علاج الإصابة بالعين
والعين ترقى بوسائل كثيرة، وتستعمل لها طرق أخرى غير الرقية، بمعنى أن علاج العين يكون بالرقية وقراءة المعوذات والفاتحة.
هذا أمر.
الأمر الثاني: ما جاء في الحديث الصحيح عن سهل رضي الله عنه، وكان جميل الخلقة، فمر به عامر فرآه وكان يصيب بالعين، فقال: ما رأيت اليوم كجلد مخبأة -والمخبأة هي البكر، أي أنه استحسن جلده الأبيض- ما رأيت قط كجلد مخبأة مثل اليوم أبداً.
فلبط سهل، أي أنه اشتل فجأة ولم يستطع أن يتحرك، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم غضب وقال: (علام يقتل أحدكم أخاه) ثم دعا هذا العائن وأمره أن يغتسل، ويكون ذلك في إناء ويصب الماء على جنبه الأيمن والأيسر داخل اتزاره، يجمع ماء الوضوء والغسالة ثم يسكب على المعيون من الخلف من على رقبته وظهره، فسكبوه عليه، قيل: يسكب عليه فجأة، وقيل: بعلمه، فسكبوه عليه، فقام ليس به بأس فهذا العلاج الثاني للعين.
وهناك أشياء عرفت بالتجربة، مثل أن يؤخذ أي شيء من آثار العائن مما يلي جسمه من الثياب كثوب، أو التراب الذي مشى عليه وهو رطب، فيصب عليه الماء ويرش به المصاب أو يشربه المصاب، أو يؤخذ بقية شرابه، كما إذا شرب العائن كأساً من الشاي، فتأخذ بقية الشاي فيشربها المعيون فتنفع بإذن الله، وهذه أشياء مجربة وأجازها أهل العلم.
وأما العائن فإنه يجب عليه إذا رأى ما يعجبه أن يبرك عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيش: (هلا برَّكت عليه) أي: هلا قلت: بارك الله عليك، أو بارك الله لك في أهلك وفي مالك، يبرك عليه ولا يقل: ما شاء الله تبارك الله، بل يقول: اللهم بارك فيه، اللهم بارك عليه، وإذا رأى ما يعجبه من نفسه ومن ماله يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، كما جاء في قصة صاحب الجنتين {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [الكهف:39]، أي: هذا بفضل الله وليس من حيلتي ولا من قوتي؛ حتى لا يصيبه العجب والغرور.
أما إذا رأى إنساناً وخاف أن يحسده فإنه يبرك عليه، أو إذا علم من نفسه أنه إذا نظر إلى شيء عانه وحسده فإنه يبرك عليه ويقول: اللهم بارك فيه ولا تضره، وبعض العامة يقولون: يصلى على العائن صلاة الغائب، وهذا ليس عليه دليل، يقولون: يصلى على الحاسد والعائن صلاة الجنازة، وهذه عبادة تحتاج إلى دليل.(182/7)
عرض الأمم على النبي صلى الله عليه وسلم
فلما حدث حصين سعيد بن جبير بمستنده في طلب الرقية لأجل اللدغة بحديث: (لا رقية إلا من عين أو حُمة) قال سعيد رضي الله عنه -وهذا من باب المباحثة في العلم والنقاش- قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع.
أي: من بلغه علم فأخذ به فقد أحسن ولا يلام، أدى ما وجب عليه وعمل بما بلغه من العلم، بخلاف من يعمل بجهل ولا يعلم؛ فهذا مسيء آثم، وهذه فضيلة في علم السلف وحسن أدبهم وهديهم وتلطفهم في تبليغ العلم، وأن من عمل بما بلغه عن الله ورسوله فقد أحسن.
ولكن سعيد بن جبير الآن يريد أن يستدرك على حصين، يقول: إذا كنت قد عملت بهذا الحديث فعندنا حديث آخر قال: ولكن حدثنا ابن عباس وهو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي، ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي دعا له عليه الصلاة والسلام بقوله: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) فكان كذلك، وتعلم التفسير وفهم الكتاب العزيز، ولم ينقل عن صحابي مثلما نقل عن ابن عباس في التفسير، ولذلك قال عمر أو ابن مسعود: [لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا أحد] أي: لو كان كبيراً في السن مثلنا، مثل عمر وابن مسعود، ما عشره منا أحد، أي: ما بلغ عشره في العلم، لكن ابن عباس من قدر الله أنه كان صغيراً، لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان غلاماً، ومع ذلك روى أحاديث كثيرة، ورزقه الله الفهم والعلم، وروى عن الصحابة وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أشياء سمعها منه مباشرة، ومات -رحمه الله- في الطائف سنة ثمان وستين.
قال: ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:) عرضت علي الأمم) وهذا العرض -كما قلنا- حصل شبيه له في حادثة الإسراء والمعراج التي كانت من مكة (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط) وفي رواية: (فأجد النبي يمر معه الأمة) والأمة: العدد الكثير، والرهط: الجماعة دون العشرة، إذا كان هناك جماعة دون العشرة يطلق عليهم في اللغة العربية رهط، والأمة: الجماعة الكثيرة (فرأيت النبي ومعه الرهط -من الثلاثة إلى التسعة- والنبي ومعه الرجل والرجلان) لو كانت الواو على حقيقتها في الرجل والرجلان لصاروا ثلاثة، ولقال: ثلاثة، لكن قال: النبي ومعه الرجل والرجلان، أي: النبي ومعه رجل أو رجلان، (والنبي يمر معه النفر)، وفي رواية: (والنبي يمر معه العشرة، والنبي ليس معه أحد) هناك أنبياء ما معهم ولا شخص واحد، وفي رواية: (فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة، والنبي يمر ومعه العصابة، والنبي يمر وليس معه أحد)، الحاصل من هذه الروايات أن الأنبياء يتفاوتون في الأتباع، هناك أنبياء أتباعهم كثر جداً، أمة كاملة، وهناك أنبياء معهم رهط وعشرة وثلاثة وخمسة واثنان وواحد، ومن الأنبياء من لم يتبعهم أحد، قال:) (فنظرت فإذا سواد كثير)، وفي رواية: (إذ رفع لي سواد عظيم)، أي: بينما أنا كذلك إذ رفع لي سواد عظيم، والسواد ضد البياض، والسواد يطلق على الشخص إذا رؤي من بعيد، وقد يكون واحداً وقد يكون جماعة فيكون بلفظ الجنس، فالنبي عليه الصلاة والسلام رأى أنبياء يمرون، النبي معه واحد واثنان وثلاثة ورهط وجماعة، ورأى نبياً معه أمة وعدد كثير، سواد كثير قد ملأ الأفق، والأفق: ناحية وجهة من السماء، فظنهم النبي صلى الله عليه وسلم أمته، قال: (فقلت: يا جبريل! هؤلاء أمتي، قال: لا)، وفي رواية: (فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى في قومه)، وعند أحمد: (حتى مر علي موسى في كوكبة من بني إسرائيل، فأعجبني فقلت: من هؤلاء؟ قال: هذا أخوك موسى معه بنو إسرائيل)، والكوكبة: الجماعة من الناس إذا انضم بعضهم إلى بعض.
فعرف النبي عليه الصلاة والسلام أن هؤلاء ليسوا أصحابه ولا أتباعه (ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير.
وفي رواية: عظيم) وفي رواية: (فقيل لي: انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فرأى مثله، فإذا سواد قد ملأ الأفق، فقيل: انظر هاهنا وهاهنا في آفاق السماء، فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال)، وفي لفظ عند أحمد: (فرأيت أمتي قد ملئوا السهل والجبل، فأعجبني كثرتهم وهيئتهم، فقيل: أرضيت يا محمد؟ قلت: نعم أي ربي).
لماذا لم يعرفهم وهو قد عرفهم في مرة أخرى بآثار مثل: الغرة والتحجيل؟ قيل: إنه رآهم من بعيد، والرؤية من بعيد ليس بالضرورة أن يرى فيها الشخص ملامح تفصيلية لوجوه المرئيين.(182/8)
السبعون ألفاً وصفاتهم
قال: (فقيل لي: هؤلاء أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب).
هنا صار مع الأمة سبعون ألفاً من العظماء، وهم الذين لا حساب عليهم ولا عذاب (فخاض الناس في أولئك) النبي صلى الله عليه وسلم بعدما حدث بالحديث، وأخبر أن هؤلاء السبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، وهذا من كرامتهم، وهؤلاء لا حساب عليهم ولا عذاب لا في القبور ولا بعد قيام الساعة، نفي الحساب والعذاب يفهم منه العموم، فلا حساب عليهم ولا عذاب لا في القبر ولا عند قيام الساعة، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته وانقطع الحديث عند هذا الحدث، فخاض الناس في أولئك؛ للوصول إلى الحقيقة لمعرفة من هم هؤلاء السبعون ألفاً؟ وبدأت الاستنتاجات من الصحابة، وهذا العمل من الصحابة رضوان الله عليهم دليل على شدة حرصهم على الخير، وأن يكونوا من هؤلاء، ويا ترى هل هم منهم أو ليسوا منهم؟ وبدأت الاستنتاجات في هؤلاء السبعين الألف (فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) والمقصود الصحبة المطلقة، وربما يكون المقصود الصحبة في الهجرة، ولكن إذا قلنا: إنهم كل الصحابة، فالصحابة أكثر من سبعين ألفاً، وقد قدر عدد الصحابة الذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فقط بمائة وأربعة وعشرين ألف صحابي، والذين صحبوه في الهجرة أقل من سبعين ألفاً، وقد يحمل على صحبة معينة، مثلاً: من صحبه قبل الحديبية؛ لأنه قال لـ خالد بن الوليد: (لا تسبوا أصحابي) وكل الذين قبل الهجرة من المهاجرين لا يبلغون سبعين ألفاً، فالمحتمل أنهم من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى فتح مكة؛ لأن بعد فتح مكة دخل الناس في دين الله أفواجاً، وهذه مسألة تحتاج إلى نظر وتفتيش.
(فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً) قالوا: نحن أشركنا ثم أسلمنا، فيحتمل أن هؤلاء الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب هم الذين لم يشركوا أبداً، هؤلاء أناس ولدوا في الإسلام، وهم أبناء الصحابة، وذكروا أشياء، وخاض الناس في الاحتمالات، حتى طلع عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه، قالوا: من السبعون ألفاً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)، إذاً: عرفنا أنه ليس المقصود أناساً في زمن معين، لكنهم أناس عندهم صفات معينة وقد يوجدون في أي جيل.(182/9)
لا يسترقون
هؤلاء السبعون ألفاً لهم صفات معينة، قال: (هم الذين لا يسترقون) جاء في رواية في صحيح مسلم: (لا يرقون) وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- إلى أن هذه اللفظة خطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رقى، وجبريل رقى، وعائشة رقت، والصحابة كانوا يرقون؛ فيستبعد أن يكون من صفات السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب أنهم لا يرقون! فأنكر الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- هذه الرواية، وذكر أنها غلط من راويها، وقال: العلة أن الراقي يحسن إلى الذي يُرقى، فكيف يخرج من السبعين ألفاً وهو محسن؟! والله يقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91]، {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن:60] قال: هذا غلط من الراوي، والصحيح: لا يسترقون.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل)، والنفع مطلوب، ومن جملة النفع أن يرقيه، فكيف يحث على أن ينفع الإنسان أخاه بالرقية ثم يقول له: أنت لست من السبعين ألفاً! إذاً: يرقون مستبعدة، والصواب: لا يسترقون.
أما الرقية: فهي من جنس الدعاء، ومن رقى غيره فقد أحسن إليه، لكن يسترقون فيها نقص في المسترقي الذي يطلب الرقية، وقلنا: يسترقون، الألف والسين والتاء تفيد الطلب، مثل: استغفر: طلب المغفرة، استجار: طلب الجوار، استرقى: طلب الرقية، فـ (لا يسترقون)، أي: لا يطلبون من أحد أن يقرأ عليهم.(182/10)
سبب عدم طلبهم للرقية
أولاً: لقوة اعتمادهم على الله عز وجل لا يطلبون من أحد رقية؛ لأنهم يعتمدون على الله اعتماداً تاماً.
ثانياً: لعزة نفوسهم عن التذلل لغير الله، لا يريدون أن يذلوا أنفسهم لغير الله ويلجئوا إلى بشر، لا يريدون أن يذلوا أنفسهم عند بشر، ويقفوا طوابير عند هؤلاء الشيوخ في العيادات والمساجد، لا يريدون أن يقفوا طوابير في الرقية ولا يأتي ويتوسل إليه ويطلبون منه الرقية، فلا يريدون إذلال النفس.
ثالثاً: لا يريدون أن يفتحوا على أنفسهم أي باب تعلق بغير الله؛ لأنك تجد في الواقع عدداً من الذين يذهبون لبعض القراء والراقين يتعلقون بهم، ويظن أن الشيخ هذا أو الراقي ينفع بنفسه أو بذاته أو بكلامه، مع أن النفع من الله وهذا سبب، فلا يريدون أن يكون عندهم أي تعلق بغير الله، فيستغنون عن كل الراقين وكل القراء، ولا يطلبون من أحد رقية، (لا يسترقون)، أي: لا يطلبون من أحد الرقية ألبتة.
وهناك فرق بين من سأل وطلب، وبين من رقى غيره.
وبعضهم حاول أن يحمل اللفظة التي في مسلم على أشياء، قال: لا تكون رقى شركية، لكن هذا الحمل فاسد؛ لأننا إذا قلنا بهذا فما هي الميزة فيها؟ لأن كل المؤمنين أصلاً يجب ألا يأخذوا الرقية الشركية، فلو قلنا: لا يرقون رقية شركية؛ فلن يكون هناك ميزة للسبعين ألفاً.
إذاً: الراجح قوله: (لا يسترقون) والإنسان الذي لا يسترقي تام التوكل، ويلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُحِر ما طلب من أحد من البشر رقية، وإنما نزل جبريل فرقاه بأمر من الله تعالى: (بسم الله أرقيك من كل أذى يؤذيك)، ونفهم من هذا -أيضاً- أن الرقية في حد ذاتها ليست ممنوعة، وليس ممنوعاً أن الشخص يرقي ولا يسترقي، لا بأس أن يسترقي إذا كانت عقيدته صحيحة، وأن الرقية إذا كانت مشروعة فلا شيء فيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اعرضوا علي رقاكم، ولا بأس بالرقى ما لم يكن شركاً)، فإذا كان هناك شيء عن الرقية فهو لأجل الشرك، ولا بأس بها ما لم يكن شركاً.
إذاً: طلب الرقية فيه نزول عن مرتبة الكمال في التوكل، وهؤلاء السبعون ألفاً في المنزلة العالية ولا يناسب أن يكون من صفاتهم أنهم يطلبون رقى من الناس، ولو كانت مباحة.
وقيل في هؤلاء أيضاً: إنهم مقصودون بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11]، لكن قد وردت أحاديث تفيد أن هؤلاء السبعين ألفاً يدخلون بعد غيرهم، منها: حديث رواه الإمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان من حديث دفاع الجهني، قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث وفيه: (وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً من غير حساب، وإني لأرجو ألا يدخلوها حتى تبوءوا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة) إذاً: لا يلزم أن يكون هؤلاء السبعون ألفاً أفضل من غيرهم، يمكن أن يكون هناك غيرهم أفضل منهم، لكنهم يدخلون الجنة من غير حساب ولا عقاب، وقد يكون فيمن يحاسب أفضل من هؤلاء السبعين ألفاً من جهة الدرجة في الجنة، لكن هؤلاء لا يحاسبون.(182/11)
ولا يكتوون
الصفة الثانية: (ولا يكتوون) أي: لا يطلبون الكي، ولا يسألون غيرهم أن يكويهم، كما لا يسألون غيرهم أن يرقيهم، استسلاماً لقضاء الله، وتلذذاً بالبلاء وصبراً عليه لمزيد من الأجر، وعدم حاجة للمخلوقين واستغناءً عنهم، ولجوءاً تاماً إلى الخالق، وتفويض الأمر إليه سبحانه.
وما هو حكم الكي؟ قد جاءت الأحاديث بجوازه، كما روى جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي بن كعب طبيباً، فقطع له عرقاً وكواه.
وفي صحيح البخاري عن أنس أنه كوى من ذات الجنب والنبي صلى الله عليه وسلم حي، وجاء عند الترمذي من حديث أنس: (أنه صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن زرارة من الشوكة)، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعاً: (الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى عن الكي.
وفي لفظ: وما أحب أن أكتوي)، ويلاحظ التدرج في العلاج من الأسهل إلى الأصعب، أولاً: فالشخص إذا مرض يأخذ الدواء اللذيذ الذي مثله هنا بشربة عسل، فإذا احتاج إلى شيء أكثر مراً، وربما يحتاج إلى استخراج، ولذلك قال: (وشرطة محجم) إذًَا: هناك دواء بالامتلاك بالأخذ، وهناك دواء بالاستقرار مثل الحجامة، يخرج الدم في الحجامة، وهناك دواء وهو آخر شيء وهو الكي، قال: (الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار)، فإذاً: هي مرتبة من الأسهل إلى الأصعب، ولا يذهب الواحد إلى الكي مباشرة وعنده الدواء الأسهل أو الألذ وليس فيه ألم، ولا تشويه للجسم.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فقد تضامنت أحاديث الكي أربعة أنواع: أحدها: فعله.
والثاني: عدم محبته له.
والثالث: الثناء على من تركه.
والرابع: النهي عنه.
فلو راجعنا أحاديث الكي فسنجد أنه فعله أو أقر على فعله، وهناك أحاديث أنه لا يحب الكي، وهناك أحاديث أنه أثنى على من ترك الكي، مثل حديثنا هذا، وهناك أحاديث فيها نهي عن الكي.
يقول ابن القيم رحمه الله: ولا تعارض بينها بحمد الله، فإن فعله له يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على منعه؛ لأنه قد لا يحب شيئاً وهو ليس بممنوع، فإنه لم يكن يحب لحم الضب، لكن هل هو ممنوع أو محرم؟
الجواب
لا، وأما الثناء على تاركي الكي فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهية، أي: إذا كان عندك اختيار فلا تستعمل إلا إذا اضطررت، وقد يحمل النهي على الكراهية لا على التحريم، ويلاحظ هنا أنه قال: (وكية نار) فالكي البارد الذي يستعملونه في المستشفيات لا يعتبر كياً بالنار الذي يسبب تشويهاً للجلد، فهذا الكي الذي فيه تشويه للجسم مكروه وتعافه النفوس السليمة، ولا تريد هذا الأثر، لكن إذا لم يجد الإنسان دواءً إلا هو فآخر الدواء الكي.(182/12)
ولا يتطيرون
قال: (لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون)، ما هو المقصود بالتطير؟ أي: التشاؤم، فمعنى لا يتطيرون: أي: لا يتشاءمون، والتطير مأخوذ من الطير، والمصدر: طيرة، والتطير اسم المصدر، وهو عبارة عن التشاؤم بالطير، العرب كانوا يتشاءمون بالطيور، حتى لو أراد الإنسان منهم عملاً كسفرٍ أو بيعٍ أو زواجٍ ونحو ذلك؛ أمسك طيراً فأطلقها، فإن ذهبت يميناً قال: هذا خير وبركة، وأقدم عليه، وإن ذهبت شمالاً قال: هذا شؤم وشر فتركه وما علاقة العصفور أن يذهب يميناً أو شمالاً في قضية الخير والبرك والشؤم والشر؟! ولذلك كان أمراً سخيفاً يدل على سخافة عقول الذين يعتقدون هذا الاعتقاد.
لكن التطير استخدم بمعنى أعم من قضية إطلاق الطير والنظر هل يذهب يميناً أو شمالاً، فكانت العرب تتشاءم من أشياء مرئية وأشياء مسموعة، أو أزمنة معينة أو أمكنة معينة، فربما تشاءموا بصوت البوم والغراب من المسموعات، أو تشاءموا برؤية الأعور من المرئيات أو المجذوم ونحو ذلك؛ كأن يذهب أحدهم ليفتح دكانه في الصباح، فيجد في طريقه شخصاً أعور، فيقول: هذه أولها، فيعود ولا يفتح المحل، والتشاؤم كذلك بالأمكنة، كما يكون التشاؤم بالأزمنة، والتشاؤم بالأزمنة مشهور، فقد كانوا يتشاءمون في شهر شوال في النكاح خاصة، ويقولون: الذي يتزوج في شوال شر، ولذلك ورد عن الصحابة مخالفتهم، وكانت عائشة لا تدخل نساءها إلا في شوال، كانت إذا جهزت امرأة للزواج تجعل الدخلة والعرس في شوال نكاية في اعتقاد أهل الجاهلية، وقالت عائشة رضي الله عنها: [عقد علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال، فأيكن كانت أحظى عنده؟] لو كان شوال شراً ما كنت أنا بهذه المنزلة، ولا كان الزواج المبارك هذا.
ومنهم من كان يتشاءم بيوم الأربعاء، وقد جاء حديث موضوع: (آخر أربعاء من كل شهر يوم نحس مستمر)، وهذا هو المنحوس الذي وضع هذا الحديث.
وهناك من كان يتشاءم بشهر صفر، وبعض الناس الآن يتشاءمون بالرقم (13) وهذا من التشاؤم الموجود عند الغربيين، على تقدمهم والتكنولوجيا التي عندهم والتطور والمخترعات تجد بعض شركات الطيران العالمية أرقام المصاعد عندها: أحد عشر، اثنا عشر، أربعة عشر، ما فيها ثلاثة عشر، مصاعد في ناطحات السحاب أحد عشر اثنا عشر أربعة عشر، والطابق الرابع عشر هو الطابق الثالث عشر، ليس هناك طابق في الهواء غير موجود ومحذوف، الطابق الرابع عشر هو الثالث عشر، ولكنهم قوم لا يفقهون! مع أنهم يعتبرون أنفسهم متقدمين، لكنهم تراهم يتشاءمون من شيء يدل على سخافة عقولهم.
وقضية التشاؤم قضية طويلة، سبق أن تعرضنا لها في درس بعنوان: التفاؤل، في سلسلة الأخلاق الإسلامية، ذكرنا طرفاً من هذا الموضوع.(182/13)
التوكل على الله
قال: (لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)، هذه الجملة مفسرة لما تقدم، على احتمال أن ترك الاسترقاء والاكتواء والطيرة حقيقة التوكل، ويحتمل أن تكون من العام بعد الخاص، ذكر بعض أفراد العام ثم ذكر العام بعده، وهذه المسألة وهي قوله: (وعلى ربهم يتوكلون)، هذه هي الصفة الواضحة المهمة، أهم صفات السبعين ألفاً هؤلاء أنهم يتوكلون على الله {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] والأشياء المذكورة تدل على ذلك (لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون)، تدل على أنهم متوكلون على الله، عندهم صدق في الالتجاء إليه والاعتماد بالقلب عليه، وهذا تحقيق التوحيد، وهذا مقام الذي يحب الله ويرجوه ويرضى به ويرضى بقضائه، ويعرف نعماءه سبحانه وتعالى، فهؤلاء هم المتوكلون على الله عز وجل.(182/14)
الصوفية والتوكل
وقد زعمت الصوفية من هذا الحديث أن التوكل يقتضي أن الإنسان لا يعمل شيئاً، حتى لو هجم عليه أسد فلا ينزعج، ولا يسعى في طلب الرزق، والذي مكتوب سيأتي وقد أبى ذلك جمهور العلماء الفضلاء الموحدون، قالوا: إن هذا اعتقاد فاسد، وإن التوكل على الله هو: الثقة بوعده، واليقين بقضائه، وابتغاء الرزق بالأسباب مما لابد له منه، من مطعم ومشرب، والتحرز من عدو بإعداد السلاح وبإغلاق الباب من اللص ونحو ذلك، ولكن لا يطمئن قلب المتوكل على الله إلى الأسباب، ولا يعتقد أنها تجلب نفعاً أو تدفع ضراً، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى، والكل بمشيئته عز وجل، والله تعالى خلق الأسباب وخلق آثار الأسباب، وخلق المسببات، ولا يجري شيء إلا بمشيئته عز وجل، والذي يركن إلى الأسباب قادح في توكله على الله، والذي لا يتخذ أسباباً بالكلية جاهل بالتوكل على الله، يظن نفسه متوكلاً وهو ليس كذلك، فالأخذ بالأسباب أمر فطري ضروري حتى الحيوان يعرفه، والبهيمة تعرفه، والطير يسعى أخذاً بالأسباب، ويذهب في الصباح يبحث عن الدودة والطعام، والله يرزق الطير لتوكلها عليه (لو تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً -جياعاً- وتروح بطاناُ) تذهب في أول النهار جياعاً، وتعود ممتلئة البطن، وهي متوكلة على الله، لكن هل يجلس الطير في عشه ويقول: الرزق المكتوب لي سيقع علي من السماء؟! لا.
الطير يغدو، والغدو والرواح عمل وذهاب للبحث، لكن أفئدة الطير مليئة بالتوكل على الله، ولذلك الله يرزقها، ولن تجد طائراً يذهب ويعود من غير شيء، لابد أن يرجع بشيء، وهذا من توكله على الله، ففي هذا الحديث نتعلم من خلق الله من الحيوانات أشياء عظيمة، كما نتعلم التوكل من الطير.
إذاً: التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب، بل لا بد من الأخذ بالأسباب، وكيف لا يأخذ الإنسان بالأسباب وقد جاء في الحديث الصحيح: (أفضل ما أكل الرجل من كسبه)، وكان داود يأكل من كسبه {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء:80]، والله عز وجل يقول: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102]، ماذا يعني خذوا حذركم؟ يعني الانتباه والحراسة، وقسم الجيش نصفين: نصف يصلي، ونصف يراقب، هذه كلها أخذ بالأسباب، إذاًَ: التوكل على الله لا يعني أبداً ترك الأسباب، لكن التوكل على الأسباب هو المصيبة، والآن أكثر الناس يتوكلون على الأسباب؛ قلبه معتمد على الطبيب، وعلى الدواء، وعلى التخطيط للمشروع، والاعتماد على الله غائب، وهكذا لا يمكن أن يحدث تكسب إلا بتحسين السلعة ونقلها وبيعها وعرضها، ولا يمكن للإنسان أن ينفق على عياله إلا بالتكسب والسعي والأخذ بالأسباب، وهؤلاء الذين لا يسترقون ولا يكتوون ليس معناه أنهم لا يتداوون، ولا أنهم لا يعملون شيئاً من الأسباب المشروعة، بل إنهم يتخذون الأسباب المشروعة.(182/15)
التداوي لا ينافي التوكل
وبالنسبة لقضية التداوي فإننا نعلم إن التداوي قد وردت الوصية به، والأمر من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام)، وهذا التداوي لا ينافي التوكل على الله؛ لأنه من الأسباب، لكن حصل نقاش لعلماء يحسن أن نستعرضه في قضية التداوي: هل هو مباح وتركه أفضل، أو هو مستحب أو واجب؟ فالمشهور عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه مباح وتركه أفضل، والشافعي مشهور عنه الثاني وهو الاستحباب، وقال أبو حنيفة في التداوي: يداني الوجوب، وقال مالك رحمه الله: يستوي فعله وتركه، لكن ليس هناك أحد قال إن التداوي حرام، فهو ليس بحرام، بل هو أخذ بسبب.
وقال بعض العلماء المعاصرين: الصحيح أن التداوي أنواع: الأول: ما غلب على الظن نفعه مع احتمال الهلاك في عدمه فهو واجب، أي أنه يغلب على الظن أن هذا الدواء نافع، ويمكن أن يهلك لو لم يأخذه، فيجب أن يأخذه.
الثاني: ما غلب على الظن نفعه، لكن ليس هناك هلاك محقق لتركه، فهذا أخذه أفضل، وما تساوى فيه الأمران فتركه أفضل، ولكن استعمال الدواء المباح مباح بالجملة.(182/16)
بشائر في حديث السبعين ألفاً
هؤلاء السبعون ألفاً لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم جاءت روايات أخرى بشائر لنا: أولاً: بالإضافة إلى صفاتهم قال: (تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر) (أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر، والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء إضاءة) وقال في رواية: (فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفاً لا يحاسبون) البشارة أن هؤلاء السبعين ألفاً ليسوا فقط سبعين ألفاً، بل إن معهم آخرين.
وقد جاء في حديث أبي هريرة وسنده جيد عند أحمد والبيهقي: (فاستزدت -أي: استزدت ربي- فزادني مع كل ألف سبعين ألفاً) كل ألف من السبعين ألفاً معهم سبعون ألفاً زيادة، وفي رواية: (مع كل واحد من السبعين ألفاً سبعون ألفاً)، لكن هذه الرواية ضعيفة، لكن الرواية الصحيحة أن الله تعالى زاد النبي صلى الله عليه وسلم مع كل ألف من السبعين ألفاً -الذين لا يحاسبون من أمته- مع كل ألف منهم سبعون ألفاً، وفي رواية: (وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً مع كل ألف سبعون ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب، وثلاث حثيات من حثيات ربي) والله أعلم كم قدر الحثية.
وفي صحيح ابن حبان بسند جيد عن عتبة بن عبد الله: (ثم يشفع كل ألف في سبعين ألفاً، ثم يحثي ربي ثلاث حثيات بكفيه)، فكبر عمر رضي الله تعالى عنه، فهؤلاء السبعون ألفاً مع كل ألف سبعون ألفاً كم سيكون المجموع؟ أربعة ملايين وتسعمائة ألف غير الحثيات، هؤلاء من أمة النبي صلى الله عليه وسلم، تطلق باعتبارات، إحداها: أمة الاتباع، ثم أمة الإجابة، ثم أمة الدعوة، فالأولى: أهل العلم والصلاح، والثانية: عموم المسلمين، والثالثة: من عداهم ممن بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولما حصلت هذه البشارات قام عكاشة، وهو من عكش الشعر إذا التوى، فإذا التوى الشعر يقال في اللغة: عكش، ويقال: عكش القوم إذا حمل عليهم في الحرب، والعكَاشة بالتخفيف: اسم للعنكبوت، وأيضاً اسم لبيت النمل، ويصح في اسم هذا الصحابي الوجهان: عكَّاشة وعكَاشة كلاهما صحيح، ابن مِحصَن، بكسر الميم وفتح الصاد، ابن حرثان، من بني أسد من خزيمة، رضي الله عنه، كان من السابقين إلى الإسلام، وكان من أجمل الرجال، هاجر وشهد بدراً وقاتل فيها، وقيل: إنه قاتل حتى انقطع سيفه في يده، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فصار في يده سيفاً كرامةً، ذكره ابن إسحاق بدون سند، وقد استشهد رضي الله عنه في قتال الردة مع خالد بن الوليد سنة اثنتي عشرة للهجرة.
لما سمع عكاشة بهذا قال: (يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت منهم.
وفي رواية: اللهم اجعله منهم) فقوله: (أنت منهم)، خبر بمعنى الدعاء، أو يقال: إنه سأل الدعاء ثم أجيب فأخبر بالجواب، (ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن أكون منهم.
فقال صلى الله عليه وسلم: سبقك بها عكاشة)، لماذا لم يدع النبي صلى الله عليه وسلم للثاني وقال: (سبقك بها عكاشة) قالوا: إن معنى (سبقك بها) أي: بإحراز تلك الصفات، فأنت لست مثله في قضية التوكل وعدم التطير إلى آخره، وقيل: عدم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للثاني لسببين: الأول: أن هذا الرجل كان منافقاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يدعو له لأنه منافق، ولم يرد أن يجيبه بما يكره فقال: (سبقك بها عكاشة)، وقيل: إن هذا ضعيف؛ لأن الأصل في الصحابة عدم النفاق، وما الذي يثبت أن هذا كان منافقاً؟ وثانياً: قوله: (ادع الله أن يجعلني منهم)، غالباً لا يصدر إلا من قلب صحيح حريص على دخول الجنة، وهذا يتعارض مع النفاق، وإلى هذا مال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن القضية ليست قضية نفاق، لكن قيل: إنه صلى الله عليه وسلم خاف أن ينفتح الباب، فكل واحد سوف يقول: ادع الله أن أكون منهم، فيدخل فيها من ليس من أهلها؛ فقال هذه الكلمة التي أصبحت مثلاً: (سبقك بها عكاشة)، إذاً: أراد صلى الله عليه وسلم ألا يأتي أحد ليس على مستوى هذا ويطلب ثم يرد، ويكون هناك دخول في قضية تعيين أشخاص والتفريق بين الأشخاص، فحسماً للمادة قال: (سبقك بها عكاشة) وربما يطلب بعض المنافقين ذلك مندساً، وتتسلسل القضية بدون أن يكون لها نهاية واضحة.(182/17)
فوائد من حديث السبعين ألفاً
هذا بالنسبة لشرح هذا الحديث العظيم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفنا منه أهمية التوكل على الله، وأن ترك الاكتواء أفضل، وترك التطير واجب، وأن ترك الاسترقاء أفضل، وعرفنا فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على بقية الأمم كما وكيفاً، فأما الكم فإن النبي عليه الصلاة والسلام رأى أهل الجنة من أتباعه يملئون كل الآفاق آفاق السماء أكثر من الذين مع موسى، وأما الكيفية فهم متوكلون على الله؛ لا يسترقون ولا يتطيرون، هذه فئة خاصة، وموسى ومن معه يلوننا في الأفضلية، أصحاب موسى عليه السلام الصالحون والعباد والشهداء والعلماء من بني إسرائيل.
والحديث فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حين رأى بعض الأنبياء ما معه إلا الرجل والرجلان، وبعضهم ليس معه أحد، فيعلم عند ذلك فضل الله عليه وشرفه عند الله ومكانته؛ بأن جعل أتباعه أكثر الأمم، وأكثر من أتباع أي نبي آخر، وعرفنا أن كل أمة تحشر مع نبيها.
ويؤخذ منه فائدة دعوية مهمة جداً وهي: أن عدد الأتباع ليس دليلاً على نجاح الداعية، فربما يقوم الإنسان بالدعوة ويجتهد ويدعو ويبذل ولا يستجيب له أحد، فلا يكون عدم اتباع الناس له دليلاً على أنه مخطئ أو ضال أو مذنب، بل قد يكون ابتلاء من الله، فهناك أكثر من نبي ومع ذلك ما تبعه أحد، وما استجاب له أحد، يعرف الدعوة ويفقهها، ويعرف أساليبها والطرق الناجحة فيها، ويبذل أسباب النجاح؛ ومع ذلك ما كتب له أن يتبعه أحد إذاً: الداعية إلى الله إذا كان صادقاً مع الله، متخذاً الأسباب، فقيهاً بأمور الدعوة، يتخذ الأساليب الناجحة، وما وفق في أشخاص يهتدون على يديه، فلا تذهب نفسه حسرات، ولا يحزن ولا ييئس، فهؤلاء أنبياء وما مشى معهم أحد، فما بالك بمن هو أقل منهم؟! وفائدة أخرى مهمة جداً: وهي أن كثرة الأشخاص لا تدل على أن هذا حق، ليست الكثرة معياراً للحق أبداً، فلا يغتر الشخص بالكثرة {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ومنه نعلم فساد المذهب الديمقراطي الذي يقوم على رأي الأغلبية؛ لأنهم يأخذون آراء السفهاء والشذاذ والهمل في الشوارع، يأخذون آراءهم بالعدد استفتاء، ثم يقولون: الأغلبية كذا، مع أن الأكثرية هؤلاء همل، ولذلك انتخاب الخليفة عند المسلمين يكون من أهل الحل والعقد، وليس من عموم الرعاع من الناس.
كذلك هؤلاء الغربيون يتباهون بأن عندهم الحرية ومبدأ الأكثرية، فيصوتون على أي شيء، وكثير من الناس سفهاء لا عقل لهم، أتباع الشهوات والأهواء، لو قيل لهم: أتريدون أن يكون الزنا مسموحاً به؟ لربما قال أكثر الناس: نعم، ولو قيل: أتريدون السماح بالخمر؟ لربما قال أكثر الناس: نعم، إذاً: مبدأ الأكثرية الذي تعتمد عليه الأنظمة الجاهلية هو جاهلي، وليس من الدين، لكن بالنسبة للعلماء فإنه إذا أراد الإنسان أن يطمئن إلى قول فعليه بالجمهور، وليس بالضرورة أيضاً أن يكون الحق مع جمهور العلماء، فقد يكون الحق مع غير الجمهور، حتى في قضية المسلمين المؤمنين العلماء ربما لا يكون الحق مع الجمهور، بل يكون مع من هو أقل؛ لأن الدليل معهم، فإذاً: لا يصح أن يغتر الإنسان بالكثرة حتى ولو كانوا على الحق، قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25]، مع أن الطرف المقابل كفار، فالإنسان لا يغتر بالكثرة ولا يغتر مع الكثرة، وإذا رأيت كثرة الهالكين فلا تغتر وتقول: هؤلاء على الحق لأنهم أكثرية، وإذا رأيت كثرة أهل الحق فلا تعجب بهم، فإنه يحصل الإعجاب فيكون سبب الهزيمة والفشل، فهذه قضية الأكثرية والأقلية قضية مهمة جداً ينبغي أن تعرض على الشريعة.
وفي الحديث علم من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزة من معجزاته، وبرهان على نبوته عليه الصلاة والسلام، وأنه يوحى إليه، وذلك أنه أخبر أن عكاشة منهم، وعكاشة ما ارتد ولا غير ولا بدل، واستمر ومات شهيداً رضي الله عنه، فبقي محبوساً من الكفر حتى مات على الإسلام، فإذا أراد الإنسان أن يخبر عن أمثلة من المبشرين بالجنة من غير العشرة فإنه يقول: عبد الله بن سلام، وعكاشة بن محصن رضي الله عنهما.
كذلك في الحديث استعمال المعاريض، في قوله: (سبقك بها عكاشة) فليس المانع الحقيقي أن عكاشة سبقه، لكن المانع أنه عليه الصلاة والسلام خاف أن ينفتح الباب ويسأل هذه المرتبة شخصٌ ليس من أهلها فقال: (سبقك بها عكاشة) وهذا دليل على حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث رواه البخاري وغيره، وهو مشروح في فتح الباري، في كتاب التوحيد.
والله تعالى أعلم.(182/18)
الأسئلة(182/19)
رقية الكافر
السؤال
هل يجوز أن يرقى الكافر؟
الجواب
نعم يجوز؛ لأن أبا سعيد رضي الله عنه قد رقى كافراً.(182/20)
قراءة القرآن للحائض والنفساء
السؤال
هل يجوز للحائض والنفساء قراءة القرآن؟
الجواب
نعم من غير أن تمسه.(182/21)
حكم ذبح الرجل العقيقة عن ابن ابنه
السؤال
رزق ابني بمولود، فلما أخبرت قلت: عقيقته علي، فهل تجزئ أم لابد أن يعق عنه أبوه؟
الجواب
لا تجزئ إذا ذبح العقيقة جد الولد أو جدة الولد.(182/22)
حال حديث: (الجنة تحت أقدام الأمهات)
السؤال
ما صحة حديث: (الجنة تحت أقدام الأمهات)؟ ل
الجواب
ورد في معناه أحاديث صحيحة كحديث معاوية رضي الله عنه: (الزمها فإن الجنة تحت قدمها) أو (الجنة تحت أقدام الوالد)، ثبت هذا الحديث.(182/23)
الاكتواء والتداوي عند الطبيب لا يعد مناقضاً للتوكل
السؤال
كووني وأنا صغير حيث لم يكن الطب منتشراً، وهذا خارج عن رغبتي وإرادتي، فهل هذا السبب يخرجني من السبعين ألفاً؟
الجواب
لا، وذكر بعض أهل العلم المعاصرين أنه إذا كان الذي يكوي موظفاً بأجرة مثل الذي في المستشفى، فإن ذهابك إليه لا يعتبر أنك خرجت من هذا الحديث؛ لأن هذا موظف يأخذ أجرة على عمله، فإذا ذهبت إليه هو لا يتفضل عليك وليس له منة عليك، هو موظف يأخذ راتباً، لكن الذي له منة عليك هو الذي تلجأ إليه لجوءاً، وهناك فرق بين الطبيب والراقي، فقوله: (لا يسترقون) لا يعني هذا ألا نذهب إلى الطبيب ونطلب منه العلاج؛ لأن فيها نقصاً للتوكل فذهابك إلى الطبيب الذي يأخذ أجرة ليس فيه منة من الطبيب؛ لأنه يأخذ أجرة.
وكذلك الذي يكوي لا يعتبر الذهاب إليه مناقضاً للتوكل إذا كان موظفاً له راتب، وليس له منة عليك، هذا عمله ولابد أن يؤديه، ثم إنك لم ترضَ على ما تذكر.(182/24)
الرقية بدون استرقاء
السؤال
هل يعتبر من رقي بدون طلب منه قد خرج من الحديث؟
الجواب
لا؛ لأنه لم يطلب الرقية، فلو جاء أحد وأنت مريض، وقال: أريد أن أرقيك، فلا حرج ولا مانع ولا تخرج من السبعين ألفاً.
والحمد لله رب العالمين.(182/25)
خصائص النبي صلى الله عليه وسلم
لقد ميز الله سبحانه وتعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وكرَّمه، وخصه بأشياء دون غيره من الأنبياء، فله صلى الله عليه وسلم خصائص لذاته في الدنيا، وله خصائص لذاته في الآخرة، وله خصائص في أمته في الدنيا والآخرة، ومن أجل ذلك جاءت هذه المادة مبينة وموضحة لبعض هذه الخصائص.(183/1)
بعض من ألّف في خصائصه صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: فحديثنا في هذه الليلة بمشيئة الله تعالى عن خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن معرفة ما يتعلق به واجب علينا، وأن نعرف له حقه، وأن نعرف منزلته وقدره، ومن معرفة منزلته وقدره عليه الصلاة والسلام أن نعرف خصائصه صلى الله عليه وسلم، وذلك كله داخل في إيماننا بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فخصائصه عليه الصلاة والسلام: ما اختصه الله بها وفضله على سائر الأنبياء والخلق.
والخصائص النبوية موضوع قد اعتنى به العلماء من أهميته، فتناولوه بحثاً وتأليفاً، وذكروا ما انفرد به عليه الصلاة والسلام عن إخوانه الأنبياء والمرسلين، كما ذكروا ما انفرد به عن سائر أمته، وممن ألف في هذا: الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى في كتابه بداية السول في تفضيل الرسول، وكذلك الإمام ابن الملقن رحمه الله في كتابه خصائص أفضل المخلوقين، ومنهم من أدرج الخصائص في مؤلف من المؤلفات التي كتبها، مثل الحافظ الإمام أبي نعيم الأصفهاني رحمه الله في كتاب دلائل النبوة، والحافظ البيهقي رحمه الله في كتاب دلائل النبوة، والحافظ القاضي عياض رحمه الله في كتابه الشفاء في التعريف بحقوق المصطفى، وكذلك ابن الجوزي رحمه الله في الوفاء لأحوال المصطفى، وكذلك ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية والفصول في سيرة الرسول، وكذلك النووي رحمه الله في تهذيب الأسماء واللغات.
كل هؤلاء العلماء وغيرهم قد جعلوا أبواباً في مصنفاتهم عن خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الخصائص التي معرفتها تزيده عليه الصلاة والسلام في أعيننا قدرا، ً وتجعلنا نحبه ونعرف منزلته أكثر، وتجعلنا نزداد به إيماناً، ونزداد له تبجيلاً، ونزداد له شوقاً ويقيناً صلى الله عليه وسلم، لأن من واجباتنا أن نعرف أحوال نبينا عليه الصلاة والسلام، ومن كمال الإيمان والتصديق به أن نعرف له من الخصائص والميزات عليه الصلاة والسلام.
إن هذه الخصائص-أيها الإخوة! - منها ما اختص به عليه الصلاة والسلام في ذاته في الدنيا، ومنها ما اختص به في ذاته في الآخرة، ومنها ما اختصت به أمته في الدنيا، ومنها ما اختصت به أمته في الآخرة.(183/2)
خصائصه صلى الله عليه وسلم في الدنيا
فنريد أن نتناول شيئاً مما اختص به عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة:(183/3)
أخذ الله العهد من الأنبياء والمرسلين باتباع النبي صلى الله عليه وسلم إذا ظهر فيهم
فمن خصائصه عليه الصلاة والسلام، وهي خاصية عجيبة: أن الله عز وجل قد أخذ العهد والميثاق على جميع الأنبياء والمرسلين من لدن آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام، أنه إذا ظهر النبي صلى الله عليه وسلم في عهده وبعث أنه سيؤمن به ويتبعه، ولا تمنعه نبوته من أن يتابع نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، وكل نبي أخذ العهد والميثاق على أمته أنه لو بعث محمد بن عبد الله فيهم أن يتابعوه عليه الصلاة والسلام، لا يتبعون نبيهم بل يتبعون محمداً عليه الصلاة والسلام إذا ظهر فيهم، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران:81] من هو هذا الرسول؟ هو محمد عليه الصلاة والسلام، قال: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81] ميثاق مأخوذ على جميع الأنبياء وعلى جميع الأمم، أن محمداً عليه الصلاة والسلام إذا بعث فيهم أن يتبعوه وأن يؤمنوا به وأن ينصروه، وقال علي رضي الله تعالى عنه: [ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه ميثاقاً لئن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته] أمر كل نبي أن يأخذ الميثاق على أمته، لئن بُعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، ولذلك لما جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب وقال: (أمتهوكون فيها يا بن الخطاب) التهوك: الوقوع في الأمر بغير روية، وهو التحير أيضاً: (أمتهوكون فيها يا بن الخطاب، والذي نفسي بيده! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده! لو أن موسى -صلى الله عليه وسلم- كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) رواه الإمام أحمد وحسنه الألباني.
فإذاً: محمد عليه الصلاة والسلام لو وجد في أي عصر لكانت طاعته مقدمة، والإيمان به مقدماً، ومتابعته مقدمة.(183/4)
عمومية رسالته صلى الله عليه وسلم
ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام: أن رسالته عامة لجميع البشر، فقد كان الأنبياء والرسل يبعثون إلى أقوامهم خاصة، كل نبي إلى قومه خاصة، كما قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [نوح:1] {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [الأعراف:65] {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} [الأعراف:73] {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [الأعراف:80] {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف:85] وأما النبي عليه الصلاة والسلام فقد قال الله تعالى في شأنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ:28] {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:158] فإذاً: لو قال يهودي أو نصراني في هذا الزمان ليس محمد بنبينا، نبينا موسى، نقول: نبيك محمد رغماً عنك، نبيك محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجب عليك أن تؤمن به: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] قال العز بن عبد السلام رحمه الله: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم: أن الله تعالى أرسل كل نبي إلى قومه خاصة وأرسل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس، ولكل نبي من الأنبياء ثواب تبليغه إلى أمته، ولنبينا صلى الله عليه وسلم ثواب التبليغ إلى كل من أرسل إليه، فإذاً النبي عليه الصلاة والسلام له أجر كل الإنس الذين اتبعوه، وله أجر كل الجن الذين اتبعوه إلى قيام الساعة، ولذلك فهو أكثر الأنبياء أجراً، ولا يوجد لواحد من الأنبياء أتباع مثل أتباع نبينا عليه الصلاة والسلام، فهو أكثر الأنبياء أتباعاً على الإطلاق.
والدليل على أن اليهود والنصارى في زماننا هذا مخاطبون بالإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام واتباعه، وأن من لم يؤمن بنبينا من اليهود والنصارى وغيرهم من الهندوس والسيخ والمجوس وسائر الكفرة أنه في النار، قوله عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني) والمقصود بالأمة أمة الدعوة، واليهود والنصارى داخلون في أمة الدعوة لا أمة الإجابة الذين استجابوا له عليه الصلاة والسلام، فقوله: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة -وهي أمة الدعوة يعني: الذين أرسل إليهم، كل العالم- يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) رواه مسلم رحمه الله في صحيحه، وقال صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي، ومنها وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)، وفي رواية: (كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود) رواهما مسلم رحمه الله، حتى الجن: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] ينذرونهم عذاب الله، ويخوفونهم ما سمعوا.
فإذاً: الرسل من الإنس والجن منهم دعاة إلى قومهم، والرسل من الإنس، والجني يمكن أن يسمع الإنسي، وأن يسمع كلام النبي عليه الصلاة والسلام، بخلاف الإنسي فإنه ربما لا يتمكن من سماع الجني لو كان الرسول من الجن؛ ولذلك كان الرسل من الإنس، والجن منهم دعاة ومنذرون، فهؤلاء الجن الذين سمعوا القرآن يتلى منه عليه الصلاة والسلام، ولوا إلى قومهم منذرين، وهذه آية في كتاب الله تتعلق بالموضوع، فيها بشارة وبيان ميزة للنبي عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} [الفرقان:51] فهذه منة من الله على النبي عليه الصلاة والسلام، يقول له: لو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً لكن مننا عليك وبعثناك لكل القرى نذيراً وبشيراً فصار تابعوك من كل القرى، المؤمنون لك مثل أجرهم، وأنت رسول إليهم جميعاً، فلم نبعث بعدك ولا معك رسلاً إلى الأقوام الآخرين وإلى غير العرب، بل بعثناك للجميع: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} [الفرقان:51] فهذا وجه التمنن، أنه لو بعث في كل قرية نذيراً لما حصل لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا أجر إنذاره لأهل قريته، مكة، أو للعرب لكنه بعثه للجميع.
وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: [إن الله فضل محمداً صلى الله عليه وسلم على الأنبياء وعلى أهل السماء، فقالوا: يا بن عباس بم فضله على أهل السماء؟ قال: إن الله قال لأهل السماء: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:29]، وقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2] قالوا: يا بن عباس فما فضله على الأنبياء؟ قال: قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28]-فأرسله إلى الجن والإنس-].(183/5)
النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين
من خصائصه عليه الصلاة والسلام أن الله ختم به الأنبياء والمرسلين، فلا نبي بعده فهو آخر نبي، وأكمل به الدين، وأنه صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، فمن ادعى الرسالة بعده فهو كذاب أفاك دجال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] فإذا جاء غلام أحمد القادياني وقال: أنا نبي، وإذا جاء بهاء الله، زعيم البهائية وقال: أنا نبي، وإذا جاء أي واحد دجال كذاب في هذا الزمان أو في غيره وقال: أنا نبي، فنقول: أنت كذاب لأن الله قال: ((وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] فليس بعده نبي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وجمله إلا موضع لبنة) القطعة من الطين التي تعجن وتعد للبناء، ويقال لها إن لم تحرق لبنةً، وإذا أحرقت صارت آجرة، الآجر: هو اللبن المحروق، (إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به- بهذا البيت- ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة) ما بقي لإكمال البناء إلا هذه اللبنة، لو جاءت هذه اللبنة كان ما أحسن هذا البيت، فالبيت كامل كله إلا أن اللبنة تنقصه (قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين) رواه البخاري رحمه الله.
ولذلك يوم القيامة لما يفزع الناس إلى الأنبياء، آخر واحد عيسى عليه السلام فيردهم إلى محمد عليه الصلاة والسلام، فيأتي الناس إلى محمد، يقولون: يا محمد! أنت رسول الله وخاتم النبيين، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (فضلت على الأنبياء بست- ومنها- وخُتم بي النبيون)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي، فشق ذلك على الناس، قال: ولكن المبشرات) يعني: بقي المبشرات، صحيح أن النبوة انتهت الآن فلا يأتي نبي، لكن بقي المبشرات (قالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: رؤيا الرجل المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وهو في صحيح الجامع.
وهذا يدل على أن الرؤيا الصالحة الباقية التي قد يكون فيها إنذار من شيء خطير أو تبشير ببشرى لمؤمن يراها أو ترى له حق، حيث أن النبوة فيها وحي وإخبار عن الغيب، واشتركت الرؤيا مع النبوة في مسألة الإشعار بشيء قد يحدث في المستقبل، ولذلك كانت الرؤيا جزءاً من النبوة، وإلا فهناك فرق كبير بين الرؤيا والنبوة لا شك في هذا، ولكن لماذا كانت الرؤيا جزءاً من النبوة؟ ما هو وجه الاشتراك بين الرؤيا والنبوة؟ في النبوة إخبار عن المغيبات والأشياء المستقبلية، وكذلك البشارات والإنذارات، وقد يكون في بعض الرؤى الصالحة التي يراها المؤمن أو ترى له إنذار من شيء سيحدث، أو بشارة لشخص، فلذلك كانت جزءاً من النبوة، والنبي صلى الله عليه وسلم من أسمائه التي أخبر عنها، قال: (وأنا العاقب -والعاقب: فسره، قال:- الذي ليس بعده أحد) رواه البخاري، فليس بعده نبي، وقال صلى الله عليه وسلم: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي وسيكون بعدي خلفاء) رواه البخاري.
والنبي صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة إلى العالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] وهو عليه الصلاة والسلام بالمؤمنين رءوف رحيم.(183/6)
النبي صلى الله عليه وسلم أمنة لأصحابه
من خصائصه عليه الصلاة والسلام: أنه أمنة لأصحابه، أمنة: أمان لأصحابه، أكرمه الله تعالى، وأكرم أصحابه بأن جعل وجوده بينهم أماناً لهم من العذاب، بخلاف الأمم السابقة، فقوم نوح ماذا حصل لهم؟ عذبوا في حياة نبيهم وأهلكوا، وقوم هود عذبوا في حياة نبيهم وأهلكوا، وقوم صالح عذبوا في حياة نبيهم وأهلكوا، وقوم شعيب عذبوا في حياة نبيهم وأهلكوا، أما النبي عليه الصلاة والسلام من خصائصه أن وجوده عليه الصلاة والسلام في أمته أمان لهم من الفناء والعذاب، فلا يأتي عذاب عام فيهلكهم، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] مع أنهم يستحقون العذاب، فهم كفرة مشركون، كفار قريش متجبرون طغاة، ومع ذلك قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام رفع رأسه مرة إلى السماء بعدما صلى بالقوم المغرب، جلس وسألهم ما الذي أجلسهم، قال: ما زلتم هاهنا، قالوا: يا رسول الله! صلينا معك المغرب، ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء -ينتظرون الصلاة بعد الصلاة رباط في سبيل الله- قال: أحسنتم أو أصبتم، فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء، وهذا في غير الصلاة، فقال: (النجوم أمنة للسماء) فما دامت النجوم باقية فالسماوات باقية، يوم القيامة إذا النجوم انكدرت وتناثرت فاعلم أن السماء ستتشقق وستذهب، وتنفطر وتزول، فإذا كانت النجوم موجودة فالسماء بخير وموجودة، فإذا انكدرت النجوم وتناثرت، فاعلم أن السماء ستذهب (وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي -من البدع- فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون -من التفرق وانفتاح باب البدعة-) رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه.(183/7)
لم يقسم الله بنبي غيره صلى الله عليه وسلم
من خصائصه عليه الصلاة والسلام: أن الله أقسم به ولم يقسم بنبي غيره، فقال عز وجل: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] فأقسم الله بالنبي عليه الصلاة والسلام في قوله لعمرك، ومعنى لعمر: قسم بحياته عليه الصلاة والسلام، يقسم بعمره وحياته وبقائه، فكأنه يقول: وحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا، {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72].(183/8)
إقسام الله بحياة النبي صلى الله عليه وسلم
من خصائصه عليه الصلاة والسلام: أن الله أقسم بحياته والله يقسم بما يشاء من خلقه، ولكن المخلوقين لا يجوز أن يقسموا إلا بالخالق، ومن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك، فالإقسام بحياته عليه الصلاة والسلام يدل على شرف حياته وعزتها، ونفاستها ومنزلتها عند المقسم بها وهو الله تعالى.(183/9)
مخاطبة الله له بالنبوة والرسالة لا باسمه صلى الله عليه وسلم
ثم لاحظ أيضاً من الخصائص النبوية: أن الله تعالى خاطب الأنبياء بأسمائهم، ولم يخاطب نبينا عليه الصلاة والسلام باسمه، يناديهم بأسمائهم، فقال: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35] {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} [هود:48] {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف:144] {يا إبراهيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات:104 - 105] {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} [المائدة:110] في آيات كثيرة، وأما نبينا عليه الصلاة والسلام فلم يناده ربه ولا مرة: (يا محمد!) لكنه ناداه وخاطبه بالنبوة والرسالة، فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ} [المائدة:41]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] فزيادة في التشريف والتكريم له خاطبه بالنبوة والرسالة، وبقية الأنبياء خاطبهم بأسمائهم، ولا يخفى على أحد أن السيد إذا دعا أحد عبيده بأفضل ما وجد من الأوصاف العلية والأخلاق السمية، ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام، فإن الذين دعوا بالوصف أعلى منزلة من الذين دعوا بالاسم، فلو قال مثلاً وهو يخاطب أحد عبيده: يا أيها الأمين، يا أيها الذكي، يا أيها الخبير، غير ما يقول مثلاً: يا مرجان، يا فلان، فإذاًَ الله سبحانه وتعالى خاطبه بمقام الرسالة، وخاطبه بمقام النبوة، ولما ذكر اسمه في القرآن قرنه بذلك: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} [محمد:2] {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} [آل عمران:144] فهو ليس نداءً وخطاباً، وإنما لما ذكر اسمه قرنه بالنبوة والرسالة.
ثم من أمر الأمة لتوقيره عليه الصلاة والسلام: أن الله نهى المؤمنين أن يخاطبوه باسمه، قال سبحانه وتعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور:63] بينما بنو إسرائيل: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138] {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة:112] لكن الصحابة لا يمكن أن ينادوا النبي عليه الصلاة والسلام باسمه، إنما يقولون: يا رسول الله! يا نبي الله!(183/10)
النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم
وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قد أوتي جوامع الكلم، وتضمن كلامه الحكم البالغة، والمعاني العظيمة في الألفاظ القليلة، والعبارات اليسيرة، ولذلك عندما يقول العلماء مثلاً: (إنما الأعمال بالنيات) (ودع ما يريبك إلى مالا يريبك) يقول: هذه ربع العلم، هذه ثلث العلم، هذه عبارات جامعة، (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن) عبارات جامعة، فصاحة لا توازى، وبلاغة لا تبارى.(183/11)
النبي صلى الله عليه وسلم نُصَِر بالرعب
ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام: أنه نصر بالرعب وهو: الفزع والخوف يلقيه الله في قلوب أعدائه والنبي عليه الصلاة والسلام متجه إليهم، أو ينوي أن يتوجه إليهم، فيخافونه وهو على بعد شهر، وعلى بعد شهر يلقى الرعب في قلوبهم، فلا يملكون لأنفسهم استعداداً أو منعة منه، وإنما تنحل عزائمهم، وينفرط أمرهم، ويخافون غاية الخوف، فقال عليه الصلاة والسلام: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر الحديث) رواه البخاري رحمه الله.(183/12)
النبي صلى الله عليه وسلم أعطي مفاتيح خزائن الأرض
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم أعطاه الله مفاتيح خزائن الأرض، فقال عليه الصلاة والسلام في خصائصه: (أوتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي) وليست كل البلدان فتحت في وقته عليه الصلاة والسلام، لكن بعد وفاته عليه الصلاة والسلام أكمل المشوار وأكمل الطريق وأكمل الاستيلاء على الخزائن أصحابه، ولذلك قال أبو هريرة بعدما ذكر الحديث، قال: (وقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تمتثلونها -يعني: تستخرجونها-) رواه البخاري.
وقال عليه الصلاة والسلام: (وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض) والكنز الأحمر: الذهب، والأبيض: الفضة، لأن أكثر مال الروم كان فضة، وأكثر مال الفرس كان ذهباً، فقال لهم: إن بلاد الفرس والروم ستسقط.(183/13)
النبي صلى الله عليه وسلم غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
وهو عليه الصلاة والسلام الوحيد الذي أخبر بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كل الأنبياء يوم القيامة يقولون: نفسي نفسي، كل واحد يذكر ذنباً؛ آدم يذكر خطيئته، ونوح يذكر دعوته على قومه، وموسى يقول: قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، وإبراهيم يقول: كذبت ثلاث كذبات، أما النبي عليه الصلاة والسلام فلا يقول شيئاً لأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2] ولم ينقل أن الله أخبر أحداً من أنبيائه بمثل ذلك، بل ظاهر قولهم في الحديث: نفسي نفسي، أنهم ليس عندهم مثلما للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:2 - 3] فالناس يوم القيامة يذهبون إليه عليه الصلاة والسلام، يقولون: (يا محمد! أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر) لماذا؟ لأن عيسى بن مريم لما حولهم قال لهم: (لست مناكم ولكن اذهبوا إلى محمد فهو عبد قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) والحديث في البخاري.(183/14)
حفظ الكتاب الذي أنزل عليه صلى الله عليه وسلم
ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام وهي خصيصة مهمة جداً جداً، متعلقة بنا نحن اليوم: أن كتابه محفوظ فقد أعطى الله كل نبي من الأنبياء من الآيات والمعجزات حجة له على قومه وبرهاناً على صحة ما جاء به، وأنه نبي، وكان معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم الكبرى هي القرآن الكريم، فمن خصائصه عليه الصلاة والسلام أن معجزته باقية، وأما معجزات الأنبياء كلها قد تصرمت وانقرضت وبقيت معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم، حتى التوراة والإنجيل تحرفت وتغيرت وتبدلت، أما كتاب هذه الأمة، قال الله فيه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41 - 42]، قال عليه الصلاة والسلام: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر) أعطي معجزات من أجل أن يؤمن البشر حتى لا يقولوا: وما أدرانا أنك نبي، أثبت لنا أنك نبي، فيقول: هذه ناقة الله لكم آية، ويقول هود: فكيدوني جميعاً، كيدوني ولن تستطيعوا أن تفعلوا لي شيئاً، وهذا موسى ألقى العصا وأخرج يده بيضاء، وهذا عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ويخبرهم بما يدخرون في بيوتهم، يقول: في بيتك رز، في بيتك عدس، في بيتك سكر، في بيتك كذا، يخبرهم بما يدخرون في بيوتهم، ونبينا عليه الصلاة والسلام له معجزات، أهم معجزة: هي القرآن الكريم، معجزة باقية لا تغيير ولا تبديل فيها.
وهذه قصة عجيبة: قال يحيى بن أكثم: دخل يهودي على الخليفة المأمون فتكلم فأحسن الكلام، فدعاه المأمون إلى الإسلام، فأبى اليهودي، فلما كان بعد سنة جاءنا مسلماً، فتكلم في الفقه فأحسن الكلام، فقال له المأمون: ما كان سبب إسلامك؟ قال: انصرفت من حضرتك -أنا لما خرجت من عندك- قبل سنة وأحببت أن أمتحن هذه الأديان، فعمدت إلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني -راجت واشتروها آل يهود، اشتروها بسرعة- وعمدت إلى الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني -راجت ونفقت مع أنها محرفة، هو بنفسه حرفها- وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت وأدخلتها على الوراقين فتصفحوها فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها ولم يشتروها، فعلمت أن هذا الكتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي، قال يحيى بن أكثم: فحججت تلك السنة فلقيت سفيان بن عيينة في الحج، فذكرت له القصة، فقال لي: مصداق هذا في كتاب الله تعالى، قلت: في أي موضع، قال: في قوله تعالى في التوراة والإنجيل: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة:44] فجعل حفظه إليهم -إلى الأحبار والرهبان- فضاع، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فجعل حفظه إليه: فحفظه الله تعالى علينا فلم يضع.(183/15)
الإسراء والمعراج
من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم: الإسراء والمعراج، وتحضير الأنبياء له في السماوات يستقبلونه، وأنه عليه الصلاة والسلام أَمَّهم جميعاً فكانوا وراءه، هو الإمام وهم المأمومون، والدليل على ذلك ما جاء في حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيتني في حجر-بعد ما رجع في حجر- وقريش تسألني عن مسراي فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها) -يعني: أنا لما كنت في بيت المقدس ما حفظت التفاصيل سألوني عنها بعدما رجعت- (فكربت كربة ما كربت مثلها، قال: فرفعه الله لي أنظر إليه) -أنقذ الله نبيه ورفع له بيت المقدس أمامه وهو في مكة، أمامه ينظر إليه وعن أي شيء يسألونه يعطيهم التفاصيل، فهو يراه وهم لا يرونه، وهم يسألونه وهو يجيب من الواقع حياً على الهواء- (ما يسألوني شيئاً إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي فوصفه ثم قال: فحانت الصلاة فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة قال قائل: يا محمد! هذا مالك صاحب النار -فسلم عليه- فالتفت إليه فبدأني بالسلام) رواه مسلم رحمه الله.(183/16)
خصائصه صلى الله عليه وسلم في الآخرة(183/17)
النبي صلى الله عليه وسلم له الوسيلة والفضيلة
من خصائص نبينا عليه الصلاة والسلام: أن له الوسيلة والفضيلة، فالوسيلة الراجح أنها هي منزل النبي عليه الصلاة والسلام في الجنة، وهي داره، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش، قمة الجنة هي الوسيلة، درجة في الجنة لا ينالها إلا واحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها غيره، من قال حين يسمع النداء: (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة) رواه البخاري، وفي حديث آخر قال: (ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة) رواه مسلم، وفي رواية لـ أحمد وهي في صحيح الجامع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة، فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة).
الوسيلة حاصلة للنبي عليه الصلاة والسلام فنحن لماذا ندعو؟ نحن ندعو أن يؤتيه الله الوسيلة حتى نستفيد نحن وننال الشفاعة؛ لأن من سأل له الوسيلة حلت له الشفاعة، فإذا أردت يا عبد الله! أن تنال شفاعة رسول الله فسل الله الوسيلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك نحن نقول هذا الذكر من الأذكار بعد الأذان: (آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً) وهذه من خصائصه عليه الصلاة والسلام الأخرى: المقام المحمود.(183/18)
النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب المقام المحمود
والمقام المحمود: الشفاعة: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79] قال ابن جرير الطبري رحمه الله: أكثر أهل العلم على أن ذلك هو المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم، لأن الناس يكربون يوم القيامة كربة عظيمة حتى يتمنى الكفار الانفكاك من الموقف ولو إلى النار، ولأن الشمس دنت من رءوس العباد فصهروا في عرقهم، وهم قيام على أرجلهم، وخمسون ألف سنة، فيتمنون الفكاك ولو إلى النار، والناس يفزعون يريدون الفكاك، يطوفون على الأنبياء واحداً واحداً لينفرج الموقف ولتنفك الأزمة، كل يحولهم، حتى يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقوم ويستأذن على ربه ويدخل عليه ويسجد تحت العرش السجدة الطويلة التي يفتح الله عليه فيها بمحامد وأدعية لا نعرفها، ثم يقول: (يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع)، فيعطى الشفاعة في أهل الموقف، فيبدأ الحساب وتنفك أزمة الموقف، ثم تبدأ قضية أخرى وهي قضية الحساب، ويقضي الله تعالى بين الخلق، ويأتي الله تعالى بكرسيه لفصل القضاء بين الخلق، والناس جثي، كل أمة جاثية، كل أمة تتبع نبيها، فهذا المقام المحمود يحمده عليه كل الخلق لأنه سبب فك الأزمة وانفضاض الناس من الموقف للحساب، وله عليه الصلاة والسلام في هذا الموطن شفاعات متعددة: شفاعة في استفتاح باب الجنة، وشفاعة في تقديم من لا حساب عليه لدخول الجنة، وشفاعة في ناس من الموحدين عندهم معاصٍ وذنوب، استحقوا دخول النار ألا يدخلوها، وشفاعة في ناس موحدين دخلوا النار أن يخرجوا منها، وشفاعة في رفع درجات ناس في الجنة، وشفاعة في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب.
فالنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يستفتح باب الجنة فيشفع لهم عند الله تبارك وتعالى، فيدخل ويدخلون وراءه، والنبي صلى الله عليه وسلم الذي يشفع لمن لا حساب عليه من أمته كما جاء في الحديث بعد ما ينادي: يا رب! يا رب! أمتي يا رب! فيقول: (يا محمد! أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب) رواه البخاري.
ثم إن له في عمه أبي طالب موقفاً، تكريماً للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاء العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم أخو أبي طالب، فـ العباس أسلم وكان قلقاً على مصير أخيه أبي طالب، فقال: (يا رسول الله! هل نفعت أبا طالب بشيء؟) أبو طالب مات كافراً وسيدخل النار قطعاً، فحق وعيد (هل نفعت أبا طالب بشيء؟ فإنه كان يحوطك ويغضب لك-كان يصونك ويحافظ عليك، ويذب عنك وينافح- قال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم نفعته، هو في ضحضاح من نار-ضحضاح: ما رق من الماء على وجه الأرض فاستعير في النار، فقال: هو في ضحضاح من نار- ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) رواه مسلم، وفي رواية: أن العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (يا رسول الله! إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعه ذلك؟ قال: نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح) ومعنى الغمرات: المعظم من الشيء الكبير، لكن هذا الضحضاح ليس بنعيم إطلاقاً، فإن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه، قال أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وذُكِر عنده عمه أبو طالب، فقال: (لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه أم دماغه) رواه البخاري، (أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه) رواه مسلم.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذنا من النار، وأن يقينا عذاب النار.
وللنبي عليه الصلاة والسلام دعوة مستجابة خبأها لأمته من كمال شفقته عليهم، ورأفته بهم، واعتنائه بمصالحهم، وقيل: الدعوة هذه هي الشفاعة المعطاة للنبي صلى الله عليه وسلم.(183/19)
خصائصه في أمته صلى الله عليه وسلم
لقد كانت للنبي عليه الصلاة والسلام خصائص في أمته، فجعلت أمته خير الأمم، وأحلت الغنائم لهم، وكانت الغنائم من قبل تأتي النار من السماء فتأكلها، وجعلت الأرض لهم مسجداً وطهوراً، ووضع عنهم الآصار والأغلال، وهداهم الله إلى يوم الجمعة، وتجاوز له عن أمته الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وحفظهم من الهلاك والاستئصال، فلا يمكن أن ينزل بأمة محمد صلى الله عليه وسلم عذاب يفنيهم تماماً، ولا يمكن أن يُسلط عليهم عدو يستبيح بيضتهم كلهم إطلاقاً، ولا تجتمع أمته على ضلالة، وهم شهداء الله في أرضه، وشهداء للأنبياء يوم القيامة، وصفوفهم كصفوف الملائكة في الصلاة، وهم غر محجلون يوم القيامة؛ بياض في جباههم ومواضع الوضوء منهم، وأول من يجتاز على الصراط أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو أمامهم، وأول أمة تدخل الجنة وهو أولهم، وأن عملهم قليل وأجرهم كثير؛ فأعمارنا بالنسبة لأعمار بقية الأمم أقل، ولكن من يدخل الجنة من هذه الأمة أكثر، ثلثا أهل الجنة من هذه الأمة.(183/20)
خصائصه صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور والأحكام
لقد كان للنبي عليه الصلاة والسلام خصائص في بعض الأحكام، فمثلاً:(183/21)
لا يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أخذ شيء من الزكاة أو الصدقة
لا يجوز له أن يأخذ من الزكاة ولا من الصدقة؛ لأن هذه أوساخ الناس، ولا تليق بالنبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك لما رأى في يد الحسن تمرة من تمر الصدقة قال له: (كخ كخ أما علمت أنا لا نأكل الصدقة) وكان يأكل الهدية عليه الصلاة والسلام.(183/22)
يحرم عليه صلى الله عليه وسلم إمساك أي امرأة لا تريده
ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام: أنه يحرم عليه إمساك أي امرأة لا تريده، إذا أرادت أي امرأة فراقه يجب عليه أن يمكنها من الفراق، بينما بقية الرجال لا يلزم أحدهم إذا كرهته زوجته أن يطلقها، لكن النبي عليه الصلاة والسلام ملزم، ولذلك جاء في صحيح البخاري أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (إن ابنت الجوني -هذه بنت من ملوك العرب كانت جميلة جداً جداً- خطبها النبي عليه الصلاة والسلام وتزوجها ولما أدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها، قالت: أعوذ بالله منك) المرأة نفرت ثم ندمت ندماً لا يوصف، لكن هذا الذي حصل، فأول ما دخل عليها قالت: (أعوذ بالله منك، فقال لها: لقد عذتِ بعظيم الحقي بأهلك) رواه البخاري.
فحرِّم عليه نكاح كل امرأة كرهت صحبته، ولاشك أن المرأة هذه ليست بمستوى أن تكون من أمهات المؤمنين، ولذلك ما أكملت الطريق وأخرجت من الحسبة.(183/23)
لا يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم التراجع عن قرار الحرب
والنبي عليه الصلاة والسلام إذا لبس لباس الحرب لا يمكن أن يخلعه ولا يمكن أن يتراجع في قرار الحرب، إذا اتخذ قرار الحرب ولبس اللأمة لابد من إكمال المشوار.(183/24)
ليس للنبي صلى الله عليه وسلم خائنة الأعين
إن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له خائنة الأعين، بمعنى أنه لا يجوز له ولا يليق بمقامه أن يشير بعينه إشارة خفية ولو إلى شيء مباح، مثل قتل شخص مهدور الدم، ولذلك لما أهدر النبي عليه الصلاة والسلام دم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، لأنه كان ممن أنشد الشعر في سب النبي عليه الصلاة والسلام، فأي واحد سب النبي عليه الصلاة والسلام يقتل مباشرة، وقد أهدر النبي عليه الصلاة والسلام دم نفر من المشركين يوم فتح مكة، ومن الناس الذين أهدر دمهم: عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عبد الله بن سعد بن أبي سرح توجه إلى عثمان أخيه من الرضاعة واختفى عنده، فلما دعا النبي عليه الصلاة والسلام الناس إلى البيعة جاء عثمان بـ ابن أبي سرح حتى أوقفه عند النبي عليه الصلاة والسلام، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاث مرات، ابن أبي سرح يطلب البيعة والنبي عليه الصلاة والسلام يأبى، ابن أبي السرح يطلب البيعة والنبي عليه الصلاة والسلام يأبى، ثم بعد الثلاث بايعه، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله) أليس فيكم واحد فهمها وقام وقتله؛ لأن هذا حكمه القتل، أي شخص يسب النبي عليه الصلاة والسلام يقتل مباشرة (فقالوا: ما ندري يا رسول الله! ما في نفسك -ما أدرانا أن هذه رغبتك- ألا أومأت إلينا بعينك -يعني: إشارة ونحن نقضي عليه- قال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين) رواه أبو داود وغيره، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في التلخيص: إسناده صالح.(183/25)
النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف القراءة ولا الكتابة ولا يقول الشعر
من خصائصه عليه الصلاة والسلام: أنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة إطلاقاً، كما أن الله سبحانه وتعالى وصفه بقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت:48] لا قراءة ولا كتابة، لماذا؟ {إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] لو أنك قارئ وكاتب لقالوا: هذا القرآن من الثقافات التي اطلع عليها وقرأها وتعلمها من الكتب، ثم جاء وكتب لنا هذا القرآن، فقال: أنت معروف من أول أمرك، لا قراءة ولا كتابة، فأنت أمي؛ لأن هذا يكون أبلغ، حتى القرآن لا يمكن لأحد أن يقول: تعلمه من غيره، وأنه كان يقرأ كتب ثقافات، فهو لا يعرف القراءة أصلاً، لا يوجد إلا مصدر واحد هو: الوحي، من أين تجيئه هذه الأخبار؟ أخبار السابقين بهذه التفصيلات، لا يعرف يقرأ ولا يكتب، فهذه ليست منقصة بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام، بل بالعكس هي في حقه كمال، فلو كان يعرف القراءة والكتابة، كان فتح باباً كبيراً للافتراء عليه.
وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام لا يقول الشعر: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] فهو لم يكن عالماً لا بصنوفه ولا بأنواعه، ولذلك لما أراد أن يستشهد ببيت كَسَّره وقدَّم وأخر، ولما قال شيئاً قال رجزاً يسيراً، وشعراً غير مقصود، وشيئاً أتى وجرى على اللسان من غير قصد، مثل قوله:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
هذا من بحور الشعر وليس من القصائد، وإذا جاء ببيت أو بيتين من أبيات غيره كسرها وكسر الوزن: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69].(183/26)
للنبي صلى الله عليه وسلم الوصال في الصيام
النبي عليه الصلاة والسلام أبيح له الوصال في الصيام، يوالي الصيام ونحن لا نوالي، هذه من خصائصه، يختلف عنا فيها.(183/27)
للنبي صلى الله عليه وسلم التزوج بدون ولي ولا شهود
يتزوج عليه الصلاة والسلام من غير ولي ولا شهود، كما حصل أن الله سبحانه وتعالى زوجه زينب بنت جحش من غير ولي ولا شهود، نزل العقد من السماء، كانت زينب رضي الله عنها تفخر على أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، تقول: [زوجكن أهليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات] رواه البخاري.(183/28)
للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع أكثر من أربع نسوة
يجوز للنبي عليه الصلاة والسلام أن يجمع أكثر من أربع نسوة ونحن لا يجوز لنا أن نزيد على أربع، وفي ذلك فوائد كثيرة، منها: أن يكثر من يشاهد أحواله الباطنة، فعنده نساء متعددات وتتشرف قبائل العرب بمصاهرته ويزيد ذلك في تأليفهم، وتكثر عشيرته من جهة نسائه فيزداد أعوانه ويحاربون معه وينصرون الدين، وكذلك نقل الأحكام الشرعية من جهة عدد أكبر من النساء، لأن بعض الأشياء لا يطلع عليها إلا الزوجات، كبعض الأشياء الداخلية في البيوت، وصار عندنا عدد من أمهات المؤمنين، كذلك ألف الله قلوب أعدائه من بعض هذه الزواجات: أم حبيبة أبوها كان من أعدائه، وصفية ألف الله قلبها على الإسلام، وهكذا حصلت من البركة في زواجه عليه الصلاة والسلام.(183/29)
أحل للنبي صلى الله عليه وسلم القتال في مكة ساعة من نهار
أحل له القتال في مكة ساعة من نهار فقط، ولم يحل لأحد آخر غيره، ولا يجوز القتال في مكة إطلاقاً، إلا النبي عليه الصلاة والسلام أحلت له ساعة كسر بها الشرك ودمر بها الأوثان والأصنام.
وعصمه الله سبحانه وتعالى، فلا يقول الباطل وكل من استهان به عليه الصلاة والسلام أو سبه فإنه يكفر مباشرة وعقوبته القتل، ومن الأحكام التي قد يستغربها بعض الناس، لكن هذا هو الراجح: أن الذي يسب النبي عليه الصلاة والسلام يقتل ولو تاب، بينما الذي يسب الله تعالى إذا تاب انتهى، يعفى عنه لماذا؟ لأن الله غفور رحيم، والله سبحانه وتعالى بيَّن أن من أخطأ في حقه تعالى ثم تاب فإنه يغفر له، لكن الذي يسب النبي عليه الصلاة والسلام جاءت النصوص بقتله، فعرفنا الآن أن هناك حداً شرعياً في كل من يسب النبي عليه الصلاة والسلام وهو القتل، من الذي يملك إسقاط الحد هذا؟ هو عليه الصلاة والسلام، إذا تنازل سقط الحد، أما إذا لم يتنازل فيقام الحد، فلو أن واحداً جاء وسب النبي عليه الصلاة والسلام في حياته عليه الصلاة والسلام، مثل ابن أبي سرح فإن النبي عليه الصلاة والسلام سكت عن حقه وبايعه، فـ ابن أبي سرح تُرك، أما غيره كثير قد قتلوا، أرسل لهم من يغتالهم في بيوتهم، وعلى فرشهم، وبين زوجاتهم، وخارج حصونهم، والأعمى في المدينة كانت له أمة تخدمه وتحوطه وترعاه لكنها كانت تسب النبي عليه الصلاة والسلام فقتلها هذا الأعمى، وأهدر النبي عليه الصلاة والسلام دمها، والآن بعد ممات النبي عليه الصلاة والسلام لو جاء واحد وسب النبي عليه الصلاة والسلام يترتب عليه أمران: أولاً: انتهاك حق الله تعالى؛ لأنه عصى الله، وهذا معروف، وهذا يمكن أن يستدرك بالتوبة.
ثانياً: انتهاك حرمة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا حده القتل، إلا إذا تنازل النبي عليه الصلاة والسلام، وبما أنه قد مات عليه الصلاة والسلام فلابد من إقامة الحد، فالذي يسب النبي عليه الصلاة والسلام ويتوب فإن توبته تنفع عند الله، لكن لابد من قتله، هذا هو الراجح في مسألة سابِّ النبي عليه الصلاة والسلام، دمه مهدور مباشرة، ويرفع أمره إلى الحاكم الشرعي ليطبق حد الله فيه، يشهد عليه ويرفع أمره، أي واحد يسب النبي عليه الصلاة والسلام يشهد عليه ويرفع أمره ويبت في قتله.(183/30)
النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى من خلفه وهو يصلي
ثم إنه عليه الصلاة والسلام من خصائصه: أنه كان يرى من خلفه في الصلاة مع أن وجهه إلى القبلة لكنه يرى الصفوف التي خلفه، ويرى لو أن واحداً متقدم أو متأخر، ولما غشي على أسماء في قصة الكسوف وقامت وأكملت صلاتها بدون وضوء، والعلماء صححوا صلاة من غشي عليه وقام، والغشيان غير الإغماء، فهو درجة أخف، من غشي عليه وقام وأكمل الصلاة صححوا صلاته، بأي شيء؟ لأن أسماء كانت وراء النبي عليه الصلاة والسلام وكان يشاهد من خلفه، وقامت أسماء وأكملت بعد الغشيان من غير وضوء وما أنكر عليها عليه الصلاة والسلام، معناها أن صلاة المغشي عليه إذا غشي عليه وقام صحيحة.
وذلك لأنه ليس نوماً وإنما هو دوخة خفيفة يمكن أن نسميها هكذا.(183/31)
النبي صلى الله عليه وسلم لا يورِّث، وأزواجه لا يجوز الزواج بهن، ولا يتمثل الشيطان به في المنام
النبي عليه الصلاة والسلام لا يورث، وأي مال يتركه فهو لبيت مال المسلمين، وأزواجه لا يجوز الزواج بهن بعد موته بل هن أمهات المؤمنين، ولا يتمثل الشيطان به في المنام.(183/32)
دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على شخص تنقلب رحمة وبركة
وأخيراً: أي واحد من المسلمين سبه النبي عليه الصلاة والسلام أو شتمه أو دعا عليه فإن هذه الدعوة تنقلب في حق هذا الرجل المدعو عليه رحمة وبركة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لبعض أصحابه أشياء: تربت يمينك، لا كبر سنك، لا أشبع الله بطنه كذا كذا إلى آخره، فمرة أودع النبي عليه الصلاة والسلام عائشة أسيراً فهرب منها، مع أنها موكلة بحراسته فهرب، فلما علم عليه الصلاة والسلام، قال: (قطع الله يدك -يعني: لماذا لم تنتبهي لهذا الأسير- فقعدت عائشة تنتظر، قال: ما بالك؟ قالت: دعوت علي أن تنقطع يدي، قال: أما علمتِ المسألة التي سألتها ربي أو كما قال عليه الصلاة والسلام قلت: اللهم إني أتخذ عندك عهداً لن تخلفنيه، فإنما أنا بشر -يعني: أغضب كما يغضب البشر- فأي المؤمنين آذيته -شتمته، أو دعوت عليه، أوجلدته، شرط أن يكون من المؤمنين- فاجعلها له صلاةً وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ مسلم، يعني: حتى لو سب أحد المسلمين فهو في صالحه، صلى الله وسلم على نبينا محمد، فماذا بقي من شمائل هذا النبي الكريم وكل شمائله -والحمد لله- وخصائصه بركة وخير ورحمة لهذه الأمة؟!! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا شفاعته، وأن يجعلنا من أهل ملته وسنته، وأن يحيينا على سنته ويميتنا عليها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(183/33)
الأسئلة(183/34)
حكم تأخير الزكاة إلى رمضان وقد حال عليها الحول
السؤال
زكاة المال إذا حال الحول على أي مبلغ، وهو بالبنك يخرج عنه أم ماذا؟ وهل الأفضل أن يخرج في رمضان أم في أي وقت في السنة؟
الجواب
يخرج عنه، وتخرج عند حلول الحول، ومن المعاصي أن تؤخر الزكاة إلى رمضان وقد وجبت قبل رمضان، فبعض الناس من جهلهم يحول الحول عليها قبل رمضان، فيقول: أنتظر شهرين وأخرج الزكاة في رمضان أكثر ثواباً وأكثر أجراً، نقول: أكثر إثماً، هذا فيه إثم؛ فقد ظلمت الفقير وأخرت حقه، بأي شيء فعلت ذلك وأقدمت عليه فهذا ظلم، أخرجها فوراً هذا هو الأكثر أجراً، لكن لو أن زكاتك تجب في شوال فأنت أردت أن تقدمها في رمضان لماذا؟ تقول: إنني إذا أخرجتها في رمضان ألتمس الأجر الأكثر.
فأما التقديم فلا بأس به، وقد استعجل النبي صلى الله عليه وسلم من العباس زكاة سنتين، فأما تقديمها فلا بأس إنما البأس في تأخيرها.(183/35)
حكم الإسراع في المشي
السؤال
ما هو الإسراع الذي من السنة؟
الجواب
سرعة المشي التي تدل على النشاط والقوة من السنة، أما الإسراع المخل الذي يدل على طيش هذا ليس من السنة.(183/36)
حكم لبس الخاتم من الفضة
السؤال
ما حكم لبس خاتم الفضة؟
الجواب
لبس خاتم الفضة قد لبسه النبي عليه الصلاة والسلام وتزين به فلا بأس بلبسه، ولكن يكون ليس على نحو متشابه بالكفار، كما يفعل بعضهم في الدبلة، وإنما يكون خاتماً بفص أو غيره، ليس فيه شبه بما يلبسه الكفرة.(183/37)
سنن العادة لا أجر فيها
السؤال
هل يؤجر الإنسان من الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أكل لحم الكتف والدباء؟
الجواب
أكل لحم الكتف والدباء هذا ليس من سنن العبادة، ليس مجال طلب ثواب في الاقتفاء والاقتداء؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحبه حباً طبعياً، بطبيعتة كان يحب لحم الكتف والدباء، وليس مشروعاً لنا ومستحباً بحيث أننا نعتبره سنة مثل سنن النوافل ومثل السنن الأخرى، مثلاً: دخول الخلاء بالشمال، ودخول المسجد باليمنى، والانتعال باليمين، هذه سنة تؤجر عليها، ولو بدأت باليمنى وبدأت الخلع بالشمال، لكن أكل الدباء وأكل لحم الكتف فالنبي عليه الصلاة والسلام أحبه حباً طبيعياً وليس شيئاً شرعياً وسنة وعبادة، كلا.
لكن بعض الصحابة بلغوا من شدة محبتهم للنبي عليه الصلاة والسلام أنهم صاروا حتى في الأشياء الطبيعية يهوون ما كان يهوى، مثل أنس بن مالك لما كان يتتبع الدباء؛ وذلك لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء فكان يحب الدباء من يومئذ.(183/38)
حكم توزيع لحم العقيقة
السؤال
العقيقة ماذا إذا ذبحت ووزعت؟
الجواب
لا بأس، ولا يلزم طبخها ولا إعدادها للأكل للناس، لكن إذا طبخها للفقير وكفاه مؤنة الطبخ فهو أحسن، وإذا ظن المصلحة أن يوزعها لحماً فلا بأس.(183/39)
حكم زكاة إيراد المنزل المؤجر
السؤال
بنى والدي منزلاً بقصد السكن فيه وبالفعل سكن فيه لعدة أشهر، ولظرف ما تركه وانتقل إلى مدينة أخرى فقام بتأجيره وما زال مؤجراً، هل تجب الزكاة في إيراد المنزل؟
الجواب
نعم إذا حال عليها الحول، لكن من كان يأخذ الإيجارات ويصرفها مباشرة فليس عليه زكاة، من كان يأخذ الراتب ويصرفه أولاً بأول فليس عليه زكاة؛ لأنه لا يوجد عنده نصاب حال عليه الحول.(183/40)
حكم من تجاوز مكة محرماً لغرض ما
السؤال
ما حكم من تجاوز مكة محرماً دون الدخول إليها بقصد إيصال الأطفال إلى منزل جدهم في جدة والعودة لأداء العمرة؟
الجواب
لا بأس ما دام أنه ما قصد العمرة، الآن هو يريد أن يرجع فعليه أن يحرم ثم يذهب إلى العمرة، أما الآن دخوله ليس للعمرة بل دخوله لتوصيل الأطفال، فلا بأس بذلك، هذا دخوله لتوصيل الأطفال وليس نيته العمرة، فيرجع يحرم من الميقات ويدخل يعتمر.(183/41)
حكم من علق طلاقه على امرأته بفعلها لشيء معين
السؤال
رجل حلف يمين طلاق على امرأته إذا خرجت من باب معين، وبعد ذلك سمح لها بالخروج، فما هو الحكم؟
الجواب
إذا كان نيته الطلاق فخرجت فهي طالق بمعنى الطلاق المعروف، فهذا تطلق زوجته إذا خرجت من هذا الباب، إلا إذا كان قصده أنها طالق إذا خرجت بغير إذنه، فهذه إذا خرجت بإذنه لا تكون طالقاً، لكنه لو أنه ما نوى ألا تخرج بإذنه أو بدون إذنه، لا تخرج إطلاقاً من هذا الباب وحلف بالطلاق قاصداً الطلاق، ليس لها حل ولا مخرج إلا الطلاق، كلمة قالها ويتحمل مسئوليتها لابد، وإذا قال لها حسب نص السؤال، حلف يمين طلاق، وقال: أنت طالق لو خرجت من هذا الباب فقد تكون طلقة واحدة يسترجعها بغير لفظ، أو فعل يدل على الرجوع، يقول: راجعتك ويشهد اثنين من المسلمين.(183/42)
إعفاء اللحية من هديه وطريقته صلى الله عليه وسلم
السؤال
الوصية بإعفاء اللحية؟
الجواب
نعم.
هذه من السنن التي عملها النبي صلى الله عليه وسلم، فمن علامات محبتنا له أننا نحافظ عليها وأننا نطلقها ونعفيها اقتداء به عليه الصلاة والسلام.(183/43)
(معنى حديث: (من قام مع الإمام حتى ينصرف
السؤال
ما معنى: من قام مع الإمام حتى ينصرف؟
الجواب
يعني: حتى ينتهي من الصلاة ويسلم، إذا فعل ذلك فقد تم له الأجر وكان كقيام ليلة.(183/44)
حكم تسبيح المأموم إذا سمع آية فيها تنزيه لله
السؤال
إذا مر الإمام في صلاة التراويح بآية فيها تنزيه لله هل أسبح؟
الجواب
إذا كان الإمام يواصل القراءة فأنصت، وإذا وقف فلا بأس أن تسبح.(183/45)
نبي الله يوسف أوتي شطر الحسن
السؤال
يقال: إن نصف الجمال كان من نصيب النبي يوسف، فهل هذا صحيح؟
الجواب
هذا حديث فقد أوتي شطر الحسن، بالنبي عليه الصلاة والسلام رأى يوسف في المعراج وقد أوتي شطر الحسن عليهما السلام.(183/46)
حكم استخدام الحناء للرجال
السؤال
هل ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام حنى يديه ورجليه؟
الجواب
أما تحنية اليدين فهذا من التشبه بالنساء، فلا يمكن أن يفعل هذا من باب الزينة، لأن هذا فيه تشبه بالنساء، وقد أوتي بمخنث قد حنى يديه فنفاه عليه الصلاة والسلام، لكن تحنية الرجلين قد فعله عليه الصلاة والسلام علاجاً لما طلى قدميه من الأسفل، طلاها بالحناء علاجاً من آلام ألمت بقدميه، فاستعمل الحناء علاجاً للقدم، فهذا لا بأس به علاجاً وليس زينة.(183/47)
حكم من تجاوز الميقات دون أن يحرم
السؤال
أتينا من جهة المدينة ونحن ننوي العمرة ولكننا اجتزنا مكان الإحرام حتى وصلنا إلى مكة فدخلنا ونحن لم نلبس الإحرام، فما الحكم الشرعي في هذا؟
الجواب
إذا أحرمتم بعد ذلك فعليكم دم يلزمكم؛ لأنكم جاوزتم الميقات من غير إحرام، ولما جئتم من المدينة كان يجب عليكم أن تحرموا من ميقات أهل المدينة من ذي الحليفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة).(183/48)
حكم استعمال حبوب منع الحمل
السؤال
ما حكم استعمال حبوب منع الحمل؟
الجواب
لا ينصح به لكثرة أضراره، لكن لو لم يكن فيه ما يضر فإنه لابد فيه من رضا الزوجين، وليس لها أن تأخذه باستمرار لكن في السنتين حتى ترضع الولد الذي عندها وتكمل تربيته.(183/49)
حكم فصل الشارب عن اللحية
السؤال
ما حكم فصل الشارب عن اللحية؟
الجواب
قال به بعض أهل العلم، هذه المنطقة التي هي منطقة السبال، والسبالان: مكان التحام الشارب باللحية قال بعضهم هي من الشارب تحلق، فهذه المسألة فيها وسعة إذا أخذها أو لم يأخذها فليس عليه حرج.(183/50)
حكم زكاة العمائر المستثمرة
السؤال
هل تلزم الزكاة في قيمة العمائر المؤجرة أم في الإيجار فقط؟
الجواب
العمائر المستثمرة تكون الزكاة في الإيجار كما تقدم وليس في قيمتها.(183/51)
الأدوات المعدنية كأمواس الحلاقة كانت موجودة في عهده صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أدوات معدنية كأمواس الحلاقة؟
الجواب
نعم، ولماذا أمر بالاستحداد وأخبر أنه من سنن الفطرة، وهو: حلق شعر العانة بالموس، بالشفرة، وهذا معروف، وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام حلق رأسه أيضاً بالموس، جاء حلاق وحلق له رأسه، ولما احتجم أيضاً، والحجامة يلزم منها حلق شعر الرأس، وهذا كله بأدوات حلاقة، يعني: الآلات الحادة التي يحلق بها معروفة من القديم وليست اختراعاً جديداً.
هذان اثنان كانا يتناقشان في موضوع اللحية فقال واحد للآخر: الرسول عليه الصلاة والسلام ما كان يحلق لحيته لأنه لم يكن عنده موس! ونحن الآن عندنا أمواس! قال الثاني: أوما كان عنده سيف مثل الموس وأكبر؟!(183/52)
وصية لتائب له رفقه سوء
السؤال
إنني تائب جديد من أول رمضان، وقبل أن أتوب بفترة بحثت عن صحبة طيبة وكلما ذهبت إلى أناس يرفضوني، ومع العلم أن أصحاب السوء يلاحقوني في جميع الأوقات، فبماذا تنصحني؟
الجواب
أولاً: احمد الله أنه من عليك بالتوبة، إذا صدقت مع الله فإنك إن شاء الله مغفور لك؛ لأن (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) إذا صدقت، ومن علامات التوبة: ترك أصدقاء السوء، والذهاب إلى أماكن الخير؛ لأن الرجل قاتل المائة لما تاب أوصاه العالم أن يترك بلدته لأن أهلها أهل سوء؛ يعينون على المعاصي، ولا يخافون الله، وقال: اذهب إلى بلدة كذا وكذا فإن فيها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، فإذاً الإنسان يترك أهل السوء ويذهب لأهل الخير، وأهل الخير أين يوجدون؟ نجدهم في المساجد، هذا شيء طبيعي، هذا أول مكان تبحث فيه عنهم، كذلك في المحاضرات والدروس، تجدهم في المحاضرات والمساجد والدروس، وجميع أماكن الخير، وهكذا يمكن لك أن تتعرف بهم، ولماذا جعلت صلاة الجماعة في المسجد إلا لاجتماع المسلمين وتعرفهم على بعض، وتداخلهم معا، ً وقيام بعضهم بأمور بعض!! فانطلاقك من المسجد إن شاء الله سيكون انطلاقاً مباركاً.(183/53)
حكم تغطية المرأة رأسها أثناء قراءة القرآن
السؤال
هل يجب على المرأة تغطية رأسها أثناء قراءة القرآن؟
الجواب
كلا، لا يجب ذلك.(183/54)
حكم الدخول بعد من يصلي التراويح بنية العشاء
السؤال
دخلت في صلاة التراويح بنية العشاء فما حكم الصلاة؟
الجواب
صحيح، لا حرج في ذلك أكمل بعد الإمام.(183/55)
حكم استخدام البخاخ (علاج ضيق التنفس) للصائم
السؤال
دواء البخاخ لضيق التنفس، هل يُبطل الصيام؟
الجواب
لا يبطل الصيام كما أفتى بذلك جماعة من العلماء المعاصرين، وقالوا: إنه هواء مضغوط يذهب إلى الرئة، وأنه لابد له منه، ومتى يقضيه وهو دائماً يحتاج إليه؟(183/56)
حكم الأكل والشرب عند أذان الفجر
السؤال
ما حكم الأكل والشرب عند أذان الفجر؟
الجواب
الأكل والشرب عند أذان الفجر ينبغي الابتعاد عنه حتى لا يكون مدعاة إلى إفساد الصوم والتمادي.(183/57)
رسالة إلى مستخدمي الكمبيوتر
منهج الإسلام لا يرفض التعامل مع الأجهزة والمخترعات الحديثة والاستفادة منها.
ومن هذه الأجهزة: الحاسوب، الذي دخل في العديد من المجالات، التي ورد ذكر كثير منها في ثنايا هذه المادة، بالإضافة إلى بعض الجوانب السلبية في استخدامه، وبعض الوصايا والنصائح للمؤسسات العاملة في هذا المجال.(184/1)
مشروعية استخدام الحاسوب
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة! نحييكم في هذه الليلة بتحية طيبة مباركة، وأقول لكم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهذه الرسالة سنوجهها لمستخدمي جهاز الكمبيوتر، الحاسب الآلي، أو الحاسوب، تتضمن عدداً من النقاط، ولكنها تدور على أمرين أساسين: أولهما: استخدام الجهاز في خدمة الإسلام أو المصالح في استخدام هذا الجهاز.
وثانياً: المفاسد الناشئة من استخدام هذا الجهاز، أو ذكر بعض أوجه الشر التي يستخدم فيها هذا الجهاز.
أقول أولاً: إن هذا الجهاز الذي توصل إليه البشر، ما هو إلا جزئية تدخل في قوله تعالى: {عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5] والله سبحانه وتعالى، يمتن على عباده بأن يخلق لهم من الأشياء ما ينتفعون به، ويعلمهم من الأمور ما يستخدمونه في أوجه كثيرة، ولذلك فإن المسلم الذي يفقه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يقدر مثل هذا الأجهزة المفيدة حق قدرها، ولا يمكن أن ينكر فائدتها، وبعض أصحاب المدرسة العقلانية يطعنون في أهل العلم، الذين يسيرون على منهاج الكتاب والسنة بأقوال مفادها أنهم ضد العلم والمدنية والحضارة، ولاشك أن هذا زعم باطل، ولذلك فإن الفقهاء من العلماء وغيرهم لا يمكن مطلقاً أن يصدوا أنفسهم أو الناس عن استعمال مثل هذه الأجهزة.
وأذكر مثالاً عن علامة القصيم في وقته الشيخ/ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله أول ما جاء مكبر الصوت ووضع في المسجد، بعض كبار السن لم يعجبهم ذلك، وظنوا أن في المسألة بدعة وأن استخدام مكبر الصوت حرام، لكن هذا شأن كبار السن والأشخاص الذين لا يفقهون الأمر على وجهه، أما أهل العلم الذين يسيرون على نهج السلف فلهم موقف آخر، ولذلك لما قابل الشيخ هذا الرجل اعترض على وضع مكبر الصوت، ناداه الشيخ وقال له: هات نظارتك التي تلبسها يا أيها الرجل، فأعطاه النظارة السميكة التي يلبسها، فقال: اقرأ لي هذه الورقة، فلم يستطع الرجل أن يقرأ الورقة، ثم أعطاه النظارة فلبسها فقال: اقرأ الورقة الآن، فقرأ الورقة، فقال: هذه النظارة تمكنك من قراءة الكلام الدقيق المكتوب وهذا المكبر يمكنك من سماع الصوت.
فإذاً أهل العلم والفقه لا يمكن أن يردوا الاختراعات العصرية، أو المفيدة خصوصاً مثل هذا الجهاز، لأن هذا الجهاز بحد ذاته، ليس حراماً في نفسه، ولكنه بحسب ما يستعمل فيه.(184/2)
مميزات العقل الاصطناعي
ومن الأمور التي دخل فيها هذا الجهاز، استخدامه في خدمة الشريعة، ووفر هذا الجهاز أوقاتاً، وسيوفر أوقاتاً أخرى على كثير من الباحثين الذين كانوا يمضون الساعات الطوال والشهور والسنين في جمع المعلومات، فيمكنهم الآن باستخدام هذا الجهاز أن يجمعوا المعلومات في وقت أقل بكثير مما كانوا قبل ذلك، إذا كانت بعض الفهارس التي صنعت يدوياً، ذكر بعض أهل العلم، أنه لو وصلته قبل هذا لوفرت عليه ربع عمره، أو ثلاثة أرباع عمره في قضية البحث، فكيف إذا كان البحث عبر جهاز له إمكانات ضخمة مثل جهاز الحاسوب؟ ولا شك أن البحث في هذا الجهاز أدق وأشمل لعدم إحساس الجهاز بالإحباط والتعب ومشكلات الحياة كما يحس بها المستخدم البشري، ولقدرته الهائلة على الإحاطة والاستيعاب، إذا قورنت بقدرة الإنسان المحدودة.(184/3)
مميزات العقل البشري
ولكن قبل أن نتكلم عن بعض المجالات التي يستخدم فيها أود أن أنبه أيها الإخوة إلى مسألة مهمة، وهي أن استخدام الجهاز لا يمكن أن يلغي عقل الإنسان مطلقاً، وستبقى هناك كثير من الأشياء لا يمكن حسابها بالجهاز، مهما كان في هذا الجهاز من ميزات الذكاء الصناعي كما يقولون، ويسمونه الذكاء الاصطناعي، ستبقى هناك أشياء لا يمكن حلها إلا باستخدام الإنسان، أو بالعقل البشري، فمثلاً الكمبيوتر لا يستطيع أن يرجح المصالح والمفاسد كما يفكر الشخص، ولذلك لا يمكن أبداً أن نتخيل أن الكمبيوتر سيحل محل العالم، أو أن الكمبيوتر سيجتهد ويتوصل إلى نتائج، نعم هو يختصر خطوات في البحث، يجمع المعلومات للعالم، يوصله بسرعة إلى ما يريد، لكن أن يحل محل العالم في الاجتهاد والقدرة على النظر، فهذا محال أن يصل الجهاز مهما تطور إلى أن يكون مفتياً، بحيث يطرح أي مسألة على الجهاز فيأتينا الجواب من الجهاز، فهذا لا يمكن، سيبقى هناك مجال للعقل البشري الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل أيضاً خلق الكمبيوتر ولا شك، والدليل قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].
وأيضاً من الفوائد الأخرى أن الكمبيوتر يصاب بالفيروس، ويحدث له عارض مرضي، و (السستم داون) كما يقولون، ولكن الإنسان الذي آتاه الله سبحانه وتعالى مقدرة على التفكير والحفظ لا يمكن أن يذهب حفظه في ثانيه، ولذلك لما ضاعت كتب بعض أهل العلم، كان غلامه يحمل الكتب وفيها عشرات الآلاف من الأحاديث التي أنفق ذلك العالم وقته في كتابتها وجمعها، فذهب الغلام بها أو العبد في السفر فضاعت الدواب وعليها الكتب، فرجع إلى سيده العالم وهو في غاية الحزن والأسى والخوف أن يسمه بسوء، لأن هذه مجهودات سنين طويلة، فلما رآه بهذا المنظر قال: لا تخف، أو لا تخش فإنها كلها في صدري.
وإذا كان الكمبيوتر يخزن مئات الآلاف من الأشياء فقد كانت عقول بعض أهل العلم تخزن أشياء كثيرة جداً، كما نقل عن الإمام أبي زرعة الرازي رحمه الله تعالى، أنه كان يحفظ مائة ألف حديث، لما جاءه رجل فقال له: إن شخصاً حلف بطلاق امرأته أن أبا زرعة يحفظ مائة ألف حديث، فالآن نريد أن نعرف: هل المرأة طالق أم لا؟ فقال له: وما حمله على ذلك؟ قال: قد جرى وحصل، رجل حلف بالطلاق وانتهى، فقال: أبو زرعة رحمه الله، يمسك امرأته فإنها لم تطلق عليه، أو كما قال، نقل القصة الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء.
والبخاري رحمه الله قال: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، طبعاً يدخل فيها الطرق والمتابعات والشواهد وغير ذلك، لأن الأحاديث الصحيحة بدون تكرار كما قال الذهبي رحمه الله تقدر بعشرة آلاف حديث، فعلى أية حال كانت هناك أدمغة للعلماء تحفظ أكثر مما تحمله ذاكرات بعض الأجهزة الآن، لكن الشيء المهم أن هذه العقول معهم في الحضر والسفر ولا يحتاجون إذا انقطع التيار الكهربائي أو انعدمت البطاريات، وأصيب الكمبيوتر بفيروس أو بهبوط مفاجئ يبقى للعالم دوره الذي يمتاز به عن الجهاز، مهما تطورت الأجهزة سيبقى للعلماء قيمتهم، وإنما سيكون هذا الجهاز معيناً لكثير من الباحثين، ولعل الله سبحانه وتعالى لما قدر أن يكون في هذه الأمة في عصورها المتأخرة ضعف الحفظ جعل لهم أشياء تعوض من مثل هذه الأجهزة، ولكن سيبقى للحفظ البشري دوره، وسيكون هو الحفظ الفعال في الخطابة والكلام والإلقاء، والشيء الذي يكون ذاتياً لا يمكن أن يضاهيه الشيء المصنوع الذي ينقل ويوضع في حقائب ونحو ذلك.(184/4)
الجوانب الإيجابية في استخدام الحاسوب
وقد دخل الكمبيوتر الآن في العديد من المجالات، وهذا شيء جيد للغاية، مثل تيسير البحث والكتابة، في القرآن الكريم والسنة النبوية، وجمع الأسانيد، وعزو الأحاديث، ومعرفة مواضع الأحاديث، وجمع طرق الحديث ومعرفة درجات الرجال، وتمييز الأحاديث الصحيحة عن الضعيفة، جمع الشواهد والمتابعات في الموضوع الواحد، البحث الموضوعي، إدخال معاجم اللغة العربية لمعرفة معاني المفردات، إدخال الموسوعات الشرعية مثل: موسوعات الفقه، والتاريخ، والسيرة، والفتاوى المخطوطات، إدخال الكتب في العلوم الإسلامية المختلفة، وإذا تقدم الجهاز الذي يسمونه أو يطلقون عليه (الأوشي آر) القارئة الضوئية، ارتقت درجة الإتقان في تميز الحروف العربية، سيكون هذا فتحاً مبيناً وكشفاً هائلاً بحيث يمكن للشخص في بيته أن يدخل الكتب الكثيرة جداً، بواسطة هذا الجهاز اسكنر بحيث يخزن في الكمبيوتر وبعد ذلك تبحث كما تشاء في سير أعلام النبلاء، والبداية والنهاية، وفتح الباري ومجموعة فتاوى وغير ذلك، والمغني لـ ابن قدامة كما تشاء عن المسائل، وتأتيك النصوص، وتنتقي منها وتطبع وترتب، ويمكن أن تحضر خطبة وموضوعاً ورسالة، وهذا موجود منه أشياء كثيرة، وقد جربت بنفسي تحضير عدد من الخطب والدروس في استخدام بعض الأشياء البسيطة الموجودة، فأقول: لو أن هذا الاختراع، وهو التعرف على الحروف العربية تطور وصار متقناً ونسبة الخطأ فيه قليلة جداً، فإن ذلك سيكون فتحاً مبيناً في إفادة طالب العلم، وتسهيل الوصول إلى المواضع التي يريدها في الكتب المختلفة.
وكذلك فإننا نشهد أن الكمبيوتر صار يستخدم الآن في طباعة الأبحاث، وإعلانات المحاضرات الإسلامية، وخط الفتاوى، ومساعدة طلبة العلم في أبحاثهم، وحتى تحويل التواريخ الهجرية إلى ميلادية والعكس، قد صار ذلك موجوداً، والبحث في الكلمات المتتالية والمختلفة المواقع، والكلمة الواحدة والمرادفات؛ كل ذلك صار ممكناً، ولا شك أن لهذه السرعة ضريبة في المقابل، فإن الشخص الذي يبحث في الكتب ترسخ المعلومات في ذهنه أكثر من الشخص الذي يبحث في الكمبيوتر، وربما يستفيد أكثر لأنه يمر على الكتب ويصادف معلومات كثيرة، ولا شك أن البحث الذي جاء نتيجة تعب يرسخ أكثر من البحث الذي جاء نتيجة همسة زر واحدة، لكن لا يمكن مع هذه الميزة أن نستهين بفوائد هذا الجهاز، وإذا أدخلت كذلك المجلات الإسلامية والعربية وغيرها في الكمبيوتر تستطيع البحث في المقالات أيضاً.(184/5)
استخدام الكمبيوتر في الدعوة إلى الله
واستخدام الكمبيوتر في الدعوة إلى الله عز وجل أمر ممكن للغاية، ولو نشط بعض الشباب والطلاب والذين يشتغلون في هذا الجانب لقدموا نفعاً كثيراً في مجال الدعوة إلى الله عز وجل، نحن نعلم أن سكان العالم يبلغون تقريباً خمسة آلاف مليون إنسان، وأن ما يقرب خمس هذا العدد هم من الذين ينسبون إلى الإٍسلام، وطبعاً نسبة كبيرة من هؤلاء جهلة بدين الله عز وجل، وكثير من الناس لم يسمعوا عن الإسلام، وبعضهم سمع عن الإسلام؛ لكن الرسالة التي وصلت إليهم مشوهة ومحرفة، فعندنا قسمان في الكفار، أناس لم تبلغهم الدعوة أصلاً، ولم يسعوا شيئاً عن هذا الدين، وأناس بلغتهم أشياء مشوهة بفعل وسائل الإعلام التي يسيطر عليها اليهود والنصارى الكفرة في تلك البلاد، ولذلك يكون عمل برامج تعرف بدين الإسلام الصحيح النقي بدلاً من الصورة المشوهة الموجودة، ويمكن إيصال هذه البرامج للأشخاص المختلفين وتوزع وتطبع، وتباع أو تهدى وتتبادل بكميات كثيرة، لا شك أنه سيكون فتحاً في عالم الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
وكذلك إعطاء الموضوعات المختلفة التي يمكن بواسطتها لأي شخص في جماعة غربية أو شرقية من الكفار الذي يريد أن يعرف معتقدات الأديان، أو ما جاءت به الأديان في قضية معينة؟ يمكن أن يصل عبر هذا البنك من المعلومات، إلى أشياء عن الإسلام قد تكون سبباً في إسلامه.
وكذلك فإن هذه الأجهزة أو البرامج يمكنها اختراق الحدود والمسافات الطويلة، وتنتشر انشاراً واسعاً وتصبح بطريق الحاسبات الشخصية بين أيدي الأفراد في المنازل والمدارس ومختلف قطاعات ومستويات المجتمع، وهذا لا شك أنه نوع من الغزو الإسلامي المطلوب في هذا الزمان، وكذلك فإن تكلفة هذه الأشياء إذا قارناها بوسائل الدعاة مع العوائق الرسمية الموجودة في الأسفار وغيرها، لا شك أننا سنكون قد تغلبنا على مشكلة كبيرة، وتوصلنا إلى إيجابية كبيرة بواسطة نشر البرامج التي تعرف بالإسلام، وبعض الإخوان كانت لهم جهودات فردية في الدعوة إلى الله عز وجل بواسطة (المودم) التي يمكنهم الاتصال به عبر الشبكات العالمية والمحلية بأشخاص آخرين في بلدان أخرى عبر شاشة الكمبيوتر، وكان ذلك سبباً في إسلام بعض هؤلاء، وبعضهم كان يكتب مشكلات ذاتية يقول مثلاً: أبي يمنعني من الصلاة، إنني أسلمت عبر الرسالة التي أرسلتموها في الجهاز بواسطة المودم، وكان يسأل عن أشياء من الدين، وكان من الأسئلة التي سألها ذلك الشخص البعيد آلاف الكيلو مترات عن حل مشكلة الصلاة بالنسبة له، لأن أباه يعاقبه إذا رآه يصلي، فهذا طرف بسيط مما يمكن استخدام الحاسب فيه في مجال الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
ولا شك أنه حتى من جهة التكلفة، ستكون هذه الوسائل أقل تكلفة وأوسع انتشاراً، وسيبقى أيضاً لإرسال الدعاة ميزة لقوة التأثير والبلاغة والبيان وإقامة الحجة، والرد على الشبهات، والشخص الذي يكلمك أمامك غير الذي تسمع أو ترى رسالته فقط من بعد، زد على ذلك أن بعض الناس عندهم غرور وتعالٍ وكبرياء، فلو كلمه شخص ربما يرفض الكلام، لكن إذا قرأها على شاشة، فلا يكون هناك مجال للاعتراض مثلما لو كان أمامه الشخص فربما سد أذنيه وولى معرضاً ولم يعقب، لكن إذا رآها على الشاشة، فسيكون مجال الاعتراض أقل، والعناد والتمادي في رفض هذا الرأي سيكون أقل كذلك.(184/6)
استخدام الكمبيوتر عند الأطفال
وأيضاً من جهة التعليم استخدام الكمبيوتر في التعليم سيعطي المسلمين أشياء كثيرة عن الدين، وهذا أمر وارد جداً في تعليم الأطفال، ولا شك أن الكمبيوتر فيه مؤثرات مثل الألوان والأشكال والرسوم، وبعد وجود الساوندكارد (البطاقة الصوتية) أيضاً صار هناك إمكانية كبيرة لإدخال الأصوات، وربما تلقين القرآن بالصوت وربما تصحيح الأخطاء في التلاوة، ولاشك أن هذا سيفيد أطفالنا خصوصاً ونحن نريد بدائل عن التلفزيون المضر في برامجه الكثيرة، فيكون وجود شاشة الكمبيوتر لدى أطفالنا مع برامج كثيرة مفيدة، بديلاً قوياً عن شاشات التلفزيون التي تعرض وتنقل الآن خصوصاً مع وجود البث المباشر.
أشياء كثيرة ضارة نلمس أضرارها داخل بيوتنا، وقد وجدت بعض البرامج في تعليم الأطفال العبادات، والأحرف الأبجدية بالصوت والصورة، ووجدت أيضاً إمكانية الترجمة من لغة إلى أخرى، وهذا سيفيد الداعية إلى الله كثيراً وطالب العلم، أن يدخل نصاً باللغة الإنجليزية، فيأتي مترجماً أو العكس، تدخل فتوى لبعض أهل العلم في شيء يتعلق بالجاليات الموجودة لدينا ممن يتكلمون اللغة الإنجليزية مثلاً فيخرج النص مترجماً مع مراجعة بسيطة يمكن بعد ذلك نشره.(184/7)
نصائح لشركات الكمبيوتر التي تخدم الشريعة
ولذلك أيها الإخوة! أنبه وأوصي الشركات التي تعمل في مجال خدمة الشريعة، أن يتعاملوا مع طلبة العلم، هذا أولاً.
ثانياً: أن يكون الذين يعملون في مجالات تطوير البرامج الدينية من المسلمين، لأننا نسمع عن بعض الشركات التي تعمل في تطوير البرامج الدينية، أن القائمين على بعض الأقسام هم من النصارى، ولا شك أن هؤلاء سيكون لهم أثر بطريقة ما على هذه البرامج، وقد حصلت بعض التحريفات منهم، فلذلك لا بد أن تهتم الشركات بتوظيف طلبة العلم والمسلمين خصوصاً في قطاع البرامج الدينية أو اللغة العربية، وأؤكد على ما ذكره الدكتور قبل قليل في الموضوع: عدم تكرير الجهود، لأننا إذا استعرضنا بعض مكررات الندوات التي أقيمت في خدمة العلوم الدينية، وإذا حصل اجتماع فجاء الناس المهتمون بخدمة العلوم الشرعية بواسطة هذا الجهاز نجد أن هذا الموضوع موجود عند هذه الشركة، وعند هذا الفرد، وعند هذه المؤسسة، تكرار جهود بسبب عدم وجود اتصال لمعرفة ماذا لدى كل طرف، غير الجشع والطمع الذي يريد كل طرف من الأطراف أن يصل إلى طرح نتاجه في السوق، ليقطع الطريق على الآخرين، أو يوزع نتاجه أكثر أو يبيع ما لديه ونحو ذلك.(184/8)
المحافظة على صحة النصوص عند الإدخال
ومن الوصايا المهمة للذين يعملون في إدخال النصوص الشرعية في الحاسب الآلي أن يحافظوا على النصوص الصحيحة عند الإدخال بأن يدخلوا المعلومات من الطبعات المعتمدة أو المخطوطات بعد تنقيحها، ولعل مما يمتاز به عمل الدكتور الأعظمي على عمل بعض الشركات التي أدخلت نصوصاً شرعية في هذا الجهاز، أن الدكتور الأعظمي يدخل من المخطوطات، يجمع المخطوطات، تحقيق المخطوطات، فيمتاز بجمع المخطوطات، وهناك زيادات في مخطوطات لا توجد في أخرى، وبعد ذلك يدخل هذا في الجهاز، بخلاف ما تأخذ كتاباً من السوق وتدخله في الجهاز مباشرة، ولذلك يحتاج إلى جمع المخطوطات لإدخالها في الجهاز قبل إدخالها من كتب مطبوعة موجودة في السوق، وحتى الكتب المطبوعة في السوق ليست سواء، فهناك ما هو محقق تحقيقاً جيداً كتحقيقات الشيخ العلامة المصري أحمد شاكر رحمه الله، وبعض التحقيقات ممن هب ودب من المتاجرين بتراثنا الإسلامي، الذين يطبعون وينشرون لغرض التجارة، فحتى الذين يريدون إدخال النصوص لا يصلح أن يأخذوا أي كتاب من السوق ليدخلوه.
ومن الأشياء اللطيفة التي شاهدناها أيضاً في استخدام هذا الجهاز التنبيه على أوقات الصلوات، فهناك برنامج معين فيه أوقات الصلاة على توقيت بلد معين أو منطقة معينة، يظهر لك وقت الصلاة وأنت تعمل، لأن هذا الكمبيوتر من سلبياته أنه يأكل الوقت أكلاً ويلتهمه التهاماً، ويشغل الشخص عن سماع الأذان، ومعرفة وقت الصلاة وأخذ الساعات الطويلة، فتنبيهات مثل هذه على الشاشة لا شك أنها ستكون مفيدة.(184/9)
عدم خلط الحق بالباطل
وكذلك فإن من الأمور التي ينبه عليها أيضاً بالنسبة للذين يعملون في إدخال البرامج العربية، قضية عدم خلط الحق بالباطل، فإننا نشاهد في بعض المسابقات المعمولة والمصنوعة بالكمبيوتر أنهم يضعون لك مسابقة، تختار أسئلة دينية، وثقافية ورياضية، وموسيقية وفنية، وشعرية، ولغوية، ونحو ذلك فتفتح على المسابقة الدينية تجد أسئلة عن غزوة بدر، ومن هو أول صحابي فعل كذا، وما هي الآية التي نزلت في كذا؟ وإذا فتحت على القسم المتعلق بالفنون، وجدت من هي التي غنت الأغنية الفلانية؟ وما هو المقطع الفلاني؟ وفي عام كم صار كذا، ومن هو الموسيقار الذي ألف المنظومة الفلانية؟ ونحو ذلك من المحرمات التي لا يجوز مطلقاً إدخالها في هذه الأجهزة، وهذا خلط الحق بالباطل، وهذا موجود، ولذلك بعض الناس يريدون عرض الأشياء على أطفالهم لكنهم يصدمون بأن هذه الأشياء المفيدة للأطفال مخلوطة بأشياء أخرى.(184/10)
السلبيات المتعلقة بهذا الجهاز
وكذلك إدخال الأصوات الموسيقية في الجهاز ونحن نعلم حكم الموسيقى في الشريعة، فأقول: ينبغي الانتباه لهذا، ويمكن أن تكون هناك أصوات كمبيوترية، ليست موسيقية، لماذا لا تدخل هذا الأصوات بدلاً من إدخال الأصوات الموسيقية، البديل موجود.
ومن المساوئ الموجودة في هذا الجهاز إهدار الأوقات الكثيرة التي تذهب، والتي ينبغي أن ينتبه لها مستخدم هذا الجهاز، وبعض الأضرار البدنية كالأضرار على العين وعلى الأصابع، وحتى الناس الذين عندهم أطفال يستخدمون الألعاب الموجودة في الكمبيوتر، فإنه قد ثبت بالدراسات أن بعض هذه الألعاب تصيب الأطفال بمرض الصرع إذا داوم على اللعب فيها فترة معينة، وربما تؤثر على أعصاب الأصابع، وأعصاب الشخص نفسه، وبعض الناس يتوتر عصبياً إذا جلس يلعب لعبة معينة، هذا واقع موجود، وإذا ناقشت بعض هؤلاء الذين يلعبون هذه الألعاب، ربما قال لك: إنني أصاب بالتوتر إذا أمضيت فترة طويلة وأنا ألعب، ولذلك صدرت بعض القوانين في بعض الدول تلزم بعض شركات الألعاب الكمبيوترية بأن تطبع عبارة: إن الإدمان أو الإكثار من استخدام هذه اللعبة يسبب مرض الصرع لأطفالكم، كما حصل التزام بهذا من شركة ماي تنده وغيرها من الشركات التي تصمم الألعاب، فعلى أية حال حتى لو أدخلنا الألعاب في بيوتنا لبعض الأطفال لبدائل عن أفلام التلفزيون الضارة، فينبغي أن ننتبه إلى قضية عدم الإفراط في اللعب بهذه الألعاب، وما ينشأ عنها من الأضرار.(184/11)
إيذاء الآخرين ببرامج الفيروسات
ومن الأمور أيضاً التي تدخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) وأنا الآن أتكلم في جانب المحرمات والسلبيات المتعلقة بهذا الجهاز، ما يقوم به البعض من عمل برامج الفيروسات التي تضر بأجهزة الآخرين، وتدخل في البرامج، لتمسح أشياء وتغير مواقع أشياء وتلخبط ترتيب الحروف، أو تصيب الجهاز بالعطل المؤقت أو الدائم الذي يترتب عليه إعادة أو مسح كل الأشياء وإعادة الذاكرة مرة أخرى من جديد، فلا شك أن القيام بهذه البرامج الفيروسية محرم لأنه يسبب الضرر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ضرر ولا ضرار) وبعضهم يعملها تفنناً وشطارة، لأنه فارغ فيعمل برنامج فيروس لكي ينتقل عبر النسخ إلى الآخرين، لاشك أن بعض برامج الفيروسات تستخدم كوسيلة لحماية بعض البرامج، لكن بعض الناس تستهويهم الفكرة، فيعملون لا لغرض الحماية ولا لأي شيء آخر، وبما أننا قد مررنا الآن بنقطة الحماية، فهناك من الأشياء المتعلقة بجهاز الكمبيوتر التي ينبغي البحث فيها، مسألة حقوق الطبع والنسخ للبرامج التي تعملها بعض الشركات أو المؤسسات أو الأفراد، ما حكم حماية هذه البرامج؟ ما حكم القيام بنسخها؟ هذه مجهودات الآخرين، فما حكم نسخها؟ أما بالنسبة لبرامج العلوم الشرعية، فإن العلماء المعاصرين عندهم أكثر من رأي في هذا الموضوع، فبعضهم يرى أن البرامج العلمية الشرعية ليس لها حقوق نشر ولا طبع، وممن ذهب إلى ذلك العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي، عافاه الله ونفع به، فإن رأيه في هذا الموضع جواز نسخ الكتب وحزم البرامج بصفة عامة، ولو كان الغرض من النسخ التجارة، وعلته في هذا أن ادعاء حفظ حقوق النشر للمؤلف في حالة الكتب، أو لمصمم البرامج في حالة حزم البرامج الجاهزة، هذا الإدعاء ليس له أصل فلا يجوز المنع من النشر، وأن العلم ليس ملكاً لأحد، وأنه لا يجوز أن يحتكر أحد حق نشر كتاب من كتب السنة أو القرآن الكريم ونحو ذلك، ويقولون هذا حصر للعلم، والعلم مفروض أن ينشر، لا أحد يضع عوائق وأشياء، ويرى بعض أهل العلم أيضاً أن هذه مجهودات، وقد تعب عليها وصرفت فيها جهود كثيرة، وأموال طائلة، ووظف موظفون لأجلها وفرغ أشخاص، وتعب عليها، فلا يصلح البرنامج الذي كلف مئات الآلاف أن يأتي شخص وينسخه بخمسة ريالات، وأنا لست في مجال ترجيح ولا عندي ترجيح في هذا الموضوع، ولكن هذه نقطة من النقاط التي تثار في قضية الأجهزة أو البرامج المتعلقة بالكمبيوتر، وإلا فالإنسان إذا أراد السلامة فالأحوط له ألا يقوم بالنسخ لمجهودات الآخرين التي تعب عليها وصرف فيها الأموال، الأحوط له والأسلم لدينه ألا يفعل ذلك، وفي الجهة المقابلة لا بد من تنبيه هذه المؤسسات والشركات التي تقوم بعمل البرامج ألا يتطاول بهم الجشع لبيع هذه البرامج بأثمان باهظة، فإنك تجد بعض البرامج ربما تباع بمائة ألف أو أكثر، ولا شك أن هذه الأثمان الباهظة لا تمكن الكثيرين من الشراء، وتعيق انتشار العلم الشرعي إذا كان موضوعها العلم الشرعي، ولذلك ينبغي عليهم أن يتقوا الله عز وجل وأن ينظروا إلى الآخرة قليلاً بعين الخوف من الله، ورجاء ما عند الله، فربما يدفعهم ذلك إلى تخفيض أسعارهم، بحيث تنتشر هذه البرامج أكثر، وهذا ما يتعلق بسياسة العرض والطلب وتأثير السعر فيهما.(184/12)
وجود البرامج الإباحية
من الأشياء الموجودة في عالم الكمبيوتر: البرامج الإباحية الموجودة التي تسمى بالأسماء التي فيها فحش، وربما سمت بأسماء برامج المراهقين، أو برامج البالغين، وأحياناً يصرحون بأنها برامج جنسية، ويعملون لها إعلانات ولا تكاد تأخذ مجلة بي سي مقزين، إلا وتجد فيها إعلاناً عن برامج دعارة، ويكتب في أسفل الإعلان هاوت أُردر، تليفون نمبر أو يكتبون العنوان، أو إدخال الفيزا كارد، أو نحو ذلك من بطاقة الفيزا، لشراء هذه البرامج بحيث أنك لا تحتاج حتى إلى إرسال تحويل عملة معينة، أو تحويل مبلغ معين، وهذه الأشياء مع تطور هذا الجهاز كانت صوراً، ثم أصبحت الآن متحركة، كانت ثابتة على الشاشة، ثم صارت متحركة وصار جهاز الكمبيوتر مثل التلفزيون، بل دخل الآن فيه الفيديو كارد، الذي يجعل الصور تتحرك وتنسخ من الفيديو الأشياء التي تريدها وتخزن، وتعيد إظهارها مرة أخرى، ونحو ذلك، ورجل صاحب محل تصليح كمبيوتر في إحدى المدن جاءت له طالبة جامعية بذاكرة صلبة لإصلاحها لأنها قد تعطلت، طالبة من المسلمات في إحدى الجامعات، فإذا به يكتشف وهو يحاول إصلاح الجهاز ومعرفة الذاكرة ومعرفة ما فيها، أنها مليئة بالصور العارية من أولها إلى آخرها، خاصة بذلك! وبعض البرامج تعطي أسئلة جنسية، وإذا أجبت عليها يقولون: أنت ناضج، وإذا فشلت يقولون: أنت طفل، وبعض هذه البرامج يمكن أن تأخذ صورة شخص معين وتضع رأسه على جسد امرأة، في وضع مشين للغاية، ثم تطبع وتوزع، يعني: المقصود أن استخدام الجهاز هذا في الشر له مجالات كثيرة لا تتناهى، ويوجد هناك شبكات دولية ممكن الاتصال بها بالمودم، وتطلب منهم عرض صور، أو تسأل أسئلة فاحشة ربما تتخاطب مع نساء أيضاً، ويرسلون لك عبر اشتراك معين آخر ما صدر لديهم من الأفلام.(184/13)
وجود ألعاب مخالفة للشريعة والآداب
ويوجد هناك ألعاب تتضمن فكرة القمار، وتعليم الربا، وكذلك من الألعاب لعبة ممرات، يأكل فيها اللاعب الكيك ويزاد وزنه ثم يموت فيوضع على قبره صليب، ولعبة يستخدم فيها صليب لقتل الوحوش، ولعبة إذا مر اللاعب بالصليب يستفيد قوة في اختراق الحواجز وتفجير ما أمامه من الأشياء، وألعاب عن الآلهة وكل إله ما هو تخصصه، وصراع بين الآلهة، ونحو ذلك، ومحاولة الصعود إلى أعلى، وبعض برامج الأطفال وألعاب الأطفال تنتهي في مرحلة بالوصول إلى أميرة فيحتضنها ويقبلها، ويكون الهدف هو الوصول إلى هذه الأميرة، وبرنامج آخر فيه رجل بوليس يدخل أماكن وحانات يبحث عن لص، تصادفه مومس في الدور الثاني تعطيه عشرة جنيهات أو يعطيها عشرة جنيهات ويصعد -وهذه أمثله استفدتها من المقابلة واللقاء مع بعض المشتغلين في برامج الكمبيوتر وشركات الكمبيوتر، وأيضاً ورش صيانة الكمبيوتر- وبرامج إذا سببته سبك، وهذه البرامج الرقابة عليها صعبة جداً، ومجيئها من الخارج سهل جداً، وهناك طرق كثيرة جداً تحول دون التفتيش عليها، كعمل فورمات لهذه البرامج، أو الإسطوانات فإذا دخلت البلد يعمل لها الفورمات أو بطريقة ضغط الملفات، لا تظهر للمراقب، أو إرسالها بالمودم من الخارج، والجهاز يخزن في الداخل، فعلى أية حال السيطرة على هذه الأشياء لا يمكن إلا بغرس تقوى الله والخوف منه عز وجل في النفوس، وهذه المناظر السيئة التي تدخل، لا شك أن لها أثراً سيئاً جداً على أطفالنا وعلى الشباب الذين يشتغلون بهذه الأشياء، ويحاولون جلبها.(184/14)
إفساد واقعية التفكير عند الأطفال
وهناك أيضاً من الأضرار إفساد واقعية تفكير الأطفال بهذه الألعاب الموجودة، لأن كثيراً منها أشياء خيالية، حتى أن الولد يظن أن ما شاهده على الشاشة موجود في الواقع، وعلى أية حال، بعد هذا العرض السريع لبعض استخدامات الكمبيوتر في الأمور الشرعية، ونصرة دين الله عز وجل، والدعوة إلى الله، واستخدامات هذا الجهاز أيضاً فيما حرم الله عز وجل، نقول ختاماً أيها الأخوة: إن هذا الجهاز، مما علم الله البشر، وإنه جهاز مفيد للغاية إذا استخدم في الخير، وجهاز مفسد للغاية إذا استخدم في الشر، وبين ذلك مراتب فيها ضياع أوقات، أو استفادات مرجوحة، وربما يكون التعلم بوسائل أخرى عبر حلق العلم وإتيان المشايخ، لا يمكن أبداً الاستغناء عنه بهذه الأجهزة، وإذا صار عند بعض الغربيين فكرة إدخال تعليم، فلا داعي لذهاب الأولاد إلى المدارس، يتعلمون الكمبيوتر في البيت، فنحن يبقى عندنا دور المربي، العامل البشري القدوة لا يمكن تعويضه بالكمبيوتر مطلقاً.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق المخلصين لخدمة دينه، وأن يجعلهم من حملة لواء السنة ونشرها في العالمين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفق للخير كل من أراده، وأن يخذل كل من أراد خذلان الدين أو إدخال الشر إلى مجتمع المسلمين، والمعذرة على الإطالة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لنا الزلات، ويضاعف لنا الحسنات، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(184/15)
سؤال وجواب في ولائم الزفاف
النكاح من قواعد الشريعة الإسلامية في بناء الأسرة المسلمة للمشاركة في بناء المجتمع المسلم، ولذلك رغبت فيه وحثت عليه، وفرقت بينه وبين الزنا والسفاح، وكان من الفرقان بين النكاح والسفاح: الإعلان والإشهار، ولذلك أمرت الشريعة بإعلان النكاح وإشهاره بالوسائل المشروعة، ومن ذلك: وليمة الزفاف هذا ما تحدث عنه الشيخ، فقد تكلم عن الوليمة، من حيث حكمها، ووقتها، وإجابة الدعوة إليها، وشروط الإجابة، وذكر أسئلة وأجوبة تتعلق بها، ثم تكلم عن بعض منكرات الأعراس.(185/1)
الوليمة أحكامها وآدابها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن النكاح من قواعد هذه الشريعة في بناء الأسرة المسلمة للمشاركة في بناء المجتمع المسلم، ولذلك رغبت فيه وحثت عليه، وفرقت بينه وبين الزنا والسفاح، وكان من الفرقان بين النكاح والسفاح: الإعلان والإشهار، ولذلك أمرت الشريعة بإعلان النكاح وإشهاره بالوسائل المشروعة، ومن ذلك: وليمة الزفاف.
وفي هذه الأيام تكثر الولائم في بداية هذه الإجازة، وتستمر في أيامها، فكان من المناسب -أيها الإخوة- أن نتحدث عن آداب ذلك في الشريعة، وعن بعض ما ورد فيها من الأحكام.(185/2)
الوليمة سنة متبعة
لقد أولم النبي صلى الله عليه وسلم على نسائه، فكانت سنة متبعة، ومن ذلك ما فعله صلى الله عليه وسلم عند زواجه بـ صفية، فإنه قد جاء في الحديث الصحيح: أن أم سليم قد جهزتها له من الليل، فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم عروساً، والعروس: كلمة تطلق على الرجل والمرأة في الشريعة إذا تزوجا وأعرسا، فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم عروساً، فقال: (من كان عنده شيء فليجئ به، قال: وبسط نطعاً، فجعل الرجل يجيء بالأقط، وجعل الرجل يجيء بالتمر، وجعل الرجل يجيء بالسمن، فحاسوا حيساً، فكانت وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم) بسط ذلك البساط من الجلد، وجيء بالأقط وهو اللبن المجفف، وجيء بغيره من السمن والتمر، فخلط ذلك وعمل الحيس، وكانت وليمة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية البخاري: قال أنس رضي الله عنه: (أقام النبي صلى الله عليه وسلم بين خبير والمدينة ثلاث ليال، يبني فيه بـ صفية، ودعا الناس إلى طعام الوليمة ثلاث ليال، فدعوت المسلمين إلى وليمته، وما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أن أمر بلالاً بالأنطاع فبسطت، فألقي عليها التمر والأقط والسمن) وهكذا كانت وليمة النبي صلى الله عليه وسلم، ودُعي إليها المسلمون.
والوليمة حق، وقد جاء في صحيح مسلم: (شر الطعام طعام الوليمة، يدعى الغني ويترك المسكين وهي حق) إذاً: الوليمة حق وليست بباطل، وهي من الإسلام، ولما خطب علي رضي الله عنه فاطمة عليها السلام، قال رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (إنه لا بد للعريس من وليمة) رواه أحمد وسنده لا بأس به.
وقال عليه الصلاة والسلام لـ عبد الرحمن بن عوف: (أولم ولو بشاة) رواه البخاري وغيره.
فينبغي القيام بذلك خصوصاً للمقتدرين، وهذا فيه إشهار للنكاح وإعلان له كما تقدم.(185/3)
وقت الوليمة
وقد ذكر العلماء في وقتها أقوالاً، تمتد من عند العقد إلى انتهاء الدخول، وهل تكون قبل الدخول أو بعده؟ جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها بعد الدخول، كما في قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها، فقد قال أنس في القصة: (أصبح النبي صلى الله عليه وسلم عروساً بـ زينب فدعا القوم -أي: لما أصبح بعد دخوله بها- دعا القوم إلى وليمة النكاح) وهذا يدل على أن الوليمة للدخول لا للإملاك، وأمر وقتها واسع، فلو فعله قبل الدخول كعادة الناس في هذه الأيام، أو بعده في اليوم التالي، فلا بأس بذلك، بل هي سنة.(185/4)
مشاركة الأغنياء بمالهم في الوليمة
ومشاركة الأغنياء بمالهم في الوليمة سنة أيضاً، كما دل على ذلك الحديث السابق: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس للمشاركة، فجعل الرجل يجيء بالأقط، وجعل الرجل يجيء بالتمر، وجعل الرجل يجيء بالسمن، فحاسوا حيساً، فجعلوا يأكلون من ذلك الحيس، ويشربون من حياض إلى جنبهم من ماء السماء، فكانت وليمة رسول الله صلى الله وعليه وسلم) وكذلك لما بنى علي بـ فاطمة، قال عليه الصلاة والسلام: (يا علي، إنه لا بد للعروس من وليمة، فقال سعد: عندي كبش) انظروا إلى البساطة في مسألة إقامة الوليمة، والمشاركة من قبل الإخوان، ليس في المسألة تكلف، ولا تجعل قضية الوليمة والصالات والفنادق والمغالاة فيها، لا تجعل أبداً عائقاً في طريق الزواج؛ فإن الشريعة قد أمرت به، ورغبت فيه، فهي تذلل كل صعوبة في طريقه، فقال سعد: (عندي كبش، وجمع له رهط من الأنصار أصوعاً من ذرة، فلما كانت ليلة البناء، قال: لا تحدث شيئاً حتى تلقاني، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ فيه، ثم أفرغه على علي وذكر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بالبركة) الحديث.(185/5)
إجابة الدعوة في الوليمة وشروطها
وأما بالنسبة لإجابة الدعوة، فقد قال البخاري -رحمه الله- في صحيحه: باب حق إجابة الوليمة والدعوة وروى -رحمه الله تعالى- حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها) والوليمة هي طعام العرس، مأخوذة من الولم وهو الجمع؛ لأن الزوجين يجتمعان ويجتمع الناس إلى تلك الوليمة، هكذا تسميها العرب، كما سمت طعام الختان: إعذاراً، وطعام الولادة عقيقة، وطعام سلامة المرأة من الطلق خرساً، وطعام قدوم المسافر بالسلامة نقيعة، وطعام تجديد السكن وكيرة والمأدبة هي الطعام الذي يؤخذ بلا سبب.
والمشهور من أقوال العلماء: وجوب إجابة وليمة الزفاف بالذات، واستحباب إجابة غيرها من الولائم المباحة، ولذلك فإن إجابة دعوة الوليمة عند جمهور الشافعية والحنابلة، ونص عليه مالك -رحمه الله- أنها فرض عين، تجب على كل من دعي إليها، وكونها فرض كفاية يكون كما قال ابن دقيق العيد -رحمه الله- في حالة ما إذا عمت الدعوة، إذا عم الناس بالدعوة فالإجابة فرض كفاية، وإذا خص فلاناً وفلاناً وفلاناً بأعينهم، كما في حالة إرسال بطاقات الدعوة بأسمائهم، فإن الإجابة تكون متعينة عليهم حينئذ.
وشرط الوجوب: أن يكون الداعي مكلفاً حراً رشيداً، وألاَّ يخص الأغنياء دون الفقراء، وألا تكون لرهبة، وأن يكون الداعي مسلماً على الراجح، والوجوب مختص باليوم الأول على المشهور من أقوال أهل العلم، وألا يسبق الداعي، فلو سبق فإن المدعو يقدم الأول وجوباً، فلو دعاك أكثر من شخص فإنك تقدم الأول منهم وجوباً، ويسقط وجوب إجابة الثاني، ومن بعده، وإن جاءا معاً لدعوتك إلى وليمة في وقت واحد، فإنك تقدم من قدمه الشارع، تقدم الأقرب فالأقرب، وتقدم الأقرب جواراً على غيره ممن بعده من الجيران، وهكذا حتى قال العلماء: فإن استويا من جميع الوجوه فبالقرعة.
ومن شروط إجابة الدعوة: ألاَّ تشتمل على منكر، وقد يكون هناك سبب لعمل الوليمة في عدة أيام، ككثرة الناس، وضيق المكان، أو توالي قدومهم من الأسفار، أي: المدعوين، أو قصد إطعام الناس، والإحسان إلى الفقراء، ولذلك أخرج أبو يعلى بسند حسن عن أنس قال: (تزوج النبي صلى الله عليه وسلم صفية، وجعل عتقها صداقها، وجعل الوليمة ثلاثة أيام).
وأما إن كان تكرار الدعوة للمباهاة والمراءاة فلا وجوب، قال قتادة رحمه الله: [بلغني عن سعيد بن المسيب أنه دعي أول يوم فأجاب، ودعي ثاني يوم فأجاب، ودعي ثالث يوم فلم يجب، وقال: أهل رياء وسمعة].
وقال بعض العلماء بوجوب الإجابة في اليوم الأول، والثاني مستحب، والثالث مكروه، أما إذا قصد الخير بتكرار الأيام والدعوات فلا بأس بذلك، ويدل عليه أن يدعو في كل يوم طائفة لم يدعها من قبل، فيعرف حينئذٍ أنه لم يقصد المباهاة ولا المراءاة، ومن ترك إجابة الدعوة فقد عصى الله ورسوله، لقوله صلى الله عليه وسلم: (شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم) وقوله: (يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء) يدل على أنها تكون شر الطعام إذا كانت بهذه الصفة، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: [إذا خص الغني -أي: صاحب الوليمة- وترك الفقير، أمرنا ألاَّ نجيب] ورخص بعض أهل العلم في تميز الأغنياء بوليمة والفقراء بأخرى إذا وجد حرجاً في خلطهم، أما أن يترك الفقراء بالكلية، فهذا أمر مذموم، وهو من عادة الجاهلية، أنهم كانوا يدعون الأغنياء ويتركون الفقراء، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول لمن هذا حاله: [أنتم العاصون في الدعوة، تَدْعون من لا يأتي وتَدَعون من يأتي] تدعون الشبعان الغني وتهتمون بدعوته، والفقير المحتاج إلى الطعام تدَعونه ولا تدْعونه.
ولا يجوز لمن لم يدعَ أن يأتي إذا كانت الوليمة خاصة، ويكون حينئذٍ من المتطفلين الذين يدخل أحدهم مغيراً ويخرج سارقاً، كما يفعل بعض الناس في الطواف على صالات الأعراس بغير دعوة للطعام، فأما إذا كانت الدعوة عامة، وهي التي يسميها العلماء: جفلة، كأن وجه الدعوة إلى الناس عموماً، أو بين ذلك بإقامته في ميدان عام مفتوح للناس أجمعين، وعُلم من طبع هؤلاء الذين أقاموا الوليمة أنهم لا يمانعون حضور من مر بهم، أو من قصدهم؛ فلا بأس بالحضور بغير دعوة، فأما إذا خصوا أناساً معينين؛ فلا يجوز لغيرهم الحضور، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هذا وهذا، فقال لـ أنس: (اذهب فادع لي فلاناً، وفلاناً، ومن لقيت) فسمى أناساً معينين، وأمر أنساً أن يدعو له من يلقى.
وكذلك إذا سمح صاحب الدعوة، وهو الغالب على حال الناس، بأن يأتي الضيف وضيفه، أو الضيف ومن معه، أو المدعو وأصحابه؛ فلا بأس بقدومهم، حتى لو لم يخصوا بدعوة.
ولا يجوز احتقار طعام صاحب الدعوة وإن قل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت) والكراع: مستدق الساق من الرجل، ومن حد الرسغ في اليد، ويكون الذي عليه لحم قليل، ويكون الكراع محتقراً من قبل الناس وبما أنه لا يبعث على الدعوة إلى الطعام إلا صدق المحبة، وسرور الداعي، فإن أخاك تكون فرحته عظمية، بل إن حفلة ووليمة الزفاف أعظم فرحة من غيرها؛ لذلك لزمت الإجابة، وتحققت المشاركة الشعورية والعملية لصاحب العرس بإجابته؛ تحبباً إليه وتعاطفاً معه، ومشاركة لأخيك المسلم في فرحته، ولذلك كان التخلف عن الحضور بلا عذر شرعي معصية في شريعتنا.
وينبغي على من لا يريد الحضور أن يعتذر، وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر: [أنه دعا بالطعام، فقال رجل من القوم: أعفني، فقال ابن عمر: إنه لا عافية لك من هذا فقم].
وأخرج بسند صحيح -أيضاً- عن ابن عباس: [أن ابن صفوان دعاه، فقال ابن عباس رضي الله عنه: إني مشغول، وإن لم تعفني جئت] وينبغي على صاحب الدعوة قبول العذر، وإجابة أخيه في طلبه، وأما إذا لم يكن عذر فليأت وليجب دعوة أخيه.(185/6)
عدم المغالاة والمباهاة في الولائم
عباد الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغالِ في وليمة الزفاف، بل كان يفعل ما تيسر، فقد جاء في صحيح البخاري عن صفية بنت شيبة، قالت: (أولم النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه بمدين من شعير) وأقرب من يوصف بذلك هي أم سلمة رضي الله تعالى عنها، فإنه قد جاء في مسند أحمد أنها قالت: (فأخذت ثفالي وأخرجت حبات من شعير -كانت عندها- وأخرجت شحماً فعصدته، وأصبح النبي صلى الله عليه وسلم يقدم ذلك الطعام) وقوله لـ عبد الرحمن: (أولم ولو بشاة) هو للمقتدر الميسر، وفيه تأكيد أمر الوليمة، وأنها تتأكد وتستدرك ولو بعد الدخول بوقت.
والنبي صلى الله عليه وسلم تفاوتت به الأحوال، فمرة أطعم الناس حيساً مما جاءوا به، ومرة أولم على زينب باللحم، كما جاء في الحديث الصحيح عن أنس: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أولم على أحد من نسائه ما أولم عليها -أي على زينب - أولم بشاةٍ، وأشبع الناس خبزاً ولحماً، وكفتهم تلك الشاة ببركة النبي صلى الله عليه وسلم) فلا معنى للمغالاة والتكلف الذي يفعله بعض الناس، وينبغي على الإنسان أن يجيب ولو كان صائماً، فإن كان صائماً فليصل، أي: يدعو لأصحاب الوليمة، وإن كان يشق على صاحب الدعوة صومه فالأفضل الفطر، وإلا فالأفضل الصيام، والصيام ليس عذراً في ترك الإجابة، وكانوا قديماً يدعون للوليمة على الغداء، وأما عامة فعل الناس اليوم فهو على العشاء، وكلاهما صحيح، ولا بأس بذلك.(185/7)
أسئلة وأجوبة تتعلق بالوليمة
وفيما يلي -أيها الإخوة- بعض أسئلة أفادنا بأجوبتها شيخنا أبو عبد الله عبد العزيز حفظه الله، في بعض ما يحدث من الحالات الواقعية.
السؤال
إذا كان المنكر في زاوية أو حجرة من البيت لا يشهده المدعو ولا يراه، فهل يحضر الوليمة؟
الجواب
نعم.
السؤال: إذا كان هناك أناس من المبتدعة، لكنهم لا يتكلمون ببدعتهم في العرس، فهل يجوز الحضور؟ الجواب: نعم.
السؤال: هل يدخل النساء في وجوب دعوة وليمة العرس؟ الجواب: نعم، مثل الرجال، إذا أذن زوجها أو وليها بطبيعة الحال، ولم يكن عندهن منكر، وما أكثر المنكرات في صالات النساء! السؤال: إذا كان مال صاحب الوليمة مختلطاً، فهل يجب الحضور؟ الجواب: نعم، وقد دعا النبي صلى لله عليه وسلم يهودي فأجابه، ولكن إذا كان مال صاحب الوليمة كله سحت وحرام، فلا يجوز إجابته حينئذٍ.
السؤال: إذا كان العرس فيه منكر في وقت دون وقت، فهل يحضر، كما إذا كانوا يمتنعون عن المنكر في وقت العشاء، -مثلاً- فحضر وقت العشاء؟ الجواب: نعم، يجوز ذلك.
السؤال: هل يعتبر كرت الدعوة وبطاقة الدعوة، والاتصال الهاتفي، والخبر عند الأهل ملزماً بالحضور ودعوة لا بد من إتيانها وتلبيتها إذا لم يكن عذر شرعي؟ الجواب: نعم.
السؤال: إذا كان يستطيع حضور أكثر من مناسبة في ليلة واحدة، فهل يجيب؟ الجواب: لا.
يكتفي بالأول.
السؤال: هل الإسراف يسقط وجوب إجابة الدعوة؟ الجواب: إذا تحقق من كونه إسرافاً، فإن بعض الناس قد يعمل طعاماً لمائتين ولكن لا يحضر إلا مائة، فيظهر كأنه إسراف وليس كذلك، ولكن في بعض الحالات يتحقق أنه إسراف، فتكون هناك صالة للحم للغنم، وصالة للحم الطير، وصالة للحم الإبل، وصالة للعجل، وصالة للحلويات، وصالة وصالة وغير ذلك مما تسمعه من أنباء المترفين.
السؤال: إذا أخروا العشاء فهل يجوز الانصراف؟ الجواب: نعم.
فإن الوجوب في الحضور لا في الطعام على الراجح، لكن إذا أكل فهو أحسن.
السؤال: إذا وصل الدف إلى مسامع الرجال، فهل ينكر؟ الجواب: لا.
لكن لا يجوز أن يستمع إلى صوت النساء وهن يغنين، ولا يجوز لهن استعمال مكبرات التي توصل أصواتهن إلى الرجال، وهذا كثير وحادث، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وإذا ذهب إلى دعوة فرأى منكراً أنكره، ولا بد من ذلك.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يتبع السنة، ويحرص على حقوق الأخوة، وأن يجعلنا من أصحاب العفة، وأن يرزق من لم يتزوج بزوجة صالحة، وأن ينعم على من تزوج بصلاح زوجته والذرية الصالحة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(185/8)
منكرات الأعراس
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، وخلق الزوجين الذكر والأنثى، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، له الكبرياء في السموات والأرض وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: ما أكثر المنكرات في الأعراس! وما أكثر الذين يسقطون حقهم في وجوب الإجابة في الوليمة، بسبب ما أحدثوه ويحدثونه في ولائهم من المحرمات الصريحة! اسمعوا ماذا فعل الصحابة رضوان الله عليهم، جاء عند البيهقي بسند صحيح: [أن رجلاً صنع طعاماً، فدعا ابن مسعود رضي الله عنه، فقال ابن مسعود: أفي البيت صورة؟ قال: نعم، فأبى أن يدخل حتى كسرت الصورة] تمثال في البيت، رفض ابن مسعود أن يدخل حتى كسرت الصورة، بل حتى يكون -أحياناً- مما يتنزه عنه، كان لبعض الصحابة موقف حاسم، عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: [[أعرست في عهد أبي فآذن أبي الناس -أي: دعاهم- فكان أبو أيوب فيمن آذنا، وقد ستروا بيتي ببجادٍ أخضر -جعلوا على الجدران بجاداً أخضر- فأقبل أبو أيوب، فاطلع، فلما دخل البيت ورآه، قال: يا عبد الله بن عمر -والصحابة لم يكونون يجاملون بعضهم بعضاً في الحق أبداً- قال: يا عبد الله! أتسترون الجدر؟! فقام أبي واستحيا وقال: غلبنا عليه النساء يا أبا أيوب.
فقال أبو أيوب: من خشيت أن تغلبه النساء فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لكم طعاماً، فرجع] هل كان أبو أيوب يرى ستر الجدران بالقماش منكراً؟ محتمل، ولعل ابن عمر أفاد من تلك القصة، فقد جاء عنه رضي الله عنه: أنه دخل إلى بيت رجل دعاه إلى عرس، فإذا بيته قد سترت بالكرور، فقال ابن عمر: [يا فلان! متى تحولت الكعبة في بيتك؟ -الكعبة هي التي تستر بالقماش- متى تحولت الكعبة في بيتك؟ ثم قال لنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ليهتك كل رجل مما يليه] كل واحد يمزق ما كان من جهته، هذا على قضية ستر الجدار بقماش، فكيف باليوم -يا عباد الله- وما أدراك ما يحدث اليوم من المنكرات؟! الفرق الغنائية تأتي بقضها وقضيضها بكلام الأغاني الخليع والإباحي، وذكر الحب والغرام والعشق، والمعازف يضرب بها، وقد علمنا تحريمها من الكتاب والسنة، ودخول الرجل على النساء وكثير منهن غير محتشمات ولا متحجبات، والتقاط الصور، وما أدراك ما الصور! الصور للنساء، والتي ترى من قبل الرجال في كثير من الأحيان، ثم ملابس النساء في الأعراس في غاية السوء، من القصير والشفاف والمشقوق، تجلس فيظهر الفخذ وما فوقه! ويحدث من المنكرات ما الله به عليم إسراف وطعام يرمى في براميل القمامة، إذا كان العلماء قد كرهوا النثار وهو ما ينثر على الحاضرين من الجوز وغيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النهبة؛ لأنه يكون فيها إظهار للجشع، فكيف إذا ظهرت المنكرات والمحرمات ابتداء من بطاقة الزفاف، بطاقة الدعوة فيها منكرات، وفي كلام بعضهم لبعض: بالرفاء والبنين، وهذا من شعار أهل الجاهلية الذين كانوا يكرهون البنات، وإنما السنة أن يقال: (بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير) أو يقول: بارك الله لك، أو على البركة، وهي كلمة شرعية وردت في الأحاديث: على البركة وعلى خير طائر، ويقول بعد إجابة دعوتهم: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم، أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة، اللهم أطعم من أطعمنا، واسق من سقانا وهكذا من الكلمات الطيبة، لكنهم الآن يحولون صالات الأعراس ميداناً لمبارزة الله ورسوله بالمعاصي، وما هو مسموع كثير كثير.
أيها الإخوة: لماذا لا ننضبط بقوانين الشريعة وحدودها؟ لماذا تستأسد النساء، ويكون الرجال كالحمام الأليف؟ لماذا تجاب كثير من النساء إلى طلباتهن بالمنكر؟ وبعضهم يقول: من الساعة العاشرة إلى الثانية عشرة حفل إسلامي، ومن الثانية عشرة إلى الفجر حدث ولا حرج، ثم ابتدعوا شيئاً اسمه: وجبة الإفطار، حيث أن بعض الأعراس لا تنتهي إلا بعد الفجر بمدة، فيفتح البوفية مرة أخرى للإفطار.
عباد الله: إن المسألة قد صارت إلى تضييع صلاة الفجر، إن المسألة قد صارت إلى المنكرات التي تحدث في الولائم، إنه أمر لا يطاق ولا تقره الشريعة أبداً، والواجب علينا نحن الرجال المسلمين أن نقوم لله تعالى بالصدع بالحق، ومنع المنكر والباطل، ونحن قادرون على ذلك، ولا يمنعنك الإحراج أو كلام الناس أن تطيع الله تعالى، لا ترض الناس بسخط الله، فيسخط الله عليك ويسخط عليك الناس، ولكن أرضِ الله ولو بسخط الناس، فسيرضى الله عنك ويرضي عنك الناس.
اللهم جنبنا المنكرات، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم إنا نسألك السعادة في الدارين، والفوز يوم الدين.
اللهم أصلح أزواجنا وذرياتنا واجعلنا للمتقين إماماً، وآمنا في بلادنا هذه وسائر المسلمين في بلدانهم، يا رب العالمين.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(185/9)
طلوع الشمس من مغربها
أورد الشيخ جملة من الأحاديث الواردة في علامات الساعة الصغرى والكبرى، وخص علامة طلوع الشمس من مغربها بالحديث، وذلك لما يتبعها من تغيرات جذرية في العالم العلوي والسفلي، ثم ذكر عدداً من العلامات التي حدثت أو التي سوف تحدث أو ما حدث ولم يظهر بشكل واضح.(186/1)
أحاديث في أشراط الساعة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فهذه الليلة أيها الإخوة! سنتحدث فيها عن حديث عظيم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث رواه الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعوتهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه نبي، وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويقرب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج -وهو القتل- وحتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقته، وحتى يعرضه عليه فيقول الذي يعرضه عليه: لا أرب لي به، وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانك، وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها).
هذا الحديث قد اشتمل على عدد من أشراط الساعة؛ وأشراط الساعة أشراط صغرى وأشراط كبرى من جهة الحجم وعظم الوقوع.
وأما من جهة هل وقعت أم لا؟ فهي أقسام: فأحدها وقع وانتهى وقوعه، وفق ما قال صلى الله عليه وسلم، والثاني: ما وقعت مبادئه ولم يستحكم بعد، أوله وقع ولكنه لم يستحكم ويستشر بعد.
والثالث: ما لم يقع منه شيء ولكنه سيقع قطعاً.
فالقسم الأول تقدم وقوعه كما قال صلى الله عليه وسلم، من ذلك: اقتتال الفئتين العظيمتين، وظهور الفتن، وكثرة الهرج والقتل، وتطاول الناس في البنيان، وتمني بعض الناس الموت، وقتال الترك، وتمني رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الأمة تبعت الأمم الأخرى كما جاء في حديث أبي هريرة: (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها).
وأما النوع الثاني: وهو الذي بدأ ولكنه لم يستحكم بعد: فتقارب الزمان، هذا الكلام ذكره العلماء منذ مئات السنين، وهو الآن في عصرنا أوضح، تقارب الزمان، وكثرة الزلازل، وخروج الدجالين الكذابين، وكذلك ما جاء في الحديث أنه يلقى الشح: (ولا تقوم الساعة حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة) كما جاء في حديث مسلم وقد جاء في حديث حذيفة بن أُسيد أنه تقع قبل الساعة آيات منها: (ثلاثة خسوف، خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بـ جزيرة العرب).
وكذلك جاء في حديث سحارى عند الإمام أحمد وأبي يعلى عنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يخسف بقبائل من العرب) وهذه الخسوف الثلاثة خسوف عظيمة أكثر مما يقع ويعاين ويشاهد من جهة المكان ومن جهة القدر، يكون خسف على نطاق واسع، وإلا فقد حدثت خسوف وانهيارات أرضية وزلازل، ولكن ليست كهذه الثلاثة التي ستكون أعظم وأكبر وأفظع في القدر والنتائج.
وكذلك جاء في بعض الأحاديث ذكر أشراط للساعة مثل حديث ابن مسعود: (لا تقوم الساعة حتى يسود من كل قبيلة منافقوها)، وكذلك في حديث: (كان زعيم القوم أرذلهم، وساد القبيلة فاسقهم)، وكذلك (إذا وسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).
وجاء كذلك بعض الأحاديث التي جمعها بعض أهل العلم، كما فعل ابن حجر رحمه الله تعالى، ومنها ما صح ومنها ما هو ضعيف، وفي بعض هذه الروايات: (حتى يكون الولد غيضاً، والمطر قيضاً، وتفيض الأيام فيضاً) وفي رواية: (ويجترئ الصغير على الكبير، واللئيم على الكريم، ويخرب عمران الدنيا، ويعمر خرابها).
هذا من جهة بعض الأشراط التي وقع أولها ولم تستحكم وتستشر.
وهناك نمط ثالث وهو لم يقع بعد، ومنها: طلوع الشمس من مغربها، ومنها: قتال المسلمين لليهود، كما جاء في الحديث الصحيح: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر) الحديث، وقد أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه.
وهذا القتال يقع قبل الدجال كما ورد في حديث سمرة عند الطبراني، وكذلك جاء في حديث أنس: (أن أمام الدجال سنون خداعات؛ يكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، ويخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلم فيها الرويبضة)، وهو الرجل التافه يتكلم في مصير العامة من الناس، رواه الإمام أحمد وأبو يعلى والبزار وسنده جيد.
وقد جاء عند ابن ماجة في حديث أبي هريرة: (قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة).
وجاء في حديث سمرة كذلك: (لا تقوم الساعة حتى تروا أموراً عظاماً لم تحدثوا بها أنفسكم)، أي: ما خطرت على بال، وفي لفظ: (يتفاقم شأنها في أنفسكم، وتسألون هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكراً؟).
وجاء في هذا الحديث: (وحتى تروا الجبال تزول عن أماكنها)، وقد أخرجه الإمام أحمد والطبراني وأصله في الترمذي.
وجاء في حديث عبد الله بن عمر: (لا تقوم الساعة حتى يتسافد الناس في الطريق تسافد الحمر) أي: كما أن الحمير يركب بعضها بعضاً، ويفعل بعضها في بعض، فكذلك سيفعل الناس في الطرقات وعلى الملأ وأمام الآخرين.
وجاء في حديث أبي يعلى عن أبي هريرة: (لا تفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق، فيكون خيارهم يومئذ من يقول: لو واريناها وراء هذا الحائط)، وللطبراني في الأوسط من حديث أبي ذر وفيه: (يقول أمثلهم: لو اعتزلتم الطريق)، وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني: (وحتى تمر المرأة بالقوم فيقوم إليها أحدهم فيرفع بذيلها كما يرفع ذنب النعجة، فيقول بعضهم: لو واريتها وراء الحائط، فهو يومئذ فيهم مثل أبي بكر وعمر) أي: في العِظم والمكانة.
وكذلك جاء في حديث حذيفة بن اليمان عند ابن ماجة: (يدرس الإسلام -أي: يزول وينتهي- كما يدرس وشي الثوب -كما ينمحي لون الثوب ويزول مع الوقت- حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، ويبقى طوائف من الناس -الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة- يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: (لا إله إلا الله) فنحن نقولها).
وكذلك جاء في حديث أنس: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: لا إله إلا الله، فنحن نقولها)، وقد أخرجه الإمام أحمد بسند قوي، وجاء عند مسلم بلفظ: (حتى لا يقال في الأرض: الله الله).
وفي حديث ابن مسعود (لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس)، وفي رواية: (أنه يبقى حثالة) وفي رواية: (لا تقوم الساعة على مؤمن).
وجاء عند أحمد بسند جيد كما قال ابن حجر رحمه الله عن عبد الله بن عمر: (لا تقوم الساعة حتى يأخذ الله شريطته من أهل الأرض -يأخذ أهله ويأخذ المؤمنين من أهل الأرض- فيبقى عجاج لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً).
وكذلك جاء في حديث الطيالسي عن أبي هريرة: (لا تقوم الساعة حتى يرجع الناس من ملتي إلى الأوثان يعبدونها من دون الله).
وفي رواية لـ مسلم وأحمد: (ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان)، ووجد في بعض الأماكن عبادة للأوثان من بعض قبائل العرب فعلاً وحقاً.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تذهب الأيام والليالي حتى تعبد اللات والعزى من دون الله)، رواه الإمام مسلم وفيه: (ثم يبعث الله ريحاً طيبة فيتوفى فيها كل مؤمن في قلبه مثقال حبة من إيمان، فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم).
فالأشراط منها صغار وقد مضى أكثرها، ومنها كبار ستأتي، والكبار التي تضمنها حديث حذيفة بن أسيد عند مسلم وهي: الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، والريح التي تهب بعد موت عيسى، فتقبض أرواح المؤمنين.
فماذا بالنسبة للطائفة المنصورة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن وجودها، وأنها إلى آخر الزمان؟ ف
الجواب
أن هذه الطائفة قائمة حقاً وفعلاً، ولكنها ستبقى إلى قرب نهاية الزمان، فقبيل قيام الساعة يبعث الله ريحاً فتقبض أرواح هذه الطائفة المنصورة وغيرها من المؤمنين، ويبقى شرار الخلق وعليهم تقوم الساعة، هكذا وجه الجمع بين حديث الطائفة المنصورة، وحديث: (أنه لا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول: الله الله) أي: لا يذكر الله عز وجل، وبالتالي لا يكون هناك فائدة من وجود المصاحف، فيسرى على كتاب الله في ليلة، ولا يبقى منه آية لا في المصاحف ولا في الصدور، ويبعث الله تعالى ذو السويقتين فيخرب الكعبة؛ لأنه لا أحد يحج إلى(186/2)
ما تضمنته أحاديث أشراط الساعة
هذا الحديث -الذي مر معنا- تضمن عدة فقرات: أولها: (حتى تقتتل فئتان) وقد ذكر شراح الأحاديث أن هاتين الفئتين هما فئة علي، ومعاوية رضي الله تعالى عنهما، وكان لكل منهما دعوة، فأما معاوية رضي الله عنه فإنه كان يطلب القصاص من قتلة عثمان، وعلي رضي الله عنه كان يريد أن يبايعه أولاً، ثم ينظر في قتلة عثمان، ومعاوية رضي الله عنه كان ولي الدم يريد المطالبة أولاً بقتلة عثمان وحصل ما حصل بين الصحابة، ونحن نمسك عما جرى بينهم، ولا نتكلم فيه، ونترضى عنهم، ولكن نقول: ما أخبر به صلى الله عليه وسلم وقع فعلاً، ووقعت الفتنة وكان قتل عمر هو كسر الباب الذي دخلت فيه الفتن على المسلمين، وقضى الله قضاءه، وشاء ما شاء، وقدر ما قدر، فقتل في تلك الأحداث من قتل من خيار المسلمين.
وكان للمنافقين ولـ عبد الله بن سبأ اليهودي وغيره من أهل الشر الدور العظيم في حصول تلك الفتن.
ثانيها: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك دجالين قريب من ثلاثين يبعثون، والمقصود ببعثهم هو ظهورهم، لا بعث الرسالة، فإن بعث الرسالة يكون للأنبياء، وقال في الحديث: (قريب من ثلاثين) وجاء في رواية عند الإمام أحمد رحمه الله: أن هؤلاء يبعث سبعة وعشرون منهم أربع نساء ويكون ما ذكر من الثلاثين هو جبر للكسر.
أما بالنسبة لمن ظهر، فقد ظهر عدد من الدجالين منهم مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وطليحة الأسدي، الذي رجع، وتنبأت سجاح امرأة وتزوجها مسيلمة ثم رجعت بعده، فهؤلاء قد ظهروا، فذكر الإمام أحمد رحمه الله عن حذيفة بسند جيد (سيكون في أمتي كذابون دجالون سبعة وعشرون منهم أربع نسوة، وإني خاتم النبيين لا نبي بعدي)، جاء في هذه الرواية قال: (كلهم يزعم أنه رسول الله)، أي: يدعي النبوة.
ومدعو النبوة كثر، ادعى النبوة ناس كثيرون ربما كانوا بالمئات، ولكن رءوسهم الذين كان لهم شأن كبير وفتنة كبيرة وعظيمة وأتباع، وربما صار قتال عظيم بينهم وبين المسلمين، فهؤلاء لا يتجاوزن الثلاثين كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فالمدعون الصغار للنبوة كثر.
ثالثها: قال في هذا الحديث: (وحتى يقبض العلم)، فأما قبض العلم فهو ظاهر؛ لأن قبض العلم سيكون فيه ذهاب العلم والعلماء؛ لأن الله لا ينتزع العلم انتزاعاً من الصدور، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا قبض الله العلماء بقي الجهال، فاتخذ الناس رءوساً جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.
وكذلك فإن من الظواهر التي تدل على ذهاب العلم: أن يلتمس من يعلم المسألة فلا يوجد إلا بشق الأنفس، وربما لا يصل بعض الناس إلى من يسأله، فيظهر الجهل ويظهر مفتون كذبة، بعضهم يفتي بالهوى، وعلى ما يريد الناس، ولأجل المال والدنيا، وبعضهم يفتي بالجهل حباً للترأس، ولأن يسأل ويكون له مكانة بين الخلق.
وهذا الشيء قد رئي عياناً، فقد نقص العلم وظهر الجهل، وقد حصل ما حصل من قبض العلم بموت كثير من العلماء، والمراد بالعلم بطبيعة الحال هو: علم الكتاب والسنة، والعلماء هم ورثة الأنبياء، فالعلماء مع قلتهم لا يزالون في فناء ونقصان، وسيكون نهاية رفع العلم -كما قلنا- بزوال المصاحف والقرآن من الأرض، وأن يبقى الناس جهلة ما فيهم واحد يذكر الله عز وجل.
وهذا الحديث كونه يشير إلى ذهاب العلم لا يعني الاستسلام، وأن يقال: إن هذا وقتنا الذي سيذهب فيه العلماء ولا يبقى فيه أحد، لا.
وإنما هو حذرنا من وقوع هذا الشيء، وليس بالضرورة أن يقع في حياتنا وفي زماننا، فقد يقع بعدنا بمدة، ولذلك فإن على المسلمين مسئولية في نشر العلم، حتى لا نكون نحن في الزمن الذي تقع فيه هذه الكارثة.
وكذلك يكون مقاومة انتشار الجهل بحفظ الكتاب والسنة، وكلام العلماء والجلوس إليهم والأخذ عنهم، وكذلك تحصيلهم للقراءة في الكتب، وسماعه ونشره بالطباعة والتسجيل وغير ذلك من الوسائل حتى لا نكون نحن هذا الجيل السيئ الذي ينتهي فيه العلم، ولذلك كان من بركة اليقظة الإسلامية المعاصرة انتشار العلم ونشره بين المسلمين.
رابعها: وأما بالنسبة لقضية كثرة الزلازل فقد وقع كثير منها في البلاد الشمالية والشرقية والغربية، والمقصود بكثرتها شمولها ودوامها، لذلك جاء في حديث أحمد: (وبين يدي الساعة سنوات الزلازل)، وعند الإمام أحمد عن أبي سعيد (تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة)، وما نسمعه في هذا الزمان من مسألة كثرة الزلازل أمر مشاهد، فإنك تسمع بالأخبار العظيمة التي فيها القتلى الكثر، وتخريب المدن والمنشآت ونحو ذلك، وهذا حق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر به.
والزلازل هذه لها صور ولها أشكال، قد تكون حركة واضطراباً وكسفاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن حوالة رضي الله عنه لما وضع يده على رأسه، قال: (يا بن حوالة! إذا رأيت الخلاف قد نزل في الأرض المقدسة، فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام، والساعة يومئذٍ أقرب إلى الناس من يدي هذه إلى رأسك).
الناس يقولون: إنه قد مضى وقت وما حدث شيء ونحو ذلك، فالناس يستعجلون {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47].
خامسها: قوله في الحديث: (يتقارب الزمان) إما أن الزمان يسرع إسراعاً أكثر من قبل، وإما أن البركة تزول، بحيث إنك لو كنت تعيش قبل ألف سنة مثلاً لأمكنك أن تعمل من الأعمال في الأربع والعشرين ساعة أكثر مما تعمله الآن بكثير، ولا يمنع أن يكون الأمران مجتمعين، فيسرع الوقت وتنزع بركته، وقد ذكر العلماء أن الزمن يسرع أكثر منذ قبل، فليس هذا مستبعداً، فالعلماء فسروا تقارب الزمن بتفسيرات منها: الإسراع.
قد يعود ذلك إلى تسارع في حركات الكواكب أو ما أشبه ذلك والله أعلم به، ولكن نزع البركة معروف، وقد ذكر العلماء نزع البركة، وكذلك إسراع الزمان، ويمكن أن يكون تقريب المسافات بالوسائل العصرية في المواصلات والنقل داخل في هذا، وكذلك انتقال الصوت بهذه الأجهزة التي قربت البعيد، فتتكلم معه من بعد كبير في مكانك.
سادسها: قال: (وحتى يكثر فيكم المال فيفيض) أي: أن هذا المال يأتي عليه وقت يكثر فيه، بحيث إنه يزيد عن حاجة الناس، فقد حصل في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن الناس طافوا بالزكاة والصدقات ليوزعوها على الفقراء فلم يجدوا من يقبلها وأغنى عمر الناس.
سابعها: جاء في الحديث (تطاول الناس في البنيان)، وقد حصل ذلك، فكل من كان يبني بيتاً يريد أن يكون ارتفاعه أعلى من ارتفاع الآخر، وربما يكون هذا من المباهاة، وربما يدخل فيه أيضاً المباهاة في الزينة والزخرفة، فالارتفاع الحسي والارتفاع في قيمته وفي زخرفته وفي تشييده وتزيينه، ارتفاع حسي ومعنوي من جميع الجهات، فهم يتطاولون فيه علواً، ويتطاولون فيها أيضاً زخرفة وتشييداً.
ثامنها: (وحتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني! مكانك)، أي: يتمنى الموت من شدة البلاء، وقد حصل هذا، وإذا كان الإنسان لا يجوز أن يدعو على نفسه بالموت، لكن قد يقع في بعض الأحيان أن يتمناه إذا كان يخشى على دينه، لأنه قال: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحييني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي).(186/3)
طلوع الشمس من مغربها وما بعده
تاسعها: ذكر في الحديث من الأشراط الكبيرة قوله: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها)، هذا الشرط: (طلوع الشمس من مغربها) هو من الآيات الكبيرة، وعندنا آيات تدل على قرب قيام الساعة، وآيات تدل على حصول الساعة، فمن الآيات العشر الكبيرة التي تدل على قرب قيام الساعة جداً: خروج الدجال، ونزول عيسى، ويأجوج ومأجوج، والخسف، فخروج الدجال ونزول عيسى ويأجوج ومأجوج والخسف هذه من الآيات العشر الكبيرة التي إذا حصلت تدل على أن الساعة على وشك القيام.
أما الدخان، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والنار التي تحشر الناس، فهذا معناه أن الساعة قد ابتدأت بالقيام فعلاً.
(إذا طلعت الشمس من مغربها فرآها الناس آمنوا أجمعون)، وفي رواية: (آمن من عليها)، أي: من على الأرض كلهم، قال: (فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانُها)، من الذي لا ينتفع؟ الكافر؛ لأن المؤمن أصلاً مؤمن، أما الكافر الذي لم يكن مؤمناً قبل طلوع الشمس، فإنه لا ينفعه إيمانه بعد طلوع الشمس من مغربها.
ويكون مثله مثل من وصلت روحه إلى الحلقوم عند الغرغرة لا يفيده شيئاً، وكذلك مثله مثل نزول العذاب بالكفار: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر:85].
فإذاً هناك حالات لا ينفع فيها الإيمان: إذا بلغت الروح الحلقوم، وإذا طلعت الشمس من مغربها، وإذا نزل عذاب الله بالكفار انتقاماً وبطشاً كما نزل بقوم ثمود وفرعون وغيرهم.
{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} [الأنعام:158] قوله: {بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} فسرها جمهور العلماء: بطلوع الشمس من مغربها، وأما بالنسبة لما رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة رفعه، قال: (ثلاثة إذا خرجن لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض) كيف يفهم هذا الحديث؟ لعل هذه الثلاث تكون متتابعة؛ لأن مدة ملك الدجال هو إلى أن يقتله عيسى، فالدجال يخرج ويمكث في الأرض إلى أن يقتله عيسى، ثم لبث عيسى في الأرض وخروج يأجوج ومأجوج أمران متواليان؛ لأن يأجوج ومأجوج يخرجون في عهد عيسى، وعيسى ينزل والدجال موجود، ويأجوج ومأجوج يخرجون وعيسى موجود.
والذي يترجح والله أعلم أن هذه الثلاثة قبل طلوع الشمس من مغربها، فذكر ابن حجر رحمه الله في الجمع بين الأحاديث قال: فالذي يترجح من مجموع الأخبار: أن خروج الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض، فسيأتي وقت تتغير فيه معظم الأحوال في الأرض.
بداية التغير في الأرض تكون بخروج الدجال، وبعده عيسى، وبعده يأجوج ومأجوج، وينتهي ذلك بموت عيسى بن مريم عليه السلام، ويدفنه المسلمون ويصلون عليه.
وأما طلوع الشمس من مغربها، فهو أول الآيات العظيمة المؤذنة بتغير العالم العلوي؛ لأنه سيحدث تغير في الأرض تحت، وسيحدث تغير فوق في العالم العلوي، فبداية التغيرات العظيمة في العالم الأرضي: خروج الدجال، وبداية التغيرات العظيمة في العالم العلوي سيكون طلوع الشمس من مغربها، وستنتهي العملية بقيام الساعة، ولعل خروج الدابة يقع في اليوم الذي تطلع فيه الشمس من مغربها، ولذلك جاء في صحيح مسلم رحمه الله عن عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه: (أول الآيات طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحىً، فأيهما خرج قبل الأخرى فالأخرى منها قريب).
أول الآيات طلوع الشمس من مغربها: إذاً الأولوية هذه بالنسبة لتغير العالم العلوي، وسيكون طلوع الشمس من مغربها متوافقاً مع خروج الدابة التي تختم على الناس المسلم والكافر ختماً، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول الآيات طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحىً، فأيهما خرج قبل الأخرى فالأخرى منها قريب).
والذي يظهر أن طلوع الشمس يسبق خروج الدابة، ثم تخرج الدابة في نفس اليوم الذي تطلع فيه الشمس من مغربها، لأنه إذا طلعت الشمس من مغربها أقفل باب التوبة، فإذا أقفل باب التوبة استقرت أحوال أهل الأرض على ما هم عليه إيماناً وكفراً، فتخرج الدابة حينئذ لتميز المؤمنين عن الكفار بالختم على وجوههم، تكميلاً للمقصود من إغلاق باب التوبة، لما أغلق باب التوبة ما عاد ينفع الآن أي تغير من الكفر إلى الإسلام، فالدابة تخرج لتسم الموجودين وتطبع عليهم، مؤمن كافر وهكذا، فيكون الختم هذا ظاهراً من قبل الدابة العظيمة التي تخرج ظاهراً على وجوه الناس في ذلك الزمان، والكافر لا ينفعه إيمانه، وكذلك العاصي لا تنفعه توبته ما لم يكن قد تاب من قبل، بل يختم على عمل كل إنسان بالحالة التي هو عليها.
فإذا بدأ التغير في العالم العلوي وهو طلوع الشمس من مغربها، فعند ذلك كل الناس سيخافون ورغم عنهم سيؤمنون، ولكن الإيمان لم يعد بنافعهم في ذلك الوقت؛ لأنه ارتفع الإيمان بالغيب، والأمور العظيمة بدأت في الوقوع، مثل الإنسان إذا نزعت روحه ووصلت الحلقوم، وتعاين الملائكة، وعرف أن المسألة حق، والموت حق، والجنة والنار حق، وعرف أن الدنيا فانية لكن بعد فوات الأوان.
إذاً: إذا بلغت الروح الحلقوم ما عادت تنفع التوبة؛ لأنه ظهر عالم الغيب وانكشف الغيب المستور، وكذلك إذا طلعت الشمس من مغربها انكشف الغيب المستور، وبدأ عالم الغيب يتجلى، فعند ذلك لا ينفعه إيمان ولا تنفعه توبة.
فتوبة من شاهد ذلك الأمر مردودة، ولا يعني طلوع الشمس من مغربها انتهاء كل شيء في تلك اللحظة، فربما تعود الشمس والقمر يكتسبان ضوءاً، ويطلعان ويغربان كما كانا من قبل، إلى أن يأذن الله بكسوفهما بالكلية، وتنكسف الشمس والقمر والنجوم، وتتصادم الكواكب وتأفل النجوم، وتتشقق السماء وتنهار المخلوقات على بعضها، فربما يكون هناك وقت في آخر الزمان إلى أن ينفخ في الصور.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في توالي الآيات: بأن الناس سيعيشون حالات من الرعب والفزع، لأن الأحداث تتوالى بشكل مذهل، فقال صلى الله عليه وسلم: (الآيات خرزات منظومات في سلك؛ إذا انقطع السلك تبع بعضها بعضاً)، خذ مسبحة واقطع السلك، كيف يحدث للحبات؟ تتوالى وراء بعض، لا يوجد فرصة بين الحبة والتي تليها، فكما يكون التوالي في خروجها من السلك تكون الآيات متوالية، والناس لا يأخذون نفساً، ولا يتراجع إليهم النفس أو يهدأ روعهم أو يرجع إليهم عقلهم وتفكيرهم؛ لأن المسائل تتوالى، وأشياء فوق التخيل وفوق الوصف، ولذلك فلا يكون هناك وقت لأن يتدارك الإنسان أمره (بين يدي الساعة عشر آيات كالنظم في الخيط إذا سقط منها واحدةٌ توالت).
وعن أبي العالية: (بين أول الآيات تتابع كتتابع الخرزات في النظام)، وهو الخيط، وفي آخر الزمن سيمضي الوقت بسرعة شديدة -كما ذكرنا- الوقت يتسارع والأحداث تتسارع، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تكون السنة كالشهر)، السنة في الطول تكون كالشهر، (واليوم كاحتراق السعفة) أي: يكون مرور اليوم سريعاً جداً كاحتراق السعفة، فهي أربع وعشرين ساعة لكن المرور سريع، ونزع البركة كما قلنا قبل ذلك.
وقلنا: أول الآيات الدجال، ثم نزول عيسى، ثم خروج يأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من المغرب يكون بعد ذلك؛ لأن نزول عيسى سيكون فيه إسلام أناس كفار، ولا يبقى في الأرض كافر مطلقاً إما قتل وإما إسلام، والجزية لا تؤخذ ولا تقبل، هذا من خصائص عهد عيسى عليه السلام، لا تقبل الجزية من الكتابيين، وإنما إما إسلام وإما قتل، فهناك سينتفع ناس بالإسلام على يد عيسى عليه السلام.
فمعنى ذلك أن طلوع الشمس من مغربها سيكون بعد عيسى عليه السلام، ومن تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه، فالذي يتوب بعدها لا يتوب الله عليه، فلا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت طبع الله على كل قلب بما فيه وكفى الناس العمل، فهذا بالنسبة لمسألة انتهاء مصائر الناس في الإيمان والكفر، بطلوع الشمس من مغربها.
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على التوبة وقال: (لا تقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، (التوبة مفروضة قبل أن تطلع الشمس من مغربها) (إن بالمغرب باباً مفتوحاً للتوبة مسيرة سبعين سنة، لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه)، رواه الترمذي وقال: حسن صحيح (فإذا طلعت الشمس من مغربها رد مصراعا الباب، فيلتئم ما بينهما فتغلق) يغلق باب التوبة بالكلية.
والشمس طلوعها من مغربها الذي ورد في الحديث يكون بناءً على أمر من الله عز وجل، ومنعٍ منه سبحانه وتعالى، فإن الشمس إذا غربت سلمت وسجدت، هكذا جاء في الحديث، وإن كنا نحن لا نراها تسجد ولا نراها تسلم، ولكن هذا ما يحدث، لأنه من عالم الغيب الذي لا ندركه: (إن الشمس إذا غربت سلمت وسجدت، واستأذنت في الطلوع من المشرق فيؤذن لها، حتى إذا كانت ذات ليلة -التي نتحدث عنها الآن- فلا يؤذن لها وتحبس ما شاء الله تعالى، ثم يقال لها: اطلعي من حيث غربتي، قال: فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل).
وورد في بعض الآثار والله أعلم بصحتها: أنه يطول ليل المتهجدين، ويستغرب الناس من طول الليل، وأن الشمس ما طلعت، وأن ذلك يكون قدر ثلاث ليال ونحوه، وأن الجار ينادي جاره: يا فلان! ما شأن الليلة، لقد نمت حتى شبعت، وصليت حتى أعييت؟! فيفاجئون بأن الشمس قد طلعت من مغربها.
وقد جاء عن يزيد بن شريح وكثير بن مرة: أنه إذا طلعت الشمس يطبع على القلوب بما فيها، وترتفع الحفظة، وتؤمر الملائكة ألا يكتبوا عملاً، وهذا الكلام يؤيده حديث عائشة عنها موقوفاً، والحديث هذا وإن كان موقوفاً على عائشة(186/4)
جملة مما حدث وسيحدث من أشراط الساعة
هذا الحديث الذي أخبرنا به صلى الله عليه وسلم لأجل الاستعداد ليوم المعاد، وذكر لنا أشياء بعضها حصلت، ومن الأدلة على أن الأشياء الكبيرة ستحصل، أن الأشياء الأخرى التي أخبرنا بها قد حصلت، فقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم بأشراط كثيرة للساعة، أخبر أن بعثته أول شرط من أشراط الساعة، وموت النبي عليه الصلاة والسلام من أشراط الساعة وقد حصل، وفتح بيت المقدس حصل، والطاعون حصل، وفيض المال قد حصل، وظهور الفتن من قبل المشرق حصل، والمقتلة بين الصحابة حصلت، واتباع الأقوام الأخرى حصل، وإدعاء النبوة حصل، وانتشار الأمن ولا يخاف الرجل إلا الذئب على غنمه حصل شيء من ذلك.
وظهور النار العظيمة في الحجاز وقرب المدينة في عام ستمائة وأربعة وخمسين قد حصل، وكتب عنه المؤرخون وفصلوا عنه تفصيلاً كثيراً، وقتال الترك وأن الترك يقاتلونا قد حصل، وقتال العجم حصل، وضياع الأمانة حصل، وقبض العلم وصار كثرة الشرط وأعوان الظلمة ما أكثرهم، وانتشار الزنا والربا وقع، وظهور المعازف وقع، وكثرة شرب الخمر كذلك، وزخرفة المساجد مملوءة، والتطاول في البنيان قام، وولدت الأمة ربتها وقع ذلك فعلاً، وكثرة القتل ما أكثره، وتقارب الزمن نحن نحسه، وتقارب الأسواق فيشتري في هونج كونج والسلعة في أمريكا، وظهر الشرك في الأمة والفواحش وقطعت الأرحام، وأسيء الجوار، وتشبب المشيخة حصل، وكثرة الشح ولا أكثر منه، وكثرة التجارة وما أكثرها، وتعين المرأة زوجها على التجارة؛ فقد أخرجوا سجلات تجارية بأسماء زوجاتهم حصل، وكثرة الزلازل نسمع عنها، وظهور الخسف والمسخ والقلب نحن منه قريب، وذهاب الصالحين، وارتفاع الأسافل، وأن يكون السلام للمعرفة فهذا منتشر، والتماس العلم عند الأصاغر، وظهور الكاسيات العاريات؛ اذهب إلى السوق لتراه في الشوارع، وصدق رؤيا المؤمن: (تكاد رؤيا المؤمن لا تكذب)، وفشوا القلم؛ انتشار الكتاب والمطابع والجرائد والأجهزة التي تنشر الكتابات شيء لا يصدق، وانتفاخ الأهلة يرى الهلال لليلة، فيقال: عمره ليلتان، وذاك لا يعول رأيته كبيراً، هذا معناه أنهم أخطئوا في رؤية الهلال، نقول: لا، من أشراط الساعة انتفاخ الأهلة، يمكن إذا رأيته أنت منتفخاً على أشراط الساعة الواقعة، وكثرة الكذب وعدم التثبت في الأخبار لا يوجد أكثر منه فشواً، وكثرة النساء وقلة الرجال، ترى في البيت سبعة بنات وولداً وربما لا يوجد، وعودة أرض العرب مروجاً وأنهاراً، هاهي الآن في طريقها إلى الحصول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مر بـ تبوك، فقال: (يا معاذ! يوشك أن ترى ما على هاهنا وهاهنا مروجاً وأنهاراً)، والآن الزراعة في تبوك والانتشار متوسع وآخذ، وتمني الإنسان الموت، وكثرة الروم وقتال المسلمين.
بقيت أشياء من الأشراط الصغرى نحن ننتظرها، كما قلنا مثلاً: القذف والمسخ، يمسخ ناس قردة وخنازير من هذه الأمة، سيقع قطعاً ولابد، وربما يقع في عصرنا، وربما ندركه نحن في أعمارنا، حدوث قذف من السماء يقذهم الله، ويمسخ ناساً قردة وخنازير سيقع قطعاً، ستفتح القسطنطينية فتحاً غير هذا الفتح الذي حصل، وستفتح روما أيضاً، وسيخرج القحطاني، وكذلك سيحسر الفرات عن جبل من ذهب، وتكلم السباع الإنسان، فهذه أشياء نحن ننتظرها.
فالسباع تكلم الإنسان وقد حصل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن كلم الذئب راعياً، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المسجد بـ المدينة، فدخل راع وسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم فدل عليه، وأخبره بقصته، وقال: إنه كان معه غنمه في البادية، فجاء الذئب فعدا على شاة، فأخذها فتبعته فاستنقذتها منه، فأقعى الذئب على ذنبه، يقول: تأتي على رزق ساقه الله إلي فتأخذه مني، فقلت: واعجباً! ذئب يتكلم كلام الإنس، فقال: ألا أنبئك بما هو أعجب من ذلك؟ نبي بـ يثرب يخبر الناس بأنباء من قد سبق، وجاء الراعي ودخل المدينة، وفعلاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم يخبر الناس بأنباء من قد سبق.
وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن البقرة التي تكلمت، وأخبر أنه يؤمن بذلك هو وأبو بكر وعمر، فحصل قطعاً كلام للبقرة وللذئب ولا يستبعد أن تحصل أشياء أخرى، من أن تكلم السباع الإنسان، فقد نطق الحديد: المسجلات والميكرفونات والكمبيوتر.
فإذاً أكثر الأشراط الصغرى حصلت، وبقي شيء واحد من الأشياء الصغرى، مثل -كما قلنا- فتح روما، وحسر الفرات عن جبل من ذهب، وغير هذه الأشياء باقية، وبقي بعد ذلك الأشياء الكبيرة التي تبدأ بخروج الدجال.
فأقول: هذه الأشراط التي أخبرنا عنها النبي صلى الله عليه وسلم هي موعظة ليستعد الناس، لأنها إذا حصلت قامت الساعة -كما قلنا- لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، هذا والله تعالى أعلم، وننتقل للإجابة على بعض الأسئلة.(186/5)
الأسئلة(186/6)
السحر وعلاجه الشرعي
السؤال
نعيش في مجتمع يكثر فيه السحر، فما هو العلاج الشرعي؟
الجواب
العلاج الأساسي للسحر هو المعوذات التي رقى بها جبريل النبي صلى الله عليه وسلم لما سحره لبيد اليهودي وقد حصل من النبي صلى الله عليه وسلم معاناة قبل أن يشفيه الله تعالى ويرسل جبريل بهاذين السورتين العظيمتين المعوذتين، وذكر بعض السلف أيضاً أخذ سبع ورقات من السدر الجاف تطحن، وتجعل في أناء، ويقرأ فيها آيات السحر الموجودة في البقرة والأعراف وطه، ويشربها ويبرأ بإذن الله.
أما الذي يزيد انتشار السحر هو الذهاب إلى السحرة، وكانت الشريعة في غاية الحكمة لما حرمت الذهاب إلى السحرة، لأنه إذا ما ذهب الناس إلى السحرة يفلسون ويغلقون ولا يعملون، لكن مادام الناس يذهبون إلى السحرة فالسحر في انتشار، أحدهم يعمل السحر والثاني يفكه، تجارة الآن، والسحرة عندهم مقاولات، شخص يعمل السحر والثاني يفكه بالنقود، والأجرة بينهما.(186/7)
ميقات الإحرام
السؤال
أريد العمرة إن شاء الله، وقبل الذهاب سوف أزور أحد الأقارب في جدة، فمن أين الإحرام؟
الجواب
الإحرام من الميقات لاشك، وإذا جاوزت الميقات إلى جدة ولم تحرم منه يجب عليك أن تعود إليه لتحرم منه، وإلا فقد أسأت ويلزمك دم، ولذلك الإحرام من الميقات.(186/8)
كيفية السجود
السؤال
بعض الناس لا يسجد على الأعضاء السبعة هل تصح صلاته؟
الجواب
لا، إذا رفع قدميه في الهواء أثناء السجود، وما وضع كفيه على الأرض فإن سجوده باطلٌ، وبالتالي صلاته باطلة.(186/9)
مواضع جلسة الاستراحة
السؤال
متى وأين تكون جلسة الاستراحة؟
الجواب
بين الركعة الأولى والثانية، وبين الثالثة والرابعة، قبل أن يقوم إلى الثانية، وقبل أن يقوم إلى الرابعة، جلسة خفيفة يستوي قاعداً فيها لا ذكر فيها ثم يقوم بعدها، كما جاء في حديث مالك بن حويرث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستوي قاعداً في وتر من صلاته) رواه البخاري.(186/10)
وضع المأموم بجانب الإمام
السؤال
كيف يكون وضع المأموم مع المصلي ووضع قدميهما إذا كانا اثنين فقط؟
الجواب
إذا كانا اثنين فقط يقومان بجانب بعضهما البعض لا يتقدم المأموم على الإمام ولا يتأخر، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه قام بجانب النبي صلى الله عليه وسلم فتأخر ابن عباس، فقدمه النبي صلى الله عليه وسلم، فتأخر ابن عباس، فقال له بعد الصلاة: ما لي أجعلك حذائي في الصلاة فتخنس)، أي: ترجع إلى الخلف، فـ ابن عباس أخبره أنه ما كان ينبغي له أن يقوم بمقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو أقل منه فضلاً ولذلك رجع، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن علمه أن المأموم إذا كان مع الإمام وحدهما فقط يصف المأموم بجانب الإمام بالضبط في مستوى واحد، وهذا الحديث في الصحيح الذي يثبت هذه السنة.(186/11)
لفظة: (وبركاته) في التسليمتين
السؤال
ما حكم قولي: وبركاته مع التسليمتين؟
الجواب
هذا ثابت فيهما إن شاء الله كليهما، وقد ذكر بعض المحدثين المعاصرين أنها لم تثبت في الثانية، ولكن من تتبع بعض نسخ أبي داود وجدت لفظة: (وبركاته) في التسليمة الثانية أيضاً وليس في الأولى فقط، فالتحقيق إن شاء الله في هذه المسألة ثبوت لفظة: (وبركاته) في التسليمتين جميعاً.(186/12)
زكاة الأموال
السؤال
عندي شقة أتملكها منذ عشر سنين، ومازال علي أقساط رمزية لعشر سنوات أخرى، والشقة لدي بغرض الاستثمار في العمل أو البيت قمت بتأجيرها منذ سنين لتغطية الأقساط، هل علي زكاة؟
الجواب
مادمت أجرتها إذاً الزكاة في الإيجار إذا حال عليه الحول، وإذا استلمت الإيجار وصرفته، ولم تنو بيع الشقة فليس عليك زكاة لا في الشقة ولا في إيجارها.(186/13)
معنى حديث (إن حوسب هلك)
السؤال
ما معنى قوله: (إن حوسب هلك)؟
الجواب
معنى قوله: (إن حوسب هلك) أن هناك أناساً لا يحاسبون أبداً، وهم السبعون ألفاً الذين تكلمنا عنهم، مع كل ألف سبعون ألفاً، وهناك أناس يحاسبون حساباً يسيراً، لا يدخلون في هذا الحديث، وينقلبون إلى أهلهم مسرورين، وهناك طائفة ثالثة تحاسب حساباً دقيقاً يفتش عنه واحدة بواحدة، هذا يهلك؛ لأنه إذا وصل إلى هذه المرحلة للحساب يعني أنه سيدخل النار، من نوقش الحساب عذب، إذا صار النقاش في كل واحدة هذا يوقن أنه سيدخل النار، لكن إذا عفا الله عنه ومنّ عليه، وصارت حسناته أكثر من سيئاته، وشملته الرحمة والمغفرة، سيكون من الذين يحاسبون حساباً يسيراً، وينقلب إلى أهله مسروراً.(186/14)
غزوة الرجيع
في هذا الدرس نعيش من بطولات الصحابة رضوان الله عليهم، وما أصابهم من الأذى في سبيل تبليغ هذا الدين، وما نالوه من الأجر والشهادة، مع أحداثها وما فعل المشركين بالصحابة فيها، وموقف الصحابة الأبطال.
ولقد ذيلها الشيح بشيء من البسط والشرح، وذِكْر بعض الفوائد المستفادة منها.(187/1)
مقتل الصحابة في غزوة الرجيع
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فنحن في هذه الليلة -أيها الإخوة- مع قصة من بطولات الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وما أصابهم من الأذى، وما حصل لهم من الشهادة في سبيل الله، وصبر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا المصاب العظيم هو والمسلمون معه، وذلك في هذه القصة التي حصلت في غزوة الرجيع، وقد رواها أبو هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عيناً، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب، فانطلقوا حتى كانوا بين عسفان ومكة ذُكروا لحيٍ من هذيل يُقال لهم بنو لحيان فتبعوهم بقريبٍ من مائة رامٍ واقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه فوجدوا فيه نوى تمرٍ تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتهى عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدفد وجاء القوم فأحاطوا بهم، فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلاً.
فقال: عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفرٍ بالنبل، وبقي خبيب وزيد ورجلٌ آخر، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلو أوتار قسيهم فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث: أي المسلم الذي كان معهما: هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم، فجروه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه.
وانطلقوا بـ خبيب وزيد حتى باعوهما بـ مكة، فاشترى خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيراً حتى إذا أجمعوا قتله، استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحد بها، فأعارته، قال: فغفلت عن صبيٍ لها فدرج إليه حتى أتاه، فوضعه على فخذه فلما رأته فزعتُ منه وفي يده الموسى فقال: أتخشين أن أقتله، ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله.
وكانت تقول: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بـ مكة يومئذٍ ثمرة، وإنه لموثقٌ في الحديد، وما كان إلا رزقٌ رزقه الله، فخرجوا به إلى الحرم ليقتلوه فقال: دعوني أصلي ركعتين ثم انصرف إليهم فقال: [لولا أن تروا أن ما بي جزعٌ من الموت لزدت] فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو، ثم قال: [اللهم أحصهم عددا].
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي شقٍ كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع
ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريشٌ إلى عاصم ليأتوا بشيءٍ من جسده يعرفونه، وكان عاصم قد قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء.
هذه القصة هي غزوة الرجيع، والرجيع اسم موضع من بلاد هذيل كانت فيه هذه الوقعة، وتُسمى أيضاً رعلٍ وذكوان، وهذان البطنان من بطون العرب نسبت الغزوة إليهما، وتسمى أيضاً قصة بئر معونة وهو موضع بين مكة وعسفان وهذه الأسماء الثلاثة لهذه الوقعة التي تُعرف بسرية القراء، وكانت مع بني رعل وذكوان المذكورين.
أما بالنسبة لهذه القصة فقد ذكر أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية عيناً، وهذه السرية كانت عشرة أشخاص عيناً تتجسس للنبي صلى الله عليه وسلم ليأتوه بخبر قريش، وكانوا: عاصم بن ثابت، ومرثد بن أبي مرثد، وخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، وخالد بن البكير، وزاد بعض أهل السير معتب بن عبيد وكذلك معتب بن عوف، هؤلاء الذين أمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم عاصم بن ثابت.
أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة التي قيل إنها غزوة الرجيع أو بئر معونة ولكن الصحيح أن هذه الغزوة تسمى غزوة الرجيع، وكانت سرية عاصم وخبيب في عشرة أنفس، وحصل القتال فيها مع عضل والقارة، وهذه عضل: بطن من بطون مُضر، وأما القَاَرة فهي أيضاً بطن من بطون العرب، ويُقال أن القَاَرة أكمة سوداء فيها حجارة نزلوا عندها فسميت القبيلة بها، ويضرب بهم المثل في إصابة الرمي، وقال الشاعر:
قد أنصف القارة من راماها
فالصحيح والراجح كما ذكر ابن حجر رحمه الله أن قصة عضل والقارة كانت في غزوة الرجيع، وليس في بئر معونة، فإذاً غزوة الرجيع وبئر معونة، هما غزوتان منفصلتان، غزوة الرجيع في آخر سنة (3هـ) وبئر معونة في أول سنة (4 للهجرة) وبالنسبة ليوم الرجيع قدم على النبي عليه الصلاة والسلام رهط من عضل والقارة، فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاماً فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا -انظر الغدر- فأرسل إلينا أناس من أصحابك يفقهوننا، فبعث معهم ستةً من أصحابه، وعليهم عاصم بن ثابت.
إذاً هذه القصة هي غزوة الرجيع التي فيها سرية عاصم بن ثابت كانت مع عضل والقارة، أما سرية القراء السبعين التي كانت مع رعل وذكوان فإنها تسمى بئر معونة.
فإذاً هما غزوتان منفصلتان، وإن كان الإمام البخاري رحمه الله تعالى قد ترجم ترجمةً تُشعر أنهما شيء واحد، ولكن على التحقيق فإنهما غزوتان منفصلتان، والنبي عليه الصلاة والسلام أرسل ستة من أفاضل أصحابه إلى هؤلاء العرب الذين ادعوا أن فيهم إسلاماً، وأنهم يريدون أناساً يفقهونهم في الدين، أرسل لهم هؤلاء الأفاضل وأمّر عليهم عاصم بن ثابت، وكانوا معهم حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة، قال في الرواية: " ذُكروا لحيٍ من هذيل يقال له بنو لحيان، فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ " وقد جاء أنهم مائتا رجل، فيحمل على أنهم مائة رامٍ، ومائة غير رماة، فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمرٍ، نزل هؤلاء الصحابة بـ الرجيع وأكلوا تمر عجوة، فسقطت نواة في الأرض، وكان هؤلاء يسيرون في الليل ويكمنون بالنهار، فقيل إن امرأة من هذيل ترعى الغنم رأت النواة، فأنكرت صغرها وقالت: هذا تمر يثرب، أي: هذا النوى صغير ليس بأرضنا، فصاحت في قومها أُتيتم، فجاءوا في طلبهم فوجدوهم قد كمنوا في الجبل، فلحقوهم والتجأ الصحابة إلى فدفد، والفدفد هو الرابية المشرفة المرتفع من الأرض.
فأراد هؤلاء خداع الصحابة، قالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلاً، الصحابة ستة والكفار مائتا رجل، قالوا: والله ما نريد قتالكم إنما نريد أن نصيب منكم شيئاً من أهل مكة.
فقال عاصم وهو أميرهم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، ولا أقبل اليوم عهد مشرك، ولما حصل هذا دعا الله فقال: اللهم اخبر عنا رسولك، فاستجاب الله دعاء عاصم وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بالخبر في ذلك اليوم أن هؤلاء قد أصيبوا، ورفض عاصم رضي الله عنه، فأخذوا هؤلاء فقاتلوهم فقتل من قتل، وبقي خبيب وزيد ورجلٌ آخر.(187/2)
أسر خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة
فأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق فسلموا أنفسهم فربطوهم فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، أي: إذا كان من أولها أنهم ربطوهم، فهذا بداية الغدر، ولذلك لما كانوا بـ مر الظهران انتزع الرجل الثالث وهو عبد الله بن طارق، انتزع يداه وأخذ سيفه وقاتلهم وقُتل، وبقي اثنان: خبيب وزيد، حتى باعوهما بـ مكة، فلما أتى هؤلاء الكفار إلى مكة وباعوا زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي إلى كفار قريش، فاشترى خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل.
وكان لبني الحارث بن عامرثأر من خبيب؛ لأن خبيباً كان قد قتل كبير العائلة يوم بدر، وهو الحارث بن عامر، قتله يوم بدر، إذاً: خبيب بن عدي رضي الله عنه شهد بدراً، فهو من أفاضل الصحابة لأنه بدري، ثم إنه قتل الحارث بن عامر القرشي.
وكانت القضية في الجاهلية هي الثأر، فأرادوا أن يقتلوا خبيباً مكان قتيلهم الذي قتله، فاشتروه وأسروه عندهم وربطوه في بيتٍ لهم، ومكث عندهم أسيراً حتى إذا أجمعوا قتله، قيل أنهم كانوا في شهر حرام، وأرادوا أن ينتظروا حتى يخرج الشهر الحرام ثم يقتلوه، انتظروا حتى يخرج الشهر الحرام وأخذوهما إلى التنعيم -والتنعيم خارج الحرم كما هو معروف؛ المكان الذي فيه مسجد عائشة - هذا المكان الذي قُتل فيه خبيب وزيد رضي الله عنهما، فقيل أنهم أساءوا إليه في أسره، فقال لهم وهو أسير: [ما تصنع القوم الكرام هذا بأسيرهم] فأحسنوا إليه بعد ذلك، وجعلوه عند امرأة تحرسه، فيقال أن خبيباً قال لهذه المرأة واسمها موهب، قال لها: [أطلب إليك ثلاثاً: أن تسقيني العذب، وأن تجنبيني ما ذبح على النصب، وأن تعلميني إذا أرادوا قتلي].
فالصحابي يطلب أن يأتوا له بطعام حلال، لا يأتوا له بشيءٍ ذُبح على النصب، والنصب: هي الأصنام، وقال الله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة:3] فهو من المحرمات، فأبقوه عندهم حتى انتهت الأشهر الحرم وأجمعوا على قتله، حتى إذا أجمعوا على قتله أراد رضي الله عنه أن يتجهز ويستحد، والاستحداد: هو حلق شعر العانة، وهو من سنن الفطرة الذي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (خمسٌ من الفطرة وذكر منها: الاستحداد) وحلق الشعر بالموسى، ولذلك سميت العملية بالاستحداد وهو حلق شعر العانة بالحديد، أو بالموسى وهي من سنن الفطرة التي قيل أن الله تعالى قد أمر بها إبراهيم الخليل: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة:124] قال ابن عباس رضي الله عنه: [خمسٌ في الرأس وخمسٌ في الجسد، فمنها الاستحداد، ومنها المضمضة والاستنشاق، واللحية، ونتف الإبط، وقص الأظفار، وحلق العانة، والختان].
ويدخل أيضاً في سنن الفطرة غسل البراجم والأشاجع وهي مفاصل الأصابع ومعاقب الأصابع، وكذلك يدخل فيها قص الشارب، وهو قص ما طال عن الشفة العليا مع تخفيف الشارب، فأما قص الأظفار وحلق العانة ونتف الإبط فقد وقت النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين أربعين يوماً لا تجوز الزيادة عليها، كما جاء في حديث أنس بن مالك وهو حديثٌ صحيح.
إذاً هذه الثلاثة: قص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقص الأظفار السنة جاءت بأن لا يُزاد على أربعين يوماً فلا يجوز تركها أكثر من أربعين يوماً، وذكر بعض أهل العلم أن الشعر والأظفار يتعاهد كل أسبوع، وذكر بعضهم أنه يكون في الجمعة.
والشعر والأظفار يختلف باختلاف الأشخاص، فبعض الأشخاص تطول أظفاره وشعره بسرعة، وبعضهم ببطئ المهم أنه لا يترك أكثر من أربعين يوماً، هذه ثلاثة لا تترك أكثر من أربعين يوماً وهذا توقيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يفيد أنه لو ترك أكثر من أربعين يوماً فإنه يأثم.
فأما الاستحداد: وهو حلق العانة فيكون بالحديد أو الموسى أو الشفرة أو ما شابه ذلك، هذه هي السنة وهذا هو الأفضل، لكن إذا استعمل أي مزيلٍ آخر جاز ذلك، والمقصود الإزالة، والسنة أن يكون حلقاً لأنه يؤدي إلى اشتداد الموضع وهذا من مصلحة البدن في هذا المكان.
وأما بالنسبة لنتف الإبط فإن نتف الشعر يؤدي إلى إضعاف الجلد، وهذا مصلحة الجلد في هذا المكان، حيث الإبط فيه رائحة العرق الكريهة، فإذا ضعف المكان بالنتف صارت الرائحة أخف والعرق أقل، ولذلك كانت السنة في النتف، ولكن قد لا يقوى بعض الناس على ذلك، ولا بأس أن يحلقها أو يزيلها بالنُورة أو أي مزيلٍ آخر، كل ذلك لا بأس به بالنسبة للإبط والعانة.
ومن تعاهده بالنتف فإنه يستمر على هذا ولا يكاد يؤلمه أو يؤذيه، ولكن من تركه وكبر عليه ربما أنه يؤلمه، على أية حال فالمقصود الإزالة.
وأما بالنسبة لقص الأظفار؛ فقد ذكر بعض أهل العلم أنه يبدأ بأظافر اليد اليمنى ثم اليسرى، وقال بعضهم يبدأ بالمسبحة لأنها موضع الشهادة لكن لا دليل عليه، ولكن استحسنه بعض أهل العلم، ثم ما على يمينها ثم إبهام اليمنى، ثم بعد ذلك اليسرى، وأما قص الشارب فإنه يقص ما طال عن الشفة العليا ولا يتركه يطول، وهو مؤذ وربما كان مجلبةً للجراثيم عند الشرب.
قال هذا: حتى إذا أجمعوا على قتله استعار موسى ليستحد بها - خبيب رضي الله عنه- تقول المرأة: حُبس خبيب في بيتي وقد اطلعت عليه يوماً وإن في يده لقطفاً من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه، من كرامة الله لـ خبيب أوتي قطفاً من عنب كرامة من الله عز وجل، واستعار الموسى ليستحد بها، فغفلت المرأة التي تحرسه عن صبيٍ لها، قيل أن هذا الصبي هو أبو حسين بن الحارث بن عدي بن نوفل والصبي هذا دّب وحبا إلى خبيب على حين غفلة من المرأة، فأخذه خبيب فأجلسه عنده.
وفي رواية فأخذ خبيب بيد الغلام فقال: هل أمكن الله منكم؟ فقالت: ما كان هذا ظني بك فرمى لها الموسى وقال: إنما كنت مازحاً، وفي رواية ما كنت لأغدر، وفي رواية: إن هذه المرأة قال لها خبيب حين حضره القتل: ابعثي لي بحديدة أتطهر بها، أي: ليلاقي الله عز وجل وقد تنظف وتطهر، فأراد أن يزيل الشعر قبل القتل، فأعطته هذه الحديدة، وغفلت عن الصبي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه تقول المرأة: لقد رأيته يأكل من قطفٍ من عنب وما بـ مكة يومئذ ثمرة، وما كان إلا رزقٌ رزقه الله، أي: رزقه الله خبيباً، وهذا من الأدلة على كرامات أولياء الله عز وجل.(187/3)
كرامات الأولياء بين أهل السنة والمبتدعة
وقد كانت هذه آية للكفار ليروا كرامة الله تعالى للمسلمين، وكرامة المسلمين لا شك أنها من اتباعهم لنبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فخرق الله العادة، وجعل في يد خبيب قطفاً من العنب، وأكرمه الله عز وجل بذلك، كما ظهرت الكرامة لـ عاصم، لما أراد كفار قريش أن يأتوا بقطعة منه، فلكي لا تنتهك حرمته ويأخذ العدو شيئاً منه أرسل الله مثل النحل فأحاطه وظلله فلم يستطع أحد أن يقترب منه، وهذا دليلٌ على كرامات أولياء الله تعالى.
وكرامات أولياء الله عند أهل السنة والجماعة ثابتة بخلاف المعتزلة، وهي دون معجزات الأنبياء مخالفاً بذلك لمذهب الأشاعرة، الذين يقولون: كل ما كان معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي.
والمعتزلة نفوا الكرامات بالكلية، والأشاعرة قالوا: المعجزات والكرامات يمكن أن تكون سواء، وأهل السنة قالوا: بإثبات الكرامات ولكن الكرامات أقل من منزلة معجزات الأنبياء، والكرامة عبارة عن خرق للعادة، يخرقه الله كرامة لأهل طاعته وولايته، مثل بعض الصحابة الذين مشوا على الماء، والعادة أن الإنسان لا يمشي على الماء، ومثل غلام أصحاب الأخدود، مشى على الماء لما غرق القارب وجاء يمشي إلى الملك.
وكذلك الجبل اضطرب وتدهده بهم وماتوا وهو جاء يمشي إلى الملك، وكلما حاولوا قتله لم يستطيعوا، فهذه كرامة.
ومريم: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران:37] كانت تؤتى بفاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، هذه من كرامات الأولياء.
وخبيب رضي الله تعالى عنه أوتي عنباً في مكة وليس في مكة شيء منه، وعاصم بعث الله له هذا الدبر لكي يحميه ولا يستطيع أحد أن يأخذ منه شيئاً، فإن قال قائل: ما هو الفرق بين خوارق كرامات الأولياء وبين الخوارق التي هي للدجالين والمشعوذين، فإننا ربما نرى لهم خوراق؟ فنقول: الفرق هو أن الخوارق كرامة للأولياء، وأما للمشعوذين أو الدجالين أو السحرة أو الكهنة، أو أتباع الشياطين فهي استدراج، والفرق المهم جداً جداً هو حال هذا وحال هذا، حال الولي وحال المشعوذ، هذا موحد وهذا مشرك، هذا يتبع سبيل الأنبياء، وهذا يتبع سبيل الشياطين، هذا هو الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن.(187/4)
موقف قتل خبيب بن عدي
لما أخرج خبيب خارج الحرم ليقتلوه، وكانوا لا يقتلون داخل الحرم قال: دعوني أصلي ركعتين، فكان أول من سن الركعتين عند القتل خبيب رضي الله عنه، فمن السنة لمن يُقدم للقتل أن يصلي ركعتين، سواءً للأعداء أو لقتل القصاص أو أي قتل، فلما صلى ركعتين قال لكفار قريش - وهذا طبعاً من الحرب النفسية عليهم- لولا أن تروا أن ما بي جزعٌ من الموت لزدت، أي: أخشى إن صليت أربع وست وعشر تقولون: هذا خائف من الموت وجالس يؤخر القتل بالصلاة، ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا - أي: متفرقين- ولا تبق منهم أحداً، ومن ثم قال: اللهم إني لا أجد من يبلغ رسولك مني السلام فبلغه.
وكذلك وقع في رواية: فلما رفع على الخشبة، استقبل الدعاء، فلبد رجلٌ في الأرض خوفاً من دعائه، واحد من الكفار التصق بالأرض، ونزل مباشرة فقال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، فلم يحل الحول ومنهم أحدٌ حي -وهذه كرامة أخرى- كلهم ماتوا غير ذلك الرجل الذي لبد بالأرض.
وقال معاوية بن أبي سفيان كنت مع أبي فجعل يلقيني إلى الأرض حين سمع دعوة خبيب، لأنه يدعو على هؤلاء، فهذا نزل لكي لا يكون من هؤلاء، فيقول معاوية: جعل أبو سفيان يلقيني إلى الأرض حين سمع دعوة خبيب، وكانوا يرون أن الدعوة في الحرم مستجابة، وقيل إنه عليه الصلاة والسلام بلغه سلام خبيب ورد عليه السلام، المهم أنه نظم هذه القصيدة العظيمة الأبيات:
ما إن أبالي
أو في رواية أخرى
فلست أبالي حين أقتل مسلماً
وقيل إنه قد قال قبل ذلك:
لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمعِ
إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
في ثلاثة عشر بيتاً ساقها ابن إسحاق، ومنهم من يُنكر نسبتها لـ خبيب، ولكن قد ثبت في صحيح البخاري أنه قال هذه الأبيات:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي شقٍ كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع
أما الأوصال: جمع وصل وهو العضو، والشِلو بكسر السين: هو الجسد، والممزع: المقطع، فهو يقول: لست أبالي إذا قطعوا جسدي قطعة قطعة، ما دام ذلك في سبيل الله.
ثم قام إليه بعد هذه الأبيات عقبة بن الحارث فقتله، وقيل إنهم لما وضعوا فيه السلاح وهو مصلوب نادوه وناشدوه: أتحب أن محمداً مكانك؟ قال: لا والله العظيم، ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه.(187/5)
حماية الله لأوليائه
وبعثت قريش إلى عاصم ليأتوا بشيءٍ من جسده يعرفونه وكان قد قتل عظيماً من عظمائهم، ولكن الله سبحانه وتعالى حماه بالظلة من الدبر، الظلة: السحابة، والدبر: ذكور النحل، فجاءت سحابة من الزنابير فظللت على عاصم فوفد أصحاب قريش الذين ذهبوا ليقتطعوا رأس عاصم ويأتوا به، ومنعتهم هذه السحابة من الزنابير، فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئاً، فجعلت تطير في وجوههم فتلسعهم، فلم يستطيعوا أن يأتوا منه بشيء، وذلك أن عاصماً أعطى الله عهداً ألا يمسه مشرك، ولا يمس مشركاً أبداً.
ولذلك لما بلغ عمر رضي الله عنه قال: [يحفظ الله العبد المؤمن بعد حياته كما حفظه في حياته].(187/6)
فوائد هذا الحديث
وهذا الحديث يدل على جواز رفض أمان المشرك؛ لأن المشرك قد يخدع كما حصل هنا، ولذلك لو قالوا نعطيك الأمان وتسلم نفسك فله أن يقاتلهم ويرفض الأمان، وله أن يأخذ بالأمان حسب ما يرى المسلم ويشتهي، فلو قالوا له سلم نفسك أو نقتلك، فقاتلهم ورفض الأمان، قالوا: نعطيك الأمان سلم نفسك، فله الحق، أن يقاتلهم إلى أن يُقتل، أو أنه يسلم نفسه حسب ما يرى.
عاصم قد أخذ بالشدة، وبالعزيمة ورفض الأمان، وقاتلهم حتى مات.
وفيه كذلك التورع عن قتل أولاد المشركين لأنهم أطفال، والمولود يولد على الفطرة، وكذلك صلاة الركعتين عند القتل، وإثبات كرامات الأولياء كما تقدم.
وكذلك فيه هز معنويات الكفار، كما فعل خبيب رحمه الله تعالى، والحرب النفسية عليهم، وأن الله تعالى يبتلي المسلمين بما يشاء.
وكذلك فيه إجابة دعاء المسلم حياً وميتاً وإكرامه، استجاب الله دعاء المسلم بعد موته، فما وصلوا إليه.
كذلك في هذا الحديث ما كان عليه المشركون من تعظيم الأشهر الحرم، وهذا يعني أن المسلم ينبغي أن يكون أولى بالحفاظ أو المحافظة على الأشهر الحُرم.(187/7)
الأسئلة(187/8)
معنى (أجود من الريح المرسلة)
السؤال
ما معنى أن جبريل عليه السلام عندما كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان كان عليه الصلاة والسلام أجود من الريح المرسلة.
الجواب
الريح المرسلة تأتي بالسحاب وفيه مطر، خير عظيم، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة.(187/9)
ركعتي طواف الوداع
السؤال
هل لطواف الوداع ركعتين؟
الجواب
نعم في كل طواف وداع ركعتين، وفضل الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والمدينة بألف صلاة.(187/10)
كيفية الصلاة لكبير السن
السؤال
كيف يصلي كبير السن جداً؟
الجواب
إن لم يستطع قائماً فقاعداً متربعاً، فإن لم يستطع فعلى جنبه، وإذا كان لا يستطيع الوضوء يتيمم.(187/11)
زكاة الأسهم
السؤال
هل هناك زكاة في الأسهم؟
الجواب
بالنسبة للأسهم إذا اتخذت للبيع والشراء فالزكاة في قيمتها كلها وأرباحها عند حلول الحول، وإذا كانت هذه لأجل أخذ الأرباح فقط وتبقى الأصول، فالزكاة في الأرباح فقط إذا حال عليها الحول، فإذا كان قد اتخذها للاستثمار ثم نوى البيع فيبدأ الحول من نية البيع، كعروض التجارة.(187/12)
سؤال الشهادة
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يسأل الشهادة له وللمسلمين؟
الجواب
لا بأس أن يسأل الإنسان الشهادة له ولإخوانه المسلمين.(187/13)
من أدرك الإمام وقد قام من الركوع في الركعة الأخيرة
السؤال
إذا أتيت المسجد والإمام قد قام من الركوع في الركعة الأخيرة؟
الجواب
إذاً لم تدرك الجماعة ولكن لك أجر نية حضور الجماعة.(187/14)
دخول النساء في تحديد الأربعين يوماً لحلق العانة
السؤال
النساء هل يدخلن في تحديد الأربعين يوماً؟
الجواب
مثل الرجال بطبيعة الحال.(187/15)
حكم الدعاء على شاهد الزور
السؤال
ما حكم الدعاء على شاهد الزور؟
الجواب
جائز، ولكن إذا دعوت له أفضل من أن تدعو عليه.(187/16)
(عود الضمير في قوله تعالى: (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
السؤال
إلى أين يعود الضمير في قوله تعالى: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال:8]؟
الجواب
الضمير يعود إليهم، أي: ولو كرهوا فإن الله سيأتي بوعده عز وجل.(187/17)
الزكاة في الأراضي
السؤال
عندي ثلاث أراضٍ الأولى للسكن، والثانية سوف أبيعها، والثالثة أجعلها استراحة، فعلى أيها أزكي؟
الجواب
إذاً الزكاة في التي ستبيعها فقط.(187/18)
مكان قتل خبيب
السؤال
هل قتلوه في المسجد الحرم أم في التنعيم؟
الجواب
في التنعيم خارج الحرم.(187/19)
حكم إتيان الزوجة الحائض
السؤال
توقف دم الحيض فتطهرت المرأة وجامعها زوجها، وبعد ذلك تبين أن هناك دماً لا زال ينزل؟
الجواب
إذا حصل ذلك عن خطأ فالاستغفار فقط، وإذا حصل عن عمد فالكفارة، وهي مثقال من الذهب يخرجه (دينار أو نصف دينار) كما جاء في الحديث الحسن عند الترمذي وغيره.(187/20)
إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للركعتين قبل القتل
السؤال
هل أقر النبي صلى الله عليه وسلم ركعتي القتل؟
الجواب
نعم أقرهما ولم ينكرهما، وقد بلغته القصة ولم ينكرها.(187/21)
الكفاية في الزكاة
السؤال
ما هي الكفاية في الزكاة؟
الجواب
نفقة سنة، يقول العلماء في تعريفها في باب الزكاة هي: نفقة سنة.(187/22)
جواز صلاة المفترض بعد المتنفل
السؤال
هل أصلي مع الإمام التراويح بنية العشاء أو أصلي مع الجماعة الثانية؟
الجواب
أنت مخير، وللتشويش قلنا يصلي مع الإمام.(187/23)
تربية الأولاد
السؤال
يأخذ أولادي وقتاً كثيراً مني في تربيتهم؟
الجواب
نعم.
لأنك مكلفٌ بهم: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] ولعلك تدمج تربيتهم بحفظك ومراجعتك القرآن معهم، حتى تُوفر وقتاً لذلك مع تربيتهم.(187/24)
حكم إخراج الزكاة من البلد
السؤال
هل يجوز إرسال الزكاة إلى بلد آخر؟
الجواب
إذا وجد سبب كشدة فقر، أو قريب فقير.(187/25)
ما يقال عند الرفع من الركوع
السؤال
بعد الرفع من الركوع ماذا يُقال؟
الجواب
يكرر ربنا ولك الحمد يكررها مراتٍ كثيرة.(187/26)
حكم من خلع الإحرام ولم يقصر
السؤال
اعتمر رجلٌ معنا وبعد السعي خلع الإحرام ولبس الملابس ولم يُقصر؟
الجواب
إذا كان جاهلاً أو ناسياً يتجرد من المخيط فوراً، ويقصر ويلبس المخيط بعد ذلك.(187/27)
فضل علم السلف على علم الخلف
اشتملت هذه الرسالة الموجزة على أمور عدة، وهي في وجازتها مهمة لكل طالب علم وعالم؛ لأنها تضع له خط سير ينتهجه في حياته العلمية؛ وهي كذلك توضح لطالب العلم أي العلمين طلب: النافع أم الضار؟ وذلك من خلال نتائج هذا العلم وصفات حامليه.(188/1)
العلم النافع والعلم الضار
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فبين أيدينا رسالة لعلمٍ من الأعلام الذين سبق التعريف بهم، وهو العلامة: زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن بن محمد بن مسعود السلامي البغدادي الدمشقي الحنبلي، المولود في بغداد سنة (736هـ) والمتوفى سنة (795هـ)، وعنوان هذه الرسالة عنوان مهم، ألا وهو: بيان فضل علم السلف على علم الخلف وهذه الرسالة من الرسائل التي تهم طالب العلم كيف لا وهي تبين الأولويات في طلب العلم، وعمن يأخذ الإنسان، وصفات العالم الذي يؤخذ عنه، مع إرشاد الطالب إلى حفظ وقته كي لا يضيع في أمور لا يستفيد منها، أو تكون الفائدة قليلة.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى في مطلع هذه الرسالة: (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فهذه كلمات مختصرة في معنى العلم، وانقسامه إلى: علم نافع، وعلم غير نافع، والتنبيه على فضل علم السلف على علم الخلف).
-إذاً: فإن الفهرس المبسط المختصر لهذه الرسالة قد صدّر بها كلامه رحمه الله، قال: (فنقول وبالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله).
ثم بدأ يتكلم على تقسيم العلم إلى نافع وغير نافع، وأن الله سبحانه وتعالى مدح العلم في مواضع من كتابه وذمه في مواضع أخرى، فمن المواضع التي مدح فيها العلم وأهله: قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
وقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18] أشهد الله نفسه وملائكته، وأشهد هذه الطائفة -وهم أهل العلم- على أعظم حقيقة وهي التوحيد (لا إله إلا الله).
وقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114].
وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
وكذلك لما مدح آدم فذكر أنه علَّمه، وأنه عرض الأسماء على الملائكة فلم يعرفوا: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32].
وكذلك لما قال موسى للخضر: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66].
وفي مواضع أخرى من كتابه العزيز أخبر سبحانه وتعالى عن قوم أوتوا علماً فلم ينفعهم علمهم، فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5]، وقال أيضاً: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:175].
وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:176].
وقال سبحانه وتعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23].
إذاً: هذا العلم نافع لكن هؤلاء نماذج من الناس الذين لم ينتفعوا بالعلم النافع، فعندهم علم نافع، ويحفظون علماً، لكنهم لم ينتفعوا به.
وهناك علم ذكره الله على جهة الذم.
إذاً هناك علم ذكره الله على جهة المدح ومدح أهله، وذم بعضهم وهم الذين لم يعملوا به ولم ينتفعوا به، وهناك علم مذموم بحد ذاته، كما قال عز وجل في السحر: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102].
وقال عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83] وماذا عندهم؟ عندهم ما يخالف النبوة والرسالة: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر:83].(188/2)
سؤال الله العلم النافع والتعوذ من غيره
قال: (ولذلك جاءت السنة بتقسيم العلم إلى: علم نافع وعلم غير نافع) وهذا واضح من قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع) فهناك علم ينفع وعلم لا ينفع، فهو استعاذ بالله من العلم الذي لا ينفع، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح أيضاً: (اللهم إني أسألك علماً نافعاً، وأعوذ بك من علم لا ينفع) أخرجه ابن حبان والآجري، وإسناده حسن.
فالعلم الذي يضر ولا ينفع جهل، والجهل به خير من العلم به، هذا العلم الذي لا ينفع أو العلم الضار الجهل به أفضل من تعلمه ولا شك، وإذا كان الجهل به أفضل فيكون هو شر من الجهل، أي: أن تجهل أحسن من أن تتعلم هذا العلم، مثل: علم السحر -مثلاً- وهو العلم الضار، وقد يكون الضرر في الدين وقد يكون في الدنيا.
هناك آثار تنهى عن تعلم علم الأنساب، وهناك أحاديث معروفة تحث على تعلم علم الأنساب، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم) رواه الإمام أحمد وإسناده حسن.
فالمقصود هو تعلم الأنساب المفيدة في أشياء، مثل: صلة الأرحام، وتعلم الأنساب غير المفيدة ما يُفضي -مثلاً- إلى الفخر والخيلاء أو إضاعة الأوقات في تتبع السلالات وما شابه ذلك.
فأما ما ينفع فيُتعلم له، ولذلك جاء في بعض الآثار: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ثم انتهوا، وتعلموا من العربية ما تعرفون به كتاب الله ثم انتهوا، وتعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا) إذاً: هناك علوم مفيدة إلى حد معين ودرجة معينة، وبعد ذلك يكون صرف الوقت فيما لا يفيد ضياعاً للوقت.(188/3)
الفرق بين علم التأثير وعلم التسيير
قال: (وكان النخعي -رحمه الله- لا يرى بأساً أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به)، وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: [تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة والطريق]؛ لأن بعض النجوم مهم معرفتها كمسافر حتى لا يضل فيعرف الاتجاهات، وكمصلي يحتاج أن يعرف بعضها، مثل: تعيين القطب الشمالي لتعيين القبلة، فمعرفة القطب الشمالي وأين يوجد القطب الشمالي، وما هو القطب الشمالي، وما هو شكله مثلاً، وأن هذه العلامة مثل علامة الاستفهام أو الملعقة، لو أخذت طرفيها أو جهة الرأس النجم الأول والثاني ثم مددت خطاً بقدر ستة أميال ما بين النجمين سيكون في اتجاه، أو سيصلك إلى النجم القطبي الشمالي مثلاً، أو ما يسمونه بمجموعة الدب الأكبر والدب الأصغر للوصول إلى قضية تعيين القطب الشمالي، وهذا لا شك أن فيه فائدة.
ولكن هناك بعض العلوم المتعلقة بالنجوم حرام، وقد قال طاوس رحمه الله: [رب ناظرٍ في النجوم ومتعلم حروف (أبا جاد) ليس له عند الله خلاق] وهذا قد جاء أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه، وإسناده صحيح.
فعلم النجوم يقسمه العلماء إلى قسمين: القسم الأول: علم التأثير.
القسم الثاني: علم التسيير.
وعلم التسيير: هو العلم الذي يتوصل به إلى معرفة الاتجاهات وهذا علم طيب، والله سبحانه وتعالى كما قال قتادة: [خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] {لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام:97]].
أما علم التأثير: فهو الربط بين النجوم والكواكب وحركة الأفلاك ومنازل القمر إلخ، وبين الحوادث الأرضية؛ بحيث يعتقد أنه إذا جاء النجم الفلاني في المكان الفلاني، أو طلع النجم الفلاني في المكان الفلاني ونحو ذلك فسوف يحدث كذا وكذا في الأرض، وأن هذا دليل على أن عظيماً قد ولد، وهذا دليل على أن عظيماً قد مات، وهذا يدل على أن كارثة وحرباً ستقع، وهذا كذا.
ومن هذا -أيضاً- قضية الأبراج المملوءة بها -الآن- المجلات وبعض السيارات من الجرائد وغيرها، فهذه مكتوب فيها بالنص، الربط بين أشياء متعلقة بولادة إنسان في برج معين، أو أمور متعلقة بظهور نجم أو أفلاك معينة، وبعض الناس يقول الآن: إذا ظهر النيزك الفلاني فيقع كذا وكذا في الأرض، فهذا حرام، وتعلمه حرام، ونشره حرام، وقراءته حرام حتى للتسلية، لأنه لا يجوز التسلي بقراءة الشرك.
وعن قبيصة: (إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت) ومثل هذا الأثر الذي معناه: "العيافة: هي زجر الطير، والتفاؤل بأسمائها وصفاتها، وما هي العلاقة بين ذهاب الطير يميناً أو شمالاً وبين حصول نحس أو شقاء في الأرض، أو حوادث في حياة الإنسان؟! والطرق هو: الضرب بالحصى أو الخط بالرمل، أو ما يفعله بعض العجائز من رمي الودع، ثم الاستدلال بشكل الودع الذي قد ألقي على الأرض على أمرٍ معين في المستقبل مثلاً، أو حوادث معينة، ذلك كله حرام، وتعلمه حرام، وتعلم علم الفلك من هذه الجهة حرام، والعمل بمقتضاه كُفر.
فأما علم التسيير الذي يتوصل به ولمعرفة القبلة والطرق ومعالم الزراعة فهو جائز عند الجمهور، وما زاد فلا حاجة إليه، فقد لا يكون كفراً ولا شركاً بل مباحاً، لكن الإكثار منه مشغلة للوقت، وصرف فيما لا ينفع.(188/4)
إنكار السلف على من توسع في علم النجوم
لفت الإمام أحمد رحمه الله النظر إلى مسألة، وهي: أن التدقيق في بعض ذلك ربما يؤدي إلى إساءة الظن بمحاريب المسلمين في أمصارهم، مما يؤدي إلى اتهام أو اعتقاد خطأ الصحابة والتابعين في صلاتهم الفترة الماضية.
ولذلك قال: إنما ورد: (بين المشرق والمغرب قبلة).
ولذلك نلاحظ أن بعض الدكاترة أو المتخصصين في أمور معينة تتعلق بالفلك مثلاً يأتي هؤلاء إلى المساجد -مسجد قديم مثلاً- ويقولون: هذا فيه انحراف ينبغي أن يحرف قليلاً، وكل صلاة الذين مضوا في المسجد خطأ، وهذا من العمى الفقهي.
فنقول: إن من صلى وهو يعتقد أن القبلة هكذا ولم يدرِ أن الاتجاه خطأ فصلاته صحيحه، فيأتي ويقول: هؤلاء صلاتهم كلها باطلة، ويغيرون الخطوط، ويحدثون البلبلة عند الناس، وهذه مسألة مشاهدة وواقعة، أما كوننا نستفيد من العلم الحديث في ضبط قبلة المساجد حتى ولو أشعة الليزر فلا بأس في ذلك، لكن أن نعمل ما يؤدي إلى اتهام الأولين في صحة صلاتهم فهذا غلو.
وقد يكون في الاشتغال ببعض هذه الأشياء فيه فساد عريض، ولا شك أن هناك الآن كتباً تطبع وتُشترى، وبعض الناس يسافرون ويأتون بها وفيها تعليم السحر والشعوذة، وتجد بعض الناس يشتري شمس المعارف ويفتح ويطبق ثم تظهر له أفاعي ونحو ذلك، ويقوم في الليل فزعاً؛ لأنه بدأ في الطريق ولم يُحسن!! وقد جيء إلى بعض الأخيار بفتاة ليقرأ عليها، فلما قرأ عليها وسألها عم بها؟ قالت: إنني سافرت إلى البحرين واشتريت كتاباً وطبقت ما فيه، وبدأت الأشياء تتحرك، فأضع الشيء على المنضدة، أقرأ: الكلمات التي في الكتاب؛ فينحرف يميناً أو ينحرف شمالاً، وهناك -فعلاً- بعض الألعاب التي رُوجت وفيها أشياء من هذا القبيل، فيسألها لتجيب نعم أو لا، بعدما يقرأ أشياء ويتمتم بكلمات ونحو ذلك، فعندما ندمت الفتاة وبكت قالت: لكن المشكلة أنني علَّمت بنات الصف كلهن.
فالمهم أن هذا الضرب من الشعوذة وتحضير الجن والشياطين والكتب التي تتعلق بالسحر وترويجها لا شك أنها من أخطر الأشياء، وهذه قضية قائمة موجودة في الواقع، يجب على طلبة العلم الموحدين القيام لله تعالى لإنكار المنكر، ونصح العباد في هذه الأشياء.
وقد يكتشف الإنسان -أحياناً- بعض أقرب الناس إليه من يتعامل في مثل هذه الأمور، ويبيع مثل هذه الكتب، ويطبق بعض ما فيها.(188/5)
النهي عن التوسع في دقائق غير مهمة
والتوسع في علم الأنساب كما ضرب ابن رجب رحمه الله تعالى مثلاً في قضية العلوم المشغلة عما هو أهم منها، لكن إذا كان منها فائدة فتتعلم.
أحياناً يكون منها فوائد، مثلاً: حسان بن ثابت لما أراد أن يهجو المشركين، سأله النبي صلى الله عليه وسلم: كيف سيخلص نسبه من بينهم؟ حتى لا يهجوهم هجاءً يشمل النبي صلى الله عليه وسلم، فـ أبو بكر الصديق نسابة العرب تولى تعليم حسان في قضية الأنساب دقائق حتى قال: [أسلك كما تسل الشعرة من العجين] أي: يخلصه من بينهم بكلام لا يشمله، فيكون الهجاء لهم دونه، وهذا يحتاج إلى شيء من العلم بالأنساب، فإذا كان هناك حاجة له فيتعلم.
ثم إن تعلم بعض العلوم فرض كفاية، أي: إذا عرفها بعض الأمة فلا داعي أن يتعلم كل طالب علم، ونقول: لكل طالب علم: تعال وتعلم هذا العلم؛ لأن هذا خطأ أن كل طالب علم يضع في برنامجه وجدوله في طلب العلم أن يتعلم مثل هذا، بل يكفي أن يوجد في الأمة من يعلمه عند الحاجة ويدل عليه ويأتي بالمقصود.
كذلك مسألة التوسع في علم العربية لغةً ونحواً مما يُشغل عن العلم الأهم، وطرح هذا الكلام عند طلبة العلم ينبغي أن يُؤخذ بحجمه الصحيح، حتى لا ينفروا من اللغة العربية، مع أنهم من أضعف ما يكونون في اللغة العربية على مرَّ العصور إذا ما قورنت بالعصور السابقة، فما وصلنا إلى درجة أن عموم طلبة العلم قد أتقنوا اللغة العربية وبدءوا يتبحرون، وصرنا نخشى عليهم من التوسع والانشغال عن الأهم، وعن الفقه والحلال والحرام ونحو ذلك، فنقول لهم كفوا: لا.
لكن لا يوجد بعض الناس عندهم حب للغة العربية بحيث إنهم ينصرفون إلى تعلم دقائق هذه اللغة بما يصرفهم عن الأهم وتعلم الحلال والحرام والتفسير والحديث ومعاني السنة.
مثلاً: تجد دكتوراً نحوياً كبيراً لغوياً لكنه في الفقه والحديث والتفسير ضعيف، بسبب أنه انصرف بكليته إلى هذا العلم، ولذلك هذا علم يؤخذ منه بقدر ما يفهم به القرآن والسنة فقط.
ما هو المطلوب من اللغة العربية؟ المطلوب أن نفهم القرآن والسنة بواسطتها، ولذلك كره أحمد التوسع في معرفة اللغة وغريبها، وأنكر على أبي عبيد توسعه في ذلك، وقال: "هو يشغل عما هو أهم منه"، وتجد في بعض الكتب كلاماً تقرأه بالطول وبالعرض، وبالزاوية وبالمقلوب، ما هذا؟! هذا النوع لا شك أنه مضيعة للوقت، فالذي فعل هذا، والذي يهتم به، والذي يريد أن يؤلف على منواله في أشياء قد يكون صرف عمره في شيء، ولكن ما هي الفائدة؟! قال: (ولهذا يُقال: إن العربية في الكلام كالملح في الطعام) أي: أنه يؤخذ منها ما يُصلح الكلام، فإذا زاد الملح في الطعام أفسده.(188/6)
خذ من كل شيء شيئاً
وقال: (كذلك علم الحساب يحتاج منه إلى ما يُعرف به حساب ما يقع من قسمة الفرائض والوصايا والأموال التي تُقسم بين المستحقين لها، والزائد على ذلك مما لا يُنتفع به إلا في مجرد رياضة الأذهان لا حاجة إليه، ويشغل عما هو أهم منه).
في الغالب علم الرياضيات يفيد في علم المواريث، فمعرفة الكسور وتوحيد المقامات هذه مهمة في علم المواريث، فلا بد أن تعرف الثلث والربع والسدس والثلثان والثمن، والأنصبة التي جاءت في المواريث، فلو اكتشفنا لعلم الرياضيات تطبيقات معاصرة مفيدة في الأمور الدنيوية مثلاً، فهل نأخذ؟
الجواب
نعم.
الآن من أهم الأشياء حتى لو أردت الجهاد في سبيل الله، مثلاً المعادلات التي تنبني عليها قضية المقذوفات، ومعرفة المواقع، وانطلاق القذيفة، وعندما تذهب بهذا الشكل القوسي إلى المكان، هذه مسألة مهمة جداً، يجب أن تعرف؛ لأن لها ارتباط واضح بقضية تفيد وتنفع المسلمين.
وهناك مثلاً الطب: فالرياضيات لها بعض التطبيقات الطبية، مثل: المعادلات التفاضلية لها علاقة بالتكاثر السكاني، أو تكاثر البكتيريا، أو انتشار مرض الإيدز، أو تلوث مياه البحر، هذه كلها قائمة على معادلات رياضية.
وكذلك أشعة الرنين المغناطيسي للتصوير المقطعي ثلاثي الأبعاد، هذا قائم على مسلسلات فوريير في الرياضيات القائم على نظرية التكامل والتفاضل وذهاب الأشعة وانطلاقها وتشعبها أو تفرقها أو تشتتها، واستخدام الرياضيات لعمل شفرات المعلومات التي تقي البريد الإلكتروني والمعلومات التي تذهب في البريد الإلكتروني.
فالمسلمون عندما اخترعوا الصفر -وكان غير معروف عند من قبلهم- كان ذلك اختراعاً عظيماً أدَّى إلى تطور كبير في العلوم، لكن هناك بعض الأشياء حتى في بعض علوم الرياضيات والطبعيات التي تُدّرس غير مفيدة؛ بل إنها مشغلة، وأقصى ما فيها لذة الذهن أحياناً.
بعض الأشياء تتعلق أحياناً بالعدد والزمرة والوحدة والفئات الخالية، والإغراق في نظريات المجموعات، والمنطق المشوش، فهذه الأشياء موجودة في الرياضيات الآن، ولكن دراستها لم يظهر فيها أشياء مفيدة، فدراستها والإغراق فيها عبارة عن ضياع وقت.
على أي حال، قد يقول ابن رجب رحمه الله كلاماً في الرياضيات أو في الحساب من قديم على أشياء معروفة في زمانهم، فالآن الأمور اختلفت.
فنقول ونحن في زماننا: ما كان مفيداً منها يُدرس وما لا فائدة فيه لا يُدرس، فهو إضاعة وقت، ولكن أحياناً الشخص قد يكون مكرهاً؛ لأن المنهج واحد، والامتحان سيأتي على جميع المنهج، وأنت مطالب بأن تدرس المنهج بما فيه مفيد أو غير مفيد، وهنا لا بد أن يكون المدرس حكيماً ومسئولاً، فمثلاً: التركيز على ما ينفع وعدم تشتيت أوقات الطلاب والحصص في أمور لا تفيد.
وبعض الناس -كما قلنا- يدرسون العلم للعلم، وليس من أجل الإستقادة منه، ويقولون: العلم للعلم، والثقافة للثقافة، وهذا شعار جاهلي مطلق؛ لأن الغربيين يدرسون كل شيء، عندهم، كل جانب من جوانب العلوم والمعرفة هذا جانب مقدس يجب أن يُدرس، فقد لا يكون مفيداً، ما الفائدة أن شخصاً يأخذ دكتوراه في اللغة الهيربروفية؟ أو لغة اندثرت من زمان ولم يعد أحد يستعملها الآن، ليكتشف بعض الأشياء التي يعلمونها في بعض الآثار، وعلوم الآثار يأتي ويذهب، وتركز الأضواء والأنوار والأشياء على استخراج شيء يؤخذ بعناية ويلف وتوضع له مواد تنظيف، وفي النهاية ما هي النتيجة؟ استخرجوا صنماً، ويعتبروا هذا اكتشافاً كبيراً وهائلاً وتنشر نشرات وإعلانات وسبق علمي وصحفي "استخراج صنم"، هذا أول شيء ينبغي أن يُكسر {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] ولكن يقولون: هذا علم.
فبعض المتأثرين بالذين درسوا في الخارج أو المنهج الغربي عندهم مشكلة، وهي التي يشير لها ابن رجب حقاً وحقيقة في قضية الانشغال بالعلوم غير النافعة، بل منها علوم ضارة في هذا الزمان على البشرية.(188/7)
النهي عن الخوض في القدر
أما إذا رجعنا إلى قضية العلوم المتعلقة بالشريعة، فإن بعض الناس قد اخترعوا علوماً ونسبوها إلى العلوم الشرعية، ولا علاقة لها بالعلوم الشرعية.
قال ابن رجب رحمه الله: (وأما ما أحدث بعد الصحابة من العلوم التي توسع فيها أهلها وسموها علوماً، وظنوا أن من لم يكن عالماً بها فهو جاهل أو ضال فكلها بدعة، وهي من محدثات الأمور المنهي عنها، فمن ذلك: ما أحدثته المعتزلة من الكلام في القدر وضرب الأمثال لله).
علم الكلام من العلوم الضارة التي لا يحتاج إليها الذكي، ولا ينتفع بها البليد- والمعتزلة يقسمون الأشياء إلى العرض والجوهر، ثم يطبقون قواعد هذه التفسيرات على الله عز وجل، ويضربون الأمثال لله عز وجل -تعالى الله عن ذلك-.
وكذلك الخوض في القدر: فبعضهم يعتبره علماً ويؤلف فيه، قال: (وقد ورد النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال أمر هذه الأمة موافياً ومقارباً ما لم يتكلموا في الولدان والقدر) صححه الذهبي وقال الهيثمي: ورجال البزار رجال الصحيح، وأخرجه البزار وإسناده جيد).
فالنبي صلى الله عليه وسلم حذَّر من الخوض في القدر، وهؤلاء خاضوا في القدر وألفوا وغاصوا فيه، واعتبروه (علم قواعد) ينبغي أن يؤلف فيه ويكتب.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا) والمقصود علم التأثير لا علم التسيير، و (إذا ذكر أصحابي): أي الفتنة بينهم، أما إذا ذكروا بالخير وبالفضائل وأحاديثهم فحيهلا بهذا العلم.(188/8)
ضرر علم الكلام على الأمة
مع الأسف! أن علم الفلسفة وعلم الكلام وقواعد المنطق يُدرس في بعض الكليات الشرعية والدينية في بعض أنحاء العالم الإسلامي على أنه مقدمة في علم المنطق وعلم المنطق وقواعد علم المنطق وتُصرف فيه أوقات، ولا يوجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم علم المنطق، ولا حتى يحتاج إلى تقسيمه إلى جوهر وعرض، والجوهر يقوم بذاته، والعرض لا يقوم بذاته، ولا بد أن يقوم العرض بجوهر، وغير ذلك من الكلام الفارغ الذي لا يحتاج إليه، ولكن من التأثر ممن فتح على المسلمين من علوم اليونان، وأخذ المنطق اليوناني، هو الذي أوردهم في هذه المهالك، وقد قيل: إن المسلمين لما فتحوا بعض البلدان وحقد أهلها عليهم، قال بعض النصارى لأحد ملوكهم: إن في هذه الخزائن كتباً كانت قد أورثت فينا التقتيل فيما مضى -النزاعات والخصومات- فإنك لو أرسلتها إلى المسلمين تكون فيهم النكاية، ففعل ذلك، فبعض المسلمين من غفلتهم أخذوا ذلك وترجموه، وقالوا: هذا علم ما كان عندنا، وهو علم المنطق والفلسفة.
فأقول: إن بعض المناهج في بعض البلدان في العالم الإسلامي في الجامعات وغيرها يضطر المتخرج أن يدرس كل العلوم التي فيها، بل وأحياناً تجد في بعض المدارس في الجامعات، تُحذف العلوم النافعة وتُضاف علوم غير نافعة، وهذا من أسوأ الأشياء، كما زعم بعضهم أنه من المربين، درس علم التربية في الخارج، فنظر في الجدول، وقال: قرآن وتفسير لماذا؟ أليسا شيئاً واحداً، لماذا حصة قرآن وحصة تفسير ادمجوها مع بعض، ثم قال: ولماذا الإكثار من حصص القرآن؟ انظروا إلى الكلام الحق الذي أريد به باطل.
قال ابن عمر: [كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نتعلمها ونعمل بما فيها].
إذاً: لماذا تتعبوا الطلاب وتضيعوا حصتين أو ثلاث حصص في الجدول، احذفوا حصص القرآن!! كانوا يقفون عند عشر آيات ويعملون بما فيها، فأعطونا حصة واحدة للعلم وحصصاً للعمل، وماذا كانت حياتهم إلا موقوفة على العلم بالقرآن والعمل به، وأنت تريد فقط أن تتعلم عشر آيات في سنة، وبدون شيء آخر غير حفظ عشر آيات.
إن هؤلاء الذين يريدون تنحية العلوم الشرعية النافعة ووضع العلوم غير النافعة، أو الخطط التي أُريد بها محو العلم الديني كما فعل كرومر ودنلوب وغيرهما في مخططاتهم في العالم الإسلامي، حتى أصبحت عقول الجيل مثل إطارات دنلوب فارغة من الداخل، بسبب هذا.
وكما تكلم العلماء في خطة تطوير الأزهر -أو بالأحرى تغيير الأزهر- حذف مادة معينة ينبغي أن يدرسها الطالب، وبالتالي يكون تكوينه ضعيفاً، والعلوم التي كانت تدرس تذهب عليه، فنحن مأساتنا ما بين: أولاً: حذف العلوم الدينية.
ثانياً: تقرير علوم غير نافعة.
ثالثاً: تقصير مدة التعليم الديني.
ولا يخفاكم ما يكون من أعداء الله عز وجل من العلمانيين الذين يشنون في بعض بلدان المسلمين الحرب على التعليم الديني باعتباره هو سبب التطرف فلا بد من إزالته ومحوه بالكلية.(188/9)
وجوه النهي عن الخوض في القدر
قال رحمه الله: (والنهي عن الخوض في القدر يكون على وجوه: منها: ضرب كتاب الله بعضه ببعض، فينزع المثبت للقدر بآية، والنافي له بأخرى، ويقع التجادل في ذلك والخوض في القدر إثباتاً ونفياً بالأقيسة العقلية.
كقول القدرية: لو قدَّر وقضى ثم عذب كان ظالماً -هذه قاعدة استنبطوها من عقولهم- وقول من خالفهم، ومنهم من قال في الطرف المقابل: إن الله جبر العباد على أفعالهم ونحو ذلك).
وهذا كله انحراف وبدعة وخروج عما أراده الله سبحانه وتعالى.
وأيضاً يدخل في العلوم المحرمة الخوض في سر القدر، ومنها: الخوض في ذات الله، وكيفية صفاته سبحانه وتعالى، وهذا أشد خطراً من الكلام في القدر، لماذا؟ لأن الكلام في القدر هو كلام في أفعال الله، والكلام في الصفات هو كلام في ذات الله، ولا شك أن الانحراف في الكلام في ذاته أبشع من الانحراف في الكلام في أفعاله.
فالذين يريدون أن يخوضوا في ذات الله وكيفية الصفة، هؤلاء يخوضون بالباطل، وهذا شيء محرم ولا يُعتبر علم؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يتخيل أو يعرف كيفية صفات الله، لكنه يجب أن يُؤمن بالصفة كما جاءت وهو يعلم معناها في اللغة، ويعلم معنى اليد ومعنى الوجه في اللغة، ثم يثبتها لله عز وجل، فيثبت الوجه لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته.
وصار الانحراف أن بعض الناس نفوا أشياء كثيرة مما ورد في القرآن والسنة لاستلزامه التشبيه عندهم بالمخلوقين، مثل قول المعتزلة مثلاً عندما نفوا الرؤية: الله لا يرى لماذا؟ قالوا: لأنه لو رؤي لكان جسماً، والله منزه أن يكون جسماً، إذاً لا يُرى، وهل وجدت في القرآن والسنة أن الله جسد أو غير جسد، فلماذا نتكلم؟ وجدت أن الله يرى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:35] فأنت تنفي وتجحد وتكذب بهذه الآية، لأجل قاعدة عقلية عندك: [أن ما رؤي لا بد أن يكون جسماً، وأن الله منزه عن الجسمية؛ فإذاً هو لا يرى].
فهذا هو العلم الضار الذي يسبب إذهاب العلم النافع، والكفر بما أنزل الله سبحانه وتعالى.
وفي الطرف الآخر: هناك من غالى في الإثبات أكثر مما ورد، وأكثر مما جاء في الكتاب والسنة، فأثبتوا لله أشياء ما ثبتت في الكتاب والسنة فغلوا فيها.(188/10)
كلام السلف وما يحتوي من الفقه
كذلك من العلوم -أيضاً- التي نبه ابن رجب رحمه الله على إحداثات فيها، قال: (ومن ذلك -أعني: محدثات العلوم- ما أحدثه فقهاء أهل الرأي من ضوابط وقواعد عقلية وردوا فروع الفقه إليها، وسواء خالفت السنن أم وافقتها؛ طرداً لتلك القواعد المقررة).
إذاً: أنتم وضعتم قاعدة عقلية، ثم حكمتم النصوص، وأرجعتم فروع الفقه بناءً على القواعد، فقد يأتي استثناء، لأن السنة فيها استثناءات.
مثلاً: بعض أنواع اللحوم المحرمة ما عرفناها إلا من السنة، فلو قلت مثلاً: كل آكل للعشب مباح، فما رأيك بالحمار؟ يأكل العشب لماذا حرام؟ ما حكمه؟ يقول على قاعدتي: هو حلال، وقد ورد في السنة تحريمه، والحمار الأهلي بخلاف الحمار الوحشي، أو لو جاء من قال: كلهم حمير، والشارع فرق بين الحمار الأهلي والحمار الوحشي، فأنت لا بد أن تفرق بينهما، فإما أن تجمع بين ما فرقه الشارع أو تفرق بين ما جمعه الشارع على قاعدتك وإلا فلا.
لماذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [لو كان الدين بالرأي لكان مسح باطن الخف أولى من أعلاه] ليس كل الأحكام تجري على عقولهم، الضبع قد أبيح في السنة، مع أن له أنياب.
إذاً ننتهي ونتوقف ما دام قد ثبتت إباحته، وكذلك ما دام قد ثبت تحريم لحم الحمار الأهلي نؤمن به ونسلم.
بعض فقهاء أهل الرأي كان من خطئهم أنهم وضعوا ضوابط وقواعد عقلية وردوا فروع الفقه إليها، غير آبهين هل وافقت السنة أم لم توافق السنة؟ أما الأئمة والفقهاء من أهل الحديث فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان، إذا كان معمولاً به عند الصحابة ومن بعدهم فإنهم يعملون به.
وأما ما لم يعمل به الصحابة، فإنهم لا يعملون به؛ لأنه بالتأكيد عندهم منسوخ، ولكننا ما عرفنا أنه منسوخ.
إذاً: القاعدة هي: العمل بالحديث الصحيح ما دام الصحابة قد عملوا به، وهذا ينفي لك الأحاديث الشاذة التي قد يظن بعض الناس أنها صحيحة وهي ليست كذلك.
وهناك قسم من الأحاديث الشاذة إسناده صحيح، لكنه حديث شاذ، فبعض الناس الذين يدّعون السلفية، ويقولون: نعمل بالحديث الصحيح، ولو قلت له: ما معنى الصحيح؟ يقول لك: ابحث عنه في تقريب التهذيب إذا كان رجاله ثقات أو لا بأس بهم فهو حجة ونعمل به.
وما رأيك في قضية المتن؟ وكلام العلماء في المتن؟ لا تنظر إليه!! إذاً: هنا يُوجد عند بعضهم نقصٌ في العلم يؤدي بهم إلى اتهام الصحابة والسلف.(188/11)
النهي عن الجدال والخصام في الدين
قال رحمه الله: (ومما أنكره أئمة السلف: الجدال والخصام والمراء في مسائل الحلال والحرام أيضاً، ولم يكن ذلك طريقة أئمة الإسلام، وإنما أحدث ذلك بعدهم كما أحدثه فقهاء العراقين في مسائل الخلاف بين الشافعية والحنابلة، وصنفوا كتب الخلاف، ووسعوا البحث والجدال فيها) حتى القارئ لا يسلم صدره.
فتجد بعضهم قال: خصومنا، وقلنا، وقال خصومنا، ومن هم الخصوم؟ وهل يجوز أن تكون هناك خصومات بين المسلمين؟ لماذا تعرض القضية على أنهم خصومنا؟ لماذا يقال عن طائفة من الفقهاء: إنهم خصوم للطائفة الآخرى؟ هل القضية قضية خصومات وعداوات.
قال: (وكل ذلك محدث لا أصل له، وصار ذلك علمهم حتى شغلهم عن العلم النافع، وقد أنكر ذلك السلف، وورد في الحديث المرفوع في السنن: (ما ضل قوم بعد هدىً إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58]).
وجاء في حديث مرفوع -أيضاً- رواه الإمام أحمد وإسناده حسن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ضل قوم بعد هدىً إلا أوتوا الجدل، وقرأ صلى الله عليه وسلم: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)) [الزخرف:58]).
قال: (وقال بعض السلف: [إذا أرد الله بعبد خيراً فتح له باب العمل وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أرد بعبد شراً أغلق عنه باب العمل وفتح له باب الجدل] وقال مالك: " أدركت أهل هذه البلدة وإنهم ليكرهون هذا الإكثار الذي فيه الناس اليوم".
يريد المسائل) أي: المخاصمات والمحاجات والمناظرات والمناقشات، وكذلك التشقيق والتفريع الدقيق للأشياء التي قد لا تحصل ولا توجد.(188/12)
النهي عن الاختلاف في مسائل حكم فيها الشرع
قال: (وكان يعيب كثرة الكلام والفتيا، ويقول: يتكلم أحدهم وكأنه جمل مغتلم، يقول: هو كذا هو كذا، ويهدر في كلامه، وكان -رحمه الله تعالى- يكره الجواب في كثرة المسائل، ويقول: قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]).
لما خاض بعض الناس في الروح، وقالوا: الروح جسم لطيف وأجسام نورانية شفافة ونحو ذلك من الكلام الذي لا يجوز أن يقال، لأن الله اختص بعلم الروح، فما بالك إذا علمت أن الأقوال في الروح وصلت إلى ألف وثمانمائة قول كما قال الشوكاني رحمه الله، فمسألة الروح محسومة، لأن الله عز وجل اختص بعلم الروح، ولا يمكن أحد منا يعلم هذا؛ قال سبحانه: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85].
فلو جاء شخص من الخارج، وقال: عندنا علم جديد فتحنا له كلية، ما هو؟ قال: علم الروح! نحن نبحث في المحتضرين، ونزن المحتضر قبل الموت ونزنه بعد الموت، ونفحصة بالأشعة الحمراء وفوق الحمراء وتحت الحمراء، وفوق البنفسجية وفوق القرمزية، ونعمل أبحاثاً لنعرف الروح، نقول: سلفاً نعطيكم
الجواب
كل ما أنفقتم في هذه الكلية وفتحها وطلابها من الأموال والأوقات فإنكم لن تجنوا من ورائه إلا حرث بذر في الهواء.
فالذي ينطلق من الشريعة والعقيدة الصحيحة، غير الذي ينطلق من الثقافات الأخرى الأجنبية عن الدين، والغربيون الآن لهم أبحاث في الروح، فلم يصلوا إلى أي شيء فيها، بل عادوا إلى الصفر مرة أخرى، مثل تبه بني إسرائيل، كانوا يخرجون في الصباح يبحثون عن المخرج، ويأتي عليهم المغرب ويجدوا أنفسهم في نفس المكان الذي خرجوا منه، ضلوا على ذلك أربعين سنة.(188/13)
زيادة التفريعات في المسائل
انتشر في بعض العصُور الخصومات والجدالات، وتفريع الفروع الفقهية والخصومات وافتراض الاحتمالات فيها: فلو كان كذا ولو كان كذا، ولو كان كذا، وتجد هذا في كثير من كتب الفروع المذهبية، ويتباهى بها بعض المتعصبين للمذاهب.
فيقولون: أئمتنا رحمهم الله ما تركوا شيئاً، بحثوا كل شيء، وشققوا المسائل، وفرعوا التفريعات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد كره لكم قيل وقال) والتشقيق والتفريع في الكلام وفي هذه المسائل داخل في قيل وقال.
ويذكرون المسائل التي لا تحصل، ووجد في بعض كتب فروع الشافعية: لو صلى في أرجوحة معلقة بين السماء والأرض، ففرضوها مع أنها غير موجودة، أرجوحة معلقة بين السماء والأرض، ثم قالوا:
الجواب
لا يجوز، لأنه لا بد أن يصلي على شيء مستقر متصل بالأرض، وجاءت الفروع والنتيجة أنه لا يجوز، وسأل الناس عن حكم الصلاة في الطائرة بعد اختراع الطائرة، فقيض الله من هذه الأمة من يبين الحكم بعد أن وجدت المسألة وهنا يحصل التوفيق.
ولذلك فإن بعض السلف يرفض أن يجيب على المسائل الافتراضية، ويقول: دعه حتى يكون، لماذا؟ لأنه إذا كان وإذا حصل بذل أهل العلم وسعهم عند ذلك واجتهادهم؛ لأن المسألة صارت موجودة، فيأتي التوفيق من الله عز وجل.
ولما صارت القضية الآن وتنادى أهل العلم لبحث الصلاة في الطائرة، وقالوا: إن الصلاة في الطائرة جائزة، إذا احتاج إلى ذلك فلا حرج، وصلاته صحيحة، وما خرجوا بالنتيجة التي خرج بها ذلك المتمذهب الذي فرَّع الفروع الدقيقة ومنها هذا، وخرج بتلك النتيجة، على مسألة افتراضية لم تكن واقعة.
قال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يبعث نبياً إلا مبلغاً، وإن تشقيق الكلام من الشيطان) وتشقيق الكلام مذموم، وكذلك فإنه قد ورد النهي عن كثرة المسائل وعن الأغلوطات.
والأغلوطات: هي شرار المسائل التي يُغالط فيها العلماء؛ ليزلوا بذلك، فيأتي شخص يتحذلق في سؤال -كما فعل بعضهم، وبعض المسلمين نقلوه عن بعض النصارى- هل يستطع الله أن يخلق إلهاً مثله؟ فأنت انظر إلى السؤال لتعرف كيف يأتون بالأغلوطات التي ورد النهي عنها؟ هذا السؤال غلط أصلاً، لأنه إذا خلق إلهاً فالإله لا بد ألا يكون له بداية، وكيف يكون إلهاً وله بداية؟ فالسؤال غير وارد، وهل يوجد جواب صحيح على سؤال خطأ؟ صحح سؤالك حتى نأتي لك بالجواب.
هذه قضية الأغلوطات والفرضيات التي يريدون أن يزلوا بها العلماء، ويتقعرون في الألفاظ والمسائل والفرضيات للجدال، فصارت القضية قضية جدال، أوقات تضيع في الجدل، افتراض أشياء ثم الجدال بناءً عليها.(188/14)
علم السلف كان كبيراً وكلامهم كان قليلاً
كانت مؤلفات الأولين قليلة ولكنها كثيرة البركة، ومؤلفات المتأخرين كثيرة ولكن بركتها قليلة، وكذلك كلام السلف قليل، لكن مدلوله كبير ومبارك ونافع، وكلام المتأخرين كثير وكثير، تفريعات كثيرة جداً ولكن بركته قليلة.
ومن يتأمل في بعض كتب المذاهب التي فيها هذه الفروع الكثيرة: فصلٌ، فصلٌ، فصلٌ، والمجلدات تزيد، وبعض الناس يقول: أين كان علم مالك والشافعي وأحمد وابن المبارك والثوري والأوزاعي، أين كان عن هذه المسائل؟ فيقال له: قال ابن رجب رحمه الله: (وما تكلم من تكلم وتوسع من توسع بعدهم باختصاصه بعلم دونهم، ولكن حباً للكلام، وقلة ورع، كما قال الحسن وسمع قوماً يتجادلون: "هؤلاء قوم ملوا العبادة، وخف عليهم القول، وقلّ ورعهم فتكلموا".
وقال مهدي بن ميمون: سمعت محمد بن سيرين وماراه رجلاً-جادل محمد بن سيرين - ففطن له، فقال: "إني أعلم ما يريد، إني لو أردت أن أماريك كنت عالماً بأبواب المراء " -أنا أعلم بالمناظرة والجدال والأصول، لكن لماذا أضيع وقتي معك؟ وقال جعفر بن محمد: "إياكم والخصومات في الدين، فإنها تشغل القلب وتورث النفاق".
وقال عمر بن عبد العزيز: "إن السابقين عن علم وقفوا، وببصر نافذ قد كفوا، وكانوا هم أقوى على البحث لو بحثوا".
وقد فتن بعض المتأخرين بهذا، وظنوا أن من كثُر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك، وكذلك فإن من كثرت مسائله وتفريعاتها، فهو أعلم ممن قلَّ كلامه وبحثه، وكانت مؤلفاته أقل وأوراقها أقل- وهذا جهل محض، وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم كـ أبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود وزيد بن ثابت كيف كانوا؟ كلامهم أقلّ من كلام ابن عباس وهم أعلم منه، وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة، والصحابة أعلم منهم).
فعلاً: لو جربت الآن المنقولات عن السلف لوجدت كلام الصحابة أقل من كلام التابعين، وكلام التابعين أقل من كلام تابعي التابعين، وتابعي التابعين كلام أكثر من كلام التابعين، وكلام التابعين أكثر من كلامهم الصحابة، من الأعلم؟ الصحابة، ثم من؟ جيل التابعين بالتأكيد.
فكيف نجدهم أعلم وكلامهم أقل؟ هذه الملاحظة التي يجب أن ننتبه لها.
قال: (فليس العلم بكثرة الرواية، ولا بكثرة المقال، ولكن نور يُقذف في القلب يفهم به العبد الحق، ويميز به بينه وبين الباطل، ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم واختُصر له الكلام اختصاراً).
فإذاً: تجد الآن فيها قول عن ابن مسعود كلمة كلمتين جملة سطر، وتجد في كلام بعض المتأخرين صفحات وأبحاثاً طويلة جداً جداً، من الذي كلامه أكثر بركة وأصوب وأنفع؟ طبعاً كلام الصحابة مع قلته ووجازته، ولذلك العلم ليس بكثرة تسويد الصفحات، ولا بكثرة الآراء والأقوال، لكنه نور يقذفه الله في قلب العالم خاصة الذي يسير ويمشي على الكتاب والسنة، فيأتي لك بالحكم.(188/15)
كثرة الكلام لا يدل على العلم
قال: (فيجب أن يُعتقد أنه ليس كل من كثُر بسطه للقول وكلامه في العلم كان أعلم ممن ليس كذلك، وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم، فمنهم من يظن في شخصٍ أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم، لكثرة بيانه ومقاله، ومنهم من يقول: هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين).
ومنهم من يقول: من المتأخرين من هو أعلم من أصحاب المذاهب الأربعة، أعلم من الشافعي وأحمد ومالك، لا! لا يمكن أن يكون هذا! لكن هنا نقطة مهمة وهي: أن المسألة قد لا تكون وجدت أسبابها في عهد الصحابة والتابعين، ووجدت أسبابها في عهد الإمام أحمد مثلاً، فتكلم فيها الإمام أحمد وما وجدنا فيها كلام الصحابة لماذا؟ لأنها لم تكن في عهدهم.
مثلاً: خلق القرآن هل تجد فيه كلاماً للصحابة موسعاً؟ لا.
ولماذا تكلم الإمام أحمد ومن معه في الرد على المعتزلة؟ لأن المشكلة نشأت في عصره، فعندما تدعو الحاجة إلى الكلام والرد على أهل البدع نرد هل نقوم الآن ونتكلم في قضية الصحابة؟ نقول: إذا كان عندك الوسط سليم، والناس صدورهم سليمة، وقضايا الصحابة غير مثارة، والفتن التي بينهم غير مذكورة ومنتشرة، هل تتكلم عن الفتن التي حصلت بينهم، وتتوسع فيها، وتنشرها بين العامة؟ هذا خطأ؛ لأن الواحد يكون صدره سليماً، فيصبح غير سليم.
مثال واقعي: لو قال رجل: ظهرت أشرطة عن الفتنة بين الصحابة وسمعها وقال: والله هذا محمد بن أبي بكر الصديق إنسان مجرم سفاح وظالم وباغٍ، وهو ما كان يعرف محمد بن أبي بكر، ولم يسمع به إطلاقاً والآن لما سمع الكلام قال: هذا كذا وكذا وكذا.
كانت صدورهم سليمة، فصارت هكذا، وذلك بسبب فتح موضوع لا توجد أسبابه أو الحاجة لفتحه، لكن من أثيرت عنده القضية، كأن يجلس مع رجل من أهل الرفض أو أهل البدعة وأثار عنده أشياء كثيرة، وهذا مسكين، هذا الذي يُعطى كتاب العواصم من القواصم، أو شيء يسمعه ويفيده ويعالج ما حصل عنده في هذه النقطة.
فإذن المسألة مهمة جداً، وهي: عدم إثارة الشيء والكلام فيه إلا بعد وجود أسبابه، فلا تتكلم عن قضية خلق القرآن؛ لأنها غير مثارة، ما رأيكم نخطب خطبة ودرس وسلسلة على العامة في قضية خلق القرآن، ونورد أقوال المعتزلة ثم الرد عليها، هل هذا صحيح؟! لا.
لأن المسألة أصول ومنطلقات وثوابت، فالذي يفهم طريقة السلف لا يزيغ في الكلام ولا في توقيت طرح الكلام، وأما الذي ليس عنده علم بذلك فهو يخبط خبط عشواء، فالموضوع جذاب، وقصصي فيمشي بين الناس، وبعض المكتبات والتسجيلات تبحث عن الأرباح، والمسألة هذه لها سوق وشيقة، لكن يترتب عليها مفاسد في الدين، أنت تتكسب من وراء مفاسد على الدين؟! قال: (وقد صدق ابن مسعود رضي الله عنه في قوله في الصحابة: [إنهم أبر الأمة قلوباً، وأعمقها علوماً، وأقلها تكلفاً] وقال ابن مسعود رضي الله عنه: [إنكم في زمان كثير علماؤه، قليل خطباؤه، وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه، كثير خطباؤه].
وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن بالإيمان والفقه، وأهل اليمن أقل الناس كلاماً وتوسعاً في العلوم، لكن علمهم علم نافع في قلوبهم، ويقدرون بألسنتهم عن القدر المحتاج إليه من ذلك.
وهذا قيل عن الزمن الذي كان في ذلك الوقت، وإلا فقد يطرأ على بعض الناس وبعض البلدان، أشياء وتغيرات كثيرة.
ولا شك أيها الإخوة! أن الاهتمام بكلام السلف أنفع من الاهتمام بكلام الخلف، وإن كان الذين يسيرون على كلام السلف من الخلف ينبغي الاعتناء بكلامهم، فمثلاً: إذا جئت إلى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم وغيرهما تجد أنهم يبنون كلامهم على كلام السلف، وكثير من الكلام الذي يقولونه إنما هو استشهاد بكلام السلف، فـ المغني مثلاً كثير من عباراته جمع لكلام السلف، قال عطاء وقال أيوب وقال إبراهيم النخعي وقال فلان فهذا هو علم السلف، فالكتب التي تجمع علم السلف بغض النظر عن المؤلف عاش في أي عصر، المهم الاهتمام بعلم السلف، والخلف الذين شرحوا كلام السلف، وساروا على هديهم، هذا هو المطلوب.(188/16)
الإعجاز العلمي ومضادته لكلام السلف
قال: (فضبط ما روي عن السلف أفضل العلم مع تفهمه وتعقله والتفقه فيه، وما حدث بعدهم من التوسع لا خير في كثير منه إلا أن يكون شرحاً لكلامهم، وأما ما كان مخالفاً لكلامهم فأكثره باطل أو لا منفعة فيه).
وهذا مثال ذكره بعض الإخوان وهو قضية الإعجاز العلمي في القرآن، بعض الناس يفسرون آيات في القرآن بتفسيرات ليست واردة، بل مخالفة لما قاله السلف.
مثلاً: افترض أنك جئت إلى آية: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] وفتحت تفسير ابن كثير، وميزته أنه يجمع تفاسير السلف: مجاهد، وقتادة، وسعيد بن جبير، وابن عباس، وابن مسعود.
ستجد مثلاً أن الله إذا جمع الأولين والآخرين يوم القيامة يتحداهم ويجعلهم في صعيد واحد تحيط بهم الملائكة صفوفاً، ويقول: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33]، ولا يوجد سلطان {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] فيأتي من يقول: اكتشفنا إعجازاً علمياً في القرآن؟ ما هو؟ قال: (لا تنفذون إلا بسلطان) أي: سلطان العلم، أي: صواريخ الدفع النفاثة، هذه التي تخرج، فكر في المعنى القبيح الذي فسرت به، ماذا ترتب على هذا الكلام من قُبح؟ أن الله يتحدى الإنس والجن، ثم بعضهم يقبلون التحدي ويخترعون أشياء وينفذون، هل من المعقول أن الله يتحدى الجن والإنس ويقبلون التحدي، ويتغلبون فعلاً، ويصعدون من أقطار السماوات والأرض، هل هذا كلام يقبل؟! فالجن من قبل قد خرجوا من أقطار الأرض، ويصعدون إلى السماء: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن:9] فكيف يتحداهم وكان قد عملوا بالتحدي وهذا إنما يوم القيامة.
فكثير من الكلام الذي في الإعجاز العلمي للقرآن مخالفة لكلام السلف، ثم تتغير النظرية فيتغير التفسير، فيكون قد ركَّب تفسير الآية على نظرية معينة، والنظرية قد يكتشف خطأها ماذا نفعل وقد فسرنا القرآن على هذا؟! فلا بد أن يقال ما يوافق كلام السلف، لا ما يخالف كلام السلف.
افترض أنهم قالوا مثلاً: اكتشفنا أن القمر انشق من ألف وأربعمائة سنة، زادونا شيئاً جديداً؟ لا! هل خرجوا عن كلام السلف؟ لا.
لكن يأتي رجل يحدث قولاً جديداً، ويخالف السلف، ويقول: أنا توصلت إلى ذلك، ويخالف السلف، فاعلم أنه لا خير فيه.
والمشكلة في قضية الإعجاز العلمي أنه طرح قضايا، وبعد سنة سيأتي مؤتمر آخر لا بد أن يقدم ورقة بحث جديدة، الآن نريد سبق صحفي جديد في اكتشافات قرآنية جديدة فسوف تقل الضوابط عندهم، وكان أولاً يأخذ بالمسلمات وبالحقيقة، وصار الآن يأخذ بالنظريات، ثم صار يتعسف الورقة الثالثة والرابعة والخامسة.
ولذلك المسألة تنفلت وما هي الفائدة؟ أن نخالف تفاسير السلف، الله سبحانه وتعالى لما أنزل القرآن أنزله للعرب والعجم، يا أخي! يكفي التفكر في السماء وما فيها من النجوم، فالله عندما قال: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد:2] {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} [الحج:65] ألا يكفي إعجازاً أن السماء لا تقع على الأرض؟! وبعض الأشياء لو لم تشرح فيها إلا الكلام الموجود في التفاسير لكفى إعجازاً، يملؤنا إيماناً.
إذاً: ما يسمى بالإعجاز العلمي منه ما هو حق، ومنه ما هو باطل، ومنه ما هو كلام مشكوك فيه، أي: مثل الإسرائيليات، شيء يُوافق ما عندنا، فنقول: نعم، وشيء يخالف ما عندنا، فنقول: لا، وشيء لا يوافق ولا يخالف، نقول: الله أعلم به، لا نعتقد به اعتقادنا في العقائد، ولا نكذبه، ونقول: إذا كانت هذه الأشياء اكتشافات علمية إذا صدقوا فيها فهي صحيحة.
افرض -الآن- أنه لا يوجد نص من آية أو حديث على أن هناك حياة على كوكب غير الأرض، وغداً أخرجوا هذه المركبات والتلسكوبات، وقالوا: إنا وجدنا حياة ووجدنا دواب تمشي بأربعة عشر رجلاً ورأسين وخمسة قرون، وثلاث أعين على كوكب ما! فكان ماذا؟ ليس عندنا ما يدعو للتكذيب، وجدتموه وصارت القضية موجودة، الحمد لله ليس هناك مانع، ولا محظور في قبوله، إذا صار حقيقة وصار موجوداً، لأنه لا يوجد في القرآن والسنة ما يرده.
قال رحمه الله تعالى: (فمن لم يأخذ العلم من كلامهم فاته ذلك الخير كله، مع ما يقع في كثير من الباطل متابعة لمن تأخر عنهم، ويحتاج من أراد جمع كلامهم -أي: كلام السلف - إلى معرفة صحيحه من سقيمه، وذلك لمعرفة الجرح والتعديل والعلل، فمن لم يعرف ذلك فهو غير واثق بما ينقله من ذلك، ويلتبس عليه حقه بباطله، ولا يثق بما عنده من ذلك).
عندما نقول: نأخذ كلام السلف ونبحث عن كلام السلف أيضاً يكون عندنا ميزان وهو قضية صحة العبارة، هل صح أن فلاناً من السلف قالها، صحيح قالها ابن مسعود، وصحت عن ابن عباس، وصحت عن فلان وفلان من السلف.(188/17)
العلم هو ما جاء به الصحابة
قال الأوزاعي: " العلم ما جاء به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما كان غير ذلك فليس بعلم".
وكذا قال الإمام أحمد، وقال في التابعي: أنت مخير، يعني في كتابته وتركه، وقد كان الزهري يكتب ذلك، وخالفه صالح بن كيسان ثم ندم.
وفي زماننا يتعين كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم، إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد؛ وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم، فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة، وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم وهو أشد مخالفة لها لشذوذ عن الأمة.
بعض أتباع المذهب الظاهري يدعون الانتساب إلى طريقة السلف، ولكن بعض كلامهم بعيد عن كلام السلف.(188/18)
علوم الصوفية الباطلة
وكذلك من العلوم التي أحدثت وليست بعلم إطلاقاً: علوم الصوفية المتعلقة بالرأي والذوق والكشف والإلهام ونحو ذلك.
ويقولون: شيخنا يقرأ من اللوح المحفوظ، وأنتم تأخذون علمكم ميتاً عن ميت، فأسانيد البخاري ومسلم: فلان عن فلان وكذا، عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة كلهم ماتوا، ونحن نأخذ عن الحي الذي لا يموت، علم الصوفية هو: حدثني قلبي عن ربي، وهذه علومهم مدونه وفيها كتب، هذه قضية.
مثلاً: الكشف، يقولون: كشف الله له الحُجب وأستار السماوات فنظر إلى طوبى، ومكتوب عند العرش كذا، وقرأ العبارة الفلانية، أي: شيخهم قرأ العبارة الفلانية.
ثم الإلهام: ألهمني كذا، ثم الرؤى، وهي من مصادر العلم عند الصوفية، ولذلك قال ابن عربي الملحد الأفاك الذي له قبر يزار ويحج إليه في الشام يقول: " فرب حديث صحيح-أي: صحيح في البخاري - يرى الولي النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فيقول له: لم أقله، ورب حديث غير صحيح -أي: سند الحديث ضعيف أو موضوع- يرى فيه الولي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: هو من كلامي وأنا قلته ".
بهذه الطريقة ضاع الحديث تماماً؛ لأن القضية صارت على المنام، إذا قال: قلته في المنام، فقد قاله، وإذا قال: ما قلته، فمعناه ما قاله، حتى لو كان الحديث في البخاري، وبهذا ضاعت الأصول.
ولذلك الأئمة الذين ينسب المتصوفون إليهم كلامهم بعضهم من أهل الحق ومن أهل السنة، ولو رأيت كلامهم لناقض ما عليه أهل التصوف هؤلاء الضلال.
قال: (قال الجنيد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يُقتدى به في علمنا هذا).
قضية الكشف وقضية الذوق ونحوها دخل فيها الزنادقة، فحركة الزندقة استغلت التصوف ودخلت فيه، وكانوا من أشد الناس بلاء على أهل الإسلام وأذىً للمسلمين، ثم أدت القضية بهم إلى الوقوع في الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، حتى إن شيخ الإسلام لما ناقشهم قال: النصارى خير منكم، النصارى يقولون: إن الله حلَّ في عيسى في واحد، وأنتم تقولون: الله حل في كل شيء، ولذلك يقولون:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسة
يقولون: الله في كل مكان، في الجدار وفي كذا وفي كذا، وفرعون كان على حق عندما قال: (أنا ربكم الأعلى)، لكن موسى استعجل وأنكر عليه هكذا قالوا.
ثم لما ناظر يهودي قبل أن يُسلم ابن تيمية قال: حكى لي عبد السيد فلان من اليهود قبل أن يُسلم، قال: إنه ناظر واحداً من هؤلاء الضلال الصوفية فقال له: ما تقول في كذا.
قال: الله في كل شيء حتى قال: وكلام فرعون صحيح لما قال: (أنا ربكم الأعلى)، فقال له اليهودي: إذاً فرعون كلامه أصح من كلام موسى، وفرعون غرق ومات وموسى نجَّاه الله، فأنا مع موسى، فبهت الصوفي.(188/19)
ما يدل عليه العلم النافع
قال رحمه الله: (وغير ذلك من أصول الكفر والفسوق والعصيان كدعوى الإباحة وحلّ محظورات الشرائع، وأدخلوا في هذا الطريق أشياء كثيرة ليست من الدين في شيء، فبعضها زعموا أنه يحصل به ترقيق القلوب كالغناء والرقص).
يقولون: المولد الذي فيه أذكار وغناء ورقص، ويقوم بعضهم يرقصون في المجلس هذا يسبب ويُحدث رقة في القلب.
قال: (وبعضها زعموا أنه يراد لرياضة النفوس، كعشق الصور المحرمة ونظرها) وقالوا: عشق المردان ينقي النفس وفيه شفافيه في الروح ويجعلك تتسامى إلى الملأ هكذا يقولون.
قال: (وبعضها زعموا أنه لكسر النفوس والتواضع، كشهرة اللباس وغير ذلك مما لم تأتِ به الشريعة، وبعضه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، كالغناء والنظر المحرم).
اتخذوا دينهم لعباً ولهواً، فالعلم النافع من هذه العلوم ما انضبط من الكتاب والسنة، وفُهِمَ على حسب الكتاب والسنة، من معاني القرآن والحديث، وكذلك مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق، فهذه كلها من العلم النافع، وينبغي الاجتهاد في تمييز الصحيح من السقيم، ثم الاجتهاد في الوقوف على معاني الشيء الصحيح.
قاعدتان مهمتان جداً لطالب العلم: تمييز الصحيح من السقيم، ثم العكوف والوقوف لمعرفة معاني الصحيح.
قال: (وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشغل لمن بالعلم النافع عنى واشتغل، ومن وقف على هذا وأخلص القصد فيه لوجه الله عز وجل، واستعان عليه أعانه وهداه، ووفقه وسدده وفهمه وألهمه، وحينئذٍ يُثمر له هذا العلم ثمرته الخاصة وهي خشية الله عز وجل كما قال عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
إذاً: هناك شيء مهم جداً وهو الخشية، وهو رأس العلم، من خشي الله فهو عالم، ومن عصاه فهو جاهل، العلم النافع يدل ويقود إلى أمرين: أولاً: إلى معرفة محبة الله، وما يستحقه سبحانه وتعالى من الأسماء الحسنى والصفات العلا، وإجلاله وإعظامه وخشيته ومحبته ورجائه والتوكل عليه والرضا بقضائه والصبر على بلائه، العلم النافع يُوصل إلى هذا، وإذا لم يصل الإنسان إلى هذا معناه أن هناك مشكلة، إما أنه ليس عنده علم نافع وإما أنه ما عنده إخلاص.
ثانياً: يقود إلى المعرفة بما يحبه الله ويرضاه من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال، فعند ذلك يسارع العبد في رضا المولى عز وجل، لأنك إذا عرفت أن هذا حلال، وهذا حرام، وهذا مستحب، وهذا واجب، وهذا مكروه، عرفت ماذا تعمل.
فالعلم النافع يقود إلى هذا، فإذا انساق العبد إلى هذا كان العلم نافعاً ووقر في القلب وخشع قلبه لله، وانكسر له وذل له هيبة وإجلالاً وخشية ومحبة وتعظيماً، وعند ذلك تقنع النفس باليسير من الحلال وتشبع به، فتزهد في الدنيا وفي كل ما هو فانٍ.
وعندما يصل العبد إلى هذه الدرجة يكون قد وصل إلى المرحلة المذكورة في الحديث الإلهي في العلاقة الخاصة بين العبد وربه: (لئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) هذه هي العلاقة الخاصة: (احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) هذه المعرفة الخاصة والعلاقة الخاصة بين العبد والرب.
فيستأنس العبد بذكر ربه في خلوته، ويجد حلاوة لذكره ودعائه ومناجاته وعبادته، ويستوي عنده سره وعلانيته، ويجد حلاوة الطاعة، فمتى وجد العبد هذا عرف أنه قد وصل وحصَّل المقصود.
ولذلك قال بعضهم للفضيل يذكره: أما بينك وبين ربك ما إذا دعوته أجابك؟ أي: هل علاقتك بالله وصلت إلى درجة أنك إذا دعوت الله أجابك؟ فغُشي عليه.
قال: (فالعبد لا يزال يقع في شدائد وكرب في الدنيا وفي البرزخ وفي الموقف).
ليست القضية فقط في الدنيا يقع في كرب، بل في البرزخ وفي الآخرة يقع في كرب، فإذا كان بينه وبين الله علاقة خاصة، كفاه الله ذلك، كربات الدنيا والبرزخ والآخرة، قال: (وهذا هو المشار إليه بوصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة).
بعض الناس يعرفك في الشدة، أي: إذا غرقت في بحر أو صرت في اضطرار وفقر، لا! ليس هذا فقط، يعرفك في الشدة حتى في شدائد القبر، وفي شدائد المحشر، يعرفك في الشدة.
فالعلم النافع هو ما عرف به العبد ربه، واستدل عليه، وأنس به واستحيا منه، واقترب إليه وخشع له، وهذا علم بحد ذاته، ولذلك جاء في الأثر: (أول ما يرفع من الناس الخشوع).
قال: (قال الحسن رحمه الله: " العلم علمان: فعلم في اللسان، فذاك حجة الله على ابن آدم -أنت تتكلم به فإذا ما طبقت كان حجة عليك- وعلم في القلب: فذاك العلم النافع ").
وكان السلف يقولون: العلماء ثلاثة: 1 - عالم بالله عالم بأمر الله: يخشى الله، ويعرف الله، ويعرف أحكام الله.
2 - عالم بالله وليس عالم بأمر الله.
يخشى الله لكن لا يعلم الحلال والحرام والأحكام.
3 - عالم بأمر الله وليس عالم بالله: أي: يعرف الأحكام والفقه، لكن خشية الله لا توجد تقوى غير موجودة, وهذا خطير جداً، لأن هذا الصنف هو الذي يضل الناس، الذي عنده علم وليس عنده تقوى، فيستعمل ما عنده من العلم في إضلال الخلق، ويلقي عليهم الشبهات والأشياء، يحرفهم بها: (إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين).
أما الذي لا عنده علم بالله ولا بأمر الله، فهذا كالحمار يحمل أسفاراً وليس عنده شيء، فالشأن كل الشأن في أن يعرف العبد ربه ويعلم أمره ونهيه، وكان الإمام أحمد رحمه الله يقول: " أصل العلم خشية الله، أصل العلم العلم بالله " هذا العلم النافع يقود إلى خشية الله عز وجل، هذا هو العلم الحقيقي.
أما لو لاحظ الشخص أن علمه يتعلمه ليماري به العلماء، ويجادلهم ويجاريهم في الكلام، ويعرف بعض ما عندهم، ويماري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه، ويريد به شرفاً ومنصباً وذكراً وثناءً، فهذا من أول خلق الله الذين تسعر بهم النار يوم القيامة.(188/20)
علامات صاحب العلم النافع
ثم إن ابن رجب رحمه الله في نهاية رسالته شرع يذكر علامات تدل على صاحب العلم النافع.
ما هي علاماته؟ ما هي أوصافه؟ قال: (من علامات ذلك: قبول الحق والانقياد له) فإذا كان لا يقبل الحق ولا ينقاد له ويتكبر ويُصّر على الباطل فهذا علمه ليس بالعلم النافع.
وكذلك من العلامات: إذا كان بعيداً عن الرياء لا يريد ثناء الناس ولا الرفعة بينهم، فهذا مخلص وعلمه نافع، فإذا كان يقبل المدح ويستجلبه، فمعنى ذلك أن علمه لم ينفعه.
فالصادق يخاف النفاق على نفسه، ويخشى من سوء الخاتمة، فلذلك كان من علامات أصحاب العلم النافع أنهم لا يرون لأنفسهم مقاماً، ويكرهون بقلوبهم التزكية والمدح، ولا يتكبرون على أحد، لا يحسدون من فوقهم، ولا يسخرون ممن دونهم، ولا يأخذون على علمهم أجراً، هذه من علاماتهم.
ومن علاماتهم: أنهم كلما ازدادوا في هذا العلم ازدادوا لله تواضعاً.
ومن علاماتهم: أنهم يهربون من الدنيا ومن الرئاسة والشهرة والمدح ويتباعدون عن ذلك.
ومن علاماتهم: أنهم لا يدعون العلم ولا يفخرون به على أحد ولا يجهلون غيرهم، إلا الجاهل الحقيقي.
وكذلك فإنهم يتواضعون لمن سبقهم من أهل العلم ولا يخطئون السلف ولا يعتدون عليهم، تجد الآن العقلانيين يعتدون على السلف ويجهلون السلف، ويقولون: علمنا أشياء لم يعلمها السلف، وأين كان السلف عن كلامنا ونحو ذلك؟ فاحترام السلف ومدحهم، وعدم الكلام فيهم من القرون الثلاثة المفضلة، هذا من علامات أهل العلم النافع.
لما سُئل أبو حنيفة عن علقمة والأسود وهما من كبار السلف: أيها أفضل؟ قال: "والله ما نحن بأهل أن نذكرهم فكيف نفضل بينهم".
أي: أنا أستحي أن أذكر اسمه على لساني من علو منزلته وأنني دونه، أستحي أن أذكر اسمه فقط، فكيف أفضل بينهم؟
لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
لا تقارن بيننا وبين السلف، ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد، فشبه السلف بالصحيح، وشبه نفسه بالمقعد.
ومن علمه غير نافع يرى لنفسه فضلاً على السلف وأنه فاقهم، وأنه أتى بكلام خفي عليهم ونحو ذلك.
ثم عاود التأكيد على أن القضية ليست تشقيق في الكلام والتفاصح في الألفاظ، قال: (فإن الحياء والعي -عدم القدرة على الكلام الفصيح- شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق) وإسناده صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم والحديث مرفوع.
وطبعاً هذا ليس على اطراده، فكم من السلف كان فصيحاً لكن لا يظن بالإنسان أنه إذا رأى من لا يستطيع أن يتكلم بفصاحة أنه جاهل، فقد يكون عالماً.
وخذوا مثالاً! الآن مثلاً الشيخ عبد العزيز بن باز كلامه ومنطقه وحروفه لا تُحس فيها بالحروف البليغة الفصيحة، وربما غيره فاقة كثيراً في قضية الألفاظ والسجع وجمال الأسلوب، لكن لا يعني أن الذي عنده أسلوب جميل أنه عالم، وأن الذي ليس عنده أسلوب جميل أنه جاهل! أبداً، بل إن الحديث يقول: (الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق).
قال: (فمن عرف قدر السلف عرف أن سكوتهم عما سكتوا عنه من ضروب الكلام وكثرة الجدال والخصام، والزيادة في البيان على مقدار الحاجة لم يكن عياً ولا جهلاً ولا قصوراً، وإنما كان ورعاً وخشية لله تعالى واشتغالاً عما لا ينفع بما ينفع).
فنسأل الله تعالى علماً نافعاً، ونعوذ به من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع.
هذا كان ملخصاً لما عرضه ابن رجب رحمه الله في رسالته العظيمة المحتوية على الأصول الجامعة النافعة لطالب العلم، بعنوان: (بيان فضل علم السلف على علم الخلف) والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.(188/21)
قصة بناء البيت العتيق
تكلم الشيخ حفظه الله في هذه المحاضرة عن كرامات ومعجزات وفضائل، أكرم الله عز وجل بها إبراهيم عليه السلام وأهله وذريته، حين أن أطاعوا ربهم واستجابوا لندائه، ومن هذه الكرامات والفضائل: نبوع ماء زمزم تفضيل مكة المكرمة ببناء البيت العتيق حج بيت الله الحرام تشريع الأضحية وغير ذلك.
ثم استخرج الشيخ فوائد عدة من رحلة إبراهيم بهاجر وابنه إسماعيل إلى مكة.(189/1)
نص حديث قصة بناء البيت العتيق
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فالقصة التي سنتحدث عنها في هذه الليلة -أيها الإخوة- قصة قصها علينا النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الأنبياء ممن كان قبلنا {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:111].
وهذه القصة هي قصة بناء الكعبة، وما وقع قبلها من الأحداث لإبراهيم الخليل عليه السلام مع أهله.
وقد ساق الإمام البخاري رحمه الله تعالى هذا الحديث مطولاً، وهذه إحدى روايات الحديث: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شَّنَّة - وهي القربة- فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشَّنَّة فيدر لبنها على صبيها، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة، ثم رجع إبراهيم إلى أهله، فاتَّبَعته أم إسماعيل حتى لما بلغوا كَدَاء نادته مِن ورائه: يا إبراهيم! إلى مَن تتركنا؟ قال: إلى الله، قالت: رضيتُ بالله.
قال: فرَجَعَت، فجعلت تشرب من الشَّنَّة ويدر لبنها على صبيها، حتى فَنِي الماء.
قالت: لو ذهبتُ فنظرتُ لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا، فنظَرَت ونظَرَت هل تحس أحداً، فلم تحس أحداً، فلما بلغت الوادي سعت وأتت المروة -كان بين العَلَمَين الأخضرَين في الصفا والمروة كان يوجد وادٍ سعت فيه هاجر سعياً حثيثاً ومشت المسافة الباقية- فلما بلغت الوادي سعت وأتت المروة، ففعلت ذلك أشواطاً, ثم قالت: لو ذهبتُ فنظرتُ ما فعل -أي: الصبي- فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت -يشهق- فلم تُقِرها نفسها، فقالت: لو ذهبتُ فنظرتُ لعلي أحس أحداً، فذهَبَت فصعدت الصفا فنظَرَت ونظَرَت فلم تحس أحداً، حتى أتمت سبعاً، ثم قالت: لو ذهبتُ فنظرتُ ما فعل، فإذا هي بصوت، فقالت: أغث إن كان عندك خير، فإذا جبريل قال: فقال بعقبه هكذا، وغمز عقبه على الأرض، قال: فانبثق الماء، فدهشت أم إسماعيل! فجعلت تحفز -أي: تجمع وتضم هذا الماء- فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: لو تَركَتَه كان الماء ظاهراً.
قال: فجعلت تشرب من الماء ويدر لبنها على صبيها، فمر ناس من (جُرْهم) ببطن الوادي، فإذا هم بطير كأنهم أنكروا ذاك، وقالوا: ما يكون الطير إلا على ماء، فبعثوا رسولهم، فنظر فإذا هم بالماء، فأتاهم فأخبرهم، فأتوا إليها، فقالوا: يا أم إسماعيل! أتأذنين لنا أن نسكن معك؟ فبلغ ابنها -أي: إسماعيل شَبَّ- فنكح فيهم امرأة.
قال: ثم إنه بدا لإبراهيم فقال لأهله: إني مُطلع تركتي، قال: فجاء فسلم، فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيدُ، قال: قولي له إذا جاء غيِّر عتبة بابك، فلما جاء أخبَرَتْه، قال: أنتِ ذاك، فاذهبي إلى أهلك، قال: ثم إنه بدا لإبراهيم، فقال لأهله: إني مُطلِع تركتي قال: فجاء فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته -أي: الثانية-: ذهب يصيد، فقالت: ألا تنزل فتطعم وتشرب، فقال: وما طعامكم؟ وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم وشرابنا الماء، قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم، فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: بَرَكةٌ بدعوة إبراهيم -صلى الله عليهما وسلم- قال: ثم إنه بدا لإبراهيم فقال لأهله: إني مُطلِع تركتي، فجاء فوافق إسماعيلَ مِن وراء زمزم يُصْلِح نبلاً له، فقال: يا إسماعيل! إن ربك أمرني أن أبني له بيتاً، قال أَطِعْ ربك، قال: إنه قد أمرني أن تعينني عليه، قال: إذاً أفعل -أو كما قال- قال: فقاما، فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127] حتى ارتفع البناء، وضعف الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة، ويقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]).
هذه إحدى روايتَي البخاري اللتين ساقهما رحمه الله تعالى في صحيحه.(189/2)
شرح حديث ابن عباس الطويل في قصة بناء البيت العتيق
أما الرواية الأخرى فإنها رواية أطول من هذه، وفيها تفاصيل، وسنأتي الآن إلى شرحها، وأخذ العبر والدروس مما يتيسر بمشيئة الله تعالى.(189/3)
سبب إيراد سعيد بن جبير لقصة بناء البيت العتيق
هذه القصة رواها سعيد بن جبير، وهو تابعي أخذ التفسير عن ابن عباس، وأخذ الحديث عنه أيضاً، وقد قتله الحجاج ظلماً، ولما حضرت الحجاج الوفاة جعل سعيد يعرض له، يرى الحجاج نتيجة الظلم وهو على فراش الموت، فكان يقول: ما لي ولـ سعيد، ما لي ولـ سعيد!! سعيد بن جبير من سادات التابعين، ومن كبار العلماء، وكان في ليلة بأعلى المسجد، فقال لمن حوله من الطلاب: [سلوني قبل ألا تروني -ولعله كان رحمه الله يتوقع مَنِيَّتَه، فسأله القوم وأكثروا السؤال لما أحسوا أنه يودعهم- فكان مما سُئِل عنه أن قال رجلٌ: أحقٌ ما سمعنا في المقام -مقام إبراهيم- أن إبراهيم حين جاء من الشام حلف لامرأته ألا ينزل بـ مكة حتى يرجع] أي: كان بين سارة -أو سارَّة لأنها كانت تَسُرُّ زوجَها إذا نظر إليها تَسُرُّ مَن نظر إليها- كان بينها وبين هاجر غيرة، فإبراهيم عندما أراد أن يذهب من عند سارة من الشام إلى مكة إلى الوادي الذي ترك فيه هاجر كأنه حلف لامرأته ألا ينزل بـ مكة حتى يرجع، حتى لا يطيل المقام عند الأخرى، فقرَّبت إليه أم إسماعيل المقام فوضع رجله عليه حتى لا يحنث في يمينه، بل ينزل على الحجر.
الآن هذا سائل يقول لـ سعيد بن جبير: هل هذا الكلام صحيح؟ هل قصة المقام هكذا؟ - فقال سعيد بن جبير: ليس هكذا، حدثنا ابن عباس وساق الحديث.
وفي رواية قال: [يا معشر الشباب! سلوني، فإني قد أوشكت أن أذهب من بين أظهركم، فأكثر الناس مسألته، فقال له رجل: أصلحك الله، أرأيت هذا المقام هو كما نتحدث؟ وأورد له سؤالاً مشابهاً، فقال: ليس كذلك] ثم ساق القصة.(189/4)
هجرة أم إسماعيل إلى مكة
القصة الأخرى التي رواها البخاري رحمه الله في السياق الآخر: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: (أول ما اتخذ النساءُ المِنْطَقَة مِن قِبَل أم إسماعيل -المِنْطَق الذي يُشد على الوسط، لماذا اتخذت أم إسماعيل المنطق؟ - قال عليه الصلاة والسلام: اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة).
كانت هاجر أمة لـ سارة، لأن الجبار عندما أراد أن يمس سارة بسوء، أراد أن يأخذها، دعت الله عز وجل فأصيب بالشلل، ثلاث مرات يحاول أن يمس سارة بسوء، والله سبحانه وتعالى يصيبه بالشلل، وفي النهاية قال لمن أتاه بها: إنك لم تأتني بإنسان، إنما أتيتني بشيطان، فخلى سبيل سارة وأعطاها هاجر وهاجر كانت عند الجبار الملك الظالم.
وعندما رجعت سارة إلى إبراهيم قالت له: أخزى الله الفاجر وأخدم هاجر، ثم إن سارة وهبت هاجر لزوجها إبراهيم، ثم حصل بين سارة وهاجر من الغيرة ما يقع بين النساء، وإن سارة لما اشتدت بها الغيرة خرج إبراهيم بإسماعيل وأمه هاجر إلى مكة لأجل ذلك، وقد أمره الله تعالى بالخروج إلى مكة، واجتمع مع ذلك سبب الغيرة.
فحتى لا تعرف سارة اتجاه هاجر وأثرها أين ذهبت، اتخذت منطقاً يشد على الوسط.
(ويزحف وراءها على الأرض ليخفي أثر مشيها، فجاء إبراهيم بـ هاجر من الشام إلى مكة، وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت -الكعبة لم تكن مبنية ولا موجودة، وإنما مكان البيت- عند دوحة -أي: الشجرة الكبيرة- فوق زمزم في أعلى المسجد -مكان المسجد الذي لم يكن قد بُنِي حينئذٍ- وليس بـ مكة يومئذٍ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاءً فيه ماء -ماء وطعام لأهله الذين تركهم بأمر الله- ثم قَفَّى إبراهيم منطلقاً -أي: وضع هاجر وابنه إسماعيل في هذا المكان الوادي المقفر ورجع إلى الشام - فتبعته أم إسماعيل -لما ولى راجعاً إلى الشام تبعته أم إسماعيل- فأدركته بـ كَدَاء) كداء موضع معروف في مكة غير كُدَى، هناك في مكة مكانان: كداء وكُدَى، وكلاهما مكان معروف، أم إسماعيل لما ولى زوجها إبراهيم خرجت وراءه تطلبه.(189/5)
مراجعة أم إسماعيل لإبراهيم وتعرض ولدها للهلاك
(فأدركته بـ كداء، فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آللهُ الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا وقالت في رواية: رضيتُ بالله -حسبي يكفيني الله عز وجل- ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية من طريق كداء -الموضع الذي دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة منه، لما بلغ الثنية حيث لا يرونه -لا تراه هاجر - استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه فقال: {رَبِّ إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] حتى بلغ: {يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37] ودعا لهم بأن يرزقهم الله من الطيبات والثمرات، وجعلت أم إسماعيل تُرْضِع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال يتلبط -أي: يتقلب ظهراً لبطن وبطناً لظهر من العطش- فانطلقت كراهيةَ أن تنظر إليه -أي: من الشفقة التي جعلها الله في قلبها تركت ولدها وانطلقت, ما بيدها حيلة، المهم ألا ترى الولد يتلبط ولا تتحمل المنظر- فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه -صعدت على الصفا - ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم ترَ أحداً وفي رواية عطاء بن السائب: والوادي يومئذٍ عميق.
الآن لا يوجد هناك وادٍ، الوادي أُزِيل وصار فيه بلاط بدلاً منه؛ لكن بقي العَلَمان الأخضران في أول الوادي وآخر الوادي، فنعلم أن ما بين العَلَمَين الأخضرَين كان هناك وادٍ عميق، هاجر عندما نزلت من الصفا مشت إلى الوادي، وانحطت من الوادي وأسرعت.
(فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود -الذي أصابه الجهد والأمر الشاق- حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها -صعدت جبل المروة - ونظرت هل ترى أحداً فلم ترَ أحداً -لأن الإنسان إذا أراد أن يستكشف هل يوجد في المكان أحد يصعد إلى مرتفع، وهذا ما فعلته رحمها الله صعدت ونظرت- فلم ترَ أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك سعي الناس بينهما).
لماذا يسعى الناس بين الصفا والمروة سبع مرات؟ مثلما سعت هاجر بين الصفا والمروة سبع مرات.
وكذلك عندما كانت في الوادي سعت سعياً شديداً، ونحن نسعى سعياً شديداً بين العَلَمَين الأخضرين مكان الوادي.(189/6)
بحث أم إسماعيل عن الماء وكرامة الله لها
قال: (فلما أشرفت على المروة -في ختام الشوط السابع- سمعت صوتاً، فقالت: صَهْ وفي رواية: أنها كانت كل مرة تتفقد إسماعيل، وتنظر ماذا حدث له بعدها وترجع، ولكن لم تقرها نفسُها -أي: لم تتركها نفسها مستقره فتشاهده في حال الموت، وكانت في كل مرة تلقي نظرة على إسماعيل وترجع تأخذ شوطاً وتصعد، وفي نهاية الشوط السابع وهي فوق المروة -سَمِعَت صوتاً فقالت: صَهٍ صَهْ -أي: اسكت، فكأنها من حرصها تقول لنفسها: اسكتي وأنصتي، لعلك تهتدي إلى مصدر الصوت- تريد نفسها -وإلا فصَهْ كلمة تقال لإسكات الشخص المتكلِّم، فهي قالت لنفسها: صَهْ- تريد نفسها، ثم تسمَّعت فسمعت أيضاً -صوتاً- فقالت: قد أسمعتَ -مصدر الصوت- إن كان عندك غِواث أو غُواث -تريد به هذا المستغيث- فأَغِث -أي: إن كان عندك معونة أغث- فإذا هي بالملك وهو جبريل عليه السلام -وعند الطبري بسند حسن- فناداها جبريل، فقال: من أنتِ؟ قالت: أنا هاجر، أو أم ولد إبراهيم -أم ولد، أمة إبراهيم أم ولده- قال: فإلى من وَكَلَكُما؟ قالت: إلى الله، قال: وَكَلَكُما إلى كافٍ -أي: يكفيكما- حسبكما مَن وَكَلَكُما إليه -وَكَلَكُما إلى عظيم يكفيكما- فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه أو قال: بجناحه -شكٌّ من الراوي، هل ضرب جبريل الأرض بمؤخر قدمه وهو العَقِب، أو ضرب الأرض بجناحه؟ - لما فعل ذلك جبريل ظهر الماء وفي رواية: نبعت زمزم -نبعت زمزم من هذه الضربة- حتى ظهر الماء، ففاض وانبثق، وأول ما رأت هاجر هذا المنظر -من حب التملك، والحرص على الماء ألَّا يذهب- جعلت تحوِّضُه -تجعله مثل الحوض، وتقول بيدها هكذا، تحبس الماء.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم قال: يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم، أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً) أي: لو أن هاجر تركت زمزم كما هي مثلما ضَرَبها جبريل وانبثقت، لصارت زمزم نهراً جارياً يمتد ويجري على ظاهر الأرض، لكن حرصها الزائد جعلها تحوط الماء، فبقي في مكانه، وإلا لأصبح الآن نهراً يجري، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور -بعد ما تغرف- فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملَك: (لا تخافوا الضيعة -يطمئنها، لا تخافي أن ينفد الماء، لا تخافي الظمأ- فإنها عين يشرب منها ضيفان الله وفي رواية: قالت: بشرك الله بخير وفي رواية البخاري فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة، فإن هاهنا بيت الله يَبْنِي هذا الغلام وأبوه وفي رواية: يبنيه هذا الغلام وأبوه -وأشار إلى موضع البيت على مدرة حمراء -تربة حمراء- قال: أشَّر لها إلى موضع البيت، وقال: هذا بيت الله العتيق، واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل يرفعانه -بشرها ببناء البيت العتيق- وكان موضع البيت لم يُبْنَ بعد- وكان البيت مرتفعاً من الأرض) يقال: إن آدم قد بناه في هذا الموضع، ولكن البيت قد ذهب بعد ذلك، وأن بعض الأنبياء بعد آدم كانوا يحجون إلى المكان ولا يعرفون موضعه، حتى جاء إبراهيم الخليل فبناه.(189/7)
نزول قبيلة جرهم عند أم إسماعيل بمكة
قال: (فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية -مكان البيت مرتفع كالرابية- تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم -وهي قبيلة مشهورة- فبقيت هاجر على هذا الحال تتغذى وولدها على هذا الماء المبارك) ماء زمزم الذي هو طعام طُعْم وشفاء سُقْم، يغني عن الماء.
حتى أن أبا ذر رضي الله عنه لما جاء مكة جلس عند زمزم يشرب من زمزم فقط شهراً حتى تكسرت عُكَنُ بطنه، أي: سَمِن حتى ذهبت عُكَنْ بطنه مِن السِّمَن ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن زمزم: (ماء زمزم طعام طُعْم وشفاء سُقْم) يقوم مقام الطعام، وهو سبب للشفاء من الأمراض والأسقام فإذن الله.
عندما أتى هؤلاء الرفقة من قبيلة جرهم (مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائراً عائفاً -أي: رأوا طائراً يحوم فوق الموضع- فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء -العرب كانوا يعرفون أنهم إذا رأوا الطائر يدور في موضع معناه: أنه يوجد ماء في هذا الموضع- فاستغربوا -استغرب هؤلاء الجرهميون- قالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، وعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء -متى صار هناك ماء في الوادي، عهدُنا ما فيه ماء- فأرسلوا جَرِيَّاً قبيلة (جرهم) من العرب كان مكانهم قريباً من مكة، ويقال: إن أصلهم من العمالقة، هؤلاء عرب يتكلمون العربية، ولما نزلوا جاءوا على عادتهم في التنقل في هذا الموضع ورأوا طائراً عائفاً.
فأرسلوا جَرِيَّاً -وهو الرسول، أرسلوه ينظر لهم الخبر، وسمي الرسول جَرِيَّاً؛ لأنه يجري مسرعاً في حوائجه ليأتي بالخبر بسرعة- فإذا هم بالماء، فرجع، فأخبرهم بالماء -رجع الرسول وأخبر قبيلة جرهم أن المكان فيه ماء- فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك، فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء -الماء ملكي فقط وليس لكم حق فيه- قالوا: نعم -نرضى وننزل عندكِ، والعرب كانوا ينزلون في المكان الذي فيه ماء.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك أمَّ إسماعيل، وهي تحب الأنس) فالأُنس ضد الوحشة، والإِنس جنس هاجر من الإِنس، تحب جنسها، أو تحب الأُنس الذي هو ضد الوحشة، رأت هاجر من مصلحتها أن ينزل هؤلاء عندها، لماذا تبقى وحيدة في الصحراء؟! وافقت على أن ينزلوا عندها وشرطت عليهم أنه لا حق لهم في الماء.
فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم -استدعوا هؤلاء الجرهميون أهاليهم- فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم -من جرهم- وشبَّ الغلام -أي: إسماعيل عليه السلام - وتعلَّم العربية منهم) إذاً: إسماعيل بن إبراهيم لم يكن أبوه عربياً ولا أمه هاجر عربية، فتعلم العربية من جُرْهم، لكن عندنا حديث حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (أول مَن فَتَقَ الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل) فكيف نجمع بين هذا وهذا؟! نقول: إن إسماعيل تعلَّم العربية مِن جُرهم، لكن الله رزق إسماعيل الفصاحة المتناهية في اللغة العربية، ولذلك يقول الحديث: (أول مَن فَتَقَ الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل) فجرهم عرب وعلموه العربية، لكن ليست العربية الفصيحة المبينة مَن الذي ألهم إسماعيل العربية الفصيحة المبينة؟ الله عز وجل.
إذاً: أصل اللغة تعلمها من جرهم، ثم إن الله أَلْهَم إسماعيل العربية الفصيحة المبينة فنطق بها، ولذلك صار إسماعيل أفصح العرب، ثم صارت اللغة الفصيحة بعد ذلك تُتَناقَل.
لذلك الذين قالوا: إن اللغة العربية مصدرها الوحي لهم حظ من الدليل.
ويمكن أن يقال: إن أصل اللغة كانت موجودة عند جرهم، لكن مستوى الفصاحة والبيان في اللغة كان بوحي أو بإلهام من الله، هو الذي ألهم إسماعيل وعلمه العربية الفصحى، فالعربية الفصحى إلهام من الله لإسماعيل، وبعد إسماعيل انتقلت هذه العربية الفصحى التي يرفض اليوم بنو قومنا استعمالها، ويصرون على الكلام بالأجنبية، والتاريخ بالأجنبية، والعمل باللغة الأجنبية، وهذه اللغة العربية مصدرها إلهام من الله لإسماعيل، فلماذا العدول عنها؟!(189/8)
إبراهيم عليه السلام يتفقد تركته في مكة
قال: (وشب الغلام، وتعلم العربية منهم وأنْفََسَهُم -مِن النَّفاسَة، أي: رغبوا فيه، وأعجبهم؛ لأنه صار ينطق بلسانٍ عربيٍ أحسن منهم، تفوق عليهم في اللغة- فلما أدرك -أي: بلغ- زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل -رحمة الله عليها، هاجر ماتت، بعدما تزوج إسماعيل- فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يُطالِع تَرِكَتَه) جاء يتفقد مَن تركهم بعد سنوات طويلة.
يقال: إن إبراهيم ترك إسماعيل رضيعاً وعاد إليه وهو متزوج.
وقيل: إنه جاء في بعض الروايات: أنه كان إذا أراد أن يأتي ليتفقد التركة، يأتي من الشام على البراق إلى مكة في الصباح، ويقيل في الشام، يأتي على البراق غُدْوَة من الشام إلى مكة، ويقيل القيلولة بعد الظهر في الشام مرة أخرى على البراق.
قال ابن حجر: وروى الفاكهي من حديث علي بإسناد حسن نحوه، وأن إبراهيم كان يزور إسماعيل وأمه على البراق.
وعلى هذا فقوله: (فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل -أي: بعد مجيئه قبل ذلك مراراً، كان يتردد ويتفقد، لكن بعدما تزوج إسماعيل جاء يتفقد التركة- فلم يجد ولده إسماعيل في البيت، فسأل امرأته عنه: أين إسماعيل؟ فقالت: خرج يبتغي لنا -يطلب لنا الرزق- وكان عيش إسماعيل الصيد -يخرج فيتصيد، كان إسماعيل يرعى ماشيته ويخرج متَنَكِّباً قوسه فيرمي الصيد- ثم سألها عن عيشهم -إبراهيم سأل زوجة ابنه في غيابه عن عيشهم وهيئتهم- فقالت: نحن بِشَرٍّ، نحن في ضيق وشدة وفي رواية أنه قال لها: هل من منزل؟ قالت: لاهى اللهُ إذاً -لا يوجد منزل- قال: فكيف عيشكم؟ فذكرت جهداً، فقالت: أما الطعام فلا طعام، وأما الشاة فلا تحلب إلا المُصَرَّة -أي: مثل الشخب، تسيل سيلاناً فقط، شيء قليل- وأما الماء فعلى ما ترى من الغِلَظ) امرأة متأففة، غير راضية ولا قانعة، وتشكو زوجها إلى الأغراب، لا تعرف من هو هذا الرجل، بمجرد ما جاء وسأل عن عيشهم وقعت في عيشهم: نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه.
(قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً -أحس كأن أحداً جاء- فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم.
جاءنا شيخٌ كذا وكذا -وصفته كالمستخفة بشأنه- فسألنا عنك فأخبرته، وسألنا كيف عيشنا، فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاكِ بشيء؟ قالت: نعم.
أَمَرَني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقكِ، الحقي بأهلك، فطَلَّقَها).
لماذا كنَّى إبراهيم بالعتبة عن المرأة؟ وما هو وجه العلاقة بين العتبة والمرأة؟ عتبة الباب ما هي وظيفتها؟ حفظ الباب، وصون ما هو داخل الباب، وهي محل الوطء، العتبة محل الوطء، فشبَّه إبراهيم المرأة بعتبة الباب، قال: هذه العتبة لا تصلح، فغيِّر العتبة.(189/9)
دعاء إبراهيم عليه السلام لأهل مكة بالبركة
قال: (قال: وتزوج منهم أخرى -تزوج إسماعيل من جرهم امرأة أخرى- فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله -انقطع بعد ذلك إبراهيم ما شاء الله- ثم أتاهم بعدُ، فلم يجده -لم يجد إسماعيل- فدخل على امرأة ابنه، فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ -وسألها عن عيشهم وهيئتهم- فقالت: نحن بِخَيْرٍ وسَعَة -نحن في خير عيش والحمد لله، وعندنا لبن كثير، ولحم كثير، وماء طيب- وأثنت على الله، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ولم يكن لهم يومئذٍ حَب -لا يوجد إلا اللحم والماء، لا يوجد حَب، لا يوجد قمح، لا يوجد أرز، لا يوجد شيء إلا اللحم والماء- ولو كان لهم دعا لهم فيه) لا يوجد في مكة إلا اللحم والماء، لو كان فيها شيء آخر لقال إبراهيم: اللهم بارك لهم في مدهم في صاعهم في كيلهم في حَبهم في برهم، لا يوجد إلا اللحم والماء.
قال عليه الصلاة والسلام: (فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة، إلا لم يوافقاه) يقول عليه الصلاة والسلام: لو اقتصر أحد على اللحم والماء بغير مكة لاشتكى بطنه، أي: يمرض، إلا مكة لا يمرض، لماذا؟ قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (بركة بدعوة إبراهيم) لأن إبراهيم دعا وقال: (اللهم بارك لهم في اللحم والماء) صار الآن اللحم والماء في مكة لا يضر، وفي غيرها يضر الاقتصار على اللحم والماء وهذه من خصائص مكة.
قال: (فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومُرِيْه يثبت عتبة بابه) وجاء في رواية: قالت: (انزل رحمك الله، فاطعم واشرب، قال: إني لا أستطيع النزول، قالت: فإني أراك أشعث، أفلا أغسل رأسك وأدهنه، قال: بلى، إن شئتِ، فغسلت شِق رأسه وهو على دابته الأيمن والأيسر ثم انصرف، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم.
أتانا شيخ حسن الهيئة -تلك ماذا قالت؟ شيخ كذا وكذا- وهذه قالت: أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا، فأخبرته، أنا بِخَيْرٍ، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم.
هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تُثْبِتَ عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك).(189/10)
قيام إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ببناء الكعبة
جاء في بعض الروايات: (أن إسماعيل لما رجع وجد ريح أبيه، فقال: هل جاءكِ أحد -فهذا الذي أشعره بأن أحداً قد جاء، ولذلك سأل- قال: ثم لبث عنهم ما شاء الله -انقطع عنهم ما شاء الله- ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً -أي: يقلم النبل قبل تركيب النصال والريش عليها يبريها- يبري نبلاً له تحت دوحة قريبة من زمزم -دوحة: أي شجرة قريبة من زمزم- فلما رآه -إبراهيم الآن رأى إسماعيل، تقابلا الآن المرة الثالثة- فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد -من الشوق والحماءة واللقاء الحار، اعتناق، ومصافحة، وتقبيل اليد ونحو ذلك.
وفي رواية معمر قال: سمعتُ رجلاً يقول: بَكَيا حتى أجابهما الطير -كان اللقاء حاراً جداً بعد هذه السنوات الطويلة من الفراق- قال عليه الصلاة والسلام: فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد -بعد طول الغيبة كيف يكون اللقاء حاراً وعناقاً ومصافحةً وتقبيلاً! - ثم قال: يا إسماعيل! إن الله أمرني بأمرٍ، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة -هضبة مرتفعة- على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127] قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت -يبني ويدور يبني ويدور- وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]) فقيل: إن إبراهيم بلغ أساس آدم وجعل طوله في السماء تسعة أذرع، وعرضه ثلاثين ذراعاً -ارتفاع البيت وعرض البيت- وجعل الحجر داخل البيت، الآن الحجر خارج البيت كما قلنا في تفصيل القصة في المرة الماضية: إن الحجر الآن هو جزء من الكعبة، لكنه خارج البيت، وأما إبراهيم الخليل فعندما بناها كان الحجر هذا كله داخل البيت (وكان إبراهيم يقوم على المقام -الذي جاء له به ولده- ولما جاء موضع الركن وضع فيه هذا الحجر الأسود الذي نزل من الجنة -قيل: أتاه به جبريل- وبعد ذلك قام إبراهيم على الحجر، فقال: يا أيها الناس! كُتِب عليكم الحج، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه مَن آمن ومَن كان سبق في علم الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك).
قال ابن حجر: روى الفاكهي بإسناد صحيح من طريق مجاهد عن ابن عباس، أن إبراهيم عندما انتهى من بناء البيت نادى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] نادى من مكانه بدون مكبرات، أو أي شيء آخر: يا أيها الناس! كُتِب عليكم الحج.
فالله عز وجل تكفل بإبلاغ صوته إلى الناس كلهم في الأرض في ذلك الوقت، سمع صوتَه كل أهل الأرض، وليس فقط ذلك، وإنما أسمع الله من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه كل مَن كتب الله له أن يحج إلى يوم القيامة، قائلين حتى الذين في أصلاب الرجال، حتى الذين ما خُلِقوا بعد، أجابوا: (لبيك اللهم لبيك) بقدرة الله عز وجل.
هذه قصة بناء البيت العتيق.(189/11)
فوائد مستفادة من قصة بناء البيت العتيق
هذه القصة فيها فوائد كثيرة جداً، وسوف نذكر بعض هذه الفوائد، فمن ذلك:(189/12)
الحرص على سؤال أهل العلم
أولاً: الحرص على سؤال العلماء، وأن العلم يُفْقَد بموت العلماء، وأن سعيد بن جبير عندما قال: [سلوني فإنه يوشك أن تفقدوني] أنه يجوز للعالم أن يقول للناس: سلوني، ويجيب بما علمه الله، والذي لا يدري عنه يقول: الله أعلم.(189/13)
الغيرة بين النساء
في هذا الحديث أيضاً: أن الغيرة بين النساء تقع حتى بين الصالحات، سارة مع أنها حُرَّة وهاجر أَمَة؛ لكن صار عند سارة غَيرة من هاجر، فـ هاجر أنجبت وسارة تأخر إنجابها، حتى أنجبت إسحاق، تأخَّر إنجابها حتى حصلت الغَيرة.(189/14)
المباعدة بين الزوجتين حل من حلول الغيرة
مِن حكمة الزوج أن المباعدة بين الزوجتين حلٌّ مِن حلول الغيرة، المباعدة بين الزوجتين حلٌّ من الحلول لمواجهة الغيرة، والغيرة من شأن النساء، وأن غيرة المرأة لا تقدح في صلاحها إذا لم تتعدَّ حدود الله، وأن المرأة يغتفر لها من الغيرة ما لا يغتفر لغيرها: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] لأن المرأة أحياناً تكون خارجة عن إرادتها.
لما جيء للنبي عليه الصلاة والسلام وهو عند عائشة بإناء فيه طعام من إحدى زوجاته، بمجرد ما رأت عائشة الإناء قالت: في بيتي؟ -ترسله في بيتي- فأخذت الإناء ورمته في الأرض، وانكسر، والنبي عليه الصلاة والسلام بكل حكمه، لَمْلَمَ الطعام وجمعه، وأخذ فلقتَي الإناء، وقال: (كلوا، غارت أمُّكم) أي: عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وأخذ من بيت عائشة إناءً، وأرسل به إلى تلك بدل الإناء المكسور، واحدٌ بواحد، وقال: (كلوا، غارت أمُّكم) ولا عنَّف ولا شتم ولا سب ولا هجر.
وكذلك عائشة رضي الله عنها لها مشاهد كثيرة، تغار فيها غيرة شديدة، وغارت من خديجة مع أن خديجة ميتة، ماتت قبل عائشة بزمن، ومع ذلك تقول: [ما غرت من امرأة ما غرت من خديجة]، وكانت تقول: (ما تريد من عجوز حَمْراء الشِّدْقَين، قد أبدلك الله خيراً منها -كل شيء خديجة وخديجة وخديجة - قال: إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد).
فالغيرة تقع حتى بين كبار الصالحات، وهكذا وقع بين سارة وهاجر غَيرة، لكن الأمر المهم هو التصرف الحكيم للزوج، هو الذي يضع الأمور في نصابها، رأى إبراهيم بحكمته أن يباعد بينهما، فوضع سارة في الشام وهاجر في مكة.(189/15)
مسئولية الحفاظ على الأهل والأولاد
كذلك في هذا الحديث: أن الإنسان لا يضيع أهله، مع أن إبراهيم مأمور بأن يضع هاجر في مكة: (آلله أمرك بذلك؟ قال: نعم) أمر من الله، لكن مع ذلك وضع عندها جراباً من تمر، وسقاءً فيه ماء، ولما ولى وابتعد عنهم دعا لهم الله عز وجل.
فمسئولية شعور الزوج والأب بمسئوليته نحو زوجته وولده، هذا الذي يجعل الأمور تسير سيراً حسناً.
أما إذا كان الإنسان مهملاً -كما هي عادة بعض الأزواج- لا يحسب حساب زوجته ولا أولاده، وربما أنهم يأخذون الطعام من الجيران، أو لا يجدون شيئاً في البيت ولا الطعام ولا حتى الخبز، يسافر ولا يترك لهم لا مالاً ولا أكلاً.
تقول إحدى النساء: يأتي إلى البيت بنماذج وعَيِّنات من الأكل تنتهي بعد يومين أو ثلاثة أيام، ويقول: هذا حق شهر، وربما أنه لا يجد طعاماً في البيت فيأكل في المطعم ويترك زوجته جائعة، هناك أناسٌ عندهم طباع عجيبة، البخل والإهمال في البيت في أسوأ ما يكون.
إبراهيم الخليل ترك جراباً من تمر وسقاءً من ماء، ودعا الله لهما.(189/16)
قوة الثقة بالله عز وجل
كذلك في هذا الحديث: الثقة بالله تعالى، والثقة بالنفس لا تجوز، وإنما الثقة بالله، ويظهر إيمان هاجر عندما قالت له: (آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا.
وفي رواية قالت: رضيت بالله) ولا يتم هذا الكلام إلا إذا كان هناك إيمان قوي بالله عز وجل، وإلا فإن الإنسان ربما ينهار ويموت ويُجن ويصاب بما يصاب به، لكن الذي يثق بالله تعالى وبأمر الله ما دام الأمر من الله إذاً الله لن يضيعهم، لأنه لا يمكن أن يقول لإبراهيم: ضعهم في مكان حتى يموتوا من الجوع! لا، ليس هذا من حكمة الله، ولذلك أمر إبراهيم أن يضع هاجر وإسماعيل في مكان ويتركهما، وهذا من عظيم الابتلاء.(189/17)
ابتلاء الأنبياء
إبراهيم ما صار أبو الأنبياء، ولا خليل الله، ولا أفضل نبي بعد نبينا عليه الصلاة والسلام إلا بصبره، ابتلاه الله بابتلاءات عظيمة وصبر، فكون الواحد يترك زوجته وولده في وادٍ غير ذي زرع، لا يوجد فيه أحد، ويمشي وقلبه متعلق بالولد، ويؤمر بتركه ويمشي، هذا ابتلاء عظيم، ولا يصبر عليه إلا من رزقه الله الصبر، وهذا درس آخر.
وابتلاه الله بذبح هذا الولد، ابتلاه الله بتركه في صحراء ما فيها أحد وهو رضيع، ولما كبر وبلغ معه السعي وشَبَّ ابتلاه الله بذبح ولده.
وفعلاً: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] استسلما لله: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] وقلبه على وجهه ليذبحه من القفا حتى لا يرى آلام إسماعيل على الوجه وهو يذبح، فربما يتردد، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] وقلبه وبدأ في الذبح، فإذا بالله تعالى يبطل مفعول السكين: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات:104 - 105] وبعد ذلك فداه الله بذبح عظيم، وشُرِعت لنا الأضحية.
بسبب إبراهيم شرعت لنا عبادات: - الحج: من إبراهيم.
- بناء البيت: من إبراهيم.
- السعي بين الصفا والمروة: من هاجر أَمَة إبراهيم.
- زمزم: من إبراهيم، بسبب ما تركه هناك، رزق الله ولده وأمه زمزم، وبركة زمزم.
- الأضحية: صيغة الخليل إبراهيم عليه السلام.(189/18)
السعي في بذل الأسباب
وكذلك في هذا الحديث من الفوائد: السعي في الأسباب؛ لأن هاجر عندما انتهى ما عندها من الزاد قالت: لو ذهبتُ فنظرتُ لعلي أحس من أحدٍ، وذهبَت صعدت الصفا ثم صعدت المروة سبع مرات بينهما تجري وتستنصت، وهي امرأة لا تملك شيئاً، لكنها فعلت كل ما في وسعها، ولم تقل: أبقى في مكاني حتى ينزل الله عليَّ من السماء رزقاً، ولذلك لا بد من الأخذ بالأسباب.
والله تعالى قادر على أن ينزل على مريم الرُّطَب من النخل بدون أن تهز النخل، لكنه قال: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} [مريم:25 - 26] إذاً: أمرها بهز النخلة، مع أنه -بالعقل- النخلة من أقوى الأشجار، لا يمكن للرجال أن يهزوها، كيف تهزها امرأة؟! كيف إذا كانت المرأة في وضعٍ بعد وضع الولد؟! أضعف ما تكون: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم:24] السَّرِي: النهر: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25] كيف تهز بجذع النخلة؟! لتعليم العباد الأخذ بالأسباب، والله قادر على أن ينزل عليها الرطب من غير هز.
وهذه هاجر رحمها الله تتطلب الأسباب، وتذهب وتصعد وتنظر وتستنصت لعل الله سبحانه وتعالى أن يقيِّض لها شيئاً.(189/19)
الفرج بعد الشدة
في هذا الحديث أيضاً: أن الفرج يأتي بعد الشدة، وأنه إذا بلغ الأمر منتهاه في الشدة جاء الفرج، قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5 - 6].
والإنسان إذا وصل إلى حالة يأس جاء الفرج من الله، وجاء الملَك، وليس بعد المرة الأولى أو الثانية، بل بعد المرة السابعة، وتعب، وسعي الإنسان المجهود بين الصفا والمروة، تصعد جبلاً وتنزل جبلاً سبع مرات، وتصعد جبلاً وتنزل جبلاً، وتجري في الوادي جرياً، وجاء بعد ذلك الفرج، وهذه من عادة الله تعالى أن يأتي بالفرج بعد أن {يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].(189/20)
حرص الإنسان قد يمنعه من زيادة الخير
وكذلك في هذا الحديث: أن حرص الإنسان ربما قد يمنعه من مزيد من الخير، (ولو أن أم إسماعيل تَركَتَها لكانت عيناً معيناً لا ينضب يمشي) نهراً جارياً يمشي.(189/21)
من حكمة الرجل كتم القلق عن أهله
كذلك فإن في هذا الحديث: أن راعي الأسرة من حكمته أن يكتم القلق عن أهله، فقد تكون عنده أسباب وبواعث للقلق كبيرة، لكن لا تكون الحكمة أن يخبرهم بها فيزدادوا قلقاً.
فهذا إبراهيم متى دعا؟ لما ترك أهله، وانطلق حتى إذا كان عند الثنية بحيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ودعا، ولو أنها رأته يدعو وهو يظهر الحاجة ربما ازدادت قلقاً؛ لكن أخفى عنهم ذلك، وهذا أيضاً من إخلاصه، ولكن عندما يتماسك أمامها ويظهر لها التجلد، ثم إن إبراهيم عندما مشى لم يرجع إلى الوراء، وإنما انطلق وذهب، حتى إنها ذهبت وراءه، ولم تدركه إلا عند كداء.(189/22)
تقييض الله لصاحب النية الحسنة من يعينه ويؤنسه
وكذلك في هذا الحديث: أن الله سبحانه وتعالى يقيض لصاحب النية الحسنة من يعينه ويؤنسه، ولهذا قيض جرهم قبيلة كاملة لأجل هاجر يؤنسوها وينزلوا عندها، والماء ملكها، تعطيهم وتأخذ منهم مقابله أشياء.(189/23)
حنان الأم وعطفها البالغ
كذلك في الحديث حنان الأم وعطفها البالغ، عندما رأت الولد ينشغ للموت لم تستطع أن تتحمل هذا المنظر، وذهبت تبحث عن حل، ورجعت تطمئن، وما تحملته وذهبت تبحث عن ماء ولكنها ذهبت بمفردها وكانت تعود لتطمئن عليه وهكذا.
وبعض النساء اليوم تترك الولد عند الخدامة ولا تدري عنه شيئاً، أهو صاحٍ؟ أهو نائم؟ أهو جائع؟ أهو شبعان؟ أبه مرض؟ أصحيح هو أو غير صحيح؟ أحي أم ميت؟ لا تدري عنه شيئاً، فأين هذا من هذا؟! ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير نساء ركبن الإبل صالحوا نساء قريش، أحناه على ولدٍ في صغره) من ميزات صالحات نساء قريش: أنهن أحناه على ولدٍ في صغره.
والآن مع وجود الخادمات ووجود السخط في الأسواق والمناسبات والزيارات، بعض النساء -فعلاً- فرطن في الأولاد، فلذلك لا تعرف عن خبر ولدها إلا كما يعلم البعيد عن البيت، وعهدن بالأولاد إلى الخادمات، ولذلك صار من القصور في التربية، وحتى الشفقة والحنان التي هي مدعاة وسبب للاستقرار النفسي عند الولد قليل جداً.
تقول الدراسات الطبية الآن وتثبت: أن لبن المرأة وضم المرأة لولدها إلى صدرها ومناجاتها له وهو صغير رضيع من الأسباب التي تشبع غريزة العطف والحنان، إظهار العطف والحنان من أسباب الثبات والاستقرار النفسي للولد، وترك الولد وتضييعه مما يسبب نشأته من الصغر على حال من فقدان الحنان وفقدان الاستقرار النفسي، فتنشأ الاضطرابات النفسية عند الأطفال منذ سن مبكرة، والسبب هو ترك الولد عند الخادمة والذهاب للأسواق والمناسبات تعطي الولد حليب صناعي؛ لأنها تريد أن تحافظ على شكلها ومنظرها.
والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة:233] أي: لا يجوز للمرأة أن تفطم الولد دون مشاورة الأب مشاورة أهل الخبرة: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا} [البقرة:233] من الأبوين، {وَتَشَاوُرٍ} [البقرة:233] مشاورة أهل الخبرة، ليس على مزاج الأم أن تفطم الولد في أي وقت تريد! لا، {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} [البقرة:233] فطام الولد: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا} [البقرة:233] اثنين: {وَتَشَاوُرٍ} [البقرة:233] بعد ذلك تفطم الولد، وحليب الأم مهم للولد.
ولذلك هاجر رحمها الله عندما جلست عند ولدها كانت تأكل وتشرب وترضع ولدها، قال في الحديث: (فجعلت تشرب من الشَّنَّة ويدر لبنها على صبيها).(189/24)
الأخذ بالقرائن والإشارات وتفقد الأولاد
وفي هذا الحديث: الأخذ بالقرائن والإشارات، وأن جرهم عرفوا أن هناك ماءً نتيجة رؤية الطير الذي يحوم، وهذا فيه العمل بالقرائن والأدلة.
وكذلك في هذا الحديث: تفقد الأولاد، وأن إبراهيم كان يأتي من الشام يسافر عدة مرات يتفقد تَرِكَتَه، وعدم تضييع الأولاد، ويؤخذ هذا بالنسبة للإخوان من العمال الذين يعملون في هذا البلد وتركوا أهاليهم وأولادهم في بلدهم، أن عليهم ألا تأتي فرصة يستطيعون فيها الذهاب إلى زوجاتهم وأولادهم في بلادهم إلا وينتهزوها لتفقد الأولاد والنساء.
لأن المرأة إذا تُرِكت فإن تركها لوحدها سنة أو أكثر بعيدة عن زوجها يسبب أموراً منها: أولاً: أنها تشعر بالخوف، المرأة تشعر بالأمان مع الزوج، وبدون زوج كيف يكون وضعها؟ ثانياً: ربما احتاجت إلى الناس ومدت يدها إليهم، ليس عندها أحد يأتي لها بالأغراض وما تحتاجه.
ثالثاً: ربما يكون فيه مدعاة للفساد، خصوصاً في هذا الزمن، وكم حدثت من كوارث.
ثم: الولد والأولاد إذا كبروا والأب غير موجود، الأب يعمل في السعودية صحيحٌ، لكن الأولاد كيف ينشئون؟! ولذلك بعض الناس عندما يرجع قد يجد ولده صار مدخناً، وبعضهم أصبح يستعمل المخدرات، وبعضهم يعمل المنكرات؛ لأنه لا يوجد أب بجانب الأولاد، صحيحٌ أن المادة مهمة؛ لكن أيضاً بقاء الأب بجانب الأم والأولاد أهم.
فعلى الإنسان ألا تأتيه فرصة إلا وينتهزها للذهاب إلى أهله.
ولا يجوز للإنسان شرعاً أن يترك زوجته أكثر من أربعة أشهر أو ستة أشهر إلا برضاها، إذا قالت: أنا لا أرضى أن تتركني أكثر من أربعة أو ستة أشهر، فعند ذلك لها أن تطلب الطلاق أو يرجع إلى زوجته.
نعم.
هناك صعوبات تكون في بعض الأحيان ليس للإنسان فيها يد، يريد أن يجتمع بزوجته ويأتي بزوجته، لكن يحول بينه وبين ذلك عوائق، لا يكون له يد فيها، فيشكو أمره إلى الله، ويأخذ بأقل المفاسد، إن كان أقل المفاسد أن يعمل بعيداً عنهم يعمل، وإن كان أقل المفاسد أن يذهب إليهم يذهب.
وربما كان العيش على شيء من الضيق وهو مع أهله وأولاده خير من توفير ثمن أرض أو بناء وهو تارك لأهله، يعني: الراعي بعيد عن الرعية.(189/25)
سعي الزوج لإعطاء العائلة والأولاد
كذلك: إسماعيل عليه السلام كان يخرج ليصيد، وهذا يؤخذ منه سعي الزوج لإعطاء العائلة والأولاد والأهل حقهم والقيام عليهم، وبعض الناس كسالى، يقول بعضهم لزوجته: اذهبي واشتغلي أنتِ ليأخذ راتب الزوجة وهو نائم، يوجد أناس كسالى فعلاً، الواحد تقول له: ما هو دخلك؟ يقول لك: راتب زوجتي، ما شاء الله! وأنت أين دخلُك؟! فهناك أناس من كسلهم أنهم يعيشون على مرتبات زوجاتهم، ولو أنه لم يجد وظيفة، أو أنه حاول، لقلنا: هذا معذور، لكن أن يتكاسل ويجلس فلا.
هذا إسماعيل عليه السلام يبري النبل ويذهب ليصيد يخرج يبتعد مسافة ويأتي فيها أبوه ويرجع ولم يره.(189/26)
انتقاء الزوجة الصالحة
كذلك في هذا الحديث: الحث على انتقاء الزوجة الصالحة القنوعة التي تعرف النعمة وتشكر الزوج، ولذلك المرأة الأولى قالت: نحن بِشَرٍّ نحن بضيق نحن في كذا، وتشتكي، فهذه امرأة سيئة الخُلُق، ولم تكرم الغريب، ولم تقدم له خدمة، ولما جاء غريب إليها شَكَتْ زوجها إليه، ما هذه المرأة التي تشكو زوجها إلى الغريب؟! لو شكت زوجها إلى أبيه وهي تعرفه أنه أبوه، لقلنا: إنها تريد حلاً في نطاق الأسرة والعائلة، لكنها تشكو زوجها إلى الغريب، هذه امرأة خير فيها من جهة حق الزوج، ولذلك أمره أن يطلقها.(189/27)
حكم أمر الأب ابنه بطلاق زوجته
هنا نأتي إلى مسألة وهي: ما هو الحكم الشرعي فيما لو أمر الأب أو الأم الابن بطلاق زوجته هل يجب عليه الطلاق أم لا؟ لو أمر الأب أو الأم الولد بطلاق زوجته، هل يجب عليه تنفيذ الأمر أم يكون من عقوق الوالدين إذا رفض؟ الجواب فيه تفصيل: - إن كانت الزوجة سيئة الدين، سيئة الخُلُق؛ وجب عليه أن يطيع أبويه، مثل إسماعيل، لما رأى إبراهيم سوء خُلُق زوجته، قال: غير عتبة بابك.
فإذا كانت الزوجة سيئة الخُلُق تتبرم لا يعجبها شيء، وتشتكي زوجها إلى الأغراب، ولا كرم عندها، ولا عندها شيء، فهذه تُغَيَّر، مثلاً: زوجة لا تصلي زوجة ترى المنكرات زوجة تقول: انظر! إما أنا وإما التلفاز، أي: أعطني تلفازاً أجلس معك، وإذا لم تعطني تلفازاً فسأرمي لك الأولاد وأمشي، فهذه عندها استعداد أنها تضحي به وبأولاده من أجل التلفاز، أين السكينة؟ {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21] أين السكن والسكينة والإيمان؟ مفقود، فربما يكون له من الخير أن يطلقها، كيف يحتفظ بامرأة مثل هذه! هذه ستكون وبالاً عليه وجحيماً في الدنيا.
وإذا كانت سيئة في الدين ربما تكون عليه -أيضاً- جحيماً في الآخرة، لِمَا تَجُرُّ عليه من المعاصي والمصائب.
- أما إذا كانت المرأة حسنة الدين حسنة الخُلُق، جاء الأب قال لولده: طلقها، لماذا؟ قال: لأنها لا تعطيني حذائي، أنا أدخل البيت ولا تأتي لي بحذائي وتمشي ورائي!! والآن أنا أطلق الزوجة، وأخرب البيت، وأشرد الأولاد لأنها لا تأتي لك بالحذاء وتمشي وراءك؟! فبعض الآباء عندهم عقد نفسية وعناد وعصبية وعنجهية، وكأنه لا يبالي أن الولد يخرب بيته وتتفكك أسرته؛ لأن مزاج الأب أنه لا بد على الزوجة أن تمسح نعليه وتحملها، ولذلك لا يطاع الأب في مثل هذه الحالة.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما سئل سؤالاً مشابهاً عن امرأة تأمر ولدها بطلاق زوجته مع أن الزوجة صاحبة دين؟ قال: هذه الأم من جنس هاروت وماروت، لماذا هاروت وماروت؟ {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة:102] وقبلُ ماذا قال؟ {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102] هذا السحر.
ولذلك هذه المرأة التي تقول: أنا غضبانة عليك إذا لم تطلق زوجتك لماذا؟ لسبب تافه.
أو تقول: فقط مزاج، لا تناقشني، طلق! هذه من جنس هاروت وماروت.
ولذلك لما جاء رجل إلى عمر بن الخطاب قال: [إن أبي يأمرني بطلاق امرأتي، فسأله عن امرأته وحال امرأته، ثم قال: لا تطلق، قال: إن إبراهيم لما قال لولده طلِّقْها طلَّقَها، قال: حتى يكون أبوك مثل إبراهيم] عندما يصير أبوك بمستوى إبراهيم في الحكمة، وبُعد النظر، ووزن الأشياء بميزان الشرع بعد ذلك عليك أن تطبق الكلام.
هذا هو الحكم بالنسبة إذا قال لولده: طلق زوجتك، يَعتمد على دين المرأة وخُلُق المرأة.(189/28)
المرء مدني بطبعه
وكذلك في هذا الحديث من الفوائد أيضاً: أن الإنسان مدني بطبعه، وأن الإنسان الوحيد المنعزل إنسان غير عادي (غير طبيعي) ولذلك (ألْفَى أمَّ إسماعيل وهي تحب الأُنس فنزلوا) وبطبيعة الحال وافقت أن ينزلوا عندها.
وفيه كذلك: أن العربية الفصحى كانت من نطق إسماعيل عليه السلام.(189/29)
الكنابة في الطلاق
وكذلك في هذا الحديث: أن بعض العلماء استدلوا على أن الإنسان لو قال: غَيَّرتُ عتبةَ بابي أنه إذا قصد الطلاق أنه يقع طلاقاً، لأن هذا اللفظ من ألفاظ الكناية.
الطلاق له ألفاظ صريحة، لو قال: أنتِ طالق، فهذا طلاق صريح.
ولو قال: أطعمتكِ حنظلاً، هذا كناية، يحتمل الطلاق ويحتمل عدم الطلاق، فالمرجع فيه إلى نية الشخص.
لو قال: أطعمتك خبزاً، لا يحتمل الطلاق.
ولو قال: احتجبي مني، يحتمل الطلاق.
غَيَّرْتُ عتبةَ بابي، بناء على هذا الحديث فهو لفظ يحتمل الطلاق، من الكنايات.(189/30)
طاعة الوالدين في الخير والإتيان بالطيب مكان الخبيث
وكذلك: فيه طاعة الوالدين في الخير، عندما قال: (أمرني أن أفارقكِِ، الحقي بأهلك فطلقها).
وكذلك: أن الإنسان عليه أن يستبدل بدل الخبيث بالطيب، ولا يجلس من غير زواج، لأن بعض الناس يطلق زوجته، وفعلاً يكون فيها شر، ثم يجلس عَزَباً بدون زوجة، وهذا خطأ، فإسماعيل عليه السلام طلقها وتزوج أخرى مباشرة، لا يصبر الإنسان بدون زواج خصوصاً في هذا الزمان، وهذا يفضي إلى الفساد.
وفي عدد من الحالات بعض الناس طلق زوجته فبقى بغير زوجة، ثم لعب الشيطان بعقله، وبعد ذلك مشى في الحرام وصار لا يريد يتزوج، وهذا الإنسان حكمه في الشريعة الرجم؛ لأنه قد تزوج وأُحْصِن ثم زنا.(189/31)
فضل مكة وبر الوالد والاعتناء به والعطف على الولد
وكذلك في هذا الحديث: فضل مكة، وأن من يأكل اللحم والماء فيها لا يصاب بالضرر كما يصاب في غيرها.
وفيه: بر الوالد والاعتناء به والعطف على الولد، كما قال في الحديث: (كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد).(189/32)
التعاون على البر والتقوى
وفي هذا الحديث كذلك: التعاون على البر والتقوى، لأن إسماعلي قد أعان إبراهيم على بناء البيت الحرام.
وكذلك فيه: مساعدة الأب في العمل، فإن إسماعيل كان يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، ولما شق على إبراهيم البناء أتاه إسماعيل بالمقام (الحجر) قام عليه وصار يبني، فما هو مقام إبراهيم؟ الحجر الذي وقف عليه إبراهيم حتى يعتلي ويبني.
كان المقام مُلْصَقاً بالكعبة، والناس يصلون خلف المقام: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] في عهد عمر بن الخطاب اشتد الزحام، وكثُر الحجاج والطائفون، فاستخار عمر اللهَ، واستشار الصحابة أن يؤخر الحجر عن مكانه إلى الخلف، حتى يتمكن الطائفون أن يطوفوا والناس يصلون خلف المقام، وفعلاً هذا ما حصل، وأُخِّر الحجر (مقام إبراهيم) وكان ملتصقاً بالكعبة، حينما كان إبراهيم يقف عليه ويبني، أُخِّر إلى الخلف، وصار بعيداً عن جدار الكعبة: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي).(189/33)
عدم الاغترار بالأعمال الصالحة
وفي الحديث كذلك: أن الإنسان إذا عمل الصالحات عليه أن يبقى على وجل أن الله لا يقبل منه، ولا يغتر بعمله، ولذلك في الحديث قال: (وهو يناوله الحجارة وهُما يقولان: ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) [البقرة:127]).
إذاً: الإنسان إذا عمل أعمالاً صالحة فعليه أن يَسأل الله القبول.
وفي الحديث فوائد كثيرة، ولكن نكتفي بهذا القدر منها.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد.(189/34)
قصص جميلة عن تأثير هذا الدين
القرآن معجزة باقية إلى قيام الساعة، وله تأثير عجيب على قلوب العباد؛ فقد يسمعه الأعجمي فتذرف عيناه دون أن يعرف ما هو سبب ذلك.
وهناك قصص جميلة لمن أثر فيه دين الله جل وعلا، فمن ذلك: قصة رجل أعجمي من بلاد بخارى أتى مشتاقاً إلى بيت الله العتيق، وأول ما رأت عينه ذلك البيت ذرفت عيناه من الفرح.
وقصة أخرى لفتاة أمريكية تسلم بسبب رؤيتها لامرأة مسلمة ترتدي الحجاب.
وقصة أخرى لثبات سعيد الحلبي أمام الظالم إبراهيم باشا، ومن القصص التي تدل على عظمة هذا الدين عودة كثير من الفنانات إلى الله جل وعلا.(190/1)
القرآن المعجزة الدائمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
عباد الله: إن الله سبحانه وتعالى قد أنزل هذا الدين مهيمناً على سائر الأديان، وشرع هذه الشريعة لتكون الناسخة لجميع الشرائع، وجعل معجزة النبي صلى الله عليه وسلم -القرآن الكريم- باقيةً على مر الدهر، بخلاف معجزات الأنبياء السابقين: فإن عصا موسى قد ذهبت، وناقة صالح لا توجد، وغيرهم من الأنبياء قد ذهبت آياتهم ومعجزاتهم.
لم تبقَ إلا معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث بقيت معجزته بعد وفاته؛ لتمتد هذه السنوات الطويلة جداً؛ دليلاً على بقاء هذا الدين، فإن الله قد أنزله ليبقى، وبرغم ما تعرض له المسلمون من الفتن الكثيرة وأنواع العذاب الذي صبّ عليهم صباً، وبرغم ما تعرض له هذا الدين من حملات التشويه، والتحريف، وقصد الإساءة، وتشويه سُمْعَته وسُمْعَة حَمَلَتِه؛ إلا أن الله تعالى أبقاه.
ولو تعرض دينٌ آخر لمثل ما تعرض له ديننا لفني وزال منذ زمن بعيد.
لقد بقي هذا الدين حياً في نفوس أتباعه رغم الاضطهاد، وبقيت آثاره في صمود مَعْلَمٍ من معالم الإسلام، أو ظهور عزةٍ لأحد علماء الإسلام، أو انجذاب كافرٍ لهذا الدين لشَرْعٍ أو شعيرةٍ من شعائر الإسلام، أو تأثُّر غير مسلم بكتاب الله سبحانه وتعالى، أو عودة فاسقٍ من الفسقة بعد أن طالت غربته عن هذا الدين إلى هذا الدين مرة أخرى.
إن هذه الشواهد وغيرها لتدل دلالة واضحة على أن الله قد أنزله ليَبْقَى، وأنه لا أمل للكفار مهما حاولوا إطفاء نوره أو العبث به، لكي يصدُّوا الناس عن سبيله، مهما خططوا وقدَّروا، فقُتِلوا كيف قدَّروا! فإن الله مُبْقٍ دينه، ومُعْلٍ كلمته، ولو كره الكافرون.
وفي هذه الخطبة -أيها الإخوة- نتناول بعض الشواهد من هذا العصر لبقاء الدين وعزة أهله، مشاهد تدلُّك على أنه دين الله حقاً، وعلى أنه الباقي إلى قرب قيام الساعة صدقاً، مشاهد سندور فيها بين أعجميٍ وعربيٍ، ندور فيها بين عالمٍ وجاهلٍ بعيدٍ عن الدين، بين إنسان قد اطَّلع عليه وآخر من العوام ليس في قلبه إلا العاطفة؛ لنرى -يا إخواني- ما نزيد به إيماننا من أثر هذا الدين في النفوس.(190/2)
رجل من الأعاجم امتلأ قلبه شوقاً إلى بيت الله
والمشهد الأول: مع رجلٍ من الأعاجم، من بلاد الإمام البخاري رحمه الله تعالى: جاء إلى مكة بعد عشرات السنين من الستار الحديدي الذي أقامته الشيوعية حائلاً بين أهل تلك الديار والاحتكاك ببقية المسلمين.
يقول أحد المسلمين الذي يعرفون شيئاً من لسان أولئك القوم وهو في مكة، يقول: وأنا أسير في ساحة الحرم متجهاً إلى الكعبة سمعت صوتاً ينادي: يا حاج! يا حاج! فالتفت فإذا بحاجٍّ قد بدت في وجهه آثار الجهد والإرهاق، كانت هيئته وملامح وجهه تدل على أنه من بلاد ما وراء النهر، قال لي بالأوزبكية مع حركات يديه الكثيرة محاولاً إفهامي: كم عليَّ أن أطوف بالبيت؟ فأجبته بالأوزبكية وهي كل ما تبقى لنا من ذكريات بلادنا المنسية: عليك أن تطوف بالبيت سبعة أشواط.
فرأيت السرور داخله بمعرفتي لغته.
ثم ما لبث أن قال باستعجاب: سبعة أشواط؟! وهل تستطيعون ذلك؟! لقد بلغ الجهد مني مبلغه من أول شوطٍ حول البيت.
وأشار إلى مبنى الحرم الخارجي.
ففهمت سبب التعجب، ومدى ما أصابه من الإرهاق، لقد ظن هذا المسكين أن هذا المبنى كله (الحرم) هو الكعبة، فشرع في الطواف حول الحرم دون تردد من الخارج؛ لأنه لم يَرَ البيت العتيق من قبل، فهو منذ أن جاء إلى جدار الحرم الخارجي، شرع بالطواف.
فقطع تفكيري صوتُه قائلاً: أستعين بالله، وأكمل الطواف.
ثم أخذ بالانصراف، فوجدتها فرصةً سانحةً للتعرف على ما يدور داخل بلاد المسلمين، فاستوقفته عارضاً عليه المساعدة، فرحب مسروراً.
ذهبنا سوياً إلى داخل الحرم، وأشرت إلى الكعبة المشرفة، وقلت له: هذا بيت الله، لا الذي طفت حوله من قبل.
فما هي إلا لحظات حتى رأيت الدموع تنهمر من عينيه، وقال: يا ألله! هذا هو بيت الله؟! سمعتُ به كثيراً، ولَمْ أَرَه إلا الآن.
فأسرع الخطى نحو البيت، وأسرعتُ معه قائلاً: هذا من فضل الله عليك أن يسَّر إليك القدوم إلى بيته، وقد حُرِم منه الكثير.
فقال بصوت منتحب: كم سمعتُ أبي رحمه الله وهو يدعو ويتمنى رؤية بيت الله؛ ولكن الشيوعيين لم يُمَكِّنوه من ذلك، فمات وفي قلبه حسرةٌ وألم، لقد ذقنا الكثير مما لا أظن أن أحداً قد لاقاه، دَعْنا نطوف بالبيت أولاً، ثم أفصِّل لك شيئاً مما نلناه.
وبعد طواف رقَّ له قلبي، وذرفَت عيناي مما شاهدت من عجيب انكساره بين يدي الله، وبعد تعارفٍ جرى بيننا قال لي: لم يترك لنا الروس شيئاً يَمُتُّ إلى الإسلام بِصِلَة إلا وحاولوا إبادته، حتى أسماؤنا لم يتركوها لنا، والدي أسماني عبد الحكيم، ولكنني لا أُعْرَف بهذا الاسم إلا في البيت، أما رسمياً فاسمي حكيموف، إن الروس قد فعلوا هذا بالأسماء، وهي أسماء لا تضرهم، ولا تقاومهم، فماذا تظن أنهم قد فعلوا بعلمائنا ومشايخنا الذين يعلموننا القرآن والسنة؟! دعني أقص عليك طريقة بعض علمائنا.
يتبعونهم في تعليم الصبية كتاب الله، ويراقبونهم في كل شيء، ومنعوا من كل وسيلة من وسائل التعليم، حتى كان الشيخ يصعد فوق سقف المنزل من الداخل بسلم، ويصعد الطلاب خلفه، ثم يرفع السلَّم إليه ويخبئه، ويلقي الدرس بصوت خافت؛ لكيلا يعلم أحد بهم.
وقل مثل ذلك في مخازن تحت المنزل، كان الشباب في المصانع إذا أرادوا المذاكرة ومراجعة شيء من العلم، اجتمع كل أربعة، أو خمسة في وقت تناول الطعام، ويتحدث كل واحد بما عنده دون أن يلتفت إليه الباقون؛ لكي لا يُعْلَم بأمرهم.
حتى الصلاة التي هي عماد الدين، كان الواحد منا يذهب ويختبئ بعيداً ويصليها سريعة، ويعود لكي يذهب الآخر، لم نكن نعرف صلاة الجماعة، وما عرفناها منذ زمن بعيد.
كم أشعر بالأسى على مشايخنا وعلمائنا الذين كان لهم الفضل بعد الله في بقاء دينه في بلادنا، لم نستطع أن نقدم لهم أبسط حقوق المسلم، لم نستطع أن نغسِّلهم ونكفِّنهم، وأن نشيع جنائزهم، فماتوا ودُفِنوا حسب مراسم الدفن الشيوعية، وهكذا.
والشاهد -أيها الإخوة- أن دين الله بقي في تلك البلاد بمثل هذه الوسائل التي عاشت تحت الضغط والقهر والإكراه والحصار؛ لكن بقي دين الله، لو أن ديناً آخر في بلاد الشيوعيين حصل له ما حصل لهذا الدين، لكان فَنِي منذ زمنٍ بعيدٍ، أليس في هذا دليل على عظمة هذا الدين؟! أليس في هذا دليل على أن الله قد اختاره ليبقى؟!(190/3)
قصة تبين غيرة العلماء
ومع موقف آخر لأثر من آثار هذا الدين في نفس أحد العلماء في هذا العصر، الذي يتبين لك به -يا أيها المسلم- عزة العالِم وتعففه وجرأته وعدم رضوخه للترهيب، ولا استجابته للترغيب: كان الشيخ سعيد الحلبي من كبار الأساتذة في القرن الماضي، كان يلقي مرة درساً في جامعٍ من جوامع دمشق، فجاء إبراهيم باشا -الحاكم في وقته، وهو من القسوة والعنف والجبروت والاعتداء والقتل والبطش بمكان- ودخل المسجد مع بعض شرطته وعساكره، ووقف أمام الباب، وكان الشيخ يشكو ألماً في رجله، وكان مادَّاً رجله إلى الأمام؛ لأنه كان مستنداً إلى جدار المحراب ويلقي الدرس، ورجله ممدودة للعلة إلى باب المسجد.
فدخل هذا الوالي المعروف بظلمه ومعه العسكريون والشرطة، ووقف بالباب ينظر إلى الشيخ، وانتظر أن يقبض الشيخُ رجلَه احتراماً له؛ لكن الشيخ لم يفعل، فخاف التلاميذ على شيخهم من السيف، وقبضوا ثيابهم لئلا تصاب بدمه؛ ولكن الوالي وقف برهةً ثم انصرف ورجع.
وبعد ذلك استدعى أحداً من خدمه، وأعطاه صُرَّةً من الدنانير الذهبية، وقال له: تقدم إلى سيدنا الشيخ، وقل له: هذه هديةٌ من إبراهيم باشا.
فلما جاء بها الخادم إليه، قال الشيخ كلمته المشهورة التي تغني عن ألف كتاب، قال له: قل لسيدك: إن الذي يمد رجله لا يمد يده.
وهذا مثال من أمثلة علماء الحق وعلماء الشريعة الذين زخرت بهم هذه الأمة، وهو شاهدٌ آخر من الشواهد على أن الله سبحانه وتعالى يقيض لهذا الدين مَن يقوم به، وأن الله سبحانه يَخْلُق رجالاً، يصطنعهم للمواقف، تجري بسِيَرِهم الركبان.
إنه دليلٌ على أن هذا الدين باقٍ، وأن الله سيبعث له من يجدده في كل رأس مائة سنة، فاستبشروا برحمة ربكم يا أيها المسلمون!(190/4)
رجل ألماني يسلم بسبب ضيافة رجل ألباني مسلم
ثم ننتقل إلى مشهد ثالثٍ من رجلٍ عاميٍ من عوام المسلمين، ليس بفقيه، بل ليس بسوي الخِلْقَة، إنه أعمى، لم يُبْصِر، ولم يكلم ذلك الرجل، لكنه كان سبباً في هدايته: وُجِّه السؤال التالي إلى رجلٍ ألمانيٍّ قد اعتنق الإسلام، وهو يحمل شهادات عليا في أحد المجالات، فقال: إن أول معرفتي بالإسلام تعود إلى أيام الشباب، عندما كان في رحلة إلى ألبانيا أثناء عطلة دراسية، وبينما هو يسير في أحد الشوارع الضيقة اصطدم بأحد الرجال، ولَمَّا تبينه واعتذر له، عرف أنه أعمى لا يبصر، ولم يفقه الأعمى شيئاً من اعتذار الرجل؛ لأنه لا يفقه لغته، ومع ذلك فإن هذا الكفيف يمسك بيد الرجل الذي اصطدم به بإصرار ويسير به حتى المنزل، منزله هو، ويقدم له الضيافة وما تيسر من الطعام.
يقول هذا الرجل الألماني: لقد جلستُ في بيت هذا الألباني المسلم معجَباً به! كيف أضافني وهو لا يعرفني؟! وأكرمني بمجرد أنني قد اصطدمت به في الطريق؛ لكن أمراً قد انطبع في حسي؛ إنها تلك الحركات التي كان الرجل يأتي بها في زاوية من منزله بعد أن أضافني، لقد علمت فيما بعد أنها صلاة المسلمين.
ومنذ أن رأيت ذلك الرجل الذي أكرمني واحترمته، سألت عن هذا الذي يفعله، فعلمت أنها الصلاة، وأنها من دين الإسلام، فكان ذلك سبباً في إسلامي.
يبقى هذا الدين في نفوس الخيرين وبعض العامة محركاً لهم.
تبقى الأخلاق الإسلامية في نفوس بعض الطيبين -ولو كانوا من العامة- دليلاً على بقاء هذا الدين في الواقع، وأن الله قد اصطفاه ليبقى.(190/5)
الحجاب سبب في هداية فتاة أمريكية
ولننتقل الآن إلى شعيرة من الشعائر الإسلامية التي فرَّط فيها كثير من المسلمات، والتي أعرض عن التنبيه عليها كثيرٌ من أولياء الأمور والآباء والإخوان، ألا وهي: الحجاب: لنعرف -أيها الإخوة- كيف يكون الحجاب -وهو أمر من الشريعة- سبباً في إدخال امرأة كافرة في دين الله! هي فتاة أمريكية، يميزها حجابها الشرعي الذي ترتديه، وحرصها على حضور الحلقات التي يتم عقدها في مسجد المدينة الأمريكية التي تقطنها، وتستعير كتباً باستمرار من مكتبة المسجد، فهي حريصةٌ على ذلك.
كيف أسلمت؟! لقد أسلمت تلك الفتاة وكانت تعمل على صندوق قبض الثمن في إحدى المحلات.
وتقول: في بلدتنا توجد جامعة، وفيها بعض الطلاب المسلمين المتزوجين الذين جاءوا بزوجاتهم معهم إعفافاً لأنفسهم، وفي فصل الصيف كنت في زاوية المحاسبة في المحل، حيث الكل هنا يرتدي الملابس القصيرة والعارية والخفيفة جداً.
إن الذي أدهشني وأصابني بالذهول أنني رأيت بعض المتسوقات يرتدين حجاباً كاملاً يغطي جميع الجسد بما فيه الوجه، ولم تكن تبدو سوى أعينهن أحياناً، فاستغربت هذا المنظر، فاستوقفت إحداهن حينما كانت تحاسب لديَّ على أغراضها، وسألتها عن السر الكامن في هذا اللباس، فأخبرتني أن دينها الإسلامي يفرض عليها ذلك صيانةً لها وحفاظاً عليها، واسترسَلَت بالشرح عن منافع الحجاب وأهميته وفائدته للمرأة حتى اشتد شوقي وانبعثت من فطرتي تلك الحاجة التي تتكلم عنها هذه المرأة، بالرغم من صعوبته وعدم تخيل لباسه في مجتمعنا.
فرجعتُ إلى البيت، وأخذت قطعة قماش، ووضعتها على رأسي، ولبستُ ملابس ذات أكمام طويلة، فأعجبني شكلها، وخرجت بها في اليوم التالي إلى مركز إسلامي قريب، أبحث عن هذا الدين، أبحث عن كتب تتكلم عنه وعن أناسٍ يشرحونه لي فعمل لي بعض المسلمات مناسبة دعونني فيها إلى الإسلام، فأسلَمْتُ، فأهدتني إحداهن هدية، وكانت الهدية حجاباً، وكنت أستصعب لبسه في المكان الذي أنا فيه؛ ولكنني حاولت لبسه، وكنت خائفةً جداً من الحجاب، شأني في ذلك شأن كثيرٍ من الأمريكيات اللاتي ينظرن إلى الحجاب على أنه سجنٌ للحرية، ولكن بعد أن اعتدت عليه زال كل شيء.
وكان الامتحان في اليوم الأول الذي ذهبتُ فيه لمقابلة المجتمع باللباس الجديد.
أما أبي: فإنه لم يبالِ؛ لأنه شعر أن الأمر ليس بيده.
وأما أمي: فهي إنسانة اعتادت على احترام آراء الآخرين وتَقَبُّلِها؛ لهذا لم تُعر أمر إسلامي شيئاً؛ لكنها كانت خائفةً عليَّ من الحجاب، وحينما رأت إصراري راعت شعوري، بل إنها أصبحت تشتري لي الحجاب وتهديني إياه.
وأذكر أن ابن خالي جاء لزيارتنا ذات يوم، فأمرته والدتي أن ينتظر حينما تعطيني خبر قدومه حتى أضع الحجاب.
وذات مرة زارنا عمي، فأسرعت لتناولني الحجاب حتى أضعه قبل أن يدخل، فضحكتُ، وشرحتُ له الأمر.
الشاهد -أيها الإخوة- أن هذه الشعيرة من شعائر الإسلام وهي الحجاب كانت سبباً في إسلام تلك المرأة وغيرها من النساء.
على أي شيء يدل هذا؟! وما هو المغزى؟! هل رأيتم شيئاً في النصرانية المحرَّفة يدعو شخصاً للدخول فيها؟! هل رأيتم شيئاً في اليهودية المحرَّفة يدعو شخصاً للدخول فيها؟! هل رأيتم شيئاً في البوذية، أو الهندوسية يدعو شخصاً للدخول فيها؟! إلا الإسلام، فإن شعائر الإسلام تدعو الناس للدخول فيه، ولو كانت الدعوة صامتة، ولو كان حجاباً يُرتَدَى بين الكفار، ولذلك ننعي على أولئك المسلمين الذين يذهبون إلى الخارج، ثم يطالِبون زوجاتهم بكشف الوجه والشعر وغيره من أجل ألا يُنْظَر إليهم نظرة السخرية والاستهزاء، ما عندهم الشجاعة الكافية أن يظهروا بمظاهر دينهم، وأولئك الكفرة قد يُعْجَبون به، بل يدخلون في الدين بناءً عليه.(190/6)
القرآن وأثره العجيب في قلوب الأعاجم
وهذه قصة تدلُّك كيف أن هذا الكتاب العزيز الذي أنزله الله وهو القرآن الكريم، كيف أن له تأثيراً عجيباً حتى على الكفار: أثر القرآن في النفوس غريب! وفعله في القلوب عجيب! والأعجب والأغرب -وإن كان لا عجب ولا غرابة؛ فالقرآن كلام الله- أن يثير القرآن مشاعر امرأة أعجمية! ويجعل عينيها تفيضان بالدمع، وهي لا تعرف من العربية شيئاً!! يحكي الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى تلك الحكاية التي عاشها على ظهر سفينة تتجه به إلى أمريكا.
يقول رحمه الله: كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية، تَمْخُرُ بنا عُباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك، من بين عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم، وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة، وقد سمح ووافق قائد السفينة الكافر على إقامة الصلاة، وسمح لبحَّارة السفينة وطهاتها وخدمها أن يصلوا معنا -ممن لا يكون منهم في وقت العمل- وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً؛ لأنها كانت المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر هذه السفينة.
وقمت -يقول رحمه الله- بخطبة الجمعة، وإقامة الصلاة، والركاب الأجانب معظمهم متحلقون يرقبون صلاتنا.
وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح القُدَّاس، فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا (قُدَّاس)، فشرحنا لهم الحال، وأنه لا يُسَمَّى قُدَّاساً، وإنما هي صلاة الجمعة؛ ولكن امرأة من بين ذلك الحشد عَرَفْنا فيما بعد أنها أوروبية، كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع، ولا تتمالك مشاعرها، جاءت لتسألنا عن شيء معين، وهي تبدي إعجابها بما فعلنا من نظام وخشوع.
وليس هذا موضع الشاهد.
جاءت لتسأل عن شيء معين وهي تقول: أي لغةٍ هذه التي كان يتحدث بها قِسِّيْسُكم؟ وهي لا تتصور أن يقيم مثل هذا إلا قِسِّيْس، فصحَّحنا لها هذا الفهم وأجبناها.
قالت: إن اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع عجيب، وإن كنت لم أفهم منها شيئاً! ثم كان المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول: ولكن ليس هذا هو الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه! إن الموضوع الذي لفت انتباهي وأثر في حسي، وانطبع في قلبي هو: أن الإمام -بعد أن تصَحَّحَت الكلمة، وصُحِّحَت- كانت ترد في أثناء كلامه فقرات من نوعٍ آخرٍ، يختلف عن بقية كلامه، نوعٌ أكثر عمقاً، وأشد إيقاعاً في النفس، إن هذه الفقرات التي كان يقولها أثناء الخطبة أحدثت في نفسي قشعريرة ورعشة، إنها شيء آخر.
وتَفَكَّرنا قليلاً، ثم أدركنا ماذا تعني، إنها تعني الآيات القرآنية التي وَرَدَت في أثناء خطبة الجمعة وأثناء الصلاة، وكانت مع ذلك مفاجأة لنا تدعو إلى الدهشة من امرأة أعجمية لا تفهم شيئاً من اللسان العربي.
{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13 - 14].
{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:77 - 80].
هذا القرآن سببٌ عظيمٌ جداً لإدخال كثير من الكفرة في الإسلام، وحتى الآن يُقَدَّم لهم القرآن المترجم، فيكون سبباً في دخولهم في الدين.
أليس هذا دليلاً -أيها الإخوة- على أن هذا الدين باقٍ، وعلى أنه يملك في طياته مقومات بقائه وجذب الناس إليه.
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، واجعلنا من الدعاة إلى سبيلك القويم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(190/7)
توبة الفنانات دليل على عظم هذا الدين
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، خلق فسوى، وقدر فهدى، هو الأحد الصمد، الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.
وأشهد أن محمداً رسول الله حقاً، والمبلغ عن الله صدقاً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه إلى يوم الدين.
عباد الله: أن يخرج الناس متأثرين من خطبة، أن تكون الهداية منبعها من المسجد؛ شيءٌ مُتَصَوَّرٌ، وأن يخرج شخصٌ متأثراً من مدرسةٍ لموعظة أستاذ؛ شيءٌ قريبٌ إلى الذهن، أن يكون الإنسان في محاضرة أو درس، فيتأثر؛ شيءٌ مقبولٌ في الأذهان.
لكن أن يخرج أناسٌ يهديهم الله من أحط أوساط الرذيلة والفساد، فهذا هو الشيء المدهش؛ أن تكون الهداية في وسط أناسٍ قد تمرغوا في أوحال الرذيلة والفواحش والشهوات والمجون دهراً طويلاً، ثم يتجهون بعد ذلك إلى هذا الدين، هذا أمرٌ محيرٌ فعلاً لمن لا يعرف السر في هذا الدين!.
إنني أشير بهذه الكلمات إلى تلك الطائفة من الفنانات المعتزلات اللاتي قد اشتغلن ردحاً من الزمن بعرض أجسادهن ومفاتنهن في الأفلام والصور والرقصات والأغاني، أن توجد الهداية في الوسط الفني العفِن هذا أمرٌ فعلاً عجيب! إنها توبة الفنانات التي نسمع عنها في هذه الأيام، وفي كل فترة، حيث تَنْظَمُّ إلى تلك القافلة الكريمة من التائبات امرأة أخرى من النساء اللاتي كنُّ قد عملن في تلك الرذائل دهراً من حياتهن.
إن توبة هؤلاء الفنانات فعلاً أمرٌ مدهشٌ ومحيرٌ؛ لأن هؤلاء خرجن من مستنقع الرذيلة، فإن المعروف أن أحط وسط من أوساط المجتمع هو الوسط الفني، بما يَمْخُر به من عُباب الرذيلة، وألوان الفساد وأمواجه.
إن هذه الظاهرة التي اضطر العلمانيون والكتاب الفسقة والمجلات المنحرفة للكتابة عنها، وظهرت في بعض أغلفة المجلات المنحرفة بدلاً من صورة فتاة الغلاف الماجنة صورة فنانة متحجبة، لقد اضطروا إلى الاعتراف بالقضية؛ لأن المسألة لا يمكن تغطيتها، فإن هؤلاء المهتديات مشهورات، وليست القضية واحدة أو اثنتين، فإن المسألة عدد؛ حتى أُحْرِج المخرجون، واضطُروا للاستعانة بالممثلات من الدرجة الثانية، أو من ممثلات الكومبارس لإخراج وجوهٍ جديدة، تملأ الفراغات التي خلفتها توبة أولئك الفنانات، وشُنَّت الحرب بطبيعة الحال، وهذا متوقع؛ لأنه مكتوبٌ، لأنه منزلٌ في القرآن: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا إِنَّ ذَلِك مِنْ عَزْمِ الأمُور} [آل عمران:186].
قيل: إنه قد دُفِعَت لهن الأموال، وكُتِبَ في أحد المجلات عبارة: مَن الذي دفع لـ فاتن حمامة سبعة ملايين جنية حتى تتحجب؛ لكنها رفضت؟! كذب وافتراء.
ولذلك قالت بعضهن: إنه يُدْفَع لنا الآن المبالغ الطائلة؛ لكي تتحجب الواحدة.
أشاعوا الإشاعات، وقالوا: إن فلانة أصيبت بالمرض، وهذه فَقَدت الجمال؛ لكن مردودٌ عليهم بهذا التوالي والتتابع لبعضهن، وهن في قمة الشهرة والجمال وفي سن الشباب.
إنها دليلٌ فعلاً -الهداية الموجودة في الوسط الفني العفِن- على عَظَمَة هذا الدين.
إن هذه القافلة من الأسماء المشهورة: شمس البارودي، وشادية، وهالة فؤاد، وكامليليا العربي، وهناء ثروت، وشهيرة، وفريدة سيف النصر، ونسرين، وسوسن بدر، وسهير البابلي، وغيرهن من المعروفات جيداً لكثير من العوائل الإسلامية مع الأسف، من الناس الذين يأتون إلى صلاة الجمعة، وهم يشاهدون تلك المسلسلات الهابطة التي صار من الحرب على هؤلاء الفنانات إعادة عرضها، وتكثيف عرضها في صالات العرض، محاولة للضغط والحرب، هذه الأسماء وغيرها مَن ثبت منهن على الهداية، إنها صفعةٌ قويةٌ موجهةٌ لتجار الغرائز، وإنه إعلانٌ فعلاً أن هذا الدين باقٍ، وأن الله يهدي من يشاء، ولو كان الناس يستبعدون هدايتهم.
إنه فعلاً سرٌ عجيبٌ في هذا الدين أن يهدي به الله مَن شاء، بهذا القرآن، بهذا التوحيد، بهذا النور، مَن شاء من عباده.
إنه -فعلاًَ- عجبٌ! إنه عجبٌ أيها الإخوة! والآن: هل لنا في عودة صادقة إلى هذا الدين؟! هل لنا أن نتمثل هذه المواقف، أو هذه المبادئ الموجودة في هذا الدين؟! هل لنا أن نكون دعاةً إليه؟!: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك من الدنيا وما عليها).
هل لنا على الأقل أن ندعو بالثبات لأولئك الذين اهتدوا: أن يزيدهم الله هدىً وثباتاً؟ وأن نستحي من الله أن ننظر إلى تلك الأفلام وقد تاب مَن يمثِّل فيها؟ اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت.
اللهم اشف مريضنا، وارحم ميتنا، وأهلك عدونا، وانصر ديننا، واجمع كلمتنا، ورد غائبنا، واهدِ ضالنا إلى الحق يا رب العالمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.(190/8)
كيف تروض نفسك؟
النفس تحتاج إلى ترويض حتى يفلح صاحبها وينجح، وهي كالمرأة -كما قال ابن القيم رحمه الله- في المداراة والسياسية، فهي تدارى عند نشوزها بالوعظ، فإذا لم تصلح فبالهجر، فإن لم تصلح فبالضرب، وليس في سياط التأديب أنفع من العزم والمجاهدة والمنع، فالإنسان لديه وسائل يستطيع من خلالها أن يروض نفسه.(191/1)
الحديث عن موضوع ترويض النفس
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تحية عطرة تلك التحية التي حيّا بها أبونا آدم عليه السلام، وهي تحية أهل الجنة فيما بينهم، وهي التحية التي هي من أسباب المحبة فيما بيننا، فإذا أراد عباد الله أن يتحابوا فيما بينهم فليفشوا السلام.
أيها الإخوة! نفوسنا ملك لله تعالى خلقها وسواها {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7 - 10] نفسك التي بين جنبيك خلقها الله عز وجل، وهداها ودلها، وأرشدها إلى الخير والشر {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] هذه النفس إذا زكيتها بطاعة الله أفلحت ونجحت، وإذا دسيتها بمعصية الله خابت وخسرت.
هذه النفس يمكن أن تكون أعدى الأعداء {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53] ويمكن أن تكون نفساً عزيزة كريمة مطمئنة {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
وإذا كانت تلومك على ما فعلت من الشر فهي نفس طيبة لوامة أقسم الله بها {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:2] هذه النفس تحتاج إلى ترويض لكي تزكو فتفلح أنت يا صاحبها وتنجح.
قال ابن الجوزي: " والنفس كالمرأة العاصية في المداراة والسياسة، فهي تدارى عند نشوزها بالوعظ، فإذا لم تصلح فبالهجر، فإن لم تصلح فبالضرب، وليس في سياط التأديب أنفع من العزم والمجاهدة والمنع ".(191/2)
الوسائل التي تروض النفس
الوسائل التي تروض النفس فتجعلها من الناجين المفلحين كالآتي:(191/3)
الوعظ
فالوعظ أول هذه الوسائل، أن نعظ أنفسنا ونذكرها بالله عز وجل، فنحن محتاجون إلى الوعظ جداً، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعظ أصحابه كما في الحديث: (وعظنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موعظة بليغة، وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا) وكل واحد من المؤمنين يعظ نفسه ويحاسبها، فنحن نحتاج إلى كتب وعظ نقرأها لنعظ أنفسنا، وأن نذهب إلى من نسمع منه كلاماً يرقق قلوبنا، والموعظة الطيبة قصيرة خفيفة مؤثرة بعيدة عن التعقيب، والواعظ إذا فرغ يقوم، كما أن موسى نبي الله ذكر الناس يوماً حتى إذا رقت القلوب، وفاضت العيون ولى؛ حتى تبقى الموعظة في النفوس.
هنا مسألة: لماذا إذا سمعنا الموعظة تأثرنا، فإذا غاب الواعظ وانقطعت الموعظة، أو خرجنا من خطبة الجمعة زال التأثر؟ أكثر العامة إذا وعظوا تأثروا وتراهم يبكون في رمضان في دعاء القنوت إذا كان مؤثراً، فالمواعظ عندهم كالسياط، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها كما تؤلم وقت وقوعها، والموعوظ لا يحضر مجلس الوعظ في الغالب وهو جائع أو به حاجة، ولذلك يكون مقبلاً مستجمعاً نفسه، وإذا أتى المسجد يكون قد تخلى بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا، فإذا غادر وعاد إلى الشواغل عادت إليه الغفلة، فكيف يبقى على ما يكون؟ فإذا استمعنا الموعظة ينبغي أن يكون عندنا عزم بلا تردد ولا التفات، ولو أحسسنا نقصاً عادياً كما شعر حنظلة فلسنا بملومين، لكن أن نغادر فنعصي أو نترك الواجبات هذه هي المصيبة.
وبعض الناس لا يتأثرون مطلقاً لا في حال الموعظة ولا بعدها، وبعضهم يتأثرون وقت الموعظة وينسى بعدها، وبعض الناس يريد الله بهم خيراً فيتأثرون وقت الموعظة ويستمر هذا التأثر بعد الموعظة.
كيف تعظ نفسك؟ إذا أرادت نفسك أن تنشغل بالدنيا ذكرها بقول الله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178].
إذا هوت نفسك متاعاً زائلاً عظها بقول الله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35].
وقل لها: ألم يدخل عمر رضي الله عنه إلى رسول الله وهو يتقلب على رمال الحصير قد أثر في جنبه، وبكى عمر وقال: (كسرى وقيصر في الديباج والحرير وأنت يا رسول الله في هذا! فقال: ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا).
وذكرها بقول الله، وعظها بسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لو انشغلت نفسك في الدنيا فقل لها: ألم يقل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).
وتقول: لقد ثبت الأجر من الله للمؤمن، وزمن التكليف قصير فاصبري، ولا ينبغي للعامل في الطين أن يلبس نظيف الثياب، لو أنك تعمل بالطين -تعمل في البناء- هل تلبس الثياب النظيفة؟ فأنت الآن في الدنيا وفي العمل فلا تنشغل بالدنيا - وليس المقصود أنك لا تلبس الملابس النظيفة - بل ينبغي على العبد أن يصابر ساعات العمل، فإذا فرغ من العمل تنظف ولبس أجود ثيابه، ومن ترفه وقت العمل ندم وقت توزيع الأجرة، وعوقب على التواني.
وتعظ نفسك فتقول:
وكيف تنام العين وهي قريرة ولم تدر في أي المحلين تنزل
في الجنة أم في النار؛ ينبغي لمن رأى نفسه تنجر إلى الرذائل أن يعظها ويذكرها؛ تذكرها إذا دنت إلى الرذائل ومالت إليها بكرامتها عند الله، وكيف أن الله عز وجل خلق آدم بيده، وأسجد له الملائكة وارتضاه للخلافة في الأرض، وراسله بالكتب والرسل، فإذاً تقول: يا نفس! هذا الرب كرمك: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] وهذه البهائم تمشي على أربع ورأسها إلى أسفل وأنتِ تمشين على رجلين ورأسك إلى الأعلى؛ كرمك خلقةً، وكرمك بإنزال الكتب وإرسال الرسل من أجلك، واقترض منك: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] واشترى منك: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111].
فإذا رأيت نفسك تتكبر فروضها بموعظتها وبتذكيرها وبحقارة أصلها، وأنها خلقت من ماء مهين، وتقول لها: هل أنت إلا قطرة من ماء مهين تقتلك شرقة، وتؤلمك بقة (بعوضة) وإذا رأيت تقصيراً من نفسك فعرفها بحق سيدها ومولاها وربها سبحانه وتعالى.
وإن توانت عن العمل في الصلاة وفي غيرها فذكرها بحق سيدها وبقصر الأجل، وجزالة الثواب.
وإن مالت إلى الهوى فخوفها الإثم وعاجل العقوبة كقول الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام:46] هذه العقوبات المعنوية، والعقوبات الحسية: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146] هذه العقوبة أن الله لا يمكن بعض الناس من أن يتدبروا في آياته: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146].
ولو أن نفسك تاقت لما عليه بعض أهل الدنيا والمعصية من الزخارف والبهجة والنعيم فذكرها بأنه يزول {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] ماذا قال الذين أوتوا العلم؟ انظروا -أيها الإخوة- ماذا يفعل العلم: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [القصص:80] ولكن لا يلقاها إلا الصابرون.
ذكرها أن بسط يد العاصي هو قبض في الحقيقة؛ لأن هذا البسط يوجب له عقاباً، وذكرها أن قبض يد الطائع -لو رأيت مسكيناً عابداً زاهداً متمسكاً بدينه لكنه ضعيف مستضعف مسكين- فذكرها أن قبض يد الطائع يوجب بسطاً في الحقيقة؛ لأن هذا القبض يوجب أجراً جزيلاً.
فإذا دعتك نفسك لارتكاب المحرمات والمعاصي، وانجذبت إليها ففسر لها لماذا تنجذب إلى الممنوعات؟ ولماذا كل ممنوع مرغوب؟ إذا عرفنا السر سهل علينا الصمود، إذا عرفنا الحقيقة هانت المسألة، فالنفس تحب الممنوع، وتهفو إليه، ويزيد حرصها كلما زاد المنع، وتستلذ بالحرام ولا تستطيب المباح؛ لأنه يشق عليها أن تمنع ويحظر عليها، وتأمل حال أبينا آدم وأمنا عليهما السلام لما نهيا عن الشجرة حرصا عليها مع كثرة أشجار الجنة -سبحان الله! - كل هذه الجنة بأشجارها أصبحت متروكة واتجهت الهمة إلى هذه الشجرة بالذات، ولماذا أكلا من هذه الشجرة بالذات؟ لأنها ممنوعة فانجذبت النفس إليها، ولولا المنع ما أكلا منها، ولا سألا عنها، ولا انجذبا إليها، ولا حرصا على الأكل منها؛ لكن لأجل المنع.
ولهذا فإن الله عز وجل يبتلي الناس بالممنوعات وبالمحرمات لينظر كيف تعملون؟ هل تمتنعون أو ترتكبون؟ هل ستتركون وتجتنبون أم ستلجون وترتكسون في أوحال هذه المعاصي؟ فماذا قال الشيطان لهما؟ {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20] مؤكد أن فيها سراً، الشجرة فيها سر.
{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20].
ولذلك قيل: لو أمر الناس بالجوع لصبروا، ولو نهوا عن تفتيت البعر لرغبوا فيه، وقالوا: ما نهينا عنه إلا لشيء، هناك سر فيرغبون في تفتيت البعر، مع أن البعر ما قيمته؟! وقد قيل: أحب شيء إلى الإنسان ما منع منه، فالمؤمن صاحب البصيرة إذا منع من شيء فإنه يعلم أن في منعه حكمة، مثل المنع من الزنا والمنع من النظر إلى المرأة الأجنبية؛ لأن النظر سيعقبه عذاب في الدنيا والآخرة؛ عذاب في الدنيا كأن تتعلق النفس بهذا الشخص أو بهذه المرأة وتنجذب إليها، فإن وصل إليها بالحرام كانت العقوبة بالحرام، وإن لم يستطع الوصول إليها؛ لأنها ذات زوج أو غير ذلك صار له عذاب بالعشق، ولذلك لا يوجد محرم حرمته الشريعة إلا وفيه ضرر علينا، فالله من رحمته بنا لم يحرم علينا أشياء مفيدة لنا وليس فيها ضرر، أي شيء: خمر، خنزير، ربا، ميتة، زنا، سرقة، رشوة، غصب، كذب، فأي شيء محرم علينا فيه ضرر علينا، وإذا فسرت هذا لنفسك هانت المحرمات والممنوعات، وعرفت كيف تتعامل معها، وذكر نفسك أن الجنة حفت بالمكاره وأن النار حفت بالشهوات.
فالنفس تشتهي ما يؤدي إلى النار، وتكره القيود والتكاليف، ولكن من لاح له فجر الأجر هانت عليه مشقة التكليف، وهان عليه الليل؛ لأن الفجر قريب، فذكر نفسك بذلك يا عبد الله إذا دعتك إلى فعل ممنوع.(191/4)
تسلية النفس بآيات الوعد
ومن الوسائل: تسلية النفس بآيات الوعد (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح).
يقول ابن الجوزي رحمه الله: مر بي حمالان تحت جذع ثقيل وهما يتجاذبان بإنشاد الشعر، فأحدهما يصغي إلى ما يقوله الآخر ثم يعيده أو يجيبه بمثله والآخر مثل ذلك، فرأيت أنهما لو لم يفعلا هذا زادت مشقة الطريق وثقل الأمر، وكلما فعلا هذا هان الأمر، فتأملت السبب في ذلك فإذا به تعليق فكر كل واحد منهما بما يقوله الآخر، وانشغال فكره في الجواب على صاحبه فينقطع الطريق وينسى ثقل المحمول نحن كلفنا بأمور صعبة فيها مشقة مثل صلاة الفجر وإسباغ الوضوء، وإخراج المال -الزكاة والصدقة- والصيام فيه مشقة، وكذلك الحج، والصدق، والتعفف عن الحرام، وغض البصر، وعدم سماع الغناء؛ فالنفس تحب الألحان والطرب، ولتقطع الحياة -وهي الزمن والوقت- بتحمل المشاق لا بد أن يكون لك حادٍ، فإن الإبل في طريق السفر إذا كلت وملت ماذا يفعل سائق البعير -الراحلة-؟ ينشد لها، والعرب تسمي هذا النشيد حُداءً، والحادي يحدو بالإبل، فإذا حدا بها نشطت وأسرعت وذهب عنها الكلل والملل، نحن الآن نسير إلى الله، والعمر يمضي وفيه مشاق وتكاليف، وفيه صعوبات، وخاصة في هذا الزمان زمان الفتن، فتن الصور والمجلات وفتن التلفزيون، وفتن الملابس وفتن السوق وغيرها من الفتن الكثيرة.
وأنت تمشي في هذا الطريق عليك صلوات، وعليك صيام، وعليك التزام بالأخلاق الإسلامية والصدق والأمانة إلى آخره، والنفس تدعو إلى الروغان والمحرمات والوقوع في الممنوعات والكذب والخيانة، وأخذ المال من أي طريق، وإطلاق البصر، وإطلاق العنان للأذن تسمع ما تشاء.
لكي يمضي العمر وأنت تتحمل مشاق التكليف ماذا ينبغي عليك أن تفعل لتسوس نفسك وتروضها على قطع الطريق؟ تحدو بنفسك في مسيرها بآيات الله وذكره، وأحاديث رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليست مثل ألحان الإبل، فالإبل لا تعقل ولا تفهم الكلام لكن تأنس بالصوت وتسرع لأجل الصوت، رغم أنها لا تفقه الكلمات.
الله ضرب مثلاً للذين يسمعون ولا يفهمون: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171] لا يفهم الكلام، لكنه يسمع صوتاً بدون فهم كلام، مثل الدابة ومثل الشاة عندما يدعوها الراعي تستجيب لكن بدون فهم للكلام، فنحن نحدو بأنفسنا في سيرها إلى الله بآيات وأحاديث ترفع الهمة وتنشط العزيمة، وتكبت الحرام، وتثبط الرغبة إليه، وهكذا نندفع في الطاعات ونحجم عن المعاصي، ونحن نسير إلى الله تعالى.
فتسلية النفس بآيات الوعد لتكون هذه الآيات والأحاديث في بيان الأجر والثواب مثل: الحادي (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح).(191/5)
فطم النفس عن المألوفات
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
ومن وسائل ترويض النفس فطمها عن المألوفات، مهم أن يكون لدينا انقطاع عن المألوفات أحياناً، ونحن لا نحتاج أن نتكلف ذلك؛ لأن عندنا من العبادات ما يفطم نفوسنا عن مألوفاتها.
من أمثلتها: عبادة تعود النفس على ترك المألوفات: الصيام، وقيام الليل، والحج، إذاً: عندنا في الدين عبادات تساعد النفس على ترك المألوفات فتنفطم النفس وتتقي، وهذا يساعد على ترك الحرام؛ لأنك إذا تركت الحلال المتعود عليه كالنوم والطعام لله وهو حلال، فأحرى أن تترك الحرام.(191/6)
إدراك إقبال النفس وإدبارها
كذلك من وسائل ترويض النفس العظيمة إدراك إقبالها وإدبارها فتلتمس إقبالها للزيادة من الطاعات، وإدبارها لإلزامها بالواجبات والامتناع عن المحرمات.
قال عمر رضي الله عنه: [إن لهذه القلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإذا أدبرت فألزموها بالفرائض] أقل شيء إذا انحدرت وانحدرت ألا تصل إلى مستوى تترك فيه واجباً أو تفعل فيه محرماً.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن لكل عمل شرة) نهاية عظمى علوية، وكل شرة وكل نهاية علوية وصعود لابد أن يقابله هبوط: (ولكل شرة فترة) النفس لا تستطيع أن تستمر على حالة واحدة: (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) من كان في حال فتوره لا يترك واجباً ولا يعمل محرماً فقد اهتدى.
ولذلك كان من سياسة النفس: عدم إملالها، فقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلغه أن عبد الله بن عمرو بن العاص يقوم الليل ويصوم النهار، فأراد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبين له اتباع السنة، والتوسط في الأمور، فقال له: (ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ قلت: إني أفعل ذلك، قال: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك، ونفهت نفسك، وإن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك حقاً، فصم وأفطر، وقم ونم) رواه البخاري.
معنى هجمت عينك أي: غارت وضعفت لكثرة السهر.
ونفهت نفسك: كلَّت، وملَّت، وتعبت.
إن لنفسك عليك حقاً: تعطيها ما تحتاج إليه ضرورة البشرية مما أباح الله من الأكل والشراب والراحة، الذي يقوم به بدنه ليكون أعون على عبادة ربه - هذا كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث.(191/7)
منع النفس عن الصغائر
وكذلك فإن من سياسة النفس لجمها عن الذنوب الصغيرة واحتقار الذنوب، إياكم ومحقرات الذنوب، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ، فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه) حديث صحيح.
بعض الناس يتساهلون بنظرة محرمة، وكلمة غيبة في عرض مسلم، ودرهم من شبهة أو حرام، يذهب إلى وليمة لم يدع إليها، لا يرد كتاباً استعاره يقول: هذه أشياء بسيطة.
فقد ضرب لنا مثلاً بالأعواد التي تجمع فتحرق.
وهكذا الذنوب الصغيرة تجتمع فتحرق صاحبها، وقد تحرق الشرارة بلداً.
ومعظم النار من مستصغر الشرر
ويتبع هذا في وسائل ترويض النفس لجمها عن التساهل وعدم التحرج من المعاصي، مثلما يفعل بعض الناس الآن من التوسع في قضية الضرورة، فيجعلون أموالهم في بنوك ربا وهم يقدرون على استعمالها بغير ذلك.
المرأة تتوسع في الكشف عند الطبيب، والطبيب يتوسع في الكشف على المريضة، والناس يتوسعون في التصوير، كذلك ما يحدث من التوسع في الخادمات، وليست متحجبة كما ينبغي، والسائقين، والتساهل في لباس البنات الصغيرات.
والتساهل له صور كثيرة ولذلك سنخصه إن شاء الله بمحاضرة.
لكن من وسائل ترويض النفس لجمها عن التساهل؛ لأن هذا انزلاق وتحته واد سحيق، وإذا انزلق في البداية فالجاذبية لن تساعده على التوقف، وإنما ستجذبه إلى الهاوية ولا شك.(191/8)
إصلاح الخواطر
أيها الإخوة! إن من الوسائل العظيمة في ترويض النفس وجعلت هذا الجزء الأخير من الكلام وخصصته بتركيز معين، لأهميته وهو إصلاح الخواطر.
فإن هذا الكلام فيه شيء من العمق يحتاج إلى تأمل خطورة الخواطر.
أولاً: الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم السر وأخفى، يعلم الكلام الجهري والكلام السري، والكلام الذي في نفسك، والخواطر التي في عقلك وذهنك وقلبك، والشيء الذي لم يخطر بعد أو أنه سيخطر.
فهو الحي القيوم الذي لكمال حياته وقيوميته لا تأخذه سنة ولا نوم، ملك السماوات والأرض، الذي لكمال ملكه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، العالم بكل شيء الذي لكمال علمه يعلم ما بين أيدي الخلائق وما خلفهم، فلا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه، يعلم دبيب الخواطر في القلوب، حيث لا يطلع عليها إلا الله -أورد هذا الكلام ابن القيم في كتابه طريق الهجرتين.
وهو الرقيب على الخواطر واللواحظ كيف بالأفعال بالأركان
وهو الحفيظ عليهم وهو الكفيل بحفظهم من كل أمر عاني
فالقلب لوح فارغ، والخواطر نقوش تنقش فيه، ولا بد من الخواطر، أي: هل تستطيع أن تمنع نفسك من الخواطر؟ هل تستطيع أن تغلق ذهنك وتبقى بدون خواطر؟ لا يمكن.
حاول أن تقفل عقلك ولا يخطر في بالك أي شيء وأنت صاح، وقد خلق الله سبحانه وتعالى النفس شبيهة بالرحى الدائرة -الرحى: آلة الطحن- التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه، فإن وضع فيها حب طحنته، وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته، فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحَبِّ الذي يوضع في الرحى، ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط، بل لا بد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حباً يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن حصىً ورملاً وتبناً ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه، ذكره ابن القيم في كتاب الفوائد.
ومعلوم أنه لم يعط الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها، فإنها تهجم عليه هجوم النفس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له، وعلى دفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه، كما قال الصحابة: (يا رسول الله! إن أحدنا يجد في نفسه ما أن يحترق حتى يصير حممة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم.
قال: ذاك صريح الإيمان) وفي لفظ: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة).
أورده ابن القيم رحمه الله.
ولذلك من رحمته تعالى -لما كانت الخواطر لا بد منها- أنه لا يؤاخذنا على ما حدثتنا به نفوسنا ما لم نتكلم أو نعمل، وما حدثنا به أنفسنا، وما كان من الخواطر والأفكار لا نؤاخذ عليه ولكن لو لم نصلح الأمر من بدايته فإن الخراب هو المصير.
فمبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فالخاطرة: تتحول إلى فكرة، والفكرة إلى تصور، والتصور إلى إرادة، والإرادة إلى فعل، وكثرة الفعل يصير عادة.
قال رحمه الله: واعلم أن الخاطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر، فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر، فيأخذه الذكر فيؤديها إلى الإرادة، فتأخذه الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة، وهذه الخطورة الكبرى أن يصبح الشر عادة.
وكلام ابن القيم في الخواطر لا يكاد يوجد له مثيل في كلام العلماء، فقد أبدع في كتبه في ذكرها.
قال رحمه الله: الخواطر والهواجس ثلاثة أنواع: رحمانية، وشيطانية، ونفسانية.
الخواطر الرحمانية: في فعل الخير كأن تريد أن تذهب عمرة أو تتصدق أو تذهب إلى الجهاد.
الخاطرة الشيطانية: أن تمشي إلى حرام وتفعل الحرام، وكأن تكون جالساً في غرفتك لوحدك ليس معك أحد فتأتيك خاطرة شيطانية فتقوم وتعمل عملاً محرماً.
الخواطر النفسانية: مثل الرؤيا، والإنسان معه شيطانه ونفسه لا يفارقانه إلى الموت: (والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم).
والخواطر الباطلة: النوع الأول: منها في الحرام والفواحش، كم من الشباب لو قدر لنا أن نرى ما في أذهانهم وهم في حال الوحدة، شخص وحيد فماذا يدور في باله الآن؟ لربما ترى أكثرهم تدور في أذهانهم خواطر الفاحشة والحرام من كثرة الصور، ومن كثرة ما يرون وما يسمعون يخطر في بالهم الحرام والفواحش.
النوع الثاني من الخواطر الباطلة: خيالات وهمية لا حقيقة لها، أو أشياء باطلة أو فيما لا سبيل في إدراكه من أنواع ما طوي عنا علمه، فإذا كان هذا مجال التفكير ومسرح الخواطر فالعاقبة وخيمة، ولذلك فإن التمني واحد قال: رأى أحدهم رجلاً عنده مال يذهب به إلى الحرام ويسافر في الحرام، فقال: لو أن لي مال فلان لعملت بعمله فهما في الإثم سواء كما في الحديث، ولذلك فإن تمني الخيانة وإشغال الفكر والقلب بها ربما يكون أضر على القلب من الخيانة نفسها، فإذا جعل الإنسان الخيانة هي تفكيره وهمه، وانشغل تفكيره بالخيانة، وكيف يستدرج امرأة أو يخرج إلى سوق أو مكان فيظفر بفريسة، وكيف يخون الأمانة ويعتدي على ما استؤمن عليه، فإن هذا عاقبته وخيمة فإذا علمت هذا -يا عبد الله! - فماذا ينبغي أن تفعل من أجل إصلاح الخواطر؟ إذا علمت الآن أن المشكلة تبدأ من الخواطر فكيف تعالج مسألة الخواطر؟ أن تشغل هذا البال بطاعة الله، وأن تفرغ قلبك لله بكليته، وتقيمه بين يدي ربه مقبلاً بكليته عليه، يصلي لله تعالى كأنه يراه، قد اجتمع همه كله على الله، وصار ذكره ومحبته والأنس به في محل الخواطر والوساوس.
وهذا الكلام الذي قاله ابن القيم نفيس جداً جداً، إذا تأملته وطبقته سنجد عواقب حميدة وأنواراً وأبواباً من الخير تنفتح عليك؛ أن تجعل عقلك وذهنك وقلبك منشغلاً بالله وذكره، والتفكير في جنته وناره، وعذابه ونعيمه، وعقابه وحسابه، والموت وما بعده.
أشغل نفسك بالله، إذا أشغلت فكرك بالله فإنك ستكون بمنأى عن هذه الترهات والمحرمات، وتستريح نفسياً وقلبياً وذهنياً وجسمياً.(191/9)
علاج الخواطر
فعلاج الخواطر إشغالها بالله وحمايتها عن الحرام، قال رحمه الله: وهاهنا نكتة ينبغي التفطن لها: وهي أن القلوب الممتلئة بالأخلاط الرديئة، فالعبادات والأذكار والتعوذات أدوية لتلك الأخلاط، كما يثير الدواء أخلاط البدن، فإذا لم يقبل الدواء وبعده حمية لم يزد الدواء على إشارته، وإن أزال منه شيئاً فمدار الأمر على شيئين: الحمية، واستعمال الأدوية إذاً: إذا تخلصنا من الخواطر الشريرة، وأسكنا الخواطر الخيرة في أذهاننا فهذا من أعظم الوسائل إن لم يكن هو أعظم الوسائل (ترويض النفس) ورد القضية من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها، وقد ضربنا مثلاً في التسلسل السابق، أولاً: خواطر؛ الخواطر تتحول إلى أفكار، والأفكار تتحول إلى إرادات، والإرادات تتحول إلى عمل، والعمل يتحول إلى عادة.
ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد، كيف تقطع عادة؟ قد تنقل جبلاً ولا تستطيع أن تغير عادة، إلا من رحم الله.
وأول ما يطرق القلب الخطرة، فإن دفعها استراح مما بعدها، وإن لم يدفعها قويت فأصبحت وسوسة وكان دفعها أصعب، فإن بادر ودفعها وإلا قويت وأصبحت شهوة، فإن عالجها وإلا أصبحت إرادة -استعمل ابن القيم هنا اصطلاحات مشابهة للاصطلاحات الأولى ومقاربة لها- أصبحت إرادة، فإن عالجها وإلا أصبحت عزيمة، ومتى وصلت إلى هذا الحال لم يمكن دفعها واقترن بها الفعل ولا بد.
وعند ذلك لا بد من العلاج الأقوى وهو التوبة النصوح.(191/10)
دفع الخاطر من أوله
ولا ريب أن دفع مبادئ هذا الداء من أوله أيسر وأهون من استفراغه بعد حصوله إن ساعد القدر وأعان التوفيق، والدفع أولى وإن آلم النفس مفارقة المحبوب.
إذاً: لماذا ننتظر حتى نوشك أن نقع في الحرام؟ لماذا لا نستدرك القضية ونصلح من البداية، إن مسايسة النفس وترويضها يقتضي أن تتدارك المسألة من أولها، وأول المسألة الخواطر، فاطرد الخواطر السيئة ولا تسمح لها بالاستقرار، واجعل مكانها خواطر طيبة.
فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده، وإن قبلته أصبح فكراً جوالاً، فاستخدم الإرادة فإنها تساعد الفكر على استخدام الجوارح، فإن تعذر استخدامها رجع إلى القلب بالمنى والشهوة، وتوجه إلى جهة مراده، ولأهمية هذا الموضوع فقد كان الصالحون يعتنون بالخواطر، ذكر ابن كثير في ترجمة أبي صالح قال: كنت أطوف وأطلب العُبَّاد، فمررت برجل وهو جالس على صخرة مطرق رأسه، فقلت له: ما تصنع هاهنا؟ قال: أنظر وأرعى، فقلت له: لا أرى بين يديك شيئاً ولا ترعى إلا هذه العصاة والحجارة! فقال: بل أنظر خواطر قلبي وأرعى أوامر ربي، وبالذي أطلعك عليَّ إلا صرفت بصرك عني، فقلت له: نعم.
ولكن عظني بشيء أنتفع به حتى أمضي عنك، فقال: من لزم الباب أثبت في الخدم -إذا لزمت طاعة الله تعالى أثبتك الله في أوليائه- ومن أكثر ذكر الموت أكثر الندم، ومن استغنى بالله أمن العدم، ثم تركني ومضى.
والخواطر السيئة هي بذور يبذرها الشيطان في نفسك -يا عبد الله- فانتبه؛ بذر الشيطان في أرض القلب فإن تمكن من بذرها تعاهدها الشيطان بسقيها مرة بعد مرة حتى تصير إرادة.
يقول: الخواطر السيئة إذا لم تدفعها من البداية فهي بذور تصبح في أرض قلبك مزروعة يتعاهدها الشيطان بالسقيا، ويغذيها مرة بعد مرة حتى تصير إرادات، ثم يسقيها (يعدك ويحفزك ويمنيك ويدفعك ويحثك) حتى تكون عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأعمال، ولا ريب أن دفع الخواطر أيسر من دفع الإرادات والعزائم، فيجد العبد نفسه عاجزاً أو كالعاجز عن دفعها بعد أن صارت إرادة جازمة، وهو المفرط إذ لم يدفعها وهي خاطر ضعيف، كمن تهاون بشرارة من نار وقعت في حطب يابس، فلما تمكنت منه عجز عن إطفائها.
لو قلت لي: إن الخواطر السيئة لذيذة وأنت تريد أن أترك هذه اللذة وهذا الشيء المحبوب إلى النفس، يعني: أتخيل في الإجازة أني أسافر إلى أماكن معصية، وأسكر وأفعل الفواحش، كيف تريديني أن أترك هذه الأشياء المحبوبة ولا أفكر فيها؟ الشخص لا يترك محبوباً إلا لمحبوب أعلى منه وأقوى، ولذلك إذا كانت محبة الله فوق كل شيء هانت كل المحبوبات الأخرى، إذا كانت محبة الله أعلى من كل شيء ذهبت محبة الزنا والخمر والشهوات المحرمة، ومحبة صور النساء والمردان؛ لأن محبة الله أصبحت فوق كل هذه وهذا الكلام لأصحاب العقول -العناصر المفكرة العاقلة- فالعقل يمنع ويعقل ويحجز عن كل شيء ضار،.
فهناك موازنات، فإذا وازنت اقتنعت، وإذا اقتنعت تركت، فخذ هذه الموازنة ووازن بين فوات المحبوب الأخس المنقطع النكد المشوب بالآلام والهموم، وبين فوات المحبوب الأعظم الدائم الذي لا نسبة لهذا المحبوب الخسيس إليه البتة؛ لا في قدره ولا في بقائه.
فمحبوب المعصية إذا قارنتها بما سيفوتك، مثلاً: قارن الزنا بما يفوتك من الحور العين، وقارن شرب الخمر في الدنيا إذا فعلته بما سيفوتك من خمر لذة للشاربين، لا فيها غول (لا يذهب عقلك، ولا يصاب رأسك بالصداع، ولا بطنك بالمغص) ولا هم عنها ينزفون.
قارن إذا شربت الخمر بين هذه الخمر الخسيسة النجسة التي يعقبها زوال العقل، والتي تسبب في النهاية النكد، وربما طلاق الزوجة واحتقار الناس، والسكران حتى عند الكفار يعتبر صورة مزرية، وحادث السيارة وما ترتب على السكر والمخدرات من الأشياء، وممكن أن يكون في أوله لذة ولكن في آخره حسرة وألم.
إذا استعملته قارن بينه وبين ما سيفوتك في الآخرة؛ قارن ووازن واخرج بنتيجة.
ثم قارن بين ألم فوت هذا المحبوب وبين ألم فوت المحبوب الأعظم والأكبر، فأنت تفوت محبوباً عظيماً من أجل محبوب خسيس، وليوازن بين لذة الإنابة والإقبال على الله تعالى، والتنعم بحبه وذكره وطاعته، ويقارن بين هذا ولذة الإقبال على الرذائل والإتيان بالقبائح، وليوازن لو انتصرت على نفسك والانتصار على الشيطان -الانتصار على الشيطان فيه لذة- وليوازن بين لذة الظفر بالذنب ولذة الظفر بالعدو، وبين لذة الذنب ولذة العفة، المشكلة الآن أن العفة والصدق والأمانة فيها لذات، وليست اللذة فقط في الكذب والخيانة والزنا، لا.
هناك لذة في المقابل، لكن المشكلة أن الناس لا يعيشون لذة الطهارة، والأمانة، والصدق، ويعيشون لذة الكذب ولذة الخيانة، كثيرٌ منهم هذا حالهم، قارن بين لذة الطاعة ولذة المعصية، قارن بين ما سيفوتك من ثناء الله وملائكته وبين لذة هذه المعصية، قال ذلك الكلام النفيس وهذا معناه واختصار له، قاله: ابن القيم في التبيان في أقسام القرآن.(191/11)
الجمع بين خواطر الخير وخواطر الشر
فموضوع الخواطر موضوع مهم جداً، فأنت الآن مدعو إلى التدبر في مسائل العلم، ومدعو إلى التدبر في معاني الآيات والأحاديث؛ كيف ترضى أن تجمع في عقلك بين معاني {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:2 - 5] وبين خواطر سيئة وخسيسة ودنيئة؟ كيف تجمع بين تدبر خواطر الخير وبين خواطر الشر؟ قال: فالقلب لوح فارغ، والخواطر نقوش تنقش فيه، فكيف يليق بالعاقل أن تكون نقوش لوحه ما بين كذب وغرور وخداع وأماني باطلة، وسراب لا حقيقة له، فأي حكم وعلم وهدى ينتقش مع هذه النقوش؟ وإذا أراد أن ينتقش ذلك في لوح قلبه كان في منزلة كتابة العلم النافع في محل مشغول بكتابة ما لا منفعة فيه لو أتيت بخنزير ووضعت في عنقه قلادة من الجواهر ما رأيك بهذا المنظر؟ هل ترى أن الجواهر تصلح أن تكون على الخنزير، إذا كان لا يصلح فكيف تجعل عقلك مستودعاً للخواطر الشيطانية الخسيسة والدنيئة، ومستودعاً للذنوب والمعاصي الحقيرة التافهة والسيئة، وتجمع معها خواطر القرآن والقيامة والجنة وصفات الله تعالى تدبراً؟! فإن كل واحد يطلب علماً لا بد أن يسأل نفسه هذا
السؤال
كيف أطلب العلم وأفكر في مسائل الطهارة والصلاة والزكاة والحج، وقبلها مسائل العقيدة وأسماء الله وصفاته، واليوم الآخر والسيرة النبوية والأحاديث إلى آخره.
أفكر بهذا كله ثم أدخل عليها خواطر في الزنا والعشق، والأشياء المحرمة والصور العارية الخ.
فكيف ينطبق هذا على هذا، وإذا أراد أن ينتقش ذلك في لوح قلبه كان بمنزلة كتابة العلم النافع في محل مشغول بكتابة ما لا منفعة فيه، فإن لم يفرغ القلب من الخواطر الرديئة لم تستقر فيه خواطر نافعة، فإنها لا تستقر إلا في محل فارغ لتتمكن.
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا
هذه قضية -يا إخوان- مهمة جداً أن يكون هناك تفريغ للقلب من الخواطر السيئة، نعم.
لا يمكن أن نمنعها من الورود لكن إذا وردت لا نجعلها تعشعش، ولا نترك لها مجالاً للاستقرار في القلب، والإنسان إذا كان قريباً من الله أصبحت الخواطر التي ترد عليه خواطر رحمانية، كما قال ابن القيم رحمه الله: الخواطر التي مبعثها الملك -أي: أيُّ خاطر طيب فإن مبعثه الملك- إذا أصبحت الخواطر الطيبة تأتي إلى ذهنك باستمرار وتتزاحم حتى في العبادات، وهذا ما حصل لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين تزاحمت عليه الخواطر في مرضاة الرب فربما استعملها في صلاته، فتزاحم عنده تجهيز الجيش في سبيل الله مع قراءة القرآن أو الذكر في الصلاة، انظر إلى أي درجة وصل الفاروق، أصبحت تتدافع خواطر في الآيات وخواطر في الجهاد، وهو المسئول الأول في المسلمين والخليفة، وهو المنشغل جداً، فهو أول واحد يهمه الموضوع.(191/12)
كيفية إصلاح الخواطر
فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها وإلهها صاعدة إليه دائرة على مرضاته ومحبته، فإنه سبحانه عنده كل صلاح، ومن عنده كل هدى ومن توفيقه كل رشد، ومن توليه لعبده كل حفظ، ومن إعراضه كل ضلال وشقاء، فيظفر العبد بكل خير وهدى ورشد بقدر إثبات عين فكرته في آلاء ربه ونعمه، وتوحيده وطرق معرفته وعبوديته، وهو يستحضر أنه مشاهد له، ناظر إليه، رقيب عليه، مطلع على خواطره وإرادته وهمه، فحينئذ يستحيي منه ويجله أن يطلع منه على عورة يكره أن يطلع عليها مخلوق مثله.
لو أنك فكرت بحرام أو فاحشة هل تستحي أن أباك يطلع عليها؟ أو يطلع عليها أستاذك أو إمام المسجد؟ فكيف والله مطلع على خواطرك، فما كنت مستحياً من مخلوق أن يطلع عليه فاطرده من ذلك؛ لأنك تعلم أن الله مطلع عليك، فمتى أنزل العبد ربه هذه المنزلة رفعه وقربه منه، وأكرمه واجتباه وتولاه، وبقدر ذلك يبتعد عن الأوساخ والدناءات والخواطر الرديئة والأفكار الدنيئة، كما أنه كلما بعد منه وأعرض عنه قرب من الأوساخ والدناءات والأقذار، ويقطع عن جميع الكمالات ويصل بجميع النقائص، فالإنسان خير المخلوقات إذا تقرب من بارئه والتزم أوامره ونواهيه وعمل بمرضاته وآثره على هواه، وشر المخلوقات إذا تباعد منه ولم يتحرك قلبه لقربه وطاعته وابتغاء مرضاته، وكذلك فإن الإنسان ينبغي عليه أن يشتغل بمصلحته وما يعنيه، ويجعل الخواطر حول ما يصلحه وما يعنيه، فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك.
فالفكر فيما لا يعنيك باب كله شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه، واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة فيه، فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من نفسك، فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه ورضاه عنك، وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك، ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئاً خسيساً لم يكن في سائر أمره إلا كذلك.
فإن قلت: وبماذا أشغل عقلي؟ اشغله في باب العلوم في معرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوق الله تعالى، وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار، وفي آفات الأعمال والتحرز منها، وكيف تنفذ العبادات على الوجه المطلوب، وفكر في مصالح دنياك كيف تتزوج وما هي الطريقة للزواج؟ في معاشك وكسب مالك، فكر في هذا ولا بأس به على الإطلاق، إذا كان الذي يشغلك الله عز وجل والعلم به والشريعة، ومسائل العلم المفيد والتفكير فيما يعنيك وترك ما لا يعنيك، والتفكير في عيوب نفسك وكيف تتخلص منها، والتفكير بهموم المسلمين وما يصلح حالهم، والتفكير في معاشك وفيما يصلحك في الدنيا؛ إذا صار فكرك في هذا فإنك على حال طيب.
وتصبح في حصن حصين وفي بيت السلطان عليك الحراس قال إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83] وقال تعالى له: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] وقال: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99 - 100].
وقال في حق الصديق: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] فما أعظم سعادة من دخل هذا الحصن الحصين، لقد أوى إلى حصن لا خوف على من تحصن به، ولا ضيعة على من أوى إليه، ولا مطمع للعدو من الدنو منه: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] ذكره ابن القيم في بدائع الفوائد.
فإذا كانت معاني القرآن مكان الخواطر من القلب وكانت على كرسي عرش القلب، وكان له التصرف، وكان هو الأمير المطاع، استقام أمر الإنسان وسيره، واتضح له الطريق فتراه ساكناً ولكنه يباري الريح: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88].(191/13)
خلاصة موضوع كيف تروض نفسك
فإذاً نلخص موضوع الخواطر وهو الموضوع الأساسي والكبير في سياسة النفس وترويضها: أن تعلم أن الله مطلع على خواطرك.
أن تستحي منه.
أن تجله أن يرى ويعلم هذه الخواطر أنها ما زالت عندك موجودة.
أن تخاف أن يطردك من جنابه.
أن تساكن محبته قلبك لا محبة غيره.
أن تخشى من شرر الخواطر.
أن تعلم أن تلك الخواطر بمنزلة الحَب الذي يلقى للطائر ليصاد به، فاعلم أن كل خاطر منها حبة في فخ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر، فالخاطرة حبة ألقاها الشيطان لصيدك.
أن تعلم أن تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هي وخواطر الإيمان ودواعي المحبة بل إنها تضادها من كل وجه.
أن تعلم أن الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له، إذا دخل القلب في غمراته غرق فيه وتاه في ظلماته، فإذا أشغلت نفسك بالخواطر الطيبة كانت ساحل نجاة.
أن الخواطر السيئة وادي الحمقاء وأماني الجاهلين لا تثمر إلا الندامة والخزي.
أن تجعل مكان الخواطر السيئة خاطر الإيمان والمحبة والإنابة والتوكل والخشية، وأن تفرغ قلبك لها، وإذا أتاك الخاطر السيئ نفيته، لا تؤويه ولا تسكنه، لأنها أماني وهي رءوس أموال المفلسين، ومتى ساكن الخواطر صار مفلساً، وإياك إياك -يا أخي- أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك، فإنه يفسده عليك ويلقي بالوساوس الضارة.
وأخيراً: فإن موضوع سياسة النفس ومعالجة النفس وترويضها وإصلاحها، والبداية من الخواطر التي جعلناها الجزء الثاني من الموضوع هي قضية جديرة بالاهتمام والعناية.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن زكوا أنفسهم وممن طهروها وعمروها بذكر الله وعبادته.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(191/14)
الأسئلة(191/15)
شدة الوساوس في الصلاة
السؤال
الشيطان يشتد علينا بالوساوس في الصلاة، فلماذا؟
الجواب
يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضى النداء أقبل، حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، فيقول: اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر قبل، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى) هذا الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله تعالى يبين لنا أن الأذان ثقيل على الشيطان، وإذا أذن المؤذن هرب الشيطان خارجاً، فإذا انتهى الأذان رجع، فإذا أقيمت الصلاة هرب، وإذا انتهت الإقامة رجع يوسوس للمصلي، ويخطر بينه وبين نفسه ويذكره بأشياء لم تكن على باله.
ولذلك أبو حنيفة لما جاءه رجل فقال له: إني أضعت مالاً قال: اذهب فصل ركعتين وجاهد نفسك ألا تأتي عليك الوساوس، فجاء الشيطان وذكره في الصلاة ومنها مكان المال المفقود.
لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال إنه يقول: (اذكر كذا اذكر كذا، لما لم يكن يذكر) فيذكره به الشيطان حتى لا يعود الشخص يذكر كم صلى، هذه هيبة الأذان الإقامة، وكذلك فعل الشيطان.
فإذا جاءك الشيطان يوسوس لك؛ لأنه يحرقه أن يراك منتصباً قائماً لربك، فاتفل عن يسارك ثلاثاً وتعوذ منه في الصلاة، فإنه يذهب عنك إن شاء الله.(191/16)
معنى (لا) في قوله تعالى: (لا أقسم)
السؤال
لا أقسم بيوم القيامة ما معنى " لا "؟
الجواب
لا هنا فيها أقوال للعلماء، ومن هذه الأقوال أنها للتأكيد، أي: في لغة العرب إذا جاءت (لا) هنا فإنها تفيد تأكيد القسم.(191/17)
حب النساء والوقوع في الزنا
السؤال
أنا يا شيخ ممن يحب النساء حب شهوة، وقد زللت أكثر من مرة فوفقني الله بالتوبة، وأرى من نفسي حب الرجوع مرة أخرى فحاولت أن أدفع نفسي وأحاول أن أتزوج؟
الجواب
هذا الكلام ذكرناه في المحاضرة فلو أنك تتبع كلام ابن القيم في موضوع الخواطر، وجاهدت نفسك من الخواطر من بداية الأمر ألا يرد على نفسك، وتشغل نفسك بما يفيدك في الدنيا والآخرة، فلن تصل إلى مستوى الانزلاق إن شاء الله، ولذلك تتبع المسألة من بدايتها، هذه نصيحتي لك والله، تتبع القضية من بدايتها، وأشغل نفسك بالطاعة تنشغل عن المعصية.(191/18)
الثقة بالنفس
السؤال
هل يجوز الثقة بأنفسنا وما حكم الثقة بالنفس؟
الجواب
سئل الشيخ العلامة المفتي/ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى هذا السؤال هل تجب الثقة بالنفس؟ فقال: لا تجب ولا تجوز، بل تجب الثقة بالله تعالى، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (ولا تكلني إلى نفسي) وقال ابن أبي مليكة: " أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم يخاف النفاق على نفسه " لا يوجد منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل.
فلا بد أن تخاف على نفسك ولا تثق بنفسك؛ بل ثق بالله عز وجل، فإذا وثقت بنفسك أوكلك الله إلى ضعف وعجز وعورة، وإذا وثقت بالله كفاك الله عز وجل وجعلك تأوي إلى ركن شديد.(191/19)
الاستهزاء ببعض الأحاديث والتشريعات
السؤال
هناك بعض الزملاء يستهزئون ببعض الأحاديث النبوية وبعض التشريعات؛ ظناً منهم أنه ليس لذلك خطر كبير؟
الجواب
{ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] أظن الآية فيها موعظة بليغة وتجيب عن حال هؤلاء الذين يستهزئون بأحاديث وتشريعات ظناً منهم أن المسألة سهلة، الآية نزلت في من؟ قارن فيمن نزلت فيهم الآية وبين هؤلاء الشباب.
الآية كما يروي ابن جرير رحمه الله -والحديث حسن- أن الآية نزلت في بعض الذين كانوا في جيش تبوك قالوا: ما رأينا مثل قرائنا -من يقصدون بالقراء؟ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة- أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء، بطونهم كبيرة أصحاب أكل، وإذا جاء الجد ولوا الأدبار.
فنزلت الآيات فيهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] وهؤلاء يستهزئون بالآيات والأحاديث والتشريعات مباشرة، والاستهزاء بأي شيء علم المستهزئ أنه من الله ورسوله فهو كافر خارج عن الملة، يجب أن يجدد إسلامه ويتوب إلى الله تعالى.(191/20)
زكاة الراتب
السؤال
هل يجب علي زكاة المال مع العلم أني لا أملك إلا راتبي؟
الجواب
إذا كنت لا توفر شيئاً من راتبك وتصرفه أولاً بأول فما عليك زكاة؛ لأنه لا يوجد عندك شيء يحول عليه الحول؛ لكن إذا كانت عندك مدخرات تجب فيها الزكاة، فإذا كانت عندك مدخرات فأسهل طريقة أن تنظر إلى أول راتب استلمته، لنقل: أول راتب استلمته في 1 محرم 1420هـ تنظر ماذا لديك من المال فتخرج في كل ألف خمسة وعشرون ريالاً وهذا فيه راحة نفس وفيه سماحة، وتكون قد عملت ما عليك وزيادة.(191/21)
حكم سماع الأغاني في السفر
السؤال
أنا لا أحب سماع الأغاني والموسيقى، لكن في حالة السفر مع الأصحاب يجبرونني في رفقتهم مع طول الطريق والملل بأن أسمع الأغاني؟
الجواب
يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين في الحديث الحسن: (ماخلا راكب بذكر الله إلا ردفه ملك، وما خلا راكب بشعر ونحوه إلا ردفه شيطان) كيف إذا خلا بالأغاني؟! فلا تقطع الطريق بالأغاني وحاول أن تنصحهم، ومن شروط الرفقة في السفر أن تنتقي الرفقة قبل أن تسافر معهم، وليس أن تسافر معهم ثم تقول: تورطت، وإذا أكرهت وفوجئت، فمرهم بإغلاقه، فإذا لم يمتثلوا فاخل أنت بذكر الله بينك وبين نفسك.(191/22)
المجاهرة بالمعصية
السؤال
بعض الإخوان يجاهرون بالمعصية؟
الجواب
هذه مصيبة عظيمة؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) من المجاهرة: أن الواحد يعمل العمل ثم يستره الله في الليل ثم يقول في النهار: يا فلان أنا عملت كذا وكذا! يا فلان أنا سافرت لكذا! يا فلان هذه صورة كانت معي ويريه إياها والعياذ بالله، هذا المجاهر يفضحه الله يوم القيامة، والفضيحة يوم القيامة ليست مثل فضيحة الدنيا؛ لأن الفضيحة أمام الناس من آدم إلى الراعي المزني (آخر واحد يصعق عندما تقوم الساعة) مع الجن والملائكة وكل الحاضرين يوم الدين أشد من فضيحة اليوم.(191/23)
غسل الثوب من المني
السؤال
المني إذا بقي على الثوب يوجب غسل الثياب؟
الجواب
لا يوجب غسل الثياب، ولكن يفركه إذا كان جافاً، وينضحه بالماء إذا كان رطباً، والأفضل أن يغسله بالنسبة للثوب، أما البدن فلا بد إذا خرج المني من الغسل كاملاً، أن يعمم جسده كاملاً مع المضمضة والاستنشاق إذا أراد أن يصلي.(191/24)
هجر صاحب الكبيرة
السؤال
جافيت أحد الزملاء عندما رأيته على كبيرة عظيمة ومن بعدها لم أسلم عليه.
الجواب
إذا كان هذا الهجر يفيده ويشعره بالخطأ، ويندم ويعود إلى الصواب فيجب هجره، وإلا فارجع إليه وادعه بالحسنى.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وأن يعمر قلوبنا بذكره إنه سميع مجيب قريب، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.(191/25)
كيف تسأل أهل العلم؟
العلماء ورثة الأنبياء، وهم الموقعون عن رب العالمين، وبعلمهم تكون النجاة، والسؤال مفتاح العلم، والتصدر للإفتاء منصب خطير، تجنبه كثير من السلف، وتهافت عليه أكثر الخلف.
وفي هذه المحاضرة عشر مسائل أصولية تتعلق بالمستفتي، وسرد وبيان لكثير من آداب سؤال العلماء ومناقشتهم، وفي ختام هذه المحاضرة بعض الملاحظات حول استخدام الهاتف في الاستفتاء.
تتخلل كل ذلك أمثلة للآداب، وطرائف من الأخطاء، لا يعدم قارؤها الفائدة.(192/1)
الإفتاء بين تدافع العلماء واندفاع الجهلة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، الحمد لله الذي أنزل علينا الكتاب، وعلمنا ما لم نكن نعلم، وهو ذو الفضل العظيم، الحمد لله الذي قال معلماً لعباده: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114].
أيها الإخوة إن موضوعاً كموضوع: كيف تسأل أهل العلم؟ أو آداب المستفتي، من الموضوعات المهمة التي يحتاج إليها المسلم دائماً، لأن المسلم لا بد أن يتعرض في حياته لمواقف كثيرة يحتاج إلى السؤال عنها، وإلى حوادث وحالات لا يعلم حكمها، ولا بد امتثالاً لقول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الانبياء:7] أن يسأل أهل العلم، لأن هذا فريضة قد أمر الله بها فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الانبياء:7].
وموضوع الفتوى والمفتي والمستفتي من الموضوعات الخطيرة والحساسة التي أفرد لها العلماء الكتب، وصنفوا فيها الرسائل، وتكلموا عنها بكتب أصول الفقه، وموضوع الفتوى موضوع خطير، كيف وقد قال الله عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116].
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقون الفتيا، كما قال أحد السلف: لقد رأيت ثلاثمائة من أصحاب بدر ما فيهم أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتيا، وقال ابن أبي ليلى: أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يسأل أحدهم عن المسألة فيرد هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول، هذا المنصب الخطير، منصب الفتيا الذي ضاع اليوم بين المسلمين، منصب الفتيا الذي ملأه في كثير من بلدان العالم الإسلامي أناس من الجهلة، أو من أصحاب الهوى الذين لا يخافون الله عز وجل، من الذين يبيعون الدين بالدرهم والدينار، هؤلاء الذين تورط بهم الناس ورطة كبيرة، فتشعبت الأقوال، وتاه الناس ما بين هؤلاء الجهلة، وسلم من خلق الله من أهل العلم أناس قليلون ونفر معدودون يصلحون للفتيا يلجأ إليهم المخلصون، وهم الذين يعصمون من الهلكة والوقوع في الهاوية، هؤلاء الذين ينبغي على المسلم أن يلجأ إليهم.
إن منصب التوقيع عن رب العالمين منصب خطير، والمفتي في الحقيقة يوقع عن رب العالمين، الله يفتي: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} [النساء:176] فالمفتي إذاً ينوب عن الله في إخبار الناس بأحكام الله، فهو يوقع عن الله، يوقع بالنيابة عن الله، ولذلك صار فمنصبه جد خطير.(192/2)
التحذير من الإفتاء بغير علم
وكان الذي يفتي بغير علم إثمه عظيم، قال صلى الله وعليه وسلم: (من أفتي بفتوى غير ثبت، فإنما إثمه على من أفتاه) لو قارنا حال الذين يتساهلون اليوم في إفتاء الناس بحال الصحابة التي ذكرناها قبل قليل، لوجدنا أمراً عجيباً، اليوم يفتي بعض الناس وهم جهلة، بل ربما يكون المجيب أجهل من السائل، يفتي بعض الناس من أتباع الهوى، ويأخذون الأموال على الفتاوى الرخيصة، لأجل إرضاء فلان وفلان، قال أبو حصين الأسدي: إن أحدكم ليفتي في المسألة، لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر، وكان ابن عمر إذا سئل قال: اذهب إلى هذا الأمير الذي تولى أمر الناس فضعها في عنقه، وقال: يريدون أن يجعلونا جسراً يمرون علينا إلى جهنم، من هو الذي يقول؟ العالم المجتهد ابن عمر رضي الله عنه، والشيء الذي يمنع بعض الناس اليوم من أن يقول: لا أدري كان لا يمنع الثقات العلماء من السلف أن يقولوا ذلك.
سئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل: ألا تستحي من قولك: لا أدري، وأنت فقيه أهل العراق؟ قال: لكن الملائكة لم تستح حين قالت: لا علم لنا إلا ما علمتنا، وهذا الإمام مالك رحمه الله تعالى، سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال: في اثنتين وثلاثين منها لا أدري، يقول له السائل: بماذا أرجع للناس، وماذا أقول لهم؟ قال: قل لهم يقول الإمام مالك: إنه لا يدري.
هذا دين {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13 - 14] ولقد شدد رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أفتوا رجلاً من أصحابه بغير علم، لما أصاب رجلاً شجة في سفر وأصيب بجنابة، فسألهم قالوا: لا بد لك من الاغتسال، فاغتسل فمات، فقال عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله) دعا عليهم وقال: (ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال) العي والجهل شفاؤه بالسؤال.
ولقد كان الأمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم سؤال أهل العلم، جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال: يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا -اثنان مخاصمان- كان خادماً عند هذا، فزنا بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، أعطيته فدية لقاء ما أفسد ولدي من زوجته، أعطيته مائة شاة ووليدة، ثم إني سألت أهل العلم، فقالوا: إنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، الرسول عليه الصلاة والسلام قضى بكتاب الله، قال: (الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام).
فإذاً الصحابة كانوا يسألون أهل العلم، الذين يخبرونهم بالفتوى الصحيحة، ومن هذا المنطلق نقول في مقدمة هذا الدرس: كيف تسأل أهل العلم؟ نقول يا أيها الإخوة! سنتحدث إن شاء الله عن مسائل أصولية تتعلق بالسائل والمستفتي، وآداب السؤال، والمفتي، وملاحظات على الأسئلة بالهاتف، وأسئلة النساء، وبعض الأسئلة التي فيها أخطاء نلقي عليها بعض الضوء، ولن نتحدث في هذه الليلة أكثر عن خطورة منصب الفتيا ولا عن خطورة القول على الله بغير علم، ولا عن عمل المفتي، وماذا يجب على المفتي؟ هذا أمر طويل جداً، ونحن يهمنا الآن المستفتي أو السائل، فنقول أيها الأخوة:(192/3)
مسائل أصولية تتعلق بالمستفتي
أولاً: مسائل أصولية تتعلق بالمستفتي: أولاً: يجب على المسلم إذا نزلت به حادثة لا يعلم حكمها، أن يسأل أهل العلم امتثالاً لقول الله سبحانه وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] هذا أمر واجب، هذا من صميم الدين، يجب عليه أن يسأل.
ثانياً: يجب على المستفتي أن يتحرى وينتقى الأعلم والأورع لسؤاله، فلا يسأل جاهلاً، ولا صاحب هوى، ولا يجوز للعامي سؤال كل من تظاهر بالعلم، أو وضع في منصب من قبل جاهل، أو فاسق عينه في هذا المنصب، ولا يجوز أن يسأل كل من تصدى للتدريس، أو قال للناس: اسألوني، وإنما يجب عليه أن يتحرى، وأن يبحث وأن ينتقي من يسأله {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان:59] [إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم] فإذاً لا بد من البحث عن أهل العلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) لا بد من اختيار الأوثق، أنت إذا عرض لك مرض، قضية جسدك وذكر لك طبيبان، فماذا تفعل؟ تسأل من تثق بعلمه في الطب، تذهب إلى الأظهر والأكثر خبرة.(192/4)
طرق معرفة المؤهل للإفتاء
ثالثاً: كيف يعرف العامي، أن فلاناً أهل للسؤال؟ الجواب يعرف ذلك بأمور، منها: التواتر بين الناس والاستفاضة بأن فلاناً أهل للفتوى، والمقصود بالناس العقلاء العارفون، وليس عوام الناس الذين يُلبس عليهم في بعض البلاد، ففي بعض البلاد يُلبس على بعض العامة؛ يقول لك آلاف من الناس: فلان هذا المفتي، اسأل فلاناً، وهذا ملبس عليهم فيه، فمن تواتر بين الثقات العارفين واستفاض بين الناس بأنه أهل للفتوى وعالم فهو الذي يسأل.
الطريقة الثانية: تزكية العلماء العدول الثقات لفلان بعينه أنه أهل للفتوى، فيقصد ويسأل.
الطريقة الثالثة: إذا تعدد المفتون في بلد، فماذا يجب على الشخص؟ هل يجب عليه أن يعرف الأعلم ليسأله، أو يسأل أي واحد منهم، مادام أنه صالح للفتيا؟ قال بعض أهل العلم: لا يجب على العامي البحث عن الأعلم مادام الجميع أهلاً للفتوى، وإنما يسأل من يتيسر منهم، خصوصاً أنه عسير على العامة معرفة وتمييز من هو الأعلم، فكيف سوف يعرفون؟ الذي ليس عنده موازين فكيف يميز؟ فهذا يقلد شيخاً يثق به، صالحاً للفتوى، يسأله فيقلده، ولما ضل الناس في مسألة التحري، نفذت عندنا أمور مهلكة، وقضايا مضحكة، وأضرب لكم مثالين مما سمعت في هذه المنطقة: رجل ظاهر من امرأته، قال لها: أنت علي كظهر أمي، ما حكمه في كتاب الله؟ عليه عتق رقبة، ثم صيام شهرين متتابعين، ثم إطعام ستين مسكيناً، إذا لم يستطع بالترتيب، هذا الرجل ذهب إلى إمام مسجد، الناس الآن من المآسي والمصائب الموجودة عندنا أن الناس لا يميزون في السؤال، ذهب إلى إمام مسجد، قال له كذا، قال: اجلس! قل ورائي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وقرأ هذا الإمام آيات سورة المجادلة، وآية الظهار في سورة المجادلة، والشخص الآخر يقرأ وراءه، بعدما انتهى من القراءة، قال: خلاص انتهى، اذهب ما عليك شيء، انظر كيف حل المسألة؟ مع أن المفروض أن يقول: اسمع حكم الله في المسألة، ثم يقول: سمعت حكم الله اذهب ونفذ، لكن هذا قرأ له الآيات، قال اقرأها ورائي، فلما قرأها قال: اذهب، لا شيء عليك.
مثال آخر واقعي: رجل وطئ امرأته في نهار رمضان، ما حكم الله في المسألة؟ عتق رقبة، فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين، المسألة فيها تغليظ، القضية قضية عقوبة، ليست المسألة مسألة هزل، فإن لم يستطع، يطعم ستين مسكيناً، ذهب إلى واحد، يسأل من هب ودب، أقرب شخص أو إمام مسجد لا يخاف الله، قال: أنا فعلت كذا وكذا، قال: هذه بسيطة، عليك إطعام ستين مسكين، ثلاثين عليك وثلاثين على زوجتك، وحتى الستين ليست عليه، لكن قسمها بالنصف، قال: عليك ثلاثين وعلى زوجتك ثلاثين.
وأمثلة هذا كثيرة جداً، هناك أناس يحلون ما حرم الله، وهناك أناس يحلون ما علم حرمته من الدين بالضرورة مثل الربا وغيره، هناك أناس يحلون نكاح المتعة، وهناك أناس يحلون أشياء كثيرة جداً من الحرام الذي أجمعت عليه الأمة، وعلم في الضرورة أنه حرام، لكن من الناس من لا يخاف الله، ويتجرأ، وليس عنده أدنى مانع من أن يعطي الناس الأريح، وأن يفتي بالرخص الضالة الكاذبة، ويجعل دين الله ملعبة، وبعضهم يزعم أن هذا وسيلة للدعوة أن نرخص للناس، ونخفف على الناس، فيكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى علماء الأمة، ويعطي الناس أحكاماً ما أنزل الله بها من سلطان، أو يوجب على الناس أشياء لا تجب عليهم، يأتي واحد في الحج يسأل جاهلاً، يقول له: فعلت كذا، فيقول: هذه فيها دم، وهذه فيها دم، وهذه فيها دم، خمسة دماء، ستة دماء، وربما ولا واحد منها فيه دم، فإذاً قضية إيجاب ما لا يجب على الناس حرم أيضاً، فقضية تحليل الحرام أو تحريم الحلال، وقضية إيجاب ما لا يجب، كله ليس من دين الله ولا من شرعه.(192/5)
وجوب معرفة نبذة عن أسباب الخلاف
خامساً: يجب على العامي أن يعلم نبذةً عن أسباب الاختلاف بين العلماء، لأن العامة الآن يسألون علماء أو مشايخ، ويسمعون فتاوى العلماء، فإذا جاء مثلاًً في قضية قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية خلف الإمام، سمع عالماً يقول: يجب أن يقرأ، ثم سمع عالماً يقول: لا يجب أن يقرأ، بل ربما قال: لا يجوز أن يقرأ وعليه الإنصات، يأتي في زكاة الحلي، ويسمع شيخاً يقول: تجب الزكاة في الحلي، ثم يسمع مفتياً آخر يقول: لا تجب إذا كان مستعملاً، أو يجب في العمر مرة، وهكذا حال كثير من المسائل الخلافية، فالعامي إذا لم يكن يعلم نبذة من أسباب خلاف العلماء يتيه ويضيع، ويقول: ضيعونا العلماء، هذا الدين أصبح صعباً، العلماء لماذا يختلفون؟ لماذا صار الدين هكذا؟ وبالتالي يتصور الدين تصوراً عجيباً، لكنه لو علم أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قد اختلفوا، وأن الخلاف من طبيعة البشر، وأن أفهام العلماء تتفاوت، وأن العالم الفلاني قد يصل إليه الدليل، وعالم لا يصل إليه الدليل، عالم يصح عنده الدليل وعالم لا يصح عنده الدليل، عالم يفهم الدليل من جهة والآخر يفهمه من جهة أخرى، عالم يظن أن هذا هو الناسخ والآخر المنسوخ، وعالم ينظر أن العكس هو الصحيح، والخاص هو العام، والعام هو الخاص، فإذاً هذا الاختلاف طبيعي في أفهام البشر، ومادام أنهم كلهم ثقات وعلماء، فإذاً من الطبيعي أن يختلفوا، واختلافهم مقبول، وعلى العامي أن يتحرى الأعلم ليسأله.(192/6)
عدم الاطمئنان للفتوى يوجب ترك العمل بها
سادساً: لا يعمل بالفتوى حتى يطمئن لها قلب المستفتي، قال ابن القيم رحمه الله: لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه وحاك في صدره من قبوله وتردد فيه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (استفت نفسك وإن أفتاك المفتون) فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولاً؛ ولا تخلصه فتوى المفتي من الله، إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه.
واحد يعلم أن الأمر في الباطن حقيقة خلاف ما أفتى المفتي، لشكه فيه، أو لجهله، فلا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، فلو أن رجلين ذهبا إلى قاض، واحد محق وواحد مبطل، لكن الذي على الباطل، ألحن وأقدر على التعبير والإقناع، فأقنع القاضي، فحكم له القاضي، هل حكم القاضي يجعل المال حلالا له؟!! لا، لا يجعل المال حلالاً له، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ومن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار) ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه الحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي، أو محاباته في فتواه، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف في الفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بالفتوى، وسكون النفس إليه.
فإذا كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي، فعليه أن يسأل الثاني والثالث حتى تحصل له الطمأنينة، فإذاً المثل العام الذي يقول بعض الناس "ضع بينك وبين النار شيخاً" أو "ضعها في رقبة عالم واخرج منها سالم"، أي: اسأل واحداً، وإذا أفتاك فامش عليها، فإذا كان العامي (الشخص السائل) يعلم أنه ليس بأهل، أو أنه لم يفهم السؤال، أو أنه أخفى عليه أشياء، وأفتى المفتي بناء على الجزء المقدم إليه، فلا يجوز للعامي أن يعمل بهذه الفتوى، لكن لو وضح القضية، وأجاب عنها العالم الثقة، فلا يصح أن يخرج عنها بدون شيء شرعي يجب عليه أن يلتزم مادام سأل وعرف الجواب، يجب أن يلتزم ولا يتهرب، لكن إذا كان يعلم أن الأمر الذي أفتى به المفتي بحلاف الحق، فلا يجوز له أن يقول: والله مادام فلان قد أفتى فيها، إذاً فقد برئت ذمتي وعهدتي، لا يجوز له ذلك.(192/7)
معرفة حكم النازلة عند عدم وجود العلماء
سابعاً: قال ابن القيم رحمه الله: إذا نزلت بالعامي نازلة وهو في مكان لا يجد فيه من يسأل، ماذا يفعل؟ أنت في سفر أو في مكان ما وجدت عالماً، ماذا تفعل؟ قال: الصواب أنه يجب عليه أن يتقي الله ما استطاع، ويتحرى الحق بجهده ومعرفة مثله، وقد نصب الله على الحق أمارات كثيرة، ولا بد أن تكون الفطر مائلة إلى الحق، ولا بد أن تكون هناك أمارات في المسألة تدل على أن الحق كذا وكذا، إذاً هنا في هذه الحالة إذا ما وجد يتحرى، يتقي الله ما استطاع، ويعمل بما ظهر لديه، ويستغفر الله، ويتوب إلى الله، ويسأل الله أن يلهمه الصواب، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، ويعمل، ثم بعد ذلك يسأل إذا وجد الشيخ أو المفتي، فإذا كان يجب عليه استدراك شيء استدركه.
إذا حصلت له حادثة، فسأل فأفتي، ثم حصلت له الحادثة مرة أخرى، هل يلزمه تجديد السؤال؟ لاحتمال أن رأي المفتي قد تغير مثلاً، الصحيح أنه لا يلزمه، والأصل استمرار الفتوى على ما هي عليه.
ثامناً: ويجوز للمستفتي، صاحب المسألة أن يستفتي بنفسه، وهذا الأصل، أو أن يقلد ثقة يقبل خبره، فيقول له: اسأل لي العالم، ينتقي واحداً عاقلاً، يحسن النقل، يحسن الإيضاح، يحفظ، يضبط، ويقول اسأل لي العالم، وله أن يأخذ بالجواب الذي جاء عن طريق هذا الشخص.
إذا سمع العامي أكثر من فتوى في المسألة، فماذا يفعل؟
الجواب
بعض العلماء قال: ياخذ بالأغلظ وبعضهم قال: يأخذ بالأخف، وبعضهم قال: يسأل ثالثاً يرجح له، لكن الصواب، والله أعلم كما ذكر بعض أهل العلم أنه يتحرى الأعلم والأوثق فيقلده، وهذا في الغالب ليس بمتعين.(192/8)
عدم جواز التخير بين الأقوال
عاشراً: لا يجوز للعامي أن يتخير بين الأقوال، فيفتح كتاباً فيه علم الخلاف، ويعرف المسألة يقول: زكاة الحلي، هناك من يقول: تجب كل سنة، وهناك من يقول: تجب مرة في العمر، ومنهم من يقول: تجب إذا لبس، وهناك من يقول: لا يجب أبداً، إذاً أحسن شيء أن أنتقي، مثلاً أنه يجب مرة بالعمر، قال: نأخذ الوسط، لا كذا ولا كذا، هل هذا منهج؟
الجواب
لا يجوز للعامي أن يتخير بين الأقوال، فيفتح كتاب خلاف، وينتقي قولاً، أو يأخذ فتاوى وينتقي منها عشواائياً، يجب عليه أن يقلد الأعلم إغلاقاً لأبواب الأهواء، وباب تتبع الرخص، وهكذا.
ولذلك أعطيكم مثالاً في بعض كتب مناسك الحج التي توزع وتباع بين الحجاج، يعطيك مثلاً يقول: محظورات الإحرام: الشيء الفلاني عند أبي حنيفة مثلاً جائز، عند مالك كراهة، عند أحمد مكروه، عند الشافعي مثلاً محرم ونحو ذلك، فعنده جدول للمذاهب الأربعة، يأتي يفتح الكتاب ويقول: نأخذ هذه المرة بـ أبي حنيفة، مثلاً المسألة التي بعدها شيء آخر، يقول: هنا والله مذهب الشافعي أسهل نأخذ به، ولهذا الذين يطبعون هذه الكتب ويبيعونها للعامة، ماذا يصلون إليه في الحقيقة؟ ومن من الحجاج الآن متمذهب بمذهب بحيث أنه الآن يقلد صاحب المذهب؟ قليل، ثم ما صحة هذا النقل، وهذه الكتب؟ وننتقل بعد هذه المسائل الأصولية، للمفتي إلى قضية الأدب في سؤال المستفتي أو كيف تسأل أهل العلم من جهة الأدب في طرح بالسؤال؟(192/9)
آداب سؤال العلماء
أما السؤال أيها الأخوة! فهو وسيلة عظيمة جداً لتحصيل العلم، العلم خزائن والسؤالات مفاتيحها، السؤال منفذ كبير لطلب العلم، السؤال دلو تغرف به من بحور العلم، السؤال يفتح لك آفاقاً، السؤال يزيل الإشكال، السؤال وسيلة للفهم، السؤال إذاً قضية خطيرة يجب ألا نلعب فيها، وأن نعطيها وزنها وحقها، فلننتقل الآن إلى الكلام عن كيفية السؤال، كيف تسأل أهل العلم؟ ما هو الأدب مع المفتي؟ المستفتي كيف يفعل؟ ينبغي على المستفتي أن يتأدب مع المفتي، وينبغي على السائل أن يتأدب مع الشيخ.(192/10)
تبجيل العلماء في الخطاب
ينبغي على العامي أن يتأدب مع العالم، قال أهل العلم في هذه المسألة: فيبجله في الخطاب، لا يقول: يا فلان، إما أن يكنيه يقول: يا أبا فلان، أو يا أيها الشيخ الجليل، مثلاً، أو يناديه بصيغة الجمع: ما قولكم حفظكم الله، أو رحمكم الله في المسألة الفلانية، ولا يومئ بيده في وجهه، ويؤشر له فوق وتحت ويمين ويسار شرحاً، وإنما يتأدب في الخطاب، ولا يقول إذا أجابه الشيخ: هذا رأيي من البداية، أنا هكذا قلت، أو أن يقول: لكن فلاناً أفتاني بخلاف قولك.
وكذلك لا يسأله وهو في حالة ضجر، أو هم، وغير ذلك مما يشغل القلب، والعلماء تكلموا في الكتب عن قضية رقعة الاستفتاء، فقالوا: ينبغي أن يكون الخط واضحاً، وأن يضع فيها كل المعلومات وأن يجعل فيها فراغاً للكتابة، بعض الناس يعطي الشيخ ورقة، السؤال يملأ الورقة، وأين يكتب الجواب؟ يأتي بورقة أخرى! فحتى الرقعة التي فيها الفتوى تكلموا في وصفها، وكيف ينبغي أن تكون، المهم الشاهد بلغ الأدب عند بعضهم أنه كان يدفع الرقعة إلى المفتي منشورة مفتوحة، ولا يحوجه إلى فتحها، ويأخذها من يده إذا أفتى مباشرة، مفتوحة حتى لا يحوجه إلى طيها.
ولا يصلح أن يستعمل الجفاء بأن يناديه باسمه كما ذكرنا أو يقول: يا أخ، يا هيه، أنت أنت يا فلان، أنت، كما يقع لبعضهم، وإنما يناديه بلقب حسن، ويقرن ذلك بالدعاء، كأن يقول: غفر الله لك، أو أحسن الله أليك، أو أحسن الله عملك، أو رضي الله عنك، أو أثابك الله، أو وفقك الله، أو نفع الله بعلمك، وحتى يأتي بكلمة مواساة، أرجو ألا أشق عليك، عسى ألا أشق عليك، ما حكم كذا؟ بعض الناس يود الشيخ ألا يسأله أبداً من سوء أدبه ولو كان الشيخ مرتاحاً، وبعضهم يود الشيخ أن يسأله زيادة، ولو كان الشيخ متعباً مما يرى من حسن أدبه، بعض الناس من أرباب الشوارع، إذا خطر بباله أن يسأل المسألة ينتقل بقلة أدبه من الشارع إلى خطابه للشيخ، ولا يتخلصون من لكنة الشوارع، فإذا سأل الشيخ وأجابه؛ قال: أنت متأكد، واحد يسأل عالماً كبيراً، يقول: أنت متأكد من هذا الكلام، أكيد سبحان الله! يعني حتى الأعراب لما جاء أحدهم قال: يا بن عبد المطلب، قال: لبيك نعم، قال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد عليَّ في نفسك، هذا كان أسلوب الأعرابي، جاء من الصحراء، لكن قال: فلا تجد عليَّ في نفسك، قال: آلله، وهؤلاء يقولون في زماننا كلاماً فيه من الرعونة وقلة الأدب شيئاً عجيباً، أو مثلاً إذا جاء يشرح له القضية، فأجابه الشيخ قال: كذا، قال: لا، لا، ما فهمت سؤالي، ركز يا شيخ، ما فهمت السؤال، انتبه معي يا شيخ، وبعض الناس من طريقته في الشرح، أنه يجعل المخاطب، أي: يتكلم بضمير المخاطب، فمثلاً يقول: افرض يا شيخ أنك فعلت كذا وكذا ماذا يكون الجواب؟ وقد يكون فعلت كذا وكذا، قد يكون طامة من الطامات، فمثلاً قد يقول: مثلاً يا شيخ أنت زنيت والمرأة التي زنيت بها كذا وكذا، كيف؟ أو يقول مثلاً يا شيخ أنت تعمل في شركة، من قبل عشر سنوات مثلاً يدك امتدت إلى الخزينة وسرقت مثلاً، وأنت الآن لا تدري كم سرقت، فكيف تفعل الآن؟ فهذه عبارات فاحشة، وسوء أدب ما بعده سوء، وكما قلت لكم أيها الإخوة: وبعض العبارت تصطك منها المسامع يود لو أنه أغلق الهاتف، وأنه صرفه عن وجهه، من سوء أدبه، والعلماء تكلموا في آداب المفتي، كيف يكون صدره واسعاً، وكيف يستقبل، وكيف يتغاضى ويتجاوز، لكن المستفتي يجب أن يكون مؤدباً في السؤال، إذا أراد أحدهم أن يسأل وجيهاً، أو وزيراً، أو عظيماً، تأدب غاية التأدب، حتى إذا أراد أن يسأل مديراً في دائرة، يقول: لو سمحت لي، ويكون صدرك واسعاً، وإذا جاء يسأل شيخاً أو عالماً، أعطاه من هذه الكلمات العجيبة.(192/11)
مراعاة فطنة العلماء وفهمهم للمسائل
وكذلك ينبغي على السائل أن ينتبه، فربما فهم الشيخ السؤال وهو يظن أن الشيخ ما فهم السؤال، الآن كثير من الأسئلة متشابهة، الشيخ ربما سمع هذا السؤال خمسين مرة، أو مائة مرة قبل ذلك، وبعض السائلين يظن أنه يسأل هذا السؤال لأول مرة وأنه ما سبق الشيخ سؤال مثل هذا، يظن ذلك، فربما الشيخ يفهم السؤال من الوهلة الأولى، فيجيبه فيظن الشخص يقول: لا، لحظة يا شيخ، دعني أكمل، افهم معي جيداً، فالشيخ يقول له: أنا فهمت سؤالك، يقول: لا، دعني أوضح، فإذا كان الشيخ فهم السؤال فأجابه الحمد لله، فإذا سمع الجواب وظن أن الشيخ لم يفهم، أتى له بالعبارات الزائدة، بلطف.
لذلك واحد كان يقول لـ إياس القاضي، قال: أنا أكره فيك ثلاثاً: أنك تحكم قبل أن تفهم، مع أن إياس من أذكياء العالم، كيف يحكم؟ هو يتوهم الخصم أنه يحكم قبل أن يفهم، لكنه فهم.(192/12)
عدم مقاطعة الشيخ أثناء الإجابة
ومن الأدب: ألا يقاطع الشيخ أنثاء الإجابة، يتمهل حتى يقضي الشيخ كلامه، ثم يقول مايريد أن يقوله من الاعتراض، أو الاستشكال مثلاً، أو سؤال زائد، أو فرعية في الكلام، أو سؤال عن لفظة غريبة وردت في كلام الشيخ مثلاً، ولا يستعجل فقد تأتي مسألته بعد قليل، وقد يكون الشيخ يريد أن يعلمه شيئاً أهم من الشيء الذي يسأل عنه، أحياناً يأتي واحد يسأل فالشيخ يعطيه مقدمة مهمة جداً أهم من السؤال، فيقول: لا، هذا ليس سؤالاً، انتبه أنت هذا الكلام قد تنتفع به بقية عمرك، سأل رجل ابن عمر رضي الله عنه عن إطالة القراءة في سنة الفجر، فقال ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل مثنى مثنى، ويوتر بركعة، فقاطع، فقال: لست عن هذا أسأل، فقال: إنك لضخم، ألا تدعني أستقرئ لك الحديث، أي: انتظر الجواب في بقية الحديث، أنا آتي لك بالحديث من أوله لتستفيد، وكلمة ضخم إشارة إلى الغباوة وقلة الأدب، وإنما قال له ذلك، لأنه قاطعه وعاجله قبل أن يفرغ من كلامه، وبعض الناس أيضاً يعاملون بعض الشيوخ والمفتين والعلماء، كأنهم موظفون يأخذون أجراً على الاستفتاء، وأنه موظف موجود لكي يجيب وأنه لا بد أن يجيب، وقد يكون الشيخ محتسباً لا يأخذ أجراً على ذلك، على أن يجلس عند الهاتف بين المغرب والعشاء، أو بعد العشاء، أو أنه يجلس في المسجد ليفتي الناس، لم يعطه أحد أجراً على هذا، فبعض الناس يسألون الشيخ كأن الشيخ موظف لا بد أن يجيب، لأنه يأخذ عليه أجر، وكأنه يقول حلل راتبك، انتظر هات الجواب، وخصوصاً الذين يسألون المشايخ في بيتهم، من الذي أعطاه وقال اجلس في بيتك وخذ مرتباً على الإفتاء من الساعة كذا إلى الساعة كذا؟ وكذلك لا بد للمستفتي إذا أراد أن يستفتي في مسألة فيها حرج أن يقدم بين يدي الاستفتاء بعبارات تدل على تحرجه، وأنه لا يريد الفحش بالكلام، فبعض الناس يقول: مثلاً، إن الله لا يستحي من الحق، يا شيخ ما حكم كذا؟ أو لا حياء في الدين ماحكم كذا؟ أو أريد أن أسألك عن مسألة لكني متحرج فيها، ولكن لا بد من السؤال، ويعطيه السؤال، وبعض الناس لا يبالي بذلك ويذكر توصيفات وأشياء تتعلق بالعورات، تتعلق بأمور من هذا القبيل بدون أي تقديم ولا يظهر للشيخ تحرج السائل، بل يظهر له قلة أدبه في السؤال.
فإذاً لا بد من شيء من التقديم؛ لا مؤاخذة ما معنى كذا وكذا؟ لكن رأينا في المجالس أناساً يقولون: يا شيخ ما معنى "حتى تذوق عسيلتها؟ " طريقتهم واضحة أنهم يريدون الفحش، وقد يكون عارفاً للجواب، لكن هذا موجود في المجتمع، ثم إنه ينبغي على المستفتي إذا أحسَّ أن الشيخ يريد بجوابه إبعاده عن الموضوع وصرفه عنه، وهو يقول: لا، لا إما أنك تقول لي حرام حتى أتركه، أو أنك تقول أنه ليس بحرام، فأحياناً بعض المشايخ يتورع أو تكون المسألة من المشتبهات، أو من المكروهات، هذا كثير جداً فيقول الشيخ مثلاً: لا أنصح بهذا، أرى أن تترك ذلك، أرى أن تترك هذا الشيء، فيقول: لا، لا، حدد حرام أم لا؟ لماذا؟ لأن هذا السائل ما عنده شيء اسمه (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ولا عنده "اتق الشبهات أبداً" ولا عنده شيء اسمه (فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام).
الشيخ يريد أن يعلمك ترك الشبهات، يريد أن يعلمك أن هذا خلاف الأولى لا تفعل، فتجد هذا يلزم، وأحياناً يقول: لا يجوز أم حرام؟ أي حتى بعضهم لا يفهم لا يجوز، يأثم لو فعل، فيريد كلمة حرام، يريد كلمة حرام بالنص، فيفوت مقصد من مقاصد الشيخ في الإجابة، وكذلك من آفات المستفتين، أن بعضهم يتبرع بالسؤال عن شخص آخر، فيقول لواحد من الناس أنا أسأل لك، ويذهب بمعلومات غير كافية للشيخ، فيسأل الشيخ، فإذا استفصل منه الشيخ، قال: والله لا أدري، ليس عندي علم، إذاً الفتوى كلها تتوقف على هذا الأمر، كما قال أحد السلف لسائل من هذا النوع: ليتك إذ دريت دريت أنا، لو أنك أعلمتني بالشيء الناقص، لأعلمتك بالجواب.(192/13)
التطويل في السؤال بدون فائدة
ومن آفات المستفتين، وهذا شيء كثير متكرر: ذكر معلومات لا داعي لها، ولا تؤثر في الفتوى من قريب ولا بعيد، وتجد لذلك الأوراق فيها معلومات كثيرة، أو الدقائق تضيع بالهاتف في معلومات كثيرة لا داعي لها، في أسماء أشخاص، أو أعمار أو أسماء أماكن، أو وقت معين؛ ساعة معينة، ليس لها تعلق، بعض المعلومات لها تعلق بالفتوى، لكن بعض المعلومات ليس لها تعلق، وربما لو فكر قليلاً، لاختصر السؤال، مثل واحد يقول يا شيخ: سافرت إلى أمريكا قبل خمس سنوات للدراسة ومعي أهلي، وذهبنا إلى مكان معين، فيه مسبح، وجلست عند المسبح، وأولادي يسبحون، فجاء واحد بولده سعيد، وقال لي: انتبه لي للولد سعيد وهو يسبح، وأوصاني به، ثم نزل الولد يسبح، والمسبح فيه قسمين قسم عميق وقسم سطحي، وأنا أتكلم مع واحد بجانبي، ثم التهيت عن الولد، فبعد ذلك صاح أحد الناس، قال: هناك غريق، أتينا بالمنقذ الأول، نزل أول مرة وثاني مرة فلم يجده، أتينا بواحد ثانٍ، نزل واستخرج الجثة، واتصلنا بالإسعاف، ووضعوه على جنب، وعملوا له تنفساً صناعياً، واستيقظ بالمرة الأولى، أي: انتفع بها، وأخذوه بسيارة الإسعاف، ثم مات في الطريق،
و
السؤال
يا شيخ ماذا يجب علي الآن؟ هل علي دية أم لا؟ أنا أقول لكم: هذه أشياء واقعية حصلت، يعني يمكن ببساطة يقول: أوصاني رجل أن أنتبه لولده الذي نزل إلى المسبح، فانشغلت عن الولد فغرق الولد ومات.
صفحة طويلة أو ثلاث صفحات يمكن أن تختصرها بسطر أو سطر ونصف، فبعض الناس يعيشون بين وسوسة، أن يقول للشيخ: اسمع قصتي من أولها، وأنه لا بد أن يذكر كل شيء، بعض الناس يقول: الجزئية هذه قد تكون مهمة لا بد أن نقول للشيخ كل شيء بالتفصيل، ولكن هل يوجد فرق عند الشيخ أن اسم الولد سعيد أو عمرو أو زيد؟ هل يوجد فرق في أن حادثة الغرق صارت في أمريكا، أو في الهند مثلاً؟ هناك فرق أن الولد مات فوراً أو مات بعد ساعات؟ لكن كثيراً من السائلين لا يفكرون في المعلومات المهمة في الفتوى، والمعلومات غير الممهة، ثم يريد بعد ذلك من الشيخ أن يتسع صدره لكل التفاصيل، وأنه لا بد أن يستمع للقصة، وإذا الشيخ لم يستمع لكل القصة، وقال: اختصر وعجل وهات النهاية، قال: لماذا المشايخ لا يعطون فرصة للواحد كي يتكلم؟ لماذا يتكبر هؤلاء المشايخ على الخلق؟ وهكذا، ولا يفكر أن هذا الشيخ وراءه أناس كثيرون يريدون أن يسألوا وأنه ليس هو الذي على حسابه تهدر أوقات الشيخ.(192/14)
حجب معلومات مهمة وإخفاؤها عن المفتي
ومن الأشياء المهمة في المقابل: حجب معلومات مهمة، وتلك خيانة في عرض السؤال، مثل أن يسأل عن طلقتين ولا يسأل عن الطلقة الثالثة، فيقول الشيخ: راجعها، إذا حصلت راجعها، وأمر طلقتين من قبل، هذه إذا حصلت الثالثة انتهت القضية، أو يحذف بعض الورثة يقول: يا شيخ مات أبي أو مات أخي، وترك كذا وكذا، ويحذف بعض أسماء الورثة، هذه تفرق كثيراً، ربما كان بعض المذكورين ما لهم شيء أصلاً، وقد تختلف أنصبة الميراث، الآن أنت حجبت عن الشيخ ذكر بعض الورثة، فبعض الورثة الذين ما ذكرتهم تختلف بهم المسألة تماماً، هذه إساءة أدب أن يطرح نصف القضية، بعضهم يطرح نصف القضية، وينتظر الجواب، وبعد ذلك يقول: لكن لا يا شيخ كذا وكذا، خذ مثالاً: واحد يقول: يا شيخ! أحرمنا من الميقات، وذهبنا إلى جدة أنا وزوجتي، وجلسنا يومين بإحرامنا في جدة، ثم ذهبنا إلى مكة وأدينا العمرة، ما حكم العمرة؟ صحيح، كونه جلس يومين في جدة بإحرامه لا يؤثر، فقال الشيخ: العمرة صحيحة، قال: لكن يا شيخ أنا جامعت زوجتي في جدة، انظر الآن المسألة كيف اختلفت، الآن يلزمه إمضاء العمرة الفاسدة ودم، وأن يأتي بعمرة جديدة من الميقات الذي جاء منه، إذاً أنت تعلم أن مركز السؤال هنا في قضية جماع الزوجة، فلماذا أخرته وأهدرت الوقت؟ ولذلك أيها الإخوة، الآن في مسألة المعلومات التي لا داعي لها، وحذف المعلومات المهمة، أقول: إن الحل في كثير من الأحوال في هذه الإشكالات: كتابة السؤال قبل طرحه على الشيخ، كتابة السؤال يعطي السؤال جدية، كتابة السؤال يمكنك من انتقاء التعابير المناسبة، كتابة السؤال يمكنك من مراجعة المعلومات المهمة، وفيه توفير وقت عليك وعلى الشيخ، اقرأ السؤال مرة واحدة قبل أن تقرأه على الشيخ، اقرأه مرة واحدة، بعض الناس يكتب أسئلة ويرفعها للشيخ، لكن ربما لو قرأها مرة أخرى لحذف شيئاً لا داعي له، كلمة غير واضحة مثلاً، اكتب السؤال واقرأ السؤال بعد أن تكتبه، كتابة السؤال توفر أوقاتاً كثيرة، ثم إن السؤال أمانة فكون بعض الناس يحرفون ويغيرون، هذا لايغني من الله شيئاً، كون الشيخ أفتاك على شيء أنت حذفت منه معلومات، تظن أنك الآن قد برئت ذمتك، وخرجت منها، أنت تكذب على نفسك، وتخادع الله، وتخادع نفسك: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142].
ولذلك بعض المفتين الحاذقين الأذكياء، يقول للسائل: إذا كان الواقع كما ذكرت فالجواب كذا، إذا كانت المسألة كما صورتها، فالجواب كذا، إن كان ما تقوله حقاً فالجواب كذا، هذا جيد من المفتي أن يفعل ذلك، لينبه السائل، لأنك إذا حذفت معلومات أو غيرت، أو بدلت السؤال، فهذا لا يغنيك شيئاً، الجواب هذا ما ينطبق على المسألة الحقيقية.(192/15)
الاستعداد النفسي والتهيئة قبل السؤال
ومن الآداب كذلك: الاستعداد النفسي وتهيئة المكان قبل السؤال، أو تهيئة النفس، مثلاً بعض الناس قد يتصل بالهاتف ليسأل الشيخ، ولا يجهز نفسه أو يذهب مثلاً إلى غرفة هادئة، أو يكتب السؤال أمامه، فيتصل فيقال له: مشغول، مشغول، يطلع في المرة العاشرة، يقول له الشيخ: نعم.
السلام عليكم.
وعليكم السلام.
والله يا شيخ نسيت السؤال!! إذاً اكتب السؤال، ثم اطرحه.
فوجئت بردك يا شيخ ونسيت كل الأسئلة، كان عندي مائة سؤال، لكن كلما أتصل يقال: مشغول، وفي الأخير لما وجدتك ضاعت كل الأسئلة.
أو لحظة يا شيخ واحد يدق الباب، يا شيخ الخط الثاني يشتغل، لحظة يا شيخ الولد يلعب بالتلفون، لحظة يا شيخ الزوجة تتكلم، أنت هيئ مكاناً، ثم لو طرأ طارئ لعله يعذرك، لكن لا بد أن تهيء مكاناً وأن تجهز نفسك، تضع ورقة الأسئلة أمامك، بعض الأحيان واحد يتصل على الشيخ، ثم يقول: لحظة يا شيخ أبحث عن ورقة الأسئلة، ضاعت بين الأوراق، فإذاً لا بد من الإعداد والتجهيز، لأن الآن هذا لعالم، سؤال العالم يجب أن يحترم ويوقر، ويحفظ وقته، وتحفظ أنت ماء وجهك أيضاً، ولا تجلب لنفسك الكلام الذي لا داعي له.
كذلك من الأمور القبيحة جداً، وأشرنا إليه ونعيد التأكيد عليها: سعي بعض السائلين من أصحاب النوايا السيئة إلى أن يصادم كلام المفتين بعضهم لبعض، فيقول بعد أن يجيب الشيخ: لكن الشيخ الفلاني قال بخلاف قولك، أو قال غير كذا مثلاً، فهذا قلنا ليس من الأدب، وما تقصد؟ هل تريد أن تحرجه؟ لماذا اتصلت أصلاً؟ ما هو الباعث لك على العمل؟ ومن الأمور التي ينبغي أن يحذر منها كذلك: صياغة السؤال بطريقة تقود الشيخ للإجابة التي يريدها السائل، وعدم التجرد في طرح السؤال، بعض الأحيان تقرأ أسئلة ما بقي إلا أن الشيخ يبصم عليها، أو يضع ختمه فقط، ولذلك لا بد أن يتجرد السائل أثناء الكتابة، ولا يكتب أو لا يتكلم بشيء كأنه يملي على الشيخ الجواب، يقول: يا شيخ ما حكم كذا وكذا وأنت تعلم يا شيخ أن هذا منهي عنه، فما هو الحكم؟ فماذا تقصد إذاً؟ ومن الأمور الحساسة الخطيرة أيضاً: ما يعمد إليه بعض الناس المتخاصمين في مسألة شرعية، فيتخاصمون في المسألة كل واحد يقول هذه حكمها كذا والآخر يقول: حكمها كذا، ثم يتحاكمون إلى شيخ، كل واحد يزين الواقعة حسب ما يوافق القول الذي قال به، يزين الواقعة والحادثة ويكيفها لا بحسب ما حدثت كما هي الأمانة، وإنما بحسب ما قاله هو لصحابه واختلفا عليه، وكثير من الناس يحصل بينهم في مجلس شيء، فيتحدى بضهم بعضاً، ثم يتصلون بالشيخ، فلا بد إذاً من التجرد، ولا يصح أن تجعل كلام الشيخ انتصاراً لنفسك، وإنما تجعل كلام الشيخ لتنتصر للحق، فكثير من الناس يريد من الشيخ أن يوافق قوله، ولو قال الشيخ بخلافه لقال: لكن يا شيخ انظر في المسألة، كأنه يريد أن يوافق الشيخ قوله، حتى لا يرجع إلى الناس بجواب يحرج به، فإذاً ما هو هدفنا؟ البحث عن الحق، وليس إفحام الناس؟ هدفنا أن نبحث عن الحق، لا أن نظهر بمظهر أننا انتصرنا في المعركة والكلام.(192/16)
إشغال المشايخ بالتوافه والغرائب
ومن الأمور التي يحذر منها كذلك في قضية الأسئلة: إشغال المشايخ بالأمور التافهة، مثل أسئلة المسابقات، وهذه كثيرة، وبعد كل رمضان الأسئلة تكثر في المسابقات، أي شيء ينزل في مسابقة المدرسة، مسابقة كلية، مسابقة جامعة، مسابقة هيئة، مسابقة محل تجاري.
يا شيخ! من هو أول شهيد في الإسلام؟! يا شيخ من هي أول سرية خرجت؟! يا شيخ! كم مرة ذكر العسل في القرآن؟! ثم افرض أن السؤال شرعي وإسلامي، سؤال المسابقة موضوع للناس لكي يبحثوا بأنفسهم، وليس لكي يتصل ليمليه الأسئلة صح خطأ، وهذا شيء يفعله ضعفاء النفوس، يفعله أناس لا يقيمون وزناً لأوقات أهل العلم، ولا للمشايخ، ولأنفسهم هم أيضاً، ولذلك قال لي بعض العلماء: أي سؤال أحس أنه سؤال مسابقات لا أجيب عليه، أقول: ابحث أنت، مطلوب منك أن تبحث أنت، ممكن أن نعذر طالباً صغيراً، فسأل سؤالاً، دعه يعتاد سؤال العلماء، أو سؤال المشايخ، أو سؤال طلبة العلم، بل نشجعه ولو كان سؤال مسابقة، لكن واحد كبير، إنسان في جامعة، واحد ناضج بلغ من السن مرحلة لا بأس بها، يأتي يسأل الشيخ سؤال مسابقة.
ومن الأمور المهمة كذلك: عدم السؤال عن الغرائب، وعما لا ينتفع ولا يعمل به، وعن الفرضيات التي لم تحدث، هذا كلام ذكره أهل العلم في كتبهم، وما لم يكن؛ سؤال الفرضيات، قال المروزي رحمه الله: قال أبو عبد الله - الإمام أحمد - سألني رجل مرة عن يأجوج ومأجوج أمسلمون هم؟ فقلت له: أأحكمت العلم حتى تسأل عن ذا؟ وقال أحمد بن القطيعي: دخلت على أبي عبد الله، يعني: الإمام أحمد فقلت: أتوضأ بماء النورة؟ نورة خالطت الماء أتوضأ به؟ فقال: ما أحب ذلك، فقلت أتوضأ بماء الباقلاء؟ قال: ما أحب ذلك، قال: ثم قمت فتعلق بثوبي، وقال: ماذا تقول إذا دخلت المسجد؟ فسكت، فقال: ماذا تقول إذا خرجت من المسجد؟ فسكت، فقال: اذهب فتعلم هذه، قبل أن تسأل عن الوضوء بماء الباقلاء، تعلم دعاء دخول المسجد والخروج من المسجد، وهؤلاء التلاميذ تعلموا وأصبحوا جهابذة، بفضل هذه التربية.
عن ابن عباس قال: (ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله وعليه وسلم، ما سألوا إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، وماكان يسألون إلا عما ينفعهم) فكر قبل السؤال هل هذا السؤال يفيدك أم لا، ينفعك أم لا، سؤال عملي أم افتراضي لا يحصل إلا نادراً جداً؟(192/17)
حكم السؤال عما لم يحدث وعن الأغلوطات
ما حكم السؤال عن الأشياء التي لم تحدث؟ في الحقيقة التوفيق بين النصوص، والمسلك الوسط والله أعلم أن نقول: إن السؤال عن الشيء المتوقع حصوله لك، مثلاً أنت سافرت إلى مكان معين، وفي السفر تتوقع أن تحدث لك أشياء، مثلاً أنت صمت في هذه البلد، ستذهب إلى بلد صاموا بعدنا بيوم أو يومين، ماذا تفعل هناك؟ السؤال عن هذا الموضوع سؤال جيد، لأن هذا الشيء متوقع حصوله، لكن أن تسأل عن شيء نادر جداً ماذا يحدث لو أن واحد في المليون تسأل يمكن أن يحصل لي؟ فتدوخ الشخص وتضيع وقته، وتهدر الكلام والوقت في فرضيات لا تحصل إلا نادر جداً، فإذاً السؤال عما لم يحدث ينقسم إلى قسمين: الأول: إذا كان متوقعاً حصوله، فالسؤال جيد، وإذا كان غير متوقع حصوله، فالسؤال مذموم، ويدخل في حديث النبي صلى الله وعليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ويدخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كره لكم القيل والقال وكثرة السؤال) وأنه كره النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، وهكذا.
ومن الأمور كذلك: عدم السؤال عن الأغلوطات، وسوء القصد في الأسئلة، وكذلك السؤال عما لا ينبغي السؤال فيه، خذ مثالاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة، قال: عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها- صاحبها- فأدها إليه، فقال: يا رسول الله: فضالة الغنم؟ قال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب، قال: يا رسول الله: فضالة الأبل؟ قال فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه، وفي رواية: أحمر وجهه، ثم قال: مالك ولها؟! معها حذاؤها وسقاؤها حتى يلقاها ربها).
مالك ولها؟ هناك أحد يسأل عن ضالة الإبل التي تستطيع أن تدافع عن نفسها، وتصبر على مر الوقت، وعلى العطش وعلى الجوع حتى يلقاها ربها، فإذاً هذا السؤال لا داعي له، لذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال مالك؟ قال رجل للشعبي: إني خبأت لك مسائل، فقال الشعبي رحمه الله: أخبئها لإبليس، حتى تلقاه فتسأله عنها.
وعند البخاري عن يوسف بن ماهر أن رجلاً عراقياً قال لـ عائشة: أي الكفن خير؟ قالت: ويحك وما يضرك.(192/18)
عدم إملال الشيخ بكثرة الأسئلة
ومن الآداب المهمة أيضاً: عدم إملال الشيخ بكثرة الأسئلة، عن رواد قال: سألت مالكاً عن أربعة أحاديث، فلما سألته عن الخامس، قال: يا هذا ماهذا بإنصاف؟ وكان إسماعيل بن أبي خالد من أحسن الناس خلقاً، فلم يزالوا به حتى ساء خلقه، أي يكون الشيخ مثلاً هادئ الطبع، حسن الخلق، واسع الصدر، فمن كثرة ما يشغله الناس ويضيقون عليه، ويزيدون ويشددون، ويكثرون في الأسئلة، يتغير خلقه فعلاً من الوقت، يتغير خلقه، كان أبو معاوية -ذكره أهل العلم في كتبهم، ونقوله لتوضيح القضية- كان أبو معاوية يحدثنا يوماً بحديث الأعمش عن زر رضي الله عنه، وكان ثم أهل الباتوجة، وأهل الباتوجة الظاهر أنهم ناس لا يعلقون جيداً، فجعلوا يردون: عن الأعمش عن مَن؟ يقول: عن زر، من هو؟ زر؟ قال: عن إبليس، فلما رآهم لا يفهمون، قال: إن إبليس من الضجر.
وجاء رجل إلى يحيى بن سعيد يسأله أحاديث وطول عليه، فقال له يحيى في النهاية: ما أراك إلا خيراً مني ولكنك ثقيل، أنت حريص لكنك ثقيل دم، أنت ثقيل.
وحضرت ذات مرة مجلس عالم كبير من العلماء، فسأله رجل فأضجر الشيخ، الشيخ يقول: تعال لي غداً، يقول: أنا مستعجل وأنا مسافر، قال: تعال غداً، فقال: أنا لا أستطيع، قال: تعال بعد شهر، تعال بعد شهرين، فزاد الرجل، فقال الشيخ: تعال بعد يوم القيامة، تعرف يوم القيامة تعال بعد يوم القيامة، فإذاً الناس إذا لم يراعوا العلماء والمشايخ، هذا من هنا وهذا من هنا، وهذا في الهاتف، وهذا الشخص، وهذا جاء، النفس لها حدود، ولها قدرة في التحمل، والواحد منا نحن السائلين يأتي ليسأل بكامل عافية، يأتي شبعان نوم وأكل وراحة، وجاء للشيخ مجهزاً نفسه، والشيخ عنده أسئلة وناس وأوراق، ويأتي ليبرز الآن ماعنده من أشياء، فينبغي أن تراعي أن هذا الشيخ كثر عليه الناس، أن هذا الشيخ حاله يحتاج إلى شفقة، ما وجدت المكان ولا الزمن المناسب، اذهب يا أخي، عد مرة أخرى، اكتف بسؤال واحد، أجل الباقي.(192/19)
بعض آفات السائلين
وكذلك من آفات بعض السائلين: أنهم يحفظون أطرافاً من المسائل، ونتفاً من الأحاديث مثلاً تعلق في أذهانهم، ثم يأتون يسألون العلماء أو المشايخ، يقول: ما معنى حديث كذا؟ يأتي بالحديث غلط، ويأتي بجزء من الحديث، ما حفظ إلا كلمتين، أو مسألة سمعها في مجلس ما عقل منها إلا كلمتين، يأتي للشيخ ويقول: ما كذا، جاء ابن عجلان إلى زيد بن أسلم، فسأله عن شيء فخلط عليه الكلام، فقال زيد: اذهب فتعلم كيف تسأل، ثم تعال فسل.
وقال ابن عيينة: ضمني أبي إلى معمر، وكان معمر رحمه الله يجيء إلى الزهري يسمع منه، فأمسك له دابته، كان في مقتبل العمر صغيراً، أبوه وضعه مع معمر، حتى يتعلم من معمر، ومعمر يذهب إلى شيخه، وهو الزهري فيسأله؟ إذا ذهب معمر إلى الزهري، أمسك ابن عيينة بدابة معمر، كان ابن عيينة صغيراً، قال: فجئت يوماً فدخل معمر على الزهري وأنا ماسك دابة معمر في الخارج، فقلت لإنسان: أمسك الدابة، فدخلت وإذا مشيخة قريش حوله -حول الزهري - فقلت له: يا أبا بكر كيف حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (بئس الطعام طعام الأغنياء) قال فصاحوا بي- الناس- فقال هو: تعال، ليس هكذا عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليه الأغنياء ويترك الفقراء، ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله) فإذاً الواحد لا يحفظ كلمتين من حديث، أو طرف مسألة، ويأتي إلى الشيخ يجادله بها.
وبعض السائلين عندهم آفة استعراض العضلات عند العلماء، يبحث مسألة ويقرأ فيها ويطلع، ثم يتصل بشيخه، ما استغلق عليه شيء ليسأل عنه، ولا يوجد شيء غريب يسأل عنه، ولا يريد أن يسأل عن الراجح بين قولين، لا، وإنما ليذكر للشيخ تفاصيل البحث الذي عمله، ويقول: يا شيخ ما حكم كذا؟ الشيخ الآن ما يتذكر كل التفاصيل، كمن بحث الآن، الذي قرأ الآن في الكتب ليس مثله مثل الشيخ الذي هو بعيد عهد بالمسألة، فيقول: يا شيخ! ما حكم كذا؟ فيقول الجواب الفلاني، يقول: لكن الكلام الفلاني قال في كتاب الفلاني كذا، ولكن هذه دليلها كذا، ولكن فأنت لماذا تسأل؟ نعود دائماً نكرر على الناس نقول لماذا تسأل؟ استعراض عضلات (من تعلم العلم ليجاري به العلماء، ويماري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه، كبه الله في النار).
وبعضهم يأتي بسؤال يلف به على المشايخ، لمجرد أن يقول في المجالس: سألت الشيخ فلان قال كذا، سألت الشيخ فلان فقال كذا، يفتخر بأنه جمع أقوال المشايخ، أين الإخلاص يا أيها السائل؟ أين الإخلاص يا طالب العلم؟ ولذلك المقصود من السؤال حقيقة هو الاسترشاد وطلب الفائدة، وليس استكشاف المسئول، وحب الاستطلاع، وإحراج المشايخ بالأسئلة، وفرد العضلات.
وأعطيكم مثالاً للسؤال عن أشياء غير مناسبة، وفيها شيء من الإزراء، هذا يقول سؤال: سمعت أنك أخذت عمرة، فهل أنت حلقت أوقصرت نرجو منك أن تكشف غطاء رأسك لنا، لنراه؟ ما معنى هذا؟ ما هي فائدته؟ أنت تعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أنه دعى للمحلقين ثلاثاً ودعى للمقصرين واحدة، أنت تعلم الحكم الشرعي، فتأتي تسأل وتقول: اكشف لنا شعرك نراه أمام الناس، أو كذلك أن يُسأل الشيخ في قضية ما له علاقة بها أبداً.
وهذه أسئلة وردت في محاضرة شرعية،
السؤال
ما هو القولون العصبي؟ وما أسبابه؟ وما هو العلاج اللازم له؟ وهل يمكن الشفاء منه؟ سؤال آخر: امرأة أخذت بالغلط دم مصاب بفيروس الكبد الوبائي وهي امرأة متزوجة، هل هذا يؤثر على الأطفال الذين تنجبهم فيما بعد؟ سؤال آخر: لو أخذت المرأة إبرة من الحصبة الألمانية، وبعدها اكتشفت أنها حامل في الشهر الثالث ماذا الذي يتوقع من خطورته؟ سؤال: حدث لي التهاب اللوزتين فوصف لي الطبيب دواء معيناً، وقال عندي بؤرة صديدية، وبلغ ثم داومت يومين على الدواء وبعد ذلك انقطعت عنه، وأحسست بالشفاء مع العلم أن هذا مضاد حيوي، هل يؤثر هذا على القلب أم لا؟ فإذاً كونك تسأل شيخاً عن سؤال طبي، أو هندسي أو فلكي، ليس له فيه اطلاع، هذا أيضاً من إساءة الأدب.(192/20)
ملاحظات حول الاستفتاء بالهاتف
ونأتي الآن إلى الفقرة قبل الأخيرة.
استخدام الهاتف في السؤال، لاشك أن الهاتف أيها الإخوة من نعم الله سبحانه وتعالى، والسؤال بالهاتف أمر قيضه الله سبحانه وتعالى لنا، لكي نستفيد منه، ومن أعظم ما يستخدم به الهاتف، إن لم يكن هو أعظم الأشياء على الإطلاق، لقد كان الناس يرحلون مسافات طويلة، ويسافرون ويتغربون، ويتركون الأوطان والأهل والأولاد من أجل مسألة أو حديث وجمع العلم، وأنت بإمكانك الآن استخدام الهاتف الذي يقرب لك المسافات، والذي يكون لك بمثابة الاستئذان على بيت الشيخ أو العالم لتسأله، وينبغي أن نراعي في قضية استخدام الهاتف أو السؤال أموراً منها: أولاً: عدم الاتصال في الأوقات المزعجة، بعض العلماء أو المشايخ قد يفصل الهاتف، وتنتهي القضية، وإذا جاء وقت الأسئلة وضعه، لكن بعضهم قد لا يفعل ذلك، ليس عنده إلا هاتف واحد، يبقيه للأشياء الطارئة والمستعجلة، فيأتي واحد الساعة واحدة ليلاً أو الثانية ليلاً يتصل ويقول: عندي شيء أقلقني وما عرفت كيف أنام ولا بد أن أسأل، طيب هل من البر بأهل العلم أن تفعل ذلك؟ ثانياً: نوم المشايخ، لماذا لا يردون على الهاتف؟ ولا يفكر السائل في ظروف الشيخ، وأحواله، وأهله، وقراءته، وراحته، وأكله وشربه، وملاعبة أولاده، ولا يفكر فيمن يسأل من الناس بعده، وإنما يقول: كل واحد يفترض نفسه صاحب الحق، وأن الشيخ مخطئ إذا لم يرد عليه.
ومن الأمور كذلك التي ننتبه لها في السؤال بالهاتف: الاستغراق بالسؤال عن الأحوال، والحلال والعيال ونحو ذلك، أما السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ولا بد من السلام، والاستفتاح بشيء حسن قصير من دعاء مثلاً أن تقول بارك الله في علمك، نفع الله بك يا شيخ، ما حكم كذا؟ أحسن الله عملك يا شيخ، ما حكم كذا؟ لا مؤاخذة يا شيخ على هذا الاتصال، ماحكم كذا؟ هذا شيء بسيط لا يأخذ وقتاً، لكن لو أن كل سائل يريد أن يسأل الشيخ عن حاله، وصحته وأولاده وبيته وحلاله، لو أن كل واحد يأخذ ولو نصف دقيقة، فلو كان يتصل على الشيخ مائة رجل في اليوم، فكم يكون ضاع من وقته، وكم من سؤال أهدر لأناس يتصلون من مسافات بعيدة على العلماء ليفتوهم.
وأقول لكم: بعض الأشياء التي استفدتها بنفسي سؤال أهل العلم، وعلى رأسهم سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز نفع الله بعلمه وزاده أجراً، وأحسن عمله، ورفعه في الدارين آمين، وجدت أن من الأشياء المفيدة: اختيار الوقت المناسب، وهو أول وقت الاتصال بالشيخ، فإذا كان الشيخ مثلاً يجلس بعد المغرب مثلاً بنصف ساعة إلى العشاء، فالحرص على الاتصال في أول الوقت، عندما يكون ذهن الشيخ صافياً ولا يكون قد اتصل به أناس كثيرون، لا بد تراعي أن الناس اتصلو قبلك، فعندما تكون من أوائل المتصلين، يكون الشيخ قد جاء من راحة، فيكون أفرغ لك وأحسن، وهذه مسألة تحتاج إلى دقة وضبط في وقت الاتصال.
ومسألة التلطف والاختصار كما قلت لكم في مسألة إلقاء السلام، ودعاء قصير جداً، ثم يتبعه بسؤال واضح، وأنا أحرص أن أكتب عندي الأسئلة في دفتر، كل الأسئلة التي أسأل عنها في المسجد وليس عندي علم بها أكتبها في دفتر أولاً بأول، فإذا جاء وقت الاتصال وضعت الدفتر أمامي ثم بدأت في الأسئلة، وأعرف أن الشيخ مثلاً يعاملني بثلاثة أسئلة كل مرة، فلا أزيد على ذلك، فلا أزيد على هذه الثلاثة، وكذلك لا بد من مراعاة نفسية الشيخ، فأنت تسمع وتنتظر أحياناً يرد عليك، تسمع نقاشاً حاداً في قضية شخص ملح، أناس ما عندهم أدب مثلاً، فلو أنك استعملت كلمة واحدة في التخفيف عن الشيخ قبل سؤاله فيكون أمراً حسناً.
ثم أيها الإخوة: الصبر على الشيء، أحياناً الواحد يتصل ربما ثلث ساعة ربما نصف ساعة لكي تلتقط الخط، ثم لا تلقط الخط إلا أذان العشاء عند الشيخ، فقد يقول لك الشيخ مثلاً: وقت الأسئلة انتهى اتصل غداً، طبعاً الإنسان قد يتبرم ويضيق، أنا الآن متصل أنا جالس على الهاتف ثلث ساعة أتصل، وربما تجلس على الخط عشر دقائق وتتكلم من منطقة خارجية، ثم إلى أن يفرغ من مناقشاته، ثم يقول لك: أذن العشاء اتصل غداً، فينبغي الصبر والفسحة في الصدر، وبعض السلف قالوا له: فلان -هذا العالم- صعب، كيف استطعت أن تدخل عليه؟ قال: إني تملقته حتى دخلت عليه، وصار يرحب بي، ويسمع كلامي، وتعلمت كذلك ألا أقول للشيخ يوجد سؤال طويل اسمح لي آخذ من وقتك عشر دقائق، هذه مقدمات قاتلة بالنسبة للشيخ، فاختصر السؤال واعرضه.
ثم أيها الإخوة هناك مشايخ مشغولون، تسألهم سؤالاً محدداً، الجواب نعم أو لا، وهناك مشايخ أفرغ، تسألهم عن الدليل، وهناك مشايخ أفرغ تسألهم عن إشكالات الدليل، مثلاً قد يكون الشخص المتفرغ ليس عالماً كبيراً جداً، لكنه طالب علم متمكن، فيفيدك في الأدلة، وخلاف العلماء، وفي الراجح، وأن تراعي أيضاً ولا تكون أنانياً، تراعي أن هناك أناساً ينتظرون دورهم في السؤال، لا تنزل السماعة إلا وهناك أناس كثيرون يتصلون، وقد تكون عندهم قضايا أهم من القضايا التي تعرضها أنت، والقضية أن إحساس بعض الناس بمشكلته أكبر من إحساسه بوقت غيره.(192/21)
ملاحظات حول أسئلة النساء بالهاتف
أنتقل إلى النقطة الأخيرة وهي: أسئلة النساء، المرأة تجد متنفساً لها بالهاتف، ولا تستطيع أن تسافر لتسأل أو تذهب بنفسها إلى المسجد لتسأل الشيخ، فيكون هذا الهاتف رحمة لها أن تستعمله، ولكن نلفت أنظار النساء في اسخدام الهاتف إلى ما يلي: أولاً: السؤال بقدر الحاجة، وربما لو سأل عنها رجل لكان أفضل في بعض الأحيان، وأحياناً تحتاج أن تشرح مشكلتها بنفسها، فلا بأس أن تشرح.
ثانياً: لا داعي للمقدمات، هي تسأل الآن رجلاً أجنبياً كيف حالك! وعساك بخير! كيف الأولاد؟ وكيف الصحة؟ هذا ليس مجال أن تسأل امرأة رجلاً أجنبياً.
ثالثاً: عدم الإطالة والإعادة التي لا داعي لها، كما يكثر في أسئلة النساء.
رابعاً: عدم الخضوع في القول، وعدم التكسر، وعدم الميوعة في الكلام، وقد تكون بعض النساء تعودت على هذا، ما يصلح أن تخاطب شيخاً وما زال رجلاً أجنبياً، وقال الله عز وجل: {وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] ولا يصلح أبداً أن تأتي امرأة وتقول لشيخ أو لطالب علم حتى من الشباب: إني أحبك في الله، هذه من مفاتيح الشيطان ومن أبواب إبليس.
وكذلك أخيراً: عدم التبسط وإزالة الكلفة مع الشيخ، يعني: تتكلم وكأنها تكلم زوجها، أو تكلم أخاها، أو تلكم أباها مثلاً، فتتبسط وترفع الكلفة، ويقل الأدب، فهذه بعض النصائح.(192/22)
بعض الأسئلة الطريفة
وختاماً أقول لكم: بعض الأسئلة الطريفة التي تدل على أشياء مما حصل ووصل، بعض الناس يتصل وهو خائف أن يسمع جواباً معيناً، هذا رجل اتصل، قال: أسألك سؤالاً: أنا -يسأل وهو خائف من الجواب- أتيت زوجتي في نهار رمضان وما أنزلت لكني وطئت، ولكن ما الحكم؟
الجواب
مادام أنك أولجت فعليك صيام شهرين، قال: يا نهار أبيض! وأغلق السماعة، بعض الناس كأنه خائف من الجواب، وربما ظن أنه إذا أغلق السماعة كأنه ما سمع، كأنها ألغيت أو محيت، وامرأة تقول: مثلاً عندي أساور المسألة فيها زكاة؟ الجواب: نعم فيها زكاة، حسب حديث أبي داود في المرأة التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قالت: ما عندي نقود.
تبيعين واحدة منها، وتخرجين الزكاة.
قالت: آسفة كله زينة.
وأحياناً يأتيك سؤال لا تعرف كيف وصل عقله إلى هذا الحد، يقول رجل: أنا اعتمرت لنفسي فحلقت شعري، ثم خرجت للتنعيم، ثم أحرمت واعتمرت لأبي، فما وجدت شيئاً أحلقه، فنتفت من لحيتي، فهل هذه فكرة وجيهة؟ اسأل عندك في الحرم قد تجد ناساً من أهل العلم.
ويقول آخر: وضعت الساعة لأتسحر ووضعتها خطأ، أخرتها ساعة، وقمت على الساعة مسرعاً في البيت وجهزت طعاماً من الثلاجة، وضعته على الطاولة ووضعت الساعة أمامي وجلست آكل آكل، ولم يؤذن، ثم قلت: لماذا المؤذنون كلهم نائمون اليوم؟ يقول: قمت وفي فمي لقمة، فتحت الستارة وإذا بالنور ظهر لي، نور النهار، فتورطت باللقمة التي في فمي، ماذا أفعل؟ فأخذت كوباً من الماء وبلعتها.
لو سامحناه في موضوع اللقمة هذه التي في فيه، إذاً كوب الماء الذي أخذه.
أو بعضهم يسأل بأسلوب يقول: توضأت بدون أن أغسل أحد الأعضاء وصليت، ثم وسوس لي الشيطان أن صلاتي غير صحيحة، كيف هذا؟ عدم غسل أحد الأعضاء يعني أن الوضوء باطل، كيف وسوس لك الشيطان أن صلاتك غير صحيحة، لا هذا ليس من الشيطان، هذا من الملك الذي دفعك للتفكير بهذا.
ومن أشد ما يؤلم أحياناً أن إنساناً يسألك عن مسألة، وهناك من هو أعلم منك يستطيع أن يسأله، بل خذوا هذه القصة، الآن مثلاً أنا أحاول أن أجيب على الأسئلة، وأحسن أحوالي أن أنقل فتاوى العلماء، لا أملك قدرة على الفتوى، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، أحسن أحوالي أن أنقل فتوى عالم أعرفه في المسألة إلى شخص، يأتيك أحد يسأل: السلام عليكم، أنا أكلمك من الرياض، ما حكم كذا وكذا؟ تقول: الحكم كذا، لكن يا أخي لماذا لا تسأل الشيخ عبد العزيز، يقول: أنا سألته لكن أحببت أن أتأكد.
سبحان الله! فعلاً الناس لا يعرفون قدر العلماء، تتأكد من الأدنى على الأعلى! وممن لا يقارن! تتأكد عن فتوى العالم، هذا شيء مذهل أن الناس لا يعرفون قدر علمائهم.
وختاماً أسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم التوفيق والسداد والإخلاص في القول والعمل، وحسن التعلم وحسن السؤال، إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد.(192/23)
كيف نجدد الإيمان في قلوبنا؟
الإيمان! كلمة عظيمة لا يعلم معناها إلا من ذاق حلاوتها، ولا يذوق حلاوتها إلا من عاش في كنف طاعة الله عز وجل.
وقد جعل الله من أسباب تجديد الإيمان وتقويته الأعمال الصالحة، ومن أسباب ضعفه السيئات وكثرتها.(193/1)
الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فقد تكلمنا أيها الإخوة! في الدرس الماضي عن مظاهر أو أعراض ضعف الإيمان وأسبابها، ووعدنا أن نتكلم في هذا الدرس عن علاج ضعف الإيمان، ونحن إن شاء الله نشرع في الكلام عن هذا الموضوع في هذا الدرس بعنوان" كيف نجدد الإيمان في قلوبنا؟ " يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب) أي: إن الإيمان يبلى في القلب مثلما يبلى الثوب إذا اهترى وأصبح قديماً.
أيها الإخوة: قد تعتري هذا القلب في بعض الأحيان سحابات من سحب المعصية، ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في هذه الحالة: (ما من القلوب قلبٌ إلا وله سحابةٌ كسحابة القمر، بينما القمر يضيء إذ علته سحابةٌ، فأظلم إذ تجلت) حديث حسن في صحيح الجامع.
أحياناً تأتي سحابة فتغطي ضوء القمر برهة من الزمن، ثم تزول السحابة وتنقشع، فيرجع ضوء القمر مرة أخرى؛ ليضيء في السماء، وكذلك قلب المؤمن تعتريه أحياناً سحبٌ مظلمةٌ من المعصية فتحجب نوره، فيبقى الإنسان في ظلمة، فإذا جدد الإيمان، واستعان بالله عز وجل، انقشعت تلك السحب، وعاد نور قلبه يُضيء كما كان.
والإنسان إيمانه في ارتفاع وهبوط، كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة، فالإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والواحد منا الآن في أحواله العادية إذا خرج يمشي في السوق ويُبصر زينة الدنيا، ثم دخل إلى المقابر، فتفكر ورق قلبه، فإنه يُحس بين الحالتين فرقاً بيناً، فإن القلب يتغير بسرعة.
والكلام في قضية ضعف الإيمان وفي علاج ضعف الإيمان وهو من شقين: الشق الأول: الكلام في علاج ضعف الإيمان من جهة الفرد المسلم.
الشق الثاني: الكلام في علاج ضعف الإيمان من جهة الوسط الذي يعيش فيه الفرد المسلم، فهناك علاجات فردية وعلاجات جماعية، هناك علاجات تتجه إلى الفرد نفسه، وهناك علاجات تتجه إلى الوسط والمجتمع الذي يعيش فيه الفرد حتى يعالج ضعف الإيمان.
ونحن سنبدأ الكلام إن شاء الله عن القضايا التي تهم الفرد في نفسه، ثم نتبع ذلك بالكلام عن بعض القضايا المنهجية في كيفية علاج ضعف الإيمان من جهة الوسط الذي يعيش فيه المسلم.(193/2)
علاج ضعف الإيمان من جهة الفرد المسلم
من أوائل الأشياء التي تتبادر إلى أذهاننا ونحن نتكلم في علاج ضعف الإيمان: قضية تدبر القرآن العظيم الذي أنزله الله عز وجل تبياناً لكل شيء، ونوراً يهدي به الله سبحانه وتعالى من شاء من عباده، وكان صلى الله عليه وسلم يتدبر كتاب الله ويردده وهو قائمٌ بالليل، حتى إنه مرة من المرات قام يردد آيةً واحدةً من كتاب الله وهو يُصلي حتى أصبح، لم يتعد هذه الآية الواحدة، وهي قول الله عز وجل عن عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118](193/3)
تدبر القرآن
يقول عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه: [لو طهُرت قلوبنا، لما شبعت من كلام الله] لو أن القلوب صافية لما شبعت ولطلبت الزيادة باستمرار من كلام الله.
وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تدبر القرآن مبلغاً عظيماً، روى ابن حبان في صحيحه وغيره بإسناد جيد، قال عطاء: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها، فقال عبيد بن عمير: حدثينا بأعجب شيءٍ رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت، وقالت: (قام ليلة من الليالي -أي: يصلي- فقال: يا عائشة ذريني أتعبد لربي قالت: قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يُصلي، فلم يزل يبكي حتى بَلَّ حِجره، ثم بكى، فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت عليَّ الليلة آيات ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الآيات} [آل عمران:190 - 191]).
يقول ابن القيم رحمه الله في علاج ضعف الإيمان في القلب: إذا أردت أن تجود إيمانك فملاك ذلك أمران: أحدهما: أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة، ثم تُقبل به كله على معاني القرآن واستجلائها وتدبرها، وفهم ما يُراد منه وما نزل لأجله، وأخذ نصيبك من كل آية من آياته، وتنزلها على داء قلبك، فإذا نزلت هذه الآية -العلاج- على داء القلب برئ القلب بإذن الله.
وهناك أيها الإخوة! صور معينة يكون فيها استشعار التأثر عظيماً، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (شيبتني هودٌ وأخواتها قبل المشيب)، وفي رواية: (وأخواتها من المفصَّل) وفي رواية: (هودٌ والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت) هذه السور الخمس: "هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت" شيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المشيب، بما احتوته من حقائق الإيمان والتكاليف العظيمة على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن تدبر أمثلة القرآن.
وكان أحد السلف تدبر مرة في مَثلٍ من أمثلة القرآن فبكى، فسئل: ما يبكيك؟ قال: إن الله عز وجل يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} [العنكبوت:43] أي: هذه الأمثال نضربها في القرآن للناس: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] وأنا ما عقلت المثل، فلست بعالم، فأبكي على ضياع العلم مني.
وحال السلف في التدبر كثير جداً ومبثوث في الكتب.
منها: ذلك الرجل رحمه الله الذي قرأ قول الله عز وجل: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:109] فسجد سجدة التلاوة، ثم قال معاتباً نفسه: هذا السجود، فأين البكاء؟ لأن الآية فيها ماذا؟ {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:109] قال لنفسه: هذا السجود، فأين البكاء؟! يعاتب قسوة قلبه، والكلام في موضوع التدبر طويل، ولكن تدبر القرآن من السبل الأساسية لتقوية ضعف الإيمان.(193/4)
استشعار عظمة الله عز وجل
ثم أيها الإخوة: من السبل كذلك لتقوية ضعف الإيمان: استشعار عظمة الله عز وجل، ومعرفة أسمائه وصفاته، والتدبر فيها، وعقل معانيها، واستشعارها، وتطبيقها في الواقع.
يقول ابن القيم رحمه الله: أن يشهد قلبك الرب تعالى مستوياً على عرشه، متكلماً بأمره ونهيه، بصيراً بحركات العالم علويه وسفليه، وأشخاصه وذواته، سميعاً لأصواتهم، رقيباً على ضمائرهم وأسرارهم، وأمر الممالك تحت تدبيره -كل الممالك أقوى دولة وأضعف دولة- نازلٌ من عنده وصاعدٌ إليه، وأملاكه بين يديه، الملائكة تنفذ أوامره في أقطار الممالك -لا أحد يصده عن تنفيذ أمر الله- موصوفاً بصفات الكمال، منعوتاً بنعوت الجلال، منزهاً عن العيوب والنقائص والمثال، هو كما وصف نفسه في كتابه وفوق ما يصفه به خلقه، حيٌ لا يموت، قيومٌ لا ينام، عليمٌ لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، بصيرٌ يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، سميعٌ يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، تمت كلماته صدقاً وعدلاً.
يسمع ضجيج الأصوات: الآن العباد يضجون بالأصوات في أنحاء الأرض، والله عز وجل يعلم كل واحدٍ منهم ماذا يقول، ولا تشتبك عليه الأمور، ولا تلتبس عليه اختلاف الأصوات، ولا اختلاف اللغات، ولا اختلاف الحاجات التي يدعو بها العباد، هذا يقول: اللهم أعطني ولداً، وهذا يقول: اللهم اشف مريضي، وهذا يقول: اللهم ارزقني وظيفة ومالاً، وهذا يقول: اللهم ارزقني الجنة، وهذا يقول: اللهم ارحم ميتي، فلا تختلط عليه الأشياء، ولا يعجزه علم ما يقول هذا من هذا.
ونحن البشر العجزة لو تكلم ثلاثة مع واحد في نفس الوقت، فقد التمييز، والله عز وجل ملايين الأصوات تصعد إليه، فيسمع كلام كل واحد.
فإذاً أيها الإخوة: إدراك معاني الأسماء والصفات، وماذا يعني كل واحد؟ وكيف نطبق هذه الأسماء ونستفيد منها في الواقع، ماذا نستفيد من اسم الرزاق؟ ماذا نستفيد من اسم الغفور؟ من اسم الرحيم؟ (إن لله تسعةً وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة) أحصاها بأن يعمل بها في الواقع، وأن يحفظها كما قيل، وأن يعلم معناها، يعلم ويحفظ ويطبق.(193/5)
التفكر في عظمة الرب وقدرته
من استشعار عظمة الله أيها الإخوة! هناك مواقف تمر بنا في القرآن إذا فكر فيها الإنسان المسلم، يشعر بأشياء يرتجف لها قلبه، وهو يفكر ويستشعر عظمة الله عز وجل، هذا الاستشعار لعظمة الله أمرٌ مهمٌ.
عندما تتأمل يا أخي قول الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ} [الزمر:67] {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [يونس:61] {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] عندما تتأمل في قصة موسى عليه السلام لما طلب أن يرى ربه: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف:143].
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قرأ هذه الآية وقال هكذا (ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر) ثم قال عليه السلام: (فساخ الجبل) أي: تجلى من الله هذا المقدار فساخ الجبل: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) هذا الاستشعار لعظمة الله يقوي الإيمان، قال ابن القيم رحمه الله: إسناده صحيح على شرط مسلم.(193/6)
ملء الوقت بطاعة الله
ومن الأسباب التي تقوي الإيمان: ملء الوقت بطاعة الله، وهذا أمرٌ عظيمٌ، عندما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟) وأبو بكر يقول: أنا (من عاد منكم اليوم مريضاً؟) وأبو بكر يقول: أنا (من تبع اليوم منكم جنازةً؟) وأبو بكر يقول: أنا.
ماذا تعني لكم هذه القصة؟ تعني: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان وقته مملوءاً بطاعة الله، يعمل في اليوم أعمالاً تأخذ وقتاً كبيراً، ولكنه يسردها سرداً.
وبلغ السلف رحمهم الله في ازديادهم من الأعمال الصالحة وملء الوقت بها درجةً عظيمةً حتى قال بعضهم، عن حماد بن سلمة رحمه الله وهو من العُبّاد من أهل السنة: لو قيل لـ حماد بن سلمة -تفكروا معي في هذه العبارة-: إنك تموت غداً، ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً.
تخيل لو قيل له: أنت غداً ستموت والواحد لو قيل له: أنت غداً ستموت ماذا يفعل؟ يبادر إلى الأعمال بازدياد، هذا يقول: لو قيل لـ حماد بن سلمة: إنك تموت غداً، ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً، ماذا يعني؟ فإذاً أيها الإخوة: ملء الوقت بطاعة الله، والاستمرار بالأعمال الصالحة، هذه القضية الثانية.
لاحظ معي هذه الألفاظ في هذه الأحاديث: (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل) ماذا تعني كلمة لا يزال؟ الاستمرارية: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) الاستمرارية: (تابعوا بين الحج والعمرة) الاستمرارية، وهكذا، فالاستمرار في الأعمال الصالحة يقوي الإيمان جداً، والمداومة عليها، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل).(193/7)
المسارعة إلى الأعمال الصالحة
وكذلك أيها الإخوة! بالإضافة إلى ما سبق المسارعة إلى الأعمال الصالحة والمسابقة إليها، يقول الله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [الحديد:21] ويقول عليه الصلاة والسلام: (التؤدة في كل شيء خيرٌ إلا في عمل الآخرة) أي: كل شيء التأني فيه طيب، أن تتريث فيه وتدرسه وتفكر قبل عمله ألف مرة، إلا في شيء واحد وهو عمل الآخرة ليس فيه تأنٍ، أي: سارع مباشرةً، وسابق إلى هذا العمل، يقول عليه الصلاة السلام: (ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها) المفروض أن الناس يهربون منها، لكنهم نائمون عن الهروب، والجنة المفروض أنهم يطلبونها، لكنهم نائمون عن الطلب.
فقضية الأعمال الصالحة: استدراك ما فات من الطاعات.
أيها الإخوة! مظاهر ضعف الإيمان: عدم التحسر على فوات مواسم الطاعة، أي: هذا من مظاهر ضعف الإيمان، فعندما تمر الطاعة وموسم الطاعة ينقضي، ولا يشعر بالتأسف، ولا بالتحسر، ولا بالندم، فالشيء المقابل هنا هو استدراك ما فات من الطاعات.
مثال: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن حزبه من الليل، أو عن شيء منه، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب له كأنما قرأه من الليل).
وعن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع، أو غيره صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة] حديثان صحيحان.
ولذلك لو فاتت صلاة الوتر أحد الناس، وكان عادة يوتر مثلاً بثلاث ركعات، إذا استيقظ يصلي بعد ارتفاع الشمس، يصليها شفعاً، فيزيد عليها واحدة فتصبح أربعاً، وإذا كان يصلي إحدى عشرة ركعة في الليل عادة، أو كان ينوي أن يصلي في تلك الليلة إحدى عشرة ركعة، ثم نام وما استيقظ إلا الفجر، فإنه يصلي بعد ارتفاع الشمس اثنتي عشرة ركعة.
وبعد كل هذه الطاعات احتقار النفس أمام الواجب في حق الله من هذه الطاعات.
بعد أن تفعل هذا كله تحتقر نفسك، وتحتقر هذه الطاعة، يقول ابن القيم رحمه الله ناقداً بعضهم: وكل ما شهدت حقيقة الربويية وحقيقة العبودية وعرفت الله وعرفت النفس، ويتبين لك أن ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحق، ولو جئت بعمل الثقلين خشيت عاقبته، وإنما يقبله سبحانه وتعالى بكرمه وجوده وتفضله، ويثيبك عليه بكرمه وجوده وتفضله، ولو جئت بعمل الثقلين، ما وفيت نعمة واحدة من نعم الله، فكيف والأعمال قليلة وشحيحة؟!(193/8)
النظر في حسن الخاتمة وسؤئها وتذكر الموت
وكذلك أيها الإخوة: من علاجات ضعف الإيمان: التفكر في حسن الخاتمة وسوء الخاتمة، واستعراض القصص التي تعرفها عن حسن الخاتمة وسوء الخاتمة يجعلك أكثر حماساً في الطاعة، ويجدد الإيمان في القلب، وأحوال الناس التي ذكرت عن حسن الخاتمة وسوء الخاتمة في كتب الأولين كثيرة، ومنها ما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتاب الداء والدواء وفي غيره من الكتب.
يقول ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر: ولقد سمعت بعض من كنت أظن فيه كثرة الخير وهو يقول في ليالي موته: ربي هو ذا يظلمني،-تعالى الله عن قوله- اتهم الله بالظلم وهو على فراش الموت، فيقول ابن الجوزي رحمه الله: فلم أزل منزعجاً مهتماً بتحصيل عُدةٍ ألقى بها ذلك اليوم.
فأثرت في نفس ابن الجوزي هذه العبارة التي انطلقت من هذا الرجل الذي كان يظن به خيراً، وإذا هو يتهم الله بالظلم وهو على فراش الموت.
ومن ضمن العلاجات: نتداول قصص حسن الخاتمة وسوء الخاتمة التي نسمعها عن الناس اليوم، فهناك قصص كثيرة، تجلس في مجلس من المجالس، وتقول يا جماعة: من سمع منكم فلان كيف مات؟ فتأتيك القصص الواقعية! الحقيقة أيها الإخوة: أن تداول هذه القصص من الأشياء التي تجدد الإيمان، لأن الشيطان يقول لأعوانه عند الفراق لحظة صعود الروح عند قبض الروح، يقول: عليكم بهذا الميت، فإن فاتكم، لم تقدروا عليه آخر فرصة! ومن الأمور التي تجدد الإيمان في القلب: تذكر الموت، يقول صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هادم اللذات) حديث صحيح، أي: الموت، ولذلك أمر صلى الله عليه وسلم بزيارة المقابر، فقال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها ترق القلب، وتُدمع العين وتُذكر الآخرة، ولا تقولوا هجرا) ما هي أهداف زيارة المقابر؟ لماذا أمر صلى الله عليه وسلم بزيارة المقابر؟ لأنها ترق القلب.
فإذاً: صلة قضية زيارة المقابر بتجديد الإيمان في القلب صلة وثيقة، فإنها ترق القلب، وتُدمع العين، وتُذكر الآخرة، وقراءة الأحاديث التي فيها وصف سكرات الموت وصعود الروح وعذاب القبر ونعيمه من الأشياء المهمة.
وربطاً بالنقطة الماضية وهي قضية حسن الخاتمة وسوء الخاتمة هذا حادث سيارة حصل قريباً، يقول لي أحد الذين كانوا في السيارة -وقد مات واحد ممن فيها:- كنا في طريق السفر، فاتفقنا على أن نستفيد من الوقت في سفرنا هذا، فكل واحد يأخذ فترة من الزمن خمس وعشر دقائق يحدث الآخرين فيها عن موضوع مفيد، فكان ذلك الشخص الذي توفاه الله في الحادث يتكلم لنا عن عذاب القبر ونعيمه، ثم حصلت الحادثة وتوفي هذا الشخص فيها.
فإذاً: معرفة عذاب القبر ونعيمه من الأمور التي تُساعد في تجديد الإيمان، وقد بلغ الأمر بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يزور مقابر الكفار للاتعاظ، ويجوز لك يا أخي المسلم أن تزور مقابر الكفار للاتعاظ بغرض الاتعاظ، والدليل على ذلك ما ورد في الصحيح (أنه صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله) كانت نفوس الصحابة حية -هذا الفرق بين مجتمعنا والمجتمع الأول- فالتأثر كبير، لقد بكى وأبكى من حوله عند القبر، فقال: (استأذنت ربي بأن أستغفر لها، فلم يؤذن لي) لأنها ماتت على الكفر، ولا محاباة في أمور العقيدة، نوح نبي وولده كافر في النار، إبراهيم نبي وأبوه كافر في النار، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبي وأبوه وأمه وعمه وجده ماتوا على الكفر، قال: (واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تُذكر الموت).
ولذلك أيها الإخوة: من تمام استشعار هذه المواقف: أن يحضر الإنسان مثلاً تكفين الميت والصلاة على الجنازة وحمله على الأعناق، والذهاب به إلى المقبرة، ودفنه ومواراة التراب عليه، حتى تكون الصورة حية في الذهن، هذا غير ما تسمع أنت عن فلان ذُهب به وغُسل وكفن، فعندما تشاهد بنفسك يكون الأمر مختلفاً.
فالمعاونة تختلف عن السماع من بعيد، وكان السلف رحمهم الله يستخدمون التذكير بالموت فعندما يرون رجلاً يرتكب معصية، لكي يجددوا الإيمان الذي نقص في قلبه، فأدى إلى وقوع المعصية.
فهذا أحد السلف رحمه الله في مجلسه رجلٌ من الجالسين ذكر رجلاً آخر بغيبة، فقال رحمه الله مذكراً ذلك الرجل الذي يغتاب، قال له: اذكر القطن إذ وضعوه على عينيك -هو الآن يرى أمامه الرجل يغتاب، ماذا قال له؟ - اذكر القطن إذ وضعوه على عينيك، هذا التذكير وهذه الهزة كفيلة بأن تردع رجلاً عن ارتكاب المعصية، أو الازدياد والاسترسال فيها.(193/9)
تذكر منازل الآخرة
إن تذكر منازل الآخرة من الأمور المعينة على تجديد الإيمان في القلب، يقول ابن القيم رحمه الله: وإذا صحت الفكرة أوجبت له البصيرة، وهي نور القلب يبصر به الوعد والوعيد والجنة والنار، وما أعد الله في هذه لأوليائه، وفي هذه لأعدائه، فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق، وقد نزلت ملائكة السماء، فأحاطت بهم، وقد جاء الله ونصب كرسيه لفصل القضاء، وقد أشرقت الأرض بنوره ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء، وقد نُصب الميزان وتطايرت الصحف واجتمعت الخصوم، وتعلق كل غريم بغريمه، ولاح الحوض وأكوابه عن كثب، وكثر العُطاش وقلّ الوارد -قل الوارد على الحوض والناس عطاش؛ لأنه ليس لأي واحد أن يرد الحوض- ونُصب الجسر للعبور -الصراط على جهنم- ولز الناس فيه، وقُسمت الأنوار دون ظلمته للعبور عليه بحسب أعمالهم -يأتون الأنوار وهم يسيرون على ظلمة الجسر- فالذين عملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم، فيمرون على الجسر المظلم مروراً عظيماً، بخلاف المنافقين الذين يُسلب منهم النور، فيتعثرون ويسقطون في جهنم.
والنار يحطم بعضها بعضاً تحته -تحت هذا الجسر- والمتساقطون فيها أضعاف الناجين، فينفتح في قلبه -عندما يتأمل الإنسان أحوال الآخرة ومنازلها- تنفتح في قلبه عين يرى بها كل هذه الأمور، ويكون في قلبه شاهدٌ من شواهد الآخرة، يريه الآخرة ودوامها والدنيا وسرعة انقضائها.
ولذلك تجد القرآن العظيم فيه اهتمام كبيرٌ بذكر منازل الآخرة؛ لكي يُقبل هذا القلب على الله ويخاف ويرجو الله، فيتجدد الإيمان فيه.
ولذلك كان من الأمور المهمة في هذا الجانب قراءة الكتب التي تتكلم عن الدار الآخرة، وعن الحشر، والحساب، والجنة والنار، وظل الرحمن، والشمس عندما تدنو من الخلائق، والصراط، وبعد دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وما يحدث من ذبح الموت.
والكتب التي تتكلم عن هذه التفاصيل قراءتها مهمة حتى يبقى الإنسان على صلة بهذه الأشياء.(193/10)
العبادة
وهناك العبادات، ومن أهم الأشياء لتجديد الإيمان في القلب قضية العبادة، والعبادات والطاعات كثيرة، والأوامر بإتيان الطاعات والحرص عليها كثيرة، ونقتصر الآن على ذكر بعض هذه الأشياء.
هناك بعض العبادات أيها الإخوة! تحدث أثراً في النفس، أي: فيها نوع من التميز، أو تُحس وأنت تقرأ تلك الآية، أو ذلك الحديث أن فيها معنى لطيفاً وجميلاً يطرق قلبك وأنت تقرأ هذه الأشياء.
مثلاً: انظر معي إلى هذا الحديث: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح -وهذه روايات كلها صحيحة مجتمعة في هذه الرواية الواحدة-: (ما من أحد يتوضأ) تأمل كيف يدفع هذا الإسلام وعظمة هذا الدين المسلم إلى الطاعات، وإلى الصلة بالله بأشياء بسيطة يرتب عليها أجراً عظيماً: (ما من أحد يتوضأ، فيحسن الوضوء، ويصلي ركعتين يُقبل بقلبه ووجهه عليهما لا يسهو فيهما) وفي رواية: (لا يُحدث فيهما نفسه) وفي رواية: (يُحسن فيهن الذكر والخشوع إلا وجبت له الجنة).
وفي رواية: (غُفر له ما تقدم من ذنبه) ماذا فعل؟ (ما من أحد يتوضأ، فيحسن الوضوء، ويصلي ركعتين) نافلة لله: (يُقبل بقلبه ووجهه عليهما لا يسهو فيهما) (لا يحدث فيهما نفسه) (يحسن فيهن الذكر والخشوع إلا وجبت له الجنة).
انظر الآن هذا العمل كيف يجدد الإيمان وهو عمل بسيط، لكن الحقيقة أن الإتيان به كما جاءت الأوصاف أمر لا يقدر عليه إلا من وفقه الله له، ثم نتأمل هذا الحديث الصحيح الآخر، يقول عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يشنؤهم الله -يبغضهم الله-: أما الثلاثة الذين يحبهم الله: الرجل يلقى العدو في فئة فينصب له نحره حتى يُقتل أو يُفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سراهم -يطول السفر- حتى يحبوا أن يمسوا الأرض) -من طول السفر يحبون الآن الراحة- فينزلون، فيتنحى أحدهم، فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم) أي: هؤلاء الناس تعبوا من السفر، فنزلوا منزلاً فناموا، لكن أحدهم ما نام، قام يصلي لله في الليل حتى أوقظهم لرحيلهم، وهذه النماذج عندما يطلع عليها الإنسان، ويفعلها ولو مرة، لا شك أنها تحدث أثراً عظيماً في قلبه.
والاهتمام بالزكوات والصدقات من العبادات، ولها أثر مباشر على القلب: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] تطهر وتزكي قلوبهم.
هناك أشياء بسيطة جداً من المعاملات وهناك قضايا اجتماعية، عندما يتأمل بها الإنسان يُسبح الله تعجباً منها، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث في صحيح الجامع، أو في السلسلة الصحيحة لأحد الصحابة: (أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك: ارحم اليتيم وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك) فالآن تصور أيها الأخ المسلم! أن مسح رأس اليتيم من الأشياء التي تُلين القلب.
الشاهد: أن هناك عبادات، وهناك أشياء جاءت في الشرع تؤثر على القلب مباشرة تأثيراً قوياً يلمحها الإنسان ويتعجب من أثرها، ويتعجب من وصفها الوارد في الكتاب والسنة.(193/11)
التفاعل مع الآيات الكونية
كذلك أيها الإخوة: من الأمور التي تجدد الإيمان: التفاعل مع الآيات الكونية كما يتفاعل القلب مع آيات القرآن، فكيف يكون التفاعل مع الآيات الكونية؟ أعطيكم مثالاً: روى البخاري ومسلم وغيرهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى غيماً، أو ريحاً؛ عُرف ذلك في وجهه) أي: يتفاعل مع الأحداث الكونية، فإذا رأى غيماً أو ريحاً؛ عُرف في وجهه الفزع والخوف، فقالت عائشة: (يا رسول الله! الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه مطر، وأراك إذا رأيته عرفتُ في وجهك الكراهية).
لماذا الناس يستبشرون، وأنت يا رسول الله! تعرف في وجهك الكراهية إذا رأيت الغيم أو المطر؟! فقال: (يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب) وقد عُذب قومٌ بالريح: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} [الحاقة:6 - 7] قال (وقد رأى قومٌ العذاب فقالوا: هذا عارضٌ ممطرنا) قومٌ من الأقوام أرسل الله لهم رسوله، فلما جاءهم العذاب في ظُلة، قالوا: هذا سحاب سيمطر ويمشي، وإذا فيه العذاب الذي نزل على رءوسهم.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم أيها الإخوة! كان يتفاعل مع الآيات الكونية، ومع الأحداث الكونية، الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يرى الكسوف، أو الخسوف، ماذا كان يفعل؟ كان يخرج فزعاً إلى الصلاة؛ لأن هذه من آيات الله التي يخوف الله بها عبادة، فتفاعل القلب مع هذه الأشياء والفزع منها يجدد الإيمان في القلب، ويُذكر القلب بعذاب الله، وبطش الله، وعظمة الله عز وجل، وقوته وقدرته.
ومرتبط بهذه النقطة أيضاً مسألة أخرى: التأثر عند المرور بمواضع العذاب والخسف وقبور الظالمين، فعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما وصل الحِجر) أي: ديار ثمود التي يذهب لها الناس اليوم للسياحة وبِعثات الآثار لالتقاط الصور وعمل التحقيقات، ويقيمون المخيمات هناك مع الأسف الشديد، ماذا كان رسول صلى الله عليه وسلم يفعل؟ اسمع يا أخي! ماذا كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما وصل الحِجر قال: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم) لا تمروا بتلك الديار.
وفي رواية: (لما مرَّ صلى الله عليه وسلم بـ الحِجر، قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين) باكين من ماذا؟ من تذكر نقمة الله وعذاب الله الذي حلَّ بهؤلاء الناس، ثم قنَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، وأسرع السير حتى جاوزا الوادي أن يصيبهم ما أصاب الذين ظلموا.
تأمل يا أخي: الآن قسوة قلوب الناس واستخفافهم، يقولون: ذهبنا نرى وأخذنا صوراً بالكاميرا، وما حصل لنا شيء، والله عز وجل يقول: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] لما أنزل الله الحجارة على قوم لوط، ماذا قال؟ {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] أي: أن يصيبكم ما أصابهم، فقد ينزل بأناس مثل: عذاب أولئك.
والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه سيحدث في هذه الأمة خسف وقذفٌ ونسفٌ ومسخٌ، وتأتي ريحٌ حمراء، ويأتي فيها عذاب.(193/12)
أثر إخلاص القلوب على الأعمال
ثم ننتقل الآن أيها الإخوة! إلى مفرق آخر في هذا الموضوع وهو: أن تجديد الإيمان وليس فقط بعبادات الجوارح، ليس فقط بأعمال الجوارح، أي: الصلاة والزكاة والحج.
يأتي الإنسان يوم القيامة وقد عمل سيئات كثيرة، فيقال له: هل له من عمل صالح؟ فيقال: بلى عندنا، فيخرج له بطاقة مكتوب فيها لا إله إلا الله، وكانت كفة السيئات قد رجحت رجحاناً عظيماً، وهذا لا يتخيل! فتُوضع السيئات في كفة، والبطاقة التي فيها لا إله إلا الله في كفة، فطاشت ورجحت بهن لا إله إلا الله، فيقول ابن القيم رحمه الله: وهنا قضية خطيرة وهي مسألة شبهة المرجئة وهي: أن كل من قال: لا إله إلا الله يغفر له كل سيئاته، لا، فهذا رجل له ميزة خاصة.
يقول ابن القيم رحمه الله: إن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحداً، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض.
نفس العمل، نفس الإمام، نفس الصلاة، نفس الركعات، نفس الأعمال، تجد اثنين في صف واحد في مسجد واحد وجماعة واحدة، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، بأي شيء هذا وأعمال الجوارح واحدة، بأي شيء صار بين صلاتيهما كما بين السماء والأرض؟ بعمل القلب في حال الصلاة، بالخشوع وبالتفكر في آيات الله والتدبر، واستشعار عظمة من يقف بين يديه.
ولذلك يقول: لقد قام في قلب صاحب البطاقة من معاني الإيمان ما لم يقم بقلب كثيرين ممن قالها بلسانه، ونفس الشيء الزانية التي ملأت خفها من بئر وسقت بخفها كلباً فغفر الله لها، ويقول: ولقد قام في قلبها في لحظة أداء العمل من معاني الإيمان، ومن الشفقة على هذا الكلب المسكين واستشعار الثواب من الله، أشياء كثيرة وصفها ابن القيم رحمه الله، قال: قام في قلبها من معاني الإيمان ما لم يقم في قلب كثيرين ممن يسقون الحيوانات.
وأعمال القلوب كثيرة على رأسها: الإخلاص وهو أن يكون الاهتمام بتصحيح العمل أشد من الاهتمام بأداء العمل نفسه، فأداء العمل مهم، لكن الأهم منه تصحيح النية عند أداء العمل.
كذلك أيها الإخوة! اليقظة حالةٌ تحدث للقلب عند تأمل عذاب الله، فيستيقظ القلب، ويتحمس لأعمال الآخرة.
فحيا على جنات عدنٍ فإنها منازلك الأولى وفيها المخيمُ
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلمُ
ومن الأمور كذلك المشتركة بين القلب واللسان: ذكر الله عز وجل {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] والكلام واسع جداً في هذا، وذكر ابن القيم رحمه الله أكثر من مائة فائدة من فوائد الذكر وسردها في عدة مواضع من كتبه منها: كتاب الوابل الصيب من الكلم الطيب، وذكر نقطة لطيفة، يقول -أي: من عظمة الذكر-: أن الناس إذا رأوا رجلاً مصروعاً دخل فيه شيطان وآذاه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] يقول رحمه الله في فوائد الذكر: وبالذكر يصرع العبد الشيطان -العكس- كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان.
قال بعض السلف: إذا تمكن الذكر من القلب، فإن دنا منه الشيطان صرعه كما يُصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين -يجتمعون على الشيطان الذي حاول أن يقترب من قلب الإنسان فصرعه- فيقولون: ما لهذا؟ ماذا حصل له؟ فيقال: قد مسه الإنسي.
الآن ترى أكثر الناس الذين يدخل في قلوبهم الشياطين من أهل الغفلة، ما تحصنوا بالأوراد، ولا الأذكار، ولذلك سهل تلبس الشياطين فيهم، وأكثرهم من الفسقة والعصاة.
وحدثنا أهل المعرفة بهذا الشأن، قال: جاءوا بالمصروع وقرءوا عليه، فقال: الجني هذا كان في بانكوك وفضحه؛ لأن كثيراً منهم من أهل الغفلة، -وهذا قصة حقيقية واقعية- فكثيرٌ منهم من أهل الغفلة، ولذلك تتلبسهم الشياطين.(193/13)
استشعار لذة الانكسار بين يدي الله
ومن الأمور التي تجدد الإيمان أيها الإخوة! استشعار لذة المناجاة والانكسار بين يدي الله عز وجل، فلماذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)؟ لأن حال السجود فيه ذلة ليست في بقية الأحوال، وفيه انكسار وخضوع ليست في بقية الأحوال، ولذلك أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، لما ألصق جبهته بالأرض، وهي أعلى شيء فيه لمن وضعها؟ لله، صار أقرب شيء لله.
يقول ابن القيم رحمه الله في كلام جميل عن لسان حال هذا الذليل والمنكسر التائب بين يدي الله: " فلله ما أحلى قول القائل في هذه الحال: أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي، وبغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيدٌ سواك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضريع، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذل لك قلبه ".
فعندما يعبر العبد بهذه الألفاظ وهو يناجي الله وهو منكسر بين يدي الله، فإن الإيمان يتضاعف في قلبه أضعافاً مضاعفة، وكل هذا التجديد يحدث في لحظات.
ويقول رحمه الله: "قد يكون للعبد حاجة يُباح له سؤاله إياها، فيلح على ربه في طلبها حتى يفتح له من لذيذ مناجاته وسؤاله والذل بين يديه، وتملقه والتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده وتفريغ القلب له، وعدم تعلقه في حاجته بغيره ما لم يحصل له بدون إلحاح".
أحياناً يمرض الولد مرضاً خطيراً، فيقوم الأب يناجي الله عز وجل ويتضرع إليه ويلح في الدعاء، ويحس في لحظة الشدة والضائقة، ولحظات الحرج بأنه قريبٌ من الله جداً، ويشعر بحلاوة في المناجاة، فيفتح الله عليه من ألفاظ الخضوع والانكسار والذلة بين يدي الله أموراً عظيمة.
ولذلك قد يتخيل الشخص أن هذا شر، لكنه في الحقيقة خير: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216].
فأحياناً تنزل بالإنسان مصيبة وضائقة شديدة جداً، تُقفل من جميع الجوانب، لا يجد من يساعده في الأمر، تُقفل في وجهه الأبواب، فإلى من يلتجئ؟ فيتصحح توكله على الله والإنابة إلى الله، واللجوء إلى الله وسؤال الله، كان سابقاً يسأل المخلوقين، ثم ما وجد من ورائهم رجاء، ولا من سعى منهم له بمساعدة في تلك اللحظات الصعبة، وهذا شيء أحياناً يكرهه الإنسان لكنه في الحقيقة أدى إلى اللجوء والقرب من الله عز وجل، فيتجدد الإيمان في النفس.
وكذلك الخوف من عقاب الله في الدنيا والآخرة: هناك عقاب لله في الدنيا، وقد يكون العقاب في الدنيا حسياً، وقد يكون معنوياً، قد يكون حسياً كما قال الله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام:46] عذاب حسي، وقد يكون العذاب معنوياً: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146] صرف الإنسان عن آيات الله عذاب معنوي، وعقوبة معنوية كبيرة جداً أن يُحرم من تدبر آيات الله.(193/14)
الولاء والبراء
الولاء والبراء: موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين من أهم الأمور التي تُجدد الإيمان في القلب، لأن القلب إذا تعلق بأعداء الله يضعف جداً، وتذوي معاني العقيدة في القلب، فإذا جردها وتعلق بالله فعادى أعداء الله ووالى وناصر عباد الله المؤمنين، فإن القلب يحيا بالإيمان أيضاً.(193/15)
الافتقار إلى الله
الافتقار إلى الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] قال شيخ الإسلام رحمه الله:
والفقر لي وصف ذاتٍ لازم أبداً كما الغنى أبداً وصفٌ له ذات
فالفقر الحقيقي هو دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة وفقراً تاماً إلى الله من كل الوجوه.(193/16)
الثقة بالله وحسن الظن به
استشعار الثقة بالله وحُسن الظن بالله عز وجل هذا عمل من أعمال القلوب، أي: أنت يا أخي عندما تتأمل قول الله سبحانه وتعالى لأم موسى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} [القصص:7] الآن إذا خافت الأم على ولدها من الأعداء ماذا تفعل؟ تخبؤه أو ترسله إلى أحد البيوت الآمنة، لكن الله عز وجل يقول: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} [القصص:7] إذا جاء جنود فرعون يأخذونه ليذبحوه، فماذا؟ {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7] كيف؟ فالعقول لا تعقل هذا الأمر.
كيف {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7]؟ لكن الله عز وجل ثبت فؤاد أم موسى، فصارت ثقتها بالله عظيمة، فلما جاء الطلب، ألقته في اليم -في نهر النيل - فسبح به التيار، ثم جرى قضاء الله كما هي حكمته عز وجل وإرادته حتى أغرق الله فرعون بسبب ذلك الوليد الذي جاء الجند يطلبونه.
وهذه ليست الآن سنة كل واحدة تخاف على ولدها تذهب وترميه في البحر، ثم هو يطلع إلى الشاطئ.
لا، لكن المعنى المقصود بهذه الآية الثقة بالله، فالواحد لا يسيء الظن بالله، ولا يفقد الثقة بالله، لا يقول: ليس هناك أمل، وأنا انتهيت، لا.
وإنما يجعل ثقته بالله متجددة.(193/17)
الإحساس بقصر الأمل
قد نعيش غداً، وقد لا نعيش، متى يأتي الموت؟ الله أعلم، وهذا مُهم في تجديد الإيمان، ويقول ابن القيم رحمه الله: ومن أعظم ما فيها هذه الآية: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207] {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس:45] كل الدنيا هذه كساعة للتعارف.
فإذاً: لا يُطيلُ الإنسان الأمل، يقول: سأعيش وسأعيش مهما عاش! وقال بعض السلف لرجل: صلِّ بنا الظهر، فذاك الرجل قال: إن صليت بكم الظهر لم أصلِّ بكم العصر، فقال له: وكأنك تؤمل أن تعيش إلى صلاة العصر، نعوذ بالله من طول الأمل.(193/18)
التفكر في تفاهة الدنيا
وهذه الآن نقاط مقابلة للنقاط التي سبق أن ذكرناها في مظاهر وأسباب ضعف الإيمان: منها التعلق بالدنيا، كيف يرد الإنسان في قلبه على هذا الشيء؟ يتأمل كيف أن الدنيا حقيرة ولا تساوي شيئاً عند الله عندما تسمع معي إلى هذه الأحاديث الصحيحة: (إن الله ضرب الدنيا لمطعم ابن آدم مثلاً، وضرب مطعم ابن آدم مثلاً للدنيا وإن قزحه وملحه، فلينظر إلى ما يصير) حديثٌ حسنٌ.
فالله تعالى جعل ما يخرج من بني آدم مثلاً للدنيا، ومطعم ابن آدم قد ضُرب مثلاً للدنيا وإن قزحه وملحه ثم ينظر إلى ما يصير.
خذ صحناً من اللحم المشوي من ألذ ما يكون، تأمله قبل أن تأكله، كيف شكله؟ جذاب، كيف الرائحة؟ جميلة، فإذا أكلته هُضم وبعد قليل ضاق بك بطنك وذهبت إلى دورة المياه، هذا الصحن اللذيذ كيف يخرج في النهاية؟! انظر الأمثال من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو وحي يوحى، لا تتوقع أن تجد هذه الأمثلة الدقيقة عند ألسنة الحكماء والشعراء بمثل ما تأتي على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله ضرب الدنيا لمطعم ابن آدم مثلاً، وضرب مطعم ابن آدم مثلاً للدنيا وإن قزحه وملحه -وإن حسنه وزينه- فانظر إلى ما يصير) انظر فعلاً إلى نهايته فهذه هي الدنيا، من بعيد تراها جميلة، ولكن ما هو آخر الدنيا؟ هناك أشياء تقوم بالقلوب مهمة في تجديد الإيمان مثل: الاستقامة، والتوكل على الله والرضا بالله وبقضائه وشكر الله عز وجل والصدق مع الله سبحانه وتعالى اليقين بالله سبحانه وتعالى السكينة محبة الله الطمأنينة البصيرة التوبة الإنابة التذكر الاعتصام بالكتاب والسنة الإشفاق الخشوع الزهد الورع الرجاء المراقبة المحاسبة.
ومن أعظم من تكلم عن هذه الأشياء أيها الإخوة! ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب مدارج السالكين، لو جرد كلامه من دفاعه عن صاحب الكتاب، وبعض الألفاظ التي أتى بها صاحب الكتاب الأصلي، يكون لك معيناً على استحضار نقاط كثيرة يتجدد بها الإيمان.(193/19)
المحاسبة للنفس والتواضع لله
المحاسبة مهمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] قال عمر بن الخطاب: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا] لا بد أن يكون للمسلم وقت يصفو فيه ويرجع ويئوب ويحاسب نفسه.
التواضع مهم في تجديد الإيمان، كيف؟ التواضع أيها الإخوة! في المظهر دالٌ على تواضع القلب لله، وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه لا يعرف من بين عبيده.
ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (البذاذة من الإيمان) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه) واحد يستطيع أن يلبس من أجمل الثياب، لكن تركها تواضعاً لله وهو يقدر عليه: (دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها) حديث حسن.(193/20)
تجنب الأمور التي تهدم القلب
وقد ذكرنا في المرة الماضية أموراً تهدم القلب: كثرة الأكل والشرب والنوم والخلطة، فمن أكل كثيراً، شرب كثيراً، فنام كثيراً، فخسر كثيراً، وفي الحديث المشهور: (ما ملأ ابن آدم وعاءً شرٌ من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه) ويحكى في أثر، وللفائدة فإننا لا نعرف صحة الأثر من الإسرائيليات، لكن فيه معنى لطيف: يُحكى أن إبليس لعنه الله عرض ليحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام، فقال له يحيى: هل نلت مني شيئاً قط؟ أي: استطعت أن تحوز على شيء مني؟ قال: لا.
إلا أنه قدم إليك الطعام ليلة فشهيته إليك حتى شبعت منه، فنمت عن وردك، فقال يحيى: لله عليَّ ألا أشبع من طعام قط -أي: ما أزال جائعاً للطعام، حتى لا تمتلئ المعدة- فقال إبليس: وأنا لله عليَّ ألا أنصح آدمياً أبداً.
والنوم الكثير أيضاً، ولذلك لا بد من ضبط القضية وعلاج هذه المسألة، فيقول ابن القيم رحمه الله: نوم أول الليل أحمد وأنفع من آخره، ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه، ومن المكروه عندهم النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، فإنه وقت غنيمة.
والآن كل الناس تقريباً، أو أكثرهم ينامون بعد الفجر إلى طلوع الشمس، ومن النوم الذي لا ينفع النوم أول الليل عُقيب غروب الشمس، أي: بين المغرب والعشاء النوم مكروه كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح.(193/21)
تعظيم حرمات الله
ومن الأمور كذلك المجددة للإيمان في القلب: تعظيم حرمات الله، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
وعكس هذه المسألة التهاون في حرمات الله، فلا بد من تعظيم حرمات الله، فهي حقوق الله، قد تكون أشخاصاً أو أمكنة أو أزمنة.
ومن تعظيم حرمات الله في الأشخاص حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم، والأمكنة مثل: جبل عرفات، والحرم، والأزمنة مثل: شهر رمضان، والثلث الأخير من الليل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30].(193/22)
عدم تحقير الذنوب
يقول عليه الصلاة والسلام: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، كرجل كان بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل يأتي بالعود، والرجل يأتي بالعود، والرجل يأتي بالعود حتى جمعوا من ذلك سواداً وأججوا ناراً، فأنضجوا ما فيها) حديث حسن، كذلك لو أن أحد الناس استهان بالذنوب، ذنب صغير على ذنب صغير على ذنب صغير.
لا تحقرن صغيرةً إن الجبال من الحصى
يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: " كثيرٌ من الناس يتسامحون في أمورٍ يظنونها هينة وهي تقدح في الأصول" يقول: "مثل إطلاق البصر في المحرمات" نظرة بعد نظرة حتى صار القلب فاسداً من كثرة النظر، "وكاستعارة بعض طلاب العلم جزءاً لا يردونه" يستعير كتاباً ولا يرده وهذا كثيرٌ من الناس واقعون فيه، وأين هذا من باب: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]؟ وإذا وعدت بأن ترجع الكتاب، لماذا لم ترجع الكتاب؟ وقال بعض السلف: " تسامحت بلقمة فتناولتها، فأنا اليوم من أربعين سنة إلى خلف" أي: من تواضعه يقول: مرة أكلت لقمة وأنا شاك فيها أحلال أم حرام من أربعين سنة، وأنا أشعر أنني إلى خلف من وراء تلك اللقمة.
واجتناب محقرات الذنوب، ومحاولة اجتناب الذنوب كلها.
ولـ ابن تيمية رحمه الله استشهاد لطيف، يقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة) يقول: إذا كانت الملائكة المخلوقون يمنعها الكلب والصورة عن دخول البيت، فكيف تلج معرفة الله عز وجل ومحبته وحلاوة ذكره والأنس بقربه في قلب ممتلئ بكلاب الشهوات وصورها؟(193/23)
علاج ضعف الإيمان من منظور الوسط الذي يعيشه الإنسان
نأتي الآن أيها الإخوة! إلى علاج ضعف الإيمان من منظور الوسط الذي يعيش فيه الإنسان، أو الحركة الإسلامية التي يعيش فيها المسلم.(193/24)
لا بد أن تكون الحركة على منهج النبوة
لا بد أن تكون حركة متكاملة تحقق فيها جميع جوانب التربية، فمن الخطأ أن يحصل الاهتمام فقط بالعقيدة مثلاً، أو بالأخلاق فقط، أو بالتخطيط والدعوة إلى الله، أو الاهتمام بالواقع، وجمع المعلومات عنه، أو الفقه وأحكامه، أو الحديث وعلومه، أو بالأشياء القلبية فقط، وإنما يجب أن يُجمع بين جميع تلك الأمور في تربية الفرد، لأن منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم في التربية كان منهاجاً متكاملاً، ما كان يهتم فقط بأمور الأسماء والصفات، والأشياء المتعلقة بتفاصيل العقيدة، ما كان يهتم فقط بالأخلاق، ما كان يهتم فقط بأعمال القلوب، ما كان يهتم فقط بالعلم الشرعي، بل كان يهتم بجميع الأمور، ويجب أن نهتم بالإيمانيات بصورة خاصة، لأنها تصحح المسار، وتوضح الهدف، وتأمن الإخلاص اللازم للوصول إلى نصر الله عز وجل، ويجب الاهتمام بالإيمانيات حتى نقطع الطريق على ضعاف النفوس، وضعاف المعرفة الذين يقولون: لم نجد التربية الإيمانية وتزكية النفوس إلا عند الصوفية.
فتجد بعض الناس يقول: والله ما هناك إلا الصوفية، تريد أن تجدد إيمانك فعليك أن تسلك طريقاً من طرق الصوفية، تراهم أناساً خاشعين يُعلمون ويعلمون.
ولو طبقنا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم لاستغنينا عن هذه الترهات كلها، لماذا يوجد أوساط تفوق ما عند الصوفية من بعض الأشياء من اشتهارهم بالزهد، أو بالعبادة مع ما فيها طبعاً من الدغل والدخن والغش.
ولذلك تجد الخلط عندما يقال: إن المفكر الإسلامي الفلاني أو الداعية الإسلامي الفلاني بلغ أوجاً عظيماً في شخصيته، وساعده على ذلك شفافية إيمانيه؛ لأنه قد ترعرع وتربى في أحضان الطريقة الصوفية الفلانية.
فارتباط قضية تقوية الإيمان وعلاج ضعف الإيمان بقضية الصوفية عند الناس ارتباط خاطئ يجب أن يُعالج بإيجاد الأوساط التي تهتم بالقلوب وتهتم بالأمور الإيمانية، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم الناس حرصاً على قضايا الإيمان، ولكنه ما كان من المتصوفة، وحتى من علماء المسلمين الذين أتوا بعده، فهذا ابن الجوزي من أعداء الصوفية ومع ذلك تجده مجيداً في الوعظ جداً، وربما حضر مجلس الوعظ عنده سبعون ألفاً، وتاب على يديه كثيرون.
وقدوتنا صلى الله عليه وسلم كان مجتمعه مجتمعاً إيمانياً حقاً وحقيقةً، فكان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل في ساعات الخوف، ويأخذ بالأسباب، وقد أرسل رجلاً من الصحابة في إحدى الغزوات وكان وقت خوف، فكان يُصلي الليل وينظر إلى الشعب، ليرى من يأتي منه، وهذا الصحابي الذي يحرس المسلمين في إحدى الغزوات يقوم الليل، ويرميه العدو بسهم، ويُكمل صلاته، وبيوت نساء النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع لها دويٌ كدوي النحل بالليل من قراءة القرآن: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34].
فما هي الجوانب التي ينبغي الاهتمام بها حتى تساعد؟(193/25)
إيجاد أوساط إيمانية لتربية الناس
أيها الإخوة: لابد أن نتهم بإيجاد الأوساط الإيمانية التي يتربى فيها الناس، ولا بد أن تُطعم هذه الأوساط بتلك النماذج البشرية ذات القلوب الحية، وذات الاستعدادات الإيمانية القوية التي تُؤثر فيمن حولها، وتصلح أن تكون قدوات عظيمة في هذا الجانب، وإنك لو نظرت في حال الأفراد لوجدت أنهم يتأثرون من الأوساط التي يعيشون فيها، فإذا وجدت الفرد متعلقاً بالدنيا، فإن الوسط الذي يعيش فيه غالباً فيه ميل إلى الدنيا، وتجد الفرد ذا الإيمان القوي إذا نظرت في الوسط الذي يعيش فيه، فإنك تجده غالباً وسطاً إيمانياً مشحوناً بتقوى الله سبحانه وتعالى وبتلك النماذج التي أوجدت مثل هذا الرجل، وللوصول إلى هذه النتائج لا بد من هذه المقترحات وإلا فإن الكلام فيها طويل: دراسة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كيف كان إيمانهم، وكيف كانت عبادتهم، وكيف كان زهدهم وورعهم، وكيف كان حالهم وموقفهم من الدنيا، كيف صبروا على العذاب، وكيف قاتلوا وقُتلوا، فإن تدارس السيرة يرقق القلب، ودراسة قصص المحن التي عاشها السلف من بعدهم مثل: محنة الإمام أحمد، ومثل: محنة الصحابي عبد الله بن الزبير، ومحنة الإمام أحمد بن نصر الخزاعي، وغيرهم من أئمة الدعوة إلى الله.
ودراسة الكتب التي تتكلم عن أعمال القلب مثل: كتب ابن القيم رحمه الله عموماً، وبعض رسائل ابن تيمية رحمه الله مثل: التحفة العراقية وغيرها من الكتب التي تتكلم عن أعمال القلوب، واللجوء إلى خبراء القلوب من علماء السلف ومن جاء بعدهم لمعرفة أمراض القلوب وعلاجها مثال: كتاب إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، ودراسة كتب الترغيب والترهيب، وعندما نقول دراسة لا يعني مجرد قراءة، بل دراسة تفكير وتدبر ومناقشة، وطرح الأشياء طرحاً عملياً.
لماذا دراسة كتب الترغيب والترهيب؟ ما علاقتها بتجديد الإيمان في القلب؟ لأن دراسة كتب الترغيب والترهيب تعرف الإنسان بثواب الأعمال الصالحة لتكون دافعةً للعمل، وتعرفه عقاب الأعمال السيئة لتكون دافعةً إلى ترك الأعمال السيئة، ولقد اهتم السلف اهتماماً عظيماً بهذا ومن جاء من العلماء، فهذا المنذري رحمه الله يُؤلف مجلدات في الترغيب والترهيب.
والنفس البشرية مفطورة على حب الثواب وخوف العقاب، وأما ما زعمته الصوفية من أنهم يعبدون الله لا خوفاً من ناره، ولا رغبةً في جنته، فإنهم ضالون مخالفون لمنهج سيد البشر صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يدعو الله أن يرزقه الجنة، ويدعو الله أن يجنبه النيران، وأما ما زعمه بعض أهل التصوف من قولهم: ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، فإنه مذهبٌ ضالٌ، وبعض هؤلاء الضلال لما مرَّ بقول الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:18 - 19] قال: فأين من يريد الله؟ سبحان الله العظيم! الآية تتكلم عن من يريد الحياة الدنيا ومن يريد الآخرة، قالوا: لا هذه، ولا هذه، الدنيا لها أهل والآخرة لها أهل، ونحن أهل الله.
انظر إلى السفاهة، وإلى الانحراف، وإلى تلبيس إبليس، وإن معرفة الثواب يعين على إتيان الطاعات ولا شك، نضرب مثالين فقط: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده، غُرست له نخلةٌ في الجنة) حديثٌ صحيح، لما تعلم أنه تغرس نخلة في الجنة لمجرد أن تقول: سبحان الله وبحمده، ألا يدفعك هذا إلى التلفظ بهذا الذكر؟ مثال آخر: عن أم هالة بنت أبي طالب، قالت: مرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إني قد كبرت وضعفت، فأمرني بعملٍ أعمله وأنا جالسة -هذا للنساء والرجال كذلك- قال: (سبحي الله مائة تسبيحة فإنها تعدل لك مائة رقبة تعتقينها من ولد إسماعيل، واحمدي الله مائة تحميده تعدل لك مائة فرس ملجمة تحملين عليها في سبيل الله، وكبري الله مائة تكبيرة، فإنها تعدل لك مائة بدنة مقلدة متقبلة -التي تُهدى في الحج- وهللي الله مائة تهليلة) قال ابن خلف: أحسبه قال: (تملأ ما بين السماوات والأرض، ولا يُرفع يومئذٍ لأحد عملٌ إلا أن يأتي بمثل ما أتيت به) قال الألباني: هذا إسناده حسن، ورجاله ثقات كما في السلسلة الصحيحة.
فإذا معرفة الثواب يحفز النفس، وهي مجبولة على هذا، وكابر أهل الانحراف أم لم يكابروا فإن النفس مجبولة على هذا.(193/26)
الموازنة بين الجوانب في التربية
لابد من الاهتمام والتركيز على الموازنة بين الجوانب في تربية النفس، ومراعاة الخطأ الذي يحصل أحياناً والتدقيق فيه من تغليب جانب على جانب، فبعضهم ينشط في الدعوة إلى الله مثلاً، أو ينشط في طلب العلم، لكنه يُهمل في جانب الإيمان، ولا بد من تصحيح المفاهيم والتصورات المتعلقة بموضوع التربية الإيمانية، فمن هذه التصورات الخاطئة: اعتقاد البعض أن التربية الإيمانية هي فقط للناشئة الجُدد السالكين حديثاً في طريق الالتزام، وليست للدعاة إلى الله الذين قطعوا مرحلةً، أو شوطاً، أو مشواراً في طريق الالتزام والاستقامة، وهذا خطأ، فكلنا نحتاج ذلك، ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعبد ربه حتى أتاه الموت، ولم يقل: إن التربية الإيمانية لحديثي العهد الذين دخلوا في الإسلام، أما كبار الصحابة فإنهم مشغولون بالجهاد وبتدبير أحوال المجتمع، والدعوة إلى الله، والتخطيط له.
ومن المفاهيم كذلك: ما يأتي في نفوس البعض من شبهة أن الاهتمام بالقلب يحسنه الصغار، ولكن الاهتمام بالأشياء الأخرى الكبيرة لا بد أن يكون لها الرجال، ولذلك تجد بعضهم يقول: أنا أهتم بالتصورات والعقائد والدعوة، وأهتم بمعرفة الواقع، ومحاربة أهل البدع والرد عليهم، ولا يهتم بقلبه هو، وهذا سببه علة كِبر، أو علة أن النفس تحب أن تتميز، فيقول: دع الصلاة للشيبان في المساجد، دع الذكر لهؤلاء المساكين، وأنا أذهب أعمل بالأشياء العظيمة، وهناك أناس على هذه الشاكلة.
ويجب كذلك أن يكون منهاجناً في طلب العلم مبدوءاً بتعلم الخشية لله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وليس مجرد تعلم التعريفات والمصطلحات واختلافات العلماء، وبغير زكاة فإن العلم يصبح نقمة ووبالاً على صاحبه، وكذلك الاستناد والاستشهاد بالأمور الإيمانية عند دراسة وعرض العقيدة أو تفاصيلها، أو عرض معاني الأسماء والصفات، وليس مجرد الاقتصار على عرض القواعد العلمية في مسألة الأسماء والصفات مثلاً، وإهمال ربط الناس بالمعاني.
وكذلك عرض سائر أمور الدين، وإذا قرأت مثلاً: الجزء الذي كتبه ابن القيم رحمه الله في السيرة النبوية، أو مثلاً تأملت ما يكتبه أحياناً في أصول الفقه في كتاب إعلام الموقعين، أو بعض الأحكام المنثورة في كتبه، تجد أنه يربطها ربطاً مباشراً بالله عز وجل، وبالخوف منه سبحانه وتعالى، وتجنب الأسلوب المنطقي العقلاني البحت في عرض قضايا الدين على الناس، فهذا خطير جداً، لأنه يربي الناس على الأشياء العقلانية، أو الأشياء المنطقية، ولا يحسون بحرارة الأشياء التي يتعلمونها في قلوبهم، وإنما يكون معرفتهم بها معرفة باردة.(193/27)
مخالطة أهل الإيمانيات
وكذلك من الأشياء المهمة في التربية الإيمانية الجماعية: مخالطة من تميز بالإيمانيات، ومخالطة القدوات المتصلة بالله عز وجل وزيارتهم، ومجالستهم للاستفادة منهم، وكان أحدهم يقول: كنت إذا أحسست قسوةً في قلبي، وانحداراً في إيماني، ذهبت إلى فلان أبيت عنده، لماذا يبيت عنده؟ لأنه سيرى منه كثرة ذكره لله، خشوعه عند قراءة القرآن، تبكيره للصلاة، قيامه لليل، فيتأثر بأحواله، ومخالطة القدوات أمرٌ مهم.
وكان السلف رحمهم الله يذهب بعضهم ويبيت عند بعض ليرقب بعضهم أحوال بعض في المبيت حتى يتعلم منه في الليل ماذا يفعل، كيف يقوم لله، وهذا الاختلاط بالقدوات مؤثر وموجود منذ القدم.
ومثالٌ على هذا يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: ولقيت جماعةً من العلماء يحفظون ويعرفون، لكنهم كانوا يتسامحون بغيبة يخرجونها مخرج جرح وتعديل، أي: يدبر لها وبعد ذلك يأتي يغتاب، ويأخذون على قراءة الحديث أجرة، ويسرعون بالجواب لئلا ينكسر الجاه وإن وقع خطأ، لو سئل فإنه يجيب سريعاً، لماذا؟ يخاف الناس أن يقولوا عنه: إنه جاهل، فيجيب فوراً.
ثم يقول رحمه الله: "ولقيت عبد الوهاب الأنماطي، فكان على قانون السلف، لم يُسمع في مجلسه غيبة، ولا كان يطلب أجراً على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق: الجنة والنار، عذاب القبر، الموت؛ بكى واتصل بكاؤه، فكان وأنا صغير السن حينئذٍ يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد الأدب في نفسي" هذه التربية، يبني قواعد الأدب والإيمان في قلبه، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل.
وكذلك الاهتمام بإتاحة الأوقات في المناسبات والأنشطة الإسلامية مثل: رحلات المراكز والمدارس وغيرها، والرحلات العائلية، ورحلات الإجازات الموسمية مثلاً للقيام ببعض العبادات مثل: حِلَق الذكر وقراءة القرآن جماعية، أو فردية مثل: قيام الليل والتسبيح عُقَيب الصلوات، وأن يكون الحث على ذلك لا إلزاماً حتى لا يكون الأثر عكسياً على المأمور، ومن ذلك أيضاً: عدم شغل الوقت المناسب لعبادات معينة مثل: الأذكار التي في أدبار الصلوات، وأذكار الصباح والمساء، والتبكير للصلاة بأعمال أخرى، أو مواعيد حتى لو كانت من أعمال البر.
وإنما يبقى وقت بعد الصلاة للأذكار، ويبقى التبكير للصلاة مطلوباً، وأذكار الصباح والمساء في وقتها لا تُشغل بأي شيء آخر حتى لو كان الأمر بر إلا للضرورة، أو لما ترجحت مصلحته، وإلا يبقى هذا الوقت وقت ذِكر، وكان ابن تيمية رحمه الله على كثرة مشاغله وجهاده وتعليمه يحافظ على الجلوس بعد الفجر إلى طلوع الشمس، ويقول: هذا زادي، بعد ارتفاع الشمس، يصلي ركعتين ويقول: هذا زادي، وأنا بغير زاد كيف أعيش، وبين الإخوة تدارس سير الصالحين والعباد والزهاد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى يتأثر الإنسان بهم.
وختاماً يا إخواني، فإن الدعاء لله عز وجل مسك الختام في الأسباب، والحديث الذي بدأنا به نرجع إليه مرة أخرى لنختم به هذه الجلسة: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب) فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجدد الإيمان في قلوبنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(193/28)
ماذا تسمع؟
منح الله الإنسان الكثير من النعم، وجعلها متفاوتة في الفائدة، ولكن من أعظم نعم الله على الإنسان نعمة السمع؛ لأن بها يعلم خطاب الشرع له فيعمل به، فالسمع أعم وأشمل من غيره من الحواس؛ لذا عاب الله على الكفار أن سمعوا الله ولم يفهموا ويدركوا مراده.
وقد رتب الله في شرعه الكثير من الأحكام على السمع، وجعل لصاحبه آداباً يسير على نهجها، وأوجب عليه سماع ما يجب ونهاه عن كل ما لا يحبه ولا يرضاه.(194/1)
قيمة حاسة السمع بالنسبة لحياة الإنسان
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
عباد الله! إن نعم الله علينا كثيرةٌ متعددةٌ، وإذا تأملنا في أنفسنا؛ وجدنا لله تعالى نعماً عظيمةً: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] ومن هذه النعم: نعمة السمع التي وهبنا الله إياها كقوة ندرك بها الأصوات، وهذه النعمة من أهم حواس الإنسان وأشرفها حتى من البصر؛ لأن بها يدرك المكلف خطاب الشارع -الذي به التكليف- من سائر الجهات، كما يدرك غيره من سائر الجهات وفي كل الأحوال، بخلاف البصر الذي يتوقف الإدراك به على الجهة المقابلة، قال الله تعالى مذكراً إيانا بهذه النعمة، ومذكراً إيانا بالمسئولية عنها: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].
وهذه النعمة العظيمة لفائدتها أجمع أهل العلم على أن فيها الدية، فإذا أذهب شخصٌ سمع آخر خطأً، فعليه الدين كاملة، وعمداً عليه القصاص.
ولأجل فائدتها وعظمها، اشترط أهل العلم في المناصب العامة كالإمامة والقضاء أن يكون سميعاً، وهي أكبر مدخل إلى القلب، ومن يفقد السمع أسوأ حالاً من الذي يفقد البصر، ولذلك فإن عقله يضعف جداً في الغالب، فلا تكاد تجد أصم إلا وفي عقله شيء بخلاف الأعمى.
وهو طريق من طرق اكتساب العلم، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "المدرك بحاسة السمع أعم وأشمل من غيرها من الحواس، فللسمع العموم والشمول والإحاطة بالموجود والمعدوم والحاضر والغائب، والحسي والمعنوي، فالسماع أصل العقل وأساس الإيمان".
وقد رحم الله أسماعنا، فهناك أصواتٌ لو سمعناها لصعقنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا وضعت الجنازة، واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة، قالت: قدموني قدموني، وإن كانت غير صالحة، قالت لأهلها: يا ويلها أين تذهبون بها؟! يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق).
وقد أمر الله بالسماع، فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} [المائدة:108] وقال عز وجل: {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن:16].(194/2)
السماع على ثلاثة أنواع
النوع الأول: سماع الإدراك: كقوله عز وجل: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن:1 - 2].
النوع الثاني: سماع الفهم: وهو الذي نفاه الله عن الأموات كقوله عز وجل: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم:52] ونفاه عن أهل الإعراض، فقال: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم:52].
النوع الثالث: سماع القبول والإجابة: كقوله تعالى: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285] وفي حالة الجن المسلمين اتصل سماع الإدراك بسماع الإجابة بعد سماع الفهم، فاجتمعت فآمنوا وأسلموا، ويا حظ من كان سمعه موافقاً لمرضاة الله تعالى، ولذلك قال في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به) يعني: لا يسمع إلا ما يرضي الله عز وجل.
أيها المسلمون! إن سماع الفهم والإجابة في غاية الأهمية، وهو سماعٌ مفقودٌ عند الكثيرين، فيسمعون بأُذن الرأس، لكن لا يسمعون بأُذن القلب، ولذلك يواجه الدعاة إلى الله تعالى من المشكلات والمصاعب ما الله به عليم؛ نتيجةً لتخلف سماع الفهم وسماع الإجابة عند الناس.
سماع الرأس والإدراك أمرٌ ميسورٌ لأكثر الناس، أما سماع الفهم فيحتاج إلى إمعان وتركيز، وتفرغ وحضور قلب، أما سماع الإجابة فيحتاج إلى إخلاص وتجرد، ولذلك لا يرزقه إلا القليل، فقليل من الناس الذين يسمعون سماع الإجابة سماع التأثر سماع الانقياد، ولذلك ترى هؤلاء الناس كثيراً ما يسمعون الخطب والمواعظ، لكن قل من يستجيب، وقل من يتأثر لتخلف سماع الإجابة، وسماع التأثر والانقياد.
ولذلك كان من علامات أهل الكفر وأعمالهم أنهم لا يريدون سماع الحق، قال الله تعالى عن نبيه الكريم نوح عليه السلام، الداعية الذي دعا قومه: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح:7] لكي لا يسمعوا فيتأثروا، وكذلك الكفار: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} [فصلت:26] حتى لا تتأثروا به، ولذلك جعل الطفيل في أذنيه كرسفاً -أي: قطناً- من الدعاية والإعلام الباطل الذي وجهه كفار قريش لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أسمعه وهداه، وكذا كل من يريد الله به خيراً.
وقال الله عز وجل مبيناً أن هناك سماعاً بالرأس، لكنه ليس بسماع القلب: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] فأثبت لهم سمع الرأس، ولكن نفى عنهم سمع القلب، لهم آذان ولهم سمع الرأس؛ لكنهم لا يسمعون بها، فالاستجابة معدومة، والانقياد غير حاصل.
هناك سماع للصوت؛ لكن ليس هناك استجابة، ولذلك وصفهم الله بأنهم أضل من الأنعام، فإن الأنعام إذا سمعت صوت الراعي ودعاءه ونداءه استجابت واستأنست وعرفته فتقبل إليه، أما هؤلاء فلا، وهذا السماع هو المقصود من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار).
أما سماع الفهم: فهو سماعٌ شريف أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على صاحبه: (نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، ثم بلغها عني، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، فربما يكون الثاني فقيهاً له سمع الفهم، فيفقه ويبلغ وينذر.
عباد الله! إن فهم هذه الأشياء تبين لنا لماذا لا يفهم كثيرٌ من الناس، ثم لماذا لا يستجيبون، ولماذا لا يتأثرون، ولماذا لا ينقادون؟(194/3)
الأحكام المرتبطة بالسمع في الشريعة
عباد الله! إن هذا السمع مسئولية، وقد رتب الشارع أحكاماً عليه، وجعل فيه واجبات ومحرمات، وجعل فيه تبعات ومسئوليات، ولذلك قال ربنا: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء:140] أي: في الكفر ومعاندة الشريعة.
إذا سمعت -يا أيها المسلم- آيات الله يستهزؤ بها في المجالس، وإذا سمعت بشرع الله يستهزؤ به في مجالس الناس ومنتدياتهم، وإذا سمعتهم يخوضون في الكتاب والسنة بالباطل، وإذا سمعتهم ينتقصون من الدين، ويعيبون الشريعة والأحكام، فعندك خياران لا ثالث لهما: إما أن تنكر فتسكتهم، أو تقوم وتغادر المجلس، ولا بد من ذلك، أما إذا سكت وجلست، فأنت شيطان أخرس: (الساكت عن الحق شيطان أخرس) وما أكثر المجالس التي تلمز فيها الشريعة اليوم، وتعاب فيها الأحكام، ويسخر فيها من الدين والمتدينين، وفي المقابل ما أقل المنكرين الذين يقومون بالواجب الشرعي تجاه هؤلاء العابثين، وكذلك ذكر الله من صفات المؤمنين أنهم إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، ولم يتأثروا به، ولم ينصتوا إليه، ولم يستمعوا، وإنما أعرضوا.
وتأمل بعض ما في الشريعة من الأحكام المرتبطة بالسمع كقوله صلى الله عليه وسلم: (الجمعة على من سمع النداء) فإذا كان قريباً يسمع النداء وجب عليه الحضور، بخلاف ما إذا كان بعيداً.
وكذلك حضور صلاة الجماعة في المسجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع النداء فلم يأته؛ فلا صلاة له إلا من عذر) فإذا سمع النداء ولم يأت المسجد فهو آثم، وما أكثر الآثمين في هذا الباب الذين يتخلفون عن صلاة الجماعة، فإذا فرض أن هناك مؤذناً صيِّتاً يؤذن على سطح المسجد، والسامع حسن السمع، وليس بينهما جدران ولا عوائق، والريح ساكنة، فإذا كان يسمع؛ فلا بد من الإجابة، هذا الضابط الذي تجب به على المكلف الجماعة وحضورها: (إذا سمعت النداء؛ فأجب داعي الله: حي على الصلاة) حديث صحيح.
وكذلك (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول) كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (وإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، فإن من وافق قوله قول الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه) فسمع الله لمن حمده بمعنى: أجابه وأثابه، فإذا سمعتها وسائر أذكار الصلاة وتكبيرات الإمام، فأنت تجيب، وأنت تتابع.
وكذلك جعل الشارع من المسموعات ما يتفاعل به قلب الإنسان المؤمن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم صوت الديكة، فسلوا الله من فضله) لأنها رأت ملكاً، وهي ترى ما لا نراه، وقال في الحديث أيضاً: (إذا سمعتم نباح الكلاب، ونهيق الحمير بالليل، فتعوذوا بالله من الشيطان) لماذا؟ لأنها رأت شيطاناً.
وكذلك فإن من سمع بفتنة، فلا بد أن ينأى عنها، وأن يبتعد، فإذا سمعت بمكان فيه فتنة، فلا يجوز لك أن تسافر إليه، ولا أن تذهب إليه، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الدجال: (من سمع بالدجال، فلينأ عنه) أي: ليبتعد، وما أكثر الدجاجلة الصغار قبل الدجال الأكبر الذين يذهب إليهم الناس للاستماع! وما أكثر أماكن الفتنة التي يسافرون إليها!(194/4)
آداب السمع في الإسلام
وقد جاء الشارع أيضاً بآداب لما نسمع، وإرشادات لما نتكلم به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما يسمع) وما أكثر النقلة الذين ينقلون ولا يتثبتون، ويحدثون بكل ما يسمعون! فلا يحذفون، ولا يكتمون، ولا يحفظون، ويحتفظون بالكذب والباطل والمشكوك فيه والإشاعات الكاذبة.
وكذلك فإن السمع مدار تحديد الوسوسة في الصلاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم في الصلاة، فوجد حركةً في دبره أحدث أم لم يحدث، فأشكل عليه، فلا ينصرف) لا يقطع الصلاة، لا يجوز له ذلك (فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) علاجٌ بالغٌ للوسوسة، ولمن يسمع أصواتاً في بطنه ورزَّاء، فإنه لا يقطع الصلاة حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، والشريعة تريد البينة، وتربي المسلم على الدليل، وليس على اتباع الشكوك والأوهام الظنون.
عباد الله! إن حكم السماع يختلف بحسب المسموع، فقد يكون واجباً، أو مستحباً، أو مباحاً، أو مكروهاً، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في عبوديات الجوارح: "فعلى السمع -يعني: من العبادة- وجوب الإنصات والاستماع لما أوجبه الله ورسوله عليه من استماع الإسلام والإيمان وفروضهما، وكذلك استماع القراءة في الجهر إذا جهر الإمام، واستماع خطبة الجمعة في أصح قولي العلماء واجب، ويحرم عليه استماع الكفر والبدع -كالموالد التي ضجوا بها والاحتفالات والاحتفاءات البدعية التي ملأت الدنيا من أرباب الصوفية ومشركي هذا الزمان، وأصحاب البدع- ويحرم عليه استماع الكفر والبدع إلا حيث يكون في استماعه مصلحةٌ راجحةٌ من رده -الرد عليه- أو الشهادة على قائله بالكفر والبدع عند القاضي ليقام الحد، ويؤخذ بما هو لازم لمكافحة هذا الأمر، أو زيادة قوة الإيمان والسنة، فإن الإنسان المسلم الصادق إذا سمع ببعض ديانات الهندوس والبوذيين مثلاً، حمد الله على النعمة".
"وكذلك يحرم استماع أسرار من يهرب عنك بسره، ولا يحب أن يطلعك عليه ما لم يكن متضمناً لحقٍ يجب القيام به، أو لأذى مسلم يتعين نصحه وتحذيره منه، وكذلك يحرم استماع أصوات النساء الأجانب التي تخشى الفتنة بأصواتهن إذا لم تدع حاجة من شهادة عند القاضي، أو معاملة، أو استفتاء، أو محاكمة، أو مداواة عند طبيبٍ ثقةٍ ونحو ذلك".
فيتبين لك أيها المسلم أن كثيراً من الذين يستخدمون سماعات الهاتف في سماعٍ إنما يستخدمونها في حرام، ويأثمون بالسماع، ويجلس يسمع الساعات، ويتكلم حراماً في حرام، وإثماً في إثم، ومعصية بعد معصية، والملك يكتب، وسخط الله نازل، والوعيد شديد، والآخرة متحققة، والجزاء واقع، وجنة أو نار.
وكذلك يحرم استماع آلات المعازف والطرب والعود والطنبور واليراع كما ذكر ذلك ابن القيم في عصره، وفي عصرنا الكمنجة والقانون والأرج وغيرها من أنواع المعازف.
وكذلك قال رحمه الله: "ولا يجب عليه سد أُذنه إذا سمع الصوت وهو لا يريد استماعه" إذا كان يمشي في الشارع، فسمع صوت غناء، أو سمع صوت موسيقى وهو لا يريد استماعها، لا يجب عليه سد أذنيه، إلا إذا خاف السكون إليه والإنصات، فإنه حينئذٍ يجب عليه سد أُذنيه لتجنب سماعه من باب سد الذرائع، ونظير هذا المُحْرِم لا يجوز له تعمد شم الطيب، ولكن إذا حملت الريح رائحته، وألقتها في مشامه، لم يجب عليه سد أنفه.
وأما السمع المستحب: فكاستماع المستحب من العلم وقراءة القرآن وذكر الله، واستماع كل ما يحبه الله مما ليس بفرض، والمكروه عكسه وهو استماع كل ما يكره ولا يعاقب عليه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ علينا أسماعنا، وأن يحفظ علينا أبصارنا، اللهم متعنا بأسماعنا، ومتعنا بأبصارنا، اللهم متعنا بسائر قواتنا، واجعلها الوارث منا، اللهم احفظ أسماعنا من الحرام، وأبصارنا من الحرام، وحواسنا من الحرام، واجعل ما نسمعه في مرضاتك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(194/5)
سماع القرآن لا يجتمع وسماع الشيطان
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، هو السميع العليم هو السميع البصير سبحان الذي وسع سمعه الأصوات! أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا يشغله سمعٌ عن سمع، ولا يشغله صوتٌ من أصوات عباده عن صوت آخر، ولا يشغله دعاء واحد عن آخر، فهو يسمع الجميع سبحانه وتعالى، يسمع أصواتهم على اختلاف لغاتهم، وتنوع حاجاتهم، فيجيب هذا، ويمنع هذا، ويؤخر هذا، ويثيب هذا سبحانه وتعالى، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، سمع كلام الله فأسمعنا وبلغنا وأدى إلينا، صلى الله عليه وعلى أصحابه وآله وذريته الطيبين الطاهرين.
عباد الله! إن مما يجب أن يشغل أسماعنا: سماع العلم سماع الآيات سماع أخبار المسلمين سماع فتاوى أهل العلم سماع الدين سماع كل ما يحيي القلوب، ومما يجب صرفه: سماع الغناء والحرام.
نريد سماع الآيات لا سماع الأبيات، وسماع القرآن لا سماع مزامير الشيطان، وسماع كلام الأنبياء والمرسلين لا كلام المغنين والمطربين، فهذا السماع سماعٌ يحدو القلوب إلى جوار علام الغيوب، وسائقٌ يسوق الأرواح إلى ديار الأفراح، ومحركٌ يثير ساكن العزمات إلى أعلى المقامات وأرفع الدرجات (إني أحب أن أسمعه من غيري).
وطريقة الصحابة في التلاوة أن يقرأ أحدهم والباقون يستمعون، ولا شك أن القلب يا عباد الله! يتأثر بالسماع بحسب ما فيه من المحبة، فإذا امتلأ من محبة الله، يرغب في سماع كلام المحبوب، والإنصات إليه، والتفاعل معه، وأما إذا كان مملوءاً بالعشق والفسق، فإنه يريد سماع الأغاني والطرب، وحرامٌ على قلب تربى على سماع الشيطان أن يجد شيئاً من ذلك في سماع القرآن، بل إن حصل له نوع لذة، فهو من قبل الصوت المشترك، هذا لحن قارئٍ جميلٍ، وهذا لحن أغنيةٍ جميلةٍ، فهو من قبل الصوت المشترك، ولذلك تراهم يطربون عند سماع القارئ ويقولون: الله الله ونحو ذلك من الأفعال المبتدعة لإعجابهم بصوته ونغمته وسحبته، لا لمعنى ما يقول ويقرأ، مثل طرب بعض الناس لما يسمعون أصوات بعض المقرئين الذين تفننوا بتنزيل صوتهم في القرآن على ألحان الأغاني، والغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل، وما اعتاده أحدٌ إلا نافق قلبه وهو لا يشعر، فما اجتمع في قلب عبدٍ محبة الغناء ومحبة القرآن إلا طردت إحداهما الأخرى ولو بعد حين.
قال ابن القيم رحمه الله: "وقد شاهدنا نحن وغيرنا ثقل القرآن على أهل الغناء، وسماعه وتطربهم به، وصياحهم بالقارئ إذا طول عليهم، وعدم انتفاع قلوبهم بما يقرأ، فلا تتحرك، ولا تخشع، فإذا جاء قرآن الشيطان، فلا إله إلا الله كيف تخشع الأصوات، وتهدأ الحركات، وتسكن القلوب وتطمئن، ويقع طيب السهر، وتمني طول الليل".
تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفةً لكنه إطراقُ ساهٍ لاهِ
وأتى الغناء فكالذباب تراقصوا والله ما رقصوا لأجل اللهِ
دفٌ ومزمارٌ ونغمةُ شادن فمتى شهدت عبادة بملاهي
ثقل الكتاب عليهمُ لما رأوا تقييده بأوامر ونواهي
فانظر إلى النشوان عند شرابه وانظر إلى النسوان عند ملاهي
واحكم فأي الخمرتين أحق بالـ تحريم والتأثيم عند اللهِ
اسمع كلام الله، اسمع عذر إخوانك، اسمع شكوى المراجع أيها الموظف، السماع إذاً كثيرٌ طيبٌ، لكن من الذي يفعله؟! أما سماع المعصية، سماع البدعة كسماع الصوفية وترانيمهم، وسماع أغانيهم في الموالد، فلا.
وسماع الاحتفالات في الموالد، فلا.
قال القشيري: سمعت أبا عبد الله السلمي يقول: دخلت على أبي عثمان المغرمي ورجلٌ يستقي الماء من البئر على بكرة، فقال: يا أبا عبد الرحمن! أتدري ماذا تقول هذه البكرة؟ فقلت: لا.
قال: تقول الله الله.
هذا هو شُغل الصوفية البكرة تقول الله الله، صوت الماء يسحب على البكرة يعني: الله الله وهكذا.
أيها المسلمون! نسأل الله أن يدخلنا الجنة، فإننا إذا دخلنا الجنة فلن نجد أحلى ولا أعظم نعمة من رؤية الرب وسماع كلامه، ولذلك ليس في نعيم أهل الجنة أعلى من رؤيتهم وجه الله وسماع كلامه، وكذلك سماع غناء الحور العين الذي يكون ثواباً لمن امتنع عن سماع الغناء في الدنيا، قال الله في وصف أهل الجنة ونعيمهم: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم:15] يحبرون: يسمعون غناء الحور العين.(194/6)
علاقة السماع بموضوع البوسنة
أما علاقة موضوع السماع بـ البوسنة، فإنه قول الشاعر:
ربَّ وامعتصماه انطلقت ملئ أفواه الصبايا اليتمِ
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
وهؤلاء اليوم يخططون، وتبرز الخطط بين الصرب والكروات وكما قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] وسيظهر ذلك عاجلاً أو آجلاً.
سلموا لهم المنطقة مقابل خروجهم بعَددهم وعُددهم إلى أراضي المسلمين، إنهم يريدون ملء جيبا وسربنتسا وغيرها من البلدان التي احتلوها والمدن الإسلامية بالصرب الجدد، إنهم قد استولوا على (70%) من أراضي البوسنة، لكن ليس عندهم شعب كاف ليملئوا تلك الأراضي، فهم يخرجونهم الآن من مكان إلى مكان، والبلد هذا يذهب إلى كفار، وتملأ البلدان الأخرى من الكفار الآخرين، والمسألة كفر في كفر، ومؤامرة في مؤامرة، ويدلك على ذلك أقوال بعض قادة الصرب: إننا لم نفاجأ، ولم تبد علينا الدهشة، أي لأنه أمرٌ قد قضي بليل.
عباد الله! بعضهم يعد، وبعضهم يخطط، وبعضهم ينفذ، ويعضهم يغطي على بعض، أولئك أئمة الكفر، والله يقول: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة:12] لا عهد لهم ولا ذمة، كيف نثق بهم؟ كيف نركن إليهم أياً ما كانوا؟ سواء كانوا أرثوذكس، أو بروتستانت، أو كاثوليك، الكفر ملة واحدة، ولذلك ظن بعض السذج أن هؤلاء أرادوا الدفاع عن المسلمين، وأخذتهم الحمية فنصروا المسلمين، والله ما أرادوا ذلك، إنما أرادوا مصلحتهم، وقد يتعللون في الظاهر بشيء لمصلحة المسلمين، ولكن أياديهم ملوثة بدماء المسلمين مما قريب، فكيف يثق العصفور بمن افترس أخاه.
يا عباد الله! ربما تأتي أخبارٌ وأيامٌ قادمةٍ بمحن مزلزلة شديدة تحمل أنباء اتفاق الكفرة على المسلمين من الجانبين، ونحن نسأل الله عز وجل أن يحفظ إخواننا، وأن يرزق إخواننا الفهم والوعي، وأن يردهم إلى دينهم، وأن ينقيهم من الشوائب، ونسأله أن يعجل بفرجهم ويأتي بنصرهم، وأن يوقظ في قلوب المسلمين الحمية، ويرزقهم القيام بواجب إخوانهم.
اللهم إنا نسألك أن تنصر المجاهدين في سبيلك، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يريدون إعلاء كلمتك، اللهم من أراد دينك بسوءٍ، فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه.
اللهم آمنا في دورنا وبلداننا، اللهم اجعل بلاد المسلمين آمنةً مطمئنةً بتحكيم شريعتك يا رب العالمين! آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم أيقظ في قلوب المسلمين الحمية للجهاد في سبيلك، اللهم اكتب للمسلمين النصر على الأعداء يا رب العالمين! اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، واقض ديوننا، واستر عيوبنا يا أرحم الراحمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(194/7)
ماذا فعلوا بعباءة المرأة؟
هذه المادة عبارة عن خطبة عيد الأضحى المبارك، وقد تكلم الشيخ في بدايتها عن أعياد المسلمين والفرق بينها وبين أعياد غيرهم.
ثم استفاض في ذكر توجيهات في شأن الحياة الدنيا والسلامة منها، والمواقف في الفتن في جملة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ختمها بخطبة النبي صلى الله عليه وسلم، وماذا حصل للحجاب في هذا العصر، وماذا فعل به.(195/1)
الفرق بين أعياد المسلمين وأعياد غيرهم
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فالحمد لله الذي أتم النعمة بإكمال العدة: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] فالله أكبر الله أكبر! لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، اللهم لك الحمد بما علمتنا وهديتنا، وأرسلت إلينا رسولنا، وأنزلت علينا كتابنا، وشرعت لنا ديننا، وميزتنا بأعيادنا عن أعياد غيرنا، لكل قوم عيد وهذا عيدنا أهل الإسلام، جعل الله لنا عيد الفطر وعيد الأضحى، ونسخ كل أعياد الجاهلية، هذه أعيادنا لا نشارك غيرنا أعيادهم، ولا نهنئهم بها، ولا نظهر بها فرحة، وإنما نكبر الله في أعيادنا، فهي أعياد توحيد، وأعياد غيرنا أعياد شرك وبدعة.
فالله أكبر الله أكبر والحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، الذي أنزل علينا الدين، وشرع لنا هذا الإسلام وهذه الشريعة العظيمة.(195/2)
شهر رمضان يطوى بما فيه
عباد الله: دينكم لا يشبهه دين، وشريعتكم ليس كمثلها شريعة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] عيدنا هذا يذكرنا بتوحيد الله، وشكر نعمة الله تعالى.
لقد مر رمضان -أيها المسلمون! - فهل رأيتم شهراً أسرع مروراً من هذا الشهر؟ كلا والله.
لقد انقضى ما بين طرفة عين وانتباهتها، كأنه حلم مر، ذهب الشهر بما استودع من الأعمال، فالحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، لمن عبد الله فيه وصلى وقام، والحمد لله على كل حال، ونسأل الله السلامة والعافية والمغفرة من تقصيرنا، وعجزنا وضعفنا، وإسرافنا في أمرنا.(195/3)
توجيهات في شأن الحياة الدنيا والسلامة منها، والمواقف في الفتن
أيها المسلمون! يا عباد الله: إن هذه الدنيا زائلة وذاهبة، إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطانا توجيهات كثيرة في شأن هذه الحياة الدنيا، تعالوا نستعرض بعضاً منها، كلها من أقواله صلى الله عليه وسلم: (احذروا الدنيا فإنها خضرة حلوة) (ابشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم).
إن مطعم ابن آدم قد ضرب مثلاً للدنيا، وإن قَزَّحَهُ ومَلَّحَهُ، فانظر إلى ما يصير عند خروجه من البدن، حلوة الدنيا ومرة الآخرة، ومرة الدنيا وحلوة الآخرة: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر) (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) (والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثلما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم فلينظر بم يرجع) (آكل كما يأكل العبد، فوالذي نفسي بيده! لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافراً كاساً).
(أتاني جبريل، فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس، ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس) (إنما يكفيك من جمع المال خادم ومركب في سبيل الله) (خير الرزق الكفاف لا لك ولا عليك) (طوبى لمن هدي للإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به) (كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قانعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً، وأقل الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب) (ما قل وكفى، خيرٌ مما كثر وألهى) (مالي وللدنيا!! ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها) (من أصبح آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها).
(يقول ابن آدم: مالي! وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت) (الشيخ يضعف جسمه وقلبه شابٌّ على حب اثنتين: طول الحياة، وحب المال) (صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل) (لو كان لابن آدم واد من مال لابتغى إليه ثانياً، ولو كان له واديان لابتغى لهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب) (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له) (إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم).
(أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي؟ فقراء المهاجرين، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة، ويستفتحون، فيقول لهم الخزنة: أوقد حوسبتم؟ قالوا: بأي شيء نحاسب؟ وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك، فيفتح لهم، فيقيلون فيها أربعين عاماً قبل أن يدخلها الناس) (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء) (إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفاً) (ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار غداً؟ على كل هين لين قريب سهل) (ألا أنبئك بأهل الجنة؟ الضعفاء المغلوبون) (رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره).
(قمت عل باب الجنة، فإذا عامة من دخلها المساكين، وإذا أصحاب الجد -أي: المال والغنى- محبوسون، إلا أصحاب النار فقد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار، فإذا عامة من يدخلها النساء) (من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة، فأنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل).
(يا معشر الفقراء! ألا أبشركم؟! إن فقراء المؤمنين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم -خمسمائة عام-: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]) (إن الله تعالى إذا أنزل سطوته على أهل نقمته، فوافت آجال قوم صالحين، فأهلكوا بهلاكهم، ثم يبعثون على نياتهم وأعمالهم).
(إنما الأعمال كالوعاء، إذا طاب أسفله طاب أعلاه، وإذا فسد أسفله فسد أعلاه) (يحشر الناس على نياتهم) (أتدرون ما المفلس؟ إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار).
(إذا ذكرتم بالله فانتهوا).
(إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك استدراج) (استحيوا من الله حق الحياء) (من استحيا من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء).
(اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك) (إن الله تعالى لا يظلم المؤمن حسنة، يعطى عليها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا -تقولون: لماذا عند الكفار أمطار ونباتات؟ لماذا عندهم تقدم وحضارات؟ ونعيم وأموال؟ - وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيراً).
(إن الله تعالى يقول: يا بن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت يديك شغلاً ولم أسد فقرك) (إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك، ونروك من الماء البارد؟) حتى الماء البارد سنسأل عنه يا عباد الله! (إني أرى ما لا ترون، وأسمع مالا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله تعالى ساجداً، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله) > (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه).
(حرم على عينين أن تنالهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس الإسلام وأهله من أهل الكفر) (صاحبُ الصور واضع الصور على فيه منذ خلق، ينظر متى يؤمر أن ينفخ فيه فينفخ) (عرضت عليَّ الجنة والنار آنفاً في عرض هذا الحائط، فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً).
حديث قدسي: (قال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي).
(كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل) (ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها) (من استطاع منكم أن يكون له خبءٌ من عمل صالح فليفعل) (من جعل الهموم هم المعاد؛ كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا؛ لم يبال الله في أي أوديتها هلك) > (لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم) (لا يدخل الجنة أحدٌ إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً، ولا يدخل النار أحد إلا أري مقعده في الجنة لو أحسن ليزداد عليه حسرة).
(يا أيها الناس! اذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه) (يتبع الميت ثلاثة: أهله وعمله، وماله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله) (اثنتان تدخلان الجنة: من حفظ ما بين لحييه -اللسان- ورجليه -أي: الفرج- دخل الجنة) (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا) (تكفير كل لحاء ركعتان) كل خصومة ومشاجرة كفارتها صلاة ركعتين.
(رحم الله عبداً قال خيراً فغنم، أو سكت عن سوء فسلم) (زنا اللسان الكلام) (طوبى لمن ملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته) (ليس شيء من الجسد إلا وهو يشكو ذَربَ اللسان).
(إن من ورائكم زماناً، صبر المتمسك فيه أجر خمسين شهيداً منكم).
(لم يكن نبي قط قبلي إلا حقاً عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيراً لهم، وينذرهم ما يعلمه شراً لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء شديد، وأمور تنكرونها، وتجيء فتن فيرقق بعضها بعضاً -كل واحدة أعظم من التي قبلها، فتنسي اللاحقة السابقة- وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه هذه!! فمن أحب منكم أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إ(195/4)
بيان النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أخطاء النساء في خطبة العيد
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأصلي وأسلم على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، أشهد أنه محمد رسول الله حقاً حقاً، والداعي إلى سبيل الله صدقاً صدقاً.
عباد الله: إن الشريعة قد جاءت بأسباب السعادة في الحياة، ومن ذلك أنها أوجبت على الزوج الإنفاق على زوجته مأكلاً وملبساً ومسكناً، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الأزواج أن يحسنوا معاملة النساء، وأوصاهم بهن خيراً، وقال الله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] ووصفهن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن عوان عند الأزواج، أي: أسيرات، ومن طبع الكريم أن يحسن معاشرة الأسير، أطعِمْهَا إذا طَعِمْتَ، واكسها إذا اكتسيتَ، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تظلم.
وأنت أيتها المرأة: حق الزوج عليك عظيم، قد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة العيد أمراً عظيماً، فروى جابر وابن عباس وأبو سعيد الخدري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فأمر بعنزة فركزت له عند دار كثير بن الصلت، فقام فبدأ بالصلاة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام فتوكأ على بلال، والناس جلوس على صفوفهم، فقام مقابل الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ الناس وذكرهم - هذا في خطبة العيد- فأمرهم بتقوى الله، وحث على طاعته، وكان يقول: تصدقوا تصدقوا تصدقوا، فظن أنه لم يسمع النساء، فنزل يجلس الرجال بيده، ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال، فقام يتوكأ على بلال، وألوى يده بالسلام -سلم على النساء وأشار بيده- وحمد الله وأثنى عليه، فقرأ قول الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} [الممتحنة:12] حتى فرغ من الآية كلها، ثم قال حين فرغ منها: أنتن على ذلك؟ -يعاهد النساء ويخاطبهن: تعاهدن بعدم الشرك، وعدم السرقة، وعدم الزنا، وعدم قتل الأولاد، وعدم المعصية في المعروف- فقالت امرأة واحدة لم يجب غيرها منهن: نعم يا نبي الله! فأمرهن بتقوى الله.
ونحن نقول من موقفنا هذا: اتقين الله.
ثم حثهن على طاعته، ووعظهن وذكرهن، وقال: تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم، وإني أريتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة منهن من سطة النساء -هي من أفاضل النساء هي أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها- قالت: فناديت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت جريئة على كلامه، فقلت: يا رسول الله! لم نحن أكثر أهل النار؟ -لم معشر النساء أكثر حطب جهنم؟ - فقال: لأنكن تكثرن اللعن، وتكثرن الشكاة -أي: كثيرات التشكي- وتكفرن العشير -العشير: هو الزوج، أي: تجحدن نعمته- وفي رواية: لأنكن إذا أعطيتن لم تشكرن، وإذا ابتليتن لم تصبرن، وإذا أمسك عنكن شكوتن -وهذه أسباب دخول النار بالنسبة للنساء- فقالت امرأة: أعوذ بالله يا رسول الله! من كفران نعم الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن إحداكن تطول أيمتها من أبويها -تعنس عند أبويها- ثم يرزقها الله زوجاً، ويرزقها منه مالاً وولداً، ثم تغضب الغضبة -تحصل مشكلة بينهما- فتقسم بالله: ما رأيت منك خيراً قط!! فذلك من كفران نعم الله، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، قلن: وما نقصان عقلنا وديننا؟ قال: أليس شهادة المرأة منكن مثل نصف شهادة الرجل، فقلن: بلى، فذاك نقصان عقلها، قال: أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم، قلن: بلى.
قال: وذلك من نقصان دينها، فبسط بلال ثوبه، ثم قال: هلم لكن فداء أبي وأمي، فجعل النساء يلقين الفتخ وينزعن قلائدهن وأقراطهن وخواتمهن، يلقين في ثوب بلال يتصدقن به، وبلال يأخذ في طرف ثوبه ويحصله في كسائه، فكان أكثر من يتصدق النساء، فانطلق هو صلى الله عليه وسلم وبلال إلى بيته، ورجع إلى أهله، فقسمه على فقراء المسلمين).
هذا ما كان منه صلى الله عليه وسلم في خطبة عيد الفطر، وما حصل من وعظ النساء.
ونحن نقول: يا معشر النساء! اتقين الله تعالى، واحفظن حقوق الأزواج: (اثنان لا تجاوز صلاتهما رءوسهما: عبد آبق من مواليه حتى يرجع، وامرأة عصت زوجها حتى ترجع) (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها؛ لعنتها الملائكة حتى تصبح) (إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته وإن كانت على تنور) (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئتِ) (انظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك) (خير النساء التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره) (لو تعلم المرأة حق الزوج لم تقعد ما حضر غداؤه وعشاؤه حتى يفرغ منه) (لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه) (ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة؟ الودود الولود العئود -التي تعود إلى زوجها إذا غضب- التي إذا ظلمت قالت: هذه يدي في يدك لا أذوق غمضاً حتى ترضى).
يا معشر النساء: ليس في نقصان العقل والدين بالنسبة إليكن ذنبٌ ارتكبته واحدة منكن، فإنما هو أمر الله تعالى في الحيض والنفاس، وجعل الله شهادة امرأتين بشهادة رجل، ولكن أين المشكلة؟ في التمرد على الشريعة، ومعصية الرب جل وعلا، إذا كان الزوج قائماً بالحقوق الشرعية، ثم تظلمه المرأة، ثم، وثم، وثم قضية الحجاب.(195/5)
ماذا فعلوا بعباءة المرأة؟
عباد الله: إن المسألة قد وصلت الآن إلى حدٍّ لا يمكن السكوت عنه بأي حال من الأحوال!! إن مناظر النساء اللاتي يغشين الأسواق بهذه الأكسية، وهذا التبرج، وهذه الأطياب، والشباب حولهن يسيرون وراءهن، وهن متباهيات بتجميع هؤلاء الفسقة وراءهن هو أمر مخجل يندى له الجبين!! إن دخول النسوة إلى بعض المطاعم اليوم، ثم إزالة الحجاب، والجلوس هكذا على مرأى أمام الرجال الذين يدخلون إلى بعض المطاعم، وبعضها التي تسمى مطاعم عائلية، والله إنه أمرٌ يغضب الرب.
إن مسألة مخالفة أوامر الله في الحجاب عند النساء قد وصلت إلى حد مزرٍ -أيها المسلمون! - ضيع الولي الأمانة، وضيعت المرأة الشريعة في أمر الحجاب فصارت قضية مأساوية، وسأضرب لكم الآن أمثلة واقعية لتعلموا معنى ما أقول: عباد الله: هل رأيتم هذا الشيء الذي بيدي الآن؟ هذا النقاب التي تلبسه بعض نسائكم، انظروا إلى فتحته ما أوسعها، انظروا إليه؛ إنه يشد على الرأس من الخلف هكذا، وتخرج عينها المكحلتين وهي في غاية التبرج لتفتن الشباب، وهؤلاء لا يغضون أبصارهم، ثم انظروا معي الآن إلى بعض العباءات الموجودة، وهذه مسألة أبرئ منها نفسي أمام الله ثم أمامكم، انظروا الآن إلى هذا القيطان وهذه الزخرفة الموجودة في العباءة في الوسط وفي الأكمام، ثم انظروا معي أيضاً إلى هذه الأشياء اللامعة الموجودة على عباءات بعض نسائكم يا معشر الرجال! معشر الرجال أخاطب ومن وراء الجدران النساء! تلبس هذا نساؤكم، أرأيتم هذه الأشياء اللامعة والمطرزة في العباءة؟ تخرج نساؤكم بهذا إلى الشوارع وأخواتكم وبناتكم.
ثم انظروا معي أيضاً إلى هذه الزخارف الموجودة في العباءات، هل هذا يرضي الله؟ انظروا بالله معي إلى قصر أكمام هذه العباءة، أرأيتم كم طول الكم؟ أرأيتم ماذا يخرج منه؟ ثم انظر معي إلى هذا وهو مخرَّق، ذو ثقوب موجودة، يكشف عما تحته من الجلد والثياب، الخروق موجودة على هيئة زينة في الأكمام ترونها وترون من خلالها، هذه أشياء منها ما هو شفاف ومنها ما هو مثقوب تلبسه نساؤكم، ثم انظروا إلى ما هو موجود في العباءة من الزينة والألوان، نساؤكم تذهب إلى الأسواق وتشتري من هذه الأشكال، أهذا شيء يرضي الله؟!! أهذا من الدين؟!! هل هذا هو الحجاب الذي أمر الله به؟ هكذا تلبس بعض النساء، ويخرجن أمام الناس.
وعندما تقول الشريعة: إن حجاب المرأة يكون سابغاً على كل الجسم، وتقول الشريعة: إن حجاب المرأة ساتر لجميع الجسد، وتقول الشريعة: وحجاب المرأة لا يكون مزيناً ولا مطرزاً ولا مزخرفاً، هذه العباءات التي تلبسها بعض النساء!!! أهذا يرضي الله؟! أقسم بالله العظيم أن ما تفعله بعض النساء اليوم بأنفسهن، والأولياء الذين يذهبون ويشترون أمثال هذه العباءات -انظروا أيها الإخوة! - والكشاكش والضانتيلات وشفاف، عرض أزياء تحولت العباءة إلى فستان، ثم يلبس على طريقة الثوب، ويلبس الخمار على طريقة الغترة، إنهم يوم القيامة موقوفون بين يدي الله سبحانه وتعالى.
يا عباد الله: أين الغيرة؟! يا عباد الله: أين تقوى الله؟! يا أيها النساء: كيف يحل لكن أن تذهبن إلى محلات العباءات لشراء مثل هذه الأشياء؟ ثم إن المصيبة تعظم إنك لو نزلت الآن لتبحث عن عباءة شرعية لا تكاد تجد، وربما تضطر إلى تفصيلها تفصيلاً؛ لأن الطلب على هذه الأنواع الفاضحة.
ثم سمعتم بعباءة كريستيان ديور وعباءة إيب سان لوران، ما معنى ذلك؟ معنى القضية أننا مستهدفون من النصارى والكفرة، حتى في أعز ما نملكه؛ في حجاب نسائنا! والله إنه أمرٌ يندى له الجبين!! وأقسم بالله العظيم أن الرب ساخط على هذا، ونحن المسئولون؛ أنا وأنت وهو وهي التي تلبس أيضاً مشتركة، وإذا كان على الإنسان الإثم في الشراء وعلى البائع في البيع، الذي كسبه من هذا حرام، فإن الإثم عليها أضعاف مضاعفة، وهي تلبسه تتمشى به بين الرجال في الأسواق، والسائق صار امرأة لا اعتبار له، الخلوة معه حتى في صلاة التراويح.
لم يكن ما أريتكم عرض أزياء ولا دعاية، لكنه كان شيئاً استعير على عجل، ولو أننا نقبنا لوجدنا ما هو أفضع وأفضع، فأين تحمل الأمانة والمسئولية؟! اللهم ألهمنا رشدنا، وردنا إلى دينك يا رب العالمين، لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم انشر رحمتك علينا وعافنا واعف عنا، وردنا إلى الحق يا رب العالمين، طهر بيوتنا من المنكرات، ارزق نساءنا العفاف والحجاب، وارزق شبابنا الهدى والصواب، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا في هذا المجمع، لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، وعمل مبرور، وتجارة رابحة لا تبور.(195/6)
نقطة الانطلاق في طريق الاستقامة
الهداية نقطة الانطلاق في طريق الاستقامة، ولها أسباب كثيرة أوردها الشيخ في درسه مع ذكر بعض ما حصل في عهد السلف من مواقف أثرت في أصحابها وغيّرت من أحوالهم، إضافة إلى قصص وحوادث واقعية كانت سبباً في هداية أصحابها.(196/1)
الهداية نعمة من الله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
إخواني في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛ وبعد: فإنها لفرصةٌ طيبةٌ أُعرب لكم فيها عن سروري واغتباطي بلقياكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا جميعاً وهذا البلد الأمين من شر كل ذي شر إنه هو أرحم الراحمين، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا شقياً ولا محروماً.
أيها الإخوة: إن الهداية نعمةٌ من الله سبحانه وتعالى لا يملك أحدٌ أن يعطيها إلا الله عز وجل، وهي أثمن نعمة يمكن أن يحصل عليها العبد في دنياه، وإذا اهتدى العبد سار في طريق الاستقامة، فالهداية هي نقطة الانطلاق في طريق الاستقامة، فإن العبد إذا صار مهتدياً، عمل الخيرات، واشتغل بالطاعات، وابتعد عن المحرمات، فيصبح سالكاً لطريق الاستقامة.
إن الهداية هي نقطة الانطلاق، هي أمرٌ له ما بعده، وينبني عليه كثيرٌ من الأمور، وهذا هو عنوان المحاضرة "نقطة الانطلاق في طريق الاستقامة" ونقطة الانطلاق مهمة جداً؛ لأنها تغير مسار الشخص.
وعندما نستحضر في أذهاننا صوراً من بعض الصحابة الذين دخلوا في الدين وأسلموا، كان إسلامهم وهو نقطة الانطلاق بالنسبة لهم نقطة انطلاقٍ عظيمةٍ؛ لأن الشخص يتغير كيانه واتجاهه، فإذا فكرنا -مثلاً- في حال بعض الصحابة الذين أسلموا بـ مكة، ورجعوا بعد إسلامهم هداةً إلى قومهم، يهدون هداية الدلالة والإرشاد لعل الله أن يزرق أولئك الأقوام والقبائل هداية التوفيق والإلهام، فيكونون سبباً لإدخال الناس في دين الله، فيؤجرون الأجر العظيم.
يسلم، ويهديه الله، فينطلق للعلم بالإسلام، ينطلق للتفقه في الدين، بل إنه ينطلق للجهاد في سبيل الله، وينطلق لمفاصلة الكفار وإعلان البراءة منهم.
وما حدث لـ ثمامة بن أثال رضي الله عنه لما أسلم بعد الثلاثة الأيام التي كان مقيداً فيها في المسجد، يرى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، ويسمع قراءته صلى الله عليه وسلم للقرآن بذلك الصوت الخاشع، وينظر إلى التعامل الذي يتعامل به المسلمون مع نبيهم صلى الله عليه وسلم، إنه يرى يومياً حياةً عمليةً منبثقةً عن دين الله.
لما أسلم ثمامة انطلق ليفاصل الكفرة، استأذن في عمرة، وذهب إلى كفار قريش ليعلن مقاطعةً اقتصاديةً لهم: ما يأتيكم حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(196/2)
فوائد طلب الهداية
وهذه المحاضرة -أيها الإخوة- هي إكمالٌ لمحاضرة سابقة بعنوان "بين الهداية والانتكاس" أذكر في مطلع هذه المحاضرة ببعض النقاط: الهداية التي هي نقطة الانطلاق -كما قلنا- من الله عز وجل، ولذلك نحن ندعو ربنا يومياً عدة مرات، ونحن نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] نطلب الهداية من الله، فإذا قال إنسانٌ: أنا مستقيم على الدين، فلماذا أطلب الهداية؟ نقول: إن طلب الهداية من قبل المهتدي فيها فوائد، فمن ذلك: تثبيته على الهداية؛ لأن الإنسان قد يهتدي، ثم ينتكس، فيسأل الله أن يثبته على الهداية.
وكذلك أن يستزيد من الهداية، فإن الهداية مراتب، الهداية مثل الإيمان والعلم، فإذا اهتدى العبد، وصار في مرتبة من مراتب الهداية، يسأل ربه المزيد من هذه الهداية، والجنة درجات فمن صار في الإيمان والعلم والتقى في المراتب العليا، صار في الجنة من أهل المراتب العليا.
قالت عائشة رضي الله عنها إنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم مرةً من مضجعه، فلمسته بيدها، فوقعت عليه وهو ساجد، وهو يقول: (رب آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) فهذه التقوى والتزكية هي الهداية من الله سبحانه وتعالى، لا أملكها أنا ولا أنت: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] من الذي يهدي إلى الحق؟ {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} [يونس:35] {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25] الهداية منة من الله {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات:17].
إذا اغتر الداعية يوماً من الأيام بنفسه، فليتذكر قول الله عز وجل: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94] منَّ عليكم بالهداية، فلا تحتقروا الناس، لا تستصغروا الناس، ولكن تذكر إذا رأيت عاصياً أنك كنت يوماً من الأيام مثله وربما أشد، إن هذه النظرة تسبب الرحمة والشفقة بالمدعو وهو أمرٌ مطلوبٌ لنجاح الدعوة.
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداءً لك ما اقتفينا وثبت الأقدام إن لاقينا
رواه البخاري.
هذه كلمات عامر بن الأكوع رضي الله عنه ورحمه التي أسمعها لبعض المسلمين في طريق السفر، إن الأنصار لما عاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما وجدوا في أنفسهم تجاهه عليه الصلاة والسلام، لما أعطى قريشاً والمؤلفة قلوبهم ما أعطاهم، قال لهم: (يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالةً فأغناكم الله بي؟) فإذاً هدى الله أولئك الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكان النبي عليه الصلاة والسلام سبباً عظيماً، والهداية من الله، وأعظم منة على النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء في قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [الضحى:7] بل إن أهل الجنة عندما يدخلون الجنة، يقولون؟ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43].(196/3)
من طرق الهداية وأسبابها
والهداية ليس لها طرقٌ محددةٌ تأتي من خلالها، بل ربما تأتي بطريقة غير متوقعة، بعض الناس ذهبوا إلى بلاد الكفر ليزدادوا ضلالة، فإذا بهم يرجعون هداةً مهتدين، الهداية شيءٌ من الله، لو اجتمع أهل الدنيا على أن يهدوا شخصاً، ما هدوه، وقد يكون بين الكفار فيهتدي، فالذي هداه هو الله عز وجل.
نعم إن للهداية أسباباً، فالعلم الشرعي سبب للهداية الدعاء سبب للهداية المجاهدة سبب للهداية {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] والالتقاء بالناس الطيبين الخيرين هو سببٌ للهداية، وهذه الهداية قد تقع بسبب شخص يجعل الله الهداية عن طريقه، وقد تكون من الله سبحانه وتعالى مباشرةً دون أن يكون هناك سبب من شخص موجود، والهداية قد تأتي للشخص تدريجياً يتغير حاله شيئاً بعد شيء حتى يصل إلى الاستقامة، وقد تحصل له فجأة، فيتغير في ثوانٍ، يقذف الله في قلبه نوراً، فيتغير من تلك اللحظة، وينقلب حاله، أو يرجع في الحقيقة للاستواء بعد أن كان منقلباً منكوساً.
من الأمثلة على دخول الهداية تدريجياً ما حصل لـ جبير بن مطعم، وكان من جملة أسارى بدر، قال: [سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ * {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:35 - 37] قال: كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي] أول ما سكن وثبت {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35] من العدم: {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] لأنفسهم، أم هم الذين خلقوا السماوات والأرض، فهو يناقشهم مناقشة قوية، قال ابن كثير رحمه الله: فكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة -يعني: هذا سبب، هذا شيء من الأشياء، عامل من العوامل- ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك.
قد تكون الموعظة، أو الخطبة، أو الشريط، أو الكتاب الذي يقرؤه، ونحو ذلك هذا عامل من العوامل، لكن ليس تأثيره قوياً للدرجة الكافية التي تغير الشخص، لكن تجتمع النقاط، فيمتلئ الكأس، كلمة مع خطبة، مع موعظة، مع شريط، يستمع إليه، مع شيء يقرؤه، مع حادثٍ يحصل، مع رؤيا، ونحو ذلك يتغير حال الشخص مع جيرة طيبة، مع تعهد وتفقد من قبل الدعاة إلى الله.(196/4)
مواقف من السلف أثرت في أصحابها
وحصل في عهد السلف رحمهم الله حوادث كانت فيها معالم دعوية للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى في كيفية التسلل إلى النفوس والتأثير في القلوب.(196/5)
توبة زاذان
من ذلك ما حصل لـ زاذان أبي عمر الكندي أحد العلماء الكبار، تاب على يد ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قال زاذان: كنت غلاماً حسن الصوت جيد الضرب بالطنبور -وهو من آلات اللهو- فكنت مع صاحب لي وعندنا نبيذٌ وأنا أغنيهم.
هذا فتى لاهِ لاعب، لكن الله سبحانه وتعالى قدر أن يكون من كبار العلماء، فلا بد من نقلة، لا بد من نقطة انطلاق لكي يمسك هذا الشخص بدرب الاستقامة، ويصل ويمشي فيه ويسرع الخطى إلى رتبة العلماء الكبار.
فكنت مع صاحبٍ لي وعندنا نبيذٌ وأنا أغنيهم، فمر ابن مسعود، فدخل وضرب الباطية -يعني: إناء الخمر- فبددها وكسر الطنبور، ثم قال: لو كان ما يسمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنت أنت أنت.
لو استعملت صوتك الحسن هذا بالقرآن بدل استعماله بالأغاني لكنت أنت أنت، لكنت أنت الرجل العظيم، وأنت الشخص المبارك، لكنت أنت بالمنزلة الرفيعة، ثم مضى، فقلت لأصحابي: من هذا؟ قالوا: هذا ابن مسعود، فألقى الله في نفسي التوبة، فسعيت أبكي وأخذت بثوبه، فأقبل علي فاعتنقني وبكى، وقال: مرحباً بمن أحبه الله، اجلس، ثم دخل وأخرج تمراً إلى آخر القصة.(196/6)
توبة القعنبي
والقعنبي المحدث المشهور، كانت هدايته على يد شعبة بن الحجاج، قال أحد أولاده: كان أبي يشرب النبيذ، ويصاحب الأحداث، فدعاهم يوماً وقد قعد على الباب ينتظرهم -ينتظر أصحاب السوء وقرناء السوء- فمر شعبة على حماره، وكان شعبة هو أمير المؤمنين في الحديث في عصره، وطلاب الحديث يسرعون وراء شعبة لكتابة الحديث، فقال: من هذا؟ قيل: شعبة، وقال: وأي شيء شعبة؟ لماذا هذا التجمهر حول هذا الرجل؟ فقالوا: محدث، فقام إليه وعليه إزار أحمر، ومعلوم أن لبس الأحمر الخالص للرجال منهيٌ عنه، لكنه كان شاباً ماجناً، لكن لما سمعهم يقولون محدث، جرى وراءه، فقال له: حدثني، فقال له شعبة وقد رأى هيئته ولباسه: ما أنت من أصحاب الحديث فأحدثك.
العلماء كانوا ينتقون الأشخاص الذين يضعون عندهم العلم، ما كانوا يضعون العلم عند فاسق يستغله في معصية الله، أو يخدع به الناس، بل يرتجون الأتقياء لجعل هذه الأحاديث بأسانيدها، يعني: أسانيد الحديث في ذلك الزمن كانت نوع كرامة، أن يتصل اسم الشخص بسندٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا لا يضعونها عند الفسقة، فيكونون كمن يقلد الخنازير عقود الدرر واللآلئ.
فقال له: ما أنت من أصحاب الحديث لأحدثك، فأشهر سكينة -هذا الشاب- وقال: تحدثني، أو أجرحك، فقال له: حدثنا منصور عن ربعي عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح، فاصنع ما شئت) فحدثه ونزل عند رغبته، لكن حدثه بحديث فيه توبيخ وتقريع له (إذا لم تستح، فاصنع ما شئت) وهذا وعيد، مثل قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40] والله سبحانه وتعالى سيجازيكم ويحاسبكم، فرمى سكينته ورجع إلى منزله، وقد أثر فيه هذا الحديث وهذه الموعظة من المحدث، ورجع إلى منزله، فقام إلى جميع ما كان عنده من الشراب، فأراقه، وقال لأمه: الساعة أصحابي يجيئون، فأدخليهم وقدمي الطعام إليهم، فإذا أكلوا، فأخبريهم بما صنعت بالشراب.
أخبريهم أن حالي قد تغير.
وهذه مسألة مهمة: ينبغي أن يعرف قرناء السوء أن حال صاحبهم قد تغير، ينبغي أن يعرفوا أن هذا الشخص لا طريق له معهم، ينبغي على التائب أن ييئس قرناء السوء الذين كانوا معه، يجعلهم يصابون باليأس منه؛ لأن بقاء الأمر معلقاً وهو يخفي حاله الجديد خطيرٌ جداً عليه؛ لأنهم سيعاودون الكرة، ويحاولون إعادته مرة أخرى إلى ما كان عليه، لكن إذا كان من البداية صار التصريح بالتغيير، لم يكن هذا مؤثراً فيه، ومضى من وقته إلى المدينة، فلزم مالك بن أنس، فأثر عنه، ثم رجع إلى البصرة وقد مات شعبة، فما سمع منه غير هذا الحديث.(196/7)
توبة الفضيل بن عياض
وعدد من السلف رحمهم الله تابوا بمواقف مثل: الفضيل بن عياض الذي تاب عندما سمع رجلاً يقرأ القرآن في الليل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16] فلما سمعها، قال: بلى يا رب آن، فرجع، وكان يتسلق جداراً ليصل إلى امرأة يفجر بها، وكان يخوف المسافرين في طريق السفر؛ لأنه كان يقطع عليهم الطريق.(196/8)
توبة لص على يد مالك بن دينار
وفي سيرة مالك بن دينار، قيل: دخل عليه لصٌ، فما وجد ما يأخذه، فناداه مالك بن دينار وكان زاهداً ما عنده ممتلكات في البيت، ما عنده كماليات، أطقم من الحلي والمجوهرات، خزينة نقود، ما كان عنده في البيت أشياء يريدها اللصوص، فأحس مالك باللص في الليل، وناداه قائلاً: لم تجد شيئاً من الدنيا، أفترغب في شيء من الآخرة؟ فاستحيا اللص، قال: نعم، فقال: توضأ، وصلِّ ركعتين، ففعل، ثم جلس وخرج إلى المسجد، فسئل مالك بن دينار: من هذا الذي خرج من عندك؟ قال: جاء ليسرق فسرقناه.(196/9)
أسباب الهداية
وننتقل -أيها الإخوة- الآن لدراسة بعض الحالات التي اهتدى فيها بعض الأشخاص، وإلى أمثلة واقعية لقصص وحوادث حصلت كانت سبباً لهداية بعض الأشخاص، ونصل من خلالها إلى بعض التوصيات التي تهم الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى.
ونعود إلى النقطة التي ذكرناها في البداية وهي أن الهداية تأتي أحياناً من الله سبحانه وتعالى دون سبب من شخص، ما يكون هناك شخص، لكن شيءٌ يحدثه الله في نفس المهتدي، فالله سبحانه وتعالى يهدي أناساً بأحداث يجريها، ليس لأحد من الدعاة فيها دور ولا حتى سبب، والتمعن في هذه النقطة مهم حتى لا يغتر الدعاة بأنفسهم، أو يظنوا أن الهداية لا بد أن تأتي عن طريقهم، لا، إنهم أحياناً يعملون ويعملون يريدون هداية شخص ولا يهتدي، وأحياناً يفاجئون بأن فلاناً قد اهتدى مع أن أحداً من هؤلاء الدعاة لم يحتك به مطلقاً، ذلك ليعلم هؤلاء أن الهداية من الله سبحانه وتعالى، قد تكون بسببهم، وقد تكون بسبب آخر ليس على طريقهم، الهداية من الله، ما هم -أي: الدعاة- إلا مجرد أسباب يجري الله على أيديهم الخير.
ومن الأمثلة على أن الهداية التي تأتي بعض الناس لا يكون لأحد من الدعاة فيها شيء، لو سألنا بعض المهتدين المستقيمين، قلنا لهم: ما سبب هدايتكم؟ -وسلف في البداية- قلت: لو أن بعضكم يعود بذهنه إلى الوراء ممن هداه الله واستقام، ويتذكر السبب الذي غير حياته، ونقله من معسكر أهل الفسق إلى معسكر أهل الإيمان والتوحيد، هذا السبب التأمل فيه مهم يزيد الإنسان إيماناً، أحياناً يرى الشخص رؤية، أو يقع له حادث، أو يمرض مرضاً ويتغير، وينقذ بهذه الحادثة ويهتدي، ولم يكن هناك داعية اقترب منه، ولا إنسان ناصح تكلم معه، ولا أحد وعظه، تغير من تلقاء نفسه، هذا موجود في الواقع، تغير بفعل هذه الرؤيا التي رآها، أو هذا الحادث العنيف الذي حصل له، أو المرض الخطير الذي أصابه، لكن ما مهمتنا نحن الدعاة إلى الله عز وجل عند حصول هذا الشيء، لنا مهمة وعلينا واجب وهي أن نسعى لتعميق وتأصيل ما حصل لهذا الرجل بالعلم النافع والصحبة الطيبة واستمرار الوعظ.
فإذا رأيت رجلاً قد اهتدى وتأثر من شيء لا سبب لك فيه، ولا تدخل أحد من الناس علمت عنه، الله سبحانه وتعالى قدمها فرصة لك أنت، وتخطى هذا الشخص بفضل الله العقبة الأساسية؛ لأن الانتقال حصل، الإكمال أسهل الآن؛ لأن الرجل تغير حاله، فوظيفتك أنت إذاً المتابعة، الرجل يحتاج إلى تعليم، يحتاج إلى وسط طيب، صحيح النقلة الأساسية حصلت، فضل من الله ومنة ليس لي ولك، ولا لأي أحد من الدعاة، ولا لأي أحد من طلبة العلم أو الوعاظ فضل فيها ألبتة، النقلة حصلت، لكن يجب علينا المتابعة في حال هذا الشخص؛ لأن التأثير أحياناً لا يستمر ويكون تأثيراً مؤقتاً، إذا لم يتابع الرجل، أو لم تتابع المرأة هذه من قبل صاحبات طيبات، تعود إلى الانتكاس مرة أخرى.(196/10)
المصائب والأزمات
نأخذ بعض الأمثلة التي أرسلها لي بعض الإخوان من حوادث واقعية في هذه النقطة، يقول: كان هناك رجلٌ قريبٌ لي وكان يدخن، ولربما أنهى علبة أو علبتين في اليوم الواحد، وكان تاركاً للصلاة، وبينما هو في أحد الأيام يغسل أرضية منزلة بمادة كيماوية (فلاش) استنشق رائحة هذه المادة، فخرج من صدره وهو يسعل مادة سوداء من أثر الدخان، وبعد أن رأى ما رأى أعطى لنفسه عهداً ألا يدخن بعد ذلك، ثم رجع إلى الصلاة، وصلى مع الجماعة، وأعفى لحيته، وهداه الله.
من الذي سبب لهذا الشخص هذه الحادثة؟ أن يغسل بمادة كيماوية، وتأثر منها حتى يسعل نتيجتها ويعرف ضرر التدخين ويتركه، ثم ينتقل لما هو أهم ذلك وهو من أداء الصلاة، إنه الله عز وجل، وليس لداعية فضل في ذلك.
وهذا شخص يقول: قد كنت شاباً من شباب المعاكسات، وإذا بصديقي يدخل السجن بسبب المعاكسات، وأخبروني بأني سأكون بعده، ففكرت بفكرة وهي رمي جميع الأشرطة من السيارة -أشرطة الغناء التي تكون دليلاً على أنه من المعاكسين- وشراء أشرطة قرآن حتى لا يشكوا في أمري إذا فتشوني، وأبعد الشبهة عن نفسي بأشرطة القرآن، وإذا بي أسمع أشرطة القرآن هذه -لأنه الآن يتظاهر بالصلاح- وإذا بي أسمع سورة يوسف في أحد الأشرطة، وكانت تلك هي أول مرة أسمعها في حياتي، وكيف أنه عرض عليه الزنا ولم يرض، فبكيت كثيراً، وعزمت على ألا أعود إلى ما كنت عليه من السوء، والتزمت بالدين، وهداني الله سبحانه وتعالى.
يا إخواني: انظروا إلى المدخل، قضية الهداية هذه من عجائب الله سبحانه وتعالى في خلقه، هذا أتى بالأشرطة لتكون تغطية، فكانت الأشرطة سبب الهداية.
وآخر يقول: أعرف شخصاً كانت هدايته أن صار في مأزق نظراً لمعصيةٍ اقترفها، كانت هذه المعصية كفيلة بذهاب وظيفته، فالتجأ إلى الله لجوءاً صادقاً بعدما كان بعيداً عن الله، أي: أن الله عز وجل يقدر على شخص أن يمر بأزمة وضائقة، وهذه الأزمة والضائقة تكون سبباً في هدايته، فالتجأ إلى الله لجوءاً صادقاً بعدما كان بعيداً عن الله، وقال في دعائه: لئن أنجاني الله من هذا؛ لأعودن إلى الله وأستقيم، فستره الله وانتهت المشكلة بسلام من حيث لا يحتسب، ولم يفقد وظيفته، ولم يفتضح، فرجع إلى الله وصدق مع الله واستقام وكان ذلك مؤثراً في نفسه.
فإذاً قد يكون ما يقدره الله على الشخص من المصائب أو الأزمات سبباً للهداية، مثل بعض الكفار لما دخلوا البحر فلعب بهم الموج وأوشكوا على الموت، عرفوا الله كما حدث لـ عكرمة بن أبي جهل، خرج هارباً من النبي عليه الصلاة والسلام لما فتح مكة، فدخل البحر فأوشك على الغرق ولعب به الموج، فحلف إن أنجاه الله؛ أن يأتي محمد صلى الله عليه وسلم فيدخل في الدين، ويبايع النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا بالفعل ما حصل، أنجاه الله، فعرف أن الله حق، وأنه هو الذي يرجع إليه في الأمور، وهو الذي يكشف السوء، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ولو كان كافراً، فرجع إلى الله سبحانه وتعالى.
وهذا آخر يقول: أعرف شخصاً كان والعياذ بالله من أسوأ الشباب الفاسق، وذات ليلة من الليالي عمل حادثاً، فأنجاه الله بأعجوبة، فكان هذا سبباً في هدايته، وأتلف بعد ذلك حقيبة بها ثلاثمائة شريط غناء، فسبحان الهادي!(196/11)
الرؤيا في المنام
وقلت سابقاً: إن بعض الناس يريهم الله رؤيا في المنام تكون سبباً في هدايتهم، قد يرى أن يوم القيامة قد قام، وأن الناس بعثوا من القبور، أو يرى نفسه في القبر، أو نحو ذلك، فيفزع، فتكون تلك الرؤيا تنبيهاً من الله عز وجل، ودافعاً له للعودة والتوبة.
يقول هذا الأخ: كنا جلوساً ذات يوم أنا وأهلي بعد صلاة الظهر، وكان أخي نائماً، وبينما كنا كذلك، إذا بأخي ينتفض ويرتعش ويعرق وهو لا يزال نائماً، فلم نعرف ما أصابه، فأرقنا عليه الماء، وحملناه إلى سريره، ولكن حاله لم تتغير من الاضطراب والانتفاض والعرق، فحملناه إلى المستشفى ظناً منا أنه مريض، ولما صار في السيارة استيقظ، وقال: أرجعوني إلى البيت لست مريضاً، وبعد فترة سكنت نفسه وذهب ما به، وعندما سري عنه، سألناه عما به، فقال: إنه قد رأى في المنام النار وأشياء من الأهوال، فخاف منها خوفاً شديداً، فلذلك ظهر عليه ما ظهر وهو في النوم، وبعد هذه الرؤيا استقام أمره وتغير حاله بعد فسقه، ورجع إلى الله.
هذه أمثلة من حوادث واقعية من الله عز وجل مباشرة، لم يكن فيها سبب بشري، وواجبنا -كما قلت أيها الإخوة- أن نسارع باحتضان مثل هؤلاء الأشخاص، يقع لأحدهم حادث في السيارة قد يموت من معه من رفقاء السوء وينجو هو، أو يموت صاحب له تربطه به علاقة قوية بإبرة مخدرات ويفارقه ذلك النديم، فتحدث له صدمةٌ ترشده، وهزةٌ توقظه فيرجع، فينبغي المسارعة إذا رأى الإنسان حالة من هذه حادث حصل أمامه، يسارع الآن في الضرب على الحديد وهو ساخن، فطرق الحديد وهو ساخن يطوع الحديد ويؤثر فيه فيتشكل، ولذلك الموعظة بعد الحادث مباشرة، مثلاً: عند المرض الشخص يكون في حال من التأثر الشديد، وهنا تكون النصيحة لها موقعها، يصاب بمرض شديد، يدخل المستشفى إلى غرفة الإنعاش إلى مرض خطير إلى تقارير طبية سيئة إلى كلام عن احتمال الوفاة يتغير الشخص، ويعاهد ربه على عدم العودة إذا كتبت له الحياة، هنا يحتاج إلى زيارة وتذكير وإحاطة به بعد خروجه، ويكفي الحالة التي يكون عليها هذا الشخص، أو من أصابه حادث لكي يكون الوقت مناسباً جداً للنصح.
كنت أسير مع أخٍ لي في سيارته في أحد الطرق السريعة بقرب المدينة، وبينما نحن نسير في الجانب الآخر كانت هناك سيارة قادمة مسرعة، وفجأة خرجت السيارة عن مسارها، ودخلت في الجزيرة التي هي بين الشارعين الرئيسيين، وتقلبت عدة مرات، وارتفع الغبار حتى غطى مكان الحادث، ما عدنا نرى شيئاً مطلقاً من الغبار المنبعث إلا أنني رأيت باب السيارة يتقلب حتى وصل إلى إسفلت الشارع، وإطار من إطاراتها يمشي حتى عبر الشارع وخط المساندة، ودخل في الرصيف المقابل، فأسرعنا إليهم، فلما انجلى الغبار، رأينا أربعة أشخاص يخرجون من نوافذ السيارة، وهم الذين كانوا بها، لطف الله بهم؛ لأن الرمل ثبت السيارة بعد تقلبها، فثبتت وصار سقفها إلى الأسفل وعجلاتها إلى الأعلى، وهم يخرجون كالمتسللين من هذه الشبابيك المكسرة الزجاج، ما هي العلامات التي كانت على وجوههم؟ القترة والغبار وجروح وخدوش، وهذا يعرج، وهذا يئن من الألم، فجلسوا على حافة الطريق، وهم مستغرقون في الدهشة؛ لأن الحادث -أيها الإخوة- إذا صار في ثوانٍ، يفاجئ به الشخص أيما مفاجأة، وكان هناك صوت شريط بالغناء ينبعث من السيارة لا زال يعمل، فلما رآنا هذا الشخص أنا قدمنا عليهم، قال: أغلق هذا، الله يلعن هذه الموسيقى، يعني: تدارك الأمر، يعني: استحيا، كأنه عرف أننا سنقول له: تصور لو كانت نهايتك في هذا الحادث على سماع هذا الشريط.
المهم أن تلك اللحظة لحظة مواساة، قد لا يكون مناسباً أن ينزل عليهم الشخص بالتقريع والتوبيخ، هذه حالة مواساة، لكن يكون معها شيء من التذكير والوعظ، ويقول الإنسان مثلاً لهم: ربما كان هذا نذير من الله سبحانه وتعالى، وتكون هذه فرصة لكم، عودوا إلى الله، ونحو ذلك.
المهم أن تلك اللحظات ينبغي أن تستغل، هذا هو الدرس الكبير الذي نخرج فيه من هذه المسألة، عيادة المريض الكافر مشروعة ليدعى إلى الله، عاد النبي صلى الله عليه وسلم كفاراً في حال مرضهم، وكتب لبعضهم الهداية على يده صلى الله عليه وسلم، لأن هذه الحال حال تأثر، ومن الأشياء التي يكون هناك فيها تقبل من قبل أشخاص حالات كثيرة، وهذه الحالات تنبئ عن أمور ينبغي الاهتمام لها من قبل الدعاة إلى الله عز وجل.
هذه قصة رجل كان منهمكاً في المعاصي وكان يعمل في أحد المقاهي، وكان يعرف نساء، فيحضر لهن رجالاً للزنا، وهو يفعل الفاحشة كذلك، حتى أصيب يوماً بمرض، فابتعد عن العمل، وابتعد عن المقهى، وكان لا ينام الليل، وفي يوم دعاه شخص من الساكنين معه إلى الصلاة، فذهب معه لصلاة العشاء، وبعد الصلاة قام أحد الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى بإعطاء الحاضرين بعض الرسائل الإسلامية الصغيرة، فأخذ منها رسالةً، فوضعها عنده، وفي ليلة لم يأته النوم فيها، قام ورأى هذا الكتاب فأخذه ليقرأه، وبعد قراءته أحس براحة تامة، واستمر كذلك يقرأ الكتب النافعة، واتجه إلى الله سبحانه وتعالى، وحفظ القرآن في سنة، ثم ذهب إلى منطقته وتزوج، وهو الآن إمام أحد المساجد بأحد المدن، ما هو الدرس الذي نأخذه نحن؟ أن إيصال الوسائل التي فيها التأثير أمرٌ مطلوبٌ من الدعاة إلى الله، إيصال الأشرطة الطيبة والكتب النافعة إلى الناس مطلوب، صحيح أن بعضهم يأخذها ولا يقرؤها، وبعضهم يجامل ويقول: شكراً شكراً ويأخذ الكتب، لكن ربما في يوم من الأيام هو أو غيره يقرأ هذا الكتاب المرمي في البيت، أو يسمع هذا الشريط المرمي في السيارة، ولذلك ينبغي علينا الجد والاجتهاد في ذلك.(196/12)
الاستماع إلى القرآن والخطب والمواعظ
ومن الأشياء المهمة قراءة الأئمة وأصواتهم بالقرآن، وسماع الخطب المؤثرة، أو المواعظ، أو الدروس من مكبرات المساجد، بعض الناس لا يأتون المسجد، لكن هم في داخل بيوتهم يسمعون قراءة مؤثرة، أو يسمعون صوت شخص يلقي موعظة، فيكون هذا الصوت وسيلة لجذبهم.
يصاب بهموم وغموم، يطرد من المدرسة، أو الجامعة، أو الوظيفة، أو يصدم بسيارة، فيتسبب في حادث كبير، أو أبوه يطرده من البيت فيبحث عما يزيل الهم والغم، ينهمك في سماع الأغاني ومشاهدة الأفلام وشرب الدخان وتعاطي المخدرات هرباً من الواقع، أو يسافر إلى الخارج، لكنه لا يجد حلاً لمشكلته، ولا يزداد إلا هماً على هم وغماً على غم، ثم يعرض له نور وباب خير ينفتح، فيستمع لقراءة خاشعة من إمام مسجد على الطريق، أو يسمع شريط قرآن، فيكون هذا من أسباب التأثر والهداية.
يسمع قراءة الإمام الخاشع في التراويح يبكي والناس خلفه يبكون، يدعو والناس خلفه يؤمنون، يتأثر ويخشع ويجهش بالبكاء، ويتأسف على أيام الضياع، ويوقف سيارته على جانب الطريق، ويخرج علبة السجائر وأشرطة اللهو والباطل ويكسرها ويحطمها ويتلفها، وتكون هي نقطة الانطلاق في درب الاستقامة.
إذاً ينبغي على الأئمة والخطباء الاعتناء بعملهم، يعتني بالحفظ، يعتني بالقراءة، بالتجويد، بالخشوع في الصلاة؛ لأن وراءه أناس يمكن أن يهدي الله بعضهم بتلك القراءة، خطيب الجمعة كم عليه من المسئوليات! هذا المنبر ينبغي أن يعطى حقه، ينبغي أن يتقن العمل؛ لأنك أنت في موقع المسئولية، يسمعك أشخاص قد يهديهم الله سبحانه وتعالى بسبب خطبتك، فما أشد تقصير الخطيب الذي لا يحضر للخطبة، والإمام الذي لا يهتم بالإمامة ويغيب عن المسجد، ولا يهتم بالحفظ، فيكرر عليهم دائماً آيات ربما لا تقع منهم موقعاً، لما يرون من عدم حفظ إمامهم، فهذه من الأمور التي ينبغي الاعتناء بها.(196/13)
رؤية صلابة مواقف الملتزمين بالدين
الهداية تكون أحياناً نتيجة لصلابة المواقف.
أحد الناس يتوب إلى الله وهو يرى مسلماً يعذب ويموت شهيداً ثابتاً على الحق، فيؤثر هذا في نفسه.
رجل يتقدم لخطبة فتاة، ولكنها ترفضه؛ لأنها مصرة على رجل ملتزم، فهنا يحدث في نفسه شيء، لماذا تصر هذه على رجل ملتزم؟ لماذا ردوني؟ لماذا لا أكون ملتزماً؟ الصلابة في المواقف تكون من أسباب الهداية، أنتم تعلمون قصة أم سليم مع أبي طلحة الذي تقدم لخطبتها، فرفضت الذهب والفضة، وقالت: مهري الإسلام، إن تسلم فذاك مهري، ما في امرأة كانت أكثر بركة في زواجها ومن مهرها من هذه المرأة رضي الله عنها، فكان تصميمها على موقفها، وصلابتها في الحق وتأكيدها عليه هو سبب إسلام أبي طلحة؛ لأنه ذهب وأسلم بعد هذا الموقف.(196/14)
الموعظة
الموعظة: من أكبر أسباب الهداية الذي يفتح الله عليه فيحسن الوعظ، ويعرف المدخل إلى القلوب، هذه المسألة -أيها الإخوة- تحتاج إلى تمعن في الآيات التي يكون فيها وقع شديد على النفوس في الأحاديث التي فيها تذكير، القرآن كله لا شك حِكَم، كله مفيد، ليس هناك شيء في القرآن غير مفيد أبداً، لكن هناك آيات تؤثر أكثر من آيات لا شك، والآيات التي فيها -مثلاًُ- ذكر الجنة والنار، أو موقف الحساب تؤثر أكثر من الآيات التي فيها ذكر أحكام التيمم والوضوء، وقسمة المواريث، ونحو ذلك.
ولو أن تلك قد تكون سبباً في الهداية، ربما بعض الناس الذين يدرسون الاقتصاد، أو الأشياء المالية، إذا تمعنوا فيها، أو بعض الأطباء إذا تمعنوا في الآيات التي تصف الجنين في الرحم، قد تكون سبب هدايتهم، لكن أقول: عادةً الآيات التي فيها ذكر الجنة والنار وموقف الحساب إذا انتقيت وقرئت بطريقة خاشعة من قلب صادق، أو حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما اهتدى بعض الناس بسبب حديث البراء بن عازب في تفصيل عذاب القبر وفتنة القبر، اهتدوا من هذا الحديث بسبب قراءة الحديث عليهم، فانتقاء هذه الأشياء والوعظ الذي يخرج من القلب من أكبر الأشياء التي تسبب الهداية، ولذلك من النوادر التي يذكرونها عن بعض الناس الذين لا يفهمون، أنه قرئت عليه آيات كثيرة في بعضها ذكر الجنة والنار، فما تحرك، ولما قرأ قارئ: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة:222] جلس يبكي، قال: يعني: أذى.
إذاً بعض الناس عندهم خلل في الفهم، ولذلك انتقاء الأشياء لهم مهم، وفي بعض الأحيان يتأثر الأعاجم من تلاوة آيات القرآن مع أنهم لا يعرفون العربية، وهذا من تأثير القرآن وعظمته.
ذكر أحد الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أنه سافر مرة على باخرة من مصر إلى نيويورك، والرجل هذا لم يكن ملتزماً بحق، لكن فيه خير، فيه شيء من المعرفة بالدين والحرص على الدين مع أنه لم يكن كامل الاستقامة وقتها، قال: وكنا مجموعة قريباً من عشرين شخصاً، كلنا مسلمون في وسط مائة وكذا من الكفار، قال: فخطر في بالي أن نقيم صلاة الجمعة على ظهر السفينة، وأنا لا أتحدث الآن عن حكم إقامة صلاة الجمعة على ظهر السفينة في السفر البحري، لكن أروي لكم القصة ويهمنا العبرة منها، قال: فاستأذنا من قبطان السفينة، فوافق، وكان في السفينة عمالٌ نوبيون مسلمون، فاستأذنا لهم في حضور صلاة الجمعة معنا، فأذن لهم لمن لم يكن مشغولاً منهم في نوبته، وفرحوا؛ لأن تلك كانت هي أول مرة يحضرون فيها صلاة الجماعة منذ سنين طويلة، قال: فاجتمعنا وقمت فيهم خطيباً، فخطبت بهم بما تيسر، وقرأت بعض آيات القرآن، ثم أقمنا الصلاة وصليت بهم صلاة الجمعة، ووقف الركاب الكفار بالسفينة -أغلبهم- يحيطون بنا وينظرون بدهشة إلى ما نفعله، فلما انتهينا من أداء الصلاة، جاءوا يهنئوننا على نجاح القداس، ظنوا المسألة مثل مسائل النصارى، فشرحنا لهم المسألة، ثم جاءت امرأة كبيرة ذات ملامح أوروبية، جاءت تهنئنا بشدة على نجاح القداس، وعلى بلاغة القسيس الذي ألقى الكلمة، فشرحنا لها أنه لا يوجد في الإسلام قسيسون، وإنما هو الإمام الذي يخطب، أو يصلي بالناس، فقالت: ليس هذا الذي أثر في الذي أثر فيَّ جداً من موقفه، تقول: أنني سررت بالكلام، لكن كانت هناك مقاطع معينة في كلامه شعرت أن لها وقعاً خاصاً في النفس، وتأثرت بها حتى بكيت، إنها مقاطع تختلف عن بقية كلامه، كأنه شيء روحاني، طبعاً هي كافرة تعبر عما في ذهنها، قال: فلم يكن اندهاشنا من تأثرها، لكن كان اندهاشنا عندما تفكرنا في معنى ما تقول، وما هي الأشياء التي لفتتت نظرها وأثرت فيها إلى حد البكاء في الكلام، ثم تفطنا إلى أنها تقصد الآيات القرآنية التي كان الخطيب يرددها، والتي قرأها الإمام في الصلاة.
إذاً ممكن أن بعض الأعاجم يتأثرون من سماع الآيات لعظمة هذا القرآن، ولأنه كلام الله سبحانه وتعالى، وهنا درس يؤخذ من هذه القضية وهو أهمية إعلان الشعائر الإسلامية، والهجرة تجب إذا لم يستطع الشخص إظهار الشرائع الإسلامية، ولكثير من الفوائد والحكم.(196/15)
إظهار الشعائر التعبدية
ومن الأمور التي ينبغي للدعاة الاهتمام بها: إظهار الشعائر التعبدية في الأماكن المفتوحة والعلنية، فمثلاً: صلاة العيد تؤثر في الناس، صلاة الجمعة ذلك الحشد العظيم يؤثر في الناس، فكونك تقوم وتصلي جماعة في المطار ونحوه، هذه دعوة صامتة لتراك الصلاة، أو للفسقة، أو لمؤخري الصلاة عن أوقاتها أن يقوموا معك.
هو متقاعس عن الصلاة لكن لما رآك تؤدي الصلاة قام معك، صلاتك في الطائرة إذا لم يتمكن من الصلاة في المطار، الصلاة في الطائرة كونك تقوم وتأخذ بطانية من هذا المخزن في علو السقف وتبسطها على الأرض وتؤذن وتقيم الصلاة، إنك توقظ في إحساس أولئك الركاب القيام للصلاة وأهمية ذلك، فتراهم يقومون يصلون معك، أو يقومون بعدك يصلون نظراً لصغر المكان، من الذي أوقظ فيهم هذه الحاسة؟ إنه الفعل المبارك بإعلان الشعائر التعبدية.
الأذان كان سبباً في دخول أناس في الدين من الكفار، عندما يكون أذاناً خاشعاً فإنه يلفت نظرهم، وهكذا -أيها الإخوة- يكون إعلان الشعائر التعبدية من أسباب جلب الناس إلى طريق الهداية، فهذا درس مهم للدعاة إلى الله عز وجل.(196/16)
إظهار أحكام الشريعة
وكذلك من المسائل المهمة: إظهار أحكام الشريعة، والتمسك بأحكام الشريعة، هناك فتاة أمريكية تعيش في أمريكا في إحدى المدن الأمريكية، أسلمت وهداها الله عز وجل، وارتدت الحجاب، والسبب أنها كانت تعمل على آلة الحساب -قبض النقود في إحدى المحلات- وأنها كانت ترى بعض النساء يأتين للشراء من المحل وهن في حجاب كامل لا يظهر منهن شيء، فهذا المظهر كان منظراً غريباً جداً في ذلك المكان، وفي يوم من الأيام سألت إحداهن عندما كانت تحاسب، وقالت: ما هذا الذي ترتدينه؟ ولماذا ترتدينه؟ فشرحت لها أنها امرأة مسلمة، وهي زوجة أحد الطلاب الذين يدرسون في تلك المدينة الجامعية، وأنها مسلمة والإسلام يفرض عليها الحجاب، والله أوجب الحجاب ستراً للمرأة وصيانةً لها إلخ فكان هذا شيئاً قدح في نفس تلك المرأة الكافرة الإعجاب بهذا الدين، قالت: فرجعت إلى بيتي، وأخذت قطعة طويلة من القماش، فغطيت بها رأسي، وارتديت معطفاً ذا كم طويل، فأعجبني منظره، وذهبت بعد ذلك إلى مركز إسلامي قريب لأسأل عن هذا الدين، وما مكوناته، وما هي شعائره، فاطلعت وقرأت حتى اقتنعت ودخلت في الدين، والتزمت الحجاب، ما هو السبب؟ إنه ذلك التمسك بأحكام الشريعة التي قامت به تلك المرأة في ديار الكفر، فوا عجبي من الذين إذا ذهبوا بزوجاتهم إلى الخارج يأمرونهن بعدم ارتداء الحجاب، ويقولون: نخشى من الاستهزاء، نخشى من السرقة، نخشى من السخرية! يصورون على أننا من كوكب آخر، يفعلون ويستهزئون، الحجاب في تلك البلاد سبب اهتداء بعض الكافرات، وهذا المسلم يأمر زوجته المسلمة أن تخلع الحجاب في الخارج، مع أنهم لا بد أن يناقشوا في سبب ذهابهم إلى تلك البلاد، وما مشروعية ذلك.(196/17)
احتضان الدعاة والصالحين للمقصرين
ومن أسباب الهداية أيضاً أيها الإخوة: احتضان الدعاة إلى الله والصالحين للمقصرين كما يحدث لبعض الناس عندما يجاوره رجل صالح سواء يسكن بجانبه في شقة، أو فوقه، أو تحته في العمارة، فيزوره ويمر عليه ويذكره بالصلاة، ويهديه أشياء نافعة من الكتب والأشرطة الإسلامية، أو بعض الطلاب يدخلون الجامعة وفيهم تقصير، وفيهم فجور، فيسكن مع شخص طيب، فهذا الشخص الداعية من خلال السكن مع هذا الرجل يتأثر به ذلك الشخص ويقتبس منه ويأخذ عنه، فيكون سبب هدايته، أو تغشاه مجموعة صالحة يحيطون به -الاحتواء والاحتضان- ويزورونه ويكرمونه، ويتفقدونه ويخدمونه.
أحد الفسقة سافر إلى بلجيكا لزيارة أحد أقربائه الذي كان على علاقة بالمركز الإسلامي هناك، وخرج من الوسط التعيس الذي هو فيه إلى وسط جديد، أحاط به في بلاد الغربة مسلمون من الأقليات الإسلامية يعيشون هناك، ارتاح إليهم وأحبهم وكانوا سبب هدايته.
فنؤكد -إذاً- أن قضية الاحتواء والاحتضان من أكبر الأسباب المعينة على الهداية.(196/18)
النصيحة من شخص أدنى منزلة
وأحياناً تحدث الهداية من نصيحة من شخص أصغر من هذا المقصر أو الفاسق، وأضعف فيرفض، فيحدث التأثر من الصغير للرفض، فيتأثر الكبير، كما حصل لشخص ذهب في سفر ومعه أخواته، وأدخل شريط الموسيقى في جهاز السيارة وأخذ يستمع، فنهرته أخته الملتزمة، فلم ينته، فأعادت عليه، فسخر منها، تأثرت لموقفه، وفي الطريق حدث حادث وماتت هذه الفتاة الملتزمة، فبقيت حسرة في نفس أخيها؛ لما المسألة وصلت إلى الموت، وأن هذه الفتاة أخته ماتت وفي قلبها حسرة لما لم يطعها، ولم يستجب لطلبها، كانت تلك الحادثة سبب هدايته.
وآخر كان عنده أخ صغير يعلم حكم الغناء، وأركب معه أخاه الصغير في مشوار، وأدخل الشريط يستمع إليه، أخوه الصغير قال: علمونا أنه حرام، قال: اسكت أنت لا تفهم، فأعاد عليه، قال: هذا حرام لا يجوز، فاستهزأ منه وسخر به، وبعد ذلك هدده، قال: إذا ما سكت، سأقف وأنزلك على قارعة الطريق وأمشي، إن هذه الكلمات الجارحة جعلت الولد الصغير يسكت، لكن كان سكوته بحرقة، أنتجت دمعة سقطت على خده، فرأى أخوه الكبير هذه الدمعة، فكانت هذه الدمعة هي سبب هدايته، لما رأى أن أخاه الأصغر صارت عنده حرقة وألم للرفض حتى أدى به ذلك إلى البكاء، عرف تقصيره وعرف خطأه.
فالمهم أن ننصح ولو كان المنصوح أكبر وأعلى في الدنيا، فإنها ولو ردت، لربما تكون هذه نقطة لتكون في المستقبل مع غيرها سبباً في للهداية.(196/19)
نصيحة الأصدقاء القدامى
من الأمور أيضاً والحوادث التي تقع: أن يرجع المهتدي إلى أصدقائه القدامى بالنصيحة، ينتقي منهم واحداً وراء واحد، ما يرجع ليدخل فيهم وينتكس كما يفعل بعض الناس، مجرد ما يهتدي يعود إلى أصدقائه القدامى ويعاشرهم ويجلس معهم في مناسباتهم، وربما يلعب الورق، ويسكت عن سماع الغناء، ويقول: هذا تأليف للقلوب في سبيل الدعوة، هذه منافذ شيطانية وكلام فارغ، إما أن يكون المكان مهيأ لك لأن تدعو، أو تقول على الأقل كلمة الحق وتمشي إذا ما استجابوا وأسكتوا صوت المنكر، أو كفوا عن المنكر، وإلا لا تذهب إليهم وتخالطهم على فسقهم وتسكت عن المنكر، إما أن تذهب وتنكر وتتكلم، وإذا لم يصغوا لك؛ تمشي، أو يقفلون الأشياء ويلتفتون إليك ويجلسون للسماع.
بعض الأشخاص تابوا لما رجع إليهم بعض أصحابهم القدامى الذين اهتدوا؛ لأن العلاقات السابقة هي جسر في الحقيقة للمودة والتقبل؛ لأنه مهما كان هذا كائن بينك وبينه علاقة، أنت اهتديت وبقي على ضلالة، لكن هناك علاقة سابقة، العلاقة السابقة هذه تكون جسراً تعبر أنت عليه.
هذا شخص يقول: أحكي باختصار شديد قصة توبتي ورجوعي إلى الله، كنت أستعمل المخدرات في فترة مضت، ثم حصلت علي بعض النوائب التي لا يحسن ذكرها، ثم أخذت أبتعد عن المخدرات شيئاً فشيئاً، وفي يوم من الأيام مر بي أحد الأصحاب القدامى الذين منَّ الله عليهم بالهداية، وقال لي: أذهب معه إلى محاضرة، فوافقت، ثم بعد المحاضرة أخذني بالليل إلى إحدى المقابر في الدمام وكان فيها أحد الذين دفنوا بسبب المخدرات، وعندما رأيت الظلام الدامس لم أستطع الدخول، فأبيت الدخول ورجعت إلى البيت، وكأني أصبت بالصعقة، ثم منَّ الله عليَّ فهداني مع أصحاب لي.
فهذا الشخص الذي تاب الله عليه، رجوعه إلى بعض أصدقائه القدامى عبر جسر التواصل الذي كان موجوداً؛ قد يكون هذا سبباً للهداية، وينفتح باب خير على هذا الصديق القديم بسببك.
وآخر يقول: كنت أبحث عن السعادة، فلم أجدها، فنصحني أحد الناس وكان مثلي لا يصلي، ولا يعرف اتجاه القبلة، قال لي: هل تريد يا أخي السعادة التي كنا نبحث عنها معاً؟ قلت: نعم، قال: الصلاة، فجربت ذلك، فوجدت السعادة والإيمان في ذلك فعلاً، وكان ذلك سبب استقامتي، وأرسل الله لي هذا الشاب وإخوانه من بعده فنصحوني، ودخلت في الهداية.(196/20)
المحاورة والمجادلة بالتي هي أحسن
وقد تكون الهداية بسبب المحاورة والمجادلة بالتي هي أحسن، الله سبحانه وتعالى يقول: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] قال هذا الأخ: من خلال نقاشي مع أحد الفلبينيين عن الإسلام سألته عن اعتقاده بأن عيسى عليه السلام هو الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، فأجابني بأنه لا يؤمن بذلك منذ سبع سنوات تقريباً، وأوضحت له بعض الأمور عن الإسلام وأركان الإيمان، فقال: إني أؤمن بهذا أيضاً، فقلت له: لماذا لا تكون مسلماً؟ فقال: لا أدري كيف أسلم، لم يعلمني أحد كيف أسلم، فعلمته وأسلم في تلك الجلسة والحمد الله.(196/21)
التركيز على قائد المجموعة
ومن الأمور المهمة -أيها الإخوة- للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى الذين يكون عندهم من الفطنة ما يسبب هداية أناس، وربما إسلام بعض الكفار على أيديهم: أن تكون الدعوة في حال وجود مجموعة من المنحرفين موجهة في البداية إلى قائدهم، أو كبيرهم؛ لأن المجموعات في الغالب يكون فيهم لشخص هو أقوى شخصية من الجميع، ولو أن هذا الرجل اهتدى، فلعلهم أن يهتدوا بهدايته، أو على الأقل ينشق بعضهم عن بعض مما يسهل التأثير عليهم، يقول هذا الأخ: كنا مجموعة من الشباب في الجامعة، حاول فينا عدد من دعاة الشباب في السكن الجامعي ولم يفلحوا في التأثير علينا، وربما أعزو ذلك لاختلاف الطبائع والعادات، فبقينا على طبائعنا غير أنا كنا نؤدي الصلاة، لكننا نرى الأفلام، ونسمع الأغاني، ونقتني المجلات، وكان يتزعمنا في الجرأة والمعصية أحدنا، وفجأة يهتدي هذا الزعيم بين ليلة وصباحها، فتأثر نصفنا بهذا واجتمعنا على التوبة، وانقسمت مجموعتنا إلى قسمين، فتوفقنا في دراستنا ولله الحمد وتخرجنا، وانسحب النصف الآخر من الجامعة وطردوا بسبب تدني مستواهم الدراسي، فالحمد لله على الهداية والتوفيق.
إذاً يكون التركيز على هذا الرأس من الأمور المهمة ولو كان عنيداً، وهذا لا يعني أن يترك البقية، لكن لا بد أن يحسب الداعية هذه الخطوة، ويعلم مكانة هذا الشخص للبدء به.
النبي صلى الله عليه وسلم كان يركز كثيراً على زعماء القبائل، وكان يتألفهم ويكرمهم، ويبش في وجوههم -وهم كفرة- يتألفهم، فإذا هدى الله القائد، أو رئيس القبيلة في الغالب تتبعه القبيلة؛ نظراً لطبيعة العلاقة بين زعيم القبيلة وأفراد قبيلته التي كانت موجودة في الأيام الأولى.(196/22)
الإعلان عن مراكز الدعوة والأعمال الإسلامية
وهذه قصة أخرى فيها عبرة وفائدة أيضاً في الدعوة إلى الله، -مختصرة جداً- اثنان أو ثلاثة من الفلبينيين بعدما رأوا اللوحة الخارجية لمركز توعية الجاليات في القصيم بعد صلاة العصر، دخلوا وتعلموا وأسلموا بعد صلاة المغرب، يمشون في الشارع، ربما يذهبون إلى حفلة، إلى مكان فسق، فسبب الهداية رؤية اللوحة -لوحة مركز توعية الجاليات- بعد صلاة العصر دخلوا، أسلموا بعد المغرب.
فالدرس هو أهمية الإعلان عن أماكن مراكز الدعوة والأعمال الإسلامية.
أيها الإخوة: إذا كان التجار وأصحاب المحلات التجارية يعملون الدعايات والإعلانات لمراكزهم التجارية، فإن الإعلان لأماكن التوعية وإعلانات الدروس والمحاضرات تجذب من في قلبه خير، أو حب استطلاع على الأقل، ثم يدخل الله الإيمان في قلبه.(196/23)
الإحسان إلى المدعوين
ومن الأمور المهمة الإحسان إلى المدعوين، إن الإحسان إلى المدعوين في كثير من الأحيان هو سبب للهداية، يقول هذا الشخص: قدمت من مدينة أخرى إلى هذه المدينة للعمل، فسكنت مع زملائي -في المنطقة الشرقية - وكنت يومها لا أصلي إلا يوم الجمعة، وبعد حوالي أسبوع واحد على سكني مع زملائي هؤلاء، وجدتهم يشربون الخمر والحشيش، واليوم الذي لا يوجد فيه هذه الأمور نشتري (كلونية) ونشربها، وجلسات غناء وما إلى ذلك، وبعدما انتهت نقودي حصل سوء تفاهم بيني وبينهم، وهذا كثير ما يقع بين أهل الفسق والفجور، لا تدوم مودتهم، وأدركت أني أمشي في نفق مظلم، فاستأذنت، فخرجت من عندهم بعدما صرت لا أملك سوى عشر ريالات، فنزلت الشارع في حرارة الشمس لا أعلم إلى أين أتجه، وكنت قد سمعت من والدي الذي هو إمام جامع حديثاً في خطبة له، يحكي قصة الذي يريد التوبة، فقيل له: اذهب إلى قرية كذا وكذا، فإن فيها أناساً صالحين، فذهبت أنا إلى حي آخر مشياً، فجلست أمام دكان عقار قبل أذان العصر، وفي أثناء الجلوس مرَّ رجلٌ بسيارته، فأوقفها ونزل، وقال لي: ماذا تريد؟ فقلت: أريد صاحب الدكان لأستأجر منه شقة للإيجار، وهي كذبة؛ لأنني لا أعلم ماذا أفعل، وليس عندي نقود أصلاً، فقال لي: معك أحد؟ قلت: لا، قال: اركب، قلت: إلى أين؟ قال لي: عندي غرفة مع حمام ومطبخ في بيتي كانت لسائق، فخذها واسكن فيها، فقلت: ليس لدي مال، قال: لا بأس، فذهبت ووجدتها كما قال، وقال لي: هذا البيت وهذا المسجد أمامك، فنمت إلى صلاة المغرب، وعند الأذان قمت فصليت في المسجد، فبدأت حياتي من تلك اللحظة بالتحسن، وأسأل الله الثبات فيما بقي.
بعض الفسقة يكون عندهم حاجة، يكونون محتاجين، فلا شك أن مساعدتهم من أسباب هدايتهم.(196/24)
صدق الداعية
وقد تكون الهداية من التأثر بصدق الداعية، لما يلمس المدعو الصدق، يكون هذا من أسباب هدايته.
قال أحدهم: خرجت مرةً مع عدد من الشباب في رحلة في وقت بين المغرب والعشاء، فقرءوا لنا من كتاب الجنة دار الأبرار، فبكى بعضهم تأثراً، فأثر فيَّ بكاؤهم أشد التأثير، وذلك أنني أحسست منهم الصدق مع الله عندما بكوا، وأن البكاء لم يكن تمثيلاً، ولا يمكن تصنعه بسهولة، فأردت أن أكون مثلهم، فمشيت على منوالهم وهداني الله.(196/25)
الصبر على أذى المدعوين والمسامحة في الحقوق الشخصية
ومن الأسباب أيضاً: الصبر على أذى المدعوين، يقول هذا الشخص، والظاهر أنه إنسان في مقتبل أمره، يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛ إلى إخواني المطاوعة بعد حمدك ربي على هدايتي، هدايتي بسبب موقف وهو أنني أولاً كنت مع شباب ملتزمين، ثم كرهت الشباب وانتكست، وأصبحت أتكلم عن المطاوعة وأسبهم، لكن بارك الله فيهم، بصراحة أقول لك: كان عندهم سلاح عجيب وهو سماحة النفس والصبر، فتأثرت، فوقفت مع نفسي وقلت لها: كيف يصبرون على هذا الأذى؟!! كيف هؤلاء البشر الذين أسبهم وأشتمهم وهم يحسنون إليَّ؟!! وكثر الله من أمثال هؤلاء المطاوعة، آمين.
المسامحة في الحقوق الشخصية إذا أخطأ عليك أحد هؤلاء، أيضاً يكون سبباً لتأثره، قال هذا الرجل: سبب توبتي أنني كنت في عام (90)، وكانت سرقة السيارات وبالذات الكرسيدا موديل (90) منتشرة، فكنت أنا وواحد من رفاق السوء، وكان معنا سيارة من نوع كريسدا من موديل (81) فشاهدنا سيارة موديل (90) فوسوس الشيطان بنا، فسرقنا السيارة، وإذا بالعصر يؤذن، انظر إلى الأذان سبحان الله! فعدت إلى البيت وندمت وتوضأت وصليت العصر وعدت إلى مالك السيارة ورددتها إليه، وكانت سبب توبتي عندما رحب بي ودعاني إلى بيته، وكان بعد ذلك من أحسن أصدقائي.(196/26)
اسماع مآسي المسلمين في بلدان الاضطهاد
وبعضهم قد يهتدي بسبب سماع مآسي المسلمين في بلدان الاضطهاد، فبعضهم يتأثر -مثلاً- من مناظر المسلمين في البوسنة والأحداث التي تحصل عليهم من الظلم والقتل والاضطهاد والتعذيب، وانتهاك الأعراض، والإجلاء من البيوت، فيكون هذا سبباً لهدايته، وهذا بالتجربة فعلاً يحصل أن بعض الناس يرق قلبه من سماع مآسي المسلمين، وهذه من الأشياء التي إذا أحسن الدعاة إلى الله والخطباء استغلالها وانتهزوا الفرصة، يكون لها أثر عظيم في الناس.
في بعض الأحيان ييئس الداعية إلى الله، يحاول مع فلان، ويركز عليه، ولكن لا فائدة، ثم تكون الهداية بمثل هذه القصص، يقول أحد الدعاة: كان صديقي القديم كثير المعاصي، عظيم التفريط في جنب الله، فطالما نصحته ووعظته حتى مللت، ثم إني هجرته فترة من الزمن لعله أن يهتدي، ولكن بدون فائدة، فضاقت السبل عليَّ ونفضت يدي منه، وقلت في نفسي: هذا لا يهتدي حتى يلج الجمل في سم الخياط، ولكن كانت رحمة الله أقرب إليه مني، إذ ذهبت مرة معه إلى خطبة الجمعة، فذكر الخطيب حال المسلمين في إحدى البلدان، فبكى الخطيب وأبكى الناس، فما خرجنا من المسجد إلا وقد انقلب رأساً على عقب، بل إنه قال: أريد أن أذهب وأجاهد معهم، وقد صب عليه البلاء، ولكنه لم يزدد إلا إيماناً وتسليماً، ولا أزكيه على الله، فالحمد لله الذي كان أرحم بعبده هذا مني.(196/27)
من قصص المهتدين
ومن الأشياء التي وردت من الإخوان هنا: هذا يقول في قصته: نشأت في أسرة متوسطة الحال، إلا أن ترتيبي الأخير من الذكور مما جعلني أنشأ بعض الشيء بعيداً عن التدين وتقلبت في التصوف، ودخلت عالم الشهوات والمسكرات، وحاولت تعلم السحر عند بعض السحرة إلا أن الله صرف ذلك عن قلبي وعن نفسي، فلم أتعلمه نظراً لمرض عضال ألم بي، وحاولت الصلاة وأنا أحافظ عليها، ودخلت المسجد تكراراً بعد أن كنت لا أدخل إلا نادراً، ثم هيأ الله لي طالب علم على علم جيد تعرفت عليه في المسجد، فصرت أسير معه، ففتح الله على يديه قلبي لمنهج السلف في الكتاب والسنة والفهم الصالح، فرباني وصبر على شقوتي ومعصيتي، فكم من مرة صرخت في وجهه وشتمته إلا أنه ما زاده ذلك إلا صبراً، وأسأل الله لي وله الثبات والزيادة في الأجر.
وهذا يقول: نقطة بدايتي في الاستقامة ولله الحمد كانت منذ ثلاث سنوات تقريباً تخللتها بعض الانتكاسات، ولكن ولله الحمد هذه المرة التزمت مع أصدقاء من الشباب الطيبين بعد أن حججت معهم.
إذاً: قضية الحج والعمرة والسكن بجوار البيت العتيق مع أصدقاء طيبين هذا بداية تغير كبيرة، ولذلك يحرص عليها وعلى هذا الأسلوب.
وصرت أحضر الدروس ولله الحمد، وكان من أسباب التزامي أيضاً هو أنني مرضت بمرض معين يعاودني بين الحين والآخر، وأضطر في الجلوس في البيت لمدة شهر، أو شهرين، لا أرى أحداً، فكان هذا أبعد لي عن قرناء السوء في ذلك الوقت، وكان خيراً لي ولله الحمد، وأسأل الله أن يثبتني وإياك والحاضرين.
اللهم آمين.(196/28)
الأسئلة(196/29)
حكم إزالة الشعر الموجود في الذراعين والقدمين بالنسبة للمرأة
السؤال
ما حكم إزالة الشعر الموجود في الذراعين والقدمين بالنسبة للمرأة؟
الجواب
اختلف في ذلك أهل العلم على قولين، والراجح والله أعلم أنه يجوز؛ لأنه من الشعر المسكوت عنه، فهناك شعر مأمور بأخذه كشعر العانة والإبطين، وهناك شعر مأمور بتركه وهو شعر اللحية للرجل، والشعر المسكوت عنه يجوز أخذه.
وهذا هو مذهب الإمام النووي رحمه الله وغيره من أهل العلم، وهو ما يفتي به بعض مشايخنا المعاصرين.(196/30)
حكم المباشرة دون الجماع في رمضان
السؤال
أفطرت يوماً في رمضان بسبب المباشرة دون الجماع، فما الحكم؟
الجواب
على هذا السائل التوبة إلى الله سبحانه وتعالى وقضاء هذا اليوم فقط، ولا يلزمه أكثر من ذلك؛ لأنه لم يحصل الجماع الذي هو أسوأ المفطرات على الإطلاق.(196/31)
حكم الزواج برجل لا يعرف الحقوق والواجبات الزوجية
السؤال
ما رأيك بالمرأة التي تتمسك بالرجل الملتزم وتتفاجأ بأنه لا يعرف الحقوق والواجبات التي عليه لزوجته، ويخلط بين حقوقها وحقوق غيرها من أهله، ويقول: هذا حرام، وهذا حلال وهو غير مدرك لذلك؟
الجواب
إذا كانت صدقت فيما أخبرت به، فهذا من جهله، وكنت ألقيت محاضرة بعنوان " الشاب المسلم على عتبة الزواج" كانت تكملة لمحاضرة أخرى سبقت بعنوان "الفتاة المسلمة على عتبة الزواج"، وكان هذا هو الشق الآخر من الموضوع، ومن ضمن الوصايا أن على الشاب المسلم قبل الزواج أن يعرف الأحكام الشرعية المتعلقة بالحقوق الزوجية؛ لأن كثيراً من المشكلات تحدث نتيجة عدم معرفة الحقوق الشرعية، فقد يطالب بما ليس من حقه، وقد يمنعها حقاً هو لها شرعاً بسبب الجهل، وكثير من الناس مشكلتهم بسبب الجهل.
مثلاً: لو اختلفت المرأة والرجل على تسمية الولد، فقال: أسميه كذا، قالت الأم: لا، أريدك تسميه كذا، وينشب الخلاف، وقد تقع الهجرة، وتذهب إلى بيتها وتغضب، ونحو ذلك، لو كان هناك علم بالشرع وهو أن حق تسمية الولد من حق الأب سواءً كان ذكراً، أو أنثى، وهو الذي سيضاف إلى اسمه وينسب إليه، فتسميته من حقه شرعاً، لو المرأة تعرف هذا لحكم هل تختلف مع زوجها؟ لو أنها تعرف الحكم الشرعي الذي ذكره أهل العلم وتسلم.
فإذاً معرفة أحكام العشرة الزوجية تزيل كثيراً من الخلافات، بل تمنع حصولها أيضاً.
هذا ما تيسر ذكره من النقاط في هذا الموضوع والأسئلة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك لنا جميعاً، وأن يجمعنا وإياكم على الحق، وأن يرزقنا الصراط المستقيم، وإلى لقاء آخر، وأستودعكم الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(196/32)
أهمية الأدب في حياة المسلم
الأدب ضروري للمسلم في تعامله مع ربه ومع نفسه ومع الناس، وهذا الأدب شامل لكل جوانب الحياة، وقد عنيت النصوص الشرعية بمختلف الآداب، وثمارها في دنيا الناس وأخراهم، كما أن لعلماء الإسلام كلاماً في بيان الآداب، وتحديدها، وتوضيحها.
وهنا توضيح لمعنى الأدب عند أهل اللغة، ومعانيه في اصطلاحات الناس، وشرح لكثير من الآداب الإسلامية الواردة في منظومة ابن عبد القوي.(197/1)
شمول الآداب الإسلامية وأهميتها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحمد لله الذي جعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والحمد لله الذي أنزل علينا هذا الدين، وأنزل فيه الأدب الذي تصلح به الحياة، وهذا الأدب هو من صميم هذا الدين، أمرٌ غفل عنه الكثير من الناس، وهو ضروريٌ للمسلم مع الله سبحانه وتعالى، ومع الرسل ومع الخلق، وضروريٌ له في أحواله حتى لو كان لوحده، فبالأدب يعرف المسلم ما ينبغي أن يكون عليه حاله في طعامه وشرابه، وفي سلامه واستئذانه، وفي مجالسته وحديثه، وفي طرائفه ومزاحه، وفي تهنئته وتعزيته، وفي عطاسه وتثائبه، وفي قيامه وجلوسه، وفي معاشرته لأزواجه وأصدقائه، وفي حله وترحاله، ونومه وقيامه، وغير ذلك من الآداب التي لا حصر لها، ومنها آدابٌ أوجبها الله سبحانه وتعالى على الصغير والكبير، والمرأة والرجل، والغني والفقير، والعالم والعامي حتى يظهر أثر هذا الدين في الواقع، ولا شك أن من جوانب العظمة في هذا الدين هذه الآداب التي جاءت في هذه الشريعة التي تميز المسلمين عن غيرهم، وتظهر سمو هذه الشريعة وكمالها وعظمها.
والدين أدبٌ كله، فستر العورة من الأدب، والوضوء وغسل الجنابة من الأدب، والتطهر من الخبث من الأدب حتى يقف بين يدي الله طاهراً، ولذلك كانوا يستحبون أن يتجمل المرء في صلاته ليقف بين يدي ربه، حتى كان لبعضهم حلةٌ عظيمة اشتراها بمالٍ كثير ليلبسها وقت الصلاة، ويقول: ربي أحق من تجملت له (في صلاتي) وهذا مطلبٌ عظيم، فتعالوا بنا نتعرف إلى معنى كلمة الأدب وإلى بعض ما جاء في النصوص الشرعية حول هذه الكلمة وبعض أقوال العلماء فيها وأنواع الأدب، ثم نتكلم إن شاء الله عن المقصود من هذا الدرس وكيف المسير فيه.(197/2)
معنى كلمة: الأدب
أما الأدب: فقد ذكر ابن فارس رحمه الله أن الأدب دعاء الناس إذا دعوتهم إلى شيء، وسميت المأدبة مأدبةً لأنه يدعو الناس فيها إلى الطعام، والأدب هو الداعي، وكذلك فإن الأدب أمرٌ قد أجمع على استحسانه، وعرفاً: ما جعل خلقه إلى المحامد ومكارم الأخلاق وتهذيبها، وذكر ابن حجر رحمه الله تعالى في شرحه لكتاب الأدب من صحيح الإمام البخاري رحمه الله، قال: الأدب استعمال ما يحمد قولاً وفعلاً، وعبر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: الوقوف مع المستحسنات (الأمور المستحسنة) وقيل هو تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك، والأدب كذلك مما ورد في تعريفه: حسن الأخلاق، وفعل المكارم.
والأدب الذي يتأدب به الأديب من الناس سمي أدباً لأنه يأدب الناس إلى المحامد ويدعوهم إليها، وجاء في المصباح عن الأدب: تُعلم رياضة النفس ومحاسن الأخلاق، وقيل: الأدب ملكة تعصم من قامت به عما يشينه.(197/3)
استعمالات كلمة الأدب في كتب أهل العلم
وقال ابن القيم رحمه الله: الأدب اجتماع خصال الخير في العبد، ومنه المأدبة: الطعام الذي يجتمع عليه الناس، فإذاً ففيه معنى الدعاء إلى الشيء والاجتماع عليه، وكذلك يطلق الأدب في اللغة على الجمع، وسمي الأدب أدباً لأنه يأدب الناس، يعني: يجمعهم إلى المحامد، والأدب هو: الخصال الحميدة، أما استعمالات هذه الكلمة في كتب أهل العلم، فإنها تأتي بمعنى خصال الخير مثل: آداب الطعام وآداب الشراب، وآداب النكاح وآداب القضاء، وآداب الفتيا، وآداب المشي، وآداب النوم ونحو ذلك، وللعلماء في هذا مصنفات، ويطلق بعض الفقهاء كلمة آداب على كل ما هو مطلوب سواء كان واجباً أو مندوباً، ولذلك بوبوا فقالوا: آداب الخلاء والاستنجاء، مع أن منها ما هو مستحب ومنها ما هو واجب، فكلمة أدب أو آداب أو أن هذا الشيء من الآداب لا يعني أنه فقط مستحب بل ربما يكون واجباً، ويطلق الفقهاء لفظة أدب بمعنى الزجر والتأديب كما جاء في حديث: (اجعل السوط في البيت فإنه أدبٌ لهم) يعني: لأهل البيت، تعليق السوط في البيت فإنه أدبٌ لهم، وحسنه الشيخ ناصر بطرقه، فإذا قيل: أدبه، بمعنى: عاقبه وزجره (عزره) فهذه من معاني كلمة الأدب كذلك.
وقد نثر الفقهاء الآداب على أبواب الفقه، فذكروا في كل باب ما يخصه من الآداب، ففي الاستنجاء مثلاً ذكروا آداب الاستنجاء غير الأحكام الفقهية مما يجوز ولا يجوز، وفي الطهارة كذلك بأقسامها ذكروا آدابها، وفي القضاء ذكروا آداب القضاء في كتب الفقه.(197/4)
مصنفات العلماء الخاصة بالأدب
وصنفت كتبٌ خاصة بالأدب مثل: كتاب: أدب الدنيا والدين للماوردي، ونظم ابن عبد القوي رحمه الله منظومته المشهورة في الأدب والآداب، وشرحها السفاريني رحمه الله، ومن قبله ابن مفلح الذي صنف كتاب الآداب الشرعية، فإذاً هناك كتب مجموعة في الآداب عموماً، ومن أشهرها الآداب الشرعية لـ ابن مفلح، وغذاء الألباب شرح منظومة الآداب المنظومة لـ ابن عبد القوي والشرح للسفاريني وكتاب أدب الدنيا والدين للماوردي، وهناك كتبٌ تتكلم بشكلٍ مخصوص عن آداب معينة، مثلاً تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم لـ ابن جماعة رحمه الله، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، هذه آداب تتعلق بطلب العلم للخطيب البغدادي رحمه الله، أدب الإملاء والاستملاء للسمعاني، وهو إملاء الحديث وكتابته، كيف يملي المحدث الحديث وكيف يكتبه عنه الطلاب، هذا له آداب، هذا مصنف خاص في أدب الإملاء والاستملاء.
آداب الفتيا كتب منها: كتاب آداب المفتي للسيوطي، وكذلك آداب الأكل للأقفاسي وآداب الأطفال للهيثمي وفي آداب الزكاة كتب، وفي آداب البحث والمناظرة مثل: كتاب الشنقيطي، وفي الصحبة كتب مثل: كتب الصحبة للسلمي، وفي آداب العشرة كتب مثل: كتاب أبي البركات الغزي، وفي التجارة أيضاً آداب التجارة، وآداب الحوار، وآداب الزفاف، وآداب معاملة اليتيم، وآداب الطبيب، وهناك عدة كتب تتكلم في آداب مخصوصة، الكتاب في أدبٍ معينٍ من الآداب.(197/5)
اصطلاح آخر لكلمة الأدب
أما بالنسبة لأهمية الأدب فلا شك أنه أمرٌ مهمٌ جداً، وبالمناسبة قبل أن ندخل في أهميته، فإنه أيضاً يطلق على شيءٍ يتعلق باللغة من إصلاح اللسان والخطاب وتحسين الألفاظ، والصيانة عن الخطأ والزلل، كما صنف ابن قتيبة رحمه الله أدب الكاتب.
إذاً كلمة الأدب المستعملة في اللغة مثل: ما يرتبط بالشعر والنثر الأدب، هذه لفظة مولدة حدثت في الإسلام، أطلقوا على بعض الأشياء المتعلقة باللسان من الشعر والنثر أدباً، فهذا إطلاق في اعتبار لغوي، الأديب بهذا المعنى إطلاقٌ خاص يتعلق باللغة وإصلاح اللسان والخطابة، لاشك أن الأدب في الإسلام أمرٌ مهمٌ جداً، وأنه يحتم على الإنسان المسلم الالتزام بالآداب الشرعية في جميع الأمور.(197/6)
بعض الآداب في النصوص الشرعية
وقد حث الإسلام المسلم أن يعتني بالآداب في أولاده وذويه، لا يتغافل عنهم ويذكرهم ويؤدبهم بآداب الإسلام، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] قال علي رضي الله عنه: علموهم وأدبوهم، وقال مجاهد رحمه الله: أوقفوا أنفسكم وأهليكم بتقوى الله وأدبوهم.
ومما جاء في النصوص الشرعية في معاني ما يتعلق بالأدب والتأديب قول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الصحيح: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين فذكر منهم: ورجلٌ كانت له أمةٌ فغذاها فأحسن غذائها، ثم أدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران).
وكذلك فقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كل شيءٍ ليس من ذكر الله فهو لهوٌ ولعب إلا أن يكون أربعة، ذكر منها: تأديب الرجل فرسه) ترويضه وتعليمه، والحديث بتمامه: (كل شيءٍ ليس من ذكر الله لهوٌ ولعب إلا أن يكون أربعة: ملاعبة الرجل امرأته، وتأديب الرجل فرسه ومشي الرجل بين الغرضين، وتعليم الرجل السباحة) تعلم السباحة رواه النسائي وهو حديثٌ صحيح.
والأدب بهذه اللفظة جاءت في حديث جابر رضي الله عنه عندما تزوج ثيباً وسأله النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنه تزوج بثيب، فقال عليه الصلاة والسلام: (فهلا تزوجت بكراً تلاعبها وتلاعبك! قال يا رسول الله: توفي والدي، أو استشهد، ولي أخواتٌ صغار، فكرهت أن أتزوج مثلهن فلا تؤدبهن -يعني: أتزوج صغيرة لا تستطيع التأديب- فلا تؤدبهن ولا تقيم عليهن، فتزوجت ثيباً لتقوم عليهنّ وتؤدبهن) رواه البخاري رحمه الله في كتاب الجهاد.(197/7)
أنواع الأدب
والأدب أنواع: فمنه أولاً: أدبٌ مع الله سبحانه وتعالى، وثانياً: أدبٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثالثاً: أدبٌ مع الخلق.(197/8)
الأدب مع الله عز وجل
أما الأدب مع الله عز وجل فله أمثلةٌ كثيرة، فمنها: نهي المصلي عن رفع بصره إلى السماء، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: هذا من كمال أدب الصلاة أن يقف العبد بين يدي ربه مطرقاً خافضاً طرفه إلى الأرض، ولا يرفع بصره إلى السماء، قال: والجهمية لم يفقهوا هذا الأدب ولا عرفوه، لأنهم ينكرون أن الله فوق سماواته، وهذا من جهلهم، إذ من الأدب مع الملوك أن الواقف بين أيديهم يطرق إلى الأرض ولا يرفع بصره إليهم، فما الظن بملك الملوك سبحانه وتعالى!! وقال شيخ الإسلام في مسألة النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود: إنها من الأدب مع الله عز وجل، لأن القرآن كلام الله، قال: وحالتا الركوع والسجود، حالتا ذلٍ وانخفاضٍ من العبد، فمن الأدب مع كلام الله ألا يقرأ في هاتين الحالتين، يعني: في الركوع والسجود، لأنهما حالتا ذلٍ وانخفاض.
وكذلك من الأدب مع الله: ألا يستقبل بيته في قضاء الحاجة ولا يستدبره، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورجح ابن القيم رحمه الله أن هذا الأدب يعم الفضاء والبنيان.
ومن الأدب مع الله: الوقوف بين يديه في الصلاة مع وضع اليمنى على اليسرى حال قيام القراءة، ولا شك أن هذا من أنواع الأدب أن يضع يديه اليمنى على اليسرى على صدره ويقف يبن يدي ربه، وكذلك الأدب مع الله: السكون في الصلاة، ولما ذكر أهل العلم قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23] ذكروا فيها معنيين: الأول: دائمون، بمعنى: مستقرون ثابتون، لا يكثرون الحركة كما يفعل كثيرٌ من الناس من تحريك النظارة والساعة وغطاء الرأس واللعب، أو العبث بالأنف والجيب ونحو ذلك من الأشياء، ولا شك أن هذا لا يعطي معنى الديمومة: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34] المحافظة على السكون في الأطراف والطمأنينة، وكذلك المحافظة على الوقت، لا يخرجونها عن وقتها، فهم دائمون على الصلوات في أوقاتها ويحافظون عليها في أوقاتها، كما أنهم دائمون في الخشوع والطمأنينة، والأدب مع الله في الظاهر والباطن، ولا يستقيم إلا بمعرفة أسمائه سبحانه وتعالى ومعرفة دينه وشرعه وما يحب وما يكره.(197/9)
أدب الأنبياء مع الله عز وجل
أما بالنسبة للأدب مع الله عز وجل: فقد كان كثيراً وعظيماً في أنبيائه سبحانه وتعالى، ومن تأمل أحوال الرسل عرف ذلك، وكذلك الصالحون، ألم ترَ أن المسيح عليه السلام حين يسأله الله يوم القيامة: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ} [المائدة:116] فماذا أجاب عيسى عليه السلام؟ ما قال: لم أقل ذلك! وإنما قال: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة:116] من أدبه مع ربه أنه قال: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة:116]، ثم قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:116 - 117] إلى آخر الآيات.
وكذلك أدب إبراهيم مع ربه، لما قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:78 - 79] لم يقل: والذي يمرضني ويشفين، وإنما قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء:80] فنسب المرض إليه، ونسب الهداية والطعام والسقاء والشفاء إلى الله رب العالمين، مع أن الله هو الذي يمرض ولا شك!! وهو الذي يشفي، لكن لم يرد أن ينسب المرض إليه عز وجل أدباً مع الله سبحانه وتعالى، هذا من كمال أدب الخليل، فإنه قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] وكذلك الخضر عليه السلام، على الراجح أنه كان نبياً: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] كان يفعل بالوحي، فإنه لما ذكر السفينة قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] ولما ذكر الجدار قال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} [الكهف:82] ولم يقل: فأراد ربك أن أعيبها، وإنما قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] لما صارت المسألة فيها عيب نسبه لنفسه، قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] مع أن كل ذلك بأمر الله وقدر الله.
وكذلك الصالحون من الجن قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10] ما قالوا: أشرٌ أراده ربهم بهم أم أراد بهم ربهم رشداً وإنما قالوا: {أَشَرٌّ أُرِيدَ} [الجن:10] فجعلوا الفعل مبنياً للمفعول.
وكذلك موسى عليه السلام لما نزل مدين قال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] أنا فقيرٌ إلى خيرك يا رب ومحتاج، ولم يقل: أطعمني مثلاً، وآدم عليه السلام لما أهبط من الجنة إلى الأرض قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] ولم يقل: ربي قدرت عليَّ هذه المعصية، وقضيت عليَّ بها ونحو ذلك، وإنما قال: ظلمت نفسي فاغفر لي.
وكذلك قول أيوب عليه السلام: {رَبِّ إِني مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] وهذا أكثر أدباً من أن يقول: فعافني واشفني، قال: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83].
والأدب كذلك مع أنبياء الله طويل لا ينتهي، ولكن من أدب يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوته، وهو نوع من أنواع الأدب مع المخلوقين، والأدب مع الأنبياء، قال: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100] ولم يقل: أخرجني من الجب، مع أنه أخرجه من الجب، لأنه لا يريد أن يجرح مشاعر إخوانه فقال: {أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100] ولم يذكر الجب، وكذلك فإنه لما جاء بإخوته وأهله، قال: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100] ما قال مثلاً: رفع عنكم الجهد والجوع والحاجة، أو أنني فعلت ذلك لكم، أو أنني أنقذتكم من الجوع والجهد، ثم قال: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100] فنسب الفعل إلى الشيطان، ولم يقل من بعد أن فعل بي إخواني ما فعلوا وظلموني ونحو ذلك، وإنما قال: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100].
وكذلك من الأدب مع الله سبحانه وتعالى: أن يستر الرجل عورته وإن كان خالياً، أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد ضرب المثل العظيم في الأدب مع ربه، كما يذكر المفسرون عند قوله سبحانه وتعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ارتفع إلى السماء ما زاغ بصره وما طغى، فإنه لم يزغ يميناً أو شمالاً، ولا طغى فنظر أمام المنظور، وإنما كان مطرقاً: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] فهذا وصفٌ لمقامه صلى الله عليه وسلم، وهذا من كمال الأدب.(197/10)
الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم
وكذلك فإنه ينبغي أن يعلم المسلم أن الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع الأدب العظيمة، وهذا يشمل أشياء كثيرة جداً، فمن الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم: التسليم له، والانقياد لأمره، وتصديق خبره وتلقيه بالقبول، وعدم معارضته، لا يستشكل قوله وإنما تستشكل الأفهام، ولا يقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولا يدعي نسخ سنته، وكذلك لا ترفع الأصوات فوق صوته صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك سبب لحبوط العمل، وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام، لا ترفع الأصوات فوق حديثه إذا قرئ، ولا عند قبره.(197/11)
الأدب مع الخلق
والأدب مع الخلق وهو النوع الثالث: معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم، فالأدب مع الوالدين يختلف، الأدب مع العالم يختلف، الأدب مع الأقران، الأدب مع الأجانب، الأدب مع النساء الأجنبيات، الأدب مع الضيف، الأدب مع أهل البيت، هذا من جهة ما يتعلق بمن حولك من المخلوقين.
أما الأحوال ففيها آداب حتى لو كنت لوحدك وما عندك أحد مثل: آداب النوم مثلاً، فإذاً للمخلوقين آداب وللأحوال آداب، فمن آداب الأحوال: آداب الأكل، ولو كنت لوحدك فتأكل بيمينك، تسمي الله ولو كنتَ لوحدك، لا تأكل من وسط الطعام ولو كنت لوحدك، آداب الطعام، آداب الشراب، آداب الركوب، آداب الدخول، آداب الخروج، آداب السفر، آداب النوم، آداب البول، آداب الكلام، آداب السكوت، آداب الإنصات وهكذا.(197/12)
ثمرة التمسك بالآداب الشرعية
ولأجل عظم هذا الموضوع صنف العلماء فيه تصنيفاتٍ عظيمة، ولنعلم أن التمسك بالآداب الشرعية يقود إلى التمسك بالدين كله، ولذلك يقول الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني رحمه الله في مقدمته لكتاب الأدب المفرد للبخاري، قال: قد أكثر العارفون بالإسلام المخلصون له من تقرير أن كل ما وقع فيه المسلمون من الضعف والخور والتخاذل وغير ذلك من وجوه الانحطاط إنما كان لبعدهم عن حقيقة الإسلام، وأرى أن ذلك يرجع إلى أمور: الأول: التباس ما ليس من الدين بما هو منه، أي: مثل إدخال البدع فيه.
ثانياً: ضعف اليقين بما هو من الدين حقاً.
ثالثاً: عدم العمل بأحكام الدين.
هذه الأشياء الثلاثة التي عليها مدار أسباب انحطاط المسلمين.
ما هي أسباب تخلف المسلمين التي أشار إليها الشيخ المعلمي اليماني رحمه الله؟ ثلاثة أشياء: أولاً: إدخال ما ليس من الدين في الدين.
ثانياً: عدم اليقين بما هو من الدين.
ثالثاً: ضعف العمل بهذا الدين.
هذه أسباب تخلف المسلمين وانحطاطهم، ثم قال رحمه الله تعالى: وأرى أن معرفة الآداب النبوية الصحيحة في العبادات والمعاملات، والإقامة والسفر، والمعاشرة والوحدة، والحركة والسكون، واليقظة والنوم، والأكل والشرب، والكلام والصمت، وغير ذلك مما يعرض للإنسان في حياته، مع تحري العمل بها كما يتيسر هو الدواء الوحيد لتلك الأمراض، فإن كثيراً من تلك الآداب سهلٌ على النفس، فإذا عمل الإنسان بما يسهل عليه منها تاركاً لما يخالفها، لم يلبث إن شاء الله تعالى أن يرغب في الازدياد، فعسى ألا تمضي عليه مدة إلا وقد أصبح قدوةً لغيره في ذلك.
وبالابتداء بذلك الهدي القويم والتخلق بذلك الخلق العظيم، يستنير القلب وينشرح الصدر وتطمئن النفس، فيرسخ اليقين ويصلح العمل، وإذا كثر السالكون في هذا السبيل، لم تلبث تلك الأمراض أن تزول إن شاء الله.
ثم أشار إلى قضية تصنيف البخاري رحمه الله لكتاب الأدب المفرد وقد أفرده عن صحيحه وجعل له أبواباً خاصة، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله في أهمية هذا الكتاب، قال: وكتاب الأدب المفرد يشتمل على أحاديث زائدة على ما في الصحيح، وفيه قليلٌ من الآثار الموقوفة، وهو كثير الفائدة.
وقد شرحه الشيخ فضل الله الجيلاني وخرج أحاديثه، وحققه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، فهذا الكتاب الآن مشروح ومحقق كتاب صحيح الأدب المفرد للبخاري رحمه الله وحسبك به، ويكفيك مؤلفه.(197/13)
أقوال بعض العلماء في الأدب
ومن بعض أقوال العلماء في الأدب؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إمام العلماء: (إن الهدي الصالح والسمت والاقتصاد جزءٌ من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة) فإذاً من الأدب السمت الصالح، حسن السمت، والهدي الصالح يدخل في النبوة.
وقال النخعي رحمه الله: " كانوا إذا أتوا رجلاً ليأخذوا عنه، نظروا إلى سمته وصلاته وإلى حاله، ثم يأخذون عنه " أول شيء ينظرون إلى أدب العالم والمحدث، فإن وجدوه أديباً مؤدباً، أخذوا عنه، ولذلك كان مجلس الإمام أحمد رحمه الله يجتمع فيه من الزهاد خمسة آلاف أو يزيدون، خمسمائة يكتبون الحديث، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت.
وقال ابن عباس: [اطلب الأدب فإنه زيادةٌ في العقل ودليلٌ على المروءة، ومؤنسٌ في الوحدة، وصاحبٌ في الغربة، ومالٌ عند القلة].
وقال أبو عبد الله البلخي: " أدب العلم أكثر من العلم ".
وقال ابن المبارك رحمه الله: " لا ينبل الرجل بنوعٍ من العلم ما لم يزين علمه بالأدب ".
وكذلك قال ابن المبارك أيضاً: " طلبت العلم فأصبت منه شيئاً، وطلبت الأدب فإذا أهله قد بادوا ".
وقال بعض الحكماء: لا أدب إلا بعقل، ولا عقل إلا بأدب.
وقال بعضهم: رأيتُ من أراد أن يمد يده في الصلاة إلى أنفه فقبض على يده، خرجت واحدة بنحو الأنف والثانية قبضت عليها، فكفتها.
وقال يحيى بن معاذ: " من تأدب بأدب الله، صار من أهل محبة الله ".
وقال ابن المبارك أيضاً: " نحن إلى قليلٍ من الأدب أحوج منا إلى كثيرٍ من العلم ".
هناك أناس عندهم علم كثير لكن ليس عندهم أدب، ولذلك نفروا الناس وما أخذ عنهم أحد، بسبب عدم الأدب، وسئل الحسن البصري رحمه الله عن أنفع الأدب فقال: "التفقه في الدين، والزهد في الدنيا، والمعرفة بما لله عليك".
وبعدما ذكرنا طرفاً من الأدب وتعريفه، فنقول أيها الإخوة وقد يحصل السؤال عن منهج هذا الدرس ومن أي كتابٍ يكون، فرأيت ألا يكون هناك كتابٌ محدد لأن بعض الآداب التي سنتكلم عنها قد لا توجد في كتابٍ محدد، أو موجودة في أكثر من كتاب، ولكن من أحسن الكتب في الآداب وأكثرها تنظيماً وأجودها تصنيفاً: غذاء الألباب شرح منظومة الآداب للسفاريني يقع في مجلدين، وقد شرح منظومة ابن عبد القوي وأكثر الآداب التي سنتكلم عنها من هذه المنظومة، فإذا كان الشخص يريد أن يأخذ كتاباً في موضوع الآداب، فليأخذ كتاب غذاء الألباب شرح منظومة الآداب.
نعم يوجد كتاب الآداب الشرعية لـ ابن مفلح، مباحث نفيسة وجيدة، توسع في بعض الأشياء، لكن في جودة الترتيب وحسن التصنيف كتاب غذاء الألباب أحسن، فإن السفاريني قد جاء بعد ابن مفلح وأخذ أشياء كثيرة، واستفاد من كتابه، لكنه رتب كتابه، وإن كان يوجد فيه عبارات صعبة على المبتدئ في طلب العلم، كتاب غذاء الألباب.
ولعلنا في بقية هذا الدرس نلقي نظرة سريعة على منظومة الآداب لـ ابن عبد القوي ونذكر أطرافاً عامة من الأدب قبل أن نشرع في الكلام عن الآداب بالتفصيل، وسنتكلم إن شاء الله في موضوع الآداب على آداب تلاوة القرآن، آداب الضيف، آداب العطاس والتثاؤب، آداب الانفعال، آداب توقير الكبير ورحمة الصغير، وكذلك أدب الجار، أدب الحوار والمناظرة، ما يتعلق بالرؤى والأحلام، آداب النكاح، آداب الطعام الشراب، آداب الأكل، آداب الضحك والمزاح، آداب المريض، آداب المساجد، آداب المشي، آداب المصافحة والمعانقة والتقبيل، آداب النوم، وآداب الهدية، وآداب الوليمة، إن شاء الله في خلال الدروس القادمة نتعرض لكل واحد من هذه الأنواع بالشرح والتفصيل مع الأدلة وأقوال العلماء، وفروع أدب كل جانب من هذه الجوانب، وسيكون الدرس ثلاثة أيام في الأسبوع، في السبت والأحد والإثنين إن شاء الله بين صلاتي المغرب والعشاء.(197/14)
بعض وصايا منظومة ابن عبد القوي والتعليق عليها
أما منظومة ابن عبد القوي رحمه الله، فإنه افتتحها بقوله:
بحمدك بالإكرام مارُمت أبتدي كثيراً كما ترضى بغير تحددِ
وصلِّ على خير الأنام وآله وأصحابه من كل هادٍ ومهتدِ
وبعد فإني سوف أنظم جملةً من الأدب المأثور عن خير مرشدِ
من السنة الغراء أو من كتاب من تقدس عن قول الغواة وجحدِ
ومن قول أهل العلم من علمائنا أئمة أهل السلم من كل أمجدِ
لعل إله العرش ينفعنا به وينزلنا في الحشر في خير مقعدِ
ألا من له في العلم والدين رغبةٌ ليصغي بقلبٍ حاضرٍ مترصد
ويقبل نصحاً من شفيقٍ على الورى حريصٍ على زجر الأنام عن الردِ
فعندي من علم الحديث أمانةٌ سأبذلها جهدي فأهدي وأهتدي
ألا كل من رام السلامة فليصن جوارحه عما نهى الله يهتدِ(197/15)
صون الجوارح عما حرم الله
فكانت أول وصية في هذه المنظومة: صون الجوارح عما حرم الله ثم قال:
يكب الفتى في النار حصد لسانه وإرسال طرف المرء أنكى فقيدِ
هذا إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصاد ألسنتهم) والشطر الثاني معناه: قيد طرفك لا تصب بطرفك الحرام، ولا تنظر إلى ما حرم الله.
وطرف الفتى يا صاح رائد فرجه ومتعبه فاغضضه ما اسطعت تهتدِ
يعني إطلاق النظر يؤدي إلى الوقوع في الزنى، يعني الذين وقعوا في العشق والتعلق بالصور والأشكال من أي جهةٍ أُتو؟ من النظر، فتعب نفسياً لأنه أصيب بالعشق، تعب نفسياً تعب جداً، وخصوصاً إذا عشق امرأةً متزوجةً لا قدرة له على الوصول إليها، لأنها ذات زوج، فماذا يكون حاله، في غاية التعب، ولذلك قال:
وطرف الفتى يا صاح رائد فرجه ومتعبه فاغضضه ما اسطعت تهتدِ
ويحرم بهت واغتيابٌ نميمة وإفشاء سرٍ ثم لعن مقيدِ
البهتان حرام، إذا قلت في أخيك ما فيه فقد اغتبته، وإذا قلت ما ليس فيه فقد بهته.
قال: ويحرم بهت واغتيابٌ؛ وهذه الغيبة، نميمةٌ؛ أيضاً يحرم المشي بين اثنين بالإفساد بينهما بالكلام، وإفشاء سرٍ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حدث الرجل حديثاً ثم التفت فهي أمانة، فإذا استودعك سراً لا يجوز افشاؤه).
وإفشاء سرٍ ثم لعن مقيدِ
يعني: لا يجوز أن تلعن المعين، إذا كان ممن لعنه الله كإبليس وأبي جهل وأبي لهب الذين ماتوا على الكفر، فيجوز لعنهم، لكن لا يجوز لعن الحي المعين، ولو كان كافراً على الصحيح لأنه قد يموت على الإسلام، فيكون غير مستحق للعنة، فإذاً لا تلعن المعين، لكن لو لعنت الجنس، فقلت: ألا لعنة الله على الكافرين، ألا لعنة الله على الظالمين، ألا لعنة الله على الكاذبين، فلا بأس، لكن لعنة الله على فلان، أو لعن الله فلاناً، لا يجوز، إلا إذا لعنه الله ورسوله، فإذاً المعين المقيد لا تلعنه.
وفحشٌ ومكرٌ والبذا وخديعة وسخريةٌ والهزء والكذب قيد
البذا: الألفاظ البذيئة، يعني قيد نفسك عن هذه الأشياء ولا تطلق لسانك فيها.
بغير خداع الكافرين بحربهم أو العرس أو إصلاح أهل التنكدِ
إذاً الكذب يجوز إذا كان في خداع الكافرين في الحرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحرب خدعة).
ومعنى: أو العرس أو إصلاح أهل التنكدِ، جواز كذب رجل على زوجته، إذا خشي شقاقها أو أن تغضب عليه، وإصلاح أهل التنكدِ: الإصلاح بين المتخاصمين.
ويحرم مزمارٌ وشبابةٌ وما يضاهيهما من آلة اللهو والردِ
إذاً هذا ذكر تحريم آلات اللهو والمعازف، سواءً كانت لها أوتار أو ليس لها أوتار، مزمار، طبل، شبابة، كله حرام، حتى لو لم يكن معها غناء، ولذلك قال في البيت الذي بعده:
ولو لم يقارنها غناءٌ جميعها فمنها ذوي الأوتار دون تقيدِ
لاتقيد بالأوتار، لكن ذوات الأوتار كالعود والكمنجة، داخلةٌ فيها، والشبابة والربابة داخلةٌٌ فيها.(197/16)
نظم الشعر وسماعه
ولا بأس بالشعر المباح وحفظه وصنعته من رد ذلك يعتدِ
القاعدة في الشعر أن حسنه حسن وقبيحه قبيح، وإذا كان لنصرة دين الله، فيكون عبادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ حسان: (اهجهم وروح القدس معك) يعني جبريل يؤيدك ويثبتك ويناصرك، وصنعته: يعني لو صنعه ونظمه أيضاً.
من رد ذلك يعتدي: يعني يحرم الشعر كله حتى المباح فهو معتدٍ.
فقد سمع المختار شعر صحابةٍ وتشبيبهم من غير تعيين خردِ
يعني لو أن بعض الأبيات فيها غزل، لكن ما عين امرأةً بعينها، ولا وصل إلى درجة الكلام عن العورات، وإثارة الشهوات.
وحَظر الهجاء والمدح بالزور والخنا وتشبيبه بالأجنبيات أكدِ
الهجاء: حرام في الشعر، والمدح: وهو عمل الشعراء، لأنهم يمدحون للأموال بالباطل، والمدح قيده بالزور، لأن من المدح ما لا بأس به، كمدح النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والخلفاء.
ووصف الزنا والخمر والمرد والنسا الفتِيَّاتِ أو نَوح التسخط موردِ
كشعر نزار قباني وغيره من الضالين في هذا الزمان، ولو عمل الشعر نياحه، فهو حرام.(197/17)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأمرك بالمعروف والنهي يا فتى عن المنكر اجعل فرض عين تسددِ
اجعله فرض عين.
على عالمٍ بالحظر والفعل لم يكن سواه به مع أن عدوان معتدِ
ينبغي أن يكون عالماً فيما يأمر عالماً فيما ينهى، فبين أنه لو كان الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مهدداً بالضرب أو السجن أن يفعل به ذلك، فإذا سكت عن الأمر والنهي لا يأثم، لأنه مكره، لكن لو صبر وأمر ونهى فهو مأجور، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (سيد الشهداء حمزة، ورجلٌ قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)
وأنكر على الصبيان كل محرمٍ لتأديبهم والعلم في الشرع بالردي
فإذاً لو أن أحداً من الناس رأى مع صبي مزماراً، هل يقول: هذا صغير ليس مكلفاً أو يأخذه منه؟ يأخذه منه لابد، لو رأى على ذكرٍ ذهباً نزعه منه، وأعطاه لوليه، وقال له: لا يجوز لك أن تلبسه ذهباً، ولا يجوز للصبي كذلك أن يلبس ثوباً مسبلاً، لا يجوز لوليه أن يفعل به ذلك، فالصبيان هل ينكر عليهم؟
الجواب
نعم.
وبالأسهل ابدأ ثم زد قدر حاجة فإن لم يزل بالنافذ الأمر فاصددِ
يعني لا تبدأ مباشرة بالضرب، أولاً ابدأ بالكلام الطيب بالحكمة والرفق، ثم زد قدر حاجة: على قدر الحاجة تعلو الوتيرة في الإنكار، فإن لم يزل بالنافذ الأمر فاصددِ، إذا لم يستجب لك ولا استطعت أن تغير بيدك، فاصدد عنه، لا تجلس معه في مكان المنكر، تقول: نهيت عن المنكر وفعلت الذي عليَّ وما استجاب، فسأواصل الجلوس، لا يجوز.
إذا لم يخف في ذلك الأمر حيفه إذا كان ذا الإنكار حتم التأكدِ
لأن بعض الناس قد يكون له سلطان، فإذا فعل به ما فعل في مجلسه، أو أنكر عليه آذاه، فيسقط وجوب الإنكار حينئذٍ.
ولا غرم في دف الصنوج كسرته ولا صورٍ أيضا ولا آلة الددِ
الصنوج: هذا الطار الذي له حلق معدنية، إذا هزها ضربت الحلق ببعضها فأصدرت صوتاً، فهذا لا يجوز، الدف المباح للنساء في الأعراس هو الذي ليس له حلقٌ، هو الدف العادي، هذا الذي ليس له حلقٌ معدنية متصلةٌ به، فإذا استعمل دفاً آخر لم يجز، وإذا كسر الطبل أو العود لا غرم عليه، لا يستطيع صاحبه أن يشتكي للقاضي ويقول: اضمنه لي، كسرت عودي كسرت طبلي، فلا غرم في ذلك، ولا صور ٍ أيضاً: يعني التماثيل لو أتلفها، فإنه لا يضمن الثمن ولا يستطيع أن يقول: كسرت تمثالي أعطني قيمته، والدد: هو آلة اللهو.(197/18)
لعبة منكرة
وآلة تنجيمٍ وسحرٍ ونحوه وكتبٍ حوت هذا وأشباه فاقددِ
مثل: لعبة الآن موجودة في الأسواق، حدثونا عنها في المدارس، أو أن بعض النساء أتين بها إلى المدارس فيها أحرف باللغة الإنجليزية وأرقام، وسهم من البلاستيك يشير إلى اتجاه، وأنه يضع إصبعيه عليها، ويستحسن أن يكون معه امرأة، هكذا يقولون في تعليمات اللعبة، تضع إصبعيها أيضاً على هذه القطعة من البلاستيك، ثم تنادي الجنية، ويقول: يا فلانة هل حضرت؟ فستشير هذه إلى إشارة نعم أو لا، يعني مكتوب على اللوحة نعم ولا، وبعد ذلك يقول مثلاً: ما اسمي؟ فيتحرك المؤشر تلقائياً إلى الحرف الأول من اسمه، كم عمري؟ فتتحرك إلى الثلاثة والسبعة مثلاً، أو إلى الأربعة والصفر لتشير إلى عمرك، كم عدد أولادي؟ ونحو ذلك، وهذه اللعبة قد افتتن بها أشخاص مع أنها من السفاهات والسذاجات ولا تدخل في عقل عاقل، وهي تباع في بعض المحلات هنا، وكان سعرها سبعين ريالاً، ولما صار الطلب عليها من الناس الذين عندهم قلة دين وعقل، صارت الآن بمائة وأربعين، بل أكثر من مائة وأربعين، وقد أتى لي واحد منهم بهذه اللعبة، طيب الآن لو أننا قمنا بتشغيله تشتغل، قال: لا، من يوم ما قالوا نذهب بها إلى الشيخ ما اشتغلت، فهذا طبعاً من الخرافات والخزعبلات الموجودة، وبعض الناس يصدقون بها فعلاً، وعندهم كذلك بالفرجار والإبرة، وفيها: نعم ولا، وينادون الجنية بزعمهم أو الجن على أساس أنها تشير لهم للأجوبة، ويقولون: طالبة سألت اللعبة ما هي أسئلة اختبار القرآن غداً؟ فأعطت لها أرقام السور وجاءت مثلما قالت، كلام كثير فيقول الناظم رحمه الله في إتلاف آلات المنكر:
وآلة تنجيمٍ وسحرٍ ونحوه وكتبٍ حوت هذا وأشباه فاقددِ
فاقدد: يعني: مزق، مثل: كتاب شمس المعارف وغيره من الأشياء التي فيها تعليم السحر وتحضير الأرواح وتحضير الجن، وغير ذلك.(197/19)
إضافة للشيخ السلمان
وأضاف الشيخ السلمان لنظم القصيدة أبياتاً من عنده قال:
وقلت كذاك السينماء ومثله بلا ريب مذياع وتلفاز معتدِ
وأوراق ألعاب بها ضاع عمرهم وكوراتهم مزق هديت وقددِ
كذا بكماتٌ والصليب ومزمرٌ وآلة تصوير بها الشر مرتدِ
كذلك دخان وشيشة شربه وآلة طفات لهُ اكسر وبددِ(197/20)
هجران أهل المعصية
ثم يقول الناظم رحمه الله مرةً أخرى (عودة إلى المنظومة الأصلية):
وهجران من أبدى المعاصي سنةٌ وقد قيل إن يردعه أوجب وأكدِ
كما دل عليه حديث كعب وغيره، يعني إذا كان الهجران يردع صاحب المعصية، فإنه يصير واجباً.
وقيل على الإطلاق ما دام معلناً فلاقه بوجهٍ مكفهرٍ معربدِ
يعني: ما دام معلناً بالفسق سواءً كان يؤثر فيه الهجر أو لا يؤثر فيه اهجره، ولاقه بوجهٍ مكفهرٍ معربدِ؛ يعني: غيّر وجهك عليه، لأنه صاحب منكر ومعلن بالمنكر، فإذا كان الهجر لا يزيد إلا سوءاً، فما حكم الهجر؟ لا يجوز، لأن الهجر دائماً مع قاعدة المصالح والمفاسد، قال:
ويحرم تجسيسٌ على متسترٍ بفسقٍ وماضي الفسق إن لم يجددِ
يعني المتستر بالفسق لا يجوز التجسس عليه في بيته، واحد عنده فسق سابق ماض ما دام ما ترك الفسق لا يجوز أن نقول: نتجسس عليه ربما يعود، كان صاحب سوابق، أظهر التوبة، ربما يعود.(197/21)
آداب السلام وضوابطه
ثم قال:
وحظر انتفا التسليم فوق ثلاثةٍ على غير من كان بهجرٍ فأكدِ
لا يجوز أن تهجر أخاك فوق ثلاثة أيام لا تسلم عليه، وأما المعلن بالمعصية والمبتدع فتهجر فوق الثلاثة والشهر والسنة حتى يرتدع.
وكن عالماً أن السلام لسنةٌ وردك فرضٌ ليس ندبٌ بأوقدِ
ويجزئ تسليم امرئٍ من جماعةٍ ورد فتىً منهم على الكل يعدِد
لو سلم واحد من الجماعة على قومٍ جالسين، فرد واحد من الجالسين، أجزأ هذا عن هؤلاء، وهذا عن هؤلاء، ثم قال:
وتسليمٌ نزرٍ والصغير وعابرٍ سبيلٍ وركبانٍ على الضد أيد
يعني يسلم القليل على الكثير، النزر يعني: القليل، والصغير يسلم على الكبير وعابر سبيلٍ وركبانٍ على الضد أيدِ: يعني العابر الماشي يسلم على القاعد، والراكب يسلم على الماشي، على الضد.
وإن سلم المأمور بالرد منهمُ فقد حصل المسنون إذ هو مبتدي
وسلم إذا ما قمت عن حضرة امرئٍ وسلم إذا ما جئت بيتك تهتدِ
إذا زرت شخصاً وأردت أن تغادر سلم عند المغادرة، فإذا دخل البيت {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61].
وإفشاؤك التسليم يوجد محبةً من الناس مجهولاً ومعروفاً اقصد
ولذلك يخطئ كثير من الناس اليوم إذا لم يسلم إلا على من يعرف، إنما يجب إفشاء السلام على من عرفته ومن لم تعرفه، ولذلك إفشاؤك التسليم يوجد المحبة، والسلام على الذي تعرفه فقط من أشراط الساعة، فهو شيءٌ مذموم، ثم قال:
وتعريفه لفظ السلام مجوزٌ وتنكيره أيضاً على نص أحمدِ
يعني لو قلت سلامٌ عليكم، أو السلام عليكم كل ذلك صحيح.(197/22)
أدب الاستئذان قبل الدخول
وسنةٌ استئذانه لدخوله على غيره من أقربين وبعدِ
يعني لو أردت أن تدخل غرفة أمك التي هي أمك وهي فيها، فلا تدخل حتى تستأذنها، هل تحب أن تراها على عري، وكذلك الأبعدين لا تدخل عليهم حتى تستأذنهم.
ثلاثاً ومكروهٌ دخولٌ لهاجمٍ ولا سيما من سفرةٍ وتبعدِ
يعني الاستئذان ثلاثاً، لهاجمٍ: يهجم (يدخل) من غير استئذان ولو كان الزوج، فلا يهجم على البيت، وإنما يستأذن، وخصوصاً إذا جاءِ من سفر، حتى لا يقع على ما يكرهه من زوجته، وإنما يمهل حتى تستحد المغيبة، يعني تأخذ من شعرها الذي يسبب الرائحة الكريهة، وتتمشط الشعثة، وتتهيأ لتتزين لزوجها، حتى لا يراها في حالٍ ربما تشمئز نفسه منها.
ووقفته تلقاء بابٍ وكوةٍ فإن لم يجب يمضي وإن يخف يزددِ
يعني هذا منهي عنه، أن يقف تلقاء الباب مباشرة حتى إذا انفتح رأى من داخل البيت، يقف على جنب، بحيث لو انفتح الباب لا يرى أهل البيت، وكوةٍ: أيضاً الطاقة والثقب، وإن يخف يزددِ: وإذا خاف أنهم ما سمعوا؛ عندئذ ضربت الجرس ثلاث مرات، أو قلت السلام عليكم ثلاث مرات، تمشي إذا ما أذنوا لك، ولكن لو غلب على ظنك أنهم ما سمعوا؛ عندئذ تزيد على الثلاث.
وتحريك نعليه وإظهار حسه بدخلته حتى لمنزله اشهدِ
كما جاء عن ابن مسعود، أنه كان إذا جاء عند باب بيته تنحنح، حتى يعلم أهل البيت أنه داخل.(197/23)
سنة المصافحة وحرمة السجود
ثم قال:
وصافح لمن تلقاه من كل مسلمٍ تناثر خطاياكم كما في المسند
وليس لغير الله حل سجودنا ويكره تقبيل الثرى بتشددِ
المصافحة سنة، وفيها تناثر خطايا بين المسلمين، أما السجود فلا يجوز لغير الله، وإذا قبل الأرض وسجد يصير الحرام أكثر وأشد، كان سجود التحية في شرع من قبلنا كما سجد أهل يوسف ليوسف، وفي شرعنا حرم، لما رجع معاذ من الشام وسجد للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما هذا؟ -سأله النبي صلى الله عليه وسلم- قال: رأيتهم يسجدون لعظمائهم وأنت أعظم من العظماء، فأنت أولى بالسجود، فنهاه عليه الصلاة والسلام عن السجود، وقال: لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ من عظم حقه عليها).
ويكره منك الإنحناء مسلماً وتقبيل رأس المرء حل وفي اليد
الانحناء عند السلام منهيٌ عنه، ولفظه: (تكره) تأتي بمعنى يحرم، ولكن يستخدمها كما استخدم الإمام أحمد رحمه الله ورعاً، مثل ما يحدث الانحناء في بعض الألعاب الرياضية، كالكاراتيه وغيرها، ينحني بعضهم في بداية اللعبة، هذا حرامٌ لا يجوز، ويجوز تقبيل رأس العالم والوالد وكبير السن، وكذلك تقبيل اليد.
ونزع يدٍ ممن يصافح عاجلاً وأن يتناجى الجمع من دون مفردِ
يعني مكروه إذا سلمت على واحدٍ أن تنزع يدك قبله مستعجلاً، أيضاً النهي عن تناجي جماعة دون واحد.
وأن يجلس الإنسان عند محدثٍ بسرٍ وقيل احضر وإن يأذن اقعدِ
لا تدخل بين اثنين يتناجيان، إذا استأذنت جاز أن تجلس، وقيل لا تأتي أصلاً.(197/24)
صلة الأرحام وطاعة الوالدين
وكن واصل الأرحام حتى لكاشحٍ توفر في عمرٍ ورزقٍ وتسعدِ
كاشح يعني: صاحب عداوة، يطول عمرك وتزداد رزقاً
ويحسن تحسينٌ لخلق وصحبةٍ ولا سيما للوالد المتأكدِ
تحسن الصحبة ومع الوالدين أوكد
ولو كان ذا كفرٍ واجب طوعه سوى في حرامٍ أو لأمرٍ مؤكدِ
ولو كان ذا كفرٍ: يعني هذا الوالد، لا بد أن تطيعه إلا إذا أمرك بمعصية.
كتطلاب علمٍ لا يضرهم به وتطليق زوجاتٍ برأيٍ مجردِ
يعني لا تطعه إذا أمرك بترك شيءٍ مؤكد شرعاً كطلب العلم، قال لك: لا أسمح لك أن تطلب العلم، فما يضرهما إذا طلبت العلم، وأنت تحتاج إليه؟ وتطليق زوجاتٍ برأيٍ مجردِ: ولو قال لك طلق زوجتك برأيٍ مجرد، ما فعلت زوجتك شراً، ولا هي سيئة خلق، فلا يلزمك طاعة والديك في هذه الحالة.
وأحسن إلى أصحابه بعد موته فهذا بقايا بره المتعودِ
أصحاب أبيك وأمك، هل بقي من بر أبوي شيءٌ أفعله بعد موتهما؟ ماذا أخبره عليه الصلاة والسلام؟ (أن تصل صديقهما من بعدهما).
ويشرع إيكاء السقا وغطا الإنا وإيجاف أبوابٍ وطفئٌ لموقدِ
يعني تغطية الإناء بعد الشرب، إغلاق الباب بعد ما تدخل البيت، إطفاء السرج.
وتقليم أظفارٍ ونتفٌ لإبطه وحلق وبالتنوير للعانة اقصدِ
التنوير: وضع النورة لإزالة الشعر، والمقصود الإزالة سواءٌ كانت بالحلق، أو المقص، أو المرهم، أو النورة أو غيرها.
ويحسن خفض الصوت من عاطسٍ وأن يغطي وجهاً لاستتارٍ من الردِ
عند العطاس كما سيأتي.(197/25)
خاتمة المنظومة
ثم ذكر رحمه الله بقية الآداب في المريض وعيادته، وحكم قتل الحيوانات للمحرم، وحكم قتل النمل، وحكم قتل الحية، وبعض أحكام الشرب والأكل وغير ذلك من الأحكام، إلى أن قال في آخر هذه القصيدة الجيدة البليغة التي لو حفظت، فيكون في حفظها خيرٌ عظيم، لأنه بواسطة حفظها يصل إلى معرفة آداب كثيرة جداً، قال:
وهاقد بذلت النصح جهدي وإنني مقرٌ بتقصير وبالله اهتدي
تقضت بحمد الله ليست ذميمةً ولكنها كالدر في عقد خردِ
تقضت: يعني القصيدة انقضت
يحار لها قلب لذيذ وعارفٌ كريمان إن جالا بفكرٍ منضدِ
ثم قال:
فخذها بدرسٍ ليس بالنوم تدركن لأهل النهى والفضل في كل مشهدِ
وقد كملت والحمد لله وحده على كل حالٍ دائمٍ لم يصددِ
وسنبدأ في الدرس القادم إن شاء الله بالكلام عن آداب تلاوة القرآن، والله أعلم: وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(197/26)
بين الهداية والانتكاس
الهداية منة من الله على كثير من عباده، ولها أسباب منها: العلم الإيمان التوبة المجاهدة الرفقة الصالحة كما أن للهداية عوائق كثيرة منها: الاحتجاج بالمشيئة تكرار الوقوع في المعصية التسويف… وقد تحدث الشيخ عن قصص بعض التائبين، ثم انتقل إلى موضوع الانتكاس، وعرض في بداية كلامه عن الانتكاس بعض الرسائل التي يشكو أصحابها الانتكاس، ثم تحدث عن أسباب الانتكاس.(198/1)
مقدمة في الهداية وفضلها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أحييكم -أيها الإخوة- في مطلع هذا الموسم من الدروس وأقول لكم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل لقاءنا هذا لقاءً في طاعته، وأن يجعل مجلسنا هذا مجلساً مباركاً ونافعاً لنا جميعاً، وأن يجعل ما نسمع حجة لنا لا علينا.
يجدد الإنسان إيمانه بحلق الذكر وملاقاة إخوانه، والعودة لما كان متعوداً عليه من الطاعات والعبادات التي كان يمارسها في مكانٍ معين، كالمدرسة أو الجامعة، ونحو ذلك من الأنشطة الإسلامية، ولا شك أن مثل هذه العودة في بداية العام الدراسي لها أثرٌ في النفس، والعبد دائماً ينبغي أن يتقلب في مواسم الطاعات والعبادات، فسواء كان في عملٍ أو وظيفةٍ أو إجازةٍ فإنه يعبد الله سبحانه وتعالى.
ودرسنا في هذه الليلة: بين الهداية والانتكاس، هذا الدرس هو انطلاقٌ من الحقيقة التي أقسم الله عليها بعدة أقسام في كتابه الكريم فقال الله عز وجل: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] يعني: ضوءها {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:1 - 5] أي: ذات البناء أو ومن بناها؟ فيكون قد أقسم بنفسه: {وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} [الشمس:6] يعني: دحاها وبسطها وقسمها: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7] يعني: خلقها مستقيمة على الفطرة القويمة: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8] بين لها طريق الخير والشر، وهنا يأتي جواب القسم: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10].
قال بعض أهل العلم من المفسرين: زكاها: أي: زكى نفسه بطاعة الله وطهرها من الأخلاق الرديئة والرذائل، ودساها: يعني: أخملها بخزيانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عز وجل، فالشاهد قوله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10].
فمن زكاها: فهذه هي الهداية، ومن دساها: فهذا هو الانتكاس، بين الهداية والانتكاس.(198/2)
هداية النفس تزكيتها
ونتحدث أولاً عن الهداية في هذه التزكية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يسألها ربه كما جاء في صحيح مسلم: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنتَ خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) الهداية المقصودة: هي الهداية التوفيقية التي هي من الله، وهي أعظم نعم الله على العبد، وهي التي اختص الله بها: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
يحبب إلى العبد الإيمان، ويكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، هذه هي الهداية التي لا يملكها إلا الله عز وجل، وهي المقصودة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] وهي المعنية في قوله عز وجل: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25].
والهداية يا إخواني منةٌ من الله على عباده، كما قال عز وجل: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات:17] {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94].
وقد استشعر الصحابة هذا المعنى وهو أن الهداية منة من الله ونعمة، ولذلك جاء في صحيح البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلاً، فقال رجلٌ من القوم لـ عامر بن الأكوع، ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ -وكان عامر رجلاً شاعراً- فنزل يحدو بالقوم يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداءً لك ما اقتفينا وثبت الأقدام إن لاقينا
فلما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من هذا؟ قالوا: عامر، فقال: يرحمه الله).
وأعظم منةٍ من الله على نبيه صلى الله عليه وسلم هي الهداية كما قال الله عز وجل وعدد نعمه على نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:7 - 8].
وبين النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة هذا فقال عندما جمع الأنصار في الخطبة المؤثرة المشهورة: (يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالةً فأغناكم الله بي؟) فبدأ أولاً بذكر الهداية من الضلالة، فالضلالة هي: الشرك، والهداية: الإيمان، وثنى بالتأليف والجمع وثلث بالغنى والمال، فرتب النعم ترتيباً بالغاً.
وأهل الجنة حينما يدخلون الجنة يحمدون الله على نعمة الهداية التي هداهم في الدنيا: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43].
قال الطبري رحمه الله: الحمد لله الذي وفقنا للعمل الذي أكسبنا هذا الذي نحن فيه من كرامة الله وفضله وصرف عذابه عنا، هذه الهداية من الله يقذفها في قلوب من يشاء من عباده، وأحياناً يهتدي الشخص فجأةً بين عشيةٍ وضحاها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في شأن المهدي قال: (المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة) فـ المهدي حقاً سيخرج وهو من أشراط الساعة ويحكم سبع سنين، يملأ الأرض عدلاً، كما ملئت ظلماً، ويعطي المال بدون عدٍ ولا إحصاء، وإنما يحثو حثيه، هذا الرجل يصلحه الله في ليلة، الهداية ليست لها قاعدة ولا مكان، فإن الله سبحانه وتعالى قد يهدي الرجل في أفسق الأماكن، وقد يضل بعضهم في مكة، فكثيرون من الناس ذهبوا إلى أمريكا فأضلهم الله، وبعضهم ذهبَ إلى هناك فهداه الله، فهذا شيء من الله لا يملكه أحد: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].(198/3)
أسباب الهداية
لكن للهداية أسباب كثيرة فمنها: أولاً: العلم؛ العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته، فمن أراد الهداية فلا بد أن يكون عالماً بالله وأسمائه وصفاته: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] وأن يعلم حق الرب على عبده وهو: أن يعبده لا يشرك به شيئاً.
ثانياً: الإيمان، فهو من أعظم أسباب الهداية، الإيمان الذي هو الاعتقاد والتصديق بالجنان، والنطق باللسان، والعمل بالأركان، الذي يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وقال الله عز وجل: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11].
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9] فالإيمان من أعظم أسباب الهداية.
ثالثاً: الدعاء: وهو العبادة {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ونحن نقول في الصلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] دلنا على الصراط المستقيم، وفقنا لطريقة الشرع وزدنا هدى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لـ علي رضي الله عنه: (يا علي! سل الله الهدى والسداد، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، وبالسداد تسديدك السهم) فضرب له المثل الحسي: إذا سألت الله الهداية تذكر كيف إذا خرجت إلى مدينة أو بلد سلكت طريقاً فإنك تجتهد في معرفة الطريق والاستدلال إلى المكان، وعدم الضياع عن هذا الطريق وفقدانه، وتذكر بطلبك السداد، تذكر بالسداد تسديدك السهم، فإن الذي يسدد يصوب ويجتهد.
ومن أسباب الهداية: التوبة، كما قال الله عز وجل: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد:27] فإذا أناب العبد هداه الله سبحانه وتعالى.
السبب الخامس من أسباب الهداية: المجاهدة؛ يقول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] والمجاهدة على نوعين: مجاهدة النفس، ومجاهدة الشيطان، وأيضاً جهاد أعداء الله، فأما مجاهدة النفس فهي أنواع، فمنها: مجاهدة النفس على تعلم الهدى، وثانياً: مجاهدة النفس على العمل بالعلم، وثالثاً: مجاهدة النفس على الدعوة لهذا العلم، ورابعاً: مجاهدتها على الصبر على الأذى في سبيل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
وأما مجاهدة الشيطان فإنها تكون بأمرين: مجاهدة الشيطان بالشبهات التي يلقيها في نفس العبد، وكذلك مجاهدته على الشهوات التي يلقيها في نفس العبد ويثيرها.
ومن أسباب الهداية أيضاً: الجماعة الطيبة، قال الله عز وجل: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [الأنعام:71] وكيف يقتنع الشخص بأن الهداية هي مصلحته؟ بأن يعلم أنه هو المستفيد من الهداية ليس الله عز وجل، وأنه هو المتضرر من الضلالة وليس الله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [يونس:108].
وجاء في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً).
وهذه الهداية التي يقذفها الله سبحانه وتعالى في قلب من يشاء من عباده قد تكون عقب أمرٍ من الأمور وشيءٍ من الأشياء، فبعض الناس قد يهتدي من خطبة أو محاضرة، أو موعظة، أو دعاء تراويح، أو بعد حجٍ أو عمرةٍ، وبعضهم يهتدي لرؤيا يراها أو حادث يصيبه أو مصيبة كفقد وظيفته، أو موت قريبٍ، أو يمرض مرضاً تضعف نفسه فيه فيرجع إلى حقيقة أمره، ويفكر في شأنه فيهتدي، وبعضهم يهتدي بنصيحة أو دعوة يدعو بها رجل، وبعضهم يهتدي من رؤيةٍ نكبات المسلمين وما أصابهم، وبعضهم يهتدي بمرافقة الرفقة الطيبة، وبعضهم يكون مهتدياً من صغره، لتربيةٍ طيبةٍ في البيت.
وأسباب الهداية كثيرة والتي يجعلها الله سبحانه وتعالى سبباً لدخول هذا النور إلى قلب العبد، وربما لو أنكم عدتم بأذهانكم إلى الوراء كل واحدٍ منكم، ففكر في السبب -إذا كان مستقيماً- الذي به أدخل الله الإيمان إلى قلبه، لوجد قصةً أو حادثةً كانت كذلك، ويمكنكم المشاركة بكتابة هذا الأمر من سببٍ عجيبٍ أو قصةٍ مؤثرة كانت سبباً في هدايتك أو هداية شخصٍ تعرفه، لنرى في الختام أمثلة واقعية من هذه الأشياء فيتعجب العبد من أقدار الله سبحانه وتعالى، وقد تكون الهداية بحدث تعقبه الهداية فوراً، وقد يهتدي الإنسان تدريجياً كما إذا دخل في وسطٍ طيب، فإنه يبدأ بالتأثر وممارسة العبادات وهكذا حتى يصل إلى الهداية والاستقامة والالتزام بشريعة الله سبحانه وتعالى، فقد لا يحس بالنقل المفاجئ بين عشية وضحاها ولكن يصل إلى المطلوب.(198/4)
أناس عادوا إلى الله
لنتحدث عن بعض القصص من الماضين الذين هداهم الله سبحانه وتعالى، كيف هداهم، وأمثلة عن هذه الأسباب.(198/5)
جبير بن مطعم وكيف اهتدى
فمن ذلك هداية جبير بن مطعم الصحابي رضي الله تعالى عنه وكان قد جاء في أسارى بدر، وهؤلاء من حكمة النبي عليه الصلاة والسلام وفطنته أنه جعله في مكانٍ قريبٍ من المسجد، وكان ربما جعل الأسير في المسجد حتى يسمع القرآن وصوت النبي صلى الله عليه وسلم به، قال جبير: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:35 - 37] قال جبير: كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي) يعني: سكن وثبت، وهذا الحديث في صحيح البخاري رحمه الله.
قال ابن كثير: فكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك، فقد تكون الهداية نتيجة أسباب تجتمع وقد لا تكون في وقتٍ واحد، لكن هذا السبب الآن مع سبب آخر بعده بشهر أو شهرين، أو سنة أو سنتين تحصل الأسباب التي تؤدي بالشخص إلى الهداية.(198/6)
زاذان وسبب هدايته
ومن التابعين: زاذان رحمه الله قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: زاذان أبو عمر الكندي مولاه الكوف البزاز الضرير أحد العلماء الكبار، قال ابن عدي: تاب على يد ابن مسعود وعن أبي هاشم قال: قال زاذان: كنتُ غلاماً حسن الصمت جيد الضرب على الطمبور -وهو آلة من آلات العزف- فكنت مع صاحبٍ لنا وعندنا نبيذ -خمر- وأنا أغنيهم فمر ابن مسعود فدخل وضرب الباطية -يعني: إناء الخمر- فبددها وكسر الطمبور، ثم قال: [لو كان ما يسمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنتَ أنت أنت]-أي: لو كنت بدلاً من أن تصرف هذه الطاقة الصوتية الجميلة بهذا الغناء المحرم جعلته في القرآن كنتَ أنتَ أنتْ- ثم مضى فقلت لأصحابي: من هذا؟ قالوا: هذا ابن مسعود، فألقي في نفسي التوبة فسعيت أبكي وأخذت بثوبه فأقبل علي فاعتنقني وبكى وقال: [مرحباً بمن أحبه الله، اجلس ثم دخل وأخرج تمراً] وكثير من الأسانيد تجد فيها هذا الرجل زاذان رحمه الله.(198/7)
القعنبي
ورجلٌ آخر من أهل الحديث وهو القعنبي من الرواة المشهورين قال أحد أولاده: كان أبي يشرب النبيذ ويصاحب الأحداث -أي: جماعةٌ من الفسقة- فدعاهم يوماً وقد قعد على الباب ينتظرهم -ينتظر هذه الشلة من أهل السوء- فمر شعبة بن الحجاج -المحدث المشهور الثقة المتقن الضاد- على حماره والناس خلفه يهرعون فاستغرب من المنظر فقال: من هذا؟ قيل: شعبة، قال: وماذا شعبة؟! قالوا: محدث، فقام إليه هذا القعنبي وعليه إزارٌ أحمر -معروف أن هذا اللبس ليس من لبس المؤمنين، فلقد نهينا عن لبس الأحمر الخالص للرجال- فقام إليه وعليه إزارٌ أحمر، فقال له: حدثني، فقال له: ما أنتَ من أصحاب الحديث فأحدثك! -لا سيماك سيما أصحاب الحديث ولا الهيئة ولا المنظر- ما أنت من أصحاب الحديث فأحدثك! فأشهر سكينه وقال: تحدثني أو أجرحك، فقال له: حدثنا منصور عن ربعي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت).
فرمى سكينته ورجع إلى منزله، فقام إلى جميع ما كان عنده من الشراب فأراقه وقال لأمه: الساعة يأتون أصحابي، فأدخليهم وقدمي الطعام إليهم، فإذا أكلوا فخبريهم بما صنعت بالشراب حتى ينصرفوا، ومضى من وقته إلى المدينة فلزم مالك بن أنس فأثر عنه ثم رجع إلى البصرة -وقد مات شعبة - فما سمع منه غير هذا الحديث.(198/8)
الفضيل بن عياض
والفضيل بن عياض رحمه الله توبته مشهورة نقلها الذهبي رحمه الله أيضاً فقال: عن الفضل بن موسى: كان الفضيل بن عياض شاطراً -يعني: لصاً، الشاطر: هو اللص يقطع وينهب- يقطع الطريق بين أبي ورد وسرخس وكان سبب توبته أنه عشق جاريةً فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع تالياً يتلو قول الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16].
هذا جاره يقوم الليل بالقرآن، وهذا يتسور إلى المرأة الجدار ليفعل بها الفاحشة، فلما سمعها قال: بلى يا رب -وقعت في قلبه موقعاً، إذا شاء الله أن يهدي رجلاً كشف الحجب الكثيفة التي كانت تغطي قلبه، فدخل النور: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16] قال: بلى يا رب قد آن، فرجع فآواه الليل إلى خيمة، فإذا فيها أناس مسافرون، فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم: حتى نصبح، لا نرحل الليلة، فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا، وقد سمعهم بالمصادفة قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل بالمعاصي وقوم من المسلمين هاهنا يخافونني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبتُ إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام.(198/9)
توبة لص في بيت مالك بن دينار
والأمثلة كثيرة جداً من الهداية، لكن هذه قصة أخيرة عن توبة أحد اللصوص: جاء في سيرة مالك بن دينار، في سير أعلام النبلاء، قيل: دخل عليه لصٌ -أي: على مالك بن دينار وكان معروفاً بالزهد- فما وجد اللص ما يأخذه فانتبه مالك فنادى اللص قائلاً له: لم تجد شيئاً من الدنيا، فهل ترغب في شيءٍ من الآخرة؟ قال: نعم.
قال: توضأ وصلِّ ركعتين، ففعل ثم جلس وخرج إلى المسجد فسئل مالك: من ذا؟ قال: جاء ليسرق فسرقناه.
فهذا مثال عن ما يمكن أن ينتقل إليه الشخص من الإجرام إلى الاستقامة، ومن الضلالة إلى الهداية وهذا هو المطلوب، إذا صفت النفوس وأقبلت على الله فإن الله يهدي، وإذا ابتغى العبد أسباب الهداية فإن الله لا يضله، الله عز وجل رحيمٌ بعباده، لا يضل من أراد الهداية، لكن الناس أنفسهم يظلمون بعدم إرادتهم الهداية.(198/10)
معوقات الهداية
وقد مر معنا من أسباب الهداية: المجاهدة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].
وهذه المجاهدة هي التي خالفها الكثير من الناس فلذلك لا يهتدون؛ أو أنهم يعلمون شيئاً من الشريعة والدين، لكنهم لا يعلمون الكثير ولا يطبقون.(198/11)
الاحتجاج بالمشيئة
من معوقات الهداية: الاحتجاج بالمشيئة، هذا الذي نسمعه كثيراً من الناس، الذين يقولون: لو شاء الله لهدانا، وهؤلاء قد سبقهم الكفار بالاحتجاج بالمشيئة، فقال الله عنهم: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20] لو شاء الرحمن ما عبدنا هؤلاء وأشركنا في الله، وقال عز وجل في آية أخرى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148].
احتج المشركون بالمشيئة، كلامهم في الظاهر صحيح، لو شاء الله ما أشركوا لا شك في ذلك: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20]، لكن الله عز وجل كذبهم، وقال في آية الأنعام: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام:148] وقال في آية الزخرف: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف:20].
فكيف كذبهم وظاهر كلامهم صحيح؟!
الجواب
لأن مرادهم بكلامهم: لو شاء الله ما أشركنا، قولهم: إن الله لما كان قادراً على منعهم ولم يمنعهم دل ذلك عندهم على أنه راضٍ عنهم وعن الشرك، قالوا: لو لم يكن راضياً لصرفنا، فكذبهم الله على هذا الزعم، وأن الله لو شاء شيئاً لا يعني أنه يحبه، ولو قدر شيئاً ليس يقتضي ذلك أنه يحبه، فإن الله يشاء الخير ويشاء الشر سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن تقول: ما دام الله شاء هذا، يعني: أن الله يحبه وأن الله يقره، أبداً.
ولذلك هؤلاء العصاة الذي يقولون: لو شاء الله لصرفنا عن هذا الشرك، لو شاء الله لهدانا، نقول: إذا كنتم تحتجون بواقعكم على أنه صحيح، بأن الله شاء ذلك فأنتم ضلال، فالله عز وجل شاء كل ما يقع، لا يقع شيءٌ إلا بمشيئته قطعاً، خلافاً لمن ضل في ذلك من القدرية، وإذا كنتم تقولون: إننا مجبورون على الفعل، ولو شاء الله لأخرجنا، لكنه جبرنا على المعصية، فنقول: أنتم ضلالٌ أيضاً، فإن الله سبحانه وتعالى قد أعطاكم الإرادة.
قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض، وكتب أهل الجنة وأهل النار، وأقام الحجة على الجميع بإرسال الرسل وإنزال الكتب، ووفق من شاء توفيقه، ولم يوفق من سبق عليه الكتاب الشقاء، وخلق لكل إنسانٍ قدره، فلا يحتج أحد بأنه مجبور؛ لأن له قدرة وإرادة، ولا يحتج أحد على الغواية بأنه لا يعرف الحق، فالله قد أرسل الرسل وأنزل الكتب، وبين طريق الخير والشر: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] وهذا الفاسق الذي يفعل ما يفعل يفعله مختاراً ليس مجبوراً، طائعاً غير مكره هو الذي اختار شرب الخمر فشرب، وهو الذي اختار الزنا فزنى، وهو الذي اختار سماع الغناء فسمع، وهو الذي اختار الإسبال فأسبل ونحو ذلك، فهو الذي اختار بإرادته وقدرته التي أعطاه الله إياها ولذا اختار الشر، فلا يصح بعد ذلك لإنسان أن يقول: أنا مجبور! أو أن يحتج بمشيئة الله على أن الله يرضى واقعة السيئ، كلا.
بعد هذا كله لو خالف فهو يستحق العقاب، والهداية لا تصل إلى الناس من الشباك وهم يتفرجون أو وهم نائمون، تصل إليهم الهداية يقولون: نحن ننتظر الهداية تظن أن الهداية شيءٌ سيأتي من خلفك فيقذف فيك بدون أي عملٍ منك؟! بل إن الإنسان لو رأى أمامه أشد الحوادث تأثيراً! لو كان قلبه مغلفاً لا يريد التأثر فإنه لن يتأثر.(198/12)
تكرار الوقوع في المعصية
ومن عوائق الهداية: تكرار الوقوع في المعصية، فإن بعض الناس يقول في نفسه: أنا أدخن وأترك ثم أدخن وأترك، ثم أدخن وأترك، أنا أحلق اللحية ثم أعفيها، أحلقها ثم أعفيها، ثم أحلقها ثم أعفيها، أنا أسمع الأغاني ثم أترك، وأسمع الأغاني ثم أترك، فيقول: أنا لستُ مستعداً لهذا التردد؛ فيفلت العنان لنفسه وهواه، ويرجع إلى الضلال ويستمر فيه، فنقول له: يا هذا! لا شك أنك عند رجوعك عن الباطل، وإن كان لفترة مؤقتة فإنك أحسن من الذي يستمر عليه دائماً! إذا رجعت فأنت أحسن من الذي يدخن دائماً أو يحلق دائماً أو يسمع المحرمات دائماً، ثم إن الازدواجية التي وقعت فيها ينبغي أن تدفعك إلى الثبات على الحال الحسن، واختيار الخير، وليس أن ترجع وتستقر على الحال السيئ، ثم إن الإنسان إذا وقع في معصية فإن ذلك لا يعني أن يترك بقية الطاعات، هب أنك وقعت في معصية، هل تترك بقية الطاعات، وتقول: ما دام ارتكبت بعض المعاصي، إذاً سأسلك سبيل المعاصي المفتوح بجميع ما فيه؟ كلا.
ثم إن هذا الحديث يدل على أن الإنسان إذا فعل معصية، فإنه يرجع ويتوب، وليس أن يقول: وقعت فأكمل فيما وقعت فيه، لا.
عن ابن مسعود قال: (جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! وجدت امرأةً في بستان ففعلت بها كل شيء، غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها ولم أفعل غير ذلك، فافعل بي ما شئت، فلم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً، فذهب الرجل، فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه، فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم النظرة ثم قال: ردوه علي، فردوه عليه، فقرأ عليه قول الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] فقال معاذ رضي الله عنه -وفي رواية: عمر -: يا رسول الله! أله وحده أم للناس كافة؟ قال: بل للناس كافة).
فنقول: إذا وقع الإنسان في معصية لا يستسلم، بل يقبل على الله ويتوب، يذهب ويتوضأ ويصلي ركعتي التوبة، وإذا كانت جريمة يذهب فيعمل عمرة أو يحج من أجل هذه المعصية، فإن عمر قال عن ذنبٍ فعله: [فعملت لذلك أعمالاً من أجل هذا الذنب].(198/13)
القنوط من رحمة الله
ومن عوائق الهداية: أن بعض الناس يعتقد أن الله لا يمكن أن يغفر له، وأن ذنوبه كثيرة جداً، من كثرة سيئاته لا يمكن أن يغفر الله له، وهذا باطل، وهذا سوء ظن بالله، وهو شكٌ في قدرة الله، بل إن الله عز وجل قد قال في الحديث القدسي: (من علمَ أني ذو قدرةٍ على مغفرة الذنوب غفرتُ له ولا أبالي، ما لم يشرك بي شيئاً).
إذاً لا يمكن للإنسان أن يقول: لن أدخل الهداية؛ لأن ذنوبي أكثر من أن يغفرها الله، هذا باطل وهذا اعتقادٌ محرم، بل ينبغي أن يتوب إلى الله، ويقبل على الله ما دام لا يشرك بالله شيئاً: (لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة).(198/14)
النظرة الخاطئة للالتزام
ومن عوائق الهداية: اعتقاد أن جو الهداية شدة وتزمت ووسوسة ورهبنة وحرمان وتحريم الضحك ونحو ذلك من الأشياء الباطلة.
الجواب
كلا.
فإن جو الهداية على عكس من ذلك، هو اطمئنان وسكون وسرور وحبور وفرح نفسي وطمأنينة يقذفها الله في قلوب المهتدين، ويحصل في قلوبهم من أنواع السرور ما يحمد به العبد ربه على نعمة الهداية، وليست الهداية تحريماً للطيبات، فإن الله قد قال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] من الذي حرمها؟ الله أباحها فمن الذي يجرؤ على تحريمها؟!(198/15)
التسويف
ومن عوائق الهداية: التسويف؛ فإن بعض الناس يخطر في باله خاطر الهداية، يأتيه خاطر من الملك أن يهتدي؛ لأن الله جعل مع الإنسان ملكاً وشيطاناً، الملك يأمره بالخير والشيطان يأمره بالشر.
يأتيه الخاطر من الملك أن يتوب ويهتدي، ويترك ما هو فيه من الباطل، فبعض الناس يسوف يقول: سوف أفعل ذلك إن شاء الله في المستقبل سوف أفعل ذلك، فنقول: هذا شيءٌ لا تعرف نهايته، فقد تموت قبل ذلك، وتقول نفسٌ: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّه} [الزمر:56] لو أن الله هداني: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] وقد يقال له عند موته: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] وهذا التسويف من أضر الأشياء على العبد، فبسببه تؤخر التوبة وتؤخر مشاريع الانتقال إلى طريق الخير والهداية بسبب التسويف، كلما جاء بواب الخير كلما جاء طارق الخير صرفه بواب لعلّ وعسى، ثم إن الإنسان إذا استمر في الشر صار الشر عادة، فصار ترك الشر صعباً عليه، كمثل رجلٍ خرجت له نبتةٌ في بيته، في مكان غير مناسب مؤذٍ، فقال: اليوم أقتلعها، غداً أقتلعها وهي تنمو وتكبر اليوم أقتلعها غداً أقتلعها، حتى إذا كبرت وصارت جذورها ضاربةً في الأرض وقويت صار هو في المقابل أضعف وأعجز، والشجرة صارت أقوى وأكبر فأنى له أن يقتلعها؟! ولذلك من البداية غير ولا تسوف.(198/16)
ربط الالتزام بأشياء أخرى
ومن معوقات الهداية: ربط الأشياء بعضها ببعض، وترتيب الأشياء بعضها على بعض، وهذا من حيل الشيطان، كما قال بعضهم مرةً قال لي: أنا أشتهي وأريد أن أعفي لحيتي، قلتُ: ما الذي يمنعك من ذلك؟ قال: لأنني عقدت العزم على أن أفعل ذلك بعد حدوث شيءٍ معين، وما هو؟ قال: إنني الآن في مرحلة الخطوبة يعني: الآن أخطب وأتقدم إلى الناس لأتزوج، فإذا تزوجت أنوي أن أحج بالمرأة، فإذا حججت بها فمن ذلك الوقت -من بعد الحج- سأترك المنكرات وأعفي لحيتي، فهذا علق قضية هذه الطاعة على الزواج! ثم يعلق الزواج على الحج، فيربط الأشياء بعضها ببعض، ويقول: أريد شيئاً نهائياً، فنقول: ابدأ من الآن حتى إذا دخلت سهل عليك، لكن أن تقول: سأفعل ذلك إذا تزوجت وحججت وعند ذلك عصمت نفسي وعند ذلك صرتُ عفيفاً، والحج يهدم ما قبله، وابدأ عند ذلك صفحةً جديدة، نقول: يا أخي! التوبة تفتح لك صفحة جديدة، ليس بشرط أن تتزوج وتحج حتى تفتح صفحة جديدة! ممكن أن تفتح صفحة جديدة الآن، وما يدريك فقد يأتيك ملك الموت قبل أن تتزوج أو قبل أن تحج، فما عذرك عند الله؟!.(198/17)
الاحتجاج بواقع بعض الملتزمين
ومن عوائق الهداية أيضاً: الاحتجاج بواقع بعض الناس الذين ظاهرهم الالتزام، لكنهم عندهم معاصٍ وإساءات، فيقول لك: انظر هذا فلان، لحيته هذا طولها، ومع ذلك رأيته ينظر إلى النساء، أو أنه يلعب بفواتير الشركة، أو أنه ليس بنظيف، أو أن فلانة محجبة، لكن أنها تفعل من وراء الحجاب أشياء، نقول: وما لك ولهم، إذا كان ظاهرهم الطاعة، وباطنهم عندهم فسق؟ هل هذه حجة أمام الله تحتج بها يوم القيامة؟ إذا سألك: لماذا لم تسلك سبيل الاستقامة والهداية قلت: فلان هذا ظاهر الهداية، لكن في الحقيقة عنده أمور أخرى؟! نعلم بأن هناك منافقين بالمجتمع هل ألوان النفاق هي حجةٌ لك على ترك الهداية؟ أبداً لا يمكن أن تكون حجة: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] الحق نفسك، قبل أن تؤتى فلا تستطيع الحراك.
وكذلك فإن الإنسان يلجأ إلى المنهج، ولو انحرف الأشخاص، فهو لا يربط هدايته بفلان أو فلانة، فإذا ضل فلان ضل معه، وإذا اهتدى فلان اهتدى معه، كلا.
بل هو دائماً مع المنهج مع القرآن والسنة يدور معهما حيثما دارا، ولا عليه من تصرفات الناس وأخطائهم؛ أخطاء الناس ليست بحجة على الشريعة، الشريعة هي حجة على الناس، ونحن نعرف الرجال بالحق، ولا نعرف الحق بالرجال.(198/18)
اعتقاد أن النية الطيبة وحدها تكفي
وكذلك من معوقات الهداية: اعتقاد أن النية الطيبة وحدها تكفي، وأن الأعمال لا داعي لها ما دام أن القلب طيبٌ وسليم، فنقول: هذا زعمٌ فاسد، الله عز وجل قال لأهل الجنة: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] فالأعمال سبب لدخول الجنة، فإذا لم تعمل، فبأي شيءٍ تدخل الجنة، والله عز وجل مدح الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإذا لم تعمل الصالحات، فبأي شيءٍ تنجو يوم القيامة؟!: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البروج:11]، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96].
هؤلاء الناجون، لكن إذا لم تعمل الصالحات؟ فبأي شيءٍ أو على أي حالٍ تكون يوم القيامة، الإيمان قولٌ وعمل، أما الضلال هم الذين يقولون الإيمان هو: الاعتقاد بالقلب والتصديق فقط.(198/19)
النظر إلى من هو دونه في الالتزام
ومن معوقات الهداية أيضاً: أن ينظر الشخص إلى من هو دونه في الدين، فيقول: أنا أصلي الصلوات الخمس، فلان يقطع الصلوات، وإذا كان يقطع الصلوات قال: أنا أفضل من فلان؛ فلان لا يصلي أبداً، وإذا كان لا يصلي أبداً، قال: أنا أفضل من البوذي وعابد البقر، فنقول: هذا مفهوم خاطئ وهذه نظرة منحرفة، فإن الإنسان في الدين ينظر إلى من هو أعلى منه، ثم أنه قد جعل لنا قدوة نقتدي به وأمرنا باتباعه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
لكن متى تنظر إلى من هو دونك؟ في أمور الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم في أمور الدنيا، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم) رواه أحمد ومسلم وغيرهما.
فعلى الإنسان أن ينظر إلى من هو دونه في الدنيا، فيرى من هو أسوأ منه حالاً فيحمد الله على النعمة التي هو فيها، لكن في الدين، لا يقارن نفسه بمن هو أدنى منه، وإلا فإنه سينزل درجات أو دركات.(198/20)
النظر إلى المكاسب والمغانم الدنيوية
ومن عوائق الهداية: هواة المكاسب والمغانم الدنيوية، فبعض الناس يعملون في أعمال محرمة كرجلٍ يعمل في مؤسسة ربوية، أو في عمل محرم في فندقة أو سياحة يشارك في المحرمات كالفواحش والخمور، ونحو ذلك من الأعمال المحرمة، فإذا جاءه خاطر الهداية، قال: الآن لو اهتديت، وجب علي ترك العمل؛ لأنه محرم يتناقض مع الهداية، فإذا تركت العمل فات المرتب والمرتبة! وأين أجد عملاً آخر؟ أو فاتني الجاه والمنصب، كما وعظ أبو العتاهية الشاعر الخليع أبا نواس فماذا رد عليه أبو نواس، قال:
أتراني يا عتاهي تاركاً تلك الملاهي أتراني مفسداً بالنسك عند القوم جاهيِ
تريدني أن أصبح متنسكاً فأفسد جاهي عند القوم، أنا محدثهم أو أنا مضحكهم والذي أقص عليهم القصص التي ترفه عنهم ونحو ذلك، فكان مقرباً من بعض السلاطين، وكان يحبه الوجهاء والأغنياء ونحو ذلك من السفهاء والفسقة، فيأتون به يحدثهم ويقص عليهم، فإذا اهتدى معناه أنه سيترك هذه الأجواء وتفوته الأعطيات، أو يكون الإنسان في مكان يأخذ الرشاوى والعمولات، فإذا جاء خاطر الهداية، قال: سيفوتني هذا الدخل وهذه الأموال، هذه أشياء دنيوية زائلة، والدنيا كلها ملعونة بنص الحديث: (الدنيا ملعونة؛ ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، أو عالمٌ ومتعلم) ثم نقول: إن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
فاتركها لله يعوضك الله خيراً منها.(198/21)
حب التحرر وعدم التقيد
ومن عوائق الهداية: حب التحرر وعدم التقيد، وإن بعض الناس يعتقد أن الهداية تقييدات وكبت للحريات، وتعتقد بعض الفتيات بأن الالتزام كبتٌ لحريتها، وتركٌ للزينة والخروج والكلام في الهاتف، كما يعتقد ذلك أيضاً بعض الفسقة من الناس يقولون: هذا تقييد، هذه قيود نحن لا نريد القيود، نصافح النساء والأقارب وغير المحارم، نتبرج، نسافر إلى بلاد الكفار، نسيح في الأرض، نسمع ما نشاء، نرى الأفلام، لا نريد الهداية؛ الهداية تقيدنا، وتكبلنا، وهي ثقيلة على النفس.
نقول: هذا صحيح، لكن اعلم أنك أن تكون عبداً لله خيرٌ من أن تكون عبداً لشهواتك، وأن الجنة قد حفت بالمكاره، ولا شك أن هذه الأشياء المحرمات تقييد لا شك، لكن من قيد نفسه بالشريعة في الدنيا، أخذ حريته يوم القيامة، ومن كان عبداً لشهواته في الدنيا، فهو من أهل النار يوم القيامة، ثم إن الطاعة فيها حلاوة، وهذا شيء ثابت ومجرب، قاله العلماء والزهاد والعباد، كما قال بعضهم: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة! وقال بعض السلف: إنه لتمر بالقلب ساعة أقول فيها لنفسي: إن كان أهل الجنة دائماً في مثل هذا، فهم في نعيمٍ كبير.
فإذاً الإيمان له حلاوة، والحلاوة هذه تنسيك جميع التقييدات التي تتصورها أنت عائقاً عن الهداية.(198/22)
الخوف من اضطهاد المجتمع والأهل وأذيتهم
ومن عوائق الهداية: خوف الاضطهاد والأذية التي قد تكون من بعض الأقرباء أو أهل البيت، بل قد تكون من الأب والأم والإخوان، أو من زملاء العمل، أو الدراسة، أو الجيران، ونحوهم من أهل الشارع، فيمر المتمسك بالدين بينهم فيستهزئون ويسخرون ويلمزون ويغمزون بمظهره أو لحيته وثوبه، أو حجابها، وربما تعدت الأذية إلى أن يسجن أو يفصل أو يضرب ونحو ذلك من أنواع الاضطهاد والأذية، فنقول: هذه طبيعة هذا الدين: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
هذا طريق الأنبياء، الجنة حفت بالمكاره، وليس من الصحيح أن تتصور أنك إذا اهتديت فلابد أن تجد الطرق معبدة مذللة، وكل الناس يضربون لك تحية احترام، لا.
فإنك ستصاب بسبب التزامك بالدين بأنواع من الأذى، هذا ما حصل للنبي عليه الصلاة والسلام، سبوه وشتموه وخنقوه وبصقوا في وجهه، وجعلوا الشوك في طريقه، وضعوا سلى الجزور على رقبته عذبوا أصحابه وسلسلوهم بالسلاسل قتلوا بعضهم جرحوهم وحاصروهم في الشعب جوعوهم حملوا السلاح عليهم، إذاً الإنسان الذي يتصور أنه إذا اهتدى سيعيش في أمان وسلام، هذا تصور عن هذا الدين وهو تصور ناقص مشوه ليس بصحيح.
نعم.
ليس بالضرورة أن تحدث لك مشكلات، لكن إذا حدثت فينبغي لك أن تتوقع ذلك، خصوصاً في هذا الزمان الذي هو زمان الغربة؛ غربة الدين، وغربة الإسلام، وبعض الناس يقول: أنا سأجرب الالتزام والدخول في الهداية وأرى، إذا صارت أموري جيدة والناس احترموني أكملت الطريق، وإلا رجعت، هذا الذي يعبد الله على حرف: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
كان بعضهم يأتي إلى المدينة يسلم، يقول: نجرب هذا الإسلام، فإن نتجت خيله ورزق ولداً وجاءه مال، قال: هذا دينٌ حسن، وإذا لم تنتج خيله ولا جاءه ولد، ولا رزق مالاً، قال: هذا دين سوء قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11].
فنقول: التزامك بالدين هذا يكلفك أشياء كثيرة، فيه مصاعب، وفتن، لا شك في ذلك، يتفاوت الناس فيها، ولذلك لابد من توطين النفس على هذا، أما أن نفر من الواقع ونفر من الزحف لأي أذى نصادفه ونرجع وننتكس ونقول: مالنا وللمشاكل؟ ودعونا من الالتزام بهذا الدين فإنه مشاكل ومصائب، فلا شك أن صاحب هذا مسكين، وهو الخاسر؛ لأن هذه الدنيا زائلة وماضية وعابرة بكل ما فيها من الفتن والاضطهادات والمشكلات، فهي زائلة وعابرة، والحياة الحقيقية في الآخرة: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64].
الحيوان: الحياة الأبدية الدائمة المستقرة.
وبعد ما عبرنا على بعض الأمور التي تتعلق بالهداية، فإننا نتكلم -إن شاء الله- في الشق الثاني من هذا الموضوع عن قضية الانتكاس.(198/23)
الانتكاس
قد سبق الكلام في موضوع الانتكاس في بعض المحاضرات الماضية، ونريد أن نجدد بعض المفاهيم والتصورات، وأن نعيد إلى الأذهان بعض القضايا المتعلقة بذلك، ولأبدأ هذا الشق معكم ببعض الرسائل التي جاءتني متنوعة، اخترت منها رسالة من عامل ورسالة من فتاة، ورسالة من شاب، ورسالة من داعية، كلها تتعلق بموضوع الانتكاس.
فلنقرأ بعض هذا، ثم نبين بعض الأسباب والعلاجات.(198/24)
رسالة من شاب منتكس
هذه رسالةٌ من شابٍ تائهٍ يتخبط، فأرجو أن تقرأ رسالتي بدون ملل لأهميتها القصوى وأرجو الرد عليها بسرعة.
أنا شابٌ عمري ثمانية وعشرون سنة، حاصل على الشهادة الفلانية ومتزوج وعندي طفلان، وأتيت للعمل، وراتبي كذا، وقد انقلبت حياتي رأساً على عقب، فأنا كنتُ في بلدي شاباً ملتزماً جداً، وأصلي الصلوات الخمس في وقتها، وفي الشتاء والليل والبرد القارس وأصلي الفجر، وأقوم الليل، وأقرأ وأحفظ القرآن وأزور في الله وأتصدق.
ولا يفوتني درسٌ علميٌ ديني، وكنتُ أدعو الله ولا أسمع الأغاني، وإذا رأيت تلفازاً أدرت له ظهري والنساء عندنا عاريات وبرغم ذلك كنتُ أغض بصري، وغير ذلك من أعمال الخير ولا أزكي نفسي على الله، ولكن ماذا حدث لي الآن؟ انظر الفارق بين القلب الخير والقلب القاسي أصبحتُ لا أصلي في المسجد سوى وقتين أو ثلاثة، ولا أصلي الفجر إلا قليلاً، أستمع إلى الغناء، وأشاهد التلفاز، بل في بعض الأحيان الفيديو، ولم أحضر درساً علمياً واحداً سوى خطبة الجمعة، ومع أن النساء في حجاب أحسن حالاً في المكان الذي أنا فيه، رغم ذلك أنظر إليهن، ونسيت ما حفظته من القرآن، وألغو في كلامي، وأتحدث ما كنتُ أستحي منه قبل ذلك، وغير ذلك من الأمور التي أستغرب أنا شخصياً من فعلها، وهذا التحول له أسباب منها: أولاً: أنا أسكن مع شابين لا يحلون حلالاً ولا يحرمون حراماً إلا نادراً، ويستمعون الغناء والموسيقى والتلفاز بكثرة، وقد جاهدتهم ولكن أصبحت أخوض معهم، ليس عندي وقت لحضور دروس العلم، ووجدت الناس قلوبهم مغلقة وقاسية ولا هم له سوى جمع المال، لا أجد أصدقاء يعينوني على طاعة الله، وكذلك فإنني أبيع العطورات، وتدخل علي النساء وهن على كل شكلٍ وقد تطلب الواحدة مني وتقول: هل تبغي؟ فإذا وجدتني أصمت من هول الصدمة تلاحقني، وتقول: هات مائتين ريال وهيا، وفي مواجهة هذه الفتنة قمت بأعمال العادة السرية التي لم أستعملها في حياتي، وأنا الآن بعيدٌ عن أهلي إلى آخر الرسالة.(198/25)
فتاة تشكو الانتكاس
وهذه رسالة من فتاةٍ تقول: كنتُ أعيش في هذه الدنيا في طاعة الله، وأصلي وأتصدق وأذكر الله عز وجل، وكنتُ أقوم بأعمالٍ كثيرة من الطاعات، ولكن الآن انقلب أمري رأساً على عقب، فصرتُ لا أصلي وأكره الصلاة، وقطعت رحمي ونسيتُ أهلي وتشاحنت مع أخواتي على دنيا فانية، واغتبت أختي، وكذلك فإنني الآن حزينة على نفسي أشد الحزن، ولا أدري كيف لا أعود عن خطئي، وأنا الآن غافلة وتراودني المشاعر للتوبة الصادقة، ولقد ظلمت نفسي وضيعتها وأهويتُ بها في الجحيم كل ذلك حدث خلال سنةٍ واحدة، أقطع الصلوات، وصيامي عن الطعام والشراب فقط، كنتُ أقسم مصروف المدرسة بيني وبين الصدقة، والآن لا أخرج شيئاً، وإن سألتني عن لساني فلقد اتخذت الكذب هواية، والغيبة فاكهة، والنميمة وسيلة لأعيش بها، والشتائم والمسبات صارت روتيناً دارجاً لا أستطيع تركه، وإن سألت عما أرى فإنني أرى الأفلام ولا أغض بصري، وأسهر على المسلسلات، وأذني لسماع الموسيقى والأغاني، والحسد قائم، وأنا عاقةٌ لوالدي، وأهملت حتى في الدراسة إلى آخر هذه الرسالة الطويلة.
ورسالة أخرى من شاب من المغرب يقول: كنتُ في بيتٍ تربيت فيه تربية دينية وأحافظ على الصلوات منذُ الصغر، وأرافق والدي إلى المسجد وأنا ابن ثلاث سنين، وأتقنت كل العبادات، وأحسست برضا الله ورضا الناس، وكنت الوحيد الذي يدخل المسجد في سن مبكرة كسني، وكانت تلك السنوات أحسنها ما في تاريخ ميلادي، لكن ما أن وصلت إلى سن المراهقة بدأت أتأخر في صفوف المصلين، وفجأةً انقطعت عن الصلوات، ورافقت أصدقاء السوء من حولي، وفارقت بلدي للدارسة فانقطعت عن أهلي ووالدتي، وتولد عندي مرضان خبيثان، مرض حب المال وحب الشهوة! واستعملت ذلك فيما حرم الله ووقعت على الأخص في فواحش الزنا واللواط حتى بالحيوانات والسرقة من الأسرة، وأكل أموال أصحاب الدين، والغش وإلى آخره.
وعرضتُ عن كتاب الله، وانكببت على قراءة الكتب الخليعة ومشاهدة أفلام الجنس، ولم أعمل بأحكام كتاب الله، مع العلم أنني أعرفها تمام المعرفة، وأعرف الفرق بين الحلال والحرام، والمكروه والمستحب، كلما تذكرت ذلك يحترق قلبي ألماً وحزناً حتى دراستي التي كنتُ متفوقاً فيها أصبحت في هذه السنة أنفر منها إلى آخر الرسالة الطويلة.(198/26)
رسالة من داعية يشكو كثرة المنتكسين
وهذه الرسالة الأخيرة من داعية من إحدى المدن يقول: أكتب إليك هذه الرسالة بمدادٍ من الأسى والحزن، ومزيد من التحرق والتأسف بسبب الواقع المرير الذي تعيشه مدينتنا، الذي يتألم منه كل من في قلبه غيرة على دين الإسلام، ويبكي منه كل من يرى تدهور هذا الحال والرجوع إلى الخلف، وكأننا نسير بعكس ما يسير عليه العالم من الصحوة والرجوع إلى الله، وألخص هذا الواقع في النقاط التالية: أولاً: منذُ فترة ونحن نرى حالات كثيرة من الانتكاس والانحراف بين شباب هذه المدينة، فهذا شابٌ سلك الصراط المستقيم منذُ سنتين أو ثلاث، وفي هذه الأيام الأخيرة انتكس وانحرف إلى حالةٍ شديدة، سهر على الحرام ومشاهدة الخنا والفجور وسماع الغناء والمعازف وترك الصلاة، وعقوق الوالدين، وجولات على السيارات في الأسواق معاكسات تفحيط في الشوارع فعل الفواحش إلى آخره.(198/27)
انتكاس شاب عمره خمس عشرة سنة
وهذا شابٌ آخر عمره خمس عشرة سنة تقريباً كان في جاهليةٍ وفسق، فبدأ يماشي الشباب الملتزم فترةً ليست بالقصيرة منذُ صغره، وفي هذه الأيام استطاع الشباب الفاسد أن يذهبوا به إلى صفوفهم، وأن يجعلوه واحداً منهم، وصار أسوأ مما كان عليه أولاً، والحالات كثيرة جداً يطول عدها وسردها في هذا المقام: ولكن هذه مجرد أمثلة لهذا التساقط المؤلم، وكثرة الانحرافات التي جعلتنا نتوقع أن أي ملتزم وتائب جديد قد ينحرف بعد فترة قصيرة لما يراه من الواقع المرير، وأصبحنا نخشى على كثيرٍ من الشباب مهما كان عهدهم بالالتزام قديماً.
ثانياً: لم تنفع المناصحة لمثل هؤلاء المنحرفين ولا الرسالة ولا الشريط الإسلامي ولا المكالمة الهاتفية ولم تجد معهم طريقة.
في أول الأمر: يبدأ بالمجاملات والمداهنة معنا في أول انحرافه ثم يعلنها أخيراً أنه ترك الالتزام وسلك طريق الفسق.
وكثيرٌ من هؤلاء يعطيهم آباؤهم السيارات ويطلقون العنان لهم في الفساد.
ثالثاً: ونحن نعتقد أن هناك بعض الأشياء المدبرة من بعض أصحاب السوء من المنافقين، حتى أن بعضاً من الشباب الفاسد يظهر الالتزام مدة قصيرة، ويدخل بين أوساط الملتزمين، ولكنه ينحرف ساحباً معه اثنين أو ثلاثة، وخاصةً من الصغار إلى آخر هذه الرسالة.
وهذه الرسائل تعبر عما نريد أن نتكلم عنه في قضية الانتكاس.(198/28)
أسباب الانتكاس
لما تكلمنا عن موضوع الهداية -أيها الإخوة- والأسباب التي تجعل الإنسان يهتدي إلى الله عز وجل، لابد أن نتحدث في المقابل عن قضية الانتكاس التي تصيب بعض الذين يدخلون في هذا الدين ويسلكون سبيل الاستقامة، ونحن لا نريد أن نهول الأمر، ونقول: ليست هذه هي الأكثرية والحمد لله، بل إنه ولله الحمد الذي يدخل في هذا الدين، ويعرفه، قلما يتركه، وإنما الترك يكون من الذين في قلوبهم مرض ولا شك في ذلك، ممن في قلبه مرض من الأمراض فيترك الالتزام بهذا الدين، أما إنسان دخل الدين وعرفه وعرف الحق وذاق حلاوة الإيمان وجاهد نفسه، فإن الله لا يضله، فالله رحيم بعباده.
ومسألة الانتكاس هذه مسألة نسبية، فمن الناس من يرتد عن الدين، بمعنى يخرج منه بالكلية، فيصبح كافراً بعد إسلامه: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة:217] وبعض هؤلاء قد يكفرون بترك الصلاة بالكلية مثلاً، أو سب الدين والاستمرار على ذلك، أو غير ذلك من المكفرات، وبعض الناس يترك الالتزام إلى الفسق فيعمل بعض المنكرات والمحرمات يقع فيها مرةً أخرى، فيعود إلى أمور من الشهوات المحرمة، أو الأشياء الأخرى كأن يحلق لحيته ويدخن ويسمع الأغاني ويشاهد الأفلام وهكذا.
ومن الناس من لا يفعل المحرمات لكنه يبرد بروداً ويفتر فتوراً مذموماً، فبعد أن كان داعية إلى الله نشيطاً يطلب العلم، أصبح غير طالب للعلم ولا داعية إلى الله، يعني: يترك واجبات من الدين، فيكون مقصراً ويقول: أنا أريد أن أصبح مسلماً عادياً، وطبعاً هذا في الغالب يترك النوافل والمستحبات كقيام الليل وقراءة القرآن والصدقة والذكر تخف عنده جداً، وبعض الناس قد يترك المستحبات فترة لفتور ثم يعود مرةً أخرى، هذا وضع طبيعي، أقصد: أنه في دائرة المقبول: (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) إذا كان الفتور لا يجعلك تترك واجباً، أو ترتكب محرماً فأنت بخير، لكن النظر الآن في الانتكاس في هؤلاء الذين يعودون ويرتدون على أدبارهم.
لقد حفل التاريخ بقصص وأنواع من الناس الذين ارتدوا على أدبارهم، كالكاتب النصراني الذي أسلم وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم فترة ثم ارتد، والناس الذين ارتدوا بسبب حادثة المعراج التي لم تقبلها عقولهم وتصدقها فارتدوا، وبعض الناس الذين ذهبوا إلى مكانٍ بعيد، كما تنصر عبيد الله بن جحش لما ذهب إلى الحبشة، إن هؤلاء ومثلهم الذين دخلوا في هذا الدين هو ينطبق عليهم قول الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:175 - 176] إذاً هو الذي اتبع هواه: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] لابد أن يعلم المنتكس أن الله ناصرٌ دينه مهما حصل من حالات الانتكاس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
وهدد الله هؤلاء المنتكسين المرتدين على أدبارهم بقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
نقول: أيها الإخوة! إن اتساع الصحوة وانتشارها جعل هناك حالات كثيرة من الدخول في طريق الهداية، وتسببت بعض الأشياء في خروج بعض الذين دخلوا من طريق الهداية مرةً أخرى.(198/29)
عدم معرفة الدين كاملاً يسبب الانتكاس
ونريد أن نتكلم عن بعض الأسباب التي تؤدي إلى هذا الأمر، ونتحدث ونحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى لا يضل إنساناً يريد الهداية، ولعل من أعظم الأسباب: أن بعض هؤلاء المنتكسين لما دخلوا في طريق الهداية دخلوا في أوله، لم يدخلوا فيه بالكلية، وإنما ذاقوا شيئاً من الحلاوة، عرفوا شيئاً من الحق، عرفوا شيئاً من العلم، لكنهم لم يسلكوه كما ينبغي وكما يجب، ولذلك الذي بدأ في أول الطريق يسهل عليه أن يعود، بخلاف الذي دخله دخولاً تاماً، فنجد أكثر هؤلاء المنتكسين الذين ينتكسون بعد فترة وجيزة من التزامهم، وليس الأكثرية الذين ينتكسون بعد فترة طويلة من الالتزام، أناس تغير واقعهم فترة وجيزة من الزمن، أطلق لحيته، حافظ على الصلوات في المسجد، بدأ يقرأ بعض الكتب، يسمع بعض الأشرطة، يحضر بعض الدروس، ثم بعد ذلك يرجع مرةً أخرى وينتكس، هذا الشخص ما فقه دين الله عز وجل، ولا دخل نور الإيمان في قلبه كما ينبغي، هذا عرف طرفاً وعرف شيئاً وذاق شيئاً، ثم رجع مرةً أخرى.(198/30)
خطأ الاقتداء والتعلق بغير المنهج الإسلامي
ونقول: إن السبب في كثير من الحالات هو خطأ الاقتداء، فبعض هؤلاء دخل في طريق الهداية لارتياحٍ عاطفي، أو تعلقٍ بشخص (بشخصه) لا بمنهجه ودينه، تقبل الأحكام؛ لأنه خرجت من فم فلان، يصبح فلان كأنه هو الوسيط بينه وبين الله، فإذا ابتعد فلان أو سافر حدثت المشكلات وصار الانقلاب، وإذا رجع فلان تحسنت أحواله، نقول: إن فساد الاقتداء هو سبب انتكاس هذا الشخص، وبعض الناس يكون عنده من يسانده من قريب أو صاحب فإذا غادره ابتعد عنه وحصلت الزلزلة والانتكاس، إن هذا لم يعتصم بالله، ولم يقبل على الله، إنه لم يأوِ إلى ركنٍ شديد، ولذلك تراجع، ولذلك قضية التعلق بالأشخاص دائماً من الأسباب التي تكون في الانتكاس: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} [آل عمران:144] ينبغي أن يكون التدين لله.(198/31)
سلوك طريق الهداية لأغراض فانية
ومن الأسباب أيضاً التي تكون الانتكاس: أن يكون دخول بعض الناس في هذا المشوار طريق الهداية لأجل تحصيل منفعة دنيوية، كما يدخل بعضهم في جمعيةٍ أو نشاطٍ إسلامي، يبتغي السمعة أو الدرجات ونحو ذلك، أو أنه يريد أن يخطب فتاةً أو امرأةً فيتبين فترة من الزمن حتى إذا سألوا عنه قالوا: صاحب دين، أو أنه يريد أن يدرس في كليةٍ شرعية ولا يناسب الحال أن يكون مظهره منحرفاً فهو يريد أن يتوصل إلى وظيفة في القضاء أو غير ذلك، فيغير من شكله أو طريقته لأجل المنصب والوظيفة، هذا الشخص ما غير لله، إنما غير لطمع ومنفعة دنيوية، ولذلك فإن الانتكاس غالب في حال مثل هؤلاء الأشخاص.
والذين يدخلون الدين ويتوقعون أن ينتفعوا، وأن يقدم لهم الآخرون الخدمات، هؤلاء الأشخاص ما دخلوا في الدين لله، ولذلك فإن رجوعهم متوقع وليس بغريبٍ أبداً، بل هو الأقرب، لذا لابد للإنسان إذا دخل في الدين أن يدخل لله، وأن يجرد نفسه من جميع المطامع الدنيوية، ليس الدخول في البداية -أيها الإخوة- تجربة لكي يقول الشخص: أفعل وأقرر بعدها ماذا أفعل؟! بل هو الخيار الوحيد الذي ليس لك غيره، لأنه ليس ثم إلا النار بعد ذلك.(198/32)
عدم التخلص من شوائب الماضي
وبعض الناس يكون من أسباب انتكاسهم أنهم لا يخلصون أنفسهم من شوائب الجاهلية بالكمال، فيدخل في الدين ويدخل معه أنواعاً من المنكرات يقيم عليها وتكون هذه المنكرات سبب انتكاسهم في المستقبل، فمن ذلك ألا يقطع الصلة بأصحاب السوء، مع أن قطعها واجب، والرجل العالم لما نصح قاتل المائة بالخروج من البلد بماذا نصحه؟ لأن البلد بلد سوء، اذهب إلى قرية كذا وكذا فإن فيها أناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم، لا يصلح أن يكون الشخص كالشاة الحائرة بين الغنمين، يذهب إلى هؤلاء ثم إلى هؤلاء، يلقى هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، هذا لا يجوز، لابد أن يقطع الصلة بأصحاب السوء والماضي السيئ، لا يجوز أن يبقي شيئاً يذكره بالماضي السيئ، فإن بقاءه سبب من أسباب الغواية والرجوع إلى الفساد.
ثم إن الشخص الذي يدخل في الهداية لابد أن يوطن نفسه على التربية، لا بد أن يتربى على هذا الدين، يتعلم هذا الدين، يمارس العبادات، يدخل مع الرفقة الطيبة، يعمل للإسلام، العمل للإسلام من أكبر المثبتات التي تثبت الشخص؛ لأنه يكون في حالة هجوم، بينما لو قعد وقال: أنا أريد أن أكون مسلماً عادياً هذا ستتناوشه المهلكات من كل جانب، ولذلك ينبغي أن يمارس الإنسان التربية في نفسه طلب العلم الدعوة إلى الله عز وجل، إذا مارس ذلك حافظ على نفسه من الانتكاس.(198/33)
عدم الإكثار من سماع المواعظ
وكذلك فإنه لا يصلح أن يكون السبب الذي يبقينا في دائرة الهداية هو أثر من موعظةٍ سابقة دون ازدياد من مواعظ أخرى، أو أثر من علمٍ سمعناه دون ازدياد من العلم، أو أثر من أخوةٍ طيبة دون الازدياد منها، لابد من الازدياد وتأسيس النفس على تقوى من الله ورضوان.(198/34)
الانعزال عن الرفقة الصالحة
ثم إن بعض الناس الذين يميلون إلى الفردية، ولا يريدون أن يعيشوا في جو الأخوة الإسلامية والجماعة الطيبة والرفقة الصالحة، هؤلاء من أكثر الناس تعرضاً للانتكاس، فهذا الدين قائم على أن يكون المؤمنون كالجسد الواحد، والله سبحانه وتعالى امتن على عباده بأن ألف بين قلوبهم، ولذلك يا أيها الإخوة! قلنا في أول محاضرة عندما تكلمنا عن تذكير النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: (كنتم ضلالاً فهداكم الله بي) كانوا متفرقين فألفهم الله وجمعهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا دين جماعي، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
ولابد أن يعلم الشخص كذلك أن الالتزام ليس له حدٌ محدد والهداية ليس لها حدٌ محدد، فلابد أن يستمر في العمل، لسنا كـ الصوفية الذين يقولون: إذا وصلت إلى مرتبة اليقين سقطت عنك التكاليف، لا شيء اسمه سقوط التكاليف، لابد أن نستمر في العبادة.(198/35)
الآفات القلبية سبب للانتكاس
وكذلك من الأمور المهمة: أن نطهر أنفسنا من الآفات القلبية؛ فالآفات القلبية خطيرة جداً، فمثلاً: العجب الغرور الكبر، هذه الأمور التي تكون عند بعض الناس ولا تظهر؛ لأنها خفية خصوصاً إذا صار معها شهوات خفية، كحب الرئاسة، وحب الظهور، لابد أن تؤدي إلى قضايا من مراءاة الخلق، وإلى التعاظم والانتكاس في النهاية، كما حصل لبعض الناس الذين كان بعضهم من أهل العلم، لكن بسبب ما كان في قلوبهم من هذه الآفات، حصلت عندهم هذه الانتكاسات، وقد ذكر العلماء حالات من ذلك، قالوا: كان فلان من الذين يطلبون الورع والزهد وقيام الليل واقتفاء آثار العباد، وكنا نجتنب المزاح بحضرته، وبعد ذلك فتن وتراجع وسقط، فتنته إحدى بنات الحرس وألقت عصاها به، فافتتن الرجل وانتكس ورجع، وفلان اختصر كتاب كذا، كان يعلم في القراءات ونحو ذلك وكان مجتهداً ومثابراً على النسخ، ولكن حصل له خذلان وتراجع، جاءت فترة ضعف والرجل ما جاهد نفسه ولا قاوم نفسه، فنسي كل شيء.
وآخر عشق فتىً نصرانياً حتى ترك العلم وأهل العلم، حتى ألف لهذا النصراني كتاباً في تفضيل التثليث على التوحيد.
فإذاً هذه القضايا الداخلية قضايا خطيرة جداً، لابد أن تعالج من البداية، فإذا تركت قضية العجب والغرور وحب الرئاسة فإنها تستفحل وتستشري وتقضي على الشخص في النهاية.(198/36)
الشعور بالكمال سبب في الانتكاس
وكذلك من أسباب الانتكاس إحساس بعض الناس أنه صار كاملاً لا ينقصه شيء، ولذلك يكون هذا من أسباب كبره وعجبه بنفسه، فيسقط بعد فترة من الزمن.
وكذلك الحسد، فكم تسبب في فتنة أناس، والتساهل واتباع الرخص واحتقار الصغائر من الأسباب التي تؤدي إلى الانتكاس، قيل لبعض أهل العلم: إن فلاناً يبيح الغناء، وفلاناً يبيح النبيذ وفلاناً يبيح كذا، قال: إن الذي يبيح الغناء لا يبيح النبيذ، والذي يبيح النبيذ لا يبيح الغناء، ونحو ذلك، فهذا يتتبع سقطات العلماء ويأخذ بالرخص، ويجمعها معاً فيتبعها.
فهذا العالم أخطأ، سواء أخطأ لجهل أو هوى أو أخطأ لاجتهادٍ خاطئ، وإذا تتبعت الرخص خرجت من الدين، ولذلك فالذي يقول: والله فلان رخص في الأخذ من اللحية، وفلان رخص في الغناء إذا كان ما فيه أشياء من وصف النساء، والموسيقى إذا صارت هادئة لا بأس ونحو ذلك من الأشياء، فإن هذا هو بداية الانتكاس بل هو الشروع في الانتكاس فعلاً، إن تتبع الرخص من المشكلات والقضايا الخطيرة التي أودت بأشخاصٍ كثيرين وأوصلتهم إلى معسكر أهل الباطل.(198/37)
عدم هجر قرناء السوء
ومن الأمور التي ينبغي الحرص عليها كذلك وتجنبها: عدم مخالطة أهل السوء والاستئناس بهم، وعدم القعود معهم، لا يجوز أن نقعد معهم لغير حاجة شرعية، مصلحتها راجحة، وبعض الطيبين يتساهلون في الجلوس مع أهل الفسق والفجور، ولابد أن يأخذ منهم وأن يتأثر بهم، ولو سألته وقلت: أجبني بصدق: عندما خرجت منهم هل قلبك على الحال التي كان عليها قبل الدخول عليهم؟ أبداً لا يمكن أن يكون كذلك، وهذه المسألة -الجلوس مع الفسقة إيناساً لهم أو استئناساً بهم- هي من أسباب الانتكاس ولا شك.
فلا يجوز الجلوس معهم، الله سبحانه وتعالى نهانا عن الجلوس مع هؤلاء.
وقلنا قبل قليل قضية التهاون بالصغائر، مثل نظرة إلى امرأة أجنبية، تكون هذه هينة، أو مشاهدة شيء محرم يستهين به، ثم يستمر شيئاً فشيئاً كما قال بعضهم: كنت أولاً أرفض أي نوع من أنواع الرشوة ولا أقبل أي هدية، ثم قال: صرت أنتقي أقول: هذا يمكن ما يتأثر ولا يطلب مني شيئاً يتعلق بالوظيفة فآخذ منه، ثم فتحت المجال قليلاً فصرت آخذ بشروط، أقول: هات هدية هات كذا لكن بشرط أن لن أفعل خدمة، ثم تنازلت عن الشرط وفي النهاية قال: صرت أنتقي الهدايا انتقاءً وأشترط في النهاية، أقول: لا بد أن تأتي لي بكذا.
فالناس الذين يتساهلون في البداية يتسع الخرق عليهم في النهاية، ولذلك لنجتنب الصغائر وهي محقرات الذنوب؛ لأن الإنسان يحتقرها وهي التي تورد المهالك: (يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه) وبعض الناس يقول: أترك حضور اجتماع العمل لأجل الصلاة ماذا يقولون عني؟ قد يكتب فينا المدير تقريراً سيئاً، قد يخصم علي كذا، أو أمنع من الترقية، طالب يحضر فيلماً في موسيقى ويتساهل في ذلك يقول: يخصم علي درجات أو يسجلني غائباً أو يستهزئ بي الطلاب في الفصل، نقول: هذه بداية التنازلات، أيها الإخوة! سلم التنازلات لا ينتهي، والإنسان إذا تعود واستمرأت نفسه التنازل سهل الذي يليه، وهكذا حتى يقع في النهاية.(198/38)
الاشتغال بالدنيا
من أسباب الانتكاس: الاشتغال بالدنيا، فبعض الناس كانوا عباداً زهاداً أتقياءً دعاة، يطلبون العلم، اشتغلوا بالتجارة، وبعضهم ربما اشتغل بالتجارة لسبب ديني أن يقول: أكسب عيشاً حلالاً وأتصدق وأدعم المسلمين بدلاً من أن أترك الفسقة يعملون أنا أدخل في التجارة، لكن لا يدخل بمقدمات صحيحة، ولا بعهدٍ متين مع الله، ولا بنفسية خالية من الشح، ولكنه يدخل على وهنه، ويتغير شيئاً فشيئاً، حتى يكون في النهاية بعض الناس المتساهلين من التجار أحسن منه وأكثر صدقاتٍ منه، ويتوسع ويتوسع حتى يقع في الحرام، ويترك الواجبات وقد لا يخرج صدقة فصدقاته شحيحة، لو قارنت نسبة الصدقات التي كان يتصدق بها وهو طالب لوجدت رصيد التصدق وهو طالب أكثر مما تصدق وهو تاجر: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة:75 - 76].
فانتبهوا يا أيها المشتغلون بالتجارة المقبلون على الدنيا أو طلب الوظائف الكثيرة، أو العمل في أكثر من وظيفة، لربما تكون هذه الوظائف سبباً في فتنتك وانتكاستك، ولا تجد وقتاً للعبادة، إن الضرورة لها حالات، لكن الذي يقبل للتوسع في الدنيا يكون هذا من أسباب انتكاسه، وبعض الناس ينتكسون بسبب التخويف والإرجاف، فيسمع عن حالات، أو يسمع عن تعذيب، وسجن ونحو ذلك وابتلاءات وقعت لبعض الناس فيخاف ويخشى الناس وينسحب! ينبغي أن يكون حالنا كما قال الله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، هذا هو الحال، لا أننا إذا سمعنا الأخبار أو تطايرت الأنباء، خفنا وجبنا وتراجعنا وانسحبنا، أو إذا حصل لأحدٍ شيء خاف الآخرون وتركوا التمسك بالدين، هذا فعل الذي لم يثبت، ولم يشأ الله أن يثبت قدميه على طريق الهداية.(198/39)
السفر إلى بلاد الكفار
ثم إن من الأمور المهمة التي ينبغي أن تجتنب حتى لا يقع الانتكاس: ترك الصحبة الطيبة والابتعاد عنهم، كم كانت الإجازات والسفر إلى الخارج والابتعاد عن أهل الخير في هذه السياحة ونحوها من الأمور التي أردت بأشخاص كان لهم فضل ودين وعلم ودعوة في أسفل السافلين! ورجعوا وقد تغيروا بعضهم أسبوعين، أحدهم ذهب إلى أمريكا دورة أسبوعين فقط، كان يعبد الله وحالته طيبة ورجع مقلوباً رأساً على عقب، معجب بالكفار أيما إعجاب، ماسك للشوكة باليسار والسكين باليمين، وقد كان قبل قليل -أسبوعين- يعرف السنن ويقوم بالعبادات، وهو الآن رجع منقلباً تمام الانقلاب، فنقول: لا شك أن الذهاب إلى بلاد الكفار بشكل عام وكذلك الابتعاد عن الطيبين بشكل خاص من أسباب الانتكاس.
بعض الأقارب يكون فيهم فسق، فيضغطون على الإنسان وينتقدونه ويهاجمونه ويقاطعونه ويحرمونه من العطايا وربما من الإرث ومن المصروف وربما طردوه من البيت وتعاونوا عليه، وجعلوا المغريات أمامه، وجلبوا الأفلام إليه والصور وأمروه بمصافحة بنت عمه أو بنت خاله ونحو ذلك، أو أن هذه تشد أمها الحجاب من على رأسها، وتراقبها عند الخروج من البيت تتأكد هل هي مستمرة في عدم الحجاب أم لا، هذا الإكراه الذي يحدث لابد أن يستعين فيه الإنسان بالله، وأن يعتصم بالله عز وجل.
نعم.
إنه لا يأثم إذا أكره، لكن لابد أن يكرهه بقلبه، بعض الناس يزول كراهية المنكر بقلبه إذا أجبر عليه وهذه خطورة، نحن لا نقول: يأثم إذا أكره لكن لابد أن يستمر على كره هذا المنكر في قلبه، وأن يصبر على هذه الفتن وعلى هذه المحاكمات التي قد يعملونها له، أو يشهرون به في المجالس ويستهزئون به فيعلم أن هذه سنة المرسلين، وتعلم المرأة التي هددها زوجها بالطلاق لنزع الحجاب أن الدنيا ابتلاءات وأنها فتن، فتصبر على ذلك.
وكذلك أيها الإخوة: فإننا أيضاً نذكر في هذا المجال بقضية طاعة الله عز وجل إذا خلا الإنسان بنفسه، وأن الخلوة بالنفس ينبغي أن يكون الإنسان فيها مستحضراً لمراقبة الله عز وجل له، وأن يعلم أن الله مطلعٌ عليه، ناظرٌ إليه، يرى حركاته وسكناته، ولابد على الإنسان إذا أحس بشيءٍ أن يرجع، إذا قصر في صلاة الفجر أن يعود مرةً أخرى، ثم إننا نوصي الدعاة إلى الله عز وجل بالحكمة في معالجة المنتكسين بالصبر والمواصلة والتذكير بالماضي وانتقاء الأشخاص المؤثرين الذين لا يكرههم الشخص ولا زالت تربطهم به علاقةٌ طيبة.
ونذكر بالقاعدة في الهجر، القاعدة الشرعية: إذا أدى الهجر إلى منكرٍ أكبر وساءت أحوال الشخص أكثر لا يجوز الهجر، وإذا كان الهجر علاجاً يرده فالهجر يكون هجراً شرعياً، وقلَّ من الناس من يفقه ذلك.
ولابد لأهل التربية أن يربوا الناس على دين الله عز وجل، وليس على التعلق بالشخصيات، لابد أن تكون الأسس قوية، والإنسان كذلك أن يذكر الناس الذين فيهم ضعف، أنه مهما رأى المنتكسين من حوله والمتساقطين، فإن ذلك لا يصلح أن يدفعه للتشبه بهم أو أن يبرر انتكاسه بهذا أبداً.
إذا نوقش واحد من هؤلاء يفوته الظهر والعصر لينام وقد يكلم النساء بالهاتف فإذا نوقش قال: فلان كذا أنت تكلمني بينما فلان يفعل ذلك، وفلان انتكس، وفلان كان ملتزماً وانتكس، فنقول: هذه محاولة التبرير فاشلة لا تصلح أبداً ولا تكون عذراً عند الله سبحانه وتعالى.
ونسأل الله عز وجل أن يهدينا وإياكم الصراط المستقيم.
وأن يثبتنا على الدين القويم، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(198/40)
حديث علي وفاطمة رضي الله عنهما في الذكر قبل النوم
ورد في السنة كثير من الأحاديث التي فيها بيان لأذكار النوم والحث على المداومة عليها، ومن هذه الأحاديث حديث علي وفاطمة رضي الله عنهما، وهذا الحديث هو عنوان هذا الدرس، وقد شرحه الشيخ ذاكراً الروايات المختلفة التي وردت في الحديث، وقام باستنباط كثيراً من الفوائد منه.(199/1)
شرح حديث علي وفاطمة
الحمد لله والصلاة والسلام على نبي الله محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فحديثنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- في سلسلة الرقائق، وهو حديث علي رضي الله عنه: (أن فاطمة عليها السلام شكت ما تلقى في يدها من الرحى فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً، فلم تجده فذكرت ذلك لـ عائشة فلما جاء أخبرته قال: فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبت أقوم فقال: مكانك، فجلس بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: ألا أدلكم على ما هو خير لكما من خادم؟ إذا أويتما إلى فراشكما أو أخذتما مضاجعكما فكبرا أربعاً وثلاثين، وسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين فهذا خير لكما من خادم).
وهذا الحديث رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في ثلاثة مواضع من كتابه الصحيح أو في أربعة.
والقصة يقول فيها علي رضي الله عنه: إن فاطمة شكت ما تلقى في يدها من الرحى، والرحى: هو آلة الطحن التي كان يطحن بها، وأرته أثراً في يدها من الرحى، واشتكت فاطمة رضي الله عنها مجل يدها، والمجل: هو التقطيع الذي يحصل لليد نتيجة العمل، وهو غلظ اليد الذي يحدث عند مباشرة الأعمال، فكل من عمل عملاً بكفه تجد فيه تقطيعاً إذا كان يمارس العمل بكفه دائماً، فيقول علي رضي الله عنه -وهو الزوج المشفق على زوجته ولاشك أن النبي عليه الصلاة والسلام عرف من ينتقي لابنته- يقول علي رضي الله عنه، قلت لـ فاطمة: لو أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته خادماً فقد أجهدك الطحن والعمل، وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوجه فاطمة، قال علي لـ فاطمة ذات يوم: [والله لقد سنوت حتى اشتكيت ظهري، فقالت: وأنا والله لقد طحنت حتى مجلت يداي] ومعنى سنوت: يعني: عملت مكان السانية، والسانية: هي الناقة التي تسحب الماء من البرك فيقول علي رضي الله عنه: من الحاجة عملت عمل الناقة في سحب المياه من الآبار بالدلاء لأجل الأجرة، فقالت فاطمة: [وأنا والله لقد طحنت حتى مجلت يداي] فهذه فاطمة رضي الله عنها جرت بالرحى حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في عنقها، وقمت البيت حتى اغبرت ثيابها كما جاء في رواية أبي داود لهذا الحديث.
وفي رواية: وخبزت حتى تغير وجهها؛ لأن الخباز مع لفح نار الفرن يتغير لون وجهه كل ذلك حصل لـ فاطمة رضي الله عنها، فاقترح عليها علي رضي الله عنه أن تذهب إلى أبيها تطلب خادماً، حيث إن علياً لم يستطع أن يوفر لها خادماً، وسمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه سبي فاقترح عليها أن تطلب جارية تخدمها من أبيها من هذا السبي الذي جاء، فقال لها: [لقد جاء أباك سبي فاذهبي إليه فاستخدميه -الألف والسين والتاء تجيب الطلب- أطلبي خادماً وجارية تخدمكِ، فذهبت فاطمة رضي الله عنها إلى أبيها محمد صلى الله عليه وسلم فلم تجده، ووجدت جماعة يتحدثون فاستحيت ورجعت] وفي رواية: (فذكرت ذلك لـ عائشة فلما جاء أخبرته عائشة أن ابنتك فاطمة جاءت تسأل عنك).
وفي رواية مسلم: (حتى أتت منزل النبي صلى الله عليه وسلم فلم توافقه فذكرت ذلك له أم سلمة بعد أن رجعت فاطمة) فهذا معناه أن فاطمة رضي الله عنها ذهبت تبحث عنه في بيتين، ذهبت إلى حجرة عائشة وذهبت إلى أم سلمة تبحث عن أبيها لتسأله خادماً، وجاء في رواية: أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما جاء بك يا بنية؟ فقالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله ورجعت) يقول علي رضي الله عنه: [ما فعلت؟ قالت: استحييت] ما استطعت أن أطلب، فلعلها رضي الله عنها ذهبت أولاً للبحث عن أبيها فلم تجده، ثم جاءت مرة ثانية فوجدته لكن استحيت أن تطلب، ثم بعد ذلك تشجعت فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته الخادم، فقال: (ألا أخبرك ما هو خير لك؟) وفي رواية: قال علي رضي الله عنه لزوجته: (أن تنطلق معه فانطلقت معه فسألاه فقال: ألا أدلكما) وجاء في هذا الحديث الذي قرأناه أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي جاءهما وقد أخذا مضجعهما فقال علي: (بأبي يا رسول الله! والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: لقد طحنت حتى مجلت يداي -وقد جاءك الله بسبي وسعة فأعطنا خادماً من هذه السبي- فقال عليه الصلاة والسلام: والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم) يقول: كيف أعطيك وهذا السبي الذي جاءنا نبيعه ونأخذ ثمنه وننفقه على أهل الصفة الفقراء الذين كانوا يأوون إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، أهل الصفة ليس عندهم أهل ولا مال ولا بيوت، وإنما كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يلازمونه على شبع بطونهم.
وجاء في رواية قال: (فأتانا وعلينا قطيفة إذا لبسناها طولاً خرجت منا جنوبنا وإذا لبسناها عرضاً خرجت منها رءوسنا وأقدامنا، ولما دخل عليه الصلاة والسلام قالت: فذهبت أقوم -وفي رواية: فذهبنا نقوم- فقال صلى الله عليه وسلم: مكانك أو مكانكما -أي: الزما مكانكما لا تقوما- فجلس بيننا صلى الله عليه وسلم فقال: إني أخبرت أنك جئت تطلبين، فما حاجتك؟ قالت: بلغني أنه قدم عليك خدم فأحببت أن تعطيني خادماً يكفيني العجن والخبز، فإنه قد شق علي، قال: فما جئت تطلبين أحب إليك أو ما هو خير منه؟ قال علي: فغمزتها، فقلت: قولي ما هو خير منه أحب إلي، فقالت ذلك، فقال: فإذا كنتما على مثل حالكم اليوم الذي أنتما عليه ثم ذكر التسبيح) وفي رواية: (أنه لما دخل عليها أدخلت رأسها في اللفاع حياء من أبيها) ويحمل هذا أنها فعلت ذلك أولاً فلما تآنست به رفعت وجهها إليه وكلمته.
وفي بعض الروايات: قال: (ما كان حاجتك أمس؟ فسكتت، مرتين، فقال علي: أنا والله أحدثك يا رسول الله! فذكرته له) فهذا يحمل على أنه سأل فاستحيت أولاً فكلمه علي ثم لما زال الخجل تكلمت هي وأنشطها للكلام زوجها فتكلمت وطلبت.
وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم أتاهما فقال: (ما الذي أتى بكما، قال علي: شق علينا العمل، فقال: ألا أدلكما) وذكر الحديث، وفي رواية: قال: (ما جاء بك يا بنية؟ قالت: جئت أسلم عليك واستحيت حتى إذا كانت القابلة، قال: ائت أباكِ وذكر مثلها، حتى إذا كانت الليلة الثالثة قال لها علي رضي الله عنه: امشي فخرجا معاً).
فهذه الأحاديث وهذه الروايات تدل على أنه ربما حصل ذلك بإتيانهما ثم بإتيانه إليهما، المهم أنه عليه الصلاة والسلام، قال: (ألا أدلكما على ما هو خيرٌ لكما من خادم -خير مما سألتماني-؟ قالا: بلى.
فقال: كلمات علمنيهن جبريل، إذا أويتما إلى فراشكما أو أخذتما مضاجعكما من الليل تسبحان) فذكر لهما التسبيح ثلاثاً وثلاثين والتحميد ثلاثاً وثلاثين والتكبير أربعاً وثلاثين، قال: (فتلك مائة باللسان وألف في الميزان) أي أن الأجر عند الله الحسنة بعشرة أمثالها، وفي رواية: (فأمرنا عند منامنا بثلاثٍ وثلاثين وثلاثٍ وثلاثين وأربعٍ وثلاثين من تسبيحٍ وتحميدٍ وتكبير) سبحان الله ثلاثاً وثلاثين قبل النوم، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين مرة يقول ذلك.(199/2)
الخوارج وقتال علي لهم
هذه هي الوصية أي: أن الذكر أنفع من الخادمة، وأفضل.
علي رضي الله عنه حافظ على هذا الذكر ولم يتركه أبداً، جاء في رواية أن علياً رضي الله عنه قال: [فما تركتها بعد، فقالوا له: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين] وهذا الرجل الذي قال له ذلك جاء في رواية: أنه: ابن الكواء يقول لـ علي رضي الله عنه: ولا ليلة صفين؟ فقال: [قاتلكم الله يا أهل العراق! نعم ولا ليلة صفين.
] عبد الله بن الكواء من أصحاب علي رضي الله عنه لكنه كان متعنتاً في السؤال، وقد ابتلي علي رضي الله عنه بأشخاص ما شفوا غليله ولا صبروا معه، ولا حققوا ما يريد، كان يريد أن يقر الأمر وتستقر الخلافة، ولكنهم ما شفوا غليله ولذلك قال في نهاية حياته: [اللهم مللتهم وملوني فاقبضني إليك].
لم يكن مع علي من الرجال مثلما كان مع أبي بكر وعمر، ولذلك لم يكن الأمر مستتباً له، فكان ابن الكواء نموذجاً ممن كان مع علي رضي الله عنه، وكان معه أفاضل وعلماء وصحابة ولا شك؛ لكن ابتلي -أيضاً- بأشخاص فيهم ما فيهم منهم عبد الله بن الكواء لما حدثهم علي بالقصة، قال: [فما تركت بعد فجاء عبد الله بن الكواء يقول: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين، ويحك! ما أكثر ما تعنتني لقد أدركتها من السحر].
وفي رواية: [فإني ذكرتها من آخر الليل فقلتها] وفي رواية: [إلا ليلة صفين فإني أنسيتها حتى ذكرتها من آخر الليل فقلتها] فهذا يدل على لزومه للذكر رضي الله عنه وأنه حتى ليلة صفين وهي المعركة التي جرت بين علي رضي الله عنه وأهل الشام، حتى أنهم اقتتلوا مقتلة عظيمة وأقاموا بـ صفين عدة أشهر وكانت المعركة عبارة عن وقعات كثيرة؛ لكنهم ما قاتلوا في الليل إلا مرة وهي ليلة الهرير، سميت بذلك لكثرة ما كان الفرسان يهرون فيها، وقتل من الفريقين في تلك الليلة عدة آلاف.
وقد أوشك علي رضي الله عنه على النصر حتى رفع أهل الشام المصاحف وطالبوا بتحكيم القرآن، وحدث بعد ذلك توقف المعركة، وكانت سنة سبع وثلاثين وخرج الخوارج عقب التحكيم في أول سنة ثمانية وثلاثين، وقتلهم علي رضي الله عنه في النهروان وحاول علي رضي الله أن يحسم الأمر لكنه لم يتهيأ له ذلك، ولم يكتب الله عز وجل له ذلك، وكان الخوارج هم السبب في عدم حسم الأمر حيث انقلبوا عليه، وقالوا: حكم الرجال في كتاب الله، وأرسل علي رضي الله عنه ابن عباس فناقشهم وناظرهم ورجع من الإثنا عشر ألفاً ثمانية آلاف وهؤلاء كان عندهم سرعة في الرجوع وسرعة في الرد، وهؤلاء الذين قاتلهم علي رضي الله عنه في سنة ثمانية وثلاثين للهجرة بـ النهروان كان منهم ذو الثدية الذي كان مقطوع اليد، في عضده مثل حلمة ثدي المرأة أسود، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام علياً أنه سيقاتل الخوارج وأنه سيقتلهم، وأن آيتهم ذو الثدية هذا، ولذلك فإن علياً رضي الله عنه بعد المعركة طلب البحث عن ذي الثدية فلم يوجد، فأمر بالبحث فلم يوجد، ثم حلف أنه يوجد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كذب، فبحثوا عنه بين القتلى حتى وجودوه فخر علي رضي الله عنه ساجداً لله شكراً.
وكان هؤلاء قد أفسدوا في الأرض حتى أنهم خرجوا على علي رضي الله عنه وعلى المسلمين يكفرون مرتكب الجريمة، حتى كفروا علياً ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم من الصحابة حتى أنه اجتمع ثلاثة منهم قبل عام أربعين للهجرة في موسم الحج، قالوا: ما هي سبب مشكلات المسلمين؟ فخرجوا من الاجتماع بأن سبب مشكلات المسلمين ثلاثة: علي ومعاوية وعمرو بن العاص، فما هو الحل؟! قالوا: نقتلهم ونريح المسلمين من شرهم، فتفرقوا في البلدان على أساس أن واحداً منهم يغتال علياً، وآخر يغتال معاوية وآخر يغتال عمرو بن العاص، فأما معاوية رضي الله عنه فقد طعن فاكتوى منها فبرأ، وعمرو لم يصل في تلك الصلاة إماماً صلى غيره فطعن غيره، وأما علي رضي الله عنه فإنه خرج عليه عبد الرحمن بن ملجم بسيف ظل يسقيه السم شهراً، فخرج عليه في الظلام واختبأ له فخرج عليه فضربه على جبهته بهذا السيف المسمم وسال الدم من جبهته على لحيته فتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أشقى الناس عاقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذه حتى يبل منها هذه) يعني: لحيه رضي الله تعالى عنه، وقتل أشقى الناس خير الناس في ذلك الوقت وهو علي رضي الله عنه، وبعد ذلك حمل علي ثم توفي فيما نحسبه شهادة له رضي الله عنه وذهب إلى ربه.
ومن ضلال الخوارج أن عبد الرحمن بن ملجم لما أخذوه فربطوه قطعوا يديه فلم يتكلم، ورجليه كذلك، فلما أرادوا أن يقطعوا لسانه كما جاء في بعض الروايات صرخ، فقالوا: مالك؟ قال: لساني أذكر به الله، وهو الذي قتل خير الناس في ذلك الوقت علياً رضي الله عنه.
فهؤلاء خرجوا على المسلمين فكفروا المسلمين، فكل من ليس معهم فهو كافر وقتلوا خير المسلمين، وذهبوا إلى أحد المسلمين وكان معتزلاً الفتنة ومعه مصحف يقرأ به، وعنده وليدة حامل، فأخذوه وأخذوا المصحف منه وقتلوه وذبحوه وأراقوا دمه في النهر، وأخذوا الوليدة وبقروا بطنها وأخذوا الجنين الذي في بطنها وقتلوه، ثم مشوا إلى بستان كتابي نصراني فأراد بعضهم أن يأخذ منه تمراً، فقال بعضهم لبعض: لا.
هؤلاء أهل كتاب أوصانا بهم النبي صلى الله عليه وسلم خيراً، ولا يجوز أن تأخذه إلا بحقه، فجاءوا إلى صاحب البستان يفاوضونه، فقال: واعجبا لكم تقتلون صاحبكم المسلم ثم تأتون تفاوضونني على التمر؟ حتى هذا النصراني تعجب من صنيعهم، فهؤلاء بقية الخوارج الذين كان أحدهم قد قتل علياً رضي الله عنه، وكان علي رضي الله عنه قد قتل معظمهم وأراح المسلمين من شرهم، ولكن بقيت منهم بقية ثم بعد ذلك تفرقوا في البلدان تسعة منهم: عبد الله بن إباظ التي تنسب إليه فرقة الأباظية ويقولون: هؤلاء من مكفري مرتكب الكبيرة، وتطوروا بعد ذلك فأنكروا رؤية الله في الجنة وقالوا: إن القرآن مخلوق، وقد أخذوا من المعتزلة خلق القرآن وهكذا عندهم بدع في الدين، ولازالوا هكذا إلى الآن.
المهم أن علياً رضي الله عنه مع شدة وهول المعركة لم ينس هذا الذكر تلك الليلة مع أن المعركة تنسي كل شيء لكنه ما نسي أن يقوله وتذكر قبل الفجر وقال به، فهذا الذكر العظيم يدل على أن ذكر الله عز وجل يقوي البدن كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، فأن رسول الله لما علم فاطمة قال: إنه خيرٌ من خادم، معناها أن ذكر الله عز وجل يقوي الأبدان.
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قد اختار لابنته أن تبقى على حالها ولم يعطها ذاك الخادم، وإنما أعطاها بديلاً وهو ذكر الله.
وكذلك فإنه اختار لابنته ما أحب لنفسه من إيثار التحمل والصبر على الشدة والقلة، تعظيماً لأجرها، وقد كان يستطيع أن يعطيها من الذهب ما شاء، ولكنه اختار لها ما اختار لنفسه، واختار لها ما هو أكثر نفعاً لها في الآخرة، وآثر أهل الصفة لأنهم فقراء قد وهبوا أنفسهم لسماع العلم وضبط السنة على شبع بطونهم منهم: أبو هريرة رضي الله عنه من زهران يرجع نسبه إليه، هذا الذي وقف نفسه على العلم على شبع بطنه فقط، ومع ذلك كان لا يجد في كثير من الأحيان ما يشبع به بطنه، فأهل الصفة وقفوا أنفسهم للعلم والجهاد يخرجون في جيوش المسلمين لا همَّ لهم إلا العلم والجهاد، اشتروا أنفسهم من الله بالقوت، وأخذ العلماء من الحديث تقديم نفقة طلبة العلم على غيرهم، لأنه أنفق عليهم.(199/3)
زهد السلف رضي الله عنهم
وكان بـ السلف الصالح من شغف العيش وقلة ذات اليد وشدة الحال، وأن الله حماهم من الدنيا مع إمكان أن تحصل لهم الدنيا صيانة لهم من تبعاتها؛ لأن يوم القيامة فيه وقوف للسؤال عن كل درهم من أين اكتسبته وفيما أنفقته؟ ولذلك فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، ويوقفون في الحساب فيقولون: على أي شيء نحاسب وإنما كانت سيوفنا على عواتقنا في سبيل الله؟ أي: كل الذي كان عندنا هي سيوفنا على عواتقنا نجاهد في سبيل الله، ولذلك يقال لهم: ادخلوا الجنة، فيدخلون قبل الأغنياء بخمسمائة عام وأصحاب الجد -الغنى- محبوسين، ولكن هذا الحبس لا يشترط أن يكون عذاباً، فإذا كان أهل الغنى قد أنفقوا في سبيل الله وصرفوه فيما يرضي الله فإنه يكون لهم زيادة في الحسنات، وقد ترتفع مراتبهم في الجنة فوق الفقراء بعد ما يدخلون، لكن الدخول أولاً للفقراء، ثم أهل الغنى إذا بذلوه في طاعة الله يدخلون متأخرين؛ لكن ربما تكون مرتبة بعضهم فوق مرتبة الفقراء من أجل الصدقات التي تصدقوا بها.(199/4)
من فوائد حديث علي وفاطمة
وفي هذا الحديث أن الإنسان يحمل أهله على ما يحمل عليه نفسه من إيثار الآخرة على الدنيا إذا كانت له القدرة على ذلك، لأن بعض النساء قد لا تكون لها القدرة، فربما لو أنه أراد أن يحملها على شيء من الشدة طلبت الطلاق وخرجت من البيت وتركت له البيت والأولاد، وكثير من النساء بفعل ما في المجتمع من الانحرافات والترف ترسخ في ذهنها قضية البحث عن الماديات (طلب الخدم) وأنها ربما لا تعمل شيئاً وتلقي بكل شيء على الخدم، وتتفرغ هي لذهابها خارج البيت ومشاويرها وسهراتها، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أوصى بذات الدين لأجل أنها تحرص على الدين وتقيم له الوزن العظيم، ولذلك فإن الإنسان لابد أن يكون حكيماً، قد يجد أحياناً في نفسه شيئاً من الزهد لكن أهله لا يطيقون، لكن إذا كانوا يطيقون حملهم معه على الزهد.
كذلك استدلوا بالحديث على جواز دخول الرجل على ابنته وزوجها بغير استئذان، لكن هذا فيه نظر؛ لأنه جاء في بعض طرق الحديث أنه استأذن.
وكذلك في هذا الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم معصوم فلا يقاس على غيره من غير المعصومين، كما إذا جاء ودخل وجلس بينهما، ثم إن هذا الحديث فيه إظهار الشفقة على البنت والصهر، فإنه أتاهما في بيتهما وجلس بينهما، وقال: ألا أعلمكما؟ فيؤخذ منه أن على الإنسان أن يبر بصهره، فلو قال أحدهم: زوج البنت ليس من الأرحام، لقلنا: نعم.
ليس من الأرحام لأن الرحم قرابة الرجل من جهة أبيه وأمه، لكن كونه ليس من الرحم لا يعني أنه لا يبر ولا يحسن إليه، فإن الأصهار لهم -أيضاً- معاملة حسنة في الإسلام، فمن ذلك هذا الحديث.
ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم جاء مرة المسجد فوجد علياً رضي الله عنه مضطجعاً على التراب فجعل ينفض عنه التراب وقال له: (قم يا أبا تراب) يداعبه، فصار علي رضي الله عنه لا يحب إلا هذه الكنية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كناه بها لما لاصق التراب، وكان قد خرج من البيت عندما حصل بينه وبين فاطمة رضي الله عنهما شيء، فخرج إلى المسجد فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليه ليطيب خاطره.
وكذلك: فإن مواقف النبي عليه الصلاة والسلام مع علي وفاطمة متعددة تدل على أنه كان يبر بصهره كما يبر بابنته صلى الله عليه وسلم، وعلى أن الإنسان إذا كان عنده زوج بنت أو زوج أخت أن عليه أن يصلح من شأنهما وألا يقول: ليس لي دخل فيهما ولا في حياتهما، بل إنه كلما استطاع أن يحسن العلاقة ويدخل السرور، وأن يسعى في دوام الألفة، ويزيل سوء التفاهم، وأن عليه أن يفعل ذلك وهو من الواجبات.
وكذلك في هذا الحديث: أن من واظب على هذا الذكر لم يصبه الإعياء، لأن فاطمة شكت التعب فأحالها النبي صلى الله عليه وسلم على هذا، أفاد هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ وهذا يدل على أن الذكر له أثر في تقوية البدن كما تقدم، فإذاً من فوائد الذكر أنه يقوي البدن كما أنه يقوي القلب، فهو يزيد النفس ثباتاً، والقلب طمأنينة، والإنسان رباطة جأش، كما أنه يقوي الجسد وهذا دليل على ذلك.
وكذلك: فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتني بزيارة بنته في بيتها، ولا يقطعها بعد الزواج كما يفعل بعض الناس إذا تزوجت ابنته كأنما هو شر ألقاه عن عاتقه، ولا يسأل عنها ولا عن بيتها ولا عن حالها، فهذا تفقد منه صلى الله عليه وسلم.
وكذلك في هذا الحديث: أن الإنسان يعطي الأوكد فالأوكد والأكثر استحقاقاً، وبعض الناس الآن إذا جاء يعطي الزكاة ربما حابى بها قريباً أو أعطى شخصاً ليس بفقير ذاك الفقر، مع وجود شخص مستحق وأشد حاجة وأفقر؛ لكن بالمحاباة يترك الأفقر والأحوج ويعطي الأقرب أو من له علاقة به ونحو ذلك، والرسول مع أنها ابنته وزوج ابنته لكن قدم الأوكد -الأفقر الأحوج- فمع أن هذه ابنته وزوجها لكن ما أعطاهما على حساب الأحوج، وإنما قدم الأحوج.
وفي هذا الحديث كذلك: أنه إذا حصل ازدحام في الحقوق فإنه يؤثر صاحب الحق الأقوى، وفيه جواز أن تشتكي البنت لأبيها ما تلقاه من الشدة، ولم ينكر عليها أنها اشتكت، فلو اشتكت -مثلاً- تعب العمل في البيت، واشتكت من أذى أطفالها وأنها تلقى شدة في تربيتهم، أو أنهم يتمردون عليها أو أنهم يعاندون ونحو ذلك فإن لها أن تشتكي لأبيها، وأن الأب عليه أن يقوم بدور الناصح الموجه، وأن مسئوليته عن ابنته لم تنته بتزويجها، وإنما هي مستمرة في التسديد والإصلاح والنصيحة وتخفيف ما يصيب البنت من نتيجة أعباء الزواج؛ لأن البنت في بيت أبيها قد تكون مدللة، وقد يكون عندها من يخدمها، فإذا انتقلت إلى بيت رجل آخر صار حمل البيت عليها، وأيضاً بالإضافة إلى ذلك وخدمة الزوج الجديد وما يضاف من الحمل والوحام، وهو ما يصيب من الإرهاق والتعب، ثم الوضع والرضاعة مع الخدمة، البنت يختلف عليها الجو جداً، فعلى الأب أن يكون حكيماً في نصح ابنته في مواجهة الواقع الجديد بعد الزواج هذه مسألة مهمة, وكثير من البيوت تنجح بسبب مواصلة الأب فلا يقول الأب: أنا انتقيت لها الكفء وانتهت مسئوليتي، لا.
يجب أن يواصل القيام بالمسئولية وأن يواصل الاعتناء بالبنت حتى بعد زواجها، وكثير من الأباء من خيرهم وبرهم أنهم لا زالوا يشرفون على بناتهم ويعتنون بهن حتى بعد الزواج بسنوات طويلة، وربما يكون هناك من أشرف على ابنته وجلب الطعام إليها في بيت زوجها، وخدمتها والاعتناء بأولادها، وهكذا لا تزال الرعاية مستمرة.
والحديث فيه منقبة لـ علي رضي الله عنه من جهة منزلته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه دخل عنده وجلس بينه وبين زوجته، وأنه اختار له أمر الآخرة على أمر الدنيا وآثر ذلك له.
وكذلك في هذا الحديث: أن هذه الكلمات التي تقال مائة مرة قبل النوم يشبهها كذلك ما يقال بعد الصلوات، فقد ورد في بعض كيفيات الأذكار التي بعد الصلوات مثل أذكار قبل النوم: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين، هذه كيفية صحيحة من كيفيات الأذكار بعد الصلاة، وكذلك وردت قبل النوم، وبعد الصلاة الكيفية المشهورة: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثا ًوثلاثين، وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وفيه ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من الشدة وأنهم احتملوا ذلك وخرجوا من الدنيا في نظافة، وأنهم لم يتقذروا بما فيها.
وفيه -أيضاً- تسلية لكل من اشتدت حاله أن من هو أفضل منه لاقى ما هو أشد، فلعل أن يكون فيه درس له أيضاً على الصبر.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين يسيرون على خطاهم، ويتأثرون بسيرتهم ويعملون بها، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(199/5)
الأسئلة(199/6)
أقوال ليست من السنة
السؤال
ما حكم قول بعضهم عند القيام في التراويح: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89]؟
الجواب
إذا لم يثبت في هذا حديث فهي بدعة فبعض الناس -مثلاً- إذا قام للصلاة قال: أقامها الله وأدامها، هل ورد في هذا شيء؟ لم يرد حتى حديث ضعيف، إذاً لا نقوله، أو إذا قام للتراويح للوتر يقول هذا الدعاء، الدعاء صحيح لكن توقيته غير صحيح، الدعاء صحيح قاله زكريا عليه السلام: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89] بعض الناس بعد السلام من الصلاة يقول: تقبل الله، ويحافظ عليها، وبعضهم يقول: حرماً يعني: يصلي في الحرم فيقال: جمعاً أي: أجمعين.
وبعضهم بعد الوضوء يقول: زمزم، ونحو ذلك من عبارات معينة لم ترد في الشرع إذا واظب عليها تتحول إلى بدعة، لأنك كأنك اخترعت ذكراً، بل هو كذلك اختراع لذكر لم يرد في الشريعة بقصد التعبد إلى الله، فهذا هو تعريف البدعة: اختراع في الدين يقصد به التقرب إلى الله، أحداث في الدين يقصد بها التقرب إلى الله.
جاء أبو موسى إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: [يا أبا عبد الرحمن! إني جئت من مسجد الكوفة ورأيت فيه عجباً، قال: وما رأيت؟ قال: رأيت قوماً حلقاً حلقاً على رأسهم واحد يقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة، كبروا مائة فيكبرون مائة وهكذا قال: وما قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً انتظار أمرك، قال: هلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وأنا ضامن لهم ألا ينقص من حسناتهم شيء، ثم تلثم وخرج فدخل المسجد فوجدهم على هيئتهم حلقاً حلقاً، وقائل يقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة، كبروا مائة فيكبرون مائة، فكشف اللثام عن وجهه وقال: أنا أبو عبد الرحمن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما أسرع هلكتكم يا أمة محمد! هذه ثياب نبيكم لم تبل وآنيته لم تكسر] ثم زجرهم ووبخهم وأمرهم أن يكفوا عن هذا الصنيع المبتدع قال بعد ذلك: [فلقد رأيت عامة هؤلاء يطاعنون يوم النهروان] يعني: مع الخوارج أي: فهم أصول الخوارج، إذاً: أصول الخوارج كانت لهم بدعة خرجوا بها على المسلمين.
فإذاً: لا يجوز إحداث شيء في الدين أو ذكر من الأذكار لم يرد في الشريعة ومن فعل ذلك يأثم؛ لأنه يزيد على الدين وكأنه يقول: إن الإسلام ناقص وأنا جئت وأكملته، أو يقول: إن رسول الله خفيت عليه وأنا علمته، لأنك تلزم المبتدع تقول له: هذا الشيء الذي تفعله -احتفال بالمولد أو ذكر من الأذكار، وأي بدعة من البدع، أو صلاة أول خميس من رجب، تقول: هذا الشيء الذي تفعله هل أنت تفعله بنية التقرب إلى الله أم لا؟ هو لا يستطيع أن يكابر ويقول: لا.
أنا أفعله مثل الأكل أو الطعام؛ لأنه أكيد يفعله تقرباً إلى الله، إذاً أنت تقول: أنت تعمله تقرباً إلى الله وهذا دين فأين الدليل؟ فيقول: لا دليل فتقول: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) ثم تقول له: هل علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإذا قال: لا.
اتهم رسول الله بالجهل، وأنه فاته هذا الشيء حتى علمه هذا، ثم إذا قال: نعم.
علمه رسول الله فما بلغنا معناه، فإنه اتهم النبي صلى الله عليه وسلم بكتمان العلم.
وهكذا المبتدع من جميع الجهات آثم متضرر من جميع الجهات، كلما جئت من جهة وجدت خرقاً، والدين يزول بأن يزيد فيه كل واحد حتى يصبح متغيراً، والقاعدة: كلما أحييت بدعة أميتت سنة، وكلما أحييت سنة أميتت بدعة، ولذلك فالبلاد التي فيها بدع كثيرة السنة فيها ميتة، وما عندهم من العلم بالسنة إلا قليل، عندهم مجموعة كبيرة من البدع، والبلاد التي فيها السنة ظاهرة تجد البدع فيها قليلة، وهذا قانون المدافعة الإلهي، إذا انتصرت السنة وهيمنت؛ زالت البدعة وخفت، والعكس بالعكس.(199/7)
جواز ترك التسليم مع الإمام في صلاة الوتر للقيام بركعة
السؤال
هل يجوز لأحد المأمومين ألا يسلم مع الإمام في صلاة الوتر ويأتي بركعة أخرى؟
الجواب
نعم.
ولكن الأفضل أن يسلم مع الإمام وينصرف معه حسب الحديث: (من صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) ثم بعد ذلك يصلي مثنى مثنى إذا أراد الزيادة في بيته.(199/8)
حكم لبس الجوربين دون طهارة كاملة
السؤال
ما حكم من توضأ وعند غسل القدم اليمنى نزع جوربه الأيمن ثم لبسه ثم نزع الجورب الأيسر ثم لبسه، وعندما أتى وقت الصلاة مسح على جوربيه؟
الجواب
هو يقصد -والله أعلم- أنه غسل القدم اليمنى ثم لبس عليها الجورب الأيمن، ثم غسل القدم اليسرى ولبس عليها الجورب الأيسر، فهو لما غسل القدم اليمنى ولبس عليها الجورب الأيمن هل لبسه على طهارة كاملة أم لا؟ لا.
بل لبسه على طهارة ناقصة، حيث بقي عليه غسل القدم اليسرى، ولذلك لا يجوز له أن يلبس الجوربين إلا على طهارة كاملة: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين) بطهور كامل، فهذا الشخص ماذا عليه أن يفعل إذا لبس الجورب اليسرى على طهارة كاملة؟ إن عليه أن ينزع اليمنى ويعيد لبسها على طهارة تامة، وأبى شيخ الإسلام رحمه الله ذلك؛ وهذا رأيه، وقال: إن ذلك عبث لا تأمر به الشريعة، ويرجع إلى كلامه رحمه الله تعالى من شاء، هذا ما أراه في هذه المسألة، والأحرى بالإنسان ألا يمسح إلا على جوربين قد لبسهما على طهارة تامة.(199/9)
حكم لعب الزهر
السؤال
ما حكم لعب الزهر إذا كان في حدود المعقول؟
الجواب
أما قضية حدود المعقول وغير المعقول هذا ما عرفناه؛ كيف يكون معقولاً وغير معقول؟ يعني: عشرين مرة في اليوم معقول أو عشرة أو ثلاثة أو واحدة، كم المعقول وغير المعقول؟ هناك ضوابط للعب في الشريعة، فأما بالنسبة للزهر فلا يجوز اللعب به ولا مرة واحدة بسبب واضح وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه) رواه مسلم، وكذلك أخبر صلى الله عليه وسلم: (أن من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله) فالنرد: هو المكعب الذي يكون محفوراً في كل وجه منه دوائر لعدد معين من الواحد إلى الستة ثم ترمى، وبناء على الرقم الذي يكون في النرد يتحرك اللاعب أو يفعل شيئاً في اللعبة، فإن هذا النرد هو من صميم الميسر والمقامرة، وفكرة الميسر والمقامرة موجودة في رمي الزهر بالحظ؛ لكي يخرج لك الرقم وبعد ذلك يحدث ما يحدث تبعاً له، فإذاً: فكرة المقامرة موجودة في حجر الزهر وفي النرد، فكل الألعاب الموجودة فيها حجر النرد والزهر كالطاولة والملكلي وغير ذلك من الألعاب التي لا يجوز استعمالها، ما دام حجر الزهر موجوداً فيها لأجل الحديث، فالمهم في الألعاب أن تضبط بضوابط شرعية: أولاً: لا تصد وتبعد عن ذكر الله، ولا تلهي عن الصلاة.
ثانياً: ألا تؤدي إلى إيقاع العداوة والبغضاء بين اللاعبين واللعن والسب والشتم.
ثالثًا: ألا تؤدي إلى الغش، لأن كثيراً من لعب الورق من أشهر الألعاب التي فيها غش.
رابعاً: ألا يكون فيها صليب؛ كلعب الشطرنج وكثير من ألعاب الكمبيوتر.
خامساً: ألا يكون فيها ما يخالف العقيدة من جهة إحياء الميت ونحو ذلك؛ كما تدل بعض الألعاب في الكمبيوتر، يدخل ميتاً ويخرج حياً ويقول: هذا بقي له ثلاثة أرواح، وسبعة أرواح، وخمسة أرواح، وذهبت روح الذي اخترع اللعبة، فإذا بعضها واضح المصادمة للعقيدة، والأطفال يتربون على هذا (مات ثم يعيش).
سادساً: ألا يكون فيها ضرب على الوجه؛ كلعبة الملاكمة فهي حرام قطعاً (100%)، والآن يفكرون بإعادة النظر فيها عالمياً بعدما أصيب كذا واحد بنزيف، وكذا واحد كُسِر وتهشم رأسه، وكذا واحد فقئت عينه، وكذا واحد أصيب بعاهة، الآن يفكرون والحكم عندنا من زمان وهو: النهي عن ضرب الوجه.
سابعاً: ألا يكون فيها تحريش بين البهائم كنطاح الأكباش ومناقرة الديوك ومصارعة الثيران؛ فمصارعة الثيران حرام؛ لأنهم يغرسون فيها السهام، وهذا تعذيب واضح للحيوان واعجبا لهم! يقولون: نحن نعترف بالحيوان ويفعلون هذا بالثيران! وهم الثيران في الحقيقة.
ثم -أيضاً- من ضوابط الألعاب ألا يكون فيها صور ذوات الأرواح، فإن اتخاذ صور ذوات الأرواح محرم لا يجوز، وألا يكون فيها كشف للعورات مثل لعبة كرة القدم بالشورت فإن العورة تبان وهو هذا التبان وهو البنطلون القصير فهذا فيه كشف للعورة والرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ جرهد: (غط فخذك فإن الفخذ عورة).
عاشراً: ألا يكون فيها ما يؤذي البدن، ذكرنا مثالاً الضرب على الوجه، لكن -أيضاً- قضية التكسير أثناء اللعب كما يقع في بعض ألعاب كرة القدم، فإن الإصابات تقريباً شبه مؤكدة، ونادراً ما ينتهي الشوط من غير إصابات، وقد ذكر الشيخ/ محمد بن إبراهيم رحمه الله في أسباب النهي عنها، قال: يجعلون سيارة إسعاف في الملعب دائماً، لكن على أي حال يمكن أن تلعب كرة القدم بضوابط شرعية، كأن لا يكون فيها تكسير ولا كشف عورات، ولا تلهي عن الصلاة، ولا تأخذ بالألباب، ولا تسبب التعصب وتفريق الناس على الأندية ونحو ذلك، وهذا من شروط اللعب (ألا تسبب التعصب وتفريق القلوب) وبعضهم قد يطلق زوجته، وبعضهم يطلق على الهدف إنه صحيح وهو ليس كذلك، وبعضهم يتشاجر حتى يكون العراك بالأيدي في حسم القضية، ومعروف ما يحدث بين مشجعي الفرق من المشاجرات واللعن والسب والحلف أنه هدف وليس بهدف ونحو ذلك.
فالمهم أنهم يتفرقون تعصباً للأندية وهذه لاشك أنها حرام؛ لأنها مخالفة لما أمر الله تعالى به المسلمين من أن تكون قلوبهم مؤتلفة، فالشاهد أن هناك عدداً من الضوابط الشرعية يجب أن تتوفر في الألعاب حتى تصبح مباحة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أربعة ليست من اللهو: (ملاعبة الرجل امرأته، وتأديبه فرسه، وتعلمه السباحة، ومشيه بين الغرضين) ملاعبة الرجل امرأته معروف، تأديب الرجل فرسه: لأن هذا شيء يعين على الجهاد والفروسية وهو محبب في الإسلام (والخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة) كما جاء في الحديث الصحيح، وإلى الآن حتى الجيوش الكبرى والدول المتقدمة في جيوشها فرق للخيالة باعتراف منهم بأهميتها.
وثالثاً: قال: (وتعليم الرجل السباحة) لأنه يحتاج إليها، وبعض المعارك البحرية يحتاج فيها إلى غطاس؛ كما كان للمسلمين غطاس وكانوا يرسلون معه الرسائل والذهب من صلاح الدين إلى المسلمين المحاصرين في عكة فيغطس بها قبل سفن الصليبيين ويخرج بها من الجانب الآخر إلى أن توفاه الله عز وجل غريقاً، ولم يكن قد أدى الأمانة وقذفه البحر إلى عكة بالذهب وبالخطابات بعدما غرق في البحر فأدى الأمانة بعد موته رحمه الله، فالشاهد أن تعلم السباحة مفيد في كل الحالات، قال: (ومشي الرجل بين غرضين) يعني: التدرب على الرماية وإطلاق السهام، والغرض: الأهداف التي يطلق إليها السهم ويرمى، فهذا يفيد -أيضاً- في الجهاد في سبيل الله، فلذلك تعلم الرماية من العبادات، ومن تعلم الرمي فتركه فكأنما هي نعمة كفرها يعني: أوتي نعمة ثم كفرها، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من أن ينسى الإنسان الرماية إذا تعلمها، فإنه إذا نسيها فكأنما هي كنعمة كفرها.(199/10)
الإنفاق على الأولاد من راتب أبيهم بعد موته
السؤال
يقول: توفي أبي وكان له راتب من التقاعد فأخذه أخي الأكبر وجمعه لنا ليقسمه بيننا إذا كبرنا وكان ينفق على البيت من راتبه الخاص؟
الجواب
هذا محسن إذا فعل ذلك، وإذا أنفق عليهم من راتب التقاعد فإن هذا الإنفاق يكون في محله.(199/11)
عدد المسلمين في معركة الخندق
السؤال
هل كان عدد المسلمين في معركة الخندق ألف أو ثلاثة آلاف؟
الجواب
في معركة الخندق كان ثلاثة آلاف -العدد الإجمالي- لكن الذين كانوا عند الخندق في ذلك الوقت كان عددهم ألف.(199/12)
ليس على من نسي التقصير شيء
السؤال
امرأة طافت وسعت ولم تقص من شعرها إلا بعد أسبوع لأنها نسيت؟
الجواب
ما دام أنها نسيت ثم قصت فليس عليها شيء.(199/13)
ترك المسجد القريب طلباً لحسن صوت القارئ
السؤال
هل علي شيء إذا تركت المسجد الذي في حينا وذهبت إلى مسجد آخر في صلاة التراويح لحسن الصوت؟
الجواب
لا بأس إذا لم يكن يحدث بينك وبين الإمام أو الجماعة شحناء أو بغضاء.(199/14)
جواز دخول الكافر المسجد للمصلحة
السؤال
في بعض المساجد يكون فيها إفطار جماعي لعدد من العمال، وربما دخل بينهم من غير المسلمين لأجل الإفطار، هل نمنعهم من دخول المسجد لأنهم غير مسلمين؟
الجواب
أما مسألة دخول الكافر المسجد فإن الراجح جواز دخوله للمصلحة كما أدخل ثمامة رضي الله عنه وكان مشركاً إلى المسجد وربط فيه، فيجوز دخول الكافر المسجد لمصلحة.
ثانياً: لا يأكل مع المسلمين إذا كان الطعام مخصصاً لهم؛ لأن بعض الناس يأتي إلى المسجد ويقول: هذا إفطار صائم، أو يعطي الإمام مالاً ويقول: هذا المال أريد به إفطار صائم، والكافر ليس بصائم، إذاً لا يأكل معهم، لكن إذا كان الطعام صدقة عامة فإن السماح للكافر بالمجيء ربما يكون فيه فائدة من جهة دعوته وتأثره بهذا الاجتماع، وهو عندما يفطر مع المسلمين، ويرى هذه العبادة واجتماعهم عليها، فربما يؤثر ذلك في نفسه، فإذا كانت صدقة عامة رئي فيها مصلحة لهذا الكافر من الدخول أدخلناه وأطعمناه، وإذا كان لا مصلحة فيها لا ندخله المسجد، وكذلك إذا كان الطعام مختصاً بالمسلمين أو بالصائمين.(199/15)
الإحرام من الميقات عند قصد العمرة
السؤال
سافرت إلى جدة لهدفين: للعمل والعمرة، والهدف الأساسي هو العمل، فأحرمت من جدة وعملت العمرة؟
الجواب
إذا كنت قاصداً العمرة سواءً كان هدفاً أول أو هدفاً ثانياً فلا بد أن تحرم من الميقات، وإذا لم تحرم من الميقات فإن عليك دم يذبح في مكة ويوزع على فقراء الحرم، وإذا كنت تقصد العمل فقط وتقول: إذا تهيأ لي وقت اعتمرت وإذا لم يتهيأ لي وقت رجعت من دون عمرة، فتحرم من حيث ما تهيأ لك، سواء جزمت بالعمرة من جدة أو من غيرها.(199/16)
حسن التعامل مع الناس
إن من الميزات العظيمة لهذا الدين أنه جاء بالتعامل الحسن والأخلاق الحسنة، وقد حث هذا الدين على حسن التعامل مع الوالدين والأقرباء والأولاد والجيران والأيتام والخدم، ومع الإخوان والأصدقاء والسائلين والمحتاجين وكبار السن، حتى الحيوانات والبهائم، وكل صنف من هذه الأصناف ورد فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أو قصة.(200/1)
عظمة الدين الإسلامي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا ً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! إن من الميزات العظيمة لهذا الدين، أنه جاء بالتعامل الحسن، والخلق الحسن، وأنه يكفل السعادة للمنتسبين إليه، إنه دين فيه أخذ وعطاء، واجتماعية وتعايش، إنه دين قائم على الاحترام وإعطاء الحقوق، وهذه قضيةٌ غفل عنها كثير من المسلمين فأصبح تعامل بعضهم مع بعض فضاً أجوف غليظاً، حتى أصبح كثير منهم يقطع بعضاً، وكثير منهم يظلم بعضاً، ويهجر بعضاً، ولا يوجد في كثير من الأحيان أخلاق إسلامية في التعامل، فأصبحت الحقوق ضائعة، والعلاقات متقطعة، وصار الواحد همه في حاله وماله وشأنه ولا يهمه الآخرون.
عباد الله! إن حسن التعامل مع الناس ميزة عظيمة في هذا الدين، وقد جاء هذا الدين بحسن التعامل مع الوالدين والأقرباء والأولاد والجيران والأيتام والخدم، ومع الإخوان والأصدقاء والسائلين والمحتاجين والجلساء وكبار السن والعمال، وحتى الحيوانات والبهائم، فما أعظمه من دين، جاء بهذا الخلق العظيم: حسن التعامل مع الناس.
عباد الله: إن ربنا جل وعلا قد ندبنا في كتابه الكريم إلى الاهتمام بالتعامل مع الخلق وقال الله تعالى عن القريب إذا سأله أقرباؤه نفقة أو صدقةً أو معونة، ولم يجد شيئاً يساعدهم به فلا أقل من كلمة طيبة، واعتذار حسن، قال ربنا {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} [الإسراء:28] تعرض عن الأقرباء ليس عندك ما تعطيهم وتنتظر غنىً من الله {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً} [الإسراء:28] قولاً حسناً، وعدهم وعداً حسناً، إن أيسرت أعطيتك وبذلت لك وسددت حاجتك ونحو ذلك، وقال الله عز وجل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] هذه عبارة قرآنية من كلام الرب جل وعلا {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] كم من الناس يمتثلها اليوم؟ كم من الناس يتعاملون بالقول الحسن فيما بينهم؟(200/2)
حقوق وردت في السنة النبوية
وننتقل -يا عباد الله- إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم لنذهب وإياكم في جولة تشهد لهذا الأصل العظيم وهو حسن التعامل مع الخلق في هذه الشريعة.(200/3)
حق الوالدين
فأما حق الوالدين فمعلوم ومعروف، والأمر ببرهما مشتهر ومألوف في هذه النصوص الشرعية، لقد حدثنا أبو بردة أنه شهد ابن عمر ورجلاً يمانياً يطوف بالبيت حمل أمه وراء ظهره وهو يقول:
إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر
ثم قال: [يا بن عمر! أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة] اذكر آلام الطلق لما حملت أمك بك، وعند وضعها لك، قال: لا.
ولا بزفرة واحدة [ثم طاف ابن عمر فأتى المقام فصلى ركعتين ثم قال: يا بن أبي موسى إن كل ركعتين تكفران ما أمامهما].
وعن أبي مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب، أنه ركب مع أبي هريرة -وأبو هريرة له شأن عظيم في بر الوالدة، حتى توسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو ربه لهدايتها فهداها الله من أجل ذلك- ركب هذا الراوي مع أبي هريرة إلى أرضه بـ العقيق، حتى إذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته: [السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا أمتاه! فتقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، يقول: يرحمك الله كما ربيتني صغيراً، فتقول: يا بني! وأنت جزاك الله خيراً ورضي عنك كما بررتني كبيراً] إحسان متبادل، وعاطفة منسجمة بين الوالدة وولدها.
والأب حقه عظيم، وكان أبو هريرة يوصي بالوالد أيضاً، فعن عروة أو غيره أن أبا هريرة أبصر رجلين فقال لأحدهما: [ما هذا منك -أي: ما علاقته بك وما علاقتك به؟! - فقال: أبي، قال: لا تسمه باسمه، ولا تمشِ أمامه، ولا تجلس قبله] لابد أن يظهر عليك حتى في مشيتك أنه أبوك.(200/4)
حق الأرحام
وأما الأرحام فحسن التعامل معهم هو صلتهم، والصلة أعلى من المعاملة بالمكافأة، فإن صلة من قطع أعلى درجة من مكافأة يظهرها من عومل بمثلها، عن أبي هريرة قال: (أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي, ويجهلون وأحلم عنهم) هذه معاملتي وهذه معاملتهم، هذا أذاهم وهذا إحساني، هذا ما أقابلهم به حتى اشتد ذلك على الرجل، (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لئن كان كما تقول -لئن كان الأمر كما تقول- كأنما تسفهم المل) أي: تطعمهم الرماد الحار، وهو تعبير ينبئ عن علو كعبه، وارتفاع أمره عليهم أن له الحجة فوقهم وأنه قد أدانهم (ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك) أي: المعونة من الله.(200/5)
حق الأولاد
وأما الأولاد فإحسان التعامل معهم بالرحمة بهم والشفقة عليهم، عن أنس بن مالك قال: (جاءت امرأة إلى عائشة رضي الله عنها فأعطتها عائشة ثلاث تمرات فأعطت كل صبي لها تمرة وأمسكت لنفسها تمرة، فأكل الصبيان التمرتين ونظرا إلى أمهما فعمدت إلى التمرة المتبقية فشقتها فأعطت كل صبي نصف تمرة وبقيت هي بلا شيء، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته عائشة فقال: وما يعجبك من ذلك؟ لقد رحمها الله برحمتها صبييها).
الإحسان إلى الأولاد والأطفال بملاطفتهم وتقبيلهم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتقبلون صبيانكم فوالله ما نقبلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة) فدل ذلك أن عدم تقبيل الصبيان نزع للرحمة من القلب، وذلك الرجل الذي تباهى بأن له عشرة من الولد ما قبلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يرحم) وكان فضله وملاطفته وبشاشته صلى الله عليه وسلم متعدية إلى أحفاده، فعن أبي هريرة قال: (ما رأيت حسناً إلا فاضت عيناي دموعاً، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فوجدني في المسجد فأخذ بيدي، فانطلقت معه فما كلمني حتى جئنا سوق بني قينقاع، فطاف فيه ونظر ثم انصرف وأنا معه حتى جئنا المسجد فجلس فاحتبا ثم قال: أين لكاع ادع لي لكاع فجاء حسن يشتد -جاء الولد الصغير المدعو- فجاء حسن يشتد فوقع في حجره صلى الله عليه وسلم ثم أدخل يده في لحيته -الولد متعود على الملاطفة والملاعبة أدخل يده في لحية جده صلى الله عليه وسلم- ثم جعل النبي صلى الله عليه وسلم يفتح فاه فيدخل فاه في فيه، ثم قال: اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه) وعن يعلى بن مرة قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ودعينا إلى طعام فإذا حسين يلعب في الطريق فأسرع النبي أمام القوم ثم بسط يديه، فجعل الغلام يفر هاهنا وهاهنا ويضاحكه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذه، فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى في رأسه ثم اعتنقه ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً، الحسين سبط من الأسباط).(200/6)
حق الجيران
أما الجيران, وما أدراك ما الجيران، وماحق الجار؛ فإن الشأن عظيم والتقصير والتفريط كبير، فعن ابن عمر قال: [لقد أتى علينا زمان -أو قال حين- وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم] كله إيثار لا أحد يرى أنه أحق بماله من أخيه فالمال للجميع، ثم يقول ابن عمر: (ثم الآن الدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة، يقول: يا رب! هذا أغلق بابه دوني فمنع معروفه، والله تعالى يمنع عنه المعروف يوم القيامة بما منع المعروف عن جاره) وأوصى أبا ذر، قال: أوصاني خليلي بثلاث فمنها: (يا أبا ذر! إذا طبخت مرقة فأكثر ماء المرقة وتعاهد جيرانك أو أقسم في جيرانك).
فبمن يبدأ؟ تقول عائشة رضي الله عنها قلت: (يا رسول الله! إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهم منك باباً) وعن الحسن أنه سئل عن الجار: منهم الجيران وإلى أين ينبغي أن يكون الفضل؟ -إلى كم من الجيران؟ - فقال الحسن رحمه الله: أربعين داراً أمامه، وأربعين خلفه، وأربعين عن يمينه، وأربعين عن يساره.
وأما إيذاؤه فشنيع وعظيم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قيل للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله! إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار وتفعل وتتصدق ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا خير فيها هي من أهل النار).
وعن أبي هريرة قال: (قال رجل: يا رسول الله! إن لي جاراً يؤذيني فقال: انطلق فأخرج متاعك في الطريق، فانطلق فأخرج متاعه فاجتمع الناس عليه قالوا: ما شأنك؟ قال: لي جار يؤذيني -أي: أنه ما أطاق البقاء في بيته وأخرج المتاع إلى الشارع- فجعلوا يقولون: اللهم العنه، اللهم أخزه -يدعون على جاره اللهم أخزه- فبلغ الجار ما يفعل الناس، فأتاه فقال: ارجع إلى منزلك فوالله لا أؤذيك) اتعظ وارتدع ورجع إلى الإحسان.
وكان ثوبان يقول: [ما من جار يظلم جاره ويقهره حتى يحمله ذلك على أن يخرج من منزله إلا هلك] وكم من الناس اليوم غيروا سكنهم وخرجوا من بيوتهم بسبب جيرانهم فكان أذى الجار حاملاً لهم على الخروج من المسكن، وتغيير البيت من أجل أذى الجار.
وربما انتقل إلى بيت إيجاره أعلى، أو بيت أضيق من أجل الهروب من جاره، ومن أجل أذى الجار.(200/7)
حق الأيتام
وأما الأيتام فالإحسان إليهم ومعاملتهم بلطف والإنفاق عليهم من هذه الشريعة، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل) ولذلك كان عبد الله -كما يقول أبو بكر بن حفص - لا يأكل طعاماً إلا وعلى خوانه يتيم، لابد أن يدعو يتيماً في كل وجبة من وجبات طعامه ليأكل معه إحساناً إلى اليتامى.
وأما العبيد والخدم فالإحسان إليهم بالرفق بهم والتخفيف عنهم وترك إيذائهم: عن أبي أمامة قال: (أقبل النبي صلى الله عليه وسلم ومعه غلامان فوهب أحدهما لـ علي صلوات الله عليه وقال: لا تضربه، فإني نهيت عن ضرب أهل الصلاة، وإني رأيته يصلي منذ أقبلنا، وأعطى أبا ذر غلاماً وقال: استوصِ به معروفاً، فأعتقه، فقال: ما فعل؟ -يسأل أبا ذر بعد ذلك- ماذا فعلت بالغلام؟! قال: أمرتني أن أستوصي به خيراً فأعتقته).
وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: (كنت أضرب غلاماً لي فسمعت من خلفي صوتاً!! اعلم أبا مسعود.
اعلم أبا مسعود.
لله أقدر عليك منك عليه، لله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله، فقال: أما لو لم تفعل لمستك النار أو للفحتك النار) وعن عمار بن ياسر قال: [لا يضرب أحد عبداً له وهو ظالم له إلا أقيد منه يوم القيامة] هذا في العبد الذي يملكه صاحبه، فكيف إذا كان خادماً لا يملكه ولم يشتره بماله؟ وإنما هو حرٌ أو حرةٌ من الأحرار ومع ذلك يضربونهم ويجرحونهم ويكسرونهم وقد يذهبون إلى المستشفيات من شدة الضرب، حال بعض الناس مع الخدم في الإهانة والإيذاء والشدة لا يعلمه إلا الله، مع أنهم لا يملكونهم وهذا الذي يملكه يقول عمار: [لا يضرب أحد عبداً له وهو ظالم له إلا أقيد منه يوم القيامة] فماذا سيفعل بعض الخدم ببعض المخدومين يوم القيامة؟ وعن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: (خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا، فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفوا معه حال غلامه وحسن لباسه مع سيده، فكلموا أبا اليسر في حال هذا الغلام في هذه اللبسة الجميلة الجيدة، فقال: يا بن أخي! بصرت عيني هاتين، وسمعت أذني هاتين، ووعاه قلبي -وأشار إلى مناط قلبه- سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون) وكان أن أعطيته من متاع الدنيا أهون علي من أن يأخذ من حسناتي يوم القيامة.
وعن أبي ذر قال: (إني ساببت رجلاً فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي -أي: الرسول عليه الصلاة والسلام-: أعيرته بأمه؟! قلت: نعم.
قال: إن إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم).(200/8)
الإحسان إلى صانع المعروف
والإحسان إلى من صنع إليك معروفاً فمكافأته على معروفه، وكم من الناس يجحد المعروف ويتنكر لمن صنع إليه معروفاً، حتى إذا رآه كأنه لم يقابله من قبل، فجاحدو المعروف في هذه الدنيا كُثر، عن جابر بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صُنعِ إليه معروف فليجزيه، فإن لم يجد ما يجزيه فليثن عليه، فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره وإن كتمه فقد كفره، ومن تشبع بما لم يعط كأنما لبس ثوبي زور) إذاً: إذا لم تستطع مكافأته فاذكر معروفه بين الناس واثنِ عليه، فإذا كتمت ذلك فقد كفرت بمعروفه، وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أتى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى يعلم أن قد كافأتموه).(200/9)
الإحسان إلى صديقات الزوجة
وأما الإحسان إلى الأصدقاء، وصديقات الزوجة، وأصدقاء الأبوين فإنه من حسن التعامل مع الخلق، فعن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالشيء يقول: (اذهبوا به إلى فلانة فإنها كانت صديقة خديجة، اذهبوا إلى بيت فلانة فإنها كانت تحب خديجة) كان صلى الله عليه وسلم يتذكر الغابر، ويتذكر الدهر الماضي، ويتذكر العلاقات القديمة، حسن العهد من الإيمان.
أما الإخوان والأصدقاء، فإنه لابد أن يكون الإنسان على صلة ورحمة بهم، وهذا ما سنعرف بعض أمثلته بعد قليل.
أسأل الله تعالى أن يهب لنا من أمرنا رشداً، وأن يعيننا على حسن التعامل مع الخلق، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(200/10)
الإحسان إلى الإخوان
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ويشركون، نحمدك اللهم ونثني عليك ونشكرك ونوحدك ولا نكفرك ونخلع كل من يكفرك.
وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، هو رسول الله الرحمة المهداة والبشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وذريته الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه والتابعين.
عباد الله! قال صلى الله عليه وسلم: (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه) وقال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن مرآة أخيه، المؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه فيحفظه في ماله، ويتعاهد حاله، ويصلح شأنه ويرعى مصلحته) ولذلك لا تجوز المصارمة بين الإخوان، القطيعة والهجران من المحرمات، فعن هشام بن عامر الأنصاري -ابن عم أنس بن مالك، وكان أبوه قد قتل يوم أحد - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لمسلم أن يصارم مسلماً فوق ثلاث، فإنهما ناكبان عن الحق ما داما على صرامهما، وإن أولهما فيئاً يكون كفارته عند سبقه بالفيء -إذا سبق بالرجوع إلى صاحبه كان ذلك الرجوع كفارة لما حصل- وإن ماتا على صرامهما، لم يدخلا الجنة جميعاً أبداً، فإن سلم عليه فأبى أن يقبل تسليمه وسلامه رد عليه الملك ورد على الآخر الشيطان) رد عليه الملك على المسلم البادئ، ورد على الآخر الشيطان، قاله عليه الصلاة والسلام.
فانظر الآن في أحوالنا الاجتماعية وتقاطع بعضنا مع بعض، وهذا لم يدخل بيت قريبه منذ كذا سنة، وآخر يمر بالمجلس فلا يسلم عليه لما بينه وبينه من القطيعة، حقوق الأخوة عظيمة، والإعداد للقاء الإخوان من الدين، فعن ثابت البناني قال: [إن أنساً كان إذا أصبح دهن يده بدهن طيب لمصافحة إخوانه] كان أنس إذا أصبح وضع الطيب في يده لأنه سيمشي ويشاهد ويقابل إخوانه وسيصافحهم، فليكن ما ينتقل من كفه إلى كف أخيه طيباً.
حتى توزيع النظر في الجلسات مع الإخوان، فعن حبيب بن ثابت قال: كانوا يحبون إذا حدث الرجل لا يقبل على الرجل الواحد ولكن ليعمهم، يعمهم بنظره فيوزع عليهم نظرات يشرك فيها الجميع، ولا يجوز ترويع الأخ المسلم أبداً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه لاعباً ولا جادا فإذا أخذ أحدكم عصا صاحبه فليردها إليه).(200/11)
الإحسان إلى كبار السن
وأما كبار السن فإن إحسان التعامل باحترامهم وتوقيرهم، فعن أبي موسى الأشعري قال: [إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم] إذا أردت أن تجل الرب عز وجل فأكرم ذي الشيبة المسلم.
وأما قضاء حوائج الناس ووعدهم خيراً فقد كان صفة من صفات نبينا صلى الله عليه وسلم فعن أنس قال: (كان النبي رحيماً، وكان لا يأتيه أحد إلا وعده -يعده خيراً- وأنجز له إن كان عنده، وأقيمت الصلاة وجاءه أعرابي بعد إقامة الصلاة فأخذ بثوبه فقال: إنما بقي من حاجتي يسيرة -بقي سؤال- فقام معه حتى فرغ من حاجته ثم أقبل فصلى).(200/12)
التجاوز عن المحتاجين والمساكين والمدينين
والتجاوز عن المحتاجين والمساكين والمدينين -أصحاب الديون- أمر عظيم من إحسان تعامل الخلق، فعن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه قد كان رجلاً يخالط الناس، وكان موسراً فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه -يقول للملائكة- تجاوزوا عنه) بعد أن لقي الله وكان موحداً لكن ليس له من الخير إلا ذلك، قال: تجاوزوا عنه.
مواساة الناس في السنة المجاعة وفي القحط والشدة، تنزل حيث بالناس ظروف صعبة فيحتاجون وتضيق أحوالهم، فما هو حسن التعامل مع الخلق في هذه الحالة؟ المواساة والبذل لهم، ولذلك قال الأنصار: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، مع أن المهاجرين ما تعبوا في شيء، قال: لا.
لا يعرفون الزراعة، فقالوا: تكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا.
وعن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قام عام الرمادة وكانت سنةً شديدة مؤلمة بعدما اجتهد عمر في إمداد الأعراب بالإبل والقمح والزيت من الأرياف كلها مما أجهده ذلك فقام عمر يدعو فقال: [اللهم اجعل رزقهم على رءوس الجبال، فاستجاب الله له وللمسلمين فقال حين نزل به الغيث: الحمد لله فوالله لو أن الله لم يفرجها ما تركت أهل بيت من المسلمين لهم سعة إلا أدخلت معهم أعدادهم -إذا كانوا خمسة أدخل معهم خمسة، وإذا كان أهل البيت ميسورين وكانوا أربعة أدخل معهم أربعة- إلا أدخلت معهم أعدادهم من الفقراء، فلم يكن اثنان يهلكان من الطعام على ما يقيم الواحد] يعني: طعام الواحد يكفي الاثنين.
قال محمد بن زياد: أدركت السلف -انظروا إلى التعامل بين الجيران والناس في ذلك الوقت رحمة الله على أهل ذلك الوقت- أدركت السلف وإنهم ليكونون في المنزل الواحد بأهاليهم فربما نزل على بعضهم الضيف وقدر أحدهم على النار -يكون قدر أحدهم على النار، والثاني نزل عنده ضيوف- فيأخذها صاحب الضيف لضيفه، يأتي صاحب الضيف إلى القدر التي لصاحبه ويأخذها لضيفه، فيفقد القدر صاحبها!! فيقول: من أخذ القدر؟! فيقول صاحب الضيف: نحن أخذناها لضيفنا، فيقول صاحب القدر: بارك الله لكم فيها، قال محمد: والخبز إذا خبزوا مثل ذلك، وليس بينهم جدر من قصب -الحدود جدار من قصب- فالواحد لا يجد حرجاً أن يأخذ من أخيه وأخوه يفرح إذا أخذ منه؛ لأن الأول يأخذ برضا الثاني وهو يعلم أنه راضٍ، فأين هذه الأخلاق؟! وكان على الضيوف من التعامل مع صاحب البيت ألا يحرجوه، فقد قال صلى الله عليه وسلم لما ذكر (جائزة الضيف ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه) لا يحل له أن يقيم عنده حتى يحرجه، ويضيق عليه.
وأما مشاركة العمال والموظفين فاسمع ما قال نافع بن عاصم أنه سمع عبد الله بن عمرو قال لابن أخ له خرج من الوهط -بستان وأرض كانت لـ ابن عمرو -[أيعمل عمالك؟ قال: لا أدري، قال: أما لو كنت ثقفياً لعلمت ما يعمل عمالك، ثم التفت إلينا فقال: إن الرجل إذا عمل مع عماله في داره، وقال أبو عاصم مرةً في ماله -في الشركة أو المؤسسة أو الدكان أو البيت- كان عاملاً من عمال الله عز وجل] كأنما يعمل لله، من عمال الله عز وجل.(200/13)
حسن التعامل مع الحيوانات
حتى حسن التعامل يصل إلى البهائم والحيوانات وليس إلى الآدميين فقط، فعن قرة قال رجل: (يا رسول الله! إني لأذبح الشاة فأرحمها، أو أني لأرحم الشاة أن أذبحها، قال: والشاة إن رحمتها رحمك الله -مرتين- والشاة إن رحمتها رحمك الله) وعن عبد الله بن مسعود قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً -في طريق- فأخذ رجل بيض حمرة -نوع من الطيور، تسلق الرجل فأخذ بيضها من عشها- فجاءت الحمرة ترف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم -تحوم وترف بجناحيها- فقال عليه الصلاة والسلام: أيكم فجع هذه بيضتها؟ أيكم فجع هذه بيضتها؟ فقال رجل: يا رسول الله! أنا أخذت بيضتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أردده رحمةً لها، أردده رحمةً لها) حتى البهائم والحيوانات.
هذا جانب من حسن التعامل مع الخلق، استفدنا كل ما ورد من الأحاديث والآثار الصحيحة من كتاب الإمام العظيم أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، فالله يغفر له ويرحمه على ما نفعنا به من هذه العلوم في كتابه العظيم (الأدب المفرد) وفيه خير كبير، وهذا الجانب منتقى منه فقط في قضية الإحسان إلى الخلق في التعامل مع الناس.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الأخيار، اللهم إنا نسألك أن تغفر ذنبنا وتلم شعثنا وتثبت أمننا، اللهم اقضِ ديوننا، واكبت عدونا، وارحم ميتنا، اللهم سد جوعتنا، اللهم استر عيوبنا يا رب العالمين، اللهم من أراد الإسلام وأهله بسوء في هذه البلد وسائر بلدان المسلمين فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم آمنا في الأوطان والدور وأرشد الأئمة وولاة الأمور، اللهم ارحمنا برحمتك يا عزيز يا غفور {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].(200/14)
زيد بن عمرو موحد في الجاهلية
أيها الإخوة: ضمن سلسلة من قصص الصحابة في عهد النبوة، يتناول الشيخ في هذا الدرس أحد المؤمنين الموحدين وهو زيد بن عمرو بن نفيل، فيذكر جانباً من سيرته ورحلته في طلب الدين الحق ثم يذيلها ببعض المسائل المستفادة من هذه القصة.(201/1)
سيرة زيد بن عمرو بن نفيل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ففي هذه السلسلة الجديدة -أيها الإخوة- من قصص الصحابة في عهد النبوة، نتناول واحداً من المؤمنين الموحدين الذي ربما يدخل في شرط هذه السلسلة، وربما لا يدخل، ولكنه -على أية حال- رجل من الموحدين ينبغي التعريف به، ومعرفة سيرته التي اعتنى الإمام البخاري رحمه الله تعالى من بين أصحاب الكتب التسعة جميعاً بذكر سيرته، حتى لا يكاد يوجد في كتابٍِ غير صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل مثل هذه الروايات المجموعة، وهذا الرجل هو زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله تعالى ورضي الله عنه وأرضاه.
روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدم له النبي صلى الله عليه وسلم سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه، وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض؛ ثم تذبحونها على غير اسم الله!!) إنكاراً لذلك وإعظاماً له.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: [أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه -قبل البعثة النبوية- فلقي عالماً من اليهود، فسأله عن دينهم، فقال: إني لعلِّي أن أدين بدينكم فأخبرني، فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً، وأنى أستطيعه! فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم؛ لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله، فخرج زيد، فلقي عالماً من النصارى، فذكر مثله، فقال النصراني: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئاً أبداً، وأنى أستطيع! فهل تدلني على غيره، قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم؛ لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام، خرج، فلما برز رفع يديه، فقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم].
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: [رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائماً مسنداً ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معشر قريش! والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، وكان يحيي الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها، أنا أكفيك مؤنتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت، قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤنتها].
هذا الرجل زيد بن عمرو بن نفيل هو والد سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، وزيد بن عمرو بن نفيل هو ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، كان ممن طلب التوحيد، وخلع الأوثان، وجانب الشرك، لكنه مات قبل البعثة النبوية.
قال زيد بن عمرو: إني خالفت قومي، واتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل وما كانا يعبدان، وكانا يصليان إلى هذه القبلة، وأنا أنتظر نبياً من بني إسماعيل يبعث ولا أراني أدركه -هذا إحساسه- وأنا أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبي.
فمن قبل البعثة يشهد أنه نبي؛ لأنه قد علم أنه سيبعث، لكنه ما بعث، فأشهد الله والناس أنه يؤمن ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعرفه.
قال زيد بن عمرو لـ عامر بن ربيعة: "وإن طالت بك حياةٌ، فأقرئه مني السلام".
أنا أحس يا عامر أني لن أدركه، فإذا أدركته أنت، فأقرئه مني السلام.
قال عامر: فلما أسلمت أعلمت النبي صلى الله عليه وسلم بخبره، قال: فرد عليه السلام وترحم عليه، وقال: (ولقد رأيته في الجنة يسحب ذيولا) مما أسبغ الله عليه من الثياب والنعيم.(201/2)
زيد بن عمرو يبحث عن الحقيقة
كان من خبر زيد ما روى البزار والطبراني من حديث سعيد بن زيد ولده، قال: خرج زيد بن عمرو وورقة بن نوفل يطلبان الدين -يبحثان عن الحق، وعن الدين الصحيح قبل البعثة- حتى أتيا الشام، فتنصر ورقة بن نوفل -دخل في دين النصارى- لكن على دين التوحيد -أي: تابع عيسى بن مريم- وامتنع زيد، فأتى الموصل فلقي راهباً، فعرض عليه النصرانية، فامتنع.
وقد سأل سعيد بن زيد هو وعمر بن الخطاب؛ باعتبار أن عمر ابن عمه، يهمه أمره أيضاً، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد؟ فقال: (غفر الله له ورحمه، فإنه مات على دين إبراهيم).
وعن عروة قال: [بلغنا أن زيداً كان بـ الشام، فبلغه مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل يريده، فقتل بمضيعة من أرض البلقاء].
قال ابن إسحاق: لما توسط بلاد لخم قتلوه، وقيل: إنه مات قبل البعثة بخمس سنين عند بناء قريش للكعبة.(201/3)
هل زيد بن عمرو من الصحابة؟
بناءً على ما تقدم فإن هذا الرجل يحتمل أن يكون من الصحابة ويحتمل ألا يكون.
لماذا؟ لأنه إذا جاء على أحد الاحتمالين في تعريف الصحابي دخل وإلا فلا.
أما تعريف الصحابي، فهو: من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك.
من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، هل يشترط في كونه مؤمناً به أن تقع رؤيته له بعد البعثة، أم لا؟ الآن: زيد بن عمرو لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، لكنه لا يعرف أن هذا هو النبي، لقي النبي صلى الله عليه وسلم وجلس وتحدث معه ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث بعد، لكنه لقيه وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن هناك نبيٌ سيبعث هو رسول الله ولم يكن يعلم أنه هو، فهل يشترط في الصحابي أن يكون قد لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به بعد البعثة؟ أو أنه يكفي أن يراه قبل البعثة وهو يؤمن أنه سيبعث؟ فعلى الأول: لا يدخل في تعريف الصحابي، وعلى الثاني يدخل في تعريف الصحابي.
ولا شك أنه كان حنيفاً مؤمناً موحداً رحمه الله ورضي عنه، فإنه كان قد رفع يديه يقول: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم.
وقد جاء عن أسامة بن زيد عن أبيه أنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار من أيام مكة، وهو مردفي- أنا وراءه- فلقينا زيد بن عمرو، فقال له: يا زيد: ما لي أرى قومك سبقوك، فقال: خرجت أبتغي هذا الدين، فذكر الحديث المشهور باجتماعه مع اليهودي وقوله: لا تكن من ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله، واجتماعه مع النصراني وقوله: لا تكن من ديننا حتى تأخذ نصيبك من لعنة الله.
وفي آخر الأثر: [إن الذي تطلبه قد ظهر ببلادك -قد بعث نبيٌ طلع نجمه- وجميع من رأيت في ضلال].
فهذا يعني: أنه رحمه الله قد مات على التوحيد، وهو يؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم.(201/4)
موقف زيد بن عمرو مما ذبح لغير الله
الحديث الأول: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح).
قوله: بلدح: مكان في طريق التنعيم، ويقال: هو وادٍ، التقى فيه زيد بن عمرو بن نفيل بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، فقدّم إليه النبي صلى الله عليه وسلم سفرة قبل أن يكون نبياً؛ وهي: المائدة التي عليها الطعام، وقيل: إن السفرة كانت لقريش قدموها للنبي صلى الله عليه وسلم، فقدمها هو لـ زيد بن عمرو، واللحم الذي في السفرة ذبحه القرشيون وكانوا مشركين، ذبحوه على عادتهم وهي الذبح على الأنصاب والأوثان والأصنام، فلما قدم اللحم لـ زيد بن عمرو بن نفيل رفض أن يأكله، وقال: إنا لا نأكل ما ذبح على أنصابكم.
والأنصاب جمع نصب: وهي أحجار كانت حول الكعبة يذبحون عليها.
قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل مما كانوا يذبحون عليها، ويأكل ما عدا ذلك، وإن كانوا لا يذكرون اسم الله عليه؛ لأن الشرع لم يكن نزل بعد.
فالطعام الذي قُدّم لـ زيد بن عمرو بن نفيل كان قد ذبح على النصب، وكان زيد يعلم كيف يذبحون، وكان موحداً لا يعبد إلا الله ويفهم أن الذبح عبادة، وأنه ما دام ذبح على النصب، فلا يجوز أن يؤكل لأنه شرك، وهو موحد على ملة إبراهيم، ولذلك رفض زيد بن عمرو بن نفيل أن يأكل، وكان يقول: عذت بما عاذ به إبراهيم، ثم يخر ساجداً للكعبة.
لا يعرف كيف الصلاة، ولا الركعات، ولا الأوقات، لكن يعرف أن السجود تعظيم، وأنه يعبد الله، فكان يسجد للكعبة التي بناها إبراهيم لله عز وجل، ساجداً لله عز وجل إلى جهة الكعبة هكذا كان يفعل.
فمر زيد بن عمرو بـ زيد بن حارثة والنبي صلى الله عليه وسلم وهما يأكلان فدعياه، فقال: يا بن أخي! لا آكل مما ذبح على النصب.
قال زيد بن حارثة: [فما رئي النبي صلى الله عليه وسلم يأكل مما ذبح على النصب من يومه ذلك].
وجاء أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه وكان على بقايا دين إبراهيم الذي كان في قريش، وكان في شرع إبراهيم تحريم الميتة، وتحريم ما ذبح على النصب، فكان زيد يفهم أنه لا يجوز له أكلها؛ ولذلك امتنع عن أكلها.
وكذلك كان من أَمرِه أنه خرج يسأل عن التوحيد؛ فلقي عالماً من اليهود كما جاء في القصة وسأله، وكانت هذه القصة مما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعها من زيد بن عمرو، وقال له: (مالي أرى قومك قد سبقوا عليك -أي: أبغضوك، النبي صلى الله عليه وسلم يسأل زيداً قبل البعثة- قال: خرجت أبتغي الدين، فقدمت على الأحبار فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به) لقي اليهودي قال: لن تدخل في ديننا حتى تأخذ بنصيبٍ من غضب الله، ولقي عالماً من النصارى، وفي رواية: قال لي شيخٌ من أحبار الشام: إنك لتسألني عن دينٍ ما أعلم أحداً يعبد الله به إلا شيخاً في الجزيرة، قال: فقدمت عليه، فقال: إن الذي تطلبه -التوحيد- قد ظهر ببلادك، وجميع من رأيتهم في ضلال وفي رواية: وقد خرج في أرضك نبيٌ أو هو خارج، فارجع وصدقه وآمن به- قال زيد: فلم أحس بشيء بعد.
إذاً: هذا يدل على أن زيداً رجع إلى الشام حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع به، فرجع فمات، لكنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا عندما بحث عنه في الشام، لما برز وخرج من أرضهم، قال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم.
وكان يقول لقريش: ما منكم على دين إبراهيم غيري، وفي رواية كان يقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم، وكان قد ترك عبادة الأوثان، وترك أكل ما يذبح على النصب، وفي رواية ابن إسحاق أنه كان يقول: اللهم لو أعلم أحب الوجوه إليك لعبدتك به.
أي: لو أعلم أحب الطرق التي تحب أن تعبد بها، وكيفية عبادة معينة، ووجه معين من أوجه التعبد لعبدتك به، ولكني لا أعلمه، ثم يسجد على الأرض براحته.(201/5)
زيد بن عمرو وموقفه من وأد البنات
كان من كريم أخلاق هذا الرجل أنه كان يحيي الموءودة كما جاء في الحديث، والمقصود بإحياء الموءودة، أي: إبقاؤها حية، وإلا فلا يحيي من العدم إلا الله، ومعنى يحيي الموءودة: أي: يبقيها على قيد الحياة، يفتديها أن تقتل، ويمنع عنها القتل، ووأد الشيء: إذا أثقله، وأطلق على دفن البنات وهن على قيد الحياة.(201/6)
سبب وأد البنات في الجاهلية
يقال: إن أصل وأد البنات كان نتيجة الغيرة على البنت؛ لأن بعض العرب سبيت ابنته عندما أغار عليه رجل من العرب وسبى ابنته وأخذها، فاستفرشها ووطئها وصارت عنده، فلما أراد أبوها أن يفتديها منه، خيرها الذي سباها، قال: أتريدين أن ترجعي إلى أبيك أو تمكثي عندي؟ فاختارت الذي سباها -كل هذا الكلام في الجاهلية- فحلف أبوها عندما رأى هذا الأمر ليقتلن كل بنتٍ تولد له، قال: ما دام أن هذه البنت استغنت عني واختارت الذي سباها، فإن كل بنت تأتيني سأقتلها -جاهلي- فتبعه العرب على هذا المبدأ.
يعني: هذه كانت بداية وأد البنات عند العرب نتيجة -كما قيل- لهذه القصة.
ثم إن منهم من كان يفعل ذلك من إملاق؛ أي: خوف الفقر، ولذلك قال الله عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151] فكان العرب يئدون بناتهم خشية الفضيحة، وخشية الإملاق.
ويقولون: الذكر والولد يدافع عن نفسه وأهله ويعين أباه، ويعمل ويكسب ويصيد، لكن البنت ضعيفة، فإما أن تسبى فتصبح عاراً علينا، أو أنها تكون عالةًً علينا، فإما عار وإما عالة، فالحل قتل البنات وإزهاق أرواحهن.(201/7)
طرق الجاهلية في وأد البنات
كانت العرب تقتل البنات بطريقتين: الطريقة الأولى: أن تأتي المرأة الحامل على وشك الوضع إلى حفرة -تحفر فتكون عند الحفرة- وتأتي القابلة التي تستلم المولود، فتولد المرأة، فإذا خرج ذكراً أبقته، وإذا خرجت أنثى ألقتها في الحفرة مباشرة.
الطريقة الثانية: أن بعضهم كان يتأني بها وينتظر ولا يدفنها مباشرة، فإذا بلغت سبع سنين، قال لأمها: زينيها؛ لأزور بها أقاربها، فإذا زينتها وجملتها أخذها في الطريق إلى بئرٍ، ثم قال: انظري فيه، فإذا نظرت دفعها من الخلف فوقعت على رأسها وطم عليها الحجارة والتراب وتموت، قال الله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:58 - 59] وجاء الله تعالى بالإسلام، وحرَّم وأد البنات وقتل الأولاد عموماً، قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] وسؤالها يوم القيامة ليس سؤال محاسبة؛ لأنها صغيرة غير مكلفة، لكن تسأل توبيخاً لمن قتلها، فتسأل الوليدة: لم قتلت؟ والمقصود بالسؤال توبيخ القاتل؛ وهو أبوها: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] وبالإضافة إلى ذلك جاء الإسلام بالأجر العظيم لمن أحسن تربية البنات: (من عال جاريتين أو ثلاثاً وأطعمهن وكساهن من جذته -من ماله ومما أعطاه الله- وصبر عليهن، كن له ستراً من النار).
وجاء في فضل تربية البنات، وأجر تربية البنات ما لم يأتِ في أجر تربية الذكران؛ لأن النفوس قد تثقل عليها البنت، وبعض الناس يكرهون البنات، وربما إذا كانت المرأة قائمةً فجاءها خبر ولادة بنت من أحد أهلها قعدت، أو دعت عليها مباشرة أن يعجل الله أخذها، وترى بعضهم إذا سأل الآخر: ماذا أتى لك؟ فإذا قال: أتاني ذكر، جعل يهنئه ويظهر الفرح والاستبشار بقدوم المولود الذكر لصاحبه، وإذا قال: جاءتنا بنت؟ قال: يا الله! الحمد لله على سلامة الأم، أي: المهم أن الأم سلمت، ولا يظهر الفرح بالبنت والاستبشار مثلما يظهر للولد، ولذلك نهينا عن تهنئة الجاهلية: بالرفاء والبنين.
لماذا نهينا عن هذه التهنئة؟ الرفاء هو: الالتحام والارتفاق والتوافق؛ وهذا جيد ولا بأس أن تدعو للمتزوج بالرفاء، فليست المشكلة في قولهم: بالرفاء، لكن المشكلة والمصيبة في قولهم: بالبنين؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يكرهون البنات، فأي إنسان من المتزوجين الجدد يقال له: بالرفاء والبنين، لماذا البنين؟ جمع ابن؛ لأنهم يكرهون البنات، فيقولون: الرفاء والبنين؛ هذه التهنئة الجاهلية انتقلت إلينا، مع أنه قد ورد النهي عنها، فتجد بعض الناس إذا كتب بطاقة تهنئة لمتزوج قال: بالرفاء والبنين.
إذاً: كل ما أتى من عند الله، فحياه الله ومرحباً وأهلاً وعلى الرحب والسعة، واحتساب الأجر في الإنفاق على البنات ربما يفوق الإنفاق على الذكور؛ بحسب ما ورد في الأحاديث من فضل الإنفاق على البنات.
وكان هذا الرجل يقول للعربي الجاهلي إذا جاءته بنت: أنا أكفيك مؤنتها، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن زيد؟ فقال: (يبعث يوم القيامة أمةً وحده بيني وبين عيسى بن مريم).
وكان زيد بن عمرو بن نفيل يذكر أشعاراً في مجانبة الأوثان، وكان يدعو كفار قريش إلى التوحيد، وقد فارق قومه واتبع ملة إبراهيم، وكان ينتظر نبياً من ولد إسماعيل، ولكن شاء الله وقدَّر أن يموت قبل ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ترحم عليه، وبشَّر أهله أنه من أهل الجنة.
هذا طرف من سيرة هذا الرجل رحمه الله ورضي عنه وأرضاه.(201/8)
الدروس المستفادة من قصة زيد بن عمرو
يؤخذ من هذه القصة فوائد متعددة: أولاً: أهمية البحث عن الحق، وأن الإنسان ما دام أنه يبحث عن الحق فإنه مأجور.
ثانياً: ركوب المشاق للبحث عن الحق، ولذلك سافر ورجع، وسافر مرة أخرى، وكلما دله شخص على شخص ذهب إليه وسافر إليه يبحث عن الحق.
ثالثاً: استعمال مخاطبة العقول في الدعوة، ولذلك كان يقول لكفار قريش: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله؛ على اسم هبل واللات والعزى ومناة، تذبحون هذه الشاة على أسماء الأوثان، واعجباً لكم!! وكان ينكر ذلك جداً.
رابعاً: أن من عُرِضَ عليه شيء منكر فلا يقبله، فهذا زيد بن عمرو من سلامة فطرته لما قال له اليهودي: لا تكن على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله؛ لأنهم قوم مغضوب عليهم، رفض، ولم يقل: أدخل في دينكم وإنما قال: ما أفر إلا من غضب الله؛ أنا فررت من غضب الله تريديني أدخل في غضب الله!! وكذلك النصراني لما عرض عليه أن يدخل في دينه على أن يأخذ بنصيبه من لعنة الله، قال: ما أفر إلا من لعنة الله، كيف أدخل في لعنة الله؟!! خامساً: أن الإنسان إذا عثر على الحق تمسك به، فقصار ما وصل إليه أن دين إبراهيم هو التوحيد، إذاً يبقى على دين إبراهيم لا يغير الإنسان الحق الذي يعثر عليه بل يبقى عليه ويتمسك به ولا يتركه.
سادساً: أن الإنسان يحارب المنكرات الاجتماعية الموجودة عنده في بني قومه، فهذا زيد بن عمرو كان يحارب المنكرات الاجتماعية كوأد البنات.(201/9)
واجب الداعية نحو المنكرات الاجتماعية
يوجد عندنا كثير من المنكرات الاجتماعية، فيجب على الدعاة والمصلحين، ويجب علينا جميعاً محاربة المنكرات الاجتماعية التي تكون موجودة في المجتمع، كان عندهم وأد البنات؛ وهي من المنكرات الاجتماعية، وهي خصلة ذميمة جداً، فيقوم هذا الرجل المصلح بأخذ البنت، وإنقاذها من أبيها، وإحيائها بعد أن كادت تموت وتدفن حية.
فمن وظيفة المصلح: أن ينظر في المنكرات الاجتماعية فيتولى إصلاحها؛ لأن المجتمع -يا إخوان- تنتشر فيه انحرافات بسبب بعد الناس عن الدين، وقد يكون شخص واحد هو سبب الانحراف.
الآن هذا العربي الأول الذي أُخذت ابنته واختارت أن تبقى عند الذي سباها، فغضب وأخذته الحمية، وعاهد نفسه أن يقتل كل بنتٍ تأتيه، واحد هو الذي سبب المنكر، واخترعه ثم فشا في المجتمع.
كثير من المنكرات الموجودة، قد يكون الذي دعا إليها واخترعها شخص واحد، ثم انتشرت في المجتمع، ووظيفة الدعاة والمصلحين هي مجابهة المنكرات الموجودة، ودعوة الناس إلى تركها، وبيان خطرها، وإنقاذ الموقف، فتجد -مثلاً- في المجتمع أشياء كثيرة من أنواع الفواحش، أو أشياء من التقصير في الحجاب، أو أشياء من انتشار الخمر أو المخدرات، سوس من السوس الذي ينخر في عظم المجتمع.
فوظيفة الداعية إلى الله سبحانه وتعالى أن يقوم بالمواجهة.
ومشكلة المنكرات الاجتماعية أن الناس قد تآلفوا عليها، وأن عليها خلقٌ كثير، فتكون المواجهة صعبة؛ لأنك تواجه عدداً كبيراً لا تواجه شخصاً واحداً.
ومشكلة المنكرات الاجتماعية أن الذي يرتكبها يحتج بالأغلبية وينطلق من منطلق الأغلبية؛ فإذا أتيت وأنكرت على واحدٍ منهم، يقول: كل العالم يفعلون هذا، وهذه الحجة التي ابتلينا بها، كلما دعوت شخصاً إلى شيء يقول: كل العالم هكذا، بعض منكرات الأعراس من المنكرات الاجتماعية تفشت، مثلاً: إدخال الرجل على النساء تصوير النساء، تفشت.
فإذا أتيت تنكر، يقولون: كل الأعراس هكذا كل الناس يفعلون هذا.
ولذلك فينبغي علينا الصبر، وأن نبين للناس أن الأكثرية ليست دليلاً على الحق؛ وهذا مبدأ مهم جداً، ولذلك يقول الله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، ويقول الله عز وجل: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] فعمر الأكثرية ما كانت دليلاً على الحق، بالعكس الأكثرية في الأرض كفار، انظر إلى التعدادات، كم مليون نصراني؟ كم مليون بوذي؟ كم مليون هندوسي؟ كم مليون مشرك؟ حتى من المحسوبين على المسلمين، كم منهم من المبتدعة أصحاب البدع المكفرة؛ الخارجين عن الدين، كـ القاديانية، والبهائية، والبابية، والإسماعيلية، والأغاخانية، والباطنية، وفرق الباطنية كلهم محسوبون على المسلمين، حتى في بعض البلدان يكتب: مسلم قادياني، مسلم باطني، مسلم إسماعيلي، مسلم دورزي، مهزلة، فإذا حذفت هؤلاء وجئت بعد ذلك إلى المحسوبين على المسلمين، وأيضاً تصفي منهم الذين يطوفون بالقبور، والأضرحة، ويسألون الأموات، ويستشفعون بالموتى، ويطلبون من الميت ما لا يقدر عليه إلا الله؛ إذا صفيت هؤلاء، ماذا يبقى؟!! ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: "أهل الإسلام في الأرض غرباء، وأهل السنة في المسلمين غرباء، والداعين إلى السنة المطبقين للسنة الحريصين على السنة، أهل الحديث وأتباع الدليل غرباء، كلما نشدت الحق الصافي ضاقت الدائرة".
ليست الأكثرية أبداً معياراً للتوصل إلى الحق؛ وهذه حجة باطلة أن أكثر الناس يفعل ذلك، خصوصاً عندما يتنفس في المجتمع المنكرات والانحرافات، ولو كنا في مجتمع الصحابة، لقلنا: والله أكثر أهل المدينة هكذا، الاحتجاج بعمل أهل المدينة، كان ذلك في عصر من العصور؛ عصر النقاء والصفاء، عصر المجتمع الإسلامي الأول الذي أسسه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
لو قلت: أكثر أهل المدينة كذا، لكن الآن لا يمكن أن تحتج بأكثرية الناس على شيء، ولذلك كان المذهب الغربي الفاسد قضية التعيين بالأغلبية، واختيار القوانين بالأغلبية، وسن التشريعات بالأغلبية، واختيار الانتخاب بالأغلبية؛ هذا مبدأ فاسد، لأن الأغلبية أصحاب هوى، وإذا ترك الناس أن يشرعوا بالأغلبية لا شك أنهم سيشرعون الكفر المحض.
أقول: إن مواجهة المنكرات الاجتماعية يجب أن يبين الشخص للناس قضية الاحتجاج بالأغلبية؛ لأن المنكرات الاجتماعية من طبيعتها كثرة توالي الناس عليه وعلى اتباعها، كذلك فإن إنكار المنكرات الاجتماعية يحتاج إلى تكوين بيئات صالحة لتقاوم هذه المنكرات الاجتماعية، فعندما يكثر في المجتمع مثلاً: البيئات الصالحة التي لا توجد في بيوت أهلها أجهزة اللهو المحرمة، ولا الشاشات البيئات الصالحة التي يحرص فيها أهلها على إتيان المساجد مع أولادهم، أو تحفيظ القرآن لأبنائهم، أو عندما ينتشر الحجاب؛ وينتشر الغطاء الشرعي، والقفازات والجوارب ونحو ذلك؛ هذا فيه مقاومة ومزاحمة للشر، وكذلك عندما يكثر الملتزمون بالسنة الحريصون عليها يكون فيه مزاحمة للمتساهلين بها وهكذا ينتشر الخير، فهذه وسيلة أخرى: تكوين البيئات الصالحة، لأن مواجهة الأكثرية التي جانبت الصواب بدعوات فردية من هنا ومن هنا لا تكاد تنجح، أما مواجهتها بتأسيس بيئات قوية هي بذاتها تكون دعوة بالقدوة، وعندما يرى الناس أن نموذجاً مطبقاً فهذا خير دعوة، وأحسن من ألف خطبة، وألف كتاب، وألف شريط، وألف شخص يتكلمون.
ثم إن هذه البيئات النظيفة تستقطب من فيهم بذرة خير يأتون إليها، ولذلك خذ مثلاً: مراكز تحفيظ القرآن الكريم للنساء على سبيل المثال، عندما توجد البذرة يوجد المجتمع يقوم مجتمع مصغر فيه العلم، وتحفيظ القرآن، والوعظ والتذكير؛ هذا هو الذي يصلح الناس يصلحهم إقامة البيئات التي تجذبهم، وتصهرهم إقامة البيئة التي تحتويهم وتحميهم إقامة البيئة التي تعلمهم وتساندهم وتقويهم إذا اهتدوا، فيجد الشخص سنداً، عنده اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة من المتدينين على مثل حاله، فعند ذلك سنشد عضدك بأخيك، وعند ذلك تكون المواجهة قوية مثمرة، وإلا فإننا نجلس على أفراد وعلى كلام، فهذا لا يكون من المقاومة ولا من الاستمرار على الحق إلا أمر في غاية الصعوبة.
فـ زيد بن عمرو بن نفيل واحد، ورقة بن نوفل واحد، قس بن ساعدة واحد، كانوا آحاداً فلم يعملوا شيئاً من ناحية التغيير، ولم يستطيعوا أن يصلوا إلى التغيير، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث أقام المجتمع الإسلامي الذي ترابط أفراده، وتعاقدوا وتعاهدوا وتعاونوا على البر والتقوى، الذين أقاموا الدين في أنفسهم، وبرهنوا للناس ولمجتمع قريش أن الإنسان يتغير، وكانوا يرونهم نماذج أمامهم، عندما ترى المرأة المشركة التي جعل خبيب عندها أسيراً في بيتها ترى ولدها يدب الرضيع إلى خبيب؛ خبيب سيُقتل حتماً، محكوم عليه بالإعدام، وهذا الطفل هذا ولد المشركة جاء إلى خبيب فأخذه خبيب وأقعده في حجره وجلس يلاطفه، فلما انتبهت المرأة فزعت؛ لأنه كان بيد خبيب موسى يستحد بها -الاستحداد هو حلق شعر العانة- فهو استعار الموسى ليستحد بها؛ وهذه من سنن الفطرة، فبقيت عنده الموسى وهو موثق، فدب إليه الولد فأقعده عنده وبيده الموسى، فلما انتبهت فزعت ورعبت هذا محكوم عليه بالإعدام، والآن فرصة لينتقم، وبيده الموسى وهذا الولد، لكنه ألغى هذه الفكرة من رأسه، أتظن أنه سيقتله؟ كلا، قالت: والله ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب؛ كان بـ مكة يأكل قطفاً من عنب وما في مكة عنب؛ وهذه من كرامات أولياء الله.
إذاً: الناس عندما يرون النموذج يتأثرون ويقتنعون وقد لا يُطبق في البداية، ولكن تبقى المشاهدة في نفسه بانتظار الوقت المناسب، تظهر وعلى شكل تنفيذ لما استقر في النفس من التأثر المسبق.
والحمد لله رب العالمين.(201/10)
الأسئلة(201/11)
مفهوم التمتع في الحج
السؤال
شخص ينوي أداء العمرة بعد العيد، ويرجع إلى المنطقة الشرقية وعنده نية أداء الحج.
هل يعتبر متمتعاً؟
الجواب
التمتع ينقطع بالعودة إلى بلده، فإذا اعتمر في شوال؛ وشوال من أشهر الحج، فإن التمتع ينقطع إذا رجع إلى بلده.(201/12)
أول ليالي العشر
السؤال
أول ليالي العشر هل هي بعد غدٍ؟ أم بعدها؟
الجواب
ليلة واحد من ذي الحجة هي أول ليالي العشر؛ فإذا انتهت العشر الأول تبدأ العشر الثانية، وآخر العشر الثانية يوم عشرين، وأول العشر الثانية يوم الحادي عشر، وأول العشر الثالثة ليلة واحد وعشرين.(201/13)
السترة في الصلاة
السؤال
هل يجوز أن يكون خط السجاد الذي أمامي سترة؟
الجواب
السترة من طبيعتها وصفتها: أنها مرتفعة عن الأرض، والسنة أن تكون مثل مؤخرة الرحل وأعلى، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يستتر وراء الجدار في الصلاة؛ يصلي وراء الاسطوانة، فالسنة ألا تنزل عن مؤخرة الرحل؛ وهو المرتفع الذي يكون في آخر الرحل الذي يوضع على الدابة.(201/14)
البنين أم البنون
السؤال
بالرفاء والبنين؟ أم بالرفاء والبنون؟
الجواب
بالرفاء والبنين؛ لأن البنين معطوفة على الرفاء؛ والرفاء مجرورة بالباء.
فكأنه يقول: بالرفاء وبالبنين.(201/15)
حكم من اختل عقله بمرض ونحوه
السؤال
أصيب الوالد بنزيف في الدماغ وهو الآن طريح الفراش، وعقله ليس كاملاً، وأحياناً يكون في حالة جيدة، وأحياناً في حالة سيئة، فهل يصلي أم لا؟
الجواب
إذا رجع إليه عقله صلى، وإذا كان يستطيع الصيام صام، وإذا غاب عنه العقل، فإنه ليس بمكلف، فلا يجب عليه لا الصلاة ولا الصيام.(201/16)
صحة حديث: (شيبتني هود وأخواتها)
السؤال
ما صحة هذا الحديث: (شيبتي هود وأخواتها) ومن أخوات هود؟
الجواب
حسن بعضهم الحديث بمجموع طرقه، وبعضهم قال: إنه ليس بصحيح.
وأخوات هود هي: المرسلات، وعم، وإذا الشمس كورت.(201/17)
العقيقة
السؤال
ما هي العقيقة؟
الجواب
العقيقة: هي ذبيحة تذبح اليوم السابع شكراً لله على نعمة المولود، وفكاً لأسر الشيطان وتأثيره عن المولود.
قال صلى الله عليه وسلم: (كل غلام مرتهن بعقيقته) مرتهن أي: أن الشيطان له نوع من التسلط على المولود، فينفك التسلط ويضعف تأثير إبليس بذبح العقيقة.
غير أنها طعمة للمساكين؛ يهدى منها إليهم، وإذا احتاج إلى كسر عظامها كسرها، وقال بعض العلماء: إنها لا تكسر، والحديث الذي فيه النهي عن كسرها ليس بصحيح، وذهب بعض العلماء إلى أنها تقاس على الأضحية، فتثلث أثلاثاً يأكل الثلث، ويهدي الثلث، ويوزع الثلث ويتصدق به على الفقراء.(201/18)
الحجة قائمة على قريش بدين إبراهيم
السؤال
هل يؤخذ من قصة زيد بن عمرو بن نفيل أن الحجة قائمة على قريش قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من مات منهم مشركاً بالله دخل النار؟
الجواب
نعم، هذه من الحجج، أن قريشاً قد أقيمت عليهم الحجة، وأن دعوة إبراهيم الخليل معروفة عندهم، وأن التوحيد معروف عندهم، ولذلك كان أبو طالب وعبد المطلب وأبو النبي صلى الله عليه وسلم وأمه في النار؛ لأنهم لم يموتوا على التوحيد، فكفار قريش الذين ماتوا قبل البعثة كان التوحيد معروف عندهم، ولكنهم اختاروا الشرك وكان فيهم دعاة التوحيد، منهم: زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت دعوة التوحيد موجودة عنده ومعروفة، لكنهم قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23].(201/19)
متابعة الإمام في الصلاة
السؤال
رجل صلى خلف إمام الصلاة الرباعية وسلم الإمام ناسياً في التشهد الأول، هل يقوم المأموم ويكمل الصلاة؟ أم يسلم مع الإمام؟
الجواب
لا يسلم، ولا يقوم، وإنما يسبح حتى يقوم الإمام يكمل الصلاة فيكملها معه، فإن أبى الإمام إكمال الصلاة أكمل هو الصلاة.(201/20)
ورقة بن نوفل قبل البعثة
السؤال
ما حال ورقة بن نوفل؟
الجواب
هو في الجنة؛ لأنه مات على التوحيد، أي: دخل دين النصرانية على التوحيد، وهو الذي أحس ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: وإن أدرك يومك أنصرك نصراً مؤزراً؛ إذا بعثت أنت وأنا حي فإنني أتعهد بنصرتك، قال: هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى، يعني: ورقة بن نوفل أدرك أول الوحي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع يقول: (زملوني زملوني) رجع مرتعداً مما رآه؛ من منظر جبريل، ولما أمسكه وضمه حتى بلغ منه الجهد، رجع النبي صلى الله عليه وسلم، وقامت خديجة إلى ورقة بن نوفل فأخبرته، فجاء وصدقه بما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا أول النبوة، وأول الدين، لكن ورقة ما نشب أن توفي قبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة.(201/21)
العمرة بغير نية مسبقة
السؤال
رجل كان يقيم في الطائف إقامة مؤقتة، فنزل إلى مكة فاعتمر عمرة لنفسه، وبعد ذلك ذهب إلى مدينة جدة، فأراد أن يصلي الجمعة في مكة، فقام بأخذ عمرة عن صاحبٍ له قد مات، ولم ينو إلا من جدة، فهل عمرته صحيحة؟
الجواب
نعم.
لأنه لم ينوِ إلا في جدة.(201/22)
حكم الجوائز في المسابقات
السؤال
ما حكم السيارة التي ربما تأتي جائزة في مسابقة ما؟
الجواب
هذه الجائزة ليست وصفاً لحكم، إنما يضعونها مكافأة أو مقابلاً، لكن إذا كان يشترطون لها اشتراطاً، وكان فيها دفع مال وأخذ كوبون ويتم عليه السحب، فهو نوع من الميسر.(201/23)
حكم إخراج الزكاة إلى خارج البلد
السؤال
ما حكم إرسال زكاة الفطر إلى خارج البلد؟
الجواب
لا يجوز، بل يغني بها فقراء بلده، فإذا لم يوجد فقراء في بلده يخرجها إلى خارج البلد.(201/24)
حكم السلام على غير المسلمين
السؤال
ما حكم السلام على غير المسلمين، مثل: الهندوس؟
الجواب
إذا كان اليهود والنصارى الذين هم أحسن من الهندوس لا يجوز إلقاء السلام عليهم، فما بالك بالهندوس؛ الذين إذا وجد الواحد منهم حذاء أخيه عند زوجته ترك البيت ورجع والعياذ بالله، يعني: عندهم وطء للمحارم، ووطء زوجة الأخ شيء عادي، وأن الأخ إذا جاء إلى بيته ووجد أخاه نائماً عند زوجته تركه ورجع، لا يجوز عندهم أن يقلق راحة أخيه عند زوجته.
ويكفي أنهم يقولون: إن الله- تعالى الله عن قولهم- حل في بقرة، لكن لا ندري في أي بقرة؟ ضاعت البقرة، الحل أننا نعبد جميع البقر لأن واحدة من البقر هي الإله.
فلذلك هؤلاء عباد البقر، وهؤلاء الذين احتج بهم الآغاخان، لما قيل له: إن طائفة يعبدونك؟ قال: إذا كانت الهندوس يعبدون البقر، ألست أحسن من البقر؟ أي: أنا أولى بالعبادة من البقر؛ هؤلاء كلهم في ضلال مبين.
فالشاهد: أن هؤلاء لا يجوز إلقاء السلام عليهم أبداً.
ومعروف اضطهادهم وقتلهم للمسلمين، وهدمهم لمساجد المسلمين، واعتداؤهم على المسلمين، واستغفالهم للمسلمين في بلدهم، ولذلك فهم أعداؤنا أعداء الله.
أما اليهود والنصارى فلا يجوز لنا أن نبدأهم بالسلام، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام).(201/25)
الفطر في السفر
السؤال
أراد رجل أن يسافر بعد العصر في رمضان.
هل يجوز له أن يفطر بعد الظهر؟
الجواب
كلا.
لا يجوز له أن يفطر إلا بعد أن يغادر البلد، فإذا فارق بنيان البلد أفطر، وقبل ذلك لا يجوز له أن يفطر، هذا مذهب جمهور أهل العلم، وكذلك الذي دلَّ عليه حديث جابر في إفطار النبي صلى الله عليه وسلم بـ عسفان بعد أن خرج من المدينة.(201/26)
حكم من حاضت بعد دخول وقت الصلاة
السؤال
أنا امرأة استيقظت وقت صلاة الفجر، ولكن نمت بعد ذلك تقريباً نصف ساعة، وعندما أردت أن أتوضأ لصلاة الفجر أحسست بأن الدورة قد نزلت عليَّ، ولو أني قمت على الوقت لما نزلت عليَّ، فهل أقضي أم لا؟
الجواب
إذا كانت تقول: إنه قد طلع عليها الفجر وهي طاهرة ولكنها لم تبادر إلى الصلاة فوراً؛ وانتظرت نصف ساعة ثم حاضت، فهل تقضي أم لا؟ العلماء في هذه المسألة لهم ثلاثة أقوال: - منهم من يقول: إذا دخل وقت الصلاة على المرأة وهي طاهر ثم حاضت، فإنها تقضي بعد ذلك تلك الصلاة الذي دخل عليها وقتها وهي طاهر، وحاضت أثناء الوقت.
- ومنهم من يقول: إنها لا تقضي.
- ومنهم من يقول: إنها إذا تراخت وأخرت الصلاة، ونزلت الدورة في آخر الوقت، ولم تصلِ، فعليها القضاء.
وأما إذا جاءت الدورة في أول الوقت فليس عليها القضاء، وكأن شيخنا الشيخ عبد العزيز قد مال إلى هذا في بعض فتاويه.(201/27)
الجن المؤمنون يدخلون الجنة
السؤال
هل الجن المسلمون في النار مع الشياطين؟
الجواب
كيف والله تعالى يقول: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36] هؤلاء في الجنة لا شك.(201/28)
حكم استخدام الجن في العلاج
السؤال
هل يجوز استخدام المسلمين للجن في العلاج؟
الجواب
إن كان يستخدمهم في أمر مباح جاز، ولكن إن أثبت لنا أنه يستخدمهم على نحوٍ مباح في أمر مباح؟ هنا المشكلة.(201/29)
استحباب الوضوء عند كل صلاة
السؤال
هل يلزم الوضوء عند كل أذان لكل صلاة؟
الجواب
لا.
لكن يستحب.(201/30)
حكم من دخل عليه رمضان وعليه صيام من رمضان الأول
السؤال
ما حكم من كان عليه صوم في رمضان، وأتى عليه رمضان الثاني دون أن يقضي ما عليه؟
الجواب
عند ذلك يلزمه الصوم وكفارة للتأخير: إطعام مسكين نصف صاع من قوت البلد، مثلاً: كيلو ونصف من الأرز، يطعم مسكيناً كفارة للتأخير مع القضاء.(201/31)
المدة الطبيعية للعادة الشهرية
السؤال
امرأة تأتيها العادة الشهرية أكثر من عشرة أيام، فنرجو توضيح ذلك؟ وما هي المدة الطبيعية للمرأة؟
الجواب
أكثر ما يكون عند النساء ستة أو سبعة أيام وهذا في الغالب، ولكنها قد تزيد، فما لم تبلغ خمسة عشر يوماً، فهي عادة، فلو أن امرأة عادتها إحدى عشر يوماً اثنا عشر يوماً ثلاثة عشر يوماً أربعة عشر يوماً؛ هذه عادة، فإذا زادت على خمسة عشر يوماً، فهذه استحاضة فترجع إلى عادتها الأصلية، وإن لم يوجد فترجع إلى عادة نسائها، كأمها وعمتها وخالتها وأختها ونحو ذلك.(201/32)
حكم تقسيم الميراث قبل الموت
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يقسم ميراثه قبل وفاته على أولاده؟
الجواب
نعم.
لا بأس، يعطي الثمن لزوجته و {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:11].(201/33)
دخول أرواح المؤمنين الجنة عند الموت
السؤال
عند موت الصالحين والأنبياء والشهداء هل يدخلون الجنة بأرواحهم وأجسادهم؟ أم بأرواحهم فقط؟
الجواب
بأرواحهم، فأرواح الشهداء مراتب، والمؤمنون مراتب؛ وهناك مؤمنون أرواحهم في حواصل طيرٍ خضرٍ تسرح في الجنة وتأوي إلى قناديل تحت العرش، تسرح في الجنة وتأكل من ثمر الجنة.
وهناك مؤمنون أرواحهم تعلق في شجر الجنة.
وهناك نوع من الشهداء أدنى منزلة من الشهداء الأولين أنهارهم عند بارق نهر بباب الجنة.
فالأرواح تذهب وتأتي وتطير وتدخل الجنة، أما دخول الأرواح مع الأجساد، فلا يكون إلا بعد قيام الساعة (أما إنك ستدخله ولكن ليس الآن) كما جاء في الرؤيا.(201/34)
الاهتمام بالمظهر وأخذ الزينة
السؤال
زوجي دائماً لا يهتم بمظهره ولبسه أمام الناس، فإذا قلت له: لماذا لا تهتم؟ قال: هذا شيء عادي بالنسبة لي، ويعلم الله أني أتضايق منه بسبب هذا الإهمال الزائد، ولكنه مهمل في شخصيته، وبيني وبينه مشاكل، إذا فتح باب الشقة، يشتم ويسب ويرفع صوته مع أنه يأتي الدروس والمحاضرات؟
الجواب
يجب على المرأة أن تطيع زوجها، وألا تغضبه وتتسبب في ثوران أعصابه، ويجب على الرجل أن يكون معاشراً لها بالمعروف، وأن لا يسبها ولا يشتمها، وأن يعتني بمظهره، وهي تقول: إنه يأتي الدروس والمساجد والمحاضرات، والله عز وجل يقول: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31].(201/35)
من فوائد دراسة التاريخ الإسلامي
نحن أمة ذات عراقة في التاريخ، أمة تاريخها يبدأ منذ أن كان الأنبياء قادة، والمؤمنون سادة، أمة لها تاريخ حقق الله فيه على أيدي المسلمين إنجازات كبيرة.
والحقيقة أن تاريخنا ممتلئ بالعبر والعظات، والأحداث والطرائف التي يجب أن نقف عندها وقفة المتأمل المستلهم؛ المستفيد مما حملته من أمور نحتاج إليها؛ لنربط بها حاضرنا بماضينا.(202/1)
فوائد عامة من معرفة التاريخ
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فأحييكم -أيها الإخوة- بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأقول في مطلع حديثي في هذه الليلة: إن التاريخ الإسلامي تاريخٌ عظيمٌ جداً، بدأ منذ بداية هذه البشرية من آدم عليه السلام، ونحن أمة ذات عراقة في التاريخ، وجذورنا ضاربة فيه، وبدايتنا مبكرة جداً، وتاريخنا لا يبدأ في هذا القرن، ولا في هذا الزمان، بل إنه قديمٌ جداً، تاريخٌ مشرق تاريخٌ كان فيه الأنبياء قادة، والمؤمنون سادة تاريخٌ عظيم حقق الله فيه على أيدي المسلمين إنجازاتٍ كبيرة، وهدى الله بأفرادٍ من هذه الأمة خلقاً من خلقه لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وهذا التاريخ دراسته ذات فوائد جمة، والذي يحرم من فوائد دراسة التاريخ فإنه يخسر كثيراً.
أيها الإخوة! هذا التاريخ الذي صنف فيه علماؤنا مصنفاتٍ كثيرة، وكتبوا الأحداث، وبينوا زمنها ومكانها حتى تكون الأجيال على وعيٍ، وحتى تتربى على بصيرة.
أيها الإخوة: سوف يكون حديثنا في هذه الليلة مقدمة لهذا الموضوع الكبير، وسيكون العنوان: (من فوائد دراسة التاريخ الإسلامي).
1 - التاريخ الإسلامي دراسته ذات فوائد تربوية؛ لأن المسلم يعلم من خلال دراسة التاريخ أن الأمة كانت مناطة بهدفٍ عظيم؛ ألا وهو استعمار هذه الأرض عمارتها بمنهج الله عز وجل، والأنبياء في هذا التاريخ كانوا قدوات، ونستلهم منهم نحن اليوم طريقة الحياة، والقيم والموازين الربانية التي بعثوا بها، وكذلك كيفية تحقيق المنهج في الأرض.
2 - من فوائد دراسة التاريخ: معرفة سنن الله سبحانه وتعالى في هذا الكون، والله له سننٌ لا تتخلف ولا تتبدل {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62] هذه السنن بعضها خارقٌ يجريها على أيدي أنبيائه بالمعجزات، وعلى أيدي أوليائه بالكرامات، وبعضها سننٌ جارية وهي الأعم الأغلب، مثل: تنفيذ وعد الله لأوليائه بالنصر {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ} [غافر:51] كما أن من هذه السنن إهلاك المكذبين.
3 - وكذلك فإن دراسة التاريخ تحوي في طياتها فوائد، مثل: معرفة أن هلاك الأمم يكون بالترف والفساد.
4 - ومن فوائد دراسة التاريخ: معرفة أن الله عز وجل يداول الأيام بين الناس، فتكون تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء ولا يدوم أحد، وكما قال أحدهم لخليفة: " لو دامت لغيرك ما وصلت إليك " وهذا دليلٌ على بقاء الله سبحانه وتعالى، وديمومة ملكه وانتهاء ملك الأمم والناس، فكم من دولة ظهرت، وكم من دولة سقطت، وكم من ملكٍ تولى ثم مات، وكم من خليفة استخلف ثم انتهت خلافته وانتزع ملكه، وهكذا يبقى ملك الله عز وجل هو الحي لا إله إلا هو، لا يموت سبحانه وتعالى مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء.
5 - نتعلم من دراسة التاريخ: مسألة ابتلاء الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، وكيف يصبر المؤمنون على ذلك، كقصة أصحاب الأخدود وغيرها.
6 - نتعلم من دراسة التاريخ: طبيعة الصراع بين الحق والباطل، والتدافع بين الحق والباطل، وأن هذه الدنيا منذ أن خلق الله فيها البشر والمعركة بين الحق والباطل مستمرة وقائمة لا تنتهي، وأن الحق يكون له الدولة في أزمان، والباطل قد يعلو في أزمان، لكن يبقى أصحاب الحق مستعلين بالمنهج والعقيدة: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين) بالظهور الذي قد يكون ظهور السلاح والملك، ولكن يكون دائماً ظهور العقيدة والحق الذي معهم يظهرون به على سائر الملل والنحل.
7 - وكذلك فإننا نتعلم من دراسة التاريخ -أيها الإخوة- معالم الحياة الإنسانية، وكيف بدأت البشرية، وأنها بدأت على التوحيد، وأن الفكرة التي تقول: " إن الديانة في الأرض تطورت من تعدد الآلهة إلى الإله الواحد " هي فكرة خاطئة ضالة، وأن الله أول ما خلق البشرية على التوحيد، وأن آدم وعشرة قرون بعده كانوا على التوحيد حتى ظهر الشرك في قوم نوح، فبعث الله سبحانه وتعالى نوحاً نبياً وهادياً.
8 - ونتعلم من دراسة التاريخ: سير العلماء والمجاهدين، وعلى رأسهم حواريو الأنبياء، وصحابة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتابعيهم.
9 - ونتعلم: أن الصبر على المشاق من لوازم حياة المؤمنين في هذه الأرض.
ونتعلم أيضاً: الحصانة الفكرية التي لا تجعلنا نخطئ في التعامل مع الأفراد والأمم، وفي نظراتنا إلى الدول المختلفة، وإلى الحكومات المتعددة؛ لأن هذا التاريخ يضع لنا الحروف على النقاط، ودراسته من خلال القرآن والسنة وأقوال المؤرخين الإسلاميين الثقات لها فوائد كثيرة، ومنها: الفضائل الأخلاقية التي تتربى عليها الأجيال المختلفة عندما يتعلم الناس كيف صبر السالفون، وما هي طبائعهم الفاضلة، وكيف حصل بسبب الأخلاق انتشار لهذا الدين.
11 - كما أن دراسة التاريخ تساعدنا على فهم الحاضر، لأن الحاضر هو جزءٌ من الماضي لا يمكن أن يقطع منه، والدليل على ذلك: أن كثيراً من الأديان الموجودة -الآن- أصولها قديمة، وأن معرفة الأصول القديمة تساعد على فهم واقع الأديان الحاضرة، وعلى فهم الملل والنحل الموجودة الآن.
زد على ذلك أن قولة: (التاريخ يعيد نفسه) قولة صحيحة ولا شك، وأن كثيراً من الأخطاء حصلت في الأزمان الماضية يمكن للأذكياء إذا درسوا التاريخ أن يتلافوا كثيراً منها، ولذلك كان من أكثر ما يؤدب به أولاد الخلفاء سير الماضيين، حتى يتعلموا أصول الحكم، وكيف يسوسون الرعية.
وكذلك -أيها الإخوة- فإننا في هذا الواقع الموجود الآن؛ من جهة أننا أمة مضطهدة ومحاربة، وأن الدولة الآن للكفار، وأن أعداء الله قد ظهروا على الأرض بقواتهم المادية، وإمكانياتهم التي أعطاهم الله إياها فتنة لهم، نتعلم كيف نواجههم، وكيف نصبر على أذاهم، وما هي السنن الربانية التي يجب أن نسير عليها، وكيف نستعمل المنهج في مواجهة الكفر والإلحاد؟ نحن نعلم أن هذا الزمان بما فيه من هذا التسلط والجبروت من أعداء الله سوف سيعقبه دولة للإسلام ولا شك إن شاء الله، وسوف يقوم للإسلام قائمة عظيمة إذا حصل ظهور جيلٍ من المسلمين يطبق الإسلام في نفسه، ويطبق الإسلام في المجتمع، وعند ذلك ستقوم دولة الإسلام عالية على جميع أمم الكفر ومذاهب أهل الأرض، ونحن نستعرض الآن نماذج من الأمور التي حصلت في التاريخ الماضي وكيف نأخذ منها عبراً ودروساً.
إن دراسة تاريخ الأنبياء ودعوات الأنبياء مسألة مهمة جداً، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] سِر على ذاك النهج، واختط نفس الطريق.(202/2)
فوائد من معرفة تاريخ ابن تيمية
نحن الآن لسنا بصدد دراسة تاريخ الأنبياء والدعوات؛ ولكن نريد أن نذكرها في البداية لنؤكد عليها، وعلى رأس ذلك سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وسيرة الصحابة من بعده والخلفاء الراشدين، وسير العلماء الذين كانوا يبينون للناس الأحكام الشرعية، عندما تقوم المحن يظهر دور العلماء عندما يعم الجهل يقوم المخلصون من أهل العلم بالبيان والصدع بالحق، مثلما قام الإمام أحمد رحمه الله لما ظهرت المبتدعة على أهل السنة بالقول بخلق القرآن.
ومثلما ظهر شيخ الإسلام رحمه الله لما تكالب المبتدعة من كل جانب، فصنف المصنفات للرد عليهم، سواء الباطنية، أو المنحرفة في باب الأسماء والصفات، أو المبتدعة ومجيزي التوسل وأصحاب الموالد، أو الذين كانوا يحاربون الدين من النصارى؛ فرد على النصارى واليهود، وبيَّن بياناً مهماً باطل التتر، لأن الناس عندما هجم التتر واكتسحوا بلاد العالم الإسلامي بعد فترة ادعى بعض التتر الإسلام، ولكنهم استمروا في هجومهم الكاسح، حتى وصلوا إلى قريب من دمشق، وعند ذلك خرج المسلمون لملاقاتهم، ولكن طرأت شبهة على المسلمين وهي: كيف نقاتل التتر وقد ادعوا الإسلام ونحن لنا الظاهر وهم ليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يدخلوا في طاعته أصلاً؟ وقد انطلت هذه المسألة على كثيرٍ من الناس، واحتاروا كيف يقاتلون التتر، وهذا قائد التتر قد جاء معه بإمام وقاضٍ ومؤذن، فكيف يقاتلوه؛ فظهر شيخ الإسلام رحمه الله علماً بارزاً وسراجاً منيراً، فقال للناس: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسين به من المعاصي والظلم وأكثر من ذلك، فتفطن العلماء والناس، وكان يقول شيخ الإسلام: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني -أي: إذا رأيتموني من جانب التتر وعلى رأسي مصحف فاقتلوني -ابدءوا بي أنا- ثم حمس الناس على القتال، وكان انتصاراً عظيماً للمسلمين في معركة شقحب بالقيادة الحقيقية لأهل العلم، وعلى رأسهم شيخ العلم ابن تيمية رحمه الله تعالى.
فلولا هذا البيان لحصل للناس ذعرٌ، وحصلت انشقاقات واختلافٌ كبير كان سيؤدي بهم إلى الهزيمة.
ثم قَعَّد شيخ الإسلام في بيان حقيقة التتار قواعد كبيرة، وبيَّن بأن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، وأنه لا بد من تصور حال التتار ومعرفة ما هم عليه، ولهذا فقد بيَّن أهل العلم أن معهم كتاب الياسق، وكتاب الياسق هو عبارة عن تشريعات مجمَّعة من ملة الإسلام واليهودية والنصرانية وأشياء من المذاهب المنحرفة الأخرى، جمَّعها لهم ملكهم وأمرهم أن يسيروا عليها.
فبيَّن لهم ابن تيمية أن خلط الحق بالباطل كفر، وأن هؤلاء يريدون استئصال شأفة المسلمين ولو كانوا على الحق، لماذا يغيرون على المسلمين؟ ولماذا يخربون مدن المسلمين؟ ولماذا يقتلون المسلمين إذاً؟ يقول شيخ الإسلام للناس: ليسوا أحق بالإسلام منا؛ ولذلك فقد كان بسبب هذا البيان خيرٌ عظيم.
ومن الأمثلة كذلك ما استعان به أهل الجرح والتعديل في كشف كذب الرواة، حيث استعانوا بالتاريخ في معرفة من لقي من الرواة البعض الآخر ومن لم يلقه، وكشفوا الانقطاع في الأسانيد من خلال التاريخ، بل ودرسوا من دخل المدينة الفلانية ومن لم يدخلها، ومن الذي يمكن أن يكون قد اجتمع بالراوي الفلاني.
ومن الذي لا يمكن أن يجتمع به، فكشفوا أموراً كثيرة من التدليس، وبينوا بناءً على ذلك صحة الأحاديث من ضعفها.
ومن الأمثلة الطريفة في استعمال التاريخ في كشف الأشياء المزورة، ما فعله الخطيب البغدادي رحمه الله، فإن بعض اليهود الخيابرة -من أهل خيبر - أظهروا كتاباً، قالوا: هذا كتاب من عهد النبوة، مكتوب في هذا الكتاب إسقاط الجزية عنهم، فلما عرض الكتاب على أمير المسلمين في ذلك المكان اطلع عليه الخطيب البغدادي رحمه الله، فقال الخطيب: هذا الكتاب كذب لا يمكن أن يكون صحيحاً.
فقالوا له: وما الدليل على كذبه؟ قال: لأنه موجود -لاحظ الذكاء والفطنة- من الشهود على الكتاب في الأسفل معاوية بن أبي سفيان وسعد بن معاذ، فأما معاوية فإنه أسلم عام الفتح، وخيبر كانت قبل الفتح، وأما سعد بن معاذ فقد قتل بعد الخندق بعد بني قريظة، وغزوة بني قريظة كانت قبل فتح خيبر، فكيف تدَّعون أنه شهد على الكتاب بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، فـ معاوية أسلم بعد خيبر وسعد مات قبل خيبر، فكشف زورهم وبهتانهم.(202/3)
كشف التاريخ حقائق الفرق الباطنية
إن دراسة التاريخ تكشف لنا أعداءنا، وتبين الخطورة التي هم عليها.
فعلى سبيل المثال: الباطنية بجميع فرقهم من ألد أعداء الإسلام؛ لأن عندهم عقائد كفرية كثيرة، وهؤلاء الباطنية بفرقهم المختلفة، مثل: القرامطة، والحشاشين، والنصيرية، والرافضة، والدروز وغيرهم لهم امتدادات موجودة إلى هذا الزمان، وهؤلاء كان لهم وجودٌ في الحقب الماضية، فكيف واجههم المسلمون؟ وكيف تكلموا على عقائدهم، وما زالت عقائدهم موجودة إلى الآن؟ ينبغي أن يُدرس تاريخ هؤلاء الباطنية بعناية شديدة، لأننا سنكتشف بعد دراسة تاريخ الباطنية أنهم من ألد أعداء الإسلام، فنحذر منهم في هذا الزمان، وربما نضطر أن نحذر منهم أكثر من اليهود والنصارى، ولذلك فلو درست تاريخ الباطنية وأخذت مثالاً على ذلك: حادثة القرامطة وما فعلوه في مكة سنة [317هـ] لاكتشفت أشياء عجيبة جداً، وإليك مثال على ذلك: خرج القرامطة جهة المشرق، وجهة المشرق كانت ولا زالت مصدراً للفتن منذ فجر الإسلام؛ مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (الفتنة من قبل المشرق، وأشار بيده إلى جهة المشرق) وأكثر الدجالين والباطنية والجيوش التي اجتاحت العالم الإسلامي قدمت من المشرق، ولا زالت الفتنة قائمة إلى الآن، وآتية من جهة المشرق كما تدل عليها الحوادث الموجودة، وهذا لا يعني أنه ليس هناك فتنٌ من جهة المغرب؛ بل قد حدث للباطنية أنفسهم كما حدث في دولة ابن تومرت الذي ظهر وادعى أنه المهدي، وعمل أشياء عجيبة، وقتل في المسلمين خلق كثير، وظهر من جهة المغرب.(202/4)
أفعال القرامطة في بيت الله وحجاجه
هؤلاء القرامطة الذين ترأسهم يوماً من الأيام أبو طاهر الجنابي جاءوا إلى مكة، ودخلوا يوم التروية فانتهبوا أموال الحجاج، واستباحوا دماءهم، وقتل في رحاب مكة وفي شعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة خلقٌ من المسلمين لا يعلمهم إلا الله، وجلس قائدهم أبو طاهر الجنابي -لعنه الله كما يقول ابن كثير في تاريخه - على باب الكعبة والمسلمون يقتلون حوله، وسيوف القرامطة تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام يوم التروية، وهو يقول:
أنا الله وبالله أنا أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا!!!
فكان الناس يفرون منه ويتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدي عنهم ذلك شيئاً، بل يُقتلون وهم متعلقون بأستار الكعبة، ويطوف هؤلاء القرامطة حول الكعبة فيقتلون الطائفين، وكان بعض أهل الحديث يطوف يومئذٍ، فلما قضى طوافه أخذته السيوف فأنشد وهو كذلك:
ترى المحبين صرعاً في ديارهمُ كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
ولما انتهى هذا القرمطي من قتل الحجاج حول الكعبة وفعل ما فعل أمر بإلقاء الجثث في بئر زمزم، ودُفن كثيرٌ من الناس في أماكنهم في صحن الحرم، ويا حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة في ذلك المكان وذلك الزمان، ولم يغسلوا، ولم يكفنوا؛ لأنهم شهداء قتلوا في إحرامهم في الحرم.
ثم أخذ الكسوة وفرقها على أصحابه، وأصعد رجلاً إلى الميزاب لكي يقتلعه، ثم أمر بأن يقتلع الحجر الأسود، فاقتلع الحجر الأسود من مكانه، وجعل أصحابه يطوفون ويقولون: أين الطير الأبابيل؟ وأين الحجارة من سجيل؟ يستهزئون بالمسلمين، ورجعوا بالحجر الأسود إلى بلادهم، ومكث عندهم الحجر الأسود [22سنة] والناس يطوفون بالكعبة من غير الحجر الأسود.
ولذلك لا تستغرب إذا وجدت في كتب بعض الفقهاء عندما يصف الطواف حول الكعبة، يقول: ويستلم الحجر [إن وجد] والذي لا يعرف هذه الخلفية إذا مر بعبارة الفقيه يقول: كيف يقول: [إن وجد] أي: ممكن لا يوجد؟!! نقول: نعم لقد مرت فترة طاف فيها المسلمون بالكعبة ولم يكن يوجد فيها الحجر الأسود، ثم رده الله من عندهم، هؤلاء الذين ألحدوا في المسجد الحرام إلحاداً عظيماً، هؤلاء الذين كان لهم اتصال بالفاطميين الذين ملكوا مصر بعد ذلك وهم من الباطنية، وكان بين فرق الباطنية تعاونٌ كبير، وهؤلاء لا زالت آثارهم ممتدة إلى الآن، ولا زالت محاولاتهم للإلحاد في البيت الحرام ممتدة إلى هذا الزمن.(202/5)
فوائد من تربية كل من أهل السنة والباطنية لأتباعهم
لا بد أن نقرأ ولا بد أن نعي تاريخ هؤلاء الباطنية، ثم نأخذ من التاريخ فوائد كثيرة في الفرق بين تربية أهل السنة لمن كان معهم وتربية الباطنية لمن كان معهم.
أهل السنة وعلماء السنة كانوا يربون من معهم على الدليل الصحيح، وعلى اتباع الحق، وعلى التضحية في سبيل الله، وعلى محبة الله ورسوله كانوا يربون من معهم على عمل الطاعات، وعلى الأخلاق الحسنة، وكان العالم في الحلقة يعلم الناس الخلق قبل أن يعلمهم العلم، لكن قل لي: كيف كانت تربية الباطنيين لأتباعهم؟! لما ظهرت فرق الحشاشين وغيرهم من الذين كانوا ينتقون الأفراد ويأخذونهم إلى بستان كبير جداً فيه نساء وخمور وأنواع الثمار والفواكه ثم يقنعون الشخص أن هذه هي الجنة، ويجلسونه في ذلك المكان فترة من الزمن، ثم يقولون له بعد ذلك: تذهب وتقتل القائد المسلم الفلاني، أو تقتل الخليفة الفلاني، أو تقتل العالم الفلاني، فإذا قتلوك ستدخل هذه الجنة.
وكذلك فإن من طريقة تربيتهم لأتباعهم: ما ذكره ابن كثير رحمه الله سنة [494هـ] تقريباً عندما قام أحد دعاتهم، واسمه: الحسن بن صباح، وتعلم الزندقة ثم صار ينتقي من الناس من كان غبياً جاهلاً لا يعرف يمينه من شماله، ثم يطعمه العسل بالجوز والشونيز حتى يعكر مزاجه ويفسد دماغه، ثم يذكر له أشياء من أخبار آل البيت، ويكذب له من أقاويل الرافضة أنهم ظلموا ومنعوا حقهم الذي أوجبه الله لهم، ثم يقول له: قم وقاتل لنصرة الإمام علي بن أبي طالب، ولا يزال يسقيه العسل حتى يستجيب له، ويصير هذا الشخص أتبع له من أبيه وأمه وأطوع، ويظهر له أشياء من الحيل التي لا تروج إلا على الجهال، حتى التف مع الحسن بن صباح هذا الباطني خلقٌ كثير.
وبعد ذلك حصل أن سلطان المسلمين أرسل له رسالة يتهدده ويتوعده وينذره، فأتى الباطني برسول المسلمين الذي معه الخطاب يريد أن يبين له حال أتباعه، ثم قال له: إني أريد أن أرسل منكم رسولاً إلى مولى هذا الرسول الذي أتى من عند المسلمين، فاشرأبت وجوه الحاضرين، فقال الحسن بن صباح الباطني لأحد أتباعه أمام رسول المسلمين: اقتل نفسك.
فأخرج سكيناً فضرب بها غرصمته فسقط ميتاً -انظر إلى أي درجة وصلت الطاعة العمياء- وقال لآخر منهم: القِ نفسك من هذا الموضع، فرمى نفسه من رأس القلعة إلى أسفلها فتقطع.
ثم قال لرسول المسلمين: هذا هو الجواب، فرجع.
إذاً: هكذا يربون أتباعهم، فالتاريخ حلقات متواصلة، وتربية الباطنيين لأتباعهم ما زالت مستمرة إلى هذا العصر؛ لذلك لا تستغربوا إذا رأيتم أتباع الباطنيين يلقون أنفسهم في المهالك مثل الجراد يتقاطرون ويلقون أنفسهم في خضم المعارك؛ لأنهم يعتقدون أنهم سيدخلون الجنة بطاعة الإمام، أو آية الله الفلاني ونحو ذلك، هذه التربية ما زالت موجودة عند فرق الباطنية إلى الآن، والذي يفشي أسرار الطائفة يعدم، ولا يطلع على أسرار الطائفة إلا من بلغ [40سنة] وأكثر، وهكذا طريقتهم موجودة إلى الآن في تربية أتباعهم.(202/6)
مؤامرات الباطنية على أهل السنة
إن من فوائد دراسة التاريخ: معرفة المؤامرات التي يدبرها الباطنيون لـ أهل السنة في كل زمانٍ ومكان، ولذلك فإن الباطنية وفرق الحشاشين -بالذات- اغتالوا عدداً من قادة المسلمين وعلمائهم، فمن ذلك: أنهم قتلوا مودود قائد المسلمين ضد الصليبين، واغتالوا ابن إمام الحرمين، واغتالوا وزير السلطان السلجوقي، واغتالوا الإمام أبو سعد الهروي القاضي، واغتالوا الخليفة المسترشد وقاموا بعدة محاولات لاغتيال صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
ومن طرقهم الخبيثة في الاغتيال: ما حصل في قتل فخر الملك أبو المظفر، هذا الرجل كان فيه جوانب من العدل والإحسان، خرج يوماً في آخر النهار، فرأى شاباً يتظلم، كأنه مسكين يشتكي وفي يده رقعة، فقال: ما شأنك، فناوله الرقعة، فبينما هو يقرأها، انتهز الفرصة، فأخرج خنجره فضربه به حتى قتله، هذه من الطرق.
ونفس القصة حصلت مع القائد الإسلامي مودود رحمه الله الذي كان يقاتل الصليبين، فقد جاءه أحدهم في هيئة سائل واقترب منه يسأله، فلما همَّ بأن يعطيه شيئاً أخرج خنجره فطعنه به وهكذا.
ومن نتائج ذلك: شماتة النصارى بأمة الإسلام؛ لأن الباطنيين محسوبون على المسلمين، كثير منهم يحسب الكفار أنهم مسلمون، وهم ليسوا من الإسلام في شيء، فحصل أن ملك النصارى أرسل رسالة إلى المسلمين يقول لهم بعد مقتل هذا القائد فيهم: "إن أمةً قتلت عميدها، في يوم عيدها، في بيت معبودها، لحقيقٌ على الله أن يبيدها ".
حتى النصارى صاروا يشمتون أفعال الباطنيين وما فعلوه في المسلمين، ويعتبرون أن هذه انشقاقات في صفوف المسلمين، ويعتبرون أن هذه هي أخلاق المسلمين، ولا زال الكفار إلى الآن إذا رأوا في وسائلهم المقروءة والمسموعة والمرئية بعض المناظر الملتقطة من بلدان فيها أناس من الباطنيين يظنون أن هذا هو الإسلام فيشمتون بالمسلمين، ويقولون: انظروا إلى الإسلام، هذا هو الإسلام، لا زالوا إلى الآن، ومؤامراتهم في اغتيال علماء المسلمين وزعمائهم موجودة إلى الآن، ومقتل الشيخ إحسان إلهي ظهير رحمه الله ومعه نفرٌ من العلماء في اجتماعٍ لأهل الحديث بواسطة مزهرية مفخخة؛ شاهدٌ على أن الباطنيين مؤامراتهم مستمرة لعلماء الإسلام حتى في العصر الحاضر، والذي لا يعرف يقرأ التاريخ.(202/7)
حال الباطنية لما حكموا المسلمين في مصر
من فوائد دراسة التاريخ: معرفة هؤلاء الباطنيين لما حكموا المسلمين مثل الدولة الفاطمية التي قامت في مصر ماذا فعلوا بالمسلمين؟ لقد فعلوا أفعالاً عجيبة جداً، وقد حصل في سنة [411هـ] أن قتل حاكم مصر ملك الفاطميين، واسمه ابن المعز الفاطمي كيف كانت سيرته؟ انظر إلى الحاكم عندما يسوس الناس بمزاجيته الفاسدة، ويسن فيهم أشياء عجيبة، يريد أن يتوصل من ذلك إلى هدفٍ خبيث، هذا الحاكم ابن المعز الفاطمي ماذا فعل؟ أمر أهل مصر على الخصوص إذا قاموا عند ذكره أن يخروا له سجداً، حتى إنه ليسجد بسجودهم من في الأسواق من الرعاع من لا يصلي الجمعة أصلاً، وكانوا يتركون السجود لله يوم الجمعة ويسجدون للحاكم.
وهذا الرجل من مزاجياته: أنه ابتنى المدارس وخربها، ورتب المشايخ وقتلهم، وألزم الناس بغلق الأسواق نهاراً وفتحها ليلاً، فامتثلوا لذلك دهراً طويلاً، حتى إنه مرة من المرات خرج بنفسه ليتفقد تطبيق القرار، فمر برجل قد فتح دكانه في النهار، فلما أخذ به ليبطشه قال: سهران يا مولاي سهران، يعني أنه سهران في النهار.
وكان يدور على الأسواق على حمارٍ ومعه أتباعه ومعه عبدٌ أسود، فإذا اكتشف رجلاً يغش في المعاملة أمر العبد الأسود أن يفعل به الفاحشة، وهذه عقوبة شنيعة ليست موجودة في دين الله، وكثيرٌ من العقوبات الأرضية الدنيوية فيها ظلمٌ لا توجد في شرع الله.
وكانت العامة تكرهه جداً، ويكتبون له الأوراق بالشتيمة البالغة في صورة قصص؛ فإذا قرأها ازداد غيظاً عليهم، حتى إن أهل مصر عملوا صورة امرأة من ورق مخفية بهذا الجلباب، وفي يدها قصة من الشتم واللعن، فلما رآها ظنها امرأة، فذهب من ناحيتها وأخذ القصة من يدها فقرأها فغضب جداً، فأمر بقتل المرأة، فلما تبين أنها من ورق ازداد غيظاً.
ثم بعد ذلك أنزل مماليكه وعبيده وجنوده إلى مصر ليحرقوها وينهبوا ما فيها من أموال أهل السنة ومتاعهم وحريمهم، فقاتل أهل مصر دون أنفسهم ثلاثة أيام، والنار تعمل في دورهم وحريمهم، وهو يخرج فيقف من بعيد وينظر إلى المعركة ويبكي، ويقول: من أمر بهذا، كل هذا ويقول: من أمر بهذا!!! وهذا مثال من الأمثلة التي طبقت فيها مزاجيات هذا الرجل ليتوصل في النهاية إلى ادعاء الألوهية وادعى أنه الله، وصار الحاكم بأمره، وكان الذي يسمى الحاكم بأمر الله، صار حاكماً بأمره هو، لأنه هو الله بزعمه.
بعض الناس يظنون أن النهي عن طبخ الملوخية وغلق الدكاكين في النهار وفتحها في الليل عبث، لكن الرجل كما ذكر أهل العلم كان يريد اختبار العامة، فإذا رآهم أطاعوه عند ذلك ادعى الألوهية، وهذا ما حصل، وهذا من خبث الباطنية وفعلهم.(202/8)
وقائع وأحداث عبر تاريخنا الإسلامي
عندما نقرأ التاريخ فإننا نجد أن هذه الأمة قد أصيبت بمصائب عديدة، فمن أهم المصائب بعد حروب الردة وخروج الخوارج والفرق التي حصلت بالمسلمين، والقرامطة والباطنية والحملات الصليبية، واجتياح التتر، بالإضافة إلى ذلك سلَّط الله على هذه الأمة لما ضعفت وابتعدت عن الهدي من سامهم سوء العذاب من الكفار أو من ظلمة المسلمين.(202/9)
معرفة مصدر مصائبنا
إن ما حصل للأمة الإسلامية مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم لما دعا ربه ألا يجعل أمته بأسهم بينهم، ولكنه لم يعطه هذه؛ فجعل الله بأس هذه الأمة بينها في كثيرٍ من المواطن لما ابتعدت عن تحكيم الشريعة، ولما حصلت البغضاء والشحناء والفرقة بينهم، سلط الله عليهم من داخلهم ومن خارجهم من يسومهم سوء العذاب.
ثم إن هذه الأمة أمة مرحومة، جُعل عذابها في دنياها تكفيراً لكثير من ذنوبها، ومن ذلك ما نقرأه في التاريخ من المصائب الكبيرة التي حلت بالمسلمين، ومن ذلك المصائب التي هي نوازل من الريح والخسف والزلازل والطوفان والأمراض والطواعين والجوع والفقر الذي سلط عليها، والذي لا تزال الأمة في كثيرٍ من البلدان تعيش فيه حتى الآن، نتيجة عدم تطبيق الشريعة.
إذا طبقت الشريعة في عهد عيسى بن مريم سيستظل الناس بقحف الرمانة -بقشرتها من كبرها- وستخرج الأرض كنوزاً من الذهب والفضة، وستكفي اللِّقْحَةُ الفئام من الناس تحلب في إناء، وسيطاف بالمال فلا يوجد أحد يقبله، عندما تطبق الشريعة تحل البركة في الأرض حتى يصبح الذئب على الغنم كأنه كلبها، وحتى يدخل الولد يده في الحية فلا تضره.
بسبب تطبيق الشريعة في الأرض يعم السلام والأمن في الأرض في عهد عيسى بن مريم.
لكن انظر ماذا حل بالمسلمين عندما ابتعدوا عن تطبيق الشريعة، فإن الله عز وجل قد أرسل عليهم جوعاً عظيماً في الماضي والحاضر، وابتلاءات بنهب الأموال وقتل بعضهم لبعض، وإليكم شيئاً مما حصل من المصائب في الجوع.
في عام [462هـ] حصل في مصر غلاءٌ شديد حتى أكلوا الجيف والميتات والكلاب، وكان يباع الكلب بخمسة دنانير ليأكل، وماتت الفيلة، فأكلت ميتاتها، وأفنيت الدواب، وكان الوزير له خيول كثيرة جداً فلم يبق منها إلا ثلاث؛ لأن الناس كانوا يتخطفونها ليأكلونها، واكتشف رجلٌ يقتل الصبيان والنساء ويبيع لحومهم، فقتل وأكل الناس من شدة الجوع لحمه، وكانت الأعراب يقدمون بالطعام يبيعونه بظاهر البلد؛ لأنهم يخافون أن يخطف منهم إذا دخلوا البلد، وكان لا يجسر أن يدفن الميت بالنهار إنما يدفن في الليل خفية؛ لئلا يُنبش فيؤكل.
وحدث أن الناس من كثرة الموت لم يستطيعوا دفن بعضهم بعضاً، ودفن العشرون والثلاثون في قبرٍ واحد، وبعضهم ماتوا من الدفن فصاروا يرمون في البحر، وحصل كذلك أن أكل الناس الجيف والنتن من قلة الطعام، ووجد مع امرأة فخذ كلبٍ قد اخضر، وشوى رجلٌ صبية في فرنٍ فأكلهم، وسقط طائرٌ ميتاً من حائطٍ فاحتوشه خمسة من الناس فاقتسموه وأكلوه.
وأحصي من مات من الوباء في بخارى وتلك البلاد بألف ألف وخمسمائة ألف وخمسين ألف إنسان، والناس يمرون في البلاد فلا يرون إلا أسواقاً فارغة، وطرقاتٍ خالية، وأبواباً مغلقة، ووحشة وعدم أنس، وكان الفقراء يشوون الكلاب، وينبشون القبور، ويشوون الموتى فيأكلونهم، وليس للناس شغلٌ في الليل والنهار إلا غسل الأموات، فكانت تحفر الحفر فيُدفن فيها العشرون والثلاثون.
وتاب كثيرٌ من الناس، وتصدقوا بأكثر أموالهم فلم يجدوا أحداً يقبلها؛ لأن الناس لا ينتفعون بالأموال إنما يريدون أكلا، ً وكان الفقير تعرض عليه الثياب والدنانير الكثيرة، فيقول: أريد كسرة خبز أسد بها جوعي.
وأراق الناس الخمور، وكسروا آلات اللهو، ولزموا المساجد للعبادة وقراءة القرآن، وقلَّ دارٌ يكون فيها خمرٌ إلا مات أهله كلهم.
ودخل على مريضٍ له سبعة أيام في النزع ينازع ليموت ولم يمت، فأشار بيده إلى مكان، فوجدوا فيه خابية خمر فأراقوها، فمات من وقته بسهولة.
ومات رجلٌ في مسجد فوجدوا معه (50000درهم) فعرضت على الناس فلم يقبلها أحد، فتركت في المسجد تسعة أيام لا يريدها أحد، فدخل أربعة ليأخذوها بعد ذلك فماتوا عليها، ولم يخرج من المسجد منهم أحدٌ وهو حي.
والمشكلة أن المصيبة إذا نزلت تعم الناس جميعاً، وحصل موت في العلماء والفقهاء وطلبة العلم، حتى إن فقيهاً كان يدرس عليه في الفقه (700) نفس فلم يبق منهم أحياء إلا (12) نفساً.
وحصل طوفانٌ شديد في بعض الأزمنة، كما حصل في بغداد سنة (775هـ) حتى صارت السفن تنقل الناس من مكان إلى مكان، ومن تل إلى تل، ثم يصل الماء إليهم فيغرقهم {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود:43].
وإذا نظرت اليوم إلى حال المسلمين في الأرض تجد أن كثيراً من البلدان قد حصل فيها من أنواع الطوفان والمجاعات والحروب والأمراض والطواعين ما لا يعلمه إلا الله، وهذه المصائب -أيها الإخوة- لا تحدث في الأرض إلا بسبب، فعدم تطبيق الشريعة، سببٌ لنزع البركة، ونزول المصائب، وحصول الآفات، وحصول الاعتداءات من الكفار على المسلمين، هذا كله نتيجة عدم تطبيق الشريعة.
وقد حصل أيضاً تسلط لأعداء الله من التتر كما ذكرنا في درسٍ سابق، ومن النصارى الذين دخلوا بيت المقدس عام (492هـ) يوم الجمعة، وكان عددهم مليون مقاتل تقريباً، فعاثوا في المسجد فساداً، وأخذوا قناديل المسجد، وما فيه من الحلي، وقتلوا الناس في ذلك المكان، حتى بلغ عدد القتلى (60 ألفاً) فأكثر، وصار الناس يهربون، وفزعوا إلى إخوانهم المسلمين في أماكن أخرى ليقولون لهم: أنجدونا فلم ينجدهم أحد.
ومع الأسف! أن الخطباء قاموا على المنابر وندبوا الناس إلى الجهاد، وخرج أعيان الفقهاء إلى الناس يحرضوهم على الجهاد فلم يخرج أحد، حتى قال أحد شعراء المسلمين:
مزجنا دمانا بالدموع السواجم فلم يبق فينا عرضة للمراجم
وشر سلاح المرء دمعٌ يريقه إذا الحرب شبت نارها بالصوارم
فيا بني الإسلام إن وراءكم وقائع ملحقن الذرى بالمناسم
وكيف تنام العين ملئ جفونها على هفواتٍ أيقظت كل نائم
وإخوانكم بـ الشام يضحى مقيلهم ظهور المذاكي أو بطون القشاعمِ
تسومهم الروم الهوان وأنتم تجرون ذيل الخفض ذيل المسالم
النصارى دخلوا واحتلوا البلاد، ثم قال:
أرى أمتي لا يشرعون إلى العدى رماحهم والدين واهي الدعائم
ويجتنبون النار خوفاً من الردى ولا يحسبون العار ضربة لازم
وهكذا بقيت الأمور حتى قيض الله لهذه الأمة عماد الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي ومن بعدهم من المماليك الذين طردوا النصارى من بلدان المسلمين: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].(202/10)
محمود بن سبكتكين ومحاربته للشرك
إذا قرأنا التاريخ نجد فيه ما فعل قادة المسلمين من إزالة الشرك وأنواعه من الأرض، فنعلم أن من الأوليات التي يجب أن يسعى إليها المسلم إزالة الشرك وقتال المشركين: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39].
هذا ما ينبغي أن تفعله أمة الإسلام أن تقاتل المشركين حتى يزول الشرك، فإذا قام بعضهم بالواجب من سد الثغور، وغزو من يُستطاع غزوه من المشركين، وإلا أثم المسلمون كلهم.
ولقد سجل التاريخ مواقف مشرفة لبعض قادة المسلمين، ومنهم: السلطان العظيم محمود بن سبكتكين الذي دخل بلاد الهند فاتحاً، ووصل فيها إلى أماكن لم يصلها أحدٌ بعده، ومن ذلك: أنه كسَّر الصنم الأعظم المسمى بـ (سومناة)، وكان أهل الهند يفدون إليه من كل فجٍ عميق أعظم مما يفد الناس إلى الكعبة والبيت الحرام، وينفقون عنده النفقات والأموال الكثيرة التي لا توصف، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية، كل هذه الغلات للصنم ولمن يزور ويحج للصنم، وقد امتلأت خزائن الصنم أموالاً وعنده ألف رجلٍ يخدمونه، وثلاثمائة رجل يحلقون رءوس الحجاج الذين يأتون إلى الصنم، وثلاثمائة رجلٍ يغنون ويرقصون على بابه، وكان عند الصنم من المجاورين الذين يأكلون من أوقاف الصنم آلافاً مؤلفة، وقد كان البعيد من الهنود يتمنى لو بلغ هذا الصنم.
ثم استخار الله السلطان محمود لما بلغه خبر هذا الصنم، وكثرة عبادة هذا الصنم من الهنود، فتجشم المشاق، وجهَّز الجيش، وقطع الأهوال، وانتدب معه ثلاثين ألفاً من المسلمين حتى وصلوا إلى ذلك المكان وسلمهم الله، فدخلوا البلاد التي فيها الوثن، ونزلوا بساحة عَبَّادِه فقتلوا من أهله خمسين ألفاً، وقلعوا الوثن، وأحرقوه بالنار.
وكان أهل الهند قد بذلوا لـ محمود أموالاً جزيلة ليترك لهم الصنم، وأشار عليه بعض الأمراء بأن يترك الصنم ويأخذ الأموال، فقال: أستخير الله، فلما أصبح قال: إني فكرت في الأمر الذي ذكر، فرأيت أنه إذا نُوديتُ يوم القيامة: أين محمود الذي كسَّر الصنم، أحب إلي من أن يُقال: أين الذي ترك الصنم لأجل ما ينال من الدنيا، ثم عزم فكسره رحمه الله، ووجد فيه من الجواهر واللآلئ والذهب أضعاف أضعاف ما عرضه عليه الكفار ليستنقذوا صنمهم.
إذاً: هذا نموذج من النماذج التي يعرضها التاريخ الإسلامي للقادة المسلمين الذين سعوا في الأرض ليطهروها من الشرك وكيف نصرهم الله عز وجل.(202/11)
نماذج مشرفة لقضاة المسلمين
إن دراسة التاريخ تعطينا نماذج مشرفة من قضاة المسلمين في ذكائهم وعدلهم وجرأتهم، فمن ذلك: القاضي إياس رحمه الله تعالى، الذي ناقشه رجلٌ مرةً في الخمر -النبيذ- هل هو حرام أم لا؟ فقال القاضي: إنه حرام.
فقال الرجل: أخبرني عن الماء هل هو حلال أم لا؟ قال: نعم.
قال: فالكسور -هذه المادة التي يصنع منها النبيذ- قال: حلال.
قال: فالتمر.
قال: حلال.
قال: فما باله إذا اجتمع وخلط صار حراماً؟ انظر الشبهة! فقال له إياس رحمه الله: أرأيت لو رميتك بهذه الحفنة من التراب أتوجعك.
قال: لا.
قال: فبهذه الحفنة من التبن أتوجعك؟ قال: لا.
قال: لو رميتك بهذه الغرفة من الماء أتوجعك؟ قال: لا.
قال: أرأيت لو خلطت هذا بهذا وهذا بهذا حتى صار طيناً ثم تركته حتى تحجر ثم رميتك به أيوجعك؟ قال: إي والله وتقتلني.
قال: فكذلك تلك الأشياء إذا اجتمعت.
وبلغ من ذكائه وهو صغير أنه كان يهب إلى الكُتَّاب -مكان يتعلم فيه الصبيان القراءة والكتابة.
فكان فيه نصارى وكان -مع الأسف- الأستاذ نصراني- قال: فكان صبيان النصارى يستهزئون بالمسلمين، ويقولون: إن المسلمين يزعمون أن أهل الجنة طعامهم لا فضلة له -أي: أهل الجنة إذا أكلوا لا يخرج منهم مخلفات- فالنصارى يقولون: هذا مستحيل ولا يمكن، ويستهزئون بالمسلمين على هذا، وهذا ثابت عندنا أن أهل الجنة تخرج الفضلات منهم على هيئة رشح رائحة المسك ثم تضمر بطونهم، فيأكلون ويخرج رشح كالمسك، فتضمر بطونهم، فيأكلون ولا يمتخطون ولا يتبولون، هذه الفكرة صارت عند صبيان النصارى شيء يستهزئون به على المسلمين.
فقال القاضي إياس رحمه الله -وكان صغيراً- للمعلم النصراني: ألست تزعم أن في الطعام ما ينصرف في غذاء البدن قال: بلى.
قال: فهل هو بعيدٌ على الله أن يجعل طعام أهل الجنة كله غذاءً لأبدانهم ولا يخرج منه شيء، فقال المعلم: أنت شيطان.
أي: مثلما يقول المعلم: أنت ذكي أنت عفريت، فهذا أيضاً ما حصل منه.
كان القاضي إياس رحمه الله ذكياً جداً، وذكاؤه في القصص ليس هذا موضعه، ولكن المقصود أن نُري كيف كان قضاة وعلماء المسلمين يردون على أهل البدع ويفحمونهم، ولا نقول: إنهم كلهم على الحق، وكلهم لم يأخذوا الرشوة ولكن يوجد نماذج ممتازة جداً يجب أن تعرض، ولعل أن تكون هناك فرصة أخرى لنعرض تلك النماذج.(202/12)
نموذج رائع لبعض الملوك الذين لم تغيرهم المناصب
عندما نقرأ التاريخ الإسلامي أيضاً نجد الموقف الصحيح لصاحب المنصب، يوجد بعض الناس استغلوا مناصبهم في السوء، ولكن بعض الناس استغلوا مناصبهم في الأشياء التي هي من الطاعات، فاستغلوا المناصب في نشر العلم، واستغلوا المناصب في بناء المدارس، وفي وضع رواتب للعلماء وأهل الخير وعمل الأوقاف عليها استغلوا المناصب في قمع أهل البدع وإظهار السنة وهكذا، وهذا تتبعه مهم حتى يتبين لأهل المناصب في زماننا ما يجب أن يكونوا عليه.
فهذا مثلاً نظام الملك الوزير الحسن بن علي بن إسحاق رحمه الله تعالى: مع أنه كان وزيراً فإنه نشأ في طلب العلم، فلما أصبح وزيراً استعمل إمكانياته المادية والمعنوية ووجاهته في نشر العلم، وبنى المدرسة النظامية بـ بغداد، وسميت النظامية نسبة إليه؛ لأنه يعرف بـ نظام الملك، وكان مجلسه عامراً بالفقهاء والعلماء، وكان يقضي غالب نهاره معهم، وهكذا ينبغي أن يكون حال أهل المناصب اليوم، يقربون الصالحين، ويباعدون الطالحين.
وكان إذا سئل وقيل له: إن هؤلاء يشغلونك؟ قال: هؤلاء جمال الدنيا والآخرة، ولو أجلستهم على رأسي ما استكثرت ذلك، وإذا دخل عليه أبو القاسم القشيري وأبو المعالي الجويني قام لهما وأجلسهما في المقعد، وإذا دخل عليه أبو علي الفرندي قام وأجلسه مكانه وجلس بين يديه، هذا الوزير يجلس بين يدي الشيخ، فعوتب، فقال: إنه إذا دخل علي ذكرني عيوبي وظلمي، فأنكسر وأرجع عن كثيرٍ من الذي أنا فيه.
وكان محافظاً على الصلوات في أوقاتها لا يشغله بعد الأذان شغلٌ عنها.
تأمل الآن في حال أصحاب المناصب والوظائف، يجلسون في اجتماعات العمل والمؤذن يؤذن والناس يذهبون للصلاة وهم جالسون في اجتماعات العمل، وربما يخرج وقت الصلاة وهم لا يزالون في اجتماعات العمل، فتباً لهذه الاجتماعات، ولا بارك الله فيها ما دامت تشغل عن الصلاة، فلينتبه أهل المناصب من المسلمين لذلك.(202/13)
بعض القدوات في أغنياء المسلمين
نقرأ التاريخ فنجد قدوات من الأغنياء من المسلمين كيف كانت معاملتهم للفقراء؛ فهذا أبو شجاع الوزير: كان غنياً جداً، ومع ذلك فإنه أنفق أمواله في الخيرات وأكثر الإنعام على الأيتام والأرامل.
وقد حصل أنه ذات مرةٍ أوتي بأنواعٍ من الحلويات -قطايف عليها السكر- فتذكر أن هناك فقراء في البلد لا يذوقون هذا الطعام، لأنه طعام لا يجلب إلا لخاصة الناس -تأملوا! وزير يُؤتى له بطعام لا يؤتى إلا لخاصة الناس- فذهب به كله إلى الفقراء فقسمه عليهم ولم يأكل شيئاً منه.
وجلس مرة للطعام، فقيل له: إن هناك أربعة أيتام وأرملة في مكانٍ ما في البلد، فرفع يده عن الطعام فذهب به إليهم ومعه نفقة، وكان الوقت شتاء، فخلع رداءه في البرد، وقال: لا ألبسه حتى أخبر أن الطعام والنفقة قد وصلت إليهم.
فأين أغنياء المسلمين عن الفقراء اليوم؛ الذين ينفقون أموالهم في كثير من التراهات والمفاسد، ويستفيد الكفار من الأموال المودعة في الخارج، وفقراء المسلمين يئنون في أطراف آسيا وأفريقيا من الجوع فلا يغيثهم أحد، ولا يتفطن لحالهم أحد، وهؤلاء الذين يبطرون النعمة، لا بد أن يأتيهم من الله عذابٌ في الدنيا أو في الآخرة! وسوف نورد أمثلة وإلا فالتاريخ فيه الصالح والطالح، هذا أحمد بن علي أبو بكر العلوي رحمه الله كان يعمل في تجصيص الحيطان ولكنه كان لا ينقش صورة، لأن نقش الصور لا يجوز، وكان يتكسب من عمل يده، ونجد كذلك أن هناك بلدان في التاريخ الإسلامي كانوا أهل سنة وأهل طاعة، ومن ذلك: بلدة كيلان التي ينتسب إليها الكيلانيون، هذه البلدة وقعت بينها وبين التتر حروب، فطلب ملك التتر منهم أن يجعلوا له طريقاً داخل بلادهم، فامتنعوا، فأرسل جيشاً كثيفاً فأمهلهم أهل كيلان حتى دخلوا البلد، ثم أرسلوا عليهم خليجاً من البحر كان محبوساً بأشياء، أرسلوا السدود على الجيش، ورموهم بالنفط وهو يحترق، فغرق كثيرٌ منهم واحترق آخرون، وقتلوا بأيديهم طائفة كثيرة، وقتلوا أميرهم فلم ينج من التتر إلا قلة.
يقول ابن كثير رحمه الله: وبلادهم من أحصن البلاد وأطيبها لا تستطاع، وهم أهل سنة لا يستطيع مبتدعٌ أن يسكن بين أظهرهم -الله أكبر- لما يظهرون في البلد من الطاعات، فأين مدن المسلمين اليوم التي يعيش فيها كل من هب ودب من الكفرة والمجرمين وأهل البدع وغيرهم، أين هي البلاد التي يتمسك أهلها بالسنة فيكونون مجاهدين في سبيل الله؟!(202/14)
مواقف العامة تجاه من اعتدى على الإسلام
ينبغي أن لا ننسى -أيضاً- أنه مرت في التاريخ الإسلامي أحداثاً جيدة تعبر عن حمية العامة للإسلام، ففي إحدى السنوات قام أربعة من الرهبان ودعوا فقهاء المسلمين لمناظرتهم، فلما اجتمعوا جهر هؤلاء الرهبان بالسوء من القول وصرحوا بذم الإسلام، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ساحر كذاب، فثار الناس عليهم فقتلوهم وأحرقوهم، فأين العامة الذين توجد في نفوسهم حمية للإسلام؛ بحيث إنه إذا صار شيء وأهين الإسلام قام العامة على من أهان الإسلام فأذاقوه صنوف العذاب، بل على العكس قد يهان الإسلام في المجالس قد يهان الإسلام في بعض الشوارع والمحلات والعامة ساكتون، لا يستطيعون أن يغيروا شيئاً.
ونجد كذلك في دراسة التاريخ وأحداثه أمثلة من تغيير أماكن الفسق إلى أماكن العبادة: فيذكر ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه التاريخ المشهور يقول: كان هناك دارٌ عرفت بدار الفاسقين في بولاق خارج القاهرة؛ لكثرة ما يجري فيها من أنواع المحرمات، فاشتراها الأمير عز الدين الخطيري رحمه الله، استغل أمواله بماذا؟ اشترى مكان فسق فيه خمور وزنا وفواحش، مرقص وملهى، اشتراه بنقوده وهدمه، وبنى مكانه الجامع في عام (737هـ) وسماه جامع التوبة.
لاحظ العلاقة بين المبنى السابق واسم المبنى الجديد (جامع التوبة) وكان الخطيري بالغ في عمارته حتى كان من أحسن الجوامع، وهذا الجامع موجود إلى الآن، وقد يعرف الآن باسم (جامع الخطيري) وهو في ناحية بولاق في شارع (فؤاد الأول قرب النيل)، وفيه صحن سمائي وتحيط به أروقة ومئذنة، وقد تهدَّم جزءً منه ثم عمر بعد ذلك، وربما الذين يعرفون مصر جيداً يعرفون هذا المسجد، فإذا مروا به وتذكروه فإنهم يتذكرون رجلاً عظيماً من المسلمين اشترى مكان فسق فهدمه وبنى بدلاً منه مسجداً يذكر الله فيه، فكم عظم الأجر؟ أول شيء درأ المفسدة، ثم جلب المصلحة.
ولا زال هناك بقية من أهل الخير في هذا الزمان ولله الحمد، فهلَّا قام أغنياء المسلمين بشراء الملاهي وأماكن الفسق ليبنوا فيها مساجد أو أماكن للطاعات؟! وقد حصل قبل سنواتٍ في بلدة من بلاد الشام أنه كان فيها ملهى معروف يسمى بـ (المونتانا) اجتمع بعض أهل الخير وجمعوا التبرعات واشتروا الملهى، وبنوا فيه جامعاً وهو موجود الآن يسمى (جامع الفرقان) فرقان بين الحق والباطل، فهلا كثرت هذه الأمور أيضاً؟ وكذلك فإننا إذا استعرضنا التاريخ أيضاً سنجد فيه أموراً من الفقه والأحكام الشرعية وطرائف فقهية وهي كثيرةٌ جداً، ونضرب مثالاً واحداً: عبد الملك بن إبراهيم أبو الفضل الهمداني رحمه الله تعالى، كان رجلاً قد درس العلم الشرعي وكان ظريفاً لطيفاً، كان يقول: كان أبي إذا أراد أن يؤدبني أخذ العصا بيده -وكانت مسألة الجهر بالنية مشهورة- ويقول: نويت أن أضرب ولدي تأديباً كما أمر الله.
قال: وإلى أن ينوي ويتم النية أكون قد هربت.
فهذه مسألة الجهر بالنية من البدع الشائعة، وهي إلى الآن لازالت موجودة شائعة، ترى الواحد إذا قام يصلي قال: نويت أن أصلي لله فرض الظهر الحاضر جماعة وراء الإمام مستقبل القبلة أربع ركعات إلخ وهذه البدعة عبارة عن استحسان استحسنه بعض الناس والله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] فلا حاجة للتلفظ بالنية.
فمثل هذه الطرف ترد في ضمن كتب التاريخ، وكتب التاريخ الإسلامي تحوي أحكاماً فقهية، ومناظرات علمية في غاية الجودة والروعة.(202/15)
التاريخ ومعرفة السنن الكونية في انتقام الله من الناس
عندما ندرس التاريخ الإسلامي نجد مصداقاً للسنة الكونية في انتقام الله من الناس، عندما يترفون وينفقون الأموال ويسرفون فيها ويبذرون، فإليكم مثالاً واحداً في المرحلة الزمنية التي هي وقت اجتياح النصارى لبلاد المسلمين، والتشرذم الذي حصل في بلاد المسلمين وقيام بعضهم بقتل بعض، وقيام الدولة الفاطمية في مصر التي أزيل ذكر الخلافة العباسية من على المنابر وصار يذكر الحاكم الفاطمي على المنبر ويدعى له بدلاً من الخليفة العباسي، وما صار الأمر إلى ما صار إليه إلا بانتشار مثل هذه الحوادث التي سأذكر واحدة منها الآن: في سنة (480هـ) نقل جهاز ابنة السلطان إلى دار الخلافة -انظر الزواجات في القديم والحديث، فأهل السوء لا يزالون يبذرون الأموال- على مائة وثلاثين جملاً مجللة بالديباج الرومي غالبها من أواني الذهب والفضة، وعلى أربعٍ وسبعين بغلة مجللة بأنواع الديباج الملكي، وأحلاسها وقلائدها من الذهب والفضة، وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقاً من الفضة فيها أنواع الجواهر والحلي، وبين يدي البغال ثلاثة وثلاثون فرساً عليها مراكب الذهب مرصعة بالجواهر، ومهدٌ عظيمٌ مجللٌ بالديباج الملكي عليه صفائح الذهب ومرصعٌ بالجوهر.
وبعث الخليفة بالوزير لتلقيهم وبين يديه نحو ثلاثمائة مويكبة غير المشاعل لخدمة الست فلانة امرأة السلطان، وحضر الوزير وأعيان الأمراء وبين أيديهم الشموع والمشاعل ما لا يحصى، وجاءت الأميرات مع كل واحدة منهن جماعتها وجواريها، وبين أيديهن الشموع والمشاعل، ثم جاءت زوجة الخليفة بعد الجميع في محفة مجللة وعليها من الذهب والجواهر مالا تحصى قيمته، وقد أحاط بالمحفة مائتا جارية تركية بالمراكب المزينة العجيبة تبهر الأبصار، ودخلت دار الخلافة وقد زينت حرمه وأشعلت فيها الشموع إلخ.
بمثل تضييع أموال المسلمين هكذا حصل ما حصل من المصائب العظيمة التي نكبت المسلمين.(202/16)
التاريخ وخداع المشعوذين
عندما نقرأ التاريخ نجد فيه أخبار المشعوذين والدجاجلة وكيف كانوا يخدعون الناس، والأشياء الموجودة الآن في أماكن مختلفة من البلدان كانت موجودة في السابق.
ومن ذلك مثلاً: ما حصل أن رجلاً من الصوفية -والصوفية لا زالوا يخدعون الناس في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي- خدع الملك الظاهر برقوق وأوهمه أنه من أولياء الله، فاعتقد هذا السلطان بهذا الشيخ وهذا الولي -كما يزعمون- وكان إذا دخل الشيخ شفع عند الملك، ثم وصل الأمر إلى درحة أن هذا المشعوذ كان يحضر مجلس السلطان العام ويجلس معه بجانبه على المقعد الذي هو عليه، ويسبه بحضرة الأمراء، وربما يبصق في وجهه ولا يفعل السلطان له شيئاً، لماذا؟ من أثر هذا المشعوذ على السلطان، وكان يدخل المشعوذ على حريم السلطان فلا يحتجبن منه وهكذا.
وكذلك من الأشياء المشابهة لهذا: أنه أشيع أن امرأة عام (796هـ) -انظروا كيف تشيع الخرافات بين الناس- طال رمدها، فرأت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فأمرها أن تأخذ من حصى أبيض في سفح جبل المقطم وتكتحل به بعد سحقه، ففعلت فعوفيت، فانتشر هذا بين الناس فماذا فعل العامة؟ تكاثروا على استعماله حتى أن حصى جبل المقطم انتهى وهم يلتقطونه ويسحقون منه للشفاء والعلاج والبركة، لماذا؟ لأن امرأة رأت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وقال كذا، وانتشرت الرؤية المكذوبة، والآن الرؤى الكاذبة على الرسول صلى الله عليه وسلم لا تزال موجودة ومنتشرة، ومنها الرؤيا المنسوبة إلى (أحمد) خادم الحرم المدني قبل مائتي سنة، وربما الرؤيا لا زالت تروج إلى الآن في مواسم وتهدأ وتظهر وتهدأ، مفادها: أن هذا الخادم نام مرة بجانب المسجد، فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام، وأخبره عن حوادث كثيرة وكذا وكذا وفي النهاية ومن لم يطبع الورقة فإنه سيخسر، وإذا كذَّب بها فإنه سيموت أو كذا ويصاب المصائب والمغفلون من المسلمين يطبعون هذه الأوراق ويوزعونها.
وكذلك فمن الأشياء التي حصلت: أن في أوائل رجب شاع بين الناس أن شخصاً كان يتكلم من وراء حائط؛ فافتتن الناس به، حتى قال قائلهم: (يا رب سَلِّم، الحيطة بتتكلم) وحتى قال أحد الشعراء مستهزئاً:
يا ناطقاً من جدارٍ وهو ليس يرى اظهر وإلا فهذا الفعل فتانُ
لم تسمع الناس للحيطان ألسنة وإنما قيل للحيطان آذنُ
هذه اللعبة التي لعب فيها بعض المشعوذين على الناس، عملوا من جهةٍ من الجهات نقض في الحائط وله مثل الماسورة أو قرن وينفخ فيه بشكل يتغير الصوت عند النفخ فيه، والناس يأتون ويسمعون الصوت ويعتقدون أن ولياً من أولياء الله هنا ونحو ذلك، وعظم ذلك المكان بسبب لعبة لعبها بعض المشعوذين.
إن الموالد كانت تقام وتفعل فيها الرذائل، ومن ذلك أنه عُمِلَ المولد النبوي -بزعمهم- واجتمع فيه من الخلق مالا يحصى عددهم، ووجد في صبيحته (150) جرة من جرار الخمر فارغة، غير ما كان في تلك الليلة من الفساد والزنا واللواط، هذا في أي شيء؟ في حفلة المولد النبوي، وهي بدعة زائفة.
هذا الاحتفال يُفعل إلى الآن -أيها الإخوة- في كثير من البلدان، يعملون مولد نبوي رجالاً ونساء إلخ، وأنت تسمع وتقرأ في الوسائل المرئية والمسموعة إلى الآن عندما يأتي (12ربيع الأول) حفلة مولد نبوي، غناء وموسيقى وطبل ونساء يغنين ويرقصن، في ماذا؟ في المولد النبوي.(202/17)
التاريخ ومساوئ الرياضة
كذلك فإننا إذا قرأنا التاريخ سنجد مساوئ للرياضة كانت موجودة في ذلك الزمان انظر مثلاً في يوم السبت (12 من ذي القعدة) عمل السلطان حفلاً مهماً عظيماً بالميدان تحت القلعة، وسببه أن السلطان لعب بالكرة مع أحد الأمراء فغلبه، فقال: لا بد ما دام أني غلبتك أن تعمل وليمة عظيمة، قال من كرمه: أنا أتولى عنك النفقات، فعملت الوليمة العظيمة؛ فنصبت الخيم بالميدان، وكان فيها من اللحم عشرون ألف رطلٍ، ومائة زوج أوز، وألف طائرٍ من الدجاج، وثلاثون قنطاراً من السكر استعملت في صنع الحلويات، وثلاثون قنطاراً من الزبيب، وستون إردباً دقيقاً، وعملت المسكرات في جنان من الفخار، ونزل السلطان سحر يوم السبت وأمرهم بأن يعاقروا الشراب، ثم سمح للعامة في انتهاب الأكل بعدما أكل هو ومقربوه.
قال المؤرخ: فكان يوماً في غاية القبح والشناعة؛ أبيحت فيه المسكرات، وتجاهر الناس بالفواحش بما لم يعلم مثله قط، ومن يومئذٍ انتهكت الحرمات بتلك الديار، عقب انتصارٍ في مباراة كرة حصلت، وكانوا في القديم يلعبون الكرة على الفرس يضربونها بشيء.
المهم انظر الآن ما يحصل أيضاً بعد حصول المباريات الرياضية أو الانتصارات بزعمهم.
إذاً يوجد كثيرٌ من هذه المفاسد ولا زالت موجودة في القديم والحديث، ونحن لا بد أن نتعظ ونعلم تماماً بأن الله سبحانه وتعالى لا يرضى عن هذه الأمور.(202/18)
التاريخ ولطائف قدر الله على عباده
أيضاً في التاريخ عجائب لقدرة الله عز وجل في المخلوقات، فيقول المؤرخ: وجد مخلوق كذا وصفته كذا وكذا من العجائب، وأمطرت السماء في يوم كذا وكذا مطراً كان فيه سمك، وأمطرت مرة حجارة، وحصل أشياء من العجائب حتى وصفوا النيازك وسقوط بعض الأجرام السماوية على الأرض وما حصل فيها.
ومن الأشياء اللطيفة التي تذكر في هذه المناسبة: ما يحصل من جريان قدر الله عز وجل في بعض المساكين فمن ذلك: قال ابن كثير رحمه الله: نقل عن ابن الساعي: كان رجلاً بـ بغداد على رأسه زبادي فزلق فتكسرت، ووقف يبكي، فتألم الناس لحاله وفقره، ولأنه لم يكن يملك غيرها، فأعطاه رجلٌ من الحاضرين ديناراً، فلما أخذه نظر فيه طويلاً، ثم قال: والله إني لأعرف هذا الدينار، لقد ضاع مني مرة في جملة دنانير، فقال له الرجل الذي أعطاه إياه: ما علامة الدنانير؟ قال: وزنها كذا، وكان معه (23) ديناراً، فوزنوها فوجدوها كما قال: فأعطاه.
وذات مرة كان رجل بـ مكة، فنزع ثيابه ليغتسل بماء زمزم، وأخرج دملجاً زنته (50) مثقالاً ووضعها في الثياب، فلما فرغ من الاغتسال لبس الثياب ونسي الدملج ومضى، ورجع إلى بغداد وبقي سنتين حتى افتقر ولم يبق معه إلا شيء يسير، فاشترى بهذا الشيء اليسير زجاجاً وقوارير ليبيعها ويتكسب بها، فبينما هو يطوف ذات مرة إذ زلق فسقطت القوارير وتكسرت، فوقف يبكي فاجتمع الناس عليه يتألمون له، فقال للناس من جملة الشكوى: والله لقد ذهب مني منذ سنتين دملج من ذهب زنته (50) ديناراً ما باليت لفقده كما باليت لتكسير هذه القوارير؛ لأنها كل ما أملك الآن، فقال له رجل من الناس: أنا والله لقيت الدملج وأخرجه وأعطاه إياه.
تصور أنه فقده في مكة وذهب إلى بغداد وبعد سنتين يأتي في وسط الجمع وهو يتألم لفقره، فيقول رجل: أنا وجدته ولم أعرف صاحبه، فدفعه إليه.
فالشاهد -أيها الإخوة- أننا نرى عجائب وغرائب من قدر الله سبحانه وتعالى سواء في مثل هذه الأشياء، أو في وفاة الأشخاص.
مثل: ثلاثة إخوة افترقوا فلم يجتمعوا إلا في قبرٍ واحد، ماتوا وما اجتمعوا في الحياة إلا في القبر بعدما ماتوا عرف أن هؤلاء إخوة هذا فلان فدفن، ثم فلان، ثم فلان وهكذا.(202/19)
تاريخنا تاريخ أحداث وعبر وعظات
الشاهد: أن تاريخنا غنيٌ جداً بالأحداث وبالعبر والعظات، ولا بد أن نقرأ ونحن لسنا أمة مبتوتة ولا منقطعة، والحقيقة أن هناك أحداث كبيرة يجب أن نقف عندها، مثل: غزو النصارى لبلاد الإسلام، وغزو التتر، وقيام الدول الباطنية في السابق، والمؤامرات على الإسلام، والأسباب التي أدت إلى انهيار المجتمعات.
أقول: لا بد من دراسة هذه الأشياء؛ لأننا نحتاج في هذا الزمان إلى ربط حاضرنا بماضينا، وإلى أن نعود إلى طريقة أسلافنا.
وإنني أقول لكم أيها الإخوة: إن في التاريخ عبرة ومنهاجا، وإن هذه الأمة لن تقوم على أقدامها إلا إذا استلهمت الماضي وعملت به.
إن كثيراً من الكفار متشرذمون لا ماضي لهم ولا حضارة، دولٌ كاملة قامت وسكانها قطاع طرق، كانوا منفيون في جزيرة فتكاثروا حتى أسسوا دولة، وحكموا أجزاء كثيرة من العالم إلى الآن، وليس لهم حضارة، لو تسأل مثلاً: ما هو أصل الشعب الأمريكي والشعب الأسترالي؟ أصلهم قطاع طرق، لصوص، طلاب دنيا، قاموا وقامت لهم حضارات -أقصد الآن دولٌ وهيمنات- فنحن أمة الإسلام ماضينا قديم جداً، وتاريخنا مليء بالثروات الضخمة التي يجب أن نتمعن فيها ونهتم بها.
ونقول أيها الإخوة: لا بد من تربية الناس على الإسلام، وتربية العامة حتى يتهيئوا للجهاد في سبيل الله، لا يمكن أن الأمة تجاهد وهي بهذا الوضع من الانشغال بالدنيا، لو ارتفع سعر الخبز في بلد من بلاد المسلمين لأقاموا الدنيا وما أقعدوها، ولكن لو أهين القرآن والسنة والشريعة ما تحرك أحدٌ تقريباً.
خذ هذا المثال: قيل للطبيب: ما هي أمنيتك؟ فقال: نحن الأطباء أمنياتنا بحرف العين: عيادة عربية وعروسة وعمارة.
هذا مثال نقصد به أن الناس علاقتهم بالدنيا وليست بالله عز وجل، فلا بد من إرجاعهم إلى الله، وتربيتهم على هذه المبادئ، وأشير إلى أن بعض الناس يظنون أن انتهاء المشكلة الحاضرة بظهور قائد للمسلمين يجمع كل المسلمين، نقول: ليس حل المشكلة في القائد كما يظن بعض الناس فقط، القائد صحيح أنه مهم، لكن ليس العلاج فقط في القائد، مثال: موسى عليه السلام أليس قائداً عظيماً، ونبياً كريماً؟ نعم.
لكن كيف كانت سيرة شعبه معه؟ كيف كانت سيرة بني إسرائيل؟ {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153] {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة:61] {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} [المائدة:21] {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] وجد القائد لكن الشعب إذا لم يترب على الإسلام فلا فائدة، الأمة إذا ما تربت على الإسلام فلا ينفع القائد، فالناس الذين يقولون: نحن ننتظر قائداً ربانياً لا يميناً ولا يساراً! نقول: على هونكم، ليس القائد كل شيء، لا بد أن يتربى الناس على الإسلام ثم يقومون في سبيل الله عز وجل.
نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية، وأن يوفقنا لنصرة شريعته وإعلاء كلمته سبحانه وتعالى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(202/20)
قاعدة في المحبة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
إن الحب والإرادة هي أصل كل حركة في العالم، وهما أصل كل دين، والدين لابد أن يشتمل على عقيدة للروح.
حول هذا وغيره دار كلام الشيخ حفظه الله في هذه المحاضرة، ثم أتى بكلام شيخ الإسلام عن لفظة العشق، والمآخذ التي عليها، ومفاسدها في حق الله والخلق.(203/1)
الحب والإرادة أصل كل حركة في العالم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فالرسالة التي سنستعرض جزءاًً منها وإياكم في هذه الليلة هي رسالة عظيمة، لشيخ عظيم وهو شيخ الإسلام أحمد بن عبد السلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وهذه الرسالة اعتنى بإخراجها وتحقيقها الشيخ: محمد بن رشاد بن محمد بن رفيق بن سالم رحمة الله تعالى عليه، والذي كان له نصيب وافر من الجهد في تحقيق كتب شيخ الإسلام رحمه الله، حتى إنه من أعظم إن لم يكن هو أعظم من قام بتحقيق رسائله تحقيقاً دقيقاً في هذا العصر.
يقول إنه وجد هذه الرسالة في عام [1975م] في مخطوطات كتب شيخ الإسلام رحمة الله تعالى في المكتبة الظاهرية بعنوان (قاعدة في المحبة) فصورها واحتفظ بها، ثم بعد ذلك قام بتحقيقها ونشرها، ومن الأدلة التي تثبت نسبة هذه الرسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ما ذكره الحافظ ابن عبد الهادي في كتاب العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
يقول عن مؤلفاته وما تركه من آثار: "وقاعدة كبيرة في محبة الله للعبد ومحبة العبد لله، وهناك قاعدة أخرى هي قاعدة في وجود تقديم محبة الله تعالى ورسوله على النفس والمال والأهل، وله -أي: ابن تيمية رحمه الله تعالى- قاعدة بعنوان: (أمراض القلوب وشفاؤها) وهذه أيضاً غير رسالة التحفة العراقية في الأعمال القلبية " هذه من مؤلفات شيخ الإسلام رحمه الله، الشاهد أن هذه القاعدة (قاعدة في المحبة) من الرسائل العظيمة التي ألفها رحمه الله.
مطلعها: (بسم الله الرحمن الرحيم.
على الله توكلي.
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد: فهذه قاعدة عظيمة في المحبة وما يتعلق بها من جمع الإمام العلامة شيخ الإسلام بقية السلف الكرام، أبي العباس أحمد ابن الشيخ شهاب الدين عبد الحليم ابن الشيخ مجد الدين أبي البركات عبد السلام ابن تيمية، رضي الله عنه وأرضاه.
والناسخ لهذه الرسالة يظهر أنه قد كان في القرن التاسع بحسب ما يظهر على المخطوطة قال رضي الله عنه: "فصل في الحب والبغض، والمحمود من ذلك والمذموم".
فالقاعدة هذه اشتملت على قواعد تفصيلية في المحبة، من المهم تدوين هذه القواعد واستيعابها، أول قاعدة ابتدأ بها رسالته قال: " القاعدة الأولى: وأصل كل فعل وحركة في العالم من الحب والإرادة فهي أصل كل فعل ومبدؤه.
حتى إن الإنسان يتعاطى بعض المكروهات لأجل المحبة، فمثلاً يشرب الدواء المر، لأجل محبة الصحة والعافية.
وكذلك المؤمن يُحب رحمة الله ونجاته فيترك الهوى، وترك الهوى شيء ثقيل على النفس، لكن لأجل النجاة ومحبة الجنة {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] وقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] فلا يترك الحي ما يحبه ويهواه إلا لما يحبه ويهواه " لا يمكن أن يترك شيئاً يحبه إلا لشيء آخر يحبه، ولكن هذا الثاني أعظم وأكبر.
ولذلك ما ترك المحبوب الأول إلا لأجل محبوب أعظم منه، فيترك أضعفها لمحبة أقواهما.
وهذه قاعدة أخرى: فلا يترك الإنسان المحبة الأضعف لأجل المحبة الأقوى.
قال: " ولهذا كان رأس الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وكان من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان ".(203/2)
المحبة المأمور بها هي عبادة الله وحده
بعد بيان أن المحبة والإرادة أصل كل حركة في العالم، فإنه لابد أن يُعلم أن المحبة تنقسم إلى قسمين: محبة محمودة ومحبة مذمومة، وهنا قاعدة: أصل المحبة المحمودة التي أمر الله بها هي عبادته وحده لا شريك له، من أي شيء تنبع المحبة؟ وأين توجد المحبة في عبادة الله وحده لا شريك له؟ فكلمة العبودية تنطوي على المحبة ولا شك.
ويكون أعظم أقسام المحبة المذمومة هي المحبة الشركية التي يُشرك فيها العبد مع الله عز وجل، فعبادة الله هي أصل السعادة، وعبادة غير الله هي أصل الشقاء، لأن عبادة الله تنتج محبة الله التي تشيع السعادة في النفس، وعبادة غير الله تنتج حب غير الله الذي يؤدي إلى الشقاء وتعاسة النفس.
فأهل التوحيد الذين أحبوا الله وعبدوه وحده لا شريك له لا يبقى منهم في العذاب أحد -في النهاية- حتى لو كان عندهم معاصي وحتى لو عذبوا في الآخرة لا يبقوا في العذاب ولابد أن يخرجوا.
والذين اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، وعبدوا غير الله، وهم أهل الشرك لا يخرج منهم من العذاب أحد، وكل ما في القرآن هو الأمر بمحبة الله ولوازمها، والنهي عن ضدها، وضرب الأمثال للنوعين وقصص أهل النوعين، فلا يمكن أ، يخرج ما في القرآن عن هذا.
لو قلت: القرآن يدور على أي شيء؟ نقول: يدور على محبة الله ولوازمها وضدها وأهل الفريقين -أهل الحب لله وأهل الحب لغير الله- وضرب الأمثال لهما وقصصهما، هذا هو القرآن، هذا التأمل مدخل في ربط العبودية والمحبة بما في القرآن العظيم.(203/3)
الله هو الذي يحب لذاته
هل هناك شيء يحب من وجه ولا يُحب من وجه، وشيء يُحب من كل الوجوه؟
الجواب
نعم.
الشيء الذي يحب لذاته، ويحب من كل الوجوه هو شيء واحد، وهو الله عز وجل، وهذه قاعدة.
فتحبه لقضائه وقدره وصفاته وأفعاله، وتحبه لنعمه عليك وخلقه، فيُحب من كل الوجوه سبحانه وتعالى.
أنت قد تحب شخصاً لوجه وتبغضه من وجه، تُحب عملاً من أعماله، وتبغض عملاً من أعماله؛ تحب فيه خلقاً وتكره فيه آخر، لكن الذي يُحب من جميع الوجوه هو الله عز وجل، والذي يُحب لذاته محبة صحيحة هو الله عز وجل، وكل الأشياء الأخرى التي ليست محبتها لذاتها وإنما محبتها لغيرها، ولما توصل إليه.
والمؤمن يعبد الله سبحانه وتعالى، والكافر يعبد غير الله عز وجل، فالمؤمن يخضع لله ويحبه، ويخلع الأنداد ولا يحبها، والمشرك يحب غير الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] ولما آمن الخليل كفر بكل شيء يعبد من دون الله وأبغضه وقال: لا أحب الآفلين.(203/4)
المحبة أصل كل حركة
يعيد تلخيص ما مضى فيقول: " كل متحرك فأصل حركته المحبة والإرادة، ولا صلاح للموجودات إلا أن يكون كمال محبتها وحركتها لله تعالى، كما أنه لا وجود لها إلا بخلق الله لها " فإذاً: لا صلاح للموجودات إلا بأن تُحب الله، وبكمال محبته تسعد وتستقر الأمور.
مبعث الأعمال والحركات شيء داخلي، والمحبة والإرادة وهي النية قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وهذا يعم كل عمل وكل نية، فكل عمل في العالم بحسب نية صاحبة، وليس للعامل إلا ما نواه وقصده وأراده وأحبه بعمله، ليس في ذلك تخصيص ولا تقييد ".
وهذا رد على من يقيد: (إنما الأعمال بالنيات) بالنية الشرعية المأمور بها، فيحتاج هذا إلى أن يحصر الأعمال في الأعمال الشرعية، ولكن المسألة أعم من ذلك لأن النية موجودة في كل متحرك، وكل مخلوق يعقل ففيه نية، المخاليق التي تتحرك تنبعث من نياتها وإراداتها ومن محبتها.
قال: " وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق الأسماء الحارث والهمام) فالحارث: هو العامل، والهمام: هو القاصد المريد، وكل إنسان متحرك بإرادته حارث همام ".(203/5)
أقسام الحركات عند الله
والمحبة والإرادة التي هي مبعث كل الحركات في العالم، تنقسم إلى شيء محبوب لله وغير محبوب لله، وكذلك الأعمال والحركات منها محبوب لله، ومنها غير محبوب لله، وإذا كان كذلك فالمحبة لها آثار وتوابع، سواء كانت محبة صالحة محمودة، أو كانت غير محمودة، فمثلاً لها حلاوة ولها أحزان.
والحي العاقل لا يختار أن يُحب ما يضره، وإذا فعل فإنما يكون ذلك عن جهل أو هوى، لأن النفس قد تهوى ما يضرها، بل كثيراً ما تهوى ما يضرها، وهذا من ظُلم النفس، وقد تكون جاهلة فتهوى شيئاً وتحبه وليس من مصلحتها، وقد يعمل الإنسان شيئاً نتيجة لاعتقاد فاسد من شبهة أو شهوة، علماً بأن الشهوة بحد ذاتها ليست مذمومة، فإن من الشهوات ما هو محمود ومنها ما هو مباح.
فمثلاً: القريب الذي يُحب لقاء قريبه ويشتهي ذلك ويهواه، فهذه المحبة في نفسه موافقة لما يريده الله، وهذا شيء محمود، لأن أصل صلة الرحم من اسمه سبحانه وتعالى، الرحم من الرحمة والرحمان.
فهذه الرحم التي خلقها الله سبحانه وتعالى وسماها باسم مشتق من اسمه، وسماها بشيء مشتق من صفته، وهي صفة الرحمة، فالله يحبها، فإذا الإنسان تابع هواه ومحبته في لقاء قريبه، يكون موافقاً لمحبة الله.
لكن حتى محبة الأقرباء إذا لم تضبط بضوابط الشرع قد تنقلب إلى محبة ضارة يبغضها الله، مثل من أحب بعض أولاده أكثر من بعض، فنتج عن ذلك أنه لم يساو بينهم في الأُعطيات، فجار بين الأولاد، وكذلك من دفعه محبته لأقربائه إلى محاباتهم على حساب أصحاب الحق، فأنت تسمع بعض العامة يقولون مثلاً: أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب، هذه قاعدة عندهم، فيقول: أنا مع الأقرب أسانده وأناصره وأعاضده ولو جار ولو ظلم، أدخل معه في هيشاته وأناصره على الغريب ولو كان الغريب محقاً.
فإذن قد تكون بعض الأشياء التي أصلها محمود مثل الاعتناء بالرحم، ولكن إذا لم تضبط بضوابط الشرع فإنها تؤدي إلى الجور، ولذلك يقول الله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152] وكذلك الذي يحب الطعام والشراب والنساء -وأقصد بالشراب الأشربة المباحة- فإن هذا محمود، بل لا يصلح حال ابن آدم إلا بهذا، ولو أن الإنسان لا يأخذ حظه من طعام وشراب ونكاح فلن تستقيم النفس ولن تقوم الأنساب ولن توجد الذرية، ولكن هذه المحبة للطعام والشراب والنكاح لو لم تُضبط بضوابط الشرع فإنها تؤدي إلى مفاسد.
ولذلك قال الله في الضوابط: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31] وقال الله في النكاح: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المؤمنون:7] تعدى النكاح والزواج وملك اليمين في شهوة الوطء والاستمتاع واللذة فإنه سيقع في الحرام {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج:31] أي: الذين جاوزوا حدود العدل.
ومن الناس من تكون آراؤه واستحساناته موافقة للنصوص، كما عبر عن ذلك مجاهد رحمه الله بقوله: " أفضل العبادة الرأي الحسن، وهو اتباع السنة ".
فمن الناس من صلاحهم وقربهم من الله، وصلاح فطرتهم أن آرائهم موافقة للحق.
عمر رضي الله عنه كان يرى ويهوى تحريم الخمر بعقله، ورأيه أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن يحجبن، ويفرض عليهن الحجاب، وكان يرى أن هذا هو الصحيح ونزل القرآن بموافقة آراء عمر رضي الله عنه؛ لأنه من قربه من ربه وسلامة فطرته وعقله أدرك أموراً يريدها الشرع ووافق ربه فيها.
وقد قال الله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ:6] ولذلك صاحب العقل السليم أحياناً يكون كافراً، ويتوصل بعقله إلى شيء موجود في الشرع، ولكن طبعاً أكثر من يحصل لهم ذلك هم علماء الإسلام، أهل الحق وأهل السنة، هؤلاء الذين تكون آراؤهم موافقة للحق، بحيث لو أن الواحد ما اطلع على الدليل يتوصل إلى النتيجة، ثم قد يطلع على الدليل فيحمد الله أن رأيه كان موافقاً للدليل.
بعكس أهل الأهواء الذين أهواؤهم مخالفة للحق، ولذلك كان أهل السنة يسمون أهل البدعة بأهل الأهواء؛ لأنهم يخالفون الحق، والرأي المخالف للسنة لابد أن يكون جهلاً وظلماً.
ما علاقة الهوى بمسألة المحبة؟ العلاقة واضحة جداً؛ لأن اتباع الهوى يكون في الحب والبغض، فالإنسان يبغض بهواه ويحب بهواه، وقد يبغض شخصاً ويحب شخصاً، قد يبغض رأياً ويحب رأياً، ويبغض منهجاً ويحب منهجاً، فالمسألة تعم، فهو يُحب الأشياء ويبغضها على حسب هواه، فإذا كان هواه موافقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كان على الحق.(203/6)
خضوع الكون لمشيئة الله
ثم أعاد التلخيص ليدخل في مسألة أخرى فقال رحمه الله: " ولما كانت كل حركة وعمل في العالم فأصلها المحبة والإرادة، وكل محبة وإرادة لا يكون أصلها محبة الله وإرادة وجهه فهي باطلة فاسدة، كان كل عمل لا يراد به وجهه باطلاً، وجميع الحركات الخارجة عن مقدور بني آدم والجن والبهائم فهي من عمل الملائكة ".
وكأنه يقول: إن كل حركة في العالم، مبعثها المحبة والإرادة، فنستطيع أن نفسر مثلاً حركات الجن والإنس والبهائم والملائكة أنهم يريدون تنفيذ ما أمرهم الله سبحانه وتعالى به، فحركات الملائكة من جعل الرياح تهب والمطر ينزل ونحو ذلك؛ لأن هناك ملائكة موكلة بالمطر وملائكة موكلة بالسحاب، وملائكة موكلة بالريح، وملائكة موكلة بالجبال، وملائكة موكلة في أمور العالم التي لا علاقة ولا قدرة للجن والإنس والبهائم على التحكم فيها.
وهذه الأشياء المخلوقة التي تتحرك إنما تتحرك في العالم خضوعاً لله، ابتداءً من ذرات أجسامنا وانتهاءً بذرات الأفلاك والسماوات، فكل الكون تدور حركته خضوعاً لله سبحانه وتعالى، وعبودية له وقهراً، حتى كفار بني آدم لا يخرجون عن مشيئة الله وتدبيره، بأي شيء؟ بكلمات الله، وهذا معنى حديث قد لا يعرف معناه الكثير من الناس، وإذا مروا به قد يمروا به مروراً سريعاً دون أن يقفوا على معناه، الآن يتبين معناه: (أعوذ بكلمات الله التامات اللاتي لا يجاوزهن بر ولا فاجر).
فهذا الحديث ما معناه؟ أي: حتى الفجرة والكفرة يخضعون لكلمات الله التامات، ويُقهرون ويُذلون لأجل ذلك، وهذا من عموم ربوبيته وملكه سبحانه وتعالى أن أجساد الكفار وذرات أجسادهم منقادة له سبحانه وتعالى، وكل الحركات التي تسير في أجسامهم بقهر الله وتسخيره وأمره سبحانه وتعالى.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18] كثير من الناس الذين لا يسجدون لله طوعاً منقادين رغماً عنهم لله عز وجل: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83] {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] حتى ذرات أجساد الكفار؟
الجواب
حتى ذرات أجساد الكفار تسبح بحمد الله ومنقادة مقهورة ولا يستطيع الكافر أن يدرأ عن نفسه الموت، ولا يستطيع أن يوجد نفسه، وكثير من الأشياء اللاإرادية لا يستطيع أن يفعل فيها شيئاً، ولا أن يقاومها.(203/7)
أهل الطبائع لا يشهدون الحكمة من المخلوقات
ويُلفت النظر إلى مسألة مهمة لدارسي الطب والفيزياء والعلوم الفلكية والعلوم الدنيوية، يقول: " فأما كثير من الناس -وهم علماء الدنيا- وأهل الطباع المتفلسفة وغيرها؛ فيعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ويأخذون بظاهرٍ من القول) يرون ظاهر الحركات والأعمال التي للمخاليق وبعض أسبابها القريبة، وبعض حكمها وغايتها القريبة فيقولون: هذه علتها، كما يذكرون في وظائف الأعضاء في الطب، وفي تشريح الإنسان وأعضائه وحركاته، لماذا يحدث كذا؟ لأنه كذا وكذا.
لا يقولون لأنها مخلوقة لله ومربوبة للرب، وأنه هو الذي يحركها ويصرفها ويسخرها، بل يقولون: إن هذا يحدث لأن إشارات الدماغ تُرسل العضلات فيحدث كذا، فيرون السبب القريب والغاية القريبة، ويعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ولكن لا يقولون في كلامهم وفي كتبهم: تتحرك لأنها مربوبة للرب، ومقهورة ومذللة وخاضعة لله تعالى، ولأن هذا أمره، وهو الذي أمرها بأن تتحرك هكذا، ولماذا يسير الدم من هذا الاتجاه إلى هذا الاتجاه؟ لأن الله أمره بذلك وهو خاضع لأمر الله عز وجل.
هذا السبب الأصلي، لكن السبب الظاهر مثلاً لأن الضخ كذا، واتجاه الضخ من القلب، فالدم يسير باتجاه كذا ونحو ذلك، فهؤلاء علماء الدنيا ما تصل عقولهم لقضية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الحج:18] {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] ما تصل لهذا، يبقى فقط على مستوى الأسباب الدنيوية، تفسير الأمور بالأسباب الدنيوية.
لماذا وقع هذا النيزك؟ لماذا انفجر هذا النجم؟ لماذا حصل كذا؟ فيقولون: أسباب الحرارة والضغط، وتجاذب الكواكب والحركات ونحو ذلك، لكن لا يقول: لأن الله أمر بذلك، ولأن الله شاء ولأنه قدره، فلا يقولون ذلك ولا يأتون بهذه السيرة إطلاقاً، والمؤمن يؤمن بالأمرين معاً، يعرف السبب الطبعي ولكن يعرف أن وراء قوانين الطبيعة الله عز وجل، وأن كل شيء يسير بأمره، ولذلك النار التي تسبب الإحراق، إذا قال الله لها كوني برداً تكون برداً، وسلاماً فتكون سلاماً، وهكذا.
وتتخلف بعض القوانين عن العمل، لأن موجد القوانين هو الذي منعها من العمل، فالشمس تخرج كل يوم من المشرق إلى المغرب وتدور وتعود، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها كل يوم تستأذن من ربها أن تُشرق من المشرق وتذهب إلى المغرب.
فهل سمعت من علماء الطبيعة والفلك من يقول: إنها مأمورة بأمر الله وأنها تستأذن، لماذا تُشرق من المشرق؟ يقولون أي جواب دنيوي خطأ أو صح، لكن نحن نعرف لماذا تشرق؟ لأن الله أمرها بذلك واستأذنت وأذن لها، ويوم القيامة يكون أول علامات تغير العالم العلوي طلوع الشمس من مغربها، فتأتي تستأذن ربها أن تشرق من المشرق فلا يأذن لها فتعود وتخرج من المغرب، فكيف سيفسر ذلك علماء الفلك.
فإذن {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] ونحن لا ننكر السبب المادي، ولا نقول لا تقولوه، بل قولوه، ولكن ذكِّروا بالسبب الأصلي للشيء، واربطوه بخالقه ومسببه وموجده وآمره، فيقع الغلط من إضافة هذه الآثار العظيمة إلى مجرد قوة الجسم، ولا يعرف هؤلاء الحكمة، وأن ذلك من عبودية الأجسام والكائنات لله عز وجل.
لماذا يحدث المد والجزر؟ يقولون سبب متعلق بالقمر والجاذبية، لكنه لا يُذّكر إطلاقاً بأن من عبودية البحر لله هذه الحركة، وأنه شاء ذلك سبحانه، وأنه الآمر به، وأنه من خضوع البحر له ونحو ذلك.
لكن أهل العلم يضيفون جميع الحوادث -انظر الفرق بين العالم- المسلم الذي ينطلق من الدين، وبين الكافر الذي ينطلق من الطبيعة فقط، في إضافة جميع الحوادث إلى خلق الله ومشيئته وربوبيته، فهؤلاء أصح عقلاً من أولئك.
قال: " ومن يدخل في ذلك كل شيء حتى أفعال الحيوان فهو المصيب والموافق للسنة والعقل ".
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: " ولهذا تجد هؤلاء إذا تكلموا في الحركات التي بين السماء والأرض، مثل حركة الرياح والسحاب والمطر وحدوث المطر، من الهواء الذي بين السماء والأرض تارة، ومن البخار المتصاعد من الأرض تارة وكما يخلق الولد في بطن أمه من المني، وكما يخلق الشجر من الحب والنوى، فإنهم يشهدون الأسباب المرئية ويتكلمون عنها، ويعرضون عن الخالق المسبب لذلك كله، وعما جاء في ذلك من عبادته وتسبيحه والسجود له {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116] الذي هو غاية حكمته ".
الآن ذكر في ثنايا الكلام استطراداً في قضية الرد على الملاحدة الذين يقولون كل شيء من الطبيعة، وهذا خلقته الطبيعة، وهذا خلق نفسه، والطبيعة خلقت نفسها، والكون خلق نفسه، وأن كل شيء مخلوق من مادته التي هو فيها، فضرب مثلاً بالشخص الذي يكتب بالحبر كلاماً، فيأتي واحد ويقول من الذي خلق الكلام؟ فيجيب: الحبر الذي خلق الكلام، من الذي كتب الكلام؟ الحبر الذي كتب الكلام.
فلو أن شخصاً رأى كلاماً مكتوباً بالحبر، وسأل من الذي كتبه؟ قيل: الحبر الذي كتبه، هل سيقبل هذا الجواب؟ لا.
فهذه مخلوقاته في أرضه وسماواته وكونها دالة على أنه خالقها سبحانه وتعالى:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
وهؤلاء يجعلون هذه الطبيعة هي العلة الفاعلة، أو هي الخالقة، وهذا طبعاً كفر، وهو أعظم أنواع الكفر.(203/8)
المحبة والإرادة أصل كل دين
الدين هو الأعمال الباطنية والظاهرة، فالآن سيتكلم رحمه الله تعالى عن قضية العلاقة بين المحبة والدين، فقد قال: " إن كل الحركات في العالم منشؤها المحبة والإرادة " وقسمنا المحبة وعرفنا العلاقة بين ما يحبه الله وما يبغضه الله إلى آخره.
المحبة والإرادة أصل كل دين، والدين هو مجموعة الأعمال الظاهرة والباطنة، والدين يُفسر أيضاً بأنه الطاعة الدائمة اللازمة التي صارت عادة وخلقاً، ولذلك فسر ابن عباس رضي الله عنه قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] قال: [وإنك لعلى دين عظيم] وفي اللغة بعض الشعراء يستعمل الدين بمعنى العادة، ومنه في اللغة بمعنى (الديدن) مأخوذ من الدين، والديدن هو العادة اللازمة، وديدن مأخوذ من دان مثل صلصل من صَلَّ، وكَبْكَبَ من كَبَّ، فهذا التشديد المفكوك.
قال: " واسم العبادة يتناول غاية الحب بغاية الذُل، وهكذا الدين الذي يدين به الناس في الباطن والظاهر لابد فيه من الحب والخضوع " وإذا كان بعض الناس يخضعون لأشخاص ولا يحبونهم كما يخضعون لبعض الظلمة، مثلاً: ظالم يتحكم فيهم ويتولى عليهم، فيخضعون له، هل يسمون محبين له؟
الجواب
لا، لأن المحبة ليست هي الخضوع فقط.
ولو جاء من قال: أنا أحب فلاناً أو أحب هذا الشيء لكن لا أخضع له، وأعمل على ما أريد، هل يكون محباً له؟ لا.
هل يكون عابداً له؟ لا.
فالعبادة والدين تستلزم محبة وخضوعاً، وإذا كان كل عمل صادر عن محبة وإرادة، والعمل يتبع الحب والبغض، وبنوا آدم لا غنى لبعضهم عن بعض، ولابد أن يكونوا اجتماعيين يحتاج بعضهم إلى بعض، فلابد أن يكون هناك اشتراك في أشياء نتيجة معيشة الناس مع بعض، فلابد أن يشتركوا في محبة شيء عام وبغض شيء عام، وهذا هو الدين المشترك.
فالدين المشترك للناس المجتمعين، يكون فيه محبة أشياء وبُغض أشياء، بغض النظر عن هذا الدين ما هو بالضبط، ولكن الدين المشترك هو: وجود هؤلاء الأحياء أو هذه المخلوقات أو الناس المجتمعين يحبون شيئاً ويبغضون شيئاً، هذا هو الدين المشترك.
أما اختصاص كل واحد بمحبة، كمحبة ما يأكله ويشربه وينكحه وطلب ما يستره، فهذا يشتركون في نوعه لا في شخصه، أي: مثلاً هذا يحب الطعام هذا فيأكل منه، وهذا يحب الطعام هذا فيأكل منه، لو كان من جنس واحد كله كالأرز لكن ما يأكله هذا غير ما يأكله هذا، بل قالوا حتى في الهواء وحتى في المطر فالذي يصيب هذا غير الذي يصيب هذا، مع أنهم كلهم يحبون المطر ويحبون الهواء البارد العليل لكن ما يصيب هذا من الهواء غير ما يصيب هذا من الهواء وهكذا.(203/9)
الدين هو التعاقد والتعاهد
المخاليق إذا احتاجوا إلى أمور يجب أن يوجبوها على أنفسهم، فيحرمون على أنفسهم ما يضرهم، ويوجبون على أنفسهم ما ينفعهم بعملية تُعرف بالتعاقد والتعاهد، وهذا يسمى الدين المشترك، والرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى ذلك بقوله: (لا دين لمن لا عهد له) فالدين المشترك بين جميع بني آدم هو التزام الواجبات والمحرمات بالوفاء بالعهد، وهذا قد يكون فيه منفعة، وقد يكون فيه مضرة، وقد قال الله سبحانه وتعالى عن يوسف عليه السلام: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76] الدين المشترك الذي كان يحكم الناس في ذلك الوقت، ولما كان لابد لكل آدمي من اجتماع، ولابد في كل اجتماع من طاعة ودين، ترى حتى المجتمعات الكافرة بدون نظام لا يمكن أن يعيشوا، وبدون دين مشترك لا يمكن أن يعيشوا، فإذا وجدت دولة أو مجموعة من الناس موجودين في مكان أو في بلد أو في قرية، فاعلم أن بينهم ديناً مشتركاً، وأن هذا مبني على العقود والعهود الموجودة بينهم.
وأنه لا يمكن أن تستقيم حياتهم إلا بهذه العقود والعهود التي تحافظ على المنافع وتمنع المضار، ولو أتيت بكافر يمكن أن يقول هذا الكلام، وإذا علمنا هذا فهذا معلوم من الواقع.(203/10)
كل دين لابد له من عقيدة وشريعة
إذا توصلنا إلى هذه النتيجة، فإن كل دين غير دين الله تعالى فهو باطل، ودين الله سبحانه وتعالى هو الوحيد الذي يكفل للناس حقوقهم، فإن الناس مهما اخترعوا في قضية الدين المشترك لا يمكن أن يحصلوا على السعادة الحقيقية.
ومسألة الدين المشترك قال فيها بعض الكفرة والفلاسفة: الناس لابد أن يعيشوا معاً، وإذن فلا يمكن أن تستقيم أمورهم إلا بجلب المنافع ودفع المضار، وهذا لابد أن يكون فيه عهود وعقود، فنعمل قوانين تضبط هذه الحالة، وتكلموا عن أشياء من ذلك كما كتب بعض الفلاسفة (المدينة الفاضلة) ووصفها ونحو ذلك، والكفار كذلك في عصرنا من خلال التجارب والسماعات والخبرات، والرصيد السابق عملوا قوانينهم التي تسير بلدانهم، فمثلاً قالوا: لابد من توزيع الثروات والعدل في الرغبات، وعدم اعتداء البعض على البعض الآخر، فحتى ينضبط المجتمع نجعل قوانين تحل المشكلة، فالفكرة هذه التي تقوم عليها بالذات المجتمعات الغربية اليوم فكرة ليست جديدة، بل هي فكرة قديمة.
فمثلاً: حمورابي قد كتب وسن قوانين، وجنكيز خان ونحو ذلك، وهؤلاء هم أتباع الملوك المتفلسفة، فهؤلاء قد جعلوا قوانين بعضها فيه عدل فعلاً، فإذا ذهبت إلى بلدانهم تجد في بعضها عدل حقيقة، ولكن؟ لكن هل امتنع الشقاء؟ لا.
الانتحار والجنون، والأمراض العصبية، والانهيارات النفسية موجودة؛ لأنه بقي شيء واحد لم يضعوه في قوانينهم؛ لأن القوانين قائمة على هوى.
لكن هناك شيء أساسي جداً ما عملوه، ألا وهو عبادة الله، ولا يمكن أن يستقيم حال الناس بالدين المشترك، إلا بأن يكون هناك دين سماوي إلهي يضبطه ويؤسسه، فيكون مؤسساً بناءً عليه، فإذن قلوب العباد إذا جمعتهم مع بعض ووضعت لهم قوانين قد تكف عنهم من الظلم، لكن لا يمكن أن تُوجد لهم سعادة ولا ضبط للأشياء، لأن القوانين قد يلعب عليها وقد تخترق، وقد يأتي بمحامي ماهر ويوجد له ثغرة في القانون، وأشياء كثيرة كما نجد، ثم مهما كان القوي يغلب الضعيف حتى في تلك البلاد التي فيها قوانين دقيقة جداً جداً فإن فيها ثغرات كثيرة.
لكن هناك شيء مهم جداً في نفوس العباد لم تحققه لهم القوانين، ما هو؟ عبادة الله عز وجل، لأن قلوب بني آدم لابد أن تحب إلهاً، وهي مفطورة على هذا، وأن تعبده ولذلك وجد عند هؤلاء الغربيين قيم روحية ينادون بها، واكتشفوا أن قوانينهم ولا تكفي لجلب السعادة إلى النفوس، فصار بعضهم يتجه إلى ديانات شرقية، ويتجهون إلى الكنيسة، وفي هذا إثبات واعتراف وإقرار بأن القوانين والدين المشترك لم تكفِ، ولا تصلح حياتهم ولا يدوم شمل الناس إطلاقاً إلا بأن يكون هناك تأله، يحتاجه الإنسان أكثر من حاجته للطعام والشراب والغذاء، وأن عدم الغذاء إذا كان يُفسد الجسم فإن فقد التأله يُفسد النفس ويتلفها، ويدمر القلب تدميراً.
وما الذي يمكن أن يُصلح النفس والقلب؟ هو التأله لله سبحانه وتعالى، وهي الفطرة التي فطر الله كل الناس عليها، لابد لهم من رب واحد يكونون خاضعين له، فيتألهونه ويعبدونه فتحصل لهم السعادة والاستقرار، وينضبط دينهم المشترك الذي تعبوا جداً في سن القوانين فيه، والله سبحانه وتعالى إذا خضعوا له فقد أنزل عليهم شريعة تحكم دينهم المشترك وتحكم دينهم الخاص، وبالتالي تحصل السعادة، هذه هي المسألة المهمة جداً التي ينبغي أن ننقد فيها الواقع الموجود بناءً عليها، وأنك تعرف من خلالها أن ما فعله الكفار من تنظيمات وأشياء وقوانين لم تجلب لهم السعادة، ولم يحصل لهم الاستقرار إطلاقاً.
ولو حصل في مجتمعهم فإنهم يظلمون غيرهم، وهذا ما يُفسر تسلط الدول الكبرى على دول العالم الثالث والدول الفقيرة لماذا؟ لأنهم لا يتعاملون بناءً على العبادة، وإلا لما ظلموا غيرهم، ولو وضعوا أشياء وقوانين فهي في بلادهم، وأما على غيرهم فالقوي يأكل الضعيف، وشريعة الغاب هي التي تسود لا القوانين ولا غيرها، وهذا ما يبين لنا أن كلاماً أو عبارة مثل: (النظام العالمي الجديد) كلام فارغ وتافه، لا يمكن عمله ولا القيام به؛ لأنه ليس مؤسساً على عبادة الله عز وجل، ولا على الدين الذي شرعه الله وهو دين الإسلام.(203/11)
ما تشتمل عليه كل محبة
ولابد في كل دين وطاعة ومحبة من شيئين: الأول: الدين المحبوب المطاع، وهو الشيء المقصود.
الثاني: نفس صورة العمل الذي تُطاع ويُعبد بها، وهي السبيل والطريق والشريعة والمنهاج والسبيل.
فإذن كل دين فيه غاية ووسيلة: الغاية: هي الشيء المراد، أي: وجه مَنْ أردت بالعمل.
الوسيلة: صورة العمل التي يعبد بها ويراد بها الوجه، ويقصد بها السبيل والطريق والشريعة والمنهاج.
فهنا لابد أن يتحقق الأمران إذا أردت السلامة يا عبد الله! للنجاح في الجواب على سؤالين عظيمين يوم القيامة عن كل عمل عملته: لم وكيف؟ لم: هي قضية الغاية، وكيف: هي صورة العمل والوسيلة، كيف كانت؟ وبناءً على أي منهج؟ ومتابعة لأي شريعة؟ وهذا معنى قول الله عز وجل: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، فالخالص لله، والصواب موافقة السنة.
فهكذا يجمع الدين هذين الأمرين، المعبود والعبادة: المعبود: هو الله وإخلاص القصد لله.
والعبادة: هي اتباع السنة والإتيان بالعمل على الصورة الصحيحة الموافقة للسنة.
وأصحاب الأديان قد يقولون لك: نحن نعبد الله، ولكن إذا جئت إلى الوسائل -إذا سلمنا أنهم فعلاً يعبدون الله- فهي تختلف ولذلك لنا شريعتنا ومنهاجنا ولهم شريعتهم ومنهاجهم، ولا يجوز لنا أن نوافقهم في ذلك، لكل جعلنا شريعة ومنهاجاً: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج:67].(203/12)
تنوع الناس في المعبود والعبادة
لا يظنن ظان أن الاختلاف بيننا وبين غيرنا فقط في قضية الطريقة والأسلوب، لا.
بل حتى معرفة الله عز وجل، فقد أثبت شيخ الإسلام رحمه الله في كلامه هذا قال: " فقد تعرف هذه الأمة من أسمائه وصفاته ما لا تعرفه به الأمم الأخرى، فهم مشتركون في عبادة نفسه، وإن تنوعوا فيما عرفوه وعبدوه به من أسماءه وصفاته ".
ويتفرع عن معرفة الله اليوم الآخر، فينضم إليه اليوم الآخر وما جاء في نعته من الأسماء والصفات والوعد والوعيد.
فإذا صار عندنا ثلاثة أشياء: الأول: هو سبحانه وتعالى.
الثاني: اليوم الآخر.
الثالث: الوسيلة -اتباع السنة- فقد اكتمل كل شيء.
وبهذا نعرف كيف نتوصل إلى السعادة الحقيقة والاستقرار الصحيح بمسألة عبادة الله وحده لا شريك له، وبمسألة الوفاء بالعهود والمواثيق، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة:177] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1].
وإذا لم يكن مقصود الدين والناموس الموضوع الذي يحكم جماعة من الناس إلا جلب المنفعة في الحياة الدنيا ودفع المضرة، فليس لهم في الآخرة من خلاق، وإذا كانت قضيتهم قضية قوانين أو الذي أطلقوا عليه الدين المشترك، فإنهم لابد أن يستولي بعضهم على بعض ويقهر بعضهم بعضاً كما فعل فرعون وغيره، وقال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} [القصص:4] مع أنه كان له دين، والقبط الذين كان يملكهم فرعون لهم دين مشترك.
وقال الله تعالى في قصة يوسف: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76] وهذا الملك كان فرعون يوسف، قبل فرعون موسى، لأن كلمة فرعون اسم لملك مصر، كما أن خاقان اسم لملك الترك، كما أن كسرى اسم لملك الفرس، كما أن المقوقس اسم لكل من ملك الإسكندرية، كما أن تبع اسم لكل من ملك اليمن، كما أن النجاشي اسم لكل من ملك الحبشة وهكذا.
فالنجاشي ما اسمه رحمه الله أصحمة والنجاشي لقب معناها ملك.
لقد كان فرعون يعيش مع قومه في دين يحكم بلده، لكنه كان يستضعف طائفة، يُعذب أبناءهم ويقتلهم، ويستحيي نساءهم، لماذا كان يفعل ذلك؟ لأن المسألة ليست قائمة على دين الله، بل كانت قائمة على دين ابتدعوه هم، ورأوا فيه من المصالح ما رأوا، لكن ما حقق العدل في الأرض فإن الظلم قائم، ولا شك في ذلك.
ثم القضية الأهم وهي إقامة التوحيد في الأرض وإزالة الشرك: فلو وضعوا قانوناً تتم به مصلحة الدنيا لكن ليس فيه أمر بالتوحيد وعبادة الله تعالى، ولا بالعمل للآخرة، ولا نهي عن الشرك فإنهم لن يسعدوا حتى في الدنيا.(203/13)
الحب أصل كل عمل من حق وباطل
أصل الأعمال الدينية حُب الله ورسوله، فإن قوة المحبة لكل محبوب يتفاوت فيها الناس في الشيء الواحد، حتى الشخص الواحد تتفاوت محبته فيقوى حبه تارة ويضعف أخرى، ويكون فلان يحب هذا الشيء أكثر من فلان، فإذن المحبة تتفاوت في الأشخاص وفي الشخص الواحد.
والمحبة ينبني عليها أشياء، من اتخاذ المواقف وتنبني عليه محبة جديدة وبُغض جديد بناء على ما يحدث للإنسان من التغير، ولذلك قال الله تعالى عن إبراهيم الخليل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].
إذن المحبة تنقلب وتتغير وتزيد وتنقص، وممكن يحل محلها بغضاء، وممكن تنقلب البغضاء إلى محبة، ما مثال ذلك؟ قصة إبراهيم عليه السلام لما قامت المسألة على التوحيد أبغض أباه وأبغض قومه.
فالحب الطبيعي الذي كان يحب به الابن أباه انقلب بغضاً له؛ لأنه يكفر بالله وقال: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] إذن اتخذ موقفاً جديداً في قضية المحبة والبغض نابعاً من قضية التوحيد، نفس الذي يحصل للمهتدي، فلو أن شخصاً هداه الله هداية قوية، ماذا يحصل له، افرض هداه الله في ليلة، أمسى كافراً وأصبح مؤمناً، فسحرة فرعون اهتدوا من موقف فجأة، أي: إلى لحظة إلقاء الحبال والعصي وهم كفار يحبون فرعون ويكرهون موسى.
فلما ألقى العصا وأكلت ما ألقوا وعرفوا الحق، تبدلت كل المشاعر في لحظة، فتبدل كل شيء، فكرهوا فرعون وعمل فرعون وكرهوا السحر الذي قاموا به، وأحبوا موسى، ودين موسى وأحبوا الله عز وجل، وفوق ذلك ضحوا بأنفسهم، وانقلبت أشياء بفعل التبدل الذي حصل في القلب.
كما حصل لـ ثمامة رضي الله عنه، فقد أتي به مأسوراً إلى المسجد النبوي، وهو يكره الدين والإسلام والبلد والمدينة التي أُسر فيها، والمسجد والنبي صلى الله عليه وسلم، ولما ربط وجُعل في المسجد، ورأى ما رأى من الصلاة واجتماع المسلمين، ثم منّ النبي صلى الله عليه وسلم عليه وقال: (أطلقوا ثمامة) بدون مقابل، ماذا حصل؟ صار عنده قناعة فاقتنع، وجاء موقف المنّ عليه فهداه الله، ولما هداه الله قال: يا محمد! ما كان على وجه الأرض من شخص أبغض إليّ منك، فصار وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان على وجه الأرض من دين أبغض إلي من دينك، فقد صار دينك أحب الدين لدي، والله ما كان في سطح الأرض من بلد أبغض إلي من بلدك، فقد صار بلدك أحب البلاد إليّ.
فكيف انقلبت المسألة؟ بالهداية انقلبت المواقف، فإذن المحبة هذه تتغير، وبناء عليه البغض أيضاً يتغير، وكذلك فإنها تزيد وتنقص.(203/14)
تنازع الناس في لفظ العشق
في مسألة المحبة أدخل بعض الناس الذين يزعمون أنهم أصحاب أعمال القلوب وأرباب التقوى، أدخلوا كلمة غريبة عن الكلمات الإسلامية والشرعية وهي كلمة: (العشق) وأدخلوها في وصف العلاقة بين العبد وربه، وصار عندهم شيء اسمه: (العشق الإلهي) حتى غنت به أم كلثوم فكذلك قديمهم وحديثهم.
فقالوا: العشق هذا هو قمة المحبة وأولى الناس بذلك هو الله، وقالوا: عشقني، وعشقته، وعشقت الله وتكلموا وقالوا بهذه الألفاظ، لماذا؟ قالوا: العشق منتهى المحبة وأقصاها.
ولذلك فهو لا يليق إلا بالله، فنقول: لو قلتم إن العشق هو منتهى المحبة وأقصاها، فهذه صحيح أنه لا ينبغي إلا لله عز وجل، لكن هل ورد لفظ شرعي فيه؟
الجواب
نعم.
ما هو؟ الخلة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) فقمة المحبة والخلة التي كانت من الله سبحانه وتعالى أعظم ما أحب عبداً هو محمد صلى الله عليه وسلم ثم إبراهيم، وأعظم محبة من العباد لربهم كانت من محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم.(203/15)
المآخذ على لفظ العشق
هذا اللفظ -وهو العشق- ليس مأثوراً عن السلف، وباب الأسماء والصفات يُتبع فيها الألفاظ الشرعية، فلا نطلق إلا ما ورد في الأثر، وهذا الكلام باطل من وجوه ذكرها رحمه الله وسنأتي عليها إن شاء الله.
فاستخدام كلمة العشق في وصف العلاقة بين العبد والرب مرفوض لأسباب: السبب الأول: أن هذه الكلمة غير مستخدمة في النصوص الشرعية، فمثلاً قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] ما قال عشقاً، وإنما قال (حباً لله) أن يحب الله ورسوله، فإذاً نقف مع الكلام المستخدم ونتأدب مع الله ورسوله ولا نستخدم ألفاظ لم تستعمل في الكتاب والسنة.
السبب الثاني: أن المعروف من استعمال هذا اللفظ إذا رجعنا إلى اللغة العربية، أن كلمة العشق محبة جنس النكاح، ومحبة الإنسان الآدمي لمثله من امرأة أو صبي بالشهوة بالحلال أو الحرام، امرأة في النكاح مثلاً أو في الزنا، فلا يكاد يُستعمل هذا اللفظ في غير هذا الموضع في اللغة، فلا يقال: إن فلاناً يعشق ولده أو يعشق أقرباءه، أو يعشق وطنه، أو يعشق ماله أو يعشق دينه.
وكذلك فإنها لا تُستعمل في الأشياء المعنوية، فلا يقال: عشقت في فلان كرمه وشجاعته وعلمه ودينه وإحسانه إطلاقاً، فاستعمالات العشق عند العرب في اللغة العربية: العشق في محبة النكاح ومقدماته، فالعاشق يريد الاستمتاع بالنظر إلى المعشوق وسماع كلامه، ومباشرته بالحس تقبيلاً ومعانقةً ووطئاً.
ولكن كثيراً من العُشاق كان لا يختار الوطء، ويقول: إذا نكح الحب فسد، فيبقون على قضية هذه العلاقات التي ما دون الوطء ولكن كثير منهم في النهاية أوصلهم العشق إلى الزنا وما هو أسوأ من الزنا.
فاستعمال العشق الآن في العلاقة بين العبد وربه لا يصح، وإذا كان الآن هذا أصله اللغوي واستعماله في اللغة فهذه مصيبة، فإنه يُفهم أو يُوهم معنىً فاسداً للغاية، وهذا المعنى من أعظم الكفر.
وللعلم فإن الاتحادية الكفرة -الذين يقولون: إن الله عين الموجودات، وكل ما ترى بعينك فهو الله- قالوا كلاماً عظيماً سيئاً جداً جداً عندما جمعوا بين العشق وبين العقيدة الاتحادية فقالوا: ما نكح سوى نفسه فهو الناكح والمنكوح، تعالى الله عن قولهم.
انظر الآن ماذا يلزم، تقول لهم: أنتم تقولون كل شيء هو الله، الرجل هو الله والزوجة هي الله، يقولون: نعم، إذاً هذا ينكح هذا، يقولون: ما نكح إلا نفسه، تصوّر إلى أي درجة يصل هؤلاء بالكفر، أصحاب ابن عربي الذين يحجون إلى قبره في الشام، ويعبدونه من دون الله، هذه مقالتهم، والحلاج الذي يعملون له الآن رسائل ماجستير ودكتوراه، يسمونه شهيد الثورة، وابن الفارض تحقق كتبه، وابن سبعين فهؤلاء أصحاب عقيدة الاتحاد، وكذلك أصحاب عقيدة الحلول.
وسبق القول ونبه على ذلك شيخ الإسلام رحمه الله: أن النصارى أعقل منهم؛ لأنهم على الأقل يقولون: حل في واحد وهو عيسى، وهؤلاء يقولون: حل في كل المخلوقات، وكل ما ترى بعينك فهو الله، ولذلك يصفونه بما يُوصف به البشر من النكاح، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، هو الأحد الصمد الذي: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4].
ولذلك كان من الصوفية الاتحادية ومن هؤلاء المنحرفين من يعشق الصور الجميلة ويزعم أن الله قد تجلى فيها، ويقول: هذا من محبتي له، ويقصد بها نوعاً من العبودية وهو كذاب، فمن زعم أن الله يُحب ويُعشق بهذا المعنى فهو أعظم كفراً من اليهود والنصارى.
ثم أيضاً من مفاسد استعمال كلمة العشق في وصف العلاقة بين العبد والرب: أن العشق هو الإفراط في المحبة حتى يُخرج عن القصد والاعتدال، ويكون مذموماً فاسداً، ويفسد القلب والجسم، ولذلك ترى العاشق نحيل لا يشتري طعاماً ولا ينام في الليل، متعب منهك جداً، العشق يُنهكه ويدمر نفسه، لماذا؟ يقولون هذا عاشق وواقع في العشق، فلا يشتهي طعاماً ولا يهنأ بنوم لأن باله كله مع المعشوق، فما عاد يريد أي شيء، إذن وقع في الغلو وصار مفْرِطاً.
فهل يناسب أن تستعمل هذه الكلمة وهي قضية العشق الدالة على الإفراط ومجاوزة الحد لدرجة أن يضر الإنسان بنفسه، أن تستعمل في وصف العلاقة بين العبد والرب؟ ما يمكن، فإن الله لا يُحب محبة زيادة على العدل، ولا يمكن، ولذلك هنا سر عظيم وفائدة بديعة في قضية محبة الله تعالى ألا وهي: (أن محبة الله ليس لها حد تنتهي إليه).
وكذلك يمكن أن نقول أيضاً: (محبة غير الله إذا زادت صارت إفراطاً أو غلواً وانقلبت وصارت مضرة، ومحبة الله مهما زادت فلا تنقلب ولا تصير إفراطاً وغلواً).
فهذه من خصائص عبودية المحبة بين العبد والرب، أن محبة الله ليس لها حد تنتهي إليه، ومهما أحببت ومهما زدت في المحبة لا يمكن أن تقع في غلو أو إفراط، لكن أي شيء آخر مثل محبة الطعام أو محبة الشراب، أو محبة فلان أو محبة فلان، ممكن إذا جاوزت حداً معين تصير غلواً وتصير شركاً، إلا محبة الله تعالى مهما زدت فيها فلا تقع في إفراط ولا في غلو ولا في شيء.
لابد أن يحب العبد ربه حتى يكون الرب أحب إليه من غيره، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم تابعة لمحبة الرب، فلماذا تحب النبي صلى الله عليه وسلم؟ لأن الله تعالى أمر بمحبته وجعله رسوله، وأنزل عليه كتابه، وجعل له الشرف والمكانة بين الخلق والمقام المحمود يوم القيامة.
قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين، ولما قال عمر: يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: لا يا عمر! حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال: لأنت أحب إلي من نفسي، قال: الآن يا عمر!).(203/16)
الفساد المترتب على العشق
فهذا ما ينبغي أن يكون عليه الحال في المحبة.
أما قضية العشق وما يترتب عليه فلا شك أن العشق هو فساد في الإدراك والتخيل والمعرفة، ولذلك فالعاشق يخيل له المعشوق على صورة أخرى غير ما هو عليه حقيقة، ينقل ابن تيمية الآن عن الأطباء النفسانيين: (يقول الأطباء: العشق مرض وسواسي شبيه بالمانخوليا، فيجعلونه من الأمراض الدماغية التي تُفسد الفكر والتخيل كما يفسده المانخوليا) مرض يُفسد التخيل فتتخيل أشياء وتراها على عكس ما هي عليه.
فالعاشق إذا وصل إلى درجة مع المعشوق تخيله شيئاً آخر على غير ما هو عليه تماماً، ولذلك فليس بصحيح إطلاقاً أن يكون هذا مما تُوصف به العلاقة بين العبد والرب.
وبعض هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالعشاق لله يعتريهم من الصور اعتقادات فاسدة -لأجل هذه القضية- لا تجوز إطلاقاً في حق الله تعالى، وكثيراً ما يعتري أهل المحبة من السُكر أعظم مما يصيب السكران بالخمر، والسكران بالصور كما قال تعالى في قوم لوط: {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] والحب له سُكر أعظم من سُكر الشراب، كما قال الشاعر:
سُكْرانِ سكر هوىً وسكر مدامة ومتى الإفاقة من به سُكرانُ
والمدامة: هي الخمر.
فالسُكر كما يكون بالخمر قد يكون أيضاً بالصور، بل ربما كان السُكر بالصور أعظم من السكر بالخمر، لأنه يُحدث اضطراباً في العقل والعلم واعتقادات وتخيلات فاسدة.
ثم لخص رحمه الله تعالى الانحراف في باب محبة الله فقال: " باب محبة الله ضل فيه فريقان من الناس: الفريق الأول: فريق من أهل النظر والكلام والمنتسبين للعلم جحدوها وكذبوا بحقيقتها وقالوا: إن الله لا يُحب، ونفوا صفة المحبة لله.
الفريق الثاني: فريق من أهل التعبد والتصوف والزهد، أدخلوا فيها من الاعتقادات والإرادات الفاسدة ما ضاهوا بها المشركين.
فالأولون يشبهون المستكبرين، والآخرون يشبهون المشركين، ولهذا يكون الأول في أشباه اليهود، ويكون الثاني في أشباه النصارى، وقد أمرنا الله تعالى أن نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7].
" فالأولون كابروا النصوص، فالنصوص تقول يحب، وهم يقولون لا ما يحب، والآخرون وافقوا النصارى في قضية الغلو وجعلوا فيها أشياء من الاعتقادات والإرادات الفاسدة(203/17)
كل محبة وبغضة يتبعها لذة وألم
ثم أشار رحمه الله إلى قاعدة أخرى، قال: " ومن المعلوم أن كل محبةٍ وبغضةٍ فإنه يتبعها لذة وألم، ففي نيل المحبوب لذة، وفراقه يكون فيه ألم، وفي نيل المكروه ألم، وفي العافية من المكروه لذة ".
فقضية اللذة من الأشياء التي ينبغي أن يُتمعن فيها، ولذلك تكلموا عنها كثيراً لأنهم قالوا: إن المخاليق كلهم يسعون لأجل نيل اللذات، قد تكون لذة صحيحة أو لذة سقيمة، أو لذة فاسدة أو لذة شرعية أو لذة محرمة، المهم أن الناس سعيهم الآن لأجل نيل اللذات عموماً.(203/18)
أجناس اللذات
قال شيخ الإسلام رحمه الله: " واللذات الموجودة في الدنيا، ثلاثة أجناس " الأولى: اللذة الجسدية كالأكل والنكاح واللباس، لماذا سميت لذة جسدية؟ لأن الشخص يباشرها بجسده.
الثانية: اللذة النفسية أو التخيلية أو التوهمية، لأن الإنسان يتخيلها في نفسه، فإحساسه بها إحساس نفسي، مثل: أن يمدحك غيرك، فالمدح مثلاً لذة نفسية، وكما أن فوات الأكل والشرب يؤلمك وتحصيل الأكل والشرب تلتذ به، فكذلك فوات المدح وحصول عكسه من الذم مثلاً، ومخالفة الناس لك تُحدث أذى.
وكذلك فإن موافقة الناس لك ومدحهم، وثناؤهم عليك يُحدث في نفسك لذة، فالإهانة والذم تُحدث ألماً كما أن فَقْدَ الأكل والشرب يُحدث ألماً وهو ألم الجوع.
فالمأكول والمنكوح تنال بالجسد، أي: أشياء محسوسة، يتلذذ بوجودها ويتألم بفقدها، وأما الكرامة فهي في النفوس، فإذا أُكرمت حصل عندك لذة وإذا أهنت صار عندك ألم.
الثالثة: لذة القلب والروح: كلتذاذه بذكر الله تعالى ومعرفته، ومعرفة الحق، هذه اللذة العظمى التي لا تضاهيها لذة، والتي من تذوقها هانت عنده اللذات الأخرى.(203/19)
شرع الله لعباده من اللذات ما فيه صلاحهم
اللذة مطلب عظيم أساسي، فالناس لا يمكن أن يعيشوا بدونه، والله سبحانه وتعالى قد شرع لنا من اللذات ما فيه صلاحنا في الدنيا، فلذلك أحل لنا الطيبات من الطعام والشراب، وأحل لنا النكاح، فله الحمد سبحانه وتعالى، وحياتنا لا تستقيم بدون هذه اللذات.
وجعل في الآخرة اللذة التامة والكاملة، وكانت لذات الدنيا منقوصة، فالطعام قد تلتذ به عند الأكل ثم يحصل لك إمساك أو يحصل لك إسهال، وكذلك النكاح إذا أفرطت فيه أو إذا امتنعت عنه، فالمهم أن لذات الدنيا ممكن أن تسبب مشكلات، ثم لها حد ونهاية، ثم بعد ذلك تعافها حتى تتجدد مرة أخرى.
أما لذات الآخرة فهي لذات تامة كاملة متجددة، فتصور أن لذات الآخرة لا تشبع منها، مثلاً تأكل لتشبع ثم تعاف نفسك، أما طعام الجنة؟ فتأكل وتشرب فيخرج رشحاً له رائحة المسك، ثم تأكل وتشرب وتخرج رائحة، وهكذا، والنكاح كذلك، النكاح في الدنيا إذا زاد منه أضعف وأنهك وتحللت قواه، أما في الآخرة فليس هناك فتور ولا ضعف، وليس هناك تعب منه إطلاقاً.
ثم بالإضافة إلى ذلك فإن لذات الجنة زائدة متجددة باستمرار: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) قال الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] فلذات الجنة متجددة، يأكل ثمرة ثم يأكل ثمرة فيجدها أطيب مما قبل، ثم يأكل ثمرة فيجدها أطيب من التي قبلها وهكذا، وأهل الجنة يذهبون إلى سوق الجمعة فيرجعون إلى أهاليهم فيقلن لهم: ازددتم بعدنا حُسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً.
فلاحظ أن لذات الجنة في تطور مستمر، ما في نهاية عظمى وبعد ذلك ينزل، بل تستمر في التطور، ولذات الجنة مستمرة، وأعظم لذة فيها على الإطلاق وهي اللذة التي تنسي جميع اللذات: النظر إلى وجه الله عز وجل، فإنهم إذا رأوه شعروا بلذة غامرة عظيمة لا يوجد أعظم منها إطلاقاً، فينسون لذات الجنة الأخرى بجانب هذه اللذة، وهي تتجدد عليهم، ينظرون إلى وجه ربهم بين حين وآخر، فتتجدد عليهم هذه اللذة.
فإذن لا شك أن الأشياء التي تحب النفس تحصيلها فيها لذة وفي فراقها ألم، وكذلك المكروهات فراقها والمعافاة منها فيه لذة، والوقوع فيها إذا حلت فيه ألم.(203/20)
من ترك لذة فانية عوضه الله بلذة متكاملة
فالذي يتحمل مكروهات الدنيا لأجل اللذة الأخروية، ويصبر عن اللذات المؤقتة الناقصة، لأجل تحصيل اللذات الكاملة المتجددة، هذا هو المؤمن، ومع ذلك من رحمة الله أنه ما حرم علينا كل اللذات في الدنيا، ولا قال: يا أيها العباد إذا أردتم لذة الجنة اتركوا كل لذات الدنيا، ولا تتلذذوا بطعام ولا شراب ولا نكاح ولا ملابس أبداً، احرم نفسك من لذات الدنيا تأخذ لذات الجنة، ما قال ذلك، وإنما أباح لنا لذات في الدنيا: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] وقال صلى الله عليه وسلم: (حبب إليّ من دنياكم: الطيب والنساء) أفلا ترى أن من رحمة الله بنا أنه أعطانا لذات مباحة في الدنيا وحرم علينا لذات لننال بسبب الامتناع عنها ابتغاء وجهه لذات أخرى.
وقد غلط المتفلسفة من الصابئين والمشركين ومن حذا حذوهم كـ الرازي وغيره في أمر هذه اللذات في الدنيا والآخرة حتى جرهم ذلك الغلط إلى الدين الفاسد في الدنيا بالاعتقادات الفاسدة والزهادات الفاسدة، فصاروا تاركين لما ينفعهم من لذات الدنيا معرضين عما خُلقوا له، فالآن بعض الصوفية الذين يتبعون رهابنة النصارى، يقولون بالحرمان من كل لذة، ويتعبدون بترك كل لذة، وهذه بدعة.
ولما أراد بعض الصحابة أن يمتنعوا عن لذة النساء والنوم والطعام واللحم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خطأهم وعنف على ذلك بعبارات شديدة وقال: (من رغب عن سنتي فليس مني).
أي: واحد قال: أنا لا أنام الليل، وآخر قال: أنا لا أفطر في النهار، وآخر قال: لا آكل اللحم، وآخر قال: لا أنكح النساء، فالنبي صلى الله عليه وسلم قاوم ذلك كله وقال: (من رغب عن سنتي فليس مني).
فإذن الحقيقة أننا نزداد محبة لله عندما نرى أنه أباح لنا لذات كثيرة في الدنيا، وأعطانا على الامتناع عن بعض اللذات التي هي في الحقيقة مصائب وآلام كالزنا والخمر وغيره، أعطانا عوضاً عن ذلك في الآخرة لذات كثيرة، ولذلك لو قال واحد أنا لو امتنعت عن الأغاني الآن في الدنيا، لم أعد أسمع لا الموسيقى ولا الأغاني فماذا لي في الآخرة؟ نقول: لك في الآخرة كما قال الله عز وجل: {يُحْبَرُونَ} [الروم:15] وغناء الحور العين، فيحبرون: هو سماع الغناء في الجنة وغناء الحور العين، فهذا أعظم من كل غناء في الدنيا ولا يقارن به على الإطلاق.
فلا يوجد شيء يتركه العبد في الدنيا لله ثم لا يأخذ مقابلاً في الآخرة.(203/21)
لماذا لا نطبق ما تعلمناه؟!
العمل رديف العلم، لكن قد تجد من الناس من لا يطبق ما تعلمه، وفي هذا الدرس بيان مفصل لأسباب التفريط في العمل ممن علم، وقد ذكر الشيخ في بداية حديثه أحوال الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا يتعلمون لينفذوا، وختم درسه بذكر بعض العلاجات الدافعة إلى جعل العمل ثمرة من ثمرات العلم.(204/1)
علامات عدم تطبيق ما تعلمناه
الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا أشرك به أحداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيل الله ورضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأعوانه، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم نلقاه.
أيها الإخوة! أيها الشباب! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتحية طيبة لكم أيها الحاضرون والمستمعون في هذه الليلة ونقف وقفة حساب مع أنفسنا، والمؤمن يحاسب نفسه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18].
عنوان درسنا من باب المحاسبة: لماذا لا نطبق ما تعلمناه؟! كم خطبة حضرنا؟ كم كتاباً أو ورقة قرأنا؟ كم شريطاً سمعنا؟ كم نصيحة إليها أصغينا وأسديت إلينا؟ كم ختمة ختمنا؟ فكم من ذلك عقلنا؟ وكم من المضمون طبقنا؟ كم أمراً فيها نفذنا؟ وكم نهياً فيها اجتنبنا؟ لماذا ندعى إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فنتولى ولا نعمل؟ لماذا تقرأ علينا الآيات التي لو أنزلت على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، ثم لا نتعظ ولا نتأثر؟ نجد أحياناً أنفسنا نمر بموقف ولا نعمل بالحكم الذي نعمله في هذا الموقف، أحياناً نذهل عنه، وأحياناً نتذكره، ولكننا نتقاعس ونتكاسل، لماذا نجد كثيراً من الناس يحملون شهادة شريعة وحصلوا أشياء من العلم، وآخرين حفظوا متوناً وقرءوا كتباً وحضروا حلقاً، وكثيراً من الشباب فعلوا ذلك، لكن أثر العلم لا يظهر عليهم، لا في سمتهم ولا في طريقتهم، ولا في أخلاقهم؟ لماذا نقصر في الواجبات ونسيء، ونفرط كثيراً في المستحبات ونتقاعس؟ للإجابة على ذلك وإيضاح الأسباب والعلاج كانت هذه الكلمة التي أسأل الله أن ينفعني وإياكم بها إنه سميع قريب.
إخواني! إن العمل يكون له دافع من حرارة الإيمان، فإذا كان الإيمان ناقصاً بارداً لا يدفع الإنسان للعمل، لقد نادانا الله بوصف المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران:102] نادانا بالإيمان لكي ننطلق منه للعمل، ربما لا يكون عندنا الجدية الكافية التي تدفعنا للعمل، جمهور الخطب والدروس ليس كلهم يأتي بنفسية التلقي للتنفيذ.(204/2)
الصحابة تعلموا لينفذوا
إن هذا القرآن أنزل للتنفيذ، كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يتعلمون للتنفيذ، انظر إلى أبي بكر رضي الله عنه، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (علمني دعاءً أدعو به في صلاتي) وفي رواية لـ مسلم (علمني يا رسول لله دعاءً أدعو به في صلاتي وفي بيتي).
يقول أبو برزة للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! إني لا أدري لعسى أن تمضي وأبقى بعدك، فزودني شيئاً ينفعني الله به) رواه مسلم.
يقول عبد الله بن مسعود: (يا نبي الله! أي الأعمال أقرب إلى الجنة) رواه مسلم.
يقول أبو ذر: (يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيله، قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعاً أو تصنع لأخرق الحديث) رواه مسلم.
أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! كيف أقول حين أسأل ربي؟ قال: قل اللهم اغفر لي وارحمني، وعافني وارزقني، وجمع أصابعه الأربع إلا الإبهام، فإن هؤلاء يجمعن لك دينك ودنياك) رواه ابن ماجة.
للآخرة اغفر لي وارحمني، وفي الدنيا عافني وارزقني، جمع لك خير الدنيا والآخرة في هذا الدعاء.
قالت عائشة: (يا رسول الله! أرأيت لو وافقت ليلة القدر ما أدعو؟) كانوا يسألون للتنفيذ.
أبو برزة يقول: (يا رسول الله! دلني على عمل يدخلني الجنة أو انتفع به، قال: اعزل الأذى عن طريق المسلمين) رواه الإمام أحمد.
جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! علمني عملاً يدخلني الجنة، فقال: لئن كنت أقصرت الخطبة، لقد أعرضت المسألة -جئت بمسألة عظيمة- أعتق النسمة، وفك الرقبة) رواه أحمد.
أبو جري الهجيني، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: (يا رسول الله! إنا قوم من أهل البادية، فعلمنا شيئاً ينفعنا الله تبارك وتعالى به، فقال: لا تحقرن من المعروف شيئاً الحديث) أبو جري يقول: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محتبٍ بشملة له وقد وقع هدبها على قدميه، فقلت: أيكم محمد، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأومأ بيده إلى نفسه عليه الصلاة والسلام، فقلت: يا رسول الله! إني من أهل البادية وفي جفائهم فأوصني، قال: ولا تسبن أحداً، فما سببت بعده أحداً ولا شاةً ولا بعيراً).
هو يقول: لا تسبن أحداً، التنفيذ مباشرة، وليس التنفيذ في أول يومين وثلاثة، ثم تنسى، لا، قال: فما سببت بعده أحداً؛ لأنه قال: ولا تسبن أحداً، أنت تلمس يا أخي الصدق من طريقة السؤال.
عن عبد الله بن عباس أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا نبي الله! إني شيخ كبير عليل يشق عليّ القيام، فأمرني بليلة لعل الله يوفقني فيها لليلة القدر، قال: عليك بالسابعة) رواه أحمد.
كانوا يطلبون ويطلبون المزيد، ومستعدون للتنفيذ.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! مرني بصيام، قال: صم يوماً ولك أجر تسعة- لأن الحسنة بعشر أمثالها- قلت: يا رسول الله! إني أجد قوة فزدني، قال: صم يومين ولك أجر ثمانية أيام، قلت: يا رسول الله! إني أجد قوة فزدني، قال: فصم ثلاثة أيام ولك أجر سبعة أيام، قال: فما زال يحط لي، حتى قال: إن أفضل الصوم صوم أخي داود أو نبي الله داود صم يوماً وأفطر يوماً) قال عبد الله لما ضعف: [ليتني كنت قنعت بما أمرني به النبي صلى الله عليه وسلم] لكنه استمر إلى آخر حياته؛ لأنه كره أن يغير شيئاً فارق عليه النبي عليه الصلاة والسلام.
الصحابة إذاً أيها الإخوة يتعلمون ليعملوا، أبو فاطمة قال: (يا رسول الله! أخبرني بعمل أستقيم عليه وأعمله، قال: عليك بالسجود، فإنك لا تسجد لله سجدة؛ إلا رفعك الله بها درجة وحط بها عنك خطيئة).
إذاً لابد أن يكون عندنا مفهوم العلم للعمل، والتلقي للتنفيذ، نريد أن نقرأ المصحف، وننفذ ما قال الله عز وجل؛ لأن الأوامر لنا وليست لغيرنا، ثم إن التنفيذ يزيدنا خيراً وثباتاً، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66] العمل يثبت الإنسان.(204/3)
أسباب عدم تطبيق ما تعلمناه
عندنا -يا إخواني- ضعف في تربيتنا؛ في صياغة شخصياتنا، المقومات المطلوبة في الشخصية الإسلامية فيها نقص عندنا بسبب ضعف التربية، في البيت، في المدرسة، في كل مكان، يوجد ضعف في التربية، قد يوفق الإنسان لمكان طيب يتربى فيه، قد يزرق أبوين صالحين، وقد يكون أبواه من عامة الناس، وكذلك في المدرسة قد يوفق بمدرسين طيبين، وقد يكون المدرسون عاديين، لا يقدمون له شيئاً كبيراً، وهكذا المنكرات المبثوثة ينتج عنها وسط يتربى فيه الإنسان بضعف، بل ربما يتربى على آلة اللهو وأدواته، ولذلك يحصل عندنا ضعف في الشخصية ينعكس على درجة التنفيذ.(204/4)
عدم معرفة الأجر
يمكن أن يكون عدم معرفة الأجر يؤدي إلى ضعف التطبيق، لو كنا نعرف الأجر لطبقنا، لكن بسبب عدم معرفتنا بالأجر لا نتحمس، لماذا ذكر الله لنا الأجور، وبين لنا أشياء كثيرة في القرآن والسنة؟ حتى نعمل.
لو قيل لك: لو فعلت كذا تأخذ ترقية أو نرفعك درجة ورتبة، فإنك تتحمس للعمل، نعطيك ألفاً تتحمس للعمل، أجور كثيرة مذكورة في القرآن والسنة تحمسنا للعمل، ينبغي علينا أن نفكر في هذه القضية، كل حرف بعشر حسنات من القرآن الكريم، كم حرفاً في القرآن؟ أكثر من ثلاثمائة ألف حرف، اضرب في عشرة، ثلاثة مليون حسنة وأكثر، والله يضاعف لمن يشاء وكذلك في الصدقات.
من قام الصبح والعشاء في جماعة فكأنما قام الليل كله، وكأنما قام نصف الليل، وهناك أعمال الذي يعملها يغفر له ما تقدم من ذنبه، كما قال عثمان بن عفان بعدما توضأ فأحسن الوضوء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غُفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري.
وضوء جيد بركعتين مع الخشوع يغفر لك ما تقدم من ذنبك.
وربما بعض الناس يظن أن غفران ما تقدم من الذنب لا يتم إلا بأشياء صعبة وعسيرة جداً، وليس الأمر كذلك، تأمل معي الحديث التالي: عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمَّن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غُفر له ما تقدم من ذنبه).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى، غُفر له ما تقدم من ذنبه) رواهما البخاري.
فمتى تقول الملائكة: آمين؟ إذا قال الإمام: آمين، فإذا طابق تأمينك تأمين الملائكة، غُفر لك ما تقدم من ذنبك.
وعن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أكل طعاماً، فقال: الحمد لله الذي أطمعني هذا ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوة، غُفر له ما تقدم من ذنبه) رواه الترمذي وحسنه، على ذكر تقوله بعد طعام.
ولذلك ينبغي علينا إذا كان في قلوبنا حياء أن نتحسر لفوات الأجر، يقول عمرو بن سعد بن أبي وقاص، وكان قاعداً عند عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (إذا طلع خباب صاحب المقصورة، فقال: يا عبد الله بن عمر! ألا تسمع ما يقول أبو هريرة؟ إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها، ثم تبعها حتى تدفن، كان له قيراطان من الأجر كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع، كان له من الأجر مثل أحد، فأرسل ابن عمر خباباً إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة ثم يرجع إليه فيخبره ما قالت، وأخذ ابن عمر قبضة من حصباء المسجد يقلبها في يده -ينتظر على أحر من الجمر ماذا سيرجع به خباب من عائشة - حتى رجع إليه الرسول، فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة، فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض، ثم قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة) رواه مسلم.
وجاء في رواية أخرى لـ مسلم كان ابن عمر يصلي على الجنازة ثم ينصرف، فلما بلغه حديث أبي هريرة أنك إذا تبعتها إلى المقبرة ودفنت، كان لك قيراط، والقيراط: مثل جبل أحد قال: لقد ضيعنا قراريط كثيرة.
رواه مسلم.(204/5)
الإعراض عن المستحبات والتقصير في الواجبات
بعض الناس لا يريد أن يطبق إلا الواجهة، من ضعف التطبيق تطبيقه لا يمتد إلى المستحبات، قصور في الواجبات وإعراض عن المستحبات، أليس في المستحبات أجر؟ نعم هي ليست واجبة، تركها لا تأثم به، لكن هل أنت مستغن عن الأجر؟ لماذا تضاءلت عندنا مكانة السنن والمستحبات؟ بعض الشباب يكون في أول التزامه بالدين متحمساً يريد أن يطبق كل صغيرة وكبيرة، فتراه لا يشرب قائماً، يهتم بالسترة في الصلاة ونحو ذلك، ثم تراه ضعف عن هذه الأشياء، وإذا ناقشته يقول: هناك أولويات، نعم هناك أولويات، لكن هذه الأشياء التي تأتي بعد أليس لها نصيب عندك من العمل؟ لماذا الإهمال في السنن؟ لماذا الزهد في المستحبات؟ أين الصحابة الذين كانوا يعلمون السنة ويحرصون على تطبيقها؟ عن زياد بن جبير قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما أتى على رجل قد أناخ بدنته لينحرها، أناخها في الأرض، والسنة في النحر أن تكون قائمة، فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنه: ابعثها قياماً مقيدة -معقولة الرجل اليسرى- سنة محمد صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري.
من كلام الصحابي تحس بالوفاء بالسنة، وأنه محافظ عليها إلى آخر العمر.
عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة، أي: العشاء، فقرأ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] فسجد، فقلت بعد الصلاة: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه.
رواه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه.(204/6)
سوء الوسط الموجود فيه الإنسان
من أسباب عدم التنفيذ وقلة التطبيق: الوسط الموجود فيه الإنسان، قد يكون في وسط لا يوجد فيه قدوات، البيئة التي يعيش فيها التطبيق فيها قليل، الموجودون يغلب عليهم الجدل لا العمل، الوسط الذي يحيط بك في غاية الأهمية، غيِّر وسطك إذا كان فاسداً أو ميتاً غيَّره تنطلق، انتقِ الحي، القالب غالب، والصاحب ساحب، الصحبة والقدوة مهمة جداً خصوصاً في هذا الزمان الذي عمَّ فيه الفساد العظيم، لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، غلبت المعصية على الناس والجيران والأقرباء، أطبقت علينا الوسائل المفسدة بالموجات من كل مكان، في الأجواء والفضاء والأرض، غزتنا مسموعة ومرئية ومقروءة.
وعاش كثير منا في بلاد الغرب، وعاش بعضنا بين أناس مستغربين من أبناء المسلمين، أجسادهم في الشرق وقلوبهم في الغرب، لقد أصبحت المحرمات جزءاً من حياة بعض الناس العادية اليومية، كل يوم مليء بالمحرمات، تأثرنا ببعض المحرمات التي تراكمت علينا، ومع تقدم السن بقيت هذه المحرمات التي نشأنا عليها.
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عود أبوه
هذا تعليل وتفسير وليس بتبرير، أي: لا نقول: والله يا أخي! مادام أنك نشأت على معصية فأنت معذور، كلا، أنت مسئولٌ عن التغيير، تأثير البيئة على الإنسان لا يمكن أن ينكر، قال تعالى: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:43] صدها عن الله تعالى أنها كانت في قوم كافرين، ولذلك كانت مشركة وكافرة، فتأثرت رغم رجاحة عقلها وذكائها، فكفرت، ثم لما جاءت إلى سليمان عليه السلام أسلمت.
ولذلك يا إخواني! ننادي دائماً بأهمية الوسط الطيب، والصحبة الصالحة، والرفقة الحسنة، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] اصبر أي: احبس نفسك مع الذين يدعون ربهم، هؤلاء قوم اتصفوا بالإخلاص، وعملهم مستمر بالغداة والعشي، ليس فقط في المسجد، يدعون ربهم بالغداة والعشي، وعندهم إخلاص يريدون وجهه {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28] لا ملاعب ولا ملاهي ولا مراكب ولا سفريات ولا سياحات ولا مسلسلات: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28] ثم حذر الله من قرين السوء، فقال: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
كان الصحابة وسطاً جميلاً جليلاً عظيماً يعيش فيه الناس يتربون ويتأثرون، أبو موسى يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين -قومٌ من أهل الإيمان قدموا من اليمن - بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار) رواه البخاري.
والرفقة: الجماعة المترافقون.
حين يدخلون بالليل: قال ابن حجر في فتح الباري: المراد يدخلون منازلهم إذا خرجوا إلى المسجد أو إلى شغل ثم رجعوا.
بالقرآن: أي برفع أصواتهم بالقرآن، وفيه أن رفع الصوت بالقرآن مستحسن، لكن محله إذا لم يؤذ أحداً وأمن من الرياء.
أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يقول كعب: أنه وجد صفتهم موجودة ومكتوبة في الكتب المتقدمة، الحمادون يكبرون الله عز وجل على كل نجد- أي: على كل مرتفع- ويحمدونه في كل منزلة، يتأزرون على أنصافهم، ويتوضئون على أطرافهم، مناديهم ينادي في جو السماء، صفهم في القتال وصفهم في الصلاة سواء، لهم بالليل دوي كدوي النحل.
رواه الدارمي كان التابعي ينزل البلد بعد السفر، يتوجه إلى المسجد، ويقول: اللهم إني أسألك جليساً صالحا، اللهم هيئ لي جليساً صالحا.
لذلك كل واحد في بيئته فساد، وعنده رفقه سوء لابد أن يتركها ويغادرها، مثلما نصح العالم الصالح قاتل المائة أن يترك بلده التي عمل فيها الجرائم؛ لأن فيها أناساً من أهل السوء يعينونه على السوء، ويذهب إلى قرية كذا وكذا، فإن فيها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم.
إذاً غير بيئتك لتنطلق في عمل الصالحات، تاريخ جديد وحياة جديدة ورؤية جديدة، وأناس يذكرون بالصالحات، بدلاً من أناس رؤيتهم تذكر بالمعاصي: (مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافح الكير) وبعض الناس يقول: تعودت عليه، وهو زميلي من الابتدائية، ودرسنا مع بعض، كنا جيران عشرين سنة، وما معنى هذا إذا كان رجلاً سيئاً؟ مهما كانت العشرة والصحبة ينبغي أن تتركه لله بعد أن تنصحه، وإذا لم تجد النصيحة فاترك هذا القرين، واذهب إلى أهل الصلاح وإلى أهل الخير، هاجر إليهم في سبيل الله.
بعض الناس يقول: أهلي وأهل زوجتي وبيئة العمل، هناك أوساط ممكن نخرج منها، وهناك أوساط لا يمكن أن نخرج منها، أهلك لو كان فيهم فساد أو في بيئتهم شر، أنت لا تستطيع أن تقطع العلاقة بالكلية، أهل زوجتك كذلك، العمل الذي أنت تعمل فيه إذا لم تستطع أن تغيره وما وجدت عملاً آخر، هنا لابد أن نقاوم، لابد أن يكون عندنا مقاومة ومناصحة وتسديد ومقاربة، نناصح ونقاوم هذا مهم جداً، بعض الناس ينصحون ولا يقاومون، وبعض الناس يسكتون ولا ينصحون، لابد أن ننصح ونقاوم ونسدد ونقارب، نحاول ألا يصل إلينا ولا إلى أولادنا شر، ونقلل من الاحتكاك ما أمكن في الوسط الذي لا يمكن أن ننفك عنه.(204/7)
العمل في بيئات محرمة
وبعض الناس يعملون في بيئاتٍ العمل فيها محرم، يؤثر على التطبيق والتنفيذ، يختاره لجاذبيته المالية، ويقول: علي ضغوط اقتصادية، واحد يعمل في عمل فيه نساء وفتنة، أو في مكان ربوي، ويقول: لا أستطيع أن أترك الوظيفة في هذا الزمان، ومن أين أجد عمل؟ نقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] هذا فعل شرط مرتب عليه جواب شرط {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] وليس الاتقاء فقط في ترك هذا العمل، بل في ترك كل المحرمات، حتى يحدث الموعود به {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2].
بعض الناس يقول: يا أخي! زحمة المكان ما تركت لنا مكاناً، ووقت للتطبيق والتنفيذ كله عمل في عمل، وعمل وراء عمل، طبيعة عملنا مرهقة، نقول: هل تعجز عن تطبيق وصية النبي عليه الصلاة والسلام، وهي قوله: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) مهما كان عملك فيه أشغال كثيرة ومتوالية، لا يزال لسانك رطباً بذكر الله، لا يمكن أن تطبق هذا الحديث.(204/8)
خلل في التطبيق
بعض الناس قد يوجد عنده خلل في التطبيق، أو توقف عن التنفيذ، أو تباطؤ نتيجة لعدم الوضعية في التطبيق، كأن يكون قد هجم في التزامه بالإسلام هجوماً على هذه العبادات والنوافل والمستحبات، فعمل عملاً كبيراً لا يطيقه، فجأة صعد صعدة واحدة أضرت بنفسه، لم يوافق السنة في العمل بالسنن والمستحبات، هنا قد يحدث كلل وملل، وبالتالي يحدث انقطاع، لذلك عبد الله بن عمرو رضي الله عنه لما بلغ النبي عليه الصلاة والسلام أنه يعمل أعمالاً كبيره قد لا يطيقها، قال صلى الله عليه وسلم ينصحه نصيحة مربٍ: (ألم أخبر -لاحظ يريد أن يتأكد ويتثبت- أنك تقوم الليل وتصوم النهار، قلت: إني أفعل ذلك، قال: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك ونفهت نفسك، وإن لنفسك حقاً ولأهلك حقاً، فصم وأفطر وقم ونم) رواه البخاري رحمه الله.
هجمت عينك أي: غارت أو ضعفت من كثرة السهر، نفهت نفسك أي: ملت وكلت، فذكر أن لنفسك عليك حقاً، لابد أن تنام جزءاً من الليل، لابد أن تفطر بعض الأيام لتحافظ على جسمك، فإن لجسدك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزوارك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه، صم وأفطر.
لا حظوا أن النبي عليه الصلاة والسلام حث على ملازمة العبادة، لم يقل: توقف، ولكن قال: اقتصد، بعض الناس إذا رأى شخصاً عنده عبادات كثيرة، قال: يا أخي! هكذا ستقود نفسك إلى المهلكة، توقف عن كل الأنشطة، ليس بصحيح.
قال ابن حجر رحمه الله: من فوائد هذا الحديث: أن من تكلف الزيادة على ما طبع عليه، يقع له الخلل في الغالب، قال: وفيه الحث على ملازمة العبادة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مع كراهته له التشديد على نفسه حثه على الاقتصاد، كأنه قال له: ولم يمنعك اشتغالك بحقوق من ذكر أن تضيع حق العبادة، وتترك المندوب جملة، ولكن اجمع بينهما، وفي الحديث أن الإنسان إذا كلف نفسه أكثر مما يطيق توقف عن التطبيق، إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.(204/9)
الرضا بالدون والتواضع السيئ
بعض الناس عندهم خلل في التطبيق وتباطؤ وامتناع؛ لأنهم يتواضعون تواضعاً سيئاً ويرضون بالدون، فيقول: أنا لست عالماً، ولا شيخاً ولا إماماً، ولا خطيباً ولا داعية ولا قدوة، ولا يشار إلي بالبنان، ما أنا إلا واحداً من عامة الناس، فلست مطالباً بمستويات عالية من العبادة أو الزهد أو العلم، من الذي سيسألني ويتلقى عني ويتأثر بي؟ ولذلك لما تطيح الهمة؛ فعند ذلك يكون التطبيق مهلهلاً فعلاً.
وبعض الناس همته القاصرة هذه، ستطيح بتنفيذه وتطبيقه، ولكن أنت اعمل لله، رآك أحد أو لم يراك أحد، اقتدى بك أحد أو لم يقتد بك أحد، أنت تعمل لله وابتغاء مرضات الله.(204/10)
الخوف من انتقاد الناس
وبعضهم لا يطبق ما تعلمه، بسبب خوف انتقاد الناس له وكلامهم فيه، سيقولون عني متزمت، متشدد، مجنون، فلما جعل رضا الناس غايته ترك أعماله، وربما وقع في محرمات، لو جعل رضا الله غايته لكان انطلق في العمل، دع عنك كلام الناس فليقولوا عنك ما يريدون أن يقولوا، إذا أرضيت الله سيرضي الله الناس عنك، وهذه مسألة مهمة، لا يصلح أن يكون عندنا هزيمة نفسية، أين عزة المسلم؟ بعض الأشخاص قد يستهزئ به لصلاته أو لعبادته، إذا قعد يقرأ القرآن، قالوا: مراءٍ، يريد أن يراه الناس، ما عليك من كلام الناس، قالوا ذلك أو لم يقولوا اعمل، وكذلك لو قالوا: هذا متزمت ومتشدد، فيقولوا ما يريدون أن يقولوا؛ لأن غرضك هو إرضاء الله عز وجل.(204/11)
ضعف التصديق بالجنة والنار والحساب
أحياناً يكون مستوى تصديقنا بالجنة والنار فيه ضعف، ومستوى إيماننا بالحساب فيه نقص، ولذلك نستغرب أحياناً كيف تصدق أبو بكر بكل ماله؟ وكيف تصدق عمر بنصف ماله؟ ما الذي دفعهم إلى هذا المستوى العالي من التطبيق والتنفيذ؟ كل المال ما ترك لنفسه شيئاً، ونصف المال والمدخرات! افترض الآن أن عندك في البنك ثروات، تأخذ كل الرصيد وتتصدق به أو نصفه، ما هو الدافع لمثل هذا العمل؟ الدافع قضية الإيمان بالجنة والنار والحساب وما أعد الله للمتقين، لو كان مستوى الإيمان عالياً لرأيت تطبيقاً عظيماً [لئن أنا عشت حتى آكل هذه التمرات، إنها لحياة طويلة] ألقى التمرات وقام يقاتل فقتل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) لما وقعت هذه الكلمات في نفس ذلك الصحابي موقعاً حسناً، لقيت قبولاً وإيماناً؛ فقام مباشرة وألقى التمرة وتقدم فقاتل وقتل، وصل إلى الجنة وانتهت المشكلة، كل الأحلام والأماني تحققت.(204/12)
ضعف الارتباط بالقرآن والسنة
أحياناً يكون ضعف الارتباط بالقرآن والسنة سبباً في عدم التطبيق أو التباطؤ فيه، لماذا بكت أم أيمن لما زارها أبو بكر وعمر؟ ما بكت لأنها تريد أن يبقى النبي عليه الصلاة والسلام في الدنيا، هي تعلم أن ما عند الله خير لرسول الله، لكنها بكت لأن الوحي قد انقطع، وهي تريد مزيداً من الوحي.
كانت قلوبهم حية ومتصلة بالوحي.(204/13)
التعلق بأحاديث الرجاء وعدم الخوف من الله
عندنا يا إخوان مشكلة أخرى، هي مشكلة في الإرجاء والتعلق بأحاديث الرجاء، وعدم الالتفات إلى الخوف من الله، لو سألت الواحد فينا ماذا تؤمل يوم القيامة؟ يقول: آمل الجنة، وأظن أن الله سيرحمني ويغفر لي، والجنة إذا نحن لم ندخلها فمن سيدخلها؟ ألكفار؟ فنقول: وما أدراك لو دخلتها، هل ستمر على النار قبل دخولها؟ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] قطعاً كل واحد فينا سيرد النار مائة في المائة {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] ليس فيها كلام، لكن ليس عندنا وعد أننا سننجو، قال الله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72].
مشكلتنا أننا دائماً نقول: إن الله غفور رحيم، وننسى أن الله شديد العقاب: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50] نحن نتذكر جيداً قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] لكننا قد لا نتذكر قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] قالوا عن: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] أرجى آية في كتاب الله، وفي قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] أخوف آية في كتاب الله، وكذلك: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].(204/14)
مفهومات خاطئة
بعض الإخوان عندهم مفهومات خاطئة تقود إلى التباطؤ في التنفيذ، يقول: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ظروفي لا تسمح، لا أستطيع، لا أطيق، وقد لا يكون صادقاً في دعواه، يستشهدون بالآيات، أمرنا بالجهاد وفيه قتل نفس، هل ممكن واحد يقول: لا أستطيع، هذا فيه قتل نفس، نقول: أمرت لابد أن تنفذ، وبعض الإخوان هداهم الله إذا وقع في بعض المحرمات، قيل له: ألا تنتهي ألا تكف؟ يقول لك: في المسألة خلاف، والمسألة فيها سعة، وبعض الناس حللوها، والدين فيه فسحة، وهكذا يقعد يترخص لنفسه ويجمع الرخص؛ المشايخ اختلفوا، والفتاوى تضاربت.
أولاً: قضية المسألة فيها خلاف، هل نعي أنه ليس كل خلاف صحيح وسائغ، وأن هناك أقوالاً باطلة؟
وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلافٌ له حظٌ من النظر
ليس كل خلاف سائغ، ثم لا يحق للعامي أن ينتقي من الأقوال على ما يشتهي وعلى حسب هواه، لابد أن يسأل أهل العلم ويقلد مادام عامياً، فإذا قال له المفتي الثقة: امتنع، يمتنع، وإذا قال له: يجوز، يجوز، هل طبق قول الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]؟ ثم بعضهم قد يقول: سألت فلاناً فلم يعطني جواباً يعجبني، فيذهب ويسأل واحداً آخر، وبعض الناس مع الأسف يكون ممتنعاً عن محرم معين، فيسمع شيخاً قال يوماً من الأيام: إنه يجوز، فيأتي الشيطان يقول له: هذا فلان أفتى بالجواز، كأنه باب فتح له، وشيء ينتظره، قال: انحلت فقد أفتى فيها فلان، أليس هناك شيء اسمه زلة العالم؟ قد يزل العالم، ثم أين الاعتناء والحرص على الدليل الذي يبين لك الزلة والمقارنة بأقوال أهل العلم؟ أيها الإخوة! إننا لا نستطيع أن نخادع الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة:9].(204/15)
طول الأمل
لابد أن نعلم أيضاً أن طول الأمل ينسينا ويطغينا ويرجئ التنفيذ عندنا، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8].
أيها الإخوة! إن مسألة سوف، ولعل، وسنطبق بعد ذلك قد أساءت إلينا كثيراً، كلما جاء طارق الخير صرفه بوَّاب لعل وعسى، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اغتنم فراغك قبل شغلك) (بادروا بالأعمال) وقال الله قبل ذلك: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] وهذا يعني أنك تعمل الآن ولا تدري ماذا سيحدث لك في المستقبل.(204/16)
جعل الصلاح كلاً لا يتجزأ
ومن الشبهات التي تؤجل التنفيذ وتمنعه عند البعض: أنه يجعل الصلاح كلاً لا يتجزأ، ويقول: إما التزام كامل أو لا التزام، أما نصف التزام فلا، وهذه مصيبة، وخدعة شيطانية كبيرة؛ فمن منا لا يقصر؟ فما دام التقصير حاصل، فإذاً سيقول لنفسه: أنا في حل الآن، ولا داعي للخداع مع نفسي، مادام أنني لست متديناً تديناً كاملاً، فلا يلزمني أن أفعل هذا وهذا، سأدعه كله، يا أخي افعل وطبق ما تستطيع، ولو كان فيك تقصير فاحرص على الطاعات الأخرى، بعض الناس يمكن أن يمتنع عن معاصي؛ لأن نفسه ليست متعلقة بها تعلقاً شديداً، ويقع في معاصي؛ لأن نفسه متعلقة بها تعلقاً شديداً، أيهما أسوأ هذا أم الذي يقع في كل المعاصي، ويقول: مادام وقعنا في الأولى نقع في الثانية أيهما أشد عذاباً؟ ثم لو عملت وطبقت الصالحات فإنها ستنهاك عن المعاصي، وستؤجر على الطاعات، وسترجح كفة حسناتك يوم القيامة.
أحياناً يبتلى الإنسان بزوجة جاهلة مفرطة -ربما يكون عندنا قصور في التصور الإسلامي الصحيح- تجره إلى تنازلات وإلى منع من الخيرات، أحدهم رجع بعد خطبة الجمعة متأثراً، الخطيب كان يتكلم عن إسبال الثوب، وأنه لا يجوز، والوعيد الذي جاء فيه، فقال لزوجته: قصري لي ثيابي، فقالت له: لما تصلي في المسجد؛ تعال اقصر لك الثياب، المسكين أفحمته ولم يستطع أن يرد عليها من جهله ومن جهلها أيضاً، إذا أنت تستطيع أن تنفذ شيئاً الآن لماذا لا تنفذه؟ نفذ ولا تقل أبداً: عندي معاصي أخرى، وهذا ينفعك عند الله.
وقد يكون عندنا أيها الإخوة استهانة بالصغائر، لا تنظر إلى صغر المعصية وانظر إلى من عصيت، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن تقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا وهكذا، فطار] رواه الترمذي رحمه الله تعالى.(204/17)
عدم وجود قناعة في الالتزام بالإسلام
كثيراً ما تكون عدم وجود القناعة في الالتزام بالإسلام مانعاً من التطبيق، فبعض الناس يقول: عليَّ ضغوط ولا أستطيع أن أنفذ.
يا أخي قاوم، بعض الناس يقنع بالتحسن التدريجي، يقول: أنا سأضع خطة خمسية للالتزام بالإسلام، يمكن تموت في السنة الثالثة أو الرابعة، من أعطاك ضماناً بأنك ستعيش حتى تنفذ كل الخطة.
إذاً يا إخوان! لا يصح أبداً أن نقبل خداع أنفسنا لأنفسنا، خداع النفس بالنفس مصيبة كبيرة، بعض الناس يتخيل أنه لا يمكن أن يفارق منكراً من المنكرات، وإذا قيل له: جهاز اللهو هذا الذي وضعته في بيتك، يقول: ما هو البديل؟ وإذا أخرجته كيف سأصرف وقتي؟ وماذا سيقول عني الناس وأهلي وأولادي وزوجتي؟ ويضخم القضية وفي النهاية يترك تنفيذ الحكم الشرعي، سبحان الله! وبعض الناس يقول: أريد أن أتدرج في تخفيف المنكر، ثم يبقى فترة طويلة من الزمن ولا يتخلص من المنكر، الشيطان يضخم المشكلة التي تنتج عن ترك الحرام، ويضخم العوائق، توكل على الله وأخرج المنكر والله يعينك، وينزل معونته على قدر مئونتك، وستشعر مع التنفيذ بحلاوة، وسيعينك الله على مواجهة الانتقادات، وعلى الصبر على الأذى، ويرتفع إيمانك وترزق حلاوة له، وعند ذلك تستطيع المقاومة والصمود والاحتمال، ثم أنت لو فشلت، على الأقل أنت خضت التجربة، وبذلت محاولة، أليس خيراً ممن لا يبذل شيئاً؟ أيها الإخوة! الشيطان حريص على أن يصرفنا عن تنفيذ الأعمال وتطبيق ما تعلمناه، منية الشيطان ألا ننفذ، عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خصلتان، أو خلتان لا يحافظ عليهما رجل مسلم إلا دخل الجنة، هما يسير ومن يعمل بهما قليل، تسبح الله عشراً، وتحمد الله عشراً، وتكبر الله عشراً في دبر كل صلاة، فذلك مائة وخمسون باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان، وتسبح ثلاثاً وثلاثين، وتحمد ثلاثاً وثلاثين، وتكبر أربعاً وثلاثين، إذا أخذ مضجعه، فذلك مائة باللسان وألف في الميزان، فأيكم يعمل في اليوم ألفين وخمسمائة حسنة؟ قالوا: يا رسول الله! كيف هما يسير ومن يعمل بهما قليل؟ قال: يأتي أحدكم الشيطان إذا فرغ من صلاته فيذكره حاجة كذا وكذا، فيقوم ولا يقولها- السيارة واقفة خطأ اطلع بسرعة، ينتظرونك في البيت، الآن يأتي فلان ولا يجدك قم بسرعة- فإذا اضطجع - أي: للنوم- يأتيه الشيطان فينومه قبل أن يقولها، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدهن في يده) رواه الإمام أحمد.
وفي رواية لـ ابن ماجة، قال: (يأتي أحدكم الشيطان وهو في صلاته، يقول: اذكر كذا وكذا، حتى ينفك العبد لا يعقل، ويأتيه وهو في مضجعه، فلا يزال ينومه حتى ينام) إذاً الشيطان يأتي يهدهد على الإنسان يريد أن ينومه بسرعة قبل أن يقول الأذكار، ولذلك هناك ناس فعلاً، يقول: والله يا أخي أني أحاول أن أقول الأذكار قبل النوم، وأنا أعرف أن هذا ذكر عظيم، سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين قبل النوم، لكن ما أن أضع رأسي على الوسادة إلا وأذهب في الشخير والنوم العميق، لاحظ الحديث يقول: (فلا يزال ينومه حتى ينام) فإذا تسلح الإنسان بالإرادة والعزيمة والتوكل على الله؛ طبق ونفذ ولم يجعل للشيطان عليه سبيلاً.(204/18)
عدم الإحساس بقيمة المعلومة
هنا مسألة مهمة في قضية التنفيذ والتطبيق وهي: الإحساس بقيمة المعلومة، كان الواحد من السلف عندما يأخذ معلومة أو حديثاً أو آية، وعندما يأخذ حكماً شرعياً، يحس أنه عثر على كنز ثمين وصيد وفير، ولذلك يقدر القضية حق قدرها وينفذ، لكن نحن اليوم نسمع العشرات من المعلومات، لكن لا نحس أننا قد حصلنا على شيء كثير، مثل هذه المعلومة مثلاً: يسبح الله قبل النوم ثلاثاً وثلاثين، ويحمد الله ثلاثاً وثلاثين، ويكبر أربعاً وثلاثين، عددها مائة، أي: ألف حسنة.
هل تظن أننا عندما تصل إلينا هذه المعلومة أنها في نفوسنا شيء عظيم جداً، وأننا قد حصلنا كنزاً عظيماً، أم أن المسألة عادية؟ وهذا سر من أسرار التلكؤ أو عدم التنفيذ، أننا لا نقدر المعلومة حق قدرها.
كان بعض المحدثين لا يكثر من التحديث، يعطي الطالب في اليوم ثلاثة أحاديث يمليها عليه فقط، ليتمكن من العمل، ويقول للسائل: هل عملت بالذي أمليت عليك أمس؟ فإذا قال: لا.
يقول: فلماذا تستكثر من حجج الله علينا وعليك؟(204/19)
علاج عدم التطبيق: التفكر في أحوال السلف
إن من العلاجات العظيمة أيها الإخوة: أن نفكر كيف كان السلف ينفذون، نتأمل في تلك القصص، يقول المروذي: قال لي أحمد رحمه الله: ما كتبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً - مسند الإمام أحمد فيه حوالي أربعين ألف حديث، والمطبوع فيه تقريباً سبعة وعشرين ألف حديث- يقول: ما كتبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديثاً إلا وقد عملت به، حتى مر بي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، وأعطى أبا طيبة ديناراً للحجام، فأعطيت الحجام ديناراً حين احتجمت.
والدينار أربع غرامات وربع، وسعر الغرام في السوق ستة وثلاثين وخمسة وثلاثين وكان أربعين من قبل وأكثر، فالإمام أحمد احتجم وأعطى الحجام ديناراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الحجام ديناراً.
واستأذن الإمام أحمد رحمه الله زوجته في أن يتخذ أمة طلباً للاتباع، فأذنت له، فاشترى جارية بثمن يسير وسماها ريحانة استناناً بالرسول صلى الله عليه وسلم.
كان أبو داود السجستاني في النهر، فسمع رجلاً قد عطس وحمد الله، فاستأجر قارباً وذهب إلى الرجل وشمته، قال: يرحمك الله.
استأجر قارباً ليصل إلى هذا العاطس ويشمته ليطبق السنة، كله الحرص على التنفيذ وعلى التطبيق، هذا حالهم، أولئك آبائي فجئني بمثلهم، هؤلاء قدواتنا ينبغي أن نقتدي بهم.(204/20)
أقوال السلف في الحث على تطبيق العلم
إن العلماء أيها الإخوة قد ذكروا حرص طالب العلم على تطبيق العلم، والخطيب البغدادي رحمه الله له كتاب اسمه اقتضاء العلم العمل، يقول فيه: العلم شجرة والعمل ثمرة، وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً، العلم والد والعمل مولود، العلم مع العمل والرواية مع الدراية، فلا تأنس بالعمل إذا كنت مستوحشاً من العلم، ولا تأنس بالعلم إذا كنت مقصراً في العمل، ولكن اجمع بينهما.
ثم قال رحمه الله تعالى: فإن الله سبحانه وتعالى قال: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران:187] قال بعض السلف: تركوا العمل به، وأول من تسعر بهم النار يوم القيامة الذين لا يعملون بعلمهم، وكذلك فإن من الذين تسعر بهم النار، رجل آتاه الله القرآن وعرَّفه تلك النعمة فعرفها، قال: ما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وقرأت القرآن وعلمته فيك، فقال: كذبت، إنما أردت أن يقال: فلانٌ قارئ، فقد قيل، فأمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
قال الناظم:
وعامل بعلمه لم يعملن معذب من قبل عباد الوثن
قوم يوم القيامة تقرض شفاههم بمقاريض من نار، من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء من أمتك الذين يقولون ولا يفعلون، ويقرءون كتاب الله ولا يعملون.
الإنسان يسأل يوم القيامة عن علمه ماذا عمل فيه، وكذلك فإن أبا الدرداء رضي الله عنه قد قال: [إنما أخاف أن يكون أول ما يسألني عنه ربي أن يقول: قد علمت فما عملت فيما علمت].
حسن موقوف عليه.
وكان بعض السلف يقول: أخشى ألا تبقى آية في كتاب الله تعالى آمرة أو زاجرة إلا جاءتني تسألني فريضتها، فتسألني الآمرة هل ائتمرت، والزاجرة هل ازدجرت، فأعوذ بالله من علم لا ينفع ومن نفس لا تشبع.
كان فتىً يختلف إلى أم المؤمنين عائشة يسألها ويكثر السؤال، فقالت: [يا بني! هل عملت بما سمعت مني؟ فقال: لا والله يا أماه، فقالت: يا بني! فلم تستكثر من حجج الله علينا وعليك؟] قال وهب بن منبه: مثل من تعلم علماً لا يعمل به، كمثل طبيب معه دواء لا يتداوى به.
لماذا حصلت البركة عند الأولين؟ لأنهم كانوا يأخذون عشر آيات لا يتجاوزنها حتى يعملوا بما فيها، ولذلك تعلموا العلم والعمل جميعاً.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [يهتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل].
الإمام أحمد جاءه شاب يطلب الحديث، لما لاحظ عليه الإمام أحمد أنه لا يقوم الليل، قال: أف لطالب حديث لا يقوم الليل.
قال خلاد: أتيت سفيان بن عيينة، فقال: إنما يأتي بك الجهل لا ابتغاء العلم، لو اقتصر جيرانك على علمك لكفاهم، ثم كوم كومة من بطحاء، ثم شقها بإصبعه، ثم قال: هذا العلم أخذت نصفه، هل استعملته؟ ولذلك إيانا وخدعة جمع العلم ثم نعمل، قال حفص بن حميد: دخلت على داود الطائي أسأله مشكلة وكان كريماً، فقال: أرأيت المحارب إذا أراد أن يلقى الحرب، أليس يجمع آلته؟ فإذا أفنى عمره في الآلة فمتى يحارب؟ إن العلم آلة العمل، فإذا أفنى عمره في جمعه، فمتى يعمل؟ أيها الإخوة! إن مخالفة العلم للعمل خطيرة جداً، هناك واحد في النار يجاء به يدر بأقتاب بطنه كما يور الحمار بالرحى، فيطوف به أهل النار، فيقولون: (أي فلان! ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: إني كنت آمر بالمعروف ولا أفعله، وأنهى عن المنكر وأفعله).
رواه البخاري.
وأناس في آخر الزمان الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا عنهم يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون.
جاءت امرأة إلى ابن مسعود رضي الله عنه تقول: أنبئت أنك تنهى عن الواصلة؟ قال: نعم، ثم بين لها الدليل، قالت المرأة: فلعله في بعض نسائك، يمكن بلغنا أن زوجتك تفعل نمص الشعر، قال: ادخلي بنفسك وتأكدي، فدخلت ثم خرجت فقالت: ما رأيت بأساً، قال: [ما حفظت إذاً وصية العبد الصالح، وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، لو فعلت ذلك ما جامعناها ولا سكنا معها أصلاً].
قال الحسن: " كان الرجل إذا طلب العلم؛ لم يلبث أن يرى ذلك في بصره وتخشعه ولسانه وصلته وزهده ".(204/21)
نداءات لصاحب العلم
يا صاحب العلم! إن الذي علمت ثم لم تعمل به؛ قاطعٌ حجتك ومعذرتك عند ربك إذا لقيته.
يا صاحب العلم! إن الذي أمرت به من طاعة الله؛ ليشغلك عما نهيت عنه من معصية الله.
يا صاحب العلم! لا تكونن قوياً في عمل غيرك ضعيفاً في عمل نفسك.
يا صاحب العلم! إنه لا يكمل ضوء النهار إلا بالشمس، كذلك لا تكمل الحكمة إلا بطاعة الله.
يا صاحب العلم! إنه لا يصلح الزرع إلا بالماء والتراب، كذلك لا يصلح الإيمان إلا بالعلم والعمل.
يا صاحب العلم! كل مسافر متزود، وسيجد إذا احتاج إلى زاده ما تزود، وكذلك سيجد كل عامل إذا احتاج إلى عمله في الآخرة ما عمل في الدنيا.
كيف أنت إذا قيل لك يوم القيامة أعلمت أم جهلت؟ فإن قلت: علمت، قيل لك: فماذا عملت فيما علمت؟ وإن قلت: جهلت، قيل لك: فما كان عذرك فيما جهلت؟ ألا تعلمت؟ الذي يعرف ولا يعمل، ويعلم الناس ولا يعمل، قال النبي عليه الصلاة والسلام فيه: (مثل العالم الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه، كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه) رواه الطبراني، وصححه الألباني.
إذا أراد الله بعبد خيراً؛ فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شراً، فتح له باب الجدل، وأغلق عنه باب العمل، كان السلف يستعينون على حفظ الحديث بالعمل به، أبو بكر النشهلي في سياق الموت يومئ برأسه يصلي، قال له من حوله: سبحان الله! على هذه الحال، قال: أبادر طي الصحيفة، أي: قبل ما تطوى صحيفتي ألحق ركعتين.
وجاء أحد الصالحين الحلاق ليقص له شاربه، وهو لا يفتأ يذكر ربه، فقال: اسكت حتى أقص الشارب، فقال: أنت تعمل وأنا أعمل، قال: لا أتوقف عن العمل.
ولا ترجِ فعل الخير يوماً إلى غدِ لعل غداً يأتي وأنت فقيد
احذروا سوف، إن سوف من جند إبليس، الآن موسم الحج قادم، بعض الناس شباب بالغون يجب عليهم الحج، ويستطيع يأخذ إجازة ويذهب، ما عذره؟ والحج قريب، يقول: إذا كبرت، وفي المستقبل، وهل تضمن أن تعيش إلى المستقبل؟ علم بلا عمل، كشجرة بلا ثمر.(204/22)
نظر الناس إلى عمل العالم قبل كل شيء
أيها الإخوة! إن الناس ينظرون إلى العالم أول شيء في عمله ماذا يعمل؟ إذا عمله طابق قوله، أخذوا به، حتى لو كانت المسألة لا علاقة لها بالموضوع، جاء أعرابي إلى ابن أبي ذئب وهو من كبار الفقهاء، فسأله عن مسألة الطلاق، فأفتاه أن زوجته طالق، فقال: انظر حسناً، هذا أعرابي عنده جفاء يقول للشيخ: فكر وأعد النظر فيها، قال: نظرت وقد بانت منك، فقال الأعرابي الجاهل:
أتيت ابن أبي ذئب أبتغي الفقه عنده فطلق حتى البت تبت أنامله
أطلق في فتوى ابن ذئب حليلتي وعند ابن ذئب أهله وحلائله
الآن الشيخ زوجته عنده وأنا بدون زوجه، لا يمكن، وهذا من الجهل.
فإذاً الناس ينظرون إلى فعل العالم وإلى طالب العلم ويحتجون به، ولذلك لابد أن يتقن طالب العلم العمل.
تناقش بعض الأشخاص في حكم النوم بعد العصر، واحد قال: يجوز، وواحد قال: لا يجوز، قال واحد: يا أخي أنا عندي الخبر يجوز النوم بعد العصر، بالطبع هو يجوز النوم بعد العصر، لكن انظر الدليل، فقال له صاحبه: ما هو الدليل على أنه يجوز النوم بعد العصر؟ قال: ذهبت إلى الشيخ فلان بعد العصر فوجدته نائماً، مع أن أفعال النبي عليه الصلاة والسلام هي الحجة، لكن الناس هكذا.
وبعض طلبة العلم يقف مع صورة العمل، مع القراءات والأسانيد، ويقف مع الأقوال يجمعها في الفقه والخلاف، ثم ينسى قضية العمل، ولذلك ابن الجوزي وعظ نفسه في هذا، قال لما رآها وقفت مع صورة العلم فقط، قال: صحت بها، فما الذي أفادك العلم؟ أين الخوف والحذر؟ أوما سمعت بأخبار أخيار الأحبار في تعبدهم واجتهادهم؟ أما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الكل، ثم قام حتى ورمت قدماه؟ أما كان أبو بكر شجي النشيج كثير البكاء؟ أما كان في خد عمر خطان من الدموع؟ أما كان عثمان يختم القرآن في ركعة؟ أما كان علي يبكي في الليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع، ويقول: [يا دنيا! غري غيري؟].
أما كان سعيد بن المسيب ملازماً للمسجد، فلم تفته صلاة الجماعة أربعين سنة؟ أما صام الأسود بن يزيد حتى اخضر واصفر؟ أما قالت بنت الربيع بن خثيم له: مالي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟ قال: أن أباك يخاف عذاب البيات؟ أما صام يزيد الرقاشي أربعين سنة، وكان يقول: وا لهفاه! سبقني العابدون وقطع بي؟ أما كان سفيان الثوري يبكي الدم من الخوف؟ أما كان إبراهيم بن أدهم يبول الدم من الخوف؟ أما تعلمين أخبار الأئمة الأربعة في زهدهم وتعبدهم أبي حنيفة والشافعي وأحمد ومالك؟ هكذا يجب على الإنسان أن ينظر إلى السلف، ويقارن نفسه.(204/23)
حث على العلم والعمل
أيها الإخوة! ينبغي علينا أن نعود إلى الله سبحانه تعالى، وأن نقوم لله عز وجل بالتنفيذ والتطبيق، ونربي أولادنا على العلم والعمل، لنصحح المسيرة من أولها، إذا كان فاتنا من أعمارنا شيء لتقصير أهلينا وآبائنا وأمهاتنا، فلنستدرك ذلك في أبياتنا.
هذه أبيات جميلة جداً يعظ بها أبٌ مشفق ابنه، كناه بأبي بكر، يقول له:
أبا بكر دعوتك لو أجبت إلى ما فيه حظك لو عقلت
إلى علمٍ تكون به إماماً مطاعاً إن نهيت وإن أمرت
ويجلو ما بعينك من غشاها ويهديك الصراط إذا ضللت
وتحمل منه في ناديك تاجاً ويكسوك الجمال إذا اغتربت
ينالك نفعه مادمت حياً ويبقى ذكره لك إن ذهبت
وكنز لا تخاف عليه لصاً خفيف الحمل يوجد حيث كنت
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددت
فلو قد ذقت من حلواه طعماً لآثرت التعلم واجتهدت
ولم يشغلك عنه هوىً مطاعٌ ولا دنيا بزخرفها فتنت
فواظبه وخذ بالجد فيه فإن أعطاكه الباري أخذت
وإن أوتيت فيه طول باعٍ وقال الناس أنك قد سبقت
فلا تأمن سؤال الله عنه بتوبيخٍ علمت فهل عملت
وأخيراً: نلجأ إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء، نسأل الله أن يعيننا على تطبيق ما تعلمناه، ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يرضيه، وأن يجعلنا من الحريصين على تطبيق العلم والعمل به، يقول أبو بكر بن العربي: كنت مقيماً في ذي الحجة في سنة (489هـ) أشرب من ماء زمزم كثيراً، وكلما شربته نويت به العلم والإيمان، ففتح الله لي ببركته في المقدار الذي يسره لي من العلم، ونسيت أن أشرب للعمل، يا ليتني! شربته لهما، حتى يفتح الله لي منهما، ولم يقدر- يقول من تواضعه- فكان سطوي للعلم أكثر منه للعمل، وأسأل الله الحفظ والتوفيق برحمته.
فإذاً ينبغي أن نسأل الله عز وجل أن يوفقنا للعمل بالعلم، وأن يعيننا على ذلك، ونسأله سبحانه وتعالى حسن السريرة وحسن السيرة، ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يرضيه، وأن يباعد بيننا وبين ما لا يرضيه، ونسأله عز وجل أن ينعم علينا بلباس التقوى، وأن يرزقنا التمسك بالعروة الوثقى، وأن يجعلنا من أهل الإيمان علماً وعملاً ورائحة زكية، كما أن المؤمن قارئ القرآن كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب، ونسأله أن يباعد بيننا وبين النفاق، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً إنك سميع مجيب قريب.(204/24)
سلسلة رسائل أهل العلم، الرسالة الأولى، الرسالة التبوكية
إن رسالة ابن القيم رحمه الله المسماة: الرسالة التبوكية، هي كما قال، ومن نظر في هذه الكلمات التي تضمنتها هذه الورقات؛ علم أنها من أهم ما يحصل به التعاون على البر والتقوى، وسفر الهجرة إلى الله ورسوله، وهو الذي قصد مسطرها بكتابها، وجعلها هديته المعجلة السابقة إلى أصحابه ورفقائه في طلب العلم.
وقد شرحها الشيخ حفظه الله شرحاً موجزاً مفيداً، فجزاه الله خيراً.(205/1)
الرسالة التبوكية وموضوعها وتاريخها وسببها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: ففي هذه السلسلة من رسائل أهل العلم، سنستعرض -بمشيئة الله تعالى- عدداً من رسائلهم، مع ذكر طرف من سيرة المؤلف، وبعض ما احتوته هذه الرسائل من النفائس والعلم، ولاشك أن الاطلاع على رسائل أهل العلم مما يزيد الإنسان فقهاً ونظراً وبصيرة؛ لأن رسائلهم كالمنائر، يستنير بها الإنسان في ظلمات الدجا، الذي يغشى الواقع، ويتبصر على ضوئها بما حوله، ويعرف كيف يعبد ربه، وهذه الرسالة التي سنستعرضها في هذه الليلة -بمشيئة الله تعالى- هي الرسالة التبوكية، للعالم الرباني، وشيخ الإسلام الثاني، الإمام ابن القيم رحمه الله، وقد سُميت بـ الرسالة التبوكية؛ لأنه سيرها من تبوك ثامن المحرم، سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة للهجرة.
وقد قال في ذكر أهميتها: (ومن نظر في هذه الكلمات التي تضمنتها هذه الورقات؛ علم أنها من أهم ما يحصل به التعاون على البر والتقوى، وسفر الهجرة إلى الله ورسوله، وهو الذي قصد مسطرها بكتابتها، وجعلها هديته المعجلة السابقة إلى أصحابه ورفقائه في طلب العلم) وقال: (وإنما الهدية النافعة كلمة يهديها الرجل إلى أخيه المسلم).
هذا موضوع الرسالة، والمكان الذي أرسلت منه الرسالة والتاريخ، والسبب الباعث على ذلك.(205/2)
ترجمة الإمام ابن القيم رحمه الله
أما ترجمة المؤلف رحمه الله، فإنه: أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز بن مكي زين الدين الزرعي، ثم الدمشقي، الشهير بـ ابن قيم الجوزية، ونسبته إلى زَرْع، وهي قرية من قرى حوران، المكان المعروف في بلاد سوريا الآن، وهي من نواحي دمشق.
وقد ولد -رحمه الله- في السابع من شهر صفر، سنة ستمائة وإحدى وتسعين للهجرة، وقد اشتهر أبوه بلقب: قيم الجوزية؛ لأنه كان ناظراً ومشرفاً وقيماً على المدرسة الجوزية بـ دمشق مدةً من الزمن، والجوزية اسم المدرسة التي أنشأها وأوقفها أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله، ويقال: ابن القيم على سبيل الاختصار، واشتهر أبوه -رحمه الله- وأخوه وابن أخيه بالعلم والفضل، ونشأ رحمه الله تعالى في بيئة طيبة، وعائلة وأسرة كريمة.(205/3)
ابن القيم وطلبه للعلم
وكان قد تلقى علمه منذ بداية أمره على الشهاب النابلسي، والقاضي تقي الدين بن سليمان، وأبو بكر بن عبد الدائم، وعدد من أهل العلم، وقرأ العربية والفقه على المجد الحراني ابن تيمية، وقرأ الأصول على الصفي الهندي وكذلك شيخ الإسلام رحمه الله، ولازمه ملازمة تامة منذ أن قدم من الديار المصرية في سنة (712هـ) إلى أن مات ابن تيمية -رحمه الله- سنة (728هـ).
وكان والد ابن القيم -رحمه الله- له علم واسع في الحساب والفرائض، ولذلك أخذه ولده عنه، ولما تم تحصيله، وأصبح لديه ملكة كبيرة، صار بعد ذلك يقرأ بنفسه ويطلع وينهم ويتصدى بعد ذلك للتدريس والإفتاء والتأليف.(205/4)
أولاد ابن القيم
للإمام ابن القيم أولاد، ومنهم: عبد الله، كانت ولادته سنة (723هـ)، ووفاته سنة (756هـ)، وكان مفرطاً في الذكاء، أنه حتى حفظ سورة الأعراف في يومين، وصلى بالقرآن سنة (731هـ)، أي: أنه كان في التاسعة من عمره تقريباً، وأثنى عليه بأمور، وكذلك ابنه إبراهيم كان علامة نحوياً فقيهاً.(205/5)
العلوم التي برع فيها ابن القيم
وأما العلوم التي برع فيها ابن القيم -رحمه الله- فإنها كثيرة جداً، فهي تكاد تكون علوم الشريعة بأكملها، وعلوم الآلة والتوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصول الفقه واللغة والنحو وغير ذلك.
قال ابن رجب واصفاً شيخه ابن القيم: "تفقه في المذهب، وبرع وأفتى ولازم الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وتفنن في علوم الإسلام، وكان عارفاً بالتفسير، وأصول الدين لا يجارى، وإليه فيها المنتهى، والحديث ومعانيه وفقهه ودقائق الاستنباط لا يُلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله، وبالعربية وله فيها اليد الطولى وغير ذلك".
وقال ابن كثير رحمه الله في وصفه: "سمع الحديث، واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة، ولا سيما علم التفسير والحديث، ولما عاد شيخ الإسلام ابن تيمية من الديار المصرية سنة (721هـ)؛ لازمه إلى أن مات الشيخ، فأخذ عنه علماً جماً مع ما سلف له من الاشتغال، فصار فريداً في بابه في فنون كثيرة".
وقال الذهبي رحمه الله: "عُني بالحديث ومتونه ورجاله، وكان يشتغل بالفقه ويجيد تقريره".
وقال ابن حجر: "كان جريء الجنان، واسع العلم، عارفاً بالخلاف ومذاهب السلف، ومن الأشياء التي حصلت له مناظرة مع أكبر من يشار إليه بالعلم عند اليهود، جرت له مناظرة معه بـ مصر ".(205/6)
مجاورة ابن القيم
وكذلك فإنه -رحمه الله تعالى- قد حج مرات كثيرة، وجاور بـ مكة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يُتعجب منه، وألف كتابه: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، مدة إقامته بـ مكة، بما فتح الله عليه يقول: "وكان هذا من بعض النُزْول والفتح التي فتح الله بها عليّ حين انقطاعي إليه عند بيته، وإلقائي نفسي ببابه مسكيناً ذليلاً، وتعرضي لنفحاته في بيته وحوله بكرة وأصيلاً، فما خاب من أنزل به حوائجه، وعلق به آماله، وأصبح ببابه مقيماً، وبحماه نزيلاً".
ومن الأشياء التي حصلت له بـ مكة: أنه مرض مرضاً شديداً استعصى على الأطباء، فقال: لقد أصابني أيام مقامي في مكة أسقام مختلفة، ولا طبيب ولا أدوية كما في غيرها من المدن، فكنت أستشفي بالعسل وماء زمزم، ورأيت فيها من الشفاء أمراً عجيباً.
وقال في هذا المرض الذي انقطعت فيه حركته، وحصل له فيه شيء من الألم كثير: "إنه كان يقرأ على ماء زمزم الفاتحة ويشرب، فحصل له شفاء لم يحصل له على يد الأطباء".(205/7)
مؤلفات الإمام ابن القيم
لقد ألف كتبه في أحوال، منها: أحوال الغربة والسفر، كما ألف كتاب مفتاح دار السعادة، وكذلك كتاب زاد المعاد، ألفه في حال السفر لا الإقامة، والخاطر متفرق، والقلب في كل وادٍ منه شعبة، كما وصف رحمه الله.
وكان شديد المحبة للكتب، وجمع كتباً لم يتهيأ لغيره -كما يقول ابن كثير - عشر معشار ما اجتمع عنده -رحمه الله- من كتب السلف والخلف، كان مغرماً بجمعها، وحصل ما لا يحصى، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهراً طويلاً، سوى ما اصطفوه لأنفسهم، وكان لا يبخل -رحمه الله- في إعارتها.
وقد تولى الإمامة بالجوزية، والتدريس في الصدرية -أسماء مدارس- وتصدى للفتوى والتأليف، وقد سجن بسبب بعض الفتاوى، كفتواه في الطلاق الثلاث بلفظ واحد، التي تابع فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وعامة أهل الأرض مطبقون على أن طلاق الثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثاً، كما هو قول أهل المذاهب الأربعة.
وكذلك حصل له أذى بسبب تأليفه رسالة إنكار شد الرحال إلى قبر الخليل، وتابع فيها شيخ الإسلام رحمه الله، المتابع لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، في مسائل التوسل، ومقاومة أنواع الشرك.(205/8)
حسن خلق ابن القيم وتواضعه
كان ابن القيم حسن القراءة، كثير التودد، لا يحسد أحداً ولا يؤذيه، ولا يحقد على أحد، وكان قليل النظير في مجموعه وأموره وأحواله، وكان ذا خلق عظيم رحمه الله تعالى.
ومن خلقه: تواضعه الذي يظهر في أشياء كثيرة من كتبه، ومن ذلك: قصيدة يظهر فيها تواضعه أنشدها لبعض طلابه، وهو العلامة الصفدي رحمه الله، يقول ابن القيم عن نفسه في هذه القصيدة:
بُني أبي بكر كثير ذنوبه فليس على من نال من عرضه إثم
بُني أبي بكر جهول بنفسه جهول بأمر الله أنى له العلم
بُني أبي بكر غدا متصدراً يعلم علماً وهو ليس له علم
بُني أبي بكر غدا متمنياً وصال المعالي والذنوب له هم
بُني أبي بكر يروم ترقياً إلى جنة المأوى وليس له عزم
بُني أبي بكر لقد خاب سعيه إذا لم يكن في الصالحات له سهم
بُني أبي بكر لما قال ربه هلوع كنود وصفه الجهل والظلم
فو الله لو أن الصحابة شاهدوا أفاضلهم هم الصم والبكم
هذا ما وصف به حاله -رحمه الله- وتواضعه، مع أنه كان ذا عبادة شديدة، وكان ذا تأله وتهجد واستغفار بالأسحار، وافتقار إلى الله عز وجل، وطول قيام، وحج مرات كثيرة، حتى قال ابن كثير رحمه الله: لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه، وكان له طريقة في الصلاة يُطيلها جداً، ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك رحمه الله، وكان إذا صلى الصبح جلس مكانه يذكر الله حتى يتعالى النهار، ويقول: هذه غدوتي لو لم أقعدها سقطت قواي.
وهذه عبارة مشابهة للعبارة التي جاءت عن شيخه في هذه المسألة، وهي القعود من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، ثم الصلاة ركعتين، حتى يتعالى النهار، ومن عباراته المشهورة: "بالصبر والفقه تنال الإمامة في الدين".(205/9)
ملازمة ابن القيم لابن تيمية وتأثره به
وأما تأثره بـ ابن تيمية رحمه الله فكان تأثراً شديداً جداً، فإنه التقى به سنة (712هـ) للهجرة، ولازمه إلى سنة (728هـ)، إلى أن توفي رحمه الله تعالى، وهو الذي كانت هدايته على يديه، ويصف توبته على يد شيخه بقوله:
يا قوم والله العظيم نصيحتي من مشفق وأخ لكم معوان
جربت هذا كله ووقعت في تلك الشباك وكنت ذا طيران
مثل علم المنطق والكلام والفلسفة وغير ذلك
حتى أتاح لي الإله بفضله ومن ليس تجزيه يدي ولساني
فتى أتى من أرض حران فيا أهلاً بمن قد جاء من حران
فالله يجزيه الذي هو أهله من جنة المأوى مع الرضوان
أخذت يداه يدي وسار فلم يرم حتى أراني مطلع الإيمان
ورأيت أعلام المدينة حولها نزل الهدى وعساكر القرآن
ورأيت آثاراً عظيماً شأنها محجوبة عن زمرة العميان
ووردت كأس الماء أبيض صافياً حصباؤه كلآلئ التيجان
ورأيت أكواباً هناك كثيرة مثل النجوم لوارد الظمآن
يصف السنة التي قاده إليها شيخه بالحوض الذي فيه أكواب يغرف منها ويشرب
ورأيت حول الكوثر الصافي الذي لا زال يشخب فيه ميزابان
مثل الميزابين في الآخرة التي تصب في نهر الكوثر، ميزابان في حوض السنة، أو ميزابان في حوض الحق يصبان فيه
ميزاب سنته وقول إلهه وهما مدى الأيام لا ينيان
الكتاب والسنة
والناس لا يردونه إلا من الـ ألف أفراد ذوو إيمان
وردوا عذاب مناهل أكرم بها ووردتم أنتم على عذاب هوان
هذه الهداية التي كُتبت لـ ابن القيم -رحمه الله- على يدي شيخه الذي لازمه، وأخذ عنه العلم والفقه والطريقة السُنْية السَّنية، وكان يشكو إلى شيخه وينصحه شيخه بأشياء، كما قال مرة: جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد، فقال: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشرب قلبك كل شبهة تمر عليك، صار مقاماً للشبهات، قال: فانتفعت بوصيته في دفع الشبهات انتفاعاً عظيماً.
وقال: قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مرة: "العوارض والمحن والابتلاءات هي كالأمراض والبرد، فإذا علم العبد أنه لا بد منها، لم يغضب لورودها، ولم يغتم ولم يحزن".
وكان شيخ الإسلام يتابع تلميذه في حفظه للوقت والابتعاد عن الملهيات، فقد قال: "قال لي يوماً شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: المباح ينافي المراتب العليا، وإن لم يكن تركه شرطاً للنجاة -أو نحو هذا الكلام- قال: فالعارف يترك كثيراً من المباح ابقاءً على صيانته، ولا سيما إذا كان المباح برزخاً بين الحلال والحرام".
أي: من قسم المشتبهات.(205/10)
ابتلاءات ابن القيم
لقد نصر ابن القيم -رحمه الله- شيخه ووفى له وامتحن بسببه وأوذي مرات، وحبس معه في السجن بالقلعة منفرداً، ولم يُطلق سراحه إلا بعد موت الشيخ، وتعرض للأذى لما اقتنع بالحق ونشره، وأوذي حتى ضرب وطيف به وأهين مضروباً بالدرة مرة من المرات.
ومن الأشياء التي نقموا عليه: مسألة تحريم شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فتاوى الطلاق، وكان مقاوماً للتقليد والتعصب المذهبي، وهذا ما جلب عليه عداوة كثير من أتباع المذاهب.
وكذلك نقده اللاذع للفلسفة وعلم الكلام، فإنه كذلك قد جلب عليه عداوة الفلاسفة، وكان يتضح في تأليفه جداً مسألة اتباع الدليل، وهذه من أعظم خصائص المنهج السلفي، تقديم الكتاب والسنة وأقوال الصحابة على قول كل أحد آخر، وكان -رحمه الله- يستطرد في المسائل، ويذكر أوجهاً كثيرة قلما تحصل لغيره، حتى لا تكاد تجد تحليلات بعض المسائل مثلما تجدها في كلام ابن القيم رحمه الله، حيث كان طويل النفس في عرض المسائل.(205/11)
تأليف ابن القيم للكتب حضراً وسفراً
وكذلك فإنه -رحمه الله تعالى- كان يؤلف حضراً وسفراً، والتأليف في السفر ليست قضية يسيرة، خصوصاً عند البعد عن المراجع، كما قال في مقدمة زاد المعاد متواضعاً: "وهذه كلمات يسيرة، لا يستغني عن معرفتها من له أدنى نهمة إلى معرفة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرته وهديه، اقتضاها الخاطر المكدود على عجره وبجره، مع البضاعة المزجاة، مع تعليقها في حال السفر لا الإقامة، والقلب بكل وادٍ منه شعبة، والهمة قد تفرقت شذر مذر".
ومن لطائف الأمور التي حصلت في تآليفه: ما حصل له في كتابه: تحفة المودود بأحكام المولود فإن سبب تصنيف هذا الكتاب أن ولده قد رُزق ولداً، والعادة أن الجد يُهدي للحفيد، أو يُهدي لابنه لأجل الحفيد الذي جاء، ولم يكن عند ابن القيم مالٌ يقدمه لولده، أو هدية من متاع الدنيا، فصنف هذا الكتاب، وهو تحفة المودود بأحكام المولود، وقال في مقدمته: "سبب التأليف هو أن الله عز وجل رزق ابن المصنف مولوداً، ولم يكن عند والده في ذلك الوقت ما يقدمه لولده من متاع الدنيا، فصنف هذا الكتاب وأعطاه إياه، وقال له: أتحفك بهذا الكتاب إذ لم يكن عندي شيء من الدنيا أعطيك".
والحقيقة أن هذا الكتاب من روائع الكتب الذي لا يكاد يوجد مصنف مثله في أحكام وتربية المولود، وقد ذكر في الجزء الأخير من هذا الكتاب فوائد تربوية وطبية بالغة الأهمية.(205/12)
أعداء ابن القيم
وقد كان له أعداء لعله زاد بسبهم له حسنات كثيرة، من ضمنهم: الكوثري، الذي وصفه بالزندقة والكفر والضلال والبدعة والزيغ والكذب والبلادة والغباوة ونحو ذلك، لكن:
لا يضر البحر أمسى زاخراً إن رمى فيه غلام بحجر
وقد رد على أهل البدع وأعداء الله مثل الجهمية وغيرهم، وتفرغ لأجل مقاومة أهل البدع تفرغاً كبيراً، وعالج عدة أمراض في النفس البشرية، مثل: العشق والهوى، ولأجلها ألف كتاب الجواب الكافي، وروضة المحبين، وغير ذلك، وكان له أسلوباً جيداً في العلاج، وكان صاحب استنباطات، حتى قال: إنه استنبط من قصة يوسف ألف فائدة، ثم تمنى على الله عز وجل أن يوفقه لأجل أن يكتب مؤلفاً يجمع هذه الفوائد.
ومما ابتلي به بعد موته بأناس كانوا يحرقون كتبه، كما ذكر الألباني في مقدمة الكلم الطيب، لأحد الأمراء الذين استوطنوا دمشق في القرن الماضي، كان ذا سلطان ومال، جعل يجمع مؤلفات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ويحرقها، ويتقرب إلى الله بها، لأنه يقول: هذه ضلالات وبدع، ويحرقها، ومع ذلك كانت كتبه -رحمه الله- قد سارت في الأمصار، ومع أن المطبوع منها لا يقارب ثلث الأصل من عدد الرسائل والكتب التي ألفها.(205/13)
وفاة ابن القيم
اتفقت التراجم على أن ابن القيم -رحمه الله- توفي ليلة الخميس، الثالث عشر من شهر رجب، وقت أذان العشاء، سنة (751هـ).
وقد كمُل له من العمر ستون سنة فقط -رحمه الله تعالى- وصُلي عليه، وكان ذلك وسط حُزن الناس، ودُفن في مقبرة الباب الصغير بـ دمشق، في نفس المقبرة التي دفن فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.(205/14)
سبب تأليف الرسالة التبوكية وما تضمنته
وكتبه التي خلفها كثيرة ومعروفه وموجودة بين طلبة العلم وفي المكتبات، وهذه الرسالة -وهي الرسالة التبوكية - اتضح لنا مما سبق أن ابن القيم -رحمه الله- قد ألفها لأجل شرح قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].
وبيَّن زاد الإنسان في سيره إلى الله عز وجل، وحشد فيها أشياء مما يتعلق بالتصورات الأصلية الأصيلة الإسلامية، مما يُعين طالب العلم، ويُعين الإنسان عموماً على سيره إلى الله، ورسم منهج التلقي في هذه الرسالة، وبيّن أيضاً منهج العلم ومنهج العمل في هذه الرسالة، فقال: (أحمد الله بمحامده التي هو لها أهل، والصلاة والسلام على خاتم رسله وأنبيائه محمد صلى الله وعليه وسلم، وبعد: فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وقد اشتملت هذه الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، فيما بينهم بعضهم بعضاً، وفيما بينهم وبين ربهم، فإن كل عبد لا ينفك عن هاتين الحالتين، وهذين الواجبين، واجب بينه وبين الله، وواجب بينه وبين الخلق).
فأما ما بينه وبين الله فلا بد من القيام بحق الله، بفعل الواجبات التي أمر بها، والانتهاء عن المحرمات التي نهى عنها، وأما ما بين الإنسان وبين الخلق، فلا بد أن يكون هناك معاشرة، ومعاونة، وصحبة، وأن تكون هذه قائمة على مرضاة الله، فإذا حصل ذلك للعبد حصل له الخير كله.(205/15)
حقيقة البر والتقوى والفرق بينهما
قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] ما معنى البر وما معنى التقوى؟ وما هو الفرق بينهما؟ البر يدخل في التقوى، والتقوى تدخل في البر في المعنى العام للفظ، كما يكون ذلك في الإيمان والإسلام، والفسوق والعصيان، والفقير، والمسكين، والفحشاء والمنكر، ولكن إذا اجتمعت الكلمتان معاً في سياق واحد فلا بد من تفريق، أما إذا افترقت هذه الكلمات فقد تكون الواحدة بمعنى الأخرى.
أما البر: فهو الكمال المطلوب من الشيء والمنافع التي فيه، وهو كلمة جامعة لجميع أنواع الخير، وهو عكس الإثم التي هي كلمة جامعة للشرور والعيوب التي يذم العبد عليها، فيدخل في البر: الإيمان وأجزاؤه الظاهرة والباطنة، ولا شك أن التقوى جزء من هذا، وقد جمع الله خصال البر في قوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177].
فماذا جمعت كلمة البر حسب الآية من أركان الإيمان؟ جمعت: الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين واليوم الآخر، وهذه أصول الإيمان الخمسة.
وماذا جمعت من أركان الإسلام والشرائع الظاهرة؟ جمعت: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ويتبع ذلك النفقات الواجبة، وهذه الآية احتوت -أيضاً- خصالاً من الأعمال القلبية، مثل: الصبر والوفاء، فتكاد هذه الآية أن تكون قد جمعت جميع أقسام الدين، ثم أخبر الله في هذه الآية أنها هي خصال التقوى، فقال في الذين يقومون بهذه الأعمال من البر: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177] فهذه هي خصال التقوى بعينها.
إذا: البر والتقوى يدخلان في بعض، لكن إذا جئت إلى تعريف التقوى، فحقيقتها: العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً، أمراً ونهياً، وقد نبه ابن القيم -رحمه الله- على مسألة مهمة، وهي: كل عمل لا بد له من مبدأ وغاية -هذه مسألة مهمة- مبدأ، أي: باعث على العمل، وغاية، أي: الهدف من العمل ما هو باعثك على العمل؟ ولأجل أي شيء عملت هذا العمل؟ فإذا كان الباعث هو الإيمان المحض، ومن بواعث العمل مثلاً: أن يعمل العمل إيماناً بالله وإرضاءً لله، وقد يعمل عملاً لأجل أي شيء آخر، فالباعث على العمل قد يكون شهرة ورياءً، وقد يكون للدنيا، وقد يكون للهوى، أو عن عادة وتقليد، تسأل بعض الناس: لماذا تعمل؟ فيقول: هذه تعودنا عليها، ومثل ذلك أن يقول: كل من حولنا يعملون مثل ذلك فلا بد أن يكون الباعث على العمل الصالح هو الإيمان، وغايته: ثواب الله وابتغاء مرضاته، وإلا فلا يكون العمل صالحاً، وكثيراً ما يقرن الرسول صلى الله عليه وسلم بين هذين الأصلين، مثل قوله: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً) فالإيمان هو الدافع للعمل، والاحتساب هو الغاية من العمل، وهو احتساب الأجر والثواب، ومثل قوله: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً)، فالاحتساب هو الغاية التي لأجلها يبدأ الإنسان في العمل.
وإذا قرن أحدهما بالآخر (البر والتقوى) مثل قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] فما هو الفرق بينهما؟ قلنا: إذا افترق كل واحد عن الآخر فقد يدخل الأول في الثاني البر كلمة جامعة، والتقوى كلمة جامعة، لكن إذا اجتمعا فما هو الفرق بينهما؟ الفرق: أن البر هو العمل المطلوب لذاته، والتقوى هي الوسيلة الموصلة إليه.(205/16)
ضرر الجهل بحدود الله
لا شك أن الإنسان لا يمكن أن يعمل عملاً صالحاً دون أن يكون عنده علم يعمل بناء عليه، ومعرفة الأحكام وحدود الله تعالى هي التي تجنب الإنسان من الوقوع في الضلال.
وقد ذم الله تعالى في كتابه من ليس عنده علم بحدود ما أنزل الله على رسوله، والذي ليس عنده علم سيقع في أحد محذورين: الأول: أن يدخل في الشيء الحرام أمراً ليس منه، أو في الشيء الحلال أمراً ليس منه، ويسوي بينهما، فيجعل الشيء مباحاً وهو ليس بمباح، أو يجعله محرماً وهو ليس بمحرم، وقد يُخرج من شيء أباحه الله أمراً يحرمه بهواه، أو يخرج من شيء حرمه الله شيئاً أباحه الله بهواه، أو العكس.
فمثلاً: الخمر حرَّمها الله، وهو اسم شامل لكل مسكر، فيأتي رجل ويخرج من المسكر شراباً معيناً، ويقول: هذا حلال، بهواه أو بجهله، فيفرق بين ما سوت الشريعة بينه في الحكم.
أو يُخرج نوعاً من الربا، ويقول: هذا ليس رباً، والربا إذا كان (5%) فهو حلال، وإذا كان (15%) أو أكثر فهو حرام!! ما هذا التفريق؟! إنه تفريق ضلال؛ لأن الشريعة سوَّت بين الربا في كل صوره وأشكاله.
أو يقول: الربا إذا كان على فقير فهو حرام، أما إذا أخذته من غني فهو حلال، ويفرق بين ما سوت الشريعة بينه من الصور.
وكذلك لو أنه أدخل في النكاح ما ليس بمسمى النكاح الشرعي، ويقول: هذا نكاح شرعي، فيسوي بين حرام وحلال، والله أباح النكاح، وهذا قد أدخل في النكاح صورة من صور النكاح ليست حلالاً؛ كنكاح الشغار، ونكاح المتعة إلى آخره.
إذاً: العلم هو الذي يميز به الإنسان حدود الله تعالى، والمقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم هو التعاون على البر والتقوى، لأن الله يعلم أن الإنسان بمفرده لا يستطيع أن يُقيم الدين كله، ولا أن يتعلم الدين كله، وأن الناس لا يزال يتعلم بعضهم من بعض، ويعاون بعضهم بعضاً على إقامة الدين، ولذلك قال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] ومن حكمة الله أن جعل الناس يحتاجون إلى بعض، ويعيشون مع بعض، وأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش لوحده منفرداً؛ فالإنسان مدني بطبعه، واجتماعي بطبعه.(205/17)
معنى الإثم والعدوان والفرق بينهما
ونهانا عن التعاون على الإثم والعدوان، فما هو الفرق بين الإثم والعدوان؟ مثل: البر والتقوى، الإثم سيدخل في العدوان؛ لأنه نوع من الاعتداء، والعدوان سيدخل في الإثم؛ لأن الذي يقوم بالاعتداء آثم، هذا إذا افترقا فيكونان بهذا المعنى، وإذا اجتمعا كما في قوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى اْلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فلا يمكن أن نقول: إنها مجرد تكرار، فما هو الفرق بين الإثم والعدوان؟ الإثم: ما كان حراماً لجنسه، مثل: الزنا، والخمر، والسرقة والعدوان: ما كان حراماً لزيادة في قدره، وتعدٍ لما أباح الله، فلو تزوج رجل خامسة، فإنه يعتبر عدواناً، ولو قطع شخص يد شخص، فجاء الثاني وقطع يديه في استيفاء الحق في القصاص، أو الظالم قطع يديه، فإنه يعتبر عدواناً.
فالعدوان: هو تعدي حدود الله عز وجل، وقد قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] فنهى عن أمرين بالنسبة لحدود الله: 1 - تعدي الحدود.
2 - نهى عن قربان الحدود، لا تتعدَّ ولا تقترب لماذا؟ لأن الحدود هي النهايات الفاصلة بين الحلال والحرام، والحد قد يكون من الشيء تارة، وقد يكون منفصلاً عنه تارة، أي: الحد بين الشيئين، أحياناً يكون من أحدهما، وأحياناً يكون برزخاً وحاجزاً بينهما، فإذا كان الحد أحدهما إذا كان حد الحرام جزءاً منه، فما هي الآية المناسبة؟ قوله تعالى: {فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187].
وإذا كان الحد هو برزخ منفصل لا من هذا ولا من هذا، فما هي الآية المناسبة؟ قوله تعالى: {فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229].
وهذا كله من فقهه رحمه الله؛ الربط بين الآيات والواقع وبين المعاني، هذه اشياء لا تتأتى إلا لأهل العلم.(205/18)
واجب العبد فيما بينه وبين الخلق وبينه وبين الحق
وهذا كله من فقهه رحمه الله؛ الربط بين الآيات والواقع وبين المعاني، هذه أشياء لا تتأتى إلا لأهل العلم.
تكلمنا عن قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وأن الإنسان في طبيعته في الأرض له علاقة بينه وبين الله، وبينه وبين الناس، وقد تكلمنا عن أشياء فيما يتعلق بينه وبين الناس.
أما العلاقة بينه وبين الله، فلابد أن تكون التقوى هي الضابط في العلاقة بين العبد وربه، قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة:2] فتقوى الله هي العلاقة بين العبد وربه.
وكذلك يتقي الله العبد في العلاقة بينه وبين الناس، ولا يمكن للإنسان أن يقوم بعلاقة صحيحة مع الله ومع الخلق إلا بتحقيق التقوى، ولا يمكن أن يقيم علاقة صحيحة مع الخلق إلا إذا كان هناك نصيحة وإحسان من جهة الخلق، وإخلاص ومحبة وعبودية من جهة الخالق.(205/19)
الهجرة إلى الله ورسوله
ثم طالعنا ابن القيم -رحمه الله- في هذه الرسالة بعبارة جميلة من عباراته التي ترد عادة في كتبه، قال: "لما فصل عير السفر أي: خرجت من البلد وهي الإبل أو القافلة- واستوطن المسافر دار الغربة، وحيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه " ماذا يصير عند الواحد إذا خرج من المكان الذي فيه كل ما يعتاده وكل المألوفات والأقارب؟ يحصل له وحشة وحنين، ويحصل له في ذهنه فراغ، وإذا غادر المكان الذي يعيش فيه باستمرار، تحصل له فكرة لم تحصل له وهو يعيش فيه؛ لأنه ابتعد عن الشيء، والعلاقة قد ضعفت أو انقطعت به.
قال: "أحدث له ذلك نظراً، فأجال فكره في أهم ما يقطع به منازل السفر إلى الله، وينفق فيه بقية عمره، فأرشده من بيده الرشد -وهو الله عز وجل- إلى أن أهم شيء يقصده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله، فإنها فرض عين على كل أحد في كل وقت".(205/20)
أنواع الهجرة
والهجرة نوعان: الهجرة الأولى: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة.
الهجرة الثانية: وهي التي لا بد منها لكل أحد، هي الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها، ولو لم تحصل هذه الهجرة الثانية، فلن تحصل الهجرة الأولى.(205/21)
مبدأ الهجرة ومنتهاها
قال: (وهي هجرة تتضمن (من) و (إلى)؛ فيهاجر المسلم بقلبه من محبة غير الله إلى محبة الله).
الهجرة بالجسد من دار الكفر إلى دار الإسلام وهذه معروفة، والهجرة الأخرى هي هجرة القلب، التي لا بد لكل أحد منها، وهذا هو المعنى المهم جداً، الذي انطوى عليه هذا الفصل، والذي هو الرسالة التبوكية أن يُهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبة الله، ومن عبودية غير الله إلى عبودية الله، ومن خوف غير الله إلى خوف الله، ومن رجاء غير الله إلى رجاء الله، ومن التوكل على غير الله إلى التوكل على الله، وهكذا وهذا معنى قوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50].(205/22)
الفرار من الله إليه
قال ابن القيم رحمه الله: (وتحت (من) و (إلى) في هذا سر عظيم من أسرار التوحيد، فإن الفرار إلى الله سبحانه وتعالى يتضمن إفراده بالطلب والعبودية) كيف تهاجر وتفر من غيره إليه؟ إذا جردت الإخلاص وجردت العبودية، بحيث تكون العبودية لواحد وهو الله عز وجل، ومن تصور هذا المفهوم سهل عليه أن يفهم معنى حديث: (وأعوذ بك منك) وسهل عليه أن يفهم معنى حديث: (لا ملجأ منك إلا إليك).
وهذه الكلمات عندما يقرؤها الإمام في دعاء التراويح لا يفهمها إلا قليل من الناس، وبالنسبة لكثير منهم تكون طلاسم ما معنى (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك)؟ قد يعتبرون هذه ألغازاً، لكن الحقيقة أن كل شيء في الكون تفر منه من أذى أو ظلم أو إلخ، فهو بتقدير الله ومشيئته، والله هو الذي خلقه.
وكذلك أنت تفر من عقاب الله، وتفر من أسباب سخط الله تفر إليه عائذاً به مستجيراً سائلاً أن يحميك من الوقوع في معاصيه، وأن يرزقك الطاعة والأجر والفوز بالجنة، وكل أحد إذا خفت منه هربت منه -سواء أكان حيواناً أو إنساناً- إلا الله عز وجل؛ فإنك إذا خفت منه هربت إليه أين ستذهب؟ أي إنسان مخلوق موجود هنا -مثلاً- وهو ظالم وتخشى منه، فسوف تهرب منه إلى بلدة أخرى، لترتاح منه، وتنفث بريشك، ولكن الله عز وجل إلى أين تهرب منه؟ أينما هربت فثمَّ وجه الله، وأنت في ملكه، لا يمكن أن تفر ولا تخرج، فلا مفر لك منه إلا إليه، ولا مفر من عقابه إلا إلى نعيمه، ولا مفر من معصيته إلا إلى طاعته، ولا مفر من قدرته إلا إليه سبحانه وتعالى، وكل شيء مخلوق في الوجود من الظلم الذي أنت تفر منه أو الشر؛ فهو خالقه، فأنت تفر من هذا الشيء إلى ما ينجيك، وتأخذ بالأسباب التي قدَّرها وشرعها سبحانه وتعالى.
فالمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن هجر ما يكرهه الله إلى ما يحبه ويرضاه، وكل واحد يهاجر من شيء إلى شيء، ويترك بلداً إلى بلد، ووظيفة إلى وظيفة، وشخصاً إلى شخص، في العلاقات وإقامة العلاقات، وما يحمله على هذه الهجرة والترك إلى ذلك الطرف الآخر، إلا أن المهاجر إليه أحب إليه من المهاجر منه، وإلا لما هاجر.
فإذا قال أحد: كيف أهجر ما نهى الله عنه؟ كيف أهجر المعاصي؟ كيف أهجر الفسوق؟ كيف أهجر قرناء السوء؟ كيف أهجر مكان الحرام؟ نقول: لا بد أن يكون الطرف الذي ستذهب إليه أحب إليك من الطرف الذي ستخرج منه.
ولذلك فالهجرة مرتبطة بالمحبة، ولما كانت الهجرة شاقة على النفس، فلا بد أن هناك شيئاً يعوض المشقة حتى تستطيع الفكاك والهرب والهجرة، فإذا لم ترجع محبة الطرف الثاني الذي ستهاجر إليه على محبتك للطرف الأول؛ فلن تحصل الهجرة، ومن هنا كانت تقوية محبة الله تعالى أمراً أساسياً في حدوث الهجرة، سواء هجرة الجسد أو هجرة القلب.
لقد كان خروج المهاجرين من مكة إلى المدينة أمراً شاقاً، حتى إنهم مرضوا في المدينة، وأصابتهم الحمى، وصار أبو بكر وبلال يأتيان بالأشعار التي فيها التلهف والحنين إلى الإذخر والجليل، وجبال مكة، والبلاد التي خرجوا منها، والجو والبيوت، ولكن ما هو الذي عوضهم عن ذلك كله؟ إنه محبتهم لله ورسوله، وللدار التي تحكم بما أنزل الله ويحكمها رسوله.(205/23)
سبب قوة الهجرة وضعفها
والهجرة -كما يذكر ابن القيم رحمه الله في هذه الرسالة- تقوى وتضعف بحسب داعي المحبة في قلب العبد، فكلما كانت المحبة أقوى كانت الهجرة أقوى وبعض الناس يهجرون المعاصي هجراً جزئياً، وبعض الناس يهجرونها نسبة أكثر، وبعض الناس يهجرونها هجرة كلية، فما هو السبب الذي فاوت بين هؤلاء؟ إنه المحبة.
وعندما يكون الواحد لا يزال قلبه يحب المنكر، ولو وعظ موعظة أو قصة انتهى عن ذلك، وربما يترك تركاً مؤقتاً، أو يترك تركاً جزئياً، لأنه لا زال فيه تعلق ومحبة للشيء الأول، لكن إذا صارت محبة الله طاغية، انقطعت العلاقة.(205/24)
الهجرة العارضة والهجرة الدائمة
وهناك هجرتان: هجرة عارضة، وهجرة دائمة.
فالهجرة العارضة هي هجرة الجسد، فـ ابن القيم -رحمه الله- يتعجب من بعض الفقهاء أو من بعض المؤلفين الذين يركزون على الهجرة العارضة، وهي هجرة الجسد، ويذكرون الفروع والأحكام المتعلقة بها، ويوسعون فيها المسائل، وربما لن تمر على بعض الناس مطلقاً ولا مرة واحدة، وربما أنت في حياتك لا تحتاج إلى هذه الهجرة، في الوقت الذي يفوتون ويغفلون الكلام عن الهجرة الدائمة الواجبة على مدى الأنفاس، وهي هجرة القلب.
ولذلك يعد ابن القيم بحق من العلماء الذين تكلموا في الفقه والأحكام، وتكلموا -أيضاً- في القلوب.
أي: هناك توازن كبير بين كلامه في الفقه وكلامه في أحكام القلوب وأحكام الحلال والحرام، وهنا يريد أن يتوصل ابن القيم إلى شيء مهم، لما كان في عهده صنم الفلسفة وعلم الكلام قائماً، وطاغوت التعصب المذهبي موجوداً، وكانت هذه الأوثان تُعبد من دون الله؛ علم الكلام والفلسفة، والتعصب المذهبي، منكران شائعان في عصره فكيف يستطيع ابن القيم وهو الداعية أن يحرر الناس من عبادة هذه الأوثان؛ وثن الفلسفة، ووثن التعصب المذهبي؟ طرح مفهوم الهجرة هنا لأجل أن يقول: أنتم أيها الواقعون في البدعة أو في الأخطاء بسبب تعصبكم المذهبي، متى يمكن أن تتركوا التعصب المذهبي أو البدع إلى السنة واتباع الدليل؟ يجب عليكم أن تهاجروا من البدعة إلى السنة، وتهاجروا من التعصب إلى اتباع الدليل، وتهاجروا من علم الكلام والفلسفة إلى طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا يمكن أن تهاجروا حتى تكون السنة والدليل الصحيح أحب إليكم من المذاهب، وإذا ما حصل هذا فلن تفعلوا ذلك.(205/25)
الهجرة إلى رسول الله
ولذلك طرح هنا مفهوم الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى يوسع القضية ولا يظن الناس أن الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في المدينة وانقطعت الآن؛ فإن الهجرة إلى الرسول صلى عليه وسلم باقية وموجودة، وذلك بالهجرة إلى سنته، وإلى حديثه، وإلى طريقته وقد شكا الغربة من قلة هذه الهجرة، فقال: وأما الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم لم يبق منه سوى اسمه، ومنهج لم تترك بنيات الطريق سوى رسمه.
فصارت الهجرة النبوية كما يقول: شأنها شديد، وطريقها على غير المعتاد بعيد وشكا الأذى الذي يجده من بني قومه ممن حوله من الناس، عندما يتبع السنة والدليل، ويقولون له: أنت تخالف المذهب أنت تخالف أئمتنا أنت خارج عن كلام فلان وفلان، ونحو ذلك.(205/26)
حد الهجرة إلى رسول الله
ثم شرع يعرف الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: سفر النفس في كل مسألة من مسائل الإيمان، ومنزلٍ من منازل القلوب وحادثة من حوادث الأحكام، إلى معدن الهدى، ومنبع النور المتلقى من فم الصادق المصدوق، الذي {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته وإلا فاقذف بها في بحر الظلمات.
فلو عندك أي حكم أو أي شيء سمعته أو رأيته أو قرأته أو حفظته، فلابد أن تعرضه على السنة، فإن وافقته السنة فتمسك به، وإن خالفته السنة فاقذف به.
بعض الناس عندما تأتي وتعلمهم السنة، وافتراض أن بلداً منتشر فيها القنوت في صلاة الفجر، فعندما تأتي وتعلمهم السنة فإنهم سيتركون القنوت في الفجر الدائم إلى السنة وهي قنوت النوازل؟ وإذا خالفتهم كأن صليت بهم ولم تقنت؛ عملت عندهم مصيبة عظيمة، فيعيبونك ويذمونك؛ لأنك أنت مفارق لما عليه الناس، وللطريقة وللجماعة ونحو ذلك.
وبعض الناس يعيش في بيئة -وهذا الكلام مهم جداً، وليس هو فقط في قضية العبادات بل حتى في المحرمات- بعض الناس مثلاً يقولون: عندنا في بيئتنا مصافحة بنت العم وبنت الخال أمر طبيعي، وإذا امتنعت عن مصافحة قريباتي فستكون القطيعة والمشكلات كثيرة جداً، فماذا أفعل؟ أو تجده يقول: أنا في بيئتي يطوفون بالقبور والأضرحة أنا في بيئتي يُقنت في صلاة الفجر باستمرار أنا في بيئتي لا تُطبق السنة الفلانية والفلانية، أو تحدث أشياء كثيرة، فما هي الطريقة؟ الطريقة أن كل شيء في بيئتك تعرضه على السنة، فإن وافقها فخذ، وإن خالفها فارم به، وهكذا فالعجب للمقيم في مدينة طبائعه وعوائده وما ورثه عن آبائه وأجداده، ولا يريد أن ينتقل إلى مدينة الحق والسنة والدليل وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة.
هذه الهجرة أهم من هجرة الجسد، وهذه الهجرة فرض على كل مسلم، وهي مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، وعن الهجرة التي تقتضيها شهادة أن لا إله إلا الله سيسأل العبد يوم القيامة، بل قال ابن القيم: وفي البرزخ، وفي كل الدور هو مسئول عنها.
قال قتادة رحمه الله: "كلمتان يُسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ ".
فالأولى: متعلقة بمبعث العمل وغايته، أشهد أن لا إله إلا الله، إيمان بالله، واحتساب لما عند الله.
والثانية: متعلقة بكيفية العمل، وهي مرتبطة بشهادة أن محمداً رسول الله، هل تابعت سنته وطريقته في العمل أم لا؟(205/27)
تأكيد الله باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن القيم: وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادتين، وقد قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
انظر إلى المؤكدات التي انطوت عليها هذه الآية.
أولاً: صدّرها بالنفي {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65] وهذا منهج معروف عند العرب، كما قال الصديق رضي الله عنه: [لاها الله إذاً لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه] هذا كان في قصة أبي قتادة، لما طالب شخص بسلب من قتله أبو قتادة، فـ أبو بكر نفى ذلك، كيف تُعطى سلب القاتل؟ والقاتل أحق به؟ وكما قال الشاعر:
فلا والله لا يلقى لما بي ولا لما بهم أبداً دواء
هذا النفي المستخدم في الآية أسلوب من الأساليب، فهذه الآية التي قال الله سبحانه وتعالى فيها: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] في رد الناس إلى السنة، وترك ما هم عليه، فيها مؤكدات كثيرة جداً، مثل النفي الموجود في أوله، كما تجده في أقسام الله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير:15] وهذا يؤكد الحقيقة المذكورة أكثر.
ثانياً: القسم نفسه {فَلا وَرَبِّكَ} [النساء:65] واو القسم.
ثالثاً: التأكيد بالمقسم به، فإنه أقسم هنا بالرب سبحانه وتعالى، والله يُقسم بالمخلوقات ويُقسم بنفسه سبحانه، فهنا أقسم بنفسه.
رابعاً: أكده بنفي الحرج: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} [النساء:65] لأن بعض الناس يسمع حكم الله ورسوله لكنه يتحرج منه، بل إنه يود لو أنه ما كان هكذا يقول عند صفقة كذا وكذا: ما حكمها؟ فتقول: حرام؛ لأنك أنت بعت ما لا تملك مثلاً، فينصرف عنك، ولو سمع الكلام يسمع وفي نفسه حزازة، بل يتمنى أن الحكم ما كان، لأنه فوت عليه أشياء.
خامساً: تأكيد الفعل بالمصدر، قال سبحانه وتعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] فكأنه قال: (ويسلموا) مرتين، لأجل ألا يكون هناك أي نوع من أنواع الاعتراض، ويكون هناك كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم.(205/28)
كيفية حبنا للرسول صلى الله عليه وسلم
ولذلك طرح هنا مفهوم الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى يوسع القضية ولا يظن الناس أن الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في المدينة وانقطعت الآن؛ فإن الهجرة إلى الرسول صلى عليه وسلم باقية وموجودة، وذلك بالهجرة إلى سنته، وإلى حديثه، وإلى طريقته وقد شكا الغربة من قلة هذه الهجرة، فقال: وأما الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم لم يبق منه سوى اسمه، ومنهج لم تترك بنيات الطريق سوى رسمه.
فصارت الهجرة النبوية كما يقول: شأنها شديد، وطريقها على غير المعتاد بعيد وشكا الأذى الذي يجده من بني قومه ممن حوله من الناس، عندما يتبع السنة والدليل، ويقولون له: أنت تخالف المذهب أنت تخالف أئمتنا أنت خارج عن كلام فلان وفلان، ونحو ذلك.(205/29)
أدعياء المحبة
لا ينبغي للعبد أن يكون لنفسه حكم أصلاً، بل الحكم على نفسه للرسول صلى الله عليه وسلم يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده، ولا يكون عنده مقررات عقلية ينطلق منها، بل ينطلق من الكتاب والسنة.
ومن العجب أن بعض الناس يقول: هات فإن وافق عقلي قبلت، وإن خالف عقلي رددت، فيجعل عقله هو الحكم على الكتاب والسنة، والإعراض عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الإثم العدوان، وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء:135].
إن اللي والإعراض هما السببان الموجبان لكتمان الحق وتركه، فأول ما يحاول أصحاب الباطل أن يلووا الأمور، ويحرفونها، فإذا ما استطاعوا أعرضوا عنها، فكانوا كالشيطان الأخرس.
اللي: هو التحريف، فقد يحرفون الألفاظ، إما بزيادة أو نقصان أو تبديل، يقول لك: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: استولى، فيزيد لاماً، واليهود ماذا كانوا يقولون في السلام عليكم؟ كانوا ينقصون اللام، ويقولون: السام عليكم، هذا ليّ وتحريف، وقد يحرفون المعنى، قد يحرف اللفظ وقد يحرف المعنى، فيقول: المقصود بكذا كذا، غير ما قصده الله وما أراده سبحانه وتعالى، وبعضهم يُعرض إعراضاً تاماً عن الدليل، وينبغي على الإنسان ألا يختار لنفسه، وإنما يكون لله ولرسوله الخيرة، فإذا ثبت لله ورسوله اختيار معين وجبت الطاعة والاتباع، ومن استبانت له سنة لم يكن له أن يدعها لقول أحد، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله، وقد قال الله عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [التغابن:12] {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور:54].
إذا توليتم عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنما عليه ما حمل، وماذا حمل النبي صلى الله عليه وسلم؟ حمل التبليغ، وعلينا ما حملنا وهو التنفيذ والعمل، فالرسول صلى الله عليه وسلم غير مكلف بتنفيذنا نحن، إنما هو مكلف بالتبليغ فقط، وكل داعية ليس مكلفاً بأن يهتدي الناس ويؤمنوا، هذا شيء لا يملكه، هو مكلف بالتبليغ فقط.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59].
فأمر بطاعته وطاعة رسوله، وصدّر الخطاب بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النساء:59] ولم يأتِ بصفة أخرى؛ لأنه نادى بالصفة التي تقتضي الأمر، فالصفة هي صفة الإيمان، كأن تقول: يأيها الحاكم! احكم، يأيها المنعم عليه! أحسن، ويأيها العالم! علِّم، فعندما ناديته بهذا النداء؛ يُفهم منه أن الشيء له علاقة بالموضوع، وأنه يقتضيه الموضوع، فلما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] عُلِمَ أن هذا من مقتضيات الإيمان، لأنه ناداهم به.(205/30)
طاعة الرسول من طاعة الله
لماذا قال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] فذكر طاعتين؟ حتى لا يتوهم أحد أن الشيء الذي يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وليس موجوداً في القرآن أنه غير واجب، كما قال عليه الصلاة والسلام: (يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله تعالى، ما وجدنا فيه من شيء اتبعناه، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه) الذي أنزله الله وأوجب اتباعه مثل الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم واجب الاتباع.
وتأمل كيف أفرد لنفسه طاعة، وللرسول طاعة، وأدخل طاعة أولي الأمر في طاعة الله ورسوله، ولم يفرد الطاعة؛ لأنها تبع، فلو خالفوا ما وجبت لهم طاعة: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] في أي نزاع، وأي قضية، لا بد من الرد إلى الكتاب والسنة {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59] هذا شرط، إذا كنتم تؤمنون فردوه وإذا ما رددتموه، فمعنى ذلك أنكم غير مؤمنين بالله واليوم الآخر.
وهذه آية كما قال رحمه الله: عاصمة قاصمة، تعصم المتمسك بها، وتقصم ظهر المخالف لها، فإذا أطعنا الله وأطعنا الرسول وكل شيء تنازعنا فيه رددناه إلى الله والرسول، فإن الذي سيحصل لنا هو الخير: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] وكل خير في العالم يحدث بسبب طاعة الله ورسوله، وكل شر في العالم يحدث بسبب مخالفة الله ورسوله، وهذا أمر معروف.
فإذا صرت إنساناً تطيع الله والرسول، وترد إلى الله والرسول كل شيء يحصل عندك فيه لبس أو غبش أو جهل أو نزاع؛ فإنك تكون قد كملت نفسك، وبقي عليك أمران: الأول: دعوة الخلق إلى هذا الحق.
الثاني: الصبر على ما تلقاه.
فصار عندنا علم وعمل ودعوة وصبر، هذه أربعة مراتب إذا عملها الإنسان فقد بلغ كماله.
ومن الصوارف: العلاقة بالخلق عن الحق، إذا كانت العلاقة سلبية وغير صحيحة، ولذلك اختار العلماء العزلة حينما يكون الأشرار محيطين بالإنسان، وحين ذلك لا بد أن يفارقهم.
لقاء الناس ليس يفيد شيئاً سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا لأخذ العلم أو إصلاح حال
تعاون على البر والتقوى، اجعل علاقتك بالناس قائمة على: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] وإذا ما وجد التعاون على البر والتقوى فاقطع العلاقة، هذا هو الصحيح.(205/31)
حال المتخالين على غير طاعة رسول الله
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:27 - 28] فيتندم: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] فتتقطع الأسباب، ويلعن بعضهم بعضاً، ويقول الأتباع: {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب:68] فهؤلاء هم الذين ستتقطع بهم الأسباب، إلا أولياء الله سبحانه وتعالى، لأن علاقتهم كانت بالله فاستمرت العلاقات.
يوم القيامة لا تتقطع علاقة الإخوان في الله ببعضهم، لكن تتقطع كل العلاقات الأخرى؛ لأن العلاقات المبنية على العلاقة بالله قائمة ومستمرة إلى يوم القيامة، وأما المبنية على الدنيا والهوى فإنها تتقطع ويلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض، وستكون هناك معركة كبيرة جداً يوم القيامة، بين الأتباع والمتبوعين، وكل من تابع آخر في باطل سيسبه ويشتمه، وكل المودات والعلاقات والموالات التي كانت في الدنيا لغير الله، ستنقطع يوم القيامة، ولا تنفعه لا في دار البرزخ ولا في دار الآخرة، وأما العلاقة بالله فإنها تبقى قائمة:
إذا انقطع حبل الوصل بينهم فللمحبين حبل غير منقطع
وإن تصدع شمل القوم بينهم فللمحبين شمل غير منصدع
هؤلاء أتباع الأشقاء، بينهم يوم القيامة عداوات ومعارك، ولعن وسب وشتم، ولكلٍّ صعف من العذاب.(205/32)
الأتباع السعداء
أما أتباع السعداء فنوعان: النوع الأول: الذين يكونون مستقلين، اتباع استقلالي، الذين قال الله فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [التوبة:100] هؤلاء السعداء تبعوا النبي صلى الله عليه وسلم وتبعوا أصحابه كيف تبعوهم؟ تبعوهم بإحسان، فلا بد أن يكون هناك إحسان في الاتباع، ومن الناس من أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، ومنهم من لم يدركه ولم يلحقه، كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة الجمعة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة:2 - 4].
فالذين مع النبي صلى الله عليه وسلم لحقوا به في الزمن والفضل، ومن جاء بعدهم ما لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم في الزمن، فلن يلحق في الفضل، ولأن فضل الصحابة لن يجاريه أحد، لكنه سيكون له أجر وفضل لاتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا الاتباع الذي يستلزم حسن الأخذ، وحسن التلقي، وحسن التطبيق، مبني على تشرب السنة، وأخذ العلم.
أنزل الله سبحانه وتعالى الوحي من السماء غيثاً للقلوب، والغيث كما أنه يحيي الأرض، فكذلك يحيي الله القلوب بالوحي، والأراضي أنواع: 1 - أرض تأخذ الماء وتنبت من كل زوج بهيج.
2 - وأرض صلبة تأخذ الماء وتحفظه ولا تنبت شيئاً، لكن الماء لا يضيع.
3 - وأرض لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، إنما هي قيعان، وهذه أمثلة تفاعل النفوس مع العلم، فهناك نفوس إذا سمعت الأدلة وكلام الله وكلام رسوله أنبتت الثمار، ونفع الله بها، وانتفع الخلق، وهناك نفوس تسمع النصوص وتحفظها صالحة في نفسها، لكن لا تستطيع أن تستنبط من النصوص ولا تُعلِّم، فما هو كمالها وحسبها؟ أن تنقل هذا العلم لغيرها حتى يستفيد منه، وهذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه غير فقيه) ومثل هاتين الدرجتين كالتاجر الخبير بوجوه المكاسب والتجارات، فهذا يشغل المال ويكسب منه ويثمر، وآخر يحفظ المال، لكنه لا يستطيع أن ينميه.
وهناك الطائفة الأخرى: التي لا تمسك شيئاً ولا تنبت شيئاً، فلا فائدة للغير ولا فائدة لنفسها.(205/33)
أطفال المؤمنين يلحقون بآبائهم في الجنة
هناك أتباع مُلحقين، وهم كل من تابع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بإحسان، فسيلحق بهم يوم القيامة، وهناك أتباع ملحقين مثل أطفال المؤمنين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21].
وعندما يلحق الولد المؤمن بأبيه المؤمن في الآخرة وفي الجنة، هل معنى ذلك أن عمل الأب سيوزع على الأب والولد، أي: ينقص عمل الأب لكي يدخل الولد معه الجنة؟
الجواب
لا، قال تعالى: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] وحتى لا يتصور أن الأب إذا كان قد عمل سيئة فسيعاقب عليها الولد -أيضاً- من باب الاتباع والإلحاق، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر:18]، ولذلك الإلحاق هنا في الفضل والثواب وليس في العدل والعقاب، فإن الولد ليس له دخل بسيئة أبيه.(205/34)
زاد السفر إلى الله وطريقه ومركبه
السفر إلى الله يحتاج إلى زاد، والزاد هو العلم، ولا بد أن يكون الرفقاء في السفر طيبين؛ حتى يصل الإنسان بسلامة، وهذا معنى قولنا: إنه يجب على الإنسان أن يكون عنده قرناء صالحون وأخيار وأصحاب طيبون، حتى يصل معهم إلى بر السلامة، والذي يتخذ أناساً من قرناء السوء يحملونه على المنكر والمعاصي فإنه سيتضرر بهم في الدنيا ويوم القيامة عندما يكون معهم في العقاب، فلن ينفعهم اشتراك بعضهم مع بعض في العقاب، كما قال الله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] لكن في الدنيا لو صارت مصيبة على الجميع فكل واحد يخف عنه الألم لما يجده من مصاب الآخرين، فهذه الخنساء عندما قتل أخوها صخر، عزت نفسها بأن كثيراً من النساء قد قتل أزواجهن أو أولادهن، فقالت:
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن أسلي النفس عنهم بالتأسي
تقول: أخي أفضل وأكرم وأحسن، لكن المصيبة لما اشتركوا فيها خف الألم، لكن يوم القيامة عندما يكون أهل السوء مع بعضهم البعض في النار فلن يخف عنهم الألم، ولا عزاء لبعضهم في اشتراكهم في العذاب.
والذي يريد أن يسير إلى الله تعالى لا بد أن يكون له مركب يركب عليه ذكرنا أن الزاد هو العلم، وانظر إلى التشبيه البليغ من ابن القيم رحمه الله المسافر يحتاج إلى زاد، ويحتاج إلى دابة، ويحتاج إلى رفقة، وقد ذكرنا أن الزاد هو العلم، وبينا أمر الرفقة وهم الإخوان الصالحون، فما هو الظهر الذي سيركب عليه؟ يقول ابن القيم رحمه الله: لا يمكن أن تصل إلا إذا امتطيت مطيتين: الأولى: مطية الصبر على لوم اللائمين.
الثانية: أن تهون نفسك لله، ولا تبالي بمن خالفك، فإذا لم تبالِ بمن خالف الحق، وإذا صبرت على أذى المخالفين للحق فسوف تصل، ومدار هذين الأمرين على الصبر، وأن يكون مركبك اللجوء إلى الله، والاستعانة بالله، والانطراح بين يديه، والتطلع لما عنده، أن يلم شعثك، ويمدك بفضله، ويسترك بستره.(205/35)
التفكر في آيات الله والتدبر في كتابه الكريم
قال ابن القيم: ورأس الأمر وعموده التفكر في آلاء الله، والتدبر في آيات الله، وقد تجد شخصاً جالساً فتقول: ماذا يفعل هذا؟! وإن كان ثابتاً ببدنه، لكن عقله جوال في آيات الله المسطورة والمنثورة، يتأمل فيها، وإذا كان الإنسان عنده علم بالتفسير، استطاع أن ينظر ويتفكر في آيات الله عز وجل، وصارت خواطره وفكره مستودع للاستنباطات والفهم من كتاب الله تعالى، وتراه ساكناً وهو يباري الريح {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88] وتدبر القرآن وتفهمه من أعظم الأمور.
ثم قال ابن القيم رحمه الله: إن قلت لي: اضرب لي مثلاً على التدبر في القرآن كيف يكون؟ فسأقول لك: آيات في الكتاب العزيز، إذا قرأها الشخص العادي يفهم شيئاً، وإذا تدبرها صاحب العلم يفهم شيئاً آخر، هذه الآيات هي قول الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات:28 - 29].
قال: هذه الآيات لو طرحت على الشخص العادي، فسيخرج منها أن الملائكة أتوا إبراهيم في صورة أضياف يأكلون ويشربون، وبشروه بغلام، والمرأة لما سمعت ضربت وجهها قال: فاسمع الآن ما فيها من الأسرار: أولاً: إن الله سبحانه وتعالى قال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الذاريات:24] افتتحها بأداة استفهام، وهذه الأداة تدل على شيء، فإنها تنبه الشخص لما سيأتيه من العلم، وأن هذا العلم من الغيب {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود:49]، وكذلك تستخدم لتضخيم الشيء: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]، وتستخدم لما سيقصه عليه من نبأ الغيب: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [النازعات:15] {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [ص:21] {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24] ولما وصفهم بأنهم مكرمون؛ عرفنا أن إبراهيم قد أكرمهم، فإذاً إبراهيم يُكرم الضيوف وهذه من مناقبه، ولو كان المقصود بالمكرمين أن الله كرمهم، فكون إبراهيم يُكرم من كرمه الله، يعتبر من مناقبه أنه كرَّم المكرمين.
{فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ} [الذاريات:25] سلاماً جملة فعلية، وسلامٌ جملة اسمية، والشيء الفعلي يقتضي التجدد والحدوث، والشيء الاسمي يقتضي الثبات والاستقرار، فإذاً: سلامٌ أبلغ؛ لأنها تقتضي الثبات والاستقرار، فكانت تحيته لهم من باب قوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86].
{قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات:25] ولم يقل: من أنتم؟ أنتم قوم منكرون، ولم يقل: أنا أنكركم، فدل ذلك على لطافة أسلوبه مع ضيفه، فإنه أخبرهم أنه ما رآهم من قبل، لكن لم يخبرهم بأسلوب فيه فجوة بينه وبينهم، ثم إنه راغ إلى أهله: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} [الذاريات:26] باختفاء وسرعة، وهذا هو الروغان، حتى لا يخجّلهم، لا كما يفعله بعض الناس مع ضيوفهم، فإنه يبرز بمرأى منه، ويخرج النقود، ويستدعي الولد، ويقول: خذ اشترِ لنا كذا من السوق، وهاتِ لنا كذا، أمام الضيوف، فإنه استقبال بارد، ويتضمن تخجيلاً للضيوف، وتسبباً في سواد وجوههم، لكن إبراهيم بدون أن يستشيرهم، راغ إلى أهله {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26]، فتضمن ذلك أنه خدم ضيوفه بنفسه، ولم يُرسل عبداً ولا ولداً.
ثانياً: أنه جاءهم بحيوان تام، لينتقوا منه ما يشاءون، بعجل كامل، ثم إنه سمين وليس بهزيل، فهو يضيف الناس من نفائس ماله، فقربه إليهم، ولم يقل: تعالوا واقتربوا، وإنما قرب الطعام، وهذا أبلغ في الإكرام، ثم إنه قال: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات:91] فعرض عليهم الأكل بصيغة لطيفة، ولم يقل: كلوا، ضعوا أيديكم ونحو ذلك، أو سكت، فيتحرج الضيف، هل يمد يده أو ينتظر إشارة المد؟ فقال إبراهيم: ألا تأكلون؟ وهكذا فإذا قارنت بين المعنى العام الذي يفهمه الشخص وبين هذه الدقائق التي لا يُتوصل إليها إلا بالتدبر في الآيات؛ لوجدت ما معنى التدبر في القرآن الكريم؟!(205/36)
الرفيق والطريق
ثم قال ابن القيم رحمه الله: (إذا أردت أن تسير إلى الله سيراً حثيثاً قوياً، فعليك بمرافقة الأموات الذين هم في العالم أحياء، واحذر من مرافقة الأحياء الذين هم في الناس أموات).
من هم الأموات الذين هم في العالم أحياء؟ إنهم الصحابة والعلماء وأهل الفضل والكتب، كتبهم وعلمهم، وإن مات المؤلف فعلمه حي بين الناس، كما قالوا: تصنيف العالم ولده المخلد، ليس ولداً عمره ستون أو سبعون سنة ويموت، فانظر إلى كتبهم رحمهم الله، كتب العلماء النافعة، فإنها مئات السنين مستمرة وباقية، ووصلت إلينا، فرافق الأموات الذين هم في العالم أحياء، وتجنب أن ترافق الأحياء الذين هم في الناس أموات أموات بسبب معاصيهم وضلالهم وضياع أوقاتهم، وتضييعهم لأوقات غيرهم.
يقول: إياك أن ترافق هؤلاء، فإنك لن تستفيد مطلقاً، فإذا حصلت هذه الأمور كان الأصل طيباً، وكان العود طيباً، وكانت النفس قوية، وصار العلم موجوداً، والصحوة الطيبة موجودة، والزاد إلى الله موجود، فإنك ستصل إلى الله بسلام.
هذا تمام الكلام عن استعراض هذه الرسالة لـ ابن القيم -رحمه الله- وهي الرسالة التبوكية، التي أرسلها من تبوك -كما قلنا- ونبه فيها على سير المسلم إلى الله عز وجل نسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد.(205/37)
دروس وعبر من قصة أبي ذر
إننا لو نظرنا -نحن المسلمين- إلى حياة الصحابة، وكيف كانوا يُبلُون لأجل نصرة الدين وانتشار الإسلام؛ لما وجد هذا الذل والاضطهاد من قبل أعداء الله المشركين.
وإن قصة أبي ذر رضي الله عنه لتشهد لنا حقيقة وتبين لنا كيف كانت هممهم في طلب الحق واعتناقه، ثم إذا اعتنقوه دافعوا وبذلوا النفس رخيصة من أجله، وقاموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون خوف من أحد.(206/1)
جيل الصحابة كون مجتمعاً مسلماً متكاملاً
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أحييكم في هذه الليلة التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما سنسمع فيها، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيبكم خيراً على حضوركم واستماعكم، ونسأل الله أن يجعل مجلسنا هذا من المجالس التي تثقل فيها أعمالنا يوم القيامة، إن دراسة قصص الصحابة رضوان الله عليهم لها أهمية كبيرة؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم هم أولئك الجيل الذي رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينه، ولقنهم مبادئ الوحي ومضامين الرسالة التي أنزلت عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم هذه الأمة قاطبة جنها وإنسها، ولذلك فإن هذا المربي العظيم عندما يربي ذلك الجيل على تلك التعليمات الإلهية، كتاباً وسنة، فإن ذلك الجيل لا بد أن يكون جيلاً عظيماً، جيلاً تستفيد منه البشرية إلى قيام الساعة، وهذا الجيل -أيها الإخوة- عبارة عن أفراد تجمعوا وآمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم، وانصهروا في تلك البوتقة الإيمانية التربوية، حتى خرجت تلك النماذج، وصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم يتفاوتون في ميزاتهم، وصفاتهم الشخصية، ولذلك نجد أن أرأف الأمة: أبا بكر وأشدها في أمر الله: عمر، وأكثرها حياءً: عثمان، وأحسنهم قضاء بين الخصوم: علي بن أبي طالب، وأعلمهم بالحلال والحرام: معاذ بن جبل، وأعلمهم بالفرائض: زيد بن ثابت، وأكثرهم أمانة: أبو عبيدة عامر بن الجراح، وأعلمهم بالقراءة -قراءة القرآن- أبي بن كعب، فإذاً الصحابة رضوان الله عليهم كانت صفاتهم الشخصية واستعداداتهم وقدراتهم تتفاوت، ومن مجموع هذه القدرات وتنوع هذه الشخصيات، تكون ذلك المجتمع المسلم.(206/2)
أبو ذر الغفاري رضي الله عنه ترجمته وحياته
ونحن اليوم سنلقي الضوء في هذا الليلة إن شاء الله عن شخصية من تلكم الشخصيات العظيمة التي نشأت في ظل النبوة نشأة إيمانية، فالصحابة رضوان الله عليهم كثير منهم دخلوا في الإسلام وهم كبار السن، ومع أن تشكل الكبير على أمر جديد صعب، ولكن عندما يسلم الإنسان تسليماً كاملاً وينقاد فإن ذلك التشكل يكون سهلاً، والرجل الذي سنتكلم عنه في هذه الليلة، هو: أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، هذه الشخصية التي لا يعلم عنها الكثيرون، وبعض من يعلم عنها شيئاً يعلمون عنها أشياء مشوهة، قد أخذوا عنها فكرة غير كاملة وصحيحة، فمن الناس من يعتقد أن أبا ذر شخصية ضعيفة مهزوزة، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنك لضعيف) ولكن الحقيقة غير ذلك كما سنبين إن شاء الله.(206/3)
اسمه ونسبه وفضله
فأما أبو ذر فإن اسمه: جندب بن جنادة -جُندُب أو جُندَب لغتان صحيحتان- ابن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار وغفار يرجع أصلهم إلى بني كنانة، قال الذهبي رحمه الله في السير: هو أحد السابقين الأولين من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كان يفتي في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وكان رأساً في الزهد والصدق والعلم بالعمل، قوالاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، على حدة فيه.
وقال عليه الصلاة السلام مبيناً فضائل ذلك الرجل في الحديث الصحيح: (ما أقلت الغبراء - الأرض- ولا أظلت الخضراء - السماء- من رجل أصدق لهجة من أبي ذر).
أما بالنسبة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي يقول: (يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تتأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم) فهذا التعليم منه عليه الصلاة والسلام والإرشاد لـ أبي ذر ذلك لأن أبا ذر كانت تعتريه حدة في كثير من الأحيان، مما قد لا يكون مع تلك الحدة جيداً في الإمارة، وكان يرى أن إبقاء المال هو كنز للمال، ولا بد من إنفاقه كله، ولذلك لو تولى مال يتيم قد ينفق مال اليتيم في سبيل الله.(206/4)
قصة إسلام أبي ذر في الرواية المتفق عليها
وأما من ناحية شخصية الرجل، فإنها عظيمة، وموضوعنا الذي سنتحدث عنه في هذه الليلة هو عن جزء من حياة أبي ذر وهذا الجزء هو قصة إسلامه، إن قصة إسلام أبي ذر -أيها الإخوة- من القصص الشيقة الممتعة التي تحتوي على دروس عظيمة، وهذه القصة رواها الإمام البخاري رحمه الله والإمام مسلم في صحيحيهما، وغيرهما، وهناك رواية اتفق على إخراجها البخاري ومسلم ورواية أخرى أخرجها مسلم وغيره، وبين الروايتين تغاير واضح في السياق، حتى إن بعض أهل العلم قالوا: إنه يتعذر الجمع بين بعض التفاصيل الواردة في السياقين، وبعضهم قال: يمكن الجمع، والمسألة فيها دقة وفيها صعوبة شديدة، ولذلك نحن سنقتصر إن شاء الله على إيراد الروايتين، وشرحهما، مع ذكر الفوائد فيهما، ونبدأ بذكر رواية الصحيحين التي رجحها بعض أهل العلم، على رواية مسلم، وإن كانتا من ناحية صحة السند ثابتتين، فأما رواية البخاري ومسلم فهي عن عبد الله بن عباس أنه كان في مجلس فقال لمن حوله: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قلنا: بلى.
قال ابن عباس: قال أبو ذر: (كنت رجلاً من غفار -قبيلة غفار- فبلغنا أن رجلاً خرج بـ مكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل فكلمه وائتني بخبره).
وفي رواية: أن ابن عباس قال: (لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بـ مكة، قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، - مكة، لأنها في وادي- فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق -أي الأخ- حتى قدم مكة وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر، فقال: والله لقد رأيت رجلاً يأمر بالخير وينهى عن الشر) وفي رواية: فقال: (رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر -ليس شعراً- فقال أبو ذر: ما شفيتني -أي ما أتيت لي بالكلام الذي يلبي حاجتي في نفسي، ما شفيتني فيما أردت- فتزود أبو ذر وحمل شنة له فيها ماء وجراباً وعصا حتى قدم مكة -الآن أبو ذر يذهب ليبحث عن هذا الرجل وعن حقيقة الأمر، هل هو حق أم لا؟ - حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه -لكن لا يعرف من هو الرسول صلى الله عليه وسلم- وكره أن يسأل عنه) لماذا كره أبو ذر أن يسأل عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هناك أسباب ذكرها ابن حجر رحمه الله قال: لأنه عرف أن السؤال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذي السائل، أو أن السؤال عن الرسول صلى الله عليه وسلم يؤذي المسئول عنه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أن كفار قريش لن يدلوا السائل على الرسول صلى الله عليه وسلم لعداوتهم له، أو يمنعونه من الاجتماع به، أو يخدعونه حتى يرجع عنه ولا يقابله، ولذلك كان أبو ذر رحمه الله حكيماً عندما لم يسأل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى أدركه الليل.
وفي رواية: أنه قال: (وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد -يعني: أجلس في المسجد الحرام، وأشرب من ماء زمزم- فاضطجع رضي الله عنه، فرآه علي بن أبي طالب، فعرف أنه غريب من هيئته ومظهره، فقال علي رضي الله عنه: كأن الرجل غريب؟ -يقول: لـ أبي ذر كأن الرجل غريب؟ - قال: قلت: نعم، قال: فانطلق إلى المنزل -أي حتى أضيفك- فلما رآه تبعه فلم يسأل الواحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ذهب أبو ذر مع علي وما سأل علياً عن شيء ولم يسأله علي عن شيء، حتى صار الصباح، ثم احتمل قربته -وفي رواية: قريبته، تصغير- وزاده إلى المسجد، خرج من بيت علي ورجع في الصباح إلى المسجد، فظل ذلك اليوم، ولا يرى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به علي للمرة الثانية، فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟).
أي: كأنه يريد أن يضيفه مرة أخرى، يعرض عليه الضيافة، وفيها تلميح إلى أنه ما هو قصدك؟ ماذا تريد؟ (أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه فذهب به معه، قال: فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره بشيء حتى إذا كان اليوم الثالث، فعل مثل ذلك -أخذه معه إلى منزله في المساء، ويرجع أبو ذر رضي الله عنه في الصباح إلى المسجد- فقال علي في المرة الثالثة: ألا تحدثني ما الذي أقدمك هذا البلد؟) وفي رواية: فقال: (ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ فقال أبو ذر رضي الله عنه: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت) لو أعطيتني العهد والميثاق أن تخبرني عما أنا جئت بسببه، أخبرتك، وفي رواية: أنه قال لـ علي: (إن كتمت علي أخبرتك، قال علي: فإني أفعل) أعطاه وعداً أن يفعل -الآن علي مسلم وليس بكافر- وقال ابن حجر: والراجح أنه أسلم وهو ابن عشر سنين ولذلك يقول: فالراجح أن هذه القصة وقعت بعد البعثة بسنتين على الأقل، بسنتين فأكثر، أي: يحتمل أنه كان سن علي في ذلك الوقت بين اثنتي عشرة سنة وبين عشرين سنة تقريباً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هاجر بعد البعثة، أو أكثر، المهم أنه فوق أثنتي عشرة سنة، لماذا؟ لأن اثني عشر سنة هو السن المعقول في أن رجلاً مثل علي يخاطب رجلاً ويضيفه، ولذلك فإن هذه القصة على الراجح كما سيمر معنا بعد قليل أنها حصلت قبيل الهجرة إلى المدينة - (فقال أبو ذر لـ علي رضي الله عنه: سمعنا أنه ظهر نبي في مكة، وأتيت أتحقق من الأمر وأسأل، فأخبره أبو ذر، فقال علي رضي الله عنه: إنه حق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: أنه قال له: أما إنك قد رشدت) أي: قد أصبحت على الرشد، أنت فعلاً جئت لشيء صحيح وحق (وهذا وجهي إليه) علي يقول لـ أبي ذر، إنني متوجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول علي رضي الله عنه: (فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخافه عليك قمت كأني أريق الماء) يقول علي: هناك مشكلة وهي أن كفار قريش يقومون بضغط شديد على الدعوة ومحاربة عظيمة جداً، وتتبع مستمر لكل رجل يحاول الالتحاق بركب الدعوة، ولذلك فـ علي بن أبي طالب كان لا بد أن يلجأ إلى طريقة لا تشعر الناس أن أبا ذر سيتبعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال علي لـ أبي ذر: (فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخافه عليك، قمت كأني أريق الماء).
وفي رواية: (قمت كأني أصلح نعلي -في هيئة الذي يصلح نعله- فإذا أنا فعلت ذلك فأمض أنت دون أن تلتفت) معناها: أن تتابع سيرك فيما بعد، قال ابن حجر رحمه الله: ويحتمل أنه قالهما جميعاً، قال: كأني أريق الماء، أو كأني أصلح نعلي (فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل، فمضى ومضيت معه، حتى دخل ودخلت معه، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فقلت له: اعرض عليّ الإسلام، فعرضه الرسول صلى الله عليه وسلم على أبي ذر، فسمع من قوله، فأسلم أبو ذر مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك).
وفي رواية: (ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل -إذا بلغك أننا ظهرنا على أعدائنا فتعال إلي من بلدك- فقال: والذي بعثك بالحق، وفي رواية: والذي نفسي بيده، لأصرخن بها بين ظهرانيهم) يقول: لا أكتم الأمر، ولا أكتم إسلامي، وسأذهب وأصرخ بالشهادتين بين ظهرانيهم، أي: بين ظهراني المشركين في مكة، (فخرج فجاء إلى المسجد وقريش فيه، فنادى بأعلى صوته، يا معشر قريش! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ الذي غير دينه، وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فرآهم وهم يضربونه فأكب على أبي ذر وقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار؟).
وفي رواية قال: (ويلكم تقتلون رجلاً تعلمون أنه من غفار وهي طريق تجاركم إلى الشام) انظر إلى ذكاء العباس يقول: أنتم الآن تريدون أن تقتلوا رجلاً من غفار وطريق تجارتكم تمر من بلادهم، فيمكن أن يثأروا له عن طريق تجارتكم؛ فأنقذه منهم (فأقلعوا عني -أي كفوا عني- ثم أصبحت الغد، فرجعت فقلت مثلما قلت بالأمس! فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ فصنع بي مثلما صنع بالأمس -ثاروا إليه، فضربوه- فأكب عليه العباس فأنقذه)، هذه الرواية في البخاري ومسلم، أما رواية الإمام مسلم رحمه الله ففيها زيادة تفاصيل في بداية القصة وفي نهايتها، وفيها طريقة أخرى لمقابلة أبي ذر للرسول صلى الله عليه وسلم لأول مرة.(206/5)
قصة إسلام أبي ذر في رواية مسلم
روى الإمام مسلم رحمه الله عن عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر: (خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام -غفار كانوا في جاهليتهم يحلون الشهر الحرام الذي حرم الله القتال فيه- قال: فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا) هؤلاء الثلاثة هؤلاء أبو ذر وأنيس وأمهما كانوا لا يرضون عن فعل غفار، ولأجل المنكر الذي كانت عليه غفار خرجوا من غفار (فنزلنا على خال لنا، فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه، فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك -الكلام موجه إلى الخال- فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك، أي: زوجتك، خالف إليهم أنيس) يعني: أنت إذا خرجت من هنا هو جاء إليهم من هنا، وكان أنيس جميل الخلقة (فجاء خالنا، فنثى علينا الذي قيل له -أي أفشى علينا وأشاع ما قيل له- فبلغ أخي هذا الكلام؛ فقال: والله لا أساكنك، فقلت: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته) -قد فعلت الشيء الطيب لنا وضيفتنا، والآن ماذا فعلت بكلامك هذا؟ هذه الإشاعات التي قال لك الناس، ونشرتها الآن، ماذا فعلت؟ لقد أفسدت المعروف- (ولا جماع لنا فيما بعد، لا نلتقي بك، فقربنا صرمتنا -وهي: القطعة من الإبل أو الغنم يقال عليها صرمة- فاحتملنا عليها، ركبنا عليها وتغطى خالنا بثوبه فجعل يبكي -تأثراً من الخطأ الذي فعله- فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة، فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، فأتيا الكاهن فخير أنيساً فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها).
وفي رواية: (فتنافر إلى رجل من الكهان، قال: فلم يزل أخي أنيس يمدحه حتى غلبه، فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا) ما معنى هذا الكلام؟ معنى هذا الكلام أنهم كانوا في الجاهلية، يتفاخرون بالشعر، أيهم أشعر من الآخر، ويتحاكمون إلى رجل ثالث يقضي بينهم أيهما أشعر من الآخر، فهنا تفاخر أنيس مع رجل رآه في الطريق، فاحتكما إلى كاهن، وهذا عمل حرام، لكن هذا وقع منهم في الجاهلية قبل أن يسلموا، فاحتكما إلى كاهن أيهما أشعر وجعل أنيس القطيع الغنم الذي معه -الصرمة- رهناً، وذلك الرجل كان معه قطيع آخر جعله رهناً أيضاً، فالذي يفوز ويكون أشعر من الثاني يأخذ القطيعين كلهم ويمشي، فكسب أنيس، (فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا، فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها، فيقول أبو ذر للشخص الذي سمع منه الحديث: وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين) يقول أبو ذر: إني كنت أصلي قبل أن ألقى الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، فيقول الذي سمع منه القصة: (فقلت: لمن؟ -أي: لمن تصلي؟ - قال: لله تعالى، قلت: فأين توجهت؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي) أصلي حيث يوجهني ربي، فالمؤمن يصلي لله، وقد ذكروا أن أبا ذر كان رجلاً في الجاهلية مثل قومه، فاجر من الفجار، ثم هداه الله إلى التوحيد قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان من جنس الموحدين مثل ورقة بن نوفل وغيره من الناس الموحدين، وبعضهم كان عنده علم من الديانات السابقة، الأديان السابقة، كان أبو ذر على التوحيد، وكان يعلم أن الذي يستحق العبادة هو الله عز وجل، لكن لا يعرف كيف يصلي ولا أين يستقبل!! ولذلك يقول: (صليت قبل أن آتي الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين) صلى قبل الإسلام بثلاث سنوات، وكان يتوجه حيث يوجهه الله (أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خثاء) أصلي حتى أتعب ويأتي آخر الليل وأنا تعبان من الصلاة، فألقى كأني كساء أي: من تعب العبادة، حتى تعلوني الشمس، فتوقظه، فقال أنيس: (إن لي حاجة بـ مكة فاكفني، فانطلق أنيس حتى أتى مكة).
وهنا يمكن أن نجمع بين الروايتين ونقول: إن أبا ذر طلب من أخيه في هذا الوقت أن يذهب إلى مكة، ليعلم له خبر النبي صلى الله عليه وسلم يقول أبو ذر: (فراث علي -أي: أبطأ عليه أخوه، لم يأت بسرعة- ثم جاء فقلت ما صنعت؟ قال لي: لقيت رجلاً بـ مكة على دينك) فـ أنيس الآن يرى أن أخاه على التوحيد، فقال: حينما ذهبت إلى مكة وجدت رجلاً على دينك، يزعم أن الله أرسله.
وفي رواية قال لي: (أتيت مكة فرأيت رجلاً يسميه الناس الصابئ، هو أشبه الناس بك، قلت: فما يقول الناس عن هذا الذي ظهر في مكة؟ قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر -وكان أنيس أحد الشعراء- قال أنيس لأخيه: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم -لست بكاهن- ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر -أي طرقه وأنواعه- فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر) لا يمكن أن يكون شاعراً لأني أعرف أوزان الشعر وطرقه فلا يمكن أن يكون كلامه شعراً (والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون، قال: قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر).
هنا كأن أبا ذر قال لأخيه: إني بعثتك لتأتيني بتفاصيل، والتي أتيتني بها غير كافية، أنت أتيتني بأشياء مجملة، فأنا أريد أن أستقصي بنفسي، قال: (فأتيت مكة، وقبل أن يأتي مكة قال له أخوه: كن على حذر من أهل مكة فإنهم قد شنفوا له وتجهموا) أي أنه لما عرف حال الناس ضد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: انتبه من أهل مكة، فإنهم قد أبغضوه وعادوه، وكادوا له، وهذا يدل على أن هذه القصة وقعت والدعوة في مكة أصبحت جهرية؛ لأنهم عادوه، فإذا عادوه وشنفوا له وتجهموا له معنى ذلك: أنه أعلن الدعوة، ولذلك وقفوا منه هذا الموقف.
قال أبو ذر: (فأتيت مكة فرأيت رجلاً فقلت: أين الصابئ؟).
وفي رواية: (فتضاعفت رجلاً منهم) أي: بحثت عن واحد ضعيف مسكين، يقول أبو ذر: (وسألت هذا الضعيف قلت له: أين الصابئ؟) ما قال أين محمد؟ ولا أين نبي الله؟ قال: أين الصابئ؟ فلماذا سأل رجلاً ضعيفاً؟ لأن العادة أن الضعيف لا يخشى منه، فيجيب بسذاجة ولا يخشى منه أن يكون رجلاً شريراً، فهو ضعيف، لكن يبدو أن ذلك الوقت كان وقت شدة، بحيث إن هذا الرجل الضعيف لما سمع أبا ذر يسأل عن الصابئ قال: (فرفع صوته عليّ، فقال: صابئ، صابئ، فمال عليّ أهل الوادي بكل مدرة وعظم) أي: نبه كفرة قريش قال: الصابئ، الصابئ هذا الذي يسأل عن الصابئ، فمال عليه كفار قريش بكل مدرة وعظم: كل حجرة وعظم رموا به أبا ذر، فيقول: (فرماني الناس حتى خررت مغشياً عليّ كأني نصب أحمر) والنصب: هو التمثال الذي كان كفار قريش يقيمونه، وكانوا يذبحون عنده حتى يصير لون التمثال الصنم أحمر من كثرة الدم، فرموا أبا ذر وضربوه حتى سال الدم منه، كأنه الصنم الذي عنده الدماء، تصور كيف رموه حتى سال عليه الدم حتى كأنه نصب أحمر! قال: (فخررت مغشياً علي، فارتفعت حين ارتفعت، كأني نصب أحمر -من كثرة الدماء التي سالت- فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء، وشربت من مائها، فاختبأت بين الكعبة وبين أستارها) وكانت بطريقة بحيث أن الواحد يمكن أن يختبئ بين الكعبة وبين أستارها (ولقد لبثت يا بن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم، وما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فقط، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني) فالبطن إذا سمنت تتثنى، واللحم إذا سمن جداً ينثني، فلو رأيت شخصاً سميناً جداً قبض يده تجد أنه صار ينثنى، فهذه الثنيات تسمى: عكن، ولذلك في حديث: المخنث الذي كان يدخل على بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ثم منعه الرسول صلى الله عليه وسلم من الدخول؛ لأنه قال: إذا فتح الله عليك الطائف فعليك ببنت فلان؛ فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فإنهم كانوا من قبل يحبون تزوج المرأة السمينة، ولذلك يقول هذا الرجل: إذا فتحت الطائف عليك ببنت فلان؛ لأنها تقبل بأربع أي: أنها من شدة سمنها من الأمام أربع ثنيات، وإذا أدبرت من الخلف تصير الأربعة ثمانية، أربعة من الجهة اليمنى وأربعة من الجهة اليسرى، لأن العظم الفقري ينصف العكن هذه، فهذا الرجل ليس بذكر ولا أنثى، وهذه طبعاً خلقة من الله عز وجل في ناس من هذا القبيل، وكان يدخل على النساء، وحكمه أنه ليس برجل مكتمل الرجولة، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك الرجل بدأ يصف النساء يقول: هذه كذا فمنعه من الدخول على نسائه صلى الله عليه وسلم، والشاهد: يقول أبو ذر: (فتكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سُخفة جوع) وفي رواية: (سَخفة جوع) سمن من ماء زمزم حتى تكسرت عكن بطنه! سمن جداً وما أحس بالجوع مطلقاً.
فقال: (وما وجدت على كبدي سخفة جوع) أي: ضعف الجوع وهزاله ما أحسست به، قال: (فبينما أهل مكة في ليلة قمراء) أي مقمرة (أضحيان) أي: مضيئة (إذ ضرب على أصمختهم) وأصمختهم أي: آذانهم، ومعنى ضرب الله على آذانهم أي: أنهم ناموا في إحدى الليالي قبل الوقت، مثل قول الله عز وجل: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} [الكهف:11] أي: ناموا، وأبو ذر الآن مختبئ بين الكعبة وبين أستارها، قال: (إذ ضرب على أصمختهم فما يطوف بالبيت -في هذا الوقت، لأنهم ناموا- من كفار قريش إلا امرأتان منهم تدعوا(206/6)
فوائد قصة إسلام أبي ذر
أيها الإخوة! نأتي لنستعرض بعض الفوائد والعبر المأخوذة من هذه القصة العظيمة.(206/7)
حرمة الجلوس في أماكن المنكرات
أما من ناحية القصة الثانية التي انتهينا منها، فإننا نلاحظ يا إخواني: أن أبا ذر وأمه وأخاه قد تركا المكان؛ لأن قومهم غفار كانوا يستحلون الشهر الحرام، ومع أن هذا وقع في الجاهلية، لكن هذه كانت بادرة طيبة منهم حين أن تركوا ذلك المكان، ولذلك إذا كان الإنسان في مكان فيه منكر لا يستطيع أن يغيره، ولا يستطيع البقاء، ربما لا يستطيع البقاء فيه سليماً فعليه أن يهاجر مباشرة، فلو أن شخصاً -مثلاً- سافر إلى بلاد أخرى ليدرس، فرأى منكرات حين عاش هناك، وأحس من الوضع هناك بأنه محتمل جداً أن يقع في الفاحشة، أو محتمل جداً أن ينحرف عن دينه، وأحس بضغوط فعلاً وأنه إذا بقي فترة أخرى فقد ينحرف، فهل يجوز له أن يبقى لإتمام دراسته؟ لا.
بل يجب عليه أن يرجع إلى البلد الأخف شراً، أو إلى المجتمع المسلم، ليجلس فيه؛ لأن سلامة الدين أهم من جميع الأشياء الأخرى.
ولو أن شخصاً شاباً -مثلاً- في بيت فيه خادمات فاتنات، ويعلم هذا الشاب أنه لو استمر بالبقاء في بيت أبيه وهؤلاء الخادمات حوله ورفض أبوه النصيحة ورفض إخراج الخادمات، وهذا الشاب بدأ فعلاً يخشى على نفسه، ولاحظ بوادر ذلك، فهل يجوز له أن يبقى في بيت أبيه؟ لا.
بل يجب عليه أن يخرج من بيت أبيه، ويسكن في بيت أقاربه أو يدبر له مكاناً، ولا يجلس في مكان الفتنة.(206/8)
الاستعانة على قضاء الحوائج بالكتمان خوف الحسد وغيره
والقضية الأخرى -أيها الإخوة- أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود) فما هو السبب الذي من أجله يأمر صلى الله عليه وسلم بإخفاء نجاح الإنسان المسلم، أن يخفي نجاحه عن الناس الحساد؟ خوفاً من حسدهم، والناس حساد جهال قد يحسدون على أدنى شيء، هؤلاء ناس جاءوا إلى خالهم فأكرمهم، فهم يستحقون الإكرام، لأنه خالهم، وهذه الأم أخته، ومع ذلك حسدوه.
ولذلك فينبغي لصاحب النعمة إن كان خشي من حسد الناس، ومن العين مثلاً، ألا يخبر بالنعمة التي هو فيها، ويخبئها، لأنهم قد يفشلون مشاريعه وخططه، وقد يصيبونه بعين، أو يصيبون النعمة التي هو فيها بعين متلفة فتزول.
والأمر الآخر، مشكلة تصديق الشائعات والتهم، وخصوصاً كثير من الشائعات والتهم مصدرها الحساد، فهم لا يريدون أحداً أن يعلو عليهم في أي شيء من الأشياء، ولذلك لو أن شخصاً علا عليهم بالمال، أو علا عليهم بمنصب أو علا عليهم بالعلم، حتى بالعلم الشرعي مع الأسف، أي: تجد هذا بين بعض الذين لا يتقون الله من المنتسبين إلى العلم، يحسدون من فضله الله عليهم، فيكيدون له، وينشرون الشائعات عنه، ويتهمونه بالتهم الباطلة، ويتلبسون بلبوس الناصحين على قلوب الذئاب! وقد يقولون له كلاماً، إننا نخشى عليك أننا نخاف عليك وإننا كذا حتى ينحجب عن أداء دوره التعليمي بين الناس، وقد يسعون بالوشايات عند الناس حتى يزيلوه عن مكانه، وقد يتهمونه بالتهم الباطلة وينشرونها بين الناس، حتى ينفروا الناس عنه، انتبهوا! قد يكون داعية ناجحاً، فيأتون إلى من يدعوهم مثلاً فيقولون: فلان فيه كذا، وفلان فيه كذا حتى يصدوهم عنه، حسداً من عند أنفسهم.
وهذا الحسد مشكلة كبيرة، ولذلك ينبغي على الإنسان دائماً أن يقرأ المعوذات، وأن يستعين بالله على أولئك الناس، وهذه القضية لا يسلم منها إلا النادر، أي حتى الناس الذين فيهم استقامة وفيهم دين قد يقع منهم الحسد، وحصل هذا فيمن قبلنا لبعض الكبار، ولذلك عائشة أثنت على زينب في حادثة الإفك، أثنت على زينب بأن الله عصم زينب، فهناك منافسة بين عائشة وبين ضرائرها، زينب ما تكلمت بشيء مطلقاً، بل إنها أثنت على عائشة مع أنها فرصة حيث اتهم الناس عائشة بالإفك، إذاً تخوض معهم، فهي فرصة بأن تنال من ضرتها.
ولذلك الحسد بين الضرائر من المشاكل التي ينبغي على الزوج أن يراعيها، ولعلنا نفرد إن شاء الله درساً خاصاً ربما للنساء عن قضية الغيرة، التي تحدث بين النساء وبين الضرائر بالذات، ومعالجة هذه المشكلة وكيف يمكن للمرأة أن تتغلب عليها، وكيف يكون موقف الرجل من هذه الأشياء.(206/9)
عدم التسرع في تكدير المعروف
الشيء الآخر أيها الإخوة: أن الإنسان أحياناً يفعل معروفاً، ولكن نتيجة تسرع منه يأتي بما يكدر هذا المعروف! فكثير من الناس أحياناً يكون محسناً وكريماً وباراً ويفعل الخير بالناس، لكنه في لحظة من اللحظات يفعل شيئاً يفسد ذلك المعروف كله، فقد يحسن شخص إلى الناس، ويعطيهم ويتصدق عليهم وينفق عليهم، وفي لحظة من اللحظات، يأتيه الشيطان فماذا يفعل؟ يقول كلمة فيها منّ: ألم أعطك كذا، وكذا؟ قد يكون أعطاه مائة حاجة، فيقول له مرة من المرات: أما أعطيتك كذا؟ ويذكر له حاجة واحدة، فهذا يؤدي إلى إفساد المعروف كله، ولذلك ينبغي للمحسنين سواء كان إحسانهم إحسان علم، أو إحسان مال، أو إحسان مساعدة ومعاونة وبذل جهد، ألا يمنوا، ولا يأتوا بشيء فيه تكدير لذلك المعروف.(206/10)
من يبحث عن الحق يوفقه الله إليه
وكذلك قوله: (وقد صليت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين) هذه النقطة يؤخذ منها: أن الإنسان الذي يبحث عن الحق، فإن الله يوفقه ولو إلى شيء منه، فقد كان أبو ذر رضي الله عنه مقتنعاً بالتوحيد، كان مقتنعاً أن الله واحد، وأن الناس الذين يعبدون الأصنام هؤلاء مشركون، وأنه لا يمكن أن يكون هذا هو الحق، ولذلك هو يؤدي أي شيء يعبر فيه عن الوحدانية، يصلي لله، ولذلك فإن الباحث عن الحق بتجرد إذا سلك الطريق وأخلص فلا بد أن يصل إليه، وقد يصل إليه على مراحل، أي: أول شيء يهتدي إلى هذه الجزئية من الحق ثم إلى الجزئية الأخرى، ثم إلى الجزئية الأخرى حتى يهتدي إلى الحق في أغلب أموره.(206/11)
أهل الحق يتشابهون
وكذلك قول أنيس لـ أبي ذر (أتيت مكة فرأيت رجلاً يسميه الناس الصابئ هو أشبه الناس بك، أو لقيت رجلاً بـ مكة على دينك) هذا فيه إشعار بأن أهل الحق يتشابهون، وأهل التوحيد يتشابهون، ولو لم يلتق أحد منهم بالآخر، أو كان بعيداً عنه كل البعد، فلو رأيت رجلاً من أهل السنة والجماعة في أبواب العقيدة والعمل، في اعتقاده، وعمله، وعبادته، وجميع الأشياء.
ثم سافرت إلى مكان بعيد جداً، فوجدت رجلاً بنفس الصفات فإنك تحس أن هذين النفرين من أهل الحق متشابهان ولو لم يكن قد تلاقوا من قبل ولا عرف أحد منهم الآخر، ربما تسأله: أتعرف فلاناً؟ يقول: لا، وتستغرب كيف تشبه صلاة ذلك صلاة الآخر، وكيف كلام هذا عن السنة والبدعة مثل كلام ذلك الرجل، وكيف تصور هذا عن الواقع يشبه تصور ذاك، فتستغرب من التشابه والتطابق في الوجهات أو في المعتقدات والأعمال والآراء.
ولكن الذي يبرر هذا الأمر أن الحق -أيها الإخوة- إذا وقر في النفوس، فإن أتباعه يتشابهون أينما كانوا، وعمر رضي الله عنه كان من الناس المعروفين بأنه يصيب الحق، فقد تنبأ بأشياء، أو كانت عنده فراسة وإلهام، ألهمه الله بأشياء حصلت فعلاً، مثل أنه كان يتحرى نزول تحريم الخمر ويعلن بذلك، فنزل تحريم الخمر، وكان يتحرى نزول آية الحجاب، ويرى أنه وضع غير طبيعي أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتجبن ونساء المسلمين، فنزلت آية الحجاب، وكان رأيه في أسارى بدر صائباً موافقاً للقرآن، وأشياء أخرى، كان فيها رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه موافقاً للحق، وهذه قضية إلهام يلهمه الله عز وجل، فأحياناً أهل الحق الواحد منهم من قد يهتدي إلى شيء من غير تعليم؛ بسبب سلامة فطرته، وصحة تفكيره، يهتدي إلى الحق، ولو ما دله عليه ولا علمه إياه أحد، وهذا أبو ذر ما علمه التوحيد أحد، لكن الرجل فكر في الواقع، فليس من المعقول أن هذه السماء يكون خلقها هبل، وهذه الأرض والأشجار خلقتها إساف ونائلة، لا بد أن يكون هناك واحد أوجد هذه الأشياء وخلقها، ولذلك عرفه وصار يعبده، فمن الذي علمه؟ فأصحاب الفطر السليمة لا بد أن يهتدوا إلى الحق، وربما يتشابهون في أعمالهم ومعتقداتهم.(206/12)
وجود الخلفية عن الواقع لدى المسلم أمر مهم
وكذلك نأخذ من كلام أنيس: (لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ووضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه الشعر) نأخذ منه أهمية المعرفة، أن معرفة الأمور تأتي بمعرفة خلفيات الأشياء، فيستطيع أن يحكم عليها، فلأن أنيساً رضي الله عنه يعرف أوزان الشعر، وطرق الشعر، ويعرف أقوال الكهان وعنده خلفية عن هذه الأشياء ما ضُلِّل وما صدَّق أن الرسول صلى الله عليه وسلم كاهن ولا شاعر، ولذلك لا بد أن يكون للإنسان المسلم خلفية عن الواقع وأن يعلم الأمور حتى لا تتشابه عليه الأشياء، فتكون نظرته غير صائبة، وغير صحيحة، فلا بد أن يعلم عن المذاهب الهدامة مثلما علم أنيس عن كلام الكهان، ومن قبل كانت المذاهب الهدامة: الكهانة والسحر إلى آخره، أما الآن فقد اختلفت الأمور وزادت، فالكهانة والسحر موجودة لكنها زادت مذاهب أخرى كثيرة ضالة، فلا بد أن يتعلم المسلم عن المذاهب الهدامة، وعن النفاق والمنافقين ومساجد الضرار حتى لا يخدع بكثير من الشعارات التي ترفع، والأعمال التي تعمل، وليست لوجه الله، وإنما يراد من ورائها الصد عن سبيل الله.(206/13)
أهمية التناصح بين المسلمين
وكذلك فإن هذا الأخ أنيساً قد أعطى أخاه الخبرة، قبل أن يذهب إلى مكة، فقال: (كن على حذر من أهل مكة، فإنهم قد شنفوا له وتجهموا) فقد زوده بالنصيحة، والمسلم أخو المسلم، ينصحه، فإذا أراد شخص أن يذهب إلى مكان، وأنت تعلم أشياء هناك ولديك معلومات تفيده، فعليك أن تقدمها له، وتقول: يا أخي انتبه سوف ترى هناك كذا وكذا، واحذر، أو استغل كذا، فإن هناك -مثلاً- خيراً، لو أنك ذاهب إلى البلد تلك فهناك يوجد رجل عالم بالحديث، وهناك رجل عالم بالأصول، أو قابلت مرة من المرات رجلاً يعلم اللغة العربية، فانتهز الفرصة، قابل فلاناً: فعليك النصيحة له.(206/14)
الأمور المهمة والخطيرة لا يكتفي المسلم فيها بخبر الناس
كذلك بعض الأمور، أو بعض المهام، لا يكفي الإنسان فيها كلام الأشخاص، فهذه قضية رسول ونبي ظهر، وهي قضية خطيرة، وليست سهلة، وليست مثل شخص يقول: اذهب إلى ذلك المكان فإذا وجدت فيه ماء أعلمني، إن هذه قضية تحدد مسار الإنسان وتحدد مصيره، وتحدد اتجاهه وتفكيره فهذه فيها تغيير شامل لحياة الإنسان ولذلك ما اكتفى أبو ذر بكلام أخيه، بل قال: ما شفيتني، وذهب بنفسه.
فإذاً: بعض المهمات العظيمة، والأشياء المصيرية لابد أن يطلع الإنسان عليها بنفسه، إذا ما اشتفى من كلام الموثوقين، لأن هذه قضايا مصيرية، فلا بد أن يتحرى عنها، ويسأل عنها ويطلع هو عنها بعينيه ويسمع بأذنيه؛ حتى يكون السند عالياً جداً بينه وبين الحق، أو بينه وبين الواقع الذي يريد أن يطلع عليه.(206/15)
ذكاء أبي ذر في سؤاله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكذلك ذكاء أبي ذر رضي الله عنه في انتقاء الناس الذين يريد أن يسألهم، انظر قال: (فتضاعفت رجلاً فسألته).
فهذا رجل ذاهب إلى مكان فيه تضليل إعلامي على الرسول صلى الله عليه وسلم، والناس في عداء شديد، فعرف من يسأل، قال: (فتضاعفت رجلاً) ما سأل أي واحد من الناس وقال: أين الرسول صلى الله عليه وسلم وأين محمد صلى الله عليه وسلم؟ وإنما: (تضاعفت رجلاً وقلت: أين الصابئ) وهذا فيه ذكاء في البحث، ويجب أن نعلم -أيها الإخوة- أن الإنسان قد ينتقل إلى مكان لا يعرف فيه أعداءه من إخوانه، ولا يعرف فيه أهل الحق المحقين من غيرهم، ولا يعرف فيه الأحسن من الحسن، ولذلك عليه أن يتحرى بدقة وبشدة، عندما يذهب إلى ذلك المكان، وأن يكون ذكياً في معرفة أهل الحق، كما كان هذا الرجل الصحابي ذكياً في معرفة أهل الحق، ما يقول: دلوني على فلان، ولا دلوني على الناس الذين صفاتهم كذا وكذا، لأنه قد يُضلِّل عنهم، وقد يواجه تضليلاً إعلامياً وقد يواجه تكثيفاً في الآراء والأقوال التي تصرفه، ولذلك كان كلام ابن حجر رحمه الله دقيقاً جداً قال: قد يؤذى السائل وقد يؤذى المسئول، وقد يصدونه عن صاحب الحق، وقد يمنعونه من الالتقاء به، وقد يخدعونه حتى لا يلتقي بصاحب الحق.
هذه نقطة مهمة جداً، وقد يخدعونه حتى لا يلتقي بصاحب الحق، ويضللونه، ويصرفونه بشتى الصوارف عن أصحاب الحق، فهذه قضايا خطيرة، قضية حق وباطل، ولا يصح للإنسان أن يحجب دينه الرجال في مثل هذه الأمور، أو يتبع كلام الناس، ويمشي مع الإشاعات وعلى السائد أو على رأي الأغلبية، بل لا بد أن يكون دقيقاً فطناً حذراً ذكياً وهو يتوصل إلى الحق وأهله.(206/16)
من أراد أن يصل إلى الحق فإن الله يعينه
وكذلك -أيها الإخوة- فإن الله يعين الذي يريد أن يصل إلى الحق حتى بالأشياء المادية، فلا يوفقه حتى يصل إلى نهاية المطاف فقط، وإنما مثل ما أن الله عز وجل أعان أبا ذر فرزقه شرب ماء زمزم ثلاثين يوماً بدون طعام، يعينه لأنه يريد أن يصل إلى الحق.(206/17)
غيظ الكفار من شعائر المسلمين
وكذلك أيها الإخوة: فإن في فعل أبي ذر تجاه الأصنام فيه إغاظة الكفار، وسب آلهتهم وغيظهم وهذا أمر مهم أن نفعله اليوم، أن نستهزئ بآلهة الكفار ومعتقداتهم - إذا لم يؤد ذلك إلى سبهم لله عز وجل ودين الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام- مثل النصارى الذين يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، فأنت يجب عليك أن تفند شبهاتهم، تقول: هل هذه عقيدة عقلاء؟! أن الواحد في ثلاثة والثلاثة في واحد! وأن الأب الإله ينظر إلى ولده الإله وهو يصلب ولا يستطيع أن ينقذه! وكيف يموت الله؟!! فهناك يمكن أشياء أن تستهزئ بها على تلك المعتقدات الكافرة التي يعتنقها أولئك الكفرة، فهؤلاء الناس عندهم تخطيط في إضلال المسلمين وتشكيكهم، ولقد اطلعت على كتاب كتبه أحد القساوسة على الغلاة في صورة ميزان فرسم كفةً فيها صليب وهي الراجحة، وكفة فيها المسجد وهي مرتفعة إلى الأعلى ومكتوب على الكتاب: في الموازين هم إلى فوق، فالصليب راجح والمسجد تحت، وكتب هذا الخبيث على الكتاب: في الموازين هم إلى فوق، فيظن الشخص أنه يمدح المسلمين إلى فوق، لكن ماذا يعني في الموازين هم إلى فوق؟ أي: أن أصحاب الصليب هم الأثقل، فإغاظة الكفار هذه من شعائر دين المسلمين، أن يظهرها الإنسان.
وليس بلازم أن أول شيء يفعله هو أن يستهزئ بهم ومعتقداتهم، بل أولاً يدعوهم بالحسنى ويجادلهم بالتي هي أحسن، فإذا رفضوا فيستخدم مثل هذه الوسائل، ونلاحظ أن لكل مقام مقال، فكان أبو ذر رضي الله عنه، أديباً جداً هنا، يقول: (فقلت: هن مثل الخشبة غير أني لا أكني) أي: أنه لما صار مع الراوي وهو مسلم فليس هناك داعٍ أن يقول له الكلمة القبيحة التي قالها لسب آلهة المشركين، ولذلك أتى بكلمة (هن) هذه كناية، قال: (غير أني لا أكني) لكني ما كنيت، لما قلت للمرأتين الكافرتين ما كنيت، وهذا من الأدب في استخدام العبارات، وفي أن لكل مقام مقال يناسبه، عندما تقول للمسلم شيئاً، ترويه خلافاً لما تجابه به الكفار وأصنامهم.(206/18)
الكفار يعتقدون أنهم على حق
كذلك أن الشبه التي عند الكفار قد تكون عظيمة وأنهم يقتنعون بآلهتهم قناعة شديدة، وأن المرأتين ولولتا، فالمسألة عندهم وصلت إلى أنه كيف يقول هكذا عن الآلهة؟! فاعتقادهم في الآلهة اعتقاد كبير، ولذلك قال: (فانطلقتا تولولان ثم قالتا للرسول صلى الله عليه وسلم: إنه قال لنا كلمة تملأ الفم) وجلستا تقولان: (لو كان ها هنا أحد من أنفارنا).
فإذاً لا تظنوا أن السخافة التي نرى بها أصنام الجاهلية ومنطقهم ومعتقداتهم هم ينظرون إليها بنفس المنظار، فنحن قد أنعم الله علينا بالإيمان فقد نرى أن شبههم تافهة، لكن في منظارهم هم القضية أن هذا حق، وأنه كذا، وكيف يُنْتقص ولا بد من الدفاع عنه، فال الله عنهم: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:68] {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] لا بد أن نصبر على الآلهة، ولا بد أن ندافع عنها، هكذا ينظرون، ولذلك من الخطأ أن تأتي إلى شخص عنده شبهة وتقول: ما هذا الشيء التافه الذي أنت مقتنع به، فهذا لا يصلح؛ لأنه هو ما يرى أنه تافه، وهذا لا يعتبر رداً.
وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغشى أماكن التجمعات التي قد يوجد فيها أناس يأتون للتوحيد، مثل ما فعل علي بن أبي طالب مع أبي ذر رضي الله عنه.
وهنا نقطة نحب أن نذكرها: لماذا وضع الرسول صلى الله عليه وسلم يده على جبهته لما قال أبو ذر: من غفار؟ لأنهم كانوا قطاع طرق، يقطعون الطريق على الحجيج ويسرقونهم بالمحجن، وهو شيء مثل العكاز، أي: أن قبيلة غفار كانوا مشهورين بقطع الطريق على الحجيج وسرقة الحجاج، مع أن الحجاج كانوا مشركين لكن وصل بهم السوء إلى هذا، فالرسول صلى الله عليه وسلم فعل حركة عفوية كيف يأتي رجل من الناس الذين يسرقون الحجاج؟! وكأنه أراد أن يستوثق منه أكثر، فقال: (متى كنت هاهنا؟ ومن كان يطعمك؟) حتى توثق منه صلى الله عليه وسلم، ثم كلمه عن الإسلام.(206/19)
العلم يؤدي إلى تعظيم حرمات الله
وفي هذا أيضاً: تبجيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف أن أبا بكر أمسك أبا ذر، فمنعه من أن يمسك يد الرسول صلى الله عليه وسلم ويرجعها، وهذا التبجيل يأتي من من؟ ماذا يقول في الرواية: (وكان أعلم به مني) وأنه يأتي من الأعلم وأن العلم يؤدي إلى تبجيل وتعظيم حرمات الله.(206/20)
تفقد القادمين للحاق بالدعوة
وكذلك تفقد أحوال القادمين للحاق بالدعوة، ولو في أمور معاشهم، فبعض الدعاة قد يصادف مدعواً، فلا يقول له مثلاً: هل يكفيك معاشك أو أين تسكن؟ أو كذا، وإنما يقول له بداية: هل تريد أن تعتقد بكذا؟ وما نظرتك بكذا؟ وهذه أدلة على كذا فقط.
بينما نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم اهتم بـ أبي ذر فسأله عن طعامه وعن معيشته، صحيح أنه جاء للحق، لكن النفس البشرية لها حاجة للمسكن ولها حاجة للطعام فلابد من الاهتمام بهذه الأشياء، ولا نقول: هذه أشياء جانبية وأشياء سطحية وغير مهمة، المهم الدعوة، والمهم الحق والأدلة، والمهم المبادئ، لا، وإنما حتى هذه الأشياء مهمة، فراحة الناس والأشخاص، والذين يريدون أن ينضموا إلى ركب الدعوة مهمة جداً، وضيافتهم للاستئناس، يقول أبو بكر: (ائذن لي في طعامه الليلة) حتى يتداخل معه، ويحصل استئناس بينهم، ويكرم ذلك الرجل الذي أتى، وخصوصاً أنه قد اضطهد اضطهاداً بالغاً فلا بد من تعويضه بشيء من الإكرام.(206/21)
حكمة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن تخطيطه للدعوة
وكذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مرحلياً مخططاً لدعوته، وكان إذا ما وجد فائدة كبيرة أو كان هناك مضرة في بقاء الشخص في مكة وهو من غير أهلها، ماذا كان يقول له؟: (ارجع إلى قومك فإذا سمعت أني قد ظهرت فائتني) قالها لـ عمرو بن عبسة وقالها لـ أبي ذر الغفاري والطفيل بن عمرو الدوسي ارجع إلى أهلك؛ لأن هذه مرحلة استضعاف، ومن الحكمة والخير أن تنتشر الدعوة في أجواء أخرى وبلدان أخرى غير مكان الاضطهاد مثل مكة، ولذلك لما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، جاء الطفيل بثمانين بيتاً من دوس كلهم قد أسلموا، وجاء أبو ذر بالقبيلة كلها، جاء النصف الأول وجاء النصف الثاني وأسلموا، وجاء أناس من الصحابة بأقوامهم، فاجتمعوا في المدينة لتأسيس المجتمع الإسلامي، وهذا الأمر لا يمكن أن يوجد في مكة وهذا العداء قائم، والحرب قائمة، فهذا من حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد نظره، في تخطيطه لأمور دعوته.(206/22)
من يصدق في اللهجة يفتح الله على يديه
وكذلك فإن الذي يصدق في اللهجة، يفتح الله على يديه مغاليق قلوب الناس، فـ أبو ذر صادق اللهجة، عرض الكلام على أخيه فأسلم، ثم على أمه فأسلمت، ثم على القبيلة فأسلم نصفهم، وهذا ليس شرطاً، فقد يكون هناك أناس صادقون لا يستجاب لهم، لكن ليس هناك أناس كاذبون يستجاب لهم بالحق، وتفتح لهم قلوب الناس فيتابعونهم بإخلاص، ولو تابعهم بعض الناس وصدقوا بعض الكاذبين فهذا قليل ونادر، ولا يدل على المتابعة الصحيحة، ولا بد أن أولئك من الأئمة المضلين، وسيكون لهم أثر سلبي على من استجابوا له.
والترغيب في الدعوة إلى الله، وعظم أجر الدعوة إلى الله، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم) وتصور أن الشخص إذا دعا فله من الأجر مثل أجور من تبعه، عندما تسلم قبيلة أو قبيلتان فكم من الأجر يكون لهذا الشخص؟! ألا يكفي مثل هذا الكلام، حتى يكون هذا محمساً لنا وباعثاً لنا على الانطلاق والتحرك والدعوة إلى الله عز وجل ونشر الخير بين الناس.(206/23)
بعض الناس قد يتريثون في قبول الحق
وكذلك بعض الناس قد يتريثون في قبول الحق، فلا نعدم منهم الأمل، فقد يقول لك شخص: أريد أن أفكر في الأمر، أنت تعرض عليه الحق لكنه يقول: أفكر، قد أحتاج إلى وقت، لا تقول: إما أنك تسلم الآن وإلا اذهب فإني مخاصمك ومقاطعك إلى يوم الدين، لا، لماذا؟ بعض هؤلاء القوم قالوا: فأسلم نصفهم، والنصف الباقي قالوا: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا، ما قال: لا، تسلموا الآن وإلا، فقد يتريث بعض الناس، وقد يكون التريث صحيحاً والتأني طيباً إلا في عمل الآخرة، وفي قبول الحق، لكن بعض الناس طريقة تفكيرهم هكذا ما يريد أن يعتنق ولا يلتزم ولا يستقيم بسرعة، لكن اصبر عليه.(206/24)
هداية الله عظيمة وجواز التفاؤل بالأسماء الحسنة
وكذلك أيها الإخوة: فإن هداية الله عظيمة، فقد كانت هذه القبيلة قطاع طريق، وكانوا يسرقون الحجاج، وهذه من الجرائم العظيمة، ثم هداهم الله فأصبحوا من أعوان وأنصار الإسلام، وكانوا من سراق الحجيج، فلا تستبعد على أي إنسان مهما كان مغرقاً في المعاصي أن يهديه الله عز وجل.
وكذلك الأسماء الحسنة، تدع المجال لمن أراد أن يتفاءل بالخير، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (غفار غفر الله لها) لو كان اسمهم: (كعب) أو كان اسمهم: (حرب) أو (كلب) مثل بعض القبائل، فهذه الأسماء لا تتيح مجالاً للتفاؤل، ولذلك حيث الرسول صلى الله عليه وسلم على الأسماء الحسنة، حتى يتفاءل بها.(206/25)
لابد من الدقة والتعمق في البحث عن الحق
وأما بالنسبة لرواية البخاري ومسلم لحديث ابن عباس فإن فيها قول ابن عباس: (ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟) وهذه من الأشياء المهمة جداً، هذه القصص التي حدثت، هذه قصة الدعوة، هذا تاريخ، فهذه ليست مسألة سهلة، هذا تاريخ لا بد أن ينقل إلى الناس، ولا بد أن يتعلموه، ولا بد أن يقدم إلى الأمة رصيد التجربة للأجيال القادمة، ولذلك الآن نحن نستفيد من قصة أبي ذر كم مضى عليها؟ مضى عليها سنوات طويلة جداً، من الذي قدمها لنا؟ مثل ابن عباس رضي الله عنه، قال: (ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟) فهذا الرصيد لا بد أن يقدم للأجيال حتى تستفيد منه، وهذه القصة، قصة عظيمة، وحياة الدعوات وتاريخ الدعوات مهم ينبغي الاهتمام به؛ لأن فيه دروساً وفوائد، والتاريخ يعيد نفسه، والأحداث تتشابه، وللمعتبر أن يعتبر.
وبعد ذلك -أيها الإخوة-هذا الأسلوب اللطيف من ابن عباس رضي الله عنه في التعليم: (ألا أخبركم) ماذا في هذا الأسلوب؟ إنه تشويق للسامعين، ألا أخبركم بإسلام، ما قال: يا جماعة! أنا عندي محاضرة ألقيها عليكم؟ فينبغي لمعلم الناس والداعية إلى الله أن يعرف طرق التشويق وشد الانتباه حتى يستقطب الأفكار، والأذهان، حتى يستطيع أن يدخل وهي مفتوحة، فالناس يتفاوتون في استقصائهم للحقيقة، فمنهم من يكون استقصاؤه سطحياً، ومنهم من يكون استقصاؤه أعمق، وطريقة بحثه أعمق، والطرق التي يتوصل بها أعمق، وهذا الفرق واضح بين أنيس وبين أبي ذر، ولذلك أبو ذر اتبع طريقة وأسلوباً ما أتى بها أنيس، فإذاًَ هذا يعود إلى نتيجة تفاوت الأفهام، وأن البحث عن الحق لا بد أن يكون استقصاءً عميقاً، وأن الاعتناء بالبحث عن الحق نابع من الاهتمام بالحق، فبعض الناس يقول: أين الحق؟ هات الدليل؟ أعطني شيئاً؟ فقد أعطيه أي شيء وأي دليل حتى لو لم يكن دليلاً حقيقياً ولا صحيحاً، فيقتنع به ويمشي، لكن الأذكياء الذين هداهم الله عز وجل لا يقبلون بأي شيء، ولا يقبلون أي طريقة وأي فكرة، فلا بد من التمحيص، والبحث، والتدقيق، فـ أبو ذر جلس فترة طويلة، وجلس يدقق، ولا يسأل أحداً، وعلي بن أبي طالب مع أنه مسلم فكل واحد كان يخفي عن الآخر، وعلي لا يسأله خلال ثلاثة أيام، حتى صار فيه نوع من الاطمئنان ثم بدأ يتوغل معه ويسأله، فإذاً أوصي كل أخ يبحث عن الحق: أن يكون دقيقاً في بحثه، عميقاً، وألا يكتفي بالأشياء السطحية، أو الأشياء التي يراها عرضاً أمامه، أو الأكثرية، أو الرأي العام، وإنما يدقق حتى يصل إلى الحقيقة، وهذا سيكون من دقة فهمه وهو مأجور على هذا عند الله، لأنه ما اتبع أي شيء، بل فحص ومحص الأمور ولم يقلد الرجال، وإنما قارن حتى وصل بعلمه الذي اطلع عليه، كلام أهل العلم، قراءة الكتاب والسنة، حتى أيقن أن هذا هو الحق وأن هذا هو الطريق المستقيم، ومن الناس شخصيات جريئة تركب المخاطر للوصول إلى الحق، أبو ذر أول ما ضرب ما قال: تركت الأمر، بل استمر، وضرب حتى صار أحمر اللون، ومع ذلك استمر، فالناس شخصيات، ويختلفون في الجراءة، وبعضهم يركب الأهوال، وهذه فيها الثواب من الله عز وجل، حتى يصلوا إلى الحق، واهتمام الصحابة بالقادمين إلى مكة يتلقطونهم، فـ علي بن أبي طالب شاهد الرجل قال: كأنه غريب، فكان نبيهاً، وليس عندما رآه قال: ما عليّ منه اتركه، قد يكون مسافراً، بل ضيفه أول يوم، وثاني يوم، وثالث يوم، ثم فاتحه في الموضوع.(206/26)
الاطمئنان وسيلة لتحقيق المعاشرة
وكذلك أيها الإخوة: فإن الاطمئنان يكون فعلاً نتيجة للمعاشرة التي تدل على السلوك الصحيح، والمعاشرة تؤدي إلى الاطمئنان، ولما اطمأن أبو ذر لـ علي فاتحه بالأمر، وعلي رضي الله عنه كان حريصاً على شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان حريصاً على أبي ذر، ولذلك أشار له بهذه الإشارات الخفية، أو هذه الإشارات لجأ إليها علي لما كان الجو فيه شدة، وما كانت هذه الأشياء منهجاً ينتهج دائماً، وإنما كان شيء يفرضه الواقع، وتفترضه الطبيعة التي كانت موجودة، وهي شدة كفار قريش التي أدت إلى هذه السرية البالغة التي تعامل بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع أبي ذر.
بقي نقطتان أو ثلاثة في قضية الجرأة في الصدع بالحق، وأن ذلك تابع للمصلحة، وطلب كتمان الحق؛ لأجل المصلحة، والفعل الحسن من العباس رضي الله عنه في انتقاء الشيء الذي أقنع به كفار قريش فعلاً بأن يكفوا عن أبي ذر.
وبعد ذلك أيها الإخوة فإن تلك الشخصية العظيمة، شخصية أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، الذي تحمل ما تحمل، لأجل الوصول إلى الحق، والتعرف على الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تابعه، ثم ذهب داعية إلى قومه واجتهد فيهم ثم هاجر إلى المدينة، وشهد الغزوات، وبعدما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ظل ثابتاً، وكان لا يخشى في الله لومة لائم حتى تأذى منه بعض المسلمين في صدعه بالحق في عهد عثمان، وطلبوا منه أن يأتي به إلى المدينة، ثم بعد ذلك ذهب إلى الربذة، وتوفي بها رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجزاه الله عن المسلمين كل خير، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.(206/27)
أريد أن أتوب ولكن [1، 2]
إلى كل من يريد الخروج من أسر الذنب إلى فسحة العبادة، ومن ظلمات المعصية إلى نور الطاعة: إن باب التوبة مفتوح، وهذه المادة دليلنا إلى التوبة وأحكامها، فهي سطور نفيسة، غنية بمادتها، كافية في موضوعها، عالجت الجزئيات، ووضحت الكليات، يحتاجها الملقي خبرة، ويحتاجها المتلقي فكرة، فإليها فإنها خير بيان لمعوقات التوبة وما يتعلق بها.(207/1)
مسائل متعلقة بموضوع التوبة
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يقبل التوبة عن عباده ويغفر السيئات ويعفو عن كثير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى سبيله، أرسله الله رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
إخواني في الله! أحييكم في هذه الليلة التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون من الليالي المشهودة في صفحات أعمالنا عنده عز وجل، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل ملائكته السيارين الذين يبحثون عن حلقات العلم والذكر، نسأله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه الملائكة تحفنا بأجنحتها، وأن تحط رحالها في حلقتنا هذه.
إخواني! موضوعنا في هذه الليلة يتعلق بأعمال القلوب ويتعلق بالأمور الإيمانية التي حصل فيها إهمال وتقصير من جمهور المسلمين في هذه الأيام، وقضية قسوة القلوب موضوع طال الكلام فيه، ولكن أعمال القلوب دائماً تعتمد على التطبيق العملي أكثر مما تعتمد على الكلام النظري، وهذا الموضوع الذي سنتحدث عنه في هذه الليلة إن شاء الله، قبل أن أدخل فيه أحب أن أنبه إلى ثلاث مسائل: الأولى: دعوية.
الثانية: تربوية.
الثالثة: عقدية.(207/2)
واقع الناس مع المعاصي
أما المسألة الدعوية في موضوعنا: فإن الوضع الذي نعيشه اليوم -أيها الإخوة- وضع انغماس الناس في المعاصي، وارتكابهم للمخالفات الشرعية التي نهى الله عنها، ولذلك أكثر الناس اليوم غارقون في أوحال الذنوب، والدعاة إلى الله عز وجل عليهم مسئولية عظيمة في فتح الطريق أمام هؤلاء الناس حتى يعودوا إلى ربهم عز وجل، والذي لا يعرف كيف يمهد الطريق ويفتح الباب أمام الناس الذين يريدون أن يتوبوا، فهو غير ناجح في عمله، ولذلك ينبغي على الدعاة إلى الله عز وجل أن يفقهوا هذه المسألة وأن يعرفوا خطورة موضوع التوبة، لأن هناك الآن في هذه الأيام رجعة صادقة إلى الله عز وجل من الكثيرين بدأت تنتشر والحمد لله على نعمه ونسأل الله المزيد.
فالفقه في هذه القضية يسبب المزيد من النجاح في استجلاب الأعداد الكثيرة الغفيرة إلى طريق الهداية، والدين لا ينتشر بغير فعل فاعل، لا يكفي القرآن فقط حتى ينتشر الإسلام في الأرض ولا السنة فقط، ولكن لابد من رجال يحملون القرآن والسنة وينطلقون بهما في الأرض يفتحون قلوب الناس قبل بلدانهم، ومدينة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف.(207/3)
حاجة جميع المؤمنين إلى التوبة
والقضية الثانية وهي قضية تربوية تتعلق بموضوع التوبة: وهي أن بعض الإخوان ربما يظن أن هذا الموضوع خاص بالفسقة أو الفجرة أو الكفار، وليس للمسلمين أو ليس للمستقيمين الملتزمين بشرع الله، وربما يظن أن هذا الموضوع تحت مستواه بكثير، ولكن الحقيقة غير ذلك؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] ما قال: وتوبوا إلى الله جميعاً أيها الكافرون أو أيها الفاسقون أو الفاجرون فقط، وإنما قال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:31] فإذاً موضوع التوبة معني به المؤمن أيضاً وليس هو عنه ببعيد، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة أو مائة مرة.
أقول هذا الكلام لأن بعض الإخوان قد يوجد عندهم شعور أنه قد بلغ مرتبة اليقين في التربية وأن قضية التكاليف القلبية مثل التوبة وغيرها قد سقطت عنه، وأنه الآن في أعمال هامة للمسلمين وأنه يطلب العلم ويتفقه في الأصول والعلوم الصعبة، وأنه يشتغل بقضايا مصيرية للأمة، وأنه لا يحتاج إلى قضية التوبة والاستغفار وهذه الأشياء التي هي لعامة الناس، هذا مدخلٌ شيطاني خطير ينبغي أن نتنبه إليه.(207/4)
علاقة التوبة بعقيدة أهل السنة
والمسألة الثالثة العقدية في هذا الموضوع: أن الكلام في المواضيع هذه ينبغي أن يكون منطلقاً من عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد يستغرب البعض ما علاقة موضوع التوبة بعقيدة أهل السنة والجماعة، وربما يقول: أنت تريد أن تقحمها إقحاماً، أقول لك: كلا يا أخي! وأنا أبين لك إن شاء الله مثلاً: من المواضيع المتعلقة بالتوبة والملتصقة بها التصاقاً شديداً قضية مفهوم الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص، هذا المفهوم هو عقيدة أهل السنة والجماعة، من تفاصيل عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه يزيد وينقص.
إذا كنا من المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وأنك أنت يا أيها المسلم كامل الإيمان، إذا أنت معتقد أنك كامل الإيمان ما الذي سيدفعك إلى التوبة والاستغفار؟ إذا لم تعتقد أن الإيمان يزيد وينقص ما الذي يدفعك في لحظات الضعف أن تبادر مستغفراً لله عز وجل طالباً منه المعونة؟ فإذاً: مثل هؤلاء المرجئة اللعَّابين بالدين كما قال الشاعر:
ولا تك مرجياً لعوباً بدينه ألا إنما المرجي بالدين يمزح
إذا كنا من هؤلاء من أصحاب هذه العقيدة فما الذي سيدفعنا إلى التوبة؟ وما الذي سيجعلنا نتحسس نقص الإيمان في قلوبنا؟ مرتبطة وقضية التوبة مرتبطة أيضاً بجانب آخر من العقيدة وهي مسألة الأسماء والصفات، فإذا لم نفقه قضية توحيد الأسماء والصفات، فما الذي يجعلنا نتجه إلى التوبة ونحن لا نعرف معنى الرحمن ومعنى الرحيم؟ ما الذي سيلجئنا إلى التوبة ويدفعنا إليها ويجذبنا إلى هذا الباب الإيماني الواسع ونحن لا نفقه معنى التواب، أو الحليم، أو السميع الذي يسمع آهات التائبين وأناتهم وهم يصرخون مستغيثين بربهم؟ وما الذي سيدفع الإنسان إلى الخوف من الله فيتوب وهو لم يعقل بعد أن الله شديد العقاب؟! إذاً: أيها الإخوة المسألة فيها تكامل، ومن الناحية الأخرى نجد أن الناس الذين لا يعتقدون بالعقيدة الصحيحة وأن عندهم أنواعاً من الشركيات عندهم في باب التوبة انحرافات خطيرة، فمثلاً: بعض غلاة الصوفية يتوب الفرد منهم في ذلك الطريق الصوفي يتوب إلى شيخه وليس لله عز وجل، ولذلك عندهم شيء اسمه: التوبة للشيخ، قال ابن القيم رحمه الله: وهذا شرك عظيم.
وملاحظة أخرى أيضاً: أن هذا الكلام أو هذا الدرس هو موجه للصادقين في توبتهم وليس إلى المستهترين ولا إلى المصرين، ولهذا -أيها الإخوة- تعمدت أن أترك أحاديث صحيحة مهمة في باب التوبة خشية أن يفهم بعض ضعاف النفوس غير المقصود الصحيح عند عرضها، وبهذا نصحني بعض أفاضل العلماء وأنا أتباحث معه في بعض هذه الأحاديث.(207/5)
نفسية اليأس والقنوط
والموضوع الذي سنتكلم فيه يا إخواني فيه نوعٌ من المصارحة التي قد يستغربها البعض، ولكن حتى تكتمل الفائدة أرى أنه لابد منها، وموضوع التوبة يُطرق على مستويات كثيرة ونسمع خطباً كثيرة في هذا الجانب، لكن هناك أموراً ذكرها بعض أهل العلم لا تطرق عند الكلام عن موضوع التوبة وهي متعلقة بالتوبة تعلقاً شديداً.
الناس الآن في موضوع التوبة عندهم إشكالات، فبعضهم يمنعه من التوبة أشياء مثل ماذا؟ إن الشخص عندما يفكر بالذنوب والمعاصي التي فعلها في الماضي يتذكر عدد الفواحش التي اقترفها من زنا ولواط وغيره، والمحرمات التي شربها كالخمر والمخدرات وغيرها، والمال الحرام الذي أكله من ربا وسحت ورشوة وأكل مال اليتيم ومال مغصوب ومسروق، عندما يفكر بهذا الكم الهائل من المعاصي التي قارفها، يستبعد أن رحمة الله عز وجل تمحو هذه الأشياء، هذا اعتقاد عند بعض الناس، يقول لك: يا أخي أنا عملت أشياء عظيمة جداً، كيف يغفر الله هذه كلها؟ معقول! يمكن أن أصدق أن الله يغفر هذه كلها؟ هذا يكون حاجزاً في نفسه يمنعه من التوبة.
وآخر مسلم مستقيم سلك سبيل الاستقامة فترة من الزمن ثم عمل معصية، وقع في معصية من المعاصي فاحشة من الفواحش، فيقول في نفسه: الله عز وجل سيغفر لي أنا الداعية إلى الله والمستقيم على شرع الله الذي ظللت فترة من الزمن، الآن وقعت، يعني: هل يعقل أن هذه العثرة يمكن أن أنهض منها؟ هل يتجاوز الله عنها؟ وأنا الذي أعلم الناس وأنا الذي أدعو الناس إلى التوبة وأدعو الناس إلى ترك الذنوب وأنبههم على خطورة الفواحش والكبائر، والآن أنا وقعت، أهذا معقول؟ يعني: أنا الذي علمت وفقهت أكثر من غيري أمعقول أن يقبل الله مني توبتي؟ فيستبعد القبول، وربما يتزايد الانحراف ويترك الطريق بالكلية.
بعض الناس عنده نفسية اليأس من رحمة الله وأن الله قد كتبه في عداد أهل النار ولا محالة هكذا يظن، ييأس من رحمة الله، وبعضهم يمنعه عن التوبة خشية أن يفضحه أهل السوء الذين كان مخالطاً لهم، وهذه الشلل المنتشرة الآن في المجتمع، وهذه المجموعات التي تلتف على بعضها من أصحاب السوء، رافق بعضهم بعضاً ويعرف بعضهم خبايا بعضٍ وأسرار بعضهم الآخر، وربما تكون عندهم مستندات صور عن الجرائم التي اقترفوها في بلدان العالم المختلفة، وقد يكون عند أحدهم رسالة من آخر وهكذا فيها اعترافات بأشياء، فيأتي إنسان يريد أن يتوب يتنبه من الغفلة، فيقول له أصدقاء السوء: لو تركتنا وتركت ما نحن عليه فإننا سنشهر بك وسنفعل وسنفعل، وسنظهر جميع هذه المستندات ونفضحك بين الناس، فهو تحت هذا الضغط النفسي من هؤلاء الفسقة يُسقط في يدهم ولا يتوب، هو يريد التوبة لهذا السبب.
إذاً: هناك عند الناس إشكالات كثيرة، هناك عند الناس مشاكل في قضية التوبة تحتاج إلى علاج، ينبغي منا نحن معشر الذين نحاول أن ندعو ونفقه الدعوة إلى الله أن نحل لهم هذه العقد، هذه مهمتنا.(207/6)
أهمية التوبة ومعناها
وبادئ ذي بدءٍ اعلموا أن ربكم يقول: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11] فقسم الله العباد إلى تائب وظالم وليس ثم قسم ثالث البتة: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11] والله عز وجل قد فتح لنا للتوبة باباً عظيماً يقول عليه الصلاة والسلام في شأنه: (إن للتوبة باباً عرض ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب) وفي رواية: (عرضه مسيرة سبعين عاماً) يقول عليه الصلاة السلام في شأنه: (لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها) لا يغلق هذا الباب باب التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها، وقد بين عليه الصلاة السلام أ، من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه ويقول: (من تاب إلى الله قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه).
إذاً: انظر إلى الرحمة الواسعة الآن، إنه باب عريض جداً لا يغلق إلى قيام الساعة، ويمكن أن تتوب ما لم تصل إلى مرحلة الغرغرة وما لم تطلع الشمس من مغربها، ماذا تريد أكثر من ذلك؟ هذه نقطة أساسية في القناعة بأن التوبة ممكنة مهما عظم الجرم، ويقول عليه الصلاة السلام: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) حديث صحيح، ويقول عليه الصلاة السلام مبيناً كيف أن الله يمهل العاصي: (إن صاحب الشمال -الملك الذي يكتب السيئات- ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها ولم يكتبها -ست ساعات- وإلا كتبت واحدة) رواه الطبراني عن أبي أمامة وحسنه الألباني وهو في أحاديث السلسلة الصحيحة.
وعرَّف بعض العلماء التوبة فقال: هي "الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان" أي: عدم العودة إلى المعصية، إضمار عقد القلب على عدم العودة إلى المعصية.
"ومهاجرة سيئ الإخوان": لابد من الخروج من الوسط السيئ، "وإرجاع حقوق بني الإنسان"، إذا كانت الحقوق للعباد فلابد من إرجاعها.
فإذاً: الاستغفار باللسان والإقلاع بالأبدان وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيئ الإخوان، وإرجاع حقوق بني الإنسان.(207/7)
خطر الاستهانة بالذنوب واستصغارها
ولقد كانت نفسيات الصحابة حساسة جداً ضد الذنوب، يقول أنس رضي الله عنه فيما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه: [إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من الموبقات] فإذاً: قضية استصغار الذنوب مشكلة عند بعض الناس، يستصغرون الذنوب ويحتقرونها، ولذلك يقول بعض السلف: "لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى من عصيت"، انظر إلى من عصيت عند ذلك تجد فعلاً أنك تستنكر كيف فعلت هذا الأمر؟! تتهول ما فعلت، فبعض الناس يستصغرون مثلاً: النظر واللمس المحرم والحديث المحرم في الهاتف وغيره، والقبلة التي هي من مقدمات الزنا، ويستصغرون النظر إلى المجلات والمسلسلات ويقولون: هذه أشياء بسيطة جداً، يعني: ماذا ستؤثر؟ ومن ضمن الناس الذين قد يتجاوزون أناسٌ أبيح لهم النظر للضرورة فتوسعوا فيه مثل: الطبيب والخاطب، امرأة لم تجد طبيبةً مسلمةً مؤهلةً للنظر في ذلك المرض، فذهبت إلى الطبيب، يباح للطبيب أن ينظر من المريضة إلى الموضع الذي يحتاج أن ينظر إليه للعلاج، وقد يتوسع الطبيب أكثر من ذلك، فبعض الأطباء قد يتساهل، والخاطب يباح له أن ينظر إلى مخطوبته حتى يرى ما يدعوه إلى نكاحه منها، فإذا رأى وقرر وانتهينا وعرف النتيجة، ثم طلب أن يرى مرة ثانية وأنه جلس معها فترة طويلة ساعة أو ساعتين وهو لا يحتاج إلى هذه الفترة، فإذاً: هذا إنسان متعدٍ ينبغي له أن يتوب من هذه الزيادة.
وهذا الاستصغار يولد الاستهتار والوقوع في الكبائر، ويترك الإنسان الخوف ويستهين بالمعصية، سألني أحد الناس سؤالاًَ عن معصية، قال: ما حكم كذا؟ قلت له: هذه حكمها حكم المسألة أو بالدليل من كلام العلماء أنها محرمة فهي حرام، فقال: حرام، يعني: حرام كثير أم قليل؟ فيها سيئات كثير وإلا كم؟ لماذا يسأل بعض العامة هذه الأسئلة؟ لأن عندهم مبدأ الاستهانة بالصغائر، ومحقرات الذنوب هذه مسألة لا يلتفتون إليها ولا يلقون لها بالاً.
وقال ابن القيم رحمه الله: وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة ما يلحقها بالكبائر بل يجعلها من رتبتها؛ من رتبة الكبائر.(207/8)
حرص الصحابة على إصلاح الخطأ
ولذلك -أيها الإخوة- كان الصحابة رضوان الله عليهم عندهم اهتمام بالغ فإذا أخطئوا أن حاولوا إصلاح الخطأ بأي وسيلة ولو كلفهم إصلاح الخطأ والتوبة ولو كلفتهم أنفسهم، ففي الصحيح عن بريدة رضي الله عنه أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! إني قد ظلمت نفسي وزنيت -اعترف- وإني أريد أن تطهرني، فرده وأعرض عنه، فلما كان من الغد أتاه، فقال: يا رسول الله! إني قد زنيت، فرده ثانيةً، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال: أتعلمون بعقله بأساً؟ تنكرون منه شيئاً؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وفيَّ العقل من صالحينا فيما نرى -نعرف أنه من الصالحين، عندنا أنه إنسان صالح- فأتاه الثالثة، فأرسل إليهم أيضاً فسأل عنه، فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرةً ثم أمر به فرجم رضي الله عنه) دفع حياته ثمناً لتكفير تلك الفاحشة التي وقع فيها.
قال: (فجاءت الغامدية -يقول الراوي في نفس الرواية- فجاءت الغامدية) وبعض العلماء يقولون: إن ماعزاً زنا بتلك الغامدية (فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله! إني قد زنيت فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله! لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً، فوالله إني لحبلى -أنا حبلى والدليل على الفاحشة لا يحتاج إلى سؤال ولا يحتاج إنه قد بان والمسألة ظاهرة- قال: أما لا -يعني: أما وقد حصل هذا فلا، انتهت المسألة، وصل الحد إلى الإمام وهو ظاهر فلابد من إقامته- فاذهبي حتى تلدي، قال: فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته) -ما فرت ولا تراجعت طيلة أشهر الحمل وهي لا تزال متذكرة الذنب وتنتظر متى تلد حتى تأتي ليقتص منها لتتوب لتتطهر فلم تنس ولم تتراجع عن المبدأ طيلة الأشهر مع أنه قضية موت- (قال: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه -والرضاع يأخذ وقتاً- فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبزٍ -حتى تبين أنه فعلاً انفطم وأنه الآن بدأ يأكل الطعام ولا حاجة له للرضاع- فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضخ الدم على وجه خالد فسبها، فسمع نبي الله سبه إياها، فقال: مهلاً يا خالد! فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبةً لو تابها صاحب مكس لغفر له -الذي يأخذ الضرائب على الحجاج- ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت) تابت توبةً لو وزعت على سبعين من الفساق لكفتهم، تابت توبة عظيمة تسع أهل مدينة بأسرها.(207/9)
عدم لزوم الاعتراف بالفاحشة
إن الصحابة لم يكن ديدنهم الفسق، حاشا وكلا! كانوا يقعون أحياناً وإذا وقعوا أصروا على أن تمحى تلك الذنوب بشتى الوسائل، أما فساقنا فهم يمرحون ويرتعون ويلعبون في غفلة عن الله، وإذا فكر أحدهم يوماً بأن يتوب ويؤدي ما عليه من الحقوق يتراجع لأول وهلة فإنه يتعاظم ذلك، وأنا أعلم أن بعض الناس سيتساءلون ويقولون: لقد وقعنا في فواحش، هل يجب علينا أن نأتي ونعترف؟
الجواب
ما دامت المسألة لم تصل إلى الإمام ولا إلى القاضي فإنه لا يجب عليك أن تذهب وتعترف وهذه عزيمة أخذ بها ذلك الصحابي وتلك الصحابية، ولكن المسألة عندك أنت يا من وقعت في الفاحشة لا يجب عليك أن تذهب إلى القاضي وتقول: أقم حد الله علي، لا يجب من ناحية الوجوب، وتكفيك التوبة بينك وبين الله.
وبعضهم سأل الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله سؤالاً قال: إني قد زنيت هل يجب علي أن أذهب إلى إمام المسجد مثلاً أو أحد الناس فأقول له اجلدني الحد حد خمر أو حد زنا اجلدني خفية؟ فقال الشيخ حفظه الله تعالى ونفع به المسلمين: لا يجب عليه ذلك، فلا يفعل هذا، وإنما تكفيه التوبة بينه وبين الله، لا يحتاج أن يضربه أحد لا في بيت ولا في مسجد ما لم تصل المسألة إلى الحاكم أو القاضي فإنه يجب عند ذلك إقامة الحد.(207/10)
خطر استعظام الذنوب
بالنسبة لقضية استعظام الذنوب، فبعض الناس يستعظمون الكم الهائل من الذنوب التي ارتكبها عبر عشرات السنين في الماضي وجاء الآن ليتوب، وقد ملأت تلك الذنوب نفسه وضاقت بها جوانحه وهو يريد الخلاص، فقد يقول كما ذكرت قبل قليل: كيف يغفر الله لي؟ هذه أشياء عظيمة جداً، كثير من الناس يأتي بعضهم يقول: يا أخي! أنا ما تركت بلية إلا فعلتها، ما تركت فاحشة إلا وأتيتها، ليس هناك حد من حدود الله إلا وانتهكته، كل ما تتصور ببالك من المعاصي والآثام أنا فعلتها، ماذا يمكن أن أفعل؟ هذه نفسية كثير من الناس يكتبونها برسائل أو يأتون يشافهون بها وهم في غاية الحرج، يقول: فعلنا وفعلنا، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: (من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئا) ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل في الحديث الصحيح أيضاً: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم! لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة) إن الله عز وجل واسع المغفرة واسع الرحمة: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].
وفي حديث أبي ذر: (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم) سبحانه وتعالى ما أحلمه! ما أرحمه! ما أشد عفوه! وما أوسع مغفرته! لو قال إنسان: يا أخي هذه من الناحية النظرية أنت تأتيني بآيات وأحاديث، لكن أعطني مثالاً واقعياً على أناس اشتدت بهم الفواحش ثم غفر الله لهم، نقول لك: نعم يا أخي يوجد، والحمد لله، ورصيد التجربة وهو رصيد مهم للأمة الإسلامية ولجيل الصحوة، رصيد التجربة رصيد موجود والحمد لله، في القرآن والسنة ما نقل إلينا من السابقين ومن سيرة المسلمين التي نحن الآن نقرؤها، مثل: حديث قاتل المائة النفس حادث عملي، وشيء وقع، شخص قتل مائة نفس قتلها كلها ظلماً وعدواناً، فهو معتد ظالم، وبعد ذلك يقول له العالم وليس العابد الجاهل: وما الذي يحول بينه وبين التوبة؟ نعم.
لك توبة، ثم يتوب فيتوب الله عليه وتختصم فيه الملائكة فيكون من نصيب ملائكة الرحمة، وقد قتل مائة نفس.
إذاً: حتى نقرب المسألة عملياً إلى الأذهان نقول: نعم، هناك أمثلة عملية، فهذا قتل مائة نفس، فهل عندك جريمة مثل هذه؟ قتل مائة نفس! والعلماء يصنفون الذنوب: الشرك ثم البدعة ثم قتل النفس ثم الفواحش الأخرى، قتل النفس عظيم، وقول ابن عباس رحمه الله فيه أنه خالد مخلد في جهنم، والعلماء لهم فيها أقوال بسطها ابن القيم رحمه الله في المدارج وغيرها ورجح فيها.(207/11)
تبديل سيئات التائبين إلى حسنات
إذاً: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70] فماذا تريد إذا تبت أكثر من أن يبدل الله سيئاتك حسنات؟ هذه السيئات كلها التي فعلتها في الماضي تنقلب إلى حسنات بالتوبة ليست فقط تغفر السيئات، وإنما تنقلب إلى حسنات، لكن ليس هذا فتح باب للشر ولا هو دفعٌ للناس أن نقول لهم أذنبوا أذنبوا واستكثروا من الذنوب، لأنها كلها ستنقلب إلى حسنات، لا.
فهذا لا يمكن أن يحدث للعابين البطالين، كلا -أيها الإخوة- المسألة لها ضوابط وحدود، والدين ليس لعباً وهزوا، كلا: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:70] لاحظ الشروط: التوبة، والإيمان، والعمل الصالح، وفي الآية الأخرى: {ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] بعد ذلك تبدل السيئات حسنات.
وقال ابن القيم رحمه الله: إما أن تبدل بالسيئات حسنات من ناحية الصفة، يعني: أن يبدل الله بالشرك الإيمان، وبالزنا عفةً وإحصاناً، وبالكذب صدقا، وبالخيانة أمانة، هذا أحد المعاني: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] من المعاني أيضاً: تبديل السيئات التي عملوها في الدنيا بحسنات يوم القيامة، وهذا الأخير قد يقل وقد يكثر، يعني: لو أن شخصاً عنده مليون سيئة فقد تبدل بحسنات مثلها في العدد، أو أقل منها، أو أكثر منها، أو أنها أكثر في الكيفية أو أقل أو مثلها في الكيفية كما أنها في الكمية على حسب ماذا؟ على حسب استقامة الشخص والأعمال الصالحة التي فعلها بعد ارتكاب تلك الفواحش.
ومسألة رغبة الناس أن يكونوا عند الهداية قد مُسِح عنهم الماضي فهي رغبة عند كثيرين من مريدي التوبة، يريدون مسح الماضي بأي وسيلة، فكثير من الشباب الذين هداهم الله عز وجل والكبار الذين هداهم الله عز وجل والنساء اللاتي هداهن الله عز وجل يأتون يقول لك: أنا أريد أن أهتدي، لكن ماذا عن سيئاتي الماضية هل تمحى أم لا؟ هذا سؤال مصيري يهمني، أريد أن أعرف هل يمكن أن يمسح الماضي أم لا؟ أنا قلق على الماضي، أنا لا أزال أتذكر تلك الفواحش، ماذا سيحدث؟ يعبر عن هذه النفسية الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه في صحيح مسلم قال: (فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي -غريب لماذا قبض عمرو يده؟ - قال: ما لك يا عمرو؟ -هل تراجعت؟ - قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يغفر لي - عمرو بن العاص يريد أن يدخل الإسلام لكن يريد في نفس الوقت أن تمحى الصفحة الماضية وتطوى بالكلية- قال: يا عمرو! أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟) وقال الله عز وجل: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران:86] إلى أن قال سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:89] إذاً ليست المسألة أن نتوب الآن وبعد دقائق أو بعد أيام نرجع مرة أخرى ونواصل ونضحك على أنفسنا ونخادع الله كما يخادع بعض الناس الصبيان، الآن أفعل الذنب وأتوب بعد خمس دقائق، وأفعله مرة ثانية وهكذا، وأقول: تبدل السيئات حسنات ومسح هذا الماضي! ويعبر عن هذه النفسية أيضاً نفسية إرادة مسح الماضي بالكلية الحديث الآتي: عن ابن عباس (أن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن -كلامك جميل جداً ونحن مقتنعون به- فلو تخبرنا، أن لما عملنا كفارة، فنزل قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68] ونزل قول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]).(207/12)
بقاء حسنات التائب السابقة
فلو أن إنساناً عمل سيئات كثيرة استغرقت حسناته الماضية، ثم تاب إلى الله عز وجل، استقاموا فترة من الزمن ثم انتكسوا، نكصوا على أعقابهم وارتدوا على أدبارهم، هؤلاء الناس كانوا قد عملوا أعمالاً صالحة، الواحد يكون قد دعا إلى الله واهتدى على يديه أناس ثم ضل ونكص على عقبيه، وعمل الآن في حياته الجديدة السيئة سيئات كثيرة ربما أذهبت حسناته الماضية، ثم جاءه دافع التوبة وعاودته نفسه بالرجوع إلى الله، فهو الآن يقول: يا ترى لو أني تبت إلى الله واستقمت هل تعود لي حسناتي السابقة؟ يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا الرجل يقال له: تبت على ما أسلفت من خير، فالحسنات التي فعلتها في الإسلام أعظم من السيئات التي يفعلها الكافر في كفره من عتاقة وصلة، وقد قال حكيم بن حزام: (يا رسول الله! أرأيت عتاقة أعتقتها في الجاهلية، وصدقة تصدقت بها، وصلة وصلت بها رحمي، فهل لي بها من أجر؟ فقال: أسلمت على ما أسلفت من خير) إذاً: نقول: يقال لهذا الرجل: إن كنت صادقاً فإن الله يرد لك حسناتك الماضية ولا تضيع عليك، ولو قال شخص: هذا على مستوى المشركين وعمرو بن العاص كان مشركاً وهؤلاء الصحابة كانوا قبل أن يسلموا أشركوا.(207/13)
طريقة لتكفير المعاصي
فمثلاً: أنا حصلت لي معصية الآن كيف أبدل؟ قال البخاري رحمه الله وساق بإسناده إلى ابن مسعود: إن رجلاً أصاب من امرأة قبلة -واحد من الصحابة، والصحابة بشر طبعاً، يجب ألا ننسى هذا الأمر، الصحابة بشر، هذا الصحابي قبل امرأة أجنبية- فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فقال الرجل: (ألي هذا يا رسول الله؟ -هذا لي فقط، الصحابي فرح- قال: لجميع أمتي كلهم) وروى الإمام أحمد ومسلم قصة هذا الرجل: عن ابن مسعود قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني وجدت امرأة في بستان لوحدها، ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها، ولم أفعل غير ذلك، فافعل بي ما شئت) انظر نفسية الإنسان عندما يأتي تائباً، يقول: يا رسول الله! عملت كذا وكذا وكذا، فهذا أنا بين يديك افعل بي ما شئت، فيه أسلوب الصدق في التوبة، يقول: افعل بي ما شئت، أنا يا رسول الله يبن يديك افعل بي ما شئت (فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فذهب الرجل، فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه؟ فأتبعه صلى الله عليه وسلم بصره ثم قال: ردوه علي، فردوه عليه، فقرأ عليه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فقال معاذ: يا رسول الله! أله وحده أم للناس كافة؟ فقال: بل للناس كافة) وهذا الحديث أيضاً له طريق آخر عند ابن جرير لا نذكره خشية الإطالة في هذه النقطة بالذات.
ولكن المقصود أن المسلم مهما كان مستقيماً ومهما كان قد تلقى من التربية يمكن أن يقع في يومٍ من الأيام في فاحشة، فلو وقع ماذا يفعل؟ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فقط المسألة بسيطة.(207/14)
إضمار التوبة قبل إيقاع الذنب
لكن ليس معنى هذا الكلام أن كل واحد الآن يذهب ويفعل ما يشاء ثم يقول: أنا سأعمل بعد ذلك، ولذلك ما هو الخطأ في توبة إخوة يوسف عندما عملوا العمل في البداية؟ فما هو الخطأ في سيرة إخوة يوسف عندما ألقوه في الجب؟ ما هو النص من القرآن؟ {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف:9] {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً} [يوسف:9] لتصلوا إلى نتيجة: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف:9] ماذا قالوا بعدها؟ {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف:9] فأضمروا التوبة قبل إيقاع الذنب، هذه عقلية موجودة عند بعض الناس مثل إخوة يوسف قالوا: الآن نتخلص منه ونقضي عليه ونقتله ونرميه في الجب، وبعد ذلك نكون قوماً صالحين، وترجع الأمور ونرجع إلى الاستقامة وكل شيء يصبح طيباً.
فبعض الناس عندهم هذه النفسية، يقول: هذه الصيفية أنا أذهب إلى البلد الفلاني وأفسق وأفجر وأفعل وأفعل وبعد ذلك أرجع وأذهب إلى مكة وأعتمر، لذلك خط سير بعض الناس عجيب: بانكوك، ومكة، أو العكس، يقول: الآن أريد حسنات كثيرة، وبعض الناس لهم عجائب في الموضوع يذهب إلى مكة والحرم ويحجز هناك ويجلس في مكة ويحجز حجزين في الطائرة واحد في آخر رمضان وواحد في أول شوال إلى مكة ثم إلى بانكوك، تصور!! فلماذا هذه الازدواجية؟ لأن الناس لم تترب التربية الصحيحة، لا يمكن لواحد تربى التربية الإسلامية الصحيحة أن يفعل هذا.(207/15)
مكانة المذنب في المجتمع الإسلامي
ما هو موقع المذنب في المجتمع المسلم؟ سؤال مهم جداً، كيف ينظر إلى من تاب؟ وهذا كلام مهم بالذات للدعاة إلى الله، ما هو الموقف من المذنب؟ شخص أذنب، فما هو موقفنا منه؟ كيف نعامله؟ كيف نواجهه؟ بأي وجه نتلقاه؟ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، فقال: اضربوه -اضربوه الحد- قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده ومنا الضارب بنعله ومنا الضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هذا، لا تعينوا عليه الشيطان).
هذه مسألة مهمة يجب أن يكون موقفنا تجاه المذنب عندما يقام عليه الحد، أو عندما يأخذ جزاءه، أو عندما تصح توبته وفعلاً يستقيم، فلا نقول: هذه فعلة فعلتها سود الله وجهك، وهذا عمل أخزاك الله تفعله، وهذا كذا، هذا العمل ما الذي يفعل في نفس المذنب؟ إنه يرى أن الناس كلهم ينظرون إليه بمنظار أسود، بالرغم من أنه تاب وأقيم عليه الحد وطهر، فكيف يقال له: أخزاك الله؟! فإذاً ينفر من الوسط ويترك ولا يجلس مع الصالحين فنعين عليه الشيطان، إذاً: مراعاة شعور التائب إذا صلح حاله، نقطة هامة فتجب مراعاة شعور التائب إذا صلح حاله.
وحديث المرأة المخزومية وهذا طريق من طرق حديث هذه المرأة، فشأن هذه المرأة فيه فائدة مهمة، فقد سرقت المرأة المخزومية وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقطع يدها، فكلم الناس أسامة أن يشفع عند الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وخطب خطبةً مهمة وقال القاعدة الإسلامية في هذا الموضوع وأمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها، قالت عائشة رضي الله عنها [فحسنت توبتها بعد -المرأة المخزومية هذه التي قطعت يدها حسنت توبتها بعد- وتزوجت وكانت تأتيني بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، انظر حسنت التوبة، فلما حسنت التوبة استقبل الصحابة المرأة هذه استقبالاً حسناً فوجدت مكاناً في المجتمع المسلم، فصارت تأتي إلى عائشة وتجلس عند عائشة وتزوجت وصلح حالها، وعائشة طبعاً ترفع أمرها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لولا أن المرأة وجدت مكانة في المجتمع هل كانت ستأتي وتجلس عند عائشة وتتحدث عندها، فحسن استقبال الصحابة للتائب هذا يؤدي إلى أن يكون التائب لبنة صالحة في المجتمع، الآن خطأ بعض الدعاة إلى الله وبعض الناس أنهم يستقبلون التائب استقبالاً سيئاً يقولون: اذهب أنت بعد كل هذه الأعمال تأتي الآن، اذهب من هنا، لا مكان لك عندنا، ماذا يحدث عند الشخص؟ يفور وربما رجع وانتكس انتكاسةً أشد من الأولى، من هو السبب؟ أنت السبب، أنت الذي نفرته، هذه المشكلة، المشكلة الأسلوب، المشكلة مشكلة الأسلوب عند الكثيرين، فلو دخل واحد إلى طريق الاستقامة، وحصل سوء تفاهم بينه وبين واحد من إخوانه الدعاة، فصار فيه كلام فذهب لشخص ثانٍ يشكو حاله، يقول له: لقد حصل بيني وبين فلان خلاف وكذا، وأنه أخطأ علي بكذا وقال كذا وكذا، فقال الشخص الثاني كلمة واحدة فقط فصلت الموضوع، قال له: أحسن، تستاهل، طبعاً باقي القصة متوقعة، تائب جديد يلجأ لمن؟ لقد أغلقت الطريق أمامه فإلى أين يذهب؟ وحتى في الردة في الحديث الصحيح عن ابن عباس قال: كان رجلٌ من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم فأرسل إلى قومه: سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة؟ ندم مع أنه ارتد، لكنه ندم، فجاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن فلاناً قد ندم وإنه أمرنا أن نسألك هل له من توبة، فنزلت: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران:86] {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} [البقرة:160] هؤلاء الله عز وجل لهم غفور رحيم، حتى لو ارتد يرجع.
شخص سافر إلى الخارج، كان مسلماً واعتنق الأفكار العلمانية، ثم جاءنا كافراً، ثم بعد ذلك تاب، وقال: أنا يا جماعة كنت في يوم من الأيام ملحداً فهل لي من توبة؟ نقول: نعم لك توبة، لا أحد يمنعك من التوبة، تعال، نعلمه ونرفق به ونتلقاه تلقياً حسناً، فلا يلبث أن يكون داعيةً إلى الله.(207/16)
مسامحة المذنب إذا تاب
من المواقف أيضاً للمذنب أننا إذا استطعنا أن نسامحه في شيء نسامحه فيه، فلو سرق شخص من شخص، وقبل أن يصل الأمر إلى القاضي أو الحاكم، لو استطعت أن تسامحه فسامحته فهذا شيء طيب، قبل أن يصل الأمر، لكن لو وصل فلا فائدة، يبين ذلك الحديث الصحيح الآتي: عن أبي ماجدة قال: (كنت قاعداً مع عبد الله بن مسعود، فقال: إني لأذكر أول رجلٍ قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فأمر بقطعه، فكأنما أسف وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قطع اليد، فقال: يا رسول الله! كأنك كرهت قطعه، قال: وما يمنعني، لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، إنه لا ينبغي للإمام إذا انتهى عليه حدٌّ ألا يقيمه إن الله عفوٌ يحب العفو: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22]) حديث حسن السلسة الصحيحة رقم أربعة.
فإذاً الرسول صلى الله عليه وسلم يحث الصحابة قال: لو أنكم سامحتموه قبل أن يصل أمره إلي لكان حسناً، لكن مادام وصل الأمر فلا تنفع المسامحة بعد ذلك، ولابد من إقامة الحد حتى لا يحصل التلاعب.(207/17)
النهي عن التعيير بالذنب
ومن الأمور المهمة في موقفنا من المذنبين التائبين العائدين إلى الله قضية خطيرة يقع فيها البعض وهي تعييرهم بالذنب وتذكيرهم به فترة بعد فترة، وهذه المسألة التي تجعل كثيراً من الناس لا يتوبون، عندما يرى الآن أن معاملة الناس الطيبين تعير بالذنب، يقول: لماذا أتوب؟ إن ألسنتهم لن ترحمني، فلذلك لا يتوب، وربما تاب ولكنه عاش في الوسط محطماً، لماذا؟ لأن هؤلاء الذين من حوله لا يساعدونه على نسيان الماضي، هذه نقطة مهمة أرجو أن تنتبهوا إليها، فالناس الذين من حوله لا يحاولون أن ينسى الماضي وإنما يذكرونه به مرة تلو الأخرى، ولذلك قد يتوب لكن يعيش شخصية محطمة لا ينتفع منها المسلمون من طاقاته، من الموقف الذي حصل تجاهه.
وقد يكون تعيير المسلم لأخيه بذنب فعله أعظم إثماً من المذنب لما فيه من إظهار الطاعة وتزكية النفس وتبرئتها من العيوب، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا زنت أمة أحدكم، فليقم عليها الحد ولا يثرب) لا يثرب يعني: لا يعير، في الحديث الصحيح، وورد عن بعض السلف قوله: "إن من عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله"، وقال بعضهم: "لا تظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك"، فإذاً: أنت لابد أن تحس يا أخي أنك يمكن أن تقع في نفس ما وقع فيه هذا الشخص، فعندما تعيره بالفاحشة فقد تقع في الفاحشة، وعندما تعيره بالكذب فقد تقع في الكذب {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء:74] هذا الرسول صلى الله عليه وسلم يقال له هذا الكلام، وقال يوسف: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] هذا النبي يوسف يقول لربه لو لم تصرف عني كيد هؤلاء النسوة أقع في الفاحشة، وكان عامة يمينه صلى الله عليه وسلم: لا.
ومقلب القلوب.
ولذلك الرجل الذي جاء لمذنب وقال: إني أنصحك عشرين مرة ولا فائدة، أنت تصر على المعصية، أنت أنت لا يغفر الله لك، في الحديث الصحيح: (إن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، قال الله: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك) هذا تعدٍّ على حق من حقوق الله، من الذي يغفر؟ إنه الله عز وجل هو الذي يغفر، أنت لا تعطي الناس كروتاً إلى جهنم والجنة توزع عليهم تقول: أنت يغفر لك وأنت لا يغفر لك، ليست من صلاحياتك.(207/18)
قرب الداعية إلى نفسيات المدعوين
كذلك ينبغي لمن يتابع الناس ويدعوهم إلى الله ويسير معهم أن يبقى قريباً من نفسياتهم، فإذا ما أرادوا التوبة وجدوا بجانبهم شخصاً رحيماً رفيقاً يفتحون صدورهم له ويقولون له: ماذا نفعل؟ بعض الناس قد يذنب فيحتاج إلى أخٍ له يقف بجانبه يقول له: يا أخي! أنا فعلت كذا ماذا أفعل؟ ماذا يجب علي؟ بعض الناس لا يرتاح حتى يقول كل الذنب الذي فعله بالتفصيل، هذه مسألة نفسية، بعض الناس المذنبين لا يرتاح، لا يستطيع أن يكتم مسألة بينه وبين نفسه، تجده لابد أن يفشي هذا الأمر إلى واحد من المقربين إليه، فلو كان المقرب إليه شخصاً واعياً فستجده يقول له كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (يا عائشة! إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، فإن التوبة من الذنب الندم والاستغفار) فإذا وقع أد إخوانك في معصية، فهذا الرجل الذي وقع في المعصية يريد شخصاً يفرج عنه شيئاً في الموضوع فقد لا يستطيع لوحده، فأنت إذا أحسست أنه أخطأ وغالباً ما يظهر الخطأ عليه، إذا كان إنساناً صادقاً فإنه لابد أن هذه المعصية توجد عنده نوعاً من تأنيب الضمير، نوعاً من التغير، فأنت إذا وجدت رجلاً تغير فقد تأتي له وتقول: يا أخي إن كنت ألممت بذنب فاستغفر الله فإن التوبة من الذنب الندم والاستغفار، فقد يفتح لك الموضوع ويقول: أنا وقعت في كذا، أنا وقعت في فاحشة بدون تسمية، وأنت لا تدري ما هي درجة الفاحشة، ليس لازماً أن تقول: لا، تعال: أنا لا أحل لك المشكلة حتى تخبرني بالتفصيل ماذا فعلت وتعلمني من هي ومن هو وما الذي صار وإلى أي درجة، ليس هذا صحيحاً، فهذه مسألة بينه وبين الله، أنت تعطيه القاعدة الأساسية، تقول له: يا أخي الكلام الذي ذكرناه سابقاً في مواجهة من حصل منه الذنب، تقول له: تفعل كذا وكذا.
بعض الناس لا يرتاحون حتى يقول بالتفصيل، فقد جاءني مرة شخص قال: أنا طبعاً الذي يفعل هذا الأمر لا يدري كيف يفتح الموضوع أصلاً، لابد أن نعرف كيف نعامل عامة الناس، هذه نقطة مهمة، جاء يفتح الموضوع فتأثر ثم بكى، ثم بدأ يقول: أنا فعلت شيئاً ولا أدري ماذا أفعل لأن هذا الشيء في داخله مسألة ولا أدري كيف أحلها، طبعاً الكلام غير واضح، فأنت تقول له: يا أخي! تذكره برحمة الله وبوجوب التوبة، فقال الرجل: يا أخي أنا مشكلتي لا تنتهي بقضية أني أتوب وأستغفر، لأن المسألة وراءها أشياء، فالرجل يتلكلك في الكلام ويتلعثم، ثم قال: مشكلتي أني فعلت الفاحشة، ولا زال السؤال حائراً في ذهن الرجل، ما هو السؤال؟ ليست قضية التوبة فقط، إذاً هناك شيء آخر، قال: والمرأة التي فعلت فيها الفاحشة قد عقد عليها منذ أيام، والمهم في النهاية قال: وأنا الآن والله ما أدري ربما كانت حاملاً مني وستدخل في الرجل الجديد، سبحان الله يا جماعة! المعصية شؤم تبقى تطارد الواحد وأسواط المعصية تلسع، طبعاً تلسع الصادق أما ذاك المستهين فلا.
الآن مثل هذا الرجل عنده مشكلة لا يمكن أن تتحقق بقضية أنه فقط فعل الفاحشة يقول: هل أخبر زوج المرأة؟ صحيح ربما كانت حاملاً مني، يمكن أن يدخل بها الآن، طبعاً الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره) ما معنى الحديث؟ مزارع عنده بستان وفيه ساقية تسقي عنده في البستان وتذهب إلى جاره سمع الحديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره) قال: أنا أولى أن أطبق الحديث، فقطع الماء عن جاره، لماذا يا فلان؟ وترافعا إلى القاضي، قال: هذا حديث صحيح: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي بمائه زرع غيره) يجب أن تعلم ما هو شرح الحديث، ما هي أقوال أهل العلم، طبعاً الشرح: أنك أنت لا تدخل بامرأة طلقت أو مات عنها زوجها ولما يستبرئ الرحم ولما تتبين براءة الرحم لأنه يمكن أن يكون فيها شيء من زوجها الأول، فلو دخلت فيها تسقي بمائك "المني" زرع غيرك (الرجل الأول) هذا معنى الحديث.
فالآن الرجل عنده مسألة العقدة الآن، كيف أتخلص؟ هل يجب علي؟ أنا لا أطيل عليكم بشرح الأحكام وسألنا الشيخ الفلاني وقال كذا، إنما أقول هذا مثالاً على أن بعض الناس لابد أن تعلمه وتوضح له وتشرح له وتستقبله وتستفرغ ما في نفسه من الأشياء.(207/19)
ذنوب لها فائدة
فإن قال قائل: إذا نظرنا إلى الذنب نجد أن لبعض الذنوب فائدة، فقد يستغرب البعض ويقول: كيف تكون للذنوب فائدة؟ طبعاً أولاً أقول حتى لا يفهم الكلام فهماً خاطئا: كوننا نقول: إن بعض الذنوب لها فائدة، هذا لا يعني أن نفعل الذنوب حتى نحصل على هذه الفائدة، لأن هناك أشياء لا يجوز أصلاً أن يفعلها الإنسان حتى لو ترتب عليها خير، بل إن من فعلها فإنه لن يحصل على خيرها، يعني: إذا فعل شخص الشيء هذا لأجل الخير الذي فيه وهو أصلاً محرم، فربما لا يحصل على الخير أصلا.
إن الذنوب تحدث فيها أحياناً أشياء إيجابية في النفس، وهي لا يجوز فعلها، لكنها وقعت، فعند بعض الناس يكون للذنوب أثر إيجابي في النفس، كيف؟ هذا الانكسار الذي يحدث للمذنب التائب العائد إلى الله وليس المتكبر المستهين أصلاً الذي لا يحصل له خير نهائياً، هذا رجل حصل منه الذنب وتاب إلى الله، ماذا يحصل له؟ يحصل له انكسار وذلة وخضوع بين يدي الله ويتخلص من الكبر، بعض الناس يتخلص من الكبر بطريقة عجيبة: فهو إنسان مستقيم ولكن عنده كبر ويرى نفسه أنه أحسن من الناس وأن الناس هؤلاء يذنبون، فهو أحسن منهم، ويتكبر ويتعالى عليهم، وبعد فترة يقع في ذنب هو نفسه يقع في ذنب، فإذا وقع في الذنب يتبين له حقارة نفسه، ويتبين له قيمتها، ويتبين أيضاً أن الشيء الذي كان يذم الناس به ويتعالى عليهم قد وقع هو فيه، فتذهب صفة العجب، أو يكون هذا الذنب فيه علاج لصفة الكبر الذي في نفسه، وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجر المسبحين المتفاخرين، أيهم أحب إلى الله شخص مسبح يتعالى ويتفاخر في التسبيح ويرائي به، أم إنسان انكسر بين يدي الله لذنب فعله وهو يئن الآن ويستغيث بالله أن ينجيه من هذا الهم والكرب الذي وقع فيه؟ فعليك أن تدرك يا أخي أن هذا المذنب لعل الله قد أسقاه بهذا الذنب دواءً استخرج به داءً قاتلاً هو فيه ولا تشعر كما قال ابن القيم رحمه الله: وهذا الانكسار بين يدي الله له أهمية عظيمة، ولذلك أنت تجد في حديث (يا بن آدم! مرضت ولم تعدني، قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما إن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما لو عدته لوجدتني عنده) لماذا؟ بينما الجائع والعطشان قال: (لوجدت ذلك عندي) أما عند المريض قال: (لوجدتني عنده) يقول ابن القيم رحمه الله معلقاً: فتأمل هذه اللفظة لماذا؟ للكسرة الحاصلة في نفس المريض من المرض ولو كان أكبر متكبر إذا مرض، يعني: مرضاً شديداً جداً أقعده يحصل عنده نوع من الانكسار، ولذلك تجد الله عند المنكسرة قلوبهم من أجله، وهذا والله أعلم السبب في استجابة دعوة المظلوم والمسافر والصائم، لأن المظلوم انكسرت نفسه بالظلم، والصائم انكسرت نفسه بالجوع، فانكسرت حدة هذه النفس السبعية الغضبية التي لا تشبع، وهذا المسافر انكسرت نفسه بالغربة، ولذلك تجد الله يستجيب دعاء هؤلاء الناس المسافر والصائم والمظلوم، وكذلك المريض.
ويقول ابن القيم رحمه الله أيضاً: وقد يكون ذنبٌ عند بعض الناس أعظم أثراً من طاعة، كيف؟ يقول: يعمل الذنب فلا يزال هذا الدنب نصب عينيه، إن قام وإن قعد وإن مشى ذكر ذنبه، فيُحدِث له انكساراً وتوبةً وندماً، فيكون ذلك سبب نجاته وفي المقابل شخص محسن وضع الحسنة أمام عينيه يراها دائماً، يقول: ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه إن قام وإن قعد وإن مشى كلما ذكرها أورثته عجباً، وكبراً ومنةً فتكون سبب هلاكه، فيكون الذنب موجباً لترتب طاعات وحسنات لأنه يرى السيئة أمام عينيه دائماً فيعمل طاعات ويعمل حسنات، ويخاف الله ويستحي منه ويطرق بين يديه منكسراً خجلاً باكياً نادماً مستقبلاً ربه، حتى يقول الشيطان -اسمع هذه الطرفة- يقول ابن القيم رحمه الله: هذا المذنب الذي يضع السيئة أمام عينيه حتى تحدث له كل هذه الأشياء، حتى يقول الشيطان: يا ليتني لم أوقعه فيها، لما يرى من ترتب الحسنات والعودة العظيمة إلى الله، فيندم الشيطان على إيقاعه في الذنب كندامة فاعله على ارتكابه، لكن شتان ما بين الندمين.
والذنب أيضاً يحدث الاعتذار إلى الله واللجوء إلى الله ومناجاة الله عز وجل، فالله! ما أحلى قول المذنب في هذه الحالة: أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي وبغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيد سواك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذل لك قلبه.
هذه المناجاة التي تحدث عقب الذنب، لأن الإنسان يحس بالخطأ يحس بالندم، فيدفعه إلى هذه الأشياء التي يقبل بها على ربه، وهذا هو موضع الحكاية المشهورة التي جاءت عن بعضهم أنه شرد وأبق من سيده، فرأى في باب السكك باباً قد فتح، وخرج منه صبي يستغيث ويبكي وأمه خلفه تطرده حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد، لاحظ تطابق هذا المثال مع المذنب، فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكراً، فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ولا من يئويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً فوجد الباب مرتجاً مغلقاً فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام، فخرجت أمه بعد وقت فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي وتقول: يا ولدي أين ذهبت عني؟ ومن يئويك سواي؟ ألم أقل لك لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك وإرادة الخير لك؟ ثم أخذته ودخلت.
يقول ابن القيم رحمه الله -هذا الرجل العظيم الذي قلما أنتجت الأمة الإسلامية مثله في طب القلوب- يقول: فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: (لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها) وأين تقع رحمة الوالدة هذه التي في القصة الآن من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟(207/20)
حكم التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره
قد يسأل بعض الناس يقول: هل تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره، يعني: شخص الآن يشرب الخمر ويزني وهو مصر على شرب الخمر، لكنه امتنع من الزنا وتاب، هل تقبل توبته من الزنا وهو يصر على شرب الخمر؟ قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ساق اختلاف العلماء: والذي عندي في المسألة أن التوبة لا تصح من ذنب مع الإصرار على آخر من نوعه، وأما التوبة من ذنب مع مباشرة آخر لا تعلق له به ولا هو من نوعه فتصح، كما إذا تاب من الربا ولم يتب من شرب الخمر، فإن توبته من الربا صحيحة، لأن الربا ليس من نوع شرب الخمر، وأما إذا تاب من ربا الفضل وبقي مصراً على ربا النسيئة هل تقبل توبته؟ لأنه ما زال مصراً على نوع آخر من نفس المعصية، أو تاب من تناول الحشيشة -هذا ابن القيم يقول الحشيشة، ونحن نقول: المخدرات أيصاً- شخص تاب من المخدرات وأصر على شرب الخمر، فهاتان المعصيتان من نوع واحد أم من نوعين مختلفين؟ فلا تقبل التوبة والحالة هذه، هذا مثل واحد يتوب عن الزنا بامرأة ويصر على الزنا بامرأة أخرى، فنقول: لا، لا ينفع، لأنه ما زال واقعاً في الزنا.
مرةً قابلت موظفاً أتكلم معه يقول لي: والله أنا أكثر السفر وأنا أصارحك أني ما شربت الخمر مطلقاً برغم أني جلست على موائد فيها خمر، ما شربت الخمر، ولكن الصراحة أني قد زنيت، لماذا؟ يقول: لأن الخمر أريد أن أشربها في الجنة -هذا منطق، أناس عندهم طرق عجيبة في التفكير- فيقول: أنا تبت من هذا، أتيت بهذا المثال لكي أوضح كي لا يفهم بعض الناس ويقول: إذاً نتوب من بعض الذنوب ونبقى على الذنوب الأخرى، لأن هذه الاستهانة مصيبة يمكن أن تمحق العمل كله.
وقد يعدل الإنسان عن معصية إلى معصية أخرى لأسباب، فمنها: إما أن يترك معصية ويصر على أخرى، لأن الأخرى وزرها أخف، يقول مثلاًَ: أنا تبت عن الزنا لكن لا أريد أن أتوب عن النظر إلى المسلسلات والصور المحرمة، لماذا؟ يقول: لأن هذه إثمها أقل، لذلك أنا تبت عن هذه، لكن أبقى على هذه.
أو لغلبة دواعي الطبع عليه، فهناك شخص مثلاً قد لا يسبل، يترك معصية الإسبال لأنها ليست متعلقة بشهوة كما قال أحدهم، قال: أنا قد أعفي لحيتي وأقصر ثوبي لأني لا أجد فيها مقاومة للنفس، لكن بصراحة لا يمكن أن أترك النظر إلى المرأة الأجنبية، لماذا؟ لأن نفسه تلك ما فيها مقاومة، هذه ليست فيها مقاومة للنفس، فلذلك قد لا يستطيع أن يتركها.
وبعض المعاصي أسبابها حاضرة بين يديه فمثلاً يمكن بسهولة أن يضع فيلماً ويشغله ويراه بسهولة، لكن مثلاً المخدرات يقول: كيف أحضرها؟ ومن أين أبحث عنها؟ صعبة!! ولذلك هو يترك ذلك الذنب ويصر على هذا لأن أسباب تحصيل هذا متوفرة، وأسباب تحصيل ذلك الذي تركه صعبة، فمثل هذا لا يكون صادقاً مع الله.
أو أن بعض أقران السوء وخلطائه لا يدعونه يتوب من المعصية، لماذا؟ لأنه قد يترك جاهه، فقد يكون مترئساً مجموعة يفعلون فعلاً، أو هو الذي يجلب لهم المنكر الذي يقارفونه، وهذا موجود، فهو الآن عندهم زعيم عظيم ووجيه، لو تاب فقد الزعامة، فبعض الناس يحب الرئاسة بأي طريقة حتى لو بحصب جهنم، المهم أن يكون هو الذي ينظر إليه، فمثل هذا مثل أبي نواس الشاعر الفاجر الذي نصحه أبو العتاهية ولامه على تهتكه في المعاصي، فقال أبو نواس:
أتراني يا عتاهي تاركاً تلك الملاهي
أتراني مفسداً بالنسك عند القوم جاهي(207/21)
رجوع التائب من المعصية إلى منزلته قبلها
كذلك أيها الإخوة بعض الناس يفكر إذا تاب الآن هل يرجع أحسن مما كان عند الله أم أقل مما كان أم مثل ما كان، هذه المسألة ذكر فيها بعض أهل العلم أقوالاً، ولكن يقول ابن القيم رحمه الله: الصحيح التفصيل وهو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن من التائبين من لا يعود إلى درجته قبل الذنب، ومنهم من يعود إلى نفس الدرجة، ومنهم من يعود إلى درجة أعلى، وذلك بحسب الهمة، لو أن واحداً كان بمستوى معين من الطاعة، ثم أذنب وتاب، وهذه التوبة دفعته إلى مزيد من الأعمال أكثر من الأول، فإنه يرجع إلى درجة أعلى، وآخر تاب لكن رجع إلى نفس المستوى من الطاعة، محيت التوبة فاستمر على نفس الدرجة، وثالث تاب لكن الذنب شرخ شرخاً قلل الطاعة عنده فهو الآن يرجع إلى مستوى أقل مما كان عليه قبل الذنب، وداود عليه السلام رجع بعد التوبة إلى منزلة أعلى من منزلته قبلها لأن توبته كانت عظيمة.
بعض الناس يتوبون -وهذه مسألة مهمة أيها الإخوة- نتيجة عبادة من العبادات مؤقتة أو حدث معين، بعض الناس يذهب إلى الحج أو العمرة ويرجع متغيراً، تاب إلى الله وتجده الآن قد تحسن مظهره وتغير شكله، أو شخص أصابه حادث سيارة ونجا منه، طبعاً رق قلبه للحادث وكيف حصل وكيف أنجاه الله، فتحسنت أحواله والتزم بطاعة الله، أو مثلاً مرض مرضاً شديداً ثم شفي منه، تجد بعض الناس يتحسنون، لكن لا يستغلون هذا التحسن في تنمية إيمانهم والمزيد من العبادات، يبقى على حاله حتى يخف تدريجياً مع الزمن حتى يعود كما كان، ولذلك لابد من استغلال هذه الأشياء.(207/22)
أنواع غير مقبولة من التوبة
أحياناً بعض أنواع من التوبة ليست صادقة ولا مقبولة، مثل شخص أحس أن الذنوب ستؤثر على جاهه وسمعته بين الناس وربما طرد من وظيفته، شخص يشرب الخمر ويسكر ويسكر، فقد يطرد من العمل، يأتي متأخراً جداً غير صاح، وتؤثر على عمله وعلى وظيفته، فترك الخمر لا لله، لكن حفاظاً على الوظيفة، هل توبته صحيحة؟ رجل تاب لحفظ حاله وقوته، شخص ترك الزنا مثلاً واللواط خشية مرض الإيدز والهيربس، ليس خشيةً لله، هل توبته صحيحة؟ فكر يجب أن يكون الدافع للتوبة لله لا خشية الأشياء الدنيوية.
شخص ذهب ليسرق بيتاً، فلم يجد منفذاً، ووجد سيارة الشرطة، فخاف ورجع، هل توبته صحيحة؟ إنسان جاء شخص يعطيه رشوة فامتنع عن هذه الرشوة، لماذا؟ قال: أخاف أن يكون هذا المال الذي يعطيني الرجل من هيئة مكافحة الرشاوي والفساد الإداري، ولذلك أنا لا آخذ الرشوة، فهو ما ترك أخذ الرشوة لله وإنما خشية من هيئة مكافة الرشاوي، ولذلك يا جماعة يركز المسئولون الصالحون دائماً على قضية الرقابة الذاتية لأنها هي التي تكفل استقامة الناس.
لو أن بعض الناس مثلاً يتوبون إلى الله بعد حصول شيء عندهم يفقدهم القدرة عن المعصية، فشخص كاذب أصيب بشلل في لسانه، ما عاد يستطيع أن يتكلم ولا يكذب، أو زان فقد القدرة على الوقاع، أو سارق فقد أطرافه في حادث، الصحيح أن هؤلاء إذا تابوا إلى الله توبة صحيحة أنها تقبل إذا تابوا لله ليس لأنه مجرد فقد الأدوات، تاب لله، فتوبته إن شاء الله صحيحة.(207/23)
تذكرة للمشتاقين إلى التوبة
نختم هذا الكلام بتذكرة إلى الذين كانوا في يوم من الأيام مستقيمين على طاعة الله فانحرفوا وتلوثوا بالمعاصي فرجعوا إلى أنفسهم رجعةً تذكروا فيها جمال الماضي وحلاوة الإيمان التي سلبوها، فتشوقت أنفسهم للرجوع، إلى هؤلاء الناس الذين كانوا مستقيمين ثم فعلوا أشياء وهم يتوقون للعودة إلى الماضي وربما لا يعودون لأسباب، وهذا الموضوع بالذات قضية الانتكاس وظروفه ما هي الأسباب والعلاج وحال الناكص على عقبيه قد ذكرناها في محاضرة منفصلة بعنوان: لا ترتدوا على أدباركم.
إلى هذا الشخص نقول هذا الكلام الذي ذكره ابن القيم رحمه الله: وصاحب هذا المشهد يشهد نفسه كرجل كان في كنف أبيه يغذيه بأطيب الطعام والشراب، ويلبسه أحسن الثياب، ويربيه أحسن التربية ويعطيه النفقة وهو القيم بمصالحه كلها، فبعثه أبوه في حاجة له -الأب بعث الابن في حاجة له- فخرج عليه -على الولد- في طريقه عدو فأسره وكتفه وشد وثاقه، ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامه سوء العذاب وعامله بضد ما كان أبوه يعامله به، فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفينة بعد الفينة فتهيج في قلبه لواعج الحسرات كلما رأى حاله، ويتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه، فبينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب ويريد ذبحه في نهاية المطاف إذ حانت منه التفاتة نحو ديار أبيه، فرأى أباه منه قريباً، فسعى إليه وألقى نفسه عليه وانطرح بين يديه يستغيث: يا أبتاه! يا أبتاه! يا أبتاه! انظر إلى ولدك وما هو فيه ودموعه تسيل على خديه، قد اعتقنه والتزمه، وعدوه في طلبه حتى وقف على رأسه، وهو ملتزم لوالده ممسك به، فهل تقول إن والده يسلمه مع هذه الحالة إلى عدوه مرةً أخرى ويخلي بينه وبينه؟ -تظنون هذا يا جماعة؟ - فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده ومن الوالدة بولدها؟ إذا فرَّ عبدٌ إليه وهرب من عدوه إليه.
شخص يكون ماشياً في طريق الاستقامة ويأتي الشيطان ويستحوذ عليه ويحرفه عن سبيل الله، ثم يبصر طريق الهداية مرة أخرى يريد أن يرجع، فإذا رجع إلى الله رجع صادقاً وصحيحاً، تظنون أن الله يسلمه إلى الشيطان مرة أخرى إذا كان صادقاً.
إذا فرَّ عبدٌ إليه وهرب من عدوه إليه وألقى بنفسه طريحاً ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكياً بين يديه يقول: يا رب! يا رب ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا مغيث له سواك، مسكينك وفقيرك وسائلك ومؤملك، لا ملجأ له ولا منجى منك إلا إليك، أنت معاده وبك ملاذه:
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره
إذا خاف الواحد من أحد من البشر فإنه يهرب منه، لكن أنت إذا خفت الله تذهب إلى من؟ ترجع إليه وهو الذي خفت منه، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا وترحمنا، وأن ترزقنا التوبة النصوح، وأن تعفو عنا، وأن تتجاوز عن سيئاتنا بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.(207/24)
الجهل بالأحكام من معوقات التوبة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
هذا الدرس الذي اقترح عنوانه بعض الإخوان "أريد أن أتوب ولكن" أساس الدرس الكلام على العوائق التي تحول بين بعض الناس وبين التوبة، يعني: يقول: أريد أن أتوب ولكن كيف يغفر الله هذه الذنوب كلها؟ أريد أن أتوب ولكن أصدقاء السوء لا يدعوني سيشهرون بي، أريد أن أتوب ولكن لا أعرف كيف أتوب؟ أنا تركت صلوات وتركت زكاة وتركت كذا، وسرقت مالاً وعندي أموال ربوية، لا أعرف كيف أتوب.
فإذاً: نحن -أيها الإخوة- ركزنا أصلاً في الدرس حول هذه النقاط التي هي تشكل عقبة في طريق التائبين، أو أمور تزيل ذلك الحرج الذي لا يجعل الشخص ينتج في المجتمع المسلم نتيجة الكابوس الذي يبقى فوق رأسه، وقبل أن نبدأ بأسئلتكم، وأنا لا أنوي الإطالة بالأسئلة حتى لا يحصل الملل أكثر مما حصل.
أريد أن أذكر بعض الأحكام قبل أن تأتي الأسئلة لأن الأحكام التي سنذكرها ربما تجيب أصلاً عن بعض الأسئلة المطروحة، وهذه الإجابات على هذه الأسئلة قد جمعتها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم وبعض الأشياء سألت فيها الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، والشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، والشيخ عبد الله بن جبرين.(207/25)
أحكام توبة تارك الصلاة أو الصيام
بعض الناس يحول بينهم وبين التوبة عدم معرفتهم بالأحكام فمثلاً: رجلٌ كان تاركاً للصلاة ثم اهتدى، ماذا يفعل بصلواته الماضية؟ هذه المسألة فيها نزاعٌ بين أهل العلم، والأرجح والله أعلم أنه لا يلزمه القضاء ولكنه يكثر من التوبة والاستغفار وصلوات النوافل لعلها تعوضه عما فاته، لأن الوقت لا يمكن إرجاعه مرة أخرى وهذا ليس معذوراً كالنائم والناسي، الخلاف طويل، هذا الملخص فقط.
أو كذلك رجل ترك الطمأنينة في الصلاة، رجل صلاته كنقر الغراب، ثم تاب إلى الله وعرف أن الطمأنينة ركن كيف يفعل؟ استدلالاً بحديث المسيء صلاته لا يجب عليه أن يعيد وإنما يستأنف الآن الصلاة بطمأنينة.
ورجل ترك الصيام، هذا الرجل إن كان تركه للصيام حاصلاً وهو يصلي ولم يرتكب مكفراً، يعني: ترك الصيام ولم يزل مسلماً، فهذا عليه أن يقضيه الآن، يقضي الصيام الماضي الذي تركه، أما إذا كان أصلاً كافراً مستهزئاً بالدين مرتداً عن الإسلام تاركاً للصلاة بالكلية، فهذا لا يؤمر بإعادة الصيام لأنه كان عند تركه للصيام كافراً، والرسول صلى الله عليه وسلم ما طلب من الصحابة الذين أسلموا أن يعيدوا الصيام الذي فاتهم مثلاً، وكذلك الزكاة، ولكن نضرب مثالاً بمسألة تحصل ويسأل عنها بعض النساء، تقول المرأة مثلاً: أنا عندما بلغت لم أخبر أحداً ببلوغي لأني خجلت ممن حولي، وتظاهرت بالإفطار وأفطرت حتى لا يحسوا بأنها قد بلغت لأنه أمرٌ مخزٍ عندها، وما أعلمتهم وتركت الصيام، وبعد مرور سنوات طويلة تقول: ماذا أفعل بصيامي الذي تركته، ف
الجواب
إن توبتها إلى الله عز وجل تقضي بأن تصوم هذه المرأة ما فاتها من الأيام في بداية بلوغها أو بعده مثلاً: تركت الصيام سنتين فتصوم شهرين، فهذه تصوم أيام الحيض التي تقضيها أصلاً [كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة] تصوم أيام الحيض وغيرها، يعني: تصوم الشهر كاملاً الذي تركته، وإن كانت صامت بعضاً وأفطرت بعضاً، فإنها تصوم ما فاتها منها.
ولكن إذا أخرت ذلك الصيام حتى جاء رمضان الذي بعده ولما تقضه بعد، فعليها بالإضافة إلى قضاء الصيام إطعام مسكين عن كل يوم، يقول الشيخ عبد العزيز: وهذه فتوى ستة من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أن من أخر صيام رمضان حتى دخل رمضان الذي بعده، فإن عليه بالإضافة إلى قضاء الصيام إطعام مسكين عن كل يوم أخره من رمضان هذا إلى الذي بعده، وقد يقول قائل: أنا مر علي عشرون رمضاناً، ولم أصم منها إلا ثلاثة، فهل تتضاعف الكفارة؟ فنقول: لا.
كما أجاب عن ذلك أهل العلم، لا تتضاعف الكفارة، تقضي ما فاتك في الماضي وتطعم عن كل يومٍ مسكيناً.(207/26)
أحكام التوبة المتعلقة بالزكاة
بالنسبة للزكاة، إن كان قد ترك الزكاة وهو مسلم أو ترك بعضها، أو مثلما يفعل بعض الناس الآن، يأتي على الزكاة يأخذ من عرض ماله عشرين ألفاً وعنده ملايين الملايين، ربما تكون الزكاة مليوناً، لكن هذا الرجل مستهتر بالزكاة عد عشرين ألفاً وأخرجها زكاة، وعليه أكثر من ذلك، فعليه أن يقدر كم الذي تركه من الزكاة وهو الآن يتوب إلى الله، كم الذي تركه من الزكاة فيخرجه، باقٍ في ذمته دين عليه لله عز وجل.
امرأة تركت زكاة ذهب الحلي، فيقول الشيخ عبد العزيز حفظه الله: إن كانت تركته لشبهة كأن تركتها لعلمها أنه لا زكاة فيه، كانت مقتنعة من قبل أنه لا زكاة فيه، فهذه ليس عليها إعادة إخراجها للشبهة التي حصلت عندها في الحكم، لكن لما تغيرت قناعتها وعرفت بالدليل على وجوب الزكاة في الحلي، فإنه يجب من عند تلك اللحظة أن تخرج الزكاة التي عليها ولو لسنوات مضت تقدرها تقديراً إن استحال تعيين المبلغ.(207/27)
توبة أهل الأفكار المنحرفة
فبعض الناس الآن يتوبون وقد نشروا بين الناس أفكاراً ضالة، كرجل علماني أو رجل مخرف في العقيدة أو حامل لواء بدعة يضل الناس، أو رجل يكتب قصصاً لكنها سم ضد الدين أو يؤلف الأشعار وينظم الأشعار الساقطة مثلاً، هذا الرجل إذا هداه الله عز وجل ماذا يفعل؟ يقول الله عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة:160] فلا تكفيه التوبة المجردة وإنما يجب أن يزيد عليها تبرؤه مما فعل في الماضي، يعلن للناس الذين أعلن لهم الشرك والكفر والبدعة والفساد يعلن لهم أنه قد تاب منها وأنه بريءٌ من كل ما كتب في الماضي، وليس ذلك فقط، بل إنه يرد على نفسه، يعني: يقول: أنا قلت كذا وأحذركم إن كلامي كان خطأ ضد الدين، أو أني زللت فيه في النقطة الفلانية والفلانية والفلانية، والرد عليها إن كان قد أثار في كتبه شبهات، بعض الناس يؤلفون كتباً فيها شبهات تطعن في الدين، فلو تاب إلى الله عليه أن يؤلف أو ينشر في أي مكان آخر ما يصل إلى الناس الذين قرءوا الكلام الأول على الأقل بغلبة الظن يرد على الشبهات التي سبق أن طرحها حتى تكتمل توبته.
وقضية البيان مهمة، وبها نرد على من قال: إن ابن سينا الملحد تاب -طبعاً هناك أناس أصلاً لا يعرفون أنه ملحد- لكن إذا قال شخص: ابن سينا تاب، كيف ندري أنه تاب؟ وطه حسين عميد الأدب العربي -أستغفر الله، عميد قلة الأدب العربي- تاب، كيف نعرف ذلك؟ هل قدم لنا شيئاً مكتوباً أنه تاب، هل كتب شيئاً نقض فيه ما كان يعتقده وينشره بين الناس، وأن يسخر قلمه هذا من كمال التوبة، وأن يسخر قلمه لنصرة هذا الدين والرد على أعداء الله وعلى شبه الكفار والملاحدة، وأنه لو كان نشر في الرذيلة فيكتب الآن في الفضيلة، ولو نشر في البدعة فيكتب الآن في السنة، ولو نشر في الشرك فيكتب الآن في التوحيد وغيره، لكن هذه بالتركيز لأنه كان قد قصدها في الماضي، هذا من كمال توبته، ولو أن إنساناً ضلل شخصاً آخر مثلاً: أقنعه باللواط والعياذ بالله، أو بمقدماته، قال: هذه لا شيء فيها، فذاك المسكين كان قد غرر به، يجب عليه أن يبين له: يا أخي ما قلته لك سابقاً خطأ وكان من الشيطان، وأنا أستغفر الله منه وهذا حرام، وهذه لا تجوز، لأنه كان قد ضلله، إذا لم ينتبه الشخص الآن ولم تتغير الفكرة لديه وما زالت في ذهنه أنها ليس فيها شيء وأنه شيء شرعي مثلاً، فعليه عليه أن يبين له ما قد أقنعه به في الماضي.(207/28)
أحكام التوبة من جريمة القذف
ومن ذلك أيضاً في قضية التبيين يلتحق بها القاذف، فإذا قذف شخص شخصاً مثلاً بالفاحشة بالزنا وذلك المقذوف بريء، فإن عليه الآن أن يبين أن ذلك المقذوف بريء، وليس مجرد أن يستغفر الله ويتعرف بأن القذف حرام، بل إن عليه أن يبين سلامة ذلك الشخص مما قذفه به، وأن يكذب ما قاله عنه، يقول: يا جماعة أنا رميت فلاناً بكذا وأنا أشهدكم أنه بريء وأني كذبت عليه وأن الشيطان أزلني وأنا أستغفر الله، فيبين براءة الشخص.
وأحياناً تجد من يفتري على إنسان مستقيم فيقول: هذا يفرق صفوف المسلمين، هذا صاحب بدعة -أي تهمة من التهم- فإذا أراد أن يتوب إلى الله عليه أن يبين، يقول: لا يا جماعة، أنا كنت قد رميته بأنه يفرق صفوف المسلمين كلا، إنه يجمعها، رميته بأنه مبتدع، كلا.
إنه صاحب سنة، قلت إنه كذاب، لا، إنه صادق، أو إني لا أعرف حاله أنا افتريت عليه، عليه أن يبين، لاحظوا هذه الأشياء قد يقع فيها طائفة من الناس الذين ظاهرهم الاستقامة، بل وحتى الدعوة إلى الله عليهم أن ينتبهوا إلى كيفية التوبة من هذه الأشياء وهذه قضية خطيرة وحساسة.
وكذلك إذا كان الذنب في حق آدمي مثل القذف الذي بدأنا به الآن، أو الاتهام بأشياء باطلة سواء رجل اتهم امرأة، أحياناً يتهم امرأة يقول: فلانة فيها كذا، فلانة كذا، يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، فعليه أن يتوب إلى الله وأن يبين سلامة تلك المرأة من القذف الذي قذفها به، أو امرأة كذبت على رجل، فتبين سلامة الرجل، أو أن شخصاً شكك في شخص ليس بناءً على أشياء محسوسة وواقعية، فعليه الآن أن يبين: يا جماعة أنا شككت فيه عن هوى، عن تسويل الشيطان، وليس عندي في الحقيقة مستند لظن السوء.(207/29)
أحكام التوبة من انتهاك الأعراض
فإذا كانت السيئة في حق الآدمي فيجب على التائب أن يخرجها من نفسه بأدائها إلى المظلوم، أو باستحلاله منها على الأقل بعد إعلامه بها، فإن كانت حقاً مالياً أو جناية على بدنه فيجب عليه أن يتحلل من أخيه المسلم الذي ظلمه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينارٌ ولا درهم إلا الحسنات والسيئات).
فإذاً: حقوق الآدميين إما في العرض أو في المال، فيجب عليه أن يتحلل منهم.
وهناك أشياء تتعلق بالعرض فلو أن رجلاً زنى أو فعل الفاحشة بشخص ويريد الآن أن يتوب، فإن كان الشخص المقابل راضياً فلا يتحلل منه لأنه راض وتكفيه توبته فقط، أما إن كان مغصوباً فيجب عليه أن يتحلل منه بطريقة لا تؤدي إلى المفسدة، فقد يقول تائب: أنا غصبت امرأة مثلاً، فهل أتحلل منها بأن أكلمها وأراسلها حتى أتحلل منها؟ وقد أقع فيها، نقول: لا.
إذا كنت ستقع لا تطرق هذا الباب، فهذه المسألة فيها حساسيات معينة، وفيها إحراجات كثيرة، ولذلك لا أرى الآن من المناسب أن أطرح هذا الموضوع وأتوسع فيه لأنه غير مناسب، فالمسألة فيها أشياء، وقد يخون شخص جاره في زوجته، فهل يذهب إلى الجار ويكلم المرأة، ماذا تفعل مع زوجها؟ هذه مشكلة المعاصي والفواحش، وبعد هذا تصبح مشكلة كبيرة جداً، ولذلك الذي عنده سؤال خاص بهذا الموضوع، فعليه أن يسأل أهل العلم عن هذه الجزئية في الموضوع، لأن هذه ستدور في الأذهان كيف أفعل؟ ماذا أقول؟ كيف أعمل؟ إنما أكتفي بما قلت فيكفي التوبة بينه وبين الله، يتوب إلى الله عز وجل ويستقيم.
وأما إن كانت المعصية في غيبة أو نميمة، يعني: في العرض أيضاً فحصل أيضاً خلاف بين أهل العلم في المسألة هل يجب عليه أن يخبره أم لا؟ وحتى لا نطيل فالقول الوسط كما ذكر شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله: لا يشترط الإعلام بما ناله في عرضه من قذف واغتياب، بل يكفي توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره به من الغيبة، فيبدل بغيبته مدحاً وثناءً عليه وذكراً لمحاسنه، ويبدل قذفه للشخص الآخر بذكر عفته وإحصانه ويستغفر له بقدر ما اغتابه وهذا اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية رحمه الله؛ لأن إعلام الشخص بالغيبة والنميمة والقذف الذي فعلته في حقه وفي عرضه إذا جئت وعلمته بالمسألة قلت: فعلت كذا وقلت عليك كذا وكذا، فإنها مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة، فإنه لا يزيده إلا أذى وحنقاً وغماً، وقد كان مستريحاً قبل سماعه، فإذا سمعه ربما لم يصبر على حمله، وربما كان إعلامه به سبباً للعداوة، فلا يصفو له أبداً، وينتج عنه شر أكبر من الغيبة نفسها، ويوجد التقاطع بين المسلمين.
خلاصة المسألة: إذا كنت تظن أنك إذا أخبرت الشخص أنك قلت عنه كذا وكذا وكذا، فتزيد الأمور تعقيداً وسوءاً فلا تفعل، أما إذا كنت تعتقد أنه من النوع المتسامح، أنه لن يأخذ في نفسه، فقل له: يا أخي! أنا أخطأت عليك -بكلام عام- سامحني! وإذا عرفت أنه يقول: ما هو الكلام بالضبط، وقد إذا قلته وأخبرته بالتفصيل تتفاعل المسألة في نفسه وتقع العداوة، فلا يجب عليك إخباره ولكن تجب عليك أشياء أخرى، أن تذكره بضد ما اغتبته فيه، وأن تدافع عنه في المجالس التي يغتاب فيها وأن تستغفر له، وأن تبين محاسنه، وبهذا تكون قد استكملت توبتك من الغيبة أو القذف.(207/30)
كيفية التحلل فيما يتعلق بالأموال والجنايات
أما بالنسبة للأشياء المالية والجنايات البدنية فهناك فرق بينها وبين الغيبة لأن الحقوق المالية والجنايات البدنية ينتفع بها صاحبها إذا أخبرته عنها، فلا يجوز إخفاؤها عنه ويجب أداؤها إليه بخلاف الغيبة والقذف، فإنه ليس هناك شيء ينفعه يؤديه إليه إلى الإضرار والتهييج، والشيء الثاني: إذا أعلمت شخصاً أنك سرقت منه مثلاً ولم تؤذه وتجرح شعوره وتسبب غضباً وعداوة، بل ربما سره ذلك في الغالب، ينبسط أنك الآن اعترفت له، وبالنسبة لقضية الجنايات نبدأ الآن نفصل في قضايا الجنايات والأموال: بالنسبة للجنايات لو جنيت على شخص مثلاً: قتلت إنساناً وهربت ولم يقبض عليك ويقتص منك، هربت أنت وأخفيت أثر الجريمة، فالآن القاتل يتعلق عليه ثلاثة حقوق: الأول: حق لله.
الثاني: وحق للقتيل.
الثالث: وحق لورثة القتيل.
فأما حق الله فبالتوبة، إذا تبت إلى الله قضي عنك حق الله، وأما بالنسبة للورثة فإنك يجب عليك أن تسلم نفسك إليهم لأن لهم حقاً وهم يستوفون حقهم منك إما بالمال (الدية) أو بالعفو مجاناً يطلقونك لوجه الله، أو يقولون: لابد لنا من القصاص، لابد أن نقتص منك وتقتل أنت لأنك قتلت صاحبنا، فحق الورثة لا يسقط إلا إذا سلم نفسه إليهم وهم الآن بالخيار إما أن يعفوا عنه مجاناً، أو يأخذوا منه مالاً، أو أن يطلبوا القصاص، وبقي حق القتيل، حق القتيل كيف تقضيه؟ لا يمكن، ولذلك حصل خلاف بين العلماء في هذه المسألة، الأوسط فيها أن الإنسان القاتل إذا تاب إلى الله توبة صادقة صحيحة فإن الله يتحمل عنه حق القتيل ويعطي القتيل في الآخرة من الحسنات أو من العوض ما يعوضه عن حقه على القاتل، هذه رحمة الله عز وجل.(207/31)
إرجاع الأموال المسروقة
فإذا سرق شخص عليه أن يرد المسروق، فلو جاء وأخبر الشخص أنه قد سرق منه، قال: وهذا المال الذي أنا سرقته منك، فلو كان المال قد تلف، وليس عنده الآن مالٌ يعطيه إياه، شخص سرق وسرق وسرق وأتلفها وبذرها وأفلس، والآن أراد أن يتوب، فعليه أن يتحلل من المسروق منه، يذهب إليه يقول: يا فلان! يا مديري! يا رئيس الشركة! أنا سرقت منك، يقول ذلك بأسلوب معين، مثلاً يقول: الشيطان وكذا ونفسي الأمارة بالسوء أخذت منك أموالاً بغير علمك، تحللني؟ فإن حلله فالحمد لله، وإذا لم يحلله فتبقى هذه الأموال ديناً في ذمته، فإذا فتح الله عليه وأغناه الله يعيدها إليه مع الأيام.
قد يقول بعض الناس: أنا أتحرج، أنا عندي المسروق، عندي المبلغ لكن أتحرج أن أرده إلى المسروق منه، فقد يسأل شخص سؤال يقول: أنا كنت أسرق من جيب أبي، وأنا الآن كبرت وأنا موظف وعندي مال، لكن من الصعب أن أذهب إلى أبي، وأقول: يا أبي أنا كنت أسرق منك، أو مثلاً: موظف في شركة يستحي أن يقول لمدير الشركة: أنا قد سرقت من الشركة، فكيف هذا؟ فيقول أهل العلم: لا يجب عليه الذهاب والمصارحة وإنما يرده إليهم بطريقة حتى لو لم يعلموا، مثلاً: يذهب إلى جيب أبيه فيضع فيه المبلغ الذي سرقه ولو أراد أن يضعه على مراحل حتى لا يكتشفه الأب فهذا ممكن، أو مثلاً: يذهب إلى الشركة يقول: إن فلاناً واحد من الناس لا يريد ذكر اسمه -وهو يعني نفسه- قد سرق منكم والمبلغ هذا وأنا الآن أرده بالنيابة عنه، أو إنه أعطاني إياه لأرده إليكم، فخذوه، أو أرسله بظرف مختوم، أو أي شيء آخر بطريقة من الطرق فهذا حسن، إذا كان لا يستطيع أن يقول لهم: سرقت منكم، فالمهم الآن هو إرجاع الحق لأصحابه، أو مثلاً: شركة مساهمة، كيف يذهب ويدور على المساهمين يعتذر منهم واحداً واحداً؟ هذا أمر صعب، فالمهم الآن أن يرجع المال المسروق إلى الشركة بطريقة من الطرق.
ولو غصب مالاً، شخص غصب مال أيتام وأخذه بالقوة فاتجر به وربح ونما المال، فماذا عليه؟ بعض العلماء يقولون: النماء للمالك الأصلي، وبعضهم يقولون: النماء للمنمي (السارق) وبعضهم يقول وهو القول الوسط: رأس المال يعني: المبلغ المسروق أو المغصوب الأصلي يرجع لصحابه مع نصف الأرباح، وهو يأخذ النصف الآخر، الغاصب يأخذ نصف النماء أو نصف الأرباح ويرجع رأس المال مع نصف الأرباح ونصف النماء إلى صاحب المال الأصلي للتوبة، وهو رواية عن أحمد واختيار شيخنا رحمه الله يعني: يقصد ابن تيمية، وهو أصح الأقوال.
وهذا مثل شخص غصب ناقة أو غصب شاة فأنتجت أولاداً فإنه يردها ونصف أولادها إلى صاحب المال الأصلي، لو ماتت هذه المغصوبة مثلاً الناقة أو الشاة، فيدفع ثمنها مع نصف النتاج إلى صاحب المال الأصلي، وهذا أيضاً ما ذكره الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله في هذه المسألة، يرجع أصل المال ونصف النماء.
وإذا ما وجد الرجل صاحب الشركة أو الرجل المغصوب قد مات، فهذه الأموال لمن ترجع؟ ترجع إلى الورثة، وإن مات الورثة فإلى ورثتهم، فالحق باقٍ.(207/32)
حكم الأموال المحرمة حين يتعذر إرجاعها
ومن الفتاوى في هذه المسألة: غلَّ رجل من الغنيمة، جيش غزا وواحد من الناس أخذ من الغنيمة قبل أن تجمع وتقسم، سرق من الغنيمة ثم تاب فجاء بما غله إلى أمير الجيش، فأبى أن يقبله منه، وقال: كيف لي بإيصاله إلى الجيش، أمير الجيش قال: لا.
هذه القصة حصلت أيام السلف، قال أمير الجيش: كيف آخذه وقد وزعنا الغنائم؟ ولو وزعته الآن كيف أجمع الجيش مرة أخرى وقد تفرقوا وأوزعه عليهم؟ وربما كان شيئاً لا يتوزع، فرفض أخذه، فأتى هذا الشخص الذي غلَّ أتى حجاج بن الشاعر، فقال له هذا الشيخ: يا هذا إن الله يعلم الجيش وأسماءهم وأنسابهم فادفع خمسه إلى صاحب الخمس وتصدق بالباقي عنهم، تصدق عنهم وانو هذه الصدقة لأفراد الجيش، ففعل فلما أخبر معاوية قال: لأن أكون أفتيتك بذلك أحب إلي من نصف ملكي، يعني: من شدة ما أعجبه من الفتوى.
وقال ابن القيم رحمه الله: ولقد سئل شيخنا أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه، سأله شيخٌ فقال: هربت من أستاذي وأنا صغير -ما معنى أستاذي؟ أستاذي كانت تطلق على مالك العبيد أو صاحب العمل أو رئيس الخدم في الماضي، من إطلاقاتها، وأيضاً تطلق على العالم الكبير، ولذلك الشافعية عندهم أبو إسحاق يلقب بالأستاذ عند الشافعية- فقال: هربت من أستاذي وأنا صغير، وإلى الآن لم أطلع له على خبر، -عبد هرب من سيده، الآن كبر وصار عمره خمسين أو ستين سنة ويريد أن يتوب، لكن ما وجد السيد، بحث عنه فلم يجده كيف يكون- وأريد براءة ذمتي وقد خفت الله عز وجل، وأريد براءة ذمتي من حق أستاذي من رقبتي، يعني: أنا ما زلت ملكاً له، وقد سألت جماعة من المفتين فقالوا لي: اذهب فاقعد في المستودع -ما دمت لم تجده- فاذهب اجلس هناك، فضحك شيخنا ابن تيمية رحمه الله، وقال: تصدق بقيمتك أعلى ما كانت عن سيدك، ولا حاجة لك بالمستودع تقعد فيه عبثاً في غير مصلحة، إضراراً بك وتعطيلاً عن مصالحك، ولا مصلحة لأستاذك في هذا ولا لك ولا للمسلمين، أو نحو هذا الكلام.
ولو أن زانيةً أخذت أموالاً على الزنا أو مغنياً أخذ أموالاً على الغناء، أو بائع خمر مثلاً، أو رجلاً يتاجر بالمخدرات أخذ أموالاً على تجارته، أو شاهد زور أخذ مقابلاً، فهل هذه الأموال أموال حلال أم حرام؟ إنها حرام، فإذا كانت معهم الآن فيجب عليهم إخراجها، يتخلصون منها.
وهل ترجع الزانية للزاني ماله؟ والذي اشترى الخمر يرجع إلى تاجر الخمر ماله؟ والذي شهد الزور يرجع للذي رشاه حتى يشهد الزور ماله؟ وهل يرجعون المال إليهم؟
الجواب
لا.
أولاً: فيه إعانة لهم على المعصية.
ثانياً: جمعوا لهم بين العوض والمعوض وهذا غير ممكن.
فلذلك ماذا يفعلون به؟ يتصدقون به، ويتخلصون منه.
ولو أن إنساناً اختلط ماله الحلال بماله الحرام وتعذر عليه تعيينه فإنه يقدر كم الحرام هل بقدر خمسين بالمائة من المال أو ثلاثين بالمائة أو عشرين بالمائة ويتخلص منه.
وإذا قم مرتش بأخذ رشوة، فينظر هل أخذها والراشي له حق أو أنه ليس له حق؟ فإن كان للراشي حق ولا وسيلة لتحصيل الحق إلا دفع الرشوة فدفعها، والآن المرتشي تاب فماذا يفعل بالمال؟ يعيده إلى صاحبه، لأنه دفعه مرغماً في تحصيل حق له، فإن كان المرتشي قد أخذ المال من الراشي بغير حق، يعني: الراشي ليس له حق ودفع رشوة لتحصل مكاسب، فهل يعيده إليه؟ لا.
وإنما يتصدق به.
هذه طائفة من الأحكام المتعلقة بالتوبة لعلها تكون قد أجابت عن بعض الأسئلة في أذهان بعض الإخوان، وعلى العموم نسمع الآن بعض الأسئلة.(207/33)
الأسئلة(207/34)
بطلان أسباب التردد في التوبة
السؤال
يقول بعضهم: إنه قد وقع مع بعض أصدقاء السوء في بعض الفواحش، وأنه يتردد في التوبة لسببين: الأول: الخوف من هؤلاء الأصدقاء.
الأمر الثاني: أنه يلتذ بالمعاصي ويشعر بعدم استغنائه عن أصدقائه ويقول: إنه يأنس بهم ويرتاح إليهم، لا لشيء إلا لمجرد المعصية التي تقع بينهم، فما رأيكم في كيفية التخلص في مثل هذا؟
الجواب
الحمد لله، هذا السؤال يا أخي فيه غرابة، شخص يريد أن يتوب بصدق وهو يقول بلسانه يمنعني من التوبة أني ألتذ بالمعصية، وأني جالس مع هؤلاء لأني ألتذ معهم بالمعصية؟! فإذا كنت تلتذ معهم بالمعصية يجب عليك أن تكره هذا الأمر وتنفر منه نفوراً شديداً، بعض السلف يقولون: إذا رأيت امرأة فأعجبتك فتذكر مناتنها، يعني: فلو رأى شخص امرأة فنظر في السوق نظرة من نظرات إبليس، فرأى امرأة فأعجبته فليتذكر على سبيل المثال عرقها ووخمها والخارج منها من السبيلين ويشغل باله فيه، وهذا سيذهب الأثر بالكلية، صحيح، تأمل مناتنها كما قال بعض السلف: إذا رأيت امرأة فأعجبتك فتذكر مناتنها، فعليك أن تطبق هذا، لو أنك -لو سمح الله- وقعت على نظرة، ثم تذكرت مناتنها، لنفرت منها، أو فاحشة اللواط، أصحاب الفطرة السليمة لاشك أنه سينفر، فإذا بدأ يكره المعصية، هذا بداية التصحيح، بداية طريق التصحيح أن تكره المعصية لا أن تلتذ بها ثم تقول: أريد أن أتوب، وعلى العموم: المسألة هكذا أو هكذا تحتاج إلى مجاهدة.
النقطة الأخرى يا أخي: قاتل مائة نفس ماذا قال له العالم؟ واذهب إلى بلدة كذا وكذا فإن فيها أناساً صالحين يعبدون الله فاعبد الله معهم، لم يقل له: اجلس في الوسط السيئ، فلا يمكن أن تتوب وأنت جالس في الوسط السيئ وأنت فلان زميلك وفلان زميلك وفلان، هم الذين يزينون لك الفاحشة، عليك أن تقطع علاقتك بهم نهائياً، لا تكلمهم ولا تسلم عليهم، وإذا اتصلوا بك فأغلق السماعة، إذا قاطعتهم هنا تكون البداية، أما أن تجلس في الوسط السيئ ثم تقول: كيف أتوب! هذا أولاً.
ثانياً: أنا ذكرت في بداية المحاضرة قلت: بعض الناس يضغطون على الشخص يقولون: لو تبت، لو خرجت من عندنا من وسطنا سننشر عنك وسنفضحك ونخبر الناس عن مخازيك وأفعالك، فالمؤمن لا يهمه كلام الناس مهما قالوا عنه وإن الله سيدافع عنه، ولذلك فإن عمر بن الخطاب كان يفعل ويفعل ثم تاب فتاب الله عليه، دع الأمور هذا خير لك يا أخي من أن تستمر في المعصية لأنهم سيضغطون عليك من نواحي ويعلمون الناس عنك بأشياء، فارجع إلى الله ولا عليك من هذه الضغوط، وأنت لو صبرت في البداية تنتهي المشكلة، اصبر عند الصدمة الأولى تنتهي المشكلة، مهما كلفتك الأمور فأقدم ولا يرهبك هذا الضغط الذي يمارسونه معك.(207/35)
نصيحة للموسوسين
السؤال
تكرر السؤال عن قضية الوسواس مثلاً: من ضمن الإخوة من يقول: أنا شاب ألتزم بحمد الله بالأوامر، لكن تواجهني عقبات منها أنه لا يخرج مني الريح إلا في وقت الصلاة مما يجعلني أتوضأ ثلاث مرات أو أربع، وأني مصاب بالسلس، ويقول: إني كلما أقبلت على طاعة أدخل الشيطان إلي باب النفاق؟
الجواب
بالنسبة للوسوسة هذا مرض، تكلم عنه ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان، وذكره ابن قدامة رحمه الله في رسالة مستقلة أيضاً عن الوسوسة وذم الموسوسين، وممن أعرف أنهم تكلموا عنه في هذه الأيام الشيخ سلمان العودة حفظه الله في شريط "رسالة إلى موسوس" فأنا أوجهك يا أخي إلى هذين الكتابين وهذا الشريط ولعل الله أن يبرئك مما أنت فيه.
وعلى العموم: هذه مسألة شديدة وخطيرة فبعض الناس فعلاً عنده وسواس يعني: غير وضوء الطهارة تصل إلى أشياء مضحكة أحياناً، يعني: بقضايا الطلاق بعض الناس يوسوس هل طلق زوجته أم لا؟ ويجلس يوسوس، هل قلت: طالق؟ وبعضهم يغلق أذنيه حتى لا يسمع كلمة طالق من كثرة الوسوسة التي في نفسه، يقول: أنا طلقت أم لا؟ ويغلق أذنيه يقول: حتى لا أسمعها، فهذا مرض نفسي ناتج عن أمور تتعلق بالإيمان ليست فقط قضية مرض نفسي، القضية هذه تتعلق بالإيمان والجزم والهمة والعزيمة التي ينتجها الإيمان.
وعليك أن ترجع إلى ما ذكرته لك من الأشياء.
وختاماً أيها الإخوة: قضية العلم الشرعي مهمة جداً في علاج كثير من المسائل، فأوصي نفسي ثم أوصيكم بتقوى الله عز وجل وطلب العلم الشرعي.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح وحسن الخاتمة وصلى الله على نبينا محمد.(207/36)
إطلالة على السيرة العمرية
لقد أخرج لنا هذا الدين أفذاذاً عرفهم التاريخ، منهم في عهد الصحابة ومنهم من كان في التابعين وتابع التابعين، بل إنهم يكادون يظهرون في كل عصر، ومن هؤلاء العظماء عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي انتشرت سيرته حتى أصبح يتكلم عنه الناس مسلمهم وكافرهم.(208/1)
إسلام عمر رضي الله عنه
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: إن هذا الدين لما نزل وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم للناس، وربى عليه من ربى من الناس، أخرج لنا أفذاذاً ورجالاً عرفهم التاريخ، وتكلم عنهم الناس مسلمهم وكافرهم، خلف هذا الدين رجالاً حملوا لواءه وحكموه في العالمين، وصاروا قدوات ومنارات يهتدي بهم من بعدهم، وإن من حق هؤلاء علينا أن نعرف سيرهم، ونبلو أخبارهم، أولاً لنعرف عظمة هذا الدين الذي أخرج هؤلاء الرجال، وثانياً: لأننا نقتدي بسلفنا، ونقتدي بأئمتنا، وهؤلاء الأئمة الأعلام منارات يهتدى بها في دجى الظلمات، ونعلم -أيضاً- بأن هذه النماذج يمكن أن تتكرر بدرجات أقل ولا شك إذا ما وجدت البيئة الإسلامية والتربية التي تصقل النفوس وتهذبها، فتغرس العقيدة وتصقل النفوس وتخلقها بأخلاق النبوة.
ولا شك أن شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه شخصية مثالية من الشخصيات العظيمة التي مرت في تاريخنا الغني الذي غفل عنه الكثيرون، وإن استرجاع سير مثل هذه الشخصية، يذكر الغافلين منا الذين خدعهم الغرب والشرق بسير عظماء عندهم؛ لو نظر الناظر لعرف أن واحدهم لا يخلو من انتهازيةٍ أو فسقٍ أو شرب خمرٍ، أو ظلمٍ أو بغيٍ وجور، ويبقى أعلام الإسلام لا يوجد لهم مثيل.
إن عمر رضي الله عنه كان في الجاهلية يعبد الأصنام، وكان يئد ابنته، ويفعل الأفاعيل، ويظلم الناس، وظلم المسلمين حتى قال سعيد بن زيد: [لقد رأيتني وإن عمر لموثقي وأخته على الإسلام] ولكنه أسلم وشاء الله أن ينتقل عمر من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام، فتغيرت الشخصية وانقلبت تمام الانقلاب، وكان لذلك بادرة، وما سيأتي من الأحاديث الصحيحة والحسنة في سيرة هذا الرجل تدل على جوانب من عظمته، لقد كان المسلمون يستبعدون إسلام عمر، حتى قالت أم عبد الله بنت أبي حثمة: [والله إنه لنرتحل إلى أرض الحبشة إذ أقبل عمر حتى وقف علي، وهو على شركه، قالت: وكنا نلقى منه أذىً لنا وشراً علينا، فقالت: فقال عمر لما رآهم يتأهبون للجلاء عن مكة: إنه الانطلاق يا أبا عبد الله! قالت: قلت: نعم.
والله لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجاً، قالت: فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقةً لم أكن أراها، ثم انصرف، وقد أحزنه فيما أرى خروجنا، قالت: فجاء عامر بن ربيعة فقلت له: يا أبو عبد الله! لو رأيت عمر آنفاً ورقته، وحزنه علينا، قال: أطمعتِ في إسلامه؟ قالت: قلت: نعم.
قال: لا يسلم الذي رأيتِ حتى يسلم حمار الخطاب] هل يسلم الحمار؟ قالها يأساً لما كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام، ولكن الله إذا أراد أن يهدي هدى، ولو كان الرجل أقسى الناس قلباً وأبعدهم عن الله، وهذا درسٌ للدعاة إلى الله عز وجل، ألا ييأسوا من الناس، ولو كان من يرون أمامهم من أغلظ الناس قلباً، لكن الله إذا أراد بعبدٍ خيراً هيأه له ووفقه له، ويسر الأسباب إليه، وهكذا حصل.
فلما أسلم عمر ونطق بالشهادتين كان إسلامه فتحاً ولم يكن إسلامه سراً، بل إنه قد جاء في الحديث الحسن بطرقه أنه لما أسلم قال: [أي قريشٍ أنقل للحديث؟ قيل له: جميل بن معمر الجمحي، قال: فغدا عليه عمر، قال عبد الله: وغدوت أتبع أثره أنظر ما يفعل وأنا غلام، أعقل كل ما رأيت حتى جاءه، فقال: أما علمت يا جميل! أني قد أسلمت ودخلت في دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رجليه فتبعه عمر وتبعت أبي، حتى إذا قام على باب المسجد - جميل المشرك الإذاعة- وقف على باب المسجد وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! -وهم في أنديتهم حول الكعبة- ألا إن عمر قد صبأ، قال: يقول عمر من خلفه: كذبت ولكن قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، فأعلنها صراحةً أمامهم، هذه العزة التي دخلت قلبه فأورثته هذه الصراحة وهذه الجرأة على الكفرة، إعلان المبادئ، قال: وثاروا عليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم، قال: وتعب وأرهق، فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركتموها لنا، قال: فبينما هم على ذلك، إذ أقبل شيخٌ من قريش وهو العاص بن وائل، فصرفهم عنه وإلا كانوا قتلوه].(208/2)
سعة علم عمر رضي الله عنه
لما أسلم عمر أعز الله به المسلمين وأذل الله به المشركين، وطاف المسلمون حول الكعبة لما أسلم عمر علانيةً جماعةً فأعز الله به الدين، أراد الله بـ عمر خيراً ففقه في دينه وعلمه وهو العليم سبحانه وتعالى، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في علم عمر وفقهه وفضله أحاديث جمعها العلماء، فمن ذلك أربعة ساقها الزهري في نسقٍ واحد، قد وردت في سياقات صحيحة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت لـ عمر أربعة رؤيا: رأيت كأني أُتيت بإناءٍ فيه لبن فشربت حتى رأيت الري يخرج من أناملي، ثم ناولت فضلي -ما بقي في الإناء- عمر، قالوا: يا رسول الله! فما أولت ذلك؟ قال: العلم، ورأيت كأن أمتي عليهم القمص إلى الثدي وإلى الركب وإلى الكعبين ومرَّ عمر يسحب قميصاً سابغاً من طوله، قالوا: يا رسول الله! ما أولت ذلك؟ قال: الدين، قال: ودخلت الجنة، فرأيت فيها قصراً أو داراً، فقلت: لمن هذا؟ قالوا: لرجلٍ من قريش، فرجوت أن أكون أنا هو، فقيل: لـ عمر بن الخطاب، فأردت أن أدخل فذكرت غيرتك يا أبا حفص! فبكى عمر، وقال: يا رسول الله! أويغار عليك؟ ورأيت كأني وردت بئراً، فورد ابن أبي قحافة فنزع ذنوباً أو ذنوبين ونزعه فيه ضعف والله يغفر له، ثم وردها عمر، فاستحالت غرباً فاستقى، فأروى الظمأة وضرب الناس بعطن، فلم أر عبقرياً نزع كنزعه) قال العلماء: هذا تأويل خلافة الشيخين، فإن أبا بكر استخلف سنة أو سنتين، فكانت خلافته قصيرة، وكان منشغلاً عن الفتوحات بحروب الردة، فلما جاء عمر صارت خلافته أطول، ففتح الله في عهده من الفتوحات، وأدخل الله من الناس في عهده في الإسلام ما لا يحصى من الخلق كثرةً، فنشر العدل في تلكم البلاد بعد أن أسس الصديق قاعدتها، فأعاد القاعدة وأبلى بلاءً حسناً، فمهد الطريق لـ عمر، فجاء عمر فولى الولاة وفتح الفتوحات، وأتى للمسلمين بالخير من عند الله.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل جعل الحق على قلب عمر ولسانه) هذا الهادي المهدي، الذي علمه الله، وهداه، وبالعلم يهتدي الإنسان للحق والصواب، فلابد من الاعتناء بالعلم والبحث عنه -يا أيها المسلمون! - وإن في اكتساب العلم هدىً، وإن العلم يهدي صاحبه في الظلمات، ويكشف له عندما يحتار، ويوقظه من المحرمات، ويجنبه الشبهات، فتعلموا هذا الدين يهديكم به الله.
فلما جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه، وافق ربه في آياتٍ نزلت من القرآن على ما قال عمر، فيما ثبت في الصحيحين: [وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى -نصلي وراءه- فنزلت: ((وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً)) [البقرة:125] وقلت: يا رسول الله! يدخل على نسائك البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة، حصل منهن كلام اشتدت وطأته على النبي صلى الله عليه وسلم، -يقول عمر - فقلت وهو يعظ أمهات المؤمنين ويزجرهن: ((عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ)) [التحريم:5] فنزلت كذلك].
تأملوا يا عباد الله: آية تنزل على كلام عمر، يلهم الله عمر أن يقول كلاماً، فتنزل الآية بألفاظ عمر وتصبح قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، وافق عمر ربه بأمور أخرى كذلك كما ورد في أسارى بدر وهكذا.(208/3)
هيبة عمر رضي الله عنه
كان عمر رضي الله عنه مهيباً، هيبة تفتقدها كثير من شخصيات المسلمين اليوم، لأن الله نزع منهم الهيبة، فلا يُهابون، ونزع الله من قلوبهم خوفه، فصاروا يخافون من الناس، كان عمر شخصية رفيعة يهابه الناس فيرتعدون منه، ومن ذلك ما حصل لما استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جواري قد علت أصواتهن على صوته، فأذن له عليه الصلاة والسلام، فبادرن الحجاب -هربن فذهبن- فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال: (أضحك الله سنك يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، ما الخبر، علام تضحك؟ قال: عجبت لجوارٍ كن عندي، فلما سمعن حسك بادرن فذهبن، فأقبل عمر عليهن من وراء حجاب فقال: أي عدوات أنفسهن، والله لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تهبن منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعهن عنك يا عمر! فوالله ما لقيك الشيطان بفجٍ قط إلا أخذ فجاً غير فجك).
هذا الرجل المهيب، هذا الرجل العظيم الشديد في دين الله، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام عن أصحابه: (أرأف أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم بأمر الله عمر) هذا الرجل الشديد المهيب لما تولى الخلافة ظهرت المعاني التي كانت مخبوءة في نفسه، معاني الشفقة والعفو والإحسان والرحمة، لقد كان رحيماً في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، لكن لما ولي الخلافة ظهرت رحمته أكثر، هذا الرجل الذي جمع في شخصيته بين الهيبة والرحمة، وبين الشدة في دين الله والرقة حتى كان يبكي عندما يتلو القرآن، ويمرض من قراءة القرآن الكريم أحياناً، فيعاد من مرضه الذي حصل بسبب تأثره بالقرآن.
ليست الهيبة -يا أيها الناس! - أن يكون الإنسان صلفاً فظاً غليظ القلب، ليست الهيبة أن يكون متعجرفاً قاسياً، وإنما الهيبة في مكانها محمودة، هذا الرجل الذي شهد التاريخ بفضله ورحمته لرعيته، هذه هي القيادة المثلى التي خلفها النبي صلى الله عليه وسلم من بعده من أصحابه.(208/4)
عمر والرعية
عندما يرى الإنسان حاله ويرى المسلمون واقعهم يشتاقون لخلافة مثل خلافة عمر، ويتوقون لقيادةٍ مثل قيادة عمر، الذي كان يخرج ليتفقد رعيته، قال أسلم: [خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى السوق، فلحقت عمر امرأة، فقالت: يا أمير المؤمنين! هلك زوجي وترك صبيةً صغاراً، والله ما يجدون كراعاً، ولا لهم زرعٌ ولا ضرعٌ، وخشيت أن تأكلهم الضبع، وأنا بنت خفاف بن إماء الغفاري -صحابي جليل- وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف معها عمر ولم يمض، ثم قال: مرحباً بنسبٍ قريب، ثم انصرف إلى بعيرٍ ظهيرٍ كان مربطاً في الدار، فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاماً وحمل بينهما نفقةً وثياباً، ثم ناولها البعير وما عليه، ثم قال: اقتاديه فلن يغني حتى يأتيكم الله بخير، فقال رجل: يا أمير المؤمنين! أكثرت لها، قال عمر: ثكلتك أمك، والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصناً زماناً فافتتحاه ثم أصبحنا نستفيء سهمانهما فيه.
لا ينسى لأصحاب الفضل فضلهم، هذه امرأة أبوها وأخوها من كبار المجاهدين، بسبب قتالهم غنم المسلمون وأكلوا، هذا الرجل هو الذي كان يخرج في الليل يعس على رعيته، قال أسلم: خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى حرة واقم (وهي الحرة الشرقية من المدينة) حتى إذا كنا بصرارٍ -مرتفع من الأرض- إذا نارٌ، فقال: يا أسلم! إني لأرى هاهنا ركباً قصر بهم الليل والبرد، انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فإذا بامرأة معها صبيان صغار وقدرٌ منصوبة على نار، وصبيانها يتضاغون -يصيحون ويبكون- فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء! -وكره أن يقول: يا أصحاب النار! هم يوقدون ناراً، وعمر ينتقي الألفاظ- قال: السلام عليكم يا أهل الضوء! فقالت: وعليك السلام، فقال: أدنو؟ فقالت: ادن بخيرٍ أو دع، فدنى، فقال: ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد، قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع، قال: فأي شيءٍ في هذه القدر؟ قالت: ما أسكتهم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر -تقول المرأة: والله بيننا وبين عمر - فقال: أي رحمك الله، وما يدري عمر بكم؟ -المرأة تقول: الله بيننا وبين عمر، نحن في الصحراء لوحدنا لا نجد طعاماً، وعمر يقول وهي لا تدري من هو: أي رحمكِ الله وما يدري عمر بكم وأنتم في هذه البقعة النائية؟ - قالت: يتولى عمر أمرنا ثم يغفل عنا؟ قال: فأقبل عليَّ، فقال: انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق -دار اتخذها عمر خاصة لتخزين الدقيق- فأخرج عدلاً من دقيق وكبةً من شحم، فقال: احمله عليَّ، فقلت: أنا أحمله عنك، قال: أأنت تحمل عني وزري يوم القيامة؟ لا أم لك، فحملته عليه، -الخليفة يحمل على ظهره، ويمشي والطعام على ظهره من المدينة إلى الحرة الشرقية، إلى المكان النائي الذي فيه المرأة، ويهرول من أجل الأولاد- فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها وأخرج من الدقيق شيئاً فجعل يقول لها: ذُري عليَّ وأنا أحرك لكِ، وجعل ينفخ تحت القدر -الخليفة منبطح على الأرض صدره في التراب ينفخ على الحطب حتى يشتعل- ثم أنزلها فقال: أبغيني شيئاً أسكب فيه، فأتته بصحفةٍ فأفرغها فيه، ثم جعل يقول لها: أطعميهم وأنا أطبخ لهم، فلم يزل حتى شبعوا، وترك عندها فضل ذلك -بقية الكيس- وقام وقمت معه، فجعلت تقول: جزاك الله خيراً، كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، فيقول: قولي خيراً إذا جئت أمير المؤمنين وحدثيني هناك إن شاء الله، ثم تنحى ناحية عنها -ابتعد ثم استقبلها ينظر إلى مكانها من بعيد- فربض مربضاً فقلنا له: إن لنا شأناً غير هذا، ولا يكلمني -يقول: لابد أن تكون الوقفة لهدف، وعمر لا يتكلم- حتى رأى الصبية يضطجعون، ثم ناموا وهدءوا، فقال: يا أسلم! إن الجوع أسهرهم وأبكاهم، فأحببت ألا أنصرف حتى أرى ما أرى] إسناده حسن.
هذا عمر في الرعية، هذا عمر في تفقده للمساكين وعطفه، هذا عمر ورحمته وإشفاقه بالرغم مما عنده من الشدة في دين الله، والهيبة التي كان يهابه بها الأقرباء والبعداء.
اللهم ارحم عمر واغفر له، وأعل شأنه وارفع درجته في المهديين.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يحب نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وممن يقتدي بنبيك صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واغفر لنا أجمعين وتب علينا يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(208/5)
وفاة عمر رضي الله عنه
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً.
لقد كانت وفاة عمر فاجعة، فُجع بها القريب والبعيد، كان عمر هو الباب الذي يدرأ عن المسلمين الفتن، فلما كسر الباب باغتيال عمر دخلت الفتن على المسلمين من كل جانب.
عن عوف بن مالك الأشجعي أنه قال: رأيت في المنام كأن الناس جُمعوا، فكأني برجلٍ قد صرعهم سوطهم بثلاثة أذرع -أطول من الجميع- قال: قلت من هذا؟ قالوا: عمر بن الخطاب، قال: قلت لِمَ؟ قال: إنه لا تلومه في الله لومة لائم، وإنه خليفةٌ مستخلف وشهيدٌ مستشهد، قال: فأتيت أبا بكر فقصصتها عليه، قال: فأرسل إلى عمر يبشره، فقال لي: اقصص رؤياك، فلما بلغ إلى خليفةٍ قال: زجرني وانتهرني، قال: تقول هذا وأبو بكر حي، قال: فسكت، فلما ولي عمر كان بعد بـ الشام مررت به وهو على المنبر فدعاني فقال لي: اقصص رؤياك، قال: فلما بلغت لا يخاف في الله لومة لائم، قال: إني لأرجو أن يجعلني الله منهم، وأما خليفةٌ مستخلف فقد والله استخلفني فأسأله أن يعينني على ما ولاني، قال: فلما بلغت وشهيداً مستشهد، وأنى الشهادة وأنا في جزيرة العرب، ثم قال عمر مستدركاً: يأتي الله بها أنى شاء، يأتي الله بها أنى يشاء.
ورأى عمر في منامه أن ديكاً ينقره نقرات، وكان لا يُدخل الأعاجم إلى جزيرة العرب، فدخل بعضهم متسترين بالإسلام، وكان من سياسة عمر، ألا يدخلهم، دخلوا فأقاموا، فكان منهم الحاقد الفارسي المجوسي أبو لؤلؤة الذي قال لـ عمر متوعداً: لأصنعن لك رحىً يتحدث بها الناس، فقال عمر: توعدني العبد، وبعد أيام اختبأ له وراء باب المسجد في الظلام في صلاة الفجر، فلما سجد عمر قفز عليه فطعنه في كتفه وخاصرته، فقال عمر: قتلني الكلب، ثم صمت، ثم سمع الناس قراءة ابن عوف وطار العلج في الناس -في صفوف المصلين- ينحر يميناً وشمالاً، فقتل ستة من الصحابة، وحمل عمر مطعوناً، وجعلوا يشربونه اللبن فيخرج من الجرح، فعلموا أن الأمر قد انتهى، فأوصى عمر ووعظ الناس وذكرهم بالله وانتقل إلى الرفيق الأعلى، في قصة مشهودة عظيمة جداً أخرجها الإمام البخاري في صحيحه.
كانت وفاة عمر شديدة الوطأة على القريب والبعيد، قال المسيب بن رافع: سار إلينا عبد الله بن مسعود سبعاً من المدينة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن غلام المغيرة أبا لؤلؤة قتل أمير المؤمنين عمر، قال: فضج الناس وصاحوا واشتد بكاؤهم، قال: ثم قال ابن مسعود: إنا اجتمعنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأمرنا علينا عثمان بن عفان، فأخبرهم الخبر والمكيدة، قال عبد الله بن مسعود: لقد أحببت عمر حباً حتى لقد خفت الله -من شدة حب عمر خفت الله- ولو أني أعلم أن كلباً يحبه عمر لأحببته، ولوددت أني كنت خادماً لـ عمر حتى أموت، ولقد وجد فقده كل شيءٍ حتى العضاة -شجرة الشوك-.
إن إسلامه كان فتحاً، وإن هجرته كانت نصراً، وإن سلطانه كان رحمة، ذلكم عمر ومناقبه كثيرة جداً وهذا شيءٌ قليل منها، والمقصود: أن لهؤلاء حقاً علينا في معرفة سيرهم، وإن هؤلاء منارات نقتدي بهم، وإن في تذكر هؤلاء سبباً لحنين المسلم إلى أيام الخلافة ورغبته في عدلٍ كعدل عمر، وقد طبق الأرض اليوم الظلم والجور، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيد للإسلام عزه، وأن يقيم الخلافة في أرجاء الأرض.
اللهم ردنا إلى الإسلام رداً جميلاً، اللهم اجعلنا ممن أقاموا الشريعة وعملوا بها، اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين في تحكيم شرعك يا رب العالمين، اللهم ارفع الظلم عن المظلومين، اللهم انصر من نصر الدين.(208/6)
الأذكار الشرعية بين الاهتمام والإهمال
أمر الله المؤمنين بالإكثار من ذكره، وحمده وشكره، وأخبرهم أن ذلك أكبر، وأثنى على مجالس فيها يذكر، وعلى من ذكره خالياً فاتعظ واعتبر.
تتمحور هذه المادة حول أسباب إهمال الأذكار، مع نقاش مستفيض عن كل سبب.
وقد اشتملت أيضاً على كثير من الأذكار الواردة في السنة، مع بيان فوائد الأذكار في الدنيا والآخرة، وأهميتها، وغير ذلك مما يتعلق بها.(209/1)
أثر الأذكار في تقوية الإيمان
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإن من عوامل تقوية الإيمان وتقوية الصلة بالله عز وجل ذكر الله تعالى، وما حصل الضعف والوهن في علاقتنا بالله تعالى إلا من وراء نسيان أسباب كثيرة، منها: إهمال الأذكار الشرعية التي شرعها الله لنا في كتابه، وعلمنا إياها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولأجل ذلك صارت الأذكار مجهولة منسية مهملة عند الكثيرين من المسلمين، ولأجل هذا صار درسنا هذه الليلة للتذكير بهذا الموضوع الذي نحتاج إليه جميعاً بلا استثناء.
وقد أمرنا الله عز وجل في كتابه بالإكثار من ذكره فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:41 - 42] وأخبر أن ذكره أكبر من كل شيء، فقال عز وجل: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، وأخبر بأنه سبب لطمأنة القلوب: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] وامتدح الله أقواماً من المؤمنين لأنهم {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] وهكذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه، وقال عليه الصلاة والسلام: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأرضاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: ذكر الله) فجعله مفضلاً في وجه العموم على الإنفاق وعلى الجهاد، يعني: أن جنس الذكر أفضل من جنس الإنفاق ومن جنس الجهاد، وهو وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كثرت عليه شعائر الإسلام: (لما شكا الرجل حاله قال: يا رسول الله! إن شعائر الإسلام قد كثرت عليَّ فأخبرني بأمر أتشبث به، قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله).(209/2)
ذكر المنفرد وذكر المجالس
والذكر من علامات الإخلاص، فإن الرجل الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه كان في ظل الرحمن يوم القيامة.
ومجالس أهل الذكر محفوفة بالملائكة، مغشاة بالرحمة، منزل عليها السكينة، مذكور أهلها عند الله، وهو سبب نجاة يونس عليه السلام، فلولا أنه كان من المسبحين -قبل الحوت وفي بطن الحوت- {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144].(209/3)
أثر الذكر في الوقاية من الشيطان
وهو سبب لفك عقد الشيطان ونجاة المسلم منها، فمثلاً: عند القيام لصلاة الفجر إذا ذكر الله انحلت عقدة، فإذا توضأ انحلت الثانية، فإذا صلى انحلت الثالثة.
وهذا الذكر حصن حصين إذا دخله العبد نجا من الشياطين إنسهم وجنهم، ولذلك لما جمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل كان مما قال لهم: وآمركم بذكر الله كثيراً، ومثل ذلك كمثل رجل طلب العدو سراعاً في أثره، فأتى حصناً حصيناً، فأحرز نفسه فيه، (وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى) حديث صحيح.
وقال عليه الصلاة والسلام: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت، أو مثل الحي والميت) وفي رواية لـ مسلم: (مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت)، (ما من ساعة تمر بابن آدم لا يذكر الله فيها إلا حسر عليها يوم القيامة) حديث صحيح، وليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت عليهم في الدنيا لم يذكروا الله تعالى فيها.
وهو أرجى عمل ينجي العبد من عذاب الله: (ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله) أنجى عمل ينجي الإنسان من عذاب الله، وأرجى عمل ينجي الإنسان من عذاب الله ذكر الله عز وجل.
وقال عليه الصلاة والسلام لرجل من الصحابة: (ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن غفر الله لك وإن كنت مغفوراً لك؟ قل: لا إله إلا الله العلي العظيم، لا إله إلا الله الحكيم الكريم، لا إله إلا الله سبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين) حديث صحيح.(209/4)
من أسباب إهمال الأذكار عدم معرفة فوائدها
فإذا جلسنا نتأمل الآن أيها الإخوة في الأسباب الباعثة للناس على إهمال ذكر الله عز وجل وعلى إهمال الأذكار الشرعية، فالأذكار الشرعية مهملة منسية عند كثير من المسلمين، لماذا؟ ما هو السبب؟ كيف نعالج الأمر؟ كيف نتدارك أنفسنا؟ من الأسباب أيها الإخوة: عدم معرفة فوائد هذا الذكر، ونستطيع أن نتوصل إلى حمل أنفسنا على ذكر الله بالأذكار العامة أو بالأذكار الخاصة، الأذكار العامة مثل: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)، (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنز الجنة) أذكار عامة، هناك أذكار خاصة عند النوم، وعند الوضوء، وفي السفر، وفي الصباح والمساء، وأذكار خاصة بمناسبات معينة، فكلا الأمرين صار فيهما غفلة، ينبغي أن نعرف أولاً فوائد الذكر، حتى نشعر بأهمية هذا الموضوع، فنستطيع أن نرتقي بأنفسنا منازل للأخذ بزمام هذه الأذكار، فلو لم يكن الذكر مهماً ما شدد عليه في القرآن والسنة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41] وأمر بالذكر في أصعب المواقف عند المعركة، إذا احتدمت الحرب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} [الأنفال:45].
وصدأ القلب الذي نحس به في كثير من الأحيان، هذه السحابة التي نحس بها تظلل قلوبنا في كثير من الأوقات، لا يقشعها إلا ذكر الله عز وجل بأنواعه، فالغفلة والذنب لا يزيلها إلا ذكر الله عز وجل، وهذا الران الأسود الذي يعلو القلوب لا يمكن أن يزال إلا بذكر الله عز وجل، وهناك أناس من الغافلين طبع الله على قلوبهم، قال الله في التحذير منهم: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] كيف تفارط أمره؟ لما أعرض عن أمر الله عز وجل: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28] هناك أيها الإخوة في المكاتب والمدارس والمستشفيات والقاعات المختلفة، والأروقة والدهاليز أناس كثيرون لا يذكرون الله، من الأغنياء، والرؤساء، والوجهاء، والكبراء أناس لا يذكرون الله، {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28] عاقبهم الله على إعراضهم عن شريعته بأن حرمهم من ألذ شيء للروح والقلب وهو ذكر الله عز وجل: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28] فأية عقوبة أسوأ من هذه العقوبة؟!(209/5)
ذكر ابن القيم لفوائد الذكر
وفي الذكر فوائد كثيرة، عدها ابن القيم رحمه الله تعالى وغيره: فمنها: أنه يطرد الشيطان.
ومنها: أنه يرضي الرحمن.
ومنها: أنه يزيل الهم والغم عن القلب.
ومنها: أنه يفرح القلب ويجعله مسرورا.
ومنها: أنه ينور الوجه.
ومنها: أنه من الأسباب الجالبة للرزق.
ومنها: أنه يورث القلب محبة الله عز وجل، ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره.
ومنها: أنه يجعل العبد منيباً إلى ربه، رجاعاً إليه، فيكون الله ملاذه وملجأه سبحانه وتعالى.
ومنها: أن الله يفتح للذاكر أبواب العلوم والمعارف، فيفقه في أنواع من العلم لا يفقهها بدون ذكر الله عز وجل، ولذلك كان الناس من الصالحين والعلماء يستعينون على فهم المسائل بذكر الله، والابتهال إليه، والتضرع عنده، والتذلل على أعتابه عز وجل، طالبين منه أن يفتح عليهم: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني.
بل إن الله أمر القضاة، أمر الناس الذين يفصلون في المسائل، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم إذا فصل في المسألة أن يقول: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ * وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} [النساء:104 - 105] لذلك قال أهل العلم: يشرع للقاضي إذا فصل في مسألة أن يقول بعد حكمه فيها: أستغفر الله.(209/6)
فائدة الذكر في تقوية القلب
ومن فوائده أيضاً: أنه يقوي القلب ويجرئه في مواجهة أعتى المواقف.
ولذلك ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم في قتال فارس والروم مع أنهم أعظم أجساماً وأقوى أسلحة وأكثر عدداً وعدة كيف صبر الصحابة أمامهم، ومع الكفار الفيلة، ومعهم أنواع من المنجنيقات وآلات الحرب لم يكن العرب يعرفونها أو يعرفون مثل عظمها؟ كيف ثبتوا أمامهم؟ {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} [الأنفال:45] فغلبوهم بإذن الله.
وذكر الله عز وجل يورث أن يذكرك الله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه).(209/7)
فائدة الذكر في علاقة العبد بربه
وكذلك فإن ذكر الله يزيل الوحشة بين العبد وربه، هذه الظلمة أو هذا البعد الذي نحسه أحياناً في علاقتنا بالله عز وجل هذا لا يزيله إلا ذكر الله تعالى، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن ما تذكرون من جلال الله عز وجل من التهليل والتكبير والتحميد يتعاطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل يذكرن بصاحبهن، أفلا يحب أحدكم أن يكون له ما يذكر به؟!) الناس يحبون في الدنيا أن يعملوا أعمالاً يذكرون بها بعد ذلك، وأهل الصلاح أيضاً يحبون أن يكون لهم ما يذكرون به في الدنيا وفي الآخرة؛ في الدنيا لكي يترحم عليهم الناس ألم يقل نبي الله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء:84] يذكرني الناس به، فيدعون لي فأزداد أجراً وثواباً، هذه الأذكار عند الله تحمي صاحبها في أوقات الشدة، في أهوال يوم القيامة، هذا التحميد، وهذا التكبير، وهذا التهليل، يكون عوناً لصاحبه في الشدائد يوم القيامة.
وكذلك فإن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ويأمن العبد من الحسرة يوم القيامة كما قدمنا بذكره لله في جميع الساعات، ومع أن الذكر باللسان حركته خفيفة لا يأخذ جهداً إلا أنه عند الله ثقيل جداً: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) كم تأخذ منك جهداً لتقولها؟ كم تأخذ منك وقتاً لتقولها؟ لكنها أثقل عند الله من الجبال الرواسي.
وكذلك فإن غراس الجنة ذكر الله، وقد جاء في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لقيت ليلة أسري بي إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) رواه الترمذي وهو حديث صحيح.
ولذلك: (من قال: سبحان الله وبحمده، غرست له نخلة في الجنة) كما ورد في الحديث الصحيح.
وكذلك فإن قسوة القلب كما قدمنا يذيبها ذكر الله كما جاء رجل إلى أحد السلف، فشكا إليه قسوة قلبه، فقال: أذبها بذكر الله.
أذب هذه القسوة بذكر الله.
وما استجلبت نعمٌ للعبد بمثل ما تستجلب بذكر الله، الأسباب الجالبة للنعم كثيرة، ومن أعظمها ذكر الله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] ورأس الشكر هو ذكر الله عز وجل.
وكذلك فإن ذكر الله يجعل للعبد الذاكر صلوات عليه من ربه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب:41 - 43] فأتى بهذه: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} [الأحزاب:43] بعد أي شيء؟ بعد الأمر بالذكر.
وكذلك فإن الله يباهي بالذاكرين الملائكة، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد قال: (خرج معاوية رضي الله عنه على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى، قال: آالله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحدٌ بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثاً مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى، ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: آالله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله تبارك وتعالى يباهي بكم الملائكة) ما هو المجلس أيها الإخوة؟ يذكرون الله تعالى ويتذكرون نعمة الله فيما من الله به عليهم من الهداية إلى الإسلام، ولذلك ينبغي أن يكون هذا الموضوع مما يكثر طرقه في المجالس، ذكر الله وحمده على نعمة الهداية إلى هذا الدين، أناس في غياهب الشرك يعبدون بقراً وحجراً ونجوماً وكواكب وأناساً وأصناماً وشياطين وجنا، وبعضهم وصل به إلى أن عبد فرج المرأة، أفلا تكون هذه النعمة العظيمة نعمة الهداية إلى الله للإسلام من الأمور التي ينبغي أن يكثر من طرقها في المجالس؟(209/8)
نيابة الذكر عن بعض التطوعات
وكذلك فإن دوام ذكر الله عز وجل ينوب عن التطوعات الكثيرة التي تأخذ جهداً ووقتاً، وتعوض الذي لا يستطيع أن يفعل بعض الأعمال فتعوضه، ولذلك ورد في الحديث الصحيح: (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموالهم -هم أغنياء يتصدقون، ونحن فقراء ليس عندنا ما نتصدق به، فحرمنا من أجر الصدقة، يحجون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون بالأموال- فقال صلى الله عليه وسلم: ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا أحد يكون أفضل منكم إلا من صنع ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة الخ).
وذكر الله يسهل الصعب وييسر العسير، ويخفف المشاق، وما ذكر عبد ربه في شدة إلا زالت، ولا مشقة إلا خفت، ولا كربة إلا فرجت، وهو الجالب للفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر، وبعد الغم والهم.(209/9)
فائدة الذكر في تقوية البدن
ومن فوائده: فذكر الله يعطي الذاكر بالإضافة إلى قوة القلب قوة في بدنه، وهذا ما استدللنا به قبل قليل على صمود الصحابة أمام الكفار، وهزيمتهم للكفرة مع أنهم أقوى أبداناً، وقال ابن القيم رحمه الله: وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في مشيته وكلامه وإقدامه وكتابته أمراً عجيبا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناس في جمعة أو أكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب -لما حارب التتار- أمراً عظيماً.
ومن الأدلة على أن الذكر يقوي الجسد: أن فاطمة وعلياً شكيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الضعف، فاطمة عليها شغل كثير في البيت، طلبت خادماً فعلمهما صلى الله عليه وسلم أن يسبحا ويهللا ويكبرا قبل النوم ثلاثاً وثلاثين يغنيهم عن الخادم.
فاستدل منه بعض أهل العلم على أن ذكر الله للمرأة التي تعمل في البيت تستفيد من هذا إذا كثر عليها الأولاد، ونظافة البيت والطبخ والغسيل، ونحو ذلك، فإن من أهم ما تستعين به على هذا؛ هذا التسبيح والتكبير والتهليل قبل النوم.
ولا أعظم من فوائد الذكر من أن يصدق الرب عبده حين يذكره، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إذا قال العبد: لا إله إلا الله والله أكبر، يقول الله تبارك وتعالى: صدق عبدي لا إله إلا أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده، قال: صدق عبدي لا إله إلا أنا وحدي، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال: صدق عبدي لا إله إلا أنا لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله له الملك وله الحمد، قال: صدق عبدي لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد، وإذا قال: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال: صدق عبدي لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي) هؤلاء أيها الإخوة من رزقهن عند موته لم تمسه النار.
وكذلك فإن ذكر الله يبعد عن مشابهة المنافقين، فإن من صفاتهم أنهم لا يذكرون الله إلا قليلا.(209/10)
شهادة الأرض للذاكر
ومن فوائده: أن تضاريس الأرض تشهد للذاكر عند الله عندما يذكر الله عندها، (فما من عبد يذكر ربه في سهل ولا جبل، ولا طريق ولا بقعة أرض في سفر ولا في حضر -في بيت أو خارج البيت، على أريكة أو كرسي أو على الأرض، قائماً أو قاعداً أو نائماً يذكر الله- إلا شهدت له هذه البقاع عند الله) ولو أنه صعد في الطائرة فذكر الله في ذلك الموضع لشهد له ذلك الموضع عند الله، ألم يقل الله عز وجل: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:1 - 5] وما هو تحديثها لأخبارها؟ (أنها تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول: عمل يوم كذا كذا وكذا) حديث حسن بشواهده، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ذهب من طريق يوم العيد رجع من طريق آخر، ولذلك أمر المسافر أن يكبر عندما يصعد ويسبح عندما ينزل، كل هذه المرتفعات والمنخفضات تشهد للذاكر عند الله.
ونختم هذه الفوائد المختصرة: أنه لو لم يكن في ذكر الله من الفائدة إلا أن يشغل اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة والقول بلا علم إلى غير ذلك من آفات اللسان لكان كافياً، أليس كذلك؟ عندما ينشغل الإنسان بذكر الله لا يشتغل بالمصائب والمعايب.(209/11)
فوائد الأذكار في الوقاية من الأمراض
وهناك فوائد كما قدمنا شرعية دينية، وفوائد بدنية للأذكار، فمثلاً: عندما يرى الإنسان مبتلى فيقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا، فعندما يرى مشلولاً أو أعمى، أو مجنوناً، أو معتوهاً، أو عجوزاً بلغ به الخرف كل مبلغ، أو أبرص، أو أي عيب من العيوب، فيقول: (الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا، لم يصبه ذلك البلاء) هذا من الفوائد الدنيوية.
ومثلاً: ذكر الله يحمي من صرع الجن، وعامة من يتلبس بهم الجان فيصرعهم، وتأتيهم نوبات الصرع من الذين كانوا غافلين عن ذكر الله، ويبعد تأثير السحر، وكثير من الناس في هذا الزمان انتشرت فيهم قضية الإضرار بالسحر، والتضرر به ويقولون: ماذا نفعل؟ ويلجئون إلى العرافين، والكهان والمشعوذين والدجالين ويقولون: ماذا نفعل؟ نقول: أين أنتم من ذكر الله؟ لو ذكرتم ربكم لذهبت عنكم هذه الآفات ولما حصلت بكم أصلاً.
ومن الفوائد أيضاً البدنية أو الدنيوية: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ما لقيت من عقربٍ لدغتني البارحة -لدغة عقرب شديدة- قال عليه الصلاة والسلام معلماً: أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك) انظر ما تضرك لدغة العقرب مع أنها طبياً مميتة قاتلة، لكن لو قلت حين أمسيت: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك) وقال عليه الصلاة والسلام: (من قال حين يمسي ثلاث مرات: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضره حمة تلك الليلة) الحمة: كل ما يلدغ ويؤذي من العقارب والحيات ونحوها، قال سهيل أحد السلف: فكان أهلها تعلموها -علمناها لأهلنا هذا الذكر- فكانوا يقولونها كل ليلة، فلدغت جارية منهم -بنت صغيرة- فلم تجد لها وجعاً حديث صحيح.
وانظر كيف تقرب الأذكار بين المسلمين فإن لها فوائد اجتماعية، فمثلاً: السلام ورد السلام، وما يقوله المسلم عند العطاس والرد على ذلك ورد العاطس بعده، وقول الرجل لأخيه: إني أحبك في الله، ورد أخيه عليه: أحبك الله الذي أحببتني فيه.
هذه الأشياء أيها الإخوة تقرب بين المسلمين، هذه من فوائد الأذكار.(209/12)
الأذكار فيها تفاعل الحواس مع الأحداث
وتأمل كيف أن الأذكار تجعل اشتراك الحواس قوياً فيها، ولذلك مثلاً: (إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكاً) فجاء الذكر بعد ماذا؟ بعد السماع.
(إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول)، من رأى مبتلى فقال كذا (إذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطاناً)، (إذا سمعتم نباح الكلب ونهيق الحمار بالليل فتعوذوا بالليل فإنهن يرين ما لا ترون)، عند سماع الرعد: يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك.
فإذاً: هذه الأذكار عبارة عن مشاركة عبارة عن تفاعل حواس المسلم مع ما يحدث يومياً من الأشياء، وهي ليست عبارة عن نصوص تقال فقط، وإنما بعض الأذكار عبارة عن ردة فعل من المسلم لما يراه أو يسمعه أو يحسه، فهذه نقطة مهمة جداً في الأذكار، إن الأذكار ليست نصوصاً تقال وتسمع فقط، أشياء روتينية، لا، وإنما بعض الأذكار عبارة عن تفاعل إحساس المسلم مع الأشياء التي تحدث حوله، فإذا رأى أو سمع أو أحس قال أذكاراً معينة، مالها وقت محدد، إذا حدث ذكر، وهذا يعني أن الأذكار توقظ في نفس المسلم الحس بذكر الله في الأحداث المختلفة، وتأمل أيضاً أن بعض الأذكار تقال في مواضع عجيبة، تدل فعلاً على أن شرعية الأذكار هذه شرعت لأجل إيقاظ حس المسلم، أول شيء يقوله الإنسان إذا قام من النوم، الموتة الصغرى أول شيء: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور) تقال الأذكار في مواضع بعض الناس يستغرب، مثلاً الذكر عند الجماع جماع الزوجة، وعند اشتداد شهوة الإنسان، يطالب بأن يقول: (بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) هذا موضع غريب يلفت الأنظار أن يكون في ذلك الموضع ذكر الله.
عند دخول الخلاء موضع غريب لكن يقول عند دخول الخلاء: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) فأنت إذا تأملت أيضاً المواضع التي تحصل فيها الأذكار فإنك تحس بأنها في أوقات مختلفة أحياناً لكونها في وقت معين وأحياناً لا يكون لها وقت معين، وفي أحوال مختلفة من الحزن والفرح والشهوة والغم والضعف والقوة والموت -الموتة الصغرى- والبعث منه ونحو ذلك.
هذه قضية واحدة: معرفة فوائد الأذكار تحمس المسلم وتدفعه للذكر.(209/13)
الجهل من أسباب إهمال الأذكار
ثانياً: إن كثيراً من المسلمين قد فرطوا في الأذكار وأهملوا فيها بسبب جهلهم بالأذكار، ببساطة لا يعرف ما هي الأذكار، لا يدري ماذا يقول، يقول واحد من الناس: والله لا أدري يا أخي ماذا أقول عند النوم إذا سألتني ماذا أقول عند النوم فإني لا أدري! لو قلت لي: ماذا تقول عند دخول المسجد؟ أقول لك: لا أدري، لو قلت لي: ماذا تقول عند الكرب والهم؟ أقول لك: لا أدري، فالجهل بها من أسباب الإهمال، ولذلك لا بد من تعلم الأذكار، لا بد من تعلم ماذا يقال في المناسبات المختلفة، وها نحن نعرض لكم بسرعة طائفة من الأذكار في مناسباتها المختلفة: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول المؤذن) وعندما يقول: حيّ على الصلاة، ماذا نقول؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا قال: الصلاة خير من النوم، ماذا نقول؟ الصلاة خير من النوم، (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول)، وعند الشهادتين إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله نقول: أشهد أن لا إله إلا الله (رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً.
من قالها غفر له ذنبه) حديث صحيح.
(من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت سيدنا محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة).
قبل الوضوء ماذا نقول؟ بسم الله (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) صحيح بشواهده.
وبعد الوضوء ماذا نقول؟ (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) وماذا أيضاً؟ (سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
من قالها وضعت في رق فختم عليه بطابع فيجعل عند الله -لا يكسر- إلى يوم القيامة ليجزي الله به صاحبه)، وعندما يكون المسلم في الخلاء يقول: بسم الله، في نفسه لا يجهر بها، وإذا نسي فوضوءه صحيح.
وعند دخول المسجد: (أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، إذا قالها العبد قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم)، وإذا دخل أيضاً المسجد يقول: (اللهم افتح لي أبواب رحمتك) وإذا خرج: (اللهم إني أسألك من فضلك).(209/14)
أذكار الصباح والمساء
وفي الصباح والمساء يقول أذكاراً كثيرة: عن خبيب قال: (خرجنا في ليلة مطيرة وظلمة شديدة نطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا، قال فأدركته، قال: قل، فلم أقل شيئاً، ثم قال: قل، فلم أقل شيئاً، قال: قل، قلت: ما أقول؟ قال: قل هو الله أحد، والمعوذتين حين تمسي وتصبح، ثلاث مرات تكفيك من كل شيء) اعتبرها مثل الدواء، وهي أعظم من الدواء، إن الناس يحافظون على الأدوية بمقاديرها وعدد مرات أخذها أكثر مما يحافظون على الأذكار بكثير، ويتفطنون للدواء الذي يعالج الجسد وقد لا يعالج الجسد، ولا يتفطنون لذكر الله الذي يعالج القلب والجسد.
ومن أذكار الصباح والمساء: سبحان الله وبحمده مائة مرة، سيد الاستغفار: (بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء) ثلاث مرات، (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ثلاث مرات، (اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت)، (أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) الخ، (اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السماوات والأرض رب كل شيء ومليكه أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أجره إلى مسلم)، (اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني ومن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي).
(لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت.
عشر مرات).
(إذا أصبح أحدكم فليقل: أصبحنا وأصبح الملك لله رب العالمين، اللهم إني أسألك خير هذا اليوم، فتحه ونصره ونوره وبركته وهداه -وفي رواية: فتحه ونصره وتأييده- وأعوذ بك من شر ما فيه وشر ما قبله وشر ما بعده) حديث صحيح.
عند النوم ماذا نقول؟ (باسمك اللهم أموت وأحيا) وإذا قام من النوم: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)، عند النوم قراءة المعوذات والنفث في اليدين ومسح الوجه والجسد بهما ثلاث مرات.
(التكبير أربعاً وثلاثين، والتحميد ثلاثاً وثلاثين، والتسبيح ثلاثاً وثلاثين، خير لكما من خادم) كما قال عليه الصلاة والسلام.
(باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين، رب قني عذابك يوم تبعث عبادك)، (اللهم اغفر لي ذنبي واخسئ شيطاني، وفك رهاني، وثقل ميزاني واجعلني في الندي الأعلى)، (اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها، لك مماتها ومحياها، إن أحييتها فاحفظها، وإن أمتها فاغفر لها، اللهم إني أسألك العافية)، (اللهم إني أسلمت وجهي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت).
إذا انتبه الإنسان من الليل استيقظ من الليل فجأة ماذا يقول؟ (من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا إلا استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته).(209/15)