوها معهم وعبروا بها، وكان هناك رجل، قيل: إنه ليس من قوم موسى ولكنه من طائفة تعبد البقر، يقال له: السامري دخل معهم، ولما ألقى بنو إسرائيل هذا الذهب في الحفرة تحرجاً منه، وقالوا: كيف نأخذه معنا وهي أموال مسروقة، لما وضعوها في الحفرة كان السامري قد رأى أثر فرس جبريل فأخذ منه قبضة من وطأة الفرس على التراب، فألقاها في الحفرة التي فيها الذهب؛ فشكل لهم منه عجلاً من الحلي، ثم ألقى هذه القبضة من التراب من أثر فرس جبريل، فصار العجل له صوت -وهو الخوار: صوت البقر- قال الله: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف:148] فوبخهم ربهم، قال: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف:148].
وأخبر الله سبحانه وتعالى موسى أنه قد فتن من بعده وأضلهم السامري، قال بعض المفسرين: إن هذا العجل من لحم ودم، وقال بعضهم: إنه لم يزل على طبيعته الذهبية إلا أنه يدخل فيه الهواء ويخرج؛ فيكون له صوت كصوت البقر فافتتنوا به أيما افتتان، وقالوا لبعضهم: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88] وبخهم الله على ذلك (وحبك الشيء يعمي ويصم) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود، لما افتتنوا به أحبوه وتغلغل فيهم، فلم يكونوا على استعداد لتركه.(233/4)
عتاب موسى لهارون عليه السلام
اختصرت القصة في سورة الأعراف، فقال الله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:149] فاعترفوا بالذنب بعدما تبين لهم {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} [الأعراف:150]، والأسف: هو أشد الغضب، قال موبخاً لهم: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} [الأعراف:150] بئسما صنعتم في عبادتكم العجل بعد أن تركتكم: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} [الأعراف:150] استعجلتم مجيئي إليكم وهو مقدر من الله سبحانه وتعالى، وألقى الألواح التي أعطاه الله إياها وأنزلها في جبل الطور أعطاه الله التوراة مكتوبة في الألواح، فلما رأى موسى ما حلَّ بقومه ألقى الألواح غضباً على قومه وليس إهانة للألواح، وهذا قول الجمهور من أهل العلم {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف:150] لأنه كان قد استخلفه على قومه خوفاً من أن يكون قد قصر في أمرهم ونهيهم، ولكن أخاه توسل إليه قائلاً: {قَالَ ابْنَ أُمَّ} [الأعراف:150] يا بن أم! أنا وإياك من بطن واحد: {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94] ولا تشدني شداً {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي} [الأعراف:150] أنا لست قوياً مثلك، فالقوم استضعفوني وما أعاروني اهتماماً ولا سمعوا كلامي {وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} [الأعراف:150] وصل الأمر بهم إلى مقاربة قتل هارون، وبنو إسرائيل معروفون بقتل الأنبياء، {فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ} [الأعراف:150] توبخني أمام الناس وتجرني أمامهم، {فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:150] تخلفني معهم وتسوقني مساقهم، وقال له: ابن أمَّ لتكون أرأف وأنجع عنده، مع أنه شقيقه من أبيه وأمه، لكن عندما ناداه بالأمومة لأجل أن يكون هناك عاطفة -يستجر العاطفة من موسى عليه السلام- وقد ذكر ابن كثير رحمه الله هذه النقطة في كتابه العظيم البداية والنهاية وفي التفسير، قال: ترقق له بذكر الأم مع أنه شقيقه لأبويه؛ لأن ذكر الأم هنا أرق وأبلغ -أي: في الحلول والعقل- لما تحقق موسى عليه السلام من براءة ساحة هارون، وأخبره هارون بما صنع في غيابه من مجاهدة هؤلاء القوم، قال موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف:151]، ثم قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ * وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف:152 - 154] وابتدأ في السير مع بني إسرائيل من جديد، والصحيح أن الألواح لم تتكسر إنما مجرد الإلقاء، ثم جمعها موسى مرة أخرى وأخذها ليقود بني إسرائيل بمقتضاها.
وجاءت هذه القصة -أيضاً- في سورة طه بتفصيل أوسع، فقال الله سبحانه وتعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [طه:80 - 81]، ثم إن الله سبحانه وتعالى قال لموسى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} [طه:83 - 86] أي: حزيناً شديد الغضب على ما صنع قومه من بعده، وخبر الله لموسى صدق أنه قد يُفتن القوم في غيابه فرجع إليهم، فقال لهم: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} [طه:86] أنجاكم من عدوكم وأنعم عليكم وأكرمكم، {أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ} [طه:86] في انتظار ما وعدكم الله {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [طه:86] "أم" هنا بمعنى: بل، أي: بل أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} [طه:86] لما وبخهم على عبادة العجل، فإنهم اعتذروا بعذر فارغ سخيف غير مقبول على الإطلاق، وهو قولهم: {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} [طه:87] ملكنا، أي: قدرتنا واستطاعتنا واختيارنا، كأنهم مكرهين على ذلك ليس لهم إرادة، وأخبروه أن المسألة تورع منهم عن الذهب الذي كانوا قد أخذوه من الفرعونيين وحلي الفضة التي استعاروها منهم عند خروجهم من مصر، فقذفناها وألقيناها عنا، {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ} [طه:87 - 88] صنعه لهم، ((فَقَالُوا} الضلال منهم: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88] فنسي، قيل: فيها ثلاثة أقوال: الأول: أن موسى نسي ربه هاهنا، وذهب يطلبه عند الجبل، والعياذ بالله.
الثاني: نسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهكم.
الثالث: أن الذي نسي هو السامري أي: ترك ما كان عليه من الإسلام ورجع إلى ما كان عليه قومه من عبادة البقر.
السامري الذي صنع لهم العجل وفتنهم به لا تزال طريقته موجودة إلى الآن، وهناك طائفة من اليهود عباد العجل يعلقون في رقابهم بقرة صغيرة، يمكن أن يراهم الشخص وهم يعلقون في رقابهم سلسلة فيها عجل أو بقرة صغيرة، وقيل: إنهم لازالوا يقولون عبارة: لا مساس، ويرددونها في ترانيمهم أو أذكارهم التي يزعمون أنهم يعودون بها، قال الله سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [طه:89] هذا العجل لا يجيبهم إذا سألوه، ولا يرد عليهم إذا خاطبوه، ولا يملك لهم نفعاً ولا ضراً في دنياهم ولا في أخراهم، فحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة الكفر، فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير مع أنه جائز لهم؛ لأن هذه من أموال المحاربين أخذوها منهم، وقد أثبت الله تعالى أن هارون في غيبة موسى كان حريصاً عليهم، وأنه كان مقاوماً للشرك فيهم، ولذلك قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} [طه:90] البيان لم يحصل من موسى فقط بل حصل من قبل من هارون، فقال: هذه فتنة لكم، وإن ربكم الرحمن وليس هذا العجل، {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي} [طه:90] فيما آمركم به وأنهاكم، {وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه:90] ولكن هؤلاء الشرذمة أصروا على عبادة العجل، وقالوا: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} [طه:91] وكانوا هم الأغلبية، ثبت مع هارون أناس لكن ما استطاعوا أمام هذا الطوفان من الأشخاص الذين يريدون عبادة العجل أن يغلبوهم، بل إن الطائفة الأخرى هي التي غلبت حتى كادوا أن يقتلوا هارون عليه السلام، {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:91] نحن نسمع كلام موسى فقط، كلامك عندنا غير مقبول ولا نأخذ به، وسنبقى على عبادة العجل حتى نرى موسى ماذا يقول، وحاربوا هارون وكادوا أن يقتلوه.
توجه موسى عليه السلام إلى أخيه هارون بالخطاب: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:92 - 93] وأخذ برأس أخيه يجره إليه كما حصل وتقدم في سورة الأعراف، وشرع يلوم أخاه هارون: لماذا لم تخبرني بهذا الأمر أول ما حصل؟ لماذا لم تتبع آثاري وتأتي إلي وتخبرني بما حصل؟ {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:93]؛ لأن موسى قال لأخيه: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142] هذه وصيته لأخيه هارون قبل أن يفارقه، قال: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142]، فلما عاتبه قال: أفعصيت أمري الذي كنت أمرتك به؟ قال: {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94] كانت لحية هارون وافرة، وهذا رد على الذين يحلقون اللحى، ويقولون: حلق اللحية من سنن المرسلين، وهارون كانت لحيته وافرة، ولذلك استطاع موسى أن يأخذه منها وأن يقبض عليها {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94] وأنها أقل ما فيها أنها قبضة يمكن أن تقبض.
قال هارون مجيباً عن السبب: لماذا لم يتركهم ويلحق بموسى، ويقول: حصل كذا وكذا الحق بالقوم؟ قال هارون: {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ} [طه:94] إذا لحقت بك لأخبرك عما حصل، كنت أخشى أن تقول لي: {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْر(233/5)
النقاش الذي دار بين موسى والسامري
قال موسى وهو ملتفت إلى السامري: {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} [طه:95] انتقل الحساب إلى السامري، كان موسى ينتقد بسرعة وبحزم للقضاء على هذه الفتنة، {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} [طه:95] ما حملك على ما صنعت؟ {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} [طه:96] رأيت شيئاً لم يره القوم، رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون على فرسه {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طه:96] من أثر الفرس، وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين أو أكثرهم كما يقول ابن كثير رحمه الله: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طه:96] من تحت حافر فرس جبريل، والقبضة ملء الكف، فأخذتها وخبأتها عندي، والشيطان يسول للسامري ويخطط له ويلهمه الأشياء، وألقى الشيطان في روع السامري أنك إذا ألقيت القبضة على هذا الحلي بعدما تصنعه عجلاً سيكون له صوت ويفتن به القوم، فألقى هذه القبضة عليه، وكان عجلاً له خوار، قال: {فَنَبَذْتُهَا} [طه:96] أي: ألقيتها؛ لأن بني إسرائيل جمعوا الحلي وجعلوا يلقونه في الحفرة، فجاء هذا وألقى معهم، {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [طه:96] أي: حسنت نفسي هذا الشيء وأعجبها، قال موسى للسامري: {فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} [طه:97] كما أخذت ومسست ما لم يكن أخذته من أثر الرسول لتفتن به الخلق، فعقوبتك من جنس عملك {أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} [طه:97] لا تمس الناس ولا يمسونك فتكون مقبوحاً منبوذاً طريداً، لا أحد يريدك ولا تستطيع أنت أن تقترب من أحد {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً} يوم القيامة {لَنْ تُخْلَفَهُ} ولن تغيب عنه {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} ومعهودك هذا الذي فتنت به الناس ((الَّذِي ظَلَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً)) ومقيماً على عبادته {لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} [طه:97] حرقه في النار إذا كان من لحم ودم، أو برده بالمبارد إذا كان من ذهب حتى صار ذرات، ثم أذرى الرماد هذا أو الذرات في هواء في البحر ليفرقه الهواء في ماء البحر فيتلاشى تماماً {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} [طه:97]، ثم قال موسى عليه السلام لقومه: {إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طه:98].
وقد جاء تفصيل لهذه القصة في حديث الفتون الذي رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، لكن الراجح أن هذا الحديث من الإسرائيليات، فلذلك نبقى على ما جاء في الكتاب العزيز.(233/6)
عقوبة عبدة العجل
هذه عقوبة السامري، فما هي عقوبة الذين عبدوا العجل؟ وما هي عقوبة الذين سكتوا؟ وما هي عقوبة الذين لم ينكروا المنكر؟ قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:51] لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة، وكانت أربعين يوماً وهي المذكورة في الأعراف: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف:142] بعد خلاصهم من قوم فرعون ونجاتهم من البحر، أنزل الله عليه التوراة، وهذا -أيضاً- بعد خروجهم من البحر، واتخذوا العجل، فماذا قال موسى لقومه عن قضية توبتهم من عبادة العجل؟ {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] هذه هي الطريقة الوحيدة للتوبة من عبادة العجل، حين وقع في قلوبهم عبادة العجل والشرك والكفر بالله يقولون: الله هو هذا العجل، ما أسفه عقولهم! قال تعالى: {فلمَا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا} [الأعراف:149] فعند ذلك قال موسى: {يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة:54] الذي خلقكم؛ لعظم جرمكم {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:54] لا بد أن تقتلوا أنفسكم، لا بد أن يقتل بعضكم بعضاً، وفي هذا وردت عدة آثار عن السلف رحمهم الله تعالى، فمما ورد عن ابن عباس قال: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كلما لقي من ولد ووالد فيقتله بالسيف، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن.
وكذلك جاء أنهم أخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلة شديدة، أي: أظلم الجو في ظلة أرسلها الله حتى لا يرى بعضهم البعض عند القتل، فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلة عن سبعين ألف قتيل، وتاب الله على القاتل والمقتول؛ لأن القتل كان هو التوبة، كل شخص يرفع السيف على الآخرين ويقتل من يلقى، بهذه الظلة أو بهذه الظلمة لم يعد أحد يرى من أمامه فيقتل من يلقاه من ولد ووالد وقريب وصاحب، لا يدري من أمامه فيقتله، فجعل بعضهم يقتل بعضاً، وربما قتل الولد أباه، وربما قتل الأب ولده أو عمه وخاله وهكذا.
وقال بعض السلف: قام بعضهم إلى بعض بالخناجر فقتل بعضهم بعضاً، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد، حتى أوقف الله ذلك بأمر منه، فانكشف عن سبعين ألف قتيل.
وقال قتادة: أمر القوم بشديد من الأمر فقاموا يتناحرون بالشفار، يقتل بعضهم بعضاً، حتى بلغ الله فيهم نقمته، فأمسك عنهم القتل فجعله لحيهم توبة، ولمقتولهم شهادة.
وقال الحسن البصري: أصابتهم ظلمة الحندس؛ أي: الحديدة، فقتل بعضهم بعضاً، ثم انكشف عنهم فجعل توبتهم في ذلك.
وجاء -أيضاً- في كلام بعض السلف: كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة.
فقال الله سبحانه وتعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54].
أصاب موسى الحزن على قومه، لكن الله عز وجل أخبره أنه تاب عليهم، وأن المقتول شهيد، والباقي تاب الله عليهم.
فانتقلوا بعد ذلك إلى المرحلة التي تليها في قصة موسى مع بني إسرائيل.
هذه خلاصة قصة العجل، وكيف انتهت هذه النهاية المأساوية التي كان يجب عليهم للتوبة أن يقتل بعضهم بعضاً، حتى كاد بعضهم أن يفني بعضاً.(233/7)
من قصة السامري
وعند هذه القصة العظيمة التي أخبرنا الله عز وجل عنها لنا وقفات نقفها، ودروس نأخذها:(233/8)
أثر الاستعباد على النفوس
هؤلاء القوم -بنو إسرائيل- ألفوا الاستعباد الطويل استعبدهم فرعون سنين طويلة جداً، ومع هذا الاستعباد والذل الطويل في ظل الفرعونية الطويلة فسدت طبيعة القوم وهذا شيء متوقع، وصار في كيانهم النفسي خلخلة، والاستعداد للانقياد لكل ناعق، فما كاد موسى يترك قومه ويبتعد عنهم قليلاً حتى تخلخلت عقيدتهم، وانهارت أمام أول اختبار، إنهم لما عبروا البحر وجدوا أناساً عاكفين على أصنامٍ لهم: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] الآن أنجاكم الله قبل قليل الآن النعمة عليكم واضحة جداً، تقولون: اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة! ما رأيتم بأعينكم صنيع الله وفضله عليكم حتى تطلبوا أن يجعل لكم آلهة، فما أعجب التواء تلك النفوس! فما من عجب أن الله يضرب عليهم الذل والضعف، وأن يغلبهم الناس ويقهروهم ويستحقرونهم إلى قيام الساعة إلا فترات يسيرة جداً في التاريخ، منها: الفترة التي نعيشها الآن التي بلغت الذروة في تسلط اليهود، وإلا فاليهود على مر التاريخ محقورين منبوذين حتى إذا أراد الواحد أن يسب واحداً قال: يا يهودي.
فطبيعة بني إسرائيل ما كانت تستقيم وإنما تلتوي دائماً، وما كان موسى عليه السلام ينتهي من محنة معهم إلا ويدخل في محنة جديدة، ولذلك عندما نعدد الانحرافات التي أصابتهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] وعبدوا العجل، قالوا: المن والسلوى لا نريده، نريد بصلاً وثوماً وقثاء، حتى في الأكل مزاجهم منحرف، شخص يترك المن والسلوى ويقول: أعطنا ثوماً وبصلاً وقثاء -كراث-؟! ثم بعد ذلك يقولون: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] وبعد ذلك قيل لهم: ادخلوا الأرض المقدسة، فقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] {إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} [المائدة:22] ثم ما أشد وقاحتهم حينما قالوا: لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] نحن ننتظر الفتح إذا فتحتوها ادعونا لدخولها.
وقد نتق الله الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم، يرون الآيات تلو الأخرى وليست هناك فائدة، وفي النهاية لما امتنعوا عن دخول القرية، حكم الله سبحانه وتعالى عليهم بالتيه في صحراء سيناء أربعين سنة يخرجون من الصباح للبحث عن منفذ ولا يأتي عليهم المغرب إلا ويجدون أنفسهم في نفس المكان الذي ذهبوا منه في الصباح، ومات موسى وفي نفسه أشياء على بني إسرائيل، مات موسى وبنو إسرائيل في التيه {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [المائدة:26] وسأل موسى ربه أن يدفن في الأرض المقدسة، فجعله الله يقبض هناك ويموت في الأرض التي كان يتمنى أن يدخلها مع بني إسرائيل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو شئتم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر) في داخل أرض فلسطين.
ومن هذه القصة نأخذ عدداً من الفوائد: منها: هذه الطبيعة الملتوية لبني إسرائيل.
ومنها: كيف أن هذا النبي الكريم صابر وجاهد بهذه النفوس الملتوية، وأراهم الله آيات ومعجزات على يديه ومع ذلك ما استجابوا ولا انقادوا، كان فيهم صلحاءً كان فيهم قوم مستقيمون كان فيهم أناس رفضوا عبادة العجل مع هارون لكن ليس هم الأكثرية وإنما هم الأقلية، وحتى الصفوة الذين أخذهم لميقات لقاء الله قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153] طلبوا رؤية الله سبحانه وتعالى.
من الدروس التي نأخذها من هذه القصة العظيمة: أن الاستعباد يخرب النفوس، ويجعلها تنقاد بسهولة لأي مخرف وناعق، والاستعباد من أشنع الأشياء استعباد الشعوب وتربية الناس تربية العبيد، ولا شك أن هذا النوع من التربية يجعل الناس أذلاء صاغرين خائفين، يمكن أن يضحك عليهم أي إنسان ويقودهم، ولذلك ترى الناس أحياناً رعاع همج إلا من رحم الله، يتبعون كل ناعق، لو جاء أحد فنعق بهم يميناً أو شمالاً ذهبوا معه، هذه نتيجة تربية الناس تربية العبيد وليس تربية الأحرار، هذه نتيجة الإذلال والكبت والضغط، ونتيجة التخويف، والتجويع؛ وهذه الأشياء يمارسها الطواغيت مع الناس لتركيعهم وإذلالهم، فإذا فقه دعاة الله بهذه النقطة عرفوا كيف يربون الناس تربية القادة وتربية الأحرار لا تربية العبيد، كان ذلك من أسباب نقلهم من عالم الضلال إلى عالم الهدى، ومن عالم الكفر إلى عالم الإيمان، ومن عالم الذل إلى عالم الحرية، ولذلك لما ذهب ربعي يخاطب رستم: [إن الله ابتعث هذا النبي لينقذنا به من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام].(233/9)
كيف واجه موسى قومه بعد اتخاذهم العجل
ومن الفوائد -أيضاً- المهمة في هذه القصة: كيف واجه موسى عليه السلام هذا الموقف العظيم؟ أولاً: غضب لله عز وجل، وبلغ من غضبه أنه لم يتمالك نفسه، فألقى الألواح، ولو ألقى أحد الألواح إهانةً كفر، أما موسى فقد ألقاها غضباً لله، لم يتمالك نفسه عندما رأى ما حصل، وذهب يقرع قومه ويوبخهم: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} [الأعراف:150] لماذا فعلتم هذا؟ ألا ترون أنه لا يكلمكم؟ ونزل توبيخاً في قومه، وهم يستحقون هذا التوبيخ بما فعلوا هذا الظلم، ثم إنه حاصر مصدر الفتنة مباشرة واتجه إلى السامري ليحقق معه، ثم إنه أخذ مصدر الفتنة وهو العجل، وحرقه ونسفه في اليم نسفاً؛ بحيث لا يعود أبداً كما كان، فكان تعامل موسى مع القضية تعاملاً عجيباً فيه حزم، وسرعة التحقيق مع قومه، ثم التحقيق مع السامري، ثم محاصرة السامري وجعله بمعزل عن الناس، هذا مبتدع هذا رأس بدعة أضل الناس ولا بد من جعله بمعزل عن الناس وهكذا لا بد أن يعامل المبتدع؛ يعزل ولا يكلم أحداً ولا يكلمه أحد، ولذلك قال بعض المبتدعة لـ أيوب رحمه الله: أريد أن أكلمك كلمة، قال: ولا نصف كلمة.
يرفضون سماع البدع، الذين شقوا عصا طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، والذين ابتدعوا في دين الله ما لم يأذن به.
وينبغي على الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى إذا رأوا مبتدعاً من مثل الصوفية أو غيرهم أن يحاصروهم، ولا يجعلوا له مجالاً ليتنفس ولا لينفث سمومه في الناس، وهذا الشيء لا بد منه، وينبغي أن يدقق جيداً في هذه المسألة حتى لا تستغل من أعداء الإسلام فيرمون العلماء والصالحين بالبدع؛ لأن هذا سلاح ذو حدين، يمكن أن يستخدمه أعداء الله في رمي أهل الصلاح بالبدعة حتى ينفر عنهم الناس، ولذلك ينبغي أن يعرف من هو المبتدع؟ وما هي البدعة؟ وما هي أنواعها؟ والفرق بين البدعة المكفرة وغير المكفرة، والفرق بين المسائل الاجتهادية وما يجوز الاجتهاد فيه، وما لا يقبل فيه الكلام بين المسائل الخلافية الاجتهادية المقبولة والخلافية التي ليس فيها الاجتهاد مقبولاً، لا بد من الوعي بجميع هذه الأشياء حتى يعرف من هو المبتدع؟ فقد يكون الذي يرمي الناس بالبدعة هو المبتدع.
وكذلك فإنه لا بد من عزل المسلمين عن أسباب الفتنة، كل شيء يثير فتنة بين المسلمين يعزل ويحاصر ويحذر منه، مصدر الفتنة في الدين، وكذلك لا يجوز تسمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة بين الناس؛ لأن الفتنة هي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن قال عن آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر: إنه يفتن أو يبذر بذور الفتنة فهو المفتون، والآمر والناهي بمنزلة عند الله، (ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) هذا أعظم الناس منزلة عند رب العالمين (أعظم الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله).(233/10)
اتباع أصحاب الخوارق والفرق بين الكرامة والخارقة
كذلك من الدروس العظيمة: أنه ليس أي شخص أتى بأي خارقة من الخوارق اتبعناه لأنه خرق لنا العادة وأرانا شيئاً عجيباً ما رأينا مثله.
من قواعد أهل السنة والجماعة في الفرق بين الكرامة والخارقة التي تكون للمشوعذ والساحر، وهي من الفروق الهامة بل هي أهم الفروق، لو قال لك أحد: كيف تفرق بين الساحر الذي يطير في الهواء ويمشي على الماء وبين عباد الله الصالحين الذين ربما مشى أحدهم على الماء، أو الغلام في قصة أصحاب الأخدود لما أرسله الملك مع جنوده إلى عرض البحر في سفينة في قارب، قالوا: إن رجع إلى دينه وإلا فألقوه، فدعا الغلام ربه وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانقلبت السفينة فغرقوا كلهم إلا هو، وجاء يمشي إلى الملك أين مشى الغلام؟ على الماء، لم يغرق، جاء إلى الملك يمشي إذاً كيف نفرق بين شخص أعطاه الله كرامة بأن يمشي على الماء، وبين ساحر مشعوذ يسير على الماء أو يطير على الهواء؟ الفرق في حال الشخص؛ لا بد أن نبحث في حال الشخص، لو أخذ رجل كفاً من حصى فقبض يده عليها ثم فتحها فإذا بالحصى تتحول إلى ذهب، كيف نعرف هل هذا تقي وهذه كرامة أعطاه الله إياها فقلب الحصى في يده ذهباً، أو أنه مشعوذ دجال، الجن أو الشياطين هم الذين اشتركوا معه في هذه الفتنة، وجعلوا مكان الحصى ذهباً، أو أنهم سحروا أعين الناس فأصبحوا يرون الحصى ذهباً؟ الفرق في حال الشخص، فإذا كان الإنسان على منهج السلف، وعلى عقيدة أهل السنة والجماعة يقوم بأمر الله، طائع لله قائم بالواجبات مبتعد عن المحرمات، ملتزم بالدين، لا يقول: أنا ولي!(233/11)
الحذر من شخصيات كشخصيات السامري
وكذلك من الدروس المهمة في هذه القصة: الحذر من شخصيات كشخصيات السامري التي عندها قدرة على البهرجة بالقول، وخداع الناس، وصنع الأشياء التي تذهب القلوب وتحير الألباب، فهؤلاء الأشخاص لا بد من الحذر منهم، ومن عذوبة منطقهم وحلاوة ألسنتهم، أو دقة صنعتهم، فإن هناك كثيراً من يقوم بدور السامري بين المسلمين.(233/12)
يجب على الداعية ألا يصاب بخيبة الأمل عندما يرى انتكاس من يدعو
ومن الدروس المهمة في هذه القصة: أن الداعية إلى الله سبحانه وتعالى يجب ألا يصاب بخيبة الأمل عندما يرى انتكاساً خطيراً قد حصل في قومه، ولو كان قد مشى معهم فترة طويلة، هب أنك دعوت شخصاً إلى الله، فاستجاب لك وتأثر ومشى معك، وأعطاك القيادة، فجعلت تعلمه وتذهب وتجيء معه، وتذهب من خطبة إلى درس إلى موعظة إلى حلقة علم إلى مجتمع، ثم ذهب عنك في إجازة من الإجازات وفوجئت بأنه وقع -مثلاً- في فاحشة والعياذ بالله، فهل يسقط في يدك وتقول: لم تعد هناك فائدة، بعد كل هذا التعب وقع في الفاحشة، أقول: لا أكمل معه المشوار، فنقول: لا.
هذا موسى عليه السلام كم جاهد قومه لما وقعوا في الشرك الذي هو أكبر معصية على الإطلاق؟ التوحيد أعظم معروف في الدنيا والشرك أعظم منكر، لم يقل: هؤلاء لا فائدة منهم، أو قال: اللهم خذهم وزلزل بهم الأرض، وأسقط عليهم كسفاً من السماء وأرحنا منهم سنوات يجاهد فيهم ثم لا فائدة، يرجعون إلى الشرك بكل سهولة، خذهم أخذ عزيز مقتدر، لا.
النبي عليه الصلاة والسلام أخبر عائشة، قال: (لقد لقيت من قومك ما لقيت) ومن أعظم ما لقي منهم: أنه خرج إلى الطائف يرجو فرجاً من أهل الطائف فطردوه، فهام على وجهه، لم يدرِ أين يسير، قال: (فلم أستفق إلا وأنا في قرن الثعالب) موضع قريب من مكة، فأرسل الله إليه ملك الجبال يقول له: (ما تأمرني به أنفذ -الله عز وجل أرسلني إليك أنتظر أمرك- إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -أطبق عليهم الجبلين، لأن مكة بين جبلين عظيمين- قال: لا.
إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله) فإذاً: الداعية لا ييئس مهما حصل من الانحراف في قومه أو في الشخص الذي يدعوه، هذا هو ما ينبغي أن يكون عليه الداعية، فلا بد من العودة للعلاج والعودة أن نبدأ من البداية فلا بد أن يوطن الداعية نفسه على المفاجآت، وألا ييئس مهما حصل.(233/13)
التعلق بالمنهج لا بالشخص
كذلك من الدروس: أنه يجب التأكيد على عدم التعلق بشخصية الداعية، وإنما يكون التعلق بمنهج الداعية، لو كان التعلق بشخصية الداعية فيعني أنه متى ما غاب الداعية عن المدعو فإن المدعو ينتكس؛ لأنه متعلق بشخصية الداعية، ينبغي أن نربط الناس بالمنهج لا بالأشخاص بالكتاب والسنة لا بزيد وعمرو نربط الناس بدين الله سبحانه وتعالى، حتى إذا غاب الداعية بقي المنهج موجوداً حياً في قلب المدعو، فيستمر على المنهج، ويستمر في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى والالتزام بهذا الدين، وهذه من الدروس البالغة الأهمية، وهذا الأمر قد يخطئ فيه عدد من الدعاة إلى الله عز وجل، يجعلون ارتباط الشخص بشخصيته هو، وأنه ينبغي أن يكون موجوداً دائماً، فلذلك إذا غاب فترة لأي ظرف تغيروا من بعده.(233/14)
مراعاة أدنى المفسدتين
ومن دروس هذه القصة: مراعاة أدنى المفسدتين، فبقاء هارون في قومه على الشرك الذي حصل معهم مفسدة، وخروجه من عندهم مفسدة أخرى، فالحل أنه يبقى مراعاة للمفسدة الأعظم ودرءاً لها فيبقى، كان بإمكانه أن يتخذ إجراءً حاسماً ويتركهم وشأنهم، ولا يبالي بما حصل، لكنه آثر أن يبقى بناءً على أوامر موسى، وبناءً على مواصلة الدور في الدعوة لعل الله أن يهديهم، يحاول فيهم حتى يرجع موسى، يبقى على الحق الأصلي حتى يرجع موسى، يبقى على توحيد الله عز وجل والدعوة إليه حتى يرجع موسى.(233/15)
غياب المربي عمن يربيه والداعية عمن يدعو
وفي هذه القصة أيضاً: أنه لا بد للمربي ألا يغيب عمن يربيه، ولا ينبغي للداعية أن يغيب عمن يدعوهم، فإن الغياب في هذه الحالة يؤدي إلى وقوع القوم في الانتكاسات، ومهما حاول ألا يربطهم بشخصه لكن وجوده سيبقى مهماً؛ لأنه هو مصدر الخير والإشعاع بالنسبة لهؤلاء القوم، ولذلك يحرص الداعية والمربي ألا يغيب عمن هو معهم حتى لا يحصل لهم انتكاس وانحدار.
من الدروس المتعلقة بهذه النقطة أيضاً: أنه لا بد أن يكون هناك بدائل، فإذا غاب عنهم لا بد أن يكون وراءه من يقوم بأمرهم، ولذلك موسى استخلف هارون، ومن أبسط الأشياء أن إمام المسجد لو غاب عن المسجد ينبغي أن يستخلف رجلاً ثقة يصلح للإمامة، أما أن يترك المسجد بلا إمام فهذا خطأ، وهذا يفعله بعض الأئمة في رمضان، وهذه من الأخطاء، يتركون مساجدهم ويذهبون عشرة أيام في نصف رمضان، من أول الشهر يصلي كم ليلة ويمشي ولم يضع مكانه ثقة يقوم بهم ويأمهم، فتحدث الفوضى في أوقات إقامة الصلوات، ويتقدم من ليس بأهل، والناس فيهم من قلة الفقه ما يجعل زعزعة الموقف في الصلاة وارد جداً، وربما صلوا ظهراً بدلاً من الجمعة قالوا: تأخر الخطيب، أو ما جاء الخطيب، اجلسوا لا يخطب أحد، فمن أبسط الأشياء: أن الثغرات التي يكون فيها الداعية إلى الله موجوداً لا ينبغي له أن يتركها، ولو تركها لا يطيل الغياب، ولو غاب لا بد أن يستخلف بدلاً منه من يقوم بدوره.(233/16)
طريقة موسى في عتابه لهارون
ومن دروس هذه القصة أيضاً: طريقة موسى في عتابه لهارون عليه السلام، غضب موسى عليه السلام لكن كان غضبه، ما كان يغضب لشخصه أنه ما أعطي، لا.
وإنما كان يغضب لله، لكن كان فيه شيء من الحدة، ولعل في شخصية عمر بن الخطاب مشابهة من شخصية موسى عليه السلام في بعض الجوانب، فموسى عاتب هارون بشدة لكن لما اعتذر هارون واسترحم موسى، قبل موسى عذره، وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي} [الأعراف:151] ولم يصر على وضع الخطأ كله على هارون، وقال: أنت السبب لا، شخصية هارون ليست كشخصية موسى، يمكن أن يستجيبوا لموسى لكن قد لا يستجيبون لهارون، وقوة الشخصية فضل يؤتيه الله من يشاء، فإذا أنعم الله به على شخص لا يلوم الآخر الذي هو أقل منه ويضع كل الخطأ عليه؛ لأنه قد يكون معذوراً، ويكون سبب الانحراف ليس منه إنما هناك أشياء أقوى، فقبل موسى عليه السلام اعتذار هارون، وكان اعتذار هارون مشوب بالعواطف وبالاسترحام، كان هارون رجلاً رحيماً رقيقاً رفيقاً؛ ولذلك فإنه آثر أن يجمع شمل القوم، وعندما رجع موسى مع إنكاره للشرك لم يكن موافقاً، ولذلك بعض الناس قد يقول: لماذا لا نحتج في هذه القصة على بقاء الشخص في الصف ولو كان فيه شرك؟ نقول: أبداً، ليس مقبول على الإطلاق، لا يمكن، فبعض الناس قد يبقى في صف فيه شرك ويتعلق بقصة هارون مع قومه مع الفوارق العظيمة.
أولاً: هارون تبرأ من الشرك وواصل في دعوة قومه للعدول عن الشرك، فهل يفعله هذا ويعلن البراء من الشرك وأهل الشرك الموجودين في الصف؟ أم أنه يقول: أنشغل بأشياء أخرى وأدعهم وشركهم؟ إذاً: البراءة من الشرك وأهل الشرك واجبة.
ثانياً: هل الباقي في هذا الصف منصبه مثل منصب هارون خليفة؟ أو أنه شخص عادي لا يؤبه له؟ على الأقل هارون كان يرفع راية التوحيد، فالثابتين على التوحيد معهم هارون حامل راية وحامل لواء الشرعية، وعنده أمل أن يعود من يعود من هؤلاء الضلال ويلتحقوا به، ثم هناك أمر من موسى -وموسى نبي- أن يبقى، فأين أمر الوحي بالنسبة لهذا الشخص؟ ثالثاً: هل هذا الشخص ينتظر شخصية مثل شخصية موسى لترجع بعد حين يسير وتعالج الأوضاع؟ رابعاً: هل يوجد جماعة لأهل الحق كما كان على عهد هارون يكون معهم أو أنه واحد في هذا الخضم؟ ولذلك لا يجوز البقاء في صف أهل الشرك مطلقاً، يجب على المسلم أن ينحاز لأهل التوحيد، ولا يبرر لنفسه البقاء في صف فيه شرك ويحتج بقصة هارون لهذه الفوارق التي بيناها.(233/17)
الخلط بين المسئوليات والعاطفة
ومن دروس هذه القصة العظيمة: عدم الخلط بين المسئوليات والعاطفة عند المحاسبة، لم يقل موسى: هذا أخي فحصل خير لأنه أخي فلا أحاسبه، بل حاسبه حساباً شديداً، ودقق معه، وحاصره بالأسئلة، ولم تغلبه العاطفة، فينبغي في مسألة المحاسبة في موقع المسئولية محاسبة أهل المسئولية وعدم الخلط بين ما ينبغي أن يفعل هنا، وبين مسألة العواطف والقرابات والصحبة ونحو ذلك: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152].
وكذلك من دروس هذه القصة: بقاء السامري معذب، ليكون عبرة حتى لا يسول لأي أحد أن يعمل عملاً مثل هذا وهو يرى السامري منبوذاً مقبوحاً لا يقترب أحد منه.
وكذلك: فإن في التعامل الأخوي بين موسى وهارون قدوة للآخرين، ومن الأشياء المهمة: أن الخلاف بين المربين ينبغي ألاَّ يخرج إلى الناس، الخلاف بين الدعاة لا ينبغي أن يخرج إلى الناس مادام أنه ضمن الدائرة الشرعية، أي: في مسائل الاجتهاد، اتبع القاعدة الشرعية العظيمة: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، لا يشنع بعضهم على بعض في مسائل الاجتهاد، فمثلاً: هذا يرى أن النزول في الصلاة يكون على الركبتين وهذا يرى أنه على اليدين، لا مشاحاة ولا تعليق ولا لوم ولا توبيخ ولا إنكار في مباحثة علمية هذا يرى أن أهم ما يحتاجه المسلمون الجهاد فيعمل في حقل الجهاد، وهذا يرى أن أهم ما يحتاجه المسلمون العلم الشرعي فيعمل في حقل تعليم العلم الشرعي، وهذا يرى أن المسلمين بحاجة إلى إغاثة فهو يعمل في العمل الإغاثي، والأجواء كلها تكمل بعضها بعضاً، ولا داعي للإنكار ما دام الجميع على معتقد سليم ومنهج صحيح، فكل شخص يؤدي كل ما يستطيعه؛ لأن الثغرات المفتوحة على المسلمين كثيرة في جهل وهجوم من الأعداء، وفي فقر ومرض وموت، وفي منكرات، فيفرغ جهده لإنكار المنكر.
إذاً: لا بد أن تتكامل الجهود مع المعتقد السليم العام لجميع الذين يسيرون ضمن دائرة أهل السنة والجماعة.
أقول -أيها الإخوة- في مسألة النقد بين الإخوان: موسى عليه السلام انتقد هارون وحاسبه، وهارون كان يرجو من موسى ألا يشمت به الأعداء، فينبغي أن نفرق بين قضية المحاسبة والنقد، وبين قضية التخطئة العلنية التي يكون مبعثها التشهير والتشفي، والتخطئة العلنية أحياناً يكون لا بد منها؛ لإحقاق الحق ولبيان الحق، والنبي عليه الصلاة والسلام خطأ أشخاصاً، لكن متى تكون التخطئة سلبية ومتى تكون التخطئة علنية إيجابية؟ إذا كانت لإحقاق الحق وبيانه، وأنه لابد منه لبيان الحق فلا بأس أن نخطئ، مثال: لو أخطأ الإمام في الصلاة، هل تقول: لا أرد عليه حتى لا أفشله عند الجماعة أو أظهر أنه لا يحفظ، لا.
بل ترد على الإمام، ولكن إذا كان مبعث التخطئة التشفي والتشهير، وليس بيان الحق، فهذه التخطئة حرام وهي مما توغر الصدور، فينبغي معرفة الفارق بين هذا وهذا.
ثم إن من النقاط المهمة في هذه المسألة: قضية ستر جميع العيوب، المهم ألاَّ يظهر عيب للناس مهما حصل بحجة عدم نشر الغسيل، هذه المسألة غير صحيحة بإطلاقها، لكن الأخطاء التي لا يفهمها ولا يدركها العامة، لا تخطئ أمام العامة شيء على جنب ينبغي أن يكون هذا هو الأدب، والأشياء التي ليس من المصلحة إشهارها لا تشهر، لكن أن يرفض الإنسان أي نقد حتى يبقى في الظاهر للناس سليماً من أي نقد بأي صورة، فهذا -أيضاً- خطأ (كل بني آدم خطاء).
وينبغي أن نفرق -أيضاً- بين الخطأ الذي يتعدى إلى الناس وبين خطأ الشخص في نفسه، لو كان الشخص يخطئ في نفسه نبهناه في نفسه، لكن لو كان خطأً متعدياً للناس لا بد أن نبين للناس ولو علموا أن فلاناً هو مصدر الخطأ، لو قام شخص وتكلم بكلام باطل على الناس، فقام شخص ورد عليه الرد الحق هذه تخطئة علنية، لكن لا بد منها؛ لأنه نشر خطأه على الناس، لكن لو أنه عمل منكراً بينه وبين نفسه هل يجوز التشهير به؟ هل يجوز أن يقوم شخص بين الناس ويقول: فلان فعل كذا، ما يخاف الله، ارتكب المنكر الفلاني، هذا لا يجوز، التشهير هنا حرام، كذلك ما ينصب من التخطئة على المناهج التي فيها أخطاء لا بد من البيان؛ لأن الناس قد يتبعون هذا النهج الخاطئ، فلا بد من بيانه، ويبقى لصاحب الفضل فضله وخطأه، ينبغي أن يعلم إذا كان منشوراً.
ومن الفوائد كذلك في هذه القصة: عظم نعمة الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة بأن جعل توبتها كلمات، وتوبة بني إسرائيل كانت القتل، الواحد مهما أجرم لو أشرك بالله يتوب إلى الله: (من حلف فقال في حلفه: باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله) لو قال شخص لك: أنا أخطأت، وقلت: بذمتي بأمانتي برأس أولادي بحياة أبي وحياة أولادي ونحو ذلك، وشرفي وأمانتي، كيف أتوب؟ هذا حلف بغير الله: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) فلتقل له: إن كفارتها أن تقول: لا إله إلا الله (من حلف فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق) على عادة الجاهلية تعال نتقامر.
فتأمل في عظمة الله على هذه الأمة أن الإنسان لو وقع في الشرك كفارته أن يتوب إلى الله، والتوبة كلمات يستغفر الله ويوحد الله ولو شرك، لكن بني إسرائيل لما وقعوا في هذا الشرك كانت عقوبتهم القتل، لا توبة إلا بالقتل، ويمكن أن يقول بعض الناس: هذا شيء عظيم، لماذا أوجب عليهم هذه الطريقة الشنيعة في التوبة؟ نقول: لأنهم يستحقون ذلك لو نظر في التواءات القوم وانحرافاتهم وعرفها لرأى أنهم يستحقون ذلك، ثم إن فضل الله عليهم عظيم، فقد جعل المقتول شهيداً والحي تيب عليه.(233/18)
ليس الخبر كالمعاينة
وكذلك من دروس هذه القصة أنه: (ليس الخبر كالمعاينة) وهذا حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أحمد والحاكم وغيرهما، عن ابن عباس مرفوعاً: أخبر الله موسى لما استلم الألواح أنه فتن قومه من بعده وأضلهم السامري، خبر الله صدق لا شك فيه؟ {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] ولما رجع موسى إلى بني إسرائيل كان يعلم يقيناً أن قومه قد عبدوا العجل؛ لأن الله أخبره بذلك، لم يلق الألواح لما قال الله له: {فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} [طه:85] ولكنه ما ألقاها إلا عندما رجع إلى قومه فرآهم بعينيه يعبدون العجل.
إذاًَ: الخبر ليس كالمعاينة، يمكن أن يقال لك: فلان حصل له حادث فضيع وحصل له كذا وكذا، تتأثر لكن إذا رأيته ونظرت إليه ورأيت ما حل به فعلاً من الأشياء المفضعة فإن الشفقة والشعور والألم سيكون أكثر لماذا؟ لأن النظر ليس كالخبر، والخبر ليس كالمعاينة، وهذه مسألة لا بد أن تراعى، ومن راعاها كان حكيماً في كثير من تصرفاته.(233/19)
تقبل الوصية ولو كان فيها شدة
وكذلك من دروس هذه القصة: أنه ينبغي تقبل النصيحة ولو كان فيها شدة، يقول موسى لهارون: {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142] قد يرى الإنسان هذه الكلمة ثقيلة، لكن موسى يعرف طبيعة بني إسرائيل، خبرهم عنده لأنه عاش معهم منذ صغره فهو يعرف طبيعة قومه، ولذلك كان شديداً في وصيته لأخيه: {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142] فالوصية ولو كانت شديدة فالإنسان يتقبلها، ليس هناك غضاضة أن يقبل الوصية ولو كانت شديدة.(233/20)
لا ينبغي التوقف في الحرام
وكذلك من دروس هذه القصة: أن الحرام لا ينبغي التوقف فيه، ولذلك من سفاهة عقول هؤلاء عباد العجل أنهم قالوا: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:91] لا نغير حتى يرجع إلينا موسى، جاء في حديث الفتون أن بعضهم توقفوا، وهؤلاء المتوقفين توقفهم غلط؛ لأن التوقف ضلال، ولذلك الإمام أحمد رحمه الله لما ظهرت طائفة تقول: لا نقول القرآن مخلوق أو غير مخلوق، هؤلاء الواقفة، بدعهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وقال: إن قولاً شر عظيم.
فمسألة التوقف في تخطئة المنكر أو الخطأ لا يجوز أن يقول إنسان: أتريث وهو يعلم أنه شرك، ليس هناك تريث ما دمت علمت أنه شرك لا بد من إنكاره، لكن لو أنه لا يدري هل هذا خطأ أم لا يقول: أتوقف في الإنكار حتى أسأل عالماً، فإذا قال لي: هذا خطأ أنكرت وإلا سكت.
وكذلك لا بد من تبيان العقيدة الصحيحة عند محاربة الشرك، موسى لما تخلص من العجل وتخلص من السامري وقضى على الفتنة ماذا قال بعدها؟ {إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [طه:98] فإذاً بين لهم من هو إلههم سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ} [طه:98] مبيناً لهم.
ومن فوائد هذه القصة: خطورة أصحاب الموروثات السابقة عند انضمامهم للصف، فهذا السامري الذي قيل: أنه كان من قومه من يعبدون العجل فأظهر الإسلام ودخل مع بني إسرائيل، كيف صار خطره عظيم؟ لذلك لا بد من الانتباه لأصحاب الموروثات السابقة الذين يدخلون في الصف فيفسدون ويخربون.
ومن فوائدها كذلك: أن وجود سلبية المربي لا يمنع من التلقي عنه والتأثر به، والعلة التي لا تكون قادحة لا تجعل الإنسان بمعزل عن التأثير والإمساك بزمام الأمر؛ لأنه ما من إنسان يخلو من سيئات، لا بد أن يكون كل واحد عنده أخطاء وسلبيات، ولذلك إذا كان الشخص سجاياه الحميدة أكثر من أخطائه فهذا مرضي يناصح بأخطائه، لكن لا شك أن موقع القدوة والقيادة يتطلب وجود صفات عالية، وأن تكون الصفات السلبية أقل ما يمكن.
كذلك من فوائدها: أن الإنسان عليه ألا يتحمس وينفعل جداً ويزيد في التخطئة والهجوم؛ لأنه لو اكتشف أن رأيه خطأ سيكون الانسحاب عليه صعباً، لو سمع أحد أن فلاناً أخطأ فذهب يشنع عليه ويصب عليه غضبه ويعنفه تعنيفاً شديداً، ثم بعد ذلك يتضح له أن القضية ليست كما سمع، وأن المسألة فيها اختلاف، وأن الرجل هذا قد يكون له عذر، فسيكون الانسحاب شديداً، ولذلك نأخذ من قضية شدة موسى مع هارون في البداية أن الإنسان إذا أراد أن يخطئ غيره عليه أن ينظر في ظرفه وعذره جيداً، وألا يشتد في التخطئة ما دام لم يعرف كل ملابسات الموضوع، فقد يكون الانسحاب صعباً عليه.(233/21)
فائدة من قوله تعالى: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ)
وكذلك فإن هناك فائدة مهمة للغاية في قولهم: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88]: لقد حاولت الفئة الضالة إطفاء الشرعية على هذا الانحراف، فقالوا لبقية القوم: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [طه:88] حاولوا إطفاء الشرعية على هذا العجل وأن يجعلوه مقراً: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [طه:88] وهذه الفائدة لا شك أن لها أثراً في نفوسنا عندما لا نغتر بأي شيء مكتوب على الإسلام، أو هذه القضية إسلامية، أو هذا الشيء إسلامي دون أن نعرف حقيقته، فمحاولة أعداء الإسلام لإطفاء الشرعية على كثير من المناهج المنحرفة وعلى كثير من الكيانات، وعلى كثير من الشخصيات، وعلى كثير من الكتب، محاولات لا شك أن القصد منها تضليل المسلمين.
على سبيل المثال: لو وجدت أي لحم مكتوب عليه: مذبوح على الطريقة الإسلامية، هل مجرد أن عليه ختم مذبوح على الطريقة الإسلامية أي: أنه كان مذبوحاً على الطريقة الإسلامية؟ محاولة إطفاء الشرعية على هذه اللحوم -مثلاً- من قبل أي تجار أو جهات مصدرة هل تجعل هذه القضية شرعية بمجرد أنه كتب عليها ذلك؟ إذا كانوا قد ذبحوا السمك على الطريقة الإسلامية فما بالكم ببقية الأشياء التي يصدرونها للمسلمين من الأفكار والمناهج غير مسألة السمك، مما هو أخطر من السمك بكثير، ويحاول اليوم عدد من أصحاب المناهج المنحرفة أن يضفوا الشرعية على اتجاهاتهم، ومن أخطرهم في نظري في هذا الوقت أصحاب الفكر العقلاني أو الإسلام المستنير، أو الإسلام الحضاري كما يسمون أنفسهم، وهؤلاء يقولون: لا بد من الموافقة بين الإسلام وبين واقع العالم الذي وصل إليه، فإذا كان العالم اليوم يرفض -مثلاً- الرق والإسلام فيه أشياء تفيد بجواز الرق، فلا بد أن نجد لهذه الأدلة صرفة، وأن نخرجها إذا كان العالم لا يقبل فكرة أهل الذمة ولا يقبل فكرة دفع الجزية، وهكذا مسائل وأفكار خطيرة إذا كان العالم لا يقبل حديث: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) ولو قلنا بهذا الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه في محفل من الناس وفيهم غربيين مفكرين عالميين قلنا لهم: عندنا نحن المسلمين لا يجوز للمرأة أن تتولى ولاية عامة، فسيقولون: ظلمتم المرأة! لماذا تجعلونها في مستوى ثانٍ؟ لماذا لا تتولى الوزارة والقضاء والرئاسة؟ فيحاول بعض العقلانيين أن يضعف الحديث، ويستدل باستدلالات منحرفة، إذا كان العالم لا يقبل فكرة الجهاد اليوم ويقول: إن الجهاد هو اعتداء على مجتمع آخر أو على كيان آخر، والجهاد ما وضع في شريعتنا إلا جهاد دفاعي هجومي، ويحاول العقلانيون اليوم أن يثبتوا أن الجهاد دفاعي فقط، وأنه ليس هناك جهاد اسمه جهاد هجومي في الإسلام، والله يقول: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36]، {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29] ونص: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] قال العلماء: لا تقبل منه إذا أرسل غلامه أو خادمه ليدفعها لا بد أن يأتي بنفسه؛ لأن الله يقول: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة:29] أي: يسلمها بيده بنفسه، ثم قال: وينبغي على الإمام أن يطيل وقوفهم عند بيت المال إذلالاً لهم ثم يقبلها منهم ولا يقبلها منهم مباشرة؛ لأن الله قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] نسأل الله أن يبلغنا هذا الوقت الذي يطبق فيه هذه الآية.
فأقول: إن من أخطر الناس الذين يحاولون إطفاء الشرعية اليوم على مناهجهم المنحرفة هم العقلانيون المنحرفون أو أصحاب الفكر المستنير.
من مداخلهم: الموسيقى الإسلامية، والفن الإسلامي، والرقص الإسلامي، هذا ما طرحوه بوضوح وصراحة، وقالوا: أسلمة كل شيء لا بد أن نؤسلم الفن ونؤسلم التماثيل فن النحت الإسلامي، الرقص الإسلامي، هذا كله هراء، هذا ما يطرحونه ويجاهرون به في مقالاتهم.
كذلك من فوائد هذه القصة: كيف يتحرج الإنسان من الشيء الذي ليس فيه حرج ويقع في الشيء العظيم والطامة، قالوا: هذه حلية تورعنا منها خفنا أن تكون ليست حلالاً علينا أخذناها من الفرعونيين القبط وهربنا بها، ليست حلال علينا، فنبذناها وألقيناها، ثم عبدوا العجل، هؤلاء الذين قال في مثلهم ابن عمر في قضية أهل العراق قتلوا الحسين بن علي ابن بنت النبي صلى الله عليه وسلم وحبيبه، ثم جاءوا يسألون: هل قتل البعوض من محظورات الإحرام أو لا؟ وهذه المسألة قضية التحرج من الأشياء اليسيرة والوقوع في الأشياء العظيمة، هذا ديدن كثير من الناس، تجدهم اليوم يقولون: هو واقع في الربا والزنا، وإذا جاء على عشر ذي الحجة في الأضحية قال: سقطت مني شعرة وأنا أحك ماذا أفعل؟ الأضحية بطلت أم لا؟ أنا قلق أخبروني، الله أكبر! أنت الآن قلق على الشعرة التي سقطت بالحك، ولست قلقاً على الملايين الموجودة في البنك تأخذ عليها ربا وفوائد محرمة! وكذلك في الإحرام يسأل: يجوز ترجيل الشعر أم لا؟ وتراه يغتاب ويلعب ورقاً في الحج، ويفعل كل المحرمات ويمكن أن يستمع الأغاني، وإذا ذهب يطوف حول الكعبة نظر للنساء، وربما أبطل حجه أو عمل شيئاً خطيراً، ثم يقول: سقطت شعرة إن مسألة التورع عن الأشياء الصغيرة والوقوع في الأشياء العظيمة هذا منهج بني إسرائيل.
ثم نلاحظ -أيضاً- درساً في الفتنة بالذهب الذي هو معبود اليهود الأصيل.
إن قضية العجل تبين لنا تغلغل الذهب في نفوس اليهود، وأنهم فتنوا بالعجل المصنوع بالذهب وأن فتنتهم هي الذهب، وهم الذين يملكون أكثر الذهب في العالم اليوم ولا شك، فيتبين لنا فتنة هؤلاء القوم بهذا الذهب في القديم والحديث.
لعل هذه بعضاً من أهم الدروس والفوائد التي تؤخذ من هذه القصة وهي قصة عظيمة جداً جديرة بالتأمل، والله سبحانه وتعالى ما قص علينا هذه القصة ولا غيرها من القصص إلا ليتدبرها أولو الألباب، ويتعظ بها المتعظون، ويأخذ من فوائدها الذين ينهلون من حياض هذه الشريعة وينجون من مواردها.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، والله تعالى هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وإلى طريق الحق والثواب.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(233/22)
الأسئلة(233/23)
حكم الصلاة على المنتحر
السؤال
ما حكم الصلاة على المسلم المنتحر؟
الجواب
إذا كان مسلماً لم يخرجه ذلك عن الإسلام فإن الصلاة عليه تصح؛ لأنه مسلم، لكن ينبغي لأهل الفضل والعلم والقدوة مثل القاضي والعالم إذا حضروا ألا يصلوا عليه ويتركوا الصلاة لبقية الناس، يقول: صلوا على صاحبكم، زجراً لغيره ممن يحاول محاولته، وكذلك الصلاة على مدمن المخدرات وشارب الخمر وغيرهم ممن عرف بالشر.(233/24)
نصائح لمن يؤخر الصلاة عن ميقاتهم
السؤال
ما هي النصائح لمن يضيع أوقات الصلاة؟
الجواب
يقول الله سبحانه وتعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم:59]، وقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] ولا شك أن الويل هنا عقوبة من الله عظيمة ينبغي أن ينزجر بها الذين يؤخرون الصلوات عن وقتها وخصوصاً صلاة الفجر.(233/25)
السيارة ليس عليها زكاة إنما على المال الذي يدخل بسببها
السؤال
أملك سيارة كبيرة وأعمل عليها يومياً، فهل يجوز أن أزكي على السيارة أم أزكي على المبلغ الذي يدخل علي؟
الجواب
بما أن السيارة ليست للبيع فإذاً الزكاة في الإيراد، إذا حال عليه الحول تخرج في كل ألف خمسة وعشرين ريالاً، مثل: المبنى المؤجر ليست الزكاة في قيمته، الزكاة فقط في الإيجار إذا حال عليه الحول، بمعنى: أنك إذا أخذت الإيجار من هنا وأنفقته من هنا قبل أن يحول الحول فليس عليك زكاة.(233/26)
حكم إعطاء المرأة زكاة مالها لزوجها
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تعطي زكاة أموالها لزوجها وهو في حاجة؟
الجواب
إذا كان فقيراً فنعم؛ لأن الزوج ليس ممن تلزم الزوجة نفقته، فيجوز أن تعطي زكاة مالك لمن لا تلزمك نفقته، لكن العكس لا يجوز للرجل أن يعطي زكاته لزوجته.(233/27)
رمضان ليس اسماً من أسماء الله
السؤال
هل رمضان اسم من أسماء الله كما ورد في الحديث: (لا تقولوا: جاء رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله)؟
الجواب
هذا الحديث لم يثبت، وهو حديث ضعيف غير صحيح، فإذاً رمضان مأخوذ من الرمضة: وهي شدة الحر، وهذا اسم إسلامي لم يكن هكذا اسمه في الجاهلية، وقيل: إن سبب ذلك، أول ما فرض الصيام كان في شهر شديد الحر فسمي رمضان من الرمض وهي شدة الحرارة مثل: جمادى الأول وجمادى الآخرة لماذا سمي بهذا الاسم؟ لأنه يتجمد فيه الماء من شدة البرد، فأول ما عرف الشهر هذا عند العرب كان في وقت يتجمد فيه، وإلا فالسنة الهجرية تدور على الفصول الأربعة، رمضان قد يأتي في الحر، وقد يأتي في البرد، لكن أول ما فرض كان في وقتٍ شديد الحر.(233/28)
العقيقة
السؤال
العقيقة للمولود ما صفتها؟ وما شروطها للذكر والأنثى؟ وكيفيتها؟
الجواب
العقيقة مستحبة وبالذات على القادر، وغير القادر ليس عليه شيء، وقال بعض العلماء بوجوبها لكن الجمهور على استحبابها، وفيها فائدة كبيرة على المولود وهي فكه من أسر الشيطان؛ لأنه قال في الحديث الصحيح: (كل غلام مرتهن بعقيقته) وكما ذكر ابن القيم في كتابه العظيم: تحفة المودود بأحكام المولود، أن ما من مولود يولد إلا وللشيطان عليه نوع من التسلط، وأن العقيقة تفك تسلط الشيطان على المولود، بالنسبة للذكر شاتان ويجوز شاة، لحديث: (ضحى عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً) وهو حديث صحيح، والأفضل شاتان، والأنثى شاة واحدة، وقد فاوت الله بين الذكر والأنثى في عددٍ من الأحكام، فجعل شهادة المرأتين بشهادة الرجل، وجعل دية المرأة على النصف من دية الرجل، وجعل في الإرث للمرأة نصف ما للرجل، وجعل في العقيقة للذكر شاتان وللأنثى شاة.(233/29)
النهي عن كف الثوب والشعر
السؤال
ما المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: (أريد أن أكف ثوبي)؟
الجواب
الرواية المعروفة في صحيح مسلم: (نهى عن كف الثوب وكف الشعر) فأما كف الثوب فيدخل فيه تشميره أو جمعه كما يفعله بعض الناس عندما يجمعونه عند السجود، فهذا مما ينهى عنه، وجمهور العلماء على الكراهة كما ذكر ذلك النووي رحمه الله، يكره كف الثوب في الصلاة فيتركه يسجد معه لا يضمه ولا يجمعه ولا يشمره، وكف الشعر: حبسه تحت العمامة أو الطاقية، يجمعه ويحبسه حبساً، بل يتركه يسجد معه.(233/30)
حكم طواف الوداع للمعتمر
السؤال
هل طواف الوداع للمعتمر واجب؟
الجواب
هذه مسألة فيها خلاف عند أهل العلم، والراجح فيها إن شاء الله عدم الوجوب، ومن المعاصرين من يفتي بذلك كالشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، والشيخ/ محمد ناصر الدين الألباني، أن طواف الوداع للمعتمر سنة وليس بواجب، وذهب آخرون إلى الوجوب كالشيخ/ محمد بن صالح بن عثيمين، فمن عرف خلاف العلماء لا تلتبس عليه الأمور.(233/31)
ماذا يفعل من أقيمت الصلاة وهو يصلي سنة المسجد؟
السؤال
ماذا يفعل المصلي الذي يصلي سنة المسجد قبل الصلاة وأقيمت الصلاة هل عليه أن يقطعها أو يتابع؟
الجواب
في المسألة أقوال: القول الأول: أن يقطعها بكل حال.
القول الثاني: أن يتمها بكل حال.
لكن من أعدل الأقوال: أنه إذا أنهى ركوع الركعة الثانية فكأنه أنهى الصلاة؛ لأنه ما بقي له إلا شيء يسير فيتمها بخفة، وأما إذا كان قبل ركوع الركعة الثانية فيبقى له ركعة كاملة فإنه يقطعها بدون سلام بالنية.(233/32)
كيف نفرق بين السحرة والدجالين وبين الصالحين في العلاج بالقرآن؟
السؤال
كثير من السحرة والمشعوذين يدجلون على الناس بأنهم من أهل الصلاح والصلاة ويعالجون بالقرآن، فكيف نفرق بين السحرة الدجالين وبين الصالحين؟
الجواب
ينظر في حاله: فإن رأيناه يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ولا يعرف عنه معصية لا في سماع الأغاني ولا التدخين أو الإسبال، أو ما هو أعظم من ذلك، مثل التساهل في لمس النساء وربما كان إنساناً سيئاً يريد الوصول من وراء القراءة إلى العبث بالنساء مثلاً، فإذا لاحظنا عليه التساهل وأنه يخلو بها ويقول لوليها: لا يخرج الشيطان إلا إذا خرجت أنت، فنعرف أنه دجال وأنه كذاب أشر، وأن له مقصداً سيئاً، ولا تلمس المرأة إلا للضرورة، لكن ليس من جهة أنه يقول: لا بد من المباشرة، أو لا بد من لمس المرأة عند القراءة، فيمس يدها أو وجهها، فهذا حرام ولا يجوز.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(233/33)
الشباب المسلم على عتبة الزواج [1، 2]
في هذا الدرس تجد وقفات عديدة مع الزواج وفوائده، وقد تحدث الشيخ فيها عن قضايا تخص الشاب الذي يريد طرق باب الزواج، ومن تلك القضايا: الحث على الزواج بالبكر صاحبة الدين الحث على النظر إلى المخطوبة.
وكذلك حث على تزوج المرأة الودود الولود، كما بين كيفية البحث عن المرأة، كما حذر من أمور لا ينبغي للرجل أن يفعلها، ثم ذكر نصائح تهم الزوج عند الدخول على زوجته أول ليلة.(234/1)
وقفات مع الزواج
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن هذه المرحلة الحساسة التي يمر بها الشباب أو الناس الذين يتزوجون يحتاجون فيها إلى نوع من التوجيه والإرشاد وبيان آداب الشريعة في هذا الأمر، لابد أن يكون الهدف من الزواج في ذهن الشاب المسلم واضحاً، لابد أن يكون الباعث للزواج باعثاً شرعياً، وأن تكون القناعة به قناعة شرعية.
إن المسألة في الشريعة ليست مجرد عادة أو تقليد أو أنه أمر من الأمور التي يريد الإنسان أن يفعلها قبل أن يموت، كما قال لي أحدهم مرة: هناك في الحياة ثلاثة أمور الواحد يريد أن يفعلها قبل أن يموت يدرس أو يتوظف ويتزوج ويخلف أولاد ثم يموت، فهي عند بعض الناس تقليد أو مهمة من المهمات التي سيفعلها في حياته، ولكن المسألة أسمى من ذلك، والقضية قضية عبادة إنه لو نوى طاعة الله تعالى لأُجر أجراً عظيماً.(234/2)
بعض فوائد النكاح
انظر -أيها الأخ المسلم- إلى ما في النكاح من العفة عفة النفس وإعفاف الزوجة والاستمتاع المباح الذي جعل الله فيه أجراً (وفي بضع أحدكم صدقة) لما وضعها في الحلال كان له أجر، وكذلك لو وضعه في الحرام كان عليه وزر، لا تنظر إلى قضية الاستمتاع فقط ولكن انظر إلى قضية العفة أيضاً؛ لأن العفة مطلب شرعي.
انظر إلى مسألة تكوين الأسرة التي هي لبنة في بناء المجتمع الإسلامي، يتحول المجتمع إلى مجتمعٍ إسلامي عندما تنشأ الأسرة المسلمة على قاعدة شرعية وتقوى من الله ورضوان.
انظر إلى مسألة الأولاد التي ندبت الشريعة إلى تحصيلهم: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة:187] أي: الأولاد، والنبي عليه الصلاة والسلام سيكاثر بهذه الأمة جميع الأمم يوم القيامة ويفاخر بهم، ولذلك كان كثرة الولد من المقاصد الشرعية، ولا شك أنها تسبب قوة في المجتمع المسلم، والمجتمعات الغربية اليوم آخذة بالتقلص نظراً لما صار عندهم من الحد من الإنجاب أو منع النسل أو تقليل النسل، هذه الفكرة الخبيثة التي يريدون ترويجها بين المسلمين.
انظر إلى المكانة التي يجعلها الزواج لك -يا أيها المسلم- في المجتمع، إن الناس ينظرون إلى المتزوج وصاحب الأولاد نظرة فيها احترام أكثر مما ينظرون إلى الأعزب، ولا شك أن هذه المكانة من الأمور التي تسهل لك أموراً كثيرة في الدعوة إلى الله عز وجل، وكثير من الشباب يشتكون في مرحلة العزوبة من عدم سماع الأقرباء لهم، وعدم تقبل كلامهم في الدعوة إلى الله عز وجل أو يقولون: أنت صغير لا تفهم الحياة أنت تريد أن تنصحنا؟ فإذا صار زوجاً له امرأة وأولاد ورب أسرة تغيرت مكانته في المجتمع، ولا شك أن هذا التغير يهيئ له فرصة في الدعوة إلى الله عز وجل أكثر من ذي قبل.
وما يحصل أيضاً من التقريب بين الأسر والعوائل، فإنه إذا تزوج من أناس صار بينهم علاقة صهر؛ لأن الله عز وجل خلق من الماء البشر، فجعل العلاقات بينهم على قسمين: نسب وصهر، علاقة نسب مثل: الأم والأب والابن والخال والعم ونحو ذلك، وعلاقة صهر: مثلما يحدث إذا تزوج بامرأة فتكون زوجته وأمها هي من المحارم، وكذلك أبو الزوجة وأخو الزوجة تنشأ علاقات جديدة، ويدخل الإنسان بزواجه في عالم أوسع وأرحب من ذي قبل، بل كثير من الناس تتغير أوضاعهم حتى الاقتصادية والمعيشية نتيجة زواجهم.
والإنفاق على الزوجة فيه أجرٌ أيضاً، واللقمة التي تضعها في فيّ زوجتك تؤجر عليها.
والشاهد أنه كلما كثرت النيات الحسنة في الزواج عظم الأجر عند الله تعالى، فليست القضية قضية استمتاع فقط، المسألة أعظم من ذلك بكثير.(234/3)
الحث على الزواج في الكتاب والسنة
لقد حث الله تعالى في كتابه على الزواج والإنكاح: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] هذه الأوامر الإلهية التي فيها توجيه الغريزة نحو المجال الشرعي وتحقيق المصالح العظيمة التي تترتب على الزواج، وقال البخاري رحمه الله تعالى: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح؟ وساق بإسناده إلى علقمة قال: (كنت مع عبد الله فلقيه عثمان بـ منى - علقمة من أشهر تلاميذ عبد الله بن مسعود فقال: يا أبا عبد الرحمن! إن لي إليك حاجة -أي: أستأذنك على جنب في كلمة خاصة بيني وبينك- فخليا لوحدهما، فقال عثمان: هل لك يا أبا عبد الرحمن في أن نزوجك بكراً تذكرك بما كنت تعهد؟ -فاستدل به أهل العلم على أن زواج البكر يجدد النشاط، ولذلك ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى من فوائد هذه القصة أن معاشرة الزوجة الشابة تزيد في القوة والنشاط بخلاف عكسها فبالعكس- فيقول عثمان لـ ابن مسعود: هل لك -يا أبا عبد الرحمن في أن نزوجك بكراً تذكرك بما كنت تعهد؟ فلما رأى عبد الله أنه ليس له حاجة إلى هذا أشار إلي، فقال: يا علقمة -لأن علقمة كان بعيداً والكلام كان خاصاً- فانتهيت إليه وهو يقول: أما قلت ذلك لقد قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) فالنبي عليه الصلاة والسلام علق النكاح على الاستطاعة على الباءة: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج) وهذا الحديث له قصة وهي أنه قال في الرواية: (لقد كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال لنا -ثم ذكر هذا الحديث-: من استطاع منكم الباءة فليتزوج) وابن مسعود رضي الله عنه لم يرفض ذلك، لكن لما كان لا حاجة له به الآن أو عنده أيضاً زوجة وعنده أولاد فإنه أكد على المعنى، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج) فهو موافق لـ عثمان رضي الله عنه فيما قال له.
وقوله: (من استطاع منكم الباءة) من كان مؤهلاً للزواج وعنده الاستطاعة فليتزوج، أما ما يقوله بعض الناس اليوم: إن الزواج المبكر فيه ضرر، أو لابد أن ننتظر حتى يتم الدراسة ويعمل ونحو ذلك فهذا ليس عذراً مطلقاً في تأخير الزواج بل هذا خلاف السنة، لكن لو كان الإنسان لا يستطيع فيدرس ليتخرج ويتوظف فيجمع المهر وتكاليف الزواج؛ لأنه ليس مقتدراً فهذا معذور، لكن الذي عنده غنىً أو يستطيع أبوه أن يزوجه مثلاً، وقد عرض ذلك عليه، فالعجيب أن بعض الشباب إذا عرض عليهم آباؤهم الزواج يرفضون ذلك، ويقولون: الوقت مبكر، وهم يعلمون ماذا يحل بالأمة في هذا الزمان من الفتن الهوجاء، والمعاصي المترتبة على ثوران الشهوة، وما حدث في هذا الزمان من أفلام الفجور ومجلات الدياثة أو الخلاعة والاختلاط المحرم وإطلاق البصر وتبرج النساء، فالشاهد أن الزواج في زماننا صار لابد منه.(234/4)
حكم التبتل (الاختصاء)
قد يخطر لبعض الناس أن يتبتل ويقول: هذا النكاح شهوة لا أريدها لأنها تقطعني عن العبادة، أو عن طلب العلم الزواج مشكلات الأولاد مصائب تربيتهم مسئولية لا أطيق ذلك ونحو ذلك من الأمور؟ فنقول: إن التبتل ليس من طبيعة هذا الدين، وليس من عادة هذه الأمة، أبو هريرة يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إني رجل شاب وأنا أخاف على نفسي العنت، ولا أجد ما أتزوج به النساء، فسكت عني -وفي رواية: أنه استأذنه في الاختصاء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما كرر عليه وسكت عنه، ثم قال ذلك فسكت عنه، ثم قال ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا هريرة! جف القلم بما أنت لاقٍ فاختص على ذلك أو ذر) افعل ذلك أو اترك وليس ذلك إذناً بالفعل كلا، وإنما هو نوع من التنبيه على أن هذا الأمر ليس من السنة، وأن ذلك كله مقدر في علم الله تعالى، ومكتوب في اللوح المحفوظ، سواء فعل أو لم يفعل وهو ينبهه على ألا يفعل ذلك ويلفت نظره.
والحديث الآخر الذي يرويه عثمان بن مظعون لما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأذن له، فإن سعد بن أبي وقاص قال: (رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا)، وقال قيس: قال عبد الله: (كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا شيء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب، ثم قرأ علينا قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) [المائدة:87]) وكل الأحاديث السابقة رواها الإمام البخاري رحمه الله تعالى.(234/5)
حرص السلف على الزواج
كان السلف حريصين على هذا الأمر، قال طاوس: [لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج].
وقال إبراهيم بن ميسرة: قال لي طاوس: [تزوج أو لأقولن لك ما قال عمر بن الخطاب لـ أبي الزوائد، ماذا قال له؟ قال: ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور] أنت لماذا لا تتزوج؟ إما أنك عاجز أو فاجر، ولذلك كانوا يشددون في المسألة.
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: لو كان بشر بن الحارث تزوج لتم أمره.
وقيل لـ أحمد: مات بشر، قال: مات والله وما له نظير إلا عامر بن عبد قيس، فإن عامراً مات ولم يترك شيئاً، ثم قال أحمد: لو تزوج؟ فكان عندهم أن الشخص غير المتزوج فيه نقص، هذا مع نظافة مجتمعهم وسلامتهم من كثير من الآفات الموجودة في مجتمعنا.
ثم إن الزوجة الصالحة لا شك أنها من السعادة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن ثلاث من السعادة وأربع من الشقاء، فمن ذلك: المرأة تراها فتعجبك، وتغيب فتأمنها على نفسها ومالك، وأخبر عن أربع من الشقاء: المرأة السوء، كما أخبر عن أربع من السعادة المرأة الصالحة، بل إن هذه الدنيا الملعونة الملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، هذه الدنيا التي هي المتاع خير متاعها المرأة الصالحة، فإذاً المرأة الصالحة مستثناة من هذه الدنيا الملعونة.
فهذا خير ما يستفيده المرء من دنياه، زوجة مؤمنة تعينه على أمر دينه ودنياه.
بل إن النكاح من أسباب الغنى، قال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32] هذا ما نصح به بعض السلف رجلاً أصابته الفاقة فأمره أن يتزوج لما في هذه الآية من الوعد، وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بعون الناكح الذي يريد العفاف، إنه الغنى الذي يغنيه الله من فضله الذي يشمل غنى النفس وغنى المال.
وكذلك فبالنكاح يأتي الولد الذي إذا صار صالحاً نفعك وأنت في قبرك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) لو بكر بالزواج فأنجبت له ولداً صالحاً فرباه لو مات يموت مطمئناً بأن له ولداً من بعده يدعو له، بخلاف الذين يتأخرون في الزواج فيموتون وأولادهم صغار يتامى ليس لهم أب يربيهم، وهذا يمكن أن يحدث لأي أحد، لكن لا شك أنه يحدث للذي يؤخر الزواج أكثر من الذي يحدث للمتزوج.(234/6)
فوائد نكاح صاحبة الدِّين
على الشباب إذا ابتغوا النكاح أن يركزوا جيداً في مسألة مواصفات المرأة التي يريد أن يتزوج بها، فكثير منهم إذا أراد أن يتزوج فإنه ينظر إلى الجمال وهذه من الآفات المشهورة الموجودة في زماننا هذا، والنبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر عن هذا المطلب الذي يطلبه بعضهم وهو مسألة الجمال، فقال عليه الصلاة والسلام: (تنكح المرأة لأربع: لمالها وحسبها ولدينها وجمالها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) فإذاً هذا الحديث يرشد إلى أول شرط من شروط الزوجة، إذا أراد الرجل أن يبحث فإن أول ما يبحث عنه قضية الدين، لأن دين الزوجة هو الأساس، إن المرأة تنكح لأسباب ذكر في هذا الحديث أربعة أسباب رئيسية تدعو إلى نكاح النساء: المال والحسب والدين والجمال، فما هو الذي تختاره؟ اختر الدين تربت يداك، وهذا خبر بمعنى الدعاء لكن لا يراد به حقيقته؛ لأن معنى تربت يداك، أي: التصقت يدك بالتراب من الفقر، ولكنه لا يريد به حقيقته وإنما هو نوع من التأنيس ولفت النظر إلى ما يريد.
وهؤلاء الذين يطالبون اليوم بمواصفات عجيبة من الجمال يستلهمونها من أغلفة المجلات، ومما بقي في الأذهان من النساء في المسلسلات، والذين لا يغضون أبصارهم في النهاية يقول: أريد امرأة وصفها كذا ونحو ذلك، وبعضهم يتشدد في هذا تشدداً عجيباً حتى يشترط لون بؤبؤ العين! فنقول لهؤلاء الناس: رويدكم مهلاً! ماذا تقصدون؟ وهل تظنون أن وجود هذه المواصفات التي تركبونها من الأشكال الموجودة في مخيلاتكم أمر سهل أو أنه يمكن أن يتأتى بيسر؟
الجواب
كلا.
المشكلة تنبع من قضية الجاهلية التي عاشها بعض الناس مما رأوه في الأفلام أو في المسلسلات أو فتيات الغلاف ونحو ذلك.
وقد يكون الجمال سبباً لطغيان المرأة فعسى حسنها أن يوردها المهالك وهذا موجود في الواقع، فإن بعض النساء إذا آنست من نفسها جمالاً صارت مغرورة وربما طال لسانها على زوجها وطالبته بالنفقات الكثيرة وعابته في خلقته وأخبرته بأنه لا يستحقها؛ بل إنه أدنى من ذلك وأنها بالمكانة الأرفع وتمن عليه أنها رضيت به، ولذلك قد يكون الجمال تعاسة في الحقيقة على أنه لا يمنع الشخص من أن يبتغي الجمال، فإنه لو وجد الجمال بعد الدين فهذا خير إلى خير، فإن من الأمور الجيدة أنه إذا نظر إليها سرته.
لكن هذه المستويات من الصور الجميلة الموجودة في الأفلام والمسلسلات والمجلات هي في الحقيقة عينة نادرة في الواقع؛ لأن أكثر النساء لسن كذلك، وإنما اليهود وأعوانهم يغوون من يغوون من النساء في المجتمعات فينتقون صاحبات الصور الجميلة ليدخلن في هذه الأشياء.
ثم إن بعض الناس لا يفرق بين الجمال الطبيعي وجمال المكياج، فإن ما فعلته اليوم دور الأزياء وصالات الكوافيرات والتزيين لوجوه النساء هو أمر عجيب! فإن المرأة تدخل فتقعد عند المزينة بوجه ثم تقوم من عندها بوجه آخر، حتى إن المرأة الأخرى التي تنتظرها في صالة التزيين عند الكوافير لا تكاد تعرفها من كثرة الأصباغ والمساحيق والألوان والأدهان التي يستخدمونها، ولذلك لو نظرت إلى صورة فرأيت فيها جمالاً فاعلم أنه قد يكون جمالاً مزيفاً، ثم أنت تطلب مثله في الواقع وتقول: أريد امرأة هذا وصفها، وهذا لونها، وهذه عيونها، وهذا ثغرها، وهذا طولها ونحو ذلك، لذا لابد أن يكون الإنسان عاقلاً، فالصحيح أنه ليس مأموراً أن يتزوج ذميمة أو قبيحة لكن في نفس الوقت لا يشترط هذه الشروط وليس ببعيد أن الذي يشترط هذه الشروط يأخذ عكس ما اشترط بالضبط، وهذا ملاحظ، فإن الذي يكون عنده يسر في انتقائه ويشترط الدين يوفقه الله لامرأة تقر بها عينه، وإذا كان متشرطاً كثيراً من الشروط يريد أوصافاً دقيقة جداً، ويقول: لا أريدها بعدسات ولا بنظارات، فهذا الشخص نادراً ما يصل إلى مطلوبه، هذا إذا سلمت زوجته ولم ترفع عليه صوتها أو تسيء العشرة معه في المستقبل.
إذاً المطلوب الأول هو الدين، وهذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم: (فاظفر بذات الدين تربت يداك).
ومن هي ذات الدين؟ المرأة التي تقوم بالواجبات وتنتهي عن المحرمات، فنحن لا نشترط داعية ولا طالبة علم لكنها إذا كانت صاحبة دين دفعها دينها إلى الدعوة إلى الله وطلب العلم ما دام زوجها يدفعها إلى ذلك، فإذاً يكفي في البداية أن تكون المرأة صاحبة دين وتقوى وخوف من الله عز وجل، وهذه المسألة تتفاوت عند النساء، فمنهن من تكون ذات تقوى عالية وخوف من الله عظيم، ومنهن من تكون متوسطة في ذلك، المهم أن تكون معروفة بالستر والعفاف والصيانة، قائمة بفروض الله من الصلاة والصيام والحجاب تاركةً المحرمات كسماع آلات اللهو والغناء والتعلق بالأفلام ونحو ذلك من الأمور، صحيح أنه حتى مع تبسيطنا للمسألة فإنها عزيزة في الوجود نظراً لكثرة الفسق في عصرنا؛ لكن مع انتشار الصحوة والحمد لله لن يعدم الإنسان امرأة ذات دين في الواقع، ولا يقل: لم أجد امرأة ذات دين، الذي يقول: كل هذا المجتمع ما وجدت فيه امرأة ذات دين فهذا إنسان في نظرته نظر.
ولا ينبغي التساهل في هذا المطلب مطلقاً، فإن كثيراً من الأشخاص الذين تزوجوا بغير ذات الدين، وقالوا: في المستقبل يصلحها الله في المستقبل يهديها الله في المستقبل سأجتهد عليها حتى تلتزم بالدين.
فنقول: إن الهداية بيد الله، فربما تجتهد وتعمل وتعمل ثم لا تتدين المرأة، فتتبرج وتذهب إلى الأماكن والأعراس المختلطة ونحو ذلك فماذا ستفعل وقد تورطت، وصار لك منها ولد، وصار الاستغناء عنها الآن أعسر بكثير من ذي قبل، وستعض أصابع الندم وتتمنى لو كنت من البداية قد تزوجت ذات الدين؟ ومن الأشياء الطريفة! أن أحد الشباب عرضت عليه امرأة متدينة، فقال: أنا لا أستحقها، فنقول: هذا تواضع مذموم، فاحمد الله إذا عرضت عليك امرأة ذات دين ولو كنت أنت عندك شيء من التقصير فربما تكون هدايتك على يديها، وهنا قد يقول بعض الناس: هل أنت تدعو لترك غير المتدينات فمن سيتزوجهن إذاً؟ أقول: أنا أدعو إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم: (فاظفر بذات الدين) وليحدث هذا الشعور في نفوس بعض النساء غير المتدينات إذا شعرت الفتاة غير المتدينة إنها غير مرغوب فيها إذا كانت غير ذات دين، وقد كثر في المجتمع الكلام عن ذات الدين وأن ذات الدين مطلوبة فسيكون هذا من الدوافع لهؤلاء الفتيات أن يلتزمن بالدين، وقد يلتزم الإنسان بالدين من باب مادي أو يظهر الالتزام بالدين ثم يقوده ذلك إلى الإخلاص لله سبحانه وتعالى، كما حصل من بعض السلف الذين قالوا: طلبنا هذا العلم للدنيا فأبى الله إلا أن يكون لوجهه، فساقهم الله عز وجل للإخلاص في النهاية.
وبعض الشباب الذين تهاونوا في شرط الدين سبب لهم هذا التهاون -والعياذ بالله- انتكاسة ووقعة ورجوعاً ونكوصاً على الأعقاب بعد الزواج، لم يصبح الأمر على ما أراد أنه سيجعلها تلتزم بالدين، وإنما الذي حصل أنها الذي أوقعته في فتنة الدنيا وهي التي أرجعته خطوات كثيرة إلى الوراء.
وبعض الناس يلعب ويلهو ويعصي ويفجر ثم يقول: أريد امرأة متدينة، وهو يقول من تجربته في عالم الفساد: إنه لا يؤتمن على البيت إلا المرأة المتدينة، كلامه صحيح لكن من أسباب توفيق الله للشخص من امرأة متدينة أن يكون متديناً.
نعم إن بعض الناس كانوا أصحاب فجور، فلما تزوجوا بنساء متدينات أثر ذلك فيهم، لكن إذا أراد الشخص أن يصل إلى بغيته من امرأة ذات دين، فينبغي له أن يتقي الله حتى يجعل له من أمره يسراً ويرزقه من حيث لا يحتسب، وحتى يجعل الله له فرجاً ومخرجاً ويرزقه بذات الدين المطلوبة، أما الواحد يعصي ويفجر ثم يقول: أريد ذات الدين فربما تكون معصيته وفجوره من الأشياء التي تحول بينه وبين الوصول إلى ذات الدين.(234/7)
نكاح البكر
كذلك من الأشياء أو الصفات التي حثت الشريعة عليها نكاح البكر في مواصفات المرأة، قال البخاري رحمه الله تعالى: باب نكاح الأبكار، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! أرأيت لو نزلت وادياً وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجراً لم يأكل منها في أيها كنت ترتع بعيرك؟ قال: في التي لم يرتع منها) أي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً غيرها، وهذا من إدلال عائشة بنفسها؛ فإنها كانت تدلل نفسها عند النبي صلى الله عليه وسلم وتلفت نظره إلى هذا الأمر بين فترة وأخرى والنبي عليه الصلاة والسلام لم ينكح بكراً غيرها، فإذاً نكاح البكر مستحب ولا شك، وفي ذلك فوائد منها: 1 - أنهن أعذب أفواهاً.
2 - أنتق أرحاماً.
3 - أرضى باليسير.
فهي مستعدة للحمل والإخصاب أكثر من الثيب، وكذلك فالنتق هو الرمي والنقض والحركة، وكذلك في العشرة أكمل، وكذلك فإنها أرضى باليسير، لأنها ليست ذات تجارب سابقة وتتطلع إلى الدنيا كما تتطلع أو تعرف ذلك الثيب، لكن الإنسان لا يعني هذا أنه لو وجد ثيباً ذات دين وأنه وجد المصلحة في نكاحها فإنه لا يفعل، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر جابراً رضي الله عنه لما عدل عن البكر إلى الثيب لمصلحة وهي أن عنده أخوات صغيرات لم يشأ أن يأتي لهن بواحدة مثلهن في السن، وإنما رأى المصلحة أن يتزوج ثيباً تقوم بأمرهن فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على هذا، مع أنه دعاه إلى هذا فقال: (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك أو تضاحكها وتضاحكك) وكذلك لو أن الإنسان تزوج بكراً وتزوج ثيباً ضمها إليه؛ لأجل الإحسان إليها، أو لأنها أرملة مثلاً، أو ليتم أولادها أو لنحو ذلك فهذا إنسان على خير عظيم، وهذا من الحلول التي تكون لكثرة الطلاق أو النساء الأرامل أو المطلقات الموجودات في المجتمع، فإن حث الشريعة على الزواج بالبكر ليس معناه إهمال الجانب الآخر وإنما ما هو الأفضل؟ هذا هو الأفضل.(234/8)
الحث على الزواج بالمرأة الولود الودود
كذلك فإن من الصفات التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مراعاتها: الودود الولود، فقد يقول قائل: إذا كانت بكراً كيف نعرف أنها ولوداً؟ ف
الجواب
يعرف ذلك بأمور، منها: النظر في حال أمها وجدتها وخالاتها وعماتها، فإذا كان النسل عندهن كثيراً عرف أن هذه في الغالب ستكون على منوالهن، فإذا كانت قريباتها من أصحاب الأولاد الكثر فإنها كذلك في الغالب.
ولنعلم -أيها الأخوة- أن الاختيار أمر مهم ليست المسألة تسلية أو مثل السيارة تشترى وتباع والتخلص منها سهل لا.
والذين يتساهلون في مسألة التخلص من الزوجة أو يتزوج ويطلق ويتزوج ويطلق، ويقول: أجرب، نقول: هذا الشخص يرتكب عدة سلبيات بفعله ذلك، فليست المسألة بهذه السهولة، وحسن الاختيار ينبني عليه التوفيق في الحياة، فالذي يتزوج امرأة لعزها ربما لا يزداد إلا ذلة، والذي يتزوجها لمالها ربما لا يزداد إلا فقراً، والذي يتزوجها لحسبها ربما لا يزداد إلا دناءة، وأما الذي يتزوج ليحصن فرجه ويغض بصره ويصل رحمه فإن الله سبحانه وتعالى يبارك له فيها، والمسألة مسألة نية، فإذا صدق الشاب مع الله سبحانه وتعالى وفقه لاختيار الصواب؛ لأن هذه المسألة صحيح أن فيها بحث وبذل أسباب وسؤال وتحري لكن قد يخدع الإنسان قد يتخذ قراراً غير سليم قد يعمل بناءً على غلبة الظن ثم يكتشف أن ظنه في غير محله، فإذاً المسألة مسألة توفيق من الله سبحانه، لابد أن يكون فيها نية طيبة.(234/9)
شروط غير معقولة عند طلب الزوجة
لنعلم -أيها الإخوة- أن هذا المجتمع فيه ثغرات كثيرة، فمثلاً: المجتمع لم يلغِ الفوارق ولا يعين على تجاوزها، ولذلك تحدث كثير من المشكلات في قضية الزواج، فيرفض الشخص لأنه ليس من قبيلة معروفة، أو لأنه ليس من طبقة معينة ونحو ذلك، ولذلك نقول: إن الشخص لا يطرق الأبواب التي يتوقع منها الرفض فيلج بيت رجل من علية القوم يعرف أن عنده غنىً وبطراً، ثم يقول: زوجني ابنتك، وهو فقير صعلوك ويتوقع الاستهزاء به وطرده، فهذا ليس مدخلاً كريماً يدخله فيوفق فيه، لكن لو كان أبوها صالحاً لطبق الحديث: (ترضون دينه وخلقه) فزوج البنت لهذا الشاب كائناً من كان ما دام تنطبق عليه المواصفات.
ولذلك نقول: على الإنسان أن يبحث عن المرأة التي تناسبه في بيئته وطبيعته ومستواه الاجتماعي والمادي حتى لا يحدث نتيجة التفاوت مشكلة في المستقبل.
نعم، إن التفاوت قد لا تجعله الشريعة مقياساً وأساساً أبداً، لكن مراعاة هذا التفاوت من الحكمة التي أمرت بها الشريعة، ولذلك الإنسان يحرص أن يأخذ من هي قريبة منه في مستواه وطبقته فهذا أحرى أن يؤدم بينهما.
وبعض الناس قد يشترط شروطاً، فيقول: أريدها طالبة علم وجميلة ومن بيت معين، ويشترط شروطاً كثيرة لا تجتمع إلا في النادر، ويقول: أنا مستعد أن أنتظر سنة وسنتين وثلاث وخمس ليس مهماً عندي، فنقول: كيف هذا؟ كيف تمكث هذه الفترة من حياتك فترة طويلة في عالم الفتن وتضيف شرطاً إلى شرط وتعقد المسألة، وكلما أتيح لك المجال قلت: بقي شرط واحد لم يتوفر، فنقول: هذا من قلة العقل، وبعضهم يقول: أريد فتاة تعرف الطبخ حتى تبيض وجهي مع ضيوفي، فنقول: خذها ولو كانت لا تحسنه فإن الطبخ من شيم النساء وهي مفطورة على سرعة تعلمه والقيام بالبيت فستتعلم إن شاء الله، يندر أن نسمع أن امرأة بقيت عشرين سنة لا تحسن الطبخ بل إنها في الغالب ستتقنه ولو بعد حين.
وبعض الشباب قد لا يبالي بالزواج من المرأة التي تكون في البيئة المترفة، ثم يحصل له انتكاسة وصدمة، فإن الفتيات اللاتي يعشن في البيئات المترفة في الغالب لا تعرف كيف تطبخ ولا كيف تنظف ولا كيف تكوي الملابس ونحو ذلك، وربما إذا أرادت أن تتزوج أتت معها بخادمة أمها لأنها كانت مترفة في تلك البيئة فهي لا تصلح أن تكون ربة منزل ولا أن تدبر شئونه.
ولكن المسألة وسط فالإنسان هو الذي يبحث عن امرأة جادة ليست من بيئة مترفة أو عندها استعداد للتغيير ولو كانت في بيئة مترفة، المهم أن تكون صاحبة دين، ثم ينبغي أن يصبر عليها ريثما تتعلم شئون منزلها وتتعلم الطبخ والغسل والتنظيف ونحو ذلك، فإنها قد تكون ذات أم، أو عندها خدم في البيت يقومون بكل شيء، فلذلك لا تنشأ متعلمة لهذه الأشياء، لكن على الشاب ألا يتوقع أن تكون الزوجة هذه تعطيه خدمة فندقية من فئة خمسة نجوم، فإن بعض الناس يريد ذلك ويتوقعه يريد زوجة تعطيه من البداية خدمة ممتازة، فنقول: حلمك وصبرك فإذا كان عندك رفق فسيأتي المطلوب بإذن الله تعالى.(234/10)
كيفية البحث عن الزوجة
كيف يبحث الشخص عن الزوجة حيث وأنه قد عرف المواصفات، من أين له أن يعثر عليها؟ إن المسألة بطبيعة الحال شاقة، نعم بعض الناس لا يتعبون؛ لأنه قد يكون عنده إحدى قريباته بنت عم أو بنت خال معدة أو من زمن يتكلمون أنها لفلان، فببساطة إذا كانت بنت خاله أو بنت خالته مثلاً صاحبة دين فتاة متدينة أمه كلمت أخته أو أخاها وصارت المسألة سهلة وخُطبت الفتاة ووافقوا والمسألة عائلية وانتهت القضية، لكن ليس كل الناس يتوفر لهم هذا ويجدون في أقربائهم من تكون فيها المواصفات الطيبة أو يريدون الابتعاد، يقولون مثلاً: أخشى إن تزوجت بإحدى قريباتي أنه نتيجة الخلافات التي قد تحدث مستقبلاً يصل الأمر إلى قطع الرحم، فلو اختلفت معها ذهبت إلى أمها التي هي خالتي وشكت لها ما يحدث، فخالتي غضبت وكلمت أمي فأمي انتصرت لابنها فقامت المشكلات بين أمي وخالتي، وبيني وبين خالتي، أو بيني وبين خالي، أو بيني وبين عمي، فأنا أريد أن أختصر المسألة من البداية وأبتعد وأتزوج من نساء بعيدين، وليس هذا عيباً ولا خطأ في النظرة، لكن لا عيب أن يتزوج الإنسان من إحدى قريباته، فقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش وما هي قرابتها منه؟ بنت عمته، فإذاً دعك من الكلام الذي يقوله بعض الناس ابتعد عن الأقارب والأقارب عقارب، وأنها الأمراض الوراثية ونحو ذلك، فالزواج من الأقارب معروف من عهد الصحابة والسلف؛ لكن لو أراد الإنسان أن يبتعد، رأى مثلاً هناك مرضاً وراثياً في العائلة فخشي إن تزوج أن يكون ذلك في أولاده، فلا حرج عليه مطلقاً أن يبعد ويتزوج من الأباعد وفيها فوائد، مثل: تقريب الأسر البعيدة، فهذه الأسرة ليس بينه وبينها قرابة من قبل، فتتقارب الأسر البعيدة بالزواج من الأباعد ويكون أبعد عن قطيعة الرحم لو صارت مشاكل أو مشكلات بينه وبين زوجته.
إذا غير البحث في الأقارب كيف يبحث الشخص؟ البحث في الغالب يكون عن طريق النساء؛ لأنه من الذي يعرف أن هذا البيت عندهم بنات؟ المسألة سيكون فيها وسائط من النساء، ولذلك فهو سيتجه للبحث عن طريق محارمه مثلاً من النساء وفلانة تكلم فلانة وما أحسن النساء في هذا المجال؛ فانتشار الأخبار عندهن سريع، وكذلك فبعض الأمهات يصطحبن بناتهن إلى الأعراس من أجل أن ترى فتخطب مثلاً، فلذلك البحث عن طريق النساء من الوسائل المهمة جداً، لكن الآن -ولله الحمد- بعد انتشار التدين قد عرفت غير الملتزمة تعريف الملتزمة، ففي المدارس والكليات وعلى مستوى الأسر والعوائل معروفة الآن من هي المرأة المتدينة؛ إذا قلت لهم: من هي المرأة المتدينة؟ قالوا: التي لا ترى التلفزيون، ولا تسمع الأغاني، وتلبس قفازات، باختصار: مسألة صفات المتدينة في الغالب معروفة، نعم هي لا تعرف قضية العلم ولا تستطيع أن تختبر العلم الشرعي لكن كما قلنا: يكفي المتدينة التي تقوم بالواجبات، وتمتنع عن المحرمات.
وبالمناسبة فإن طريق النساء حتى الخطابات قال بعض العلماء: يدفع لها أجرة الدلالة لو طلبت، لو كان في المجتمع من يخطب أو تدل دلالة تدل العوائل أو تدل فلاناً على زوجة ثم طلبت الأجرة تعطى ولا حرج شرعي في هذا.
وكذلك يمكن البحث عن طريق الأخت لو كانت في مدرسة ثانوية أو كانت في كلية ونحو ذلك، وكذلك عن طريق الإخوة في الله.(234/11)
مسألة البحث عن زوج للأخت
هنا مسألة ينبغي التأكيد عليها، وهي: أن كثيراً من الأمور يمكن أن تحل لو أن كل شخص بحث لأخته عن زوج متدين، لو كان ينشط في البحث لأخته عن زوج متدين فتأتي المسألة بالعكس تأتي المسألة من الجهة الأخرى ولكن هذا وللأسف ليس منتشراً كثيراً عند الناس؛ بل بعضهم يعده عيباً وعاراً، ويقول: بناتنا لسن للعرض، ومن قال لك: أخرجهن لي حتى أراهن في البيت إذا أردت أن أتقدم أو في الشارع؟ المسألة مسألة البحث عن الكفؤ لها، ألم يأتك نبأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما تأيمت حفصة فمات زوجها خنيس بن حذافة السهمي بـ المدينة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني، فقال: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر فصمت أبو بكر فلم يرجع إليَّ شيئاً، وكنت أوجد عليه مني على عثمان، صحيح أن الإنسان قد يُصدم عندما يرفض منه الطرف الآخر وتكون المسألة كأنها فشيلة كما يقول بعض الناس، أعرض عليه أختي أو بنتي ثم يرفض، فنقول: لا حرج في ذلك إذا رفض، أنت عملت جهداً مشكوراً ومأجوراً عليه -إن شاء الله- للبحث لأختك عن زوج متدين أو لابنتك عن شخص متدين ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليَّ حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرجع إليك شيئاً؟ فقال عمر: قلت: نعم.
قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبلتها](234/12)
الحث على السعي في التوسط في تزويج الشباب
كذلك من الأمور المهمة أن الشخص صاحب الدين يتوسط لمن يريد الزواج أو صاحب العلم أو صاحب الفضل أو الشخص المشهور أو السيد في قومه يتوسط، هذه من وسائل التقريب بين الشاب والفتاة أن يوجد هناك من يتوسط من يبذل جاهه في سبيل الله يبذل مكانته في المجتمع في سبيل الله فيبحث يشغل زوجته في البحث، وقد وجد من المشاريع الطيبة في الدلالة في الزواج ما جعل الله فيه خيراً عظيماً، بحيث يمكن أن يستغل ويأتي بنتائج كبيرة للغاية فهذا من الطرق، أيضاً النبي عليه الصلاة والسلام كان أحياناً يأمر عائلة أن يزوجوا فلاناً يعرض عليهم كما توسط لـ جليبيب ولم يكن رجلاً سيداً ولا رجلاً مشهوراً ولا رجلاً نسيباً ولا حسيباً، جليبيب رجل متواضع فقير ليس ذا حسب، أرسل لأناس أن يزوجوه فكأن الأم امتنعت، فالبنت كانت مطيعة، ولفتت نظر أهلها كيف تخالفون مشورة النبي صلى الله عليه وسلم! كيف ترفضون طلب النبي صلى الله عليه وسلم فاقتنعوا وزوجوه، وكذلك توسط عليه الصلاة والسلام لـ أبي هند عند بني بياضة وهو حجام.(234/13)
النظر في أهل الزوجة
من الأمور المهمة أيضاً أن ينظر الشخص في حال أهل زوجته، ويحاول أن يختار المرأة من المنبت الحسن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم) أي: اطلبوا لها أطيب المناكح وأزكاها والحديث صحيح بطرقه، وقال عروة بن الزبير: [ما رفع أحد نفسه بعد الإيمان بالله بمثل منكح صدق، ولا وضع نفسه له بعد الكفر بالله بمثل منكح سوء].
وقال بعض الشعراء:
وأول خبث الماء خبث ترابه وأول خبث القوم خبث المناكح
ولا شك أن هذه المرأة سيكون أبوها جداً لأولادك، وأمها جدة لأولادك، وأخوها خال لأولادك، وأختها خالةٌ لأولادك؛ فلذلك ينبغي الاعتناء بالأسرة قدر الإمكان.
إن الحاجة التي نحن فيها الآن في هذا الزمان وهي حالة انتشار الفسق والفجور في المجتمع تجعل التوصل إلى امرأة متدينة من بيت متدين أمراً صعباً، ولذلك فلو أن الإنسان لم يجد إلا امرأة متدينة وأهلها غير متدينين فلا مانع أن يخطبها فينكحها، وقلت تصحيحاً للاسم الوارد قبل قليل النبي عليه الصلاة والسلام توسط لـ أبي هند وقال: (يا بني بياضة! أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه) وكان حجاماً، روى الحديث أبو داود رحمه الله تعالى وهو حديث صحيح.
فنقول: إن البحث عن منبت حسن للزوجة هو من الأمور المهمة.(234/14)
الاستعداد للزواج أمر مطلوب
كذلك فإن الاستعداد للزواج أمر مهم، فإن بعض الشباب لا يقدرون للأمر قدره، ولا يعدون له عدته، يأتيك شخص متحمس يقول: أريد الزواج والشريعة حثت على الزواج، وأنا لا بد أن أتزوج ويسعى في الأمر سعياً شديداً، لكنه ما أعد العدة من جهة الشعور بالمسئولية من جهة العلم بالحقوق الشرعية للزوجين من جهة البحث عن مصدر للمعيشة، وبعض الأشخاص إذا تزوج ليس مستعداً أن يذهب ويشتري طعاماً ولا أن يأتي بمن يكمل بيته؛ لأنه ليس عنده شعور بالمسئولية، ولذلك كثير من هذه الزواجات تفشل لهذا السبب.
وإعداد الشاب نفسه للمسئولية مستقبلاً أمرٌ مهم، وقلنا: الإعداد يكون إعداداً علمياً ويكون إعداداً نفسياً، وأن يقدر المسألة قدرها، وأن هذه أسرة ستنشأ، وأولاد سيتحمل مسئوليتهم سيأتي لهم بطعامهم ولباسهم ويذهب بهم إلى الطبيب، فبعض الكسالى يقولون: نريد زواجاً بغير مسئوليات، كيف تريد زواجاً بغير مسئولية؟! ولذلك يقع لهم في بداية أمرهم أشياء محرجة للغاية حتى يعاب من قبل أهل زوجته، يقولون: زوجنا شخصاً غير ناضج، إذا انتهى الغاز من البيت لا يأتي بالغاز، وإذا انتهى اللحم لا يأتي بلحم، وإذا انتهى الخبز من البيت ليس مستعداً أن يذهب إلى البقالة ليأتي به فهو كسلان، هذه قضايا مهمة ومسائل واقعية؛ ولذلك من أسباب فشل الزواجات عدم الاستعداد النفسي لتحمل المسئولية في المستقبل، تريد أن تقدم على خطوة كهذه الله يعينك نعم لا شك في ذلك؛ لكن إذا لم تبذل الأسباب ولم تعرف قدر القضية فلن تنجح.(234/15)
التغافل عن أخطاء الزوجة من بداية الأمر
بعضهم يريد زوجة طائعة من أول الأمر! فإذا خالفته في شيء حلف عليها بالطلاق، يقول: كيف تعصيني؟ لم يدخل إلى الزواج من بوابة واقعية الأمر، المرأة ليست ملكاً لا يخطئ، إنها تخطئ وقد تعصي وفيها اعوجاج، بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (إنها خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه) ولذلك فلابد أن يدخل الشخص إلى عالم الزواج وهو مروض نفسه أنه سيكون واقعياً، وليس هذا معناه الرضا بالمنكرات كطبيعة الحال لكن معناه تحمل أخطاء مسامحة وصبر، يوطن نفسه على مقاومة ما يكون في نفسه من المشاعر الرديئة: (لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن ساءه منها خلق رضي آخر) ربما لا يعجبك طبخها لكن ينفعك دينها وصلاحها ربما يسوءك شكلها لكن يأتيك منها ولد يساوي الدنيا، ولد صالح يكون مفخرة لك، بعض الناس يقول: هذه زوجتي لو ما جاءني منها إلا هذا الولد لكفى، من كثرة ما يراه من نجابة الولد وصلاحه يقول: يكفي أنها أنجبت لي هذا الولد.
وكذلك بعضهم قد يتزوج امرأة غير متعلمة فيصاب بنوع من الحرج وخصوصاً إذا أراد أن يستقبل ضيوفاً أو أصحاباً له، له نساء متعلمات، فيقول: هذه زوجتي إذا جلست معهن فلا تحسن الكلام، ولا تفتح موضوعات، ولا تعرف تناقش ونحو ذلك، فنقول: علمها، والتعليم بالمناسبة ليس كل شيء؛ لأن بعض النساء قد درسن في مدرسة الحياة، وعندهن من الفطنة والذكاء ولو لم تكن جامعية ولا لديها مؤهل ثانوي لكن عندها فطنة وذكاء وأدب درست في مدرسة الحياة، وقد تكون الجامعية وبالاً على زوجها، فالمسألة إذاً في القضية هذه مسألة وسط، لا للجاهلية الأمية التي يحرج زوجها لا يشترط أنه يوافق عليها، ابحث عن امرأة فيها شيء من التعلم والوعي، وهذا ينفع ولا شك حتى الوعي بالأشياء الطبية والإسعافات الأولية تنفع المرأة.
وكذلك ينبغي على الشاب في هذا الموضوع أن يكثر من الاستشارة، وألا يفاجئ أصحابه بزواج وهو لم يتأكد من وضع قدمه في المكان المناسب والصحيح، قد يشير عليه بعض أصحابه برأي سديد، قد يكون بعضهم على علم أو سمعوا أخباراً عن هذه الفتاة التي تقدم إليها، قد يعرفون من طبيعته أشياء ينبهونه بها إلى أمور تنفعه، قد يكون عنده طبيعة حارة أو عصبي المزاج والمرأة كذلك، فمثلاً: سمعوا أنها متدينة وتصلي ومتحجبة لكنها عنيدة وعصبية، وهو عصبي وعنيد، إذاً وجود هذين الأمرين معاً سيؤدي إلى مشكلات كثيرة، فربما وجد نصيحة من بعض أصحابه لا تقدر بثمن.
ثم إن بعض القصور في المعلومات عن تدين المرأة التي سيتقدم إليها ربما تأتيه بها زوجة أحد أصحابه عن طريق صاحبه وأخيه المسلم.(234/16)
الوضوح عند الزواج
من الأمور المهمة للشاب على عتبة الزواج: الوضوح، فلابد أن تكون الأمور واضحة، مسألة أن تكمل البنت دراستها أم لا؟ أن تتوظف أم لا تتوظف؟ الراتب من حق من؟ هذه قضية مهمة، ولذلك كانت الشروط بين المسلمين محترمة، (المسلمون على شروطهم) وبعض الناس يغضبون لو شُرِط عليه شيء أو يغضب منه لو شَرَط شيئاً، لكن العامة يقولون: (الذي أوله شرط آخره نور) وهذا صحيح، نحن لا نقول: عقد المسألة من البداية وضع شروطاً صعبة أو هم يضعون عليك شروطاً صعبة، لكن الأشياء الأساسية التي لها تأثير في الواقع كقضية عمل المرأة بعد التخرج، هذه قضية سيترتب عليها أشياء في حياتك العملية في تربية الأولاد في رجوعك إلى البيت واستقرار البيت، ولذلك لابد أن تكون واضحة من البداية، وكثير من حالات الطلاق ناتجة عن الاختلاف على راتب الزوجة، وعلى عمل الزوجة، وعلى إكمال الزوجة للدراسة ونحو ذلك.
فالوضوح إذاً أمرٌ مهم لكن لا للشروط المعقدة.(234/17)
مسألة العيوب الموجودة في الزوجين
قضية العيوب الموجودة بين الطرفين ذكرها الفقهاء في كتاب النكاح من كتب الفقه، قد يكون هناك عيب يمنع من الاستمتاع كما أن يكون أحد الطرفين مصاباً بمرض الصرع أو انفصام الشخصية مثلاً، أو قد يكون بالمرأة عيب يمنع من الاستمتاع بها، العيوب المانعة من الاستمتاع من الأشياء التي يحق بها للطرف الآخر فسخ النكاح، وبعض الناس عندهم خديعة ومكر، فيريدون أن يزوجوا ابنتهم ولو كان ما بها من العيوب دون أن يبينوا للزوج كبرص مثلاً ونحوه وهذا حرام، أو يكون في الزوج عيب، مثل: مرض الصرع مثلاً لا يبينه، فإذا كان المرض مستفشياً فإنه ربما يكون من الأشياء، أو مرض انفصام الشخصية هذا مرض خطير في طبيعة الحال لابد أن يبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المكر والخداع في النار) بعض الشباب يقول: لو أخبرتهم بما عندي لم يوافقوا يعني: لا تخبرهم؟ تخفي عنهم ذلك؟ إذا كانت الأمراض تعالج فلتعالج قبل الزواج، هل يجوز للشخص أن يدخل بامرأة وفيه مرض معدٍ ينتقل إليها؟ هذه قضية حساسة وخطيرة، نعم نحن لسنا مع الذين يعقدون الأمور ويقولون: يجب الفحص الطبي قبل الزواج، هذا لا يجب في الشريعة، شيء ما هو معلوم لو كان معلوماً وجب ذكره لكن لو قال شخص: هل يجب الفحص الطبي قبل الزواج؟
الجواب
لا يجب ذلك، لكن من أراد أن يفحص فليفحص، لكن أن نوجبه ونؤثم من لا يقوم به؟ الجواب: لا.(234/18)
معرفة الحقوق الزوجية
من الأمور كذلك معرفة الحقوق الشرعية لكل منهما، فإن بعض الناس يدخل في الزواج وليس عنده علم بالحقوق الشرعية لزوجته، وبعض النساء تدخل في الزواج وما عندها علم بالحقوق الشرعية لزوجها، فلا يعرف كل واحد منهما ما حق الآخر عليه؛ ولذلك يحصل الخصام والنكد والمشاجرات التي لو كانت الحقوق الشرعية واضحة لما حصلت، وكذلك فإنه لو علمت الحقوق الشرعية لما حصل بين الزوج وزوجته كثير من المشكلات.
عن عبد الله بن عمرو قال: (زوجني أبي امرأة من قريش -بالمناسبة نساء قريش هن أصلح النساء بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم أحناهن على ولد في صغره، وأرعاهن لما في ذات يد الزوج، خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش- فلما دخلت عليَّ جعلت لا أنحاش لها -أنحاش: مأخوذ من التجمع والجمع أي: لا أقربها- مما بي من القوة على العبادة من الصوم والصلاة، فجاء عمرو بن العاص إلى كنته -الكنة هي زوجة الابن- حتى دخل عليها -وهذا فيه فائدة تفقد أبي الزوج لزوجة ولده بعد الدخول؛ لأنه قد يكون هناك خلل يستطيع أن يساعدها في حله- فقال لها: كيف وجدت بعلك؟ قالت: خير الرجال أو كخير البعولة من رجل لم يفتش لنا كنفاً -ما كشف ستراً ولا جانباً هذا تلميح دقيق ناتج من فطنة عظيمة، قالت: خير الرجال ولدك، هذا أحسن الرجال لكنه لا يفتش لنا كنفاً- ولم يعرف لنا فراشاً، يقول عبد الله بن عمرو بن العاص: فأقبل عليَّ -أي: أبي- فعاتبني وعضني بلسانه -أي: عنفني ووبخني- فقال: أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب وفعلت وفعلت -فعلت ببنت الناس وتركتها بغير حق الفراش- ثم انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكاني، فأرسل إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته، فقال: أتصوم النهار؟ قلت: نعم.
قال: وتقوم الليل؟ قلت: نعم.
قال: لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام -وهو صلى الله عليه وسلم يعاشر النساء- ثم قال لي: فمن رغب عن سنتي فليس مني، قال: اقرأ القرآن في كل عشرة أيام، قلت: إني أجدني أقوى من ذلك، قال: فاقرأه في كل ثلاثة أيام، ثم قال: صم في كل شهر ثلاثة أيام، قلت: إني أجدني أقوى من ذلك، قال: فلم يزل يرفعني حتى قال: صم يوماً وأفطر يوماً فإنه أفضل الصيام وهو صيام أخي داود، وقال له: إن لكل عمل شرة -أي: نشاط وقوة- ولكل شرة فترة -أي: هبوط وانحدار، فإما إلى سنة وإما إلى بدعة- فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك).
قال مجاهد: كان عبد الله بن عمرو حين ضعف وكبر يصوم الأيام كذلك يصل بعضها إلى بعض ليتقوى بذلك ثم يفطر بعدد تلك الأيام، أي: يصوم سبعة متوالية ثم يفطر سبعة، وكان يقول: [لئن أكون قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ].
فالشاهد من القصة كيف أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان من اجتهاده في العبادة لا يعطي زوجته حقها حتى حصل ذلك التنبيه.
وكذلك قال سلمان الفارسي لـ أبي الدرداء لما رأى أم الدرداء متبذلة وشكت له زوجها، قال: (إن لأهلك عليك حقاً) وأقره النبي صلى الله عليه وسلم.(234/19)
النظر إلى المخطوبة
من الأمور المهمة التي ينبغي أن نتحدث عنها في هذا المقام قضية النظر إلى المخطوبة فهي مما يهم الشاب على عتبة الزواج، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها ما يدعو إلى نكاحها فليفعل، قال جابر: فخطبت جارية من بني سلمة فكنت أختبئ لها تحت الكربِ وأصول السعف حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها).
كذلك أخرج أحمد رحمه الله وغيره من حديث سهل بن أبي حثمة قال: (رأيت محمد بن مسلمة يطارد بثينة بنت الضحاك ببصره يريد أن ينظر إليها، فقلت: تنظر إليها وأنت من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم -أي: هذه امرأة أجنبية وأنت صحابي- فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا ألقى الله عز وجل في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها).
وقال المغيرة بن شعبة: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له امرأة أخطبها، فقال: اذهب فانظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما، قال: فأتيت امرأة من الأنصار فخطبتها إلى أبويها وأخبرتهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم فكأنهما كرها ذلك، قالت: فسمعت المرأة وهي في خدرها، فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر وإلا فإني أنشدك -كأنها عظمت ذلك عليه- قال: فنظرت إليها فتزوجتها فذكر من موافقتها) أي: من طاعتها لزوجها بعد ذلك، وقال صاحب الزوائد: إسناده صحيح؛ لأن الحديث قد رواه ابن ماجة رحمه الله تعالى.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبتها غير متلاعب، وإن كانت لا تعلم ذلك)، هذا الحديث دليل على جواز النظر إلى المخطوبة وإن كانت لا تدري ولا تحس ما دام الشخص جاداً غير متلاعب، فإنه يجوز له أن ينظر إليها من وراء ستار ونحوه وإن كانت لا تدري.
وقال أبو هريرة فيما رواه مسلم رحمه الله: (خطب رجل امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل نظرت إليها؟ قال: لا، قال: فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً) أي: من الصغر أنها كانت أعينهم صغيرة فإذا رآها فإنه يعلم حقيقة الأمر.
وبهذه المناسبة أقول: إنه لا بد من مراعاة نفسية المرأة عند التقدم إليها والنظر، وكذلك لابد أن يكون النظر شرعياً فما هي الأشياء التي ذكرها العلماء فيما يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة؟ لقد اختلفت أقوال العلماء في ذلك، فبعضهم قال: ينظر إليها كما هو حجابها في الصلاة، وبعضهم قال: يراها كما تظهر عند محارمها، وبعضهم قال: يرى منها الوجه والعنق والكفين والقدمين، المهم أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها، ولا شك أن الوجه أهم الأشياء، فإن المرأة لا تعرف بجمال أو بقبح في الغالب إلا من وجهها فهو عنوان الجمال، وهو أهم الأشياء.
ولكن الشاب يقدم من أهله من يأتي له بصورة مقربة عنها حتى يقرر الرؤية من عدمها منعاً للإحراج، ولو أنه كان لديها صورة فجاء أحد محارمها هي فأراها لهذا الشاب الذي يريد التقدم إليها فنظر إليها ولم يحتفظ بها بطبيعة الحال وإنما ينظر ثم تتلف فإنه لا بأس بذلك كما أفتى بعض أهل العلم المعاصرين، وإذا ذهب للنظر يجوز له أن يكلمها ويكون النظر بقدر الحاجة، فلو كان يكفي خمس دقائق فلا يجوز أن ينظر أكثر ونحو ذلك.
وبعض الناس يقول: استحيت وما نظرت جيداً وأنا الآن متورط، فهل أرجع إليهم وأقول لهم: أروني البنت مرة ثانية، فنقول من أولها: لابد أن تذهب وأنت تعلم ماذا تريد وتكرر، وليست القضية سهلة في أن يعاد النظر مرات، المسألة من الآن أن تذهب لتنظر فتذهب لتنظر، وبعضهم يقول: عندما دخلت علمت مكان رأسها من دخولها عند الباب، حتى إذا ذهبت عرفت فيما بعد طولها، فنقول: اعمل ما شئت علم الباب ولا تخرج إلا وقد قررت وعزمت أو نظرت إلى ما يدعوك إلى نكاحها.
هل تجوز الخلوة؟
الجواب
لا.
هل يجوز له أن تصافحها؟ الجواب: لا.
وكذلك لا يجوز لها أن تتطيب إنما تأتي بمنظرها الطبيعي، وينبغي أن يكون هناك في المجلس من يزيل الخلوة؛ لأنها لا زالت امرأة أجنبية والنظر هنا للضرورة ونحن لا زلنا الآن في حدود الضرورة، وينبغي على الأولاد أو الشباب المتدينين في البيت إقناع الآباء المتعجرفين الذين يرفضون تطبيق السنة في قضية النظر إلى المخطوبة.(234/20)
تحريم المواعدة السرية بين الرجل والمرأة
من الأمور المهمة تحريم المواعدة السرية، قال الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} [البقرة:235] فإذاً المواعدة السرية أو ما يحدث الآن من قضايا الخطبة عبر الهاتف، ويقول: أجرب، وما يسمى بتجربة الحب قبل الزواج! كل ذلك من الأمور المحرمة التي غالباً ما تكون معصية، فإذا دخل الشخص الزواج من باب المعصية فزواجه في الغالب سيكون فاشلاً، وبعض المترفين والذين درسوا في الخارج أو تأثروا بثقافة الغربيين يؤمنون بذلك، ويقولون: لابد من تجربة قبل الزواج، نقول: إن هذه العلاقات الهاتفية لم تأتِ بنتائج طيبة مطلقاً في الزواج، وإن أغلب التجارب التي عاشها أولئك الفجرة مع الفاجرات تجارب فاشلة، وأن خروج المرأة مع الرجل قبل العقد الشرعي حرام، وأدى إلى مصائب؛ بل إن بعض الذين ألفوا في أهمية التجربة قبل الزواج من الغربيين أو ممن حذا حذوهم من هؤلاء الذين يعيشون في الشرق لكن عقولهم وقلوبهم في الغرب اعترفوا بأن هذا أمر سلبي، ولذلك يقول بعضهم: إن غالب الذين أتوا للعقد كن حوامل، وكثيراً ما تنفسخ الخطبة بعدما يقضي الذئب وطره، وتقع الكارثة عند ذلك، وهذا نتيجة المعصية ولا شك، ثم كيف يعقد عليها وهي حامل والولد ليس ولده شرعاً؛ لأنه سوف ينسب إلى أمه لأنه ولد زنا، ولذلك فكل هذا الكلام الذي يقولونه من أهمية التعارف وإقامة العلاقات لكي يفهم كل من الطرفين الآخر قبل العقد الشرعي هذا كله حرام، لأن في شرعنا يكفي أن ينظر الإنسان إلى المرأة عند الخطبة ويسأل عنها ويدقق في البحث ولا يجعل القضية سائبة، ومن أول كلمة تأتيه يوافق، فإذا كان ذلك كذلك يكفي إن شاء الله وسيبارك له فيها.
قبل أن ندخل في قضية العقد والزواج ننبه إلى مسألة، وهي: أن بعض الشباب يصابون بنكسة إذا رده أولياء أمور بعض النساء وتحطمت نفسيته، وقال: كيف يردوني؟ وأعرف واحداً قال لي من سوء ظنه بالله وهذه قضية خطيرة جداً قال: لو أن الله يريد أن أتزوج لوفقني لكن لا يريد، ويقول: تقدمت إلى سبعين فتاة فرفضوا كلهم، صحيح أن الإنسان قد تضيق عليه نفسه ويصاب بخيبة أمل وبكربة إذا تقدم ورفض وتقدم ورفض وتقدم ورفض لكن
ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
وهذا الأمر لابد فيه من الصبر والتحمل، ولا ينبغي أن يعيب الناس بعضهم على بعض في هذه المسألة؛ لأنهم قد يرون من المناسب أن يزوجوه إذا كانوا قد رفضوه لسبب شرعي.(234/21)
الخطبة على خطبة الأخ
كذلك من الأمور المهمة ألا يدخل على خطبة أخيه فيخطب على خطبته، فإذا عرفت أن هذه الفتاة قد تقدم إليها شخص لا يجوز لك أن تتقدم إليها مطلقاً حتى يرفضوه هو أو تمضي فترة طويلة تدل على أنهم لا رغبة لهم به أو تستأذن منه، وتقول: أنت ما شاء الله عليك يمكن أن تجد غيرها كثير، لكني مسكين وما عندي إلا هذه الفرصة، فلو سمحت لي أن أتقدم أنا وتأذن لي فإن أذن له جاز ذلك، لو تقدم إلى فتاة وهو لا يدري أن رجلاً قد خطبها فلا يأثم ما دام لا يعلم، أما إذا كان يعلم وتقدم فهو آثم، فإذا انتهت رغبتهم بالخاطب الأول فعند ذلك يتقدم هو، ولا شك أن خطبة الرجل على خطبة أخيه من أسباب إيقاع الوحشة والعداوة بين المسلمين.(234/22)
أمور ينبغي مراعاتها عند بداية الزواج
من الأمور المهمة التي ينبغي ملاحظتها ورعايتها عند بداية الزواج:(234/23)
ملاطفة الزوجة عند البناء بها
أولاً: ملاطفة الزوجة عند البناء بها كما جاء في حديث أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: (إني قيمت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جئته فدعوته لجلوتها -أي: النظر إليها مكشوفة- فجاء فجلس إلى جنبها، فأتي بعس لبن -أي: بقدح كبير- فشرب ثم ناولها النبي صلى الله عليه وسلم فخفضت رأسها واستحيت.
قالت أسماء: فانتهرتها، وقلت لها: خذي من يد النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: فأخذت فشربت شيئاً، ثم قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: اعطي تربتك صديقتك، قالت أسماء: فقلت: يا رسول الله! بل خذه واشرب منه ثم ناولنيه من يدك، فأخذه فشرب منه ثم ناولنيه، قالت: فجلست ثم وضعت على ركبتي ثم طفت أديره وأتبعه بشفتي؛ لكي تصيب بركة النبي صلى الله عليه وسلم).(234/24)
الدعاء بالبركة للزوجة عند الدخول عليها
كذلك إذا دخل عليها يضع يده على رأسها ويدعو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تزوج أحدكم امرأة فليأخذ بناصيتها وليسمِ الله عز وجل وليدعو بالبركة، ويقول: باسم الله، اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلت عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه) لأن الأشياء المجبولة عليها المرأة هي التي تكون من عوامل النجاح أو الشقاء في الحياة الزوجية.(234/25)
الصلاة مع الزوجة ركعتين
يستحب للزوجين أن يصليا ركعتين معاً كما جاء في حديث أبي سعيد بن أبي أسيد قال: (تزوجت وأنا مملوك، فدعوت نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ابن مسعود وأبو ذر وحذيفة -أجابوه وهم من كبار الصحابة مع أنه مملوك لأن إجابة الدعوة واجبة- قال: وأقيمت الصلاة فذهب أبو ذر ليتقدم، فقالوا: إليك، قال: أو كذلك؟ قالوا: نعم -أي: من الأولى أن يتقدم صاحب البيت- قال: فتقدمت بهم وأنا عبد مملوك، وعلموني، فقالوا: إذا دخل عليك أهلك فصلِّ ركعتين ثم اسأل الله من خير ما دخل عليك وتعوذ به من شره، ثم شأنك وشأن أهلك) وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني، وقال: سنده صحيح إلى أبي سعيد وهو مستور، سِوى أن الحافظ أورده في الإصابة، ثم رأيته في الثقات لـ ابن حبان، وعند الشيخ قاعدة في تصحيح حديث التابعي الذي يروي عن جماعة من الصحابة ولو كان مستوراً، وكذلك يتأكد في حقه صلاة الركعتين إذا كان يخشى نفورها منه.(234/26)
الوليمة للعرس
وينوي بنكاحه وجه الله تعالى، ويستحب له في صبيحة بنائه بأهله أن يأتي أقاربه الذين أتوه في داره ويسلم عليهم، ويدعو لهم، وأن يقابلوه بالمثل، لحديث أنسٍ رضي الله عنه قال: (أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بنى بـ زينب فأشبع المسلمين خبزاً ولحماً، ثم خرج إلى أمهات المؤمنين فسلم عليهن ودعا لهن، وسلمن عليه ودعون له، فكان يفعل ذلك صبيحة بنائه) وبعض العوام يسمونها الصبحة أو الصبيحة، فإذا اجتمع إليه أهله يكون هذا أمراً حسناً.
وكذلك من الأمور: الوليمة، فقد قال عليه الصلاة والسلام لـ علي لما خطب فاطمة: (إنه لا بد للعرس من وليمة) والسنة في الوليمة أن تكون بعد الدخول، ولكن إذا فعلها قبل الدخول كعادة النساء اليوم فلا بأس بذلك.
والغني يولم ولو بشاه، ولو لم يجد الإنسان وكان فقيراً فيولم ولو بغير لحم، كما ثبت ذلك في السنة عندما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بـ صفية بُسطت الأنطاع وألقي عليها التمر والأقط والسمن فشبع الناس، ولا يجوز إجابة الوليمة التي فيها معصية.(234/27)
مقاومة الزوجين للمنكرات التي تحدث في الأعراس
ومن الأمور السيئة في عصرنا الإسراف في الولائم، كما أن من العادات السيئة الإسراف في المهور والمغالاة فيها، وكثيرٌ من الزيجات لا يُبارك فيها مما يحصل في الحفلات من الإسراف وغيره، وهي معصية، فيبدأ دخوله بالحياة الزوجية بمعصية، ولا بد أن يكون العرس خالياً من المعاصي، وقد يقول الشاب: أنا أضمن صالة الرجال، لكن كيف لي أن أضمن ما يحدث في صالة النساء، فإن أهلها قد يأتون فجأة بفرقة ونحوها من الأشياء التي لا تضمن، لا أضمن أنهم يغدرون بي مثلاً، أو أن أمي قد هددت بفعل كذا، أو أنها تريد أن تفعل هكذا ونحو ذلك، ويقولون: أنت افرح على ما تريد ونحن نفرح على ما نريد، وقد تكون هذه الفتاة المتدينة الملتزمة زوجته لا طاقة لها ولا قدرة على الإنكار وإيقاف المنكر، فماذا يفعل الإنسان؟ المهم أن يكون من البداية قد حرص على قضية اجتناب المنكرات، وأن يشرف بنفسه على تحضير عرس النساء ما أمكن، ليعرف ماذا سيحل وماذا سيوجد؛ لأن كثيراً من الشباب يأمنون في ذلك ثم يفاجأ بأنه قد حصل منكرات في صالة النساء.
ولا بد من تعاون الطرفين هو وزوجته في مقاومة هذه المنكرات وخصوصاً عند النساء، وأنا أدعو إلى اختيار الأراضي المفتوحة لإقامة الأعراس فيها فإنها خيرٌ وأكثر بركة من الفنادق والصالات التي تنفق فيها الأموال الطائلة، من عدة جهات: أولاً: هي من الاقتصاد وليس فيها إسراف في الغالب، فهي خيامٌ وأنوار وزينات وكراسٍ أو فرش وعشاء.
ثانياً: أنها أقرب إلى السنة في إعلان النكاح؛ لأنها في مكان مكشوف يراه الناس في الشارع الغادون والرائحون، فلذلك لو جعل فيها عرس الرجال لكان أمراً طيباً من باب محاربة الإسراف في الصالات والفنادق.
والإنسان أو الشاب في الغالب يستدين وهذا طبيعي أن يستدين في هذا الزمان لكثرة النفقات، لم يكن عند الأولين شقق مستأجرة بكذا وكذا، وأفران وثلاجات وغسالات ونشافات وموكيت وكنب وغرفة نوم وما إلى ذلك من الأشياء الكثيرة الموجودة، فهو في الغالب سيضطر للاستدانة، لكن هناك فرق بين من يسرف ويركب على نفسه ديناً عظيماً، وبين من ينفق مقتصداً دون بخلٍ، فلو صار عليه شيء من الدين يعينه الله عز وجل، لكن يستدين الآلاف المؤلفة، بعضهم يستدين بالربا فكيف سيوفق في زواجه؟ وبعض الناس الذين ينفقون أموالاً طائلة ويتزوج ثم لا يستطيع أن يقضي دينه يعيش عيشة ضنك وشدة مع زوجته.
وكذلك إذا حصل خلاف ربما يقول لها: دفعت فيك كذا وكذا، توبيخاً وإهانة، هو الذي دفع وهو الذي تكلف هذه التكاليف، وإذا كان أهل زوجته أرغموه على أشياء من هذا يصب جام غضبه على ابنتهم فيكونون شركاء في الإثم، وسبب لما سيحدث بعد ذلك من الإخفاق.
والإنسان لو اتقى الله يوفقه الله بزوجة مئونتها قليلة؛ لأن من بركة المرأة تيسير صداقها، هذا من بركة المرأة، والذين يطلبون من الزوج هذه الأشياء الكثيرة لا شك أنهم يجرمون في حق ابنتهم في المستقبل، وإذا اتقيت الله يا أيها الشاب وخفته وعملت في طاعته فإنه يوفقك لأهل امرأة لا يطلبون منك الكثير، وقد أتاك نبأ تلميذ سعيد بن المسيب الذي ماتت زوجته ففقده شيخه سعيد، فلما عرف أن زوجته قد ماتت أتاه في بيته، وقال: ما حدث؟ فعلم منه الخبر، فقال: اتبعني فتبعه فأدخله على ابنته فزوجها إياه وكان فقيراً وكانت من أجمل النساء وأعلمهن، ثم أتى بها إليه وقال: كرهت أن تبيت أعزب، فأصلحتها أمها وزينتها ودخل بها، عقد له عليها ويسر له الأمر في ليلة واحدة، فإذا كان هناك تقوى من الله يمكن أن تتزوج في فترة وجيزة بمئونة قليلة، هذا توفيق من الله.
وكذلك فإنه ليس من المنصوح به أن تطول الفترة بين العقد والدخول، فحتى أن العلماء قالوا في أكثر مدة ينقطع بها الرجل عن زوجته: أربعة أشهر، وقال بعضهم: ستة أشهر، قالوا: وهذا يدخل فيه بداية النكاح، أي: لو عقد على امرأة ولم يدخل بها مدة طويلة تجاوزت ستة أشهر فيجوز لها طلب الفسخ، يعني: المدة هذه التي هي أكثر مدة يسمح بها للزوج أن يبتعد عن زوجته داخلة حتى في بداية العقد ولذلك لا ينصح بطول المدة؛ لأن كلاً منهما ينظر إلى الآخر، فطول المدة هذا إلى يجر سيئاتٍ كثيرة.
وعلى الشاب أن يستغل الفرصة بين العقد والدخول لأجل تثقيف زوجته وتعليمها، فيعطيها من هذه الكتيبات أو الكتب إن كانت تطيق القراءة والأشرطة الطيبة عن الخشوع في الصلاة وصفة الصلاة وصفة الوضوء، وفتاوى النساء، ومقومات الحياة الزوجية، وكيف تقضي وقتها، وآداب الزيارة بين النساء، وأحكام العشرة الزوجية يجهزها للمستقبل.(234/28)
تحكيم شرع الله عند اختلاف الزوجين
ينبغي كذلك أن يكون الاتفاق بينهما على كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع الدليل وسؤال العلماء، فلست تجعل نفسك مرجعاً علمياً تحتكر فيه أجوبة المسائل، وليس هي تحتكم إلى هواها، وإنما بينك وبينها من البداية عليك أن تعلمها أننا سنسير على الكتاب والسنة ونستفتي العلماء ونأخذ بالأدلة ونرضى، ولا نلجأ إلى عصبية أو هوى أو عناد، والزوجة في الأيام الأولى بحسب ما يعودها زوجها.
وعليه أن يبين لها ما لها وما عليها من الحقوق، وكذلك يبين لها الممنوعات والمحرمات من البداية، ولو كان قبل العقد، يبين لها رأيه الواضح وحكم الشريعة في وجود آلات اللهو في البيت، وأخطار الشاشة ونحو ذلك؛ لأن بعضهم قد يمر بها مروراً عابراً ولا يؤكد عليها أو أنه يتحاشى الدخول في هذا الموضوع ثم بعد ذلك تحصل مشكلة كبيرة؛ لأن أمها تقول: كيف تسجن بنتي وتضعها في البيت من غير تلفزيون وكيف وكيف، وأنت تغيب عن البيت مع أصحابك، ولا بد أن تجعل لها كذا، فلو كانت المسألة واضحة من البداية لاكتفى شراً كثيراً، وكذلك يبين لها حرمة البيت وأسراره وأهمية حفظها، وعدم إدخال أحدٍ بينهما في المشكلات؛ لأن نقل المشكلات إلى أهله أو إلى أهلها يوسع الدائرة ويجعل القضية أصعب في الحل، وأنه إذا صار خلاف يسأل أهل العلم، ولا بأس بالرجوع إلى العقلاء من أهله وأهلها عند الحاجة، وكثيراً ما تكبر المشكلات إذا تدخلت أمها أو أمه، ويكون هذا التدخل من أسباب الطلاق.
ويحتاج الداعية إلى الله في بداية الأمر أن يفهم زوجته أهمية التضحية في سبيل الله؛ لأن الزوجة تريده كله لوحدها، ألم تقل نساء بعض السلف امرأة الزهري أن هذه الكتب أشد عليها من ثلاث ضرائر؟ وأنا أنصح أن يعجل لها بالأولاد حتى يملأ فراغها وأن يسعى في ذلك.
وإذا كانت المرأة تفوقه في العلم الشرعي فلا تأخذه العزة بالإثم فيحسم النقاشات العلمية على حسب ما يرى لهوى، وحتى لا يظهر بمظهر الضعيف وأنه لا حجة لديه، فهذا دين ولا مجال فيه لاتباع الهوى، وكذلك لو كانت داعية وهو مبتدئ فإنه لا بأس أن يتلقى منها ما يصلح حاله، هذا الذي تزوج بنت سعيد بن المسيب أقام عند زوجته شهراً منقطعاً عن شيخه يتعلم من زوجته، ولا تعارض بين هذا وبين القوامة، أنت الذي تنفق وأنت الذي تطلق، أنت القائم على البيت: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] فلا تحزن إذا فاقتك في أشياء أخرى، لأن القوامة لا زالت لك.
ومن التنبيهات المهمة الإساءة في فرض القوامة منذ البداية لمفهومٍ خاطئ لإظهار الشدة أو الرفض لأي طلب.(234/29)
عدم التهاون في المنكرات
كذلك انتبه -أيها الزوج- أن تتهاون في المنكرات من بداية الأمر، فبعضهم يتهاون في أمرها بالصلاة أو إيقاظها لصلاة الفجر أو التخلص عندها من المجلات أو الأمور المنكرة، فينبغي ألا يتهاون في هذا لكن بالحكمة، وعليه أن يكون رفيقاً معها يمزح بما يلطف الجو، ولا يفعل كما فعل ذلك الشخص الذي أراد أن يمزح معها في أول ليلة، فقال: أنا أفكر أن أتزوج عليكِ.
وكذلك فإن الشاب المتزوج يختار جاراً طيباً أو صاحباً تقياً يسكن بجانبه، فيختار الجار قبل الدار ما أمكن ذلك، فإن لهذا فوائد تنعكس على حياته الزوجية، وينبغي على أصحاب الشاب ألا يتركوه بعد زواجه، ويقولون: دعوه في شهر العسل، فإنه قد يواجه ظرفاً حرجاً أو نفسياً ويحتاج من يكون قريباً منه عند زواجه، وربما يحصل عنده نوع من انحدارٍ في دينه وإيمانه إذا كانت المرأة ليست بذاك، أو ينشغل بها عن طاعة الله، فينبغي أن يكون بقربه من إخوانه الصالحين من ينبهه ويقومه، ولا يتركوه من الإيقاظ لصلاة الفجر ولو في أول ليلة، فإن بعض الناس قد تفشى عندهم اعتقادٌ عجيب أنه لا يجب على الزوج الذي أعرس صلاة الفجر في أول يومٍ وهذا من العجب.
والكلام في هذا الموضوع يطول، ونكتفي بما تقدم مع ما حصل من الطول.(234/30)
الأسئلة(234/31)
حكم تزويج المرأة قسراً
السؤال
ينتشر بين بعض القبائل مبدأ تزويج البنت قسراً لابن عمها حتى وإن تفاوتا في السن أو المميزات أو حتى في درجة الالتزام، حتى إن من حق ابن العم أن يحجر عليها فلا تتزوج، أو يأذن لها إن شاء؟
الجواب
هذا حرام ولا يجوز، وهذا من ظلم المرأة، بل إن إحدى البنات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم رفعت دعوى على أبيها عند النبي عليه الصلاة والسلام أنه زوجها من فلان ليرفع بها خسيسته، فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن أمرها بيدها ما دامت تزوجت بغير رضاها.(234/32)
وجوب تفرغ الزوج لأهله بعض الأوقات\
السؤال
إذا كان الزوج يخرج للعمل الساعة السابعة ويعود الساعة الثانية، ثم يخرج إلى صلاة العصر ولا يعود إلا الساعة الحادية عشرة وهو يقوم بالدعوة وزيارة أصدقائه والزوجة غير راضية، ملاحظة: حتى وإن كان يوماً واحداً في الأسبوع؟
الجواب
نقول: صحيح لو كان يوماً واحداً في الأسبوع ينبغي على الرجل ألا ينسى زوجته وأهله، إذا كان هذا الشخص فعلاً يدعو إلى الله، ويطيع الله عز وجل، فإن عنده من الأوامر الإلهية ما يلزم به: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] فلا يصح إذاً أن يهمل زوجته ويذهب يقول: أدعو وأذهب مع الشباب وأدعو، نقول: لا بد أن تعطيها من وقتك، لكن ليس كل الوقت، المسألة الآن في الإفراط والتفريط، منهم من يترك الدعوة ويترك طلب العلم ويقيم مع زوجته ويعتكف معها، وهذا خطأ؛ لأن الزوجة قد تكون كارثة على زوجها، بل هي من العدو كما وصفها الله أنها عدو هي والأولاد ما معنى العدو؟ أي: أنها قد تشغل زوجها عن طاعة الله وليس المقصود أن عليه أن يكرهها ويضربها ويحاربها محاربة العدو، لا.
وإنما هي قد تكون مشغلة لزوجها عن طاعة الله، فالإنسان لا بد أن يربي زوجته، يعتني بتعليمها وتثقيفها، يجعل لها يوماً في الأسبوع أو وقتاً معيناً في اليوم ويراجع معها أشياء مما قرأت ويسألها فيما قرأت، ويطلب منها تلخيص ما سمعت ونحو ذلك، وأن يبحث لها عن مجموعة طيبة من النساء تدرس معهن الدين، وأن يجعل لها مجال لزيارات طيبة مع نساء أصحابه ونحو ذلك.(234/33)
مسألة في الاستمتاع بالزوجة
السؤال
كثر السؤال حول قضية من جزئيات الاستمتاع بالزوجة نريد حسم المسألة، لأن كثيراً من الشباب يستحيون من السؤال؟
الجواب
نحن نجيب بجواب -إن شاء الله- يفهم منه المقصود، أباحت الشريعة الاستمتاع بالزوجة: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] ومنعت أشياء، فمنها الوطء في الدبر، وهو: مكان خروج الغائط، ومنها الوطء في الحيض، فمن وطأ زوجته في الدبر فهو ملعون، لكن إذا وطئها في الفرج من الأمام أو الخلف فهذا جائز كما ذكر أهل العلم، إنما يكون في موضع الولد، ومن وطأ في الحيض فعليه كفارة كما جاء بذلك الحديث وصححه جماعة من أهل العلم، مثل ابن القيم رحمه الله وابن حجر وابن دقيق العيد وغيرهم، أن من وطأ زوجته في الحيض فعليه كفارة دينارٌ أو نصف دينار من الذهب، أي: أربعة غرامات وربع تقريباً، وقال بعضهم: دينار إذا كان في ثوران الدم ونصف دينار إذا كان في آخر الحيض، أو قبل أن تغتسل وتتطهر، وقال بعضهم: إذا كان غنياً فعليه دينار وإذا كان فقيراً فنصف دينار.
ويحرم أي كيفيةٍ من كيفيات الاستمتاع ويترتب عليها دخول النجاسة إلى الجوف، والمذي من النجاسة بطبيعة الحال، فلذلك نجد بعض الناس من خلال ما تفشى في المجتمع من الأفلام الجنسية أفلام الفحش والخنا يتطرق إليهم بعض هذه الأشياء فهذا جواب السؤال.(234/34)
حكم الشك في الزوجة
السؤال
في قلبي شكٌ من زوجتي من أول ليلة من الزواج لأنني لم أجد شيئاً من علامات البكارة؟
الجواب
هذه من القضايا التي يتعرض لها بعض الناس فعلاً في مقدمة الزواج، وأريد أن أقول ما يلي: أولاً: ليس من الشرط وجود الدم.
ثانياً: إن ما يتحدث عنه هذا الشخص أنواع؛ فلذلك يتصور بعضهم تصوراً معيناً لأول اتيانه زوجته، فإذا خالف ذلك التصور الواقع الذي رآه ذهب إلى اتهامها مباشرة، وهذا أمر خطيرٌ جداً، ولذلك الأصل السلامة، وعندما تبحث عن ذات الدين الأصل أنها سليمة، وما أتحدث عنه واقعي طبياً وعملياً معلوم من أسئلة الناس، فلذلك لا تنزل كل ما تعلم من المعلومات على الواقع ثم تنتهي بك القضية إلى اتهام زوجتك بالخيانة ونحوها، ثم هب أنه قد حصل شيءٌ في الماضي فما هو الموقف الشرعي؟ الموقف الشرعي أن يستر الإنسان ما دام يعلم أنها قد استقامت وتابت، وعليه من حالها الآن حتى لو اعترفت له، فإنه يستر عليها وهو مأجورٌ عند الله عز وجل مادامت الفتاة مستقيمة، والصحابة الكرام الأجلاء بعضهم وأد ابنته وشرب الخمر وزنا وفعل وفعل قبل الإسلام، فالتوبة تجب ما قبلها، لكن إذا كانت غير مستقيمة ولا شريفة، ولاحظ منها هذا الاعوجاج المستمر وأشياء منكرة بالأدلة بعد الزواج فهذا لا خير له مطلقاً في الاحتفاظ بهذه المرأة، وعليه أن يفارقها وقد تدخل عليه من ليس من ولده.(234/35)
حكم قراءة الكتب الجنسية
السؤال
يسأل عن كتاب ذكر بعض أهل العلم أن فيه شيئاً من الأدب وشيئاً من قلة الأدب، يعني: فيه أشياء من التصريح والرسومات ونحو ذلك من الأمور غير اللائقة؟
الجواب
هذه قضية ينبغي أو يجدر التنبيه عليها وهي: أن بعض الشباب قبل الزواج وهو لم يخطب ولم يفعل شيئاً يذهب ويقرأ في كتب فيها بعض التفصيلات الضارة بحاله؛ لأنها تثير فيه الشهوة والغريزة بغير فائدة، ويقول: أنا أستعد، تستعد لماذا؟ وبعضهم يتداولون المعلومات، وبعضهم يجلس مع شخص متزوج ليحكي له أشياء، فذاك مجرم يفشي أسرار الاستمتاع وهذا مجرم يسمع للكلام الذي يضره ولا ينفعه، بعض المعلومات مهمة في أول ليلة يدخل بها الرجل على زوجته، يمكن أن يأخذها بطريق شرعي أو من بعض الثقات، لكن هذا التوسع الموجود في القراءة في بعض المجلات صارت المعلومات عامة لم يعد خاصاً، ويقرءون في بعض الكتب ويتداولون الأخبار ويتناقلون الأنباء ويجلسون في مجالس إلى ساعات متأخرة من الليل يحكون في قضايا تفاصيل النكاح، أقول: يا أيها الإخوان! هذا أمر منكر، وهو موجود عند بعض الذين يزعمون التدين، فحذار حذار من هذه الطامة.(234/36)
حكم مسألة زواج المرأة بخالها
السؤال
أعرف شخصاً أخته متزوجة بخاله فما حكم ذلك؟
الجواب
إذا كانت أخته الشقيقة متزوجة من خاله فهذه مصيبة، ويمكن أن تتصور مثل هذه الأشياء في مجتمعات الجهل الفاحش، وتسمع من المنكرات أشياء عجيبة كهذا، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أرسل رجلاً ليقتل من نكح امرأة أبيه، فحكم أن من وطأ ذات محرم أن يقتل محصناً كان أو غير محصن.(234/37)
حكم إعادة صلاة الاستخارة
السؤال
هل يجوز إعادة الاستخارة إذا لم يترجح لديه الأمر عند الزواج؟
الجواب
نعم، يجوز إعادة الاستخارة.(234/38)
حكم شراء شيء بالتقسيط وبيعه نقداً
السؤال
هل يجوز لإنسان شراء سيارة بالتقسيط وبيعها نقداً من أجل الزواج؟
الجواب
هذه مسألة التورق، والراجح جوازها خصوصاً عند الحاجة.(234/39)
حكم دراسة القوانين الوضعية
السؤال
شاب تزوج فتاة كانت تدرس في كلية الحقوق والقوانين الوضعية، وبعد الزواج نصحها الزوج بعدم دراسة القوانين الوضعية؟
الجواب
يجب عليه أن يمنعها إذا كانت تدرس القوانين الوضعية دون أن يكون هناك على الأقل ما يبين مخالفتها للشريعة، والقانون الذي يدرس في بعض البلدان في كلية الحقوق لا ينقد على ضوء الشريعة مطلقاً، ثم ماذا نتوقع أن تعمل في المستقبل محامية وتقف أمام القاضي والشهود والناس في القاعة وإلا ماذا؟(234/40)
حكم الكشف الطبي قبل الزواج
السؤال
ما حكم الكشف الطبي قبل الزواج إذا كانت النتيجة سلبية؟
الجواب
إذا عرف في نفسه عيباً مانعاً من الاستمتاع فإنه يجب الإخبار، كأن يعرف أنه عقيم فالراجح أنه يجب الإخبار.(234/41)
الزواج بالمرأة غير الملتزمة
السؤال
عقدت على ابنة عمي بناءً على رغبة الذي ألح علي وهي غير ملتزمة وحاولت معها بالأشرطة والكتب ولم يؤثر فيها؟
الجواب
لا أنصحك على الإقدام على هذا الزواج وإتمامه.(234/42)
حكم تكلف الهدايا لأهل الزوجة
السؤال
بعض الناس الذين يتزوجون من مناطق بعيدة يثقل كاهله إذا أراد السفر لأنه يجب أن يجلب هدايا لأهلها؟
الجواب
يمكن أن يأتي بهدايا بسيطة ليست مكلفة، ولا يجوز للمرأة أن ترهق زوجها بهدايا لا يستطيع أن يشتريها، وأن تركم عليه ديناً في ذلك، دعوا المجاملات وكونوا مع الشريعة.(234/43)
الزواج بالمرأة قبل بلوغها
السؤال
ما حكم الزواج ببنتٍ قبل بلوغها مع أنها قد تزيد عن اثني عشرة سنة؟
الجواب
يجوز ذلك، وقد سئل أحمد رحمه الله عن السن التي تتزوج به الفتاة البنت؟ فقال: إذا بلغت تسعاً فما فوق فإنها تزوج ويعقد عليها، واستدل بقصة النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة، أما قضية الدخول بالبنت ونحو ذلك فتختلف فيه النساء في قضية البلوغ والنضج، وأن تكون أهلاً للدخول.(234/44)
مدى تأثير الزواج على الناحية النفسية
السؤال
أرجو توضيح مدى تأثير الزواج على الناحية النفسية للشخص؟
الجواب
تأثير إيجابي إن شاء الله، لأنه طمأنينة وسكون.(234/45)
الفرق بين الأرحام والأقارب
السؤال
من هم الأقارب ومن هم الأرحام؟
الجواب
الأقارب هم الأرحام، وهم أقرباء الرجل من جهة أبيه وأمه.(234/46)
الزواج بامرأة ثيب وهي صالحة وتقية
السؤال
يسر الله لي امرأة مؤمنة تقية صالحة مدحت لي من كثيرٍ من الصالحين، وقد نظرت إليها وأعجبت بها، لكنها ثيب، وأنا أريدها فهل تنصحني بها؟
الجواب
نعم، النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن امرأة جميلة وصاحبة دين لكنها لا تلد، فنصحه بالودود الولود، وهذه المرأة ما دام أنها تلد، وتقول: إنك قد أعجبت بها، وأنها صالحة، وأنها شابة صغيرة مثل صفات البكر، نقول: الحمد لله هذا طيب.(234/47)
حكم زواج المرأة بدون ولي
السؤال
هل تتزوج الفتاة بغير ولي؟
الجواب
لا.
حرام؛ لأنها إذا نكحت نفسها من غير ولي فنكاحها باطل، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، ويجب أن يشهد العقد اثنان من المسلمين.(234/48)
حكم تفضيل البكر على الثيب
السؤال
سوف يستمع هذه المحاضرة معظم فئات المجتمع والمرأة الثيب منهم، وهي تستمع مدحك وثناءك على البكر بما ثبت من نصوص القرآن والسنة، فقد يصبن بانكسار القلب، مع العلم أن الفرق بين البكر والثيب قد يكمل في سوء المعاملة، نرجو التوضيح بما هو مناسب؟
الجواب
سبق التوضيح أن ذكر فضل البكر في الشريعة لا يعني ترك الثيب، وأن الإنسان قد يتزوج الثيب لأمورٍ كثيرة، وقد يحتسب فيها أجراً لا يكون في زواجه من البكر.(234/49)
إثم الأب إذا لم يزوج ابنه وعنده استطاعة
السؤال
إذا كان أبي مقتدراً على تكاليف زواجي ولكن يقول: بعد انتهاء الدراسة فهل يأثم؟
الجواب
إذا كان الأب يعلم أن ولده قد يقع في الحرام إذا لم يزوجه وهو قادر والولد غير قادر فيأثم الأب إذا لم يزوج ولده، وإذا صار العنت أو خشي في الوقوع في الحرام وبلغ هذه الدرجة فلا بد أن يزوجه.(234/50)
حكم الاقتراض من بنك ربوي لغرض الزواج
السؤال
هل يجوز الاقتراض من بنك ربوي للزواج خوفاً من أن أقع في فاحشة الزنا؟
الجواب
لا يجوز مطلقاً، لو سأل الناس ومد كفه إليهم ولا يقترض أبداً مالاً ربوياً، وأي خيرٍ في زواجٍ يؤسس من الربا.(234/51)
معنى الاختصاء
السؤال
ما معنى الاختصاء؟
الجواب
هو: استئصال الخصيتين بحيث لا يكون له شهوة، وهذا فيه مثلة لتغيير خلق الله، وربما يؤثر في صفات الرجولة، وربما يندم عليه ندماً شديداً في المستقبل، ولذلك حرمته الشريعة.(234/52)
حكم صلاة الرجل في ملابس النوم
السؤال
هل يجوز الصلاة بالملابس التي جامع بها وأصابه الجنابة؟
الجواب
طبعاً إذا ما كان أصابتها نجاسة فلا بأس، ثياب الجنب طاهرة، وثياب الحائض طاهرة ما لم يصبها شيءٌ من النجاسة.(234/53)
حث الآباء على مساعدة الشباب في الزواج
السؤال
نرجو تقديم النصيحة للآباء والأمهات في مساعدة الشباب على الزواج؟
الجواب
نعم.
هذه مسألة مهمة خصوصاً أن بعض الآباء إذا فاتحه ولده في الموضوع يقول: أنت صغير، وهذا خطأ ينبغي على الأب أن يقدر أن ولده هذا الذي فتح معه الموضوع ربما يكون واقعاً في الحرام أو على وشك الوقوع، فلا يتجاهل هذا الطلب.(234/54)
مشكلة الزواج والدراسة
السؤال
أنا شاب أخاف على نفسي من الحرام ولكن أدرس في الجامعة، الدراسة فيها نوع من الصعوبة، فماذا تنصح؟
الجواب
أقول: إن الزواج -إن شاء الله- لن يعيقك عن الدراسة ولو كانت الدراسة صعبة، بل إن الزواج يوفر لك وقتاً إن شاء الله ومكاناً هادئاً للدراسة.(234/55)
حكم نشر الشباب لأسمائهم وصورهم في المجلات رغبة في الزواج
السؤال
بعض الشباب والشابات بنشر أسمائهم وأوصافهم على صفحات المجلات رغبة في الزواج فما حكم ذلك؟
الجواب
لا شك أن هذا باب فتنة كيف تصف المرأة نفسها في الجريدة أو المجلة لا شك أن هذا من الفتن، بل هذه طريقة للفساد؛ لأنه سيتصل بها وتتصل به.(234/56)
كيفية معرفة رأي الفتاة في العمل والدراسة قبل العقد عليها
السؤال
كيف يعرف رأي الفتاة في العمل والدراسة قبل أن يعقد عليها؟
الجواب
عن طريق أخته أو أمه أو عن طريق أخيها أو أبيها، فإن لم يوجد طريقة من هذا النوع، يكتب ما يريد وتكتب له الجواب بدون زيادة ولا نقصان، أو ذكر أي شيء مما ليس له علاقة بهذه القضايا.
يعني: لا توسع.(234/57)
اشتراط عدم سماع الغناء ومشاهدة الأفلام على العريس
السؤال
تقدم لأختي رجل غير ملتزم لكنه كان متزوجاً وحصل له حادث ماتت فيه زوجته وأولاده، وتقدم لخطبة أختي هل أشترط عليه ألا يسمع الغناء ولا يشاهد الأفلام ويحافظ على صلاة الجماعة؟
الجواب
نعم.
اشترط عليه ذلك.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(234/58)
العدل في العطية بين الأولاد
الإسلام دين عظيم، أنزله الله للناس ليعملوا به ويطبقوه في حياتهم حتى تستقر أمور دنياهم، ومن أعظم ما أنزل الله العدل.
ومن الأمور التي يتعلق بها العدل: العدل في العطية بين الأولاد مراعاةً لنفوسهم وشعورهم، لأن بعض الأبناء إذا رأوا من آبائهم ظلماً تمردوا عليهم وأصبحوا لا يطيعونهم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أولادكم في النحل، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف).(235/1)
حديث النعمان بن بشير
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
الحمد لله الذي جعل العدل الميزان بين الخلق، والحمد لله الذي قامت السماوات والأرض بالعدل بحكمته عز وجل، والعدل أساس مصالح البشر، والشريعة مبنية على العدل، وهو من أحكم الحاكمين، وهو العدل اللطيف الخبير العليم الحكيم، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والنسائي: (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم).
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الطبراني: (اعدلوا بين أولادكم في النحل، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف) والنحل: هو ما ينحله الوالد لولده من العطايا والهدايا.
وقد أخرج أبو داود في سننه باب في الرجل يفضل بعض ولده في النحل، عن النعمان بن بشير قال: (أنحلني أبي نحلة غلاماً له -عنده عبد أعطاه لولده- قال: فقالت له أمي - عمرة بنت رواحة -: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشهده، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: إني نحلت ابني النعمان نحلاً، وإن عمرة سألتني أن أشهدك على ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألك ولد سواه؟ قال: قلت نعم، قال: فكلهم أعطيت مثلما أعطيت النعمان؟ فقال: لا.
فلما قال لا، قال عليه الصلاة والسلام: فأرجعه) وفي رواية: (فرده) وفي رواية: (فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، فرجع أبي في تلك الصدقة) وفي رواية: (فلا تشهدني إذاً فإني لا أشهد على جور) أي: ظلم، وفي رواية: (فأشهد على هذا غيري) وفي أخرى: (أيسرك أن يكون بنوك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذاً) وفي لفظ: (أفكلهم أعطيتهم مثل ما أعطيته؟ قال: لا.
قال: فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق) وكل هذه الروايات والألفاظ في الصحيح.(235/2)
اختلاف العلماء في حكم التفضيل بين الأولاد
وزعم بعض أهل العلم أن التفضيل مكروه، ولكن المتأمل في الحديث ورواياته وألفاظه يعلم علماً بأن التفضيل محرم، وأن المساواة بين الأولاد في الأعطيات واجبة، وأن الذي يخالف في ذلك فهو آثم، واستدل من قال بالكراهية بقوله: (أشهد على هذا غيري) وهذا اللفظ تهديد، وليس إذناً أبداً لتسميته عليه الصلاة والسلام بذلك الأمر جوراً، وهذه الألفاظ التي سقناها كما ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله صحيحة صريحة في التحريم والبطلان من عشرة أوجه، تؤخذ من الحديث، وقد ألف في ذلك مصنفاً مستقلاً.
وقوله: (أشهد على هذا غيري) فإنه ليس إذناً منه قطعاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن في الجور ولا فيما لا يصلح ولا في الباطل، فإنه قال: (إني لا أشهد إلا على حق) فدل ذلك على أن الذي فعله والد النعمان لم يكن حقاً بل باطلاً، فقوله إذاً: (أشهد على هذا غيري) حجة على التحريم كما قال تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40] وكما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) هل يعني هذا: أن الذي لا يستحي يجوز أن يصنع ما يشاء؟ كلا.
بل هو توبيخ وتقريع وتهديد.
وقال رحمه الله في إغاثة اللهفان تحت مبحث سد الذريعة، وأمر صلى الله عليه وسلم بالتسوية بين الأولاد في العطية وأخبر أن تخصيص بعضهم بها جور لا يصلح، ولا تنبغي الشهادة عليه، ولا يجوز أن تشهد لو قال لك أب: اشهد يا جاري على أن هذه الأعطية لأحد أولادي دون الآخرين قل له: لا أشهد: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2].
إن كانت شهادة زور وظلم فلا تشهد، قال تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام:150] وأمر فاعله برده، ووعظه وأمره بتقوى الله تعالى، وأمره بالعدل لكون ذلك ذريعة إلى وقوع العداوة والبغضاء بين الأولاد، وقطيعة الرحم كما هو مشاهد عياناً، فلو لم تأت السنة الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها بالمنع منه، لكانت أصول الشريعة والقياس يقتضيان العدل ووجوبه بين الأولاد.
وتأمل قوله عليه الصلاة والسلام لـ أبي النعمان بن بشير، وقد خص ابنه بالنحل: (أتحب أن يكونوا في البر سواء؟) كيف تجد كلامه عليه الصلاة والسلام؟ مبيناً الوصف الداعي إلى شرع التسوية بين الأولاد، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات، فكما أنك تحب أن يكونوا سواء في برك وألا ينفرد أحدهم في برك دون الآخرين، فكيف ينبغي أن تفرد أحدهم بالعطية وتحرم الآخر؟.
وقال في إعلام الموقعين في علة النهي في الفتوى: ينبغي للمفتي أن يذكر الحكم بدليله، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لـ أبي النعمان بن بشير: (أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم، قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) وفي لفظ: (إن هذا لا يصلح إني لا أشهد على جور).
وقال رحمه الله في الإعلام في ذكر طرف من تخبط المقلدين في الأخذ ببعض السنة وترك البعض الآخر، واحتجوا على جواز تفضيل الأولاد على بعض بحديث النعمان بن بشير وفيه: (أشهد على هذا غيري) ثم خالفوه صريحاً، فإن في الحديث نفسه: (إن هذا لا يصلح) وفي لفظ: (إني لا أشهد على جور) وقال: فقالوا: بل هذا يصلح وليس بجور، ولكل أحد أن يشهد عليه.
فانظر كيف خالف المقلدة المتعصبون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدلوا على الإباحة على أن أبا بكر قد أعطى أحد أولاده عشرين وسقاً دون سائر أولاده،
و
الجواب
أن أهل العلم قد ذكروا ضعف هذا الحديث في طريقين، وأنه يُحتمل أنه خصها لحاجة، وإذا حصل الاحتمال بطل الاستدلال، وافرض أنه صحيح ولا احتمال هناك، فهل تعارض بفعل صحابي حديثاً صحيحاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وممن قال بوجوب التسوية من أهل العلم الإمام البخاري رحمه الله، وطاوس والثوري وأحمد وإسحاق وبعض المالكية، قال الشوكاني: فالحق أن التسوية واجبة، وقال الإمام أحمد في دخول الأم مع الأب في وجوب التسوية، قال: إن حج بها ولدها دون أخويه، تعطيه أجرته وتسوي بين أولادها -تعطيه الأجرة فقط، وتسوي بين أولادها- ولا يجوز لها أن تخص أحداً من أولادها دون أحد، فإن فعلت أثمت كما يأثم الأب، ووجب عليها أخذ الزائد كما يجب على الأب، أو زيادة الأولاد الآخرين، إذا أعطيت واحداً زيادة دون سبب إما أن تعطي الآخرين مثله أو أن تسحبها من الولد الذي أعطيته، وحديث النعمان دليل على جواز رجوع الأب في عطيته وهبته للولد إذا كان ظالماً.
والعطية والهبة لا يجوز الرجوع فيها على القول المختار لحديث: (ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب في يعود في قيئه بعد إلقائه) لكن الأب يجوز له أن يرجع في العطية والهبة، ولو لم يساو ومات قال الإمام أحمد: يرد على بقية الأولاد ويوزع بينهم بالتساوي، ولا وصية لوارث، لا يجوز أن يكتب في الوصية لأحد الأولاد، لأن الله قسم بينهم في القرآن والسنة، فلا وصية لوارث، لا يكتب لأحد الورثة في الوصية شيئاً أبداً، ويجوز للأب أن يرجع إلا إذا تغيرت الهبة عند الولد، مثل أن سمن الغنم، أو أعطاه مالاً ثم نماه الولد، فلا يجوز له أن يأخذه بعد التنمية، وبعد أن زاد بمجهود الولد.(235/3)
كيفية العدل بين الذكور والإناث
ويسأل الناس فيقولون: لقد عرفنا أن العدل بين الأولاد واجب، وهم ذكور وإناث، فكيف نعدل بينهم؟ قال بعض أهل العلم: يجب العدل بينهم (الذكر مثل الأنثى) وقال بعضهم: يجب العدل بينهم كما عدل الله في كتابه، فالله عدل بينهم، لأن للذكر مثل حظ الأنثيين، وعلى ذلك لو أعطيت الولد مائة تعطي البنت خمسين، وهذه هي طريقة الشريعة في الدية وفي الإرث وفي العقيقة وغير ذلك، ولأن الذكر صاحب حاجة أكثر من الأنثى، ولذلك لما سأل بعض الإخوان فقال: إني آخذ من راتبي مائة ريال -مثلاً- وأسجله باسم ولدي فلان، أوفره له وآخذ خمسين وأسجلها باسم ابنتي فلانة، فنقول: لقد جوز بعض أهل العلم هذا، ولك أن تفعل هذا في التوفير لأولادك إذا أردت.
ومن عمق هذه المسألة قال أهل العلم: يعدل بين الأولاد حتى في البشاشة والترحيب والتقبيل، قال إبراهيم رحمه الله: كانوا يستحبون أن يسوى بينهم حتى في القُبَل، ولا يخص أحداً بطعام دون آخرين لغير سبب، وقد تدعو الحاجة لتخصيص أحد الأولاد بنوع من الشفقة، كما إذا كان مريضاً، أو زيادة في الترحيب كما إذا قدم من السفر، وهذا لا بأس به لقيام السبب الموجب لذلك، وفي الأشياء التافهة تسامح أهل العلم في عدم العدل فيها كقطعة -مثلاً- من الحلاوة ليس عنده غيرها، أعطاها للصغير -مثلاً- ولكن الأصل أن يعدل بينهم لو استطاع.
واعلموا -أيها الإخوة- أن كثيراً من الناس لا يتقون الله، كثير من الآباء يظلمون أولادهم، فتجد الواحد منهم يميل إلى أحد الأولاد لسبب تافه، كأن يكون هذا الولد أوسم من إخوانه وأجمل في الشكل والصورة فيميل إليه، أو أن الولد يشبه أباه، والولد الآخر يشبه أمه، فيقول: أنت منا ويعطيه، ويقول للآخر: أنت لأخوالك فاذهب، هذا من الأسباب التافهة التي يتركب عليها الظلم بالأولاد، وكذلك أن يدخل بعض الآباء أولاد الزوجة الأولى في مدارس خاصة، وأولاد الزوجة الثانية في مدارس عادية، هذا من الظلم أيضاً، يجب أن يساوي بينهم، وهذا الظلم وعدم التسوية تولد الغيرة والحسد بين الأولاد بعضهم على بعض، تربية سيئة، ولنا في قصة يوسف عبرة: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} [يوسف:8].
مع أن يعقوب عادل، لكن محبته القلبية سببت هذا، فكيف بالظلمة: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} [يوسف:5] فكيف بمن يتعمد الظلم بين الأولاد، ويسأل بعض الإخوان فيقول: لي أولاد يعطونني من رواتبهم، وأولاد آخرون لا يسألون عني فماذا أفعل؟ وأنا أريد أن أعطي هؤلاء شيئاً؟ وقد أجاب الشيخ/ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن هذا السؤال بما ملخصه: لو كان الأولاد يعطونك من رواتبهم لك لتتملكه براً بك، فيجب العدل ولا تعطيهم شيئاً بعد أن تملكته زيادة على إخوانهم، أما لو أعطوك المال لتحفظه لهم، ولتوفره لهم، أي أن بعض الأولاد يعطي راتبه كاملاً للأب ليحفظه له، وهو ينوي أن أباه سوف يعطيه إياه في المستقبل أو جزءاً منه على الأقل، فعند ذلك يجوز للأب أن يعطي الولد ما لا يزيد عما أعطاه الولد في البداية، وكذلك بعض الآباء من أصحاب الشركات والمؤسسات والدكاكين مثلاً يشتغل معه ولده في الدكان أو الشركة، والأولاد الآخرون موظفون بوظائف مستقلة، فما هو الحكم؟
الجواب
له طريقتان: إما أن يعطي الولد الذي يشتغل معه أجرة بنفس ما إذا كان العامل غير ابنه، أو أن يدخل الولد شريكاً معه، فيقول: يا بني! تريد أن تعمل معي وتفرغ لي وقتك، وتنشط أعمالاً فادخل معي شراكة في الربع مثلاً؟ فإن اتفقا على هذا كانت شركة، دون أن يظلم بقية الأولاد.
كونه يشتغل معك لا يعني أن تظلم بقية الأولاد، وكذلك إذا خلص الولد قطعة أرض لأبيه وجرت المعاملة حتى أنهاها، فإن الوالد يجوز أن يعطيه أتعابه، كما يعطي المحامي وكما يعطي المخلص.
وكذلك إذا اضطر أن يعطي الولد راتباً لئلا يتركه كما تركه بقية الأولاد، فهذا جائز، وإذا بلغ الولد سن الزواج فإنه يجب على الأب أن يزوجه إذا كان قد زوج إخوانه الكبار، مثلما زوجهم يزوجه لو كان عنده قدرة وطاقة، وإذا مات الأب وأوصى للولد الذي لم يتزوج بمقدار مثلما زوج به إخوانه يجوز هذا، لكن لو مات وهو صغير، فلا يجوز له بشيء وإنما حظه مثل حظ إخوانه في التركة.
وكذلك يجب العدل بين الأولاد، وأن يراعي ذلك ولا يفضل أحداً على أحد إلا لمسوغ شرعي بالزيادة، فمثلاً لو كان أحد الأولاد فقيراً والآخرون أغنياء، كان يكون أحد الأولاد عنده عائلة كبيرة والآخرون ليس عندهم ذلك، فيجوز أن يدعم الأب ابنه في هذه الحالة لوجود السبب، ليسوا سواء الآن، كذلك لو أرادت إحدى بناته أن تتزوج يعطيها بمناسبة الزواج ذهباً ونحوه، فإذا تزوجت البنات الباقيات يعطيهن مثلما أعطى ابنته، وقال أحمد: يعوض البنات الباقيات، وكذلك ما يتفاضل به بعضهم على بعض من الطعام والكسوة -مثلاً- فلا شك أن الولد الكبير يحتاج إلى ثياب أكثر مما يحتاج الولد الصغير مثلاً.
هذا الاختلاف لا بأس به، والولد الأكبر يأكل أكثر من الولد الأصغر فلا بأس، والبنت تنفق على ملبوسها أكثر مما ينفق الذكر لا بأس بذلك، وتحتاج إلى حلي والولد لا يحتاج لا بأس بذلك، فهذا سبب تفاوت الطبيعة بينهم، الولد قد يحتاج إلى سيارة والبنت لا تحتاج، وكذلك إذا وقع أحد الأولاد في مصيبة مثل ما إذا ترتب عليه دية بسبب حادث فيجوز للأب أن يسدد عن ولده، أو لحقه فقر أو دين يسدد عنه والده، وكذلك ألعاب الأطفال، فإنه لا شك أن الولد الصغير حاجته للألعاب ليس مثل الذي أكبر منه، ولو أنه اشترى لهم دراجات فلا شك أن دراجة الولد الأكبر ستكون أغلى من دراجة الولد الأصغر فمثل هذا لا بأس به، لأنه شيء موجود في أصل خلقتهم وفي طبيعتهم مختلفون.
وكذلك إذا أعطى لأحدهم في ظرف من الظروف مالاً، فينبغي أن ينوي أن الأولاد الآخرين لو مروا بنفس الظرف فإنه سيعطيهم مثلما أعطى أخاهم أو أختهم، ينوي أن يعطيهم في المستقبل، وكذلك فإذا أراد أن يعطي ولده الأكبر سيارة مثلاً، وليس عنده ما يعطي إخوانه الآخرين سيارات، والسيارة لقضاء أغراض البيت أو يذهب بها الولد إلى الجامعة ونحو ذلك، فإنه يجعلها عند ولده عارية، ولا يجعلها هبة للولد، تبقى باسم الأب، يقضي فيها الولد الكبير حاجاته، ويقضي حاجات البيت، وإلا فينبغي أن يساويهم في الأعطيات، نبهنا على هذا شيخنا عبد العزيز حفظه الله.
أيها الإخوة: العدل من شريعة الله، بنيت شريعة الله على العدل، فينبغي على المسلمين أن ينتبهوا لهذه الأمور، وإلا فإن الظلم مرتعه وخيم وعاقبته سيئة، والله لا يهمل الظالم، وإنما يمهله حتى إذا أخذه لم يفلته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(235/4)
جواز منع الأعطية عن الولد الفاسق
الحمد لله الذي لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وهو أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين سبحانه وتعالى، حرم الظلم على نفسه وجعله محرماً بين عباده، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الذي حكم بشريعة ربه وبالقسطاس المستقيم.
أيها الإخوة: ومن المسوغات الشرعية لتفضيل بعض الأولاد على بعض؛ أن يكون أحدهم طالب علم متفرغاً لطلب العلم، فيجوز لأبيه أن يعطيه راتباً لتفرغه، أو يشتري له كتب العلم؛ لأنه أنبغ من إخوانه في طلب العلم، وكذلك لو أن أحدهم -مثلاً- حفظ شيئاً من القرآن، فأعطاه الأب مكافأة لأنه حفظ من القرآن ما لم يحفظ إخوانه؛ فإن هذا أمر جيد ومستحب ومشجع لبقية الأولاد أن يحذوا حذو أخيهم الذي نبغ في العلم أو في حفظ القرآن مثلاً، أو لتفوقه العلمي، وجديته في الدراسة، وأنتم تعلمون بأن إعطاء أحد الأولاد زيادة لسبب شرعي على إخوانه لا بأس به، والمحرم أن يعطي أحدهم بلا سبب، وأن يميز أحداً منهم بلا سبب شرعي.
وكذلك يجوز للأب بل يجب عليه أن يمنع الأعطية عن الولد الفاسق، أو المبتدع، أو الذي سوف يستعملها في معصية الله عز وجل، أو ينفقها في معصية الله ومحادته سبحانه وتعالى، وكثيرٌ من الآباء عندهم اعوجاج فكري في هذه المسألة، فتراه يعطي الولد العاصي الفاسق، يقول أنت تحتاج إلى بنطلونات وأنت تحتاج إلى ثياب السهرات والحفلات، وأنت تحتاج أن تأكل في المطاعم الراقية، وأنت تحتاج أن تصرف على شلة الفساد، ويعطيه.
يعطيه ويدعمه ويعينه على المعصية وعلى الإثم وعلى الفسق، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد يكون عنده ولد آخر متدين، لا يسأل أباه شيئاً، هو بارٌ بأبيه، لم يفتح فمه، ولم يتطاول على الأب، فينتهز الأب الفرصة ويقول: هذا المسكين الدين القنوع لا يحتاج، ويعطي ذلك الفاسق بدلاً من العكس، وهو أن يمنع المال عن الفاسق الذي سوف يستخدم المال في السفريات المحرمة، وشراء المخدرات والمعاصي والإنفاق على أصدقاء السوء ونحو ذلك.
والمفروض أن يدعم الولد المتدين الملتزم بدينه؛ لأنه عنده نفقات لطلب العلم، ولإخوانه، ويتصدق، والفاجر يضعها على ظهرك يوم القيامة.
ومن الأمور السيئة أيها الإخوة: أن يعاون بعض الآباء أبناءهم على الإثم والعدوان وأن يمدوهم بالأموال.
يحدث أحد رجال الأمن في مطار من المطارات، يقول: جاءنا ولد عمره خمسة عشر عاماً يريد أن يسافر إلى بانكوك، معه تذكرة، قال له: النظام لا يسمح، لا بد من موافقة أبيك، قال: أبي موافق، هذا تلفون السيار اتصل على أبي، يتصل على أبيه: فلان؟ نعم، ابنك فلان؟ نعم، هو عندنا في المطار يريد أن يذهب إلى بانكوك، قال: نعم.
أنا أذنت له، أنا أعطيته ثمن التذكرة، أذنت ليلحقنا بعد ذلك إلى باريس، قاتلهم الله.
كم يجني الآباء على أبنائهم -أيها الإخوة- كم يجنون على أبنائهم في مثل هذه الأمور، كيف وقع كثير من الأبناء في المعاصي؟ كيف وقعوا في المحرمات إلا بسبب أن الأب لا يبالي بإعطاء ولده، يعطيه ويعطيه وهو يعلم أنه ينفقها في الفساد، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وعلى الأب العاقل ألا يستجيب لضغط الأم، فالأم أحياناً تلين بعاطفتها، تعلم أن الولد ينفق في المحرمات لكن مع الضغط والإلحاح تقول للأب: أعطه، أعطه، الأب العاقل لا يستجيب، ويعلم أن مصلحة الولد بعدم إعطائه ليستعين بها على المحرمات.
وتنبيه أخير أقوله للأبناء: افرض أن والدك قد ظلمك وفضل عليك إخواناً لك، فلا تقع في خطأ المقابل فتعق أباك، فترتكب جريمة أعظم من التي فعلها أبوك، أبوك ظلم بإعطائه لأحد إخوانك شيئاً أكثر مما أعطاك، لا تقابله بجريمة أكبر وهي عقوق الوالدين، انصحه واصبر عليه والله يحكم بينه وبينك وهو خير الحاكمين.
اللهم إنا نسألك السداد في الأمر، اللهم إنا نسألك أن توجهنا الوجهة الصحيحة، وأن تجعلنا ممن يكسبون أموالهم من الحلال وينفقونها في الحلال، اللهم ارزقنا العدل بين أبنائنا والصبر على آبائنا، اللهم ارحمنا وارحم آباءنا وأجدادنا، اللهم واغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنا نسألك العون على الدَين، ونعوذ بك من الدَين وقهر الرجال، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم أنت أكرم الأكرمين، أنت الغني ونحن الفقراء أغننا من فضلك، اللهم إنا نعوذ بك من الغنى المطغي ومن الفقر المنسي، اللهم أغننا ولا تطغنا، واجعل بلدنا هذا رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا فيه، وأطعمنا من خيراته، اللهم لا تجعلنا ممن يظلمون أنفسهم ويظلمون الناس.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(235/5)
المدح
كثير من الناس اليوم يطلقون ألفاظ المديح والثناء ويكيلونها لكل أحد، حتى لو لم يكن أهلاً لها، بل ربما كان منافقاً أو كافراً والعياذ بالله.
وهذه المسألة تؤدي إلى مخاطر على الشخص المادح والممدوح، سواء كان الخطر اجتماعياً أو في دين الشخص وعلاقته بربه عز وجل؛ لذا فقد جاء الشرع بضبط هذه المسألة ووضع الشروط الحاكمة لها دون إفراط أو تفريط.(236/1)
ما يترتب على المدح من فساد
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.(236/2)
فساد اجتماعي
إخواني المسلمين: إحدى المشاكل الاجتماعية التي هي واقعة بكثرة في حياة المسلمين اليوم شيء مما يتعلق بعيوب اللسان، وهذا العيب وهذه الآفة تؤدي إلى مخاطر كثيرة، هذه الآفة: مسألة التمادح.
كثير من الناس اليوم يطلقون ألفاظ المديح والثناء ويكيلونها لكل أحد حتى ولو لم يكن أهلاً لها، فتجد هذا يقول: فلان الفلاني كذا وكذا من ألفاظ المديح، وهذا الرجل من أفجر الناس ومن أفسق الناس، وقد يكون منافقاً أو كافراً والعياذ بالله.
هذه المسألة أيها الإخوة! كيل الثناء والمدح لمن ليس له بأهل تؤدي إلى مخاطر كثيرة سواء على الصعيد الاجتماعي في قضايا الزواج مثلاً أو التعامل والوظائف، لأن الإنسان إذا مدح رجلاً فإنه يوثقه عند الآخرين، فقد يستخدمونه وهو ليس بأهل للاستخدام في هذا الجانب، وقد يؤدي إلى إفساد قلب الرجل ونيته؛ لأن كيل ألفاظ الثناء والمدح مما يخرب الإخلاص ويجرحه تجريحاً، ولذلك كان لا بد من إلقاء الضوء على هذه المسألة بحسب ما جاء في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثه، وما ذكر العلماء في هذه القضية.(236/3)
فساد الشخص نفسه
اعلموا رحمكم الله تعالى أنه قد ورد في الحديث الصحيح عن همام بن الحارث أن رجلاً جعل يمدح عثمان رضي الله عنه، فعمد المقداد -أحد الصحابة وكان جالساً في المجلس- فجثا على ركبتيه وكان رجلاً ضخماً فجعل المقداد الصحابي يحثو في وجه المادح الحصباء، الحصى الصغير مع التراب يحثوه في وجه المادح، فقال له عثمان: (ما شأنك؟ ماذا جرى لك؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب) رواه مسلم.
وعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير قال: [مدحك أخاك في وجهه كإمرارك على حلقه موسي رهيصاً].
كأنك تمرر على حقله موسى شديداً وحاداً جداً.
ومدح رجل ابن عمر رضي الله عنه في وجهه، فقال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب، ثم أخذ ابن عمر التراب فرمى به في وجه المادح وقال: هذا في وجهك، هذا في وجهك، هذا في وجهك، ثلاث مرات) أخرجه أبو نعيم، قال في الصحيحة: السند جيد.(236/4)
توضيح لكيفيةحثو التراب
هذا الفعل أيها الإخوة -حثو التراب في وجوه المداحين- من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا بد عند تطبيق الأحاديث من مراعاة أحوال الحديث، فهذا لا يقول لك بأنه إذا جاءك رجل يمدحك الآن فإنك تأخذ التراب وترميه في وجهه مهما كان حاله، كلا يا أخي! فلا بد من مراعاة حال المادح فقد يكون جاهلاً لأحكام المدح وما يترتب عليها، ثم إن ابن عمر رضي الله عنه من فقهه أنه علَّم الرجل أولاً وقرأ عليه الحديث ثم حثا في وجهه التراب.
ثم أنك إذا رأيت بأن حثو التراب في وجه هذا المادح قد يباعد فيما بينك وبينه، ويصده عن الإسلام، ويمنعه من التأثر فيك أو الاقتداء بك فإن من الحكمة في هذه الحال عدم استعمال هذا، ليس تعطيلاً للحديث وإنما حكمة في الدعوة إلى الله، وترفقاً بالجاهل.
وكذلك يا أخي المسلم! فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذا الحديث: (احثوا في وجوه المداحين) وأتى بصيغة المبالغة (المداحين) وهم الذين يكثرون المدح ويستعملونه بكثرة فيجعلونه صنيعهم ودأبهم الدائب.
قال ابن العربي رحمه الله: وصورة تطبيق هذا الحديث أن تأخذ كفاً من تراب وترمي به بين يديه، وليس في وجهه فتعمي به عينيه، كلا، وإنما ترميه أمامه، لماذا؟ فإنك تقول له: ما عسى أن يكون مقدار من خلق من هذا.
لماذا قال عليه السلام التراب؟ من الحكم أيها الإخوة: أنك تأخذ التراب وترميه أمامه وتقول له: أنا خلقت من هذا التراب، فهل أنا أهل لهذا المديح وما خلقت إلا من الطين؟ وأنت كذلك ما خلقت إلا من هذا التراب فاربأ بنفسك عن هذه الآفات التي تعرضك إلى ما لا يُحمد عقباه، وتعرف المادح قدرك وقدره.
قال النووي رحمه الله: ومدح الإنسان قد يكون في غيبته وهو غير موجود، وفي وجهه، ففي الحالة الأولى إذا مُدح وهو غائب عن المجلس فإن هذا المدح لا يمنع منه إلا إذا دخل المدح في الكذب حتى ولو كان الممدوح غير موجود؛ لأنه يدخل في الكذب لا لكونه مدحاً.
ويستحب كذلك أيها الإخوة: أن الإنسان إذا مدح ألا يبالغ حتى ولو كان الممدوح أهلاً لهذا المدح، كما سيمر معنا بعد قليل.(236/5)
علل وآفات يسببها المدح للمدوح
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم خطورة المدح فقال: (إياكم والتمادح فإنه الذبح) فإنه في خطورته مثل الذبح، مدحك لأخيك في وجهه مثل أن تذبحه بالسكين.
رواه ابن ماجة، وهو في صحيح الجامع.
وقال أيضاً: (ذبح الرجل أن تزكيه في وجهه) هذا قوله عليه السلام، وهو حديث مرسل تشهد له أحاديث أخرى، وهو في صحيح الجامع.
هذا المدح أيها الإخوة يسبب عللاً كثيرة وآفات كبيرة في دين المادح والممدوح، فلذلك سماه عليه الصلاة والسلام ذبحاً لأنه يميت القلب ويخرج الممدوح عن دينه، وفيه ذبح للمدوح أيضاً من جهة أنه يغره بأحواله ويغريه بالعجب والكبر، ويرى نفسه أهلاً للمدحة لا سيما إذا كان من أبناء الدنيا، لذلك قال بعض السلف: لو أن إنساناً صنع إليك معروفاً وهو يحب المدح والثناء والظهور بين الناس فلا تمدحه على صنيعه، لا تمدحه ولكن ادع له أدعية، مثلما قال عليه الصلاة والسلام: (من صنع لأخيه معروفاً فقال له: جزاك الله خيراً فقد أجزل في العطاء، أو فقد أجزل في الثناء).
الدعاء له لا بأس به، أما لو شعرت بأن هذا الرجل الذي صنع لك معروفاً وهو يحب من وراء هذا المعروف أن تمدحه وتثني عليه في المجالس، وتذكر سيرته أمام الناس ففي هذه الحالة لا تمدحه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ناهياً عن الإطراء وهو الزيادة في المدح، قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى) ما قال عليه السلام لا تمدحوني، ولكن قال: (لا تطروني) والفرق أيها الإخوة! أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستحق المدح، ومع ذلك فقد أوصانا بعدم إطرائه، والإطراء هو المبالغة في المدح حتى يرفعه فوق قدره ومنزلته التي أنزله الله إياها.
ولذلك قال بعض العلماء: ويحرم مجاوزة الحد في الإطراء في المدح وترد به الشهادة.
كان قضاة المسلمين إذا جاء رجل معروف بالإطراء والزيادة في المدح، وعادته الثناء على الناس بما ليسوا له بأهل كانوا يردون شهادته ولا يقبلونها.
وهذه الحالة أيها الإخوة! معروفة في الشعراء كثيراً، ولذلك قال بعضهم: لا تؤاخي شاعراً لأنه يمدحك بثمن ويهجوك مجاناً، يمدحك ويأخذ أجراً على هذا الشعر، ولكنه إذا أراد أن يهجوك هجاك مجاناً، ولذلك وقع من جراء التمادي في المدح في بعض أشعار السابقين واللاحقين أشياء لا يرضاها الله تعالى، فمن ذلك قول الشاعر ابن هانئ الأندلسي، وهو يمدح المعز المعبدي مخاطباً له، وصل به الإطراء إلى درجة أنه قال له هذا البيت مخاطباً إياه:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
هذه الصفات لمن أيها الإخوة؟ هذه الصفات لله عز وجل، هو الذي يشاء ومهما شاء البشر فمشيئته نافذة، وهو الذي يحكم وهو الواحد القهار، وصل الحال بهذا الشاعر لدرجة أن خرج عن الملة بإطلاق هذه الألفاظ على عبد من العبيد.
وروى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: عن أبي موسى قال: (سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يثني على رجل ويطريه في المدحة -يبالغ في المدح- فقال: أهلكتم، أو قطعتم ظهر الرجل) وترجم عليه البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الشهادات، قال معنوناً: باب ما يكره من الإطناب والمدح.
وعن أبي بكرة رضي الله عنه: أن رجلاً ذُكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجلٌ خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحك، ويحك، ويحك! قطعت عنق صاحبك يقول ذلك مراراً).
يقول له: ويحك قطعت عنق صاحبك (إن كان أحدكم مادحاً لا محالة -يقول عليه الصلاة والسلام موجهاً للأمة: إن كان أحدكم لا بد أن يمدح- فليقل: أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك).
ليس فقط أن يقول المدح، وهذا لا يعني أن يستاهل في المدح حتى ولو قال: أحسبه كذا لا بد أن يكون مصلياً حتى تقول: أحسبه من أهل الصلاة، أما إن كان غير مصلٍ فلا يجوز أن تقول له من أهل الصلاة حتى لو قلت قبلها أحسبه، لأنه ليس من أهل الصلاة، فيقول عليه الصلاة والسلام: (إن كان يرى أنه كذلك، والله حسيبه، ولا يزكي على الله أحداً) لذلك إن رأى إنسان أن يمدح إنساناً لحاجة شرعية أو مصلحة شرعية فليقل في مدحه: أحسبه والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً أن الرجل هذا من أهل كذا.
وبوب النووي رحمه الله تعالى على هذا الحديث باب: كراهة المدح في الوجه لمن خيف عليه مفسدة من إعجاب ونحوه وجوازه -يعني: بلا كراهة- لمن أُمن ذلك في حقه، وذلك لكمال تقواه ورسوخ عقله ومعرفته.(236/6)
شروط جواز المدح
شرط جواز المدح ألا يكون فيه مجازفة، فإذا كان فيه زيادة عن حال الرجل ومجازفة فإنه عند ذلك لا يجوز مطلقاً.
وكذلك أيها الإخوة من أفرط في مدح آخر بما ليس فيه فإن الممدوح لا يأمن على نفسه العُجب، فربما ضيع العمل والزيادة من الخير اتكالاً على ما وصف به، لو أنك أخذت إنساناً ومدحته وقلت: أنت كذا وكذا أمام الناس أو بمفرده ماذا يحصل لهذا الرجل؟ يحصل بسبب مدحك إياه بأنه قد وصل إلى منزلة عالية من الخير، وأنه عند الله في كذا وكذا، وأنه من أهل الجنة مثلا، هذا الشيء يدفعه إلى ترك العمل لأنه يشعر بأنه قد أمن على نفسه، وبأنه قد أصبح في المنزلة العالية، ولذلك قال العلماء: إن الرجل لا يعمل إلا إذا أحس بالتقصير، فأنت إذا مدحته مدحاً زائداً فإنك تزيل عنه التقصير من نفسه، تزيل عنه الإحساس بالتقصير فلذلك يتكاسل عن العمل ويتوانى، هذه أيها الإخوة من أضرار الإفراط في المدح.
وأما من مدح إنساناً بما فيه وكان هذا الرجل من أهل الصلاح والتقوى، ولا يوجد عنده حب للظهور، أو لا يوجد عنده اغترار بالكلام الذي سيمدح به فإنه والحالة هذه لا يكره مدحه، ولكن هذا الأمر لعمر الله يحتاج إلى فراسة إيمانية لا تتوفر لكثير من الناس، لذلك كان الأحوط ألا تبالغ في المدح ولا تمدح إلا للضرورة الشرعية.
ولذلك قال ابن حجر رحمه الله في الفتح: وقد ضبط العلماء المبالغة الجائزة من المبالغة الممنوعة، بأن الجائزة يصحبها شرط أو تقريب والممنوعة بخلافها.
يعني: أنت أحياناً تضطر إلى المدح فماذا تقول في مدحك؟ فلان إن شاء الله من أهل الخير ما دام متمسكاً بالدين، أو ما دام متبعاً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا الشرط أو التقريب ما دام متبعاً مهمٌ جداً لكي يكون المدح شرعياً وإلا كان إطلاق المدح: فلان من أهل الخير والصلاح هكذا تزكية ومدح بدون قيد أو شرط، هذا المدح يخشى أن يكون مما لا يرضي الله عز وجل، أو تقول: فلان نحسبه من كذا على سبيل التقريب، نحسبه من أهل كذا، هذه الصيغة لا بأس بها إذا احتاج الإنسان إليها.(236/7)
ما يسببه المدح للمادح
وكذلك فإن المادح نفسه يتضرر من وراء هذا المدح، فيضطر للكذب في المدح، وقد يضطر للرياء، وقد يرتكب منهياً عظيماً من المنهيات وهو يمدح إنساناً فاسقاً أو ظالماً، وقد يطلق الكلام لا على سبيل التحقق يقول: فلان من أهل كذا، وفلان صفته كذا وهو ما تحقق ولا تأكد؛ خصوصاً أيها الإخوة أن بعض الأشياء التي يمدح بها بعض الناس لا سبيل إلى التأكد منها مطلقاً، لأنها قد تكون أشياء قلبية، كيف اطلعت على قلبه لتقول هذا الرجل من المخلصين وإيمانه كامل، وكذا وكذا؟ والإيمان محله القلب ويصدقه العمل، أنت تحكم بالعمل فقط ولم تطلع على قلبه؟ وتحكم لفلان من الناس بكمال الإيمان وهي مسألة الحكم بها مستحيل لأنها تحتاج على اطلاع على القلب، وهذا ليس إلا لله عز وجل.(236/8)
عادة السلف وأهل العلم في المدح
أيها الإخوة: بعض الناس قد يقول: فلان ورع، فلان تقي، فلان زاهد، هذا المدح ليس بصحيح، هذا بخلاف ما إذا قال: رأيت فلاناً يصلي، رأيت فلاناً يحج، رأيت فلاناً يزكي.
لو طلب منك شهادة في فلان في مسألة زواج مثلاً، لا تقول: فلان ورع وتقي وعابد وزاهد وكامل الإيمان، ولكن تقول مثلاً: أنا رأيته يصلي، رأيته يدعو إلى الله على بصيرة، رأيت فيه علماً، فلا تطلق الألفاظ، تقول هذا الكلام مما يسهل الاطلاع عليه لأنه يسهل الاطلاع على فلان أنه من أهل الصلاة، يسهل الاطلاع على فلان أنه من أهل العلم وهكذا.
وكذلك أيها الإخوة قال سفيان بن عيينة: إذا مدح الإنسان في وجهه ماذا يقول؟ (اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون) أخرجه البيهقي في الشعب.
وتستنكر هذا المدح وتنكر على هذا الرجل هذا الكيل المتدفق في المدح لأنه مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلماؤنا من السلف رحمة الله تعالى عليهم كانوا لا يكيلون المدح جزافاً ولا يطلقونه إطلاقاً؛ بل إنك إذا رجعت إلى كتب الجرح والتعديل التي فيها تقييم لرجال الحديث؛ وجدت العلماء من السلف في هذا الجانب يدققون جداً، لا يقولون: فلان إمام عدل ثقة ثبت، ورع زاهد تقي عابد إلا إذا كان من أهل هذه المنزلة فعلاً، أما إذا كان فيه شيء آخر فإنهم يبينونه، فلذلك مثلاً يقول الذهبي رحمه الله في ترجمة إسماعيل بن سميع الكوفي: ثقة فيه بدعة، كونه ثقة ما منع الذهبي أن يقول: فيه بدعة، وكونه فيه بدعة ما منع الذهبي أن يقول عنه: ثقة {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85] قال عنه: ثقة فيه بدعة.
وقال في ترجمة أبو سليمان داود المدني رحمه الله: ثقة مشهور له غرائب تستنكر، مع أنه ثقة مشهور لكن عنده غرائب تستنكر منه، ما منع الذهبي ثقة الرجل وشهرته أن يضيف هذه الإضافة: له غرائب تستنكر، لا بد من إنزال الناس منازلهم، وعدم إطلاق ألفاظ الثناء عليهم.
مثال أخير: قال الذهبي رحمه الله في ترجمة طلق بن حبيب: من صلحاء التابعين إلا أنه يرى الإرجاء، وقال ابن حبان في نفس الرجل: كان عابداً مرجئاً، الإرجاء بدعة في الدين، وهو مذهب باطل إلا أنهم لما ترجموا لهذا الرجل قالوا: من صلحاء التابعين، هو صالح نعم، لكن عنده في فكره انحراف منهجي في قضية الإرجاء.
ومن أعظم المصائب في قضية المدح: مدح المنافق والفاجر أو الكافر بقول سيد، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي يرويه أحمد وأبو داود عن بريدة وهو في صحيح الجامع: (لا تقولوا للمنافق سيدنا، فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم).
قال العلماء في شرح الحديث: إذا قلت للمنافق يا سيدنا أو يا سيدي، وهذا الرجل سيد فعلاً عنده عبيد وعنده أموال وعنده جاه ومنصب، فإن قلت له: يا سيدي وهو منافق فعلاً فقد أسخطت ربك، فكيف إذا كان هذا المنافق ليس بسيد أصلاً، بل هو من عامة الناس، وهو منافق، وأنت تقول له: يا سيد أو يا سيدي؟! ولذلك قال النووي رحمه الله معنوناً على هذا الحديث: باب النهي عن مخاطبة الفاسق والمبتدع ونحوهما بسيد ونحوه، قال الشارح في دليل الفالحين: ونحوهما -يعني: الفاسق والمبتدع- من الظلمة وأعوانهم، وبعض الناس اليوم عندما يخاطب الكفار يقول له بلهجته أو بلغته الأجنبية: نعم يا سيد، كما يقول بعض الطلبة للمدرس الكافر يقول له: يا سيد! هذا أيها الإخوة داخل في الحديث حتى ولو قالها بلغة الكافر، وهذه اللفظة شائعة على ألسنة كثير ممن يتعاملون مع الكفرة، لماذا هذا النهي وهذا التعظيم وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فقد أسخطتم ربكم) قال الشارح رحمه الله: لأن فيه تعظيماً لمن أهانه الله، الله عز وجل يهين منافقاً أو مبتدعاً أو فاجراً ويتوعده في كتابه بالنار والعذاب والإهانة في الدنيا والآخرة، وأنت أيها المسلم تأتي وترفع هذا الرجل إلى مرتبة السيادة، إنه لأمر عجيب فعلاً! وهذا الشيء مقيد بمن لا يكون على نفسه ضرر في أهله أو ماله فلا كراهة حينئذٍ، وقوله: (فقد أسخطتم ربكم) أي: عظمتم من خرج عن عبودية الله واتخذ له ضداً ونداً، وكذلك العصاة فإنهم اشتركوا مع المنافق في الخروج من حزب الرحمن والانتظام في إخوان الشيطان.
هذا أيها الإخوة لا يجوز بحال، كثير من المسلمين اليوم يعظمون الفجار والفسقة والمبتدعين والمنافقين ويكيلون لهم ألفاظ الثناء والمدح بغير حساب.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا وإياكم هذه الآفات، وإن يرزقنا وإياكم العدل في القول والعمل، وألا نبخس الناس أشياءهم، وصلى الله على نبينا محمد.
أستغفر الله العظيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(236/9)
نهي الشرع عن مدح الموت
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا هو عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أقام الله به الملة العوجاء، ودعا الناس إلى لا إله إلا الله وعلمهم ما ينفعهم في الدنيا والأخرى.
أيها الإخوة: ومما يتعلق بالموضوع كذلك: ما تراه أيها المسلم أحياناً في نعي الجرائد، فإن كثيراً من الناس إذا ذهب ينشر نعياً عن ميت من أصحابه أو من أهله، تراه يقول مثلاً في مطلع النعي: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27 - 28] أو يقول في لقب: انتقل إلى رحمة الله فلان، أو يقول: المغفور له فلان قد مات في كذا وكذا، أو يقول: الشهيد فلان، أو مات شهيداً ونحو ذلك، إلى آخر ذلكم من الآيات التي يصدر بها النعي، وإلى آخر ذلك من الألفاظ: المرحوم فلان.
يا أخي المسلم ما يدريك بأنه مرحوم؟ ما يدريك لعله انتقل إلى غضب الله وعذابه بدلاً من أن ينتقل إلى رحمته؟ ما يدريك لعل نفسه أمارة بالسوء وليست نفساً مطمئنةً؟ كيف تحكم عليه؟ كيف تحكم عليه بهذه الأحكام فتقول هذا صاحب النفس المطمئنة: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:28 - 30] ما يدريك أنه قد دخل الجنة عندما مات؟ ما يدريك بأن الله قد غفر له أو لم يغفر له؟ ما يدريك بأنه شهيد؟ ربما كان غير شهيد.
فلذلك أقرأ عليكم أيها الإخوة هذا الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله، والذي يوضح لك بجلاء خطأ ونكارة ما يفعله الناس اليوم في هذه الأمور.
عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء الأنصارية -امرأة من الأنصار- قالت: لما هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة، كانوا فقراء ليس عندهم مأوى ولا مكان يبيتون فيه، إخوانهم الأنصار كانوا يحرصون عليهم أشد الحرص، فتقول المرأة: اقتسموا المهاجرين قرعة، كل واحد من الأنصار قال: أنا أريد فلان أنا أريد فلان، والمهاجرين قلة في العدد أقل من الأنصار، فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ قسمها بالقرعة، يأتي برجل من المهاجرين، فيقرع بين الأنصار فيخرج هذا من نصيب فلان فيأخذه معه في بيته، ويسكنه ويكرمه ويطعمه، قالت هذه المرأة رضي الله عنها: فصار لنا عثمان بن مظعون المهاجري رضي الله تعالى عنه، وأنزلناه في أبياتنا، أكرمناه فوجع وجعه الذي توفي فيه، نزل به المرض والوجع الذي أدى به إلى الوفاة، فلما توفي غسل وكفن في أثوابه، تقول هذه المرأة التي أضافت هذا الرجل: ما علمت منه إلا كل خير، أي أنها ما رأته إلا عابداً مجاهداً في سبيل الله، تقول: رحمة الله عليك يا أبا السائب -وهي كنية عثمان بن مظعون - حتى هنا الكلام صحيح ودعاء بالرحمة له، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقلت: بأبي أنت يا رسول الله! فمن يكرمه الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه اليقين -أي: الموت- والله إني لأرجو له الخير).
انظروا إلى التصحيح والتعليل، المرأة قالت: شهادتي عليك لقد أكرمك الله، ماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ (والله إني لأرجو له الخير) فلو قلت مثلاً: أرجو أن يكون فلاناً من أهل الجنة، أرجو أن الله قد أكرمه، نسأل الله أن يغفر له ذنوبه، نسأل الله أن يبلغه عليين، إلى آخر ذلك من ألفاظ الدعاء للميت، فلا بأس، لكن إطلاق الحكم له بالجنة وإطلاق الحكم له بالمغفرة أو الشهادة هذا مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة، لأن من عقيدتهم أنهم يقولون: لا يجوز الحكم لمعين بجنة أو نار إلا من حكم له الوحي، فإذا حكم الوحي لـ أبي بكر أنه من أهل الجنة فنحن نقطع أنه من أهل الجنة، إذا حكم القرآن أن أبا لهب في النار قطعنا بأنه في النار، أما غير ذلك من الأشخاص لا نقطع لهم بجنة أو بنار إلا ما ورد في الوحي، بل نقول: إن فلاناً عمله من عمل أهل الجنة، وفلان عمله من عمل أهل النار، وهكذا.
ثم قال عليه الصلاة والسلام مكملاً حديثه: (والله إني لأرجو له الخير، ووالله -انظروا أيها الإخوة إلى هذه العبارة- ما أدري وأنا رسول الله ماذا يفعل بي).
ولذلك تقول هذه المرأة: فما زكيت بعده أحداً أبداً.(236/10)
كيفية الاعتدال في المدح
نقطة أخيرة في هذا الموضوع: عندما نقول بالنهي عن المدح والتمادح والثناء فلا نعني أيها الإخوة بأي حال من الأحوال الجفاف في معاملة الناس، وعدم الثناء على من يستحق الخير، وأنه إذا ورد أمامنا ذكر عالم أو رجل من المخلصين ألا نقول له كلمة مدح أو ثناء البتة، كلا أيها الإخوة، ولا يعني ذلك أيضاً أننا في حال الدعوة إلى الله لا نترفق بالناس، ونستثير كوامن الخير في أنفسهم بالثناء على ما فيهم من الخير، أنت كداعية عندما تريد أن تدعو إلى الناس لا تذهب إلى الرجل وتقول في وجهه: افعل كذا وكذا بدون مقدمات تستثير بها عاطفته وتفتح قلبه، فمثلاً تقول للرجل: أحسب أنك من أهل الخير هلا فعلت كذا وكذا، أحسب أنك من أهل طاعة الله لم لا تفعل كذا؟ أو تقول مثلاً لرجل وهو يصلي: يا أخي أنت من أهل الصلاة والحمد لله، وفيك خير كبير، وفيك إيمان ما دمت أنك من أهل الصلاة، لماذا لا تكمل هذا الإيمان بالإقلاع عن المعصية الفلانية والفلانية؟ وقد قال الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام
هذا الأسلوب أيها الإخوة مطلوب، تشجيع طلبة العلم أثناء تعليمهم بقول المعلم للرجل: أحسنت مثلاً، والثناء عليه لا بأس بذلك، تشجيع الناس الذين يفعلون الخير بالكلمات الطيبة لا بأس بها، بشرط أن يؤمن بأنهم لن يأخذوا كلامك هذا ويفسد نياتهم ويتركون العمل، وذلك بأن تقتصد في المدح وتعطي كل رجل الألفاظ المناسبة لحاله بغير أن تخرجه عن الحد المشروع.
ولذلك أيها الإخوة أبو سفيان المشرك لما أسلم رضي الله عنه، كيف أسلم؟ من الأسباب التي دعته للإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنزله منزلة فيها إظهار لبعض قدره حتى يؤلف قلبه على الإسلام، فلذلك قال عليه السلام مخاطباً أهل مكة: (من دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن) لماذا قال هذه الجملة؟ قالها إعطاء لهذا الرجل شيئاً من المنزلة لعل الله أن يهديه، فأصاب أبو سفيان هذه المنزلة تأليفاً لقلبه، وهذا قدوة نقتدي بها أيها الإخوة في باب الدعوة إلى الله عز وجل.
وفقنا الله وإياكم لمعرفته حق المعرفة، وعبادته حق العبادة، وأن نقوم بحقوق الله جل وعلا، وأن نقيم حدوده عز وجل في أعمالنا وجوارحنا وألسنتنا، ونسأله تعالى أن يقينا وإياكم آفات اللسان فإنها مهلكة.
اللهم اجعلنا من الطائعين لك سراً وجهراً، ومن القائمين بحقوقك في الليل والنهار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار.(236/11)
أهلا رمضان
جعل الله شهر رمضان موسماً للخيرات، وندب الناس للاجتهاد فيه، فهو زاد لباقي العام، وفوق هذا فقد وعد الله من صامه إيماناً واحتساباً بالخير الكثير، فكيف بمن قام بغير ذلك من أعمال الخير كالصدقة والبر والصلة إلخ.
وقد قام أعداء الله باستنفاذ كل طاقاتهم من أجل تفريغ هذا الشهر من كل ما فيه، فسلطوا على المسلمين فضائيات اشتكى الفضاء من محتواها، فكيف بعباد الله المؤمنين؟! فالحذر كل الحذر ممن يريدون أن يعبثوا بديننا وخصوصاً في مثل هذا الشهر الكريم.(237/1)
ترقب المؤمنين لشهر رمضان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.(237/2)
حرص الشرع على التشويق لشهر رمضان
قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]، شهركم على الأبواب، ونفوس المؤمنين تنتظر، والفرحة بقرب قدوم الغائب عمت القلوب التي تنتظره؛ لأن المؤمن يتطلع إلى موسم الخير، وإلى الأوقات الفاضلة، ليتعرض لنفحات ربه.
وها قد اقترب شهر الصيام، وتأججت في النفوس اللوعة ونيران الاشتياق لشهر رمضان، وتأتي الشريعة بالأحكام التي تؤدي إلى حصول الشوق والتطلع، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان يصوم صوماً فليصمه) فمن صام فيما تبقى من الأيام قضاءً عما فاته من رمضان الماضي، أو كفارة ليمينٍ ونحوه فلا بأس بذلك، وأما من صامه بنية الاحتياط لرمضان فهذا منهيٌ عنه، ومن كانت له عادةٌ فوافقت عادته قبل رمضان بيوم أو يومين فهو يستمر على عادته، فلو كان دخول رمضان الجمعة وكان معتاداً على صيام الخميس من قبل، فهو يصومه على عادته كما جاء في الحديث، أما من لم تكن له عادة وليس له قضاءٌ أو كفارة فممنوعٌ من الصيام قبل رمضان بيومٍ أو يومين، لماذا؟ ذكر العلماء عدة أسباب: أولاً: ألا يزاد في رمضان ما ليس منه.
ثانياً: الفصل بين الفرض والنفل.
ثالثاً: الاستعداد للصيام والتشوق له، فيدخل رمضان بطعمٍ جديد، وينحبس الناس عن الصيام ترقباً لدخول الشهر حتى يصوموا، حبستهم الشريعة عن الصيام قبله لكي يدخلوا به وقد استطعموه طعماً جديداً، وحبسوا عن الصيام قبله تشوقاً إليه، فهذه الشريعة تشوقهم لشهر رمضان.(237/3)
أخطاء الناس عند الاستعداد لشهر رمضان
ذكر العلماء أن بعض العامة يظنون بأن المراد بالفطر قبل رمضان وعدم الصيام هو اغتنام الفرصة للأكل؛ لتأخذ الأنفس حظها من الشهوات قبل أن تمنع من ذلك، ولذلك يقولون في الأيام الأخيرة من شعبان: هي أيام توديعٍ للأكل، وبعضهم يسميها الشعبانية، وذكر بعض أهل اللغة أن أصل ذلك مأخوذ من النصارى، فإنهم كانوا يفعلونه قرب صيامهم، وليس المقصود بالمنع من الصيام قبل رمضان أن نستعد بالأكل ونشبع، كلا والله.
والعصاة يستعدون بالازدياد من المعاصي قبل دخول رمضان، ويقولون: حتى ندخل فيه فيغفر لنا، فيستهينون بالأيام الأخيرة من شعبان، كما قال بعضهم:
إذا العشرون من شعبان ولّت فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداحٍ صغارٍ فإن الوقت ضاق عن الصغار
ويكثرون من شرب الخمور قبل دخول الشهر والعياذ بالله.
ومن كان هذا حاله، ويظن أن التزود الآن بالشبع والمعاصي قبل دخول رمضان، فالبهائم أعقل منه، وله نصيبٌ من قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] وربما يكره كثيرٌ منهم صيام رمضان ودخوله، حتى إن بعض السفهاء كان يسبه لأجل أنه سيحرم فيه من الشهوات، والله عز وجل جعل الليل مجالاً للأكل والشرب والنكاح، فليس ما سبق بممنوعٍ إلا ساعات، وفي هذا الفصل في هذا الشهر سيكون النهار من أقصر أيام السنة، وربما لا يحس الإنسان بكثير مشقة في الامتناع عن الطعام والشراب، فلابد ألا يُفقد لذة رمضان، وعليه بالازدياد من العبادات، ومن أراد الله به خيراً حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان وجعله الراشدين، ومن أراد الله به شراً خلى بينه وبين نفسه، فأتبعه الشيطان فحبب إليه الكفر والفسوق والعصيان فكان من الغاوين.
باع قومٌ من السلف جارية لهم، فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له ويستعدون بالأطعمة وغيرها، فسألتهم فقالوا: نتهيأ لصيام رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلا رمضان، لقد كنت عند قومٍ كل زمانهم رمضان، ردوني عليهم.
وباع الحسن بن صالح رحمه الله جارية له، فلما انتصف الليل قامت، فنادتهم: يا أهل الدار! الصلاة الصلاة، تقصد قيام الليل، قالوا: طلع الفجر، قالت: وأنتم لا تصلون إلا المكتوبة، ثم رجعت إلى الحسن الذي باعها، وقالت له: بعتني على قوم سوء لا يصلون إلا المكتوبة ردني ردني.
تتطلع النفوس إلى الشهر الكريم بالازدياد من العبادة، ويقبل الناس على الله تعالى بالدعاء أن يبلغهم هذا الشهر، ويستعدون لذلك بأنواع الاستعداد، ويدرسون أحكام الصيام، ويتنبهون إلى مسألة عقد النية قبل الفجر في أول ليلةٍ من رمضان على العزم على الصوم، والنية محلها القلب، والتلفظ بها بدعة، ويحتاط إلى أن يستيقظ في جزءٍ من الليل قبل الفجر حتى يعلم هل دخل الشهر أم لا؛ ليكون عنده نية جازمة يدخل بها شهر رمضان.
يا من عليه صيام قضاءٍ! سارع، فما بقي شيء ويا من عصى الله! تب الآن وجدد التوبة، ويا معشر أصحاب الأموال! احصوا الزكاة استعداداً لإخراجها إذا كان الحول يحول في رمضان.(237/4)
الاستعداد الواجب لشهر الصيام
عباد الله: إن قوة الترقب لموسم العبادة يدل على قوة الإيمان، والفرح بالقدوم يدل على قوة الإيمان، وحسن الاستعداد يدل على قوة الإيمان.
فيا معشر الأئمة والدعاة إلى الله! بادروا بترتيب الدروس وحسن انتقاء الكتب، وشحن الناس لدخول الشهر، أتاكم شهر رمضان شهر مبارك، وكان عموم الناس يتراءون الهلال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من تشوقهم وتطلعهم يقول في الحديث: (تراءى الناس الهلال) الناس يتراءون الهلال، الجود بالعلم والخلق، والقدوة أن يعد نفسه للاقتداء، جيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ في رمضان، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون ماذا فعلت، فدعا بقدحٍ من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه.
الدعاة قدوة فينبغي أن يكملوا أنفسهم، لا استعداداً بما فيه معصية كما يفعل الكثيرون، ينبغي إعداد المساجد لصلاة التراويح، ليس بزيادة الأنوار، فزيادة الأنوار في رمضان بدعة، وإنما بتنظيفها وتطيبها وليساهم أهل اليسر والمال في ذلك، فإن فيه أجراً عظيماً، المساجد التي لم تكتمل المساجد التي فيها نقصٌ في فرشها ونحو ذلك مما يحتاجه الأمر، وتجهيز أماكن النساء التي لا يكون فيها اختلاط بالرجال، ولا يجوز أن يحول المسجد إلى مجالٍ للدعاية والإعلان عن السلع التجارية، وتعلق الإعلانات وبعض التقاويم المطبوعة فيها خانةٌ الإمساك قبل الفجر بعشر دقائق وهي بدعة ضلالة.
أيها المسلمون: إن كثيراً من الناس يتجهزون، ولكن مع الأسف لا يتجهزون بالتقوى {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] سيأتي رمضان في إجازة، ومعنى ذلك أننا سنتوقع سهراً طويلاً في الليل، والليل طويل، ومعنى ذلك: أن عدداً من الناس سيسهرون ثم يرقدون قبل الفجر، ومعنى ذلك: أن صلاة الفجر ستضيع، وربما رأيت اهتماماً بصلاة الفجر في أول ليلة أو ليلتين ثم يعود الأمر إلى المعتاد أو أقل من المعتاد، وبعض المسلسلات ستجتذب بعض الناس عن صلاة العشاء في الجماعة، وعن بعض صلاة التراويح، وسيأتون إلى المساجد متأخرين لأجل المسلسل الفلاني الذي يعرض؛ فتباً وتعساً لهم لهذا الاستعداد، يتأخر عن الصلاة لأجل اللهو.(237/5)
سهام الأعداء في رمضان
عباد الله: هذا الشهر مجالٌ عظيم لاستغلال الطاعات والعبادات، وفيه تضاعف الحسنات والأجور؛ لأن القاعدة الشرعية هي أن الطاعات في الأزمنة الفاضلة تضاعف، والسيئات في الأزمنة الفاضلة تضاعف، ونحن نعلم مكانة هذا الشهر جيداً، ونعلم مكانة الصيام في أركان الإسلام، ونعلم الأجر العظيم في الصيام والقيام والاعتكاف والعمرة في رمضان، وسائر العبادات وتلاوة القرآن.
ولما علم أعداء الله مكانة رمضان في الدين، وأنه شهر توبة للكثيرين والرجوع إلى الله سلطوا سهامهم على شهر رمضان، وأعدوا العدة للانقضاض على روح العبادة في هذا الشهر بأنواع المعاصي التي يجرون إليها الناس، فإذا نظرت وقرأت في الدعايات والإعلانات ماذا ستجد بمناسبة شهر رمضان؟ أصبح الآن قدوم رمضان مجالاً ومناسبة وفرصة للمعاصي بأنواعها، بمناسبة شهر رمضان خصومات على الاشتراك في القنوات الفضائية الأوائل في الفسق والمجون ومبارزة الله بالمعصية، ثلاثة أشهر مجاناً، تسهيلات في قيمة جهاز فك الشفرة خمس قنوات بكذا، وثلاث قنوات بكذا، كنا نعجب من حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (ورأيت رجلاً جالساً ورجلاً قائماً بيده كلوب من حديد -حديدة معوجة- يدخل ذلك الكلوب في شدقه ويشرشره ويقطعه من شدقه الأيمن إلى القفا، ثم يعود فيضع الكلوب في الشدق الأيسر ويشرشره إلى قفاه، فيعود الشدق الأيمن سليماً، فيعود فيشرشره وهكذا باستمرار، فسألهم: من هذا؟ قالوا: أما الذي رأيته يشق شدقه فكذابٌ يحدث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به هكذا إلى يوم القيامة).
والآن بعد وجود القنوات الفضائية لم يعد هناك مجالٌ للعجب، فإنهم ليس فقط يكذبون الكذبة حتى تبلغ الآفاق، وتحمله الموجات إلى أرجاء الأرض، وإنما يدبرون المؤامرات والمعاصي.
تحول شهر رمضان إلى شهر غناءٍ وطرب، وأمسيات رمضانية في المعصية، والأغاني والفلكلورات الشعبية ونحو ذلك، وكذلك الفوازير التي تعرض بالغناء مع اللوحات الاستعراضية الراقصة هكذا شهر العبادة! هكذا شهر الصيام!! مخطط أعداء الإسلام لتفريط رمضان من محتوياته، ما دام شهر توبة وعبادة لابد من الإغارة عليه، ولابد من تفريغه من محتوياته، ولابد من منع تأثيره على الناس، ولابد من عزل هذه الروح العظيمة في هذا الشهر عن الناس، لئلا يتنسموها كيف؟ بهذه المسلسلات والأغاني والعروض، والفوازير والاشتغال بها، ومكاتب تبيع الأسئلة، حتى قضية جمع المعلومات ليس فيها فائدة، وخصوصاً أن بعض هذه الأسئلة لا علاقة لها بالإسلام.
ثم برامج للطبخ، وطبق اليوم، ولقمة هنية طبق رمضان المأكولات العربية، إشغال ربات البيوت في الوقت الفاضل في وقت الصيام في اللحظات الغالية بمتابعة هذه الأطباق، وبعد الإفطار يعرضون مواقف كمودية، والكاميرا الخفية، ونجوم الفكاهة، ويعرضون مسلسلات عن التاريخ الإسلامي بزعمهم أن هذه الأشياء إسلامية، وهي في الحقيقة تشويهٌ -والله العظيم- للشخصيات الإسلامية، فشوهوا شخصية عمر بن عبد العزيز، وشوهوا شخصية شيخ الإسلام ابن تيمية، وشوهوا شخصية صلاح الدين الأيوبي، وعرضوا المناظر المقذعة الفظيعة التي تبين أنهم عشاق، وهذا له علاقة بالنساء، ونحو ذلك من أنواع التبرج والفجور في الفيلم، ويمثله شخصٌ فاجرٌ يقوم بتمثيل رجلٍ من أبطال الإسلام.
وسنرى الدور على من في تشويه تاريخ المسلمين، ولو قاموا في هذه القنوات الفضائية العالمية التي تبث على العالم بأشياء من الدين أو إجابات أو برامج فإنها لا تخلو من التساهلات والتنازلات، وبالتالي ماذا سيكون أيها الإخوة؟! النهار ليس هناك دراسة عند الطلاب في هذا الشهر، سيتحول النهار إلى أي شيء؟ والليل إلى أي شيء؟ وأوقات صلاة التراويح إلى أي شيء؟ والليل في الألعاب والملاهي والمعاصي والتمشيات، والشباب على الأرصفة، وربما دقوا بالعود وعزفوا وفعلوا وفعلوا، ونظموا المباريات والسداسيات، واشتغلوا بالرياضة عن قيام الليل، وعن اغتنام هذه الأوقات الثمينة بالمعاصي أو الملاهي، ولو قلت: اللهو المباح، فأي غبنٍ أعظم من جعل هذه الأوقات مجالاً للفسق والفجور، وحتى اللهو المباح أليس غبناً؟ أليس خسارةً؟ عباد الله: هل يا ترى سننساق وراء مخططات أعداء الإسلام لتفريغ رمضان من محتوياته أم لا؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة، وشتان شتان بين الذين سيسافرون إلى الخارج في هذا الشهر وينقطعون بالكلية عن مجتمعات المسلمين، ويعتبرونها سياحة في الأرض لا يسمع أذاناً، ولا يشهد صلاةً، وبين من سيعد العدة للذهاب إلى مكة.
أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، فقالت امرأة لزوجها: أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما عندي ما أحجكِ عليه، قالت: أحجني على جملك فلان، قال: ذاك حبيسٌ في سبيل الله عز وجل -أي: وقف في الجهاد- ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي تقرئ عليك السلام -أدب النساء- وإنها سألتني الحج معك، وقالت: أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملك، فقلت: ذاك حبيسٌ في سبيل الله، فقال: (أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله، قال: وإنها أمرتني أن أسأل ما يعدل حجةً معك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقرئها السلام، وأخبرها أنها تعدل حجةً معي عمرة في رمضان) رواه أبو داود بإسنادٍ حسن.
وأول رمضان هو ليلة الأول منه، فإذا غربت الشمس وثبت دخول الهلال بدأنا في رمضان، ومن أوقع عمرته في ليلة الواحد من رمضان -الليلة التي تسبق نهار الأول من رمضان- فقد أوقعها في رمضان.
عباد الله: الحذر الحذر من المعاصي، فكم سلبت من نعم، وكم جلبت من نقم، وكم خربت من ديار، فما بقي فيها ساكنٌ ولا ديَّار، وكم أخذت من العصاة بالثأر، وكم محت لهم من آثار.
يا صاحب الذنب لا تأمن عواقبه عواقب الذنب تخشى وهي تنتظر
فكل نفسٍ ستجزى بالذي كسبت وليس للخلق من ديانهم وزر
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل البصيرة، اللهم اجعلنا من أهل البصيرة، اللهم اجعلنا ممن عرفوا الشر فتركوه، وممن عرفوا الخير فسلكوا طريقه واتبعوه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(237/6)
أصناف الناس في استقبال رمضان
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا هو الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: رمضان سيصنف الناس أصنافاً شتى، فمنهم من سيكون همه طاعة الله تعالى صياماً وقياماً احتساباً للأجر ورجاءً للثواب، وطمعاً فيما عند الله، ويتوب إلى الله مما سلف، ويرجع عما كان من المعصية، ويجدد العهد مع الله، لينطلق فيما بقي من حياته إلى طاعة الله تعالى، وطريق الجنة، ومنهم من سيجعل هذا الشهر شهر نومٍ وكسلٍ ولهوٍ وبطالة، وجل النهار وهو نائم، وأكثر الليل وهو لاعب، وربما سهروا إلى بعد صلاة الفجر ثم ناموا وفاتتهم صلاة الظهر والعصر ليستيقظوا عند صلاة المغرب للأكل والشرب.
ومن الناس من سيكون هذا الشهر بالنسبة إليه موسماً للتسول، وسؤال الناس، وتأتيك المعاريض والأوراق ويطوف المحتالون على المساجد.
وينبغي للمسلم أن يكون كيساً فطناً، وأن يتحرى بزكاته وصدقته المحتاجين، وإذا لم يعرف المحتاجين والفقراء يدفعها للثقات من المسلمين ليوصلوها إلى المحتاجين حقاً، فلا يغتر بهؤلاء الذين جعلوا رمضان شهراً للتسول، والازدياد من المال وأكل الحرام.
ومن الناس من سيكون همه التفنن بالأكل والشرب وصنع المأكولات بأنواعها، والمفاخرة، ونصيحة للنساء بالاقتصاد، وعدم ملء هذه اللائحات وهذه القائمات بالمأكولات والمشروبات التي تدفعها إلى زوجها، ليندفع إلى السوق ويشتري الناس ثلاثة أضعاف ما كانوا يشترونه في الأيام العادية، هل هذا هو المطلوب في هذا الشهر؟ ثم تنشغل المرأة والخادمة معها بطبيعة الحال في المطبخ ساعاتٍ طويلة، ثم بعد ذلك تمد السفرة على الأصناف، وينهمك الجميع في الأكل وقد صوبوا أنظارهم تجاه الشاشة، ويزدادون شراهةً، وتمتلئ البطون بأنواع المأكولات والمشروبات، وما سيرمى في القمامة أكثر.
ثم جعل الصيام شافعاً للعبد يوم القيامة كما جعل للصائم فرحة عند لقاء الله.
يا عبد الله! الفرحة عند لقاء الله لا تعدلها فرحة، ومن فرح ذلك اليوم فلا يحزن أبداً: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] فهذا الصائم إذا لقي ربه فرح بصومه، والصيام يقول يوم القيامة: (أي رب! منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، فيشفع فيه).(237/7)
بشرى لكل محتسب لأجر الصيام
جعل الله رائحة فم الصائم الكريه عند الناس أطيب عنده من ريح المسك، وجعل الصوم جُنة ووقاية من عذاب النار، وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أن (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً).
يا معشر المسلمين: أبشروا أبشروا! (إن في الجنة باباً يقال له: الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه أحدٌ غيرهم -خصوصية للصائمين- فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد).
يا عباد الله! اُشعروا بالنعمة العظيمة عندما تفتح أبواب الجنان في أول ليلة من رمضان، وتغلق أبواب جهنم وتصفد الشياطين.
هذه النعمة: تصفد الشياطين، وتفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النيران، وضاعف الأجور، وهو يقول لك: يا عبدي! هلم فاعمل، وكثر شهوة نفسك بما أعانك على ذلك من منعك عن الطعام والشراب في النهار، والجسد ينجذب إلى الأرض، والروح تحتاج إلى غذاء، وخفة المعدة والتجرد من الشهوات يؤدي إلى صفاء النفس وفراغ الخاطر، فيعرف المسلم تفاهة الدنيا، فيحن إلى الآخرة حنين الطائر إلى وكره، والسمك إلى مائه إنه الحنين إلى الآخرة.
فحيا على جنات عدنٍ فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
أخرج أبونا من الجنة بمكيدة إبليس، والجنة وطننا الأصلي الذي نزل فيه أبونا الجنة هي الدار الأصلية لهذا المخلوق البشري، ولكن مكيدة إبليس أخرجت الأب من الجنة، فهل يا ترى سنرجع إلى وطننا الأصلي؟ هل سنرجع إلى أرضنا الأصلية أرض الجنة؟ هل سنرجع إلى تلك الدار أم لا؟ السعيد من رجع بسلام، والشقي من تاه عن درب الجنة، فسقط في عذاب النيران.
عباد الله: صيام شهر رمضان يعدل صيام عشرة أشهر: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) إيماناً بالله، وإيماناً بفرضية الشهر، وعدم الشك بوجوبه إيماناً بما أعد الله للمؤمنين، واحتساباً للأجر، فهو لا يزال يراجع نفسه ويذكرها بأجر الصوم، في نهاره يقول لنفسه: إلا الصوم، فإنه لله وهو يجزيني به إلا الصوم فإن جزاؤه بلا حساب، يرجو ثواب الله، ويأمل في موعود الله، ويتعلق أمله بهذه الحسنات العظيمة يوم يقال للصائمين: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] منعناكم عن الطعام والشراب والنكاح في نهار أشهر رمضان في أعماركم، خذوا الآن الأجر: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24].
الاحتساب مهمٌ جداً في حصول الأجر، والذي لا يحتسب لا يرجو رحمة ربه لا يأمل في الثواب لا تتعلق نفسه بالحسنات، فيفوته أجرٌ عظيم، تذكر الحديث إيماناً واحتساباً في كل أيام الشهر، تذكر الحديث (إيماناً واحتساباً) ولله عز وجل، عند كل فطرٍ تفطره في أيام هذا الشهر له فيه عتقاء من النار فيا فرحة الذي كتب في العتقاء في ليالي هذا الشهر، نسأل الله أن يكتبنا فيهم، ونسأل الله أن يجعلنا منهم، ونسأل الله ألا يحرمنا الأجر في هذا الشهر.
عباد الله: إذا كانت المسألة عظيمة إلى هذه الدرجة، وإذا كانت القضية خطيرة ولها شأنٌ عظيم، الأمة كلها مطالبة بأن تصوم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) وجعل القمر دليلاً عينياً على بلوغ الشهر أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً، فعند ذلك تتجه الأمة وتتوحد، وقد آلمنا وآلم المسلمين تفرقهم شيعاً وأحزاباً، دولاً وبلداناً، تفرقوا والإسلام فيه ما يجمع (صوموا لرؤيته).
ولذلك قال جمهور العلماء: إذا رأى رجل ثقة من المسلمين الهلال صام المسلمون كلهم في أرجاء الأرض: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) لا حسابات ولا فلكيات، ولكنه دليلٌ عينيٌ، المسلم الثقة الذي يوثق ببصره وخبره إذا رأى الهلال صامت الأمة كلها.(237/8)
عتاب لكل من ضيع رمضان
عباد الله: إذا كانت القضية بهذه الخطورة فهل يجوز لنا أن نذهب الحسنات بالانشغال بالترهات والسيئات والأفلام والمسلسلات والمباريات والجلسات الفارغات، أو التسكع في الطرقات، أو اللهو بالسيارات، أو الازدحام في الأرصفة والطرقات؟ هل يجوز لنا إذا كان هذا هو الأجر، وهذا هو المغنم أن ننام ونضيع الصلوات أو نفوت الجماعات؟ هل يجوز لنا بأي حالٍ من الأحوال أن نسافر إلى بلاد الكفار للتمتع بالإجازات في موسم الخيرات؟ هل يجوز لنا أن نفعل المنكرات حتى في المساجد؟ هل يجوز أن يحول الشهر إلى شهر لهوٍ ولعب وصفقٍ بالأسواق، وتطوافٍ على المحلات وتتبعٍ للبضائع، والله يدعونا إلى مائدته، ونحن نعرض عنها؟ كلا والله، فاترك هذه الملهيات التي خطط لها أعداء الإسلام جيداً وحبكوا طرائقها حبكاً محكماً من أجل أن يلهوك أنت يا أيها المسلم لأنك أنت المستهدف وأنت غنيمتهم ومرادهم وبغيتهم، لا يجوز لك أن تجعل الحيلة تنطل وأن تقع في الفخ اترك اللهو اترك هذه الملهيات اترك الانشغال بالقنوات وما أدراك ما القنوات، وأقبل على الله تعالى عَِّد الطاعات خذ آداب الصيام من الحرص على السحور وتأخيره، وتعجيل الفطر، وعدم الإكثار من الطعام، ولا تشغلوا نساءكم في البيوت بالطبخ حتى لا يعود لهن وقتٌ يعبدن الله فيه جودوا بالعلم، جودوا بالمال، جودوا بالجاه في هذا الشهر، الأجر مضاعف، جودوا بالبدن، جودوا بالخلق الحسن، (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان -كل ليلة اجتماع ثنائي بين النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل، ما هو موضوع الاجتماع؟ ما هو جدول الاجتماع؟ - فيدارسه القرآن) هذا شهر القرآن: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]، (فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) فإن قلت يا عبد الله: إنني عازمٌ على الختمة، والله أيها الإخوة! إن الذي بدأ رمضان يريد الوصول إلى الله سيصل {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] وعدٌ قاطع من الله، لما غربت شمس الأمس ففتح ذلك الرجل مصحفه وأقبل على القراءة، عازم على البداية الصحيحة، أن يختم -والصحابة كانوا يختمون القرآن في كل أسبوعٍ مرة- سيختم، والذي لهى وأجل وسوف فلن يتقدم.(237/9)
نقاط على الطريق لمن أراد الخير
أولاً: أن يقرأ القرآن لله، لا من أجل الناس؛ لأن الله يقول لأحد الناس يوم القيامة: (ألم أعلمك ما أنزلته على رسولي؟ قال: بلى يا رب! قال: فماذا فعلت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به أناء الليل، وأناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلانٌ قارئ فقد قيل، ثم يسحب إلى النار).
ثانياً: أن يتلوه على طهارة، ويستقبل القبلة، ويستخدم السواك (إن أفواهكم طرق القرآن فطيبوها بالسواك) وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وأفضل صيغها: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) الترتيل وتحسين الصوت التأني والترسل في القراءة الصبر على مشقة التلاوة لمن لا يحسن تهجي الحروف أو به علةٌ في نطقه البكاء والتباكي: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:109] وبكى النبي صلى الله عليه وسلم عند قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً * {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء:41 - 42].
ودخل عمر دير راهب فناداه فأشرف الراهب، فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فسألوه: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ قال: [ذكرت قول الله عز وجل: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:3 - 4]] مع عملها ونصبها تصلى ناراً حامية؛ لأنها تعمل وتنصب في الباطل والبدعة والشرك.
وكتب عمر إلى رجلٍ سمع أنه يشرب الخمر: [من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان: سلام عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3]] ولما بلغت الرجل الرسالة جعل يقرأها ويردد، ويقول: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:3] قد حذرني عقوبته، ووعدني أن يغفر لي، فلم يزل يرددها على نفسه ثم بكى، وبعد ذلك نزع ما كان فيه من شرب الخمر.
يا أيها الناس يا عباد الله! لقد تفشى شرب الخمور في المجتمع تفشياً عظيماً، والأغنياء يشربون النوع الأصلي، والذين هم أقل يأخذون الزجاجة أو القارورة الكبيرة بخمسين والصغيرة بخمسٍ وعشرين، والذي يشرب الخمر يسقيه الله من ردغة الخبال يوم القيامة، وهي عصارة أهل النار، قرف وعرق وصديد وقيح أهل النار، هذا هو شرابه يوم القيامة، والذين أساءوا وأسرفوا على أنفسهم ينتهزون رمضان ليجعلوه فرصةً للتوبة، نريد أن يكون هذا الشهر -أيها المسلمون- شهر انقلاب في حياتنا، نريد أن نتغير فعلاً، نريد أن نحول مسارنا من مسار المعصية إلى مسار الطاعة، وعددٌ من الناس الذين يرتكبون المعاصي عندهم صراع نفسي، فإذا جاء رمضان غلبت نزعة الخير في أنفسهم نزعة الشر وأقبلوا على الله، وجاءوا إلى المساجد زرافاتٍ ووحداناً، يتقاطرون إلى بيوت الله تعالى، يشهدون الإفطار، يأكلون بعد صيام، ألا ليتذكروا أنه الذي قال: (يدع طعامه وشرابه وزوجته من أجلي) الذي قالها في الحديث القدسي (يدع شهوته)، وفي رواية: (يدع زوجته) يدع طعامه وشرابه من أجلي إذا كانت حلال وتركها لله وهي حلال؛ لأن الله أمره بتركها في نهار رمضان فحريٌ به أن يترك الآن الحرام الذي هو حرام في الأصل زنا خمر مخدرات علاقة بالنساء ربا أموال حرام ظلم، اترك وأقبل على الله، هذا موسم التغيير، فإذا لم تتغير الآن فمتى تتغير؟ وإذا لم تقبل الآن فمتى تقبل؟ بكى الصحابة من قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19]، وقرأت عائشة: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] فلا زالت تبكي وتبكي مدةً طويلة، وبكى الصحابة من قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] وبكوا من قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16] استبطأ الله إقبال قلوب المؤمنين، فقال لهم: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحديد:16] ما جاء الأوان بعد، فإذا ما جاء الأوان في رمضان فلن يأتي في الغالب، هذه هي الفرصة، هذه رقة ما بعدها رقة، وفرصة ما بعدها فرصة، فغير يا عبد الله! وتخلص من اللهو، وتخلص من أدوات المنكر الآن قبل أن يفوت الأوان.
ثالثاً: من آداب التلاوة أن يكون بصوتٍ ليس بجهرٍ ولا مخافتة، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء:110]، أن يكون بين الجهر والإسرار، والإخفاء أفضل حيث خاف الرياء، أو خاف أن يتأذى من بجانبه من صوته، والجهر أفضل لطرد الشيطان والنوم رتب السور، وحافظ على ترتيب المصحف ما أمكنك، فإنها السنة، وكف عن القراءة عند النعاس أو التثاؤب أو خروج الريح، وإذا مررت بسجدةٍ فاسجد، ولا تقطع القراءة لكلام الناس إلا عند الحاجة، وقف عند رأس الآية، والوقوف عند رءوس الآيات سنة وإن تعلقت في المعنى بما بعدها، واستحضر عظمة الله تعالى المتكلم بهذا القرآن، وقراءة التفسير تساعدك على التدبر، واستشعر بأنك المخاطب بهذا الكتاب، نسأل الله أن يجعلنا من أهل القرآن.(237/10)
حال السلف في رمضان
عباد الله: الجمع بين القيام والصيام وإطعام الطعام من أسباب دخول الجنان، ولذلك فإن هذا الشهر تجتمع فيه هذه الأمور، صيامٌ وقيامٌ وإطعام، ومن فطَّر صائماً فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء، كان كثير من السلف يؤثرون بإفطارهم وهم صيام، منهم: عبد الله بن عمر وداود الطائي، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل رحمهم الله، وكان من السلف من يطعم إخوانه الطعام ويجلس يخدمهم.
وكان رجالاً من بني عدي يصلون في هذا المسجد، كما قال أبو السوار العدوي: ما أفطر أحدٌ منهم على طعامٍ قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكل مع الناس وأكل الناس معه.
إطعام الطعام، والإتيان به إلى المساجد التي فيها الفقراء والغرباء لإطعامهم، والمسألة تحتاج إلى تنظيم وترتيب حتى لا تتكدس الأطعمة في مكانٍ وتنقص في مكان، فاعملوا لذلك الجهد.
يا عباد الله! هذا الشهر فرصة لصلة الأرحام التي انقطعت، ولتطييب النفوس والخواطر والاسترضاء، وإزالة الشحناء وقلب العداوة والبغضاء إلى مودةٍ وإخاء، وصلة الأرحام تهلهلت عند كثير من الناس، وتقطعت بهم الأسباب، والمادة غلبت عليهم، ولذلك وجدت حالات كثيرة من المآسي، ولا بأس بالتهنئة بدخول الشهر زوروا أرحامكم وأقرباءكم في هذا الشهر بروا آباءكم وأمهاتكم في هذا الشهر العظيم.
أحد الناس عنده خيرٌ ونعمة، لكن لما رأى أباه قد بلغ من الكبر عتياً، وصار عالةً وكلاًّ وتعباً عليه ولم يطق أن يتحمل أباه في بيته.
ويقوم بخدمته، ذهب به إلى مستشفى العجزة والمعاقين، وتركه هناك وذهب، وبعد فترة من الزمن قفز الابن في بيته في بركة السباحة الموجودة في البيت، فوقع على رقبته فأصيب بشللٍ رباعيٍ كامل، لا يستطع حتى النطق، وفي النهاية لما رأوا أنه لا يفيد علاجه نقلوه إلى هذا المستشفى -مستشفى العجزة والمعاقين- وَوُضِعَ في سريرٍ بجانب سرير أبيه، وكان والده يقوم على خدمته، وهو ينظر إلى والده ويبكي، حتى الكلام لا يستطيع أن يتكلم، فقط ينظر إلى هذا الوالد الذي جنى عليه وعيناه تمتلئان بالدموع.
أيها المسلمون: نريد أن نجعل من هذا الشهر صلةً للرحم، كما أنه طاعة لله وإقبال على الله، كذلك هو شهر برٍ وخيرٍ وصلة.
اللهم إنا نسألك في هذا اليوم يوم الجمعة، وفي هذا الشهر شهر رمضان أن تعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار، واغفر لنا يا غفار! اللهم قدمنا عليك في شهرك هذا بذنوبٍ كثيرة، وسيئات عظيمة، وأنت غنيٌ عن عذابنا ونحن محتاجون إلى رحمتك فلا تعذبنا، اللهم ارحمنا أجمعين، واغفر لنا ذنوبنا يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عتقائك في هذا الشهر الكريم، اللهم من كان منا مقصراً فرده إليك رداً جميلاً، اللهم من كان منا مشتغلاً بمعصية فارزقه التوبة منها يا رب العالمين! اللهم اجعلنا أخياراً أبراراً يا أكرم الأكرمين! اللهم انصر الإسلام وأهله اللهم انصر الإسلام وأهله في الأرض يا رب العالمين! اللهم اخز اليهود والنصارى والمشركين، اللهم اجعلها عليهم دماراً، اللهم أهلكهم وانصر المسلمين عليهم، اللهم اكشف أستار المنافقين، اللهم اهتك أستار المنافقين، اللهم واجعل عبادك الأخيار في خيرٍ ونصرٍ وعافية يا رب العالمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(237/11)
تأملات في الزلزال الأليم [1]
بدأ الشيخ في خطبته بالتحدث عن الزلزال الذي سيحدث عند قيام الساعة، ثم تطرق إلى موضوع الزلازل التي تحدث على الأرض عموماً، وبيَّن أن الزلزال آية من آيات الله يخوف بها عباده، فواجبنا عندما تقع هذه الكوارث أن نرجع إلى الله ونتوب، ونفزغ إلى الصلاة.
كما وضح أن من أسباب الزلازل الذنوب والمعاصي.(238/1)
زلزال الأرض عند قيام الساعة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
الجواب
=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
الجواب
=6000493> يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
الجواب
=6003602> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
الجواب
=6002595> يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2].
الجواب
=6004982> إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً * وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً} [الواقعة:4 - 7].
الجواب
=6006138> إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:1 - 8].
عن عمران بن حصين رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في بعض أسفاره، وقد تفاوت بين أصحابه السير، رفع بهاتين الآيتين صوته: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2] فلما سمعوا أصحابه بذلك حثوا الخطى وعرفوا أن عنده قولاً يقوله، فلما تأشفوا حوله قال: أتدرون أي يومٍ ذلك؟ ذاك يوم ينادى آدم عليه السلام، فيناديه ربه عز وجل، يا آدم! ابعث بعثك إلى النار، فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول له: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة) فأبلس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى ما أوضحوا بضاحكة، ولا ظهر لهم سنٌ من الأسنان التي تظهر عند الضحك، وفي رواية البخاري: (تغيرت وجوههم، ثم أخبرهم صلى الله عليه وسلم: أن يأجوج ومأجوج ما كانتا في شيءٍ إلا كثرته، وقال: أبشروا واعملوا، وأمرهم بعمل الصالحات وإرضاء الله سبحانه وتعالى) هذا الحديث رواه الترمذي وهو صحيح.
فإذاً من الأشياء التي تكون يوم القيامة زلزال عظيم جداً، وهو أعظم زلزالٍ على الإطلاق: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج:2] وقال بعض العلماء: إنه يكون في آخر الدنيا على مشارف يوم القيامة، فإذا تكلمت الأرض فهذا في يوم القيامة، هذا الزلزال ليس من زلازلنا الآن، إنما هو زلزالٌ عظيم جداً: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:1 - 2] ثم قال الله: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:4 - 5] تتزلزل الأرض زلزالاً عظيماً وتتكلم وتخبر بما فعل عليها من خير أو شر.
فيا أيها الإنسان! اعمل ما شئت فإن الأرض التي أنت عليها ستحدث يوم القيامة بما عملت عليها من خير أو شر: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:4 - 5] وكان الزلزال ولا يزال من العذاب الذي يرسله الله على من يشاء من خلقه، فكان عذاب قوم شعيب الزلزال، من العذاب الزلزلة، قال الله عز وجل عن قوم شعيب: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف:78] هلكوا عن آخرهم: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [الأعراف:155] ابتهل موسى إلى الله، قال المفسرون: كانوا لم ينهوا قومهم عن عبادة العجل، هؤلاء السبعون لما يزايلوا قومه في عبادتهم العجل ولا نهوهم، فكان هذا من أسباب أخذهم بالرجفة، وقال الإمام مجاهد رحمه الله في قول الله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] قال: الصيحة، والحجارة والريح، وقال الله: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام:65] قال مجاهد رحمه الله: الرجفة والخسف وهما عذاب أهل التكذيب، وعن مجاهد قال: عذاب أهل التكذيب بالصيحة والزلزلة.
إسناده صحيح.
فالله سبحانه وتعالى يرسل العذاب من الأعلى والأسفل، من فوق ومن تحت، ولذلك في الدعاء العظيم: (اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، واحفظني من بين يديَّ ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي) قال وكيع: هو الخسف، وهذا من أدعية الصباح والمساء التي ينبغي على المسلم يحافظ عليها، والشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي) لأنه عذاب شديد؛ لأنه أخذٌ شديد.
ومن أشراط الساعة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل) رواه الإمام البخاري رحمه الله، وهذا من أشراط الساعة.
وفي الحديث الصحيح الآخر الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود قال عليه الصلاة والسلام لأحد الصحابة: (يا بن حوالة! -قال للرجل الحوالي من بني حوالة- قال له عليه الصلاة والسلام يا بن حوالة! إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة -قالوا: هو انتقال الخلافة من المدينة إلى بلاد الشام في عهد بني أمية- فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام، والساعة يومئذٍ أقرب من الناس من يدي هذه من رأسك) فكثرة الزلازل ووقوعها دلالة على قرب قيام الساعة، وهي من وجهٍ رحمة من الله، الله عز وجل يكفر بهذه الزلال أموراً كثيرة من الذنوب والمعاصي والآثام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمتي هذه أمةٌ مرحومة، إنما عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل والبلايا) حديث صحيح.(238/2)
الزلزال آية من آيات الله التي يخوف بها عباده
فالزلازل إذاً آية من آيات الله، يخوف الله بها عباده، قال شيخ الإسلام رحمه الله: والزلازل من الآيات التي يخوف الله بها عباده، كما يخوفهم بالكسوف، وغيره من الآيات.
والحوادث لها أسبابٌ وحكم، فكونها آية يخوف الله بها عباده هي من حكمة ذلك، وكون الزلازل لها أسباب يشرحها علماء الأرض المقصود بهم طبعاً علماء طبقات الأرض، هذه الأسباب لا تنفي كون هذه الزلازل آيات يخوف الله بها عباده، مثل الكسوف، له سبب وله حكمة، السبب معروف من وقوع الكواكب الثلاثة الأرض والشمس والقمر في مسافات معينة في ترتيبٍ معين، فيكون كسوفاً أو خسوفاً، لكن الحكمة يخوف الله بها عباده، فينبغي ألا يخلط المسلم بين السبب والحكمة، وينبغي ألا يشغله السبب عن الحكمة؛ لأن الماديين الأرضيين الذي لا يؤمنون بالله رباً، ولا بالإسلام ديناً، ولا بمحمدٍ نبياً، إذا عرضوا قضية الزلازل فقصارى عرضهم لقضية الزلازل أنهم يتكلمون عن تحرك الصفحات الأرضية وعن الموجات والاهتزازات، هذا حسبهم، لكن نحن إذا سمعنا بها عرفنا أن هذه مجرد أسباب للزلزال (السبب الدنيوي) لكن الحكمة هي أن يخوف الله بها عباده، وهؤلاء كثيراً ما يكذبون، فيقولون: نتوقع زلزالا ولا يحدث، أو لا يتوقعون شيئا أصلا، ولا يخبرون عنه بشيء، آتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، فاختلطت حساباتهم وكان الزلزال مفاجأة للجميع، لم يتنبأ أحد به، ولم يخبر عنه، بل إن الزلازل تحدث في العادة في المناطق الساحلية كما يقولون نتيجة تحرك الصفحات الأرضية، وقرب البحار ونحو ذلك، أما أن يضرب الزلزال في وسط قارةٍ، في وسط الأرض، فهذا ما لم يكن لهم بحسبان، فأين حساباتهم وأين تنبؤاتهم: {لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] كل هذه آيات يا أيها الناس! قد خلت النذر من بين أيدينا ومن خلفنا، كل هذه أمور من الله يخوف الله بها عباده، له في ذلك حكم سبحانه وتعالى، ولذلك فإنه يجب اللجوء إلى الله.
إن قضية الحسابات والأرقام، ومقياس ريختر لا يقدم ولا يؤخر في القضية، الآن حصل ما حصل، والمسألة هي اللجوء إلى الله، أما تحليلها علميا وفي حسابات أرضية، وقد ظهر فشله في كثير من الأشياء، وخابت توقعاتهم، بل إنهم فوجئوا كما فوجئ غيرهم، المقصود قول الله عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الإسراء:59] لكن أين الذي يخاف؟ قال الله عز وجل: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء:60].
بعض الناس لو حصلت الزلازل بعضها وراء بعض وتتابعت ليس هناك فائدة، قلبه ميت مظلم صلب، لا يدخل إليه شيء: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء:60]، ولذلك مهما حدث من الزلازل والخسف والآيات، فإن بعض القلوب القاسية لن تتحرك ولن تلين، وستستمر في الكفر والعجرفة مهما حصل لها: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126] ويرسل الله الآيات للناس لأجل ماذا؟ ليحسبوها بمقياس ريختر؟ أهذا هو السبب؟ أهذه هي الحكمة؟ إنما يخوف الله بها عباده: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الإسراء:59].
من الحكم في الآيات لجوء الناس إلى الله، تضرعهم إلى الله: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43] هلا فعلوا ذلك؟ {إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43] الرسول عليه الصلاة والسلام لما نزل عليه قول الله عز وجل: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] قال: (أعوذ بوجهك) {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام:65] الخسف والزلازل، قال: (أعوذ بوجهك).
الجواب
=6005256> أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16] {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} [الإسراء:68] سبحان الله!(238/3)
سرعة اللجوء إلى الله عند الكوارث
ولذلك العلماء لما تكلموا في موضوع الزلازل -ونقصد علماء الشريعة- تكلموا في هذا المبحث عن اللجوء إلى الله، تكلموا عن الصلاة وهل يصلى للزلازل كصلاة الكسوف أم لا؟ وهل يجتمع الناس للصلاة أم أنهم يصلون متفرقين؟ أخرج البيهقي بإسناد صحيحٍ عن ابن عباس في زلزلة بـ البصرة فأطال القنوت، ثم ركع، ثم رفع رأسه، فأطال القنوت، ثم ركع، ثم رفع رأسه فأطال القنوت، ثم ركع وسجد فقام في الثانية ففعل مثل ذلك، فصارت صلاته أربع ركعات وست سجدات، قال ابن عباس: هكذا صلاة الآيات، هذا قولٌ من أقوال أهل العلم يصلى لها كصلاة الكسوف، وعن جعفر بن برقان قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز في زلزلة كانت بـ الشام: " اخرجوا يوم كذا، ومن استطاع منكم أن يخرج صدقة فليفعل؛ لأن الله تعالى يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15] وإسناده حسن.
قال الشافعي رحمه الله في الصلاة للزلازل: آمر بالصلاة منفردين، ويستحب أن يصلي منفرداً ويدعو ويتضرع لئلا يكون غافلاً، إذ بالرغم من هذه الأشياء يغفل الناس وهذه مصيبة، كل هذا التذكير وهذا التخويف ثم الناس قلوبهم جامدة، يتحدثون في الأشياء العلمية، فلئلا يكون غافلا يصلي منفرداً، يصلي ويدعو ويتضرع إلى الله سبحانه وتعالى.
النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر، إذا كربه أمر أقبل على الصلاة، قال: وكذلك سائر الآيات كالصواعق والريح الشديدة، وقال الإمام أحمد رحمه الله: يصلى للزلزلة الدائمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل الكسوف بأنه آية يخوف الله بها عباده، والزلزلة أشد تخويفاً، فأما الرجفة فلا تبقى مدة تتسع للصلاة، فإذاً من العلماء من قال: يصلون مثل صلاة الكسوف جماعةً، وبعضهم قال: يصلون منفردين، كالإمام الشافعي رحمه الله، وبعضهم قال: صلاة عادية: (إذا رأيتم الآيات فاسجدوا) رواه أبو داود بسندٍ صحيح.
فإذاً ينبغي الفزع للصلاة والخروج من المباني عند الزلزال ليس من الأمور المذمومة، وإنما هو اتخاذ أسباب النجاة، لكن بالأناة والرفق والحكمة، وقد كان المسلمون يفزعون إلى الصلاة عندما تحدث فيهم الزلازل، والزلازل قد حدثت، فمن الأمور ما قال الإمام الذهبي رحمه الله في كتابه العبر في حوادث سنة (232 للهجرة): كانت الزلزلة المهولة بـ دمشق ودامت ثلاث ساعات، وسقطت الجدران وهرب الخلق إلى المصلى يجأرون إلى الله، وهذا هو الشاهد، ومات كثيرٌ من الناس تحت الردم، وامتد إلى أنطاكية، وفي حوادث سنة (233 للهجرة) ذكر ابن عساكر رحمه الله في تاريخ دمشق فقال: زلزلت دمشق يوم الخميس ضحى فقطعت ربع الجامع وتزايلت الحجار العظام -يعني: عن أماكنها- ووقعت المنارة، وسقطت القناطر والمنازل وامتدت في الغوطة، فأتت على دارية والمزة وبيت لهية وغيرها، وخرج الناس إلى المصلى يتضرعون إلى قريبٍ من نصف النهار فسكنت الدنيا، وعاد الأمر إلى الهدوء، وهذا هو الشاهد.
ومن الأمور التي تندب عند حدوث هذه الآيات وعظ الناس وتخويفهم بالله سبحانه وتعالى، أخرج ابن أبي شيبة في المصنف بسندٍ حسن عن صفية بنت أبي عبيد زوجة عبد الله بن عمر قالت: [زلزلت الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر، فخطب عمر الناس، فقال: أحدثتم، لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم] قال: ما حصل إلا بسبب أمرٍ ارتكبتموه، وذنوب اقترفتموها، قال: [أحدثتم، لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم] يعني: يعظهم ويذكرهم بالله سبحانه وتعالى، هذا ما ينبغي فعله من اللجوء إلى الله والصدقة، وقال العلماء: العتق وهو من أنواع الصدقات.
فإذاً اللجوء إلى الله والذكر والتضرع والدعاء والصدقات، نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا آمنين مطمئنين، وأن يدفع عنا الزلازل والمحن والبلايا، وأن يجعلنا وإياكم ممن بات في سربه آمناً، وممن حفظه الله بالإسلام قائماً وقاعداً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(238/4)
الزلزال عقوبة أم ابتلاء؟
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، أشهد أن لا إله إلا الله يفعل ما يشاء، وأشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم مالك الملك، يفعل في خلقه ما يشاء: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] فلله الحكمة البالغة يفعل ما يشاء، هو الذي خلق الخلق إن شاء أحياهم وإن شاء أماتهم وهم داخلون في ملكه، وهم المقهورون الأذلاء بين يديه، إن شاء صعقهم وإن شاء خسف بهم وإن شاء رحمهم: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] مالك الملك يفعل ما يشاء، لا اعتراض على حكمه، ولا خروج لأحدٍ عن علمه، ولا عن فعله، ولا عن اختياره سبحانه وتعالى، وله في كل فعلٍ حكمة، وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلى الله عليه صلاةً دائمة إلى يوم الدين، صلى الله عليه بما هدانا وعلمنا وأرشدنا وذكرنا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون: هل الزلازل ابتلاء أم عقوبة؟ ما هو الفرق بين أن تكون ابتلاء أو عقوبة؟ إذا كانت ابتلاء لرفع درجات وزيادة حسنات، فقد تكون لأتقى خلق الله، الابتلاء قد يكون لأتقى خلق الله، ولو لم يعمل معصية، يزيد الله في حسناته ويرفع درجاته في الجنة.
أما إذا كان عقوبة فإنه يكون للمعصية، للشرك، للتوسل إلى الأموات والطواف بالأضرحة والقبور وتقبيل الأعتاب، وترك الشريعة وتحكيم الجاهلية، والكفر بالله، وشرب الخمور، وارتكاب الموبقات والملاهي والمحرمات بأنواعها، وأكل الربا، وعقوق الوالدين، وتولي الكفر، والتبرؤ من الإسلام وأهله، هذه من أسباب العقوبة، هل يمنع أن يكون الحدث ابتلاء وعقوبة في نفس الوقت؟
الجواب
كلا.
فإنه ابتلاء للمؤمنين، فكل مؤمن أصابه من البلاء ما أصابه، وهو طائع لله، يدعو إلى الله، متمسك بدين الله، موحد لله غير مشرك به، فإنه ابتلاء بحقه، فإذا مات أو سقط عليه البناء، أو جرح أو كسر، أو مات له أولاد أو زوجة أو أقرباء وانهدم بيته وتهشمت سيارته، وعدم أثاثه ونحو ذلك، هذا في حقه ابتلاء يزيد الله حسناته ويرفع به درجاته.
أما إذا كان من المتولين عن الله، المعادين لدين الله، الخارجين عن طاعة الله، فهذا في حقه عقوبة وشر مستطير نزل به، قد يرجع إلى الله فيتوب، وهذا هو المرجو، الله عز وجل يذكرنا: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام:42] {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:48] لعلهم يعقلون {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة:221] وقد لا يحدث له إلا الزيادة في الكفر والزيادة في المعاصي: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء:60].(238/5)
عقوبة الله تعم الجميع
السؤال الثاني: هل يكون الحدث على الجميع؟
الجواب
قالت الصحابية الجليلة للنبي عليه الصلاة والسلام: (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم.
إذا كثر الخبث) أي: انتشر، يهلك الجميع إذا كثر الخبث إلا المصلح: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:165] والفرق بين الصالح والمصلح أن الصالح صالحٌ في نفسه، لكن لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يجاهد في الله، أما المصلح فهو الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لحدوث العذاب ونزول الانتقام من الله على الصالح والطالح، أما الذين ينهون عن السوء هؤلاء قد يكون لهم ابتلاء يرفع الله درجاتهم، وقد ينجيهم ربهم بسبب أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
إذا كثر الخبث، إذا ظهر الفساد، إذا ترك الأمر والنهي نزلت العقوبة على الجميع، ولذلك يجب أن نكون أمارين بالمعروف ناهين عن المنكر، نجاهد في الله حق جهاده، وإلا فالويل لنا جميعاً بلا استثناء: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] إذا سكتوا عن الظالم أوشك أن يعمهم الله بعقابٍ من عنده، إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعذاب، هكذا قال أبو بكر رضي الله عنه.(238/6)
الحكمة من حدوث الزلازل والكوارث
هل للحوادث والزلازل حكم من الله؟ طبعاً هي كثيرة، فمنها تذكير الأقوام وتخويفهم، وتذكير من حولهم: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ} [الرعد:31] لعلهم يعقلون، لعلهم يرجعون وتكون عقوبة وانتقاماً من الله لأهل الباطل، وهذا أمر آخر: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
ثالثاً: إشغال أهل الباطل بأنفسهم عن الكيد لأهل الحق، فيكونون مندفعين في الكيد لأهل الحق، ومحاربة المصلحين، ومحاربة الدعاة إلى الله فيشغلهم الله بأنفسهم.
رابعاً: اصطفاء شهداء لله: إذا كان الإنسان تقياً، مقبلاً على الله فأصابه زلزال، فقبضت روحه أو حصلت له جراحٌ وكسور وابتلي في ماله وأهله فماذا يكون؟ أما إذا مات في مثل الزلازل فإني لا أظنه إلا في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (والهدم شهيد) الهدم: يعني: الذي ينهدم عليه بيته، ويذهب في هذه الحادثة فهو شهيد تجري عليه أحكام الشهداء، يعني: شهيد الآخرة.
أما في الدنيا فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه مثل بقية الأموات، لكنه في عداد الشهداء، والشهداء مراتب أعلاهم قتلى المعارك في سبيل الله، والهدم شهيد، فإذاً الذين يموتون تحت الأنقاض إذا كانوا من عباد الله الموحدين فنرجو أن تكون لهم شهادة.
وكذلك من الحكم إظهار أهل الخير على خيرهم، فإنكم تسمعون ونسمع جميعاً ما حصل من قيام الوعاظ بالتذكير، والخطباء المصلحين بأمر تنبيه الناس عن الذنوب والمعاصي في البلاد التي أصابتها الزلازل، وكذلك قيام الدعاة وأهل الخير بإغاثة المنكوبين ومساعدة المحتاجين، وإغاثة الملهوفين ومد يد العون لهم، وهذا فيه فائدة عظيمة وهي إظهار الحق للناس، وأن أولى الناس بالناس هم الدعاة المصلحون، هم الذين إذا حصلت الفتن قاموا ينبهون، وإذا نزلت الكوارث وحلت قاموا يساعدون، يدفعهم الدافع الإيماني والرغبة في الثواب، ولذلك فإنهم يحتسبون الأجر من الله في تقديم كل مساعدة إلى من يحتاج إلى مساعدة، رغم قلة الإمكانيات وضعف الذات يقدمون ما لديهم، فيتعلم الناس كما تعلَّموا في كثير من الأزمات، أن أولى الناس بالناس هم الدعاة المصلحون، أهل الخير المستقيمون، أول من يعاون وأول من يشارك، وأول من يساهم بدون مرتبات، أطباء ومهندسون قاموا لله يساهمون في مساعدة الناس بدون رواتب، احتساباً، ولله حكم في تحطم معابد أهل الوثنية، والآثار الجاهلية، لو جلسنا نتأمل في حكم الله في الأحداث الواقعة والله ما ننتهي لو كان عندنا عقل أو ألقينا السمع ونحن شهداء.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا آمنين في أوطاننا، اللهم باعد بيننا وبين الزلازل والمحن، واجعلنا آمنين مطمئنين وسائر المسلمين يا رب العالمين، اللهم احفظ بلدنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، اللهم ادفع عنا وعن المسلمين البلاء.(238/7)
حكمة إبراهيم الخليل
قصَّ الله علينا في كتابه من أخبار الأنبياء ما هو مجال للاقتداء، ومن هؤلاء أبو الأنبياء وإمام التوحيد إبراهيم عليه السلام، ففي هذه الخطبة ذكر لحياته عليه السلام وجوانب من دعوته لقومه، إضافة إلى بيان مدى استسلامه عليه السلام لأوامر الله تعالى مع ذكر بعض مناقبه.(239/1)
مولد إبراهيم عليه السلام ونشأته
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
إن الله قص علينا في كتابه من أخبار الأنبياء ما هو فعلاً مجالٌ للاقتداء والاقتفاء بأولئك الأنبياء، بل إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم وبهديهم: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
والأنبياء على مراتب، وقد فضل الله بعضهم على بعض: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253] وأفضل الأنبياء على الإطلاق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والذي يليه في الفضل والمرتبة خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، هذا النبي الجليل الكريم الذي قام يدعو إلى الوحدانية ويحارب الشرك، وهذا أهم ما تميزت فيه دعوته من خلال عمله ومناظراته مع أهل الكفر، وكان مع ذلك إنساناً تتجلى فيه المعالم الجليلة التي أودعها الله في نفسه، وكان شخصية متكاملة، وهو بحق أبو الأنبياء، وهو الذي آتاه الله نبوة عظيمة، ومرتبة جليلة.
وُلد إبراهيم عليه السلام في أرض بابل، وهي أرض الكلدانيين كما ذكر ذلك مؤرخو الإسلام، واسم أبيه آزر كما قال الله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام:74] وقال الطبري رحمه الله: قال عامة السلف من أهل العلم: كان مولد إبراهيم عليه السلام في عهد النمرود، هذا الملك الطاغية الظالم الغشوم، الذي جعل نفسه إلهاً يعبد، وحمل الناس على ذلك، وفي هذه البيئة الفاسدة من عبادة الأوثان والأصنام عاش إبراهيم عليه السلام، فلا يوجد أثر للوحدانية ولا للتوحيد؛ لأن البشرية كانت قد انحرفت في ذلك الوقت، فأراد الله أن يعيدها إلى التوحيد، فابتعث فيهم إبراهيم.
عاش إبراهيم عليه السلام في هذه البيئة، ولما شب تزوج بـ سارة وكانت عقيماً لا تلد، وكان منذ صغره صائب الرأي، ثاقب الفكر، راجح العقل، قوي الحجة كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51].
وقد ابتلاه الله بكلمات قيل: هن سنن الفطرة خمس في الرأس وخمس في الجسد، فأتمهن، فجازاه الله بالإمامة: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة:124] وهكذا لا تكون المراتب العالية إلا بعد المجاهدة، فمن أراد أن يكون قدوة للناس وأن يكون إماماً يؤتم به، فلا بد أن يجاهد نفسه حاملاً لها على طاعة الله والتزام أوامره، فلما أدى الأمانة؛ رزقه الإمامة: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37] بما أمره الله به، وكان من صبره وجلده أنه اختتن كبيراً كما جاء في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدُّوم) القدُّوم بالتشديد اسم آلة، وفي رواية: بالقدوم وهو اسم موضع.(239/2)
دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه
ولما عرف إبراهيم التوحيد؛ سار إلى الله تعالى بخطى ثابتة يدعو قومه، فكان أول ما بدأ به دعوة أبيه إلى الإسلام وإلى التوحيد، فقد كان أبوه من عباد الأصنام ومن سدنتها، فبدأ به كما قال الله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] وهكذا الترتيب في الدعوة يا معشر الدعاة! فيبدأ بالأقربين: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [مريم:41 - 45].
فكان جواب الأب الظالم الغشوم: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} [مريم:46] هل أنت تريد أن تبتعد وتترك هذه الآلهة وتخرج عن عبادتها؟ {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} [مريم:46] عن هذه المفارقة للآلهة وهذه الدعوة التي أتيت بها: {لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [مريم:46] فارقني وابتعد عني وإلا رجمتك، كان هذا جوابه، فبماذا أجاب الولد البار بأبيه المشرك؟ {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم:47].
هذا هو الأسلوب الدعوي الجذاب الذي حاول فيه إبراهيم الخليل، أن يكسر حجة أبيه وأن يعيده إلى جادة الصواب، لقد استخدم هذا الأسلوب الموجب للعطف والحنان، لكي يهدئ من ثورة أبيه المشرك ويحاول اجتذابه، لم يبدأ إبراهيم بالحديث عن غزارة علمه أو قوة حجته، وإنما تكلم بهذا النداء "يا أبتِ" المنطوي على غاية التواضع لهذا الأب له لعله يهتدي، كما أنه لم يصف أباه بالجهل ونفسه بالعلم وإنما قال: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي} [مريم:43] وهكذا تكون الدعوة مع كبار السن ومع الآباء والأجداد بالتلطف والرفق وإدخال عامل العاطفة والحنان والمناشدة والنداء؛ عل الله أن يفتح بذلك قلباً أغلف أو أذناً صماء أو عيناً عمياء.
كان استغفار الابن لأبيه في بداية دعوته؛ لما لم يتبين له بعد إصرار أبيه على الشرك: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة:114] لكن لما: {تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ} [التوبة:114] ومات على الشرك: {تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114].
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الإمام البخاري: (يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة -سواد وغبرة- فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب! إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، وأي خزي أخزى من أبي الأبعد، فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين، فيقال: يا إبراهيم! انظر ما بين رجليك، فينظر فإذا هو بذيخ -أي: ضبع، متلطخ قذر منتن- فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار) قال الحافظ رحمه الله: وفي رواية إبراهيم بن طهمان: (فيؤخذ منه فيقول: يا إبراهيم! أين أبوك؟ قال: أنت أخذته مني، قال: انظر أسفل، فينظر فإذا ذيخٌ يتمرغ في نتنه) ضبع في صورة قبيحة ورائحة منتنة.
وفي رواية أيوب: (فيمسخ الله أباه ضبعاً فيأخذ بأنفه - أي: إبراهيم يأخذ بأصابعه أنفه من نتن الرائحة- فيقول: يا عبدي! أبوك هو؟ فيقول: لا وعزتك) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قيل الحكمة في مسخه لتنفر نفس إبراهيم منه، لئلا يبقى في النار على صورته، فيكون غضاضة على إبراهيم، وهكذا ينتهي الأب المجرم بهذا المصير المخزي؛ لما رفض سماع كلام الولد الصالح، فماذا عسانا نقول لأولئك القوم الذين غلوا في طغيانهم وفجورهم، فلما هدى الله أولادهم إلى الصراط المستقيم من قاموا لهم بالنصيحة وبينوا لهم الطريق القويم، ولكن أخذتهم العزة بالإثم فلا يريدون الرجوع عن طريق الغواية إلى طريق الحق والهداية، ويصرون على الباطل ويستهزئون بالولد الصالح وهو يدعوهم إلى الله تعالى وإلى ترك الفجور والخنا على الكبر والشيب، وترك الخمرة في نهاية العمر، ولكن لا فائدة، فأي مصير ينتظرهم وهم المعرضون عن التذكير والنصح؟ فتباً لتلك الأفئدة ما أقواها على النار! وهي لا تقوى على النار.(239/3)
دعوة إبراهيم عليه السلام لقومه
انطلق إبراهيم الخليل في دعوة قومه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:85 - 87].
فماذا كان جواب القوم؟ وبأي شيء اصطدم إبراهيم الخليل في أول دعوته؟ لقد اصطدم بجدار عجيب، لقد اصطدم بعقبة كئود، لقد اصطدم بعائق كبير إنه تقليد الآباء والأجداد، فكان الرد من قومه على دعوته: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74] {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:51 - 54].
واليوم يكون عائق تقليد الآباء والأجداد عائقاً كبيراً يصد عن ترك العادات والتقاليد المخزية المنافية للشريعة المتينة التي تنتشر في أوساط الناس لجهلهم، فكلما أردت أن تعلم شخصاً شيئاً من أحكام الصلاة ونحو ذلك، قال: وجدت أبي هكذا يصلي، ويستمر الخاطئ على الخطأ، وهكذا لو قلت: هذه عادة قبيحة، هذا جهل، قال: هكذا وجدنا أنفسنا منذ صغرنا وعلى هذا تربينا ونشأنا.
{لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:54] فما معنى إذاً الاستمرار على العادات والتقاليد المخالفة للشريعة والشعور بالعيب والنقص إذا تركها الشخص؟ لا شك أن في ذلك سفاهة عقل وبعداً عن الحق وتقديماً للآباء والأجداد على الله ورسوله، وهذا مبدأ في غاية الخطورة، يذوق منه الدعاة الويل اليوم في واقع الناس.
وكان إبراهيم عليه السلام قد أوتي حجة من الله، مؤيداً بالوحي، ينطق لسانه بالحق والحكمة، فبدأ في مناظرة قومه: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75] فهو من المؤمنين والمسلمين، ولم يشرك إبراهيم قط: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:76] والقوم موجودون حضور وشهود: {رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام:76] فكيف أتخذ رباً يأفل! {فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * {فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:77 - 78].
كانوا يعبدون الأصنام والأوثان فأراد بهذه الطريقة الذكية أن يستدرجهم بالكوكب والقمر والشمس إلى إقامة الحجة عليهم، والقوم يشاهدون هذه الظاهرة، وقال إبراهيم في نهاية كلامه: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} [الأنعام:79 - 80] خوفوه بالآلهة، خوفوه بالأنداد والأصنام، ولكن إبراهيم يقول: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا} [الأنعام:80 - 82] لم يخلطوا {إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82]، بشرك {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
أقام عليهم الحجة فأفحمهم وأسكتهم، ولذلك قال الله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:83] ولا يجوز الاعتقاد بأي حال من الأحوال أن إبراهيم كان مشركاً أو أنه كان لا يعرف ربه، أو أنه كان محتاراً شاكاً فهذا قول الضلال، فإن إبراهيم كان موحداً وهذه طريقة للدعوة وللاستدراج وللإقناع والتنزل مع الخصم، ولا تدل بأي حال من الأحوال أبداً على إن إبراهيم كان مشركاً أو مشككاً أو متحيراً، فإن الله قال عنه: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:135] وقال العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله: ونفي الكون الماضي يستغرق جميع الزمن الماضي، فثبت أنه لم يتقدم عليه شرك يوماً ما: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:135] ولا في أي وقت من الأوقات، لم يكن إبراهيم عليه السلام من المشركين.(239/4)
إبراهيم يحاجج النمرود
لم يكن إبراهيم بذلك الرجل يناقش الضعفاء والعامة ويترك الأقوياء والكبراء، وإنما كان يثبت الحق عند الجميع، لم يكن ليخاف في الله لومة لائم، ولذلك لما وصلت القضية إلى النمرود، قام إبراهيم لله بالحجة بين يديه فأمره ونهاه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة:258] ألم تر إلى هذا الحقير! ألم تر إلى وتتعجب منه ومن حاله وغروره: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة:258] بدلاً من أن يشكر هذه النعمة إذا به يكفر ويشرك: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة:258] بدلاً من أن يشكر نعمة الملك إذا به يدعي أنه رب، ويقول إبراهيم أمامه: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] بكل صلافة ووقاحة، أنا أحيي وأميت، فيأخذ رجلاً ويقتله، وآخر حكم عليه بالقتل فيعفو عنه، ويقول: أحييته، فلما يرى الداعية الفقيه أن هناك مجالاً للطاغية أو للفاسق والفاجر في المناقشة في أمرٍ الحق فيه واضح، ولكن يريد أن يرد، ينتقل إلى أمر لا يمكن فيه أن يرد: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258] بهت وتحير واضطرب وتغير وأسقط في يده، فماذا عساه أن يقول الآن؟ {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258] وهكذا قام إبراهيم لله بالحجة على هذا الطاغية.(239/5)
إبراهيم يكسر الأصنام
انتهز إبراهيم فرصة خروج قومه في عيدٍ لهم إلى خارج البلد على عادةٍ منهم وتقليد من التقاليد، بعد أن أقام عليهم الحجة: {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:54 - 58] لما خرجوا ادعى إبراهيم المرض: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:88 - 89].
وذلك لكي يعقد لهم هذه الخطة التي تبين لهم في النهاية سفه الرأي وضلالة، فلما خرجوا دخل بيت الأصنام وراغ عليهم ضرباً باليمين، بفأس في يديه راح يكسرها حتى جعلها جذاذاً حطاماً مكسرة كلها إلا كبيراً لهم وضع الفأس في يده إشارة إلى أنه غار أن تعبد معه هذه الصغار، أراد أن ينبههم أيضاً فكيف بالله الواحد القهار؟ ترك الكبير والفأس معلقة في يد الكبير، كأنه يقول لهم: إنه غار من أن تعبد معه هذه الصغار، ليقول لهم بطريقة غير مباشرة: فكيف بالواحد القهار تعبدون معه هذه الأحجار؟! فرجع القوم من عيدهم، ويا لهول ما رأوا! لأن أعظم شيء عندهم عبادة هذه الأصنام، فكان الهم الوحيد لهم: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59] وبدأ التحقيق والبحث والسؤال وجمع الأقوال واتجهت الأنظار إلى إبراهيم الخليل: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60] كان فتىً عندما فعل ذلك، كان في مقتبل العمر: {سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء:60 - 61].
هذه المحاكمة والنهاية للإجرام الذي فعله، بدأت المحاكمة العلنية وتقاطر الناس من كل مكان وبدأ التحقيق مع هذا الذي فعل: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62] كان بإمكانه بأن يقول من البداية: أنا فعلتها ولا يخشى في الله لومة لائم، لكن عنده أمل أن يقتنع القوم: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:63] قيل: هي تورية، وقيل: إن كان ينطق فهو الذي فعله، استخدم إبراهيم عليه السلام هذا الأسلوب لإقناع قومه: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:63].
وهنا كأن القوم قد أسقط في أيديهم: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} [الأنبياء:64 - 65] لم يعلوا جواباً ولم ينطقوا بكلمة؛ لأن الحجة قوية فعلاً، هل فعله هذا؟ إذا كان لم يفعله هذا وفعله إبراهيم، فلماذا نعبد هذا إذاً وهو لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، نعبد أصناماًَ لا تستطيع أن تدفع عن نفسها؟! وإن كان فعله هذا غيرة على نفسه من الصغار، فكيف إذاً بالواحد القهار؟! فـ {نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} [الأنبياء:65] لقد ألجمتهم الحجة والكلمة البينة القاطعة، وهكذا يجب أن تكون الدعوة بلسان واضح صريح وحجة بينة دامغة تسكت المعاند وتلقمه حجراً.
الجواب
=6002548> قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:66 - 67].
ولكن الذي يبتلى به كثير من الناس هو العناد والمكابرة رغم وضوح الحق: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:68] وانتقموا من أجلها: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:68] جمعوا الحطب وأججوا النيران، وألقوا إبراهيم فيها جزاءً أمام الناس، ولكن الذي خلق النار قادر أن يسلب منها خاصية الإحراق: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].
فكانت برداً قلع منها الحر، وسلاماً على إبراهيم: لا يؤذيه لا حرها ولا بردها: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:70] وهكذا ينجي الله أولياءه وعباده الصالحين من الشرور إذا هم توكلوا عليه وأنابوا إليه، وهذا درسٌ عظيمٌ ينبغي أن يتأمل فيه كل إنسان يقوم لله بالحجة.
إن إبراهيم لما ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا أطفأت النار عنه غير الوزغ، فإنها كانت تنفخ عليه، فلذلك كان فيها أجر لمن قتلها، من قتل وزغاً من أول ضربة كان له مائة حسنة، والثانية خمسون حسنة، كله تذكير بعهد إبراهيم، وأمر إبراهيم، وكان لـ عائشة رمح تقتل به الأوزاغ.
قال ابن عباس: [كان قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل] حسبي الله: يكفيني، ونعم الوكيل، ولذلك نجاه الله من النار، إن في ذلك لعبرة لأولي الألباب ولأولي الأبصار.
فاعقلوا واتعظوا يا أيها المسلمون! من سيرة هذا النبي الجليل، أحبوه من قلوبكم؛ لما قام لله بالحجة والحق، أَحِبُّوه؛ لأنه كان إماماً وقدوة، أَحِبُّوه؛ لأنه كان موحداً لا يخاف في الله لومة لائم.
اللهم اجعلنا على ملة إبراهيم، وارزقنا اتباع التوحيد والدين القويم إنك أنت الغفور الرحيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(239/6)
ضيافة إبراهيم عليه السلام للملائكة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء والمرسلين وإمام المتقين، وحامل لواء الحمد يوم الدين، وصاحب الشفاعة العظمى الذي ترغب إليه الخلائق كلهم حتى إبراهيم، كما جاء في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المسلمون: لم يكن إبراهيم داعيةً إلى التوحيد فحسب، وإنما كان إنساناً كريماً يكرم الضيف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان أول من أضاف الضيف إبراهيم) ومعلوم خبر الملائكة الذين أتوا إليه، وكانوا يريدون القضاء على قوم لوط الذي كان من آل إبراهيم موحد مثله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات:24 - 25] فرحب بهم ولو أنه لا يعرفهم، وفتح الباب لأجلهم، دخلوا عليه فقالوا سلاما، أي: بابه مفتوح للضيوف، فراغ إلى أهله خفية حتى لا يشعروا بالحرج، لأنه يريد أن يقدم لهم ضيافة: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] جاء بعجل سمين على وجه السرعة، عجل مشوي على الرضف المحمى، طعام نفيس للضيوف، ولم يقل: تعالوا وإنما قربه إليهم ودعاهم إلى الأكل فقال: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27]؟ حتى يبتدءوا، لأن الناس يجلسون على الطعام ينتظرون إشارة المضيف، وإبراهيم يسارع ويقول: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] وسائر أنواع كرم الضيف تجدها في سيرته عليه السلام وهو يكرم أولئك الملائكة الذين لم يأكلوا؛ لأنهم لا يأكلون.(239/7)
استسلام إبراهيم عليه السلام لأوامر ربه
لقد كان إبراهيم مسلماً لأمر ربه لا يخرج عن طاعته، وكان استسلامه لأمر الله عجيباً يتمثل ذلك في عدة مواقف منها:(239/8)
حادثة ذبح ابن إبراهيم
في حادثة الذبح المشهورة، إبراهيم ما كان ينجب من زوجته، ومع ذلك يدعو الله ولو كان في الكبر، يقول: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100] ولم يقل: هب لي ولداً ذكراً وإنما {مِنَ الصَّالِحِينَ} يريد صالحاً؛ لأن مجرد الولد قد يكون عاراً وشناراً على أبويه: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100] فتعلم يا عبد الله! يا أيها المتزوج! كيف تطلب الولد من الله من سيرة أبيك إبراهيم {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100].
المهم أن يكون صالحاً: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات:101 - 102] لما كبر الولد وشب وأطاق السعي مع أبيه، إذا بهذا الابتلاء العظيم من الله: يرى إبراهيم في المنام رؤيا ورؤيا الأنبياء حق: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] الولد من تربية الوالد: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:102 - 103] الولد والوالد: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] قلبه على قفاه لكي لا يشاهد علامات التألم عند الذبح، فربما يتردد، فشرع في الذبح ولكن الله كان يريد أن يبتلي ابتلاء يرفع به درجة ذلك النبي وولده: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:104 - 106].
أن يذبح الولد الذي جاءه الآن بعد انتظار سنين طويلة دون إنجاب، بعدما بلغ معه السعي، فأي استسلام هذا! وأي طاعة لأمر الله! وفداه الله بذبح عظيم صار شعاراً وسنة وإلى الآن يذبح الناس الضحايا تذكيراً بسيرة ذلك النبي الكريم.(239/9)
ترك إبراهيم لزوجه وولده في مكة
أيها الإخوة: لقد كان إبراهيم عليه السلام آية من آيات الله سبحانه وتعالى، كان إبراهيم نبياً كريما، تجلى استسلامه أيضاً لله لما ترك ولده وأم الولد في مكة في أرض ليس فيها بشر ولا زرع لأن الله أمره بهذا، ورفض أن يتردد ومضى حتى علمت ولحقت به أم الولد تقول: أين تتركنا في هذا المكان؟ حتى علمت أن الله أمره بهذا، فقالت: لن يضيعنا.
كان إبراهيم يرجع ليتفقد أولاده وتركته، فهو يرعى مصلحة الأسرة فلما رأى الزوجة التي عند ولده فيها فساد واعوجاج أمر بطلاقها، ولما رأى الزوجة التي تليها صالحة بارة، أمر بإبقائها.(239/10)
من مناقب إبراهيم عليه السلام
كان إبراهيم يستعين بولده في بناء البيت، وهو يدعو أن يبعث الله فيمن بعده نبياً حتى تستمر الدعوة ويستمر التوحيد؛ لأنه يعلم أنه ميت، فإبراهيم حريص على مستقبل هذه البشرية، ولذلك فإن لهذا النبي الكريم من المناقب أموراً كثيرة: الأولى: أنه أول من يكسى من الخلق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نتبع في الحج كثيراً من شعائر إبراهيم، كونوا على مشاعركم هذه، فإنكم اليوم على إرث من إرث إبراهيم، ونحن نتخذ من مقام إبراهيم مصلى كما أمرنا: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125].
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب إبراهيم حباً شديداً حتى سمى ولده باسمه: (إنه ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم)، ولما شبه الأنبياء قال: (أما إبراهيم فأشبه الناس بي فانظروا إلى صاحبكم) يعني نفسه، ولقد استفدنا من إبراهيم حياً وميتاً، واستفدنا من إبراهيم بعد وفاته بهذه السيرة التي ذكرها الله لنا، ونستفيد منه لكفالة أولاد المسلمين الذين ماتوا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطفال المسلمين في جبل في الجنة يكفلهم إبراهيم وسارة، حتى يردهم إلى آبائهم يوم القيامة).
فهنيئاً لك يا عبد الله، يا من مات لك ولد وأنت في الإسلام ثابت على هذا الدين صابر ومحتسب لأمر الله، فإن ولدك عند إبراهيم، لقد استفدنا من إبراهيم بعد وفاته في أنه يكفل أولاد المسلمين، وهذه وصية من إبراهيم لنا بعد وفاته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام -هذا إبراهيم يسلم علينا نحن أمة النبي صلى الله عليه وسلم- وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) فمن شاء أن ينفذ وصية إبراهيم له، وأن يقوم بهذه الوصية من إبراهيم بعد موته؛ فليأخذها إذاً بكثرة ذكر الله، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر اليهود والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم إنهم طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد؛ فصب عليهم سوط عذاب، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يخافك ويتقيك، اجعلنا من عبادك الأخيار، وجندك الأبرار، وارحمنا في هذه الساعة في هذا المكان يا أرحم الراحمين.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182].(239/11)
ذكرى المثوى
هذا اللهو وهذه الغفلة، وهذا التجاهل المتعمد لحقيقة وجودنا، كل ذلك يمثل احتشاداً لمهرجان البكاء الأعظم، والحزن الذي لا ينتهي، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، فالموت أمره عظيم، وكفى به واعظاً!! وهذه المادة عبارة عن تنبيهات هامة في موضوع الموت وسكراته، وكيف أهمّ السلف وأهمله الخلف، وكيف ينبغي أن نتعامل معه كحقيقة مرة لا محيص عنها.(240/1)
أهمية تذكر الموت
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
الجواب
=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] لقد ألهانا ما في هذه الدنيا عن الاستعداد للدار الآخرة، إن هذا البهرج وهذه الزينة، إن هذه الألوان والسلع، إن هذه التسالي والألعاب، إن هذه الأفلام والمسلسلات، إن هذه الأسفار والسياحات، إن هذه الملابس والصناعات؛ قد ألهتنا عن الله تعالى والاستعداد للدار الآخرة، ولا يزال أهل الدنيا في غفلة حتى يأتيهم الموت، فإذا ماتوا انتبهوا.
الموت -يا عباد الله- حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على تذكره وأمرنا بذلك فقال: (أكثروا من ذكر هادم اللذات) وامتثالاً لأمره صلى الله عليه وسلم، تعالوا بنا نتذكر شيئاً من الأمر الذي أمرنا به صلى الله عليه وسلم، وهو تذكر الموت، لعل الله تعالى أن ينعش قلوبنا بذكره، وأن يزيل الغفلة عن القلوب الصدئة، وأن يعود من انحرف إلى الجادة، وأن يزداد الذي سلك الجادة عبادة، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8] نَفِرُّ من الحوادث والأمراض إلى الأطباء والمستشفيات، نَفِرُّ من الموت والموت ملاقينا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] إنه مجيءٌ أكيدٌ ولابد: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام:93] إن هذا الموت يا عباد الله آتٍ لا محالة، كيف بأمرٍ إذا نزل قطَّع الأوصال، أمر يقطع أوصالك، ويفرق أعضاءك، ويهدم أركانك؟ إنه حقاً أمرٌ عظيمٌ وخطبٌ جسيم، وإن يومه لهو اليوم العظيم، قال ابن مسعود رحمه الله: [ليس للمؤمن راحة دون لقاء الله] وهذا الأمر قد نسيناه، دهانا مجرد ذكر الموت والحديث فيه، والكثير يغضب إذا ذكر الموت ويقول: تنغص علينا حياتنا وعيشتنا، تنغص علينا أكلنا ومعيشتنا، وذِكر الموت ليس لتكدير حياة الناس وإفساد مجالسهم ونزع السعادة منهم، ولكن لإصلاح حالهم وتنوير قلوبهم، وجعلهم مستعدين للقاء الله والقدوم عليه.
قيل للحسن رحمه الله: يا أبا سعيد! كيف نصنع؟ نجالس أقواماً يخوفونا حتى تكاد قلوبنا تطير، فقال: والله أن تخالل أقواماً يخوفونك حتى يدركك أمنٌ؛ خيرٌ من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى يدركك الخوف.
وقال رحمه الله: كان من كان قبلكم يقربون هذا الأمر، كان أحدهم يأخذ ماءً لوضوئه ثم يتنحى لحاجته مخافة أن يأتيه أمر الله وهو على غير طهارة، فإذا فرغ من حاجته توضأ.(240/2)
الاتعاظ بالموت للشباب والشيوخ
يا عبد الله! إن ملك الموت إذا جاء لم يمنعه منك وفرة مالك ولا كثرة احتشادك، أما علمت أن ساعة الموت ذات كربٍ شديد، وغصص وندامة على تفريط، رحم الله عبداً عمل لساعة الموت، وما نراه في المقابر أعظم عظةٍ وأكبر معتبر.
تمر بنا أيامٌ أيها الإخوة! تتابع علينا أخبار الوفيات، تتابع الجنازات وأخبار الأموات، هذا صديق، وهذا قريب، وهذا جار، قد اختطفهم الموت بأمر الله تعالى، وما نراه في المقابر أعظم عظة وأكبر معتبر، فحامل الجنازة اليوم محمولٌ غداً، ومن يرجع من المقبرة إلى بيته اليوم سيُرجع عنه غداً ويترك وحيداً فريداً مرتهناً بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
يا أيها الشاب! لا تغرنك الصحة والقوة والعافية، ولا يغرنك الشباب وكلام الأصحاب، لا يغرنك عِشاءٌ ساكن قد يوافي بالمنيات السحر، قد يأخذك على حين غفلة، وأنت لا ترى الموت يصل إليك، بل تراه بعيدا.
أيها المسلمون! أيها الإخوان! يا عباد الله! هذه ذكرى للشاب، أما من وخطه الشيب وأمد الله في عمره، وتخطاه الموت في سن الشباب فإن شيبه نذير الموت.
تقول النفس غَيِّرْ لون هذا عساك تطيب في عمرٍ يسيرِ
فقلت لها المشيب نذير عمري ولست مسوداً وجه النذير
قال صلى الله عليه وسلم: (من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة).(240/3)
عظم أمر الموت
إذا جاءنا هذا الأمر من الله فهل إلى الطبيب من سبيلٍ، فتدعى الأطباء؟ أو إلى الشفاء طريقٌ فيرجى الشفاء؟ ما يقال إلا فلانٌ أوصى، ولماله أحصى، قد ثقل لسانه فلا يكلم إخوانه، ولا يعرف جيرانه، وعرق الجبين، وتتابع الأنين، وثبت اليقين، وصدقت الظنون، وتلجلج اللسان وبكى الإخوان، هذا ابنك فلان، وهذا أخوك فلان، قد منعت الكلام فلا تنطق، وختم على لسان فلا ينطق، ثم حل بك القضاء، وانتُزعت النفس من الأعضاء، ثم عرج بها إلى السماء، فاجتمع عند ذلك إخوانك وأحضرت أكفانك، فغسلوك وكفنوك، فانقطع عوادك، واستراح حُسادك، وانصرف أهلك إلى مالك، وبقيت مرتهناً بأعمالك.
قال سفيان الثوري رحمه الله مبيناً حال شيخٍ كبيرٍ في استعداده للموت: رأيت شيخاً كبيراً في مسجد الكوفة يقول: أنا في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة أنتظر الموت أن ينزل بي، لو أتاني ما أمرته بشيء، ولا نهيته عن شيء، ولا لي على أحدٍ شيء، ولا لأحدٍ عندي شيء، أنتظر الموت، أنتظر أمر الله على عبادةٍ وطاعة.
لو أتانا الموت يا عباد الله! فقرع بابنا واستأذن للولوج -ولن يستأذن- لاحتجنا إلى سنوات طويلة نرتب أمورنا ونسدد حقوقنا، ولكن السلف كانوا على استعدادٍ دائم.
انظر يا أخي في غدك ودنو أجلك وقلة عملك، فقد كتب بعض أهل الحكمة إلى رجلٍ من إخوانه: يا أخي! احذر الموت في هذه الدار قبل أن تصير إلى دارٍ تتمنى الموت فيها فلا تجده؛ يُتمنى الموت في ذلك اليوم: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] فلنحذر في هذه الدار قبل أن نصير إلى دارٍ نتمنى فيه الموت فلا يحصل.
قال يحيى بن معاذ رحمه الله: مصيبتان للعبد في ماله لم يسمع بمثلها الأولون والآخرون، قيل: وما هما؟ قال: يؤخذ منه كله ويسأل عنه كله، فأي مصيبة في المال أعظم من هذه؟ لو احترق، أو ذهب في الدنيا لأتى غيره بدلاً منه، يأتي هو ببدلٍ منه، لكن عند الموت يؤخذ منه كله، ولا يأتي ببدل، ويسأل عنه كله، وعن كل درهمٍ: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ قيل لـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه: [توفي فلانٌ الأنصاري، قال: رحمه الله، قالوا: ترك مائة ألف، قال: لكن هي لم تتركه] وكيف تتركه وهنالك كتابٌ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها.(240/4)
حال خير الناس في سكرات الموت
(إن للموت لسكرات) قالها النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدخل يديه في ركوة ماء ويمسح بها وجهه الشريف، وهو يحتضر يقول: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات) (ولما رأت فاطمة رضي الله عنها ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه قالت: واكرب أبتاه! فقال لها: ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم) ولما احتضر أبو بكر الصديق رضي الله عنه تمثلت عائشة ببيت من الشعر:
أعاذل ما يغني الحذار عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر رضي الله عنه: [ليس كذلك يا بنية! ولكن قولي: ((وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)) [ق:19] ثم قال: انظروا ثوبيَّ هذين فاغسلوهما ثم كفنوني فيهما، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت].
وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه لما كان في مرضه الذي مات فيه، قال: " أجلسوني، فأجلسوه، ثم قال: أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه، وأَحدَّ النظر وقال: قد أصبحنا، أعوذ بالله من ليلةٍ صباحها إلى النار ".
هذه كلمات أخرى لـ معاذ بن جبل لما نزل به الموت قال: [مرحباً بالموت زائراً مغيباً، وحبيباً جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار ولكن لطول ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر].
فكانوا ثابتين عند الموت لما كان لهم الثبات في الحياة، الطاعة في الحياة تثمر ثباتاً عند الموت، والمعصية في الحياة تثمر اللجلجة والحشرجة، وعدم التوبة وقلة الثبات عند الموت، ولذلك كان السلف رحمهم الله أثبت ما يكونون في تلك الساعة، وهي أحوج ما يكون فيها الإنسان إلى الإيمان، وإلى سلامة العقيدة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن ثبتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم هوِّن علينا سكرات الموت، وارزقنا الثبات عند الممات، اللهم إنا نسألك المغفرة والرحمة والعتق من النار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(240/5)
استعداد الصحابة والسلف للموت وتأثرهم به
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، أشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم، لا إله إلا هو يحيي ويميت وهو حيٌ لا يموت والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: بكى أبو هريرة في مرضه فقيل له: [ما يبكيك؟ فقال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي على بُعد سفري وقلة زادي، وأنا أصبحت في صعودٍ مهبطٍ على جنة ونار، ولا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي].
وهذا عمر رضي الله عنه لما حضره ابن عباس فقال له: [أبشر يا أمير المؤمنين! أسلمت مع رسول الله حين كفر الناس، وقاتلت مع رسول الله حين خذله الناس، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك رجلان، فقال عمر: أعد، فأعاد، فقال عمر: المغرور من غررتموه، لو أن لي ما على ظهرها من بيضاء وصفراء من الذهب والفضة لافتديت به مِنْ هَوْلِ المطلع].
ولما حضرت سلمان الفارسي الوفاة بكى فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: [ما أبكي جزعاً على الدنيا، ولكن عَهِد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون بُلغة أحدنا من الدنيا كزاد الراكب] هذا هو الذي يكون معه في الدنيا كزاد الراكب، فلما مات سلمان نُظر في جميع ما ترك، فإذا قيمته بضعة عشر درهماً، خاف من بضعة عشر درهماً أن يكون خالف فيها وصية النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكَّر عمر بن عبد العزيز من حوله فقال: " ألا ترون أنكم تجهزون كل يومٍ غادياً أو رائحاً إلى الله عز وجل، وتضعونه في صدعٍ من الأرض قد توسد التراب، وخلف الأحباب وقطع الأسباب ".
سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقسوتي لم تزل والموت يطلبني
ولي بقايا ذنوبٍ لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلن(240/6)
تأثر السلف عند رؤية الجنازة
نظر عمر بن عبد العزيز وهو في جنازة إلى قومٍ قد تلثموا من الغبار والشمس، وانحازوا إلى الظل، فبكى وقال:
من كان حين تصيب الشمس جبهته أو الغبار يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشته فسوف يسكن يوماً راغماً جدثا
في قعر مظلمةٍ غبراء موحشةٍ يطيل في قعرها تحت الثرى اللبثا
تجهزي بجهازٍ تبلغين به يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
هانحن نمر في الجنائز ونمشي فيها ونحملها ولا تدمع العيون، ولا تتحرك القلوب، ولا ترى على الوجوه آثار الخشية من هذا المصير، والله إنها غفلة! وإلا فمن لا يعتبر بميت محمولٍ إلى حفرة ضيقة؟ قال الأعمش: كنا نشهد الجنازة ولا ندري من المعزى فيها لكثرة الباكين، ليس أهل الميت فقط هم الذين يبكون، كل الناس يبكون فيها، وإنما كان بكاؤهم على أنفسهم لا على الميت.
وقال ثابت البناني: كنا نشهد الجنازة فلا نرى إلا باكياً! وقال إبراهيم النخعي: كانوا يشهدون الجنازة فيرى فيهم ذلك أياماً.
وقال أسيد بن حضير: ما شهدت جنازة وحدثت نفسي بشيء سوى ما يفعل بالميت وما هو صائرٌ إليه.
وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: كنا إذا حضرنا الجنازة أو سمعنا بميت عُرف فينا أياماً؛ لأنا قد عرفنا أنه قد نزل به أمرٌ صيره إلى الجنة أو إلى النار، وإنكم في جنازتكم تتحدثون بأمور الدنيا.(240/7)
غفلة الخلف ونتائجها
والله يا إخوان! يرى في الجنازة من يضحك، ويرى في المقبرة من يضحك، ويرون خارجين من المقابر وبأيديهم السجائر يدخنون، ضحك وتدخين، هذا في أعظم مكان يمكن أن يتذكر فيه الإنسان على وجه الأرض، في المقبرة غاية الغفلة فماذا تعرف وتنتظر وتتوقع خارج المقبرة؟ إذا كانت الغفلة في المقبرة فماذا نتوقع خارج المقبرة؟ ولذلك لا عجب إذاً أن يقعوا في المعاصي متواليات، ويسهروا الليالي في المعاصي، وهؤلاء اليوم وفي هذا الشهر (شهر الحر) يريدون السفر بأي طريقة إلى بلاد الكفر والمعصية، وهؤلاء بائعو السياحة يتفننون في إغراء المسلمين بقضاء إجازتهم في بلاد الكفر التي غابت عنها شمس الدين والفضيلة، وهي محاولات للسطو على أماناتنا من الأموال والأولاد؛ لأن الله قال: {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:27 - 28] وهذا وليٌ لا يحفظ ولده، وهذا صاحب مالٍ لا يحفظ ماله.
يا عباد الله! يقترضون من البنوك للسفر إلى الخارج، وتقول المرأة للأخرى لماذا لا تسافرون؟ أما عندكم مال؟ اتجهوا إلى البنك يعطيكم! فيقترضون المال بالربا لأجل سفر محرم، والمسألة حرام في حرام، وبعد ذلك يسددون الفواتير، هناك عوائل تقتر على أنفسها طيلة السنة؛ لكي يجمعوا المال ليسافروا به إلى الخارج، حتى إذا عادوا قالوا لمن حولهم: لماذا لم نركم في لندن؟ ولا في باريس؟ ما رأيناكم في كذا؟ منيتهم غاية ما يتمنون أن يقولوا: كنا في مكان كذا، وكنا في مكان كذا، أين هؤلاء من الموت؟ أين هؤلاء من القبر؟ أين هؤلاء من الآخرة؟ أقسام الجوازات تعمل ليل نهار، الناس في غاية الاندفاع إلى السفر إلى بلاد الكفار، جاء شهر الحر: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81] لو كانوا يعلمون، لو كانوا يبصرون، لكن ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم توجد غشاوة، فلا يرون الحق، ولا يرون الدين، ولا يرون التقى، وإنما يرون المعاصي والآثام والفجور.
هذه المظاهر الاجتماعية السيئة، إلى متى ستستمر؟ قالوا: نقصت أموال الناس، فإذا هم يزدادون في السفر، وعوضوا بدلاً من بعض بلاد الكفر الأغلى بلاداً أرخص، وهذه المتع المحرمة التي يسافرون إليها، وتضيع الأموال، ثلاثة مليون سائح في عشرة أيام في معدل إنفاق خمسمائة إلى ستمائة ريال، هذا من أدنى المستويات، النتيجة مليار وستمائة مليون تصب في جيوب الكفار من أموال المسلمين، والناس في بلاد المسلمين الأخرى يموتون من الجوع ويبحثون عن حبة طعامٍ تركها بعض موظفي الإغاثة بين التراب ليأكلوها، وهؤلاء يبعثرون أموالهم، ويقترون على أنفسهم، ويستدينون من البنوك، ويسافرون بالأقساط، ويبعثرون الأموال، هل تظنون أن الله سيبدل هؤلاء، أم يتركهم وقد فعلوا ما فعلوا؟ اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم ردنا إلى الحق رداً جميلاً يا رب العالمين، بصَّرنا بعيوبنا، اللهم قوِّ إيماننا في قلوبنا، اللهم ارزقنا الغلبة على فتنة النساء والأولاد، اللهم ارزقنا الصمود أمام هذه الفتن يا رب العالمين، اللهم اجعلنا من القائمين بأمرك في أسرنا وبيوتنا، وفي أولادنا ونسائنا يا رب العالمين.
اللهم ارزق المجاهدين نصراً قريباً، عجل فرجهم يا رب العالمين، إن لنا إخواناً مستضعفين في الأرض يسامون سوء العذاب وأنت الحي القوي، يا ربنا أنت على كل شيءٍ قدير، اللهم ارحم قتلاهم، واشف جرحاهم، اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عاريهم واحمل حافيهم، اللهم عجل بنصرهم، وعجل بفرجهم وردهم إلى الإيمان والتوحيد يا أرحم الراحمين.
اللهم دمر أعداءنا، اللهم أهلك عدونا، اللهم اجعل الفرقة بينهم وأفشل خططهم، واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم، اللهم خالف بين قلوبهم، وألق فيها الرعب يا رب العالمين، اللهم اضرب بعضهم ببعض، اللهم خيب رميتهم واجعل دائرة السوء عليهم.
اللهم أنت على كل شيءٍ قدير، فارحم إخواننا، واكبت أعدائنا، اللهم اقض ديوننا، واستر عيوبنا، وارحم ميتنا، اللهم إذا وُضعنا في قبورنا فليس لنا إلا رحمتك، اللهم ثبتنا عند السؤال، اللهم ثبتنا عند السؤال، وباعد بيننا وبين سوء المآل، يا رب العالمين، أحسن وقوفنا بين يديك، ولا تخزنا يوم العرض عليك، وأنت الرحمن الرحيم، ونحن عبادك، ليس لنا إلا رحمتك، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(240/8)
رسالة إلى الطبيب المسلم
إن الطبيب المسلم داعية إلى الله تعالى، ومجاله يؤهله للقيام بدور كبير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي تصحيح واقع كثير من الناس وله مع المريض مواقف لابد أن يعلمها ويعمل بها، وقد ذكر الشيخ بعضاً من هذه المواقف، ثم تكلم عن موقف الطبيب مع المريض المحتضر بشيء من التفصيل، وعقب على ذلك بالكلام عن بعض العمليات الجراحية التي ينبغي على الطبيب أن يعرف أحكامها وفقهها، كعملية العقم، والتجميل، وبتر الأعضاء، وعملية التشريح(241/1)
من هو الطبيب المسلم؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة حديثنا في هذا اليوم -إن شاء الله- عن بعض الأمور المتعلقة بالطبيب المسلم سنتكلم عن الطبيب المسلم، وسنتعرض من خلال كلامنا في هذا الموضوع لموقف الطبيب المسلم من المريض ومن المحتضر، وبعض النقاط المهمة التي تحصل -أحياناً- في المستشفيات وفي غرف العمليات، وبعض العمليات الجراحية، وقضايا تتعلق بجهاز الإنعاش، وبعض الأمور المتعلقة بعلاقة النساء والرجال داخل المستشفيات.
والكلام عن صفات الطبيب المسلم كلام طويل، ولكن لن نتطرق إليه بالتفصيل في هذه المحاضرة، بل سوف تكون محاضرة عامة أشبه بجمع بعض النقاط التي تصادف الإخوان الأطباء والطبيبات في المستشفى، فبادئ ذي بدء أقول لكم أيها الإخوة: إن الطبيب المسلم ليس هو ذلك الإنسان الذي أخذ الشهادة، أو درس مجموعة معينة من الكراسات في علم الطب في أي حقل من حقوله؛ حتى حصل على تلك الورقة التي تخبر وتثبت بأنه وصل إلى الدرجة الفلانية في حقل الطب، وإنما الطبيب المسلم حقيقة هو داعية إلى الله عز وجل بالدرجة الأولى، وإن المجال الذي يعمل فيه الطبيب المسلم يؤهله للقيام بدور كبير في الدعوة إلى الله عز وجل، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي تصحيح واقع كثير من الناس.
والداعية إلى الله -عموماً- قد يواجه في المجتمع بصدود كبير، وبمقاومات عنيفة، وعوامل كثيرة تجعله لا يستطيع أن يوصل ما يريد إيصاله من الأفكار الإسلامية الصحيحة إلى الناس، ولكن الطبيب عنده فرصة ذهبية لا تكاد توجد لغيره، وهذه الفرصة أنه الآن يتعامل مع شخص في حالة ضعف، والشخص عندما يكون مريضاً أو على وشك الموت؛ فإنه يكون في حالة من التقبل لتقوية صلته بالله أكثر من أي شخص آخر، وهنا تبرز قضية الجانب الإيجابي الذي يتمتع به كثير من الأطباء، والذي لا يوجد لغيرهم من المسلمين الذين يقومون بالدعوة إلى الله في أماكن أخرى.(241/2)
موقف الطبيب المسلم من المريض
في البداية -أيها الإخوة- سنتحدث عن موقف الطبيب المسلم من المريض.(241/3)
تصبير المريض وجعله يرضى بقضاء الله
الحقيقة أنه عندما يوجد أمامك مريض فهذه فرصة كبيرة لتعليم هذا المريض أشياء كثيرة جداً، وستصادف بطبيعة الحال كما ترى أنت في الواقع العملي أكثر مما أراه أنا أو غيري، سترى فرصة للتصحيح ينبغي أن تستغلها، فمثلاً: ينبغي للطبيب المسلم أن يذكر المريض بالرضى بالله عز وجل وبقضاء الله، ويذكره بمثل حديث: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير) لأن المريض قد يكون في حالة من اليأس والقنوط، ويحس مع تزايد الألم ومع وطأة المرض عليه بأنه في حالة قد لا يشفى منها وقد يقنط من رحمة الله، والشخص في الحالة الطبيعية قد لا يأتي في نفسه هذا اليأس، ولكن الشخص في حالة المرض وتحت وطأة المرض قد يوجد عنده هذا الإحساس، وأنت -يا أخي- بصفتك طبيباً وأنتِ بصفتك طبيبة لا بد من استغلال هذه الفرصة لوضع الدواء الإسلامي الناجح؛ لتبيين قضية الرضى بقضاء الله، ومساعدة المريض بالألفاظ الطيبة التي تصبره على ما يعيشه من المحنة ومن التعب النفسي والجسدي.
وقد يتسخط بعض المرضى، وقد يسبون المرض أو أعراض المرض، ولكن عندما نرى هذا الحديث في صحيح الإمام مسلم، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب فقال: (ما لك تزفزفين؟ قالت: الحمى، لا بارك الله فيها.
فقال: لا تسبي الحمى؛ فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد) كما أن هذا الفرن الحار وهذه النار الحامية تذهب الخبث أو الشوائب في الحديد حتى يخرج معدناً صافياً نقياً، كذلك هذه الأمراض تنقي المريض من الخطايا، فأنت إذاً تفتح له باب الأمل، وتفتح له باب رحمة الله، وتقول له: رب ضارة نافعة، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وهذه فرصة لمحو كثير من الذنوب والخطايا التي قد لا تمحى إلا بالمرض، لأن كثيراً من توبة الناس واستغفارهم خاطئة فيها خطأ، ولكن إذا جاء المرض يمحو الله به من السيئات ما لا يمحوه بالتوبة والاستغفار.
وقد يصل المريض إلى درجة أن يتمنى الموت، تجده يصرخ -مثلاً- في الغرفة ويدعو على نفسه بالموت، أو يدعو الله أن يميته تحت هذا الضغط من الألم، فعند ذلك تبين له حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فليقل: اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي) هذه مبادئ أساسية، وهذه الأحاديث -يا إخوة- يمكن أن الشخص العادي لا يجد لها مجالاً عملياً مثل ما يجدلها الطبيب، ولكن أنت بواقعك تستطيع أن تطبق هذه الأحاديث وتعمل بها في الواقع كثيراً.(241/4)
العمل مع المرض الخبيث
وأحياناً يكون مرض المريض خبيثاً، قد يصاب بسرطان أو غيره، فماذا يجب عليك في هذه الحالة؟ يلجأ كثير من الأطباء إلى إخفاء واقع المرض السيئ عن المريض، وعدم إخباره نهائياً بحالته الصحية، وهذه المسألة مع ما فيها من الإيجابيات حتى لا تسوء نفسية المريض؛ فإنه لا بد -أيضاً- من إخباره بوضع معين حتى يتأهب للموت، قد يكون لم يوصِ بعد، فهو يحتاج إلى أن يوصي مثلاً، وقد يكون رجلاً عنده معاصي كثيرة يريد أن يتوب منها، فأنت لا بد أن تتوسط بين تبيين وضعه تماماً بحيث أنه -مثلاً- لا ييأس، أو بحيث أنه لا يصاب بإحباط، وبين أن تبين له مدى الخطورة التي يستعد بعدها، فلا بد -مثلاً- أن تبين له وتقول له: يا أخي! الأعمار بيد الله، قد يكون هذا المرض مميتاً وقد تشفى بإذن الله، نحن لا ندري، لكن أنت عليك أن تتأهب لملاقاة الله عز وجل في أي وقت كلمات تشعر صاحب المرض الخبيث أنه قد يقدم على الله في أية لحظة فيستعد.
إذاً: السلبية من عدم إخبار المريض نهائياً بحالة المرض الخبيث الذي هو فيه، هي: أن المريض لا يتمكن من القيام بتصرفات معينة، مثل التوبة، ومثل كتابة الوصية، فأنت تتلافى هذه السلبية وتتوسط بأسلوبك الهادئ المتزن بين سلبية إشعاره باليأس كأن تقول: معك سرطان -مثلاً- مفاجأة، وبين أنك تطمئنه تماماً؛ بحيث أن الرجل يظن أنه ليس فيه شيء نهائياً، وأنه سيقوم بعد أيام، وإذا به تفاجئه المنية.(241/5)
وصية المريض إلى الطبيب
وقد يسر المريض للطبيب في حالة الاحتضار بأسرار معينة، وقد يوصيه بوصايا ما يطلع عليها أحد، لكن هذا عندما يجد نفسه في حالة احتضار، فقد يقول للطبيب مثلاً: قل لأبي كذا، أو قل لأمي أو قل لإخواني كذا، أو أوصي بأن يخرج من مالي كذا، أو أني -مثلاً- ظلمت عمالاً معينين، أكد على أهلي بأن يخرجوا حقوقهم أو رواتبهم الخ، ففي هذه الحالة لا بد أن ينقل، فإن من مهمات الطبيب المسلم أن ينقل إلى أولاد الميت أو أوليائه بأمانة تامة كل ما أخبره به المريض عند احتضاره، فأنت قد تسمع من الرجل وصايا ما يسمعها غيرك؛ لأنك كنت موجوداً في تلك اللحظة.(241/6)
عدم إكراه المريض على الطعام والشراب
كذلك -أيها الإخوة- حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح أو الحسن، الذي رواه الترمذي وابن ماجة عن عقبة بن عامر مرفوعاً: (لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب، فإن الله يطعمهم ويسقيهم) فالذي يفكر بمنظور مادي بحت؛ قد يجد أنه لا بد من أن يأكل المريض الطعام كله، أو لا بد أن يلتهم هذه الأطباق كلها، ولكن الحديث يقول: (فإن الله يطعمهم ويسقيهم) وبالتأمل وبالتجربة تجد فعلاً أن المريض يتحمل، أحياناً يعيش على مقادير ضئيلة من الطعام والشراب لا يعيش عليها غيره! أو أنه يبقى بحالة معينة على مقادير ضئيلة من الطعام والشراب لا يبقى عليها غيره! وهذا بسبب أن الله يساعده، وعلى قدر البلاء تكون المعونة -كما قال العلماء.
إذاً: قضية إكراه المرضى على الطعام والشراب ليست مسألة واردة أو محبذة في وضع المريض، ولكن هناك أشياء لا بد منها، مثلاً: هناك سائل معين مغذٍّ في حالته لا بد أن يأخذه، ففي هذه الحالة لا نقول له: اعزل السائل هذا ولا تأخذه لأن الله يطعمه بل لا بد من اتخاذ الأسباب.(241/7)
زيارة المرضى
وهنا تذكير في أثناء مرور الأطباء على المرضى في الغرف: أن ينوي الطبيب بإتيانه للمريض أنه يعوده لتحصيل الأجر، فإن بعض الإخوان من الأطباء قد يمر على المرضى بحكم أن هذا عمل، وأنه لا بد أن يقوم بالجولة المعينة على الغرف الفلانية والأسرة الفلانية، وينسى في غمرة هذا العمل أن ينوي في قلبه أنه الآن يمر عليهم ليس فقط لمعالجتهم والتأكد من أحوالهم، أو أن هذا العمل موكل إليه وهذا التوزيع المعين، وإنما -أيضاً- ينوي أن يمر للعيادة لتحصيل الأجر العظيم؛ لأن في عيادة المريض أجراً عظيماً، فعن ثوير عن أبيه قال: أخذ علي بيدي فقال: انطلق بنا إلى الحسن بن علي نعوده، فوجدنا عنده أبا موسى الأشعري، قال علي لـ أبي موسى: عائداً جئت أم زائراً؟ فقال: عائداً.
فقال علي: فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يعود مسلماً غدوةً إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، ولا يعوده مساءً إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة) والخريف هو المخرف، أي: الثمار المجتناة في الجنة، طوال ذهابه وعودته وهو يمشي في خرافة الجنة، في الثمار المجتناة التي تكون له في الجنة.
فإذاً: لا ننسى تحصيل هذا الأجر، ولذلك نجد بعض الإخوة الأطباء عندهم روح طبية في زيارتهم، فتجده لو مر بمريض ليس بمريضِهِ وليس بمكلف بالمرور عليه، تجد أنه يأتي ويسلم: السلام عليكم، كيف أنت يا أخي؟ هل تحتاج شيئاً؟ وهذه الأشياء ليست علاجاً، فهو لن يعطيه إبراً أو أدوية، وإنما يعطيه كلمات، وقد لا يكون المريض تابعاً لنفس الطبيب، لكن هذه الكلمات ينوي بها العيادة ولن يخسر شيئاً؛ لأنه سيمر بسريره وسرير غيره، فيحصل أجراً عظيماً، فهذه فرص للأجر لكم تستطيعون تحصيلها، ليس كغيركم من الزوار الذين لا يأتون إلا جزءاً من ساعة معينة في اليوم، وقد لا يأتي يومياً، وأنت يومياً تستطيع أن تكسب هذا الأجر.(241/8)
الاهتمام بالأحكام الشرعية التي تهم المريض
كذلك من الأمور المهمة بعلاقة المريض بالطبيب والتي يحصل فيها غفلة كبيرة: الاهتمام بالأحكام الشرعية التي تهم المريض، مثل: قضايا الطهارة، استقبال القبلة، وكيفية الصلاة، فإن كثيراً من المرضى ونتلقى أسئلة كثيرة جداً عن بعض المرضى يقول: تركت الصلاة بالكلية فترة المرض؛ لأني لم أكن أظن أن الصلاة تجب علي في تلك الحال! أو يقول: إن البول يخرج مني باستمرار في أثناء وجودي، أو إن عندي مرضاً معيناً لا أستطيع أن أتطهر، وقد لا أستطيع أن أذهب إلى دورة المياه للإخراج، وقد أخرج في سريري وأنا جالس، وقد تتلوث الأغطية بهذه النجاسات، فكيف أصلي؟! والطبيب يرى بعينه حالة المريض، فينبغي له أن يتفقه في أشياء كيف يصلي المريض؟ كيف يتطهر المريض؟ ما معنى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]؟ إذا كان لا يستطيع أن يصلي إلا بالنجاسة في ثيابه يصلي بالنجاسة في ثيابه إذا لم يقدر على أن يتوضأ ولا أن يؤتى له بالماء ليتوضأ يساعده الطبيب بأن يأتي له -مثلاً- بعلبة من الرمل أو التراب النظيف حتى يتيمم عليه، ينبغي أن يكون بجانب كل غرفة مرضى إناء من الرمل أو التراب بدل إناء الزهور هذا الذي قد لا يكون له فائدة؛ حتى إذا طلب المريض شيئاً وما يستطيع أن يتوضأ يأتي له الطبيب بهذا الإناء من الرمل يضرب عليه، ويمسح ظاهر كفيه ووجهه، فقد صار الآن طاهراً يؤدي الصلاة، وإذا استطاع الطبيب أن يوجهه إلى القبلة وجهه إلى القبلة، إذا لم يقدر على أن يتحرك نهائياً وبعض الأجهزة متصلة به فيصلي على حسب حاله ولو إلى غير القبلة، ويشرح له الطبيب أنه يجوز له الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، والمغرب والعشاء؛ لأنه من أصحاب الأعذار.
إذاً: لا بد أن يكون لك موقف يا أخي، لا تقل: أنا عملي أنني فقط أحط السائل، وأرى لهذا، وأعالج وأكشف لا، أنت ترى الآن مسلماً أمامك لا يعرف كيف يصلي، لا يعرف كيف يعبد الله، ومن المهم أن يبقى الإنسان المسلم متصلاً بالله في الصلاة وغير الصلاة وبعض الأطباء يقول: ليس لي دخل، أنا ما علي من صلاة، هذه بينه وبين الله نعم.
بينه وبين الله، ولكن أنت تستطيع أن تقدم شيئاً، تستطيع أن تساعد، تستطيع أن تغير، ليس هناك مشايخ وعلماء في المستشفيات يبينون للمرضى، ولو وجد قد لا يستطيعون الدخول في كل وقت، فأنت تبين للمرضى كيفية الطهارة والصلاة بالنسبة إليهم، وهناك نشرة لطيفة كتبها الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين في كيفية طهارة المريض وصلاته، صفحة أو صفحتين تقرؤها وتحفظ ما فيها وتنتهي القضية.
كذلك -مثلاً- إذا أغمي على شخص في عملية كيف يقضي الصلاة مرتبة عندما يقوم؟ تشرح له وتقول: لقد أغمي عليك -مثلاً- من الساعة الفلانية إلى الساعة الفلانية، من الوقت الفلاني إلى الوقت الفلاني، لقد فاتك كذا وكذا من الصلوات، فأنت تبين له ما هي الأشياء التي فاتته من الصلوات لكي يقضيها.(241/9)
ما ينبغي على الأطباء في المستشفى التعليمي
كذلك بالنسبة للأطباء أو الأساتذة الذين في المستشفى التعليمي- والمستشفى التعليمي يتمرن فيه الطلاب على بعض الحالات المرضية التي قد تأتي، قد يجلس التلاميذ أو الطلاب في حالة انتظار للمريض الذي سيأتي، وهم يتلمسون الحالات النادرة، ويتسقطون أخبارها، وإذا جاء واحد بحالة نادرة فزعوا فوراً وأقبلوا ابتهاجاً، المريض مسكين وهم مبتهجون وجدنا حالة قلب، حالة قلب! يالله! ويقبلون على الطبيب وهم فرحون مبتهجون، لأنه أتت حالة قلب وأتى ليرى، وكل واحد يريد أن يكشف، وهذا المسكين يئن ويتألم وهذا يتبسم ويقبل فارح لأنه رآه! فهنا على الأستاذ الدكتور أن ينهى الطلاب عن إظهار الابتهاج بالمريض مراعاة لشعوره.
وكذلك عند فحص هذا المريض يتجنب أن يظهر أهالي المريض أنه محل تجارب، كأن يقول: تعال اكشف أنت وقد يحتاج إلى علاج حتى يسكن ألمه، فيقول: لا، لابد أن يرى هذا كل الطلاب، دعه قليلاً يتألم إن شاء الله هذا لن يحدث، لكن من باب التذكير والتنبيه.(241/10)
موقف الطبيب المسلم من المريض المحتضر
فإذا وصل المريض إلى مرحلة الاحتضار أو جاءت حالة طارئة إلى الطوارئ وهو الآن في حالة احتضار، فماذا ينبغي على الطبيب المسلم أن يفعل؟(241/11)
تلقين المحتضر الشهادتين
أوائل الأشياء التي تتبادر إلى الذهن والتي جاءت في السنة: قضية تلقين الميت أو المحتضر الشهادة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يأمر بها، وفي الحديث الصحيح أنه عليه السلام عاد رجلاً من الأنصار فقال: (يا خالي قل لا إله إلا الله) فالموضوع هو قضية التلقين، أن تقول للمريض: قل لا إله إلا الله، لكن قد لا يقولها هذا المحتضر للمرة الأولى، فأنت تعيدها عليه الثانية والثالثة، لكن بدون أن تضجره، لأنه في حالة النزع يكون مشغولاً جداً بسكرات الموت التي نزلت به، وهي أثقل ما يكون على الإنسان، ومهما كان الطبيب حاذقاً، ومهما رأى مئات الحالات أمامه لا يشعر أبداً بالسكرات التي يحس بها الشخص الذي يحتضر أمامه، ولذلك قد لا يستجيب، وقد يرفض، وإذا كان من أهل الخاتمة السيئة -والعياذ بالله- قد يأبى إباءً شديداً ويبعدك عنه، ولا يرضى أن يسمع منك، لأن الله قد قضى عليه بهذا لأجل عمله، لأن الرجل نفسه لم يكن صالحاً.(241/12)
الاتعاظ بحال الاحتضار
وينبغي عند مشاهدة المحتضرين أن يوجد في نفوس من يرون هذا المشهد الخوف من الله عز وجل، وتذكر الموت وهيبته، ومع كثرة مشاهدة الحالات تصبح القضية في النفس فيها نوع من البلادة، وهناك -أيضاً- نوع من عدم الإحساس تدريجياً لكثرة الحالات التي يراها الإنسان، وهنا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن للموت لفزعاً) وللموت سكرات، والرسول صلى الله عليه وسلم في مبدأ أمره لما جاءت الجنازة، قام، لأن الموت يفزع، فأنت عندما ترى هذا المفروض أن تكرار الرؤيا لا يحدث عندك تبلداً في الإحساس بحيث أنك لا تدرك ما معك.
وقد نسمع عن بعض الحالات في الطوارئ، يأتي رجل على وشك الموت ويحيط به الأطباء والناس قد يصيحون، وقد يصيح من حوله أولاده، وتحدث لحظات صمت عند الوفاة، فإذا مات الرجل وذهب به مع أهله وذويه وخرجوا، رجع الأطباء والطبيبات والممرضات والمرضى يضحكون، ويتكلمون، وكأن شيئاً لم يكن، وهم قبل دقائق كانوا يرون رجلاً سيكون أحدهم في مكانه في يوم من الأيام.
فإذاً نقول: لا ينبغي أن تحدث كثرة الحالات عندنا هذه القسوة في القلب، وينبغي للإنسان أن يستشعر مهما كان هذا الرجل يعاني من سكرات الموت، وملائكة الموت تنزل به، قد تكون ملائكة رحمة وقد تكون ملائكة عذاب، ولذلك الطبيب لا يشتغل وهو ساكت صامت كأنه أغلق فمه، وإنما يطلب من الله أن يعينه ويعين المريض، ويسأل الله أن يرحم المريض وأن يثبت هذا المحتضر، ويسأل الله له حسن الخاتمة لو مات، ويدعو له، وتلك اللحظات فيها أشياء لا توجد في غيرها، وأنت قد تعاصر أشياء لا يعاصرها غيرك، ولا يعيش فيها غيرك، من ذلك -مثلاً- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حضرتم الميت فقولوا خيراً فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) والطبيب يحضر مرضى ويحضر موتى، بإمكانه أن يقول خيراً وأن يدعو خيراً؛ فعليه أن يستغل هذه الفرصة، ولا يقف صامتاً مجرد أنه يعمل الآن بيديه ويراقب وهو مشغول عن الموت وعن الدعاء، وعن سكرات الموت، وعن التأثر، وأن قلبه قد تحجر، وقد لا يذرف دمعة واحدة مهما رأى من الموتى.(241/13)
موقف الطبيب إذا أبى المحتضر أن ينطق الشهادتين
نعود إلى المسألة فنقول: لو أنك خشيت إذا أمرت المريض بأن يقول: (لا إله إلا الله) أن يضجر؛ فعليك أن تقولها أنت بلسانك حتى يحاكيك ويستجيب لك؛ لأنه قد لا يفهم، في لحظات الاحتضار قد لا يفهم ما تأمره به، فعندما تقول أنت: لا إله إلا الله، وتكررها عشرين أو ثلاثين مرة، قد يستجيب ويقولها، وتكون نهاية خاتمته على لا إله إلا الله.
ويستطيع الطبيب أن يساهم في إنقاذ أناس من جهنم إذا أراد الله له ذلك، فيكتب على يديه هداية أشخاص في اللحظات الأخيرة، أو أن يخرجوا من الدنيا بلا إله إلا الله التي قالها لهم الطبيب، وهنا قد يسأل بعض الإخوان سؤالاً فيقول: أتاني مريض في حالة خطيرة جداً إلى الطوارئ، فلو أني قلت له: قل: (لا إله إلا الله)، ثم إنه كتب له الشفاء، فهنا قد يقيم علي دعوى، ويشكوني ويقول: أنت حطمت معنوياتي لما قلت لي: قل (لا إله إلا الله)؛ لأن معناها أنك حكمت علي بالموت! هناك بعض ضعفاء العقول والإيمان يقولون هذا، فأنت الآن بين نارين: إذا قلت له: قل: "لا إله إلا الله" قد تحدث هذه السلبية، وفعلاً -إذا أردنا أن نكون متجردين- قد تضعف نفسية الرجل ويقول: معناها أني سأموت.
لكن في الجانب الآخر لو لم تقل له هذا الكلام فيمكن يموت ويخرج من الدنيا وما قال: (لا إله إلا الله) وتكون قد فوت عليه فرصة عظيمة لا يمكن أن تأتي إلا على يديك؛ ففي هذه الحالة ينبغي أن يكون الطبيب لبقاً، وأن يقول له -مثلاً- إذا أتى إليه واحد في حالة خطيرة: اذكر الله يا أخي، اذكر الله، واستعن بالله، وعندما تقول لأي واحد من العامة: اذكر الله ماذا يقول في العادة؟ سيقول: (لا إله إلا الله)، فإذاً: أنت حللت هذا الإشكال، فممكن أن تقول: اذكر الله يا أخي، فسوف يقول: (لا إله إلا الله) فتنتهي المشكلة، وتقول له: أنت الآن لا بد أن تستعين بالله في وضعك هذا.
فيقول: (لا إله إلا الله).
فلو مات انتهت القضية، وخرجت بسلام.(241/14)
موقف الطبيب من المريض الكافر
وإن كان المريض كافراً فينبغي للطبيب أن يدعوه إلى الإسلام؛ لحديث أنس رضي الله عنه قال: (كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه يعوده فقعد عند رأسه فقال: أسلم.
فنظر إلى أبيه، فقال له -أي: الأب- أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.
فأسلم ومات فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار) وهنا نذكر بالمشكلة الحاصلة في نفوس الكثير من المشتغلين في حقل الطب: وهي مشكلة الفصل بين واجبات المهنة وواجبات الدين فقد يقول الواحد: ماذا علي منه أن أدعوه إلى الإسلام وأدعو له، الله يقول: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] ويستشهد بآيات على ما يسوغ له، ويأخذ من القرآن ما يريد ويدع ما يريد، وهذه الآية: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] هل معناها أننا ما ندعوهم إلى الإسلام؟ الرسول صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام وقال: (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار) وهذا كافر أمامك، لقنه، قل له بالإنجليزي، اشرح له إذا لم يكن يفهم بالعربي، قد تكسب أجراً عظيماً: (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) إذاً: الإخوان الذين يقولون: نحن أطباء ما لنا علاقة بالقضايا الإسلامية أو بقضايا الدعوة إلى الله، وهذه القضية عمل المشايخ وأئمة المساجد والدعاة، نحن أطباء لنا الجانب الطبي، والجانب العلمي!! تقول: من قال: إن المسلم إما أن يكون طبيباً أو مهندساً أو شيخاً أو قاضياً وليس له علاقة بالأمور الأخرى؟ إذا كان الأطباء من النصارى يذهبون في بعثات تبشيرية ولا يعطون الرجل الدواء حتى يشهد للصليب ويؤمن به، وغالب البعثات التبشيرية من الأطباء، أولئك على باطل يستغلون الطب ويستغلون المرضى ويستغلون الموتى بنشر الأباطيل النصرانية، ونحن -يا أهل الإسلام ويا أهل الحق- نأتي ونقول: ما لنا دخل نحن الأطباء! هذا وأنت لم تذهب إلى أدغال أفريقيا ولن تسافر إلى أمكنة بعيدة كما يضحي أهل الباطل، أنت قد جاء إليك في المستشفى، أما ذاك فإنه يذهب ويقطع آلاف الأميال، ويهجر الأهل والبلد والأولاد، ويتغرب عن الوطن لكي يدعو إلى الباطل، ويستغل الطب، ويقولون له: ما نعطيك إلا كذا، أو يقولون له مثلاً: هذا من يسوع، وهذا ما أدري ممن وأنت أخونا في الله جالس وتقول: أنا ما لي علاقة بالدين!(241/15)
واجب الطبيب المسلم بعد وفاة المريض
فإذا مات فإنك تغمض عينيه، ومن علامات الوفاة أن البصر يصعد إلى الأعلى، فتجد الرجل الميت أو الميتة يشخص ببصره إلى الأعلى لماذا؟ لأن الروح تسحب من الأعلى، والروح كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم تخرج من أسافل القدمين والأجزاء التي تليها حتى تصل إلى الحلق فعند ذلك يغرغر، ثم تسحب من رأسه من جهة الأعلى؛ ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا قبضت الروح تبعها البصر) ولذلك تجد الموتى يشخصون بأبصارهم إلى الأعلى؛ لأن الروح تسحب إلى العلو، فيكون منظره مخيفاً أو مرعباً فعند ذلك يسن أن تغمض عيناه، وكذلك يغطى بثوب يستر جميع بدنه، وهذا قبل الدفن بعد الموت مباشرة، إذا مات بين يديك غمضت عينيه، وسترته بملاءة -برداء- يستر جميع بدنه.
وكذلك يعجل بتجهيزه، ويخبر أولياء الميت بسرعة، وإخبار أولياء الميت يتعلق به أشياء: من امرأة قد تحد، وسوف تحد من لحظة وصول خبر الموت إليها، فهناك أحكام تترتب على إخبارك أولياء الميت قضايا الاستعجال بالتجهيز والدفن هم سيقومون بها، وهناك مرأة ستدخل في الحداد، وهناك قضايا الميراث، وأشياء كثيرة ستترتب على هذا؛ ولذلك يسرع بإخبار أولياء الميت لكن برفق، ويأتي أحدهم ينتظر ويسأل: ما الخبر؟ فيقول: مات!! فلا بد أن يخبر؛ لأنه تترتب عليه أحكام، لكن بطريقة لطيفة، وعليه أن يتذكر آيات وأحاديث يقولها لأولياء الميت عندما يخرج عليهم من غرفة الإنعاش وقد مات الرجل، حتى يهون عليهم، لا يقول: مات! ويدير ظهره ويمشي، فهناك قضايا هم يسمونها إنسانية لكننا نسميها، (آداب شرعية إسلامية).
وأحياناً يحصل إهمال فيبقى الميت على سريره وسط المرضى لساعات، والمرضى يعلمون في الغرفة أن الرجل الذي في هذا السرير قد مات، وهذا خطأ كبير أن يحدث هذا، فلا بد من التفقد ومن سرعة الانتباه، وإذا استطعت أن تقدم أشياء كالروتين حتى يمشي بسرعة لأن إجراءات الوفاة من أصعب الإجراءات وأطولها يذهب ذلك ويبحث عن الدكتور يوقع له ورقة، وذاك مشغول ذاهب فأنت داخل في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإسراع في تجهيز الميت.
وإذا رأيت عليه من علامات حسن الخاتمة شيئاً، كأن رأيت -مثلاً- بياضاً في وجهه أو نوراً، أو رأيت التجاعيد زالت عند موته؛ لأن بعض أولياء الله وبعض الصالحين قد يحدث لهم علامات من حسن الخاتمة، أو أنك شاهدته يتبسم، فمن باب أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالثناء على الميت والإخبار بمحاسنه، فأنت تخبر بهذه المحاسن وتقول لأهله: أبشروا، ميتكم -إن شاء الله- على خير، لقد رأيته تبسم مع أنه مات، لقد رأيت نوراً يسطع بين عينيه.
وأنت ما تكذب وتؤلف لكن تخبر بالحقيقة.
وإن كنت رأيت شيئاً من علامات سوء الخاتمة -والعياذ بالله- قد ترى وجهه قد انقلب أسود وكان أبيض البشرة، وقد تجد له رائحة منتنة حالما يموت، وقد تجد أشياء كثيرة؛ فهذه تستر ولا تنشر بين الناس.(241/16)
دور الطبيب المسلم تجاه منكرات الأموات
وللطبيب -أيضاً- دور في منكرات أهل الميت التي يفعلونها، مثل: النياحة، فقد تخبرهم وتكون أمه أو أخته موجودة أو ابنته، فتصيح وتولول وتزعق، وقد تشق خمارها وتنشر شعرها وتحدث منكرات، فأنت عليك في هذه الحالة أن تبين لهم وأن تنهاهم عن هذا، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران) وهو المعدن المصهور المذاب المتناهي في الحرارة، سربال: أي: ثوب يغطيها (ودرع من جرب) رواه مسلم فما ينبغي أن ترى هذه النائحة وترى هذا المنكر أمامك وأنت ساكت، ولا بد أن تنكر وتبين وتقول: ما يصلح هذا، اصبروا واعتصموا بالله وهكذا.(241/17)
مسائل متفرقة تتعلق بالطبيب المسلم
وهذه بعض الأحكام أذكرها بسرعة لابد للطبيب أن يعرف أحكام النجاسات، ونواقض الوضوء، وحكم لمس عورة المريض والسوائل الكحولية -نجاستها وعدم نجاستها- وكذلك الذين يعملون في المختبرات، لابد أن يعملوا نجاسة العينات والدم، فإن الدم نجس مثلاً، كذلك لا بد للطبيب المسلم أن يتفقه بالإضافة إلى قضايا الطهارة التي يحتاجها في أثناء عمله في أحكام الصلاة، وجمع الصلوات للذين يعملون عمليات طويلة، فإن هذا جائز للضرورة الطبيب الآن في غرفة العمليات يعمل عملية ولا يمكن أن يتركها، فنقول: أولاً لا بد أن توقت توقيتاً صحيحاً، فإذا أمكنك أن تعمل العملية بعد أن تصلي الصلاة في وقتها فتعمل العملية بعد أن تصلي الصلاة في وقتها، فإن بعض العمليات يمكن أن تؤجل ربع ساعة أو ساعات ولا يضر ذلك، وبعضها عمليات طارئة لا بد منذ أن تأتيك الحالة أن تشتغل فيها، ففي هذه الحالة يجوز لك أن تجمع الظهر مع العصر أو المغرب مع العشاء، وتوقت العملية قدر الإمكان بحيث أنك تستطيع أن تجمع، لا تأتي -مثلاً- وتبدأ العملية بعد العصر أو قبل العصر وأنت ما صليت العصر ولا جمعتها مع الظهر للضرورة، ولن تنتهي العملية إلا بعد المغرب ولا يمكن الجمع الآن فقد ذهب وقت الصلاة، ولن تؤديها لا جمعاً ولا أداءً؛ فينبغي أن ترتب المسألة قدر الإمكان.(241/18)
الطبيب المسلم داعية إلى الله
الطبيب -أيها الإخوة- أيضاً إنسان ناصح، وإنسان داعية، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا بد أن يكون له موقف من بعض المرضى بأسباب معينة، كأن يتبين لك أنه مريض بسبب شرب الخمر، أو أنه مريض بسبب شرب المخدرات، أو أن هذا المرض الذي فيه من الأمراض التناسلية الحاصلة بسبب الزنا أو اللواط، فبعض الأطباء تأتيه الحالة ويعرف ما وراءها، ويعرف ما هو السبب، وعنده الخبرة من عمليات الاحتكاك ومرور الحالات عليه أن هذه جاءت بسبب كبائر وبسبب فواحش، فلا يأتي ويقول: أنا حدي في الطب أن أقدم له العلاج وذاك يكفيه!! أنت الآن تعالجه، وإذا خرج من المرض استعمل الحرام مرة ثانية، فأنت أعنته على المنكر، ولا نقول لك: اتركه مريضاً حتى لا يتمكن من فعل المنكر! لكن نقول لك: بالإضافة إلى تقديم العلاج البدني قدم له العلاج القلبي، قل له: يا فلان! لنكن صرحاء، هذه الحالة تأتي -مثلاً- بسبب فواحش، بسبب كذا، فأنت عليك أن تتوب إلى الله، وأن تتقي الله عز وجل، وقد تأتي المرة القادمة ويمكن ما ينفعك العلاج.
كذلك الأعراض الخطيرة للمرض لكن ما يذكرها؛ مع أنها قد تمنع المريض عقلاً -لا شرعاً- قد تمنع عقلاً عن ارتكاب الفاحشة، لكن لا يخبره بها فقط، يأتي مريض فيعالج ويذهب، ثم يرجع له في المرة الثانية بمرض ثان، ثم يبدأ يعالجه وهكذا، هذا الكلام غير صحيح، ينبغي عليك أن تبين له مضاعفة الأمراض هذه بالذات، كالأمراض التناسلية وغيرها، وكذلك أضرار المخدرات والخمر، تبين له الأضرار التي قد تترتب عليها ما لا تبينه لرجل آخر ليست عنده هذه الأشياء؛ لأنه لا فائدة من أنك تهبط من معنويات رجل صالح أتى له مرض فتقول: هذا قد يتطور وقد يتضاعف وقد يؤدي إلى كذا، وهو إنسان صالح، وليس هناك مصلحة من إخباره بالمضاعفات، أما الرجل الذي يرتكب الفواحش، ويشرب هذه الأمور، عليك أن تقول: يا أخي! هذه تؤدي إلى كذا، وفيها مضاعفات كذا وكذا؛ لأنها قد تسبب أن يمتنع عقله، والإنسان قد يكون عاقلاً فيترك من باب أنه لا تؤدي إلى هذا لكي لا يتضرر، وفي نفس الوقت تبين له الحكم الشرعي في المسألة.
ولا نكون مثل بعض الناس الذين إذا رأوا طبيباً مسلماً وعنده دين وخير ويبين هذه الأشياء، فيأتي طبيب آخر ويقول: هذا غير صحيح، كيف تستغل المهنة في إملاء أفكارك؟! أنت الآن تكلم ماسونياً أو نصرانياً أتكلم عن أشياء، أنا رجل مسلم، أبين للرجل أخطار هذه شرعاً، وإن أمليت عليه أفكاري واجتهاداتي وأمليت عليه آرائي، وأنا أملي عليه قول الله وقول رسوله، أم ماذا؟ فإذاً: هذا لا يعتبر استغلالاً، وإن سميناه استغلالاً فهو استغلال في شيء حسن، أنت تستغله في إبعاده عن المنكر، تستغل هذا الشيء في تقريبه من الله عز وجل، ونعم هذا الاستغلال.(241/19)
العلاج بالقرآن وذكر الله تعالى ودور الطبيب في ذلك
كذلك -مثلاً- في حقل الطب النفسي، حقل الطب النفسي فيه أيضاً مجال كثير لإدخال أشياء إسلامية هي فعلاً علاجات وما هي ضحك على الناس، مثل: ذكر الله عز وجل، والتعلق بالله، وصلة المريض بالله والإقبال على الله من أنفع الأمور التي تعالج؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] ماذا تعني "معيشة ضنكا"؟ أي: شقاء نفسي وتعب، ونفسية سيئة بسبب البعد عن الله عز وجل، وأكثر الأمراض النفسية بسبب الابتعاد عن الله عز وجل، فأنت عندما تقربه من الله عز وجل فهي أيضاً من باب العلاج.
أيضاً: قضايا الاستشفاء بالقرآن، والله عز وجل يقول: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] ونعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يداوي نفسه بالقرآن، كانت عائشة تجمع يدي الرسول صلى الله عليه وسلم وتقرأ فيهما فتمسح بهما رجاء بركة يديه عليه صلى الله عليه وسلم، فإذاً: أنت تعلم المريض استخدم المعوذات، استخدم آية الكرسي، استخدم سورة الفاتحة، يقول ابن القيم رحمه الله: ومرضت مرة بـ مكة مرضاًَ شديداً أقعدني وآلمني، فجاء الأطباء فعجزوا تماماً عن فعل شيء، قال: فشرعت في مداواة نفسي بسورة الفاتحة، فكان لها أثر عجيب، وقمت من مرضي بعد فترة بسيطة! والمشكلة الآن أن كثيراً من الأطباء درسوا في الخارج فإن المهندس يمكن أن يجلس أربع سنوات، والطبيب يمكن أن يجلس عشر سنوات في الخارج، فالطبيب العادي يتشبع بأفكار الغرب إذا لم يكن عنده حصيلة إسلامية طيبة، ولذلك الغربيون لا يؤمنون بأنك إذا قلت: الحمد لله، قل أعوذ برب الفلق، سوف تشفى، يقول لك: هذا كلام فارغ، إما أن تقدم شيئاً مادياً محسوساً بالتجارب والمختبرات، أما هذا فلا أعترف به، فالذي منزعه ومشربه مشرب غربي، وتفكيره تفكير غربي، لا يؤمن إلا بالمادة وينكر ما وراء المادة، وينكر أثر القرآن، وهذه الأشياء لن تدخل عقله مطلقاً.
أما أنت -يا أخي- فإنك رجل تأخذ الحضارة الغربية بخيرها وتترك شرها، تأخذ حلوها وتترك مرها، فإذاً: مثل هذه الأمور لها حسبان عندك، أنت تعني قول الله عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] عندك شيء، أما أستاذك الغربي الكافر قد لا يفهم شيئاً فإذاً: هذه مسألة مهمة.(241/20)
الطب النبوي وأثره
أيضاً: مسألة الطب النبوي إذا نحن راجعنا بعض كتب الحديث سنجد أن هناك أشياء في الطب النبوي مذكورة، والمفروض أن ينتبه لها، وتعمل عليها أبحاث؛ لأنه قد تكتشف أنت التركيبة التي فيها شفاء هذا الداء مثلاً: بالنسبة لمرض العين، لما نقرأ حديث: (إذا اشتكى عينيه وهو محرم ضمدهما بالصبر) أو (اكتحلوا بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر) أو إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأن في العسل العلاج، وقبل ذلك في القرآن، وإخباره بأن السنا والسنوت من العلاجات، وهي أنواع معروفة من النباتات، ينبت أجودها في أرض الحجاز، ويعرفها العطارون، فإن بعض الأشياء قد لا يعرفها الأطباء، وليس لها مسمى علمي عندهم، لكن هذه الأشياء في الأحاديث عند العطارين معروفة، كالحبة السوداء، وكذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (شفاء عرق النسا إلية شاة أعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء، ثم تشرب على الريق كل يوم جزءاً) شاة أعرابية، مثلاً: خروف نجدي يعيش ويرعى في البر، هذه الإلية تؤخذ وتصهر -تذاب- ثم تقسم إلى ثلاثة أجزاء، وتشرب لمن به مرض عرق النسا فيشفى بإذن الله قد يكون هذه الوصف غير معروف طبياً، لكن الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى يعرف هذا الأمر، وقد تجري فيه بحوث، وقد تكون فاتحة أمور طبية.
مثلاً: ألبان البقر وسمن البقر، والكمأة بالنسبة للعين، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين) يمكن أن ماء الكمأة يستفاد منه، وإذا جرب أحد هذا الأمر حصل له أشياء، فإذاً: هذه أبحاث أريد أن أشير إليها إشارة سريعة، فلابد من الاهتمام بالطب النبوي.(241/21)
كشف العورات وحكمها في العلاج
من الأمور المهمة -أيها الإخوة- قضية العورات فإنه عند الفحص وعند العمليات يحدث كشف للعورات، ونحن نعلم حرص الإسلام على ستر العورة، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر في الحديث الصحيح بقوله: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد) رواه مسلم، والإفضاء هو الملامسة متجردين من الثياب تحت فراش أو تحت غطاء واحد، فالشاهد: كل ما حرم الشرع النظر إليه حرم لمسه هذه قاعدة، فالشرع يحرم النظر إلى العورات، إذاً: لا يجوز لمس العورة.
في باب الطب هناك ضرورات معينة، فهنا لا بد من الرجوع إلى أقوال أهل العلم عن الضرورة، وما هي الضرورة التي تبيح المحظورات؟ لأن بعض الإخوان قد يقول: الضرورة تبيح المحظورات، ويفعل أشياء ليست من الضرورات في شيء، ويكون قد ارتكب المحظور بدون حاجة، وكذلك الضرورة تقدر بقدرها، حتى لو وصلنا إلى نتيجة أن هذا الأمر ضرورة فلا يعني أن نسترسل فيه وأن يأخذ الواحد راحته لأنها صارت ضرورة، لا بد أن تقدر بقدرها مثلاً: المرأة لا يجوز أن يفحصها رجل، هذا أمر محرم في الشريعة، وهو معروف ومتفق عليه مهما رأيت من الحالات وتبلد إحساسك في المستشفى، وقد رأيت مئات من هذه الأشياء ومن حالات النساء مع رجال، فيبقى الأمر حراماً لا يجوز، وهو عند الله إثم عظيم لكن ما توفرت المرأة المؤهلة لفحص هذه المرأة المريضة ماذا نفعل؟ هل نقول لها: تموت، تتضاعف حالتها وتبقى على ألمها؟ لا، في هذه الحالة نقول: يجوز أن يؤتى برجل ليعالج المرأة، وحتى هذا الأمر فيه ترتيب، فأولى الناس بالعلاج المرأة المسلمة، ثم المرأة الكتابية، ثم الرجل المسلم، ثم الرجل الكتابي أو الكافر، فلا يقدم رجل مسلم على المرأة الكافرة، المرأة الكافرة تعالج مع أنها كافرة لماذا؟ لأن الشريعة تحتاط في قضايا الاختلاط، وقضايا الملامسة والنظر إلى العورات احتياطاً شديداً، وهذا الترتيب ذكره أهل العلم.
وهناك أشياء يتوسع فيها الناس وليست ضرورات، فينبغي لك يا أخي الطبيب ألا تستجيب، أو -مثلاً- أتت امرأة لها حالة غير طارئة، ويمكن أن تبحث صاحبتها عن حل وتجد، وأنت تعلم الحل، فلا يلزم أن تكشف عليها، بل تدلها وتقول لها: المستشفى الفلاني فيه نساء، لأنها ليست ضرورة، لكن لو قال: والله ما وجدنا ولا أي مستشفى، وبحثنا على قدر طاقتنا، فهنا يجوز أن تكشف، وأنت لست مكلفاً بالتنبيش عن الناس، هذه هي شغلتهم ومسئوليتهم، لكن أنت إذا كنت تعلم أن هناك حلاً فالمفروض أنك ما تدخل لكي لا تعين على المنكر.
مثلاً: بعض حالات العقم قد يكون هناك رجل امرأته فيها عقم، أو فيها شيء يمنع الإنجاب، فهذه الآن ليست حالة طارئة؛ فإن من الممكن أن تبحث وتواصل البحث عن امرأة وقد تجد، فليس هناك ضرورة أن يكشف عليها رجل إذا لم تجد امرأة الآن؛ لأنها ليست حالة طارئة، لكن لا يعني هذا أن تبقى طيلة عمرها بدون علاج حتى ترى امرأة لا، لكن إن بحثت مع الفترة الزمنية الكافية المقنعة عن امرأة فلم تجد، فلا بأس أن تذهب لتتعالج عند الرجل.
أيضاً حالات الطوارئ، حتى لو أن هناك أناساً في أماكن أخرى فما يكفيك الوقت أن تستدعي المرأة من بيتها لتقول: تعالي، هنا حالة طارئة، أنت الموجود في الطوارئ، إذاً أنت الذي تشرف بنفسك مباشرة.
وهنا ننبه إلى مسألة فيها جانب من التضحية مهم جداً، لكن لأنه ليس فيها احتساب للأجر فلا تعطى هذه القضية حقها أحياناً تنتهي فترة دوام الطبيبة المناوبة أو المشرفة، أو التي موجود في الجدول أنها في الوقت الفلاني، جاءت مريضة بعد انتهاء النوبة، والموجود رجل، فمن المفروض شرعاً -لله- أن هذه الطبيبة التي انتهت فترة النوبة عندها، لكي لا تحرج أختها المسلمة التي أتت للعلاج، وتضطرها للكشف على الرجل، من المفروض أن تكشف عليها ولو كان خارج الدوام، ولو كانت خارج النوبة، وتحتسب الأجر عند الله، والرجل مثلها، لو رأى رجلاً قد أتى، وأنه الآن سيكشف على امرأة وهي الموجودة الآن في العيادة، فيحاول هو أن يأخذ الدور ويأخذ الرجل ويعالجه، وهذه المسألة نابعة من احتساب الأجر عند الله عز وجل، ونابعة من أنك أنت الآن تحاول ألا يقع المنكر، وبالذات في حالات الولادة التي تنكشف فيها من العورات ما الله به عليم أشياء كثيرة جداً.
وللأسف أن الغربيين يراعون هذا الأمر؛ فلو أن امرأة في الغرب في المستشفى قالت: أنا لا أريد إلا امرأة، لأتوا لها بامرأة من أي مكان، حرصاً على نفسية المريض، وعلى النواحي الإنسانية، ونحن لأن القضية كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسألة إسلامية وشرعية نضيعها! فهل الكفار أحسن منا في هذا الجانب؟! مع أنهم ما عندهم وازع ديني يدفعهم لهذا، لكن بمجرد أن طلبت المرأة هذا الأمر، نحن عندنا ليس فقط طلب المرأة، عندنا دين، عندنا قانون إلهي نعمل به، فلا يجوز التفريط بسهولة، والله ما هو موجود عندنا إلا يا فلان دبر نفسك بعض الناس يجيبون إجابات عجيبة، مع أنه قد يمكن التوفير.
نعم.
إن هذه القضية إدارية أكثر من أنها تتعلق بنفس الطبيب، لكن سددوا وقاربوا، ولا بد من التعاون والتكاتف على إيجاد الحلول، وإذا لم أتحرك أنا ولم تتحرك أنت فما الذي يصلح الأمور؟ مثلاً: هناك بعض العلميات قد يجرد المريض فيها من ثياب لا يحتاج إلى إزالتها، أحياناً تكون عملية جيوب أو عملية الغدة الدرقية، فما هو الداعي إلى كشف ثياب المريض من الأسفل؟! أو كشف أشياء من المرأة في الساقين والعملية في الغدة الدرقية أو في الجيوب لماذا تكشف الساقين؟ أو -مثلاً- من باب أن الضرورة تقدر بقدرها ما الداعي لكشف العورة على عمال النظافة؟ فالقضية الآن كلها قضية أطباء، فإذا كان الطبيب يريد أن يطلع عليه أن يترك المجال للمريض كي يغطي، فإن بعض الأطباء يهمل المريض، وقد يكون هذا في السرير، فأنت إذا مررت بين الأسرة والعنابر من المفروض إنك إذا رأيت مريضاً قد كشفت فخذه أو جزء من عورته أن تغطيه حتى لو كان نائماً، فإنه قد يكون مخدراً لا يدري عن نفسه، ولو أنه كان في اليقظة لراعى نفسه ولستر عورته، لكنه مسكين مستسلم بين يديك، المفروض أنت الآن الذي تحرص عليه، أحب لأخيك ما تحب لنفسك، هل ترضى أن تكون عورتك مكشوفة والناس يمرون ويجيئون ويذهبون؟ لا ترضى بهذا، فينبغي أن يكون عندك حرص على هذا الجانب، وعلى ستر عورات المرضى وعدم كشفها إلا في الضرورة، وألا يراها الناس الذين ليس لهم علاقة بالموضوع، أو أنهم مستثنون من الرؤية.(241/22)
بعض العمليات التي ينبغي على الأطباء أن يعرفوا أحكامها
هناك عمليات معينة ينبغي على الإخوان الأطباء أن يلتفتوا إليها وإلى أحكامها(241/23)
عمليات العقم
مثلاً العمليات التي تسبب العقم، مثل: عملية ربط المبايض، هناك أشياء ينبغي ألا يلجأ إليها إلا عند الضرورة والخوف على حياة المرأة، وإذا ما وجد علاج آخر أقل ضرراً من هذا، وبالذات إعطاء أشياء لمنع الحمل؛ لأن من مقاصد الشريعة تكاثر الأمة، والطبيب عندما يعطي هذه الأشياء يصادم مقصود الشريعة بتكثير النسل للمسلمين، فعليه ألا يعطي هذه الأشياء إلا في الحالات الضرورية، كأن يخشى على صحة المرأة، فلا يمكن أن تحمل نهائياً، ولو حملت فإنه خطر مؤكد على حياتها، ولا بد أن يوافق الزوج؛ لأن له حقاً في الولد وليست المرأة فقط هي التي لها حق في الولد، فالمسألة إذاً لا بد أن يبحث فيها أيضاً.
الأدوية التي تخفف الشهوة قد يجوز إعطاء مريض دواءً يخفف الشهوة -مثلاً- حتى لا يجد العنت وحتى لا يقع في شيء، لكن لا يجوز إعطاؤه دواء يقطع الشهوة بالكلية ويجعله عنيناً لا يقوى على الوقاع.(241/24)
عمليات التجميل
أيضاً: عمليات التجميل فإن بعض عمليات التجميل مباحة، مثلاً: رجل حدث له حروق فلا بد من عملية التجميل، أو آخر عنده حَوَلٌ ممكن أن يعمل عملية تجميل، أيضاً: سحب الدهن والشحم من البطن، هذه سألنا فيها بعض العلماء فقال: إذا لم تسبب ضرراً فلا بأس أن يسحب الشحم، كذلك إزالة الإصبع الزائدة وبعض الأشياء المشوهة، أو إزالة الوشم، وقد سأل أحد الإخوة عن هذه فقال: أنا عندي وشم، وشمت وأنا ما زلت صغيراً، يقول: والرسول صلى الله عليه وسلم لعن الفاعل لهذا الفعل، فأريد أن أذهب الآن لعملية التجميل، فما حكم إزالة الوشم بهذا؟ فكان جواب الشيخ ابن عثيمين لما سألته عن المسألة قال: يجوز أن يعمل العملية لإزالة هذا المنكر، لأنه فعل منكراً هنا في الجلد، فيجوز له أن يزيله بعملية تجميل.
لكن لو أتى إليك أحدهم وقال: أريد عملية تصغير الثدي، ووشر، وتفليج، وشد إلخ فهنا أشياء فيها تغيير واضح لخلق الله، وليس هناك داع وليس فيه عيب، وقد كان جواب الشيخ ابن عثيمين فيها واضح، حيث قال: هذه مثل التفليج فلا يجوز عملها.
وليس قصدي أن أطرح لكم أحكاماً تفصيلية في المواضيع بقدر ما أقصد أن أثير هذه النقاط عند إخواني الأطباء والطبيبات حتى يحصل فيها اهتمام وسؤال.(241/25)
قطع الأعضاء ودفنها
كذلك: عملية إسقاط الأجنة ما حكم إسقاط الجنين؟ قد تأتي بعض النساء اللاتي يفعلن الفاحشة -والعياذ بالله- وفي بطنها جنين، فتقول: تعال أسقط الجنين أيضاً الأعضاء المبتورة، قد تقطع يد، وقد تقطع رجل، إذا كان المرض سرطان، فهذه الأعضاء -كما يقول الشيخ ابن باز لما سألته عن هذه المسألة-: هذه أعضاء محترمة مصانة، لا بد أن تلف ولا بد أن تدفن، إلا الأشياء مثل الأظفار والشعر والمخلفات البسيطة؛ لأن الظاهر الآن أن بعض هذه الأشياء تجمع ويلقى بها في سلة المهملات أو في الزبالة أو في أي مكان، فهنا لا بد أن يراعى (ما قطع من حي فهو ميت) ولا بد أن هذا الشيء يصان ويدفن، ولا بد أن يكون فيها إجراءات، وأنتم بينكم وبين إدارة المستشفى تتواصون بالحق حتى هذه الأشياء لا تذهب هكذا.
مثلاً: الجنين الذي سقط إذا لم يأخذه أهله أين يذهب؟ إذا كان الجنين قد نفخ فيه الروح فلا بد من معاملته كجنازة كاملة، وأن يدفن في المقبرة، وإذا كان الجنين لم ينفخ فيه الروح أو كان شيئاً بسيطاً نزل فيدفن في أرض، لكن لا يشترط أن تكون مقبرة، لكن لا بد أن يدفن في أرض ولو لم تكن مقبرة، أما إذا كان الجنين لا بد من دفنه، كأن يكون سقط ومات وقد نفخت فيه الروح، فلا بد أن يدفن في المقبرة.(241/26)
عملية التشريح
كذلك: قضية التشريح يمكن أن يحدث تساهل -لا سمح الله- فيؤتى بجثة إنسان مسلم لتشرح، فإذا اكتشفت أنت بالقرائن وتبين لك أن هذه جثة مسلم فلا يجوز لك مطلقاً أن تشرح فيها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (إن كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسره حياً) أتي لك بجثة، وتأتي بالمنشار الكهربائي وتفك الرأس وتخرج الدماغ، وتريد أن تفحص هذا على جثة أخيك لو أنت مكانه هل ترضى بهذا الكلام؟ فالأصل أن الأجساد محترمة فتدفن، ولا تبقى حتى على وجه الأرض، فإن الدفن واجب، لكن لضرورة التعليم يؤتى بأجساد ليست أجساد مسلمين، فيحصل فيها قضايا التعليم، ولذلك قال أهل العلم: ويحرم قطع شيء من أطراف الميت وإتلاف ذاته أو إحراقه ولو أوصى به.
وحتى في مسألة الجنين الذي يتحرك في بطن الأم الميتة تردد بعض الفقهاء في شق بطن الأم، وقالوا: يمكن أن يخرج الولد ويمكن أن يموت، فنكون قد شققنا بطن الميتة، لكن القول الراجح في هذا: أنه إذا غلب على ظن الطبيب أن الولد سيخرج حياً فيجوز له أن يشق بطن الأم الميتة لإخراج الولد الذي يغلب على الظن أنه سيعيش، لكن إذاك كان ميتاً والأم ميتة فلا تشق بطنها، وهناك قضايا تنبه لها العلماء، قالوا: لو أن امرأة نصرانية كافرة تزوجها رجل مسلم، وماتت وفي بطنها جنين قد نفخت فيه الروح، ومات الجنين معها، فكيف تدفن؟ حتى هذه المسألة فكروا فيها، فقالوا: تدفن الأم وظهرها إلى القبلة لماذا؟ لأن الجنين الذي في البطن جنين مسلم، والمسلم عند الدفن يوجه إلى القبلة، وهو في بطه أمه يكون وجهه إلى ظهرها، فعندما تدفن تكون هي موجهة إلى غير القبلة وظهرها إلى القبلة ليكون الولد المسلم في بطنها متوجهاً إلى القبلة.
وهنا جاءت مسألة أخرى: هذه امرأة كافرة هل يجوز قبرها في مقابر المسلمين؟ لا يجوز، لكن في بطنها ولد مسلم فهل يدفن في مقابر الكفار؟ لا يجوز، ولذلك كان الحل أن يقبر في مدفنة خاصة لا هي من مقابر المسلمين ولا من مقابر الكفار، أو جزء معين من المقبرة خاص لمثل هذه الحالة.
انظر إلى الفقهاء! هذه أمور من الدين ليست سهلة، ونحن الآن نفعل أشياء ولا نعرف ولا نفكر أصلاً ما هو الحكم في المسألة هذه! بقي عندنا حالة، أو فتوى في جهاز الإنعاش ودراسة، ملخص دراسة في الموضوع، ونقف عند هذه؛ لأنني أخشى أن أطيل عليكم، ولكن -أيها الإخوة- أذكركم أخيراً بمسألة مهمة بتقوى الله، واستشعار الأمانة، فهو أهم ما يعتمد عليها في مهنة الطب، قضية الأمانة التي يسميها الغربيون "شرف المهنة" ونحن نسميها "أمانة" أوصانا الله عز وجل بها.
وأسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم السداد.(241/27)
سلامة الصدر من الأحقاد
لقد جاءت هذه الشريعة بإصلاح ذات البين؛ من أجل أن تكون العلاقة بين المؤمنين على أحسن ما يمكن؛ وتكون صدورهم سليمة، لكن الواقع اليوم مليء بالأحقاد والشحناء، والتي تسببها الغيبة والنميمة، وبعض الآفات الأخرى، وهذه المادة خطوة في طريق إصلاح هذه الاختلالات.(242/1)
سلامة الصدر وأهميته
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا مضل له، وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: عباد الله! إن هذه الشريعة جاءت فيما جاءت به إصلاح ذات البين، لأجل أن تكون العلاقة بين المؤمنين على أحسن ما يمكن، وأمر الله تعالى بإصلاح ذات البين لأجل حفظ سلامة الصدور، فقال الله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] وجاءت الشريعة بكل الأمور التي تكفل سلامة صدر المسلم لأخيه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم) كل هذه الإجراءات لسلامة لصدور، سلامة الصدر مطلب شرعي، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا ذل ولا حسد) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح.
عباد الله: لقد كثر اليوم في الناس الشحناء، وصارت الأحقاد في القلوب كثيرة، لقد صرنا نجد تقطع العلاقات، وحمل الناس في قلوب بعضهم على بعض، مع أن هذه الشريعة قد جاءت فيما جاءت به تصفية القلوب والنفوس ومراعاة المشاعر، وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] علم الله تعالى أن بعض الناس إذا استأذن فلم يؤذن له وقيل له: ارجع، أنه قد يجد في نفسه على أخيه صاحب البيت، فقال الله معزياً ومسلياً حتى يرجع المؤمن ونفسه راضية عن أخيه المؤمن قال: {فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] فسلاه وعزاه بالتزكية التي تحصل له في قلبه إذا رجع لما يقال له ارجع، ولذلك كان بعض السلف يفرح إذا قيل له: ارجع، ولم يؤذن له بالدخول؛ لأنه يريد موعود الله بحصول التزكية التي وعد الله {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28].
وسلامة الصدر نعمة من النعم التي توهب لأهل الجنة حينما يدخلونها قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] فأهل الجنة لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلبٌ واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً، كما جاء في صحيح البخاري رحمه الله.
سلامة القلب: طهارته من الحقد والغل للمسلم، وهذه راحة ونعمة، ولذلك أكدت عليها الشريعة حتى يعيش الناس في بحبوحة من أمرهم، وفي سلامة وعافية، فإن سلامة صدر المسلم لأخيه من أعظم الأسباب لتحقيق ذلك، وهذه مسألة صعبة ولا شك، فإن الإنسان قد يحسن مكابدة الليل وقيام ساعاته، ولكنه قد لا يستطيع أن يزيل من قلبه كل شيء فيه على إخوانه، وقد وصف العلماء رحمهم الله أخلاق طالب العلم فقالوا: لا مداهن، ولا مشاحن، ولا مختال، ولا حسود، ولا حقود، ولا سفيه، ولا جاف، ولا فظ، ولا غليظ، ولا طعان، ولا لعان، ولا مغتاب، ولا سباب، يخالط من الإخوان من عاونه على طاعة ربه، ونهاه عما يكرهه مولاه، ويخالط بالجميل من لا يأمن شره إبقاءً على دينه، سليم القلب للعباد من الغل والحسد، يغلب على قلبه حسن الظن بالمؤمنين في كل ما أمكن فيه العذر، لا يحب زوال النعم على أحدٍ من العباد، هذا دأب طالب العلم والداعية إلى الله والمتمسك بالدين، هذا حاله وهذا خلقه، لقد أثنى الله على الأنصار لأمر مهمٍ في غاية الأهمية قال الله عز وجل: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر:9].
لما فضل المهاجرون على الأنصار كانت قلوب الأنصار سليمة لإخوانهم، ولم يعترضوا على تفضيلهم ولم يحسدوهم على ما آتاهم الله من فضله، وإنما كانت الأنصار كما قال الله: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر:9] أي: مما أوتي إخوانهم المهاجرون من الفضل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] لو كان بهم حاجة مع ذلك يؤثرون على أنفسهم.
إن مما يدل على صعوبة تحقيق سلامة الصدر هذه القصة العظيمة التي رواها الإمام أحمد وغيره: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يدخل عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه، قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم تبعه -أي تبع الرجل الممدوح- عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال للرجل: إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي -أي: هذه الأيام الثلاث- فعلت، قال: نعم، قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعارَّ وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث الليالي وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله! إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا عداء، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث المرار، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خيرٍ أعطاه الله إياه، فقال عبد الله بن عمرو: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق) حديث صحيح.(242/2)
حرص السلف على سلامة الصدر
إنها ليست مسألة سهلة أن يكون الإنسان دائماً سليم الصدر لإخوانه، ليس في قلبه غش ولا حقد ولا حسد على أحدٍ من إخوانه، إنه أمرٌ بالغ الصعوبة، ولكن يحصل بالمجاهدة، فمن وفقه الله له حصل له.
كان الصحابة رضوان الله عليهم يلتمسون إزالة أي شيء يحصل في صدر الأخ على أخيه، لما أتى أبو سفيان على سلمان وصهيب وبلال في نفر قالوا: (والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر مستدركاً -لعله يطيب خاطر الرجل الذي يرجى إسلامه- قال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريشٍ وسيدهم -لعلها عبارة أراد أن يتألف بها قلب الرجل- فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبت إخوانك من أجل هذا المشرك، -قبل إسلامه رضي الله عنه- يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لأن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك، فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه! أغضبتكم؟ قالوا: لا.
ويغفر الله لك) رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه.
فهذا يدل على أنه ينبغي على المسلم إذا خشي أن يكون أخوه المسلم قد أخذ عليه في نفسه، أن يسارع لتطييب خاطره والاعتذار إليه، وأن يتأكد بأن صفحة قلب أخيه لا زالت بيضاء، وأنه لم يتصرف تصرفاً يدخل في قلب أخيه شيئاً عليه.
وفي المقابل ينبغي على من اعتذر إليه أن يقبل العذر وأن يسارع إلى تطييب خاطر الآخر، وأن يدعو له بالمغفرة، يغفر الله لك يا أخي، لقد كانت المناشدة بأسلوبٍ غاية في المحبة، يا إخوتاه! أغضبتكم؟ تلك أخلاق الصديق رضي الله تعالى عنه.
وقد قال ابن عباس >-أيضاً- كلماتٍ تدل على صلاح قلبه لإخوانه ولجميع المسلمين، لما شتمه رجل قال له: [إنك لتشتمني وفي ثلاث خصال: إني لآتي على الآية في كتاب الله عز وجل فلوددت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم] ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلمه الله القرآن، ففتح الله على ابن عباس أشياء كثيرة في تفسير كتابه، كان ابن عباس يتمنى أن جميع المسلمين يعلمون ما يعلم من تفسير الآية إذا مر بها، ولم يكن يتمنى أن يتفرد بالعلم، ليكون بارزاً بينهم، متميزاً عليهم، وإنما يتمنى أن كل المسلمين يعلمون منها ما يعلم، ثم قال: [وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين -أي القضاة الذين ينظرون في قضايا الناس- يعدل في حكمه فأفرح به، ولعلي لا أقاضي إليه أبدا] أفرح به لأجل مصلحة إخواني المسلمين، لأنه عادل أفرح لوجوده بين المسلمين، ولعلي لا أجد فرصة ولا علاقة لي بهذا الرجل ولا أتوقع أن أعرض قضية لي عليه، ثم قال ابن عباس: [وإني لأسمع أن الغيث قد أصاب بلداً من بلدان المسلمين فأفرح به، ومالي به سائمة] لا غنم ولا زرع في تلك البلد، ولكنني أفرح لأن مطراً أصاب بلداً من بلاد إخواني المسلمين فانتفعوا به، هذه أخلاق ابن عباس.
وأما أبو دجانة رضي الله عنه لما دخل عليه وهو مريض كان وجهه يتهلل، فقيل له: [ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، -والأخرى- وكان قلبي للمسلمين سليماً].
وعن أبي حبيبة عمران بن طلحة قال: [أدخلت على علي رضي الله عنه بعد وقعة الجمل -المعركة التي استشهد فيها طلحة - فرحب به، ثم أدناه، ثم قال لولد طلحة يطيب خاطره بعد مقتل أبيه: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك ممن قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]] وهكذا مضى علماء هذه الأمة على هذا الطريق؛ طريق سلامة الصدر للمسلمين، فهذا شيخ الإسلام رحمه الله تعالى كان فيما يجمع من الخصال: سلامة الصدر لإخوانه من أهل العلم، مع أن بعضهم حصل لهم حسدٌ عليه، بل قاموا ضده، بل سعوا في سجنه، وألبوا عليه الحكام، ومع ذلك كان ممسكاً للسانه، وممسكاً لألسنة أصحابه أن تنال أحداً من أهل العلم، فقال في رسالته التي بعثها من السجن، قال لأصحابه خارج السجن، وهو يتوقع أن صدورهم كالغلال على أولئك الذين كانوا سبباً في جعله في ذلك السجن، يقول: تعلمون رضي الله عنكم أني لا أحب أن يؤذى أحدٌ من عموم المسلمين، فضلاً عن أصحابنا بشيء أصلاً، لا ظاهراً ولا باطناً، ولا عندي عتبٌ على أحدٍ منهم ولا لومٌ أصلاً، بل هم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان، كلٌ بحسبه، ولا يخلو الرجل من أن يكون مجتهداً مصيباً، أو مخطئاً، أو مذنباً، فالأول مأجور مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد معفوٌ عنه مغفور له، والثالث المذنب فالله يغفر لنا وله ولسائر المؤمنين, فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل، لا تتكلموا بأي عبارة، كقول القائل: فلان قصر، فلان ما عمل، فلان أوذي الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية، فلان كان يتكلم في كيد فلان، ونحو هذه الكلمات التي فيها مذمة لبعض الأصحاب والإخوان، فإني لا أسامح من آذاهم من هذا الباب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال ابن القيم رحمه الله: كان بعض أصحاب ابن تيمية الأكابر يقولون: وددت أني لأصحابي كـ ابن تيمية لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو على أحدٍ من خصومه قط، بل كان يدعو لهم، وجئته يوماً مبشراً بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذىً له، من أصحاب المذاهب، فنهرني وتنكع لي واسترجع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أما أخبرت بموت الرجل، ثم قام من فوره إلى بيت أهله -أي أهل الميت- فعزاهم وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمرٌ تحتاجون فيه إل مساعدة إلى وساعدتكم فيه، فسروا به ودعوا له.
وقال ابن مخلوف -وكان من أشد الناس عداوة لـ ابن تيمية رحمه الله، بل أفتى بقتله- كان يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا، ذلك أن الأيام قد دارت وتولى السلطان الناصر وقرب شيخ الإسلام، وأراد أن ينتقم له من أعدائه ممن أمر بسجنهم ولكنه رحمه الله أبى ذلك، وقال: إن قتلتهم من أين تأتي بمثلهم، وهم علماؤك ونحو ذلك من الكلام حتى سكنه.
عباد الله: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب) كلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب) في ذلك الوقت قال هذه الكلمة: (ولكن في التحريش بينهم) فالشيطان هو الذي يئز هذا على هذا، ويريد أن يحقد هذا على هذا، وينفخ في نفس هذا، ويريد أن يمتلئ القلب غيظاً على أخيه، فلنحرص على تجنب عداوة اللعين الذي طرده الله من رحمته وأبعده إلى يوم الدين، ولنعلم أن كل حقدٍ أو حسد مصدره هذا الشيطان، وكذلك لنعلم أن الحقد على المسلم أو الحسد له يعرض الإنسان لرد عمله وحرمانه من الفضل العظيم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرض الأعمال كل إثنين وخميس فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك به شيئاً، إلا امرءاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا) رواه مسلم.
فلذلك المشاحن لأخيه يحرم من المغفرة يوم الإثنين والخميس؛ بسبب الشحناء، وبسببها حرم الناس من معرفة ليلة القدر على التعيين.
كما أن هذا الحقد بين المسلمين سببٌ لسوء الخاتمة، قال عليه الصلاة والسلام (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثٍ، فمن هجره فوق ثلاثٍ فمات دخل النار) رواه أبو داود وهو حديث صحيح.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل قلوبنا سليمة لإخواننا المسلمين، اللهم طهر قلوبنا من كل غلٍ وحقدٍ وحسدٍ وغش، اللهم اجعل قلوبنا تقية نقية، واجعلها سليمة يا رب العالمين، واجعلنا ممن يأتيك يوم القيامة بقلبٍ سليم، واغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا إنك رءوف رحيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وتقاربوا وأفسحوا لإخوانكم يفسح الله لكم.(242/3)
باب وحر الصدر
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إنه ينبغي الكف عن أعراض المسلمين، وإن من أعظم الأشياء التي تسبب وحر الصدر الغيبة والنميمة، وهما أمران عظيمان، فكم صار بين المسلمين أحقاد بسببهما، وكم جرت من مآسي في انفصام عرى الأخوة بين أطرافهما، ولذلك كان حرياً بالمسلم أن يمسك لسانه عن الفري في أعراض المسلمين، وكم من رجلٍ متورعٍ عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، وربما تورع بعضهم عن أكل بعض اللحم المستورد وهو لا يزال يأكل لحم إخوانه: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات:12].
وكذلك لنتوجه عن تتبع العثرات وتسقط العيوب، فإن الاشتغال بعيوب النفس يشغل عن عيوب الغير، وقد قال الإمام مالك رحمه الله: "كان هنا -يعني: بـ المدينة - أناسٌ لهم معايب، فسكتوا عن عيوب الناس، فنسيت عيوبهم، وكانت أناسٌ لهم معايب، فتكلموا في عيوب الناس فبقيت عيوبهم وذكرت من بعدهم" ثم إن النفس الأصل فيها الجهل والظلم والتعدي على الخلق، فلذلك يرى الإنسان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه، وينسى الجذع في عينه) فهو يبصر أخطاء الناس وإن دقت، وينسى أخطاءه هو.
وكذلك ينبغي على الإنسان ليسلم صدره لأخيه أن يترك المراء والجدال والخصومة، فإن من أكثر ما يحدث الحقد والضغائن بين الإخوة: المراء، والجدل، والنقاش العتيل، وكذلك فإنه ينبغي الحذر من التعصب، فكم كان التعصب سبباً في إثارة الأحقاد والضغائن، قال يوسف الصدفي رحمه الله: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة واحدة؟ إذاً الخلاف في الرأي لا يفسد الود بين المسلمين، لا يفسد للود قضية.
ثم إن التعصب لغير الحق، لمذهبٍ، أو قبيلة، أو حزبٍ، أو جماعة، أو شخص تقليداً أو حمية من أعظم الأسباب التي تورث الضغائن بين المسلمين، قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن نصب شخصاً كائناً من كان، فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل، فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً.
فكان التعصب سبباً عظيماً لوقوع العداوة والبغضاء بين المسلمين.
وقال الشيخ ابن القيم: وإنما كثر الاختلاف وتفاقم أمره بسبب التقليد وأهله، وهم الذين فرقوا الدين، وصنفوا أهله شيعاً كل فرقة تنصب متبوعها وتدعو إليه، وتذم من خالفها ولا يرون العمل بقولهم، حتى كأنهم ملة أخرى سواهم يدأبون ويكدحون في الرد عليهم، ويقولون: كتبهم وكتبنا، وأئمتهم وأئمتنا، ومذهبهم ومذهبنا، هذا والنبي واحد، والدين واحد، والرب واحد، ولذلك كان لا بد من ترك هذا التعصب، والحوار بالحسنى، والمباحثة في مسائل العلم بصدر متسع، وأن ينشد الجميع صحة الدليل والفهم السليم.
عباد الله: إن التنافس في الدنيا من الأشياء التي توغر الصدور، لماذا حرمت الشريعة بيع المسلم على المسلم، وشراء المسلم على المسلم، وسوم المسلم على المسلم؟ حتى في حال المساومة لا يجوز أن تدخل بينه وبينه، وخطبة المسلم على خطبة أخيه، لأن الشريعة تريد المحافظة على صدور المسلمين نقية، وقال عليه الصلاة والسلام: (أوغير ذلك؟ تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون) قالها لما بشرهم بما يفتح عليهم من فارس والروم.
وكذلك فإن حب الرئاسة هو من أعظم أسباب الحقد على الإخوان، قال الفضيل رحمه الله: ما من أحدٍ أحب الرئاسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير.
ثم إن هناك بعض الأمور التي يتساهل فيها بعض الناس، ولها صلة وثيقة بقضية اختلاف القلوب، مثل اختلاف الصفوف للصلاة، وعدم تسوية الصفوف، وسد الفرج، والتقدم والتأخر، وعدم الإتمام من الجانبين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم).
وينبغي على المسلم أن يترك كل ما يكون سبباً للعداوة كالمزاح الثقيل، والنجوى بين اثنين التي تحزن الثالث، وليكن الشعار الدعاء دائماً وأبداً، بأن يجعل الله قلبه سليماً، قال الله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
عباد الله: إن الهدية تذهب وحر الصدر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا) فلو كان بين إنسان وأخيه شيءٌ فأهدى له هدية، فلا شك أن مثل هذه الهدية كفيلة في الغالب بإذهاب ما في القلب، فهذه من العلاجات الشرعية.
عباد الله: إن بعض الناس لا يفرق بين صاحب القلب السليم الطيب، وبين الإنسان المغفل الساذج، ويظن أنه عندما يقول: فلان قلبه طيب أي: مغفل وساذج، وأن الدعوة إلى أن يكون الشخص طيب القلب سليم القلب، يعني: أن يكون مغفلاً ساذجاً، كما يقولون: على نياته، فما هو الفرق بين المغفل والساذج، وبين الإنسان سليم الصدر طيب القلب الذي ننشده ونتحدث عنه؟ قال شيخ الإسلام رحمه الله: القلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر، إذاً ليس أن يكون مغفلاً أمراً مطلوباً، أن يكون الإنسان مغفلاً لا يدري عن طرق أعداء الله، ولا يدري عن وسائل المجرمين؛ المجرمون لهم وسائل في اصطياد الناس، والمخدرات، وأوكار الرذيلة، وجر الناس إلى الفساد، ومن المهم بالذات في هذا الوقت، وفي هذا الزمان أن يكون المسلم واعياً منتبهاً، فكثير من الناس قد جروا إلى فاحشة، وجروا إلى مسكرات ومخدرات، وجروا إلى محرمات، بسبب الغفلة والسذاجة، مغفل لا يدري عن طرق أهل الشر، وليس هذا هو سليم الصدر طيب القلب الذي ننشده، نعم.
ربما يكون حاله في الإثم مختلفاً عن حال القاصد الذي يعلم الشر وينجر إليه، ولكن على المسلم أن يكون نبيهاً غير مغفلاً، قال ابن القيم رحمه الله معقباً على كلام شيخ الإسلام الذي قال فيه: فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يمدح به.
عبارة ذهبية، قال ابن القيم رحمه الله: الفرق بين سلامة القلب، وبين أن يكون أبله مغفل: أن سلامة القلب تكون مع عدم إرادة الشر بعد معرفته، فيسلم قلبه من إرادته وقصده، لا من معرفته والعلم به، هذا بخلاف البله والغفلة فإنها جهل وقلة معرفة، وهذا نقص لا يحمد به صاحبه، فالأمر كما قال عمر رضي الله عنه: [لست بخب ولا يخدعنا الخب، وكان عمر أعقل من أن يُخدع، وأورع من أن يَخدع] قال عمر رضي الله عنه: لست بخبٍ يعني: لست بلئيم ولا مخادع، لست بخبٍ ولكن في نفس الوقت الذي لست بخبٍ قال عمر: ولا يخدعنا الخب، وكان عمر أعقل من أن يخدع وأورع من أن يخدع، فهذا الذي نريده، نريد مسلماً يعرف طرق الشر، ويعرف أهل الشر وهو نبيه فطن، ولكنه لا يريد شراً لأحد، ولا يخدع أحداً، فإذا وصل المسلم ووصل المسلمون إلى هذا الحد، فهذا ما نتمناه.
فينبغي التفرقة إذاً بين المغفل الأبله، وبين طيب القلب الممدوح شرعاً.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتفقهين لأهل الشر وكيدهم، وأن يباعد عنا كيد الفجار وشر الأشرار إنه سميعٌ مجيب.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين، وأهلك أعداء الدين إنك على كل شيء قدير، اللهم أخرج اليهود من بيت المقدس أذلة صاغرين، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، واجعلهم في ديارهم خائفين مذعورين، واغفر لمن قتل في سبيلك يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا ولآبائنا ولمن مات من المسلمين على التوحيد يا رب العالمين، واجعلنا ممن يلقاك بقلبٍ سليم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(242/4)
سيرة سفيان الثوري
إننا بحاجة إلى معرفة سير سلفنا الصالح، أولئك الرجال الأفذاذ الذين أنجبتهم هذه الأمة المباركة المعطاءة، وذلك حتى نسير على ما ساروا عليه، ونترسم خطاهم ونقتفي آثارهم، فإنهم هم القدوة الحسنة لمن أراد الاقتداء، وهم خير متَّبع لتابع من أولئك الرجال الأفذاذ سفيان الثوري رحمه الله فقد تكلم الشيخ عن جوانب من سيرته الفذة، وذكر بعض أقوال العلماء في الثناء عليه، وذكر بعض فضائله.(243/1)
أهمية معرفة سير السلف
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
لقد ضيعت هذه الأمة فيما ضيعت حفظ سير السلف والتعرف على رجالاتها في القرون الماضية، يوم أن التفتنا إلى أسماء اللاهين واللاعبين، وسير العابثين والفاسقين، ضيعنا من ضمن ما ضيعنا سير الأجداد المصلحين، والآباء الفاتحين، والعلماء العاملين.
أيها المسلمون: إن ديناً في رقابنا أن نتعرف على سير أسلافنا، وخصوصاً رجال خير القرون الذين مضوا وخلفوا سيراً وعبراً.
إن سير أولئك الرجال لتبعث في النفس الشجاعة في الحق، والحماسة في طلب العلم، والسعي لتغيير المنكر، والقيام لله بالعبادة، وسائر الفوائد التي تنبع من دراسة سير أولئكم الأفذاذ.(243/2)
سيرة سفيان الثوري رحمه الله
ونحن مع سيرة رجل من الرجال الذين أنجبتهم هذه الأمة إنه عَلَم بحق، كان رأساً في العلم، ورأساً في الزهد والورع وإنكار المنكر والجهر بالحق والعبادة والحفظ رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه، وقل من الناس من يعرفه، فلا تكاد ترى له عند العامة ذكراً أو تسمع له عندهم حساً وخبراً.(243/3)
نسبه ومولده
إنه أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوري رحمه الله تعالى، من قبيلة ثور، وهي قبيلة من مضر، ولد -رحمه الله- سنة سبع وتسعين للهجرة، ودرس على أبيه سعيد بن مسروق، الذي كان ثقة عند المحدثين، وأخرج له أصحاب الكتب الستة.(243/4)
طلبه للعلم ورحلته
طلب سفيان العلم وهو حدثٌ باعتناء والده المحدث الصادق، وأمه كان لها أثر حسن في توجيهه، قالت أم سفيان لـ سفيان: يا بني! اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي.
كانت تعمل بالغزل وتقدم لولدها نفقة الكتب والتعلم وقالت له مرة: يا بني! إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك! من هذا البيت خرج هذا الرجل، فالتربية التربية يا عباد الله! فإن النشء يخرج هكذا.
أفنى عمره في طلب العلم وطلب الحديث، وقال رحمه الله: لما أردت أن أطلب العلم قلت: يا رب! لا بد لي من معيشة، ورأيت العلم يُدرس -أي: يذهب ويندثر تدريجياً- فقلت: أفرغ نفسي في طلبه، قال: وسألت الله الكفاية.
وقال: أنا في هذا الحديث منذ ستين سنة.
وقال: ينبغي للرجل أن يكره ولده على طلب الحديث، فإنه مسئول عنه.
وكان -رحمه الله- يقول: لا نزال نتعلم العلم ما وجدنا من يعلمنا.
وقال: لو لم يأتني أصحاب الحديث ليسمعوا ويكتبوا لأتيتهم في بيوتهم.
وبلغ عدد شيوخه ستمائة شيخ، وعن المبارك بن سعيد قال: رأيت عاصم بن أبي النجود -وكان شيخاً جليلاً- يجيء إلى سفيان الثوري يستفتيه، ويقول: يا سفيان! أتيتنا صغيراً وأتيناك كبيراً.
أي: أتيتنا صغيراً تطلب العلم عندنا فتفوقت علينا فجئناك وأنت كبير وكان يكتب ويتعلم حتى آخر عمره يشتغل بطلب العلم.
دخلوا على سفيان في مرض موته، فحدثه رجل بحديث أعجبه، فضرب سفيان بيده إلى تحت فراشه فأخرج ألواحاً فكتبه -كتب الحديث وهو على فراش الموت- فقالوا له: على هذه الحال منك! فقال: إنه حسن! إن بقيت فقد سمعت حسناً، وإن مت فقد كتبت حسناً.
رحل إلى مكة والمدينة، وحج ولم يخط وجهه بعد، وزار بيت المقدس، ورحل إلى اليمن للقاء معمر، وكانت أسفاره ما بين طلب علم وتجارة وهرب كان نابغة بحق.
عن الوليد بن مسلم قال: رأيت سفيان الثوري بـ مكة يستفتى ولم يخط وجهه بعد.
وعن أبي المثنى قال: سمعت الناس بـ مرو يقولون: قد جاء الثوري قد جاء الثوري، فخرجت أنظر إليه فإذا هو غلام قد بقل وجهه.
أي: نبت شعره من قريب، كان ينوه بذكره في صغره من فرط ذكائه وقوة حفظه.
وقال محمد بن عبيد الطنافسي: لا أذكر سفيان الثوري إلا وهو يفتي، أذكره منذ سبعين سنة، ونحن في الكتاب تمر بنا المرأة والرجل فيسترشدوننا إلى سفيان يستفتونه ويفتيهم، ولما رآه أبو إسحاق السبيعي مقبلاً في صغره تمثل بقول الله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم:12].(243/5)
حفظه للحديث
كان ذا حافظة عجيبة، قال سفيان عن نفسه: ما استودعت قلبي شيئاً قط فخانني.
وكانوا يقدمونه في الحفظ على مالك وعلى شعبة، وقال يحيى القطان: ليس أحد أحب إليَّ من شعبة ولا يعدله أحد عندي، وإن خالفه سفيان أخذت بقول سفيان.
وقد خالفه في نحو من خمسين موضعاً في حفظ الأحاديث، وكان الحق فيها مع سفيان.
وكان ليله يُقسم جزأين: جزء لقراءة القرآن وقيام الليل، وجزء لقراءة الحديث وحفظه، وكان حفظه يبلغ نحواً من ثلاثين ألفاً، وقال ابن عيينة: ما رأيت رجلاً أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري.
وقال شعيب بن حرب: إني لأحسب أن يُجاء غداً بـ سفيان حجة من الله على خلقه يقول لهم: لم تدركوا نبيكم قد أدركتم سفيان.
وقال أبو بكر بن عياش: إني لأرى الرجل يصحب سفيان فيعظم في عيني.
كانت مرافقة الرجل له شرف وقال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: كنا نكون عند سفيان فكأنه قد أوقف للحساب من خشيته لله، فلا نجترئ أن نكلمه وهو في تلك الحال من الخشية، فنعرض بذكر الحديث، ونذكر في الكلام بيننا شيئاً عن الحديث، فيذهب ذلك الخشوع فإنما هو حدثنا وحدثنا، ويبدأ بالتحديث.
وكان يطلب سماع الحديث وهو مستخف لما هرب واضطر للاختفاء كان وهو مستخف يطلب العلم، قال سليمان بن المثنى: قدم علينا سفيان الثوري، فأرسل إليَّ: إنه بلغني عنك أحاديث وأنا على ما ترى من الحال، فائتني إن خف عليك، قال: فأتيته فسمع مني، وفعل ذلك بعدد من أصحابي.
وقال ابن المبارك عن سفيان: كنت أقعد إلى سفيان الثوري فيحدث، فأقول: ما بقي شيء من علمه إلا وقد سمعته، ثم أقعد عنده مجلساً آخر فأقول: ما سمعت من علمه شيئاً.(243/6)
عمله بالعلم
وقال عبد الرحمن بن مهدي: سمعت سفيان يقول: ما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط إلا عملت به ولو مرة واحدة.
كان يحس بالمسئولية، ويخشى أن يقابل الله فيسأله عن كل حديث حفظه: لأي شيء حفظته؟ وهل عملت به؟ رحمه الله تعالى.(243/7)
ورعه في الفتوى
ومع علمه كان ورعاً في الفتوى لا يتسرع في الإجابة، قال مروان بن معاوية: شهدت سفيان الثوري وسألوه عن مسألة في الطلاق، فسكت وقال: إنما هي الفروج أي: أخاف أن أفتي بالحل وهي محرمة عليه، فأتسبب في الوقيعة والوقوع في فرج لا تحل له.
وقال ابن أسباط: سئل الثوري وهو يشتري عن مسألة، فقال للسائل: دعني فإن قلبي عند درهمي فلست متفرغاً لأفتيك، وقد أخطئ وأنا منشغل بالبيع والشراء.(243/8)
دقته في الاستنباط
وكان له دقة عجيبة في الاستنباط والفقه، فعن الفريابي قال: رأينا سفيان الثوري بـ الكوفة، وكنا جماعة من أهل الحديث، فنزل في دار، فلما حضرت صلاة الظهر دلونا دلواً من بئر في الدار، فإذا الماء متغير -متغير بشيء من النجاسة- فقال: ما بال مائكم هذا؟ قلنا: هو كذا منذ نزلنا هذه الدار، فقال: ادلوا دلواً من ماء البئر التي قبلكم، فإذا ماء أبيض، فقال: ادلوا دلواً من بئر الدار التي شرقيكم، فإذا ماء أبيض، ثم قال: ادلوا دلواً من بئر الماء التي غربيكم، فإذا هو ماء أبيض، فقال: ادلوا دلواً من ماء البئر التي شأمكم، فدلوا دلواً فإذا هو ماء أبيض، فقال: إن لبئركم هذه شأناً، كل ما حولها من الآبار نظيفة إلا هذه التي أنتم فيها، فحفرنا فأصبنا عرق كنيف ينزل فيها -عرق من مرحاض ينزل إلى هذه البئر فينجسها- فقال: منذ كم نزلتم هذه الدار؟ فقلنا: منذ أربع سنين، فأمر بإعادة صلاة أربع سنين.
وكان -رحمه الله تعالى- حكيماً في تعليمه، وكان يقول: إذا كنت في الشام فاذكر مناقب علي؛ لأن بعضهم في تلك البلد كانوا يشتمون علياً، وإذا كنت في الكوفة فاذكر مناقب أبي بكر وعمر؛ لأن بعض المتشيعين في الكوفة كان يقع في أبي بكر وعمر.
وقال ابن المبارك رحمه الله: تعجبني مجالس سفيان الثوري، كنت إذا شئت رأيته في الحديث، وإذا شئت رأيته في الفروع، وإذا شئت رأيته مصلياً، وإذا شئت رأيته غائصاً في الفقه.(243/9)
عبادته وخشيته لله
وكانت عبادته عظيمة -رحمة الله عليه- قال يوسف بن أسباط: قال لي سفيان بعد العشاء: ناولني المطهرة أتوضأ، فناولته فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده، فبقي مفكراً، فنمت ثم قمت وقت الفجر فإذا المطهرة في يده كما هي، فقلت: هذا الفجر قد طلع! قال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة حتى هذه الساعة.
وكان عجيباً في قيامه لليل، كان يقوم الليل حتى الصبح في أيام كثيرة، وكان يرفع رجليه على الجدار بعد قيام الليل حتى يعود الدم إلى رأسه، وكان إذا أكل اجتهد في القيام بزيادة، أكل مرة طعاماً ولحماً ثم تمراً وزبداً، ثم قال: أحسن إلى الزنجي -أي: العبد- أحسن إلى الزنجي وكده.
ومرة قدم على عبد الرزاق، فقال عبد الرزاق: طبخت له قدر سكباج -لحم مع خل- فأكل، ثم أتيته بزبيب الطائف فأكل، ثم قال: يا عبد الرزاق! اعلف الحمار ثم كده، وقام يصلي حتى الصباح.
وقال علي بن الفضيل: رأيت الثوري ساجداً، فطفت سبعة أسابيع -سبعة أشواط حول الكعبة- قبل أن يرفع رأسه وقال ابن وهب: رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب سجد سجدة فلم يرفع رأسه حتى نودي للعشاء.
وكانت خشيته لله أبلغ من أن توصف، قال قبيصة: ما جلست مع سفيان مجلساً إلا ذكرت الموت، وما رأيت أحداً أكثر ذكراً للموت منه.
وقال يوسف بن أسباط: كان سفيان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم من خشيته لله عز وجل.
وقال سفيان: البكاء عشرة أجزاء: جزء لله، وتسعة لغير الله، فإذا جاء الذي لله في العام مرة فهو كثير.(243/10)
زهده وورعه وتواضعه
وكان زاهداً أقبلت عليه الدنيا فتركها وأخذ كفايته حتى لا يحتاج إلى الناس، وربما اشتغل ببيع وشراء لأجل ألا يحتاج إلى الناس ولا يمد يده، وكان له وصايا في الزهد، فكان يقول: ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن، ولكن قصر الأمل وارتقاب الموت.
وكان يوصي من يخرج في سفر ألا يخرج مع من هو أغنى منه، فيكون إن ساويته بالنفقة أضر بك، إذا أنفقت مثله وهو أغنى منك أضر بك، وإن أنفقت أقل منه ظهرت كأنك بخيل، فاخرج مع من هو مثلك.
وأما إنكاره للمنكر فكان شائعاً كثيراً، قال شجاع بن الوليد: كنت أحج مع سفيان فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهباً وراجعاً.
وكان استشعاره لمسئولية إنكار المنكر عظيمة، وخصوصاً الشيء الذي لا يستطيع تغييره، فعن سفيان قال: إني لأرى الشيء يجب عليَّ أن أتكلم فيه فلا أفعل فأبول الدم.
وعن ابن مهدي قال: كنا مع الثوري جلوساً بـ مكة، فوثب وقال: النهار يعمل عمله قوموا نعمل، الجلوس إذا كان مضيعة للوقت لا خير فيه.
وتواضعه كان عجيباً، وإزراؤه على نفسه كان كثيراً، قال ابن مهدي: بت عنده فجعل يبكي فقيل له عن سبب بكائه، فقال: لذنوبي عندي أهون من ذا -ورفع شيئاً من الأرض- ولكني أخاف أن أسلب الإيمان قبل أن أموت! كان يخشى الله عز وجل في علمه وعمله، وهذه صور من التقوى والورع، وما خفي علينا ولم ينقل إلينا أعظم بكثير.(243/11)
منزلته بين العلماء
وكذلك فإنه من أئمة الدنيا وطلاب العلم الكبار والعلماء الأفذاذ بقي بن مخلد -رحمه الله- كان من علماء الأندلس، رحل من الأندلس إلى بغداد لملاقاة الإمام أحمد رحمه الله، وحصلت له قصة عجيبة مع الإمام أحمد قال فيما يروى عنه: لما قربت من بغداد اتصل بي خبر المحنة التي دارت على أحمد بن حنبل المحنة التي جرت على الإمام أحمد معروفة، وكان مما حصل على الإمام أحمد سجن وضرب، وحصل عليه إقامة جبرية، وحصل عليه منع من التحديث والتدريس.
بقي بن مخلد رجل من الأندلس جاء إلى بغداد لملاقاة أحمد بن حنبل، فوجده مضروباً عليه الإقامة الجبرية والمنع من التدريس، ولا أحد يستطيع أن يقترب من بيت الإمام أحمد، فماذا فعل؟ قال: فاغتممت لذلك غماً شديداً، فلم أعرج على شيء بعد إنزالي متاعي في بيت اشتريته في بعض الفنادق أن أتيت المسجد الجامع الكبير -أنزل العفش في الفندق وجاء إلى الجامع الكبير- قال: وأنا أريد أن أجلس إلى الحلق وأسمع ما يتذاكرون، فدفعت إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يكشف عن الرجل فيضعف ويقوي فلان ثقة فلان ضعيف، وهكذا فقلت لمن كان بقربي: من هذا؟ قالوا: هذا العالم يحيى بن معين، فرأيت فرجة قد انفرجت قربه -قرب الشيخ- فقمت إليه فقلت له: يا أبا زكريا رحمك الله! رجل غريب نائي الدار، أردت السؤال فلا تستخفني، فقال لي: قل، فسألت عن بعض من لقيته من أهل الحديث، فبعضاً زكى وبعضاً جرح، فسألته في آخر السؤال عن هشام بن عمار فقال: صاحب صلاة، دمشقي ثقة وفوق الثقة إلخ.(243/12)
ابتعاده عن الأمراء والسلاطين ونصحه لهم
ولما استخلف المهدي بعث إلى سفيان فلما دخل عليه خلع خاتمه -الخليفة يخلع خاتمه لـ سفيان - فرمى به إلى سفيان وقال: يا أبا عبد الله! هذا خاتمي فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة.
فأخذ الخاتم بيده وقال: تأذن بالكلام يا أمير المؤمنين! قال السامع للراوي: قال له: يا أمير المؤمنين! قال: نعم.
فقال الخليفة: نعم.
يأذن له بالكلام.
قال: أتكلم على أني آمن؟ قال: نعم.
قال سفيان: لا تبعث إليَّ حتى آتيك، ولا تعطني حتى أسألك.
قال: فغضب الخليفة وهمَّ به، فقال له كاتبه: أليس قد آمنته؟ قال: بلى.
فلما خرج سفيان حس به أصحابه، فقالوا: ما منعك وقد أمرك أن تعمل في الأمة بالكتاب والسنة؟! فاستصغر عقولهم وخرج هارباً إلى البصرة، وكان يقول: ليس أخاف إهانتهم، إنما أخاف كرامتهم فلا أرى سيئتهم سيئة.
أي: إذا أكرموني تغاضيت عن الحق ولا أرى سيئتهم سيئة.
وكان ينكر عليهم الإسراف في الولائم في مواسم الحج، فعن محمد بن يوسف الفريابي: سمعت سفيان يقول: أُدخلت على أبي جعفر بـ منى فقلت له: اتق الله، فإنما أنزلت في هذه المنزلة وصرت في هذا الموضع بسيوف المهاجرين والأنصار وأبنائهم وهم يموتون جوعاً، حج عمر فما أنفق إلا خمسة عشر ديناراً وكان ينزل تحت الشجر.
فقال الخليفة لـ سفيان: أتريد أن أكون مثلك؟ قلت: لا.
ولكن دون ما أنت فيه وفوق ما أنا فيه.
فقال: اخرج.
ولما أُدخل على المهدي بـ منى وسلم عليه بالإمرة، فقال الخليفة: أيها الرجل! طلبناك فأعجزتنا، فالحمد لله الذي جاء بك، فارفع إلينا حاجتك.
قال: وما أرفع؟ حدثني إسماعيل بن أبي خالد قال: حج عمر فقال لخازنه: كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر درهماً، قال عمر: أسرفنا! وإني أرى هنا أموراً لا تطيقها الجبال.(243/13)
تنقله في البلاد هارباً ودفنه لكتبه
أما هرب سفيان وتنقله في البلاد هارباً فترة من عمره ودفنه لكتبه، فكان بسبب أن الخليفة أبا جعفر أراده على القضاء، فأبى أن يتولاه، فأراد أن يلزمه به، وكان يسجن ويضرب حتى يرضخ القاضي للقضاء، فهرب سفيان، ولا زال هارباً متخفياً، وهو مع هربه يطلب الحديث ويطلب العلم ويعبد الله قال أبو أحمد الزبيري: كنت في مسجد الخيف مع سفيان والمنادي ينادي: من جاء بـ سفيان فله عشرة آلاف.
وقيل: إنه من أجل الطلب والملاحقة هرب إلى اليمن، فاتهموه -وهم لا يعرفونه في اليمن - بأنه سرق شيئاً؛ فأتوا به والي اليمن معن بن زائدة، وكان عنده خبر من الخليفة بشأن طلب سفيان، فقيل للأمير: هذا قد سرق منا، فقال: لم سرقت متاعهم؟ قال سفيان: ما سرقت شيئاً.
فقال لهم الأمير: تنحوا حتى نسائله -حتى أحقق معه- ثم أقبل على سفيان فقال: ما اسمك؟ فقال: عبد الله بن عبد الرحمن، وأراد ألا يكذب ولا يذكر اسمه لأنه مطلوب عند الخليفة، فقال الأمير: نشدتك بالله لما انتسبت سأله بالله، فكان لا بد أن يجيب، قال: فقلت: أنا سفيان بن سعيد بن مسروق، قال: الثوري؟ فقلت: الثوري، قال: أنت بغية أمير المؤمنين؟ قلت: أجل! فأطرق ساعة يفكر ثم قال: ما شئت أقم ومتى شئت فارحل، فوالله لو كنت تحت قدمي ما رفعتها.
أي: أحميك وأدافع عنك، وكان معن بن زائدة فيه خير كثير.
وهرب إلى البصرة أيضاً، قال ابن مهدي: قدم سفيان البصرة والسلطان يطلبه، فصار إلى بستان، فأجر نفسه لحفظ الثمار، صار ناقوراً حارساً يحفظ الثمار، فمر به بعض العشارين الذين يأخذون أجزاء الثمار للوالي، فقال: من أنت يا شيخ؟ قال: من أهل الكوفة.
فقال: أرطب البصرة أحلى من رطب الكوفة؟ قال: لم أذق رطب البصرة.
قال: ما أكذبك! البر والفاجر والكلاب يأكلون الرطب الساعة.
فرجع العامل إلى الوالي فأخبره ليعجبه بهذا الخبر العجيب، فقال الوالي: ثكلتك أمك! أدركه فإن كنت صادقاً فإنه سفيان الثوري، فخذه لنتقرب به إلى أمير المؤمنين.
فرجع في طلبه فما قدر عليه.
ولاحقه أبو جعفر ملاحقة شديدة وجدَّ في طلبه، فاختفى الثوري بـ مكة عند بعض المحدثين قال عبد الرزاق: بعث أبو جعفر الخشابين حين خرج إلى مكة وقال: إن رأيتم الثوري فاصلبوه.
فجاء النجارون ونصبوا الخشب ونودي عليه ورأسه في حجر الفضيل مختفٍ بالبيت، ورجلاه في حجر ابن عيينة، فقيل له: يا أبا عبد الله! اتق الله لا تشمت بنا الأعداء كان مختفياً في الحرم ورأسه في حجر الفضيل ورجلاه في حجر ابن عيينة، فتقدم إلى الأستار ثم أخذه وقال: برئت منه إن دخلها أبو جعفر، قال: فمات أبو جعفر قبل أن يدخل مكة، فأخبر سفيان فما قال شيئاً، قال الذهبي رحمه الله: هذه كرامة ثابتة.(243/14)
وفاته رحمه الله وثناء العلماء عليه
واستمر هذا الرجل على العطاء، وكان قد دفن كتبه فلما أمن استخرجها مع صاحب له، فقال صاحبه: في الركاز الخمس يا أبا عبد الله! فقال: انتق منها ما شئت، فانتقيت منها أجزاء فحدثني بها.
استمر -رحمه الله- عابداً لربه مستمراً على العهد الذي بينه وبين الله علماً وتعليماً وعبادة حتى جاءه الأجل ووافاه قدر الله سبحانه وتعالى بالموت في البصرة، في شعبان سنة إحدى وستين ومائة للهجرة، وقد غسله عبد الله بن إسحاق الكناني.
قال يزيد بن إبراهيم: رأيت ليلة مات سفيان قيل لي في المنام: مات أمير المؤمنين -أي: في الحديث.
ولم يتمكن إخوانه وأصحابه من الاجتماع للصلاة عليه، فجعلوا يفدون إلى قبره يوم وفاته، ودفن وقت العشاء، وعن بعض أصحاب سفيان قال: مات سفيان بـ البصرة ودفن ليلاً ولم نشهد الصلاة عليه، وغدونا على قبره ومعنا جرير بن حازم وسلام بن مسكين من أئمة العلم، فتقدم جرير وصلى على قبره ثم بكى وقال:
إذا بكيت على ميت لمكرمة فابك غداة على الثوري سفيان
وسكت، فقال عبد الله بن الصرباح:
أبكي عليه وقد ولى وسؤدده وفضله ناظر كالغسل ريان
وقال سعيد: رأيت سفيان في المنام يطير من نخلة إلى نخلة وهو يقول: الحمد لله الذي صدقنا وعده.
وهذا مما روي له من المنامات الصالحة بعد وفاته.
وقال إبراهيم بن أعين: رأيت سفيان بن سعيد بعد موته في المنام، فقلت: ما صنعت؟ فقال: أنا مع السفرة الكرام البررة.
قال أحمد بن حنبل رحمه الله: قال لي ابن عيينة: لن ترى بعينك مثل سفيان الثوري حتى تموت.
وقال الأوزاعي: لو قيل لي اختر لهذه الأمة رجلاً يقوم فيها بكتاب الله وسنة نبيه لاخترت لهم سفيان الثوري.
وقال ابن المبارك: كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من سفيان.
وقال ابن أبي ذئب: ما رأيت أشبه بالتابعين من سفيان الثوري.
وقال ابن المبارك: ما نُعت إلي أحد فرأيته إلا كان دون نعته -دون الوصف- إلا سفيان الثوري، رحمه الله رحمة واسعة.(243/15)
حاجتنا إلى معرفة سير السلف واقتفاء آثارهم
هذا من الرجالات الذين أنجبتهم هذه الأمة وصاغهم هذا الدين، فكم نحن بحاجة أن نلتزم خطاهم وأن نسير على نهجهم وأن نتمثل سيرهم! كم نحن بحاجة إلى استعادة سير أسلافنا الماضين؛ لنكون في العز كما كانوا أو نحاول، ونحن نعلم أننا لن نكون مثلما كانوا، لكن على الأقل لا يصلح -أيها المسلمون- أن تبقى سير العلماء مدفونة، وأن يبقى أولئك الأجلاء الأعلام غير معروفين عند متأخري هذه الأمة، هذه جريمة لا تغتفر، فإن هؤلاء الصالحين قدوة يجب الكلام في سيرهم ونشر نهجهم وحياتهم؛ حتى تعرف هذه الأمة الامتداد الحقيقي لها، وتعرف هذه الأمة أن لها سابقين، وتعرف هذه الأمة أنها متى قامت بالحق وعدلت بوأها الله المكانة التي ينبغي أن تكون عليها.
اللهم ارحم سفيان واجزه الجزاء الأوفى، اللهم إنا نسألك أن ترحمنا أجمعين، وأن تغفر لنا ذنوبنا يا أرحم الراحمين.
اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وفرج همومنا، ونفس عنا كروبنا اللهم إنا نسألك أن تجعلنا في هذه الليلة من عتقائك من النار، وفي هذا اليوم العظيم من الفائزين بالجنة يا رب العالمين.
الله إنا نسألك يوماً قريباً تعز فيه دينك، وتقر أعيننا فيه بنشر الإسلام والسنة يا رب العالمين.
اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين، اللهم إنا نسألك أن ترفع الذل عن المسلمين يا رب العالمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(243/16)
شكاوى وحلول [2،1]
هذا الدرس عبارة عن حل لكثير من المشكلات التي تواجه كثيراً من المسلمين، ومن أبرز القضايا التي تحدث الشيخ عنها مشاكل الحياة الزوجية الوسواس في الصلاة الوساوس في ذات الله العادة السيئة وعلاجها ومسائل أخرى فقهية، كما ذكر الشيخ كتباً مهمة في شتى الفنون لمن أراد الاستفادة.(244/1)
مقدمة عن سؤال أهل العلم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: ففي هذه الليلة نلتقي وإياكم -أيها الإخوة- على مائدة من موائد العلم، وسيكون الكلام في هذه الليلة عن بعض الشكاوى وحلولها، والإنسان في الأصل يشكو إلى ربه سبحانه وتعالى، والمؤمنون من أخلاقهم أنهم يشكون ضعفهم إلى الله ويطلبون منه العون والسداد والقوة، والجاهل يشكو للعالم ولطالب العلم الحيرة التي هو فيها حتى يجليها له، وجاءت خولة بنت ثعلبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو إليه زوجها، وجاء الغلام إلى الراهب يقول له: عن ضرب الساحر له وعن ضرب أهله له، فقال له الحل المناسب في ذلك المقام وتلك الظروف بين أولئك الكفرة: إذا ضربك أهلك فقل: حبسني الساحر، وإذا ضربك الساحر أو سألك الساحر فقل: حبسني أهلي.
ووردت إلينا في المحاضرات السابقة كثير من الأسئلة أجلناها لحين تيسر مناسبة للإجابة عليها، وبعض هذه الأسئلة هي عبارة عن شكاوى من بعض الإخوان المهتمين والأخوات المهتمات في أمر الدين.
وسوف تكون طريقتنا في عرض هذا الدرس أن نتكلم عن مشكلة أو عن شكوى وعن حلها، ثم نورد فتاوي عن أسئلة وردت من بعض الإخوة أيضاً من التي عرضناها على أهل العلم فأتيناكم بإجاباتها، ثم نعرض شكوى أخرى مع حلها وهكذا، ولعلكم -إن شاء الله- تجدون الفائدة والمتعة العلمية في هذه الليلة، ونشكو إلى الله ضعفنا في الإيمان والعلم ونسأله سبحانه وتعالى التسديد.(244/2)
الشرود في الصلاة
يقول هذا الأخ: إنني أشكو من مشكلة عدم الخشوع في الصلاة، أكبر ثم أغيب عن الواقع، فأذهب في متاهات كثيرة في مشاكل عائلية، وفي أمور مادية، وفي الدراسة والامتحانات، وفي علاقاتي مع الكثيرين، وفي الهموم والغموم، ولا أرجع إلى وعيي إلا عندما يسلم الإمام من الصلاة.
فما هو الحل لهذه المشكلة؟
الجواب
نقول: إن ربنا عز وجل لم يتركنا هملاً ولم يتركنا نهباً للشياطين ولله الحمد، وله سبحانه وتعالى المنة وهو المتفضل على عباده، وإنما بين لنا عز وجل في القرآن وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كثيراً من العلاجات والحلول لهذه المشكلة، وهاك أيها الأخ المسلم ثلاثة وثلاثين سبباً للخشوع في الصلاة: الأول: أن يحسن الوضوء.
وسنسردها بسرعة واختصار مع بعض التنبيهات.
هناك -أيها الإخوان- في موضوع الوضوء كثير من الأخطاء التي تحدث بين الناس، والواجب على طلبة العلم والذين يعلمون أحكام الوضوء أن ينبهوا الناس، وقد كان من سلفكم رحمهم الله من يطوف على المطاهر في المساجد فيرقبون أحوال الناس في الوضوء ويعلمونهم، وأنت ترى في عامة الناس اليوم تقصيراً كبيراً في مسألة الوضوء، فمنهم مثلاً: إذا أراد أن يتمضمض فإنه لا يدير الماء في فيه، وبهذا تكون مضمضته باطلة، فإن أخذ الماء وإخراجه من غير إدارته في الفم لا تسمى مضمضة، وكذلك في الاستنثار تجد كثيراً منهم يأخذ الماء فيضعه على طرف أنفه وبعد ذلك يخرجه ولا يدخل إلى الداخل وهذا ليس باستنثار، وكذلك فإنهم إذا أرادوا أن يغسلوا وجوههم فإنه يأخذ الكفين مملوءة بالماء فيضرب بها وجهه من جهة المنتصف، فلا يصل الماء إلى منابت الشعر حدود الرأس ولا إلى جنبتي الرأس عند الأذنين، إن هذه المنطقة أيها الإخوة! حدود الرأس من الجانب الأيمن والأيسر من الأذن اليمنى إلى الأذن اليسرى والذقن في الأسفل، والذين يتوضئون مع الأسف الكثير منهم لا يعمم وجهه عند الوضوء، وكذلك فإنهم عند مسح الرأس محافظة على تمشيط شعورهم وخصوصاً الذين يلبسون الطاقيات ويضعون غطاء على الرأس فإنهم لا يصلون بالماء أو باليد المبللة بالماء إلى آخر الرأس حدود الرقبة عند الرقبة ثم يعودون، وبذلك يكون مسحهم على رءوسهم ناقصا.
وبعض السائلات تقول: إنني ذات شعر طويل.
فكيف أمسح رأسي في الوضوء؟ فنقول: إن أهل العلم قد بينوا أن المرأة ذات الشعر الطويل إذا أرادت أن تمسح رأسها في الوضوء فإنها تبدأ من الإمام حتى تصل إلى الخلف عند الرقبة على الشعر بما يحاذي الرقبة ثم ترجع إلى الإمام بعد ذلك، ولا يجب عليها أن تمسح الشعر إلى آخره وهو يصل إلى منتصف الظهر، وكذلك إن كثيراً من الذين يتوضئون لا يمسحون آذانهم جيداً فلا يدخلون أصابعهم في تجاويف الأذن من الداخل والخارج فيكون مسحهم لآذانهم ناقصاً، ويكون مسحهم لرءوسهم ناقصاً لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (الأذنان من الرأس).
ناهيك عما يقع في وضوء كثير منهم من عدم إيصال الماء إلى الأعقاب وهي النقطة القصوى أو المكان الأقصى في القدم من الأسفل من جهة الكعبين، أسفل الكعبين هذا المكان كثير من المتوضئين الذين يجعلون أقدامهم تحت صنابير المياه المفتوحة لا يتأكدون من وصول الماء إلى ذلك المكان فيكون وضوءهم باطلاً وبالتالي صلاتهم غير صحيحة.
كما أن كثيراً منهم يخالف سنة تخليل أصابع اليدين والرجلين، وقد أمر عليه الصلاة والسلام بهذا، فلا بد أن يخلل المسلم أصابع يديه من الداخل وأصابع رجليه بالخنصر كما ورد في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم، تخليل أصابع اليدين والرجلين.
فإذاً أولاً: إحسان الوضوء.
ثانياً: التزيين للصلاة.
خذ بعض الإخوان الذين يأتون إلى المساجد في ثياب النوم مثلاً، ورائحة النوم أو العرق تفوح منهم، والذي يأتي وقد أكل ثوماً أو بصلاً ناهيك عمن يدخل المسجد وهو قد دخن فيكون متشبعاً بتلك الروائح الخبيثة، وإذا كان الإنسان يتزين في المناسبات والأعراس فالله أحق أن يتزين له.
ثالثاً: أداؤها في المسجد للرجال وأداؤها في قعر البيت بالنسبة للمرأة.
رابعاً: السكينة عند الإتيان إلى الصلاة.
خامساً: عدم التشبيك بين الأصابع.
سادساً: أذكار الخروج من المسجد ودخول المسجد.
سابعاً: تسوية الصف.
ثامناً: السترة للإمام والمنفرد فإنها تمنع الشيطان من المرور والوسوسة.
تاسعاً: أن يمنع المار بين يديه.
عاشراً: استشعاره بوقوفه بين يدي ربه عز وجل، وهذه يمكن أن تكون أهم نقطة في موضوع الخشوع، أن يستشعر أنه واقف الآن بين يدي الله عز وجل.
الحادي عشر: التفكر في معنى ما يقرأ أو يسمع وتزيين الصوت بالقرآن.
الثاني عشر: إذا مر بآية رحمة سأل أو آية عذاب استعاذ، أو مر بآية سجدة سجد خصوصاً للذين يصلون في قيام الليل.
الثالث عشر: إتمام الأركان والواجبات والسنن، والطمأنينة في الصلاة.
الرابع عشر: تذكر الموت في الصلاة للحديث الصحيح الوارد في ذلك.
الخامس عشر: النظر إلى موضع السجود، والنظر إلى السبابة عند الجلوس.
السادس عشر: وضع اليمين على الشمال على الصدر، ولما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن هذا؟ قال: هو ذل بين يدي الله العزيز، فلا تحسبن المسألة شكلية وإنما لها معنىً في القلب.
السابع عشر: عدم الالتفات في الصلاة، لا التفات القلب ولا التفات البصر.
الثامن عشر: حفظ الأدعية والأذكار المختلفة والتنويع فيما من السنة تنويعه في الصلاة كأدعية الاستفتاح والتشهدات الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
التاسع عشر: التأمين مع الإمام.
العشرون: التفكر في معنى الأذكار التي يقرؤها المسلم.
الحادي والعشرون: تحريك الإصبع في التشهد، فإنه قد ورد في الحديث الصحيح: (أنها أشد على الشيطان من الحديد).
الثاني والعشرون: الخوف ألا تقبل الصلاة، وأن يتفكر في حديث: أن الناس يخرجون من الصلاة، فمنهم من يخرج بعشرها، ومنهم من يخرج بتسعها، ومنهم من يخرج بنصفها، ومنهم من يخرج بكلها، حسب خشوع وإتمام أركان وواجبات وسنن الصلاة.
وأن يتأمل ويتفكر أنها لو لم تقبل كيف ترد ويضرب بها وجهه.
الثالث والعشرون: الاستعاذة بالله من الشيطان عند وسوسته في الصلاة، والتفل عن اليسار ثلاثاً إذا كان مكانه مناسباً.
الرابع والعشرون: تجنب الصلاة في أماكن الصور والزخارف والضوضاء ومرور الناس وفي الحر الشديد والبرد الشديد ما أمكنه ذلك.
الخامس والعشرون: ألا يصلي وهو حاقن ولا حاقب، يعني: لا حابس البول ولا حابس الغائط.
السادس والعشرون: ألا يصلي وهو بحضرة طعام يشتهيه: (فإذا حضر العَشاء والعِشاء فقدموا العَشاء).
السابع والعشرون: ألا يصلي خلف النائم والمتحدث كما ورد في الحديث الصحيح، وألا يستقبل وجه الرجل في الصلاة، ونشاهد بعض المصلين إذا أراد أن يتسنن وهو وراء الإمام وقد التفت الإمام إلى المصلين تجده يقوم ويصلي وراء الإمام مباشرة وجهه لوجه الإمام وهذا غير صحيح.
الثامن والعشرون: كظم التثاؤب ورده ما استطاع فإن الشيطان يدخل مع التثاؤب، ويضحك من العبد وهو يتثاءب.
التاسع والعشرون: عدم رفع البصر إلى السماء والوعيد الشديد في الحديث الصحيح.
الثلاثون: ألا يبصق جهة القبلة ولا عن يمينه إذا اضطر إلى البصاق، أحياناً يضطر الإنسان في الصلاة، وإنما يبصق عن جهة اليسار في منديل أو طرف الثوب ونحو ذلك.
الحادي والثلاثون: ألا يغطي فاه في الصلاة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن التلثم.
الثاني والثلاثون: أنه إذا فاته الخشوع في أجزاء كبيرة في الصلاة فلا يقل انتهى الأمر ويستمر في اللهو، فلو لم يتذكر الإنسان أنه في الصلاة إلا وهو يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال فليحضر قلبه عندها وليخرج بهذا أفضل ألا يخرج بشيء، وليتدارك الأمر ولو كان في آخر لحظات الصلاة.
الثالث والثلاثون: الأذكار بعد الصلاة فإنها مما تثبت خشوع الصلاة في القلب وأثر الصلاة فيه.
والله أعلم.(244/3)
حكم الجمعية التي تكون بين عدة أشخاص
وأما بالنسبة لبعض الأسئلة، فهاهنا سؤال يقول: تفادياً للوقوع في الربا وحلاً لبعض الإشكالات التي تواجه كثيراً من الناس، فإننا نقوم بعمل مجموعة يدفع كل فرد في هذه المجموعة مبلغاً معيناً متساوياً مثلاً، فإذا جاء الشهر الأول أخذ المبلغ كله فلان، كل واحد يدفع ألفاً وهم عشرة أشخاص، الشهر الأول يأخذ فلان عشرة آلاف وفي الشهر الثاني يأخذ الذي بعده العشرة الآلاف والثالث وهكذا، حتى يتم العشرة.
فما حكم ذلك من جهة الشرع؟ وقد سألني بعض الإخوان قائلين: لقد سمعنا ممن نقل عن الشيخ/ عبد العزيز بن باز أن هذا لا يجوز؟
الجواب
وكنت قد سألته حفظه الله عن هذه المسألة فقال: قد كنا فترة من الزمان نرى بعدم الجواز، ولما تمعنا في المسألة أكثر ودرسناها وجدنا أنه لا بأس بها إن شاء الله.
وللتيقن أكثر فقد سألته في مساء هذا اليوم، والفتوى هذه التي أنقلها عن الشيخ قريبة جداً يعني في الساعة السابعة إلا ربعاً بالضبط من مساء هذا اليوم، يعني قبل حوالي أقل من ساعة، فقال الشيخ: حصل فيها شبهة وقلنا لهم: تركها أحوط، ثم درسها مجلس هيئة كبار العلماء ورأى المجلس أنه لا حرج إن شاء الله بالأكثرية لأنه لا أحد يأخذ زيادة، كلهم متساوون فيها، اتفقوا على أن يقرض بعضهم بعضاً إلى آجال معلومة كل يسدد في أجل معلوم كالأقساط.
ثم سألته: وأنت ماذا ترى فيها حفظك الله شخصيا؟ فقال: أنا مع الإخوان -إن شاء الله- مع الأكثرين وأرى بالجواز.
فإذاً هذا رأي الشيخ وفتواه حفظه الله في هذه المسألة، وأرجو أن تكون القضية قد اتضحت للإخوان الذين يسألون كثيراً عن هذا الموضوع.
والحقيقة أيها الإخوة: أننا ينبغي علينا بصفتنا مسلمين أن نبحث عن كل طريقة تخلصنا من الوقوع في الربا، وكل حل يجعل القرض متيسراً للمحتاج، ومن هذا أيضاً إشاعة أجر القرض في الإسلام، فإن من أقرض قرضاً مرتين فهو كصدقة مرة، مع أن المال يرجع إليه، لو أقرضت واحداً عشرة آلاف ثم أخذتها منه ثم أقرضتها لآخر أو لنفس الشخص مرة أخرى ثم أرجعها إليك فإنك تكون كأنك تصدقت بها ولك أجر الصدقة بها.(244/4)
حكم إعادة الاستخارة أكثر من مرة
وهذا
السؤال
هل أعيد الاستخارة أكثر من مرة؟ بعض الإخوة يقول: أنا ما تبين لي شيء في المرة الأولى فهل يجوز ويشرع أن أعيدها أكثر من مرة؟
الجواب
سألت الشيخ حفظه الله فقال: نعم.
يشرع له أن يعيد الاستخارة أكثر من مرة حتى ينشرح صدره.(244/5)
كيفية توبة من أخذ مالاً من جهة حكومية بغير حق
وهذا سؤال أيضاً يقول: رجل سبق أن أخذ مالاً من جهة حكومية بغير حق، والآن يريد التوبة ولكنه يخشى من المساءلة وألا يتفهم المسئول موقفه.
فماذا يفعل؟
الجواب
فأجابني الشيخ حفظه الله على هذا
السؤال
يتصدق بها على الفقراء والجمعيات الخيرية مع التوبة.
ثم سألته: هل يعطيها لجمعية البر التي تشرف عليها الحكومة باعتبار أنه أخذ المال من الحكومة، هل يرجعها إلى جمعية البر باسم فاعل خير؟ فقال: نعم يجوز ذلك.
وبعض الناس لا يخشون الله فيقول: هم أغنياء، ولا يضر الحكومة إذا أخذت منها، ويسرق، وهذا لا يجوز وهو حرام، ولا يحل له أن يفعل ذلك مطلقاً وهي سرقة على أية حال.(244/6)
عُمْر الطفل الذي يزيل الخلوة بين المرأة والسائق
وهذه امرأة تسأل وتقول: أريد أن أذهب بالسيارة مع سائق أجنبي داخل البلد.
فما هو عمر الطفل الذي لو اصطحبته معي زالت الخلوة؟
الجواب
فأجاب الشيخ/ عبد العزيز حفظه الله: لا بد أن يكون معها من تزول معه الخلوة في سن عشرة ونحوها، يعني: يفهم ويستحيا منه هذا الذي تزول به الخلوة، هذا ليس في السفر هذا داخل البلد تزول الخلوة إذا كان مع المرأة في السيارة من يستحيا منه، أي: تأخذ معها ولداً واعياً عاقلاً يفهم ويدرك بحيث أن أحدهما لو أراد أن يفعل شيئاً لاستحى من وجود هذا الثالث، والآن -أيها الإخوة- نحن نرى من المنكرات التي تفشت والعياذ بالله ركوب النساء في سيارات الأجرة المرأة بمفردها، بل وصلت الوقاحة ببعضهن أن تركب بجانب السائق وتقول: أنا ما عندي أحد يوصلني للمدرسة.
عمرك لا ذهبتِ إلى المدرسة، المدرسة أهم أم تطبيق حدود الله؟! المدرسة أهم أم مراعاة الأحكام الشرعية؟! لو لم تذهبي إلى المدرسة ماذا سيحصل؟ لكن لو عصيت الله ماذا سيحصل؟(244/7)
كثرة الوساوس المتعلقة بذات الله
ثم ننتقل إلى مشكلة أخرى، يقول هذا السائل: إنني أشكو من كثرة الوساوس المتعلقة بذات الله عز وجل، ويطوف بخاطري أشياء لا يمكن أن أذكرها لأنها لا تليق بالله سبحانه وتعالى ولكنها تتردد على خاطري كثيراً، وتأتيني في الصلاة وفي غير الصلاة، ولا أدري ماذا أفعل، حتى شككت في إيماني، وشككت هل أنا مسلم أم لا.
فما هو الحل؟
الجواب
نقول: إن من رحمة الله أن هيأ لنا رسوله صلى الله عليه وسلم ليعلمنا الحلول في هذه المشاكل والمواقف، وإليك -أيها الأخ المسلم- هذه الأحاديث الصحيحة التي تعالج المشاكل منها مشكلة الوساوس المتعلقة بالله عز وجل.
يقول عليه الصلاة والسلام -وهذه روايات مجتمعة ألفاظها بعضها إلى بعض سقتها إليكم-: (إن أحدكم يأتيه الشيطان فيقول: من خلقك؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق السماء؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله، فيقول: فمن خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل: آمنت بالله ورسوله، فإن ذلك يذهب عنه) وقال أيضاً: (من وجد من هذا الوسواس فليقل: آمنا بالله ورسوله، فإن ذلك يذهب عنه).
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته) وقال صلى الله عليه وسلم: (يوشك الناس يتساءلون حتى يقول قائلهم: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ فإذا قالوا ذلك فقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً وليستعذ من الشيطان) وقال صلى الله عليه وسلم: (تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله) وقال: (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله) فيجتمع من هذه الأحاديث السابق ذكرها ست وسائل للتغلب على وسوسة الشيطان في هذه المسألة، القضايا الفكرية أو تجوال الفكر فيما يتعلق بالله عز وجل: الوسيلة الأولى: إذا جاءك الشيطان وقال لك هذا الوسواس أو غيره فقل: آمنت بالله ورسوله، أولاً تقول: آمنت بالله ورسوله.
ثانياً: تتعوذ بالله من الشيطان، تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه.
ثالثاً: أن تتفل عن يسارك ثلاث مرات، هذا مشابه لما سبق أن ذكرناه عندما يوسوس خِنزب أو خُنزب أو خَنزب الشيطان المسئول عن الوسوسة في الصلاة.
رابعاً: أن ينتهي، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولينته) وهذه مسألة مهمة، فإن كثيراً من الذين تأتيهم هذه الوساوس لا ينتهون، بل إنهم يستطردون في الأفكار الواحدة وراء الأخرى، لا ينتهي لا يشغل ذهنه بالمفيد ويطرد هذه الأفكار، بل إنه يواصل فيها، وهذه مشكلة.
خامساً: أنه يقرأ سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فإن فيه ذكر صفات الرحمن عز وجل، فيها ذكر صفة الرحمن، ولذلك صارت تعدل ثلث القرآن، القرآن فيه قصص وأخبار وأحكام وتوحيد عقيدة وهذه صفة الرحمن مذكورة في هذه السورة فقراءتها وتدبرها والتمعن فيها كفيل بأن ينهي الوساوس من عقل هذا الشخص الذي يوسوس في هذه المسائل.
سادساً وأخيراً: أن يتفكر هذا الشخص في خلق الله أو في نعم الله ولا يفكر في ذات الله، لأنه لا يمكن أن نصل بعقولنا القاصرة أبداً إلى ذات الله، وليس عندنا إلا ما أخبرنا الله ورسوله في هذه المسألة.
هذه ست وسائل مذكورة في هذه الأحاديث تنهي مسألة الوسوسة في ذات الله.
نأتي الآن إلى بعض المسائل الأخرى، أو المسائل الفقهية.(244/8)
مسألة في سلس البول
يقول السائل: رجل به سلس سواء سلس بول أو سلس ريح فاتته صلوات مثلاً نتيجة عملية، وضع تحت المخدر في العملية ثم استفاق.
فكيف يفعل بالطهارة بالنسبة لقضاء ما فاته من الصلوات؟ هل يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد؟ أم لا بد لوضوءٍ لكل صلاة فائتة يقضيها من وضوء مستقل؟ فكروا في هذا السؤال.
شخص عنده سلس بول أو سلس ريح فاتته صلوات بسبب، خمس صلوات عشر صلوات، ثم أراد الآن أن يقضيها فماذا يفعل بالنسبة للوضوء؟ طبعاً نحن نعلم بأن الذي فيه سلس بول أو سلس ريح أو المرأة المستحاضة التي ينزل عليها الدم باستمرار غير دم الحيض والنفاس طبعاً دم نزيف هؤلاء ماذا يفعلون؟ كيف يتطهرون للصلاة؟ يتوضأ لكل صلاة بعد الأذان بعد دخول وقتها، الذي عنده سلس يتوضأ لكل صلاة بعد دخول وقتها ثم يصليها، ولا يصلي أكثر من صلاة بوضوء واحد، هذا في الأحوال العادية، لكن الآن عندنا مسألة ثانية مختلفة: شخص فاتته عدة صلوات، الآن يريد أن يقضيها، توضأ وصلى الظهر والآن يريد أن يقضي الصلوات الفائتة عنده عشر صلوات، ماذا يفعل؟ هو أصلاً السلس حادث معه مستمر.
يقول الشيخ/ عبد العزيز حفظه الله: يجوز له أن يقضي من الصلوات ما بين الوقتين بنفس الوضوء الأول، يعني: الآن توضأ وصلى الظهر عنده عشر صلوات، رجل يستطيع أن يصلي منها الآن خمس طاقته الجسدية يستطيع أن يصلي خمساً يصلي هذه الخمس صلوات ما دام بين الظهر والعصر يصليها بنفس وضوء صلاة الظهر، وكذلك سننها لو أراد أن يقضي السنن، ويصلي من النوافل -الذي معه السلس- ما شاء بين الوقتين، فالذي عنده سلس له أن يصلي صلوات فائتة ونوافل وسنن رواتب وما شاء إذا كان ما زال بين الوقتين، لكن لو جاء عليه وقت العصر وبقي عليه صلوات فائتة فإنه يتوضأ لصلاة العصر ويصلي بقية الفوائت ثم يصلي العصر.(244/9)
رجل دَخْلُ أبيه من الربا
يقول
السؤال
رجل دَخْلُ أبيه من البنك، يعني: حرام -يعني: أبوه من كتاب الربا ملعون على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس لأبيه دخل آخر- ماذا يفعل هذا الولد إذا أراد أن يتزوج؟ هل يجوز له أن يأخذ من مال أبيه للزواج؟ هل يجوز أن يشتري سيارة من مال أبيه؟ هل يجوز له أن يدعو أصدقاءه إلى وليمة من مال أبيه؟
الجواب
فكان جواب الشيخ/ عبد العزيز حفظه الله: إذا كان ليس لأبيه دخل آخر فإن كل ما ذكر لا يجوز، لو كان لأبيه دخل آخر نقول: اختلط الحلال والحرام ولم يميز فربما الذي أخذه من الحلال، المسألة أهون، لكن يقول الشيخ: لو كان ليس لأبيه دخل آخر إلا الحرام، وقس على ذلك: شخص أبوه -مثلاً- صاحب دكان فيديو يبيع أفلاماً حرمة، يبيع أدوات موسيقية، يبيع أشرطة غناء، عمله كله حرام، ودخله كله حرام، فيقول الشيخ: إذا كان ليس له مصدر آخر والولد يعلم بذلك -يقول الشيخ: لو كان الولد لا يعلم لكان سهلاً، لكن إذا كان الولد يعلم بذلك فإنه لا يجوز له أن يأخذ من مال أبيه، وقال: إن كان يعلم هذا يبتعد عن هذا الشيء ويطلب الرزق من عند الله ويحاول أن يأخذ من جهة أخرى ولا يأخذ من مال أبيه- طبعاً في ماذا؟ في هذه الأشياء المتوسعة- لكن أبوه عليه النفقة على الولد، فإن استطاع الولد أن يخرج من البيت ويستقل بنفسه فهذا طيب، أما من له الأخذ من الوالد النفقة الواجبة على الوالد فإنه يأخذ منها، لكن لو استطاع أن يستقل بنفسه حتى في الأشياء الواجبة حتى في الأكل والشرب واللبس والسكن لو استطاع الولد فإنه يخرج عن أبيه، قارن بين هذا الموقف وبين ما يحدث اليوم من الكثيرين في قضية ماذا؟ التساهل في كسب المحرمات، ويأخذون الأموال ولا يبالون من حلال من حرام، سلفنا رحمهم الله كانوا يخرجون الشبه من بطونهم ويتقيأ أحدهم ليخرج أمراً فيه شبهة، والواحد من هؤلاء الناس في هذا الزمان يدخل إلى بطنه الحرام عمداً وهو يعلم أنه حرام فانظروا الفرق، سلفنا يخرجون الشبه من بطونهم بعدما دخلت بالقيء وهذا يدخلها في بطنه وهو يعلم أنها حرام ولا يخرجها.(244/10)
حكم صبغ الحاجب بلون غير اللون الأسود
السؤال
وهذه تسأل وتقول: ما حكم صبغ الحاجب الكثيف بلون يشابه لون البشرة بحيث لا يبدو الجزء الأعلى منه فيظهر الحاجب رقيقاً.
فما هو الحكم؟
الجواب
هذه عملية تسمى عند بعض النساء بالتشقير تصبغ جزءاً من الحاجب بلون يشابه لون البشرة، فيقول الشيخ/ عبد العزيز حفظه الله جواباً على هذا السؤال: إذا كان لون الصبغ ليس بأسود فلا بأس ويجوز، فالأصل أنه يجوز ما دام أنه ليس بأسود، ولذلك فالعجب من كثير من الرجال كبار السن الذين نبت لديهم الشيب أنهم يصبغونه بالسواد وهو محرم في دين الله، غير الخداع والتمويه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة) ولذلك لا يصح أن يغير الإنسان هذا الشيب بالسواد لكن يمكن أن يغيره بلون آخر، فلو غيره بأي لون آخر جاز لا إشكال كما كان عليه الصلاة والسلام يغير شيبه بالحناء مثلاً.(244/11)
تقديم الرجل في الكلام على المرأة الأكبر منه سناً
السؤال
هل تدخل المرأة إذا تكلمت مع رجل في حديث: (كبر كبر)؟ يعني: إذا كانت أكبر منه سناً فهل يجب أن يسكت هو لتتكلم هي أولاً؟
الجواب
يقول الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين لما سألته: لا، أبداً حتى ولو بالمناقشة: (أخروهن حيث أخرهن الله) فإذاً لا تدخل المرأة في نقاشها مع الرجل في هذا الحديث، وإنما يقدم الرجل عند النقاش، فمثلاً: القاضي لو جاء يسمع من رجل وزوجته، والمسألة تساويا فيها، وليس أحدهما هو صاحب الشكوى ويريد أن يسمع منه أولاً، بل تساوت المسألة، ولو كانت أكبر منه سناً يقدم الرجل في الكلام.(244/12)
حكم تسبب الطبيب في وفاة المريض نتيجة الإهمال
السؤال
وهذا سؤال جاءنا من طبيب يقول: إذا تسبب الطبيب في وفاة المريض نتيجة إهمال الطبيب ولكن لم يثبت قانونياً -مثلاً لدى اللجنة المشكلة لهذه القضية- ليست هناك أدلة مادية تدين الطبيب.
فما هو موقف الطبيب؟
الجواب
يقول الشيخ/ ابن عثيمين لما سألته عن هذا: يقول له: إذا عرفت أنك تسببت في قتل خطأ يجب عليك الكفارة حتى لو لم تثبت إدانتك قانونياً، فيجب عليه الكفارة، ولذلك الطبيب المسلم من أوجه اختلافه عن الطبيب الكافر والفاسق والفاجر أنه لا يهمل في العلاج، فبعض الأطباء لا يخافون الله، وفي الحالات الخطرة تجد إهمالاً وتسيباً من بعضهم، وقد يموت المريض نتيجة إهمال الطبيب فيكون الطبيب عليه كفارة قتل الخطأ، وبعضهم قد يصرف دواء لا يتقي الله فلا يتدبر ولا يفكر ولا يتأكد فيصرف هكذا وقد يكون هذا الدواء أو هذه الإبرة سبباً في موت المريض وعند ذلك يجب عليه التوبة إلى الله توبة عظيمة لأنه تسبب في قتل وعليه كفارة القتل.(244/13)
حرمة تأجير الدكان لحلاّق أو بائع دخان
السؤال
وهذا سؤال وجهته للشيخ/ عبد العزيز بن باز حفظه الله: ما الفرق بين تأجير الدكان لحلاق يحلق اللحى وبين تأجير الدكان لبقال يبيع مع السلع الدخان؟ بعض الإخوان سألني قال: عندنا دكاكين نؤجرها فيستأجرها حلاق أو بقال صاحب سوبر ماركت ويبيع فيه دخاناً مثلاً؟
الجواب
فيقول الشيخ/ عبد العزيز حفظه الله: كلها لا تجوز هذا وهذا، يشترط عليهم ألا يحلقوا اللحى ولا يبيعوا الدخان، ما هو الدليل؟: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فتأمل في حال الناس الذين يؤجرون الدكاكين الآن والعقارات كم يتعاونون على الإثم والعدوان وهو يأجر دكانه لحلاق يحلق اللحى أو لصاحب بقالة يبيع الدخان، أو لمحل يبيع أشرطة فيديو، أو لواحد يبيع استريو أغاني، أو لخياط نسائي فيه اختلاط يعلم أنه غير مطبقٍ للشروط.
وأن دكانه صار بؤرة فساد، وقد يقول قائل: أنا لا دخل لي في ذلك؛ أنا وقعت معه عقد الإيجار انتهيت، كيف؟ هذه مسئوليتك هذا دكانك، أنت باستطاعتك أن تخرجه منه، وأن تمنع وقوع الفساد، فلماذا لا تفعل؟(244/14)
مشكلة الفوضى وضياع الأوقات عند الشباب
ثم ننتقل إلى مشكلة أخرى من المشاكل أو الشكاوى مع حلها، يقول: إنني شاب طالب أشكو من الفوضى وضياع الوقت، لا أعرف ماذا أفعل، قد أبدأ بعمل ثم لا أنتهي منه وأنا مقصر في الدراسة وأيضاً في طلب العلم وأيضاً في الدعوة إلى الله، لا أعلم ماذا أُقدم وماذا أؤخر، وأخشى من ضياع عمري بلا فائدة، أحس كأني أسير لغير هدف، فكيف أفعل في تنظيم وقتي؟
الجواب
نقول: سبق أن أجبنا عن هذه المشكلة، أو سبق أن كانت المحاضرة الماضية: كيف ينظم المسلم وقته عن هذا، ولكن بعض الإخوان يقول: نحتاج لتركيز في الموضوع، بين لنا المسألة بخطوات، فإجابة لهذا الطلب، وتبييناً لحل هذه الشكوى، فإننا نقول: هاك واحداً وعشرين نقطة في مسألة تنظيم الوقت: الأولى: أن يشعر الإنسان المسلم بالغيرة على وقته، وأنه إذا ذهب فإنه لن يعود.
ثانياً: أن يستشعر الهدف الذي خُلق من أجله، وأن عبادة الله شاقة، وأن الواجبات أكثر من الأوقات.
ثالثاً: أن ينظر في حاله وإمكاناته وأن يدرس وضعه جيداً، وبناءً على ذلك يخطط لتنظيم وقته.
رابعاً: ليعلم بأن الترتيب مهم جداً، وأنه يوفر أوقاتاً كثيرة وخصوصاً عند البحث عن الأشياء الضائعة.
خامساً: التخطيط وكتابة مذكرات بما ينوي أن يفعله الإنسان كل يوم مثلاً.
سادساً: عمل جداول زمنية سواء للأيام أو للأعمال التي يريد أن يقوم بها بحيث تتلاءم مع واقعه ومع قدراته دون تسريح في الخيال أو الأحلام أو وضع أشياء لا يستطيع أن يطبقها.
سابعاً: تحديد مواعيد الأشياء الثابتة كالأكل والنوم والمذاكرة والزيارة.
ثامناً: توزيع المهمات التي يستطيع أن يساعده فيها الآخرون.
تاسعاً: أن يبذل كل ما يستطيع من مال من أجل توفير وقته.
عاشراً: قتل مضيعات الوقت كالنوم الكثير والأكل الكثير والكلام الكثير والخلطة الكثيرة والمكالمات الهاتفية ووسائل اللهو بأنواعها.
الحادي عشر: أن يعود الآخرين على احترام وقته.
الثاني عشر: أن يتعلم كيف يستغل وقته بالسماع والقراءة في أوقات الانتظار مثلاً، أو في الأوقات الضائعة في السفر ونحوه.
الثالث عشر: أن يستغل وقته بأكثر من شيء إن استطاع.
الرابع عشر: أن يحارب التسويف، وأن يعلم بأنها عادة قبيحة وأن يقدم على تنفيذ المهمات ولو كانت صعبة وشاقة لكي يستريح، وأن يجزئها إلى أجزاء صغيرة ما أمكنه ذلك ليسهل قضاؤها.
الخامس عشر: أن يستعين بالالتزام مع الآخرين ليتشجع ويستمر، قضية الالتزام الجماعي وقد سبق أن بيناها.
السادس عشر: إياك والكمال الزائد.(244/15)
جثة الآدمي لا تنجس
السؤال
ما الحكم في رجل لمس جثة أو هيكلاً عظمياً.
فهل يجب أن يغسل يده أم لا؟
الجواب
يقول الشيخ/ ابن عثيمين إجابة على هذا السؤال: الآدمي ليس بنجس سواء كان كافراً أو مسلماً، وبناء عليه فإنه لو لمس الجثة بيده وهو متوضئ فلا ينفسخ وضوءه ولا يجب عليه غسل يده، وكذلك بالنسبة للهياكل العظمية، لكن يقول الشيخ: لكن إذا كان هيكلاً عظمياً لشيء مذكى يعني: مثلاً: جملاً مذبوحاً، خروفاً مذبوحاً، الهيكل العظمي له طاهر أو نجس؟ الهيكل العظمي لبهيمة من بهائم الأنعام قد ذكيت وذبحت طاهر، أما إذا كان هيكلاً عظمياً لقرد فيقول الشيخ: الظاهر أن القرود نجسة، وكذلك الميتة لو قتلوها وبعد ذلك أخذوا الهيكل العظمي للدراسة فهذا الهيكل نجس، فلو لامسه بيده ويده رطبة من العرق ونحوه فإنه لا بد أن يغسل يده.(244/16)
حكم ربط الشعر أثناء الصلاة للمرأة والرجل
السؤال
هذه امرأة سألت: هل يدخل في النهي عن عقد الرأس أثناء الصلاة، وهذا ورد في الحديث الصحيح النهي عن ربط الشعر أثناء الصلاة، هل يدخل فيه المرأة التي تربط شعرها باللفافات أو مثلاً بشيء تربط الشعر فيه هل يدخل هذا في النهي هذا أم لا إذا أرادت أن تصلي؟
الجواب
فأجابني الشيخ/ عبد العزيز بن باز حفظه الله تعالى: لا يدخل ذلك في الحديث لأنها مأمورة بستر شعرها، لأن شعر المرأة عورة في الصلاة، فما دامت أنها تستره فإن هذا الربط الحاصل في شعرها لا يدخل في النهي عن عقد الشعر أثناء الصلاة.(244/17)
مسألة إهداء الأعمال لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وسألته حفظه الله عن مسألة تقع في الذين يقدمون للكتب، بعض الكتاب لما يقدم للكتاب يقول: إهداء، أهدي هذا الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأجاب الشيخ حفظه الله: لا أعرف لها أصلاً، هذه مسألة إهداء الكتب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، إن الرسول صلى الله عليه وسلم غني عن أعمالنا، بعض الناس يقول: أريد أهدي أريد أن أعمل حجة للنبي صلى الله عليه وسلم أريد أقرأ قرآناً للنبي صلى الله عليه وسلم أريد أن أتصدق للرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا الأمر محدث وليس من السنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم غني عن أعمالنا.
ثانياً: بما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد دلنا على كل خير فـ (الدال على الخير كفاعله) فلو أنت الآن صليت صلاة بالسنة كما هي السنة، فمثل أجرك يذهب للرسول صلى الله عليه وسلم، لو ضحيت أضحية قد دلك عليه الصلاة والسلام، فمثل أجرك يذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لو سبحت تسبيحاً علمك إياه صلى الله عليه وسلم، فمثل أجرك يذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الثواب والأجر واصل إليه صلى الله عليه وسلم، فلماذا تهدي إليه الأعمال؟(244/18)
وصلت مساعدة الزواج بعد تيسر أموري فهل أعيدها؟
وهذا سؤال يقول: قدم على طلب مساعدة للزواج، وقبل أن تصل إليه المساعدة تيسرت أموره.
هل يجب عليه ردها أم لا؟
الجواب
يقول الشيخ/ عبد العزيز حفظه الله: يردها؛ لأن الغالب إذا كانت جاءت من طريق الزكاة، أن هذه المساعدة جاءت من زكاة، فيجوز دفع الزكاة إلى الرجل الذي يحتاج للزواج ويخشى على نفسه الحرام فعلاً ولا يجد مالاً يتزوج به يجوز إعطاؤه من الزكاة، فهذا الشخص قبل أن تصل إليه المساعدة وينفقها تيسرت أموره فهنا يردها، وإن كانت من غير الزواج يقول الشيخ/ ابن عثيمين: يستأذن الجهة التي قدمت المساعدة فإن أذنت له وإلا ردها.(244/19)
فرق بين عتق رقبة وبين افتداء أسير مسلم
وهذا سؤال أيضاً وردنا من بعض الإخوان يقول: هل افتداء الأسير المسلم في سجون الكفار إن كان محكوماً عليه بالإعدام يقوم مقام العتق في الكفارات؟ فمثلاً: إذا قتل شخص إنساناً خطأ في حادث سيارة فعليه عتق رقبة، والآن لا يوجد عتق رقبة ولا يتيسر في هذا الزمن، وعلم أن هناك مسلمين في سجون أفغانستان مثلاً عند الكفرة، وأنه من الممكن لهؤلاء الكفرة أن يأخذوا فدية ويطلقوا الأسير المسلم المحكوم عليه بالإعدام عندهم، فهل يقوم هذا مقام عتق الرقبة في الكفارات أو لا؟
الجواب
انوِ الاستفادة مما ستسمعه من فتوى الشيخ/ عبد العزيز رحمه الله، وكذا الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين فقد كان الجواب واحداً: لا يجزئ ذلك لأنها ليست رقبة، بل هو أسير والأسير شيء والرقيق شيء آخر، ولذلك لا يقوم مقامه.
ولكني سألت الشيخ/ عبد العزيز حفظه الله عن مسألة الرقاب الموجودة في موريتانيا: هل هي ما زالت موجودة إلى الآن؟ وهل يقوم مكتب الدعوة والإرشاد التابع للشيخ في موريتانيا بعملية عتق الرقاب؟ فقال الشيخ: نعم.
ما زالت المسألة موجودة إلى الآن، وبإمكانه إذا أراد أن يرسل المبلغ تكلفة عتق الرقبة، هذه كم هي عشرة آلاف أو اثنا عشر ألفاً الله أعلم، يرسله عن طريق الشيخ/ عبد العزيز إلى المكتب في موريتانيا فيشترى به رقيقاً هناك رقبة مؤمنة وتفك.(244/20)