الهمة في طلب العلم
وأخيراً من الهمم العالية في طلب العلم، وهي كثيرة جداً وننتقي بعض المقاطع: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هلم نسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير، قال: واعجباً لك يا بن عباس! أتظن أن الناس يحتاجون إليك وفيهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ترى؟! فتركت ذلك وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو نائم القيلولة، فأتوسد ردائي على بابه فتسفو الريح عليَّ التراب فيخرج فيراني فيقول: يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! ألا أرسلت إليَّ فآتيك، فأقول: أنا أحق أن آتيك فأسألك، قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليّ، فقال: هذا الفتى أعقل مني].
الهمة العالية تجعله يتوسد عند الباب في الظهيرة، هذا الرجل نائم وابن عباس عند الباب، والريح تأتي بالتراب ينتظر للمسألة العلمية.
وهذا عروة بن الزبير، فعن هشام عن أبيه أنه كان يقول لنا ونحن شباب: [مالكم لا تتعلمون؟ إن تكونوا صغاراً فيوشك أن تكونوا كباراً، وما خير الشيخ أن يكون شيخاً وهو جاهل، لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حجج وأنا أقول: لو ماتت اليوم ما ندمت على حديث عندها إلا وقد وعيته، ولقد كان يبلغني عن الصحابي الحديث فآتيه وأجده قد قال، فأجلس على بابه ثم أسأله عنه].
وكان عامر بن قيس التميمي مقرئاً يقرئ الناس القرآن فيأتيه ناس فيقرئهم القرآن، ثم يقوم فيصلي إلى الظهر، ثم يصلي العصر، ثم يقرئ الناس إلى المغرب، ثم يصلي ما بين العشاءين فينصرف إلى منزله، ثم يأكل رغيفاً وينام نومة خفيفة ثم يقوم إلى صلاته، ثم يتسحر رغيفاً ويخرج.
قيام وصيام وقراءة قرآن من الصباح إلى الليل.
أما سعيد بن عبد العزيز التنوخي قال: كنت أجلس بالغدوات لـ ابن أبي مالك وأجالس بعد الظهر إسماعيل بن عبيد الله وبعد العصر مكحولاً.
وأما القعنبي فقال أبو حاتم: ثقة حجة لم أر أخشع منه؛ كان إذا مر بمجلس القوم قالوا: لا إله إلا الله، ذكروا الله عز وجل، سألناه أن يقرأ علينا الموطأ، فقال: تعالوا بالغداة، فقلنا: لنا مجلس عند الحجاج بن منهال، قال: فإذا فرغتم منه؟ قلنا: فنأتي حينئذٍ مسلم بن إبراهيم، قال: فإذا فرغتم؟ قلنا: نأتي أبا حذيفة النهدي، قال: فبعد العصر؟ قلنا: نأتي عارماً أبا النعمان، قال: فبعد المغرب؟ فكان يأتينا بالليل، فيخرج علينا وعليه كبلٌ ما تحته شيء في الصيف، فكان يقرأ علينا في الحر الشديد حينئذٍ.
هذا يدل على أن أبا حاتم وأقرانه كانوا يطلبون العلم ويجلسون المجالس المتواصلة في ذلك.
وحدث بعض أهل العلم وهو ابن حبان عن بعض العلماء - ابن حبان يحدث عن نفسه- قال: لعلنا قد كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ، قال الذهبي: كذا فلتكن الهمم، هذا مع ما كان عليه من الفقه والعربية والفضائل الباهرة وكثرة التصانيف رحمه الله.
وقال محمد بن علي السلمي: قمت ليلة سحراً لآخذ النوبة على ابن الأخرم فوجدته قد سبقني ثلاثون قارئاً ولم تدركني النوبة إلى العصر.
وابن الأخرم كان له حلقة عظيمة بجامع دمشق يقرءون عليه من بعد الفجر إلى الظهر.
والطبري قال لأصحابه: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا، قالوا: كم قدره؟ قال: نحو ثلاثين ألف ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، قال: إنا لله! قد ماتت الهمم.
فاختصر ذلك في قرابة ثلاثة آلاف ورقة.
وأما السمعاني رحمه الله فإنه طوف البلاد وأخذ عن مشايخ لا يعدون، وذهب إلى أبي ورد وإسفرائين والأنبار وبخارى وبسطام والبصرة وبلخ وترمذ وجورجان وحماه وحمص وحلب وخسرو وجرج والري وسرخس وسمرقند وهمذان وهرات والحرمين والكوفة وواسط والموصل ونهاوند والمدائن ولم تكن هناك طائرات ولا سيارات ولا قطارات، وإنما المشي على الأرجل والدواب حتى دخل بيت المقدس والخليل وهما بأيدي الفرنج، حيث استخدم الحيلة وخاطر ودخل رغم أنها تحت احتلال النصارى.
السلفي الذي ذهب يطلب العلم وله أقل من عشرين سنة، ونسخ من الأجزاء ما لا يحصى، وكان ينسخ الجزء الضخم في ليلة، وبقي في الرحلة ثمانية عشر عاماً.
وأبو طاهر قال: بلت الدم في طلب الحديث مرتين؛ مرة بـ بغداد وأخرى بـ مكة، وقال: كنت أمشي حافياً في الحر فلحقني ذلك، وكنت أحمل كتبي على ظهري، وما سألت في الطلب أحداً -يعني: ما سأل أحداً مالاً- قيل: أنه كان يمشي في اليوم والليلة عشرين فرسخاً؛ والفرسخ تقريباً خمسه كيلو مترات.
وروي عن سليم الرازي قال: كان أبو حامد الإسفراييني في أول أمره يحرس في درب -لكن له همة عالية ولو كان يحرس في درب- وكان يطالع على زيت الحرس -يقرأ على مشاعل الحرس- وأفتى وهو ابن سبع عشرة سنة.
عطاء بن أبي رباح كان فراشه المسجد عشرين سنة.
الزهري جلس يتذاكر الحديث من بعد العشاء حتى أصبح، وعدد من السلف فعلوا ذلك.
الإمام مالك قَلَّ أن يصلي الصبح بوضوء جديد وإنما كان يصلي بوضوء العشاء تسعاً وأربعين سنة.
وكيع بن الجراح والإمام أحمد تذاكرا الحديث من العشاء إلى آخر الليل.
كان أسد بن الفرات يجلس عند محمد بن حسن الشيباني يتلقى منه الحديث، وكان ينثر في وجهه الماء -ينضح- لكي يصحو ويبقى منتبهاً في الدرس.
أحمد بن حنبل كان يذهب من قبل الفجر إلى مجلس الشيخ ليتبوأ مكانه، وكان يقول: من المحبرة إلى المقبرة.
كان البخاري يستيقظ عشرين مرة في الليل ليسجل ما يخطر له، يشعل السراج في كل مرة ويطفئه.
هذه هي الهمم العالية، هذا الحفظ، والعلم، والرحلة، والتأليف والتصنيف، وهذه المجالس، وهذا الحرص على الحضور.
هذه -أيها الإخوة- نماذج مما كان عليه سلفنا رحمهم الله في طلب العلم والهمم العالية فيه.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يقوي إراداتنا في طاعته، وأن يجعلنا من أصحاب الهمم العالية في سبيله مجاهدين وعلماء عاملين، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(150/21)
كيف نتعامل مع أخطاء الناس؟
إن الله سبحانه وتعالى خلق البشر وجعل من طبيعتهم الخطأ، وجعل من مهمتنا نحن المسلمين أن نعلم الناس ونبين لهم الخطأ من الصواب، وقد رغبنا الله عز وجل في أكثر من موضع في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في تعليم الناس الخير، وفي هذا الدرس يتعرض الشيخ لبعض الأساليب في تصحيح الخطأ والتعامل مع المخطئين.(151/1)
الخطأ من طبيعة البشر
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها؛ وكل محدثةٍ بدعة؛ وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
إخواني: سوف نتحدث عن موضوعٍ لا بد منه للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وهو موضوعٌ نافعٌ للدعاة إلى الله تعالى، ومهمٌ لكل من تحت يديه رعية من أبٍ، أو مدرسٍ، أو مديرٍ وما شابه ذلك.
إن الله سبحانه وتعالى خلقنا خطائين، فمن طبيعة البشر أنهم يخطئون (وخير الخطائين التوابون) وإن الله عز وجل جعل من مهماتنا نحن المسلمين أن نُعلِّم الناس، ورغبنا في ذلك، وقال نبيه صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير) والناس يخطئون، وتعليم المخطئين من وظيفة الأنبياء، والقرآن كان يتنزل بتصحيح الأخطاء، حتى مما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في مثل قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1]، ومما وقع من الصحابة في مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة:1]، ولما خاض بعض الناس في الإفك متجرئين على أعراض إخوانهم المسلمين، قال الله عز وجل: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور:14 - 17].
والنبي صلى الله عليه وسلم سار على نورٍ من ربه، ينكر المنكر ويصحح الخطأ، وقد سبق الحديث عن جزءٍ من هذا الموضوع، سوف نتكلم عن شيء منه -إن شاء الله- في هذه الخطبة؛ لنتعرف على المزيد مما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله مع المخطئ، ليكون في ذلك درساً وعبرةً لنا في التعامل مع المخطئين، إذ لا بد من وجودهم في المجتمع.(151/2)
كيفية التعامل مع المخطئين
.(151/3)
أولاً: إظهار الرحمة
إن من الأمور المهمة أيها الإخوة: إظهار الرحمة للمخطئ، كما جاء عن ابن عباس: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم قد ظاهر من امرأته فوقع عليها، فقال: يا رسول الله! إني قد ظاهرت من زوجتي، فوقعت عليها قبل أن أكفر) والله سبحانه وتعالى أمر بالكفارة قبل الوطء للمظاهر الذي يقول لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي، أو مثل أمي ونحو ذلك، فلا بد إذا أراد العودة إلى الزوجة لإتيانها أن يُكفِّر قبل إتيانها، والظهار خلقٌ ذميمٌ من أخلاق أهل الجاهلية، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وما حملك على ذلك يرحمك الله؟ قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به) رواه الترمذي، وهو حديث حسن صحيح.
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! هلكت، قال: ما لك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبةً تعتقها؟ قال: لا.
قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا.
قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا.
قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرقٍ -أي: زنبيل- فيه تمرٌ، قال: أين السائل؟ فقال: أنا.
قال: خذ هذا فتصدق به -هذا من رحمته وإعانته- فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟! فوالله ما بين لابتيها أهل بيتٍ أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك) إن هذا المستفتي لم يكن هازلاً، ولا مستخفاً بالأمر، بل إن تأنيبه وشعوره بخطئه واضحٌ من قوله: (هلكت) ولذلك استحق الرحمة.
وجاء في رواية أحمد مزيد توضيحٍ لحاله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن أعرابياً جاء يلطم وجهه وينتف شعره، ويقول: ما أراني إلا قد هلكت، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: وما أهلكك؟ قال: أصبت أهلي في رمضان) وفي الحديث أنه ذكر الكفارة له، وأعطاه إياها في آخر الحديث.(151/4)
ثانياً: المطالبة بالكف عن الخطأ
كذلك فإن من الأمور التي نتعامل بها مع المخطئ: أن نطالبه بالكف عن الخطأ فوراً وعدم الاستمرار فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع أو رأى خطأً طلب من المخطئ الكف عن الخطأ فوراً، فعن عمر رضي الله عنه أنه قال مرةً والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع: (لا وأبي -حلف بأبيه وكان ذلك من حلف أهل الجاهلية- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه -أي: اكفف اسكت عن هذه الكلمة- إنه من حلف بشيء دون الله فقد أشرك) رواه الإمام أحمد، وإسناده صحيح.
وعن عبد الله بن بشر، قال: (جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة)، وما أكثر ما يفعلونه في المساجد في خطب الجمعة! يأتي متأخراً ويريد أن يشق الصفوف (جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اجلس، فقد آذيت) آذيت الناس آذيت عباد الله آذيت المصلين آذيت المبكرين إلى الصلاة.
ولما تجشأ رجلٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (كف عنا جشاءك، فإن أكثرهم شبعاً في الدنيا، أطولهم جوعاً يوم القيامة) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه.
إذاً عندما أساء الأدب بحضرة الناس، أمره عليه الصلاة والسلام أن يكف عن هذا الفعل المشين.(151/5)
ثالثاً: الإرشاد إلى تصحيح الخطأ
كذلك لا بد أن نرشد المخطئ إلى تصحيح خطئه، كمحاولة لفت نظره إلى خطئه ليقوم بتصحيحه؛ كما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى رجلاً جالساً وسط المسجد، مشبكاً بين أصابعه يحدث نفسه، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم -أي: لينزع أصابعه- فلم يفطن، قال: فالتفت إلى أبي سعيد، فقال: إذا صلى أحدكم، فلا يشبكن بين أصابعه، فإن التشبيك من الشيطان، فإن أحدكم لا يزال في صلاةٍ ما دام في المسجد حتى يخرج منه) رواه أحمد، وقال الهيثمي: إسناده حسن، فإذا خرجت من بيتك عامداً إلى المسجد، وجلست في المسجد تنتظر الصلاة، فلا تشبكن في هذه الفترة.
وكذلك طالب النبي صلى الله عليه وسلم المسيء صلاته أن يعيد الصلاة؛ لأنه لم يأت بها على الوجه الشرعي.
إذاً من الحكمة في التعليم: طلب إعادة الفعل من المخطئ؛ لعله ينتبه إلى خطئه، فيصححه بنفسه، وإذا لم ينتبه وجب البيان والتفصيل، ووجب التوضيح عند ذلك.
وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام (لما رأى رجلاً توضأ، فترك موضع ظفرٍ على قدمه لم يمسه الماء، قال له عليه الصلاة والسلام: ارجع فأحسن وضوءك، فرجع ثم صلى).
ولما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه مقتحماً ولم يسلم ولم يستأذن، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارجع فقل: السلام عليكم، أأدخل؟) يعلمه الإتيان بالفعل على وجهه الشرعي، ثم إنه إذا كان في الإمكان استدراك الخطأ، فلا بد من ذلك؛ فعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجلٌ؛ فقال: يا رسول الله! امرأتي خرجت حاجةً وأنا اكتتبت في غزوة كذا وكذا، قال: ارجع فحج مع امرأتك) هذا الحديث رواه البخاري، وهو ردٌ على من قال: إنه يجوز للمرأة أن تسافر مع جماعة؛ لأن امرأة هذا الرجل لما خرجت حاجة، وبالتأكيد أنها لم تخرج لوحدها، بل خرجت مع جماعة الحجاج، والنبي عليه الصلاة والسلام نبه إلى أنه لا بد من وجود المحرم، ولذلك الرجل كان مسجلاً اسمه في المجاهدين، فقام ليستوضح الحكم، قال: أرسلتها للحج وأنا ذاهبٌ للجهاد، قال: (ارجع فحج مع امرأتك).(151/6)
رابعاً: مطالبة المخطئ إدراك ما أفسده
كذلك فإننا نطالب المخطئ بإصلاح ما أفسده لتدارك آثار خطئه، كما: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني جئت أبايعك على الهجرة، ولقد تركت أبوي يبكيان -يبكيان من ألم فراق الولد- فقال عليه الصلاة والسلام: ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما) ارجع وأصلح الخطأ، رواه النسائي وهو حديث صحيح، وكل الكفارات التي جاءت في الشريعة إنما هي لإصلاح آثار أخطاء يقع فيها هذا المخطئ المستوجب للكفارة.(151/7)
خامساً: العدل والإنصاف في الحكم على الخطأ
ثم إنه ينبغي على الداعية إلى الله، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إذا أصلح خطئاً في قولٍ أو فعلٍ في بقيته صحة، ألَّا يسارع إلى تخطئة كل القول وكل الفعل من باب العدل والإنصاف، وإنما ينكر موضع الخطأ فقط، ليكون موضوعياً عادلاً في إنكاره، ولذلك عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بيتاً وفيه جويريات -أي: بنات صغيراتٌ- ينشدن ويقلن أبياتاً في رثاء من قتل من المسلمين يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبيٌ يعلم ما في غدِ، فقال: (دعي هذه، وقولي بالذي كنت تقولين) رواه البخاري (دعي هذه) لا يعلم الغيب إلا الله، لا النبي ولا غيره (وقولي بالذي كنت تقولين) فأقرها على ما كانت تقول، وأنكر عيها موضع الخطأ فقط.
إن هذا الفعل يجعل المدعو يتقبل من الداعية؛ لأنه يراه منصفاً، لم يخطئه في كل شيء، وإنما يخطئه في موضع الخطأ فقط.(151/8)
سادساً: تقديم البديل
ثم إنه لا بد للدعاة إلى الله الآمرين الناهين أن يقدموا البديل الصحيح للناس ما دام ذلك ممكناً، فإن مجرد أن تقول: هذا حرام هذا خطأ، دون أن تبين البديل نقصٌ في الدعوة، ونقصٌ في الإنكار، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فلما سمع بعض الناس يقولون في التشهد في الصلاة: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان، وفي رواية: السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتم، أصاب كل عبدٍ صالح في السماء والأرض) فلا حاجة لئن تخص جبريل وميكائيل، فبمجرد أن تقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، تصيب بسلامك ذلك جبريل وميكائيل، وسائر الملائكة، وكل عبد صالح في السماء والأرض.
ولما جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمرٍ برني -تمر جيدٍ- قال: (من أين هذا؟ قال بلال: كان عندنا تمرٌ رديٌ، فبعت منه صاعين بصاعٍ) هذا ربا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يباع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح إلخ، مثلاً بمثلٍ، فمن زاد او استزاد فقد أربا، فلما أخبره بلال أنه باع صاعين بصاع، قال: لنطعم النبي صلى الله عليه وسلم، ما قصدت إلا الخير، بعت صاعين من تمرٍ رديٍ بصاعٍ من تمرٍ جيدٍ، فقال عليه الصلاة والسلام: (أوه عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري -هذا البديل- فبع التمر ببيعٍ آخر، ثم اشتره).
وكذلك إذا أراد إنسانٌ أن يستبدل ذهب زوجته، بعض الناس يعطي الذهب القديم، ويأخذ الذهب الجديد، ويدفع الفارق، (أوه) كلمة توجع (عين الربا لا تفعل) ولكن بع الذهب القديم واقبض النقود، ثم اشتر ذهباً جديداً من عنده، أو من عند غيره بنفس المال الذي معك، أو بأكثر، أو بأقل وهكذا يكون البيع الشرعي، وهناك فرق.
بعض الناس يقولون: هذا إجراء لا معنى له؟! لا.
بل له معاني، ولذلك إذا أردت أن تفعله، واختلف السعر عليك، فجربه وسترى ماذا سيقول البائع؟ أما إذا كان المبيع من غير الأصناف الربوية، كسيارة بسيارة مع دفع الفارق، وأرض بأرض مع دفع الفارق، فلا بأس بذلك، لأن الأراضي والسيارات ليست من الأصناف التي يجري فيها الربا، ولا يشترط فيها المماثلة ولا التقابض في مجلس العقد.
إن الإنكار دون تعليم البديل وتقديمه عيبٌ لا بد من تلافيه ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.(151/9)
سابعاً: تجنيب المخطئ معونة الشيطان
كذلك فإننا لا بد أن نجنب المخطئ معونة الشيطان، فلا نعين الشيطان عليه، ولذلك لا ندعو عليه، وإنما ندعو له: (فلما جيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر، أمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه -وفي رواية قال له رجل: أخزاه الله- فقال عليه الصلاة والسلام: لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم) إذا لعنته ودعوت عليه بالخزي، ماذا فعلت؟ أعنت الشيطان عليه، وفي رواية: قال: (لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان) وإنما ندعو له بالهداية، نقول: اللهم اهده مثلاً، وهكذا يكون الأمر عندما نجد مخطئاً مذنباً، فإننا ندعو له، اللهم إلا إذا كان مخطئاً معانداً مجافياً للحق، مصراً بعد البيان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على هذا المخطئ المعاند، كما جاء في صحيح مسلم في رجل أكل عند النبي صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال: (كل بيمينك.
قال: لا أستطيع -يستطيع لكن تكبراً- فقال: لا استطعت -دعا عليه بأن لا يستطيع- قال: فما رفعها إلى فيه)، وفي رواية: (فما وصلت يمينه إلى فمه بعد) أي: أصيبت يمينه بالشلل، فما استطاع أن يرفعها مطلقاً بعد ذلك، هذا المخطئ المعاند يدعى عليه بما يكف شره، ويعلمه درساً، ولعل تلك الآية التي رآها تكون سبباً في عودته إلى الحق وتوبته واستغفاره.(151/10)
ثامناً: بيان الخطأ المشترك
كذلك فإننا نواجه في الحياة أناساً يخطئون على أناس، يظلمونهم فلا بد أن يكون هناك موقفٌ جيدٌ من مثل هذا، وخصوصاً عندما يكون الخطأ مشتركاً، فلا بد أن نبين لهذا ولهذا، ولذلك روى عبد الله بن أبي أوفى، قال: شكا عبد الرحمن بن عوف خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا خالد! لا تؤذ رجلاً من أهل بدر، فلو أنفقت مثل أحدٍ ذهباً، لم تدرك عملهم، فقال خالد رضي الله عنه: يقعون عليَّ، فأرد عليهم، فقال: لا تؤذوا خالداً، فإنه سيف من سيوف الله عز وجل صبه الله على الكفار) رواه الطبراني، وقال الهيثمي: رجاله ثقات.
إذاً يبين حق هذا، ثم يبين حق الآخر، وعندما يخطئ إنسان على أخيه المسلم، فإننا نسعى إلى معاتبته وبيان حقوق الأخوة، ونعاتبه على خطئه.
عن أبي الطفيل عامر بن واثلة: (أن رجلاً مرَّ على قومه، فسلم عليهم، فردوا عليه السلام، فلما جاوزهم، قال رجل منهم: والله إني لأبغض هذا في الله، فقال أهل المجلس: بئس والله ما قلته، أما والله لننبأنه، قم يا فلان -لرجل منهم- فاخبره، فأدركه رسولهم، فأخبرهم بما قال، فانصرف الرجل الذي قيل فيه ما قيل، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! مررت بمجلسٍ من المسلمين فيهم فلان، فسلمت عليهم، فردوا السلام، فلما جاوزتهم، أدركني رجلٌ منهم، فأخبرني أن فلاناً قال: والله إني لأبغض هذا الرجل في الله، فادعه فسله علام يبغضني؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عما أخبره الرجل، فاعترف بذلك، وقال: قد قلت ذلك يا رسول الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلم تبغضه؟ قال: أنا جاره وأنا به خابر، والله ما رأيته يصلي صلاةً قط إلا هذه الصلاة المكتوبة التي يصليها البر والفاجر، فقال الرجل: سله يا رسول الله! هل رآني قط أخرتها عن وقتها، أو أسأت الوضوء لها، أو أسأت الركوع والسجود فيها، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: لا.
ما رأيته ينقص منها شيء، ثم قال: والله ما رأيته يصوم قط إلا هذا الشهر الذي يصومه البر والفاجر، فقال: يا رسول الله! هل رآني قط أفطرت فيه، أو انتقصت من حقه شيئاً؟ فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا.
ثم قال: والله ما رأيته يعطي سائلاً قط، ولا رأيته ينفق من ماله شيء في سبيل الله بخير إلا هذه الصدقة، -أي: الزكاة- التي يؤديها البر والفاجر، قال: فسله يا رسول الله! هل كتمت من الزكاة شيئاً قط، أو ماكست فيها طالبها؟ قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: لا.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم إن أدري لعله خيرٌ منك).
إذاً: إصلاح ذات البين ومعاتبة المخطئ على أخيه، ومناقشة ذلك لمعرفة السبب في البغض، ونحن كثيراً ما نخطئ على إخواننا، ونخطئ على الخدم المسلمين عندنا، ونغتابهم كثيراً وكثيراً، والقضية خطيرة، فإن رجلاً كان يخدم أبا بكر وعمر في السفر، فناما فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاماً، فقال أحدهما لصاحبه: (إن هذا لنئوم -فقط هذه العبارة، فأيقظاه، فقالا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام، وهما يستأدمانك -يطلبان الإدام- فقال عليه الصلاة والسلام لهذا الخادم: أقرئهما السلام، وأخبرهما أنهما قد ائتدما، ففزعا، فجاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسول الله! بعثنا إليك نستأدمك، فقلت: قد ائتدما، فبأي شيء ائتدمنا؟ قال: بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين أنيابكما، قالا: فاستغفر لنا: قال: هو فليستغفر لكما) وهذا حديث صحيح.
كم نغتاب الخدم؟ كم نغتاب الذين نتعامل معهم؟ ماذا قال هذان الشيخان الكريمان؟ قالا: إن هذا لنئوم -كثير النوم- واعتبرها عليه الصلاة والسلام غيبة، وطلب منهما أن يذهبا إليه ليستغفر لهما.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا هداةً مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(151/11)
تاسعاً: إظهار الضرر من الخطأ
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
إخواني: إن مما ينبغي علينا أن نبين للناس مضرة الخطأ إذا نصحناهم، والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى تفرق بعض أصحابه لما نزلوا منزلاً، قال: (إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان) فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض، حتى يقال: لو بسط عليهم ثوبٌ لعمهم، وذلك حتى لا ينزل بهم خوف من المشركين، أو يستدرج العدو بعضهم، ولا يكون في هذا التفرق إغراءٌ للعدو بهم، وانظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصف في الصلاة غير مستوٍ، قال عليه الصلاة والسلام: (لتسوون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم، فتقع بينكم العداوة والبغضاء) فينبغي إذاً أن نحرص على تسوية الصفوف، وأن نتراص كما تتراص الملائكة عند ربها، وأن يكون المنكب بالمنكب ليس هناك فرجات، دون إغلاظٍ على جارك في الصف من اليمين والشمال، فهذه المسألة مما وقع فيها الإفراط والتفريط، فبعض الناس يلتصق بصاحبه التصاقاً مؤذياً له، ويحشر نفسه في فرجةٍ ضيقةٍ في الصف، مؤذياً عباد الله، وهذا لا يجوز له أن يدخل فيها إذا كان ذلك يؤذي المصلين، ولا تتهيأ الفرصة، ولا يتحمل الوضع أن يدخل في هذه الفرجة، وبعض الناس يترك الفراغات، ولا يحب أحداً أن يلتصق به أبداً، ولا بد أن يبين للناس أن هذا لا يرضاه الله، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إني لأرى الشياطين تدخل من خلل الصف) الفراغات التي في الصف.
وقد يبتلى الإنسان برجلٍ في المسجد بلغ من الكبر عتياً، سيء الخلق جداً، فيأتي بحركات غريبة، قد يدفع هذا، أو يتكلم عليه بعد الصلاة بألفاظ نابية مع أن هذا مصلح يريد سد الفرجة، فيعامل بالحسنى، كبير السن الذي تغير خلقه لا بد أن نتحمله.
قيل لأحدهم: يا فلان! لماذا تنفر؟ لماذا تريد أن يكون بينك وبين الذي بجانبك شبرٌ؟ إن الشياطين تدخل من خلل الصف، قال: الشياطين أرحم منكم، ثم قال: الشيطان مات في فتح مكة، فإذا وجد هناك مثل هذا المسكين الذي يعتقد أن الشيطان مات في فتح مكة، وأن الشياطين أرحم من المؤمنين، فلا بد أن يكون هناك شيء من الرحمة واللين بمثل هذا الرجل، يعلم على قدر الاستطاعة، وإذا فقدنا الأمل في تعليمه، راعينا المفاسد حتى لا تتطور الأمور إلى الأسوأ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يظهر على وجهه الغضب إذا رأى خطأً، كما خرج على أصحابه وهم يختصمون في القدر، فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب؛ لأن القدر لا يجوز المماراة فيه.
وكذلك لما رأى في يد عمر بن الخطاب صحفاً من صحف أهل الكتاب، غضب عليه الصلاة والسلام، وقال: (أمتهوكون فيها يـ ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل، فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) حديثٌ صحيحٌ بطرقه، وله طرق كثيرة.
أيها الإخوة: إن تصحيح الأخطاء مسئولية عظيمة، ووراثة نبوية، وإن في هذه المناسبات المختلفة التي قيلت فيها وفعلت أساليب مختلفة من النبي عليه الصلاة والسلام تدلنا على أنه لا بد أن ننتقي الوسيلة المناسبة في كل مناسبة لإصلاح الخطأ فيها، ومن قاس النظير بالنظير والشبيه بالشبيه ممن عنده فقهٌ ووفقه الله اقتبس من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم ما يعينه في دعوته إلى الله.
نسأل الله تعالى أن يرحمنا برحمته، وأن يتوب علينا أجمعين، اللهم اعف عنا يا عفو، واغفر لنا يا غفور، وتب علينا يا تواب، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأرشد الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.(151/12)
كيف تكون عبدا شكورا؟
الله يوفق عباده للخير، ويثني عليهم في الملأ الأعلى، ويجازي الكافر في الدنيا على فعله الخير ويخرج من أدخله النار بأدنى مثقال ذرة من إيمان، وهذا من شكر الله لعباده ولكن كيف يشكر العباد ربهم؟ وكيف يكونون من عباد الله الشاكرين؟ وما هي معاني الشكر؟ وما الفرق بين الشكر والحمد؟ ومن أبرز من تكلم في هذا الموضوع؟ أسئلة جاءت إجاباتها في ثنايا هذه المادة.
وفي الأخير يجب أن يعلم أن الشكر نصف الدين، وأنه الغاية من خلق الخلائق.(152/1)
معاني شكر العبد لربه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فأحمد الله حمد الشاكرين، وأصلي وأسلم على نبيه صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، وقائد الغر المحجلين، وشفيعنا يوم الدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخواني: إن الاهتمام بالقلوب أمر مطلوب، كيف لا والقلب هو الملك الذي يملك الأعضاء، فبه تسير وبه تأتمر، والقلب له أعمال كثيرة، وتقوم به عبادات عظيمة، والمؤمن الذي يريد أن يسير إلى الله ينبغي أن يعتني بقلبه لكي يكون سيره حسناً.
ودرسنا في هذه الليلة: (كيف تكون عبداً شكوراً؟) كيف نكون جميعاً من عباد الله الشاكرين؟ ما هي الوسائل التي بها نكون شاكرين لله سبحانه وتعالى؟ أما الشكر فإنه في اللغة: ظهور أثر الغذاء في أبدان الحيوان، كما تقول العرب: شكرت الدابة إذا: سمنت وظهر عليها أثر العلف، وقد جاء في صحيح مسلم في حديث يأجوج ومأجوج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حتى إن الدواب لتشكر من لحومهم).
فالله تعالى يرسل عليهم ديداناً تقتلهم -يأجوج ومأجوج- وأن الدواب تأكل لحومهم حتى تسمن سمناً عظيماً، والشكر: هو الثناء على المحسن بما أعطاك وأولاك، فتقول: شكرته وشكرت له، والثاني أفصح، وقال الله سبحانه وتعالى: {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9].
والشكران ضد الكفران، والشكور من الدواب: ما يكفيه العلف القليل، ويقال: اشتكرت السماء إذا اشتد مطرها، واشتكر الضرع إذا امتلأ لبناً، فهذه معاني الشكر، وهي تدل على النماء والزيادة.
وشكر العبد لربه له عدة من المعاني: فعرفه بعض الناس: بأنه الاعتراف للمنعم بالنعمة على وجه الخضوع.
وقال بعضهم: هو الثناء على المحسن بذكر إحسانه.
وقال بعضهم: الشكر استفراغ الطاقة في الطاعة.
وقيل: الشاكر: الذي يشكر على الموجود، والشكور: الذي يشكر على المفقود.
وقيل: الشاكر: الذي يشكر على النفع، والشكور: الذي يشكر على المنع.
وقيل في الفرق بين الشاكر والشكور: أن الشاكر: الذي يشكر على العطاء، والشكور: الذي يشكر على البلاء.
والشكر من العبد لربه يدور على ثلاثة أشياء: أولاً: اعتراف العبد بنعمة الله عليه.
ثانياً: الثناء عليه سبحانه وتعالى بهذه النعم.
ثالثاً: الاستعانة بهذه النعم على مرضاة الله، فمدار شكر العبد لربه على هذه الثلاثة: الاعتراف، والثناء، والعمل بها في طاعته سبحانه وتعالى.
والشكر أيضاً: خشوع الشاكر للمشكور مع حبه له، واعترافه بنعمته، والثناء عليه بها، وألا يستعمل هذه النعم فيما يسخط الله، وإنما يستعملها فيما يرضي الله سبحانه وتعالى.
والشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح، ومن الأدلة على تعلق الشكر بالقلب الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة).
فالشكر إذاً: هو الاعتراف بإنعام الله سبحانه عليك على وجه الخضوع له والذل والمحبة.
فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلاً بها لم يشكرها، وكثير من الناس لا يعرفون نعم الله عليهم، ومن عرف النعمة ولم يعرف المنعم فكيف يشكره؟!! ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر لنعمة المنعم عليه فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم وأقر بها ولم يجحدها لكن ما خضع قلبه، ولا أحب المنعم، ولا رضي بالله المنعم فلا يعتبر شاكراً للنعمة، ومن عرف النعمة وعرف المنعم وخضع للمنعم، وأحبه ورضي به، واستعمل النعمة في محابه وطاعته فهذا هو الشاكر حقاً وهذا هو التعريف لشكر الله سبحانه وتعالى.(152/2)
الفرق بين الحمد والشكر
وقد يقول بعض الناس: ما هو الفرق بين الحمد والشكر؟!
الجواب
إن الشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح، تشكر الله بقلبك ولسانك وجوارحك، أما الحمد فإنه يتعلق بالقلب واللسان، فلا يقال: حمد الله بيده مثلاً، أو برجليه، أو بأي شيء من الجسد، إلا اللسان مع القلب فالحمد بهما، والشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، فللقلب معرفة الله المنعم وحبه، وللسان الثناء عليه وحمده سبحانه وتعالى، والجوارح استعمال هذه النعم فيما يرضي الرب عز وجل، فالشكر أعم من هذه، لكن الشكر يكون على النعم، والحمد يكون على النعم وعلى غيرها، فمثلاً: الله سبحانه وتعالى يحمد على أسمائه وصفاته وأفعاله ونعمه، لكنه يشكر على نعمه، فلا يقال: إنه يشكر على أسمائه وصفاته وإنما يحمد على أسمائه وصفاته، ومن هذه الجهة فالحمد أعم، فهذا هو الفرق بين الحمد والشكر.(152/3)
أنواع شكر الله لعباده
وأما الله سبحانه وتعالى فإن من أسمائه الشكور، وقد سمى نفسه شاكراً كذلك، فقال الله سبحانه وتعالى: {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} [النساء:147]، وقال: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن:17].
فالله عز وجل من أسمائه الشكور فهو يشكر عباده، فكيف يشكر عباده سبحانه وتعالى؟!(152/4)
توفيقهم للخير
إنه يشكرهم بأن يوفقهم للخير، ثم يعطيهم ويثيبهم على العمل به، والله عز وجل يشكر القليل من العمل ويعطي عليه ثواباً جزيلاً أكثر من العمل، والحسنة بعشر أمثالها وهكذا، فالله سبحانه وتعالى شكور حليم.(152/5)
ثناؤه عليهم في الملأ الأعلى
ويشكر عبده بأن يثني عليه في الملأ الأعلى، ويذكره عند الملائكة، ويجعل ذكره بين العباد في الأرض حسناً؛ كل هذا من شكر الله للعبد، فإذا ترك العبد شيئاً لله أعطاه الله أفضل منه، وإذا بذل العبد شيئاً لله رده الله عليه أضعافاً مضاعفة، ولما عقر نبي الله سليمان الخيل غضباً لله لما أشغلته الخيل عن ذكره، عوضه الله عز وجل بالريح؛ على متن الريح يكون سفره، وتحمل جنوده من الجن والإنس والطير، ولما ترك الصحابة ديارهم وخرجوا من الديار في مرضاة الله عوضهم الله ملك الدنيا، وفتح عليهم ملك فارس والروم، ولما تحمل يوسف الصديق ضيق السجن شكر الله له ذلك ومكن له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، ولما بذل الشهداء دماءهم وأموالهم في سبيل الله حتى مزق الأعداء أجسادهم شكر الله ذلك لهم، وجعل أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، وترد أنهارها، وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش.(152/6)
مجازاة الكافر عاجلاً على ما يفعل من الخير والمعروف
فالله شكور، ومن شكره سبحانه أنه يجازي العدو على ما يفعل من الخير والمعروف، فلو أن كافراً عمل في الدنيا حسنات؛ فكفل يتيماً، أو أغاث ملهوفاً فالله لا يضيع عمل الكافر فيجزيه بها في الدنيا من الصحة والغنى والأولاد ونحو ذلك من متاع الدنيا، حتى عمل الكافر من أعمال الخير لا يضيعها له، بل إنه يثيبه عليها في الدنيا، وقد جاء في الحديث الصحيح ما يثبت أن الله يشكر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (نزع رجلٌ لم يعمل خيراً قط غصن شوك عن الطريق -إما أنه كان في شجرة مقطعة فألقاه، وإما أنه كان موضوعاً فأماطه- فشكر الله له بها فأدخله الجنة).
حديث حسن.
وجاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلبٍ يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ بهذا مثل ما بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، ثم رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، فقالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم لأجراً، قال: في كل كبد رطبة أجر).
والله عز وجل يشكر عبده ويعطيه الأضعاف المضاعفة فهو المحسن إلى العبيد، والله سبحانه وتعالى قال: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} [النساء:147].
تأمل يا أيها المسلم! كيف أن شكر الله أنه يأبى أن يعذب عباده بغير جرم، ويأبى أن يجعل سعيهم باطلاً، قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} [الإنسان:22] فشكرهم على سعيهم، ولم يضع سعيهم، وجازاهم الجنة، وأعطاهم من أصناف الثواب ما أعطاهم سبحانه وتعالى.(152/7)
إخراج الله لمن دخل النار وفي قلبه أدنى مثقال ذرة من خير
ومن شكر الله للعبيد: أنه يخرج العبد من النار بأدنى مثقال ذرة من خير، ولا يضيع عليه هذا القدر، فلو تعذب العبد في النار ما تعذب وكان مؤمناً من أهل التوحيد ليس بكافر فإن الله يخرجه يوماً من الدهر من النار فيدخله الجنة، ولو كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، والله عز وجل شكر لمؤمن آل فرعون مقامه، الذي قام لله فجاهد وقال كلمة الحق عند سلطان جائر؛ فأثنى الله عليه بالقرآن ونوه بذكره بين عباده، وكذلك المسلم الذي أعان الثلاثة الأنبياء من أصحاب القرية لما جاءوا أصحاب القرية في سورة يس، فالله سبحانه وتعالى ذكره وشكر له مقامه، وشكر له دعوته في سبيله فجعل له من الثواب الجزيل على ذلك الموقف ما لا يعلمه إلا هو سبحانه، فهو الشكور على الحقيقة، وهو المتصف بصفة الشكر سبحانه وتعالى، والله عز وجل يرغب من عباده أن يتصفوا بموجب الصفات الحسنة التي وصف نفسه بها، والله عز وجل جميل يحب الجمال، عليم يحب العلماء، رحيم يحب الراحمين، محسن يحب المحسنين، شكور يحب الشاكرين، صبور يحب الصابرين، جواد يحب أهل الجود، ستير يحب أهل الستر، عفو يحب العفو، وتر يحب الوتر، وكذلك فهو سبحانه يكره البخل، والظلم، والجهل، وقسوة القلب، والجبن، واللؤم، وهو سبحانه وتعالى يحب من عباده أن يتصفوا بالصفات الحميدة الحسنة.(152/8)
الشكر نصف الدين وهو المراد من خلق العباد
أما الشكر فإنه نصف الإيمان، ونصفه الثاني هو الصبر، والله عز وجل جمع بينهما في كتابه، فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم:5].
فالصبر والشكر هما الإيمان، تأمل قوله صلى الله عليه وسلم: (عجبت للمسلم إذا أصابته مصيبة احتسب وصبر، وإذا أصابه خير حمد الله وشكر، إن المسلم يؤجر في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه).
وهذا هو مقتضى الحديث الصحيح الآخر: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير؛ وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكانت خيراً له).
فالإيمان إذاً نصفه صبر ونصفه شكر، فكيف يكون ذلك؟ إن الصبر عن المعاصي، وعما يغضب الله، وكف النفس عن ذلك هذا نصف الدين، والشكر وهو القيام بفعل المأمورات وهو نصفه الآخر، وهل الدين إلا أمر ونهي! وبلغ من منزلة الشكر، ومن عظمة هذه العبادة الجليلة أن الله سبحانه وتعالى جعل المراد من خلق الخلق أن يشكروه، فقال الله عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] فجعل ذكره وشكره هما الوسيلة والعون على الوصول إلى رضاه سبحانه وتعالى، وقسم الناس إلى شكور وكفور، وأبغض الأشياء إليه سبحانه أهل الكفر، وأحب الأشياء إليه سبحانه الشكر وأهله، قال الله تعالى عن الإنسان: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3]، وقال نبي الله سليمان: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]، وقد تعهد الله ووعد بالسيادة لمن شكر، فقال الله عز وجل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، والله سبحانه وتعالى يقابل بين الشكر والكفر في أكثر من موضع، فيقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، والله عز وجل علق كثيراً من الجزاء على مشيئته، فقال مثلاً: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة:28]، وقال: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام:41]، وفي الرزق قال: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:212]، وفي المغفرة قال: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [آل عمران:129]، وقال في التوبة: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة:27].
أما جزاء الشكر فقد أطلقه إطلاقاً ولم يعلقه بمشيئته، فقال سبحانه وتعالى: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:145]، وقال: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، لذلك لما عرف عدو الله إبليس قيمة وعظم الشكر تعهد أن يعمل ليحرف البشرية فيجعلهم غير شاكرين، فقال الله عن إبليس: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] ولذلك وصف الله سبحانه عباده الصالحين الشاكرين بأنهم الأقلون، وقال الله عز وجل: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، [ولذلك ذكر أن عمر سمع رجلاً يقول: اللهم اجعلني من الأقلين، فقال: ما هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين! قال الله عز وجل: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، وقال الله عز وجل: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، وقال الله عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24].
فقال عمر: صدقت].
وقد مدح الله سبحانه أبا البشرية الثاني -وهو نوح- بأنه شكور، فقال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء:3].
والدليل على أنه أبوهم الثاني قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77]، بعدما أغرق قوم نوح جعل ذرية نوح هم الباقين، فهو أبو البشرية الثاني.
وأمر موسى بأن يكون من الشاكرين، فقال: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144].
وأول وصية وصى الله بها الإنسان، قال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14].
ولذلك لما جاء لقمان يوصي ابنه قال له: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12] الحكمة التي آتاها الله للقمان أن يشكر الله، فعلم لقمان ولده من هذه الحكمة.
والله يرضى إذا شكره العباد، فقال: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7].
ومدح إبراهيم الخليل؛ لأنه شكر نعم الله، فقال الله عز وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} [النحل:120] أمة جماعة في واحد، أمة يأتم به: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * {شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:120 - 121].
فالشكر كما ذكرنا قبل قليل هو الغاية من خلق العباد، قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].
فلأي شيء خلقكم؟ ولأي شيء أخرجكم من بطون أمهاتكم؟: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].
ونبينا صلى الله عليه وسلم سيد الشاكرين وإمامهم صلى الله عليه وسلم، إنه عليه الصلاة والسلام كان يعبد ربه لكي يكون شكوراً لربه، ولذلك جاء في صحيح البخاري عن المغيرة قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبداً شكوراً) شكوراً لهذه النعمة، وهي أنه غفر لي ما تقدم من ذنبي، وجاء مثله أيضاً في صحيح البخاري عن عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تتفطر -تتورم وتتشقق- قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله! وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً.
فلما كثر لحمه صلى الله عليه وسلم صلى جالساً، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع).
ولكن كيف نكون من عباد الله الشاكرين؟ كيف نصل إلى منزلة العبد الشكور؟(152/9)
كيفية الوصول إلى منزلة العبد الشكور
نصل إلى منزلة العبد الشكور بأمور:(152/10)
العبادة
منها: هذه العبادة التي دلنا عليها صلى الله عليه وسلم.(152/11)
الدعاء
وكذلك: الدعاء.
وهذه الوسيلة الثانية.
أيها الإخوة: إن من وسائل الوصول إلى منزلة العبد الشكور: الدعاء، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول: (رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر هداي إلي، وانصرني على من بغى علي، اللهم اجعلني لك شاكراً -وفي رواية: شكاراً- لك ذاكراً، لك راهباً، لك مطواعاً، إليك مخبتاً، إليك أواهاً منيباً، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهدِ قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي) حديث صحيح.
وعلم معاذاً دعاءً عظيماً، فقال: (يا معاذ! والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ! لا تدع في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك).
فالوصول إلى منزلة العبد الشكور لا بد فيها من الاستعانة بالله والدعاء والالتجاء، وإلا فهي منزلة صعبة، وسليمان قال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ الآية} [النمل:19] فبدون المعونة من الله لا يمكن أن يصل الإنسان إلى منزلة العبد الشكور.
ومن الأمور التي ينبغي معرفتها: أن الشكر يحفظ النعم، قال الله سبحانه وتعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] فهو ليس فقط يحفظ النعمة وإنما يزيدها، ولذلك كانوا يسمون الشكر: الحافظ، يعني: الحافظ للنعم الموجودة والجالب للنعم المفقودة.
وقال عمر بن عبد العزيز: [قيدوا نعم الله بشكر الله].
وقال أيضاً: [الشكر قيد النعم].
وقال مطرف بن عبد الله: [لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر].
ومن الأشياء التي يبلغ بها العبد درجة الشكور: أن يحدث بنعم الله عليه، قال الله عز وجل: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11].
وتحديث العبد بنعمة الله عليه له عدة معانٍ: منها: أن يرى أثر النعمة عليك، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الصحابة: (إذا أنعم الله على عبدٍ نعمة فإنه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، كلوا واشربوا وتصدقوا في غير مخيلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده).
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو قشف الهيئة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (هل لك من مال؟ قال: نعم، قال: من أي المال؟ قال: من كل المال؛ قد آتاني الله من الإبل والخيل، والرقيق والغنم، قال: فإذا آتاك الله مالاً فليُر عليك).
وقد جاء في الحديث الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا آتاك الله مالاً فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته).
وقال في الحديث الصحيح الآخر: (إن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر النعمة عليه من غير سرف ولا مخيلة) لا اختيال ولا إسراف، أظِهر النعمة ولا تكتمها، لكن من غير إسراف ولا اختيال، لا تظهرها إلا بهذين الشرطين، (إن الله إذا أنعم على عبدٍ نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده).
ولذلك قال بعض السلف: [لا تضركم دنياً شكرتموها].
فلو أظهرت النعمة وأنت شاكر لها فإنها لا تضرك بإذن الله.
وقد ذم الله الكنود من العباد فقال: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً * إِنَّ الْإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:1 - 6].
قال بعض المفسرين: الكنود: الذي لا يشكر نعم الله، وقال الحسن رحمه الله عن الكنود: [الذي يعد المصائب وينسى النعم] إذا جلست معه قال لك: صار لي مصيبة كذا وكذا وكذا، ولا يحدث ولا يذكر شيئاً من نعم الله، كاتم لنعم الله، لا يحدث إلا بالمصائب والمعايب، ولا يقول: إن الله أعطاني كذا وأعطاني كذا، ومَنَّ علي بكذا، وآتاني كذا، كما جاء في وصف النساء التي جاء من أسباب دخولهن النار قوله صلى الله عليه وسلم: (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت منك خيراً قط) فلماذا دخلت النار؟ بترك شكر نعمة الزوج، فشكر نعمة الله أولى وأحق، فهذه التي تدخل النار بسبب كفران نعمة الزوج، فلأن يدخل العبد النار بكفران نعمة الله أولى، هذه المرأة من أسباب دخولها النار كفران نعمة الزوج؛ لأنها تنسى كل حسناته، وتقول: ما رأيت منك خيراً قط، ولا تذكر له إلا عيوبه، فالعبد إذا كتم نعم الله ولم يذكر إلا المصائب فهو أحرى بأن يدخل النار من المرأة التي تكفر نعمة زوجها؛ لأن الله هو المنعم الحقيقي، ولذلك جاء في الحديث: (التحدث بالنعمة شكر وتركها كفر).
ورأى بكر بن عبد الله المزني حمالاً عليه حمله وهو يقول: الحمد لله أستغفر الله، الحمد لله أستغفر الله، الحمد لله أستغفر الله، وهكذا، قال: فانتظرته حتى وضع ما على ظهره، وقلت له: أما تحسن غير هذا؟ -غير الحمد لله أستغفر الله- قال: بلى.
أحسن خيراً كثيراً أقرأ كتاب الله، غير أن العبد بين نعمة وذم، فأحمد الله على نعمه وأستغفره لذنوبي، فقال بكر: الحمال أفقه مني.
ولما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الجن سورة الرحمن وقرأها على الصحابة، فسكت الصحابة، فقال عليه الصلاة والسلام: (قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن رداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فَلَكَ الحمد).
فقهاء الجن قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد، يذكر لهم في سورة الرحمن كل شيء؛ أنه خلقهم، وأنزل لهم الميزان، وجعل لهم الأنهار والبحار، وجعل لهم السفن، وجعل لهم أشياء كثيرة جداً، وبعد ذكر كل نعمة يقول: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13].
والنعم كثيرة جداً، وشكرها ينساه كثير من الناس، وبعض المغفلين من الصوفية عندهم مبادئ عجيبة في هذا، حيث قال أحدهم: أنا لا آكل الخبيص؛ والخبيص: نوع من أنواع الحلوى، فقيل له: لماذا؟ قال: إني لا أقوم بشكره، فقال الحسن: "هذا أحمق، وهل يقوم بشكر الماء البارد؟! " ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك، ونروك من الماء البارد؟!) رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً، وهو حديث صحيح.
حتى الماء البارد الذي نشربه نعمة سنسأل عنها يوم القيامة، فكيف ننجو من تبعة السؤال؟ بأن نشكر نعم الله كلها ظاهراً وباطناً.
وكان أبو المغيرة -رجل من السلف - إذا قيل له: كيف أصبحت يا أبا محمد؟ قال: "أصبحنا مغرقين في النعم، عاجزين عن الشكر، تحبب إلينا ربنا وهو غني عنا، ونتمقت إليه ونحن إليه محتاجون " هو أحسن إلينا وهو غني عنا، ونحن نعصيه ونحن محتاجون إليه!.
وقال يونس بن عبيد: قال رجل لـ أبي تميمة: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بين نعمتين لا أدري أيتهما أفضل: ذنوب سترها الله علي فلا يستطيع أن يعيرني بها أحد، ومودة قذفها الله في قلوب العباد لا يبلغه عملي -أنا دون ذلك-.
(ودعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم، قال بعض الصحابة: فانطلقنا معه، فلما طعم وغسل يديه قال: الحمد لله الذي يُطعِم ولا يُطعَم، منَّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وكل بلاءٍ حسنٍ أبلانا، الحمد لله غير مودع، ولا مكافأ، ولا مكفور، ولا مستغنىً عنه، الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من الثياب، وهدى من الضلالة، وبصر من العمى، وفضل على كثير من خلقه تفضيلاً، الحمد لله رب العالمين) حسنه بعض أهل العلم.
هذه قضية مهمة؛ وهي قضية شكر النعم والتحدث بها دائماً، قال بعض الناس: نحن إذا تحدثنا بالنعم أصابنا الحسد والعين، فماذا نفعل؟ نقول: أولاً: إذا كان الذي أمامك معروف بالحسد فهذا لا يعني أنك تقول النعم التي جاءتك، وتستجلب حسده وإصابته لك بالعين؛ هذا إذا كان حسوداً، أما في الأحوال العادية الطبيعية فأنت تذكر نعم الله عليك.
ثانياً: إن الحسود والعائن إذا رآك تحمد الله على النعم العامة، تقول: الحمد لله على ما أنعم به عليَّ من جميع النعم؛ فإن هذا الشيء العام لا يستجلب العين والحسد.
ثالثاً: هناك أدعية تقي من العين والحسد؛ كقراءة المعوذات بعد الصلوات، وقبل النوم، وفي الصباح والمساء.
وكذلك فإن هناك بعض الأمور، مثل أن تكتم: (استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود) فيجب ألا نخلط بين شكر الله وحمده على النعم، وبين ذكر بعض الأشياء التي تستجلب الحسد عند العائنين أو الحساد إذا كانوا موجودين، فهل يلزم أن نشكر أمام الناس؟ أم أنه يمكن أن يكون الشكر سراً بينك وبين الله، لا يوجد حاسد ولا عائن؟ يمكن أن يكون بينك وبين الله، فإذا خلوت بنفسك فاحمد الله على نعمه، ولا يشترط أن تأتي بين الناس فتقول: عندي كذا مال، وعندي كذا شركة، وعندي كذا وكذا وفي المجلس من الحساد، لكن بين إخوانك وأصحابك فأنت تذكر نعم الله عليك، ثم إن هناك من النعم كما قلنا ما يستجلب الحسد في العادة والعين، فالله عز وجل لما قال لنبيه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8] قال له في آخر السورة: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ف(152/12)
معرفة أن الموفِّق للشكر هو الله
ومن أعظم الأشياء التي يكون بها العبد عبداً شكوراً: أن يراعي هذا المشهد كلما حمد الله وشكره، فالحمد والشكر نعمة من الله تستحق وتستوجب شكراً آخر وحمداً آخر، قال الشاعر:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة عليَّ له في مثلها يجب الشكر
فكيف وقوع الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر
إذا مس بالسراء عمَّ سرورها وإن مس بالضراء أعقبها الأجر
وما منهما إلا له فيه منةٌ تضيق بها الأوهام والبر والبحر
ودخل رجل على عمر رضي الله عنه فسلم فرد عليه السلام، فقال عمر للرجل: [كيف أنت؟ قال الرجل: أحمد إليك الله، قال: هذا أردتُ منك].
وعن ابن عمر قال: [لعلنا نلتقي في اليوم مراراً يسأل بعضنا عن بعض] ولم يرد بذلك إلا ليحمد الله عز وجل، أقول: كيف حالك؟ فتقول: الحمد لله، وتقول لي: كيف حالك؟ فأقول: الحمد لله، فيكون غرض السؤال أن كل واحد منا يستجلب لنفسه أو يدفع الآخر لحمد الله سبحانه وتعالى.
هناك بعض الناس عنده قناعة فعلاً فيحمد الله عز وجل، لو سألته: كيف الأحوال؟ قال: الحمد لله، لو كان خيراً قال: الحمد لله، ولو كان شراً قال: الحمد لله على كل حال، فهو دائماً يحمد الله، وبعض الناس إذا سألته كيف حالك؟ قال: بِشَرٍّ، ومصائب، وأمراض، وصار لي كذا، وصار لي كذا، ويعدد لك المصائب، ولا يذكر ولا شيء من نعم الله عليه؛ هذه النفسيات المشئومة المتشائمة!! هذه كيف تكون من الشاكرين؟! لا يمكن أن تكون من الشاكرين ولا أن تعد منهم.
ونذكر قصة زوجة إسماعيل التي أمره أبوه إبراهيم بطلاقها، لما جاء إبراهيم لدار ولده إسماعيل طرق الباب فخرجت له زوجة ابنه، قال: كيف عيشكم؟ قالت: نحن بشر، ونحن في ضيق، ونحن بكذا، والمرأة الثانية حمدت الله قال: أين إسماعيل؟ قالت: خرج يصيد لنا.
فإذاً: لما يُسأل الإنسان حتى لو كان مريضاً: كيف حالك؟ عليه أن يقول: الحمد لله، يحمد الله أن المرض ما كان أشد من هذا.
قال ابن عيينة: "ما أنعم الله على العباد نعمة أفضل من أن عرفهم لا إله إلا الله، وقال: وإن لا إله إلا الله في الآخرة كالماء في الدنيا".
وقال مجاهد في قول الله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20] قال: "لا إله إلا الله".
وقال بعض السلف في خطبة العيد: أصبحتم زهراً وأصبح الناس غبراً؛ أصبح الناس ينسجون وأنتم تلبسون، وأصبح الناس يعطون وأنتم تأخذون -أهل الذمة والكفار يرهبون المسلمين، ويعطون الجزية، والخراج- وأصبح الناس ينتجون وأنتم تركبون، وأصبح الناس يزرعون وأنتم تأكلون، فبكى وأبكاهم.
وقال عبد الله بن قرف الأزدي على المنبر يوم الأضحى ورأى على الناس ألوان الثياب الجميلة: يا لها من نعمة ما أشبعها، ومن كرامة ما أظهرها، ما زال عن قوم أشد من نعمة لا يستطيعون ردها، وإنما تثبت النعمة بشكر الله المنعم، فإذا شكرنا ثبتت النعمة.
وجاء رجل إلى يونس بن عبيد يشكو ضيق حاله، فقال له يونس: أَيَسُرُّكَ ببصرك هذا مائة ألف درهم؟ -هل يسرك أنك تفقد بصرك وتعطى مائة ألف درهم؟ - قال: لا.
قال: فبيديك مائة ألف؟ قال: لا.
قال: فبرجليك مائة ألف؟ قال: لا.
ثم ذكر له نعماً كثيرة، ثم قال له في النهاية: أرى عندك مئين الألوف وأنت تشكو الحاجة.
روي أن ملكاً من الملوك كان به داء لا يستطيع به أن يشرب الماء إلا بشق النفس، فكان إذا رأى عبداً من عبيده يشرب الماء يتجرعه تجرعاً -بسرعة- تحسر في نفسه.
وبعض الناس يبتليهم الله بأشياء، تمد أمامهم أنواع المطعومات فيقول أحدهم لك: لا آكل إلا هذا لأن هذا يأتيني بالسكر وهذا بأنواع الآفات التي تصيبه، وهذا ممنوع منه، وهذا محروم منه، وهكذا، فالإنسان أحياناً من ضيق العيش وقلة المال يحزن ويسخط، لكن لو فكر كما قال أبو الدرداء: [الصحة الملك].
فتأمل الناس بالمستشفيات وغيرهم من أصحاب البلاء وأنواع الأمراض -ونحن في عافية- فترى أن نعمة الله عظيمة، فلذلك ينبغي دائماً حمد الله وأن يجعل الحمد كله لله.
قال جعفر بن محمد: فقد أبي بغلة له، فقال: "إن ردها الله عليَّ لأحمدنه بمحامد يرضاها، فما لبث أن أوتي بسرجها ولجامها، فركبها، فلما استوى عليها وضم إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء، فقال: الحمد لله، ولم يزد على ذلك، فقيل له: أنت قلت كذا وكذا، قال: هل تركتُ وأبقيتُ شيئاً، جعلت الحمد كله لله: الحمد لله".(152/13)
نسبة النعمة إلى المنعم
ومن الأشياء التي توصل العبد إلى أن يكون عبداً شكوراً: نسبة النعمة إلى المنعم، لأن كثيراً من الناس إذا سئل عن هذا، قال: هذا باجتهادي، فإذا سئل عن ماله؟ قال: هذا بذكائي، وإذا سئل عن براعته؟ قال: هذا بحذقي، هذا بتجربتي، هذا بخبرتي، ولا ينسب النعمة إلى الله، فإذا أردنا أن نكون من عباده الشاكرين يجب أن ننسب النعمة إلى الله، ونرد الأمر كله إليه.
قال محمد بن المنكدر لـ أبي حازم: يا أبا حازم! ما أكثر من يلقاني فيدعو لي بالخير، ما أعرفهم، وما صنعت إليهم خيراً قط، قال أبو حازم: لا تظن أن ذلك من قبلك ولكن انظر إلى الذي من قبله جاءت النعمة هذه -أن وضع لك المحبة في قلوب الناس- فاشكره، ثم قرأ عليه قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96].
ومن هذا القبيل ما يقع إذا نزل المطر، قالوا: هذا بسبب النوء الفلاني، هذا بسبب النجم الفلاني، هذا بسبب الفصل الفلاني، فلم يذكروا الله، ولم ينسبوها إلى الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (ألم تروا ما قال ربكم؟ قال: ما أنعمت على عبادي من نعمةٍ إلا أصبح فريق منهم بها كافرين، يقولون: الكواكب وبالكواكب).
رواه أحمد ومسلم وغيرهما.
فإذاً من الأشياء التي توصلنا لأن نكون عباداً شاكرين أن ننسب النعمة إلى المنعم، فإذا جاء ذكرها قلنا: هذه من الله، قال الله عز وجل: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53].
وحمد الله على النعم له فضلٌ عظيم، وتأمل معي هذه الأحاديث: (ما أنعم الله على عبد نعمة فحمد الله عليها إلا كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة) (ما أنعم الله على عبد من نعمة -زوجة، ولد، مال- فحمد الله عليها إلا كان ذلك الحمد أفضل من النعمة) حديث حسن.
وفي لفظ آخر: (ما أنعم الله تعالى على عبد نعمة فقال: الحمد لله إلا كان الذي أعطي أفضل مما أخذ).
ونعمة الله من الأموال والجاه الولد والزوجة والمناصب ونحو ذلك كلها نعم تستوجب الشكر والحمد.
وبعض الناس يقولون: نحن محرومون من النعم، مثلاً: شخص ليس عنده وظيفة جيدة، ليس عنده دخل جيد، محروم من أشياء من الدنيا، هل يحمد الله على هذا؟
الجواب
نعم.
يحمد الله على هذا.
قال بعض السلف: لنعم الله علينا فيما زوى عنا من الدنيا أفضل من نعمه علينا فيما بسط لنا منها.
أي: كوننا حرمنا من النعم؛ من التوسعات الدنيوية، هذه بحد ذاتها نعمة، وذلك أن الله لم يرض لنبيه الدنيا، كان يتكئ على رمل، سريره من الرمل، ما رضي من عمر لما ذكر له كسرى وقيصر وما هم فيه من النعيم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على الرمل وقد تأثر جنبه، قال: (ألا ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟!).
فقال هذا الرجل من السلف: الأشياء التي حرمنا منها من الدنيا هذه نعمة لأن الله لم يرض لنبيه الدنيا، فأن أكون فيما رضي الله لنبيه- من قلة ذات اليد، وضيق العيش، وقلة المال- أحب إلي من أن أكون فيما كره له.
وقال ابن أبي الدنيا: بلغني عن بعض العلماء أنه قال: ينبغي للعالم أن يحمد الله على ما زوى عنه من شهوات الدنيا، كما يحمده على ما أعطاه، وأين يقع ما أعطاه الله والحساب يأتي عليه إلى ما عافاه الله ولم يبتله، يعني: لو أن الله عز وجل أعطانا أموالاً كثيرة فإنه سيحاسبنا عليها، ويصبح حسابنا عسيراً، لأن الأموال كثيرة فننشغل بها عن طلب العلم وعن العبادة، نجمع الأموال ونحزن إذا نقصت، هذا الحرمان لبعض الأشياء من الدنيا هو بحد ذاته نعمة؛ لأنه ربما لو أعطانا إياها لانشغلنا عن عبادته وذكره، وانشغلنا عن طلب العلم، والدعوة إلى سبيله سبحانه وتعالى.
وجلس ابن عيينة مرة مع سفيان يتذاكران نعم الله عليهما من الليل إلى الصباح، كل واحد يقول: أنعم الله علينا بكذا، وأنعم الله علينا بكذا، وأنعم الله علينا بكذا، وهكذا.
ولذلك فنحن دائماً ينبغي أن نتحدث بالنعم ونكرر ذكرها، ونشكر الله عليها، والأشياء التي حرمنا منها نشكر الله أن كان هذا قدرنا، ونسأل الله المزيد من فضله، ونسأل الله العفو والعافية الدائمة، ونحذر أشد الحذر من أن نكون من الذين استدرجهم الله، فإن الله عز وجل قال: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182] ومعناها: أنه كلما أحدثوا ذنباً أحدث لهم نعمة، وهذا هو الاستدراج، فيستدرجهم من حيث لا يعلمون، فيظنون أنهم على خير وعلى طريق سوي وهكذا.(152/14)
شكر الله على النعم بالنعم نفسها
وكذلك من الأسباب التي توصل العبد إلى مرتبة العبد الشكور: أن يشكر الله بالنعم التي أعطاه الله إياها، أعطاك مالاً فاشكره بالمال، وتصدق منه، أعطاك جوارح فاشكره بالجوارح، قال رجل لـ أبي حازم: ما شكر العينين يا أبا حازم؟ قال: "إن رأيت بهما خيراً أعلنته، وإن رأيت بهما شراً سترته، قال: فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعت بهما خيراً وعيته، وإن سمعت بهما شراً دفعته، قال: فما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقاً لله هو فيهما، قال: فما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفله طعاماً وأعلاه علماً، قال: فما شكر الفرج؟ قال: قال الله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7] ".
فبعض الناس يتصور أن الشكر فقط في اللسان، أن يقول: الحمد لله الحمد لله وينسى أن الأعضاء عليها واجبات من الشكر؛ لأننا ذكرنا في أول الحديث أن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، فبعض الناس يتصور أن الشكر فقط أن يقول: الحمد لله بلسانه، ثم لا يشكر الله بيديه، ولا بعينيه، ولا بأذنيه، ولا برجليه، فيمشي إلى الطاعات، إلى حلق العلم، يغيث ذا الحاجة الملهوف.(152/15)
سجود العبد لله شكراً عند تجدد النعمة
ومن الأسباب التي توصل العبد إلى منزلة العبد الشكور: أن يسجد العبد لله شكراً عند تجدد النعم، فقد جاء في الحديث الصحيح: (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه أمر يسره خر لله ساجداً شكراً له عز وجل).
إذاً هناك شيء مهم جداً في الموضوع ألا وهو سجود الشكر، فهو عبادة عظيمة تشترك فيها الأعضاء السبعة، ولما جاء إلى أبي بكر خبر قتل مسيلمة سجد لله شكراً، ولما عرف علي رضي الله عنه أن ذا الثدية في جيش الخوارج قد وُجد مقتولاً دلالة على أن هؤلاء هم فعلاً الخوارج الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم سجد لله شكراً.
وكذلك فإن سجود الشكر فيه تعبير عن حمد العبد لربه، فلو قال واحد: نحن دائماً نعيش في نعم؛ نحن لنا أعين وأبصار وآذان وأيدٍ وأرجل، نحن نتنفس، نحن لنا أصوات، وهناك من عنده سرطان في الحنجرة، هذا حباله الصوتية مشلولة، ونحن نتكلم، وهناك أناس لا يتكلمون، نحن نرفع أيدينا وهناك أناس لا يرفعون أيديهم، نحن نحرك الأصابع وهناك أناس أصابهم حادث فصاروا غير قادرين على تحريك بعض الأصابع؛ هذه كلها نعم، فهل يشرع أن نسجد دائماً؟
الجواب
لا.
لماذا؟ لأننا نتبع السنة؛ فالسنة السجود عند حدوث النعمة، تَجدد نِعمةٍ هذه التي نسجد لها لله، هذه هي السنة، فإن قال قائل: لماذا يشرع السجود عند النعمة المتجددة ولا يشرع السجود عند النعمة المستدامة؟ الجواب: لأن النعمة المتجددة تذكر بالنعمة المستدامة.
ثانياً: أن النعمة المتجددة تستدعي عبادة متجددة فلذلك كان سجود الشكر.
ثالثاً: إن وقوع النعمة وحدوثها يسبب للشخص نوعاً من فرح النفس وانبساطها فيجر إلى الأشرَ والبطر، افرض أن إنساناً جاءك، قال: لقد ربحتَ مائة ألف، ماذا يحصل في النفس؟ يحصل الفرح والانبساط، وهو ربما يجر إلى الأشر والبطر، فيأتي سجود الشكر لكي يطامن هذه النفس، ويظهر الذل والخضوع لرب العالمين، لأن السجود عبودية وذل وخضوع، فإذا جاءك خبر: ولد لك ولد فسجدت لله عز وجل انقلب الأشر والبطر الذي يمكن أن يحدث إلى ذل وخضوع وعبودية، وهنا تظهر فائدة من فوائد سجود الشكر.
وأهل الجهل والبطر إذا جاءهم نعمة يصيحون صياحاً من الفرح، وكذلك فإنهم يقعون في أنواع من المعاصي، لكن المسلم إذا تجددت له نعمة سجد شاكراً لله رب العالمين، والإنسان المسلم لو وقعت به مصيبة فإن تذكره أن هذه المصيبة -وهذه نقطة ذكرناها قبل قليل- هي أخف من الأعظم منها يدفعه إلى حمد الله وشكره، حتى المريض والمبتلى، ولذلك دخل أحد السلف على مريض يعوده فإذا هو يئن، فقال له: اذكر المطروحين على الطريق، اذكر الذين لا مأوى لهم، ولا لهم من يخدمهم، وهكذا.
وقال عبد العزيز بن أبي رواد: رأيت في يد محمد بن واسع قرحة فكأنه رأى ما شق عليَّ منها - محمد بن واسع صاحب القرحة رأى أني تأثرت من منظر القرحة- فقال لي: أتدري ماذا لله عليَّ من هذه القرحة من نعمة؟ قال: لم يجعلها في حدقتي وعيني، ولم يجعلها في طرف لساني -أهون أنها صارت في يدي-.
ولذلك لا يوجد صاحب مصيبة تفكر في مصيبته إلا وجد أن فيها نوعاً من النعمة؛ أن الله ما قدر عليه مصيبة أكبر منها؛ فيحمد المؤمن الله على كل حال وعند تجدد الأحوال؛ ولذلك كان من الأدعية التي يقولها المسافر كما ورد في الحديث الصحيح: (سمع سامع بحمد الله ونعمه وحسن بلائه علينا، اللهم صاحبنا وأفضل علينا، عائذاً بالله من النار) هذا كان من قوله صلى الله عليه وسلم في السفر، إذا أصبح يقول: (سمع سامع بحمد الله ونعمه وحسن بلائه علينا، اللهم صاحبنا) يعني: كن صاحباً لنا في السفر، وحامياً، وحافظاً: (اللهم صاحبنا وأفضل علينا -يعني: زدنا من فضلك أقول هذا حال كوني- عائذاً بالله من النار).
وكذلك قال بعض السلف: يا بن آدم! إن أردت أن تعرف قدر نعم الله عليك فأغمض عينيك لترى كيف يكون وضع الأعمى.
ونعم الله سبحانه وتعالى لا تعد ولا تحصى، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:18] {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20] فقال السلف: النعم الظاهرة: الإسلام، والنعم الباطنة: أنه سترنا على المعاصي.
فنقارف المعاصي والله سبحانه وتعالى يسترنا وهذه من النعم.
وكان بعض السلف يقول: أنا الصغير الذي ربيتَه فلك الحمد، وأنا الضعيف الذي قويتَه فلك الحمد، وأنا الفقير الذي أغنيته فلك الحمد، وأنا الصعلوك الذي مولته فلك الحمد، وأنا العزب الذي زوجته فلك الحمد، وأنا الساغب الذي أشبعته فلك الحمد، وأنا العاري الذي كسوته فلك الحمد، وأنا المسافر الذي صاحبته فلك الحمد، وأنا الغائب الذي رددته فلك الحمد، وأنا الراجل الذي حملته -جعلت له دابة تحمله- فلك الحمد، وأنا المريض الذي شفيته فلك الحمد، وأنا الداعي الذي أجبته فلك الحمد، ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً.
وحقوق الله سبحانه وتعالى على عباده كثيرة جداً، وكلما زاد فقه العبد زاد شكره لله، وزاد استشعاره بتقصير نفسه، يتفكر في النعم فيجدها كثيرة، ويتفكر في عمله فيجد نفسه مقصراً جداً فيزداد طاعة لرب العالمين.
ومن أنواع شكر النعم ما ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى، قال: إن لله سبحانه وتعالى حقوقاً على العباد ينبغي القيام بشكره، فمنها: الأمر والنهي، والحلال والحرام.
فإذاأمر العبد بشيء فعليه أن يتبعه، وإذا نهاه عن شيء فعليه أن يجتنبه.
وبعض الناس يشكر الله باللسان فقط وينسى الجهاد، يقول ابن القيم: أما الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ولرسوله ولعباده، ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه؛ فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم -يعني: ببال المقصرين- فضلاً عن أن يريدوا فعلها، وقلَّ أن ترى منهم من يَحْمَرُّ وجهه ويمعره لله إذا انتهكت حرماته، ويبذل عرضه في نصرة دينه.
أي: أن بعض الناس يظنون فقط أننا نجتنب المحرمات؛ لا نزني، لا نسكر، لا نغتاب، لا نسرق، لا نقتل، لكن هؤلاء لا يحسبون حساب أن الله أمرهم بالجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، مع أن هذه الأشياء من أعظم الأمور المطلوبة من العبد.(152/16)
دعاء العبد بالمأثور عند رؤية مبتلى
كذلك من الأمور التي تدل على أن العبد عبد شكور: أنه إذا رأى مبتلى أن يحمد الله على العافية من هذا البلاء، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم مبتلىً فليقل: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني عليك وعلى كثير ممن خلق تفضيلاً) وهذا الكلام يقوله سراً لا يجهر به حتى لا يؤذي الشخص إلا إذا كان بلاء الشخص فسقاً في دينه، فقال النووي رحمه الله: يجهر به؛ لعله يرتدع، أما إذا كان إنساناً مشلولاً أعمى كسيحاً به عاهة فليعمل بالحديث.
(إذا رأى أحدكم مبتلىً فليقل: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني عليك وعلى كثير من عباده تفضيلاً) كان هذا الكلام شكر تلك النعمة التي أعطاك الله إياه وحرمها الرجل المبتلى، وهذا من وسائل شكر النعمة.
وكذلك من الوسائل التي يصل بها العبد إلى مرتبة العبد الشكور: العبادة؛ إذا نجاك الله من مكروه، أو دفع عنك شراً، وشاهِدنا على هذا حديث ابن عباس في البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجدهم يصومون يوماً -وهو يوم عاشوراء- فسألهم: فقالوا: هذا يوم عظيم نجى فيه الله موسى وأغرق آل فرعون فصام موسى شكراً لله، فقال: أنا أولى بموسى منهم فصامه وأمر بصيامه).
فإذا حدث لك أن نجاك الله من سوء ودفع عنك مكروباً، فمن شكر النعمة أن تعبده بصيامٍ، أو صلاة أو صدقة مقابل هذا الإنجاء الذي حصل.(152/17)
نظر العبد إلى من دونه في أمور الدنيا
من الأشياء التي يكون بها العبد عبداً شكوراً: أن ينظر إلى من دونه في الدنيا ولا ينظر إلى من فوقه فيها، قال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم).
أنت عندك بيت ضيق؛ حجرتان وصالة صغيرة ومطبخ صغير تأمل في حال الناس الذين أصاب بيوتهم زلزال فصاروا دون بيت بالكلية وأصبحوا في الشارع، كيف تجد نفسك؟ أنت عندك راتب يكفيك إلى آخر الشهر لا تستطيع أن توفر منه شيئاً، عليك أن تفكر في أهل المجاعة الذين ليس عندهم شيء أبداً فهم يموتون من الجوع.
يقولون: خرج أبٌ وزوجته وأولاده الستة من قرية في الصومال إلى قرية أخرى فوصل الأب وحده ومات الباقون في الطريق، كيف يكون إذاً؟ يا إخوة! نحن إذا رأينا الأحداث وسمعنا الأخبار ينبغي أن يتولد عندنا حمد لله، هذه نعم ليست سهلة.(152/18)
اعتناء العبد بالنعمة وحفاظه عليها
كذلك من كون العبد عبداً شكوراً: أن يعتني بالنعمة ويحافظ عليها، خصوصاً الأشياء التي فيها رفعة للدين، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من أحسن الرمي ثم تركه فقد ترك نعمة من النعم) حديث صحيح، وفي رواية: (من ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنها نعمة كَفَرَهَا).
فالذي يتعلم الرمي وهذا شيء يعين على الجهاد، وتعلم الرمي نعمة، إذا كان ترك التعلم والتدرب بين الآونة والأخرى رغبة عن هذا الشيء وليس بسبب ظروف قاهرة وإنما رغبة عن هذا الشيء فهي نعمة كفرها.
ومن الأمور المهمة جداً: عدم معصية الله عند حدوث النعمة، لأن كثيراً من الناس إذا جاءتهم النعمة عصوا الله، بعض الناس إذ جاءه نعمة صفق وصاح، وشعر بالنشوة والخيلاء، مع أنه من المفروض أن يتواضع ويسجد، ينزل إلى الأرض لله رب العالمين، قال صلى الله عليه وسلم: (صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمارٌ عند نعمة، ورنة عند مصيبة) والرنة: صياح النائحة، وهذا الحديث حسن، وهذا من أدلة تحريم المعازف الذي يقول: ما حكم المزمار؟ المزمار حرام هذا منه، فيقول: (صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة) شخص أنعم الله عليه بالزواج ويسره له؛ وجد مهراً، ورضي أهل الزوجة، وعمل زفافاً، بعد ذلك في هذا الزفاف بدلاً من أن يشكر نعمة الله ويحمده ويطيعه يأتي بفرقة موسيقية!! يأتي براقصات!! يأتي بمغنين!! يفجرون إلى الفجر ويضيعون الصلاة!! ويضيع العرس بلعب الورق، ويبذرون الأموال، ويلقون بالطعام في المزبلة، أهذا شكر نعمة أم كفر نعمة؟!! فما أكثر الكافرين بنعم الله في هذه الأيام!!!(152/19)
شكر الناس على إحسانهم
ومن الأشياء التي يكون بها العبد عبداً شكوراً: أن يشكر الناس على إحسانهم إليه، وشكر الناس على إحسانهم إليك من شكر الله، ومن وسائل شكر الله أن تشكر الناس المحسنين إليك، قال صلى الله عليه وسلم: (من لا يشكر الناس لا يشكر الله)، وفي لفظ آخر صحيح أيضاً: (أشكر الناس لله أشكرهم للناس).
وقال عليه الصلاة والسلام: (من أعطي شيئاً فوجد عنده ما يقابل -الإحسان بالإحسان- فليجز به، ومن لم يجد فليثنِ به؛ فإن أثنى به فقد شكره، وإن كتمه فقد كفره، ومن تحلى بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور).
ما معنى: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)؟ يعني: أن الله عز وجل لا يقبل شكراً لعبدٍ على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر الناس بل يكفر إحسانهم إليه؛ لأن كلا الأمرين متصل بالآخر.
وقال بعض العلماء في شرح الحديث: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس): أن مَنْ عادته وطبعه كفران إحسان الناس إليه، فإن من عادته وطبعه كفران نعمة الله عليه؛ وهذا مبني على رفع اسم الجلالة أو نصبه (لا يشكر اللهَ من لا يشكر الناس)، أو (لا يشكر اللهَُ من لا يشكر الناس)؟ كلاهما صحيح.
فأشكر الناس لله أشكرهم للناس، ولذلك جاء في الحديث: (من صنع إليه معروفٌ فقال لفاعله: جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء).
فإذا أحسن إلينا الخلق نشكرهم، وشكرنا لهم هو من شكرنا لله وداخل فيه، ولذلك قيل لـ سعيد بن جبير: "المجوسي يوليني خيراً أشكره؟ قال: نعم".
ولو كان كافراً، لكن لا يعني هذا أن تدعو له بالرحمة والمغفرة فإنه لا يغفر لهم ما داموا على الشرك، لكن تقول على الأقل: شكراً وإذا كان مسلماً تقول: جزاك الله خيراً، وإذا كان عندك ما تجزيه به فأعطه، مثلما أحسن إليك أحسن إليه، وإذا لم يكن عند شيء فأقل شيء أن تقول له: جزاك الله خيراً، وبعض الناس كما قلنا نفوسهم سيئة؛ فلا يشكرون الله ولا يشكرون الخلق، وبعض الناس يشكرون الخلق ولا يشكرون الله، والمسلم يشكر الله ثم يشكر الناس على إحسانهم إليه، لا تنس شكر الناس، كن صاحب فضل، عليك أن تشكره فإن شكرك له من شكرك لله: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) فتذكر هذا الحديث جيداً.
ومما يدل على فضل هذا: أن المهاجرين قالوا: (يا رسول الله! ذهبت الأنصار بالأجر كله، قال: لا.
ما دعوتم الله عز وجل لهم وأثنيتم عليهم).
فإذا دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم فإنكم قد لحقتم بهم.
فهذه أيها الإخوة! عدد من الوسائل التي يكون بها العبد عبداً شكوراً.
ومقام الشكر مقام عظيم ينبغي دائماً أن نتذكره وأن نعيه جيداً، وأن يكون لسان الإنسان لاهجاً بذكر الله، وحمده، والثناء عليه بالقلب واللسان والجوارح.(152/20)
أبرز من تكلم في الشكر
ومن أبرز من تكلم في هذا الموضوع ابن القيم رحمه الله في كتابه: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، وهو كتاب مهم في الموضوع، وابن أبي الدنيا له كتاب في الشكر مستقل، وابن القيم أخذ أكثر كلام ابن أبي الدنيا فأودعه في كتابه مع حذف الأسانيد، وتكلم ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين عن مقام الشكر، وفي الفوائد له كلام، وفي طريق الهجرتين، وابن مفلح له كلام في الآداب الشرعية، وصاحب غذاء الألباب بشرح منظومة ابن عبد القوي، فالعلماء اعتنوا بهذه القضية وقد تتبعت عدد الألفاظ التي ورد فيها ذكر الشكر في القرآن فبلغت (واحداً وسبعين) موضعاً دلالة على أن قضية شكر الله من العبادات العظيمة التي لا يصح التفريط فيها.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الذاكرين الله كثيراً والشاكرين له سبحانه شكراً كثيراً، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.(152/21)
الأسئلة
وفيما يلي سنجيب عن بعض الأسئلة الواردة في اللقاء الماضي.(152/22)
حكم اللعب بالجوكر
السؤال
والدي يتزاور مع كبار في السن مثله، ولكنه يلعب معهم (الجوكر) وعندما أخبرته أن هذا لا يجوز وأن فيه مضيعة للوقت، قال: نحن لا نغتاب أحداً، ولا نتكلم في أحد، ونؤدي الصلاة، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
إن هذا كله لا ينفي أن يكون هذا الفعل فعلاً محرماً، وقد نص أهل العلم في فتاويهم على تحريم اللعب بالورقة.(152/23)
حكم زيارة أهل البدع
السؤال
لي زميل ليس من أهل السنة يدعوني لزيارته، فهل أزوره؟
الجواب
لا.
زيارته فيها خطورة فابتعد عنه، وقد نهى السلف عن زيارة أهل البدع.(152/24)
حكم إفراد الإخوان في الله بزيارة مع وجود إخوان النسب بجوارهم وعدم زيارتهم
السؤال
لي بعض الإخوان من النسب وإخوان في الله بمدينة أبها، وأجد إخواني من النسب كل سنة مرة وأريد أن أزور إخواني في الله زيارة خاصة، فماذا أعقد النية؟
الجواب
إنك تزورهم لله وفي الله وتستحضر حالة الرجل الذي زار إخواناً له في الله.(152/25)
حكم الإعلام قبل الزيارة
السؤال
هل يجب في الزيارة إعلام الشخص مسبقاً بالهاتف؟
الجواب
هذا أحسن لكي يأخذ الأهبة والاستعداد.(152/26)
حكم زيارة العاصي بغرض إصلاحه
السؤال
إذا كان المزار لا يصلي ويشرب الخمر، فهل يجوز أن أزوره لكي أصلح حاله؟
الجواب
إذا كان لا يترتب على زيارته منكر فنعم زره لعلها تكون دعوة إلى الله سبحانه وتعالى.(152/27)
حكم اقتحام بيت العاصي للإنكار عليه
السؤال
لو رأيت منكراً في جاري وأردت إنكاره فطرقت عليه الباب فلم يرض بدخولي، فهل لي الدخول أم الانصراف؟
الجواب
لا تدخل إلا بإذنه حتى لو كان يرتكب منكراً في الداخل، إلا أهل الحسبة فإنهم إذا وجدوا وكراً لأهل الشر ومأوى فإن لهم أن ينكروا المنكر عليه.(152/28)
حكم إشراك نية أخرى مع نية الزيارة
السؤال
أردت السفر لزيارة أحد إخواني في الله في مدينة الرياض، وقلت: أقضي بعض الأعمال بجانب هذه الزيارة، فهل أنا مأجور بنيتي هذه؟
الجواب
أنت مأجور، ولا يمنع أجرك أن تشترك النية، يحصل اشتراك في النية مثل الذي يحج ويتاجر.
فنقول: إذا كان سفرك خالصاً للزيارة في الله فأجرك أكبر، لكن لو ذهبت زيارة ولقضاء عمل دنيوي فلك أجر لكنه دون الأجر الأول الذي كانت نيتك فقط لزيارة إخوانك في الله.(152/29)
حكم الجلوس في وسط الحلقة
السؤال
( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجلوس في وسط الحلقة) فإذا حصل ضيق فما العمل؟
الجواب
هذا الحديث ضعفه بعض أهل العلم، فلو حصل ضيق وجلسوا دوائر داخل بعض فلا بأس بذلك.(152/30)
حكم تكرير صلاة الاستخارة
السؤال
كم مرة تصلى صلاة الاستخارة؟
الجواب
عدة مرات، حتى يشرع أن تصلى حتى تطمئن نفسك إلى شيء معين، ثم إذا عزمت فاستخر وتوكل على الله وافعل الشيء ما دمت ترى فيه المصلحة بالنسبة لك.(152/31)
حكم البيع والشراء بعد الأذان الثاني يوم الجمعة بأشكاله
السؤال
بعد الأذان الثاني يوم الجمعة يحرم البيع والشراء، لكن آلة البيبسي التي يوضع فيها ريال ويخرج لك فيها بيبسي، هل يعد هذا من قبيل البيع؟
الجواب
هذا داخل في البيع والشراء، فكونك تشتري من آلة أو من آدمي نفس النتيجة.(152/32)
حكم من صلى وفي فمه بقايا من أكل أو سواك
السؤال
ما حكم ما لو كان في فم المصلي بقايا من الأكل أو من السواك؟
الجواب
إذا أخرجه من فمه فهذا لا بأس به.(152/33)
حكم الإتيان في الدبر
السؤال
ما حكم الذي يجامع زوجته في دبرها؟
الجواب
( ملعون من أتى امرأته في دبرها).
يعني: عليه لعنة الله فهو ملعون، وقد شاع عند العوام أن من أتى زوجته في دبرها تطلق وهذا غير صحيح، لا تطلق لكنه ملعون.(152/34)
الاختلاف في تصنيف ابن المبارك
السؤال
ابن المبارك هل هو من الصحابة أو من التابعين؟
الجواب
في هذا كلام طويل، فممن أفرد ابن المبارك وتكلم عن سيرته الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء أفرد له ترجمة طويلة فارجع إليها.(152/35)
جنس البدع أعظم من جنس الكبائر
السؤال
هل البدعة أعظم أو شرب الدخان والكذب وإيذاء المسلمين؟
الجواب
البدعة أعظم.(152/36)
موقف المزور الذي يعلم عشق الزائر
السؤال
ذكرت من أنواع الزيارات المحرمة: الزيارة التي يكون الدافع لها العشق والعاطفة المذمومة، فما هو الموقف المناسب من المزور إذا علم أن الذي زاره من أجل هذا الشيء؟
الجواب
عليه أن يستثمر الوقت في طاعة الله، وكلما حاول الزائر أن يدخل في عواطف وكلام فارغ فعليه أن يقطع عليه الطريق، وأن يذكره بالله عز وجل، ثم يقصر وقت الزيارة، ثم إذا وجد أن لا فائدة من هذا فإنه يقاطعه حفاظاً عليه وعلى دينه وإيمانه.(152/37)
حكم فعل الصالحات بنية الشفاء
السؤال
ما حكم الشرع في رجل اعتمر من أجل أن يشفيه الله من مرض معين؟
الجواب
لا حرج من ذلك مثل: (داووا مرضاكم بالصدقة) فلو أنه فعل صالحات من أجل أن يشفيه الله لا بأس، لكن بعض العلماء يقول: ليس له أجر، صحيح أن فعله ليس بحرام لكن ليس له أجر إذا كان ابتغى بعمله هذا شيئاً دنيوياً، ولا يأثم لأن عمله لله.(152/38)
حكم التسمية في دورات المياه
السؤال
هل يجوز التسمية للوضوء في دورات المياه إذا كان صنبور الماء داخل الحمام؟
الجواب
إذا كان داخل قضاء الحاجة فإنه يسمي في نفسه ولا يجهر.(152/39)
(صحة حديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه
السؤال
( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) هل هذا حديث؟
الجواب
نعم هذا حديث صحيح.(152/40)
حكم الطلاق والمرأة حامل
السؤال
لو أن رجلاً طلق زوجته وهي حامل وهذه الطلقة الثالثة والأخيرة هل يقع الطلاق؟
الجواب
نعم يقع الطلاق إذا كانت المرأة حاملاً.(152/41)
حكم الزيارة لقصد دنيوي
السؤال
هل يجوز الزيارة لقصد دنيوي؟
الجواب
إذا كان القصد دنيوياً مباحاً فتكون الزيارة مباحة.(152/42)
الله المستعان على الشحناء والبغضاء
السؤال
بماذا ترشد إخوة بينهم شحناء وبغضاء تمر عشرات السنين دون أن يسلم الأخ على أخيه؟
الجواب
لا حول ولا قوة إلا بالله، الله المستعان على هذه القطيعة التي توجد بين المسلمين!(152/43)
حكم استئذان الزائر للانصراف وقت الصلاة
السؤال
زائر لا ينصرف إلا بعد الاستئذان حتى لو كان الوقت حضر وقت الصلاة فإنه يستأذن وينصرف، فما الحكم في هذا؟
الجواب
يجمع لا مانع، وإذا لم يؤذن له ينصرف، لأنه الآن صار في المسألة طاعة لله.(152/44)
حكم رد الزائر
السؤال
نحن طلاب الجامعة لو التزمنا بالزيارة واستقبال الزوار والإخوان لضاعت الأوقات، ولما بقي وقت للتحصيل الدراسي، فماذا نفعل؟
الجواب
نحن لم نقل: إنه يجب عليك أن تفتح بيتك للزوار دائماً بحيث تضيع مصالحك الأخرى، لكن نقول: وازن بين هذا وبين هذا، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (وإن لزورك عليك حقاً فأعط كل ذي حق)، وأعط بقية الأشياء حقها.(152/45)
حكم تكرير آيات الحجاب والربا والولاء والبراء في الصلاة لكي يحفظها الناس
السؤال
ألا ترى أنه ينبغي على أئمة المساجد إكثار ترديد بعض الآيات في صلواتهم لكي يحفظها المأمومون كما حفظوا كثيراً من السور والآيات، مثل قصار السور، من هذه الآيات: آيات الحجاب، والربا، والولاء والبراء؟
الجواب
نعم هذا شيء جيد وفكرة حسنة أن تطرق هذه الآيات لكي يحفظها العامة من الناس، خصوصاً آية الحجاب والربا، وموالاة المسلمين، والبراءة من المشركين.(152/46)
حكم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما حكم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
لا يجوز شد الرحال لزيارة القبر، وإنما يكون الغرض زيارة المسجد النبوي للصلاة فيه؛ لأن الصلاة فيه بألف صلاة، لكن إذا وجد هناك يمر بالقبر ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم.(152/47)
حكم إدخال المال البنك لحفظه للضرورة
السؤال
أنا طالب جامعة معي أموال لا أستطيع أن أحتفظ بها، هل أدخلها البنك؟
الجواب
إذا ما وُجد مكان حلال تستثمرها فيه أو تضعها في أمانة فلا بأس أن تدخلها في البنك للضرورة.(152/48)
حكم الطلاق مزاحاً وإثبات النية فيه
السؤال
بينما كنت أداعب وأمزح مع زوجتي قلت لها ضحكاً: يا دنيا غري غيري فقد طلقتك، فهل هذا يعتبر طلاقاً؟
الجواب
أنت تقصد الدنيا أو الزوجة، فإذا قصدت الدنيا: يا دنيا غري غيري فقد طلقتك فلا يقع الطلاق، أما إذا كنت تقصد الزوجة فهذه مصيبة، لأن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر بأن: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: ومنها: الطلاق).(152/49)
حكم تقدم المسبل الحليق الذي لا يقرأ قراءة سليمة للصلاة
السؤال
إذا كان صاحب البيت مسبلاً حليقاً، مقصراً في الصلاة، ولا يقرأ قراءة سليمة، فكيف يتقدم للصلاة؟
الجواب
هذه صارت موانع، وفي هذه الحالة لا يتقدم وهو لا يحسن القراءة.(152/50)
حكم الوسوسة في الصلاة
السؤال
أتخيل في الصلاة أشياء ويصل الأمر إلى أن أفكر في العورات، فماذا أفعل؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم علمنا أن نستعيذ بالله من الشيطان في الصلاة، فإذا أتى إليك بمثل هذه الأشياء فقل: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم؛ من نفخه، وهمزه، ونفثه، وأنت في الصلاة وتتفل عن يسارك ثلاثاً.(152/51)
حكم تقديم بعض العادات على الشرع
السؤال
عندنا في بلدنا عادة وهي أن الرجل إذا حضر عرساً يُحضر معه ذبيحة وتسمى معونة، وإذا لم يحضر شيئاً ينتقده الناس، فما حكم ذلك؟
الجواب
لا يجوز للناس أن ينتقدوه ويلزموه بشيء لم يلزم به الشرع، ولا يجوز أن يجعل العرف شرعاً يحتكم إليه، أما كونه يحضر هدية لصاحب العرس فهذا شيء طيب: (تهادوا تحابوا).(152/52)
تحويل الذكورة إلى أنوثة من حرف الشيطان للناس
السؤال
قرأت في إحدى المجلات تحول رجل إلى امرأة، فما رأيكم؟
الجواب
قال الشيطان متعهداً بحرف الناس عن الدين: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119].
وهذا من هذا.(152/53)
حكم السؤال في الهاتف في اعتباره زيارة أم لا
السؤال
هل السؤال عن الشخص وصحته في الهاتف يعتبر زيارة؟
الجواب
لا يعتبر زيارة لكنه أحسن من القطيعة.(152/54)
تبعات سقوط الكلفة كلية
السؤال
سقطت الكلفة بيننا فأخذ بالمعاتبة والزعل اليومي، فإذا أخبرته يقول: أنت تجعل الأخطاء لي ولا يعترف بخطئه أبداً ويحاسبني على كل فعل، فما العمل؟
الجواب
سقوط الكلفة بالكلية ليس أمراً محموداً؛ لأنه يؤدي إلى وقوع شحناء وبغضاء، فلا بد أن يبقى قدر من الاحترام المتبادل، وحفظ الحقوق، ونوع من الحشمة والوقار.(152/55)
ليست الاستفادة من الوقت من الإثقال على الضيف
السؤال
هناك مفهوم لدى بعض الشباب من أنه إذا زاره بعض إخوانه فإنه لا يستفيد من الوقت في القراءة في كتاب نافع، وذلك بحجة عدم الإثقال عليهم، أو خوف من الرياء؟
الجواب
كلها مداخل شيطانية، لماذا لا تفتح كتاباً ويقرأ منه واحد يستفيد منه الجميع!!(152/56)
أساليب في صرف كثيري الزيارة
السؤال
ما هو الأسلوب المناسب لطرد الزوار الذين يكثرون الزيارة؟
الجواب
يعني: لماذا طرد الزوار؟ لتقل مثلاً: لصرف الزائر بالحسنى، أو جعله يحس بالخروج مثلاً، فهناك من الإشارات العابرة التي ليس فيها تصريح يمكن أن يفهم منه، وإذا كان لم يفهم بالتلميح فبالتصريح، لكن لا يكون طرداً، بل يكون أمراً لهم بالانصراف، مثل الاعتذار: يا أخي! أنا عندي موعد بعد قليل أو عندي شغل أرجو المعذرة، لو حصل زيارة أخرى في وقت أنسب وهكذا.(152/57)
عدم جواز منع العامل من الزيارة
السؤال
أريد أن أزور إخواني في الله لكن أمسك كثيراً بسبب أني أعمل في عمل عسكري وإنه يتعذر عليَّ الخروج فما العمل؟
الجواب
تستطيع أن تخرج الخميس والجمعة أو في الشهر مثلاً، فزر ولا تخف في الله لومة لائم، إذا خرجت في وقت الخروج من المعهد مثلاً أو من غيره من الأماكن التي يكون فيها العسكري في وقت الإجازة فزر إخوانك في الله.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(152/58)
كيف نتعامل مع الناس [1]؟
في هذا الدرس بيَّن الشيخ أموراً كثيرة متعلقة بمعاملات الناس فيما بينهم، فنبه على البيع الحلال واجتناب الربا، وركَّز على موضوع أداء الأمانة بمفهومها الشامل، ثم عرَّج على قضية المسلمين في الشيشان وأحوال الجهاد فيها.(153/1)
الصدق مع الخالق والمخلوق
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن المسلم يصدق مع الله سبحانه وتعالى، ويصدق مع عباده، فهو صادق في عبادته وصادق في معاملاته، والله سبحانه وتعالى قد طلب من العباد أموراً كثيرة، فيقوم العبد بالإخلاص لله عز وجل في علاقته فيما بينه وبين الله، وأما علاقته بينه وبين الخلق، فإنها تقوم على الصدق وعلى الفقه، فالفقه والعلم مع الصدق أساسان في التعامل بين العباد.(153/2)
التعامل بالبيع واجتناب الربا
إن المسلم الذي يعلم أن الله أحل البيع وحرم الربا، لا يغشى الربا أبداً، ويفعل البيع عن تراضٍ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يبيع محرماً ولا يبيع بيع جهالة وغرر، وإذا نادى المنادي لصلاة الجمعة امتثل أمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ولا يتشاغل إذا أقيمت صلاة الجماعة، ولا يتشاغل بأي أمر إلا في الخروج إلى الصلاة، فإذا أقيمت الصلاة فلا يحلُ لأي مسلم أن يفعل أي شيء غير الخروج لصلاة الجماعة، وقد قال الله تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:37 - 38].
والمسلم لا يبيع أمراً محرماً ولا شيئاً يستعان به على معصية الله، كآلات اللهو وغيره؛ لأن ربه نهاه عن ذلك بقوله: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وكذلك فإن المسلم لا يبيع بيع عينة، فلا يبيع سيارة بخمسين ألفاً مؤجلة مثلاً، ثم يشتريها نقداً من المشتري بأربعين مثلاً، فتكون القضية أنه أعطاه أربعين ألفاً ليردها إليه خمسين ألفاً وهذه خدعة، فإذا انطلت على الأطفال؛ فإنها لا تنطلي على رب العباد.
وكذلك فإن المسلم لا يذهب إلى جهة يقول: أريد أن أشتري سيارة من معرض أو وكالة فيعطونه شيكاً يسلمه للمعرض، ويأخذ السيارة ثم يقسط قيمتها بزيادة على من أعطاه الثمن، لا يفعل ذلك؛ لأنه يعلم أنه عملٌ محرم، أقرضوه الثمن بهذا الشيك، ثم سدده إليهم بزيادة، وهو يعلم أنه لا بد أن تكون السلعة عند البائع، وأن تكون في حوزته فلا يقبل مثل هذه التحويلات المبنية على الخداع، وهكذا لا يسحب ببطاقات الائتمان على المكشوف بزيادة؛ لأنه يخاف الحرب من الله الذي قال في كتابه العزيز: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279].
فالمسلم يفقه الشروط الشرعية في البيوع، ولا يبيع بيعتين في بيعة، ولا يقول لشخص: أبيعك على أن تأجرني، ولا أؤجرك على أن تشركني في العمل الفلاني، ولا يأخذ فائدة مقابل قرض أبداً، ولا يقول: أقرضك على أن تزوجني، وكذلك فإنه لا يبخس الناس حقوقهم، ولا يغش ولا يدلس ولا يحلف على الكذب، فلا يخفي عيوب سيارة إذا أراد بيعها، بل يبين كل ما فيها، والمسلم إذا أقرض فإنما يبتغي بعمله وجه الله والدار الآخرة والثواب والأجر من الله عز وجل، لا يريد زيادة ولا منفعة، وإذا أراد فلسان حاله كما قال المؤمنون عند الإطعام: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] إنه يريد بقرضه الحديث الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمٍ يُقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرة) فلو أقرضت عشرة آلاف لشخص ثم استرددتها منه؛ فإنك تكون قد تصدقت بخمسة آلاف.
وهكذا فإن المسلم يبتغي بإقراض المحتاج الأجر الذي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من نفَّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا؛ نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) وكذلك إذا اقترض من شخص اجتهد في رد المال في الوقت إذا حدد له وقتاً.(153/3)
أداء الأمانة
المسلم يؤدي الأمانة ولا يأخذ أموال الناس يريد إتلافها؛ لأنه يعلم العقوبة أن الله سيتلفه، ولا ليبدد الأموال في الأسفار المحرمات ثم يقول: ليس عندي ما أرده إليك وإنما يقترض للحاجة وينوي الرد ولا يماطل ولا يكذب ولا يتهرب من المواعيد ويسعى لأجل إخلاص الرد على الوجه المطلوب، وهو يتذكر أن رجلاً ممن كان قبله اقترض وعبر البحر وسعى في عمل، فلما جاء وقت السداد وهو في الساحل الآخر لم يجد سفينة يأتي عليها ليسدد حسب الموعد، فأخذ خشبة فنقرها ووضع فيها المال ورماها وهو يدعو الله عز وجل أن يُبلغها لصاحبه، فلما علم الله ما في قلبه من الصدق والحرص على أداء الأمانة، لم يُقدر عز وجل للجذع أن يغرق، ولا للمال أن يتفرق ولا للخشبة أن تضيع في الأمواج ولا أن تذهب إلى ساحل آخر ولا أن يلتقطها رجل آخر؛ بل قدر الله عز وجل أن تتهدى تلك الخشبة على سطح الماء، لتصل إلى صاحب المال الذي خرج في وقت وصولها إلى الساحل بقدر من الله عز وجل، فيأخذها حطباً لأهله ثم ينشرها ليجد المال فيها، وهكذا صدق المسلم في التعامل هو الذي يؤدي إلى بلوغ النتيجة وحصول الأمنية وبراءة الذمة.
إن المسلم لا يبيع بيتاً مرهوناً إلا بموافقة المرتهن، ولا يأخذ مقابلاً على كفالة؛ لأن الكفالة عقد إحسان يبتغي به وجه الله، فإذا أراد أن يأخذ شيئاً من مكفوله؛ فإنه يأخذه أجرة لشيء يؤجره إياه حقيقة، أو يشاركه فيه حقيقة، وكذلك فإن المسلم لا يتوكل في أمر لا في محاماة ولا في غير ذلك من أنواع الوكالات إلا وهو يعلم أن القضية التي يوكل فيها مباحة وأن التوكيل ليس من ظالم يريد أن ينتزع به حق امرئ مسلم، وكذلك فإن المسلم يسعى في الصلح بين المسلمين، يرجو ثواب الله الوارد في كتاب الله: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114].
والمسلم إذا عُرض عليه صلح يقبله ولا يتعنت ولا يعاند ولا يكابر، بل يتنازل كل طرف عن شيء من الحق ليحصل الصلح؛ لأن الله ندب إليه وأراده وقال لعباده المؤمنين: (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) [الأنفال:1] فهو يتنازل عن شيء من الدين أو شيء من الدية، أو شيء من حقوق الشراكة لتصلح الأمور ويفعل ذلك ابتغاء وجه الله.
وكذلك فإن المسلم إذا استعار شيئاً، وقد انتهت المدة أو انتهت حاجته إليه حافظ عليه وحفظه ورده؛ لأن الله قال في كتابه: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:1 - 7] فيمنعون الماعون الذي استعاروه، والأدوات التي اقترضوها، إنهم بمنعهم هذه العارية من إعادتها لأهلها، استحقوا الويل الذي هدد الله به فقال في أول السورة: (فويل).
أيها المسلمون: ألا فليتق الله الناس الذين يستعيرون سيارات إخوانهم، ثم لا يرقبون فيها حق العارية ويستعير الشيء فيرده تالفاً أو يرده ناقصاً، أو يرده وهو لا يشتغل، كيف يعمل هذا والله يقول: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] فإذا أتلف المسلم شيئاً أو أحد أولاده؛ فإنه يلزمه أن يرد ثمنه إلى صاحب المال يرد مثله أو يرد قيمته أو يطلب المسامحة ولا يترك الأمور ليوم القيامة ليوم لا دينار فيه ولا درهم.
إن المسلم يا عباد الله! إذا استودع شيئاً حفظه، إن الأمانة إذا أودعت عندك فإنك تقوم بحقها يا عبد الله! ابتغاء الأجر من الله وتؤديها امتثالاً لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58].
إذا أعطي المسلم زكاة أو صدقة أو تبرعات ليُوصلها إلى جهة معينة؛ فإنه مؤتمن عليها، يوصلها ولا يجوز له أن يتصرف فيها، فلا يجوز لمسلم أبداً أن يقترض من أموال الزكاة أو الصدقات أو التبرعات المودعة عنده، فلو أودع شخص عندك أمانة، فلا يجوز لك أن تقترض منها، ولو قلت أوفيها في آخر الشهر، والراتب مضمون، ف
الجواب
لا يمكن أبداً أن تتصرف في الأمانة التي عندك، لا تقترض منها ولا تقرض منها أبداً إلا بموافقة صاحب الأمانة الذي استودعها عندك؛ لأن الأمانات والأموال المعطاة لصرفها لجهة معينة لا يجوز استعمالها، وإنما تُصرف إلى من وكل الإنسانُ بصرفه إليه.
إن أمانة المسلم تفرض عليه أنه إذا لقي شيئاً ذا قيمة فالتقطه بأن يقوم بتعريفه والإعلان عنه بكل وسيلة ممكنة في حدود المستطاع، فإذا لم يقو على التعريف فلا يلتقط شيئاً أصلاً، وهو لا يستطيع أن يقوم بأمانة التعريف والإعلان.
عباد الله! إن هذه الأمور تميز المسلم في تعاملاته وفي معاملاته وفيما يعمل به خلق الله عز وجل، كما أنه أمين ومخلص في طهارته وصلاته وإخراج زكاته وحفظ صيامه وحجه وذكره ودعائه وتسبيحه وتلاوته؛ فإنه كذلك يفقه ويخلص ويصدق في معاملاته فيما بينه وبين الخلق.
وللموضوع تتمة.
ونسأل الله عز وجل أن يبارك لنا فيما آتانا وأن يغنينا بحلاله عن حرامه، وأن يكفينا بفضله عمن سواه إنه سميع مجيب قريب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(153/4)
الشيشان آيات وعبر
الحمد لله وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله البشير والنذير والسراج المنير، والرحمة المهداة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى هداه.
عباد الله: أيها المسلمون! إن قلوبنا مع إخواننا المسلمين في كل مكان، وإن المسلم من خلال عقيدة الولاء للمؤمنين مرتبط قلبياً بإخوانه في الأرض يعيش آلامهم وآمالهم وأحزانهم وأفراحهم، (المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
إن مما تُؤجر عليه يا عبد الله! أن تفرح لنصر المسلمين وأن تحزن لما أصاب المسلمين، هذه مشاعر نؤجر عليها وهي من أدلة الإيمان في القلب.
عباد الله: أيها المسلمون! إن الأخبار العجيبة التي تأتي من بلاد الشيشان فيها آيات وعبر مما أقامه الله تعالى لنا من الأدلة والبراهين في هذا الوقت الذي ضعف فيه المسلمون واستذلهم الكفرة، ولكن الله يُجري في أرضه أقداراً تعيد إلى المسلم أموراً كثيرةً طالما غابت عن المشهد وعن المشاعر، وآخر أخبار الساعات الماضية أن القوات الروسية التي حاولت دخول جروزني قد ردت على أعقابها بالرغم من تقدم أرتال الدبابات وقصف المروحيات على المباني التي يتحصن فيها المجاهدون الشيشان، وكان الجنود الروس يتساقطون كالذباب برصاص القناصة المسلمين، وقد سقط في أسر المجاهدين الكافر المشرك الجنرال ميخائيل ملوفيف قائد القوات الروسية المهاجمة لـ جروزني، فيما اعتبر نكسة خطيرة للروس وهزيمة معنوية كبيرة؛ أن قائد قواتهم المهاجم للبلدة يسقط أسيراً بأيدي المسلمين.
والله عز وجل يذل من يشاء ويعز من يشاء، أليس عجيباً جداً أيها الإخوة! صمود المجاهدين المسلمين الذين لا يتعدى عددهم ألوفاً قليلة أمام نحو مائة وخمسين ألف جندي روسي؟! أليس عجيباً جداً بسالة المجاهدين المسلمين في الشيشان ومقاومتهم وهم يمطرون صباح مساء بقنابل متعددة! بعضها وزنها طن وبأسلحة كيميائية ممنوعة دولياً، وكذلك براجمات الصواريخ وحتى صواريخ أسكود وقصف المروحيات الوحشي وقصف مدافع الدبابات والآلة العسكرية الروسية ومع ذلك يصمد المسلمون، أليس عجيباً أن يتحدث المحللون والخبراء العسكريون الغربيون بإعجاب عن التكتيكات العسكرية الناجحة للمجاهدين المسلمين وابتكاراتهم في استدراج المدرعات الروسية إلى الشوارع الضيقة ثم مهاجمتها من فرق ثلاثية تضم قناصاً وحامل (آربيجي) ومقاتلاً بمدفع رشاش! وكذلك تكتيك الكر والفر ومهاجمة المدن التي يحتلها الروس وإيقاع أفدح الخسائر بهم ومن ثم الانسحاب! وكذلك تغيير مواقع الوحدات المدافعة عن جروزني تحسباً للقصف الروسي! أليس عجيباً جداً أن تصمد عاصمة المسلمين طوال هذه المدة مكذبة كل المواعيد التي حددها كبار الساسة والعسكريين الروس، هذا مع أن المدنيين المسلمين في العاصمة لا يستطيعون الخروج من الملاجئ لدفن أي قتيل من غزارة القصف الروسي والغارات الجوية المستمرة على مدار الساعة، وقد أخبر بعض الفارين من المدينة أن بعض الناس قد صاروا هياكل، أي: جلداً على عظم من الهزال والمجاعة من جراء الحصار وحتى لو انسحب المجاهدون من جروزني؛ فسيجد الروس من العمليات في المناطق الجبلية وغيرها ما سيعانون منه معاناة عظيمة، إلى أن يخرجوا مطرودين إن شاء الله شر طردة من بلاد الشيشان، لقد أيد الله المجاهدين في الشيشان بصدقهم وبلائهم ودعاء ملايين المسلمين لهم في أنحاء العالم، وقد ظهرت آثار أدعية قنوت رمضان بهذا الصمود العجيب الذي نراه، وهذه الخسائر الفادحة التي نزلت بالروس الشيوعيين والنصارى، فبعض الروس قد اعترفوا بثلاثة آلاف قتيل، ولكن بعض الأنباء تفيد بأن قتلاهم لا يقلون عن عشرة آلاف، هؤلاء الذين اصطبغ الثلج بلون دمائهم بينما قدم المسلمون مئات من المقاتلين وآلافاً من المدنيين العزل، فيمن نسأل الله أن يجعلهم شهداء يوم القيامة.
لقد أرسل الله جنوده: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31] أرسل على الروس صقيعاً، وتعاني عدد من وحداتهم جوعاً، حتى باعوا أسلحتهم للمجاهدين، ومن يصدق أن الله يأتي بضباب يلف مدينة آرجن المحتلة حتى تدخل إليها وحدات المجاهدين، فتضرب الروس ضربات موجعة وخسائر فادحة، ثم تنسحب ومن يصدق في غمرة هذا الضباب، أن بعض الوحدات الروسية من المشاة الذين انسحبوا في هذا الضباب قد سقطوا في هاوية سحيقة، وهم ينسحبون وأهلكهم الله عز وجل، وألقى الله الرعب في قلوب أعدائه، وتنازع ساستهم وعسكريوهم، ولعن بعضهم بعضاً، وأُقيل من أقيل وتضاربت مصالحهم، وأرسل الله عليهم الارتباك فقصفت بعض الوحدات الروسية بعضها في عدد من المرات، وحلّ في بعضهم أمراض معدية، وأصاب بعض صواريخهم بعضاً وانفجرت دباباتهم بنيرانهم هم.
أيها المسلمون: لو صدق المسلمون الله عز وجل فهل يقف في طريقهم أحد؟! هل يمكن ليهود أو نصارى أو غيرهم من أعداء الإسلام أن يقفوا ولو كانت أعداد المسلمين أقل، أو عدتهم أقل، هذا مثال عملي يضربه الله تعالى لنا في بلاد الشيشان قليلة العدد والعدة وسلاح المجاهدين من غنائم العدو.
إذاً أيها الإخوة: الصدق مع الله والثبات على الدين هو السبب الأول للنصر والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، وهذه أمثلة على مُضي الجهاد واستمراره، دالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، ومما ينبغي له سجدة شكر والشيء بالشيء يُذكر مقتل أركان قائد وحدات النمور الصربية الذي عاث هو ومقاتلوه في أرض المسلمين فساداً في البوسنة وكوسوفا، وأرداه الله في عز ثروته من الشركات التجارية وفي الفندق الفخم الذي كان يسهر فيه، وترملت المغنية المشهورة والممثلة التي تزوجها، ونسأل الله له أشد العذاب.
اللهم إنا نسألك أن تنصر المجاهدين وأن تُعلي كلمة الدين، اللهم عجل فرج المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأهله.(153/5)
كيف نتعامل مع الناس [2]؟
في هذه الخطبة تكلم الشيخ عن كثير من الأحكام المتعلقة بمعاملات الناس فيما بينهم، فتحدث عن الأعطية وما ينبغي فيها، والوصية وأحكامها، والنكاح وآدابه، ثم عرج على الأسرة وحال الآباء مع الأبناء، ثم معاملة الرجل لزوجته وحال الآباء مع البنات، ثم ذكر كثيراً من الأحكام الأخرى في الشرع، وفي الأخير وضح بعض المعالم المستفادة من واقع الجهاد في الشيشان.(154/1)
مظاهر صدق معاملتنا مع الآخرين
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
عباد الله: إن المؤمن يخاف ربه في علاقته معه، وكذلك يخاف ربه في علاقته مع الناس، وقد سبق الحديث عن شيء من الأمثلة في خوف المسلم من ربه في تعامله مع الخلق، والله سبحانه وتعالى يحاسبنا على علاقتنا فيما بيننا، بناءً على هذه الحقوق التي أوجبها لبعضنا على بعض وجعلها أحكاماً بين المسلمين.(154/2)
أحكام الأعطية
ومن ذلك أن المسلم إذا أعطى أحداً عطية ليس فيها معصية، فلا يرجع في عطيته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه ذلك بأشنع الصور وأقبحها فقال (العائد في هبته كالكلب يقيئ ثم يعود في قيئه).
وقال عليه الصلاة والسلام مستثنياً واحداً من هذا، قال: (لا يحل للرجل أن يُعطي العطية فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده) رواه الخمسة وصححه الترمذي.
وعلى الوالد أن يعدل في العطية بين أولاده كما ذكر كثير من العلماء: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] على قاعدة الشريعة في الميراث والعقيقة والشهادة وغير ذلك، فلا يُعطي أحداً من أولاده عطية دون الآخرين بدون مبرر وسبب شرعي، فأما إذا قامت بواحد من الأولاد حاجة ليست عند الآخرين، كمرض أو فقر أو دين أعطاه لسد حاجته.(154/3)
أحكام الوصية
والمسلم كذلك لا يضر في وصيته، فلا يزيد على الثلث ولا يُوصي لوارث؛ لأنه لا وصية لوارث أبدًا، فإن الله قد أعطاهم حقوقهم وبيّن أنصبتهم وحظوظهم، فلا يجوز لأحد أن يُوصي لوارثه، وكذلك لا يجوز حرمان وارث؛ لأن الله تعالى قال في كتابه: {غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء:12]، وقال ابن عباس رضي الله عنه: الإضرار في الوصية من الكبائر، وإذا قام المسلم على وصية مسلم أنفذها وقام بالأمانة فيها، فيُخرج حقوق الله أولاً من زكاة أو كفارات أو نذور لم يُخرجها الميت، ثم يخرج حقوق الآدميين من الديون وغيرها، وينفذ ما أوصى به الميت إن كان قد أوصى بشيء، وعلى الإخوان الكبار ألا يبخسوا إخوانهم الصغار حقوقهم، وألا يتعدى الذكر على الأنثى، فيأخذ حقها كما يفعل عدد من الأبناء إذا مات أحد الأبوين مثلاً، وبعضهم يقسم قسمة جاهلية، كما يفعلونه بتركة الأمهات فيكون المال والسيولة للذكور والذهب للإناث: {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:22] وإنما يقسم الجميع كما أمر الله سبحانه وتعالى.
عباد الله: ما الذي يحمل المسلم على إنفاذ الوصية؟ ما الذي يحمله على أن يأتي بها على الوجه الذي أرادها الموصي دون زيادة ولا نقصان؟ إنه الخوف من عذاب الله: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) [البقرة:181] وانظر إلى الوعيد الذي ذكره الله عز وجل بعد أن بيَّن قسمة المواريث فقال عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:13 - 14].(154/4)
أحكام النكاح
أيها المسلمون: إن المسلم يخاف الله فيسعى للنكاح إذا خشي على نفسه الحرام، ويجتهد لذلك بكل سبيل وطريقة مبتغياً العفة وتنفيذ ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فليتزوج ولا يُخفي أي من الطرفين ما يجب أخبار الطرف الآخر به من العيوب، والمكر والخديعة في النار.
ولا يُمنع المسلم الخاطب الجاد من حقه في رؤية المخطوبة؛ لأجل عادات جاهلية، وأعراف لم ينزل الله بها من سلطان، وإنما يُعطي المسلم الحق لأهله، ويُمَكن الطرفين من رؤية بعضهما بالحلال، والعجب كل العجب ممن يسمح لابنته أن تخرج سافرة في الأسواق والشوارع وبين الرجال، ويتغاضى عن هذا العمل المحرم، ثم إذا أراد الخاطب رؤيتها بما شرع الله تمنع من ذلك وتشدد فيه.
والمسلم كذلك يفي بشروط النكاح؛ لأن نبيه صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون على شروطهم) وقال: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) والمسلم لا يُغلي مهراً؛ ليرهق الزوج ولا يأخذ من البنت ما تحتاج من الصداق، لأن الله قال: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} [النساء:4].
وكذلك فإن المسلم يُعاشر زوجته بالمعروف؛ امتثالاً لأمر الله وعاشروهن بالمعروف، فيؤدي حقها في النفقة والسكنى والمبيت وعدم المضارة وعدم الإيذاء فلا يسبها ولا يشتم أهلها، بل يُحسن عشرتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث العطف في نفسه عندما قال له (فإنهن عوانٍ عندكم) أي: أسيرات فإذا كانت أسيرة في بيتك لا يكاد يوجد لها حول ولا قوة.
ولا تخرج إلا بإذنك، فإن من حقها عليك أن تُحسن عشرتها ما دام الشارع قد جعلها تحت سلطانك، هذا الكلام رغم أنف الذين يريدون اليوم أن يصدروا قوانين يزعمون أنها لتحرير المرأة أو لمصلحة المرأة فتسافر بغير إذن زوجها، هكذا يريدون الانحلال، وأن تكون القضية انفلات الأسرة، وأن تخرج المرأة متى ما تريد، وأن تسافر متى ما تريد، وأن تُطلق نفسها متى ما تريد.
ولذلك فإن المسلمين الصادقين تنبعث في نفوسهم المقاومة لهذه التيارات التي تريد اليوم أن تحطم مجتمعات المسلمين باسم تحرير المرأة، وإعطاء المرأة حقوقها، فهم يريدون أن يسنوا القوانين لإعطاء المرأة حقوقها وكأن الله لم يعطها حقوقها، ولم يُنزل قوانين من السماء! فلماذا سنوا القوانين إذا كانت هذه الشريعة موجودة وقوانينها موجودة؟! ألم يكن الأجدر بهم أن يقولوا: هذه الشريعة نحكمها، وهذه قوانين الرب نرجع إليها بدلاً من سن القوانين الجاهلية التي تريد كسر قوامة الرجل على زوجته؟! انتبهوا أيها المسلمون: كسر القوامة ذلك الوتر الذي يريد أن يلعب عليه هؤلاء؛ لأن قوامة الرجل إذا انكسرت عم الفساد وطم وهكذا تتنقل القضية، ولكن بحمد الله يوجد دائماً في الأمة من يقوم لله بالحجة ومن يُنكر ويعترض ويبين، ولذلك فإن مقاومة الفساد والانحلال واجب على المسلمين جميعاً، وإعلان الإنكار لأي محاولة من أولئك العابثين بشرف المسلمين وعفتهم وطهرهم، يجب أن تتوالى هذه المحاولات وهذه الإنكارات لإبقاء مجتمع الإسلام موافقاً لشريعة الله عز وجل، سواء الذي شرعه في العبادات أو في المعاملات بين الزوجين، أو بين المبتاعين وبين غير ذلك من أحوال المجتمع كافة.
عباد الله! إن المسلم لا يكره زوجته إلا لأمر شرعي ولو كرهها لشيء من خُلقها فليصبر؛ لأن الله ندب إلى ذلك فقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] وربما رزق منها بولد فجعل الله فيه خيراً كثيراً، كما ذكر ابن عباس رضي الله تعالى عنه، والمسلم يحافظ على زوجته ويصونها في حجابها وخروجها، ولا يسافر بها إلى أماكن المعصية، ولا يُرغمها على رؤية ما حرم الله، ويحفظها من أماكن المنكرات ومن التشبه بالكافرات.(154/5)
حال الآباء مع الأبناء
عباد الله: إن المصيبة فادحة برجال قد جلبوا هذا الدش أو هذه الصحون الفضائية وهذه الأطباق إلى بيوتهم، ثم تتوالى علينا القنوات الجنسية، والذي كان لا يأتي إلا بأجهزة خاصة أو بالتشفير صار يأتي الآن بغير تشفير، وإذا كانت قناة صارت أربعاً ثم صارت عشراً وهكذا تتوالى هذه القنوات الإباحية بالمجان، وقد اكتشف بعض الآباء والأمهات أولادهم في أثناء غيابهم قد فتحوا على هذه المحطات، إلى متى ننتظر إذاً ونحن نترك وسيلة الفساد العظمى في البيوت تعمل عملها في أبنائنا وبناتنا وأنفسنا؟! يا عباد الله! إن اليهود يريدون انحلالاً كاملاً وعرضاً للعورات المكشوفة على الملأ، يريدون أن يعم الانحلال في العالم ليركبوا الحمير عند ذلك بزعمهم، فإن الناس إذا كانوا بغير دين وخلق؛ صاروا كالبهائم أو أحط من البهائم، فعند ذلك يركبهم اليهود.
فهل يتفطن المسلمون الذين يجلبون هذه الأطباق الفضائية إلى بيوتهم إلى الخطر الداهم الذي يتهدد أبناءهم، وبناتهم وزوجاتهم وأنفسهم بهذه الشرور.
وإذا كان أول ما جاء لم يكن فيه هذه القنوات الجنسية، فقد صارت الآن فما هو موقفك يا عبد الله؟! هل تقبل مسلسل الإفساد بالتدريج، هل تنطلي عليك القضية؟ هل يتبلد الحس أمام المنكر؟ هل تُبقي هذا المفسد في بيتك وأنت تعلم أن الله عز وجل سائلك عما استرعاك وأي تضييع أعظم من أن يذر المسلم في بيته وسيلة الإفساد تبث سمومها وشرورها بتلك الألوان والجاذبيات وأنواع المناظر على مرأى من بناته وأبنائه من هؤلاء الشباب والمراهقين، بل حتى الصغار الذين صاروا يطلعون على مناظر أرعبت بعضهم، فصاروا يرتجفون من هول ما رأوا وربما أفسدت البعض الآخر الذين انطلقوا يبحثون عن هذه الماهيات ويدققون فيما رأوا.
عباد الله! قليلاً من العودة، قليلاً من التفكير، إننا نحتاج إلى تدبر في الحال، إننا نحتاج إلى وقفة نقف بها أمام هذا التيار الهادر وأمام هذا الإعصار الذي يعصف بديننا وأخلاقنا وعفتنا.(154/6)
معاملة الرجل لزوجته
عباد الله: كيف برجل يفتح هذا الجهاز ثم ينادي زوجته لكي تجلس معه، فإذا تأبت ورفضت تلك المرأة التي فيها دين وعفة، قال: إما أن تجلسي وإما أن تذهبي، فإذا أرادت أن تجلس مع زوجها بعدما عاد من العمل، لم يكن إلا هذا الخيار الذي هو من المرارة بمكان، ثم الخيار الآخر فتنصرف كسيفة البال حزينة، فإما أن تجلس وزوجها يرى المنكر وهي تحترق، وإما أن تنصرف فلا جلوس ولا حديث مع الزوج الذي وضع أمامها هذا الخيار.
عباد الله! أين تقوى لله؟! عباد الله! أين الخوف من الله؟! عباد الله! أين الذين يخافون اليوم الآخر؟! يا أيها المسلم! يا عبد الله! اتق الله في نفسك وأهلك وزوجك وبيتك وأولادك! والزوج المسلم يرعى حق زوجته حتى في الفراش فلا يطأها في حيضها ولا يأتيها في دبرها.
ويأمرها بالصلاة امتثالاً لأمر الله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] ويأمرها بغسل الجنابة لأجل إدراك الصلاة وخصوصاً صلاة الفجر، ولا يظلمها حقها في المبيت ويراعي العدل بين الزوجات إن كان لديه أكثر من زوجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من لم يراعِ ذلك، يأتي يوم القيامة وشقه مائلة وقد قال الله: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129].
وكذلك فإن الزوج المسلم لا يمنع زوجته من صلة رحمها، وهو ينفق عليها وعلى أولاده، ولا يلعب المسلم بطلاق، ولا يهزل فيه أبداً؛ فإنه أمر عظيم، ألا فليتق الله من يطلق بالثلاث دفعة واحدة، أو من يطلق في حيض أو يُطلق في طهر أتاها فيه، وأعظم من ذلك الذي يسكر ويطلق، ويشرب الخمر ويشرب الحرام الذي حرمه الله من فوق سبع سماوات، ألا فليتقِ الله الرجل الذي كلما أراد أن يلزم شخصاً بشيء حلف عليه بالطلاق، لا تلعبوا بكتاب الله، لا تلعبوا بأحكام الله، فارعوها حق رعايتها، ثم هذا يقول لزوجته: أنت عليّ مثل أمي أنت كأمي إن لم تفعلي كذا ونحو ذلك، ألا إنه منكر من القول وزور كما قال الله عز وجل: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنْ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة:2].(154/7)
حال الأبناء مع البنات
وكذلك فإن الأب المسلم لا يمنع ابنته من الرجوع إلى زوجها إذا طلقها وصارت في عدة الطلاق الرجعي؛ لأن الله قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228].
والأب المسلم لا ينزع الولد من حضانة أمه ولا يمنعها من رضاعه؛ لأن الله قال: لا تضار والدة بولدها، وهو يُنفق على أولاده امتثالاً لأمر الله الذي قال: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] آلمتني قصة سمعتها من رجل لما طُلقت ابنته وردت إلى بيته قال لها: لا تحسبي أنكِ تجلسي معنا في البيت مجاناً، عليك أن تواصلي العمل وأن تدفعي لي شهراً ألفاً وخمسمائة، وبعضهم يجبر ابنته على العمل لأخذ راتبها وربما رفض زواجها أصلاً؛ ليجعلها مصدر دخل له، أين الشهامة؟! أين الرجولة؟! أين المروءة؟! أين الإنفاق الذي أمر الله به الرجال؟!(154/8)
المسلم لا يأكل إلا الطيبات
والمسلم لا يأكل إلا الطيبات ويرعى ما يدخل في بطنه؛ لأن أول ما ينتن من الإنسان في قبره بطنه، ويراعي قول الله: {كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} [البقرة:169] فلا يشرب خمراً ولا يتعاطى حشيشة ولادخاناً خبيثاً، وينتبه لمكر الكفار في الطعام والحلويات وغيرها في جعل الخنزير والميتة والخمر.(154/9)
المسلم يحفظ اليمين ولا يحلف إلا بالله
عباد الله: إن المسلم يحفظ يمينه فلا يكثر الحلف؛ لأن الله ذم ذلك، فقال: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ} [القلم:10] فليتق الله رجالٌ الحلف على طرف ألسنتهم، كلما رفعوا شيئاً أو وضعوه أو حركوا ساكناً سبق اليمين إلى لسانه، أين توقير الله عز وجل؟ {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13].
وليتق الله الذين يحلفون بغير الله: (ليس منا من حلف بالأمانة) فلا يحلف المسلم بأي معظم، لا بالكعبة ولا برأس أبيه، ولا حياة أولاده، وإنما يحلف بالله العظيم؛ إذا أراد أن يحلف على الأمر المهم الذي يحتاج إلى القسم واليمين.(154/10)
مراقبة الله في الشهادة
وكذلك فإن المسلم يراقب الله في الشهادة التي يشهدها، فهو لا يشهد إلا بعلمٍ فيقول كما يقول الله: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81] ويقيم الشهادة لله عز وجل خالصة، لا يريد من وراء الشهادة جزاء ولا شكوراً ولا مطمعاً دنيوياً فضلاً عن أن يشهد على زور؛ لأن ربه قال في الكتاب العزيز: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] وإذا دُعي حضر كما قال الله: {وَلا يَأْبَى الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282].
ولذلك قال العلماء: الشهادة فرض كفاية ولا يكتم الشهادة إذا تعينت عليه: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283] ويشترط للوجوب عليه انتفاء الضرر؛ لأن الله قال: (وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) [البقرة:282] فلنحذر من الذين يتسرعون في الشهادة، فلا تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته.(154/11)
توقير القضاء وأهله
عباد الله: إن المسلم يُوقر مجالس القضاء، فلا يزدري القاضي ولا يتهجم عليه، بل إنه يحترم ذلك المجلس؛ لأنه سيحكم فيه بشريعة الله عز وجل، فهذا أوان حضور الخصوم بين الذي سيقضي فيهم بالشريعة ولذلك كان توقير القاضي الذي يحكم بالشريعة من توقير الشريعة، ومن توقير الدين الذي هو من توقير الله عز وجل.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن استقاموا على شريعتك، اللهم اجعلنا ممن تمسكوا بدينك، اللهم اجعلنا ممن أقاموا الدين في حياتهم، ولا تجعلنا ممن تعدوا حدودك، ولا انتهكوا حرماتك إنك أنت الرحمن الرحيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(154/12)
معالم في الجهاد على أرض الشيشان(154/13)
تعري الكفر وأهله
عباد الله: ولا يزال لواء الجهاد قائماً في أرض الشيشان، ولا شك أن في ذلك رفعة لأهل الإسلام، ولا شك أن انتصار أولئك المسلمين وصمودهم انتصار في حد ذاته ورفع لرءوس أهل الإسلام في الأرض قاطبة، وتتبين من هذه المعارك أمور كثيرة للإنسان المسلم، فيتعرى الكفر وأهله، هؤلاء الكفار الذين لبسوا على المسلمين طويلا، وادعوا بأنهم أهل العدل وبأنهم يقيمونه وبأنهم يحاكمون المجرمين في محاكم العدل الدولية وغيرها، هؤلاء الذين يدعون إلى المواثيق الأممية التي تحفظ حق الشعوب، قد انكشفوا في هذا المسلسل الذي يحدث في بلاد الشيشان وغيرها، نرى اجتماع الكفار على حرب الإسلام سواء مباشرة بالسلاح واليد كما يفعل الروس، أو بالمال كما يمدهم اليهود صراحة ويآزرونهم معنوياً، فاليهود يقفون مع الروس في حرب الشيشان، وأولئك الكفار الذين يبذلون لهم الغِطاء المعنوي، والذين يعطونهم المهلة تلو المهلة والتأجيل تلو التأجيل في العقوبات وتعليق العضوية وغيرها، إنه انكشاف حقيقي للوجه القبيح، وليس للكفار وجه حسن، وكل وجوههم قبيحة، هذه الوجوه التي أسفرت عن حرب المسلمين في هذه المعركة التي نشهدها.(154/14)
كذب الروس
عباد الله: وقد انكشف فيما انكشف أمام الملأ كذب أعداء الله الروس، فهم الذين قالوا: سنسحقهم في أيام وليالٍ، فإذا بالحرب تمتد شهوراً وهم الذين قالوا: إن في جروزني بضع مئات من الصبيان والمتعصبين، فإذا بهم يقولون الآن: إن فيها ثلاثة آلاف من خيرة المقاتلين المدربين وأصحاب الخبرات، إن هذه الحرب تكشف عن تفاهة أولئك القوم الذين يتحدثون عن الصبي الكوبي الذي يملئون به وسائل أعلامهم، وصبيان المسلمين تحت القصف والنيران في الشيشان وتحت المجاعة والأوبئة كالسل الرئوي وغيره في أنجوشيا، فأين عقول أولئك القوم وأين الموازين التي يدعون إليها؟! إن القضية قد كشفت حقيقةً على أن في العالم فراغاً في القيادة لا يحله ولا يملؤه إلا أهل الإسلام.(154/15)
النصر من عند الله
عباد الله: إن القضية قد كشفت فيما كشفت أيضاً أموراً من النصر وقواعده التي جاءت في كتاب الله عز وجل، لقد تبين بجلاء قول الله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126] تبين في حال أولئك الشيشانيين الذين يقاتلون شبه منفردين بإمكاناتهم الذاتية خصوصاً وهم في قلب الحصار في عاصمتهم وفي غيرها، من الذي يمدهم الآن وهم في حصارهم إلا الله عز وجل: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126] لقد تبين أن من نصر الله نصره الله: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] وهم على ما فيهم من قصور؛ فإن الله عز وجل قد أنزل عليهم تثبيتاً من عنده، فكيف إذا عاد المسلمون إلى الدين حقيقة، ونفوا أنواع القصور وبدلوا ذلك بأنواع من الأسباب الشرعية إذاً لاكتسحنا العالم.(154/16)
النصر مع الصبر
عباد الله: لقد تبين أيضاً القاعدة التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم: (إن النصر مع الصبر) وهكذا صبروا فنصرهم الله في مواطن ومواقع كثيرة، وقد سبق أن صمود أولئك القلة في العدد والعُدد أمام أولئك الكثرة الكاثرة في العدد والعُدد هو نصر بحد ذاته، وكل يوم يمر على المسلمين في جروزني وهي تحت سيطرتهم، وهم يقاومون هو نصر بحد ذاته، نعم إن أولئك الروس الكفرة يريدون أن يزجوا بقوىً بشرية كثيرة حتى يئول الأمر إلى احتلال تدريجي؛ لأنهم يراهنون على أنه مهما قتّل الشيشان من البشر الذين يدفعونهم، فإن الكثرة في النهاية تغلب الشجاعة، ولكن الله عز وجل قادر على إفشال خططهم وأن يردهم خائبين ونسأل الله أن يفعل ذلك.
عباد الله! ليس النصر على العدو بكثرة العدد ولا العُدد ولا إحكام الخطط ولا الترتيبات التي يضعها القادة، وإنما على ما ذكر الله بقوله: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:251] فإذن الله إذا جاء؛ لم يقف أمامه شيء البتة، ومن أخذ بأسباب النصر وتوكل على الله وصدق وأخلص؛ فإن الله عز وجل ينصره، وقد رأينا ذلك فعلاً في الواقع الذي يعيشه إخواننا في تلك البلاد، فهم الذين استردوا أربول وجديرمس ورفعوا رايتهم في وسط مدينة شالي بعد أن حاصروا مئات الوحدات الخاصة الروسية في ثلاثة من المباني وردوا الروس مرة أخرى إلى أطراف جروزني الآن في هذه اللحظات، والحمد لله رب العالمين.
إن استمرار الانتصارات سيكون باعثاً للأمل في الأمة، وسيحرك في المسلم مناطق أخرى في العالم للجهاد والاستقلال عن الكفار ما دام النصر ممكناً وهذا ما يرعب الكفرة أشد الرعب، فلذلك يجتمعون بقضهم وقضيضهم على حرب الإسلام وأهله.(154/17)
كشف المنافقين من الأمة
وقد كشفت المعركة فيما كشفت المنافقين من هذه الأمة والصامتين والمكتوفين الذين لا يحركون شيئاً، فهذه الفضيحة قد حلت، ولذلك ربما تمنى بعض أولئك المنافقين أن ينتصر الروس فعلاً؛ لتنتهي تلك المقاومة فيستريحوا من ذلك الحصار النفسي.
عباد الله: لا ننسى أن لدعاء المسلمين أثراً، وأن لإنفاقهم ومددهم لإخوانهم أثراً، والله عز وجل جعل المسلمين جسداً واحداً في شرعه هكذا: (إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) ورغم تباعد ما بيننا وبينهم من البلدان والمسافات لكننا نواليهم: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71].
وكذلك ننبذ الكفرة ولو كانوا قريبين ونكرههم على قاعدة البراءة من الكفار، إن قضية الولاء والبراء تتضح أكثر فأكثر من خلال هذه الحروب، وهذه الأولوية للجهاد التي ينصبها الله في أماكن مختلفة من الأرض، وكلما غط المسلمون في سبات، أيقظهم الله بأمر جديد، ألا ترون أن المسلسل يتداعى، وأن القضية لا تتوقف فبعد البوسنة كوسوفا وكشمير وغير ذلك ثم الشيشان، وكلما نامت الأمة؛ أيقظها الله عز وجل بقضية جديدة، تبعث الأمل وتوقظ روح الجهاد وتحرك النفوس للبذل والعطاء والدعاء.
إن المسلسل ينبئ أن القضية مقبلة على أمر عظيم وشيء كبير، والله يفعل ما يشاء: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253].
اللهم إنا نسألك النصر العاجل لإخواننا في الشيشان وفي غيرها من البلدان، اللهم أعزهم، اللهم وحد كلمتهم واجمع صفوفهم على التوحيد، وسدد رميتهم، اللهم قوِّهم وأنزل عليهم تثبيتاً من عندك.(154/18)
لغتنا الجميلة هل نعود إليها [1]؟
لقد نزل القرآن الكريم باللغة العربية، وهي اللغة التي اختارها الله تعالى لنا أهل الإسلام، فلابد من الاهتمام بها والحرص على تعلمها وتعليمها للأجيال، إلا أن هناك ظاهرة تفشت في المجتمعات العربية، وهي ظاهرة الخلط بين العربية وغيرها، والتباهي المشين بحفظ غيرها من اللغات عند أبناء الإسلام.(155/1)
اللغة العربية هي لغة القرآن
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى أنزل علينا الكتاب باللغة العربية، فقال عز وجل: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3] أي: بُينّت معانيه وأحكمت أحكامه، قرآناً عربياً بيناً واضحاً، فمعانيه مفصلة، وألفاظه واضحةٌ غير مشكلة، أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، فهو معجز في لفظه ومعناه {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر:28] نزل بلسان عربي مبين، لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا لبس، بل هو بيانٌ ووضوحٌ وبرهانٌ {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} [طه:113]، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] أنزل الله القرآن بلسان عربي فصيح لا لبس فيه ولا عيب {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} [الرعد:37] محكماً معرباً، واضحاً جلياً مبيناً {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2].(155/2)
سبب نزول القرآن باللغة العربية
وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأديةً للمعاني التي تقوم بالنفوس، لا يضيق صدر العربي الفصيح أن يعبر عما فيه، فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات على أشرف الرسل بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدأ إنزاله في أشرف شهور السنة وهو رمضان، في أشرف ليالي العام في ليلة القدر، فكمل الكتاب من كل الوجوه {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192 - 195] تكلم الله بالقرآن بالعربية حرفاً وصوتاً، وأنزله سبحانه وتعالى باللغة العربية، وتكلم به إلى جبريل، وأسمعه جبريل محمداً صلى الله عليه وسلم باللغة العربية، ولما اتهم الكفار محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه أتى بالقرآن من نجار رومي بـ مكة نصراني تعلم منه القرآن، فقال الله رداً على هذه الفرية: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] ذلك النصراني رومي لسانه أعجمي، وهذا لسانٌ عربيٌ مبينٌ، فكيف يخرج العربي المبين من فم رجل نصراني رومي؟!(155/3)
نشأة اللغة العربية
اللغة العربية كانت هي لغة الأقوام العرب الأولى، من العرب البائدة من عاد وثمود، والعرب الباقية من جرهم وقحطان وحمير، حتى ظهر إسماعيل عليه السلام، فصارت نقلة عظيمة في عالم اللغة العربية، فقد جاء في الحديث الصحيح في قصة إسماعيل لمّا ضرب جبريل الأرض، فنبع ماء زمزم، وجاءت قبيلة جرهم، ونزلوا عند أم إسماعيل، قال عليه الصلاة والسلام: (وشب الغلام) وفي رواية: (ونشأ إسماعيل بين ولدانهم، وتعلم العربية منهم) تعلم العربية من جرهم، ثم حدثت النقلة، فجاء في الحديث: (أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل عليه السلام) وجاء في حديث ابن عباس: (أول من نطق بالعربية إسماعيل عليه السلام) قال ابن حجر رحمه الله تعالى: وروى الزبير بن بكار في النسب من حديث علي بإسناد حسن: (أول من فتق الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل) وبهذا القيد يجمع بين الخبرين، فيكون بعد تعلمه أصل اللغة من جرهم ألهمه الله العربية الفصحى فنطق بها، ومن هنا قال بعض العلماء: إن اللغة العربية وحي.
فإذاًَ تعلم إسماعيل أصل اللغة من جرهم، ثم ألهمه الله النطق بالعربية الفصحى، قال أهل السير: إن عربية إسماعيل أفصح من عربية يعرب وقحطان وجرهم، فصارت العربية على لسان إسماعيل العربية الفصحى بإلهام من الله تعالى، ثم حدثت النقلة العظيمة بنزول القرآن باللغة العربية، فبلغت اللغة أوجَّ مجدها وقمة عزها؛ حينما صارت لغة الإسلام ونزل بها القرآن، وتحدى الله فصحاء العرب أن يأتوا بمثله فعجزوا، وبسورة فعجزوا، وبآية فعجزوا، فنادى عليهم بالعجز إلى يوم الدين {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88].
ووجد العرب في القرآن ألفاظاً ووجوهاً من لغة لم يسمعوا بها من قبل، ولم تعرف إلا من القرآن.
تكلم الله بالعربية، وأنزل القرآن بالعربية، وصارت هذه اللغة مقوماً أساسياً من مقومات وجود الأمة، صارت علامةً فارقة، وتمييزاً للأمة.(155/4)
تعلُّم اللغة العربية
قال شيخ الإسلام رحمه الله: اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرضٌ واجبٌ، فإن فهم الكتاب والسنة فرضٌ، ولا يفهمان إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ثم منها ما هو واجب على الأعيان؛ على كل واحد بعينه، ومنها ما هو واجب على الكفاية؛ على بعض الأمة دون الآخرين.
وجاءت الآثار عن السلف بتعلم اللغة العربية وإعراب القرآن وأمرنا بتعلم اللغة العربية.
وأجمع العلماء على أن معرفة النحو من شروط الاجتهاد، وحثُّوا على تعلمها، وقال بعض أهل العلم: من شروط المفتي أن يعرف من اللغة والنحو ما يعرف به مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم في خطابهما، وقال بعض السلف: تعلموا النحو كما تتعلمون الفرائض والسنن.
وقال النووي رحمه الله: وعلى طالب الحديث أن يتعلم من النحو واللغة ما يسلم به من اللحن والتصحيف، واللحن هو الخطأ، كنصب المرفوع ورفع المجرور ونحو ذلك.
وقال الشعبي رحمه الله: النحو في العلم كالملح في الطعام لا يستغنى عنه.
وكره الإمام أحمد -رحمه الله- أشد الكراهية تسمية الشهور بالفارسية، وهذا له وجهان كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: الوجه الأول: إذا لم يُعرف المعنى جاز أن يكون محرماً، واليوم يعرف الكثيرون أن أسماء بعض الشهور بلغة الأعاجم التي نستعملها في جميع الشركات، وبعض الشهور لها علاقة بأسماء الآلهة التي يعبدها الكفار، ومن هذا الباب منع العلماء الرقية بالأعجمية خوفاً أن يكون فيها شركٌ وما لا يجوز.
الوجه الثاني: نهى الإمام أحمد -رحمه الله- عن تسمية الشهور بغير العربية، واستعمال الأسماء الأعجمية؛ كراهة أن يتعود الرجل النطق بغير العربية، فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون، وأمة الإسلام تتميز باللغة العربية، فإنها لغتها، ولغة كتابها، وشرح الكتاب والسنة بها.
وقد تكلم الفقهاء في حكم الأذكار والأدعية في الصلاة بغير العربية، وفرقوا بين القادر والعاجز، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما الخطاب بالأعجمية من غير حاجة في أسماء الناس والشهور، فهو منهيٌ عنه مع الجهل بالمعنى بلا ريب وكره الشافعي رحمه الله لمن يعرف العربية أن يسمي بغيرها وأن يتكلم بها خالطاً لها بغيرها وهذا الذي قاله الأئمة مأثورٌ عن الصحابة والتابعين، وقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم] وسمع محمد بن سعد بن أبي وقاص قوماً يتكلمون بالفارسية، فقال: [ما بال المجوسية بعد الحنيفية؟ ٍ] جاء الله بالحنيفية وباللغة العربية، فما بالكم تستعملون اللغة المجوسية الفارسية بدلاً من الحنفية ولغتها اللغة العربية؟! وإسناده صحيح.(155/5)
الخلط بين العربية وغيرها
هذا بيانٌ لما يقع فيه كثيرٌ من الناس اليوم من الكلام في مدارسهم ومكاتبهم وبيوتهم من لغة الأعاجم، والذين يتباهون بها، والذين يظنون أنهم يكونون في تقدم وحضارة إذا تكلموا بها، ثم إن المؤسف أن تجد هؤلاء يخلطون اللغة العربية باللغة الأعجمية خلطاً مقرفاً مقززاً مشوهاً للغة العربية، وقد يقول بعض الناس: إنها تصدر بغير قصد بعض الكلمات، قال شيخ الإسلام رحمه الله: جاء عن بعض السلف أنهم كانوا يتكلمون بالكلمة بعد الكلمة -أي: كلمات قليلة قد تدخل في عرض الكلام- من الأعجمية.
فالكلمة بعد الكلمة من الأعجمية، ليس المقصود بها كلمة عربية وكلمة أعجمية، كلا! إنما المقصود: كلمات نادرة تأتي في عرض الحديث، قال شيخ الإسلام: فالكلمة بعد الكلمة من الأعجمية أمرها قريب، وأكثر ما يفعلون ذلك إما لكون المخاطب أعجمياً، فيضطرون للإتيان ببعض الكلمات ليفهم، أو قد اعتاد الأعجمية فيريدون تقريب الأفهام إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص، وكانت صغيرة قد ولدت بأرض الحبشة لما هاجر بها أبوها، فكساها النبي صلى الله عليه وسلم خميصةً -أي: فستاناً قصيراً- وقال: (يا أم خالد هذا سنا).
وسنا بلغة الحبشة: الحسن الجميل.
ثم قال رحمه الله: وأما اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية التي هي شعار الإسلام، ولغة القرآن؛ حتى يصير ذلك عادةً للمصر وأهله، أو لأهل الدار، أو للرجل مع صاحبه، أو لأهل السوق، أو لأهل الديوان، أو لأهل الفقه، فلا ريب أن هذا مكروهٌ؛ فإنه من التشبه بالأعاجم، وقد نهينا عن التشبه بالكفرة (ومن تشبه بقومٍ فهو منهم).
قال رحمه الله: ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر ولغة أهلها رومية، وأرض العراق وخراسان ولغة أهلها فارسية، والمغرب ولغة أهلها بربرية؛ عودوا أهل هذه البلاد العربية حتى غلبت على أهل هذه الأمصار مسلمهم وكافرهم -حتى الكافر- في البلاد التي فتحها المسلمون عودوهم العربية لتكون معبراً وقناةً تدخل من خلالها الدعوة، ومنفذاً إلى القرآن والسنة، وبدون لغة لا يوجد فهم.
وانظر الآن إلى حال المسلمين، فإنهم يفتحون الكتاب العزيز وكثيراً من الكلمات لا يفهمونها فضلاً عن الأحاديث، ولا مراد الله بها، ولا المقصود منها، ولا الأحكام التي تضمنتها، ما هو السبب؟ عدم فقه اللغة، وعدم معرفة معانيها، فإن ضعف اللغة العربية أثرّ تأثيراً مباشراً وواضحاً في فهم الكتاب والسنة.
ثم يقول شيخ الإسلام رحمه الله: إنهم -أي: المسلمون المتأخرون الذين جاءوا من بعد- تساهلوا في أمر اللغة، واعتادوا الخطاب بالفارسية حتى غلبت عليهم، وصارت العربية مهجورةً عند كثيرٍ منهم، ولا ريب أن هذا مكروهٌ، وإنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية.
كيف نعالج هذه القضية؟ كيف نوجد الحل؟ قال: اعتياد الخطاب بالعربية حتى يتلقنها الصغار في المكاتب -أي: مدارس الصبيان- في المكاتب، وفي الدور، فيظهر شعار الإسلام وأهله.
الآن بالعكس تماماً، تدريس اللغة الإنجليزية للأطفال في الروضة، ومخاصمة القائمين على المدارس: لماذا لا تزيدون حصص اللغة الإنجليزية؟ وبعض الآباء يتعمدون اليوم الخطاب مع أبنائهم بلغة الكفرة داخل بيوتهم، وفي السيارة، وفي الطريق، يقولون: ليتعلم الولد اللغة مبكراً، ويضرون لغته الأصلية، ويضرون فهمه وعقله بازدواجية في اللغة، وقد أكد علماء التربية حتى من غير المسلمين على أنها ضارة، ونصوا في دول الكفر على عدم السماح بتعلم الولد في المرحلة المبكرة في سن الطفولة لغةً أخرى غير اللغة القومية، ولا يمكن أن تجد في فرنسا مثلاً روضة أطفال يتعلم مع الفرنسية اللغة العربية، أو لغة أجنبية؛ لأن قانون حماية الثقافة الفرنسية والإنجليزية وغيرها لا يمكن أن يسمح بتعلم لغةٍ أخرى، ونحن نرحب ونسهل ونهلل بأولادنا إذا نطقوا باللغة الإنجليزية، وترى كلمات التشجيع تنطلق مادحةً للولد إذا رطن بالأعجمية، وبعض أولاد المبتعثين إلى الخارج رجعوا الآن ولا يفقهون اللغة العربية، وصرت تحتاج أن تترجم لولد عربي ابن عربي اللغة العربية.
وهذا من فتح الطريق لاقتباس ثقافات القوم الكفرة، وعادات القوم الكفرة، وفهم أغاني الكفرة، وغير ذلك من أفلام الكفرة، ومجلات الكفرة، وكتب الكفرة؛ لأن الأولاد صاروا يحسنون اللغة الإنجليزية، فلم نستفد الفائدة الصحيحة، ولم نعلم الأولاد اللغة الإنجليزية في السن الصحيح، ولا بالكيفية الصحيحة، ولا ليستفيدوا المعارف التي يحتاجها المسلمون، وإنما فتحنا الباب على مصراعيه، فصرنا نتباهى بأن الطفل يتكلم الإنجليزية بطلاقة، ثم يتعتع في اللغة العربية ولا يحسنها ولا يحسن الكلام بها.
قال رحمه الله في علاج المشكلة العظيمة: وإنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية حتى يتلقنها الصغار في المكاتب وفي الدور، فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة، وكلام السلف، بخلاف من اعتاد لغة، ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى، فإنه يصعب.
ثم قال -رحمه الله- مبيناً أثر اللغة على الدين والخلق والعقل: واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيراً قوياً بيناً، ويؤثر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، إذا كانوا يتعلمون العربية يتشبهون بالصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق، ولذلك ترى كثيراً من الذين يجيدون الإنجليزية يتكلمون بها دائماً قد أثرت في عقولهم، وقد أثرت في أخلاقهم، بل إنك ترى بعض العرب الذين يدرسون في الخارج إذا أرادوا أن يتحدثوا عن موضوعٍ خسيس، أو كلامٍ فاحشٍ، قلبوا إلى اللغة الإنجليزية.
أيها الإخوة: والعلاج أنه لا بد من اعتياد الكلام باللغة العربية الفصحى.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا أوفياء للإسلام، وأن يجعلنا ممن قاموا بحدود الله تعالى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(155/6)
اهتمام السلف بالعربية
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، أشهد أنه الله الحي القيوم ذو الجلال والإكرام، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: لقد كانت تربية السلف لأولادهم على النطق باللغة العربية وإتقانها أمراً عجيباً، وذلك لأنهم كانوا يعرفون تمام المعرفة أن الولد لن يفهم كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إلا إذا أجاد اللغة العربية، وكانوا يحاربون اللحن والخطأ في اللغة جداً، وكان أمرهم شديداً في هذه المسألة، فقد قرأ بعضهم يوماً قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] العلماءُ فاعل، فهم الذين يخشون الله، فقرأها: إنما يخشى اللهُ من عباده العلماءَ، فقال له قائل: كفرت، أتنطق بالكفر؟ جعلت الله يخشى العلماء! وسمع أعرابي -وكانوا من أهل اللغة- قارئاً يقرأ: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:3] قال: ورسولِه، فقال: معاذ الله أن يتبرأ الله من رسوله وذلك لأنه جرَّ كلمة "ورسوله" فصارت معطوفة على المشركين، ومعاذ الله أن يتبرأ من رسوله.
ومرَّ أحدهم على قارئٍ يقرأ قوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:221] لا تُنكح أي: لا تزوج مشركاً حتى يسلم، فلا يجوز أن تجعل مسلمة تحت يهودي، أو نصراني، أو كافر، فمن جهل القارئ قرأ: ولا تَنكحوا المشركين بفتح التاء، فقال: والله لن نَنْكِحَهم حتى ولو آمنوا، كيف ينكح الذكرُ الذكرَ؟ فانظر إلى شناعة التغيُّر الذي يحدث بتغيُّر ضمة، أو فتحة، أو كسرة.
وكان الوليد يخطب العيد، فقرأ: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:27] وهذه جملة تامة، كان واسمها وخبرها، فقرأها كانت القاضيةُ، فصارت جملة ناقصة، لأن القاضيةُ اسم كان، وماذا بعدها؟ على من القاضية؟ فقال عمر بن عبد العزيز: عليك فتريحنا منك.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن، فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحبابٍ أن نحفظ القانون العربي ونصلح الألسنة المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة، والاقتداء بالعرب في خطابها، فلو ترك الناس على لحنهم، لكان نقصاً وعيباً.
ويعجبني زيُّ الفتى وجمالهُ ويسقط من عيني ساعة يلحن
ورأى أبو الأسود الدؤلي رحمه الله أحمال بضائع التجار مكتوب عليها: لأبو فلان، واللام حرف جر، والصحيح: لأبي فلان، فقال: سبحان الله! يلحنون ويربحون.
أيها الإخوة: كان الأمر عندهم مهماً، أما الأمر عندنا اليوم فغير مهم، لو قال أحد في مجلس ( I is ) لنظر إليه شزراً من الحاضرين كيف يخطئ في الكلمة؟ يا متخلف، يا جاهل، لكن لو أخطأ في آية أو حديث، ونصب مرفوعاً، وجر منصوباً، وغيَّر المعاني، فمن ذا الذي ينكر عليه في المجلس؟ ولا زالت قضية اللغة العربية مفتوحة، والكلام فيها آتٍ إن شاء الله؛ لأن القضية خطيرة -أيها الإخوة- أن تفقد الأمة مميزاً وخصيصةً من خصائصها تحت مطارق الهزيمة النفسية، والتخلف الذي نعيش فيه، ولعلنا نتم الكلام على هذا الموضوع بإذن الله تعالى.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من المتفقهين في الدين، العاملين بسنة سيد المرسلين، وأن يرزقنا النصر على الأعداء، اللهم إنا نسألك أن ترفع شأن هذه الأمة وأن تنصرها على أعدائها، وأن تحرر ما سلب من أراضيها، وأن تعيدها إلى كتاب ربها وتحكيم شريعتها يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(155/7)
اللغة العربية هي السبيل إلى فهم الكتاب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فالحمد لله الذي اختار العرب ليصطفي منهم رسوله الخاتم صلى الله عليه وسلم، وينزل بلسانهم كتابه المعجز المتعبد بتلاوته إلى قيام الساعة، هذه اللغة التي صفيت منذ القدم من نفوس مختارة بريئة من العرب الأقحاح الذين لم يخالطوا غيرهم، فسلمت ألسنتهم من الخسائس المزرية والعلل الغالبة، حتى إذا جاء إسماعيل نبي الله بن إبراهيم خليل الله أخذها وزادها نصاعةً وبراعةً، وأسلمها إلى أبنائها العرب وهم على الحنيفية السمحة ملة إبراهيم عليه السلام، فظلت تتحدر على ألسنتهم مختارةً مقفاةً حتى أظل زمان نبي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله بها كتابه بلسان عربي مبين، ثم تحدى العرب ملوك الفصاحة وأمراء البيان أن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا في الحال، وأخبر أنهم عاجزون في المآل أيضاً {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:23 - 24]، {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88].
نزل القرآن الكريم باللغة العربية فخراً للعرب ولقريش، وحق لهم أن يفخروا به، والله قال: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:43 - 44] شرفٌ لك ولقومك، شرفٌ لهم أنا أنزلناه بلغتهم {وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44] ستسألون عن هذا الشرف.
ولا يمكن أن نعرف الدين إلا باللغة العربية، وتعلم الدين واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، قال العلماء: لا يتهيأ لمن كان لسانه غير العربية من العجم والترك وغيرهم أن يعرفوا إعجاز القرآن، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من الأنبياء من نبي إلا أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيام).
قد ذهبت عصا موسى، وناقة صالح، ومعجزة عيسى بشفاء المرضى، وكتب الأنبياء جميعاً ذهبت، أصابها التحريف، وبقيت هذه المعجزة نزول القرآن بالعربية، فكيف يستمر عمله في الواقع ويؤمن عليه الناس؟ كيف إلا إذا تعلموا لغته، وعرفوا إعجازه، وكيف يعرفون إعجازه بغير اللغة العربية؟ وكيف يتذوقونه؟ وكيف تعرف بلاغة القرآن في قوله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} [مريم:4]؟ وبلاغته في الأمثال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور:39] {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد:14] يقول للماء: ارتفع، وهل يرتفع إلا إذا رفعه؟ ضرب الأمثلة للمنافق المتحير المضطرب: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة:20] ووقفوا، لا نور، ولا سير، ولا حركة، كيف تعرف أن تقديم ما من شأنه التأخير يفيد الحصر؟ وهذا الفرق بين قولك: نعبد إياك، وإياك نعبد.
إياك نعبد، أي: لا نعبد إلا أنت كيف نعرف سائر أنواع الإعجاز في الكتاب العزيز إلا باللغة العربية؟ وحتى السنة والحديث، قال صلى الله عليه وسلم: (أُعطيت جوامع الكلم) وهي المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة، كيف سنعرف جوامع الكلم، ومعاني الأحاديث إلا باللغة العربية، وفهم ألفاظها وتراكيبها.(155/8)
لابد من لغة مشتركة توحد الأمة
قال العلماء: ولسان العرب أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلم أحداً يحيط بجميع ألفاظه غير نبيٍ، وهو موجود في الأمة متفرقاً لا يضيع منه شيء، ولما أنزل الله الكتاب ووحد الناس، أمر بأن يوحد الناس ربهم، وأن تكون الأمة متحدةً لا متفرقة، علم أنه لا بد من لغة توحدها.
قال الشافعي رحمه الله: فإذا كانت الألسنة مختلفةً بما لا يفهم بعضهم بعضاً، فلا بد أن يكون بعضهم تبعاً لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتبع على التابع، وأولى الناس بالفضل في اللسان من لسانه لسان النبي صلى الله عليه وسلم.
فلا بد من لغة مشتركة لتوحيد الأمة، وهذا مطلب شرعي.
ثم قال الشافعي رحمه الله: فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني، لماذا ضل أهل البدع؟ لأنهم لم يعرفوا دلالة الألفاظ على المعاني.
وقال الماوردي رحمه الله: ومعرفة لسان العرب فرضٌ على كل مسلم من مجتهد وغيره.
لما اكتسح الإسلام بلاد العالم، نشر الصحابة اللغة العربية، وتلك منقبةٌ عظيمةٌ من مناقبهم، فتغلغلت في جميع نواحي الأرض من المغرب إلى الهند، واكتسحت اللغة العربية سائر اللغات المستعملة في تلك البلدان؛ كالسريانية واليونانية والقبطية والبربرية، وأثرت في اللغات الأخرى كالأردية والفارسية تأثيراً عظيماً، واكتسحت اللغة العربية اللغة اللاتينية في أسبانيا في العصور الوسطى، حتى أن أهل الذوق من الأسبان بهرتهم نصاعة هذه اللغة، واحتقروا لاتينيتهم، وأقبلوا على تعلم هذه اللغة، وإحصائية القاموس الأسباني والبرتغالي تشهد بأن ربع كلمات الأسبانية والبرتغالية مشتقةٌ وأصولها عربية، بل أثرنا في لغات الأقوام الأوربيين الآخرين.(155/9)
لماذا نحب الرسول؟ [1]
إن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة لله عز وجل، فلا يكتمل إيمان العبد إلا بحبه لله ورسوله بدلالة اقتران محبة الله مع محبة رسوله في كثير من الآيات والأحاديث، ولا تقبل المحبة إلا إذا كانت محبة قلبية حقيقية، ولمحب رسول الله صلى الله عليه وسلم علامات كثيرة، منها: احترامه حال حياته وبعد موته، وتوقيره، واتباع سنته وهديه وغير ذلك.(156/1)
تمام محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، أرسله الله عز وجل بالهدى ودين الحق، فأقام به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ففتح الله تعالى به قلوباً غلفا، وأعيناً عميا، وآذاناً صما، فصلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.
أيها الإخوة! حديثنا في هذه الليلة عن موضوع عظيم من موضوعات العقيدة والإيمان، التي ينبغي أن يهتز له شعور كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر؛ لأن الكلام في أساسيات العقيدة من المواضيع الهامة جداً بالنسبة للإنسان المسلم؛ لأنها تبين الطريق، وترسم الأهداف، وتحيط المسلم علماً بأشياء هامة يحتاج إليها لكي يصحح العقيدة والعمل، وفي هذا الموضوع الذي سنتكلم عنه الليلة: كيف نحب النبي صلى الله عليه وسلم؟ محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطريق إليها، معناها، وأهميتها، واجباتها، ومستلزماتها، وما ينبغي أن يكون موقف المسلم تجاه نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.
هذا الموضوع -أيها الإخوة- على درجة عظيمة من الحساسية، لما وقع الناس فيه من أهل الإسلام أهل القبلة، بين الإفراط والتفريط، هذا الموضوع ينبغي أن يفتح كل مسلم قلبه وسمعه لتفاصيله، ويتذكر حتى ولو لم يتعلم شيئاً جديداً، ويستعيد إلى نفسه وقلبه ذكريات هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ويتذكر حقوق رسول الله وواجباته.(156/2)
اقتران محبة الله ورسوله في الآيات والأحاديث
أيها الإخوة! لقد قرن الله تعالى بين محبته ومحبة رسوله في آيات وأحاديث، والملاحظ أن محبة رسول الله لم تفرد بذكر في القرآن إلا وقد قرنت بمحبة الله تعالى، ومن أعظم الآيات التي نبدأ بها الكلام عن هذا الموضوع، قول الله تعالى في سورة التوبة: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24] نداء خطير إلى جميع المسلمين بوجوب تقديم محبة الله ورسوله على هذه الأشياء جميعاً، تقديم محبة الله ومحبة الرسول على محبة الأب والابن والزوجة، وعلى محبة الأهل جميعاً، وعلى محبة التجارة، والأموال، والمساكن، يجب أن تقدم محبة الله ورسوله على هذه الأشياء جميعها؛ لأنه -أيها الإخوة- لا تستقيم حياة المسلم ولا يستقيم دينه ولا تستقيم عبادته، إلا بهذا التقديم المتضمن كمال الحب والخضوع لأوامر الله ورسوله.
ولذلك وضع الشرع معياراً يعرف فيه المسلم كيف يتذوق حلاوة الإيمان، هذا المعيار وهذا المدار الذي تدور عليه حلاوة الإيمان والإحساس بها، هو محبة الله ورسوله، ولذلك يقول أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) رواه البخاري.
وهذا تأكيد لما جاء في الآية.
ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أركان العقيدة الأساسية، ويقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: إن حلاوة الإيمان لا توجد إلا بتكميل هذه المحبة بثلاثة أمور، حتى يجد المسلم حلاوة الإيمان، فإيمان بعض المسلمين بارد، ولذلك لا يستشعرون له طعماً ولا مذاقاً، ولا يحسون به وجوداً مطلقا، وذلك لأنهم فقدوا حلاوة هذا الإيمان وطلاوته، يقول رحمه الله: تكميل هذه المحبة أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ليس المقصود أصل الحب فقط، ليس المقصود فقط أن نحب، لا، وإنما موافقة ما يحبه المحبوب، وكره ما يكرهه المحبوب؛ لأن بعض المسلمين يحبون الله ورسوله، لكن لا يحبون الله ورسوله أكثر من باقي الأشياء، فعندهم أصل المحبة، لكنها محبة ناقصة غير كاملة، ولذلك تحدث المعاصي والآثام والانحرافات عن شرع الله تعالى.
أولاً: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وثانياً: تفريع هذه المحبة وهو: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله؛ لأن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب، إذا كنت تحب إنساناً فلابد أن تحب من يحبه هذا الإنسان، إذا كنت صادقاً في محبته، فإذا كنت تحب الله ورسوله، فلابد أن تحب ما يحبه الله ورسوله، وهذا من تفريع المحبة، والثالث: دفع ضد هذه المحبة، وهي: أن يكره المسلم ضد الإيمان، وهو الكفر كما يكره أن يقذف في النار.(156/3)
محبة النبي صلى الله عليه وسلم قلبية خلافاً للجهمية
كذلك -أيها الإخوة- فإن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة قلبية، ليس كما قال بعض أهل الكلام والفلسفة: هو تقديم ما يقتضي العقل السليم رجحانه، فإن هذه المحبة محبة عقلية باردة، المحبة الصحيحة أن يشترك القلب في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، محبة فيها ميل القلب الفعلي، محبة يشتعل معها الوجدان والفؤاد اشتعالاً وتحرقاً واشتياقاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فهي إذاً: ميلٌ قلبي حقيقي، وليس المراد تقديم ما يقتضيه العقل السليم كما فسره بعض من وافق قواعد الجهمية.
وكذلك قال القرطبي رحمه الله: كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إيماناً صحيحاً، لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة، غير أن الناس متفاوتون، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى، كان مستغرقاً في الشهوات، محجوباً في الغفلات في أكثر الأوقات، هؤلاء الناس يتفاوتون، ليس كل الناس يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم على مرتبة واحدة، ومحبته صلى الله عليه وسلم كما ذكره الحافظ رحمه الله في الفتح على قسمين: فرض، وندب، فالفرض هو: المحبة التي تبعث على امتثال أوامره صلى الله عليه وسلم والانتهاء عن المعاصي التي انتهى عنها، والندب: أن يواظب المسلم على النوافل، ويجتنب الوقوع في الشبهات، بعض الناس قد يفعل الواجبات وينتهي عن المحرمات، هل هذا هو الكمال؟ لا.
هناك مراتب أعلى منها: أن يحافظ أيضاً على النوافل والمستحبات، وأن يبتعد عن الشبهات، والمتصف بذلك عموماً نادر.(156/4)
الصحابة وشدة حبهم لرسول الله
ولذلك -أيها الإخوة- كان لمحبته صلى الله عليه وسلم أهمية عظيمة جداً، تستطيع يا أخي المسلم أن تتلمس هذه الأهمية في هذا الحديث الصحيح المخرج في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: متى الساعة يا رسول الله!) -أعطني خبر، ما هو الموعد التي تقوم عنده الساعة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأسلوب المعلم المدقق في تعليمه، الذي يريد لفت نظر المتعلم عن غير المهم إلى الأهم، فأجابه عن سؤاله بسؤال مقابل، أراد منه لفت نظره إلي المهم في الموضوع، ليس هذا مهماً بالنسبة للمسلم أن يعرف موعد قيام الساعة بالضبط، لو كان مهماً لأخبر به عز وجل- (فقال عليه الصلاة السلام لهذا الرجل: ما أعددت لها؟) -الرجل يقول: متى الساعة يا رسول الله؟ ماذا أجاب عليه السلام؟ - (ما أعددت لها؟) -سؤال مقابل- (قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة) -أي: يا رسول الله! أنا أؤدي الواجبات، نعم، أصلي الصلاة الواجبة، والصيام الواجب، والزكاة الواجبة أأُديها، لكن ليس عندي نوافل كثيرة، ليس عندي صلاة كثيرة نافلة، وقيام ليل كثير، وصدقة نافلة كثيرة، ولا صيام تطوع كثير- (ولكني أحب الله ورسوله) -وهذا الصحابي لا يكذب على رسوله عليه الصلاة والسلام إنه يخبر بالحقيقة- يقول: (ولكني أحب الله ورسوله، قال: فأنت مع من أحببت.
قال أنس: ففرحنا يومئذ فرحاً شديداً)؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أنت مع من أحببت).
قال شراح الحديث: في هذا الحديث إيماء إلى أن دعوى المحبة مع مجرد الطاعة الواجبة كافية في دخول الإنسان الجنة، وأما دعوى المحبة مع ارتكاب المعصية فمذمومة، فهذا الصحابي ما قال: يا رسول الله! أنا أعصي الله ورسوله وعندي معاصٍ كثيرة، وأنا أحب الله -مع ذلك- ورسوله، لا، ما قال الرسول: أنت مع من أحببت، وإنما قال له: أنت مع من أحببت، لما أخبره الرجل بأنه يطيع الطاعة الواجبة يؤديها، وعنده نوافل لكن ليست كثيرة، لكن قلب هذا الرجل ممتلئ بمحبة الله ورسوله، عند ذلك قال له عليه الصلاة والسلام: (أنت مع من أحببت).
وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم، حتى أكون أحب إليه من والده وولده، والناس أجمعين) حديث صحيح.
لا يكتمل إيمان أحدكم حتى أكون أحب إليه، أي: أشد حباً من حب هذا الرجل لولده ووالده والناس أجمعين.
قال عمر بن الخطاب: (يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي) -قال: بصراحة يا رسول الله أنا أحبك أكثر من أي شيء إلا من نفسي، أنا أحب نفسي أكثر منك- (فقال صلى الله عليه وسلم: لا، والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك -لا يكتمل إيمانك يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك- فقال له عمر: فإنك الآن أحب إليّ من نفسي، فقال: الآن يا عمر) حديث صحيح.
عمر بن الخطاب في حقيقة الأمر يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسه، لو أن عمر والرسول صلى الله عليه وسلم كانا في موقف، بحيث أنه لابد أن يقتل أحدهما لينجو الآخر، فالظن بـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سيقدم نفسه فداءً له عليه الصلاة والسلام، وهذا ما كان يحصل منه في المعارك، لكن عمر كان في تلك اللحظة غافلاً عن هذه المسألة وغير منتبه، أو كان يجهل هذه المسألة، فلما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم الصواب، بادر فوراً إلى الإذعان وإلى تقرير الحقيقة التي رسخت في نفسه، أو أنه قد ذهب عنه ذهوله عن هذه الحقيقة فأظهرها، فقال: أنت يا رسول الله أحب إلي من نفسي.
قال ابن حجر رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: وفيه فضيلة التفكر؛ لأن الإنسان قد يكون في حقيقة الأمر يحب الله ورسوله أكثر من أي شيء، لكن في الواقع الذي يمارس فيه الأشياء قد يكون يحب أشياء أكثر من الله ورسوله، فعندما يفكر هذا الرجل هل أنا أحب الله ورسوله أكثر أم الوظيفة أم الزوجة أم الولد؟ حينما يفكر يصل إلى نتيجة، هذا يدل على أهمية التفكر في هذه القضايا، عندما يواجه الإنسان المسلم أمراً يحبه جداً، فليسأل نفسه هذا
السؤال
هل أنا أحب الله ورسوله أكثر أم أحب هذه القضية؟ هذا التفكير يقوده للإيمان بهذه المسألة.(156/5)
محبة النبي صلى الله عليه وسلم دليلها الاتباع
وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم -أيها الإخوة- نحن نحبه حباً جماً لأشياء كثيرة: فالرسول عليه الصلاة والسلام بالمؤمنين رءوف رحيم، جاءنا رسول من أنفسنا -منا نحن البشر- عزيز عليه ما هو شديد علينا، الرسول صلى الله عليه وسلم ظل يناقش ربه في قضية الصلوات وتخفيض الصلوات مرات كثيرة، حتى هبطت الصلاة من خمسين إلى خمس، لماذا؟ لحبه صلى الله عليه وسلم لأمته، لا يريد أن يحرجهم: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ما ترك أمراً إلا علمنا إياه، لحبه لنا يعلمنا الخير ويحذرنا من الشر، لذلك كانت محبته واجبة، ونابعة من القلب صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم رحمه الله: فلما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة.
كل واحد يقول: أنا أحب الرسول صلى الله عليه وسلم، هات الدليل على صدق ما تدعي من المحبة، ما هو الدليل؟ يقول ابن القيم رحمه الله: فجاءت هذه الآية {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] قل: إن كنتم تحبون الله فعلاً فاتبعوني، الرسول صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس (فاتبعوني) اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم يحببكم الله.
إذاً ما هو الدليل أيها الإخوة؟ ما هي البينة التي تقدم شاهد عدل على محبة الإنسان لله ورسوله؟ إنها الاتباع، اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ولذلك كان من أحب شيئاً آثره على نفسه، وآثر موافقة المحبوب على شهوات وتطلعات ورغبات النفس، وإلا لو لم تحصل هذه الحالة لم يكن صادقاً في حبه، لذلك يقول ابن القيم في النونية:
أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في إمكان
إن الرسول صلى الله عليه وسلم عادى الشيطان وأهل الشر والبدعة والفساد، والفواحش بجميع أنواعها، ثم أنت أيها المسلم الذي تدعي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تقدم وتصادق وتواد من حاد رسول الله وعاداه، وتدعي حباً له ما ذاك في إمكانِ، مستحيل أن يحصل.(156/6)
علامات محبة النبي صلى الله عليه وسلم(156/7)
الاقتداء به واتباعه في الأمر والنهي
واعلموا أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها علامات منها: الاقتداء به، واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله وجوباً وندباً، واجتناب نواهيه حرمة أو كراهة، والتأدب بآدابه في جميع ما جاء به من المكارم والمحاسن والفضائل، في العسر واليسر، في وقت القبض والبسط، ووقت الضر والشكر، وعلى صعوبة الأمر وسهولته، ومحنته ونعمته، وعلى جوعنا وشبعنا، وبلائنا ورخائنا، ومنشطنا ومكرهنا، وحال سعتنا وضيقنا، أو حال غضبنا ورضانا، أو حال رقتنا وحزننا وفرحنا، أو زمن انشراح صدورنا أو انقباض أمورنا، يجب أن نقدم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع هذه المواقف أيها الإخوة.
لذلك كان تحقيق المحبة مسألة صعبة المنال، لكنها ليست مستحيلة، يمكن تحقيقها لمن صدق ما عاهد الله عليه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] فالبداية أيها الإخوة موضوع الطاعة، طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أكبر الأدلة على محبته، اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وإيثاره على أهواء النفس علامة كبيرة من العلامات الدالة على صدق المحبة، الرضا بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحكيم شرع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما شجر بين الناس من أنواع الخلافات، وترك الاعتراض عليه صلى الله عليه وسلم فيما حكم لنا أو علينا، هذه من قواعد الطاعة الأساسية، وامتثال أوامره واجتناب زواجره، وقبول نصحه صلى الله عليه وسلم.
كان صحابة رسول الله أمرهم عجيب جداً في تحقيق هذا الجانب، كان انقيادهم له صلى الله عليه وسلم عجباً من العجب، ومضرب الأمثال، لذلك يقول أحد الصحابة، لما قدم من البادية، دخل المدينة ولم يكن يعرف من هو الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول هذا جابر بن سليم رضي الله عنه: دخلت المدينة فرأيت رجلاً -انظروا للوصف أيها الإخوة في الحديث الصحيح- يصدر الناس عن رأيه، لا يقول شيئاً إلا صدروا عنه، قلت: من هذا؟! -تعجب الرجل هذا لحال الجالس، من هذا الرجل الذي كلما قال أمراً تبعه الناس، قال لهم: اذهبوا ذهبوا، تعالوا جاءوا، لا تفعلوا لم يفعلوا، من هذا الرجل الذي يصدر الناس عن رأيه؟ قالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الأعرابي الصحابي قدم لنا هذه الصورة الحية لمجتمع الصحابة كيف كانوا ينقادون لأوامر نبيهم عليه الصلاة والسلام.(156/8)
اتباع الواجب والمستحب من سنته صلى الله عليه وسلم
أيها الإخوة! وإن من علامات طاعته واتباع سنته صلى الله عليه وسلم، أن ننتبه إلى مسألة يقع فيها كثير من المسلمين، يأتون إلى سنته عليه الصلاة والسلام فيقسمونها إلى واجب ومستحب، فيأخذون هذه الأقسام، ويقولون: أما الواجب من السنة فنفعله، وأما المستحب فنتركه، هذا التقسيم الذي وضعه علماؤنا وضعوه كتقسيم علمي، ما أراد العلماء رحمهم الله عندما بينوا الأحكام فقالوا: هذا واجب وهذا سنة، أي: ما قصدوا تخذيل الناس عن اتباع السنة، وتثبيط الهمم والعزائم عن الأخذ بالسنن، كلا والله وحاشاهم أن يكون مقصدهم هذا، إنما كان تقسيماً علمياً تتضح فيه الأمور.
ولذلك كما يقول ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين: كان السلف إذا عرفوا أن الرسول نهى عن أمر، لا يقولون: هل هذا نهي تحريم أو نهي كراهة.
لا يسألونه يقولون: هذا محرم أو مكروه، الآن كثير من الناس الذين يسألون عندما يأتي ويسألك فتقول له: إن رسول الله نهى عن هذا، أو إن هذا الأمر لا ينبغي فعله، فيقول لك: وضح لي، حرام أو مكروه، فإذا قلت له: حرام ربما يستجيب، وإذا قلت له: مكروه، يقول: إذاً الحمد لله، في سعة نفعل هذا الشيء.
ما كان حال السلف إذا أخبروا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأمر يقولون: هل هذا الأمر واجب أو مستحب؟ ويحرصون على المعرفة لكي يخرجوا بعد ذلك بفعل الواجب وترك المستحب، ما كانت هذه حالة السلف، متى علموا أن الرسول أمر بأمر بادروا بالتنفيذ، سواء كان أمر وجوب أو أمر استحباب، إذا علموا أن الرسول نهى عن أمر كانوا يبادرون للانتهاء عنه، ولا يفرقون بين محرم ومكروه، لا يفرقون في العمل.
هذه التفرقة هي التي دفعت بالناس إلى هذا الواقع المخزي؛ لأن الذي يتنازل عن السنن -أيها الإخوة- سيأتي عليه اليوم الذي يتنازل فيه عن الواجبات، والذي يفعل المكروهات سيأتي عليه اليوم الذي يفعل فيه المحرمات، إن للدين سياجاً يحوطه ويحميه، المستحبات تحمي الواجبات، والمكروهات تحمي المحرمات، سياج وسور، حمى يحمي هذا الدين.
وبالإضافة -أيها الإخوة- لهذه المسألة فإن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تظهر بجلاء إذا اتبعت المستحب من سنته، أكثر مما تظهر المحبة عندما تتبع الواجب من سنته فقط؛ لأن أكثر الناس قد يتبعون الواجب، لكن القلة هم الذين يتبعون المستحب، ولذلك كثير من الناس عندما تأتي وتناقشه في أمر من الأمور، فتقول له: إن هذا الأمر واجب، فيقول: لا يا أخي ليس واجباً هذا سنة، اللحية مثلاً: النبي صلى الله عليه وسلم أوجبها، فيقول لك: لا.
هذه سنة، على فرض أنها كانت سنة، افرض جدلاً أنها سنة، لماذا لا تطبق؟ يا إخواني! أهل السوء الآن عندما يقتدون بالفجار والكفرة، هؤلاء المغنين والممثلين لهم قدوات في قطاعات كبيرة في مجتمعات المسلمين، فترى الناس يقلدون المغني أو الممثل في أدق الجزئيات، فيجعل تسريحة شعره مثل تسريحة شعر المغني، ووضع الجيوب في القميص والبنطلون، كوضع جيوب هذا المغني والممثل، وشكل الثوب والنعال ولون القميص، وكيفية الياقة وما شابه ذلك مثل المغني بالضبط يقلدونه، أليس كذلك؟ لنكن واقعيين أليست هذه هي الحالة؟ لو ظهرت موضة بين النساء، مجلة نشرت صور أزياء، ترى نساء المسلمين يتهافتن على التقيد الشديد بها، حتى أن إحداهن تعيب الأخرى لأنها خالفت جزئية من جزئيات تصميم الثوب، أليس كذلك؟ تقول لها: لا.
هذا ليس مثل الموضة، هذا فيه اختلاف في الكم والأزرار.
يا إخواني! إذا كان هذا حال التعساء والمغرورين، الذين غرهم الشيطان، إذا كان هذا حالهم مع الفجرة والقدوات السيئة، أفلا يكون حالنا نحن مع رسولنا صلى الله عليه وسلم القدوة المثلى والعليا التي أمرنا الله بالاقتداء به، أفلا يكون حالنا معه أن نتأسى ونقتدي بسنته في كل صغيرة وكبيرة، أليس كذلك؟ ألا يجب هذا؟ نعم.
ولكنهم في غفلة، ولكن الناس يظلمون أنفسهم، يقلد الكفرة في أدق الأشياء، عندما تقول له: هذا من فعل الرسول، يقول لك: هذه سنة وأنا لست ملزماً بها، عجباً لأحوال المسلمين، ولهذا الابتعاد والإعراض: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
الله أرسل إلينا الرسول أيها الإخوة لكي نقول: نأخذ منه هذا وندع هذا، وهذه جزئية وقشور وأمور تافهة وجانبية، هل هذا ينم عن محبة صادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ينبغي أن نتنبه لمثل هذا يا إخواني، وعلى الدعاة إلى الله بالشكل الأخص أن يقتدوا برسول الله في الكبيرة والصغيرة، والواجب والمستحب، حتى تظهر محبتهم له عليه الصلاة والسلام، وإلا فقل لي بربك ما الفرق بينهم وبين عامة الناس؟ والاقتداء به عليه الصلاة والسلام عامٌ، سواء كان في الأمور الشاقة أو في الأمور البسيطة، لو فعل رسول الله أمراً شاقاً على النفس كالقيام إلى صلاة الفجر مثلاً، فيجب علينا أن نقوم لصلاة الفجر ونتوضأ، حتى ولو كان الجو بارداً والماء بارداً، ينبغي أن نقوم ونسبغ الوضوء على المكاره، ونقوم إلى المساجد لصلاة الفجر، إذا كنا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما هو الحال في هذا الجانب، فإن اتباع رخصه عليه الصلاة والسلام، والأخذ بالرخص التي ترخص بها صلى الله عليه وسلم هو أيضاً من الأمور الواجبة، فالذي يقول مثلاً: أنا ما أقصر في صلاة السفر، لا آخذ بالرخصة، فنقول له: أنت مخطئ، وأنت على شفا هلكة وعلى ضلالة، إذا نبذت الرخصة، لاعتقادك بأنك أنت لا تفعلها، وإنما هي خاصة بالرسول.
وانظروا إلى هذا الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها عند الشيخين: (صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ترخص فيه، فتنزه عنه قوم -قالوا: لا.
نحن لسنا كالرسول لا نترخص- فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه -قام يخطب في الناس- ثم قال: ما بال قوم يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية) أنا أخشى الناس لله، يقول عليه الصلاة والسلام، لو كان هذا الأمر من خشية الله لفعلته، ولو كان واجباً لما تركته، فنقتدي أيها الإخوة بالرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأشياء، سواء كانت عزيمة أو كانت رخصة، سواء كان أمراً شاقاً أم صعباً، سهلاً أم عسيراً، نقتدي به عليه السلام، لا نفرق، لا نقول: نأخذ بالأصعب، ولا نقول: نأخذ بالأسهل، لا، نأخذ بما فعل الرسول، سواء كان سهلاً أو صعباً.
وكثيرٌ من المسلمين لا يدركون هذه القاعدة، ولذلك ترى الضلال، إما مذهب متشددين من الخوارج، وإما متساهلون متميعون من عامة المسلمين اليوم، الزم السنة سواء كان أمراً عسيراً أم يسيراً، الحج عسير فيه جهاد وإنفاق أموال وتعب، تذهب وتجاهد بنفسك، وقصر الصلاة في السفر، وجمع الصلاتين مع بعضهما، والمسح على الخفين والجوربين من الأمور السهلة والرخص التي أتى بها عليه السلام، تتبع السنة، الزم غرزه عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال بعض العلماء: من ترك القصر في صلاة السفر، فقد أساء وتعدى وظلم نفسه.(156/9)
كثرة ذكره صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه والاطلاع في سيرته
ومن علامات محبة رسول الله: كثرة ذكره، أولاً: بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، ولعلنا نتكلم في خطبة الجمعة عن هذه المسألة؛ لأن إفرادها مهم، ولا مكان الآن للتفصيل فيها، وفيها جزئيات مهمة جداً، الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم: (من ترك الصلاة عليّ خطئ طريق الجنة) حديث صحيح، الإكثار من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم في الصباح والمساء، ولهذا كان من أذكار الصباح والمساء الصلاة عليه عشراً في الصباح وعشراً في المساء، وبعد ذلك زد كما تشاء، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً.
وكذلك يشمل الإكثار لذكره، الإكثار من الاطلاع وقراءة وتلاوة سيرته عليه الصلاة والسلام، وأخباره وصفته ومعيشته وأحواله وأخلاقه.
أيها الإخوة! الناس اليوم عندما يحبون ممثلاً من الممثلين، أو مغنياً من المغنين، أو سافلاً أو سافلة من السافلات والساقطات، يشترون الكتب والأفلام التي تتكلم عن حياة هؤلاء الناس مهما عظمت قيمتها، أليس كذلك؟ يأخذون شريطاً يتكلم عن حياة اللاعب الفلاني وأهم الأهداف التي سجلها، وكتاباً عن حياة المغني والممثل الفلاني من ميلاده إلى وفاته، ويقرءونها بإعجاب عجيب، وأخلاق رسول الله، وشمائله، وسيرته، وأخباره، وفضائله، مهجورة لا يكاد يطلع عليه إلا النزر اليسير من المسلمين، هل هذه محبة؟ وهل هذا صدق؟ وهل هذا إخلاص؟ هل نحن صادقون فعلاً؟(156/10)
الشوق إلى لقائه صلى الله عليه وسلم
ومن علامات محبة الرسول صلى الله عليه وسلم: الشوق إلى لقائه صلى الله عليه وسلم، فكل حبيب يحب لقاء حبيبه، ولهذا ورد في حديث الأشعريين الذين قدموا من اليمن، أبو موسى الأشعري وأصحابه، أنهم كانوا عند قدومهم إلى المدينة يرتجزون، فماذا يقولون في رجزهم في الطريق؟ يقولون: غداً نلقى الأحبة، محمداً وصحبه، كانوا يمنون أنفسهم بلقاء الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يقدمون إلى المدينة، نحن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونتمنى لقاءه في الجنة، نسأل الله أن يجمعنا به في الجنة، نحن مشتاقون إليه عليه الصلاة والسلام اشتياقاً عظيماً نسأل الله من وراء هذا الاشتياق أن يرزقنا مرافقته في الجنة.
وكان صحابة رسول الله إذا ذكروه خشعوا واقشعرت جلودهم وانقبضت أنفسهم حسرة عليه، وكانوا إذا تذكروه بكوا من شدة الفراق، وكذلك كان حال كثير من التابعين كما سيمر معنا.(156/11)
محبة من يحبه صلى الله عليه وسلم من الصحابة
ومن محبته صلى الله عليه وسلم: محبة من يحب -كما ذكرنا- ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في حديث البخاري في الحسن والحسين: (اللهم إني أحبهما) وقال في حديث مسلم عن فاطمة بنت قيس، قال عليه الصلاة والسلام: (من أحبني فليحب أسامة) فنحن نحب أسامة بن زيد محبة خاصة؛ لأن رسول الله كان يحبه، وقال عليه السلام في الحديث الصحيح: (من أحب علياً فقد أحبني، ومن أبغض علياً فقد أبغضني) في صحيح الجامع، فنحن نحب علياً محبة خاصة؛ لأن رسول الله كان يحبه، وعن أبي هريرة قال: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى خباء فاطمة -بيت فاطمة - رضي الله عنها، فقال: أثم لكع؟ أثم لكع؟ -أي: الحسن رضي الله عنه، فالرسول كان يحب الحسن، فكان يقول: الحسن موجود، الحسن موجود- فلم يلبث أن جاء يسعى، حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أحبه، فأحبه وأحب كل من يحبه)، فنحن نحب الحسن رضي الله عنه؛ لأن رسول الله أحبه.
وقد أحب الصحابة رضوان الله عليهم نبيهم إلى درجة عجيبة، حتى أنهم كانوا يحبون الأشياء المباحة التي كان عليه الصلاة والسلام يحبها، حتى ولو لم يأمر الشرع بالاقتداء به عليه الصلاة والسلام فيها، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب بعض الأكلات مثلاً، ليس من السنة أن نحب الأكلات التي يحبها الرسول؛ لأن هذه قضايا تعتمد على المحبة الطبيعية، كل واحد له ذوقه في الطعام، لكن مع ذلك بعض الصحابة كانوا يدققون في محبته، لدرجة أنهم كانوا يحبون الأشياء، أو الأكل الذي كان يحبه الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره (أن خياطاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام، قال أنس: فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام، فقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزاً من شعير ومرقاً، وفي رواية: ثريداً عليه دباء -الدباء: القرع المعروف- قال أنس: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء حوالي القصعة -الرسول صلى الله عليه وسلم يبحث عن الدباء ويأكلها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب الدباء- وكان يحب الدباء، فلم أزل أحب الدباء من يومئذ).
سبحان الله العظيم! هذه قضية الأكل، قضية أذواق خاصة بالناس كل واحد يتذوق، العجيب أن أنساً رضي الله عنه نزل في نفسه محبة القرع لما شاهد الرسول صلى الله عليه وسلم يحب القرع، انظر إلى ما وصلت إليه المحبة.(156/12)
بغض من يبغضه صلى الله عليه وسلم
كذلك أيها الإخوة: من محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بغض من أبغضه عليه السلام، سواء كان الرسول صلى الله عليه وسلم أبغض شخصاً، فنحن نبغض هذا الشخص؛ لأن الرسول أبغضه، أو أن رجلاً من الناس أبغض الرسول صلى الله عليه وسلم، فنحن نبغض هذا الرجل؛ لأنه يكره الرسول، بل إن كره الرسول صلى الله عليه وسلم كفرٌ.
ولذلك أيها الإخوة! من الردة عن الإسلام سب الرسول صلى الله عليه وسلم، والحد هو القتل، تصور لو أن إنساناً سب رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمه في الشرع أن يقتل، أن يجز عنقه، وابن تيمية رحمه الله له كتاب عظيم القدر، جليل الشأن، في هذه المسألة: الصارم المسلول على شاتم الرسول، يوضح فيه بالأدلة القاطعة أن من سب الرسول صلى الله عليه وسلم يقتل مباشرة، لابد أن يقتل.
وانظر معي إلى هذا الرجل من الصحابة عبد الله بن عبد الله بن أبي، عبد الله بن أبي هذا كان رأس النفاق، كان له ولد اسمه عبد الله أيضاً، كان من فضلاء الصحابة، عبد الله بن أبي الأب المنافق كان يكره الرسول ويبغضه بغضاً شديداً ويعاديه، ماذا قال الولد للرسول صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله! لو شئت لأتيتك برأسه -أقطع رأس أبي وآتي به إليك- من الذي يفعل هذا ويقدم على هذا العمل؟ إنها المحبة التي وقرت في نفس هذا الصحابي.
كذلك من الأشياء التي أحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمال ينبغي أن نحبها نحن ونواظب عليها، فمثلاً يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: (من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف) في صحيح الجامع.(156/13)
توقيره واحترامه وتعظيمه بعد وفاته
كذلك محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تقتضي توقيره عليه الصلاة والسلام واحترامه، وتعظيمه حتى بعد وفاته، ولذلك قال العلماء: واعلم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وتوقيره وتعظيمه لازم على كل مسلم، كما كان ذلك واجباً حال حياته، وذلك عند ذكره عليه الصلاة والسلام، وعند سماع اسمه وسيرته.
ولذلك كره العلماء رفع الصوت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك عند قراءة حديثه وسيرته، وعند سماع القرآن وتفسير الفرقان؛ لأن القرآن الذي أتى به عليه السلام، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كان من سنة السلف أنهم كانوا يخفضون أصواتهم وينصتون عندما تقرأ عليهم الأحاديث؛ لأن من احترام الرجل احترام حديثه، ومن احترام الرسول صلى الله عليه وسلم احترام حديثه، وعدم مقاطعة الحديث، وخفض الصوت، والإنصات للمحدث الذي يقرأ الحديث، قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور:63].
ومرة من المرات ناظر أبو جعفر الخليفة مالكاً الفقيه العلامة الثقة المحدث، ناظره في المسجد النبوي، أي: مناقشة، فقال مالك للخليفة: لا ترفع صوتك يا أمير المؤمنين في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدب قوماً، فقال: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] ومدح قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات:3] وذم قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان لها أبو جعفر، نزل عند نصح الإمام مالك.
ولذلك الصحابة كانوا يحترمون الرسول أيما احترام، فكان باب بيته صلى الله عليه وسلم يقرع بالأظافير كما ورد في الحديث الصحيح، حتى باب بيت الرسول ما كانوا يطرقونه طرقاً، كانوا يضربون عليه بالأظافير، انظروا إلى الحساسية المرهفة التي تعامل فيها الصحابة مع نبيهم صلى الله عليه وسلم.(156/14)
الإحسان إلى أهل بيته وذريته
ومن حبه عليه السلام كذلك، الإحسان إلى أهل بيته، وذريته، وأمهات المؤمنين وأزواجه صلى الله عليه وسلم، فلو ثبت لك أن فلاناً من الناس من نسل الرسول عليه الصلاة والسلام ومن ذريته، وكان هذا الرجل تقياً ملتزماً بأحكام الإسلام، لا فاسقاً مضيعاً، فيجب عليك أن تحبه محبة زائدة عن محبة باقي الناس لماذا؟ لأنه من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك أوصانا الرسول صلى الله عليه وسلم بالعترة، وأوصانا بأهل البيت، وذريته ونسله، وبأهل بيته خيراً، فيجب احترامهم، إذا كانوا يتقون الله تعالى، أما إذا كانوا لا يتقون الله فليس لهم عندنا محبة ولا تقدير ولا احترام، مثلهم مثل باقي الفساق، ماذا أفاد ولد نوح كون أبيه مسلماً؟ لا شيء، ماذا أفاد أبو الرسول صلى الله عليه وسلم أن ابنه كان رسولاً؟ لا شيء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: (أبي وأبوك في النار) ليس هناك فرق.
فإذاً: هذه المحبة الزائدة عن محبة بقية المسلمين، إذا كان الرجل تقياً معظماً لحرمات الله.(156/15)
نماذج من حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وانظروا معي إلى هذه الأحاديث العجيبة التي تصف محبة الرسول عليه الصلاة والسلام وكيف كان الصحابة يحبونه، قصص عجيبة تجعلك تذهل عندما تسمع هذه الأوصاف.(156/16)
إسلام ثمامة وحبه لرسول الله وبلده
لما أسرت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمامة سيد اليمامة، أسروه وأتوا به مقيداً إلى المسجد، وربط في السارية، بعد أيام أسلم هذا الرجل وكان كافراً، هذا الرجل ثمامة رضي الله عنه ماذا كان يقول؟ يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إليّ).
في لحظات غرست هذه المحبة في قلب الصحابي، عندما فتح قلبه للنور الذي أنزله الله، في لحظات أحب رسول الله ووجهه وبلده.(156/17)
عمرو بن العاص وحبه للرسول صلى الله عليه وسلم
وفي صحيح مسلم عن ابن شماسة قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت فذكر حديثاً طويلاً، فكان في الحديث، فحول عمرو بن العاص وجهه إلى الجدار، وهو على فراش الموت، يقول: [ما كان أحد أحب إلى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له]-ما كان عمرو بن العاص مع محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان ينظر إليه، وإنما كان يخفض بصره أمامه في الأرض احتراماً له عليه السلام-[ولو سئلت أن أصفه ما أطقت] لدرجة أن عمرو بن العاص الصحابي الذي رأى الرسول لو سئل أن يصف الرسول ما استطاع-[لأني لم أكن أملأ عيني منه] عجيب! ما كان يستطيع أن يصف الرسول؛ لأنه ما كان ينظر إليه، احتراماً وتوقيراً له.(156/18)
أم سليم وبلال وحبهم للنبي صلى الله عليه وسلم
وعن أنس قال: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال عندنا -أي: نام عند الظهر نوم القيلولة- فعرق عليه الصلاة والسلام في نومه، فجاءت أمي -صحابية تحب الرسول صلى الله عليه وسلم- فجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها -تأخذ من عرق جبين الرسول وتضعه في القارورة- فاستيقظ الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين؟ قالت: هذا عرقك، نجعله في طيبنا، وإنه أطيب الطيب) لأن عرق الرسول صلى الله عليه وسلم كان أطيب من جميع أنواع الطيب، كان له رائحة مثل رائحة المسك وأشد من رائحة المسك.
هذا الحديث في الصحيحين.
ولما احتضر بلال رضي الله عنه ونزل به الموت، لما نادته امرأته وا حزناه! ماذا كان يقول بلال؟ يقول: [وا طرباه! غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه] كان الصحابة عند فراش الموت يشتاقون، فالمرأة حزينة والصحابي فرح؛ لأنه بعد قليل سيذهب ليلقى الرسول صلى الله عليه وسلم إن شاء الله، صححه الربعي في كتابه وصايا العلماء.(156/19)
شهادة كفار قريش على حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ولما أخرج زيد بن الدثنة، هذا الصحابي لما أسره الكفار وخرجوا به إلى خارج الحرم ليقتلوه وربطوه، قال له أبو سفيان: أنشدك الله تعالى، يقول أبو سفيان -وكان كافراًً- لـ زيد المسلم وهو مربوط: أنشدك الله تعالى يا زيد أتحب أن محمداً الآن مكانك يضرب عنقه وأنك في أهلك؟ -إنه كافر لا يعرف مدى محبة الصحابة- قال: [والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وأنا جالس في أهلي].
أي: ليس فقط هكذا، لا، لو أن الرسول تشاكه شوكة، هذا عندي أعظم من أن أقتل أنا، يقول الصحابي: لو خيرت بين قطع عنقي، وبين شوكة تصيب الرسول، لاخترت قطع عنقي أنا على أن الشوكة تصيب الرسول صلى الله عليه وسلم.
فقال أبو سفيان: ما رأيت أحداً من الناس يحب أحداً، كحب أصحاب محمد محمداً.
وكذلك روى البخاري رحمه الله في حديث الحديبية هذه الغزوة المشهورة والفتح المبين كلاماً نعرفه جميعاً، لكن عندما تفكر في الكلام هذا تجد المسألة في غاية العجب، عروة بن مسعود قبل أن يسلم بعثه أهل مكة ليتفاوض مع الرسول صلى الله عليه وسلم ويصالحه، فجعل عروة يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال عروة يصف كيف كان وضع الصحابة مع الرسول: فوالله ما تنخم محمد نخامة -النخامة ما يخرج من أقصى الحلق من البصاق- إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه -كل واحد يريد أن يأخذ الزائد من وضوء الرسول صلى الله عليه وسلم من الماء الذي توضأ به- وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده -تكلم الرسول سكت الجميع، كل الجيش ألف وأربعمائة صحابي، إذا تكلم الرسول خطيباً فيهم سكت الجميع فوراً لا يحتاجون إلى تسكيت، ولا إلى نداءات بالسكوت يسكتون فوراً- ولا يحدون إليه النظر تعظيماً له، لا ينظر الواحد في الرسول صلى الله عليه وسلم مدة طويلة، لا يحد النظر إليه.
فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم! والله لقد وفدت على كل الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله ما إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدون النظر إليه تعظيماً له.
نسأل أنفسنا سؤالاً، لو كنا عند الرسول -أيها الإخوة- وتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبصق، هل كنا سنتقاتل على هذا البصاق الذي يخرج منه لنأخذه وندلك به جلودنا؟ فكر معي يا أخي هذه المنزلة ليست بسيطة، لكن محبة أصحاب الرسول لرسولهم صلى الله عليه وسلم.(156/20)
حكم التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم وشروطه
وعن أنس رضي الله عنه -وروى هذا الحديث مسلم - قال: (لقد رأيت رسول الله والحلاق يحلقه، وأطاف به أصحابه -أي: داروا حول الرسول والحلاق يحلق الرأس- فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل).
ما تقع شعرة من الحلق إلا وجاءت في يد رجل، لا يتركونها تقع على الأرض.
أيها الإخوة! آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهبت، هذه الآثار كانت عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم حياً، أو ما بقي منها مع الصحابة بعد موته، لكن الآن آثاره صلى الله عليه وسلم فقدت، ويصعب نسبتها إليه عليه السلام، أي: بعض الناس يقولون: في تركيا هناك شعرة وسيف، لكن ليس بمؤكد نسبتها له صلى الله عليه وسلم، فلذلك لا يجوز التبرك بشيء منها بعد موته، مادمنا غير متأكدين من أنها له عليه الصلاة والسلام.
شرط التبرك، التبرك هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم فقط، لا يجوز التبرك بأي أثر من الآثار إلا أثر الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كانت نسبته إلى الرسول صحيحة، فلابد أن تكون نسبة الأثر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم صحيحة، حتى يجوز التبرك به.(156/21)
حال الصحابة بعد فراق محبوبهم
ولما مات عليه السلام، واختاره الله إليه، كيف كان وضع الصحابة؟ روى الترمذي، وهو في صحيح الشمائل المحمدية عن أنس قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا من التراب، وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا.
الصحابة رأوا الدنيا مظلمة في أعينهم لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء في بعض الروايات: أنهم كانوا كالشياه في الليلة الظلماء المطيرة، تفرقوا لا يلوي أحدٌ على أحد، من عظم المصيبة التي وقعت عليهم بفراق محبوبهم.
ولذلك كانت المصيبة في الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم المصائب، أعظم مصيبة في الدنيا ممكن أن تقع لإنسان هي المصيبة التي حصلت بوفاة النبي عليه الصلاة والسلام، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام موجهاً الأمة: (إذا أصابت أحدكم مصيبة، فليذكر مصيبته بي، فإنها من أعظم المصائب) أي: إذا مات لك عزيز وقريب، وصاحب عزيز عليك، حتى تخفف من وقع المصيبة ماذا تفعل؟ تتذكر المصيبة بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فتهون عليك مصيبتك، أيهما أكثر مصيبة وفاة المعلم الذي كان يعلم الناس ويرشدهم أم وفاة هذا الرجل؟ فلذلك هذا إرشاد نبوي لكل إنسان وقعت له مصيبة أن يتذكر مصيبته كمسلم هو به صلى الله عليه وسلم.(156/22)
حال السلف بعد انقضاء عصر الصحابة
ولما انقضى عصر الصحابة وجاء بعدهم السلف رحمهم الله، كيف كان حالهم؟ اسمعوا معي، قال مالك رحمه الله لما سئل عن أيوب السختياني، من كبار علماء السلف قال: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه، وحج حجتين وكنت أرمقه ولا أسمع منه -أي أن مالكاً في البداية ما كان يسمع من أيوب، حتى حصل موقف، ما هو الموقف؟ - أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه، يبكي أيوب حتى أن مالكاً رحمه الله يرحم أيوب من شدة البكاء، فلما رأيت منه ما رأيت، وإجلاله النبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه، أخذ الحديث عنه.
وجاء في بعض الكتب أن الزهري رحمه الله كان من أهنأ الناس، أي: من ألطف الناس في العشرة وأقربهم في المودة، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه لا يعرفك ولا تعرفه، مع أنه كان من أشد الناس مودة وحسن تعامل.
وكان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس الموجودين في المجلس بالسكوت، وقال: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ويتأول أنه يجب له من الإنصات عند قراءة حديثه ما يجب له عند سماع قوله حياً.
وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ينحني ويتغير لونه، أي: هو يجلس فلما يذكره صلى الله عليه وسلم ينحني في جلوسه ويتغير لونه.
ولقد كنت أرى جعفر بن محمد، وكان كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله إلا على طهارة.
وقال مالك: جاء رجل إلى ابن المسيب فسأله عن حديث وهو مضطجع، فجلس وحدثه، فقال الرجل: وددت أنك لم تتعنى -أي: لا تتعب نفسك- فقال: إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله وأنا مضطجع.
وكان مالك إذا حدث عن رسول الله فعل أشياء عجيبة، واسمع معي إلى هذه القصة: كان طلبة العلم إذا جاءوا لـ مالك رحمه لله يطرقون الباب، خرجت إليهم الجارية التي عند مالك، فتقول لهم: يقول لكم الشيخ: تريدون الحديث أو المسائل؟ -تريدون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم تريدون مسائل فقهية، إذا صار كذا ما هو الحكم، وإذا صار كذا ما هو الحكم- فإذا قالوا: المسائل، خرج إليهم مالك مباشرة بثيابه العادية وأفتاهم، وإن قالوا: نريد الحديث، دخل مغتسله فاغتسل، وتطيب، ولبس ثياباً جدداً، وتعمم، ووضع رداءه على رأسه، وتبخر، فيخرج إليهم وعليه الخشوع، ولا يزال حتى يفرغ من حديث رسول الله، فقيل لـ مالك في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله، ولا أحدث به إلا على طهارة.
هؤلاء علماؤنا -أيها الإخوة- هكذا كانت محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه المحبة تدفعهم إلى تعظيم حديثه، ومن خالف سنته عليه السلام فهو ناقص المحبة، ولكن لا يجوز لنا أن نقول لإنسان عاصٍ -هذه نقطة مهمة- أنت لا تحب الرسول مطلقاً، وليس في قلبك أي ذرة من ذرات محبة الرسول، لا، بدليل أن الرجل الذي جاء وقد شرب الخمر وهو النعيمان، وكان يضحك رسول الله، كان هذا الرجل يلف على الأسواق، فينظر الشيء الظريف والذي فيه ظرافة، فيأخذه من البائع ويأتي به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: يا رسول الله! أنا أحببت أن أهديك هذا الشيء الظريف، فالرسول صلى الله عليه وسلم يسر، فبعد قليل يأتي البائع للرسول، فيقول: يا رسول الله! أعطني ثمن هذا، فيقول النعيمان: أنا أخذته وأهديتك إياه، لكني حولته عليك أنت تدفع له.
هذا الرجل حصل معه في مرة من المرات ضعف نفس، فشرب الخمر، فأوتي به ليجلد، فسبه بعض الصحابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابي الذي لعنه: (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله) أي: إذا كان الرجل مسلماً لكن عنده معصية، فاسق، لا نقول له: أنت لا تحب الرسول بالكلية، وليس عندك ذرة من المحبة للرسول، لا، ولكن نترفق بهذا الرجل، وننصحه، ونغلظ عليه إذا احتاج الإغلاظ، لكن لا ننفي عنه المحبة نهائياً؛ لأنه إذا كان الرجل لا يحب الرسول نهائياً، فمعناه أنه قد خرج عن الإسلام إلى الكفر والعياذ بالله.
ومحبة رسول الله -أيها الإخوة- عبادة من العبادات، وما هو الشرط في كل عبادة؟ أولاً: أن تكون خالصة لوجه الله، ثانياً: أن تكون على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، أي عبادة لابد أن يكون فيها هذا، فإذا خرجت العبادة عن أحد هذين الحدين، فقد صارت مردودة على صاحبها.(156/23)
غلو الصوفية وإفراطهم في محبة النبي صلى الله عليه وسلم
فالآن أيها الإخوة! كثيرٌ من الناس في باب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بين إفراط وتفريط، فمنهم من يغالون فيه عليه السلام -كما سنضرب أمثلة بعد قليل- يغالون فيه مغالاة شديدة حتى تخرجهم عن الإسلام بالكلية والعياذ بالله، هذا الرسول صلى الله عليه وسلم مع أن الصحابة كانوا يحبونه جداً، لكن هل كان يرضى أن الصحابة يفعلون أمراً محرماً من أجله هو عليه السلام؟ كلا، فقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في الأدب المفرد عن أنس قال: (ما كان في الدنيا شخص أحب إليهم رؤية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له، لما كانوا يعلمون من كراهيته لذلك)، القيام للداخل من الأمور المذمومة شرعاً، كلما دخل واحد تقوم له، الصحابة كانوا يحبون الرسول جداً، هل كانوا يرتكبون المحظور، فكل ما دخل عليهم الرسول يقومون مثلما تقوم الأعاجم الكفار لملوكهم؟ لا، فانظر يا أخي كيف اقترنت المحبة بطاعة الله، محبة الرسول داخلة ضمن طاعة الله، فإذا كان الأمر محرماً فلا يفعل.
ولذلك أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على رجل أشد النكير، عندما جاءه فراجعه في بعض الكلام فقال: ما شاء الله وشئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني مع الله عدلاً، لا، بل ما شاء الله وحده) أو: (أجعلتني لله نداً) حتى وإن كان يحب الرسول، لا يجوز أن يقول: ما شاء الله وشئت، للرسول، هذا من الشرك الأصغر، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر الأمة أن يرفعوه فوق منزلته التي أنزله الله إياها، فقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله).
انظر إلى هذا النهي عن الإطراء، لا نرفع الرسول مع محبتنا له عليه الصلاة والسلام فوق المنزلة التي أنزله الله إياها، وعندما تأتي إلى المشركين ممن يدعون الإسلام، تجد لهم أقوالاً عجيبة، ومن أمثلتها أيها الإخوة: هذه القصيدة المعروفة بنهج البردة، الذي يقول قائلها وناظمها، يقول فيها:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تجلى باسم منتقم
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل: يا زلة القدم
ما رأيكم بهذا الشعر؟ هذا الشعر الذي يقول فيه الشاعر: يا رسول الله! أنا عند نزول المصيبة عليّ مالي غيرك ألوذ به، ولا غيرك أستغيث به، ويوم القيامة إذا عرق الناس وصاروا في الأهوال، إذا ما أخذت بيدي يا رسول الله! فقل: يا زلة القدم.
ثم يقول:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
ما هي ضرة الدنيا؟ الآخرة، يقول: يا رسول الله! الدنيا والآخرة كلها من جودك بالذي فيها، ومن علومك يا رسول الله علم اللوح والقلم، فماذا بقي لعلم الله إذا كان من علم الرسول علم اللوح والقلم؟ هذه القصيدة التي تقرأ اليوم في الموالد التي يزعم أصحابها أنهم يحبون رسول الله، هذا الضلال والشرك الذي يرفضه رسول الله رفضاً شديداً، وحذر الأمة منه تحذيراً شديداً، ووقع فيه بعض أفراد أمته، وتكلف بعض الناس تكلفات باردة في تأويل مقاصد صاحب القصيدة، فقالوا: ومن علومك، أي: يقصد الله عز وجل، وليس فيها إشارة واحدة إلى أنه يقصد الله، لأن السياق كله يأتي في مدح الرسول، وقس على ذلك أيضاً من التكلفات في التأويل التي لم يقصدها صاحبها أصلاً.
وهذا الرجل الآخر الذي يقول في منظومته:
يا سيدي يا رسول الله يا أملي يا موئلي يا ملاذي يوم يلقاني
هبني بجاهك ما قدمت من زلل جوداً ورجح بفضل منك ميزاني
يطلب من الرسول أن يرجح ميزانه، وأن يغفر له خطاياه جوداً منه، ثم يقول:
واسمع دعائي واكشف ما يساورني من الخطوب ونفس كل أحزاني
إني دعوتك من نيابتي برع وأنت أسمع من يدعوه ذو شان
فامنع جنابي وأكرمني وصل نسبي برحمة وكرامات وغفران
وصل به الحد إلى أنه يطلب من الرسول الكرامات والغفران ومنع الجناب، وهذه الأشياء التي ليست إلا لله عز وجل، ويقول أيضاً:
وحل عقدة كربي يا محمد من همٍ على خطرات القلب مطرد
أرجوك في سكرات الموت تشهدني كي ما يهون إذ الأنفاس في صعد
يقول: يا رسول الله! تعال أشهدني عند الموت حتى تتسهل أحوالي، وحتى تخرج روحي بسهولة
وإن نزلت ضريحاً لا أنيس به فكن أنيس وحيد فيه منفرد
فكن يا رسول الله أنيسي في قبري.
وارحم مؤلفها عبد الرحيم ومن يليه من أجله وانعشه وافتقد
وإن دعا فأجبه واحم جانبه من حاسد شامت أو ظالم نكد
ماذا أبقى هذا الرجل لله عز وجل؟ إذا كان الرسول هو الذي يؤنس الوحشة في القبر، ويثقل الميزان، ويغفر الخطايا، ويحمي من الشرور، فإذاً فما الذي لله عز وجل؟ أيها الإخوة! نحن نحب الرسول صلى الله عليه وسلم، لكننا نرفض بشدة أي محاولة للغلو فيه، ورفعه فوق منزلته، بل إن من الإزراء به رفعه فوق منزلته، الرسول يقول: إنه لا يملك ضراً ولا نفعاً، ويطلب من الناس أن يلوذوا بالله عند حلول المصائب، فمن الإزراء به عليه السلام أن تلجأ إليه أو كما يفعل الجهلة الآن من يطوف بقبره، ومن يمسح الحديد الذي على قبره، ومن يدعوه من دون الله، ومن يقيم الموالد التي تتلى فيها مثل هذه القصائد الشركية، وحتى إذا ما تليت فإن إقامتها في هذا اليوم الذي يزعمون أن إقامة المولد في هذا اليوم من القربات، إنما هو بدعة من البدع، ما فعلها أحب الناس إليه عليه الصلاة والسلام، لا فاطمة ولا علي ولا الحسن ولا الحسين ولا الصحابة ما فعلوا هذا، هل نحن نحب الرسول أكثر من الصحابة؟ إذاً فلم الابتداع في الدين؟ وهؤلاء الجهلة من غلاة الصوفية الذين يقول عنهم المناوي -وفيه شيء من التصوف- يقول في كتابه: قال العارف المرسي: والله لو حجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين.
يقول هذا الصوفي: أنا أشاهد الرسول حياً بجسده دائماً، ولو حجب الرسول عني لحظة واحدة ما عددت نفسي من المسلمين، ثم يقول أيضاً: والله ما صافحت بهذه اليد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هؤلاء ربما فعلاً رأوا أحداً وصافحوه، ولكن من يكون؟ شيطان تمثل لهم فضحك عليهم وأغواهم، وصافحهم على أنه الرسول، وهؤلاء الجهلة صدقوه، وزادوا في ضلالهم وطغيانهم، ومنهم من يزعم أنه تلقى الحكم الفلاني من الرسول، وأنه شاهد الرسول بعينه وجلس معه، وناقش معه أحوال الناس ومشاكلهم، وأنه أخذ أحاديث من الرسول ما أخذها الصحابة، وأشياء عجيبة جداً، سببها الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم.(156/24)
منهج أهل السنة في محبة النبي صلى الله عليه وسلم
فنحن -أيها الإخوة- أهل السنة والجماعة في باب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم حق بين باطلين، الباطل الأول: الغلو فيه، والباطل الثاني: الجفاء، لا نريد نحن أن تقسو قلوبنا على الرسول صلى الله عليه وسلم، ونشعر بالجفاء، لا، نريد أن نحيي قلوبنا بمحبته عليه الصلاة السلام، لكن في الطرف الآخر لا نغلو به ونرفعه فوق منزلته.
والحقيقة -أيها الإخوة- أن هنا مسألة يجب الانتباه إليها، أنه في غمرة ردودنا على أهل التصوف وأهل البدع، قد يصل بنا الحال إلى نوع من الجفاء؛ لأننا غالباً عندما نخاطب هؤلاء الناس نقول لهم: لا تطروني، والأحاديث التي تنهى عن الغلو، وو إلى آخره، لكننا ننسى أن نذكر أنفسنا بمثل هذه الأحاديث التي توضح محبة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم، مثل هذا الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده، ليأتين على أحدكم يوم لأن يراني ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله معهم) منزلة عظيمة، يقول في الحديث الصحيح أيضاً: (أشد أمتي لي حباً قوم يكونون بعدي، يود أحدهم أنه فقد أهله وماله وأنه رآني) يقول النبي صلى الله عليه وسلم في ناس هذه صفتهم: يود أحدهم لو فقد أهله وماله وأنه رآني.
فإذاً أيها الإخوة: حق بين باطلين، محبة قلبيه حارة، وفي نفس الوقت لا غلو ولا جفاء، هذه من الأمور المهمة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الذين يحبون رسول الله حق المحبة، وأن يرزقنا شفاعته، وأن يرزقنا الالتقاء به في جنة الفردوس، وأن يرزقنا الأخذ بسنته صغيرها وكبيرها، ونسأله سبحانه وتعالى أن ينعم علينا وعليكم باتباع طريقة رسول الله ظاهراً وباطناً.(156/25)
الأسئلة
وفي الختام -أيها الإخوة- أسئلة سريعة توجه بها بعض الإخوة وتوجهت بها إلى الشيخ: عبد العزيز بن باز حفظه الله تعالى فأجاب عنها.(156/26)
حكم استعمال التقاويم التي تحمل دعاية البنوك
السؤال
ما حكم استعمال الدعايات من هذه التقاويم التي تطبعها بعض البنوك الربوية؟
الجواب
يقول الشيخ ابن باز: لو كانت هذا التقاويم هي عبارة عن تقاويم فقط، أي: ما عليها دعاية ولا صورة للبنك مثلاً فاستعمالها لا حرج فيه، حتى ولو طبعوها بأموال الربا؛ لأنها تعتبر من المال الضائع الذي لا صاحب له، فلا بأس من الاستفادة منها، أما إذا كانت تحمل شعار البنك وصورة لمبناه، ودعاية للأشياء التي فيه، فعند ذلك لا تستعمل وتجتنب.(156/27)
قول: (سيدي) للكافر والفاجر
السؤال
هل يجوز أن أكتب لرئيسي الكافر السيد فلان الفلاني المحترم، أو المكرم فلان الفلاني الموقر، أو رجل مسلم اسمه اسم مسلم لكنه تارك للصلاة أو يسب الدين، أي: خارج عن الإسلام؟
الجواب
هذا السؤال عرض على الشيخ ابن عثيمين والشيخ ابن باز، فكان جواب الشيخ ابن عثيمين: أما قول: سيد، هذه لا تجوز مطلقاً أن تكتب له السيد، على الظرف أو على الرسالة، وخصوصاً الذين يطبعون فواتير وأشياء من هذا القبيل، ينتبهون لهذا الأمر؛ لأن فيه حديثاً صحيحاً (لا تقولوا: للمنافق سيد) ويلحق به الكفار والفجار، لا نقول: السيد، هؤلاء الذين يطبعون ويكتبون الرسائل لا يجوز لهم بأي حال من الأحوال، أن يخاطب الرجل الكافر فيكتب إليه: السيد فلان؛ لأنه يسخط الله عز وجل إن فعل هذا.
توقير أهل الكفر أصلاً غير وارد في شريعة الإسلام، إلا إن كان من باب الدعوة إلى الله، فنجعل له من الاحترام ما يرغبه ويجذبه، فيقول الشيخ: ابن باز: فأما إذا صار حاجة إلى هذا، فلا بأس من كتابة: المكرم فلان الفلاني المحترم، ويقصد الكاتب بقلبه المكرم عند قومه الكفرة، المحترم عند قومه الكفرة، لا المكرم عندي كمسلم أو عند المسلمين، ولا المكرم عندي أو عند المسلمين، وإنما أكتب إذا اضطررت إلى هذا المكرم أو المحترم عند الكفرة من بني جنسه، أما لفظة السيد فلا يلجأ إليها مطلقاً، يقول الشيخ: ابن عثيمين: ولا حتى للمسلم، لا يقال عنه السيد، ربما لأن هناك حديثاً صحيحاً يقول صلى الله عليه وسلم: (السيد الله) أي: السيد الذي له السيادة الحقيقية الكاملة هو الله عز وجل، فالله عز وجل هو السيد.(156/28)
حكم صلاة المرأة عند تغير العادة بسبب الحبوب
السؤال
امرأة استعملت حبوباً للعادة، أو تضع لولباً فيحصل اختلال في العادة فينزل دم قبل موعده، ويكون أحياناً لون الدم مختلف، أو يحصل اختلال فماذا تفعل المرأة، هل تصلي أو لا تصلي؟
الجواب
يقول الشيخ: ابن باز حفظه الله مجيباً على هذا السؤال: إذا صار هذا التغير المتصل بالعادة، ليس المنفصل عنها بأيام أو يوم، ليس متصلاً بها، أي: أن الدماء تنزل وراء بعض، إذا كان هذا التغير الذي طرأ قد أصبح عادة لها دائماً يأتيها بهذا الشكل بعد أخذ الحبوب أو وضع هذه الأشياء صار التغير هذا دائماً، وصار جزءاً من عادتها، صارت متوعدة أن العادة قد صارت يومين، فصارت بعدما أخذت الحبوب دائماً تزيد يومين، فعند ذلك صارت ملحقة بالعادة فصارت من العادة، أما إن كان اختلافاً عن دم الحيض وما كان عادة لها، في شهر يأتي وفي شهر لا يأتي، فعند ذلك لا يعتبر من دم العادة، وتصلي وتعتبر هذا الدم من الاستحاضة.(156/29)
حكم الصلاة في مسجد بني من الربا
السؤال
ما حكم الصلاة في المسجد المبني بأموال الربا؟
الجواب
فيقول الشيخ: ابن باز مجيباً على هذا السؤال: لا حرج إن شاء الله، وإن كان ليس هو الأفضل، لكن لا حرج في الصلاة في هذا المسجد.(156/30)
قطع صلاة السنة لأجل الجنازة
السؤال
سألني أحد الإخوة، وسألت عنه الشيخ ابن باز، هل تقطع صلاة السنة لأجل صلاة الجنازة؟ أي: واحد يصلي السنة، فجاءت جنازة، فكبر الإمام بعد ما شرع صاحبنا في صلاة السنة، فماذا يفعل؟ لو كمل السنة تفوته صلاة الجنازة، فهل يقطع صلاة السنة أم لا؟
الجواب
يقول الشيخ: ابن باز: الظاهر أنه يقطعها؛ لأن صلاة الجنازة تفوت، أما صلاة السنة فلا تفوت، فلذلك لا حرج في قطعها.(156/31)
مؤامرة تمييع الدين [1]
معاول الهدم في العقيدة الإسلامية كثيرة، ومنها التمييع لكثير من القضايا الخاصة بهذا الدين، ومن هذا التمييع: إنكار الأمور الغيبية والمعجزات الخاصة بالرسل تمييع قضية الحكم على المرتدين تمييع أحكام الفقه وأصول الإسلام تمييع الحواجز بين المسلم والكافر(157/1)
خطر تمييع الدين وثوابته
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإننا معشر المسلمين مطالبون شرعاً بالدفاع عن حياض الإسلام، والذود عن هذه الشريعة المطهرة، ولأن ديننا أعز شيء لدينا، وجُبل الإنسان على الدفاع عن أغلى شيء عنده، وعن النفيس مما لديه، فلابد للمسلم أن يضع نُصب عينيه الدفاع عن شريعة الإسلام، وأن يجعل له ذلك وظيفةً، وألا يقصر في القيام في هذا الأمر، يسعى لله بالحجة والبيان، وينافح عن الإسلام، وعندما يكون المسلمون في ضعف يتكاثر الطاعنون، ويرفع أهل الضلال رءوسهم، يريدون النيل من هذا الدين القويم.
ونحن لا ننكر أيها الإخوة! في مرحلة الاستضعاف التي نعيشها أننا نتعرض لحملة شرسة من أعداء الدين، وأن هناك كثيراً من الخراب في الفكر والعقيدة الذي تسلل إلى نفوس بعض المسلمين ممن حملوا معاول الهدم، يشعرون أو لا يشعرون، ولكنك لا يمكن أن تغمض عين البصيرة عن الروابط التي تربط أعداء الدين في الخارج مع أعداء الدين داخلنا وبيننا؛ لأن الإغماض عن ذلك نوع من الغفلة، لا يمكن أن يليق بمسلم صاحب بصيرة.
ومعاول الهدم كثيرة في هذه العقيدة التي هي صامدة في نفوس أبنائها مهما حصل، ومن ذلك أيها الإخوة موضوع خطير جداً يدندن حوله، ويراد تقريره، وهو موضوع التمييع، تمييع عدد من أحكام الدين، وشعائر الدين، وعدد من المسلمات والثوابت في هذه الشريعة المطهرة.
لقد تولى إفك التمييع وهذا المهمة عدد من المنتسبين إلى أهل الإسلام، الذين يتسمون بأسماء المسلمين، ولكنهم في الحقيقة يريدون أن يقلعوا الشريعة حجراً حجراً، وبعضهم يظن أن ما يفعله هو أمر طيب في صالح الشريعة، وبعضهم يفعل ما يفعل عن تعمد واستمداد من أهل الباطل والكفر وصناديده.
وهذا التمييع أيها الإخوة! أمرٌ جد خطير؛ لأنه قد حصل بسببه التباس عند كثير من المسلمين الذين تأثروا بهذه الأفكار المطروحة، وهذا التمييع صار في جوانب متعددة، ولنأخذ بعض الأمثلة تحت بعض العنوانين لنبين ما هو المقصود بقضية التمييع.(157/2)
إنكار الأمور الغيبية
إن هؤلاء الطاعنين في شريعتنا، يميعون على سبيل المثال كثيراً من أمور الغيب والعقيدة؛ ولأن عقولهم لا تقبل وجود أشياء غيبية كالملائكة والجن مثلاً؛ لأنهم لا يحسون بها ولا يرونها، فيريدون إنكارها.
ولذلك فإنهم يدندنون حول قضية إمكانية أن يعيش المسلم بسلوك الإسلام دون أن يعتقد ببعض الأمور الغيبية، ويقولون: إن المهم هو فقه الشريعة، وأما فقه العقيدة فإنه مسألة فيها حرية وسعة، وأن المسلم يمكن أن يعيش بسلوك الإسلام، حتى ولو أنكر بعض الرموز والخيالات الموجودة في هذا الدين، يقول محمد أركول من ضُلال هذا العصر: لابد من أن نقر أن الذي حرك القبائل أيام النبي محمد -ونحن نقول: صلى الله عليه وسلم- وهو لم يقل: صلى الله عليه وسلم، هو الإيمان كما ورد في القرآن، والتصورات الأخروية من وعد ووعيد، التي دخلت عقول الناس وجعلتهم يؤمنون بها كحقائق واقعية، وليس كخيال ورموز، ونحن ننظر إليها في هذا العصر كخيال ورموز.
وكذلك يقول حسن حنفي: ألفاظ الجن والملائكة والشياطين ألفاظ تتجاوز الحس والمشاهدة، ولا يمكن استعمالها؛ لأنها لا تشير إلى واقع، ولا يقبلها كل الناس.
وكذلك يرى زكي نجيب محمود: إن الغيب والإيمان به خرافة.
ويقول واحد آخر ممن يحسب على المشيخة والمشايخ، يقول عن إحدى صفات الله تعالى: إن العقائد لا تُخترع ولا تُفتعل على هذا النحو المضحك، عقيدة أن لله رجلاً ما هذا؟! فيريد إنكار القدم أو الساق أو اليد أو الوجه من صفات الرب عز وجل التي أثبتها لنفسه في كتابه سبحانه وتعالى، وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27].
وكذلك أثبت صفة القبضة له سبحانه وتعالى، وأثبت صفة اليد له عز وجل، أثبتها له سبحانه، وهو المتصف بها، ونحن لا نعرف إلا ما أخبرنا به في كتابه، وما حدثنا به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67] {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64].
وهذا يقول: هذا سخف، لله كذا، هذا شيء مضحك! استهزاء بصفات الله، والذي قبله يقول: العوالم الغيبية رموز وخيالات، والذي بعده يقول: الشياطين والملائكة ليس لها وجود، لا يقبلها كل عقل، ثم يقولون: فكيف إذاً يلتقي المسلمون الذين يؤمنون بهذه والذين لا يؤمنون، يمكن أن يلتقوا على السلوك الإسلامي، وعلى الأخلاق الإسلامية، أما هذه العقائد والأمور الغيبية فلا يلزم الجميع أن يؤمنوا بها.
سبحان الله! ما هي أول صفة وصف الله بها المؤمنين في سورة البقرة؟ {الم * {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1 - 3] بل إقامة الصلاة: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) [البقرة:3 - 4] أعادها وكررها: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ} [البقرة:4] وما فيها من المشاهد الغيبية، من الحوض والصراط والميزان والجنة والنار، وعرش الرحمن وكرسي الرحمن، والمنابر من نور عن يمين الرحمن، وظل العرش: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] أولئك المؤمنون حقاً أيها الإخوة: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] فإذا لم يؤمنوا ببعض هذه الأشياء، فليسوا على هدىً من ربهم، وليسوا بالمفلحين، وليسوا هم المؤمنون حقاً.
فهل رأيتم إذاً وتراً من الأوتار الذي يعزف عليها هؤلاء في قضية تمييع هذه الأمور؟(157/3)
إنكار معجزات الأنبياء
ومن الأشياء التي يريدون التخلص منها معجزات الأنبياء، لماذا أيها الإخوة؟ لأنها غيب، وعقولهم لا تتحمل الغيبيات، عقل فاسد وضيق، لا تتحمل عقولهم الغيبيات، فهذا أحدهم يقول: الذي ادعى أنه يحمل الجمع في الفقه بين القرآن والسنة، وألف كتاباً خطيراً جداً في السنة النبوية، يريد أن يزلزلها وينسف ثوابتاً فيها، يقول: على أنه لا صلة للعقيدة بأن الرسول عليه الصلاة والسلام أظلته غمامة أو كلمه جماد، والرجل الصالح لا يُغمز مكانته إنكاره لهذه الخوارق.
لاحظ معي يقول: إذاً لا صلة للعقيدة بقضية أن الرسول عليه الصلاة والسلام أظلته الغمامة أو كلمه جماد، والرجل الصالح لا يغمز مكانته إنكاره لهذه الخوارق، إذاً يمكن أن يكون الرجل صاحب مكانة في الدين، وهو ينكر هذه الخوارق، والله تعالى هو الذي أيد نبينا صلى الله عليه وسلم بالمعجزات، وهو الذي أعطاها له ردءاً وتأييداً منه سبحانه؛ ليتبين قومه أنه نبي فعلاً ولا يقولوا: كذاب، لقد انشق القمر وأراهم القمر شقين، ورأوا أموراً عجيبة، ورأى أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم من الخوارق ما زاد إيمانهم، ومن المعجزات ما أكد يقينهم وثبتهم: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260].
فرأوا تكثير الطعام بين يديه، ونبع الماء من بين أصابعه، وتسبيح الأكل وهو يؤكل، وسلم عليه الحجر بـ مكة، فكانت المعجزات تأييداً له ولأصحابه وبرهاناً على نبوته أمام الكفار، ومات صلى الله عليه وسلم وأبقى لنا هذه المعجزة الخالدة، وهي القرآن الكريم.
أيها المسلمون! إن الله عز وجل لا يعجزه أن يؤيد رسولاً من رسله بأن تمشي إليه شجرة أو يحيي له ميتاً، أو يخرج له ناقة من صخرة، أو ينبع الماء من بين أصابعه، أو يرزقه فاكهة الشتاء في الصيف، أو يحا له طائراً قد ذبح وقطّع، فالله يؤيد أنبياءه بالمعجزات، ويعطي الكرامات لأوليائه، وليس ذلك على الله بعزيز، والله على كل شيء قدير، ولما رأى إبراهيم الخليل هذه الطيور التي قطّعت وذبحّت ووزعت على الجبال، ثم دعاها فجاء عنق هذا إلى جسده، ورجلا هذا إلى بقية الجسد وتركبت وطارت إليه، وقال: {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259] وأن الله عزيز حكم، كما قال ذلك عزير وقالها إبراهيم.
إذاً أيها الإخوة! هؤلاء الذين ينكرون الجن اليوم، ويقولون: إنهم غير موجودين، وإن الصرع لا يمكن أن يحدث، وإن الشياطين ليس لها تسلط على البشر، والله سبحانه وتعالى قد ذكر ذلك بقوله عز وجل: {إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] وأن الشياطين تمس الناس، نعم لم يجعل الله لهم سلطاناً عاماً على الإنس يصرعون من يشاءون ويلتقون كيف شاءوا، كلا، إن ذلك يحدث على نطاق ضيق وعدد قليل، ولكنه يحدث، ونقر أنه يحدث، ولا نقول: عقولنا لا تقبل ذلك.(157/4)
تمييع قضية الحكم على المرتدين
ومن التمييع الذي يمارسه هؤلاء: تمييعٌ في قضية الحكم على المرتدين الذين نطقوا بالكفر، فهذا أحدهم وهو فهمي هويدي يعتذر عن نزار قباني الشاعر الملحد الضال، الذي نطق شعره بالكفر صراحة، فينقل عنه عبارة كفرية واضحة، يقول فيها نزار:
لا تسافر مرة أخرى
لأن الله منذ رحلت
دخل في نوبة بكاء عصبية
وأضرب عن الطعام!
ثم قال: وبعت الله!
هذا الذي قاله الأفاك الأثيم الذي ذهب إلى الله، والله سيتولاه، فماذا قال صاحبنا في الدفاع عنه، يقول: فالكلام الذي صدر عن نزار لا يدخل في إطار إنكار الله بطبيعة الحال، وإن تمنينا أن يتسم حديثه عن الله بالقدر الواجب من الإجلال، إلا أننا نقول: إنه غلب على نزار اعتبار صنعة الشعر، والأوزان والقوافي وكذلك هذه الموهبة، وأطلق العنان للتعبير، فجاء كلامه على ذلك النحو غير المستحب.
غير المستحب!! واحد يقول: بعت، ويقول: نحو غير المستحب!! واحد يقول: إنه سبحانه أضرب عن الطعام! ودخل في نوبة بكاء عصبية! ثم تقول أنت عنه: صنعة الشعر غلبته فجاء الأسلوب غير المستحب! سبحان الله! هذا هو التمييع أيها الإخوة! أن نأتي إلى واحد قد صرح بالكفر الذي لا يوجد أشد منه، ثم نعتذر إليه بأن صنعة الشعر جاءت في كلامه على الأسلوب غير المستحب، وكنا تمنينا أن يأتي بالأسلوب الآخر، وكنا تمنينا أن يحاكم مرتداً وتقطع رقبته، وتمنينا نحن المسلمين، هذا الذي نتمناه في أي واحد يهاجم الله عز وجل أن يحاكم شرعاً بالردة، فإذا أقر ولم يرجع أن تضرب رقبته بالسيف انتصاراً لله تعالى، هذا الذي تمنينا.
نتمنى هدايته ولكن لو لم يهتد، فإذاً ماذا نتمنى؟ أن يقام عليه حد الردة: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13] هذا هو الله عز وجل: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13] سبحانه وتعالى! هذا رعده وبرقه: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13].(157/5)
تمييع أحكام الفقه وأصول الإسلام
من التمييع كذلك: تمييع أحكام الفقه وأصول الإسلام التي جاءت بها الأحكام، فيقول أحدهم وهو محمد عبده في موضوع الوضوء بالكولونيا: ومن أين جاء أن ماء الزهر والورد لا يصح الوضوء به، وماء الكولونيا أحسن شيء للوضوء، فإنه يمنع آثار المرض، قاله في كتاب تاريخ الأستاذ الإمام، والذي يدافع فيه عن أحد كبار المنافقين في هذا العصر وهو جمال الدين الأفغاني، وقد ذهبا إلى الله، وليس عندنا علم هل تابا أم لا، فالله يتولاهما، ولا نحكم على مصيرهما في الدار الآخرة، أمرهما إلى الله.
لكن نحن نأخذ العبرة، ونريد أن نعرف ما هي الأساليب التي يمشي بها هؤلاء بين المسلمين، من الذي قال: إن الوضوء بالكولونيا لا يجزئ، فماء الكولونيا أحسن شيء للوضوء.
نقول: الذي قال هم أئمة الدين من فقهاء المسلمين سلفاً وخلفاً، أنه لا يجزئ الوضوء إلا بالماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد الطهارة بالماء، وفي حالة فقده يتيمم بالتراب، هذا الذي جاءت به الأحاديث، الماء طهور وبه يتوضأ ويرفع الحدث الأكبر والأصغر، وإذا عدم {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء:43] ولم يقل: كولونيا {مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43].
والعاقل والبليغ والمثقف والعامي والفلاح والدكتور كلهم يعرفون معنى لفظة الماء: ((فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً)) وأي عاقل يفرق بين الماء والعصير، والماء والشاي، والماء والكولونيا، والماء والزعفران، وماء الورد وماء الزهر، كل ذلك بينه فرق بيّن.(157/6)
موقفهم من الربا
أما الموقف من حكم الربا، فماذا يقولون؟ يقول ذلك الرجل: والفقهاء مسئولون في التشديد على الأغنياء في الربا، فاضطروا الفقراء للاستدانة من الأجنبي، بأرباح فاحشة استنزفت الثروات، ويجّوز بعضهم كما جّوز ذلك جمال الدين الأفغاني الذي قال بجواز الربا المعقول الذي لا يثقل كاهل المديون، ولا يتجاوز في برهة من الزمن رأس المال.
فإذاً جرى على ذلك أذنابهم بعد ذلك بعشرات السنين، ووضحوا قولهم وأصلوه، وقالوا: الربا المعقول، يقول ربنا عز وجل الذي نحن نؤمن بشرعه وقدره، وبما أراده واصطفاه لنا من الشريعة والدين، يقول في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة:27] ما بقي ½%، {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279] وأنت تقول: ربا معقول! ما هو الربا المعقول؟ الذي نعقله ما جاء في هذه الشريعة، وكل شيء يخالف الشريعة غير معقول وسخيف، وتافه وترهات وباطل، لا يوجد شيء اسمه ربا معقول، هناك في هذه الشريعة شيء قطعي وهو تحريم الربا.(157/7)
موقفهم من الحدود
ثم انصب كلامهم في تميع الحدود الشرعية بعد الأحكام الفقهية، على قضية حد الردة، وإبطال حد الردة، وأن الإنسان حر إذا غير دينه، يا أخي! إذا غير دينه هو حر، لماذا يقتل؟! كيف يكون حراً في اختياره، ولا حرج عليه ولا تبعة، ونبينا صلى الله عليه وسلم الذي نؤمن به وبشرعه الذي جاء به من عند ربه يقول: (من بدل دينه فاقتلوه) من بدل دينه: أي: الإسلام، وليس من ترك النصرانية واليهودية إلى الإسلام، المقصود واضح من بدل دينه، أي: الشرع الحكيم الصحيح الإسلام والتوحيد (من بدل دينه فاقتلوه) نص في المسألة.
كيف يقال: إن عقوبة الإعدام لا تتناسب مع القرن العشرين، ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين، فيجب إلغاء عقوبة الإعدام.
ولذلك يدندنون في الفضائيات والبرامج التي تبث، في مسألة رجم الزاني المحصن أنها غير صحيحة، ويقولون: لم تُذكر في القرآن، سبحان الله! فقد ثبتت في السنة، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده كما يقول عمر، وحتى لا يقول قائل، فقد قالها عمر رضي الله عنه قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة قال: أن يأتي أناس يقولون: ما وجدناها في كتاب الله.
وجاءوا فعلاً في كثير من الأوقات، وفي هذا الوقت بالذات وقالوا: ما وجدناها في كتاب الله.
فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعز والغامدية، ورجمُت شراحة الهمدانية، ورجم عمر رضي الله عنه وعلي، ورجم أبو بكر، ورجم الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، دلالة على أن ذلك الحكم ليس منسوخاً ولا باطلاً.
الزاني المحصن الذي وطأ وذاق حلاوة الحلال في عقد صحيح إذا زنا وثبت عليه باعترافه أو بأربعة شهود؛ يرجم حداً من الله تعالى.
ثم يقولون: لا يناسب العصر الحاضر، لأنه ليس موجوداً في كتاب الله.
فإذا قلنا لهم: حد السرقة موجود في كتاب الله، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38] يقول قائلهم: إن الشريعة لا تريد أن يتحول المجتمع إلى أناس مشوهين، هذا مجلود، وهذا مقطوع اليد، وهذا مفقوء العين، وهذا مكسور السن بقضية القصاص، اسجنه وامش، أو أي عقوبة مالية، فنقول: هذا موجود في كتاب الله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] موجود، قالوا: هذه همجية لا تصلح في هذا القرن.
وهكذا ترون أيها الإخوة! قضية صب الكلام على تمييع الحدود الشرعية التي أنزلها الله؛ من حد الردة وحد الزنا للمحصن، وحد السرقة، أنهم يريدون إبطال ذلك، وإقناع المسلمين أن ذلك كان في عهدٍ مضى ولا يناسب هذا الزمان.
هذه قليل جداً جداً مما يقولونه في بعض هذه المسائل، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المتمسكين بالحق والدين، ومن الحريصين على تنفيذ شرعه المبين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(157/8)
إلغاء الحواجز الدينية بين المسلم والكافر
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أنزل الكتاب، والحمد لله الذي نصر نبيه صلى الله عليه وسلم والأصحاب، وهزم الأحزاب، والحمد لله مجري السحاب، أشهد أن لا إله إلا هو الملك العزيز الوهاب، وأشهد أن نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم سيد البشر وأولي الألباب، جاءنا بالحق والصواب، وأشهد أن من تبعه بإحسان إلى يوم الدين هم أولوا النهى والألباب، صلى الله عليه وعلى من تبعه.
عباد الله: من أخطر أنواع التمييع الذي يقوم به هؤلاء ممن يسمون بالعقلانيين وأصحاب الفكر المستنير -يسمون أنفسهم بالتنويريين- من أخطر ما يقومون به تمييع الحواجز الدينية بين المسلم والكافر، المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله، والذي هو من خير أمة أُخرجت للناس، الموحد لربه، المطيع لنبيه الذي يعتمد الشرع، ويُوفي له، المسلم الذي لا يتحايل على الدين، المسلم الذي يطبق الإسلام، يريدون التمييع في الحد بينه وبين أرباب الديانات الأخرى من اليهود والنصارى وغيرهم من أنواع المشركين.
التمييع بين المسلم الحنيفي وبين اليهودي الذي هو من الأمة الغضبية، أهل الكذب والبهت، والغدر والمكر والحيل، وقتل الأنبياء، وأكل السحت والربا، أخبث الأمم طوية وأرداهم سجية، وأبعدهم من الرحمة، وأقربهم إلى النقمة، عاداتهم البغضاء، وديدنهم العداوة والشحناء، أهل السحر والكذب والحيل، هؤلاء الذين سبوا ربهم، فقالوا: تعب يوم السبت وارتاح، وقالوا: إنه بخيل: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64] والذين عادوا نبينا صلى الله عليه وسلم بعدما تبين لهم أنه نبي الله، وقامت الأدلة عندهم، وطابق الوصف المذكور في كتبهم، عادوه وناصبوه إلى أن دسوا له السم في الشاة.
التمييع بين المسلم وبين النصراني الذي هو من الأمة المثلثة، أمة الضلال وعبّاد الصليب، الذين سبوا الله مسبة لم يسبها أحد، وقالوا كلاماً تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً.
قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وإن مريم صاحبته، والمسيح ابنه، وأنه نزل عن كرسي عظمته والتحم ببطن الصاحبة وجرى ما جرى، وأن هؤلاء عبّاد الصلبان وعبّاد الصور المنقوشة بالألوان في الحيطان، الذين يقولون في دعائهم: يا والدة الإله ارزقينا، واغفري لنا وارحمينا، دينهم شرب الخمور، وأكل الخنزير، وترك الختان، والتعبد بالنجاسات، واستحلال الخبائث، كيف يمكن أن تميع الحدود بين المسلم وبين مثل هؤلاء؟ واليهود والنصارى أهل الكتاب أحسن حالاً من الهندوس والبوذيين وبقية مشركي الأرض، فما بالك بالبقية أيضاً.
إن الدعوة إلى تمييع الحواجز الدينية بين هذه الديانات الثلاث، قد جرت على خطة مرسومة من هؤلاء باسم وحدة الأديان تارة، أو الملة الإبراهيمية تارة، أو وحدة الدين الإلهي وأرباب الكتب السماوية تارة أخرى، وكلمة العالمية ووحدة الأديان، يريدون صهر الأديان الثلاثة في بوتقة واحدة، كيف يجتمع الذي يقول: لا إله إلا الله، هو الله أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، مع من يقول: إن عيسى هو الله أو عيسى ابن الله، أو عزير ابن الله؟! كيف يجتمع قتلة الأنبياء، والذين مسخهم الله قردة وخنازير تحت مظلة واحدة مع من هم خير أمة أخرجت للناس؟! كيف يجتمعون؟! كيف يجتمع الذين قال الله عنهم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] مع من يقول: لا إله إلا الله لم يتخذ صاحبة ولا ولداً؟ كيف يجتمع هذا مع هذا في قضية الملة الإبراهيمية أو وحدة الأديان؟! إن الجمع بين هؤلاء ردة ظاهرة وكفر صريح ولاشك، ثم هؤلاء من جلدتنا وبألسنتنا يقولون: إن اجتماع هؤلاء من أجل أن يكون السلام عاماً في العالم هو هدفنا الذي نسعى إليه، وأن تزول العداوات بين أهل الأديان، فهل الإسلام جاء لإزالة العداوات بين أهل الأديان؟ هل جاء الإسلام ليعيش أهل الأديان كلهم متآلفين؟ سؤال خطير جداً أيها الإخوة! لأن عدداً من الناس يظن
الجواب
نعم، هل جاء الإسلام لكي يتصافى المسلمون، واليهود، والنصارى، والمجوس، والهندوس، والبوذيون، يتصافون ويكونون على قلب رجل واحد.
أم جاء الإسلام بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] أليس الإسلام قد جاء لأجل هذا، إذا كنا نحن لا نستطيع أن نطبقه الآن، ولا نستطيع أن نجاهدهم؛ لأنه ليس عندنا قوة، فإن المبدأ يجب أن يبقى سليماً، وهي عداوتهم ما بقينا، وكرههم لأجل الله ما حيينا، أن نكرههم وأن نبغضهم، حتى لو لم نستطع أن نقاتلهم، يجب أن تكون العقيدة في هذه المسألة واضحة.
ثم انظر إلى ما يقوله صاحب كتاب: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، يقول: ولا ريب أن هؤلاء النصارى عرب أنقياء، والعربي الصحيح -وإن لم يكن مسلماً وضع هذه الجملة الاعتراضية في الاعتراض- وإن لم يكن مسلماً فله موقف كريم من إخوانه المسلمين.
سبحان الله! معروف أن النصارى العرب من ألعن أنواع النصارى، إن لم يكونوا هم ألعن أنواع النصارى على الإطلاق، وما ابتليت الأمة في هذا الزمان بمثلهم، والتاريخ معروف.
ثم كيف يقال: له موقف كريم من إخوته المسلمين؟! ما هي الأخوة أيها الإخوة؟! أي نوع من الأخوة هذه؟ كيف نشأت رابطة أخوة بيننا وبينهم؟ قال: وإن وقف -أي: هذا النصراني- إيمانه بالنبوة إلى عيسى بن مريم، فلن يبخس محمد بن عبد الله حقه.
قل لي: كيف لن يبخسه حقه إذا لم يؤمن به رسولاً خاتم الأنبياء؟! كيف لم يبخسه حقه إذا كان يقول: لا أؤمن بنوبته، أو يقول: نبي مثل غيره، لا ميزة لشريعته، ولا ينسخ نبوة من قبله، وليس دينه خاتم الأديان ولا نبوته خاتم النبوات، أليس هذا من البخس العظيم؟! أما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار)؟ ثم يقول هذا: فلن يبخس محمد بن عبد الله حقه بوصفه سيد رجالات العروبة، ومؤسس نهضتها الكبرى.
هل النبي عليه الصلاة والسلام بعث ليكون سيد العروبة أم سيد الناس والعالم؟ هل كانت المشكلة بين محمد عليه الصلاة والسلام وكفار قريش العروبة؟! هل كانت القضية أنهم إذا اجتمعوا معه على العروبة انتهت القضية، أو كانت المشكلة والقضية هي: لا إله إلا الله التي رفضوا أن يقولوها؟ أليس هذا هو محور الصراع والحرب التي قامت بينه وبين قريش؛ العرب الأنقياء من جهة العروبة، الحرب قامت بينه وبينهم في بدر وأحد والخندق وفتح مكة وغيرها، قامت حرب أريقت فيها الدماء، أمن أجل أن يكون سيد العروبة؟ إذاً فلماذا امتدت فتوحاته إلى خارج الجزيرة؟ ولماذا ذهب إلى تبوك بلاد النصارى؟(157/9)
نشر الوعي بين المسلمين تجاه هذه القضايا
هذا التمييع أيها الإخوة! هذا الذي يقرأه كثير من الناس في الوسائل السيارة، ويسمعونه في هذه الوسائل المسموعة والمنظورة، هذا الكلام الذي نقوله هو ما يُدس للمسلمين، فهل نعقل ونميز؟ وهل نكون على مستوى الوعي؟ إن هذه مسألة خطيرة أيها الإخوة؛ لأن الله قال: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] فلا بد أن تكون هناك بينة؛ لتبين للناس ما نزّل إليهم، البينة والبيان، والله لا يرضى أن يختلط الحق بالباطل: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179] لا بد أن يميز الخبيث من الطيب، هذا التمييز الذي نريده أن يكون موجوداً في حس المسلم وعقله، وأن يكون عنده علم يدفع به الشُبهات، العلم يا إخوان هو الذي تعرف به، هل ما يعرض عليك حق أم باطل؟ نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الفقه في دينه، والتمسك بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلنا من أهل الهدى والتقوى، ومن المتمسكين بالعروة الوثقى، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم اجمع شملنا على التوحيد يا رب العالمين، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، واهدنا سبل السلام، واجعلنا سلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك، نحب بحبك من أحببت، ونبغض من أبغضت إنك سميع الدعاء.
اللهم إنا نسألك الأمن والإيمان في بلادنا وسائر بلاد المسلمين، ومن أراد بلدنا هذا بسوء؛ فاجعل كيده في نحره، ثَبِّتْ علينا الأمن والإيمان، إنك أنت سميع الدعاء يا رحمن.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(157/10)
مؤامرة تمييع الدين [2]
ختم الله الأديان بالإسلام، وجعله صالحاً لكل زمان ومكان، وعليه فنحن في غنى عن غيره من الأفكار البشرية والأديان، ولا يجوز الخروج عن أحكامه مجاراة للحضارة، ولا تمييعها استجابة لضغط الواقع المتوهم.(158/1)
العصرانيون وانهزاميتهم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: عباد الله: فقد تحدثنا في الخطبة الماضية عن ظاهرة تمييع الدين، التي يسعى إليها بعض المنتسبين إلى المسلمين، ويقودون فيها حرباً على التمسك بالدين، بكل صغيرة وكبيرة فيه، كما أمرنا الله تعالى بأن نستمسك بجميع العرى، وأن نأخذ بجميع الشرائع والأحكام، كما قال عز وجل: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] أي: تمسكوا بجميع شعب الإسلام والإيمان، وهؤلاء يريدون أن يميعوا هذه الأحكام، وأن يحذفوا أشياء مما لا يروق لهم، وأن يجعلوا هذا الدين ثوباً فضفاضاً يفصّلونه كيف يشاءون، ويتسع عندهم لكل شيء يلبسونه به، سواء كان حقاً أم باطلاً.(158/2)
ضغط الواقع هل هو مصدر من مصادر التشريع؟
إن مما دفع إلى اتخاذ هذا التمييع -أيها الإخوة- قضية خطيرة نادراً ما ينجو منها الواحد منا، ألا وهي الانهزامية وضغط الواقع على الإنسان المسلم، وعندما نظر بعض هؤلاء إلى الواقع وما فيه، وتسلط الكفار على المسلمين وهيمنتهم وسيادتهم في العالم بزعمهم، فإنهم تحت هذا الضغط صاروا يقدمون التنازل تلو التنازل، والفتاوى الشاذة باسم الواقع وظروفه، ويفصلون من الإسلام فستاناً يناسب الذوق الغربي.
وكأن الواقع صار عندهم مصدراً من المصادر التشريعية، فكأنهم قالوا: مصادر التشريع القرآن والسنة والقياس والإجماع والواقع، ولا تخلو هذه الانهزامية من نظرة انبهار للغرب ولما عندهم، ولا تخلو هذه الانهزامية وهذا المنهج في التمييع، من التأثر بقادة الانحلال الفكري في المسلمين.(158/3)
من أقوال الانهزاميين في التأثر بالغرب
إنه تأثر بمنهج المنحرفين أمثال: سلامة موسى وطه حسين، حيث يقول الأول: كلما ازددت خبرة وتجربة توضحت أمامي أنه يجب علينا أن نخرج من آسيا، وأن نلتحق بـ أوروبا، فإني كلما زادت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له، وشعوري بأنه غريب عني، وكلما زادت معرفتي بـ أوروبا، زاد حبي لها وتعلقي بها، وشعوري بأنها مني وأنا منها، هذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي سراً وجهراً، فأنا كافرٌ بالشرق مؤمن بالغرب.
ثم يقول: الرابطة الشرقية سخافة، فما لنا ولهذه الرابطة الشرقية، وأي مصلحة تربطنا بأهل جاوه، وماذا ننتفع بهم؟ وماذا ينتفعون بنا؟ إننا في حاجة إلى رابطة غربية، ثم يقول: وما الفائدة من تأليف رابطة مع الهندي أو الجاوي؟ فما هو المقصود -أيها الإخوة- بهذه العبارات؟ قطع الصلات بين المسلمين، وتدمير القاعدة الإسلامية في أن المؤمنين إخوة، وإن الإسلام يوحد بين الأجناس على هدي الدين، فإذا أسلموا صاروا سواء، أليس هذا مما نعرفه قطعاً من دين الإسلام؟ أيها الإخوة: إن هؤلاء يريدون أن يجعلوا نسباً بين المسلم والكافر، ويقطعوا نسب المسلم بأخيه المسلم، هذه الحقيقة، لأجل الهزيمة التي يحسون بها، يريدون الانبتات والانقطاع عن الإسلام وأهله، والارتباط بالغرب وأهله.
ويقول طه حسين في السبيل للخروج من الهزيمة التي نعيشها، يقول: السبيل إلى ذلك واحدة، وهي: أن نسير سير الأوربيين ونسلك طريقهم، لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يحب منها وما يُعاب.
إذاً لابد أن نسير سير الغربيين ونأخذ بكل شيء، بما يُحب وما يُعاب، هذه هي الفلسفة التي يقولون بها، فتأثر بها هؤلاء حتى جعل واحد منهم -أيها الإخوة- قاعدة أصولية عجيبة يقول فيها: شرع المتقدمين علينا حضارياً شرع لنا، عند المسلمين قاعدة يناقشها علماء الأصول، هل شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟ هل شرع موسى أو شرع عيسى شرع لنا أم لا؟ وقالوا: بأن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد له ناسخ في شرعنا، أو لم يتعارض مع شرعنا، قال به بعض علماء الأصول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في القرآن: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} [الأنعام:90] فقالوا: شرع من قبلنا من الأنبياء إذا لم ينسخ في شرعنا، ولم يتعارض معه شرع لنا.
فماذا قال هذا الأصولي الحديث؟ شرع المتقدمين علينا حضارياً شرع لنا، إذاً شرع الكفار هو شرع لنا، أرأيتم خطورة هذه العبارة أيها الإخوة! وما يدندن حوله هؤلاء؟! أن تصير طريقة الكفار هي طريقتنا، وأن نهتدي بهديهم، ونسير على منوالهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة) حذرنا من ذلك وقال: حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، وهذا عين ما قاله طه حسين، حلوها ومرها، ما يُحب وما يُعاب، أن نسير على طريقتهم، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر وقال: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه).
إن الله تعالى قد حذر نبيه صلى الله عليه وسلم من التأثر بضغوط الكفار: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء:73].
كادوا أن يفتنوك لتفتري علينا غيره تحت ضغطهم وضغط واقعهم، ولكن الله ثبته: ((وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)) [الإسراء:74] ثم قال تعالى: {إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:75] لجاءك العذاب مضاعفاً.(158/4)
الجهاد وإقامة الحدود همجية عند العصرانيين
أيها الإخوة: طريقة الدين واضحة متميزة، ليس لنا نسب مع أولئك القوم، بل إن الله لا يرضى لعباده الكفر، بل إن الله أمرنا بمقاتلتهم عند القدرة والاستطاعة ولابد من ذلك، ثم قام هؤلاء يجارون الغربيين، انظر في الأطروحات التي تسمعها صباح مساء؛ ما هي السيرة عند هؤلاء المستنيرين -العقلانيين- بزعمهم، وليس لهم من العقل نصيب؛ لأن العقل الصحيح الصريح لا يعارض ما جاء عن الله ورسوله، لكن عقول مريضة، ثم ينتسبون إلى العقل بزعمهم.
هزيمة تلو هزيمة، تراجعات تحت ضغوط الكفار، لما اعترض الغربيون على أحكام الجهاد، ماذا قال هؤلاء المنهزمون: مالنا وللجهاد يا سادة؛ نعوذ بالله من الهمجية، ولما اعترض الغربيون على الرق، قال هؤلاء: إنما هو حرام عندنا أصلاً، فيحرمون ما أحل الله، والله حكيم حيث سنه وشرعه، ولا يستطيع أحد أن يلغي شرع الله تعالى.(158/5)
موقف العصرانيين من تعدد الزوجات
ولما أطال هؤلاء الغربيون وأذنابهم لسان القدح في تعدد الزوجات، جاء هؤلاء المنهزمون ينسخون بضلالهم وجهلهم آيات القرآن ويحرفون الكلم عن مواضعه.
ويقولون: لا تعدد في الدين، وإنه لا يمكن العدل، وإذاً لا يجوز التعدد، وخلطوا الأمور: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ} [التوبة:48] خلطوها ببعضها، لا يمكن العدل في المحبة القلبية، لكن يمكن العدل في المبيت والنفقة، وليس الإنسان المسلم مطالباً بأن يعدل في المحبة القلبية، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يحب عائشة أكثر من بقية نسائه، ومع ذلك تزوج أكثر من واحدة، ولم يكن ظالماً عليه الصلاة والسلام إطلاقاً.
إذاً لن تعدلوا في المحبة القلبية، ولكن إذا عدلتم في المبيت والنفقة، فتزوجوا مثنى وثلاث ورباع، ولمَّا قال الغربيون: لابد من مساواة الرجل بالمرأة في جميع نواحي الحياة، وافقهم هؤلاء المنهزمون، وقالوا: هذا هو الذي ينادي به ديننا ويدعو إليه، ولذلك رفضوا مبدأ أن تكون المرأة غير متولية للولايات العامة؛ كما قال بذلك أهل الإسلام استناداً على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة).
ولذلك لا تتولى المرأة ولاية عامة في المجتمع الإسلامي، لا خلافة ولا وزارة ولا قضاء؛ لأنها لا يمكن أن تقوم بحجابها المفروض عليها، وتحريم الخلوة المفروض، والحيض والنفاس الذي هو من طبيعتها، وضعف عقلها مقابل قوة عاطفتها، لا يمكن أن تقوم بولاية عامة.
ولو وُجد لذلك حالات شاذة، فإن الدين لا يُبنى على الشواذ، وليست الحالات الشاذة قاعدة أصلاً، ولما قام هؤلاء بالهجوم على الحدود الشرعية، وقالوا: إنها همجية في رجم الزاني المحصن، وقطع يد السارق ونحو ذلك، قام هؤلاء يوافقون الغرب ويقولون: لا رجم في الإسلام، ويقولون: إن إنزال الحد لا يتفق مع روح القرآن، وإن تحويل المجتمع إلى مجموعة من المشوهين لا تريده الشريعة.
وهذا في الحقيقة استهزاء بحدود الله تعالى، ولذلك فإن هؤلاء أذناب الغرب المنهزمين من أبنائنا، يقولون: بعدم معاقبة المرتد، وينكرون حد الردة، وينكرون رجم الزاني المحصن، وليس على شارب الخمر حد معين عندهم، ويجوز للمرأة المسلمة أن تتزوج باليهودي والنصراني؛ لأن هناك ضغطاً من الخارج، يقول: لماذا تفرقون؟ لماذا ليس عندكم مساواة؟ أين العدل؟ لماذا لا تتزوج المسلمة يهودياً أو نصرانياً؟ فلتتزوج، فقال هؤلاء بجواز الزواج وقرروه، والله تعالى قال في كتابه العزيز: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221] لا تزوج ابنتك ولا أختك إلى مشرك: (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) فقال هؤلاء: بلى يجوز أن تنكح.
عاندوا الشريعة، وخرجوا عن أحكام الدين، وكذبوا بشرع الله تعالى، وعاندوا أحكامه، كل ذلك تحت مطرقة الضغط، وتحت الضغوط تأتي الانهزامية، وتقدم التراجعات، ويقال: الإسلام دين سماحة، وليس دين جهاد ولا دين حدود، تُنسف الأشياء هكذا، يريدون إلغاءها بجرة قلم، إنه انهزام أمام الكفرة.
أين عزة المسلم الذي يفتخر بشريعته؟ أين العزة المسلم الذي يرى أن هذه القوانين الغربية تتهاوى وتسقط وتثبت فشلها يوماً بعد يوم؟! إن الشريعة -أيها الإخوة- مفخرة للمسلمين، ولا يمكن إنقاذ العالم من الظلم إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية.(158/6)
انحراف الفهم عند الانهزاميين
إن تهمة الجمود قد ألصقها هؤلاء بفقهاء المسلمين والسلف الصالح، قالوا: هؤلاء -أي السلف الصالح - نصيون حرفيون، انظر للسب للسلف، يقولون: السلف نصيون حرفيون، وأهل نصوص، وجامدون، ونحن نريد أن نحرر هذا الجمود، وأن نطلق الحرية للاجتهاد، ومناسبة الواقع.
ولذلك قال واحد منهم: ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه يوافق الزمان والمكان -أي: العصر الحاضر- وأنا لا يعوزني بعد ذلك أن آتيكم بنص من المذاهب يطابق ما وضعتم.(158/7)
رأي الانهزاميين تجاه الفنون
فإذاً تحت الضغط يحدث التراجع، ولما عاب بعضهم على الإسلام أنه يعادي ما يسمونه بالفنون الجميلة، كالموسيقى، ونحت التماثيل، والتصاوير، والرقص، وغير ذلك، قام هؤلاء المنهزمون منا يقولون: كلا، بل إن الإسلام يحتضن هذه الفنون ويشجع عليها، ويحضُ عليها، وأنه يقر الرقص والموسيقى والتصوير والغناء ونحت التماثيل، من الذي سماها فنون جميلة؟ أليس أولئك الكفرة؟ أليست عندنا فنون قبيحة؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مصور في النار) أليس يقال لمن صنع تمثالاً من ذوات الأرواح يضاهئون خلق الله، يقال لهم يوم القيامة: أحيوا ما خلقتكم؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلبٌ ولا صورة من صور ذات الأرواح؟ لا يجوز إلا ما اتخذ للحاجة كالإثباتات، وتتبع المجرمين، وغير ذلك من الحاجات والضرورات، وأما التزيين فلا يجوز بذلك أبداً، وكذلك رقص النساء أمام الرجال ومخاصرتهم، وكذلك الموسيقى التي حرمها الإسلام، لما تسبب من الإدمان والصد عن ذكر الله، لا تجتمع الألحان مع قراءة القرآن في جوف عبد ولا يمكن.(158/8)
أولويات الدعوة لا تجيز تحليل ما حرم الله
أيها الإخوة: إن هذه الانهزاميات تدلنا بوضوح على مقدار ما وصل إليه القوم من الانحراف، مما يُوجب على أبناء المسلمين أن يكونوا في غاية الوعي لمثل هذه الدسائس، وقال بعضهم يوصي الدعاة إلى الله وصية عجيبة للغاية، صاحب كتاب السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث: وأوصي الدعاة الذين يذهبون إلى كوريا ألا يفتوا بتحريم لحم الكلاب، فالقوم يأكلونه، وليس لدينا نص يفيد الحرمة، ولا نريد أن نضع عوائق أمام كلمة التوحيد، سبحان الله! ليس لدينا نص يفيد الحرمة، أولئك يأكلون الميتة أليس كذلك؟ ويأكلون الخنزير أليس كذلك؟ إذاً لا نفتي بتحريم الخنزير حتى لا نضع عائقاً أمام كلمة التوحيد: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة:3] والنبي صلى الله عليه وسلم قطع بتحريم ذوات الأنياب وذوات المخالب، والكلب من أي قسم؟ ما بال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً.
فرق أن يؤجل الداعية الإخبار بالحكم، ويبدأ بالأساسيات والأمور العقدية، لكن أن يفتي بإباحة لحم الكلاب طمأنة لأولئك القوم لأنهم يستلذون به ويحبونه.
وعجباً أيها الإخوة! نحن لو دعونا بوذياً يأكل الكلاب فلن نبدأ معه بتحريم لحم الكلاب، بل نبدأ معه بلا إله إلا الله، نبدأ معه بكلمة التوحيد والدعوة إلى الإسلام، عندنا ستة في أركان الإيمان ندعوه إليها، وخمسة في أركان الإسلام ندعو إليها، وبعد ذلك إذا استقر دينه وإيمانه أخبرناه بتحريم الميتة والخنزير والخمر ولحم الكلب وغيرها، أما أن نفتيه بإباحة ذلك إن ذلك ضلال مبين، إن ذلك تحريف للكلم عن مواضعه.(158/9)
ولاية المرأة بين الشرع والانهزامية
ويقول هذا المنهزم أيضاً: إننا لسنا مكلفين بنقل تقاليد عبس وذبيان إلى أمريكا وأستراليا، إننا مكلفون بنقل الإسلام فحسب، وإذا ارتضوا أن تكون المرأة حاكمة أو قاضية أو وزيرة فلهم ما شاءوا، إذا كانوا كفاراً فليس دون الكفر شيء، فليفعلوا ما شاءوا، كما قال الله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40] مهدداً ومتوعداً، لكن أن نقول: اطمئنوا يا دعاة مساواة المرأة بالرجل، فإنه يجوز في شرعنا أن تتولى المرأة الولاية العامة، ونخالف النص الصحيح الذي رواه البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) أن نخالف ذلك، وما جرى عليه عمل الخلفاء الأربعة، ومن بعدهم من أئمة المسلمين وعلمائهم من عدم الجواز ونقول: يجوز ذلك؛ انهزاماً أمام الكفرة، فلماذا أيها الإخوة؟ من أجل عيون الكفرة نتنازل عن شرعنا، أيهما أغلى عندنا شريعتنا أم الكفرة؟ هذه هي القضية الخطيرة، أيهما تقدم؟ ما هي الأولويات لديك؟ لماذا هذا التمييع؟ أمن أجل عيون الكفرة نميع ديننا؟ وقال واحد من القوم: لولا حكاية القرآن آيات الله التي أيد بها موسى وعيسى عليهما السلام، لكان إقبال أحرار الإفرنج عليه -أي: على الإسلام- أكثر، واهتدائهم به أسرع وأعم، ماذا يقصد؟ المعجزات النبوية عصا موسى، وما قيض الله لعيسى من المعجزات في شفاء المريض، وإحياء الميت بإذن الله إلى آخره، قال: هذه عوائق لو لم تكن موجودة في القرآن كان إسلام الكفار أسرع، سبحان الله! من أجل حفنة من هؤلاء الإفرنج تصل الانهزامية بنا إلى حد أن نتمنى أن الله لم يذكرها في القرآن، القضية خطيرة جداً!(158/10)
موقف الانهزاميين من الأفكار والأنظمة الغربية
ولما قام هؤلاء الغربيون يتباهون بما لديهم من الأنظمة كـ الديمقراطية والاشتراكية، قام هؤلاء المنهزمون يقولون: عندنا في الإسلام نفس الشيء، الديمقراطية هي الشورى، سبحان الله! مولود مشوه ولد من رحم الغرب الكافر (الديمقراطية أو الاشتراكية) يساوي ما أنزله الله الحكيم العليم الخبير من فوق سبع سماوات؛ في هذا القرآن الحكيم الكريم المجيد على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، هذا يساوي هذا، وتطبيقهم هو هذا، عجباً كيف تستوي هذه الأمور؟ أين الشورى التي فيها أهل الحل والعقد والعلم والعقل من تلك الديمقراطية التي ينتخب فيها الخمار والسكير والحشاش والزاني والمعتوه والبليد والسفيه؟ أصوات متساوية مع العاقل والعالم عندهم؛ فأي عقل لديهم في هذا؟ ثم أي عقل لدى هؤلاء الذين يقولون: إن الإسلام أخوة في الدين واشتراكية في الدنيا، ويقولون: اشتراكية الإسلام.
وقال بعضهم في كتابه يدافع عن الإسلام بزعمه: إن أبا ذر كان اشتراكياً، وإنه استقى نزعته الاشتراكية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الافتراء والله، وهكذا يريدون أن يقولوا: إن المبادئ الغربية موجودة في الإسلام، نعم إن الإسلام قد أقر ما كان في الجاهلية من الخير، كحِلف الفضول لما كان متضمناً من رفع الظلم عن المظلوم، فأقرها النبي عليه الصلاة والسلام، وأخبر بعد البعثة أنه سُر بحضوره، لكن أن نأخذ كل ما فصله القوم وما انتقوه وما اختاروه، ونقول: موجود عندنا لنطمئن الغربيين سبحانك هذا بهتان عظيم! وبالجملة أيها الإخوة! يتصف هؤلاء بصفات واضحة، وقد ذكر الله لنا صفات المنافقين في القرآن لنحذرهم، ونحن لا بد أن نذكر صفات هؤلاء لنحذرهم ومنها: تقديس العقل، وتقديم العقل على النقل، الطعن في السلف الصالح أنهم حرفيون ونصيون ولا يراعون الواقع، التأثر بالضغوط والانهزامية، واللين مع أعداء الله، والشدة على أولياء الله، التعالم، تفسير القرآن بما يخدم أهواءهم، رد ما شاءوا من الأحاديث النبوية، ضرب العقل بالنقل، تتبع زلات العلماء وسقطاتهم، تمجيد الفرق الضالة، هدم الحواجز بين المسلمين ومن خالفهم، التلاعب بالمصطلحات، والكذب والتحايل، والتعجل في إصدار الأحكام والفتوى بغير علم، هذه سماتهم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعز دينه، وأن يعلي كلمة الدين، وأن ينصر من نصر الدين، وأن يخذل من خذل المسلمين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(158/11)
من الأحكام التي تتعلق بالحج والأضحية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله! إن موسم الحج قد اقترب، ويجب على كل مسلم قادر بالغ قد استوفى الشروط أن يحج بيت الله الحرام: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجلوا الخروج إلى مكة فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له من مرض أو حاجة) ولا يجب على الإنسان المسلم أن يستدين للحج، بل من تمكن منه حج، ومن لم يتمكن أجَّل حتى يستطيع، وكذلك كل معذور من مريض وامرأة مرضعٍ أو حاملٍ وغيرها من أهل الأعذار؛ لهم أن يؤجلوا ذلك حتى يزول العذر.
وإذا حج الإنسان على نفقته أو على نفقة غيره، فإن حجه مجزئ ولا حرج عليه، ومن وجب عليه الحج وأمكنه أن يفعله لابد أن يبادر إليه فوراً ولا يجوز التأخير، وبعض الناس يتوهمون أنه إذا حج ولم يُضحّ عنه فإن حجه ناقص، وهذا لا صحة له، وبعضهم يربط بين الحج وقضاء صيام رمضان، وهذا الربط غير صحيح أيضاً، وإذا كان الإنسان مطالباً بدينٍ قدم قضاء الدين على الحج، ولا حرج عليه في ذلك، فإذا سمح له صاحب الحق وأجله وأخره لما بعد الحج، فعل ذلك وكتب الدين في وصية وذهب للحج.
وأما أهل البلدان من غير الحجاج، فإنهم سيشاركون الحجاج في بعض الأحكام أجراً لهم ومواساة لهم في أحكام الحج، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له ذبح يذبحه، فإذا أهل هلال ذي الحجة، فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي).
إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا من بشره شيئاً، فهذا يدل على النهي، وظاهره التحريم عن أخذ شيء من الشعر والأظفار والبشرة لكل من أراد الأضحية، ابتداء من أول ليلة الواحد من ذي الحجة، فإذا عرفنا دخول ذي الحجة فمن تلك الليلة، يمتنع المسلم عن هذه الأشياء، إذا كان عنده أضحية أو نواها.
وكذلك فإن أهل الإنسان من الزوجة والأولاد لا يجب عليهم الالتزام بهذا الحكم، وإنما الذي يلتزم هو الذي بذل الثمن، وهو الذي نوى وأراد الأضحية، سواء يذبحها بنفسه أو بتوكيل غيره، وتوكيله لغيره لا يخرجه عن هذا الحكم، وعلى أية حال فإن الأضحية صحيحة ولو خالف، ولكن المخالفة فيها إثم يجب على المسلم أن يتورع عنه، وكل من عرضت له حاجة في أخذ شيء من الظفر كما لو انكسر، أو احتاج لحلاقة شعرٍ لجرح أو غيره فلا بأس به، ولما كان المضحي مشابهاً للمحرم بفعل بعض أحكام النُسك وهو الذبح، فالهدي للحاج، والأضحية للمسلم في البلد، شاركه في بعض أحكام محظورات الإحرام.
وأما بالنسبة لهذه الأضاحي، فإن استسمانها واستحسانها من شعائر الدين، وسنأتي على ذلك في الخطبة القادمة بإذن الله تعالى أو التي بعدها في هذه المسألة.
وأما شهر ذي القعدة فإذا لم نعلم انقضاؤه بدخول ذي الحجة أكملناه ثلاثين يوماً، وامتنعنا بعده لمن أراد أن يُضحي، وكذلك فإن الذين يشتركون في أضحية عن ميتهم مثلاً، يلزمهم ذلك الحكم، والمضحي يجوز له الطيب والجماع ولبُس المخيط وغير ذلك، وإنما الذي يحظر عليه الأخذ من الشعر والأظفار والبشرة فقط، ولعلها تكون فرصة لاتباع السنة وللمداومة عليها في إطلاق اللحية وغيرها.
أيها الإخوة: إن الحاج ليس عليه أضحية، وإنما عليه الهدي إذا كان متمتعاً أو قارناً، وبناءً عليه فإن الحاج إذا كان له هدي وليس له أضحية فإنه لا يلزمه هذا الحكم من أول ذي الحجة، بل إنه يمتنع عن الأخذ من الشعر والأظفار وغيرها إذا أهل بالإحرام.
وأما من ترك أضحية في البلد، وأراد أن يذهب للحج ويُهدي هناك، فيلزمه ذلك الحكم من أول الشهر حينئذٍ.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين إنه سميع مجيب قريب.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين، اللهم ارفع الظلم عن المستضعفين من المسلمين، اللهم إنا نسألك العون لهم يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد والنجاة يوم المعاد، اللهم ثبتنا على الإيمان، ومن أراد بلدنا هذا بسوء فاجعل كيده في نحره، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا، وتكفر عنا سيئاتنا، اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(158/12)
ماذا قالوا عند الموت؟! [1]
في هذا الدرس سنجد صوراً لكثير من العلماء الذين فازوا بحسن الخاتمة، منهم من جيل الصحابة مثل أبي هريرة، وسلمان ومعاذ وحذيفة، ومن التابعين: عمرو بن شرحبيل، والعمري، وأبو بكر بن عياش وغيرهم.
كما تعرض الشيخ لذكر بعض العلماء المعاصرين الذين فجعت الأمة بوفاتهم.(159/1)
معنى: (نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا)
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41].
قال المفسرون في هذه الآية أقوالاً: الأول: أنه ما يفتح الله على نبيه من الأرض، والمعنى: أولم ير كفار مكة أنا نفتح لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم الأرض بعد الأرض من حولهم.
والثاني: أنها القرية، أو البلدة تخرب حتى تبقى الأبيات في ناحيتها، والناحية الأخرى خراب، فيرون قراهم وبلداتهم تخرب أطرافها.
الثالث: نقص البركة، ونقص أهل القرية، ونقص الأنفس والثمرات.
والرابع: ذهاب فقهاء الأرض وأخيارها.(159/2)
نقصان أطراف الأرض هو موت العلماء
والخامس: موت أهلها، وقد أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة ونعيم بن حماد والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: (ننقصها من أطرافها) قال: [موت علمائها وفقهائها، وذهاب خيار أهلها].
وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عزَّ وجلَّ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41] قال: [موت علمائها وفقهائها] هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، قال عكرمة: [لو كانت الأرض تنقص، لم تجد مكاناً تقعد فيه، ولكن هو الموت] وقال مجاهد: هو موت العلماء.
رواه عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى: {نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41] قال: موت علمائها وفقهائها، وفي هذا المعنى:
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها متى يمت عالمٌ منها يمت طرفُ
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها وإن أبى عاد في أكنافها التلفُ
قال ابن كثير رحمه الله: والقول الأول أولى، وهو ظهور الإسلام على الشرك قرية بعد قرية كقوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} [الأحقاف:27] وقال القرطبي رحمه الله في تفسيره عن عطاء بن أبي رباح في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41] قال: ذهاب فقهائها وخيار أهلها، قال أبو عمر ابن عبد البر: قول عطاء في تأويل الآية حسنٌ جداً تلقاه أهل العلم بالقبول، قال القرطبي: ومعروفٌ في اللغة أن الطرف الكريم من كل شيء: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41] موت الفقهاء والأخيار.(159/3)
علماء الصحابة عند الموت
سمعنا وسمعتم -أيها الإخوة- عن تتابع فقد عدد من أهل العلم في الشهور الأخيرة، فأصاب أرضنا نقصٌ من أطرافها، وقد مرت على المسلمين ظروف مشابهة، فسمى المؤرخون المسلمون عام أربعٍ وتسعين للهجرة بسنة الفقهاء لكثرة من مات فيها من العلماء والفقهاء ومنهم: علي بن الحسين بن زين العابدين، ثم عروة بن الزبير، ثم سعيد بن المسيب، وأبو بكر عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسيعد بن جبير، وغيرهم ماتوا في سنة أربعٍ وتسعين فتعالوا نتذاكر حال العلماء عند الموت ليكون في ذلك موعظة وعبرة، ما هي كلماتهم في لحظاتهم الأخيرة عندما حضرتهم المنية.(159/4)
أبو هريرة عند موته
لما حضرت أبا هريرة رضي الله عنه المنية بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: [على قلة الزاد وشدة المفازة، وأنا على عقبة هبوط إما إلى الجنة أو إلى النار، فما أدري إلى أيهما أصير، وقال: اللهم إني أحبَّ لقاءك، فأحب لقائي].(159/5)
معاذ بن جبل لما حضرته الوفاة
ولما حضر معاذ بن جبل الموت، قال: [انظروا هل أصبحنا، قيل: لم نصبح، ثم أتي، فقال: قد أصبحت، فقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، مرحباً بالموت مرحباً، زائر مغيب، وحبيب جاء على فاقة، اللهم إني قد كنت أخافك، فأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، -أي: في قيام الليل- ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر] وجلس عند تلميذ له يقال له يزيد بن عميرة السكسكي، فحدث عنه أن معاذاً لما حضرته الوفاة، قعد يزيد على رأسه يبكي، فنظر إليه معاذ، فقال: [ما يبكيك؟ فقال له يزيد: أما والله لا أبكي لدنيا كنت أصيبها منك، ولكني أبكي لما فاتني من العلم، فقال له معاذ: إن العلم كما هو لم يذهب، فاطلب العلم من بعدي عند أربعة: عند عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، وعويمر أبي الدرداء، وسلمان الفارسي] وقبض معاذ ولحق يزيد بـ الكوفة، فأتى مجلس عبد الله بن مسعود، فلقيه، فقال له ابن مسعود: [إن معاذ بن جبل كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ].(159/6)
قول أبي ذر عند الموت
وأما أبو ذر رضي الله عنه لما اعتزل في الربذة، وحضرته الوفاة، أوصى امرأته وغلامه، فقال: (إذا مت، فاغسلاني وكفناني، وضعاني على الطريق، فأول ركبٍ يمرون بكم، فقولا: هذا أبا ذر فلما مات، فعلا به ذلك، فاطلع ركبٌ فما علموا به حتى كادت ركائبهم تطأ السرير، فإذا عبد الله بن مسعود في رهط من أهل الكوفة، فقال: ما هذا؟ قيل: جنازة أبي ذر، فاستهل ابن مسعود يبكي، وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، فنزل فوليه بنفسه حتى أجله، -أي: في الأرض-).(159/7)
حذيفة بن اليمان عند الموت
وأما حذيفة رضي الله عنه، فقد سئل أبو مسعود الأنصاري: [ماذا قال حذيفة عند موته؟ قال: لما كان عند السحر، قال: أعوذ بالله من صباح إلى النار ثلاث مرات، ثم قال: اشتروا لي ثوبين أبيضين، فإنهما لن يتركا عليَّ إلا قليلاً حتى أبدل بهما خيراً منهما، أو أسلبهما سلباً قبيحاً].(159/8)
سلمان الفارسي عند وفاته
ولما حضر سلمان الفارسي الوفاة، جعل يبكي، فقيل له: (ما يبكيك؟ ألست فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ؟ فقال: والله! ما بي جزع من الموت، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهداً يكن متاع أحدكم من الدنيا كزاد الراكب، وهذه الأسودة حولي) كأنه يقول هذا الأثاث والمتاع حولي لم أمتثل للعهد، قال: [فلما مات، نظروا في بيته، فلم يروا في بيته إلا إكافاً ووطاءً ومتاعاً قُوِّم بنحو عشرين درهماً] كل ما يملكه بعشرين درهماً، فانظروا يا عباد الله! كم عندنا من الأثاث في بيتنا، وروى ابن سعد في الطبقات من طرق عدة عن الشعبي، قال: [لما حضرت سلمان الوفاة، قال لصاحبة منزله وهي زوجته: هلمي خبيَّتي الذي استخبأت فيه، قالت: فجئته بصرة مسك، فقال: ائتيني بقدح فيه ماءٌ فنثر المسك فيه، ثم ماسه بيده، ثم قال: انضحيه حولي، فإنه يحضرني خلقٌ من خلق الله يجدون الريح ولا يأكلون الطعام، ثم اجفئي عليَّ الباب وانزلي قالت: ففعلت، وجلست هنيهةً، فسمعت هسهسةً، قالت: ثم صعدت، فإذا هو قد مات].
وعن الشعبي، قال: [أصاب سلمان صرة مسكٍ يوم فتحت جلولاء، فاستودعها امرأته، فلما حضرته الوفاة، قال: هاتي هذه المسكة فمرسها في ماء، ثم قال: انضحيها حولي، فإنه يأتي زوارٌ الآن قالت: ففعلت، فلم يمكث بعد ذلك إلا قليلاً حتى قبض] وقال الشعبي أيضاً: [حدثني الجزل عن امرأة سلمان بقيرة أنه لما حضرته الوفاة، دعاني وهو في عليّة له -تقول زوجته: لها أربعة أبواب- فقال: افتحي هذه الأبواب يا بقيرة، فإن لي اليوم زواراً لا أدري من أي هذه الأبواب يدخلون عليَّ، ثم دعا بمسك، فقال: أديثيه في تنور ففعلت، ثم قال: انضحيه حول فراشي، ثم انزلي، فامكثي فسوف تطلعين فتريني على فراشي، فاطلعت فإذا هو قد أخذت روحه، فكأنما هو نائم في فراشه].(159/9)
خالد بن الوليد عند سكرات الموت
أما خالد بن الوليد رضي الله عنه، فإنه لما حضرته الوفاة قال: [ما كان في الأرض من ليلة أحب إليَّ من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبح بهم العدو، فعليكم بالجهاد] هو الذي احتبس دروعه وأعتده في سبيل الله، وقال: [لقد اندق في يوم مؤتة تسعة أسياف في يدي، فما صبرت معي إلا صفيحة يمانية] وهو صاحب الكرامات لما تحداه الروم بشرب سم ساعة، أخذه متوكلاً على الله يرجو مصلحة هدايتهم، فسمى وشرب، فلم يضره رواه أبو يعلى.
وكذلك روى ابن أبي الدنيا بإسناد صحيح، قال: [أتى خالد بن الوليد رجلٌ معه زق خمرٍ، فقال خالد: اللهم اجعله عسلاً، فصار عسلاً].(159/10)
واثلة بن الأسقع
وأما واثلة بن الأسقع الصحابي رضي الله عنه، فقد دخل الأوزاعي على خصلة بنته فقال لها: [أي شيء سمعت من أبيك؟ فقالت: لما حضرته الوفاة أخذ بيدي، وقال: يا بنية! اصبري حتى عد أصابعي الخمس اصبري اصبري اصبري اصبري اصبري، ثم أخذ بيدي الأخرى، وقال: يا بنية! وأوصاها بالصبر].(159/11)
عبد الله بن عائذ
وقال عبد الله بن عائذ التمالي صحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة، قال له خصيف بن الحارث: [إن استطعت أن تلقانا، فتخبرنا ما لقيتم من الموت، فمكث فترة لا يراه، ثم لقيه في منامه، فقال له: ألا تخبرنا؟ فقال: نجونا ولم نكد ننجو بعد المشيبات، فوجدنا رباً خير ربٍ، غفر الذنوب، وتجاوز عن السيئة إلا ما كان من الأحراض، قال: وما الأحراض؟ قال: الذين يشار إليهم بالأصابع] فهذه موعظة للذين يحبون الظهور والرئاسة، وأن يشار إليهم بالأصابع، والقصة رواها ابن سعد في الطبقات.(159/12)
عبد الله بن عمر عند سكرات الموت
وأما عبد الله بن عمر الصحابي لما حضرته الوفاة، قال: [انظروا فلاناً -لرجل من قريش- فإني كنت قلت له في ابنتي قولاً كشبه العدة -أي: يشبه أني وعدته بتزويجه ابنتي- وما أحب أن ألقى الله بثلث النفاق -لأن آية النافق ثلاث: إذا وعد أخلف- وأشهدكم أني قد زوجته] ذكر القصة الذهبي في تذكرة الحفاظ.
ولما ثقل معاوية رضي الله عنه، جعل يضع خداً على الأرض، ثم يقلب وجهه ويضع الخد الآخر، ويبكي ويقول: [اللهم إنك قلت في كتابك: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فاجعلني فيمن تشاء أن تغفر له، ثم قال: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة، وتجاوز بحلمك عن جهل ولم يرج غيرك، فإنك واسع المغفرة، ليس لذي خطيئة من خطيئته مهرب إلا إليك].(159/13)
علماء التابعين عند الموت
وأما عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر الملقب بالعمري قال عند موته: [بنعمة ربي أحدث لو أن الدنيا تحت قدمي، ما يمنعي من أخذها إلا أن أزيل قدمي ما أزلتها، معي سبعة دراهم من لحاء شجرة فتلته بيدي] فهذه ثروته من الدنيا كلها، هذه السبعة الدراهم من عمل يده.
ويونس بن عبيد الذي شهد له أنه كان يطلب العلم لوجه الله ما حضره حقٌ من حقوق الله إلا وهو متهيئ له، لما حضرته الوفاة بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: قدماي لم تغبرا في سبيل الله عزَّ وجلَّ، نظر إلى قدميه عند موته وبكى، وسئل عن سبب البكاء، فتحسر أنه لم يمشِ في الجهاد، ولم تغبر قدماه في سبيل الله عزَّ وجلَّ.
وعمرو بن شرحبيل رحمه الله حين حضرته الوفاة، قال: [إني ليسيرٌ للموت الآن، وما بي إلا هول المطلع.
ما أدع مالاً، وما أدع عليَّ من دين، وما أدع من عيال يهموني من بعدي، فإذا أنا مت، فلا تنعوني إلى أحد، وأسرعوا المشي، ولا ترفعوا جدثي، -أي: قبري- فإني رأيت المهاجرين يكرهون ذلك].
ولما حضر الموت إبراهيم بن يزيد النخعي قال وهو يبكي وسئل عن ما يبكيه فقال: [انتظار ملك الموت ما أدري يبشرني بجنة أو بنار؟].
ولما حضر إبراهيم بن هانئ الموت، قال لابنه إسحاق: [أنا عطشان، فجاءه بماء، فقال: غابت الشمس؟ قال: لا.
فرده، ثم قال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] ثم خرجت روحه رحمه الله] فختم يومه بصوم، جاءه الموت وهو صائم ولم يشرب وهو عطشان، هذا كان حالهم رحمة الله عليهم.
اللهم اجعلهم من ورثة جنة النعيم، وألحقنا بهم يا رب العالمين، اللهم تب علينا إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم أحينا مؤمنين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(159/14)
أقوال عند الموت تدل على حسن الخاتمة
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً، أشهد أن لا إله إلا الله الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً رسول الله الرحمة المهداة البشير والنذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: هؤلاء أسلافنا وعلماؤنا الصالحون لما حضرتهم الوفاة، ما هي أقوالهم التي تدل على صدقهم وحبهم لربهم وعملهم للصالحات؟(159/15)
قول أبي بكر بن عياش وغيره من التابعين
هذا أبو بكر بن عياش رحمه الله تعالى بكى ولده حين حضرته الوفاة، فقال أبو بكر بن عياش لولده: ما يبكيك؟ أترى الله يضيع لأبيك أربعين سنة يختم فيها القرآن كل ليلة؟ وهو الذي قال لولده عند موته: يا ولدي! لا تعص الله في هذه الحجرة، فإني ختمت القرآن فيها ثمانية عشر ألف ختمة.
وقال أحمد بن حفص: دخلت على أبي الحسن إسماعيل والد أبي عبد الله عند موته، فقال: لا أعلم من مالي درهماً من حرام، ولا درهماً من شبهة، قال أحمد: فتصاغرت إليَّ نفسي عند ذلك، قال أبو عبد الله: أصدق ما يكون الرجل عند الموت.
وقال عطاء بن السائب: ذهبنا نرجي أبا عبد الرحمن السلمي عند موته -أي: نذكره برجاء الله، فقال: إني لأرجو ربي وقد صمت له ثمانين رمضاناً.
وقال أبو عمر ابن حمدان الإمام المحدث الزاهد وقد عمر تسعين سنة، وتوفي وزوجته حبلى وله بنت، فقالت له زوجته عند وفاته: قد قربت ولادتي، فقال: سلمته إلى الله، قد جاءوا ببراءتي من السماء، وتشهد ومات في ذلك الوقت، روى القصة الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء.(159/16)
قصة لأبي إسحاق الحربي
وأبو إسحاق الحربي تلميذ أحمد من أئمة الفقه والحديث الذي كان يقول: من لم يجر مع القدر لم يتهن بعيشه، الذي لا يستسلم للقضاء والقدر لا يتهنى بعيشه، قال: قد كانت بي شقيقة -صداع الرأس- منذ أربعين سنة ما أخبرت بها أحداً، ولي عشرين سنة أبصر بفرد عين -بعين واحدة- ما أخبرت بها أحداً، مكث نيفاً وسبعين سنة من عمره لا يسأل أهله غداءً ولا عشاءً، إن جاءه شيء أكله، وإلا طوى وبقي إلى الليلة القابلة، دخل عليه بعض أصحابه عند موته، فقامت ابنته تشكو إليه ما هم فيه من الجهد، وأنه لا طعام لهم إلا الخبز اليابس والملح، وربما عدموا الملح في بعض الأحيان، فقال لها إبراهيم: يا بنية! تخافين الفقر؟ انظري إلى تلك الزاوية فيها اثني عشر ألف جزء قد كتبتها وكان من المحدثين، ففي كل يوم تبيعي منها جزءاً بدرهم، فمن عنده اثني عشر ألف درهم، فليس بفقير، ولما حضر بعض العباد الوفاة وكان قد أوصى بعض أصحابه أن يوضئه، فأخذ هذا الذي حضر، فلم يستطع الكلام، فشرع الموضئ يوضئه، فلما بلغ موضع اللحية نسي أن يخللها، فأخذ بيده فأدخلها في لحيته، أخذ بيد مغسله فأدخلها في لحيته، ثم قبض، قال بعضهم: فهذا الذي لم ينس آداب الشريعة حتى عند الموت.(159/17)
الجنيد والكاساني عند الوفاة
ولما حضرت الجنيد الوفاة، جعل يصلي ويتلو القرآن، فقيل له: لو رفقت بنفسك في مثل هذه الحال، فقال: لا أحد أحوج إلى ذلك مني الآن، وهذا أوان طي صحيفتي، أبادر طيِّ الصحيفة قبل أن تطوى.
وأما الكاساني رحمه الله، فإنه لما حضرته الوفاة شرع في قراءة سورة إبراهيم حتى إذا انتهى إلى قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] خرجت روحه عندما فرغ من قوله تعالى: {وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27].
محمد بن إسماعيل النساج قصته في البداية والنهاية لـ ابن كثير، لما حضرته الوفاة نظر إلى زاوية البيت، فقال: قف رحمك الله، فإنك عبدٌ مأمورٌ، وأنا عبدٌ مأمورٌ، وما أمرت به لا يفوت، وما أمرت به يفوت، ثم قام وتوضأ وصلى، وتمدد ومات رحمه الله تعالى.(159/18)
من أبرز العلماء المتأخرين الذين فقدتهم الأمة
أيها المسلمون: ألا تلاحظون كيف يموت العلماء تترا ويذهبون، فذهب الإمام العالم الشيخ: عبد العزيز بن باز بعدما ذهب الشيخ: ابن غصون، وكذلك الأديب الواعظ الشيخ: علي الطنطاوي، ومن المشتغلين بالفقه الشيخ: مصطفى الزرقاء، ثم القاضي العالم: عطية سالم، والشيخ: مناع القطان من المؤلفين في علوم القرآن، ذهبوا في أشهر وجيزة جداً، وهكذا تتابع المصائب بموت أهل العلم.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا ممن أخلصوا له.
ليس الخوف على من مات محسناً، إنما الخوف على الحي والله، أما المحسن فنرجو له عند ربه الكرامة، ولكن الخوف علينا ونحن لا ندري على أي شيء نموت، وعلى أي شيء تقبض أرواحنا، وهل سنتمكن من الشهادة أم لا، الخوف على الحي، والعبرة من ذهاب العلماء بأن يتحمس طلاب العلم للازديادة منه، فإنه لا بد من تعويض النقص الذي حصل في الأمة، ونسأل الله أن يخلف بخير.
أيها الإخوة: إن من مات سواء كان عالماً معلماً، وداعيةً فقيهاً، وواعظاً مؤدباً، فنرجو له عند الله الحسنى، وأن يجزل له المثوبة والأجر.
اللهم ارفع درجاتهم في جنات النعيم، واخلفهم في الغابرين.(159/19)
ماذا قالوا عند الموت؟! [2]
تحدث الشيخ في هذه المحاضرة عن الأسباب التي تؤدي إلى سوء الخاتمة، كما تعرض لذكر عدة صور ممن ختم لهم بخاتمة سيئة، فذكر قصة محبي الدنيا وقصص بعض الظلمة عند الموت، وكذلك قصص محبي الغناء ومحبي جلساء السوء.(160/1)
وقفات مع سوء الخاتمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
عباد الله: أيها الإخوة! تحدثنا في الخطبة الماضية عن أقوال الصالحين عند الموت وبعض العبارات والأعمال التي قاموا بها عندما حضرتهم المنية وأقبلوا على الله، ومسلسل المنون يتتابع، ونذكر في هذه الخطبة الجانب المقابل في سوء الخاتمة وأقوال بعض من ختم فيه بالسوء عندما حضرتهم الوفاة.
اعلموا -رحمكم الله- أن الصالحين يتخوفون من سوء الخاتمة، ويخشون أن يبدو لهم عند الموت ما لم يكونوا يحتسبون، وأنهم يوقنون أن الأعمال بالخواتيم، وأن العبد يبعث على ما مات عليه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم.(160/2)
الإصرار على الكبائر سبب في سوء الخاتمة
والخاتمة السيئة لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، وإنما تكون لمن كان له فساد في العقل وإصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت، فيختم لهؤلاء بخاتمة سيئة، وقد تبدو تلك الخاتمة من بعض من حضرهم الموت، ولهذا أسباب، فمن ذلك: فساد الاعتقاد؛ وهو أخطرها على الإطلاق، فيتكشف في حال السكرات بطلان ما اعتقده، ولهذا يقول تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:105 - 104].
فخاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطن للعبد ربما لا يطلع عليها الناس، فتظهر عند وفاته، يظهر المخبوء، قال عبد العزيز بن أبي رواد رحمه الله: حضرت رجلاً عند الموت يلقن لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافرٌ بها، ومات على ذلك، قال: فسألت عنه، فإذا هو مدمن خمر، فكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته.
إن الإصرار على المعاصي وهو سببٌ ثانٍ لسوء الخاتمة يجعل إلفها في قلب صاحبها، وإذا كان ميله إليها أكثر، حضرته عند الوفاة ربما فغلبت عليه فهلك، فهذه شهوة المعصية تصير حجاباً بين صاحبها وبين ربه، وتكون سبباً في شقائه في آخر عمره، ويعرف ذلك بمثال: وهو أن الإنسان لا شك أنه يرى في منامه من الأحوال التي ألفها طول عمره، حتى أن الذي قضى عمره في العلم يرى من الأحوال المتعلقة بالعلم والعلماء، والذي قضى عمره في الخياطة يرى من الأحوال المتعلقة بالخياطة، والذي اشتغل بالتجارة إدمانه عليها يومياً، وانشغاله بها يجعله يراها في نومه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن نوعٍ من أنواع الرؤى، أي: (رؤى الشيء يهمّ الرجل في نهاره، فيراه في نومه) والموت وإن كان فوق النوم، لكن سكراته وما يتقدمه من الغشيان قريب من النوم، فطول الإلف بالمعاصي يقتضي تذكرها عند الموت، وعودها في القلب، فإذا قبضت روح العاصي في تلك الحال، يختم له بالسوء حتى قال مجاهد رحمه الله: [ما من ميت يموت إلا مثل له جلساؤه الذين كان يجالسهم] فهذه خطورة اعتياد المعصية والإدمان عليها، وضعف الإيمان الذي يجعل الإنسان واقعاً في المعاصي.(160/3)
سوء الخاتمة على قسمين
وسوء الخاتمة على رتبتين: إما أن يغلب على القلب عند سكرات الموت وظهور أهواله شكٌ، أو جحودٌ، فتقبض الروح على تلك الحال، فتكون حجاباً بينه وبين الله أبداً، وذلك يقتضي العذاب المخلد.
والرتبة الثانية: أن يغلب على القلب عند الموت حب أمر من الأمور التي كان يقارفها صاحبها وهو حي، فتظهر عند وفاته، فربما تكون سبباً في عذابه، قال ابن كثير رحمه الله: والمقصود أن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت مع خذلان الشيطان له، فيجتمع له الخذلان مع ضعف الإيمان، فيقع في سوء الخاتمة، قال الله تعالى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:29].(160/4)
أمثلة من سوء الخاتمة
وسوء الخاتمة لا يقع فيها من صلح ظاهره وباطنه مع الله، وصدق في أقواله وأعماله، فهذا لم يسمع به، وإنما يقع سوء الخاتمة لمن فسد باطنه اعتقاداً، وظاهره عملاً، ولمن له جرأة على الكبائر، وإقدام على الجرائم، وقد يظهر من المحتضر ما يدل على سوء خاتمته مثل: النكول عن نطق الشهادتين ورفض ذلك، والتحدث بالسيئات والمحرمات، وإظهار التعلق بها.(160/5)
فرعون وسوء خاتمته
وإن من أمثلة سوء الخاتمة التي ذكرت لنا في القرآن العظيم ما حصل عند هلاك الطاغية فرعون، لما قاده الله سبحانه وتعالى بقدرته مع جنوده الكفرة لاتباع موسى وقومه، فدخلوا وراءهم في البحر بعدما هاب فرعون الدخول وهم بالرجوع، ولكن هيهات ولات حين مناص، نفذ القدر، واستجيبت الدعوة، ولم يملك من نفسه إلا الدخول، فتجلد لأمرائه، وأظهر الشدة والجرأة، وقال: ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا، فاقتحموا كلهم عن آخرهم، فلما توسطوا في البحر وتكاملوا فيه، أمر الله القدير البحر أن يرتطم عليهم، فلم ينج منهم أحد، فجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم وتراكمت فوق فرعون، وغشيته سكرات الموت، فقال وهو على تلك الحال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] فآمن حيث لا ينفعه الإيمان، ولهذا قال الله: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] ولما شك بعض بني إسرائيل في موته، أمر الله البحر أن يلقيه جسداً سوياً بلا روح: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} [يونس:90] إذا نزل الموت، لا تفيد التوبة، إذا غرغر العبد أغلق باب التوبة: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:90 - 92] وجعل جبريل عليه السلام يدس من زبد البحر في فم فرعون مخافة أن تدركه رحمة الله تعالى، فلم يتمكن من الشهادة قبل نزول الموت، ولم يعرف التوحيد ويقر به، ويظهر ذلك عليه إلا بعد نزول الموت، فلم ينفعه ذلك.(160/6)
سوء خاتمة عضد الدولة
وقد حدثتنا كتب التاريخ الإسلامية عن نماذج من الطواغيت، وماذا فعل الله بهم بعد تجبرهم، ومن ذلك الذي كان يسمى بـ عضد الدولة، ذكر ابن كثير رحمه الله قصته في البداية والنهاية: خرج مرة إلى بستان له، فقال: أود لو جاء المطر، فنزل المطر -والله يمهل، وكانت فتنة لهذا الرجل- فنزل المطر، فأنشأ يقول:
ليس شرب الراح إلا في المطر وغناءٌ من جوار في السحر
غانيات سالبات للنهى ناعماتٌ في تضاعيف الوتر
غناء ووتر وأوتار وأغاني.
راقصات زاهرت مجلٌ رافلات في أفانين الحبر
مطربات غنجاتٌ لحنٌ رافضات الهم آمال الفكر
مبرزات الكأس من مطلعها مسقيات الخمر من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها مالك الأملاك غلاب القدر
سهل الله إليه نصرهم في ملوك الأرض ما دام القمر
وأراه الخير في أولاده ولباس الملك فيهم بل غرر
قال ابن كثير رحمه الله: قبحه الله وقبح شعره وقبح أولاده، فإنه اجترأ في أبياته هذه، فلم يفلح بعدها، فيقال: إن بدأ أخذه كان حين قوله: غلاب القدر، أخذه الله فأهلكه، فتمثل عند موته بأبيات، وانظروا الفرق بين هذه الأبيات والتي قبلها، وفيها كلمة الرمق وهو التراب العالق في الماء:
تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرمقا
ولا تأمنن الدهر إني أمنته فلم يبقِ لي حالاً ولم يرع لي حقا
قتلت صناديد الرجال فلم أدع عدواً ولم أمهل على ظنه خلقا
وأخليت دور الملك من كل بازلٍ وشتتهم غرباً ومزقتهم شرقا
فلما بلغت النجم عزاً ورفعةً ودانت رقاب الخلق أجمع لي رقاً
رماني الردى سهماً فأخمد جمرتي فهاأنا ذا في حفرتي عاجلاً ملقى
فأفسدت دنياي وديني سفاهةً فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى
فيا ليت شعري بعد موتي ما أرى إلى رحمة الله أم ناره ألقى
فهكذا حصل من هذا الذي قال عن نفسه: مالك الأملاك غلاب القدر، قال: فهاأنا ذا في حفرتي عاجلاً ملقى، وجعل يكرر هذه الأبيات، ثم جعل يكرر قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] حتى مات.
وهكذا كان لأصحاب السلطان وقفات عند الموت كما حصل لبعض الخلفاء لما احتضر، سمع غسالاً يغسل الثياب، فقال: ما هذا؟ قالوا: غسال، قال: يا ليتني كنت غسالا ً أكسب ما أعيش به يوماً بيوم ولم ألِ الخلافة، ثم قال:
لعمري لقد عمرت في الملك برهةً ودانت لي الدنيا بوقع البواسلِ
وأعطيت حمر المال والحكم والنهى ولي سلمت كل الملوك الجبابرِ
فأضحى الذي قد كان مما يسرني كحل مضى في مزمنات الغوابرِ
فيا ليتني لم أعنِ بالملك ليلةً ولم أسع في لذات عيش النواظرِ
وقيل لبعض هؤلاء من أصحاب السلطان في مرض الموت: كيف تجدك؟ قال: أجدني كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94].(160/7)
عبد الملك بن مروان وخاتمته
قال سعيد بن عبد العزيز: لما احتضر عبد الملك، أمر بفتح أبواب قصره، فلما فتحت، سمع قصاراً بالوادي، فقال: ما هذا؟ قالوا: قصار! فقال: يا ليتني كنت قصاراً أعيش من عمل يدي، فلما بلغ سعيد بن المسيب قوله، قال: [الحمد لله الذي جعلهم عند موتهم يفرون إلينا، ولا نفر إليهم] ولما حضره الموت، جعل يندم ويندب، ويضرب بيده على رأسه ويقول: وددت أني اكتسبت قوتي يوماً بيوم، واشتغلت بعبادة ربي عزَّ وجلَّ وطاعته، ولما حضرته الوفاة، دعا بنيه فوصاهم ثم قال: الحمد لله الذي لا يسأل أحداً من خلقه صغيراً أو كبيراً، ويروى أنه قال: ارفعوني، فرفعوه حتى شم الهواء، ثم قال: يا دنيا ما أطيبك! إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لحقير، وإن كنا بك لفي غرور، ذكر القصة ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية.
أينما بنوا من القصور خلوها والتحقوا بالقبور
أينما غرسوا من الزرع تركوه وولوا حيث لا رجع
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ:54].
ولما حضرت أحد السلاطين الوفاة، جعل يقول: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44] وجعل يقول: لو علمت أن عمري قصير ما فعلت، وجعل يقول: ذهبت الحيل، فلا حيلة.(160/8)
سوء الخاتمة لأهل البدع والكفر
وأما أهل البدعة، فإنه يحضرهم من السوء عند موتهم ما الله به عليم، وهذه قصة فيها عبرة لأحد هؤلاء الذي كان يسمى إسماعيل بن محمد بن أبي يزيد أبو هاشم الحميري الملقب بالسيد، كان من الشعراء المشهورين , ولكنه كان باطنياً خبيثاً، ومبتدعاً غثيثاً من أهل الرفض والكفر المحض، وكان ممن يشرب الخمر، ويقول بالرجعة -أي: بعد الموت سيكون رجوع إلى الدنيا، ثم موت ورجوع ثم موت ورجوع- وهكذا يعتقد هؤلاء، قال يوماً لرجلٍ من أهل السنة: أقرضني ديناراً ولك عندي مائة دينار إذا رجعنا إلى الدنيا، فقال له الرجل: إني أخشى أن تعود كلباً أو خنزيراً فيذهب ديناري، وكان قبَّحه الله يسب الصحابة في شعره، قال الأصمعي: ولولا ذلك ما قدمت عليه أحداً في طبقته، ولما حضرته الوفاة، اسود وجهه عند الموت، وأصابه كربٌ شديدٌ جداً، ولما مات، لم يدفنوه لسبه الصحابة رضي الله عنهم، وهكذا يكون أهل الكفر وأهل البدعة عند الموت في أشنع موقف وأسوئه.
نسأل الله السلامة والعافية، اللهم ثبتنا عند الممات، اللهم اجعل ميتتنا على الإيمان يا رحمن.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(160/9)
قصص مختصرة في سوء الخاتمة
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الحي الذي لا يموت، الحمد لله مالك الملك، الحمد لله ذي الجلال والإكرام، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، سبحانه وتعالى ملك الخلق وخلقهم، سبحانه وتعالى مالك الملك، كل ملك زائل إلا ملكه عزَّ وجلَّ، وأشهد أن محمداً رسول الله الرحمة المهداة، البشير والنذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصبحه أجمعين.(160/10)
قصص بعض الظلمة ومحبي الدنيا عند الموت
أيها الإخوة: لقد كان للظلمة مع الموت موعد، والله عزَّ وجلَّ يمهل ولا يهمل، ولما قتل الحجاج سعيد بن جبير دعا عليه، فلم يلبث بعده إلا نحواً من أربعين يوماً، فكان إذا نام يراه في منامه آخذاً بمجامع ثوبه، يقول: يا عدو الله! لم قتلتني؟ فيقول: ما لي ولـ سعيد بن جبير؟ ما لي ولـ سعيد بن جبير؟ وهكذا أخبر بعض من حضر أنهم سمعوه يقول: ما لي ولـ سعيد بن جبير؟ عند وفاته، قبحه الله.
وأما أصحاب الدنيا المنشغلون بالأموال، فإن للموت معهم موعداً أيضاً، فإن كانوا قد اشتغلوا بالمال عن عبادة الله، وألهتهم الدنيا عن طاعته، فإن سوء الخاتمة نذير شديد، قال ثابت البناني رحمه الله: كان رجلاً عاملاً للعمال، فجمع ماله، فجعله في سارية، فلما حضرته الوفاة، أمر به، فنثر بين يديه، فجعل يقول: يا ليتها كانت بعراً، يا ليتها كانت بعراً، يا ليتها كانت بعراً، وقيل لأحد المحتضرين: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، والجنان الفلاني اعملوا فيها كذا.
وذكر ابن القيم رحمه الله عن أحد التجار أن أحد قرابته احتضر وهو عنده، فجعلوا يلقنونه لا إله إلا الله وهو يقول: هذه القطعة رخيصة، هذا مشترى جيد، حتى قضى نحبه.
وسمع بعض المحتضرين عند احتضاره يلطم على وجهه ويقول: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] قال أحدهم عند احتضاره: سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي.(160/11)
قصص محبي الغناء وجلساء السوء عند الموت
قيل لأحد الناس عند موته: قل لا إله إلا الله، فقال: آهٍ آهٍ! لا أستطيع أن أقولها، وكان رجلٌ يجالس شراب الخمر، فلما حضرته الوفاة، جاءه إنسان يلقنه الشهادة، فقال له: اشرب واسقني، ثم مات.
وذكر ابن القيم رحمه الله أن رجلاً حضرته الوفاة، فقيل له: قل لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء، وقيل لأحد المحتضرين: قل لا إله إلا الله، فقال: وما يغني عني وما أعرف أني صليت لله صلاة، ولم يقلها.
صحب رجل الأخيار فترة من الزمن، فصلح أمره، وظهر ذلك في مظهره وثوبه ولحيته، ولكن في يوم من الأيام صحب الأشرار لينفثوا سمومهم في عقله وقلبه، وليدعوه إلى كل شر ورذيلة، وليغرسوا في قلبه بغض الصالحين ومجالسهم، وأخرجوه معهم إلى رحلة برية، وفي أثناء الطريق انقلبت بهم السيارة وماتوا جميعاً، وحضر الناس ليشاهدوا الحادث، وإذا بهم يعرفون هذا الرجل بعد موته قد حلق لحيته التي أطلقها مدة من الزمن، وأسبل ثوبه الذي قصره فترة من الوقت، ووجدوا بجواره كأس الخمر بعد معاقرته لها، لقد مات وهو مخمور بها، ولقي الله وهو سكران.
كم من دمعة قطرت على هذه الخاتمة السيئة؟ فهل من قلوب واعية وآذان صاغية؟ يقول أحد الأشخاص: في أثناء عملنا توقفت أنا وزميلي على جانب الطريق نتجاذب أطراف الحديث، وفجأة سمعنا صوت ارتطام قوي فأدرنا أبصارنا، فإذا بها سيارة مرتطمة بأخرى كانت قادمةً من الاتجاه المقابل، هببنا مسرعين إلى مكان الحادث لإنقاذ المصابين، حادث لا يكاد يوصف، شخصان في السيارة في حالة خطيرة، أخرجناهما من السيارة ووضعناهما ممدودين، أسرعنا لإخراج صاحب السيارة الثانية الذي وجدناه قد فارق الحياة، عدنا إلى الشخصين، فإذا هما في حال الاحتضار، هبَّ زميلي يلقنهم الشهادة، قولوا: لا إله إلا الله، لكن ألسنتهما ارتفعت بالغناء يرددان أغنية كانا يستمعان إليها قبل الحادث، أرهبني الموقف وهالني الأمر، وكان زميلي على عكسي يعرف أحوال الموتى، وأخذ يعيد عليهما الشهادة، فما استطاعا نطقها، بل أخذا يغنيان، ومن حضر من الناس يسمعهما ليشهدا عليهما يوم الفضائح، واستمرا على ذلك حتى ماتا، وما استطاعا أن ينطقا بلا إله إلا الله.
قصص سوء الخاتمة لأهل الغناء كثيرة حتى أن بعضهم عند الغرغرة ربما لعن الدين وتبرأ من الصلاة.(160/12)
شاب توفاه الله وهو يقرأ القرآن
يقول أحدهم في المقابل: حضرت إنساناً يحتضر في حادث سيارة، وحملناه معنا، وقمنا بالاتصال بالمستشفى، وجدناه شاباً في مقتبل العمر صاحب دين وتقوى، يبدو ذلك من مظهره، وقمنا بإسعافه وحملناه، وإذا بنا نسمعه يهمهم ولا نفقه ما يقول، أرخينا مسامعنا، فوجدناه يقرأ القرآن بصوت ندي كأنه ليس مصاباً، واستمر في قراءته، ثم رفع إصبعه السبابة يتشهد، وسكت الصوت بعد ذلك ليختمها بكلمة التوحيد، واتصل أحد الموظفين في المستشفى بمنزل المتوفى وكان المتحدث أخوه، قال عنه: إنه يذهب كل يوم اثنين لزيارة جدته وهي وحيدة في القرية، وكان يتفقد الأرامل والأيتام والمساكين، كانت القرية تعرفه، فهو يحضر لهم الكتب النافعة، والأشرطة الدينية، وكان يذهب وسيارته مملوءة بالأرز والسكر لتوزيعها على المحتاجين، وحتى حلوى الأطفال لم يكن ينساها، كان يرد على من يثنيه عن فعل الخير، ويقول: إنني أستفيد من طول الطريق بحفظ القرآن ومراجعته وسماع الأشرطة والمحاضرات، وهكذا كانت هذه الخاتمة الحسنة.(160/13)
خاتمة جونير جون
أيها الناس: إن في الواقع لعبراً والله، وإننا حين نسمع الأخبار لا بد أن نربط بين الأحداث وبين ما جاء في القرآن والسنة، وأن نعتبر بما ورد، وهذا الهالك جونير جون كندي قامت أمريكا من أجل رجل فاجر خبيث رووا مغامراته في الفسق والفجور حتى بعد موته؛ مع كبار المومسات والمغنيات الفاجرات، والممثلات الساقطات، والعارضات السافلات، ماذا كانت نهايته؟ كيف سقطت طائرته تهوي؟ لقد خر هذا المشرك بالله من السماء، فتخطفه السمك وهوت به طائرته في البحر العميق في مكان سحيق، أخرجوه فأحرقوه، أليس خذلاناً، أنفقوا من أجل البحث عنه أموالاً طائلةً، ثم أخرجوه وأحرقوه، وفي البحر ذروه والله قادر على جمعه، قال الله تعالى: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى:29] أنفقوا عليه لإخراجه وإحراقه، الحمد لله الذي جعل في الإسلام تكريماً للمسلم في دفنه، وجعل الأرض كفاتاً على ظهرها نعيش، وفي باطنها المستودع والبيت، وإلى الله المرجع والمصير، والعبرة بالنهاية، والأعمال بالخواتيم.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وأحسن أعمالنا آخرها يا رب العالمين، اللهم أحينا مسلمين، وأمتنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم أحينا بالتقوى، وارزقنا التمسك بالعروة الوثقى.
اللهم أحي قلوبنا بذكرك، اللهم أحي قلوبنا بذكرك، اللهم لا تجعلنا من الغافلين، اللهم ردنا إلى الحق رداً جميلاً، وارزقنا فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، إذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم آمنا في ديارنا وأوطاننا، واجعل بلدنا هذا بلداً آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(160/14)
ماذا نستفيد من الجيل الفريد
الصحابة هم الجيل الفريد الذي لم يأت مثله قبله، ولن يأتي مثله بعده، ومجالات الاستفادة منهم كثيرة جداً، وقد قام الشيخ بذكر مقدمة عن هذا الجيل، فتحدث عن تعريف الصحابة، ووضح عدد الرواة والمفتين من الصحابة، بالإضافة إلى نبذة عن فضلهم في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما بين عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة وأقوال العلماء فيهم رضي الله عنهم.
أما بالنسبة للمجالات التي يتم الاستفادة فيها من هذا الجيل فهي كثيرة جداً.(161/1)
مقدمة عن الصحابة رضوان الله عليهم
الحمد لله معز من أطاعه، ومذل من عصاه، أشهد أن لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وسبحان الله والحمد لله، وصلى الله وسلم على الرحمة المهداة، والسراج المنير، والبشير والنذير؛ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
إخواني في الله: هذه تحيةٌ في هذه الليلة في هذا البيت من بيوت الله، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يشملنا برحمته، وأن ينزل علينا سكينةً من عنده، وأن يجعل ملائكته تغشانا، وأن يجعل دار الخلد مثوانا إنه سميعٌ مجيبٌ.
أيها الإخوة: عنوان هذا الدرس" ماذا نستفيد من الجيل الفريد؟ " والمقصود بالجيل الفريد هم: صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والله تعالى لما جعل النبي محمداً عليه الصلاة والسلام أفضل الأنبياء، جعل حواريه أفضل الصحابة، وأفضل الحواريين من بين صحابة الأنبياء جميعاً.
فاختارهم عز وجل لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وحمل دينه وشرعه، والجهاد مع رسوله، فنشروا الإسلام في الآفاق.
هذا الجيل الفريد، وقلت (الفريد)؛ لأنه لن يتكرر في البشرية مثله على الإطلاق، ولم يأتِ قبله مثله، ولم يأتِ بعده مثله أبداً.
إنه جيلٌ فريدٌ اصطفاهم الله تعالى، وهذه معلوماتٌ عن الصحابة في سطور قبل أن نشرع في تبيان العنوان والشروع في المقصود.(161/2)
تعريف الصحابي
الصحابي: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم، أو رآه ولو ساعةً من نهار، فهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال علي بن المديني: الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام، فيدخل في ذلك من لقيه ممن طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يروِ، ومن غزا معه أو لم يغزُ، ومن رآه رؤيةً ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض العمى وكان مؤمناً به، يدخل فيها كل مكلفٍ من الجن والإنس، ويدخل فيه من ارتد وعاد إلى الإسلام قبل أن يموت سواء اجتمع به صلى الله عليه وسلم مرةً أخرى، أم لم يجتمع، وهذا هو الصحيح المعتمد عند الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني رحمه الله.
قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مائة وأربعة عشر ألفاً من الصحابة، وجملة الصحابة يبلغون مائة وعشرين ألفاً.
قال ذلك: أبو زرعة الرازي.
مات في المدينة من الصحابة نحو عشرة آلاف، وباقيهم تفرق في البلدان.
نقل ذلك عن مالك بن أنس الأصبحي.
نزل في الكوفة من الصحابة ألفٌ وخمسون منهم أربعة وعشرون بدريون، وقدم حمص من الصحابة خمسمائة رجل.
وهذا القول لـ قتادة بن دعامة السدوسي.(161/3)
عدد الرواة من الصحابة
الرواة عن النبي صلى الله عليه وسلم ألفٌ وخمسمائة.
هذا قول الحافظ الذهبي.
والذين روى عنهم الإمام أحمد مع كثرة روايته واطلاعه واتساع رحلته وإمامته من الصحابة تسعمائةٍ وسبعة وثلاثون نفساً، ووضع في الكتب الستة من الزيادات على ذلك ما يقارب من ثلاثمائة صحابي أيضاً.
الحافظ إسماعيل أبي الفداء ابن كثير رحمه الله تعالى.(161/4)
الصحابة في الفتوى
أكثر الصحابة فتوى مطلقاً سبعة: عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وعائشة رضوان الله عليهم.
ورد ذلك عن ابن حزم، وقال: يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد من هؤلاء مجلدٌ ضخم، ويليهم عشرون في الفتوى هم: أبو بكر، وعثمان، وأبو موسى، ومعاذ، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وأنس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وسلمان، وجابر، وأبو سعيد، وطلحة، والزبير، وأم سلمة، يمكن جمع من فتيا كل واحدٍ منهم جزءاً صغيراً.
قال: وفي الصحابة نحو من مائة وعشرين نفساً مقلون في الفتيا جداً، لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والثلاث، يمكن أن يجمع من فتوى جميعهم جزءٌ صغيرٌ بعد البحث؛ كـ أبي بن كعب، وأبي الدرداء، وأبي طلحة، والمقداد، وغيرهم.(161/5)
فضل الصحابة في الكتاب والسنة
ما هو فضلهم في الكتاب والسنة، حتى نعرف قيمة الصحابة؟(161/6)
فضل الصحابة في القرآن
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72] تتكلم هذه الآية عن قسمين.
من هم؟ إنهم المهاجرون والأنصار الموصوفون في الآية الأولى من هذه الآيات في الصفات الثلاث وهي: الإيمان، والهجرة، والجهاد: هم المهاجرون الأولون الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأولادهم إيثاراً لله ولرسوله من أجل إعلاء كلمة الله، وإظهار دين الإسلام على سائر الأديان.
والموصوفون في الآية نفسها بالإيواء والنصرة هم الأنصار الذين هم الأوس والخزرج، فإنهم آووا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرين في منازلهم، ونصروا نبي الله صلى الله عليه وسلم بمقاتلة أعداء الدين، ثم بين الله تعالى الولاء والتلاحم الثابت بين المهاجرين والأنصار بقوله: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72] في النصرة والمساعدة، وهذا مما يؤكد قطع الموالاة بينهم وبين الكفار، وقال عز وجل عن أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [التوبة:100] رغماً عن أنوف الحاقدين: {وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100] فهذه الآية اشتملت على أبلغ الثناء من الله رب العالمين على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، حيث أخبر الله تعالى أنه رضي عنهم، ويكفيهم فخراً وأجراً أن الله رضي عنهم.
وقال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] وهذه تشمل الإيمان، والعمل الصالح، والخلافة، وإقامة الدعوة؛ والإيمان والعمل الصالح في الآية يشمل الخلافة وإقامة الدعوة، ويقول ابن تيمية رحمه الله: ومن المعلوم أن هذه النعوت منطبقة على الصحابة في زمن أبي بكر وعمر وعثمان، فإنه إذ ذاك حصل الاستخلاف، وتمكن الدين بعد الخوف، لما قهروا فارس والروم، وفتحوا الشام والعراق ومصر وخراسان وأفريقيا إلى آخر كلامه رحمه الله.
وصفهم الله بوصفٍ جميلٍ في آخر سورة الفتح، فقال عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] فقوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] هي التي استدل بها الإمام مالك رحمه الله على أن الذين يبغضون الصحابة لا حظ لهم في الفيء، وأن من أبغضهم كافر، ومن غاظه الصحابة فهو كافر: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29].
هذه الصورة العظيمة التي تبين العلاقة بينهم: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ُ) [الفتح:29] وتبين عبادتهم، والعلاقة، والتربية، وكيف نشئوا نشأةً قويةً، وأنهم باستمرار الزمن زادت عبادتهم وأعمالهم مثل: النبتة الصغيرة مع الزمن وتعاهدها بالسقيا تصبح شجرة كبيرة متجذرة في الأرض، وافرة الظلال، كثيرة الأغصان، متشابكة الجذوع: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:29] وكل واحد يهديه الله إلى الدين، فيتعاهد نفسه بالإيمان، والعمل الصالح، ومجالس الذكر، وأصحاب الخير؛ فإن إيمانه يزداد ويقوى حتى يصبح شجرة قوية، ومرور الوقت في صالحه، وعمره خيرٌ له.(161/7)
وصف الصحابة في السنة النبوية
قال أبو موسى رضي الله تعالى عنه: (صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء) -مثلما أنتم الآن جالسون أيها الإخوة، فلا تنسوا النية بانتظار الصلاة القادمة؛ لأن من قعد ينتظر الصلاة، فهو في صلاة- فالصحابة صلوا مع النبي عليه الصلاة والسلام صلاة المغرب- (ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء، قال: فجلسنا، فخرج علينا، فقال: ما زلتم هاهنا -من المغرب- قلنا: يا رسول الله! صلينا معك المغرب، ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء، قال: أحسنتم -أو أصبتم- فرفع رأسه إلى السماء، وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء، فقال: النجوم أمنةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنةٌ لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) رواه مسلم.
قال النووي رحمه الله: معنى الحديث: أن النجوم ما دامت باقية في السماء، فالسماء باقية، فإذا انكدرت النجوم وتناثرت يوم القيامة وهنت السماء، فانفطرت وانشقت وذهبت، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون) أي: من الفتن والحروب، وارتداد الأعراب، واختلاف القلوب ونحو ذلك، وقوله عليه الصلاة والسلام: (وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) معناه: ما يوعدون من ظهور البدع والحوادث في الدين والفتن، وطلوع قرن الشيطان، وظهور الروم، وانتهاك المدينة ومكة وغير ذلك، وهذه كلها من معجزاته صلى الله عليه وسلم.
فإذاً: الآن انظروا ماذا حصل من النقص لما ذهب الصحابة، والأمة في نقصٍ بعد ذهابهم ولا تزال يزداد نقصها.
هؤلاء الصحابة هم الأمة الوسط: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] وهم على رأس الشهود الذين يشهدون لكل نبي على أمته، هل جاءكم نذير؟ يقولون: لا.
ما جاءنا النذير: (يقال للنبي: هل بلغت؟ فيقول: نعم.
فيقال: من شهودك؟ -يا نوح من شهودك؟! يا شعيب من شهودك؟! يا إبراهيم! يا عيسى! يا موسى؟! فيقول: محمدٌ وأمته، فيجاء بكم فتشهدون، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]) اعدلوا لتكونوا شهداء على الناس والحديث في صحيح البخاري.
كل الصحابة عدول وأثبات: ولذلك ما بحث أهل الجرح والتعديل في حال الصحابة، ولا يوجد في كتب الجرح والتعديل الصحابي هذا ثقة، وهذا ثقةٌ ثبتٌ، أو هذا صدوق، أو هذا لا بأس به، أو هذا ضعيف، فكلهم ثقات لا مجال للبحث فيهم في مسألة الجرح والتعديل، لأن الله عدلهم، وما دام الله عدلهم، فمن بعد ذلك يبحث في تعديلهم؟! المسألة منتهية، لكن النظر فيمن بعدهم، فالذين مات النبي عليه الصلاة والسلام وهم باقون على العهد وماتوا على العهد هؤلاء كلهم أخيار.
ولذلك لما جاء في الحديث أن عائد بن عمر وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عبيد الله بن زياد الأمير، فقال: (أي بني -ينصحه- إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن شر الرعاء الحطمة.
فإياك أن تكون منهم) -تقسوا على الرعية، وتشتد على الرعية، وتحطم الرعية، وتكلف الرعية ما لا يطيقون، إياك أن تكون من الرعاء هؤلاء الحطمة الذين يحطمون الرعية- (فقال له: اجلس، فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال الصحابي: وهل كانت لهم نخالة، إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم) كلهم أخيار لا يوجد فيهم نخالة، فالنخالة بعدهم، والحديث في الصحيح.(161/8)
العلماء الجهابذة وعقيدتهم في الصحابة
ماذا قال العلماء في شأن الصحابة؟ نحن نعلم أن الكلام في الصحابة حدث، وأن الطعون عليهم من أعداء الله قام سوقها، وأن التشكيك فيهم قد حصل، فنحن نحتاج إلى أن نقاوم بكلام مضاد نثبت به فضلهم ومكانتهم في الدين.(161/9)
الحسن البصري يصف الصحابة
قال الحسن البصري رحمه الله وقد سأله بعض الناس: [أخبرنا عن صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فبكى ثم قال: ظهرت منهم علامات الخير في السيماء والسمت والهدي والصدق، وخشونة ملابسهم بالاقتصاد، وممشاهم بالتواضع، ومنطقهم بالعمل، ومطعمهم ومشربهم بالطيب من الرزق، وخضوعهم بالطاعة لربهم تعالى، واستقادتهم للحق فيما أحبوا وكرهوا، وعطاؤهم الحق من أنفسهم، ظمئت هواجرهم، ونحلت أجسامهم، واستخفوا بسخط المخلوقين في رضا الخالق، لم يفرطوا في غضب، ولم يحيفوا، ولم يجاوزوا حكم الله تعالى في القرآن، شغلوا الألسن بالذكر، بذلوا دماءهم حين استنصرهم، وبذلوا أموالهم حين استقرضهم، ولم يمنعهم خوفهم من المخلوقين، حسنت أخلاقهم، وهانت مئونتهم، وكفاهم اليسير من دنياهم إلى آخرتهم].(161/10)
أيوب السختياني وعقيدته في الصحابة
وقال أيوب السختياني رحمه الله: من أحب أبا بكر فقد أقام الدين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحب علياً فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن قال الحسنى في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد برئ من النفاق.(161/11)
قول الطحاوي في الصحابة
وقال الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة: ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحدٍ منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، وبغضهم كفرٌ ونفاقٌ وطغيانٌ.
أما شارح الطحاوية فقد قال: فمن أضل ممن يكون في قلبه غلٌ على خيار المؤمنين وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين، بل قد فَضَلهم اليهود والنصارى بخصلة -الذي يسب الصحابة كان اليهود والنصارى أفضل منهم بخصلة- قيل لليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى.
وقيل للنصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب عيسى.
وقيل لأهل الرفض: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يستثنوا منهم إلا القليل.(161/12)
قول الإمام أحمد بن حنبل في الصحابة
وقال الإمام أحمد رحمه الله: ومن السنة الواضحة الثابتة البينة المعروفة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين، والكف عن ذكر ما شجر بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أحداً منهم، أو تنقصهم، أو طعن فيهم، أو عرض بعيبهم، أو عاب أحداً منهم، فهو مبتدعٌ خبيثٌ مخالفٌ لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، بل حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة، وخير هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان بعد عمر، وعلي بعد عثمان، وهم خلفاء راشدون مهديون، لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص، ومن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، وليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب قبل منه، وإن ثبت أعاد عليه العقوبة وخلده في الحبس حتى يموت أو يرجع، وما صح فيما جرى بينهم من خلاف، فهم فيه مجتهدون، إما مصيبون ولهم أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإما مخطئون ولهم أجر الاجتهاد وخطؤهم مغفور، لكن ما أكثر صوابهم بالنسبة لصواب غيرهم، وما أقل خطأهم إذا نسب إلى أخطاء غيرهم، ولهم من الله المغفرة والرضوان رضي الله عنهم.(161/13)
قول أبي زرعة في الصحابة
قال أبو زرعة الرازي: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة.(161/14)
ابن القيم ووصفه للصحابة
وقال ابن القيم رحمه الله في وصفهم: أفقه الأمة، وأبرها وأعمقهم علماً، وأقلهم تكلفاً، وأصحهم قصوداً، وأكملهم فطرةً، وأتمهم إدراكاً، وأصفاهم أذهاناً، الذين شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد الرسول، وإن أحداً ممن بعدهم لا يساويهم في رأيهم، وكيف يساويهم؟ وقد كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقته؟ عمر وافق ربه في مواضع، وأبو أيوب الأنصاري ذكر كلمة فنزلت كما هي في القرآن.
قال عمر: [عسى ربه يبدله خيراً منكن] فنزل قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ} [التحريم:5] فنزلت بنصها في القرآن.
وأبو أيوب قال: [سبحانك هذا بهتان عظيم] فنزلت كما هي في القرآن، وقد كان أحدهم يرى الرأي، فينزل القرآن بموافقته، وحقيقٌ لمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيراً من رأينا لأنفسنا.
اهـ(161/15)
الصحابة وسبب قوة إيمانهم
من أسباب عظم إيمان الصحابة: أنهم رأوا المعجزات، فهم عايشوا نزول الوحي، فتحدث القضية هنا وينزل الوحي هنا مباشرة وبالتفاصيل، بل إن واحداً من الصحابة اشتهى أن ينظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام عند نزول الوحي، فسأل عمر، فلما نزل الوحي، دعاه عمر، وقال له: تعال، وكشف الغطاء، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم له غطيط كغطيط البَكر -أي: صوت مثل صوت الإبل، مثل: صوت النائم- تعلوه الرحضاء، يحمر وجهه صلى الله عليه وسلم، ويعرق حتى في الشتاء، أراه صفة النبي عليه الصلاة والسلام عند نزول الوحي.
وكادت فخذ بعضهم أن ترض، كان الصحابي يحس بثقل الوحي، كانت فخذ الصحابي تحت فخذ النبي عليه الصلاة والسلام، وينزل الوحي والوحي ثقيل، وتكاد فخذ الصحابي أن ترض.
سمعوا خبر الجن بالبشارة به قبل بعثته، وأهل الكتاب، وسمعوا كلام الذئب عنه، وعاينوا نزول الوحي عليه، ورأوا خاتم النبوة بين كتفيه، وأخبرهم بأمور من الغيب، فرأوا تحققها عياناً، ورأوا استجابة دعائه، وشموا رائحة الطيب من عرقه، وعاينوا مس يده الشريفة ليناً وبرودةً، وشربوا من مكان شربته في الإناء شراباً أحلى من العسل، وأطيب من المسك، وشاهدوا تكثير الطعام، وسمعوا تسبيحه وهو يأكله بين يديه، ورأوا الماء ينبع من بين كفيه، وحنين الجذع إليه، والتئام الشجر عليه، وشكوى البعير دامعةً عينه إليه، وتسابق نوق الهدي إليه للنحر، وإخبار الذراع بما فيه من السم، كل هذا رأوه، فلماذا لا يكون إيمانهم في المرتبة العالية؟ ولماذا لا يكون فضلهم في المنزلة العليا والعظمى؟ ولماذا لا يكون قولهم حجة من الحجج الظاهرة؟ وتكون استنباطاتهم آية من آيات الله الباهرة؟ فهم كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس: (ولو أن أحداً أنفق مثل أحدٍ ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).(161/16)
الصحابة فتحت لهم الأمصار
فتحت لأجلهم البلدان، وسلم أهل الأمصار مفاتيح أمصارهم إليهم بفضلهم وإيمانهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي زمانٌ يغزو فئام من الناس، فيقال: فيكم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم.
فيفتح عليه، ثم يأتي زمانٌ، فيقال: فيكم من صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم، فيفتح، ثم يأتي زمانٌ، فيقال: فيكم من صحب صاحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم.
فيفتح) رواه البخاري.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا تزالون بخيرٍ ما دام فيكم من رآني وصاحبني، والله لا تزالون بخيرٍ مادام فيكم من رأى من رآني وصاحبني) أخرجه ابن أبي شيبة وحسنه في الفتح، هذا معنى حديث: (خير الناس قرني الحديث).
فتحت الأمصار، وكانت تسلم إليهم؛ لأنهم صحابة، بعض الأمصار سلمت إليهم بالمفتاح؛ لأنهم صحابة، مكانتهم عند الله عظيمة جماعات وفرادى، وقد عرفنا بعض ما نزل في القرآن بشأنهم.(161/17)
فضائل لبعض الصحابة دون غيرهم
وأما عن أفرادهم، فنأخذ مثالين من فضلهم عند الله.(161/18)
منزلة عبد الله بن حرام
قال طلحة بن خراش: سمعت جابر بن عبد الله يقول: (لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا جابر! ما لي أراك منكسراً؟ قلت: يا رسول الله! استشهد أبي، قتل يوم أحد وترك عيالاً وديناً، قال: أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله.
قال: ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحاً، فقال: يا عبدي! تمنَّ عليَّ أعطك، قال: يا رب! تحييني فأقتل فيك ثانية، فقال عز وجل: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، وأنزلت هذه الآية: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [آل عمران:169 - 171]) فهذا والد جابر أحياه الله، وقام أمام الله عز وجل وكلمه كفاحاً، وقال: يا عبدي! تمنَّ عليَّ أعطك.
كرامة، والحديث رواه الترمذي وحسنه وهو في صحيح البخاري.(161/19)
أبي بن كعب سيد القراء
مثال آخر: عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي -لاحظوا يا إخوة، وفكروا بالحديث- (إن الله أمرني أن أقرأ عليك) والنبي عليه الصلاة والسلام يقول عن أبي: (أقرؤهم أبي) (إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة:1] قال أبي: وسماني؟ قال: نعم.
فبكى رضي الله عنه).
وفي رواية قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بن كعب: (إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، قال: آلله سماني لك؟ قال: نعم.
قال: وقد ذكرت عند رب العالمين؟ قال: نعم.
فذرفت عيناه) قوله: سماني، يعني: هل نص عليَّ باسمي، أو قال: اقرأ على واحد من أصحابك فاخترتني أنا، قال: الله سماك، الله قال: أبي، فبكى فرحاً وسروراً وخشوعاً وخوفاً من التقصير في شكر تلك النعمة، والحديث في الصحيح وهؤلاء الصحابة نماذج.(161/20)
الصحابة والخلافة
ومن جوانب العظمة أن النبي عليه الصلاة والسلام توفي عن عدد من الصحابة كلهم يصلح للخلافة، فالرسول صلى الله عليه وسلم ربى أعداداً من الصحابة كل واحد يصلح أن يكون خليفة، تخرج من مدرسته صلى الله عليه وسلم ذهب نقي، كُمَّل في أنفسهم، ويكمل بعضهم بعضاً، وتخصصوا في الجوانب، وهذا نستفيد منه في الواقع.
عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أميناً، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح) رواه الترمذي وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقال: (ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر) رواه الترمذي وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وهو في صحيح الجامع.
وعن علقمة، قال: [قدمت الشام فصليت ركعتين، ثم قلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً، فأتيت قوماً، فجلست إليهم، فإذا شيخٌ قد جاء حتى جلس إلى جنبي، قلت: من هذا؟ فقالوا: أبو الدرداء، فقلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً، فيسرك لي، قال: ممن أنت؟ قلت: من أهل الكوفة.
قال: أوليس عندكم ابن أم عبد صاحب النعلين -لأنه كان يحمل نعلي النبي صلى الله عليه وسلم ويتعاهد ذلك باستمرار- والوساد؟] وذكر ابن حجر في الشرح، فقال: وورد برواية: (السواد) وهي أوجه، والسواد يعني: السرب، ميزة لـ ابن مسعود، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام له: (إذنك عليَّ أن ترفع الحجاب وأن تسمع سوادي) ارفعه في أي وقت شئت، ميزة لـ ابن مسعود.
[أوليس عندكم ابن أم عبد صاحب النعلين والسواد والمطهرة؟ وفيكم الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم] من المقصود بالذي أجاره الله من الشيطان؟ الحديث في الصحيح من أحاديث الصحيح في صحيح البخاري، أبو الدرداء يسأل الرجل الذي جاء من الكوفة، يقول: أتأتي تطلب العلم وعندك ابن مسعود وعندك فلان وفلان؟ قال: [وفيكم الذي أجاره الله من الشيطان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم] من هو؟ الصحابي هو: عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه: [أوليس فيكم صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يعلمه أحدٌ غيره؟] من هو؟ إنه حذيفة رضي الله عنه وأرضاه، والمقصود بالسر أسماء المنافقين.(161/21)
حرص التابعين على الاستفادة من الصحابة
فالتابعون لما رأوا الصحابة بهذه المنزلة، أقبلوا عليهم، واتجهت النفوس إليهم، واحترموهم، وصانوهم، وحرصوا على لقياهم، والأخذ عنهم، وسؤالهم واستفتائهم، فجمعوا علمهم وبلغوه لمن بعدهم.(161/22)
يزيد بن حيان يذهب إلى زيد بن أرقم
وهذه نماذج: عن يزيد بن حيان قال: [انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمرو بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت -يا زيد - خيراً كثيراً، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعت حديثه وغزوت معه، وصليت خلفه، لقد لقيت -يا زيد - خيراً كثيراً، حدثنا -يا زيد - ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا بن أخي! والله لقد كبرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما حدثتكم فاقبلوا، وما نافى فلا تكلفونيه.
ثم ذكر حديثاً] وهذا في صحيح مسلم، فكان التابعون يقولون للصحابة: رأيتم خيراً كثيراً، وأدركتم خيراً كثيراً، حدثونا وأعطونا أخباراً من التي رأيتموها.(161/23)
عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ورؤية أبي اليسر
وعن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: [خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا -يريدون اللحاق بمن يمكن من الصحابة قبل أن يموت الصحابة- فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم -ثم سألوه وحدثهم، وحتى السؤال فيه أدب- فقال له أبي: يا عمي! -يقول للصحابي- إني أرى في وجهك سكعةً من غضب، قال: أجل، ثم قص عليه القصة] الحديث رواه مسلم.
وعن جبير بن نصير قال: [جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً، فمر به رجل، فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لوددنا أنا رأينا ما رأيت وشهدنا ما شهدت] رواه البخاري في الأدب المفرد، وهو في صحيح الأدب المفرد.(161/24)
معاوية بن قرة ولقاؤه بمعقل المزني
لقاء التابعين بالصحابة لم يكن لقاء تضييع أوقات، معاذ الله! بل كان لقاء انتفاع واستفادة، ولقاء أخذٍ وتربية، وانظروا إلى هذه القصة: عن معاوية بن قرة، قال: [كنت مع معقل المزني -صحابي ومعاوية بن قرة تابعي- يقول: ألازمه وأستفيد منه -ينظر إلى حركاته وتصرفاته، يقتبس منه- فأماط أذىً عن الطريق، وبعد برهة قال التابعي: فرأيت شيئاً فبادرته وأمطته عن الطريق، فقال الصحابي للتابعي: ما حملك على ما صنعت يا بن أخي؟ قال: رأيتك تصنع شيئاً فصنعت] هنا التلقي والتربية بالقدوة، وهذه اسمها: التربية بالقدوة، التابعي رأى الصحابي يفعل شيئاً، ففعل مثله وسأله الصحابي ثم علمه، [فقال: أحسنت يا بن أخي، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أماط أذىً عن طريق المسلمين، كتبت له حسنة، ومن تقبلت له حسنة، دخل الجنة)] رواه البخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة.
فإذاً: الناحية التربوية هنا يا أيها الإخوة! أن التشبه والاقتداء يسري في الأجيال، ولذلك لما ترى علم ابن مسعود مثلاً انتقل إلى من؟ فمن؟ فمن؟ وعلم ابن عباس انتقل مِن مَن؟ إلى من؟ فمن؟ وهكذا، ثم الانتقال ما كان انتقال روايات فقط، بل كان انتقال تأثر بالشخصية، ولذلك قال قبيصة: (كان ابن مسعود أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: في هديه وسمته.
وكان علقمة يشبه ابن مسعود، ويشبه بـ علقمة إبراهيم، وبـ إبراهيم منصور، وبـ منصور سفيان، وبـ سفيان وكيع، في التلقي عبر الأجيال؛ وكيع يأخذ عن سفيان، وسفيان أخذ عن منصور، ومنصور عن إبراهيم، وإبراهيم عن علقمة، وعلقمة صاحب ابن مسعود.(161/25)
الصحابة وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم
هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم مدرسة في الفضائل والأعمال، فنحن نريد أن نتبين كيف نستفيد منهم؟ ماذا علمنا الصحابة؟ لقد علمونا -أيها الإخوة- محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وضربوا لنا الأمثلة الرائعة في محبته عليه الصلاة والسلام حباً شديداً يقول الكافر لما رجع إلى قومه: (والله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامةً إلا وقعت في كف رجل منهم -يعني: من أصحابه- فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم، ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له) هكذا وصف، والحديث في صحيح مسلم.(161/26)
عمرو بن العاص وحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: عمرو بن العاص: [وما كان أحدٌ أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه] رواه مسلم.(161/27)
حب غلمان الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى الغلمان الصغار من الصحابة: كان عبد الرحمن بن عوف واقفاً يوم بدر بين غلامين حديثي السن، فتمنى أن يكون بين أقوى وأضرع منهما، وإذا بأحدهما يميل عليه ويقول: يا عم! هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم.
وما حاجتك إليه يا بن أخي؟ قلت: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده! لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا.
فتعجبت، فغمزني الآخر فقال لي مثلها، وهذا بدون اتفاق، وكل واحد يريد أن يخفي عن صاحبه بالغمز لـ عبد الرحمن بن عوف، هؤلاء صغار الصحابة، من حبهم للنبي عليه الصلاة والسلام لما سمعوا أن أبا جهل كان يسبه، يريدون الانتقام منه بأية طريقة، وقد جعل الله مقتله على يديهما.(161/28)
الصحابة وفداؤهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسهم
من حبهم للنبي عليه الصلاة والسلام أنهم كانوا يفدونه بأنفسهم.
عن الزبير بن العوام قال: (كان على النبي صلى الله عليه وسلم درعان يوم أحد، فنهض إلى الصخرة، فلم يستطع، فأقعد طلحة تحته، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم عليه حتى استوى على الصخرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوجب طلحة) حديث حسن في الترمذي، ((أوجب طلحة) أي: الجنة، فأثبتها لنفسه بهذا العمل؛ لأنه خاطر بنفسه يوم أحد، وفدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان وقايةً له حتى طعن ببدنه، وجرح جميع جسده حتى شلت يمينه وقطعت أصابعه، طلحة كانت يده شلاء رضي الله عنه.
وأبو طلحة لما أشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم ليرى نتائج المعركة وماذا في الساحة، جعل أبو طلحة يقول ((يا نبي الله! بأبي أنت وأمي لا تشرف فيصيبك سهمٌ من سهام القوم، نحري دون نحرك) رواه البخاري.
وفي غزوة أحد وقف سبعة من الأنصار، واثنان من قريش عند النبي عليه الصلاة والسلام حماية، فلما رهقوه -أي: المشركون رهقوا النبي عليه الصلاة والسلام- قال: (من يردهم عنا وله الجنة؟ -أو هو رفيقي في الجنة- فتقدم رجلٌ من الأنصار، فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضاً، فقال: من يردهم عنا وله الجنة؟ -أو هو رفيقي في الجنة- فتقدم رجلٌ من الأنصار، فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ما أنصفنا أصحابنا) قال لصاحبيه الباقيين من قريش -وهم مهاجرون- الحديث رواه مسلم.(161/29)
سرعة استجابة الصحابة لأمر الله ورسوله
نتعلم من الصحابة -أيها الإخوة- سرعة استجابتهم لأوامر النبي عليه الصلاة والسلام، وسرعة التفاعل مع النص، وسرعة التنفيذ، فالتلقي للتنفيذ، لم يكن تلقياً بارداً، ولم يكن تخزين معلومات، كان أخذاً للعمل، وتعلماً للعمل، ولو كان ضد هواه أو ضد مشاعره.(161/30)
معقل بن يسار وسرعة استجابته لأمر الله
هذا معقل بن يسار رضي الله عنه زوج أخته رجلاً من المسلمين، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت عنده مدة من الزمن، ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها حتى انقضت العدة، ورجعت إلى أخيها -أخوها زوَّجها لهذا الرجل وأكرمه بها وأعطاه إياها، فإذا به يطلقها ولا يراجعها في العدة- فرجعت إلى بيت أخيها الذي خرجت منه، وهذا الزوج بعد فترة هويها، وهويته، يعني: أراد كل واحد منهم الرجوع إلى الآخر، فخطبها مع الخطاب، وفي القديم ما كانت المطلقة كما يقولون اليوم سوقها بائرة، فلا أحد يتقدم إلى المطلقة، لا.
قال: فخطبها مع الخطاب، فالمطلقات تمشي أمورهن بسرعة، فقال له معقل: [يا لكع! أكرمتك بها وزوجتكها، فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبداً آخر ما علي] وفي رواية البخاري قال: [زوجتك وفرشتك وأكرمتك، فطلقتها، ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعودك أبداً] وعودة إلى رواية الترمذي، قال: [فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله تبارك وتعالى في هذه القصة آية وهي قوله سبحانه وتعالى: ((وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ)) [البقرة:232]] لما سمعها معقل، ماذا قال؟ والآن تصور أن واحداً منا زوج رجلاً من الشباب الطيبين أخته وسهل له الأمور، والمهر لا يكاد يذكر، كأنه أعطاه عطية، والمهر يسير، وأكرمه بها، وربما تكون أخته الوحيدة المدللة المعززة المكرمة في البيت، وإذا بهذا بعد فترة من الزمن يطلقها ويرميها، ثم يأتي بعد ذلك يريد أن يخطبها مرة أخرى، ما راجعها في العدة، تركها حتى تخرج من عصمته، كيف يكون شعورك؟ وماذا عساه أن يفعل بهذا الرجل الذي جاء يطلبها مرة ثانية؟ فهذا معقل بن يسار الصحابي رضي الله عنه شعوره معروف، نفسه مشحونة الآن، لما نزلت الآية، ماذا قال؟ لقد قال: [[سمعاً لربي وطاعةً، ثم دعاه، فقال: أزوجك وأكرمك، فزوجها إيا].
ما هو الفرق بيننا وبين الصحابة؟ الفرق سرعة الامتثال: سمعاً لربي وطاعة، التسليم مباشر، وفي رواية: [فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه] حلف ألا يعطيها إياه مرة ثانية، فكفر عن يمينه، وفي رواية: [فقلت: الآن أقبل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعاً لربي وطاعة، فدعا زوجها، فزوجها إياه].(161/31)
أبو بكر وسرعة تنفيذه لأمر الله
وكذلك أبو بكر الصديق لما حلف بعدما وقع بعض الناس في ابنته عائشة حتى ذاقت المر، وبكت حتى انقطع بكاؤها، وجف الدمع وانتهى وما بقي منه قطرة، فهي في كرب شديد.
وكان من ضمن الذين تورطوا في القضية مسطح، وهو رجل فقير كان الصديق ينفق عليه وهو من قرابته، فلما فعل هكذا بابنته، منع عنه النفقة معاقبة له على ما فعل، فلما أنزل الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى} [النور:22] إلى أن قال: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] قال أبو بكر: [بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه] الحديث في صحيح البخاري فرجع بسرعة.(161/32)
نتعلم من الصحابة الصدق
نتعلم مع الصحابة -أيها الإخوة- الصدق مع الله عز وجل، لا كذب، ولا إخلاف عهد مع الله، بل الصدق مع الله تعالى.
عن شداد بن الهاد: أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فآمن به واتبعه -اسمعوا يا أيها الإخوان! إلى هذا الحديث- ثم قال: (أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أن يعلموه) فالذي أسلم حديثاً يلتقي بالقديم، الجديد مع القديم يأخذ معه ويتربى عنه، هناك تعليم واهتمام بالأفراد، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يهتم بأصحابه: (فلما كانت غزوةٌ، غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبياً، فقسم وقسم له -لهذا الأعرابي- أعطى أصحابه ما قسم له -يعني: أمرهم أن يوصلوا نصيبه إليه- فجاءوا به إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسمٌ قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ما هذا؟ قال: قسمته لك.
قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى بسهم هاهنا -وأشار إلى حلقه- فأموت وأدخل الجنة -لا غنائم، ولا أموال- فقال: إن تصدق الله؛ يصدقك، فلبثوا قليلاً، ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحمل وقد أصابه سهمٌ حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟ قالوا: نعم.
قال: صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: اللهم إن هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك، فقتل شهيداً أنا شهيدٌ على ذلك) رواه النسائي وهو حديث صحيح.
فالصحابة عرفوا الالتزام، وعرفوا التدين، وعرفوا التطوع، وقل: هذا متدين، أوهذا مطوع، أوهذا ملتزم، قل ما شئت، لكن المسألة -والله العظيم- في النهاية شيء واحد، الصدق مع الله فقط، لو يعمل أحدنا في حياته فقط لهذه القضية الصدق مع الله، فهذا أعرابي صدق مع الله في موقف واحد ودخل الجنة.(161/33)
نتعلم من الصحابة اليقين بصدق كلام رسول الله
كيف كان يقينهم بكلام النبي صلى الله عليه وسلم؟ اليقين درجة عالية، (عندما يرسل النبي صلى الله عليه وسلم علياً والزبير وأبا مرثد ليأتوا بالخطاب الذي أرسله حاطب مع المرأة، ويفتشوها التفتيش الأولي، فلا يجدون شيئاً، ويقولون لـ علي: ما وجدنا شيئاً -فماذا قالوا للمرأة؟ - قالوا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك، فلما رأت الجد، أهوت إلى حجزتها وأخرجت الكتاب) والقصة في الصحيح، ذهبوا متيقنين بصدق النبي عليه الصلاة والسلام.
وكثير من الأحاديث وردت سواء في علاج الأمراض، أو في أشياء، فما دام النبي عليه الصلاة والسلام قالها، يعني: قطعاً أنها حق، وبعض الناس ينقصهم اليقين بكلام النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه قصة لطيفة عن عائشة رضي الله عنها: (دخل النبي عليه الصلاة والسلام على عائشة بأسير -أي: لتبقيه عندها ولا يهرب- قالت عائشة: فلهوت عنه) -لعلها كانت حديثة السن- (فذهب، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما فعل الأسير؟ قالت: لهوت عنه مع النسوة فخرج، فقال: ما لك قطع الله يدك -أو يديك؟ - فخرج، فآذن به الناس، فطلبوه، فجاءوا به) -ألقي القبض عليه- (فدخل عليَّ -تقول عائشة - وأنا أقلب يدي، فقال: ما لك أجننت؟ قلت: دعوت عليَّ فأنا أقلب يدي أنظر أيهما يقطع) -من يقين عائشة تقول: هذه أو هذه متى ستسقط- (فحمد الله وأثنى عليه، ورفع يديه، وقال: اللهم إني بشرٌ أغضب كما يغضب البشر، فأيما مؤمنٍ أو مؤمنة دعوت عليه، فاجعله له زكاةً وطهوراً) رواه أحمد، وهو حديثٌ صحيحٌ.
فإذاً: النبي عليه الصلاة والسلام إذا دعا على أحَدَ من المؤمنين، فدعوته هذه خصوصية، دعوته عليه تكون بركة ورحمة وخيراً لهذا الرجل المسلم، ولو قال: ثكلتك أمك، أو تربت يداك أو أي دعوة، وهي في الأصل من كلام العرب لا يقصدون بها حقيقتها بالتصديق بكلامه عليه الصلاة والسلام، والالتزام بكلامه كان قائماً بين الصحابة، وليس فقط على مستوى الأفراد، بل على مستوى المجتمع.
وقصة كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه: لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن الكلام مع الثلاثة لما تخلفوا، قال كعب: [فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف] كل المجتمع قاطع بلا استثناء.
وقال له المقداد يوم بدر: (يا رسول الله! إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ((فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)) [المائدة:24] لكن امض ونحن معك، امض نقاتل عن يمينك وعن يسارك، ومن بين يديك ومن خلفك حتى تهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم).
إذاً: الالتزام جماعي، الالتزام قائم، ولذلك انتصروا، والحديث في صحيح البخاري وأحمد.(161/34)
تحمل الصحابة للغربة والعذاب في سبيل الله
لقد تحمل الصحابة الغربة في سبيل الله، تقول أسماء بنت عميس التي هاجرت إلى الحبشة: [وكنا في دار، أو في أرض البعداء، أو البغضاء في الحبشة، وذلك في الله وفي رسول الله -لأجل الله ورسوله، تحملوا الغربة- ونحن كنا نؤذى ونخاف] الحديث رواه مسلم.
تحملوا الأذى والعذاب في سبيل الله.
يقول خباب وقد اكتوى يومئذٍ سبع كيات في البطن لمعالجة أذى مولاته، حيث كانت تطرحه على الأسياخ المحماة، فلا يطفئها إلا شحم ظهره إذا سال عليها، يقول: [لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت، لدعوت بالموت] رواه البخاري.
وهذا بلال معروفة قصته، وكان الواحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يُضرب حتى إنه لا يقدر أن يستوي قاعداً من الضرب، حفروا الخندق بأيديهم، وبذلوا في سبيل الله، بأيديهم عملوا، ما كان لهم عبيد، حفروا الخندق بأيديهم، في غداة باردة يقول أنس: وهم يقولون:
نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً
كم طول الخندق؟ كم عرضه؟ كم عمقه؟ من أجم الشيخين طرف بني حارثة شرقاً حتى المذاب غرباً، وكان طول الخندق خمسة آلاف ذراع، وعرضه تسعة أذرع، وعمقه من سبعة أذرع إلى عشرة، وكان على كل عشرة من المسلمين حفر أربعين ذراعاً، وقد تولى المهاجرون الحفر من ناحية حصن راتج في الشرق إلى حصن ذباب، والأنصار من حصن ذباب إلى جبل عبيد في الغرب.
وتم الحفر بسرعة وفي الجو البارد والمجاعة، فحفروه في أسبوع، وكان الخندق منتهياً، طعامهم شعير مخلوط بدهن متغير الرائحة، لبثوا ثلاثة أيام لا يذوقون طعاماً، لكن بحرارة الإيمان حفروه.
لما أرادوا اليوم حفر مائة متر في شارع الخندق، تكسرت حفارات، واستسلم مقاولون، وحفره آخرون في شهر مائة متر، في شهر الآن في هذا الزمان في نفس المنطقة، وكل القضية هي تسوية شارع!! وأولئك الصحابة حفروه بأيديهم بأدوات بدائية، هذا عمقه وهذا عرضه وهذا طوله.
فهم جاهدوا على القلة، وأكلوا ورق الشجر كما قال سعد في صحيح البخاري.
وفي حديث سرية الخبط، أكلوا أوراق الشجر حتى تقرحت أشداقهم، وكان أبو عبيدة يعطيهم تمرة تمرة، يقول التابعي: [كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: كنا نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل] جهاد على تمرة في اليوم!! رواه مسلم.(161/35)
تحمل الصحابة للفقر في سبيل الله
تحملوا الفقر في سبيل الله، كان الواحد لا تجد إلا إزاراً يستر به عورته، ويجمعه بيده حتى لا تنكشف العورة، وخرج أبو بكر وعمر -وزيرا النبي عليه الصلاة والسلام، ثاني وثالث أهم رجلين في الأمة- على باب البيت في الشارع، يقول النبي عليه الصلاة والسلام (ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله) رواه مسلم.
يقول المقداد: [أقبلت أنا وصاحبان لي قد أذهب أسماعنا وأبصارنا الجهد من الجوع] السمع اختل، وكذلك البصر، وقالت عائشة: [جئنا بـ عبد الله بن الزبير إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحنكه، فطلبنا تمرة للتحنيك، فعز علينا طلبها] هذا الحديث والذي قبله في صحيح مسلم.(161/36)
الصحابة تركوا الدنيا لطلب العلم
كانت قراءتهم للقرآن مؤثرة؛ فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما ابتنى مسجداً بفناء داره يقرأ القرآن، جعل نساء المشركين وأطفاله يتقصفون عليه -يجتمعون- حتى خشيت قريش على نسائها وأطفالها من بكاء الصديق.
وتلك مدينة النبي عليه الصلاة والسلام هل فتحت بالسيف؟ ما فتحت إلا بالقرآن، فقد فتح مصعب بن عمير وابن أم مكتوم المدينة بالقرآن، بالقرآن اهتدى أهل المدينة، ولم تفتح بالسيف.
والحديث في صحيح البخاري.
نتعلم من الصحابة ترك الدنيا لطلب العلم، فلا نلهث وراء الدنيا ونترك كتب العلماء، ونترك دروس العلماء.(161/37)
أبو هريرة وطلبه للعلم
يا أيها الإخوة! يقول أبو هريرة رضي الله عنه: [والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني حتى لا آكل الخمير، ولا ألبس الحبير -لا ألبس ثياباً موشاة مخططة- ولا يخدمني فلان، ولا فلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع] رضي الله تعالى عنه، وهذا من أجل أي شيء؟ من أجل أن يطلب العلم، ولذلك أثمر الجهد خمسة آلاف حديث في دواوين السنة منتشرة، وكان أول صحابي وأكثر صحابي يصرع بين المنبر وبيت النبي عليه الصلاة والسلام مغشياً عليه، يأتي الآتي يضع رجله على عنقه -لعله للقراءة والرقيا- يظنون به جن فيقول: [ما بي جنون، ما بي إلا الجوع] رواه البخاري.
هؤلاء الصحابة الفقراء لما انفتحت عليهم الدنيا، وجاءت الغنائم، وجاءت المناصب، ما منهم أحد إلا صار أميراً على مصر من الأمصار، فهل تغيروا أو تبدلت نفوسهم لما جاءت خزائن كسرى وقيصر، وكثرت الأموال، وجاءت (الطفرة) فهل تغيرت نفوسهم؟ يقول عتبة بن غزوان: [ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لنا طعامٌ إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فائتزرت بنصفها، وائتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحدٌ إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً] رواه مسلم.(161/38)
الشجاعة عند الصحابة
نتعلم منهم الشجاعة: لما تكالب كفار قريش على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ابن أبي معيط يضع الثوب حول عنقه يخنقه به، ويقوم الصديق يدافع، ويقول: [أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟!] والحديث في صحيح البخاري.(161/39)
حمزة بن عبد المطلب وشجاعته
وحمزة وشجاعته في أحد لما قام مشرك يقول: [هل من مبارز؟ خرج إليه حمزة بن عبد المطلب يقول: يا سباع! يا بن أم أنمار مقطعة البظور -كانت ختانة للنساء- أتحاد الله ورسوله؟ ثم شد عليه، فكان كأمس الذاهب] رواه البخاري.(161/40)
الزبير وشجاعته في اليرموك
الزبير رضي الله عنه وقف في موقعة اليرموك، قال له أصحابه: [ألا تشد فنشد معك؟ قال: إني إن شددت كذبتم، فقالوا: لا نفعل.
فحمل على الروم حتى شق صفوفهم فجاوزهم] واحد فقط يشق صفوف الروم في معركة اليرموك حتى ينفذ إلى الجانب الآخر، وما معه أحد، ثم رجع مقبلاً مرة ثانية، فضربوه ضربتين على عاتقه رضي الله تعالى عنه، بينهما ضربة ضربها يوم بدر، قال عروة بن الزبير: كنت أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب بهن وأنا صغير.
وهذا عروة، أخوه عبد الله شجاع كأبيه، عبد الله بن الزبير ابن عشر سنين، أو اثنتي عشرة سنة حمله أبوه على فرس ووكل به رجلاً -والحديث في الصحيح- حتى لا يتجرأ الصغير هذا ويدخل في صفوف المشركين، ولكن مع ذلك ماذا كان يفعل؟ وكان عبد الله بن الزبير وهو صغير يجهز على جرحى المشركين، فبعد المعركة ينظر من بقي فيه رمق من الكفار فينحره ويكمل عليه، فهذا عمره اثنتا عشرة سنة، والآن من عمره اثنتا عشرة سنة لو جاء صرصور صاح من الخوف، يقول خالد بن الوليد: [لقد انقطعت في يدي في مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية] صبرت في يدي صفيحة يمانية.
رواه البخاري.
وجليبيب رضي الله عنه الفقير المسكين وجدوه بعد المعركة، سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم وجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، يعني: قتل من كثرة ما طعن.
وإذا كان أنس بن النضر به بضعة وثمانون ضربة ورمية في جسده، فكم قاتل حتى مات، ولفظ أنفاسه الأخيرة؟ ليس من أول طعنة، ولا من ثاني طعنة، ولا من عاشر طعنة، ولا من عشرين، بقي يقاتل حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، وحُمل جليبيب حمله النبي صلى الله عليه وسلم وعندما وقف عليه، قال: (قتل سبعةً، ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه فوضعه على ساعديه ليس له سرير إلا ساعدي النبي صلى الله عليه وسلم، فحفر له ووضع في قبره) رواه مسلم.(161/41)
تسخير الطاقات عند الصحابة لنصرة الدين
نستفيد من الصحابة -أيها الإخوة- تسخير الطاقات في نصرة الدين.(161/42)
زيد بن ثابت يتعلم السريانية لخدمة دين الله
النبي عليه الصلاة والسلام يحتاج إلى تعلم السريانية من بعض أصحابه ليقرءوا له خطابات اليهود، ويريد أن يكتب خطابات إلى اليهود، ولا يأمنهم على كتابه، فيطلب من زيد رضي الله تعالى عنه أن يتعلم له لغة جديدة، فتعلمها زيد بن ثابت في كم يوم؟ في سبعة عشر يوماً، رواه أحمد رحمه الله، قال: [تعلمتها له، فلما تعلمتها كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابه] قال الترمذي: حديث حسن صحيح، حذق في سبعة عشر يوماً لغة جديدة لنصرة الدين ولإعلاء كلمة الله.
الآن الإخوان الذين يعرفون اللغة الإنجليزية، يا ترى هل فكروا في الدعوة إلى الله في وسط الأقوام الذين يتكلمون بهذه اللغة؟ الذين عندهم أي نوع من أنواع الخبرات في الكمبيوتر أو غيره، الذين عندهم خطابة، الذين عندهم حسن خط، الذين عندهم قدرات إنشائية في الكتابة، والذين عندهم قدرات مالية، والذين عندهم خبرات إدارية، هؤلاء ماذا قدموا لهذا الدين؟ لقد كان الصحابة طاقات تفجر ينابيع لخدمة الدين، هذا ما يجب أن نستفيد منهم.
كان الصحابة رضي الله عنهم يتفاعلون مع النصوص كان الواحد منهم إذا سمع كلاماً طيباً يتمنى أن يكون صاحبه، فـ أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه لما سمع حديث: (للعبد المملوك المصلح أجران) قال: [والذي نفس أبي هريرة بيده! لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي، لأحببت أن أموت وأنا مملوك] متفق عليه.
لأجل ما سمع الأجر يتمنى أنه عبد مملوك لينطبق عليه الحديث.
والصحابي الجليل عمير بن الحمام الأنصاري لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) هي كلمة واحدة تفاعلت مع الصحابي، فألقى التمرات، وترك الحياة، وذهب ليقاتل حتى قتل.
والحديث في صحيح مسلم.
وأبو طلحة يسمع: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] فكان أحب ماله إليه بستان فتصدق به مباشرة في سبيل الله، وهو أنفس أمواله، لو أن أحداً عنده مزرعة، وقصر منيف، يسمع الآية هل يتصدق بهما مباشرة في سبيل الله؟ هؤلاء الصحابة.
يقول عوف بن مالك: (قام النبي عليه الصلاة والسلام على جنازة فسمعته يدعو للميت يقول: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله، ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر، أو من عذاب النار، قال عوف: حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت) لأجل هذا الدعاء وهو يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام يستجاب له، والحديث في صحيح مسلم.
كان الصحابة يبادرون ليس في الواجبات والفروض فقط، بل في المستحبات كانوا ينطلقون، يسمع عبد الله بن عمر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل) فما ترك قيام الليل بعدها.
وعمر بن أبي سلمة لما سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بيمينك) كان يقول بعدها: [ما زالت تلك طعمتي بعد] وآخر لما سب وعاتبه النبي عليه الصلاة والسلام: [ما ساببت بعده أحداً] وهكذا، شعورهم مشاركة، تفاعل بالمشاعر وليس فقط بالمجهودات العضلية.(161/43)
استشعار المسئولية عند الصحابة
شعورهم لما شاع أن النبي عليه الصلاة والسلام طلق نساءه، ماذا فعل الصحابة؟ قعدوا عند المنبر يبكون، والحديث في صحيح البخاري من حديث عمر، قعد الصحابة يبكون وجاء معهم عمر وجلس معهم وهم يبكون.
مشاعر تعاطف مع النبي عليه الصلاة والسلام وحزناً على ما حصل لأهله.
إنهم الصحابة الذين علمونا الشعور بالمسئولية، ما كانوا لعابين أو مهملين، فـ أبو بكر الصديق عندما كلف زيداً أن يجمع القرآن ويكتبه قال له: [إنك رجلٌ شابٌ عاقلٌ لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن تجمعه، يقول: والله لو كلفوني نقل جبلٍ من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن] رواه البخاري.
وعبد الرحمن بن عوف يستشير الناس بعد مقتل عمر: بقي الآن علي وعثمان، من الخليفة؟ يستشير الناس، ويجمع رأي المسلمين جماعات وأشتاتاً، ومثنى وفرادى، وسراً وجهراً حتى خلص إلى النساء واستشار العجائز، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل الركبان والأعراب ثلاثة أيام بلياليها لا يغتمض بكثير نومٍ إلا صلاةً ودعاءً واستخارةً، تحمل مسئولية اختيار الخليفة، يحس الإنسان أن هناك شيئاً ثقيلاً يلقى عليه، يتحمل ويقوم ويمشي.
اليوم عدد من الشباب وعدد من الناس إما أن يهرب من المسئولية فلا يريدون مسئوليات، لا أقصد مناصب، إنما أقصد تحمل الأعباء، والشيء الثقيل، وإذا حملها قال: تشريف، وعمله يدل على أنه تشريف وتفاخر بها، ولا تعطى حقها، لماذا أيها الإخوة؟(161/44)
أمور أخرى نتعلمها من الصحابة(161/45)
الإيثار
الصحابة يعلموننا الإيثار، إيثار الأخوة، إيثار الأنصار، لقد أعطوا نصف الثمرة للمهاجرين.
والحديث في صحيح البخاري.
فهذا جعفر بن أبي طالب أبو المساكين: [ينقلب بنا، فيطعمنا ما في بيته حتى يخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء، فنشقها، فنلعق ما فيها].
يقول أبو هريرة: والحديث في صحيح البخاري: (والجود بالموجود، خير الناس للمساكين جعفر، يخرج لهم يؤثرون ضيف النبي عليه الصلاة والسلام بطعام الأولاد) والقصة مشهورة عن الذي آثر ضيفه بطعام صبيانه ونوَّمهم -أي: الصبيان- وأطفئوا السراج حتى لا يحرج الرجل، ونزلت آيات من القرآن، وضحك الله منهما وعجب منهما عز وجل من إخلاصهما، وإذا ضحك ربك إلى عبد فلا عذاب عليه.(161/46)
التراحم بينهم
الرحمة بين الإخوان: لو أصيب الواحد منهم بمصيبة، كيف يكون شعور الآخر؟ إنهم مؤمنون كالجسد الواحد، تقول عائشة رضي الله عنها: [لما حكم سعد في بني قريظة، ماذا قال بعد ذلك؟ قال: اللهم إن كنت أبقيت على نبيك صلى الله عليه وسلم من حرب قريشٍ شيئاً، فأبقني له، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم، فاقبضني إليك] لكي لا يفوته أجر الشهادة من الجرح، فانفجر كله، وكان الجرح قد قارب على أن يبرأ ولكن عندما انفجر الجرح، قالت عائشة ((فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وو أبو بكر وعمر، قالت: فوالذي نفس محمد بيده! إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر، وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله عز وجل: ((رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)) [الفتح: 29]) رواه أحمد، قال ابن كثير: وإسناده جيد.
مشاركاتهم الأخوية بينهم وبين بعض: إلى كل أخوين بينهما مصارمة! إلى كل أخوين بينهما عداوة! إلى كل أخوين بينهما شحناء وبغضاء! يا إخوان! هذا كعب بن مالك لما تاب الله عليه، كيف كان تفاعل إخوانه المسلمين معه؟ يقول: [فجعل الناس يتلقوني فوجاً فوجاً، يهنئوني بالتوبة، يقولون: لتهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهناني، والله ما قام إليَّ رجلٌ غيره من المهاجرين] قام إليه والناس يتلقونه أفواجاً ويهنئونه إنهم الصحابة الذين أخذوا زمام المبادرة لصالح المسلمين.
وخالد بن الوليد رضي الله عنه الذي تأمر لمصلحة المسلمين مع أن المسألة كانت على وشك الضياع لأجل إنقاذ الموقف.
وجرير بن عبد الله لما مات أمير الكوفة من الصحابة المغيرة بن شعبة، وقف جرير على المنبر، وأثنى على الله وحمد الله، وقال: [عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار والسكينة حتى يأتيكم أمير، فإنما يأتيكم الآن، ثم قال: استعفوا لأميركم -اطلبوا له العفو- فإنه كان يحب العفو] ثم ذكر الحديث.
وإذا جئت إلى أشياء كثيرة، لن يكون هناك وقت لأن نسرد بقيتها، لكن أيها الإخوة! الصحابة مدرسة، ويجب علينا أن نهتم بسير الصحابة، وأن نجمع أخبار الصحابة، وندرس أخبار الصحابة، ونقتدي بأفعال الصحابة، والله إنا نشهد الله على حبهم.
اللهم اجعلنا ممن أحبهم، اللهم ارزقنا شفاعتهم يوم الدين، فإن أولياء الله لهم شفاعة يقول الله تعالى في الحديث القدسي: (شفع الأنبياء، وشفع الصديقون، وشفعت الملائكة) الجميع لهم شفاعة، ونحن نسأل الله تعالى أن يرزقنا شفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وشفاعة أصحابه، وأن يحشرنا معهم، وأن يجعلنا في زمرتهم، وأن يوردنا معهم حوض نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا معهم في الجنة؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب) فالصحابة حبهم إيمان كلما سمعت بصحابي، فأحبه، وإذا سمعت بـ أبي هريرة وأمه، فاستغفر لهما، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لمن يستغفر لـ أبي هريرة وأمه، وقال: [ما رآني أحد إلا أحبني] لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له، ونحن نحبه ونشهد الله على محبة أبي هريرة رغم أنوف الحاقدين، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بسيرهم، وأن يرزقنا الاقتداء بهم إنه سميعٌ مجيبٌ قريبٌ، وصلى الله على نبينا محمد.(161/47)
الأسئلة(161/48)
كتب في فضائل الصحابة
السؤال
ما هي بعض الكتب النافعة في سير الصحابة؟
الجواب
الصحيح المسند من فضائل الصحابة كتاب جيد، الإصابة في تمييز الصحابة القسم الأول منه بالذات في كل حرف من الحروف، سير أعلام النبلاء المجلدات الأولى، والكتب كثيرة في سير الصحابة، وبعضها مبسط ومنها صور من حياة الصحابة، ومجلد صدر حديثاً أيضاً حول هذا العنوان.(161/49)
السؤال عن الفتن التي جرت بين الصحابة
السؤال
ما رأيكم في الفتن التي جرت بين الصحابة؟
الجواب
علينا أن نمسك فهي فتنة عصم الله منها دماءنا، فنحن نعصم ألسنتنا منها ولا نتكلم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أوصانا وقال: (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا) وما دام أنه أوصانا فنحن ننفذ، والذين تكلموا من العلماء إنما تكلموا لما تكلم أهل البدع، ولا يصح أن نأتي إلى مكان نظيف ما أثيرت فيه قضية ما دار بين الصحابة فنثيرها نحن، لا نحتاج إثارة الشبهة، ثم نرد عليها، لماذا؟ لأن هذا مخالفة صريحة لحديث: (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا) فالله الله في الصحابة، لكن لو أتاك واحد، فقال: أنا سمعت كذا، وقرأت كذا، ووصل إلى علمي كذا، تقول: خذ هذا الكتاب، أو هذا الشريط حول الموضوع، أما أن تنشر القضية فهذا خطأ وإجرام، ولا يجوز هذا النشر أبداً.
أما بالنسبة للمنافقين فهم لا يعدون من الصحابة طبعاً، والحمد لله لم يتمكن منافق واحد أن يروي حديثاً، ولا يوجد من رواة الأحاديث منافق واحد، ما تجرءوا، وعصم الله حديث نبيه صلى الله عليه وسلم من المنافقين.(161/50)
حكم التسمي بأسماء الصحابة
السؤال
ما حكم تسمية الأبناء بأسماء الصحابة؟
الجواب
نعم.
طبعاً نحن أيضاً ينبغي أن نقدر مسألة الصحابة الذين سموا في الجاهلية بأسماء سماهم بها آباؤهم الكفار، فبعضها طيبة، وبعضها هناك ما هو أفضل منها، ولذلك فربما يكون الأدق أن نسمي بأسماء أبناء الصحابة، وكذلك أسماء التابعين؛ لأن هذا الجيل سمي في الإسلام، فلنا أن نقتدي بهم في هذه المسألة.(161/51)
عوامل تساعد على الاستيقاظ لصلاة الفجر
السؤال
ما هي الطرق التي تساعد على الاستيقاظ لصلاة الفجر؟
الجواب
الطرق التي تساعد على الاستيقاظ لصلاة الفجر كثيرة، وعلى رأسها: الوضوء والنوم المبكر والأذكار والصدق مع الله، فلا يقل: ليت الساعة ما تدق، وليت ما أحد يضرب عليَّ الجرس، وليت أني أواصل النوم، وبعض الآباء يقول: اترك الولد في حاله، عندما يكتفي من النوم يقوم لوحده، فأين يذهب قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه:132]؟(161/52)
حكم فتح القرآن
السؤال
ما حكم فتح القرآن؟ الجواب: إذا كان المقصود بالفتح أن الإنسان إذا أراد أن يقدم على عمل أو شيء فتح القرآن، فإذا رأى آيات الجنة استبشر، وإذا رأى آيات النار رجع وتراجع، فهذه بدعة ما أنزل الله بها من سلطان.(161/53)
حكم الحلف بالقرآن
السؤال
ما حكم الحلف بالقرآن؟
الجواب
الحلف بالقرآن جائز؛ لأنه كلام الله، ليس بالمصحف، ولا بالورق والحبر أنه يقسم بآيات الله، وآيات الله كلامه، كلامه صفة من صفاته، فيجوز أن يحلف به، ولكن بعض أهل العلم أشار إلى بدعية وضع اليد على المصحف للحلف؛ لأن بعض الناس إذا أراد أن يغلو اليمين، جاءوا بالمصحف، قال: احلف عليه وضع يدك واحلف عليه، فأشار الشيخ العلامة محمد بن صالح بن عثيمين إلى أن هذا العمل لا أصل له وهو وضع اليد على المصحف والحلف فيه.(161/54)
مسألة في الحج
السؤال
رجل اعتمر في الحج، فهل الأفضل أن يحج متمتعاً أم يحج مفرداً؟
الجواب
مسألة التمتع في الحج، ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الرجل إذا اعتمر في الحج أن الأفضل له الإفراد، وجمهور أهل العلم يرون أن التمتع أفضل الأنساك قاطبةً.(161/55)
مسألة في العقيقة
السؤال
رجل له ثلاثة أولاد ماتوا في الشهر السابع، ولم يعق عنهم؟
الجواب
يعق عنهم الآن ولا بأس، ما دام أن الأولاد قد نفخت فيهم الروح، فتشرع له العقيقة، فإذا سقط بعد نفخ الروح تشرع له العقيقة، ولا يشترط أن يجمع لها الناس، بل يذبحها ويفرقها ويأكل منها.(161/56)
حكم تطليق المرأة وهي حامل
السؤال
ما حكم تطليق المرأة وهي حامل؟
الجواب
طلاق الحامل يقع بإجماع العلماء، وحصل خلاف في طلاق الحائض، وحصل خلاف في طلاق النفساء، وحصل خلاف في طلاق من طلقها في طهر جامعها فيه، لكن طلاق الحامل يقع بإجماع العلماء، والعلماء يسمون الحامل: أم العدد، لأنها إذا وضعت حملها خرجت سواء كانت مطلقة، أو توفي عنها زوجها، وأي وضع كانت فيه إذا وضعت حملها خرجت من عدتها.(161/57)
استئجار السيارات المنتهي بالتمليك
السؤال
ما هو حكم استئجار السيارات الاستئجار المنتهي بالتمليك؟
الجواب
هذا السؤال تكرر كثيراً، والذي خرجت فيه من النقاش مع بعض أهل العلم أن الاستئجار المنتهي بالتمليك والبيع عقدان في عقد واحد، وأن هذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة، وهي تعني: أن يشمل أبيعك على أن تؤجرني، أو أؤجرك على أن تقرضني، أو أزوجك على أن تبيعني، فهذا كله لا يجوز، ربط العقدين مع بعض، لا بد أن تفرق حتى يكون أبعد عن الجهالة والغرر، ولذلك إذا قلت: يا وكالة السيارات نريد أن نفصل عقد الإيجار عن عقد البيع، أنا أستأجر منكم السيارة بإيجار شهري، أو سنوي بمبلغ كذا وكذا، وإذا أردت أن أشتريها منكم، ننهي عقد الإجارة ونوقفه ونعقد عقد بيع جديد، ونتفق فيه على سعر معين، أنتم تقولون: بقي لك ألف خذها بألف، المهم نتفق على سعر، لكن يكون عقد الإجارة منفصلاً عن عقد البيع.(161/58)
أمين هذه الأمة
السؤال
من هو أمين هذه الأمة؟
الجواب
أمين هذه الأمة هو أبو عبيدة بن الجراح، وقد كان أبو عبيدة من أعظم الصحابة حفظاً للأمانة، والأمانة تشمل: أمانة العبادات وأمانات الناس، وكان كثيراً ما يؤمِّره النبي عليه الصلاة والسلام لأمانته، من الذي أتى بمال البحرين؟ أبو عبيدة.(161/59)
حكم استخدام الطبل
السؤال
هل يجوز استخدام الطبل في الأعراس؟
الجواب
الطبل لا يجوز استخدامه لحديث: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الكوبة) والحديث صحيح، والكوبة هي: الطبل، والذي يجوز هو الدف للنساء في الأعراس والأعياد.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزي بالخير جميع الحاضرين، وأن يغفر ذنوبنا أجمعين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(161/60)
مصيبة عام 2000 [1]
عند اليهود والنصارى اعتقادات مأخوذة من كتبهم المحرفة، ومنها بشارات بعودة المسيح، وإقامة دولة اليهود، ولذلك عندهم علامات وبشارات، وهم يرون أن ذلك قد اقترب مع حلول العام (2000م) فهم يعدون لذلك عدته، وفي هذه المادة يتحدث الشيخ عن بعض ذلك، وواجب المسلمين تجاه ذلك.(162/1)
اعتقادات اليهود المتعلقة بقرب نهاية الألفية الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد أخبرنا في كتابه عن عداوة اليهود والنصارى, وأنهم أعدى الأعداء, وأخبرنا عز وجل عن كثير من مؤامراتهم التي يحيكونها على المسلمين, وأنهم لا يزالون يمكرون مكر الليل والنهار حتى يردونا عن ديننا لو استطاعوا, وأنهم لا يرضون عنا حتى نتبع ملتهم, وأنهم قد حسدونا على ما عندنا, وأنهم يريدون أن نتبع ملتهم, والله عز وجل قد حذرنا من شرهم ومكرهم, وإذا تأملنا أطول سورتين في القرآن: (البقرة وآل عمران) لوجدنا أنهما تضمنتا كثيراً مما يتعلق باليهود والنصارى.
ومع اقتراب العام (2000) للميلاد يتسارع النبض، ووتلاحق الأنفاس، ويكثر الكلام عن أحداث عظام ستحدث بزعمهم في هذا التاريخ, وإن من المؤسف حقاً -أيها المسلمون- أن يكون أهل الضلال والكفر والانحلال يعملون في الليل والنهار؛ لتحقيق نبوءاتهم المزعومة, والمسطرة في التوراة والإنجيل, بينما يغرق المسلمون في بحار الغفلة لا يعملون بالحق الذي أنزله الله في القرآن، إلا من رحم الله.
ومع اقتراب هذه المناسبة الألفية، لا بد للمسلم أن يعرف شيئاً مما يدور حول اعتقادات اليهود والنصارى في العام (2000) وماذا يريدون؟ وماذا يتوقعون؟ وماذا يعملون لأجل هذه المناسبة؟ لأن المطلوب منا -نحن المسلمين- أن نعرف ماذا يدبر أعداؤنا, لا أن نعيش في غفلة عما يقومون به, خصوصاً وأن كثيراً من هذه التدابير تحدث في بلاد فلسطين المسلمة, وليست في أقصى الأرض بعيداً عن بلاد المسلمين، وإنما القضية في قلب بلاد المسلمين.(162/2)
هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل
أما بالنسبة لليهود أعداء الله الذين يسابقون عقارب الساعة لهدم المسجد الأقصى قبل أن يحل العام (2000) والذي يصادف عندهم ذكرى مرور ثلاثة آلاف سنة على بناء مملكة إسرائيل الأولى, وأن دورة الزمان قد اكتملت عندهم, لتأتي دورة جديدة فيها إقامة ملكهم, وكذلك عند النصارى عقائد مشابهة.
فأما بالنسبة لليهود والمسجد الأقصى: فقد تضاعفت أعداد جماعاتهم المتعاونة لبناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى, فهناك أكثر من خمس وعشرين جماعة متخصصة في هذا الأمر.
والذين فتحوا النفق المشهور عام 1996م تحت المسجد الأقصى, بالإضافة إلى الأنفاق الكثيرة التي حفروها تحته, والسُعار اليهودي المتلهف نحو هدم المسجد الأقصى والكيد للمسلمين تمثل في أمور كثيرة: منها عمليات إحراق وتفجير وتدنيس وتلطيخ بالقاذورات, وفتح للنار على المصلين, وعندما يحين الموعد الذي ينتظرونه يمكن أن يقوم مئات الآلاف منهم بعمل ضخم وكبير، لهدم المسجد الأقصى وإزالته إذا لم يهبط المسجد من جراء الأنفاق الكثيرة التي يعملونها، أو يأملون أن تقع هزة أرضية في تلك المنطقة ولو بسيطة لينهار المسجد بعد أن حفروا تحته أنفاقاً كثيرة، فبقي على أساس هش.(162/3)
بناء السور العازل
لقد عقدوا المؤتمرات لإعادة بناء الهيكل, وجعلوا النجمة السداسية شعارهم على كثير من الأماكن، وتحرص هذه الجماعات اليهودية لأداء دورها المنوط بها, ثم يريدون إقامة سور عازل بين المسلمين واليهود بطول 360 كيلو متراً وارتفاع 3 أمتار بأبواب إلكترونية, يريدون الفصل بين المسلمين واليهود، وأن يكون هذا الجدار مما يلي المسجد الأقصى، بمعنى حرمان المسلمين من الوصول إليه مستقبلاً, وهذا الجدار والحاجز مبني على أمور مذكورة في توراتهم المحرفة التي تقول: "إن الملكوت الذي سيحكم العالم تحيط به المرتفعات حتى لا تصل إليه قوى الظلام, وستعلو جدرانها حتى يعود التوازن إلى العالم".
وأما بالنسبة لنا: فإن هذا الجدار الذي يبنونه الآن، وهذا السور المرتفع والطويل يمثل عندنا تطبيقاً - نحن المسلمين- عملياً لقوله تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14] فهذا الجدار الذي يبنونه هو أحد الجدر التي ربما سنقاتلهم من ورائها.(162/4)
البحث عن الشمعدان وإقامة مملكتهم
ومع اقتراب العام [2000م] الذي يعتقدون بأنه ستقوم فيه الأحداث الكبرى التي تعيد ملكهم إلى العالم, لا بد من تهيئة وتوطئة لإقامة ذلك الملك اليهودي العالمي, فأما دولتهم فقد أقاموها, وأما عاصمتهم فقد وحدوها على أن تكون القدس , وأما منبر دعوتهم وموضع قبلتهم فهو الهيكل, وقضيته قضية وقت, ثم تتوالى التجهيزات وتتابع فيوضع حجر أساس للهيكل في عام [1989م] أي: قبل عشر سنوات في مدخل المسجد الأقصى إيذاناً بأن البناء قد بدأ, وهذا حجر الأساس, وهم يعتقدون بالشمعدان السباعي الذي يمثل أيام الأسبوع السبعة والذي يعتقدون أنهم سيتوجون فيه على العالم في يوم السابع منه, ولذلك اتخذوه رمزاً لهم في عملاتهم وأوراقهم وواجهاتهم ومنصات احتفالاتهم ومنابرهم, فيرى اليهود أن هذا الشمعدان قد فقد وأنه لا بد من البحث عنه, ثم إن نبوءاتهم المزعومة قد صدرت الفتاوى من حاخاماتهم بشأنها، أنه لا يشترط الانتظار حتى تتحقق, بل يمكن العمل على تحقيقها, ولذلك قام أحدهم في هذا العصر المتأخر بعمل شمعدان ذهبي من ستين كيلو غراماً من الذهب، فإذا لم يوجد الشمعدان الأصلي كان هذا بديلاً له, فهذه قضية الشمعدان.(162/5)
البحث عن التابوت
لا بد من البحث عن التابوت حتى يعود إلى هيكلهم، فهم لا زالوا يبحثون عنه, ويقولون: إنه في أثيوبيا تارة وفي غيرها تارة أخرى, ويجمعون المليارات لأجل عمليات البحث والبناء, ليت المسلمين يجمعون عشر معشار ما يجمعه اليهود لنشر الدعوة الإسلامية في العالم، وهي دعوة الحق, وهؤلاء يجمعون المليارات لأجل إعادة بناء الهيكل والإتيان باللوازم, إنهم يرون أن قدس الأقداس وموضع القبلة الحقيقية في داخل أروقة الهيكل.
وأن المذبح لا بد أن يكون هناك, وقد شرعوا في بناء المذبح في منطقة قريبة من البحر الميت وصمم بحيث يسهل نقله إلى الهيكل, الذي سيقام على أنقاض المسجد الأقصى.(162/6)
ولادة البقرة الحمراء
عندهم قضية البقرة الحمراء التي لا بد أن تولد حتى تكتمل القضية, معتمدين على نص لديهم في التوراة، بأن بقرة حمراء صحيحة لا عيب فيها، ستولد ثم بعد ثلاثة أعوام من ولادتها ستحرق بجلدها ولحمها ودمها، وأن رمادها سيرش تطهيراً للنجس الموجود لديهم, لأن الهيكل لن يعمره بالعبادة إلا أناس مطهرون, وأن الطهارة لن تحدث والنجس لن يزول إلا برش رفات هذه البقرة, وقد أعلن قبل فترة يسيرة جداً لديهم أن البقرة الحمراء قد ولدت, في مزرعة بـ حيفا , ويريدون أن يتطابق ذبح البقرة وحرق الرماد مع هذه الألفية القادمة, ويقولون: ننتظر ذلك منذ ألفي سنة -أي: وجود وولادة البقرة- ثم بناء الهيكل بعد ذلك, ولديهم بعض الاختلافات بين حاخاماتهم في شأن موعد ذبح هذه البقرة.
ولكنهم مجمعون على العمل، ونحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى قد ذكر لنا ما يتعلق ببني إسرائيل والبقر في كتابه في موضعين, الموضع الأول: في البقرة التي ذبحت وكانت معجزة لموسى عليه السلام ليضرب ببعضها القتيل الذي لم يعرف قاتله, فيحيا بإذن الله فيخبر بقاتله.
والموضع الثاني: العجل الذي عبده قوم موسى من بعده بما أضلهم السامري , ويوجد إلى الآن طائفة من اليهود من عباد العجل يعلقون العجل قلادة في رقابهم, وهي طائفة من طوائفهم، ومدرسة من مدارسهم موجودة إلى الآن.(162/7)
عقائد النصارى المتعلقة بقرب نهاية الألفية الثانية
أيها الإخوة: إن هذه الألفية الثالثة التي يتحدثون عنها للنصارى فيها أيضاً اعتقادات, وأمة النصارى مليار ونصف مليار من البشر.(162/8)
عودة المسيح والاستعداد للاحتفال بعودته
ومن عقائدهم أن المسيح سيعود في هذه الألفية, وأنه سينزل في موطنه الذي كان فيه, ولذلك يعدون العدة للاحتفال في بيت لحم , والناصرة.
فليس الاحتفال عندهم في تلك المنطقة، وهي بلد إسلامي، فتحه المسلمون, وأزالوا أوضار الشرك منه, إنهم لن يحتفلوا في ذلك المكان الذي تبنى فيه الفنادق بكثافة، وتنظم الأسفار السياحية إليه بكثافة؛ ليجتمع فيه أكثر من ثلاثة ملايين نصراني, تخيل يا عبد الله! ثلاثة ملايين نصراني يجتمعون في ذلك المكان، في هذه الألفية التي يتحدثون عنها - ليس احتفالاً بميلاد المسيح فقط وإنما ترقباً لقدومه وعودته، ونزوله في ذلك المكان وظهوره مرة أخرى, نحن المسلمين نعتقد بأن المسيح عليه السلام لم يمت وأن الله رفعه إليه، بخلاف النصارى الذين يعتقدون موته.
ويحهم يزعمون أنه ابن الله، وأنه قتل وصلب, وأنه سيعود إلى هذا المكان لقيادتهم مرة أخرى.
ونحن نعتقد بأن المسيح عليه السلام رفعه الله إليه: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] وأنه سينزل في آخر الزمان عند المنارة البيضاء شرقي دمشق وليس في بيت لحم ولا الناصرة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، وسيحكم الأرض بشريعة الإسلام, ويقاتل اليهود والنصارى, وهذه المنارة البيضاء موجودة الآن وهي إحدى منارات المسجد الأموي بـ دمشق , وسينزل المسيح عيسى بن مريم عليه السلام في ذلك المكان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم, والله أعلم بوقت نزوله, ولكن نحن في آخر الزمان والأمر قد اقترب.(162/9)
ملك النصارى لا يعود إلا بقيام دولة يهود
أيها الإخوة: لقد استطاع اليهود أن يستغلوا بعض عقائد النصارى في إقناعهم بأن من مصلحتهم -أي: من مصلحة النصارى- أن تقوم دولة اليهود, وأن ملك النصارى ومسيحهم لا يعود إلا بقيام دولة يهود, ولذلك فإن إعطاء فلسطين من النصارى لليهود في أول هذا القرن لم يكن إعطاءً عبثياً, وإنما هو مبني على تخطيطات وعلى نبوءات موجودة لديهم في كتبهم, ولما تردد هرتزل في قبول فلسطين بعث إليه أحد النصارى الكبار بورقة من الكتاب المقدس، بزعمهم أنها تدل على قيام دولتهم في ذلك المكان.
فاليهود والنصارى يتواطئون اليوم على الاحتفال بهذه المناسبة والاستعداد لها استعدادات عظيمة, فيحج منهم ثلاثة ملايين وعلى رأسهم كبيرهم الذي يرشدهم إلى أعمال الشرك والكفر يوحنا بولس الذي هو شيخ كفرهم في هذا الزمان, وأنهم سيجتمعون في ذلك المكان, بالإضافة إلى احتفالاتهم في أنحاء العالم الأخرى, والقضية قريبة، والخطر داهم، ولكن كثيراً من المسلمين عن هذا غافلون.
ويزداد الهوس، ويضع النصارى كاميرة مراقبة على البوابة في الأقصى, ويخصصون موقعاً في شبكة نسيج العنكبوت على الإنترنت لينقل لحظة بلحظة هذه البوابة, لأنهم يعتقدون بأن المسيح سيخرج منها, إن أولئك القوم الذين قاموا بهذه الصناعات، ووصلوا إلى الفضاء ليسوا أمة علمانية بحتة كما يتصور البعض، وإنما هم أمة لهم اعتقادات, وكما أن في المسلمين صحوة فكذلك عند النصارى صحوة في باطلهم, وكما أنه حصل عند المسلمين رجوع من كثير من أبنائهم إلى الدين، فإن النصارى يعيشون -على أعتاب الألفية القادمة- صحوة دينية ولكنها شركية كفرية.
ولذلك فإن الإقبال على الدين عندهم يزداد, وجمعياتهم الدينية وجماعاتهم تزداد, والقيام بالعمل على تحقيق نبوءاتهم يستشري, وعدد الذين سيحجون بزعمهم إلى بيت المقدس، وبيت لحم والناصرة سيزداد, كل ذلك رجوع منهم إلى الديانة التي يعتقدون بها، وكبارهم يقدرون ذلك, ويقدرون الكنيسة ويقدرون تلك المناسبة.(162/10)
مشكلة انهيار الحاسب الآلي
أيها الإخوة: إن القضية قضية كبيرة وليست قضية سهلة, وستتزامن مع مشكلة لا علاقة لها بالموضوع في ظاهر الأمر وهي: انهيار الحاسبات في عام (2000) عندما لا تستطيع أجهزة الكمبيوتر أن تظهر المعلومات وتتعامل مع البرامج؛ لأنها غير قادرة على قراءة الصفرين التي يتحدثون عنها, وبناءً على ذلك يتوقع خبراؤهم أن تتوقف كثير من الأنظمة المصرفية، والملاحة الجوية، وكذلك مراقبة التلوث وإمدادات الطاقة ونحو ذلك؛ فلذلك هم يتكلمون عن قضية تخزين مواد غذائية في البيوت, وسحب بعض من الأرصدة إن لم يكن كل الأرصدة قبل هذا التاريخ, حتى إذا تعطلت الأجهزة كان لديهم ما يأكلون به ويشربون ويشترون.
إن هذا الأمر استغله بعض المتدينين لديهم ليقولوا: بأن الانهيارات والأحداث المتسارعة في العالم في الألفية من أسبابها: مشكلة الصفر في عالم الحاسب الآلي, وأنهم إذا أقدموا على سحب الأرصدة ستنهار اقتصاديات، وستقع حروب نتيجة لذلك, فيربطون ما سيحدث في عالم الكمبيوتر بمعتقداتهم في هذه الألفية القادمة.
وهم يعتقدون -أي: النصارى- بأن مسيحهم المنتظر لن يأتي إلا بعد فترة متواصلة من الأزمات والكوارث المتتابعة من الحروب التقليدية والنووية وغيرها من الانهيارات الاقتصادية, فالمتدينون منهم يتوقعونها ويربطون بين هذه المشكلة وبين اعتقاداتهم.
أيها المسلمون: لماذا نكون من الغافلين؟ ونُعمي أبصارنا، ونُصم آذاننا عن تتبع ما يجري ما دامت القضية تمثل لديهم أمراً كبيراً, نحن نعلم بأن الغيب لا يعلمه إلا الله, ولا ندري هل ستمر الألفية مناسبة عادية، فيها زيادة احتفالات وفحش وغناء، وخمر، وسُكر، وعربدة، وفجور، ومجون، وزيادة في الأنوار.
أم أنه سيرافقها أحداث عظام من كوارث وحروب في العالم؟ هل ستكون المناسبة مجرد أعياد تعم العالم يدخل فيها المسلمون وغيرهم، أم أنها ستكون معها كوارث وحروب؟ هذا أمر لا يعلمه إلا الله, ولكن المطلوب منا ولا شك، أن نكون يقظين ولا نكون غافلين, وأن نعلم ماذا يصنع القوم؟ وماذا يريدون؟! إننا لسنا أمة مهمشة في التاريخ، بل نحن الذين قدنا العالم بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأرغمنا أنوف اليهود والنصارى، ولم نكن في مؤخرة الأمم إلا في هذه السنوات المتأخرة من عمر الزمن الذي كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم, ونسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه, وأن يجعلنا من المستبصرين بسبل المجرمين, ونسأل الله عز وجل أن يوقظ المسلمين من غفلتهم، وأن يردهم إلى دينهم، وأن يقيهم مكر أعدائهم، إنه سميع مجيب قريب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(162/11)
واجب المسلمين لمواجهة هذا الخطر الداهم
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين, وأشهد أن محمداً رسوله إلى الثقلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله! قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً} [الحج:34] وقال سبحانه: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148] وقال: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] وقال سبحانه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] وقال سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7].
اليهود مغضوب عليهم, والنصارى ضلاّل, فالمغضوب عليهم والضالون يجتمعون اليوم, لكي يحققوا النبوءات المزعومة، ويعملون ليلاً ونهاراً بجد ونشاط, بجهود متكاتفة، وتبرعات طويلة, وأموال هائلة تجمع من أجل الوصول إلى ما يظنون أن سيحدث في هذه الألفية, فماذا أعدّ المسلمون؟! بأي شيء قمنا نحن لمواجهة هذا الخطر الداهم وهذه الجهود الجبارة والحثيثة التي يقومون بها؟!(162/12)
الاستعداد العقدي والإيماني
أيها الإخوة! لا بد أن يكون عندنا استعدادات لذلك, وهذه الاستعدادات تكمن في عدة أمور، ومنها: الاستعداد العقدي الإيمان بالله عز وجل, والتوكل عليه؛ الإيمان بالله عز وجل الذي يؤدي إلى أن يتصل المسلم بربه اتصالاً وثيقاً, ويتوكل عليه وينيب إليه, ويثق بنصره سبحانه وتعالى، وأن الله لن يتخلى عن دينه, وأنه سينصر الإسلام، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن عدد من البشائر التي تدل على عودة الإسلام قوياً في آخر الزمان، ونحن في آخر الزمان ولا شك، ولقد أخبرنا عن فتح القسطنطينية ورومية والتي فيها الفاتيكان عاصمة النصارى في العالم, وأخبرنا كذلك أن الإسلام لا يترك بيت مدر ولا وبر في الحاضرة والبادية إلا ويدخله, بعز عزيز أو بذل ذليل.
وأخبرنا بأن المسلمين سينتصرون على اليهود في معركة باب لد التي سيقودها المسيح ابن مريم، حتى إن الشجر سينطق بما وراءه من اليهود المختبئين إلا شجر اليهود الذي يكثرون من زراعته, وأن المسلمين سينتصرون على النصارى في معركة مرج دابق، وهي قرية بقرب حلب في بلاد الشام معروفة قريبة من الحدود التركية, ستكون معركة جاء تفصيلها في صحيح مسلم في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنهم سيحشدون لنا تسعمائة وستين ألفاً من جنودهم, ولكن أهل الإسلام سينتصرون عليهم).
وأخبرنا عليه الصلاة والسلام بمعارك فاصلة بيننا وبين اليهود والنصارى تكون في آخر الزمان, وأخبرنا عن أحداث متلاحقة، وأحداث عظام ستكون في آخر الزمان, ونحن لا ندري هل هذه قريبة وهل سندركها في حياتنا أم لا؟ ولكنها في الجملة قريبة, فإننا في آخر الزمان ولا شك, وإذا كانت بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي أول أشراط الساعة الصغرى وقد مضى عليها أكثر من (1400) سنة فما بالك إذاً بما بقي؟! لا شك أنه يسير جداً.(162/13)
الاستعداد بالتعلم والفقه في الدين
كذلك فإن من الاستعدادات استعدادات علمية، بتعلم هذا الدين وتفقهه, وأن ننظر في الآيات والأحاديث التي تتحدث عن علاقتنا باليهود والنصارى, وكيف يجب أن نتعامل معهم ونحذر من مكرهم, وكذلك فلا بد من استعدادات نفسية ببذل النفوس والأموال في سبيل الله, وإذا قام قائم المعركة في سبيل الله عز وجل يكون المسلم على استعداد لبذل الغالي والرخيص والنفيس والقليل من أجل دينه.
أيها الإخوة: ما فائدة الحياة إذا كان يعيشها الإنسان للذات بهيمية, من طعام وشراب، ولباس واستمتاع بهذا الزائل الفاني، فما عند الله خير وأبقى.(162/14)
الاستعداد بتحذير أبناء المسلمين من خطط اليهود والنصارى
كذلك فإننا يجب أن نقوم بتحذيرات لأبناء المسلمين من خطط اليهود والنصارى في هذه الألفية وغيرها, ونحن قادمون على عيد عظيم لهم, يحتفلون فيه جميعاً، وسيكون قمة احتفالاتهم الشركية الكفرية الإباحية المشتملة على الفحش والمنكرات ستكون في قمة عبادتنا، في العشر الأواخر من رمضان, لا شك أنها قضية كبيرة جداً.
فالمسلمون في قمة العبادة في العشر الأواخر من رمضان, واليهود والنصارى في قمة احتفالات الفحش في هذه الألفية التي يتحدثون عنها, وقد ذهب عدد من النصارى بعد أن باعوا ممتلكاتهم في أمريكا وغيرها إلى أرض فلسطين , وهم يتوافدون ليقوموا بحركة ما قِتال أو انتحار جماعي أو غيره, ويقولون: إن زعيم طائفتهم سيموت هناك.(162/15)
العودة إلى الدين وتحكيم الشريعة
وهناك أحداث عظام قادمة, فلا بد أن يكون لنا نحن المسلمين استعدادات لأجلها, ولذلك فإن العودة إلى الدين، والتمسك بالإسلام، وإقامة الحلال وتحريم الحرام، وعمل الواجبات، وترك المحرمات، والالتجاء إلى الله، وتربية الأولاد على الإسلام، هو الاستعداد الحقيقي للمواجهة, هذا هو استعدادنا الحقيقي للمواجهة العودة إلى الدين, الذي شرفنا الله به, ونصرنا به ولم ينصرنا بغيره.
نسأل الله عز وجل أن يجعل بلاد المسلمين آمنة مطمئنة, اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً وسائر بلاد المسلمين, وقنا كيد الحاقدين والحاسدين, اللهم إنا نستجير بك من كيد اليهود والنصارى يا رب العالمين, اللهم آمنا من شرورهم ورد كيدهم في نحورهم, واجعل الغلبة لنا عليهم، إنك على كل شيء قدير.
اللهم أقم علم الجهاد, واقمع أهل الزيغ والفساد والعناد، وانشر رحمتك على العباد، يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد, اللهم انصر إخواننا في بلاد الشيشان وفي غيرها من الأرض على الظلمة الكافرين يا رب العالمين, اللهم سدد رميتهم، اللهم صحح منهجهم, اللهم واجمع كلمتهم على التوحيد إنك بالإجابة جدير, وعلى كل شيء قدير، والحمد لله أولاً وآخراً.(162/16)
معذبان في القبر
في الحديث أن النمام يعذب في قبره، وكذلك من لا يتنزه من بوله، فهذان مرضان خطيران الأول: على المجتمع بالنخر والتفكيك، وعلى صاحبه دنياً وديناً، والثاني: على الدين وعواقبه على صاحبه، والتنبيه على ذلك مهم كما نبه عليه الشيخ، وذكر أخطاره(163/1)
النميمة سبب لعذاب القبر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد فيا عباد الله: اتقوا الله الذي خلقكم ورزقكم وأنعم عليكم، ومن أعظم نعمه سبحانه وتعالى أن عرفَّنا من شرعه ما نعبده به، وعرفَّنا أسباب غضبه فنتقيها لننجو من عذابه.
أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي قال لنا في حديثه، وقد مر بقبرين قال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة).
وعذاب القبر ثابتٌ في هذه الشريعة جاءت به لتحذير المسلمين من أهوال القبر وما فيه من الفتن، وهو مما حذر منه الأنبياء من قبلنا؛ ولذلك جاءت امرأة يهودية إلى عائشة رضي الله عنها فقالت لها: أعاذكِ الله من عذاب القبر.
قالت عائشة: فعجبت من قولها! وسألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدَّق ما قالت اليهودية، وأخبر أن الناس يفتنون في قبورهم مثل أو قريباً من فتنة الدجال: و (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف عند قبره واستغفر له، وقال للناس: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل) فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم فتنة القبر، والسؤال الذي يكون فيه، كما أثبت عليه الصلاة والسلام عذاب القبر والنكال الذي يكون فيه.
وأول شيءٍ يحصل في ذلك المقام: الضغطة التي يضغط بها القبر على صاحبه، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عند دفن طفلٍ أنه (لو نجا أحد من هذه الضغطة لنجى ذلك الطفل) وعند موت سعد بن معاذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو نجا أحد منها لنجا p=1000017> سعد بن معاذ) ولكن هذه الضغطة عامة لجميع من يدخل القبر، فإذا كان من أهل الصلاح روخي عنه وانفرج القبر واتسع عليه، وإن كان من أهل الكفر والفجور ازداد عليه ضيقاً حتى تختلف أضلاعه، ثم يكون بعد ذلك السؤال، وبناءً عليه يكون النعيم أو العذاب.
لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أسباب عذاب القبر، وذكر منها في هذا الحديث سببين: الأول: النميمة، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: (لا يدخل الجنة نمام)، وفي رواية: (قتات) فالنمام الذي ينقل الكلام بين الناس بقصد الإفساد بينهم، فيسمعهم يتحدثون حديثاً فينم عليهم، وقيل: إن القتات هو الذي يتسمع عليهم دون أن يشعروا ثم ينقل خبرهم.
فهذا الذي ينقل للإيقاع والإفساد بين المسلمين يكون متعرضاً مباشرةً لسببٍ من أسباب العذاب في قبره.(163/2)
النميمة معول هدم للأخوة
إن النميمة من الآفات العظيمة في المجتمع، والنمام يفسد ذات البين، والشريعة جاءت لإصلاح ذات البين، والأمر بالتقريب بين نفوس المؤمنين، فهذا النمام يعمل على خلاف ما أمرت به الشريعة وسعت إليه، ويفعل بالناس فعل النار بالهشيم، فيدخل بين الصديقين، فيصيرهما عدوين، وينقل إلى كل منهما عن أخيه ما يسوءه وما يكدر عليه، وهذا -ولا شك- إيذاء للمؤمنين والمؤمنات، وقد قال عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58].
وينبغي للإنسان إذا بلغه خبر من نمام أن يرده عليه وأن يعظه وينصحه، وقد قال الحكماء: من نمَّ لك نمَّ عليك.
احفظ إخوانك، وصل أقاربك، وآمنهم من قبول قول ساعٍ أو سماع باغٍ يريد الإفساد بينك وبينهم، وليكن إخوانك من إذا فارقتهم وفارقوك لم تعبهم ولم يعيبوك، وينبغي على الناس أن يسدوا الطريق على النمامين، فلا يذكروا إخوانهم في المجالس إلا بخير.
إن بعض النمامين يجلسون في المجالس، فيجاملون الذي يتكلم على فلان وعلان ليوهموه أنهم معه، فإذا قاموا نقلوا كلامه للإفساد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن شر الخلق عند الله ذو الوجهين وذو اللسانين) وذو الوجهين هو الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.
وكذلك فإننا إذا تأملنا في المجتمع وجدنا أن كثيراً من الحبال قد انقطعت بسبب هذه الفتنة العظيمة فتنة النميمة؛ لأن الفسق الذي صار بالنمام والقبول الذي حصل من الآذان لكلام النمام هو الذي أوجب القطيعة، وأوجب العداوة بين كثير من المسلمين.(163/3)
كيف يعامل النمام؟
وقد علَّمنا الله تعالى كيف نعامل النمام، فقال: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:10 - 11] أي: يمشي بين الناس بالنميمة، قال: (ولا تطع) أي: لا تصغ إليه، ولا تقبل كلامه، وتعظه وتنصحه وترده على عقبيه {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:10 - 11] فهذا الذي يمشي بالنميمة لابد من إيقافه عند حده، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] ولا شك أن النمام فاسق.
ولذلك ينبغي التوقف في قبول خبره، والاحتياط والتحرز.(163/4)
النمام سرطان يصل إلى كل عضو
هؤلاء النمامون لم تسلم منهم العلاقات الزوجية، ولا علاقة الموظفين مع مدرائهم، ولا الموظفون مع بعضهم البعض، بل حتى مع طلبة العلم، فقد صار بعضهم يمشي إلى فلانٍ ويقول له: إن فلاناً قد ذكرك في مجلسه بشر، وقد انتقدك أو عابك أو نحو ذلك، فيكون هذا سبباً حتى في الإفساد بين طلبة العلم، وكم من الإحن قد حصلت في الصدور، وكم من الأحقاد قد استقرت في القلوب بسبب أفعال هؤلاء.
ومن النميمة: إيغار صدور الآباء والأساتذة بما ينقل بعض الأبناء والتلاميذ عن بعض، فيصبح الولد البار والتلميذ الصالح بغيضين ممقوتين، وهما يستحقان من الوالد ومن المعلم الشكر والتقدير.
أما النميمة في البيوت وبين العائلة فحدث عن الابتلاء بها، ولئن كانت الضرة تنم على ضرتها لبعض الغيرة بينهما؛ فإنك تجد في كثير من الأسر النميمة تنقل من أم الزوج إلى ابنها عن زوجته، ومن الزوجة إلى زوجها عن أمه، وكذلك تنقل من الأقارب والأباعد، وكثيراً ما كانت النميمة سبباً للطلاق، وتهديم الأسر وتخريبها؛ فلا تستغرب -يا عبد الله- إذا علمت بعد ذلك أن النميمة سببٌ مباشر من أسباب عذاب القبر، وتنقل زوجة الأب لزوجها عن أبناء ضرتها، أو عن أبناء زوجته المطلقة أو الثالثة ما تنقل، وقد يكون جاهلاً ينخدع، أو مستمالاً إليها فيطيعها.
وكذلك ما يذهب به بعض الناس إلى الكهان، ويسمعون منهم كلاماً في بعض الناس فيصدقونه، فيكون الكاهن قد أضاف إلى جرمه بالشرك نميمة أيضاً.
وكذلك فإن بعض المدراء في الشركات، أو المسئولين في الدوائر لا يكونون حكماء، فيفتحون المجال للموظفين لنقل الأخبار في بعضهم البعض، وربما يريد أن يفرق ليسود، وأن تجتمع عنده الأخبار، زعماً بأنه من طبيعة وظيفته أن يعرف ما يدور، ولكن الشريعة فوق هذه الأمور الإدارية التي يظنها بعض المدراء مصلحة، وإنما المفسدة فيها كل المفسدة، فبعض الموظفين قد فصل أو اضطر إلى مغادرة عمله بسبب نميمة موظفٍ آخر، وكل واحدٍ يريد أن يتزلف إلى المدير بكلامٍ ينقله عن موظفٍ آخر تكلم على هذا المدير أو ذمه أو نحو ذلك، ويظن هذا الموظف النمام أنه يتقرب إلى سيده، وأنه يزداد حظوة عنده، وأنه عينه على بقية الموظفين، وما درى أنه نمام معذبٌ في قبره، وأنه سببٌ لإيذاء الآخرين، فينبغي على الإنسان أن يكف لسانه عن عيب الناس، وينبغي على من سمع العيب ألا ينقله.(163/5)
عدم التنزه من البول سبب لعذاب القبر
عباد الله: لقد ورد في الشطر الثاني من الحديث التحذير من عدم التطهر من البول، وعدم تنقية النجاسة في البدن والثوب، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4].(163/6)
اللامبالاة بالنجاسة وصورها
وبعض الناس لا يحترزون من البول، ومنهم الذين يقلدون الكفرة بالبول في هذه الحمامات المعلقة، ثم يلبسون ثيابهم عليهم، ومنهم من لا يهتم بغسلها، وبعض الحمامات تكون مصممةً على الانتقال من كرسيٍ إلى آخر تقليداً للغربيين أو الكفرة الفرنجة، ويحدث من وراء ذلك سقوط البول على الثياب وعدم الاحتراز من ذلك، وبعض الناس لا يهتمون بغسل النجاسة من ثيابهم، وبعضهم لا يهتم بغسلها من بدنه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسألة خطيرة.
ومن الأسباب: البول في مجتمعات الناس، وفي طرقهم العامة، فإن ذلك من أسباب عدم اتقاء النجاسة، وتلويث الثياب بها.
وكذلك فإن بعض الناس ربما لا يهتم بطريقة الغسل لكي تكون منقية، فتختلط الثياب النجسة بغيرها، ولا يكون الغسل مذهباً للنجاسة.
وينبغي أن نعلم أطفالنا التحرز من النجاسات من الصغر، وهذه قضية تنمو مع الولد إلى الكبر، وبعض الآباء والأمهات يهملون تعليم أطفالهم الاستنجاء والاستجمار؛ فينشأ الولد ويترعرع والنجاسة في ثيابه، لا يهتم بغسلها؛ لأنه لم يعود على ذلك، وهذه قضية خطيرة، ربما يشارك الأبوان في وزرها بسبب إهمالهم لتعليم الأطفال.(163/7)
مسألة البول قائماً وحكمها
بعض الناس يقول: هل يحرم البول قائماً؟
و
الجواب
أنه قد ورد في السنة فيما رواه الترمذي -رحمه الله تعالى- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً) رواه الترمذي، وقال: هذا أصح شيءٍ في الباب.
ولأنه أستر له -إذا بال قاعداً- وأحفظ له من أن يصيبه شيء من رشاش بوله، ولكن قد ورد في حديثٍ آخر عند البخاري ومسلم عن حذيفة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قومٍ فبال قائماً) والسباطة: موضع الزبالة ورمي القمامة، فكيف نجمع بين هذين الحديثين: أنه لم يبل قائماً، وحديث حذيفة أنه قد بال قائماً؟ الجواب: نقول: إن الأكثر من فعله صلى الله عليه وسلم والأعم الأغلب أنه كان يقضي حاجته قاعداً، ولا شك أن ذلك أمكن وأحسن وأعون على قضاء الحاجة وعلى التطهر منها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بال قائماً مرات قليلة؛ لبيان الجواز، فتكون السنة البول قاعداً، والجواز البول قائماً؛ بشرط أن يكون مستوراً عن الناس، وألا يصيبه رشاش بوله، وألا يرتد عليه، وكثير من الذين يبولون قياماً يحصل من جراء فعلهم رشاشٌ وتلويث لثيابهم، ولذلك إذا كان الإنسان لا يأمن من تلويث ثيابه بالنجاسة إذا بال قائماً فلا يفعل ذلك، أما إذا أمن فإنه يفعل ولا حرج عليه، والشريعة لا تضيق واسعاً، ولله الحمد والمنة.(163/8)
الحذر من الغلو والتنطع في الطهارة
عباد الله: إن هذه المسائل من الآداب التي ينبغي على الناس أن يقفوا عندها، وينبغي لفت النظر إلى أن بعض الناس إذا سمعوا مثل هذا الحديث في عذاب القبر من جراء عدم الاستتار من البول؛ أوقعهم الشيطان في الغلو، ونقلهم من عالم الطهارة والنقاء إلى عالم الوسوسة والعذاب، وقد بلغ الشيطان منهم أن عذبهم في الدنيا قبل الآخرة، وأخرجهم عن اتباع الرسول، وأدخلهم في جملة أهل التنطع والغلو، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فترى أحدهم يقوم بحركات عجيبة شاذة من العصر، وإدخال شيء لاستخراج ما في الداخل، والإنسان غير مكلف بإخراج ما في جوفه من النجاسة، إنما هو مكلفٌ بغسلها إذا خرجت والنتر والنحنحة والقفز، ويمكثون الساعات الطوال في دورات المياه، فتضيع صلاة الجماعة، بل ربما ضاعت الصلاة كلها بإخراجها عن وقتها؛ زعماً منهم أنهم يحتاطون ويتورعون ويزيلون النجاسة ويطبقون الدين، وليس إلا التنطع والغلو في الدين، فإن الشريعة لم تأمر بهذه الإجراءات التي ربما سببت المرض لبعض هؤلاء الموسوسين، فأصيبوا بالسلس وبالآلام المبرحة ونحو ذلك.(163/9)
حكم المصاب بالسلس
وينبغي على الإنسان إذا ابتلي بالسلس، وهو عدم القدرة على منع البول -فقد الإرادة على منع إخراجه، فصار يخرج منه بغير إرادة- أن يفعل ما ذكره أهل العلم، فإذا دخل وقت الصلاة غسل الموضع وما أصاب الثوب من النجاسة، وتوضأ للصلاة مرة واحدة لا يزيد ولا يعيد، ومن زاد فقد أساء وتعدى وظلم، ثم يذهب ليصلي ولا يبالي بما خرج منه.
وقد جاءت الشريعة بالاستجمار أيضاً تخفيفاً ورحمةً -ولو وجد الماء على الصحيح من أقوال العلماء- ثلاث مسحات منقيات بالورق أو الحجر وغير ذلك كافية -ولله الحمد والمنة- إذا لم تتجاوز النجاسة الموضع، فإذا تجاوزت الموضع المعتاد وانتشرت على الجلد، فلابد أن يغسل بقية المكان الذي أصابته النجاسة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من التوابين، وأن يجعلنا من المتطهرين، وأن يخلصنا من الغيبة والنميمة والكذب، إنه أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(163/10)
دعوة للمحاسبة
الحمد لله الذي جعل في تعاقب الليل والنهار عبرةً لأولي الأبصار، أحمده سبحانه لا إله إلا هو العزيز الغفار، وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، وأصلي وأسلم على أعدل الخلق وأكرم المرسلين، من أرسى الله به قواعد الدين، وأنار معالمه للعالمين.
أما بعد فيا عباد الله: اتقوا الله وخذوا من تجاربكم وتصرم الأيام والأعوام أمامكم عبراً ودروساً، فكم في ممر الأيام والأعوام من عبر! وكم من تصرم الأزمان والأحوال من مدكر! كم في ذلك مما يذكر بأن لكل شيءٍ من المخلوقات نهاية، فجمعتكم هذه هي آخر جمعة في هذا العام الهجري، وبعد أيامٍ قلائل سيطوى سجله، ويختم عمله، ويبقى عامنا شاهدٌ علينا بما أودعناه من خيرٍ أو شر، وإذا كان أهل الأموال يعملون لتصفية حساباتهم والجرد في آخر كل سنة مالية أو تجارية؛ لينظروا الطرق التي استفادوا منها فيكثرون منها، والطرق التي خسروا فيها فيجتنبوها.
فما أحرى بالمسلم أن يقف مع نفسه في مثل هذه المناسبة مذكراً لها ومحاسباً عما حصل منه في العام الماضي! ليقف كلٌ منا مع نفسه محاسباً لها: ماذا أسلفت فيه من خير؟ وماذا أسلفت فيه من شر؟ وإذا كان خيراً فليزدد، وإن كان شراً فليتب إلى الله عزَّ وجلَّ، وإن كان من حقوق المخلوقين رد المظلمة إلى صاحبها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت له عند أخيه مظلمة فليتحلل منه قبل ألا يكون درهماً ولا ديناراً) وإنما القصاص بالحسنات والسيئات.
عباد الله: تلك أيامٌ قد خلت، ولكن أحصاها الله عزَّ وجلَّ وأحصى ما عُمل فيها، وسيأتي الناس يوم القيامة عملوا أعمالاً بعضهم نسيها وأحصاها الله عزَّ وجلَّ {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6].
وينبغي أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، ونحن اليوم أقدر على الحساب منا عليه غداً، وما ندري ما يأتي به الغد، فليكن ختام العام مناسبة حسابٌ لنا، ووقفة نصحح بها مسارنا، ولحظة صدقٍ مع أنفسنا، نأخذ من يومنا لغدنا، ونستعد لما سيأتي، والمؤمن بين مخافتين: أجلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجلٍ قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليتخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الصحة قبل المرض، ومن الغنى قبل الفقر يبادر الأعمال قبل أن تهدم عليه الأعراض فتمنعه من العمل.
أيها الإخوة يقول المحللون الاقتصاديون: إن الشهر القادم سيكون شهر التنفيذ الفعلي والتخطيط العملي لإجازات الناس السنوية، وفيه سيحجزون للأسفار، ويقررون ماذا يعملون في الإجازات، ولابد أن تكون هذه المسألة تابعة للمحاسبة التي أسلفنا الكلام عنها قبل قليل، وأن يكون نهاية العام استعداد لطاعة الله عزَّ وجلَّ في العام الذي يليه، وليس استعداداً للمعصية، ويتوقع الفرنسيون أن أربعين ألفاً منا سيذهبون إلى بلاد الكفر لينفقوا الأموال في معصية الله ودعم الكفرة واقتصادهم، وبعض الناس لما ضاقت بهم الأموال شيئاً ما وجاء موسم الحج، قالوا: لا يجتمع عندنا المونديال والحج، فقرروا تأخير الحج، وقالوا: هذا المال المتوفر سنذهب به إلى المونديال، أخروا فريضة الله تعالى لأجل الكرة، وليت شعري ماذا تفعل العوائل والبنات والنساء وربات البيوت بشأن الكرة؟! وإلى أي مذهبٍ سيذهبون؟! وكذلك -أيها الإخوة- الذين ينوون الذهاب إلى بلاد الكفر لأي غرض غير مشروع، ليس لحاجة شرعية ولا لعذر شرعي ندعوهم لأن يتقوا الله تعالى في أنفسهم، وبعض الذين قرروا الذهاب إلى بلاد الفجور فقد لا تكون كفراً، ولكن فجور متناهٍ في الفجور لا يقل عن فجور الكفرة، فعليهم أن يتقوا الله أيضاً، وأن يجعلوا من تخطيطهم للإجازة ما يرضي الله عزَّ وجلَّ.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهيئ لنا من أمرنا رشداً، وأن يجعلنا من القائمين بحقوق أنفسهم وأولادهم على الوجه الذي يرضيه عنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، اللهم اجعل بأس أعداء الدين بينهم، واجعل تخطيطهم تدميراً عليهم.
اللهم إنا نسألك الأمن لهذه البلاد، وسائر بلاد المسلمين يا رب العباد، اللهم إنا نسألك الأمن يوم الفزع الأكبر، اللهم إنا نسألك أن تبيض وجوهنا وتثقل موازيننا يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(163/11)
مقدمة في الأخلاق
الأخلاق مقياس الأمم، وثمرات حضارتها وتدينها، ولا تخفى المنزلة التي أولاها ديننا للأخلاق، حيث يظهر ذلك جلياً أيضاً من نصوص الشريعة، وكتب أهل العلم التي ذكر الشيخ في هذا الدرس طرفاً مما في بعضها، فاقرأه تستفد.(164/1)
الأخلاق ومكانتها في الإسلام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فاوت بين خلقه في الخُلُق كما فاوت بينهم في الخلق، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، الذي قال الله سبحانه وتعالى في شأنه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
أيها الإخوة: إن موضوع الخلق من الموضوعات الإسلامية المهمة التي عليها يدور نجاح حياة المسلم، فكيف ينجح العالم في وظيفته إذا لم يكن على خلق؟ وكيف ينجح الزوج في حياته إذا لم يكن على خلق؟ وكيف ينجح الداعية في حياته إذا لم يكن على خلق؟ وكيف ينجح الأخ مع إخوانه إذا لم يكن على خلق؟ فالأخلاق عليها مدار نجاح الإنسان في هذه الحياة، حتى قال بعض العلماء: إن الدين كله هو الخلق، ونحن نعيش أزمة أخلاق في واقعنا، سواءً على مستوى العلاقات الزوجية، أو المصلين في المساجد، أو الطلاب والمدرسين، أو الموظف والمراجعين، أو الجار وجيرانه، بل بين طلبة العلم والعلماء والأقران، وهذا مما يؤكد أهمية طرق هذا الموضوع.
وحيث أن عدداً من الدروس في هذه الإجازة لها اتجاه علمي صرفٌ في المصطلح، أو التفسير وعلوم القرآن، أو أصول الفقه أو الفرائض أو اللغة ونحو ذلك، فإنني أجد أن الحديث عن موضوع الخلق من الموضوعات التي لا تقل أهميةً أبداً عن تلك المواضيع، ولعلنا -إن شاء الله- سنكون مع مجموعة من الدروس في هذه الإجازة نقضي كل ليلة مع خلق من الأخلاق الإسلامية الحسنة، نبين فيه مكانة هذا الخلق في الإسلام وأدلته ومعناه، وشيئاً من تطبيقاته في الواقع.
وأقول: إن الموضوع مهم للغاية وأكثر مما قد يتصور البعض، وبعض الأخلاق لها جوانب فقهية وتتعلق بها أحكام، كما لو طرق -مثلاًَ- موضوع العدل فإنك ستلاحظ فيه أحكاماً في العدل بين الأولاد، والعدل بين الزوجات ونحو ذلك.(164/2)
تعريف الأخلاق ومفهومها
أما تعريف الخلق، فالخليقة هي: الطبيعة، كما قال ابن منظور رحمه الله في لسان العرب: وفي التنزيل: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] والجمع: أخلاق، ولا يكسر على غير ذلك، والخُلْق والخُلُق السجية، والخُلُق هو الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة -وهي نفسه- وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة.
وقال ابن حجر -رحمه الله- في شرح كتاب الأدب من صحيح البخاري قال الراغب: الخَلق والخُلق في الأصل بمعنى واحد، كالشَرب والشُرب، لكن خُص الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخُلق الذي بالضم بالتقوى والسجايا المدركة بالبصيرة، فالشكل والصورة التي تدرك بالبصر تسمى خَلْقاً، والسجايا والطبائع التي تدرك بالبصيرة تسمى خُلقاً.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى في المفهم: الأخلاق أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، وهي محمودة ومذمومة، فالمحمودة على الإجمال: أن تكون مع غيرك على نفسك، فتنصف منها ولا تنصف لها، وعلى التفصيل: العفو، والحلم، والجود، والصبر، والرحمة، والشفقة، والتوادد، ولين الجانب، ونحو ذلك، والمذموم منها ضد ذلك: أي: ضد الأخلاق المحمودة، كالكذب والغش والقسوة ونحوها من الأخلاق الرديئة، وسيكون مدار الدروس في هذه الإجازة -إن شاء الله- عن الأخلاق الحسنة.(164/3)
أهمية الجانب الأخلاقي في منهج السلف
وموضوع الأخلاق موضوع كبير يتعلق بمنهج أهل السنة والجماعة، وليس كما يتصور البعض أنه موضوع منفصل عن المنهج أو أنه شيء أدنى منزلة أو جانبا، ً كلا! بل هو من صلب المنهج.
ومما يؤيد أهمية الجانب الأخلاقي في منهج السلف: تضمين علمائهم هذه الجوانب فيما كتبوه من أصول أهل السنة والجماعة، كـ العقيدة الواسطية والطحاوية وغيرها، ومن أمثلة ذلك: قول الإمام الصابوني في تقريره لعقيدة السلف: ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام على اختلاف الحالات، وإفشاء السلام وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين، والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمصرف، والسعي في الخيرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمدار في فعل الخيرات أجمع، واتقاء عاقبة الطمع، ويتواصون بالحق والصبر.
وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في العقيدة الواسطية لما ذكر معتقد أهل السنة والجماعة قال: ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً -وشبك بين أصابعه-) وقوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضى بِمُرِّ القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر، والخيلاء، والبغي، والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفاسفها.
إذاً: هذا هو المنهج الشامل للسلف الصالح -رحمهم الله- أهل السنة والجماعة بجانبيه العقدي والأخلاقي، وبقدر ما يحصل من النقص في أحدهما يكون النقص في الالتزام بهذا المنهج العظيم، ولذلك يمكن أن يوجد في الواقع طلبة علم جيدون من جهة العقيدة والتفسير ومصطلح الحديث وأصول الفقه واللغة العربية ونحو ذلك، لكنهم في جانب الأخلاق ليسوا بذاك، فلا شك أن في هؤلاء نقصاً بحسب ما نقص من أخلاقهم.
وموضوع الأخلاق موضوع خطير؛ لأنه يمكن أن يقدم بحسن الأخلاق منهج مسموم، كما يمكن أن يعرض الناس بسوء الخلق عن المنهج السليم.(164/4)
الخلق والدين
فإذاً -أيها الإخوة- لابد من التركيز على هذا الموضوع؛ لأنه -كما قلنا- من أهم عوامل النجاح؛ فإن كثيراً من الناس لا ينظرون إلى معتقدك ولا إلى عبادتك، وإنما ينظرون إلى خلقك أولاً، فإذا أعجبهم أخذوا عنك العقيدة والأخلاق والعبادة والعلم، وإذا لم يعجبهم تركوك وما أنت عليه من العلم، فإذاً لابد من الخلق، ويكفينا أن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] قال ابن عباس ومجاهد: لعلى دينٍ عظيم وهو دين الإسلام.
فالخلق أطلق على الدين كله، وهو ما كان يأمر به صلى الله عليه وسلم من أمر الله وينهى عنه من نهي الله، والمعنى: إنك لعلى الخلق الذي آثرك الله به في القرآن.
ولذلك جاء في الصحيحين: أن سعد بن هشام سأل عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: [كان خلقه القرآن] فقال: لقد هممت أن أقوم ولا أسأل شيئاً.
أي: لقد كفتني هذه العبارة البليغة الموجزة، حتى هممت أن أقوم ولا أسألها شيئاً.
وأصول الأخلاق مجموعة في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] فليس هناك في القرآن أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية، فهي أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، فهذه الآية أرشدت النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس، ويقبل الاعتذار، ويعفو ويتساهل مع الناس، ويترك الاستقصاء والبحث والتفتيش عن أحوالهم، وكذلك يأخذ ما عفا من أموالهم وهو الفاضل، مثل قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] قال الله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] أي: إذا سفه عليك الجاهل فلا تخاطبه بالسفه، كما قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63].
وقال أنس رضي الله عنه: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً وقال: ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي قط: أفٍ، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟] متفق عليه.
والبر: حسن الخلق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن الخلق هو الدين كله، وهو حقائق الإيمان وشرائع الإسلام، وفسر حسن الخلق بأنه البر؛ فدل على أن حسن الخلق طمأنينة النفس والقلب.(164/5)
منزلة حسن الخلق وجزاؤه في الآخرة(164/6)
ثقل الميزان والفوز بأعلى الجنان
وقد بلغ من منزلة حسن الخلق يوم القيامة أن يكون صاحبه من أثقل الناس وزناً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق) وهو أكثر ما يدخل الناس الجنة، كما قال عليه الصلاة والسلام عندما سئل عن ذلك: (تقوى الله وحسن الخلق) وميزان الكمال عند المؤمنين بكمال أخلاقهم: (إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) حديث صحيح.
وهذا الأمر هو الذي يدرك به الإنسان درجات العبادة الكبار، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) رواه أبو داود، وهو حديث صحيح، وأبشر يا صاحب حسن الخلق ببيت في أعلى الجنة، فإنه عليه الصلاة والسلام قال: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) رواه الطبراني وإسناده صحيح، فالبيت العلوي جزاءٌ لأعلى المقامات الثلاثة وهي حسن الخلق.
وصاحب الخلق الحسن أقرب الناس مجلساً من النبي عليه الصلاة والسلام يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً) رواه الترمذي، وهو حديث صحيح.
فهذا الخلق الحسن أثقل شيء في ميزان العبد؛ لأن الأعمال توزن يوم القيامة وزناً حقيقياً ترجح الكفة بها، وأثقل شيء في الميزان الخلق الحسن، وهي وصيته صلى الله عليه وسلم للمؤمن في معاملة الناس حين قال: (وخالق الناس بخلق حسن).(164/7)
من حَسُن خلقه بلغ درجة الصائم والقائم
وكذلك فإن حسن الخلق يدرك به صاحبه -كما قلنا- درجة القائم بالليل الظامئ بالهواجر وهو النهار الحار، والله تعالى يحب مكارم الأخلاق ويكره سفسافها، وسفسافها: هو حقيرها ورديئها.
وكذلك فإن أعظم نعم الله على العبد حسن الخلق، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الناس لم يعطوا شيئاً خيراً من خلق حسن) وكذلك فإن بعثته عليه الصلاة والسلام إنما هي لإتمام صالح الأخلاق، كما ذكر صلى الله عليه وسلم، وهي وصيته للصحابي لما قال له: (عليك بحسن الخلق) وهي الميزان الذي تقاس به الخيرية، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (خياركم أحاسنكم أخلاقاً) ومن كان سهلاً هيناً ليناً حرَّمه الله على النار، وهذا دليل على أن من أسباب الوقاية من النار حسن الخلق.(164/8)
كيفية علاج ما اعوجّ من الأخلاق
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتلافى المعوج من أخلاق الناس بكرمه، كما روى البخاري رحمه الله عن عبد الله بن أبي مليكة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أهديت إليه أقبية من ديباج مزررة بالذهب، فقسمها في ناس من أصحابه وعزل منها قباءً لـ مخرمة بن نوفل، فجاء ومعه المسور بن مخرمة، فقام على الباب فقال: ادعه لي، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته فأخذ قباءً منها كان عليه، فتلقاه به واستقبله بأزراره فقال: يا أبا المسور! خبأت هذا لك، يا أبا المسور!) وكان أبو المسور في خلقة شدة، فكان عليه الصلاة والسلام يتلافى بحسن خلقه شدة أخلاق الناس، والأخلاق الحسنة تغطي على الأخلاق الرديئة، ولذلك وجه النبي صلى الله عليه وسلم الأزواج إلى النظر إلى الناحية الإيجابية من أخلاق الزوجات فقال صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك -يعني: لا يكره- مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر) رواه مسلم.
ومن أسباب تجاوز الله عن العبد يوم القيامة حسن الخلق، فإن حذيفة رضي الله عنه قال: (أُتي الله بعبدٍ من عباده آتاه الله مالاً فقال: ماذا عملت في الدنيا قال: يا رب آتيتني مالاً فكنت أتجاوز على الموسر وأنظر المعسر، فقال الله: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي) فقال عقبة بن عامر الجهني وأبو مسعود الأنصاري: هكذا سمعناه من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رواه مسلم.
وحسن الخلق هو الذي لفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم إذا تقدم إليك من يخطب ابنتك فقال: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه) وفي رواية: (خلقهُ ودينه) فهذا هو الشيء الذي ينظر منه إلى الخاطب.
وحكمة الله البالغة اقتضت أن يجعل في البشر أخلاقاً عالية، وكذلك أخلاقاً سافلة، وعند المقارنة يظهر حسن هذا وقبح ذاك؛ لأن الضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تعرف الأشياء، فلولا الظلام ما عرفت فضيلة النور، ولولا أنواع البلايا ما عرفت قيمة العافية، ولولا خلق الشياطين والهوى والنفس الأمارة بالسوء لما حصلت عبودية الصبر والمجاهدة وترتب الأجر والجنة عليهما.
إذاً: عندنا محاسن الأخلاق ومساوئ الأخلاق، فإذا قلت: محاسن الأخلاق مثل: الصدق، والأمانة، والوفاء، والإيثار، والكرم، والعفة، وكظم الغيظ، والتواضع، والإخلاص، والعدل، وغير ذلك؛ فإنك إذا قارنتها بغيرها تتبين جمال هذه الأخلاق، وضدها مثل: الكذب، والنفاق، والغدر، والخيانة، والبخل، والرياء، والكبر، والعجب، والمفاخرة، والحسد، والطمع، والحقد، والظلم، وغير ذلك من الأخلاق.
وكما أن حسن الخلق منجاة ونجاح، فسوء الخلق ضياع ودمار، ولا بد إذاً من الالتزام والتمسك بهذه الأخلاق الحسنة.(164/9)
اعتناء أهل العلم وكلامهم في الأخلاق
وقد اعتنى العلماء رحمهم الله تعالى بجمع محاسن الأخلاق ومساوئ الأخلاق، وأفردوها بالمصنفات، وألف في ذلك ابن أبي الدنيا والخرائطي رحمهما الله، وكذلك عدد من العلماء.
وكما كنا قد ذكرنا سابقاً في موضوع الآداب الشرعية شيئاً من المنظومات التي نظمها بعض أهل العلم في الآداب، فإننا سنذكر -إن شاء الله- في هذا الدرس شيئاً من المنظومات التي نظمها أهل العلم في الأخلاق.(164/10)
لامية ابن الوردي
فمن أعظم المنظومات التي نظمت في الأخلاق اللامية المسماة: لامية ابن الوردي، نريد أن نلقي الضوء على شيء من أبيات هذه اللامية؛ حتى يتبين لنا مدى اعتناء العلماء رحمهم الله بجمع هذه الأخلاق، قال ابن الوردي رحمه الله تعالى:
اعتزل ذكر الأغاني والغزل وقل الفصل وجانب من هزل
ودع الذكرى لأيام الصبا فلأيام الصبا نجمٌ أفل
إن أهنا عيشة قضيتها ذهبت لذاتها والإثم حل
واترك الغادة لا تحفل بها تمس في عز وترفع وتجل
وانه عن آلة لهو أطربت وعن الأمرد مرتج الكفل
وافتكر في منتهى حسن الذي أنت تهواه تجد أمراً جلل
واهجر الخمرة إن كنت فتى كيف يسعى في جنون من عقل
واتق الله فتقوى الله ما جاورت قلب امرئ إلا وصل
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتقي الله البطل
صدق الشرع ولا تركن إلى رجل يرصد في الليل زحل
حارت الأفكار في قدرة من قد هدانا سبلنا عز وجل
أي بني اسمع وصايا جمعت حكماً خصت بها خير الملل
اطلب العلم ولا تكسل فما أبعد الخير على أهل الكسل
واحتفل للفقه في الدين ولا تشتغل عنه بمال وخول
واهجر النوم وحصله فمن يعرف المطلوب يحقر ما بذل
لا تقل قد ذهبت أربابه كل من سار على الدرب وصل
في ازدياد العلم إرغام العدا وجمال العلم إصلاح العمل
جمل المنطق بالنحو فمن يحرم الإعراب بالنطق اختبل
مات أهل الفضل لم يبق سوى مكرف أو من على الأصل اتكل
أنا لا أختار تقبيل يدٍ قطعها أجمل من تلك القبل
إن جزتني عن مديحي صرت في رقها أولا فيكفيني الخجل
ملك كسرى تغني عنه كسرةٌ وعن البحر اجتزاء بالوشل
أعذب الألفاظ قولي لك خذ وَأَمرُّ اللفظ نطقي بلعل
اعتبر نحن قسمنا بينهم تلقه حقاً وبالحق نزل
ليس ما يحوي الفتى من عزمه لا ولا ما فات يوماً بالكسل
اطرح الدنيا فمن عاداتها تخفض العالي وتعلي من سفل
عيشة الراغب في تحصيلها عيشة الجاهد فيها أو أقل
كم جهول وهو مسرٍ مكثر وعليم مات منها بالعلل
كم شجاع لم ينل فيها المنى وجبان نال غايات الأمل
أيُ كف لم تَفد مما تُفد فرماها الله منه بالشلل
لا تقل أصلي وفصلي أبداً إنما أصل الفتى ما قد حصل
قد يسود المرء من غير أبٍ وبحسن السبك قد ينفى الزغل
وكذا الورد من الشوك وما يطلع النرجس إلا من بصل
قيمة الإنسان ما يحسنه أكثر الإنسان منه أو أقل
اكتم الأمرين فقراً وغنى واكسب الفلس وحاسب من بطل
وادَّرع جداً وكداً واجتنب صحبة الحمقى وأرباب الخلل
بين تبذير وبخل رتبةٌ وكلا هذين إن دام قتل
لا تخض في سب سادات مضوا إنهم ليسوا بأهل للزلل
وتغافل عن أمور إنه لم يفز بالحمد إلا من غفل
ليس يخلو المرء من ضدٍ وإن حاول العزلة في رأس جبل
مِل عن النمام وازجره فما بلغ المكروه إلا من نقل
دار جار السَّوء بالصبر وإن لم تجد صبراً فما أحلى النُقل
جانب السلطان واحذر بطشه لا تعاند من إذا قال فعل
لا تل الحكم وإن هم سألوا رغبة فيك وخالف من عذل
إن نصف الناس أعداء لمن ولي الأحكام هذا إن عدل
فهو كالمحبوس عن لذاته وكلا كفيه في الحشر تغل
إن للنقص والاستثقال في لفظة القاضي لوعظاً ومثل
لا تواز لذة الحكم بما ذاقه الشخص إذا الشخص انعزل
فالولايات وإن طابت لمن ذاقها فالسم في ذاك العسل
نَصَبُ المنصب أوهى جلدي وعنائي من مداراة السِفل
قصِّر الآمال في الدنيا تفز فدليل العقل تقصير الأمل
غِب وزر غِباً تزد حباً فمن أكثر الترداد أقصاه الملل
خذ بحد السيف واترك غمده واعتبر فضل الفتى دون الحُلل
لا يضر الفضلَ إقلالٌ كما لا يضر الشمس إطباق الطفل
حبك الأوطان عجز ظاهرٌ فاغترب تلقَ عن الأهل بدل
فبمكث الماء يبقى آسناً وسُرى البدر به البدر اكتمل
لا يغرنك لين من فتى إن للحيات ليناً يعتزل
أنا مثل الماء سهل سائغٌ ومتى سخن آذى وقتل
أنا كالخيزور صعب كسره وهو لينٌ كيفما شئت انفتل
غير أني في زمان من يكن فيه ذا مال هو المولى الأجل
واجب عند الورى إكرامه وقليل المال فيهم يستقل
كل أهل العصر غمرٌ وأنا منهم فاترك تفاصيل الجمل(164/11)
نونية أبي الفتح البستي
ومن المنظومات الرائعة في الأخلاق: القصيدة النونية العظيمة، التي نظمها الشاعر بعنوان: الحِكَم، وهو أبو الفتح البستي رحمه الله تعالى، يقول في مطلعها:
زيادة المرء في دنياه نقصان وربحه غير محض الخير خسرانُ
وكل وجدان حظ لا ثبات له فإن معناه في التحقيق فقدانُ
يا عامراً لخراب الدهر مجتهداً بالله هل لخراب العمر عمرانُ
ويا حريصاً على الأموال تجمعها أنسيت أن سرور المال أحزانُ
زع الفؤاد عن الدنيا وزينتها فصفوها كدرٌ والوصل هجرانُ
وأرع سمعك أمثالاً أفصلها كما يفصل ياقوت ومرجانُ
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسانُ
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته أتطلب الربح فيما فيه خسرانُ
أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ
وإن أساء مسيٌ فليكن لك في عروض زلته صفحٌ وغفرانُ
وكن على الدهر معواناً لذي أمل يرجو نداك فإن الحر معوانُ
من يتقِ الله يحمد في عواقبه ويكفه شر من عزوا ومن هانوا
من كان للخير مناعاً فليس له على الحقيقة إخوان وأخدانُ
من جاد بالمال مالَ الناسُ قاطبةً إليه والمال للإنسان فتانُ
من سالم الناس يسلم من غوائلهم وعاش وهو قرير العين جذلانُ
من عاشر الناس لاقى منهم نصباً لأن سوسهم بغي وعدوانُ
ومن يفتش عن الإخوان يَقْلَهم فجل إخوان هذا العصر خوانُ
من يزرع الشر يحصد في عواقبه ندامةً ولحصد الزرع إبانُ
من استنام إلى الأشرار نام وفي قميصه منهم صلٌ وثعبانُ
كن ريق البشر إن الحر همته صحيفةٌ وعليها البشر عنوانُ
ورافق الرفق في كل الأمور فلم يندم رفيق ولم يذممه إنسانُ
ولا يغرنك حظ جره خرقٌ فالخرق هدم ورفق المرء بنيانُ
أحسن إذا كان إمكان ومقدرةٌ فلن يدوم على الإحسان إمكانُ
فالروض يزدان بالأنوار فاغمة والحر بالعدل والإحسان يزدانُ
صن حر وجهك لا تهتك غلالته فكل حر لحر الوجه صوانُ
فإن لقيت عدواً فالقه أبداً والوجه بالبشر والإشراق غضانُ
لا تودع السر وشاءً يبوح به فما رعى غنماً في الدّوِّ سرحانُ
لا تحسب الناس طبعاً واحداً فلهم غرائز لست تحصيهن ألوانُ
لا تخدشن بمطل الوجه عارفةٍ فالبر يخدشه مطل وليانُ
لا تستشر غير ندبٍ حازمٍ يقظ قد استوى فيه إسرارٌ وإعلانُ
فللتدابير فرسان إذا ركضوا فيها أبروا كما للحرب فرسانُ
وللأمور مواقيت مقدرةٌ وكل أمرٍ له حد وميزانُ
فلا تكن عجلاً في الأمر تطلبه فليس يحمد قبل النضج بحرانُ
كفى من العيش ما قد سد من عوزٍ ففيه للحر إن حققت غنيانُ
وذو القناعة راضٍ من معيشته وصاحب الحرص إن أثرى فغضبانُ
إذا جفاك خليلٌ كنت تألفه فاطلب سواه فكل الناس إخوانُ
وإن نبت بك أوطان نشأت بها فارحل فكل بلاد الله أوطانُ
كل الذنوب فإن الله يغفرها إن شيع المرء إخلاص وإيمانُ
وكل كسر فإن الدِّين يجبره وما لكسر قناة الدين جبرانُ
خذها سوائر أمثالٍ مهذبةٍ فيها لمن يبتغي التبيان تبيانُ
ما ضر حسانها والطبع صائغها إن لم يصغها قريع الشعر حسَّانُ(164/12)
كلام ابن القيم في تهذيب الأخلاق
وكما قلنا؛ فإن العلماء رحمهم الله اهتموا بقضية جمع محاسن الأخلاق، وكذلك اهتموا بجمع مساوئ الأخلاق للتحذير منها، واهتموا كذلك بالكلام عن حقيقة الخلق وكيف تعالج الأخلاق الرديئة، وكيف يتخلص الإنسان من الأخلاق الرديئة، وهناك كلام نفيس ذكره أهل العلم في هذه المسألة.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في مسألة التخلص من الأخلاق الرديئة: اعلم أن أصعب ما على الطبيعة الإنسانية تغيير الأخلاق التي طبعت النفوس عليها، وأصحاب الرياضات الصعبة والمجاهدات الشاقة إنما عملوا عليها ولم يظفر أكثرهم بتبديلها ثم قال: ونقدم مثلاً: نهر جارٍ في صببه ومنحدره، ومنتهٍ إلى تغريق أرض وعمران ودور، وأصحابه يعلمون أنه لا ينتهي هذا النهر حتى يخرب دورهم ويتلف أراضيهم، فانقسموا ثلاث فرق: فرقةٌ صرفت قواها وقوى أعمالها إلى سَكْره وحبسه وإيقافه، وقالوا: أحسن شيء أن نقفل النهر ونغلقه من أساسه، فلم تصنع هذه الفرقة كبير أمرٍ، فإنه يوشك أن يجتمع ثم يحمل على السكر الذي وضعوه للإغلاق، فيكون إفساده وتخريبه أعظم.
والفرقة الثانية: رأت هذه الحالة وعلمت أنه لا يغني عنها شيئاً، فقالت: لا خلاص من محذوره إلا من قطعه من أصل الينبوع، فرامت قطعه من أصله، فتعذر ذلك غاية التعذر، وأبت الطبيعة النهرية عليهم ذلك أشد الإباء، فهم دائماً في قطع الينبوع، وكلما سدوه من موضع نبع من موضع، فاشتغل هؤلاء بشأن هذا النهر عن الزرع والعمارة وغرس الأشجار، فإذاً لا الإغلاق نفع ولا سده من أصله نفع.
فجاءت فرقةٌ ثالثة خالفت رأي الفريقين، وعلموا أنهم قد ضاع عليهم كثير من مصالحهم؛ فأخذوا في صرف ذلك النهر عن مجراه المنتهي إلى العمران، فصرفوه إلى موضع ينتفعون بوصوله إليه ولا يتضررون، فصرفوه إلى أرض قابلةٍ للنبات وسقوها به.
فإذا تبين هذا المثل؛ فالله سبحانه قد اقتضت حكمته أن ركَّب الإنسان على طبيعةٍ محمولة على قوتين: غضبية وشهوانية، وهاتان القوتان هما الحاملتان لأخلاق الناس وصفاتها.
وعلاجها: إما بتر الخلق من أصله وهذا غير ممكن، والحل هو تحويل هذا الخلق السيئ إلى مجرى خير، فلو كان عند الإنسان حسد -مثلاً- فليصرفه في المنافسة على الخير (لا حسد إلا في اثنتين) صاحب القرآن وصاحب المال الذي ينفقه في الخير ويهلكه في الخير، ويحرص على التنافس مع أهل الخير كما قال الله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] ولو كان الإنسان فيه خيلاء فليختل على العدو في المعركة؛ لأن هذا النوع من الخيلاء مسموح به، وأيضاً لو أن إنساناً يعاني من الكذب، فإنه يصرفه إلى الكذب على العدو، والكذب للإصلاح بين المتخاصمين، وكذلك ما يكون بين الزوجين، كأن يقول: ما ذقت ألذ من هذا الطبخ! وهو قد ذاق ألذ منه، فإن هذا مسموح به بين الزوجين.
فإذاً: الإنسان الذي يريد سد النهر فإن الطبيعة النهرية تأبى ذلك، فأفضل حل هو أن يغير مجرى الخلق من الاتجاه السيئ إلى الاتجاه الحسن، وأن يروض نفسه، ولاشك أن الجبلة قابلة للتغيير، ولا يمكن أن نقول: إن الإنسان لا يمكنه التغيير، بل إنه يمكنه ذلك قطعاً، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتصبر يصبره الله) فمعلوم أن الحلم والصبر من الأخلاق، فلم يقل: إذا لم يكن عندك حلم فلن تكون حليماً أبداً، وإذا لم يكن عندك صبر فلن تصبر أبداً، وإنما قال: (والحلم بالتحلم) أي: إذا تكلفت الحلم حتى تتعود عليه صار ذلك طبيعةً لك وسجية، وكذلك الصبر إذا تصبرت فستصبح صبوراً.(164/13)
رءوس الأخلاق الحسنة
ولنعلم -أيها الإخوة- أن حسن الخلق يقوم على أربعة أركان، أو رءوس الأخلاق أربعة: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل.
فالصبر يحمل على الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى، والعفة تجنب الإنسان الرذائل والقبائح، والشجاعة تحمل على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق، والعدل الذي يحمل على الاعتدال والتوسط.
هذه الأخلاق الفاضلة الأربعة هي رءوس الأخلاق، كما أن الأخلاق السافلة مبناها على أربعة أخلاق: الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب.
فالجهل يري الإنسان الحسن قبيحاً، والظلم يحمله على وضع الشيء في غير موضعه، والشهوة تحمله على الحرص والشح والبخل والرذائل والفواحش والدناءات، والغضب يولد الكبر والحقد والحسد والعدوان والسفه، ولذلك لابد من مراقبة هذه الأخلاق الدنيئة؛ حتى يتخلص الإنسان منها ولا يقع فيها؛ لأننا إذا عرفنا الأصل عرفنا كيف نتعامل.(164/14)
اكتساب الأخلاق الحسنة
ولنعلم -أيها الإخوة- أن هذه الأخلاق التي سنتحدث عنها -إن شاء الله- بالتفصيل يمكن أن تكتسب، وليست أموراً غير قابله للاكتساب، لكن منها ما هو جبلي ومنها ما هو كسبي، فالجبلي: أن الله جبل عليه من شاء من خلقه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي: (إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة) والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله أن يكسبه الأخلاق الحسنة كما كان يقول في دعاء الاستفتاح: (اللهم اهدني إلى أحسن الأخلاق لا يهدني لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت).
وكذلك فإن المجاهدة من الأمور التي تعين الإنسان على اكتساب الأخلاق الحسنة، وكذلك فإننا نتوقع أن التدرج سيكون نافعاً في عملية تغيير الأخلاق؛ لأن من الصعب على الإنسان أن يقفز قفزة واحدة من خلق سيء إلى خلق حسن.
وكذلك من الأمور المهمة -وهذه النقطة تعيننا في مسألة ترك المثاليات-: أن بعض الناس يظن أنه يمكنه بسهولة أن يكتسب الخلق، والحقيقة أن القضية تحتاج إلى مجاهدة، والمجاهدة تبنى على المحاسبة، ويحتاج الإنسان إلى إخوان يوجهونه ويبينون له، وإلاّ فكيف سيكتشف عيب نفسه إذا لم يكن حوله من يقول له: فيك خلق سيء ويحتاج إلى تقويم، فأمر حسن أن يكون حول الإنسان من يرشده وينصحه.
وكذلك من الأمور المهمة في اكتساب الأخلاق الحسنة: أن يتطلع الإنسان إلى المعالي ويرفع نفسه إليها؛ لأن الله يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها.
كذلك الإبدال: فإن الإنسان إذا استقام فإن البخل يتحول إلى كرم، والدياثة تتحول إلى غيرة، والكبر يتحول إلى تواضع، والوقاحة تتحول إلى حياء، وهذا مجرب عند بعض الذين يهديهم الله سبحانه وتعالى، فتتغير أخلاقهم فعلاً، فالهداية منبع التغير في الأخلاق.
ثم إن قراءة سير الصالحين من الأنبياء والعلماء الذين هم القدوة الحسنة خير معين على اكتساب الأخلاق الحسنة، فهذا الإمام أبو إسحاق الشيرازي -رحمه الله- يقول عنه الذهبي: الشيخ الإمام القدوة المجتهد، شيخ الإسلام أبو إسحاق الشيرازي، قال السمعاني: هو إمام الشافعية ومدرس النظامية وشيخ العصر، جاءته الدنيا صاغرة فأباها، واقتصر على خشونة العيش أيام حياته، كان زاهداً ورعاً متواضعاً طريفاً كريماً جواداً، طلق الوجه، دائم البشر، مليح المحاورة، وهذا الذي أكسبه محبة الناس وإقبال الطلاب عليه، ومن أمثلة ما حدث له مع بعضهم: قال خطيب الموصل: حدثني أبي قال: توجهت من الموصل سنة أربعمائة وتسعة وخمسين إلى أبي إسحاق، فلما حضرت عنده رحب بي وقال: من أين أنت؟ فقلت: من الموصل.
قال: مرحباً! أنت بلديي -أي: أنه هو وإياه من بلد واحد- قلت: يا سيدنا! أنت من فيروز آباد فكيف تقول لي: أنت بلديي؟! فقال: أما جمعتنا سفينة نوح؟! فشاهدت من حسن أخلاقه ولطافته وزهده ما حبب إلي لزومه، فصحبته إلى أن مات.
إذاً: مصاحبة أصحاب الأخلاق الحسنة يحمل الإنسان فعلاً على أن يتخلق بهذه الأخلاق الحسنة.
وقراءة كتب الترغيب والترهيب لبعض الأحاديث والآيات والنصوص ترغب في أخلاق حسنة، وبعضها ترهب من أخلاق سيئة، مثلاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضىً يوم القيامة) فمثل هذه النصوص تأمُّلها مهم جداً في اكتساب الأخلاق الحسنة، ولاشك أن مشوار التربية الذي يقطعه الإنسان في عمره في النتيجة النهائية هو الذي يصوغ أخلاقهم، والذي يجعلها تتحول إلى الأخلاق الحسنة.
كانت هذه مقدمة عن الأخلاق، وتعريف الأخلاق وأهميتها.
والحمد لله رب العالمين.(164/15)
وتلك الأيام نداولها بين الناس [1]
معرفة صفات الله من الأمور التي تصحح تصورات المسلمين، ومن ثمَّ أعمالهم، فالله مسيطر على الكون، وتداول الدول من سننه التي لا تتبدل.
وفي هذه المادة بيان لتداول الدول، وتدليل على ذلك، وبيان للفتوحات العظيمة في آخر خلافة إسلامية (الدولة العثمانية) مع ذكر بعض أضرار الهزيمة النفسية التي يعيشها المسلمون اليوم.(165/1)
أهمية معرفة صفات الله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة! سبق وأن ذكرنا في مرةٍ ماضية ما لتوحيد الأسماء والصفات من أهمية بالغة في حياة المسلم الذي يريد أن يسير إلى ربه عز وجل، سيراً حثيثاً مطرداً على ضوء من الكتاب والسنة، توحيد الأسماء والصفات أيها الإخوة أحد أنواع التوحيد الثلاثة التي ذكرها علماء الإسلام، وقسموها ليتضح المعنى ويتضح المقصود من أسماء الله عز وجل وصفاته التي طالما جهلها المسلمون في كثير من الأزمان.
واعلموا يا إخواني بأن معرفة صفات الله عز وجل من الأمور التي تصحح تصورات المسلمين ومن ثم أعمالهم، فمثلاً إذا نظرنا اليوم في حال المسلمين والهزائم المتكررة التي يعيشونها، والتقهقر الذي وصلوا إليه، واستعداء الشرق والغرب عليهم من كل جانب وتسلط الكفار على رقاب المسلمين حتى لم يعد لهم حول ولا قوة ولا طول، ولا تحكم في الأمور، ولا قيادة يسيرون خلفها كما كانت الخلافة الإسلامية في العصور الماضية، وهذا الظلام الحالك الذي يلف بلاد المسلمين يسبب نوعاً من اليأس والقنوط، ولا تلبث حركة تقوم في بلاد المسلمين إلا وتنطفئ، ولا جهد إلا وينتهي بالفشل، وفي وسط هذه الهزيمة النفسية قبل الهزيمة العسكرية التي يعيشها المسلمون تظهر الحاجة ملحةً لفهم صفات الله عز وجل وأسمائه، لأن فهم هذه الصفات أيها الإخوة يزيل هذه الظلمة الحالكة ويبرر ما وصل إليه المسلمون، ومعرفة أقدار الله الكونية والشرعية، ومعرفة سنن الله عز وجل التي يسير بها الكون والتي لا تتخلف، أيضاً من الأمور المساعدة على فهم حال المسلمين.
أيها الإخوة: هذا الفشل وهذه الهزيمة التي يعيشها المسلمون في أصقاع الأرض، لابد من التدبر في سببها، ولابد من تفكير في صنع الله عز وجل الذي قدر هذه الأمور، وكانت بإرادته سبحانه وتعالى، معرفة الأسماء والصفات من الأمور التي تساعد على تكوين الموازين الصحيحة، التي بواسطتها يستطيع المسلم أن يوجد له مواقف ثابتة من الأحداث الجارية في هذا العالم، فمثلاً من صفات الله عز وجل: أنه يدبر الأمر، فيقول الله تعالى في محكم تنزيله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5] فهو سبحانه وتعالى يدبر الأمور ويصرفها كما يشاء بقدر منه عز وجل لحكم يعلمها سبحانه وتعالى، تسير أمور العالم كله وفق إرادته عز وجل لا تحيد يمنة ولا يسرة عما قدره الله سبحانه وتعالى وكتبه في اللوح المحفوظ، فإذاً ليس في هذا العالم وما يحدث فيه من خير أو شر، من نصر للمسلمين أو هزيمة، من رفعة لهم أو ضعةٍ عليهم، إلا وهي حادثة بتقدير الله سبحانه وتعالى.(165/2)
من هو المسيطر الحقيقي على كل الأمور؟
ومن صفات الله عز وجل: أنه كل يوم في شأن من الشئون، قال سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] كل يوم هو في شأن، وكما قال المفسرون رحمهم الله: من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين سبحانه وتعالى {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] يرفع أقواماً ويضع آخرين.
إذاً -أيها الإخوة- من هو مالك الملك الحقيقي؟ من هو الذي يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء؟ من الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء؟ إنه الله سبحانه وتعالى.
معرفة هذه الصفات لله عز وجل من الأمور المهمة التي تجعل المسلم يعرف من هو المسيطر الحقيقي على أزِّمة الأمور ومجريات الأوضاع في العالم، إن هذه الحقيقة أيها الإخوة قد غابت عن أذهان المسلمين، أو عن أذهان كثير منهم إلا من رحم الله تعالى، فكثير من المسلمين اليوم يشعرون من خلال قراءتهم وسماعهم لإخبار العالم وما يدور فيه أن المسيطر على مجريات أمور العالم وعلى حروبه، والمسير للأحداث الجارية أناس من الشرق أو الغرب، يشعر المسلم وهو يسمع أخبار القوى في العالم، ومَن الذين عندهم الصواريخ والطائرات والقنابل بأنواعها، يشعر بأنهم هم المسيطرون على الأمور، وهم الذين يسيرون دفة العالم، يغيب عن باله في هذا الخضم الهائج من التصارعات الدولية على شئون العالم أن هناك غير البشر من يسير الأمور، ولكن الحقيقة أيها الإخوة أن الآيات تثبت لنا بشكل لا يدع مجالاً للشك مطلقاً أن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء، يصرف الأمور كيف يشاء سبحانه وتعالى، فقد يرفع الله أقواماً من الكفار ويكتب الهزيمة على المسلمين، هذا شيء من تقدير الله عز وجل.(165/3)
تبدل الأحوال من سنن الله
وقد جرت أقدار الله في عالم المسلمين أن تكون لهم الكرة مرة وعليهم مرة، يقول الله في شأن الآيات النازلة في غزوة أحد {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:139 - 140] إذاً: من الذي يجعل النصر اليوم والغلبة في هذا اليوم لقوم من الأقوام؟ ومن الذي يجعل النصر والغلبة لقوم آخرين في يوم تالٍ أو أسبوع تالٍ أو شهر تالٍ أو سنة قادمة؟ إنه الله سبحانه وتعالى.
يا إخواني! يجب أن لا تغيب عن أذهاننا هذه الحقيقة في أي حال من الأحوال، وإذا أردت أن تعرف وتتصور أكثر، فتأمل وتذكر خارطة العالم ودويلات العالم في العصور السابقة، هل بقيت الخارطة لم تتغير؟ هل بقيت الدول كما هي منذ أن خلق الله العالم إلى الآن ما تغيرت؟ هل بقيت الغلبة لقوم معينين تناسلوها جيلا عن جيل يغلبون غيرهم حتى الآن؟! كلا -أيها الإخوة- إن أحوال العالم تتغير يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر، وسنةً بعد سنة، وعقداً بعد عقد، وقرناً بعد قرن من الزمان، والله سبحانه وتعالى بحكمته عز وجل وعلمه وقدرته وإرادته هو الذي يغير هذه الأمور {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] نزلت هذه الآية في معركة أحد، وكان المسلمون قد انتصروا قبلها في غزوة بدر انتصاراً مبيناً، فرقاناً بين الحق والباطل، وبعد ذلك في معركة أحد انهزم المسلمون وقتل منهم سبعون من خيارهم، وحصلت هزيمة عظيمة، وشج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت منه الدماء، ودفع المسلمون ثمن الهزيمة باهظاً من الأرواح والمعنويات التي فقدوها في تلك الغزوة، وأطلع النفاق رأسه واشتد النفاق بعد معركة أحد بالذات ما لم يشتد قبل ذلك، ومن هم أولئك المسلمون؟ إنهم الصفوة المختارة التي قادها أعظم نبي ظهر في البشرية على الإطلاق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، السبب طبعاً {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] الفشل، والتنازع، والمعصية، وحب الدنيا، أربعة أسباب رئيسية ذكرتها الآية، أسباب لهزيمة المسلمين في معركة أحد، قبل فترة كانوا منتصرين، وبعد فترة أصبحوا منهزمين، وبعدها انتصروا في الأحزاب، وبعدها جاءت حنين، فانهزموا في البداية وانتصروا بعدها، ثم توالت انتصارات المسلمين تفتح بلاد العالم شرقاً وغرباً.(165/4)
معاناة المسلمين من الغزو التتري
ثم حصلت نكسات أخرى، فمن هذه النكسات التي حصلت مثلاً: ما حصل للمسلمين عندما غزا التتر الكفرة بلاد العالم، فاجتاحوها من الشرق إلى الغرب، قال ابن الأثير رحمه الله وهو يروي حوادث التتر: هذا فصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله آدم وإلى الآن لم يبتل بمثلها لكان صادقاً، ولعل الخلائق من هول الأشياء التي عرفها هذا المؤرخ المسلم ابن الأثير رحمه الله, يقول معبراً: ولعل الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الأجيال إلا يأجوج ومأجوج، ما هي هذه الحادثة؟ ما هي أطراف ما حصل؟ يقول ابن كثير رحمه الله في حوادث سنة (656هـ) يقول عن التتر: قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة داخل بطون أمهاتها، وفي بغداد لما اجتاحها التتر وكانت حاضرة العالم الإسلامي ومقر الخلافة الإسلامية، كان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب، فيفتحها التتر بالنار ثم يدخلون عليهم، فيهرب المسلمون إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطح حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، ميازيب البيوت التي تكون في أعالي البيوت، والتي إذا نزل المطر تدفق منها الماء إلى الأسفل، فبدلاً من ماء المطر جرت دماء المسلمين، ووضع السيف في بغداد أربعين يوماً، فتراوحت التقديرات في قتلى المسلمين خلال هذه الأربعين بين مليون نفس من المسلمين إلى مليونين في تلك الأربعين يوماً فقط، والقتل كان في الطرقات، والقتلى كأنهم التلال؛ تلال من القتلى، وأنتنت الجيف وتغير الهواء، فحصل بسبب ذلك وباءٌ شديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، ولما رحل التتر عن بغداد، خرج من كان تحت الأرض -تحت الأرض من الناس المختبئين- الذين اختفوا داخل الأقبية وحتى وفي المقابر خرجوا كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً، فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه.
وساق ابن كثير في حوادث سنة (717 هـ) قال: لحق ستون فارساً من التتر قافلةً فيها أكثر من ألف من المسلمين، فمالوا عليهم فقتلوهم عن آخرهم، فقتل من تجار المسلمين في تلك القافلة ستمائة، ومن عامتهم ثلاثمائة، ولم يبق منهم سوى الصبيان وعددهم سبعون صبياً، فقال هؤلاء التتر: من يقتل هؤلاء؟ فقال واحد منهم: أنا بشرط أن تعطوني مالاً زائداً من الغنيمة، فقتلهم كلهم عن آخرهم سبعين صبياً وطفلاً، وردمت بهم خمس من الصهاريج الضخمة حتى امتلأت رحمهم الله، ولم يسلم من الجميع إلا رجل واحد عاش ليروي هول المذبحة.(165/5)
انتصار الروم السريع بعد هزيمتهم الفادحة
أيها الإخوة: رفع الدول وخفض الدول ونصر الناس وهزيمة الناس بيد الله عز وجل فقط، لا يملكها أحد من الشرق أو الغرب ((وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)) [آل عمران:140] وأحياناً تكون الفترة بين نصر دولة وهزيمتها صغيرة جداً لدرجة أنه قد يعيشها فرد واحد، وإليكم مثالاً على ذلك: يقول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله في مطلع سورة الروم: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:1 - 6] ذكر المفسرون رحمهم الله في شأن هذه الآية أن المسلمين لما كانوا مستضعفين في مكة قبل الهجرة كان الفرس قد تغلبوا على الروم وقتلوا منهم خلقاً عظيماً، وقد استبشر الكفار في مكة من عبدة الأصنام بهزيمة الروم الذين كانوا أصحاب كتاب (كانوا نصارى) استبشروا بغلبة فارس عليهم، لأن الفرس كانوا عباد أوثان، وكان المسلمون يتمنون أن ينتصر الروم، لا لأنهم على حق، ولكن لأنهم أقرب إلى المسلمين من المجوس الوثنين، فقال الله سبحانه وتعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:2 - 3] وهم من بعد هزيمتهم سيغلبون في بضع سنين لا تتجاوز التسع كما هو معروف من تعريف البِضع في لغة العرب، تسع سنين تقوم الدولة مرة أخرى وقد انهزمت هزيمة كبيرة جداً إلى أقصاها، فتتغلب على من هزمها في تسع سنين، فتحدى المسلمون والكفار بعضهم بعضاً، وحدث أن تطاول الكفار على المسلمين في شأن هذه الآية، فقالوا للمسلمين: إن قرآنكم كذب وكيف يصدق إنسان أن الفرس الذين غلبوا هذه الغلبة العظيمة في بضع سنين سيغلبون، ولم تمض بضع سنين حتى غلبت الروم الفرس غلبة منكرة، وهزموهم هزيمةً عظيمة، بعد تسع سنوات وصدق الله العظيم في هذه الآية.
وقد روى ابن أبي حاتم عن العلاء بن الزبير عن أبيه قال: رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم في خمسة عشر عاماً، لأنه لما غلبت الروم فارس من الذي تغلب عليهم كلهم؟ المسلمون الذين فتحوا بلاد فارس والروم، انظروا -أيها الإخوة- تمعنوا في أحداث التاريخ كيف تنتصر دولة ثم تنهزم من الدولة التي هزمتها ثم يأتي أقوام آخرون ويهزمون الدولتين بقدر الله سبحانه وتعالى، كيف تتغير خريطة العالم في زمن وجيز جداً؟ من الذي يصرف الأمور؟! {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26] اليوم تؤتيه الناس الفلانيين {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26] وتنزع من أناس آخرين {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26] فيغلبون {وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26] فينهزمون {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] وتلك الأيام نداولها يوماً لهؤلاء ويوما لهؤلاء على قدرٍ من الله عز وجل، وهذه الهزائم والانتصارات سواءً كانت في المسلمين أو في الكفار يقول الله تعالى في شأنها: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4] من قبل الهزيمة والانتصار ومن بعد الهزيمة والانتصار الأمر لله عز وجل.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبصرنا وإياكم في دينه، وأن يرزقنا وإياكم التدبر في كتابه ومعرفة أحكامه وسننه، وأن يرسخنا على الإيمان وطريقه وصلى الله على نبينا محمد.(165/6)
ارتباط صفات الله بواقع الناس اليوم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأولين والآخرين، يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيرا، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده.
أيها الإخوة: هذه القضية التي تكلمنا عنها الآن نعود فنربط بين صفات الله عز وجل أنه يدبر الأمر، وأنه يداول الأيام بين الناس، وأنه يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، وأن له الأمر من قبل ومن بعد، هذه الحقائق القرآنية لها التصاق وثيق بأحوال المسلمين اليوم، والسبب الذي من أجله نتحدث عن هذه القضايا: أن هذه الهزائم التي يعيشها المسلمون اليوم تسبب إحباطاً في نفوسهم ويأساً من نصر الله تعالى، فيقول المسلمون اليوم: كيف يمكن أن ننتصر؟ كيف يمكن أن ننتصر وحالنا من التشتت والانقسام ما هو معروف وواضح؟! كيف يمكن أن ننتصر والشرق والغرب من الشيوعيين والرأسماليين ومن بينهما من الطبقات الكافرة يملكون من القوى والأسلحة والعتاد العسكري والعدة ما يفوق المسلمين بأضعاف كثيرة؟ بل لا يمكن أن يقارن على المستوى المادي العسكري بين قوة المسلمين وبين قوة الكفار.
كيف يمكن أن ننتصر وكل يوم تتجدد المذابح، وتتجدد الهزائم المتوالية، وتحتل أراضٍ جديدة من أراضي المسلمين، والنكسات في داخل بلاد المسلمين وخارجها حاصلة، ودائرة التخطيط على المسلمين قائمة على قدم وساق؟(165/7)
أضرار الهزيمة النفسية التي يعيشها المسلمون اليوم
إذاً: هذه الهزيمة النفسية التي يعيشها المسلمون اليوم تسبب أنواعاً كثيرةً من الأضرار منها: أولاً: أنها تفقد المسلم القدرة على إيجاد التصورات الصحيحة التي يستطيع أن يسير بها في حياته.
ثانياً: أنها تفقد المسلم القدرة على التفكير السليم، لأن من يعيش في أجواء الهزيمة -هذه نقطة مهمة أيها الإخوة- الذي يعيش في أجواء الهزيمة يفقد القدرة على الابتكار، وعلى العطاء، وعلى الإنتاج، وهذا من أسباب تخلف المسلمين اليوم، واستيرادهم لأتفه المنتجات من بلاد الكفرة، القدرة على الإنتاج بجميع أنواعه حتى في المجالات الشرعية، لذلك قل علماء المسلمين، وقل الإنتاج الحقيقي الذي له ثقل في مجال العلوم الشرعية كثيراً، وقل الدعاة والمصلحون، وانحصر الإسلام في نفوس الناس، وتشوهت الفكرة الإسلامية والعقيدة الإسلامية في نفوس كثير من المسلمين، فلم يعرفوا من القرآن إلا رسمه وكيفية كتابته، هذا إن قرءوه قراءة صحيحة، وجهلوا معانيه وما انطوى عليه من الحكم والأحكام.(165/8)
حال المسلمين أثناء الخلافة العثمانية
إذاً: هذه الهزيمة النفسية تسبب هذه الأضرار، كيف نعالج هذه الهزيمة النفسية؟ كيف نقنع الناس اليوم بأن الشرق أو الغرب لا يملك شيئاً؟ كيف نقنعهم بأن الله لو أراد شيئاً هيأ أسبابه؟ وأن الله لو أراد شيئاً فلا بد أن يكون؟ لو أراد الله أن ينتصر المسلمون غداً على الكفرة في الشرق والغرب ويعم الإسلام الأرض، لكان ذلك لأن الله أراده، إذاً -أيها الإخوة- نحن نفقد معاني أسماء الله وصفاته التي تهيئ لنا الأجواء النفسية المطمئنة التي نستطيع من خلالها أن نتحرك وأن ننتج، هذه الهزائم التي يعيشها المسلمون اليوم، هل فكرت يا أخي كيف كان المسلمون إلى عهدٍ قريب قبل بضع مئات من السنين فقط؟ إليك هذه التواريخ والأحداث التي جرت فيها: في عهد آخر خلافة قامت للمسلمين الخلافة العثمانية في عام (1683م) -يعني قبل أقل من أربعمائة سنة- فتحت جيوش المسلمين بولندا والنمسا، التي هي الآن من معاقل الكفرة ودول الكفر، قبل أربعمائة سنة تقريباً كانت جيوش الخلافة العثمانية قد دخلت داخل بولندا والنمسا وأصبحت على أسوار فيينّا عاصمة النمسا ورفع الأذان هناك.
وكان الاتحاد السوفيتي -بلاد الروس الآن- كلها تحت سيطرة الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية، بلاد القوقاز وما وراءها وبلاد تركستان التي هي من دولة روسيا الآن كلها كانت تبعاً للخلافة العثمانية وكانت بلاد المسلمين.
إلى عام (1644م) كان المغول المسلمون يحكمون الصين، انتهى حكم المسلمين للصين عام (1644م) قبل بضع من السنين فقط، ربما بعض المسلمين الآن لا يعرف أصلاً أن المسلمين قد حكموا الصين في يوم من الأيام، ولا يتصور أن الصين التي تدين اليوم بالشيوعية والإلحاد آلاف الملايين من الناس الذين فيها أو مئات الملايين كانوا يوماً من الأيام يحكمون من المسلمين.
عام (1526م) فتح المسلمون العثمانيون المجر وهنغاريا.
وفي عام (1537م) فتح المسلمون أجزاء من إيطاليا ودخلوا مدينة أترانتو الإيطالية، كانت الخلافة الإسلامية العثمانية موجودة هناك.
ووصلت جيوش المسلمين في عهد الخلافة العثمانية في عام (1543م) إلى فرنسا واحتلوا مدينة نيس وطولون في فرنسا ودخلوها وأقاموا فيها مسجداً ورفع شعار لا إله إلا الله في قلب فرنسا.
وأسبانيا التي بقيت قروناً من الزمان في أيدي المسلمين، وهذه شبه القارة الهندية استكمل المسلمون السيطرة عليها؛ بلاد عباد البقر والهندوس الآن كانت في يوم من الأيام في عام (1586م) تحكم بالإسلام.(165/9)
هل هناك نصر بعد هذه الهزيمة المعاصرة؟
إذاً: أيها الإخوة! هذه الأحداث وهذه الأشياء التي حدثت في الماضي تنبئ عن أنه بمقدور الإسلام أن ينتشر، وبمقدور المسلمين بإذن الله عز وجل أن يستولوا على ما شاءوا بإذن الله سبحانه وتعالى إذا توافرت عندهم شروط النصر، لقد حدث للمسلمين نصر وهزيمة، ونصر وهزيمة، ونصر وهزيمة، كما مر معنا قبل قليل بدر نصر وأحد هزيمة، ثم نصر متوالٍ، ثم جاء التتار فانهزم المسلمون هزيمة شديدة، ثم ظهر صلاح الدين الأيوبي وحرر أراضي المسلمين من النصارى، ثم حصلت هزائم أخرى متوالية، ثم ظهرت الخلافة العثمانية، ثم نحن نعيش الآن في عصر الهزيمة.
إذاً: يمكن أن يحدث بعد هذه الهزيمة نصر بإذن الله عز وجل، ولله الأمر من قبل ومن بعد، أعداء الإسلام يخططون ويدبرون ولا شك في هذا، وعندهم جيوش جرارة لاشك في هذا، وكل يوم تحصل هزائم وانتصارات، لكن من الذي يدبر حقيقة؟ من الذي وراء الأحداث كلها؟ من الذي فوق كل شيء ذاتاً وصفات، وله علو الذات والصفات والقهر والغلبة؟ إنه الله عز وجل، كل الأشياء التي تحدث الآن في العالم {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4] كلمات تحتوي كل شيء يدور، كل الأشياء التي تدور (لِلَّهِ الْأَمْرُ) -أيها الإخوة- احفظوا هذه الكلمات {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4] من قبل حدوث الأحداث ومن بعد حدوث الأحداث، الأمور بيد الله عز وجل، الله عز وجل يؤتي من يشاء ويمنع من يشاء، هذا مفهوم مهم جداً أن يكون مرتكزاً في نفوسنا، وإلا فليس هناك أمل أن تتحسن الأحوال مطلقاً.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم وارزقنا معرفتك ومعرفة أسمائك وصفاتك وعبادتك بها يا رب العالمين! اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه، اللهم واجعلنا من الذاكرين لك كثيراً، ومن الشاكرين لك نعمك وإحسانك يا رب العالمين! اللهم واجعلنا من جندك وأوليائك وأتباع نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم وارزقنا النصر في العقيدة، اللهم وارزقنا النصر في القوة على أعدائك يا رب العلمين! اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، والبدعة والعناد، اللهم وانشر دين المسلمين في أصقاع الأرض يا رب العالمين! اللهم وهيئ لهذه الأمة أمر رشد تُعز فيه أهل طاعتك، وتُذل فيه أهل معصيتك، اللهم واجعل يوم النصر قريباً يا رب العالمين! وصلوا على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم الذي أمركم ربكم بالصلاة عليه، وأجزل العطاء: عشر صلوات لمن صلى عليه مرةً واحدة، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
يا إخواني! إن المسلم وإن كان يعيش الآن في هزيمة، فإنه كما يقول صاحب الظلال رحمة الله تعالى عليه: فإنه ينظر إلى غالبه من علٍ، وإن كنا مغلوبين فإنا ننظر إلى أعدائنا من فوقهم، كيف؟ الله عز وجل في الآية التي قرأناها في انهزام المسلمين في أحد قال قبلها مباشرةً: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} [آل عمران:139] نحن مغلوبون؟! نعم.
نحن قد أُهِنَّا؟! نعم.
قد علا الكفار علينا؟! نعم.
يقول الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] لا تهنوا: لا تشعر بالمهانة ولا بالذلة يا أخي المسلم، بل اشعر بالعلو على الكفرة، انظر إلى من غلبك من الأعلى، لماذا؟! لأنك تستعلي عليهم بعقيدتك، العقيدة أغلى شيء تستعلي على الكفرة بالعقيدة، حتى يأتي يومٌ ينصر الله فيه الإسلام، فنحن والحمد لله عندنا هذه العقيدة الصافية النقية التي هي مصدر العز والاستعلاء في الأرض، التي إذا عملنا لها كما أراد الله، فلابد أن ننتصر: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40].
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(165/10)
وتلك الأيام نداولها بين الناس [2]
المستقبل للإسلام بلا شك، رغم محاولات أعدائه لإطفاء نوره، وفي ذلك نصوص من القرآن والسنة تستمد منها هذه الخطبة معظم مادتها، بالإضافة إلى الحديث في نزول المسيح عليه السلام، مع توضيح للخلافة الراشدة في آخر الزمان.
ومن الحقائق التي لا خلاف فيها أن هذه المبشرات بالفجر الإسلامي القريب لا تعني مطلقاً ترك العمل الإسلامي.(166/1)
الوعد الإلهي بنصر الإسلام
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخواني: تكلمنا في الخطبة الماضية عن مفهوم من المفاهيم الإسلامية المهمة التي يجب أن تترسخ في ذهن كل إنسان مسلم يعيش في هذا العصر الذي عمت فيه الفتن واختلط فيه الأمر، وأصبح المسلمون في ذلة وقلة وهوان مستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، وذلك المفهوم الذي تكلمنا فيه هو قول الله عز وجل: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] وأن لله الأمر من قبل ومن بعد، وأن الله تعالى يأذن بنصر هذا الدين فينتصر، ثم يأذن بغلبة الكفار فيغلبون، وهكذا يداول الله الأيام بين الناس، وهذه النقط مهمة أيها الإخوة حتى لا يستشري اليأس في نفوس المخلصين، وحتى يحس المسلم بنور الله عز وجل والأمل في الله تعالى، وحتى لا ييأس من روح الله، ونحن نختم هذا الموضوع في هذه الخطبة بعرضه من جهة أخرى حتى تكتمل الصورة شيئاً ما، وحتى يكتمل الإحساس من المسلمين بأن نصر الله قادم وأن المستقبل للإسلام.
أيها الإخوة: إن المستقبل للإسلام شيءٌ لاشك فيه بنصوص القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها نصوصٌ وأحاديثٌ عظيمة ينبغي للمسلم أن يقف أمام عظمتها متأملاً متفحصاً مدققاً، مشرباً في قلبه تلك المعاني القرآنية والنبوية التي تتدفق من خلالها الآمال والتطلعات نحو مستقبل إسلامي مشرق بإذن الله.
أيها الإخوة: إن لله تعالى ديناً لابد أن ينصره، وإن الله عز وجل ما أرسل رسوله ولا أنزل هذا الدين إلا ليعلو في الأرض، فقال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:33] لماذا أرسل رسوله بالهدى ودين الحق {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] ليظهر دين الإسلام على سائر الملل والنحل والأديان، وحتى يستعلي الإسلام على سائر الفرق الضالة والمذاهب الهدامة التي وضعها البشر {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] وهذه الكلمة (الدين): اسم جنس يشمل سائر الأديان التي حرفها البشر ووضعوها من عند أنفسهم {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].(166/2)
محاولات أعداء الله لإطفاء نوره
إن المشركين أيها الإخوة في كل وقت وفي كل عصر ومصر يعملون ليلاً ونهاراً، لكي يقوضوا صرح الإسلام، ولكي يضعوا من عظمة هذا الدين، ولكي يدحروا المسلمين ويردوهم على أعقابهم، يعملون بالليل والنهار، إنهم ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] ثم تكون هذه الأموال التي ينفقونها من أجل صد المسلمين عن الإسلام وبذر بذور النفاق في أراضي المسلمين، ستكون عليهم حسرةً ثم يغلبون، هكذا قال الله تعالى في القرآن.
إنهم أيها الإخوة ليلاً ونهاراً يفكرون بأشد ما أوتوا من قوة وتفكير، وينفقون ما استطاعوا من الأموال، ليصدوا الناس عن دين الله، إنهم يفعلون هذا وينشئون مساجد الضرار في العالم الإسلامي، التي تلفت أنظار المسلمين عن مساجد الله الحقيقية التي أذن الله عز وجل أن ترفع ويذكر فيها اسمه، حتى تتطلع تلك الأنظار من قبل أولئك الضعفة من المسلمين إلى تلك المنشئات التي تصرف الناس عن دين الله، وتوهمهم بأن هذا هو الدين وليس لها علاقة بالدين مطلقا، مجرد مسميات خالية من المضامين الحقيقية، مجرد أسماء خالية مما تعنيه حقيقةً.
أيها الإخوة! إن هؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32] وقال الله في آية الصف: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] عجباً لهذه الآية التي تصور حمق أولئك الناس وغفلتهم الذين يريدون أن يطفئوا نور الله الذي أنزله من السماء، بتلك الأفواه البشرية العفنة التي لا تملك مطلقاً أن تحجب الحقيقة عن ناظري كل مسلم متجرد؛ يسير في طريق الإسلام على هدىً من ربه {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:8] ويعملون من أجل ذلك ليلاً ونهاراً، وتنجح مخططاتهم في أوقات كثيرة وأماكن كثيرة، حتى يظن المسلم الذي دخله اليأس أنه لا يمكن أن تقوم للإسلام قائمة مطلقاً، وأن نور الله قد حجب، وأن المسلمين لم تعد لهم شوكة ولا منعة، وأنه ليس هناك أحد ينصر هذا الدين.
ولكن -أيها الإخوة- إذا تفحصنا وتأملنا في النصوص نجد بأن الله لابد أن يظهر نوره، ليس الظهور الذي حصل في فترة الخلفاء الراشدين، وإنما ظهورٌ سيكون بعد هذا الوقت الذي نحن فيه الآن، كما سيأتيكم من خلال تلك النصوص التي نطق بها الذي لا ينطق عن الهوى.(166/3)
مدلولات بداءة الإسلام غريباً
أيها الإخوة: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) إن الإسلام بدأ غريباً، الذي يريد أن يعرف كيف يمكن أن يظهر الإسلام على الأرض كلها وليس هناك إلا حفنة قليلة من المسلمين هي الملتزمة بشرع الله فقط، الذين يقولون: إن المسلمين اليوم ألف مليون، يكذبون على أنفسهم وعلى الناس كلهم، إننا نعرف أيها الإخوة أن كثيراً من المسلمين هم في الحقيقة مشركون من عبدة القبور، أو مرتدون عن الإسلام لا يؤدون الصلاة بالكلية مثلاً، أو يسخرون بدين الله ويشتمون ويستهزئون، فهم كفرة بالله العظيم، أو يتبعون مذاهب فكريه كافرة ضالة كـ الشيوعية والبعثية ونحوها تخرج الإنسان عن ملة الإسلام، ملايين تتبع قادة الضلال وتجري وراءهم، هؤلاء لا يمكن أن يكونوا مسلمين.
إذاً: أيها الإخوة، المسلمون الحقيقيون هم قلة، لا يمكن أن يبلغوا هذا العدد الذي يدخل فيه من يعدهم به كثيراً من الطوائف الضالة وأصحاب البدع الكافرة التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، الذي يريد أن يتصور كيف يمكن لحفنة قليلة من البشر أن تنشئ المد الإسلامي من جديد، وأن تعلي كلمة الله عز وجل كما كانت قبل ذلك، بل وأكثر منه الأرض، يتصور تلك الحقيقة العظيمة التي كانت في يوم من الأيام: (بدأ الإسلام غريبا).
يا إخواني: عندما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كم كان عدد المسلمين في الأرض؟ كم عدد الذين يحملون الفكرة الإسلامية الصحيحة ويطبقونها في واقعهم ويجاهدون في سبيلها؟ إنه رجل واحد فقط، رجل واحد فقط في تلك الأرض المظلمة بظلمات الجاهلية التي تغط في الشرك وأوحال الجاهلية، إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يوجد غيره على الدين الصحيح.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واحد، فكيف أصبح الأمر بعد بعثته بنحو اثنتين وعشرين سنة فقط؟ بعد اثنتين وعشرين سنة فقط من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو رجل واحد، تقول الروايات بأنه حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أربعة وعشرون ألفاً ومائة ألف صحابي.
وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم امتد المد الإسلامي ليكتسح أراضي كثيرة ويدخل ملايين في دين الله عز وجل، من الذي نشر الدين؟ رجل واحد فقط، واحد انبثقت عنه تلك الملايين التي دخلت في دين الله بفضل الله عز وجل، ثم التمسك بدينه والجهاد في سبيله حق الجهاد.
إذاً لا نستغرب أن يكون هناك اليوم آلاف من المسلمين الحقيقيين، سينبثق عنهم ويبزغ فجر الإسلام من جديد، كما بدأ أول مرة (إن الإسلام بدأ غريباً) غريب في الأرض، من الذي يحمله؟ واحد فقط، بدأ غريباً، ثم انتشر بعد ذلك (وسيعود غريباً كما بدأ) يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن ولا شك أيها الإخوة في هذا الزمان في عصر غربة الإسلام، عصر غربة الإسلام، وبما أنه سيعود غريباً كما بدأ، كيف بدأ؟ بدأ بالقلة، ثم انتشر، فإذا كان سيعود غريباً كما بدأ، فسيرجع قليلاً أيضاً، ثم ينتشر بعد قلته وضعفه كما حصل في المرة الأولى.
إذاً هذا الحديث الذي يفهم منه كثير من المتثبطون أن الإسلام سيندحر وأن الإسلام سيزول، هو في الحقيقة فهم خاطئ، لأن هذه الغربة التي نحن فيها الآن سيعبقها بإذن الله عز وجل مد إسلامي يكتسح الأرض كلها.(166/4)
مبشرات بالنصر اللامحدود للإسلام
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد عن أبي مرفوعاً قال عليه السلام: (بشر هذه الأمة بالسناء -وهو العلو والارتفاع- والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض) هذه الأشياء التي يبشر بها الرسول صلى الله عليه وسلم لابد أن تحصل لأنه لا ينطق عن الهوى، وكما تحقق ما قاله في الماضي من أشياء كثيرة، فلابد أن يتحقق ما يخبر عنه عليه السلام في المستقبل كما أخبر عنه عليه السلام عندما بعث.
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الطبراني عن أبي أمامة قال: قال عليه السلام: (والذي نفسي بيده لا تذهب الأيام والليالي حتى يبلغ هذا الدين مبلغ هذا النجم) حتى يبلغ هذا الدين مبلغ هذا النجم، يفسر هذا الحديث الحديث الصحيح الآخر الذي رواه الإمام أحمد ومسلم عن ثوبان رضي الله عنه أنه عليه السلام قال: (إن الله زوى لي الأرض) يعني: جمع الأرض وضمها، فرآها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ معجزة من عند الله (إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها) وإن ملك أمة الرسول صلى الله عليه وسلم سيبلغ ما جمع له منه، ما الذي جمع له منها؟ جمعت له كلها، فرآها عليه السلام شرقيها وغربيها، وملك هذه الأمة سيبلغ الشرق والغرب، أي: سيعم الإسلام الأرض كلها، هل سبق أن حصل في التاريخ الماضي أن عم الإسلام الأرض كلها فما بقي كافر واحد ولا دولة كافرة على وجه الأرض؟ حتى في عصر الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، وحتى في عصر الدولة العثمانية، هل حصل أن الإسلام اكتسح الأرض كلها لم يبق كيان كافر واحد على وجه الأرض؟ الجواب أيها الإخوة: لا، لم يحصل هذا في الماضي، ما حصل مع انتشار الإسلام في الماضي، بل كان لا يزال هناك كيانات كافرة موجودةٌ على الأرض.
إذاً: بما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإسلام سيعم الأرض كلها شرقها وغربها، فلا بد أن يحصل، فإذا ما حصل في الماضي، فإذاً ما هي النتيجة؟ لابد أن يحصل في المستقبل (وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها) يوضح هذه الأحاديث حديث ثالث، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه ابن حبان وغيره: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار) أي: كل الأرض (ليبلغن هذا الأمر -الإسلام- ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر) لا بيت حجر وعمارات شاهقة ولا بيت وبر للبدو في الصحراء، لا يترك أي بيت من أي نوع كان (إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز به الله الإسلام، وذلاً يذل به الكفر).
إذاً: سيأتي اليوم الذي يدخل الإسلام فيه كل البيوت على وجه الأرض، ولا يبقى بيت واحد إلا ودخله الإسلام.(166/5)
مبشرات ببلوغ الإسلام أماكن لم يبلغها بعد
وهذه بشارات أخرى توضح ما سبق أن ذكرناه آنفاً، في الحديث الصحيح يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب ما يقول من الأحاديث، إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً قسطنطينية أو رومية؟ يعني: هل القسطنطينية تفتح أولاً أم روما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مدينة هرقل تفتح أولاً) التي هي القسطنطينية، وقد فتحت القسطنطينية في عهد السلطان العثماني محمد الفاتح، لكن هل فتحت روما عاصمة النصارى؟ هل فتحت روما معقل الكفرة؟ لا.
لم تفتح روما حتى الآن، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر بأنها ستفتح ويخبر أن القسطنطينية ستفتح قبل روما.
إذاً: لابد أن تفتح روما كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم لابد أن يحصل هذا أيها الإخوة، المشكلة أنه لا يوجد إيمان عند الكثيرين لكي يوقنوا بما أخبر به عليه السلام، لا يوجد تصديق عند الكثيرين من المسلمين حتى يؤكدوا لأنفسهم أن ما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم حق لا بد أن يقع.
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة يقول عليه السلام: (سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب في البحر؟ قالوا: نعم يا رسول الله سمعنا بها، قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق والمحفوظ من بني إسماعيل) يعني: من مسلمي العرب سبعون ألفاً سيغزون تلك المدينة التي نصفها في البر ونصفها في البحر (فإذا جاءوها فنزلوا عند تلك المدينة- وهي محصنة بالكفار- فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم) قالوا: مجرد ما فعل هؤلاء المسلمون من صدق إيمانهم وتأييد الله لهم (قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط أحد جانبيها الذي في البحر- يسقط بيد المسلمين- ثم يقول الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر- الذي في البر- ثم يقول الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر، فيفرج لهم فيدخلونها فيغنمون) حديث صحيح.
إذاً: سيأتي اليوم الذي يؤيد الله المسلمين بمجرد الذكر (لا إله إلا الله والله أكبر) تسقط معاقل الكفرة، بمجرد الذكر بدون قتال، يلقي الله الرعب على الأعداء فينصر المسلمين، فتسقط أراضي الكفرة ومدنهم بغير قتال.(166/6)
حديث في نزول المسيح عليه السلام
وأيضاً -أيها الإخوة- نعلم بأن عيسى عليه الصلاة والسلام سينزل من السماء، عيسى عليه الصلاة والسلام سينزل من السماء، ويحكم الأرض بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى الآن عيسى عليه السلام لم يقبض الله روحه، وإنما رفعه حياً إلى السماء، وسينزله مرةً أخرى في آخر الزمان كما وردت بذلك الأحاديث التي بلغت مبلغ التواتر، يعني: رواها جماعة عن جماعة في عصورٍ مختلفة حتى دونت في كتب الحديث، أحاديث متواترة رويت في نزول عيسى عليه السلام، فمن هذه الأحاديث، يقول صلى الله عليه وسلم في شأن المسلمين لما ينزل عيسى عليه السلام: (وإمامهم يومئذ رجل صالح -إمام المسلمين يومئذ رجل صالح- فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح، إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم، فرجع ذلك الإمام إلى الخلف ليتقدم عيسى -لأن عيسى نبي- فيضع عيسى يده بين كتفيه ويدفعه إلى الأمام، ويقول له: تقدم فصل، فإنها لك أقيمت) تصوروا أيها الإخوة كرامة الله عز وجل لهذه الأمة أن يجعل واحداً منهم إماماً يأتم به عيسى عليه السلام، كرامة الله لهذه الأمة: (فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم أمامهم، فإذا انصرف قال عيسى: افتحوا الباب -لأن المسلمين في ذلك الوقت يكونون على مشارف أبواب تجمع اليهود في فلسطين - فيفتحون ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي، فإذا نظر إليه الدجال -إلى عيسى- ذاب كما يذوب الملح في الماء وينطلق هارباً، فيدركه عيسى عليه السلام عند باب لد -المدينة المعروفة الآن مدينة لد في فلسطين - بباب لد الشرقي فيقتله، ويريهم عيسى أثر الدم على حِربةٍ في يده، دلالةً على أنه قتله قبل أن يتلاشى، فيهزم الله اليهود، فلا يبقى شيء مما خلقه الله عز وجل يتواقى به يهودي -يعني: يستتر- إلا أنطق الله ذلك الشيء؛ لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة إلا الغرقدة، فإنها من شجرهم) نوع من الشجر لا ينطق بما وراءه؛ لأنه من شجر اليهود، ولذلك أيها الإخوة جاءت الأخبار بأنهم يكثرون من زراعتها الآن في أرض فلسطين، يعرفون عن الإسلام أكثر مما يعرفه بعض المسلمين: (إلا قال هذا الشيء: يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، فيكون عيسى ابن مريم في أمتي حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً، يدق الصليب ويذبح الخنزير ويضع الجزية -لا تطبق الجزية لماذا لا تطبق الجزية؟ لأنه لا يكون هناك يهود أو نصارى تؤخذ منهم الجزية، كلهم يدخلون في الإسلام- ويترك الصدقة فلا يسعى على شاة ولا بعير، وترفع الشحناء والتباغض وتنزع حمة كل ذات حمة -يعني: كل حيوان فيه سم ينزع هذا السم منه- حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا تضره، وتضر الوليدة الأسد فلا يضرها) وفي رواية صحيحة (ويطأ الرجل على الحية فلا تضره، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها الذي يحرسها، وتملأ الأرض من السلم -السلام- والإسلام كما يملأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة، فلا يعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها، وتكون الأرض كفاتور الفضة -يعني: مثل الخوان عليه أصناف المطعومات والمشروبات- وتنبت الأرض نباتها بعهد آدم حتى يجتمع النفر على القطف من العنب -على العنقود من العنب- فيشبعهم، ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم ويستظلون بقشرتها) كبر الرمانة من البركة التي حصلت في الأرض بتطبيق شرع الله.
أيها الإخوة: لو طبق شرع الله في الأرض كاملاً يمكن للناس أن يشبعوا برمانة واحدة ويستظلون بقشرتها كما سيحدث (ويكون الفرس بالدريهمات) بالدراهم البسيطة يشترى الفرس، حديث صحيح رواه ابن ماجة وابن خزيمة.(166/7)
بركة آخر الزمان والخلافة الراشدة فيه
وفي حديث آخر صحيح (يؤذن للسماء فتمطر، ويؤذن للأرض بالنبات حتى لو بذرت حبك على الصفا لنبت) لو وضعت الحب (البذر) على الصخر لنبت.
إذاً تكون هناك بركة عظيمة، وقد يتساءل متسائل، فيقول: هل هذا النصر بالضروري أن يحدث في عهد عيسى أم يمكن أن يحدث قبل ذلك؟ الجواب أيها الإخوة: يمكن أن يحدث قبل ذلك، يمكن أن تحدث انتصارات كثيرة قبل ذلك، خصوصاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر في الحديث الصحيح، قال: (لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة تجتمع عليهم الأمة كلهم من قريش، ثم يكون الهرج بعد ذلك) كم مضى من الخلفاء؟ لم يمض هذا العدد، مضى أقل من اثنى عشر.
إذاًَ: البقية ستأتي وستظهر لا محالة وستقوم الخلافة الإسلامية في الأرض، مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون -بعد النبوة- خلافة على منهاج النبوة -الخلافة الراشدة- فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه ما شاء الله أن يرفعه، ثم تكون ملكاً جبرياً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعه إذا ما شاء الله أن يرفعه، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت).
إذاً: هذه الخلافة لابد أن تأتي، ولابد للنصر أن يأتي بإذن الله أيها الإخوة، لكن النصر لا يأتي هكذا، لا ينام المسلمون اليوم يقومون غداً صباحاً فيرون خليفة المسلمين قد ظهر والإسلام قد انتشر في الأرض، لا.
نسأل الله أن يبصرنا بدينه وأن يرزقنا الإخلاص والاستقامة وصلى الله على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد.(166/8)
المبشرات لا تعني ترك العمل للدين
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المؤمنين، وأشهد أن محمداً رسول الله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة.
أيها الإخوة: كلامنا في الخطبة الماضية وفي هذه الخطبة كان القصد منه إحياء النفوس بهذه المبشرات الإسلامية التي نطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الآيات في القرآن العظيم، هذه التي تبعث الأمل ثانيةً في تلك النفوس التي ملئت يأساً وحسرةً حتى كادت أن تخمد جذوة الإسلام في نفوس المسلمين، الغرض من هذا الكلام بعث الأمل في تلك النفوس اليائسة، التي يئست مع مشاهدة الواقع الحاضر، ومع المعيشة في الواقع الحاضر أن يرجع الإسلام ثانيةً، هذا هو القصد، لكن قد يؤدي هذا الكلام إلى محذورٍ آخر، وهو أن يتواكل كثير من المسلمين ويعتمدون على النصر الذي سيأتي من عند الله، والخلافة التي ستكون، فيتركون العمل للإسلام، ويقول كثير من أولئك الذين ما فقهوا الدين، يقولون: ما دام الله سينصر الدين فلماذا نعمل نحن؟! بما أن الله سينصر الدين بالتأكيد إذاً لا داعي للعمل! نجري وراء الدنيا والشهوات والأهواء وللبيت رب يحميه.
كلا أيها الإخوة ما كان هذا أبداً فهماً صحيحاً للإسلام في الماضي، وليس فهماً صحيحاً مطلقاً لدين الله عز وجل، لأن الله يقول: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] وقل اعملوا في سبيل الله، اعملوا من أجل رفع راية الإسلام، اعملوا من أجل إعزاز دين الله، اعملوا من أجل نشر منهج الله في الأرض، اعملوا من أجل الدعوة إلى الله، اعملوا من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، {وَقُلِ اعْمَلُوا} [التوبة:105] أمر عام يشمل جميع أنواع العمل الصالح {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة:105] ما قال الله عز وجل للمسلمين ناموا وأنا أنصر الدين، لا.
وهذا الفهم أيها الإخوة هو الذي فهمه صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، الذين يقول شاعرهم يوم الخندق وهم يرون الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل:
لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل
لئن قعدنا والنبي يعمل، فهذا عمل ضال لا يمكن أن يكون، فقاموا مع الرسول صلى الله عليه وسلم يعملون ويحفرون بأصابعهم الخندق، يعملون عملاً من أجل إيجاد وسيلة لصد المشركين، وبالإضافة إلى ذلك أيها الإخوة قد يتصور البعض بأن عملنا للإسلام بدافع أننا إذا لم نعمل يفوتنا الأجر، يعني: إذا لم نعمل فات علينا أجر عظيم ولذلك نعمل، هذا صحيح، لكن ليس هذا فقط كل شيء، إننا نعمل للإسلام أيها الإخوة؛ لأن الواجب علينا أن نعمل، ولأننا إذا لم نعمل أثمنا كلنا، ولأن الله يقول: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] إذا نبذنا العمل ونمنا وجلسنا نجري الآن وراء الدنيا والماديات والشهوات ونشبع رغبات نفوسنا، ماذا سيحدث؟ الله عز وجل لابد أن ينصر الدين، والله عز وجل لا ينصر الدين بملائكة ينزلون من السماء يقيمون حكم الله في الأرض، لا، الله عز وجل ينصر الدين بأسباب، ينصر الدين بأناس ينصرون هذا الدين، يبعثهم الله عز وجل من المجددين والعلماء والمجاهدين أفراد الطائفة المنصورة.
إذاً: أيها الإخوة لله سنن في الأرض تعمل، لابد أن تعمل هذه السنن ومن سننه أن يجعل النصر لعباده، وأن يجعل قيام الإسلام على أيدي مسلمين مخلصين {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] الذي يرتد عن الدين ويترك العمل ما الذي سيحدث؟ سيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه؛ أجيال أخرى تنشأ {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].
إذاً أيها الإخوة! إذا ما عملنا نحن الآن: أولاً: يفوتنا الأجر.
ثانياً: علينا الإثم.
ثالثاً: سيأتي الله بقوم من بعدنا يعملون فينصر الله بهم الدين، فلماذا نتخاذل ونقعد وننتظر أن ينتصر الإسلام ونحن مكتوفو الأيدي؟ لا أيها الإخوة! يجب أن نكون من أفراد الطائفة المنصورة التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن وجودها إلى قيام الساعة، ما هي الطائفة المنصورة؟ هذا حديث أدرجت فيه الصفات من الأحاديث التي وردت، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق) مهما كان الأمر، ومهما ضعف الإسلام، ومهما تقهقر المسلمون ومهما طم العدو وعلا على بلاد المسلمين (لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق) وفي رواية: (قائمةٌ بأمر الله) وفي رواية: (قوامة على أمر الله) وفي رواية: (منصورين) وفي رواية: (لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم) وفي رواية: (يقاتلون على الحق ظاهرين حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال).
هذه الطائفة المنصورة موجودة في الأرض وهذه صفاتها على الحق، منصورة بالحجة قبل أن تكون منصورة بالسيف، تعرف العقيدة وتعرف التوحيد، مستقيمة على أمر الله، لا يضرها من خذلها ولا من خالفها من الشرق والغرب.
يجب أن نكون من أفراد هذه الطائفة المنصورة التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يقيم الله الإسلام، سواء رأيناه بأعيننا أو تأخر بعد موتنا، فلا يهم، المهم أن ننقذ أنفسنا من النار، هذا هو المهم أيها الإخوة، أن ننقذ أنفسنا من النار، سواءً رأينا النتيجة أو لم نرها، وعدم رؤية النتيجة ليس باعثاً على اليأس، لأن المسألة إذا لم تتحقق في هذا الجيل، فستتحقق في الأجيال القادمة بإذن الله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، اللهم واجعلنا من جندك وأعوانك قائمين على الحق، عاملين بالحق ومجاهدين من أجل الحق، اللهم واجعلنا من أتباع رسولك صلى الله عليه وسلم، وارزقنا الإخلاص والاستقامة في الأقوال والأعمال، اللهم واجعلنا من أفراد الطائفة المنصورة من أهل السنة والجماعة الذين ينصرون الحق وبه يعدلون، اللهم طهر أعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وقلوبنا من النفاق، اللهم واجعل بيوتنا بيوتاً إسلامية، اللهم وارزقنا وأنت خير الرازقين، وعافنا في أنفسنا وفي أبداننا وفي أموالنا وفي أولادنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا يا أرحم الراحمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون.(166/9)
وصايا من الله للدعاة
لقد وصى الله تعالى الناس عموماً والدعاة خصوصاً بواجب الدعوة إليه، وحثهم على استشعار المسئولية ببذل وسعهم في إيجاد الأساليب الناجحة للدعوة، ودلهم على اتباع أساليب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في ذلك، سواءً كان بالكلام أو بالقدوة والفعال.(167/1)
توجيهات للدعاة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
الجواب
=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
الجواب
=6000493> يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
الجواب
=6003602> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
عباد الله! لقد أُنزل علينا القرآن الكريم لنتدبر ما فيه ونعمل بمقتضاه، وقد جاءت فيه توجيهات كثيرة في شتى فروع الحياة وأوديتها، وجاءت فيه مواعظ من ربنا لجلاء صدأ قلوبنا، وحمل نفوسنا على السير في الصراط المستقيم، وعدم الإعوجاج، ومن هذه التوجيهات: التوجيهات للدعاة إلى الله تعالى، والتوجيه للناس للقيام بواجب الدعوة إلى الله، وكلنا يجب أن نكون دعاة إلى الله.
عباد الله: لقد فرطنا في هذا الواجب الشرعي واجب الدعوة إلى الله تعالى، وركنت نفوسنا إلى الدنيا، واشتغلنا بالملذات واتباع الشهوات، وكان الإعراض من الكثيرين عن العمل بالإسلام؛ فضلاً عن الدعوة إليه، والكل واجبات سنسأل عنها يوم القيامة: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44] فتعالوا بنا نستعرض شيئاً مما ذكره ربنا عن الدعوة إلى الله، والأمر بها، وأساليبها، وكيفية القيام بها، وتحمل المسئولية واستشعار الواجب في هذا الموضوع الجليل، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164].
الاستقامة نصابها العلم والبصيرة، وزكاتها الدعوة والموعظة، والله أوجب علينا بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران:104] أي: لتكونوا أنتم أمة، صفتها: أنهم يدعون إلى الخير، وعلى فرض أن هذا أمرٌ لبعض الأمة بالدعوة؛ فإنه واجب وفرض على الكفاية لا يسقط إلا في حال تحقق الكفاية، فهل تحققت الكفاية في عصرنا؟! وهل وجد من الدعاة من يغطي الحال؟! كلا.
أيها المسلمون! لقد صار واجباً علينا جميعاً أن نكون دعاة إلى الله تعالى، وينبغي أن يتحمل المسلم ما يلاقي في سبيل تبليغ دعوة ربه، وأن يكون الدعاة إلى الله عدتهم الصبر، وعتادهم اليقين بنصر الله وبلوغ أمره (وليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار).
الداعي إلى الله تعالى يحزن ويتحسر لمرأى جموع البشر تتخبط في دياجير الظلام؛ فيبادر ليجعل نفسه فتيلاً مشتعلاً في هذا الليل البهيم، والظلمة المدلهمة؛ راجياً الأجر من الله تعالى أولاً، وتنبيهاً للسائرين وإيقاظاً للنائمين ثانياً، ولذلك لما قال بعض بني إسرائيل للدعاة إلى الله منهم: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} [الأعراف:164] أي: لا فائدة من دعوتهم لأنهم مصرون على الباطل والإثم، فلم تشتغلون بدعوتهم؟ فكان جواب الدعاة إلى الله: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف:164] أي: إقامة الحجة والقيام بالأمر وتنفيذ التكليف، ثم: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164] أي: لعلهم يهتدون، وحتى لا يفقد الداعية بصيص الأمل، ولا يفقد احتمال الهداية، ولا يفقد أن يوجد من المدعوين من يقبل الدعوة ولو بعد حين، وكلمةٌ على كلمة وبعد كلمة يحصل الأثر بإذن الله، والداعية في عمله لا يتفضل على الناس؛ بل يقوم بواجبه مشفقاً عليهم: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164].
أيها المسلمون! إن الدعوة إلى الله تحتاج إلى رجال يتسللون إلى قلوب الناس، ويأسرونهم بحسن سمتهم وخلقهم، ويعرفونهم بالله، ويذكرونهم بأيام الله، ويعينونهم على أنفسهم وعلى الشيطان.
إن تسهيل طريق الخير أمام الناس، وإزالة العوائق الموهومة، وتأليف قلوبهم، وإشعارهم بمحبة الخير لهم، وأن الداعي بعيد في دعوته لهم عن المصالح الشخصية أمرٌ مهم جداً، قال الله عز وجل: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109] وعليه أن يفعل الأسباب المفضية والمؤدية إلى هداية الناس، ودلالتهم، ويقوم بالواجب بغير يأس ولا قنوط، فقد قام نوح بواجب الدعوة ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً، وما آمن معه إلا قليل، لكن ذلك لم يثنه عن الدعوة إلى الله تعالى.
أيها المسلمون: إننا شهداء الله في الأرض، يجب أن نقوم بالحق، وقد قال الله تعالى -أيضاً- مبيناً المسئولية التي ينبغي على الدعاة إلى الله أن يقوموا بها، ولا يجعلوا لها فضول الأوقات، وإنما تكون لها الأوقات كلها، قال الله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] أي: أن أخذ الكتاب يحتاج إلى مسئولية وشدة عزيمة وقوة شكيمة, ولا يطيق ذلك إلا من اختاره الله تعالى لأداء هذه المهمة.
أيها المسلمون: إن كثيراً من الناس لا يأخذون الكتاب أصلاً، وأعداد يأخذون بعض ما في الكتاب ويكفرون ببعض، وبعضهم يأخذه على ضعفٍ وتراخٍ، والله يقول: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [الأعراف:171] فالمسألة تحتاج إلى تصميم وعزيمة، والمسالة تحتاج إلى حسن توجه وإلى نيةٍ خالصة حتى تحصل النتيجة.(167/2)
مع أساليب الدعوة إلى الله عند الأنبياء
عباد الله: إن ربنا تعالى ذكر لنا أساليب متنوعة في دعوة الأقرباء والبعداء، ودعوة الأقوام عموماً، ولنأخذ أمثلة على دعوة الأقرباء:(167/3)
أسلوب إبراهيم عليه السلام في دعوة أبيه إلى التوحيد
يقول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [مريم:-45].
تأمل يا عبد الله! كيف ترقى وتوخى إبراهيم عليه السلام مسالك الدعوة والحكمة فيها والرفق واللين، والبعد عن التفضل والمنة والازدراء والتحقير والشدة والغلظة، وإنما عمد إلى التملق والتزلف؛ لكي يحاول التسلل إلى قلب خاوٍ، إنه قلب أبيه المشرك، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- معلقاً على هذه الآيات العظيمة: ابتدأ إبراهيم خطابه بذكر أبوته -أبوة أبيه- الدالة على توقيره -بدون كلمة توقير تستهل بها الخطاب أو كلمة احترام تنشئ بها الكلام وتستهله قد لا يفتح لك مطلقاً- ولم يسمه باسمه، ولم يقل: يا آزر، وإنما قال: يا أبتِ، ثم أخرج الكلام مخرج السؤال، فقال: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:42] ولم يعمد إلى أسلوب الأمر المباشر والنهي المباشر، فيقول مثلاً: لا تعبد الشيطان، أو لا تعبد ما لا يسمع، وإنما قال: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:42]، ثم قال: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم:43] فلم يقل له: إنك جاهل لا علم عندك؛ بل عدل عن هذه العبارة إلى ألطف عبارة تدل على المعنى، فقال: {جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم:43] ثم قال: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} [مريم:43] مثلما قال موسى لفرعون: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} [النازعات:19]، قال إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [مريم:45] فنسب الخوف إلى نفسه دون أبيه مثلما يفعل الشفيق الخائف على من يشفق عليه، وقال: "يمسك" والمس ألطف من غيره، ولم يقل: ينزل بك، أو يخسف بك، وإنما قال: يمسك، ثم نكَّر العذاب، فقال: {عَذَابٌ} ولم يقل: العذاب، ثم ذكر {الرَّحْمَنِ} ولم يقل الجبار ولا القهار تأليفاً له، واستجلاباً للإيمان بهذا الرحمن، واستشعاراً لرحمته، فأي خطاب ألين وألطف من هذا.
ومع ذلك كله كان الرد قاسياً شديداً: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [مريم:46] ومع ذلك يجيء جواب إبراهيم جواباً تلين له الحجارة؛ لأنه لم يكن يدعو لحظ نفسه حتى يثور، ولم يكن يدعو لأجل أن يقابل بالإيجاب؛ ولذلك لم يثأر ولم ينتقم؛ بل قال: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم:47].(167/4)
أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة عمه أبي طالب إلى الإسلام
وآية أخرى من كتاب الله تعالى في موضوع الدعوة إلى الله، يقول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] هذه الآية التي درج بعض الناس على الاستشهاد بها إذا رآك تنصح إنساناً وتدعوه إلى الهدى؛ فسرعان ما يقول لك: دعه دعه؛ فإنك لا تهدي من أحببت، ولكن هذه الآية ليس المقصود بها إيقاف الدعاة عن العمل، أو أن يتحسر الدعاة ويقولون: لا فائدة، وإنما المقصود أن الله تعالى بيَّن فيها أن أحداً لا يملك أن يدخل الإسلام والإيمان في قلب شخص أبداً، ولكن الله هو الذي يهدي من يشاء، فيدخله في الإسلام بعنايته، فكأنه يقول لك: يا أيها الداعية! لا تغتر بعملك ولو أثمرت بعض مجهوداتك، ولا تظن أنك أنت الذي أدخلت الهداية إلى قلبه، ولا تغتر فإن الله هو الذي أدخل الهداية إلى قلبه.
ثم فيها فائدة أخرى بخلاف تجنيب الداعية من الغرور، وهي تجنيب الداعية من اليأس والتوقف عن الدعوة بأن يقال له: لقد أديت ما عليك وأجرك قد ثبت، والرجل مصر على الباطل، ولا تستطيع أنت أن تهديه فانظر غيره، ولا تذهب نفسك عليه حسرات، ولا تأسفن عليه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف:6] أي: مهلك نفسك أنهم لا يؤمنون، فهذه الآية نزلت تسلية وتسرية للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذهب إلى عمه أبي طالب يدعوه إلى الله تعالى، ولكن سبق القدر فيه، واختطفه من يده، واستمر على الكفر والعياذ بالله.
والنبي - صلى الله عليه وسلم- يقول: (يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله) فأبى أن يقول، فأنزل الله تعالى {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] ومات أبو طالب الذي كان نصير الدعوة، والمدافع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والمادح لأفكاره وآرائه ومعتقداته، وهو الذي كان ينصره ويحميه من أذى قريش، مات هذا الرجل في نهاية غير مرجوة أبداً، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرجو له لقاء هذه المجهودات-وهو عمه وأقرب الناس إليه- في أن يهتدي، ولكن الله أراد أن يعلم رسوله والمؤمنين درساً عظيماً، في أن الإنسان مهما بذل الأسباب؛ فإن الله إذا لم يشأ فلا يحدث المأمول أبداً، كما بين الله تعالى أن ميزان العقيدة هو الميزان الأول، وأن النسب لا ينفع القريب قريبه فيه أبداً، فيجعل الله يوم القيامة أبا طالب في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منها دماغه، فليعلم الناس أن عليهم بذل الأسباب، والله يتكفل بالنتائج، والله معهم مقدر كل شيء، وأن الله إذا أراد هداية شخص فربما يهتدي بحلم من الأحلام أو مرض أو حادث، ولا يكون لأي داعية سبب في ذلك، وإذا أراد الله أن يضل شخصاً، واجتمع الناس كلهم على هدايته ما استطاعوا هدايته أبداً.(167/5)
مراتب الدعوة إلى الله
ثم إن الله ذكر في كتابه مراتب الدعوة، فقال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل:125] وهذا أمر يقتضي الوجوب: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] فمن الناس من هو جاهل يحتاج إلى تعليم، والحكمة: هي القرآن والسنة، فنعلمه ما يجهل، ونبين له حكم الله تعالى، ونبين له ما في القرآن والسنة، ومن الناس من ربما يكون عنده علم لكن فيه غفلة وقسوة قلب فيحتاج إلى تليين، والتليين يكون بالوعظ؛ ولذلك ينتقل الداعية إلى المرحلة الثانية وهي الموعظة الحسنة، فإن بعض الناس يحتاجون إلى موعظة للهداية، وبعضهم يحتاجون إلى تعليم للهداية، فهذه سبيل أخرى ذكرها الله تعالى آمراً نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يعلم من يحتاج إلى تعليم، وأن يذكر من يحتاج إلى تذكير، وأن يجادل من عنده شبهة أو هوى بالتي هي أحسن.
هذه المراتب العظيمة من تأملها وطبقها على الناس، عرف أن الله ذكر الدواء الناجع لكل نوع من أنواع المدعوين، النوع الذي يجهل ويقبل التعليم ولو عُلِّم لتبع، والنوع الذي عنده غفلة وتأخر فيدعى بالموعظة الحسنة، وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب وهما من أعظم أنواع الوعظ، ثم هناك معاند جاحد يجادل بالتي هي أحسن؛ بالبرهان والحجة واللسان القويم، وربما يكون عند بعض الناس خلفيات ثقافية، أو معلومات مسبقة خاطئة، فيحتاجون إلى محاورة، ومجادلة لكشف زيف ما يعتقدونه، والرد على الشبهات التي يأتون بها.
وقد حاور النبي -صلى الله عليه وسلم- وفد نصارى نجران لما جاءوه، ونزلت سورة آل عمران محاورة ومجادلة لأهل الكتاب، ولوفدهم الذين جاءوا من نجران، وحاور النبي -صلى الله عليه وسلم- عدي بن حاتم وقد كان من زعماء النصارى، فحاوره بما هو موجود عنده في الكتاب، وبما يعلمه من دينه، وحاوره بأشياء، وأوقفه على أمور عجيبة، وسأل عمران فقال: (كم إلهاً تعبد؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء)، فسأله عن الإله الذي يعده للرغبة والرهبة، وعند نزول الملمات، وفي الأحوال الخطيرة وأي واحد هو من هذه الآلهة السبعة؟ فكانت نتيجة المحاورة أن قال: (إنه الذي في السماء) إذاً هو أولى بالعبادة.
كما حاور عليه الصلاة والسلام أشخاصاً كثيرين.
ولم يتوانَ صلى الله عليه وسلم في بذل أساليب الدعوة، سواء كان بالكلام، أو بالقدوة والفعال، كما ربط الأسير في المسجد ليسمع كلام الله وينظر أفعال المسلمين، وكيف يعيش المجتمع الإسلامي، وأرسل الرسائل إلى عظماء الأرض يدعوهم إلى الله.
أيها المسلمون! حري بنا أن نتبع الأساليب الناجعة في الدعوة إلى الله، وألا نيأس من هداية الخلق، وأن نقوم بهذا الواجب الذي فرطنا فيه، فكم يوجد بيننا ممن لا يعلم شيئاً عن الإسلام؟! فتاة تقدم إليها أحد الخطاب، وهي ممن ينتسب إلى جمهور المسلمين، فحدثها عن الصلاة والحجاب؟ فقالت: أما الصلاة فلا أصلي، قال: لِمَ؟! قالت: لا أعرف كيفية الصلاة، قال: ما رأيت أناساً يصلون؟ قالت: نادراً، قال: ما تعلمت الصلاة في المدرسة؟ قالت: أدخلتني أمي مدرسة إنجليزية، فما علمونا الصلاة -وهي تعيش بين المسلمين- قال لها: المسألة بسيطة طهارة وصلاة، فقالت: الدنيا برد!! إذاً: ربما يوجد بين المسلمين من أبناء المسلمين من يجهل الدين بالكلية، ويوجد من ذهب إلى الكفار، ورجع وهو مغسول الدماغ، يستقبل صاحبه المبتعث في المطار، وقد كان يعرفه قبل الابتعاث إنساناًً مستقيماًَ أو مصلياً على الأقل، ولما رجع به من المطار بعد عناق واستقبال حار، كان وقت الصلاة قد حان؛ فأوقف السيارة بجانب أحد المساجد، وقال لصاحبه: ننزل، قال: ولِمَ؟ قال: لنصلي، قال: تغير علمك، لقد أصبحتُ نصرانياً، وأخرج الصليب من صدره فأراه إياه.
إذاً يوجد -أيها الإخوة- مرتد يحتاج إلى دعوة، ويوجد من المسلمين جهلة بالإسلام، وخصوصاً العمالة الموجودة من بلادٍ إسلامية، ما علمناهم شيئاً أبداً، فانتهت عقودهم ومدة خدمتهم، ورجعوا إلى بلادهم ولم يستفيدوا شيئاً ألبتة، ويوجد كفار أصليون وغافلون من المسلمين يحتاجون إلى دعوة، وكل واحد من هؤلاء يحتاج إلى نوع خاص من الأساليب والوسائل.
فهلاَّ تحركت الغيرة في قلوبنا، والقيام بالمسئولية، والخوف من السؤال يوم القيامة، والرغبة في الأجر، فإنك لا تدعو إلى خير إلاَّ وتؤجر عليه، وإذا عمل العامل بما نصحته فلك مثل أجره، ولئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من الدنيا وما عليها.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا بدينه مستمسكين، ولسبيله من السالكين، ولهذا الإسلام من الحاملين والدعاة المناصرين، ونسأله تعالى أن يحيينا على الإسلام، وأن يميتنا على الإيمان، وأن يتقبلنا في عباده الصالحين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(167/6)
توجيهات قرآنية لعلاج الأمراض الاجتماعية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الملك الحق المبين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحي القيوم، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، خلق فسوى، وقدر فهدى، سبحانه وتعالى، وأشهد أن محمداً رسول الله، الداعي إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وذهب إلى الله وذمته بريئة من كل مسئولية، فقد أدى ما عليه وبقي ما علينا نحن، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الدعاة من بعده وفي حياته، وعلى التابعين بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله! إن هذا القرآن الذي ذكرنا منه أمثلة في الدعوة إلى الله تعالى، وآيات في الحث عليها والترغيب؛ وبيان الوسائل والأساليب.
إن في هذا القرآن عبراً، وأنا أذكر لكم أمثلةً قليلة مما يوجد في القرآن, وهو مجال التدبر والتفكر الذي طلبه الله منا.(167/7)
وقفات مع قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان)
إن هذا القرآن يشتمل على توجيهات كثيرة جداً للدعاة وغير الدعاة، وفيه لطائف وحكم وأحكام، فتأمل مثلاً قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35].
إذاً: يحمى عليها بالمنافيخ وغيرها؛ مما يضاعف حرها، فإذا اشتد العذاب جاءت مرحلة الكي، فيكوى في جبهته وجنبه وظهره ويكون في هذه المواضع، لأنه كما قال العلماء: إذا جاءه الفقير السائل صعر بوجهه، ثم إذا أعاد السائل عليه ولاه جنبه، زيادة إعراض، فإذا ألح عليه، ولاه ظهره وأعرض، فلذلك جعل الكي في هذه المواضع الثلاثة: الوجه والجنب والظهر، الكي في هذه المواضع أشد على الإنسان من غيرها، والكي في الجنب والوجه والظهر هو الكي في الجهات الأربع: الأمام في الجبهة، والخلف في الظهر، واليمين والشمال في الجنبين، فجاءه الكي في المواضع التي هي فيها شدة، ثم التي حصل بها الاعراض، فجوزي على عمله، والجزاء من جنس العمل.
تأمل قول الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].
قال الله: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ}، بمعنى أرادوها وصارت هي همهم، ولم يقل: إنهم تناولوا منها؛ لأن الشهوات منها ما يكون حلالاً، فتناول الشهوة الحلال مباح، لكن تأمل السر في قوله: {اتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} صارت متبوعاً، وقائداً وهم منقادون، صارت مطاعة وهم مطيعون {اتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} وكم الذين يتبعون الشهوات في زماننا، أناس كثر جداً، جعلوا الشهوات هي مقصودهم، والغربيون عندهم مبدأ اللذة هي الهدف الكلي؛ لذلك فسعيهم للذة المال، والمتعة، والجنس، وغير ذلك من أنواع اللذات إلا لذة الإيمان واليقين، وكثير من المسلمين يتبعون الشهوات؛ فيأخذ المال من حرام وحلال من أجل شهوة المال، ويرتكب أسباب العلاقة المحرمة بالجنس الآخر اتباعاً للشهوات؛ ولذلك كثير من الأوقات تذهب في المعاكسات الهاتفية، والمواعيد المحرمة، وارتكاب الفواحش، واتباع مطلق للشهوات.
أيها المسلمون: هاتان آيتان تعرضان شيئاً من الأمراض الاجتماعية الموجودة، كالبخل والشح واتباع الشهوات، وهذان المرضان جديران بأن يدقق الدعاة إلى الله تعالى فيهما؛ لأنهما أعظم ما أصيب به المجتمع، وهذان المرضان -فعلاً- بحاجة إلى دراسة وتقويم، ثم بحاجة إلى علاج، ويحتاج الذين وقعوا فيهما أن يرجعوا إلى الله تعالى، فهذان مرضان في المدعوين يحتاج الدعاة إلى التأني والتأمل، ومعرفة السبيل الناجع في المداواة، ويبقى السبيل هو التعليم والوعظ والجدال بالتي هي أحسن.
ولكن الاهتداء إلى موضع الخلل يحتاج إلى تدبر وتأمل؛ ولذلك بعض الناس ربما يدعو لكن لا يعرف أي شيء يقصد في دعوته، وما هو الهدف الذي يوجه إليه وسائل دعوته، نسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا الحكمة والخطاب الحسن، ونسأله عز وجل أن يهدي ضال المسلمين.
اللهم ردهم إلى الحق رداً جميلاً يا رب العالمين، اللهم افتح قلوبهم بنور من عندك، واسلك بهم سبيل النور، وأخرجهم من الظلمات إلى النور يا أرحم الراحمين، ويا رب العالمين.
اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد والعناد، وانشر رحمتك على العباد، وارحمنا يوم المعاد، وارزقنا الثبات يوم التناد، اللهم إنا نسألك الرحمة والمغفرة لموتى المسلمين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، اللهم إنا نسألك أن تثبتنا عند اللقاء، وأن تثبتنا على الصراط يا رب العالمين.
اللهم آمنا في البلاد، اللهم آمنا في البلاد، اللهم آمنا في البلاد، وأصلح الأئمة ولاة العباد.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(167/8)
يا باغي الخير أقبل [1]
أعمال الخير كثيرة، والجنة قريبة من المرء ما وفقه الله للعمل بمقتضى دخولها، ولكن المرء قد يغفل عن عمل صالح، أو قد يحتقر عملاً ما لعله ينجيه من النار بترجيح كفة الحسنات، وهنا طائفة من أعمال الخير فعلها يسير وأجرها عظيم، فاقرأ لتعمل عسى الله أن يوفقنا لفعلها.(168/1)
طائفة من الأعمال الصالحة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخواني! تكلمنا في الخطبتين الماضيتين عن منكراتٍ تهاون بها الناس، وعن الوعيد الذي توعد الله به من فعل تلك المنكرات، ومن باب المقابلة وإكمال الصورة؛ فإننا نذكر في هذه الخطبة طائفة من الأعمال الخيرة التي يثيب الله عليها فاعلها أجراً عظيماً؛ لنعلم سعة رحمة الله من جهة، ومعنى اسمه (الكريم) من جهة، ومعنى أنه ذو الفضل العظيم من جهة أخرى، ليزداد الذين آمنوا خيراً؛ لأن العمل الصالح داخل في الإيمان، ولكي تصعد همم الذين يُريدون وجه الله والدار الآخرة، فينشطون للأعمال الصالحة من جهة أخرى.
إن أبواب الخير رحمةٌ من الله يفتحها لعباده، فالعاقل من اغتنم الفرصة وولج هذه الأبواب، والمحروم الغافل المسكين من فاتت عليه أعمال الخير فلم يعملها.
ونحن نعلم -أيها الإخوة- أن كثيراً من المسلمين في قلوبهم خير، وأنه مهما طغى على هذا الخير من الذنوب فإنه يوماً من الأيام قد تستيقظ حاسة الخير النائمة في نفسه؛ فيلجأ إلى الله عز وجل بهذه الأعمال.(168/2)
حضور حلق الذكر
وإليكم طائفة منها على سبيل المثال لا الحصر: قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما اجتمع قوم على ذكر فتفرقوا عنه إلا قيل لهم: قوموا مغفوراً لكم) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قومٌ يذكرون الله تعالى؛ فيقومون حتى يُقال لهم: قوموا قد غفر الله لكم ذنوبكم، وبُدِّلت سيئاتكم حسنات)، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أيضاً: (لأن أقعد مع قومٍ يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس؛ أحب إليّ من أن أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قومٍ يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعةً) حديث حسن.
والأحاديث في فضل حلق الذكر: من الملائكة الموكلين بالبحث عنها وحضورها، ومن نزول السكينة على أهلها، وغشيان الرحمة لهم، وإحاطتهم بالملائكة ما يدفع المسلم للبحث عنها والتماسها، فاحرصوا عليها في المساجد والبيوت وفي جميع الأماكن التي يمكنكم فيها عقد حلق الذكر وغشيانها، حولوا ولائمكم ومناسباتكم إلى حلق للذكر، ولتكن هذه الاجتماعات معمورةً بطاعة الله، وبالمتكلمين في أمره ونهيه، الذين ينصحون الناس ويعظونهم.
والعجيب بعد سياق هذه الأحاديث، أن نجد بعض الإخوان يُهملون حلق الذكر، فيعرف أنه يُوجد في المساجد -مثلاً- حلقٌ فيتكاسل عنها، أو تكون له حلقةٌ هو فيعتذر عنها بشتى الأعذار الواهية، وهو يعلم أن جلوسه فيها خيرٌ له بكثير من كثير من الأعمال التي يتعذر بعدم حضور حِلق الذكر من أجلها.
ولذلك كان لابد للمسلم أن يُحاسب نفسه قبل أن يُحاسبه غيره، ويعلم بأن غشيانه لحلق الذكر مما يقوي الإيمان ويستفيد ويتعلم العلم النافع، ويسبب مغفرة الذنوب.
إن هذه الأسباب وغيرها كفيلة بأن تدفعه للحضور وعدم التخلف، خصوصاً وأن الكسل يدب إلى الكثيرين من طيلة الجلوس فيها، ويفضلون أنواعاً من اللهو عليها، أو أن الشيطان يشغلهم بالمفضول عن الفاضل في حضور حلق الذكر، وهذا أمر نسمع الشكوى منه من بعض القائمين عليها في بعض الأحيان، سماعاً يجعلنا نُذكِّر وننصح إخواننا في الله ألا يتكاسلوا عن ذلك.(168/3)
الذكر بعد الوضوء
وفي جهة أخرى يقول صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فقال بعد فراغه من وضوئه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كُتِبَ في رق ثم جعل في طابعٍ -خُتم هذا المظروف بطابع- فلم يكسر إلى يوم القيامة، ليجزي الله به قائل هذه الكلمات أجراً عظيماً) حديث صحيح.
كم هي سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، بعد الوضوء؟ وهذا الحديث هو نفسه دعاء كفارة المجلس.
وفي الوضوء أذكار أخرى معلومة منها: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) وتقول معه هذا الدعاء فإنه يكون محفوظاً لك عند الله مطبوعاً عليه مختوماً لا يكسر الختم إلى يوم القيامة.(168/4)
مطلق الذكر
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من راكب يخلو في مسيره بالله وذكره إلا كان ردفه ملك، ولا يخلو بشعر ونحوه إلا كان ردفه شيطان) حديث حسن، فهذا الحديث يدفعنا في مشاويرنا وسفراتنا وقطعنا للطرق، ونحن نسير راجلين أو بسياراتنا -مثلاً- إلى أن نقطع ذلك الوقت بذكر الله، كعموم التسبيح، والتحميد، والتهليل، والدعاء، وأذكار الصباح والمساء، وقراءة القرآن فوق ذلك، فهذا من ذكر الله الذي لو واظب عليه المسلم وهو يقود سيارته في سفر أو حضر فإن له عند الله أجراً عظيماً، وقد كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه.
واعلموا بأن هذا الذكر في هذا الطريق يُصحح النية، ويردع الإنسان عن جر قدميه إلى أماكن المحرمات وغشيانها.
إذ كيف تقول: "سبحان الله"، أو "لا إله إلا الله" أو "أستغفر الله" وأنت تمشي إلى عملٍ محرم، زد على ذلك أن وصل القلب بالله في الجلوس في المسجد وخارج المسجد وفي السفرات يدل على حياة ذلك القلب وقرب صاحبه من ربه.
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار) وهذا حديث في فضل حفظ القرآن وجمعه في الصدر: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] فمن فضائل حفظ القرآن هذا الحديث: (لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار) فقد شبَّه جسد الحافظ بهذا الجلد لا تمسه النار ولا تقربه، وفي الحديث الآخر: (يجيء القرآن يوم القيامة فيقولك يا رب! حَلَّه -لصاحب القرآن- فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب! زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب! ارض عنه فيرضى عنه، فيقول: اقرأ وارق ويُزاد له بكل آية حسنة) فكم هي عدد الآيات التي حفظها أو قرأها ليزداد بها يوم القيامة بكل ذلك حسنات.
(لا أقول (ألم) حرف ولكن ألفٌ حرف، ولامٌ حرف، وميمٌ حرف) فإذا تأملت -مثلاً- أن عدد حروف القرآن ما يقارب ثلاثمائة ألف حرف، فكم يكون لك من الأجر لو ختمته مرةً واحدة؟ وكم يكون لك من الأجر لو ختمته في كل شهر مرة مثلاً؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بقراءة القرآن في أحاديث جاء في كل منها فترة مختلفة، فمرةً يقول: (اقرأ القرآن في سبع)، ومرةً يقول: (في عشر)، ومرةً يقول: (في عشرين) ومرةً يقول: (في شهرٍ)، ومرةً يقول: (في أربعين يوماً) وذلك لأن الناس طاقات، وليست أوضاعهم متشابهة أو متساوية، فمنهم من عنده من التفرغ ما يستطيع به أن يختمه في أسبوع، ومنهم من لا يستطيع أن يختمه إلا في كل أربعين يوماً.(168/5)
التبكير للجمعة
وقال عليه الصلاة والسلام موضحاً باباً عظيماً من أبواب الأجر: (من غسّل -يوم الجمعة- واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنى من الإمام واستمع وأنصت ولم يلغ كان له بكل خطوةٍ يخطوها من بيته إلى المسجد عمل سنةٍ أجر صيامها وقيامها) حديث صحيح رواه الإمام أحمد والأربعة.
فإذا علمت بأن الله واسع المغفرة واسع العطاء واسع الأجر فما الذي يجعلك تتخلف عن الدخول في هذه الأبواب العظيمة من أبواب الأجر؟ إن الناس يتفاوتون في أجرهم في حضور الجمعة بحسب تبكيرهم وتنظفهم، ودنوهم من الإمام، وإنصاتهم ومشيهم، فليس الماشي كالراكب ولكل منهما أجر، وليس المبكر في الساعة الأولى كمن جاء في الساعة الخامسة، ولكلٍ أجر.(168/6)
إدراك تكبيرة الإحرام
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن الذي رواه الترمذي عن أنس مرفوعاً: (من صلَّى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق) صلى أربعين يوماً في جماعة متصلة يدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام، ويحصل الأجر في هذا الحديث لمن كان قائماً في الصف عند تكبير الإمام تكبيرة الإحرام.(168/7)
الجهاد في سبيل الله
وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ يُحبهم الله: الرجل يلقى العدو في فئةٍ فينصب لهم نحره -أي: مقبلاً غير مدبر- حتى يقتل أو يفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سراهم -مشيهم في الليل- حتى يُحبوا أن يمسوا الأرض من التعب، فينزلون فيتنحى أحدهم -لا ينام- فيُصلي حتى يوقظهم لرحيلهم، والرجل يكون له الجار فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن) بأن يرتجل هذا عن الآخر.
فتأمل الآن في أحوال هؤلاء الأصناف، فالله -عز وجل- يُعطي الناس بحسب أعمالهم وما في قلوبهم من الإيمان، إذ أن الرجلين يتساويان في صورة العمل، ولكن يكون أحدهما أعظم أجراً من الآخر وذلك بسبب ما قام في قلبه من الإيمان.
هذا رجل يمشي مع إخوانه في السفر، فلما طال السفر وتعبوا نزلوا، وبدلاً من أن ينام من التعب آثر الله فجاهد نفسه، فقام يُصلي حتى أيقظهم، عملٌ عظيم في الليل وأصحابه نيام وهو لا يراه أحد إلا الله عز وجل.
وأيضاً جار صبر على أذى جاره، وما أكثر أذية الجيران لجيرانهم في هذه الأيام! برفع الأصوات، وطرق الأبواب، والفوضى والإزعاج، ورمي القاذورات، وفتح النوافذ من بعضهم للإشراف على عورات الجار الآخر أمورٌ كثيرة، فمن صبر حتى فرَّق الله بينه وبين جاره المؤذي بموت أو ظعن فإنه ممن يحبهم الله.
وقال صلى الله عليه وسلم في بيان فضل المجاهد: (لقيام رجلٍ في الصف في سبيل الله -عز وجل- ساعةً أفضل من عبادة ستين سنة) رواه البيهقي وغيره، وهو حديث صحيح.
وقال عليه الصلاة والسلام: (موقف ساعةٍ في سبيل الله خيرٌ من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود) رواه ابن حبان وغيره عن أبي هريرة مرفوعاً وهو حديث صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: (حُرِّم على عينين أن تنالهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس الإسلام وأهله من أهل الكفر) حديث حسن.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم قيام هذه الساعة في ذلك الموقف في جهادٍ تحت راية الإسلام لإعلاء كلمة الله.
اللهم لا تحرمنا هذا الأجر برحمتك يا أرحم الراحمين، وإنني لأظن أن من باتت عينه تحرس الإسلام من الدس، والافتراءات، والبدع، والشبهات التي يذيعها ويسطرها أهل الكفر والنفاق، فيقوم فيصدع ويرد عليها، ويحذِّر الناس منها، أن ذلك ليدخل في هذا الحديث: (وعينٌ باتت تحرس الإسلام وأهله من أهل الكفر).(168/8)
الصدقة بالطيب
وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً شيئاً من الأجر في باب الصدقة: (ما تصدق أحد بصدقة من طيبٍ -لا من حرام ولا من مال شبهة ولا رشوة ولا رباً، ولا من إيجارات المحلات التي تفتح أبوابها في أعمال المعاصي- إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرةً فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله) ويمين الله لو وضعت السماوات والأرض فيها ما خَرَّجَت شيئاً ولا ظهر منها شيء، يطوي الله السماوات والأرض بيمينه: كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ، ويمين الله عظيمة، وكلتا يديه يمين، سواء في القوة أو العطاء أو الخير.
يكرم الله هذا المتصدق ولو بتمرة؛ لأنه أنفق مخلصاً من مالٍ طيب، وتأمل في هذا الحديث: (سبق درهم مائة ألف درهم) عجباً كيف يسبق درهم واحد مائة ألف درهم؟!! يقول صلى الله عليه وسلم موضحاً ذلك: (رجل له درهمان، فأخذ أحدهما فتصدق به -أي: تصدق بنصف ماله- ورجل له مال كثير فأخذ من عُرْضِه مائة ألف فتصدق بها) فالأعظم هو الأول الذي أنفق أقل؟! لأنه أنفق نصف ماله، وهذا الغني الذي له الآلاف المؤلفة أخذ من عرضها مائة ألف فتصدق، وما ضرته شيئاً، لكنَّ الأول تصدق بنصف ماله: فإذا تأمل العبد هذه الأعمال، وكم فيها من الأجر فلا يحتقر منها شيئاً: (اتقوا النار ولو بشق تمرة).
نسأل الله أن يعظم أجورنا وأجوركم، وأن يرشدنا وإياكم لولوج أبواب الخيرات، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(168/9)
إماطة الأذى عن الطريق
الحمد الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له الحي القيوم الرحمن الرحيم الكريم المتفضل على عباده بأنواع الإحسان، ومنها: مضاعفة الحسنات ورفع الدرجات.
يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه: (لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرةٍ قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس) بم تقلب في الجنة؟! بأذىً أماطه عن الطريق، وله -أيضاً- في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (مر رجلٌ بغصن شجرةٍ على ظهر الطريق فقال في نفسه: والله لأنحيَّن هذا عن المسلمين حتى لا يؤذيهم، فأُدخل الجنة) وقال صلى الله عليه وسلم: (من رفع حجراً عن الطريق كتبت له حسنة، ومن كانت له حسنة دخل الجنة) حسنة متقبلة عند الله يدخل بها الجنة، فرفع حجرٍ من الطريق أو إزالة غصن من الشارع لا يأخذ منك شيئاً، لكنَّ الباعث على هذا العمل من صدق الإيمان؛ لا رياء ولا سمعة يجعل الله فيه أجراً عظيماً، أعمال بسيطة لكن أجرها عند الله كبير.
إن المشكلة -أيها الاخوة- أن كثيراً من المسلمين يعلمون أبواب الأجر والحسنات وهي كثيرة جداً، ومع ذلك يقفلونها ويدخلون أبواب السيئات.(168/10)
فضيلة قتل الوزغ
يقول صلى الله عليه وسلم: (من قتل وزغاً من أول ضربة كُتِبَ له مائة حسنة، وإن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة، وإن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة) أي: أقلُّ، رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود والترمذي، وابن ماجة، عن أبي هريرة مرفوعاً، وأسباب قتل الوزغ هي: السبب الأول: أن الدواب كلها كانت تنفخ النار عن إبراهيم لتطفئها إلا الوزغ فإنه كان ينفخ النار على أبينا إبراهيم، فلذلك وبعد موته بآلاف السنين نحن نقتل الوزغ مشاركةً شعورية منا لأبينا إبراهيم في محنته تلك، فإن قلت: ما بال هذا الوزغ من ذلك الوزغ؟ فأقول: السبب الثاني: أنه قد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال فيما رواه النسائي: (الوزغ فويسق، والفويسقات يُقتلن في الحِل والحرم) والفويسقات مثل: الحدأ، والكلب العقور، والحية، والعقرب، والفأر، وكل ضار مؤذٍ يقتل، ومن بينها الوزغ، فإذا قتلت الوزغ بضربة فلك مائة حسنة.(168/11)
عدم تحريز الزرع لئلا تأكل منه الطيور
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمٍ يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه طيرٌ أو إنسانُ أو بهيمةُ إلا كانت له به صدقة) متفق عليه.
ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه صدقة، وما سرق منه صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطيور فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحدٌ -أي: ما ينقص منه أحد بأخذ- إلا كان له صدقة، كثير من الناس يزرعون ويُشجِّرون؛ لكن من ذا الذي ينوي بزرعه الأجر إذا أكل منه إنسان أو طائر أو بهيمة.(168/12)
فضيلة الإقراض وإنظار المعسر
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقتها مرة) وقال صلى الله عليه وسلم: (من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) وقال: (من أنظر معسراً فله بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حلَّ الدين فأنظره فله فيه بكل يوم مثلاه صدقة).
فإذا أقرضت مسلماً قرضاً فلك وقت حلول الدين أجر نصف الصدقة بهذا المال، فإذا جاء الدين وأنظرته فكأنك تأخذ أجر هذا المال كله صدقة، فإذا جاء موعد الإنظار ولم يفِ وأعسر فأنظرته فلك في كل يوم مثلاه صدقة.
وقد كان بعض الصالحين يُخصص مبلغاً من ماله فقط ليسلفه، استثمار بمجرد الإقراض ليحصل له نصف أجر الصدقة، وإذا أنظرته للمرة الأولى صدقة كاملة وللمرة الثانية يكون الأجر مثليه.
لعل هذه الأحاديث تُحرِّك في نفوس الناس احتساب الأجر في المعسرين، وإذا استطردنا الكلام على أبواب الخير لو جدناها كثيرة لكن من المشمر! والله المستعان.
اللهم إنَّا نسألك حب الخيرات، وإطعام المساكين، ورفع الدرجات.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
اللهم واجعل فيما أعطيتنا عوناً لنا على طاعتك، اللهم اجعل فيما أنزلت علينا من المطر رحمة من عندك، اللهم اجعله غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً، سحَّاً عاماً، غدقاً طبقاً، نافعاً غير ضار.
اللهم سقيا رحمةٍ لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم واجعلنا لنعمائك من الشاكرين، وعند البلاء من الصابرين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(168/13)
الإمام علي بن المديني [2،1]
بحر من بحور العلم! بدأ يطلب العلم على يد والده، ثم رحل إلى المدن العراقية وتنقل فيها طلباً للعلم، ثم رحل إلى اليمن وإلى غيرها من الأمصار، فيا ترى! من هو هذا الإمام؟ وما هي أخلاقه؟ ومن هم شيوخه وتلامذته؟ ومن قرناؤه؟ هذا الإمام الجهبذ ما موقفه في فتنة خلق القرآن؟ وهل صحيح ذلك الكلام الذي يحكى عنه بأنه وقف مع ابن أبي دؤاد ضد الإمام أحمد؟ كل هذا ستعرفه في هذا الدرس، وستعرف الكثير الكثير عن هذا الإمام الفذ.(169/1)
نبذة عن الزمن الذي عاصره ابن المديني
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، حمداً يوافي نعمه، ويكافئ مزيده.
والصلاة والسلام على النبي المصطفى الأمين، خير خلق الله وخاتم رسله أجمعين، وعلى آله وصحبه الذين ساروا على هديه واقتفوا سنته ومنهجه القويم، ومن تبعهم بإحسانٍ وتأسى بهم إلى يوم الدين.
أيها الإخوة: لقد منَّ الله سبحانه وتعالى على المؤمنين بأن أنزل فيهم كتابه وحَفِظَه، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
وكان من توابع هذه المكرمة الإلهية: حفظ السنة لأجل حفظ الكتاب؛ لأن الله عز وجل جعلها تبياناً، فقال سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44].
وكان ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
فكانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الأهمية؛ لأن فهمها فهمٌ لكتاب الله، وكان الاعتناء بصحتها من العبادات العظيمة؛ لأنه لا يمكن التوصل إلى معرفة الوحي الصحيح الذي نعرف به معاني الكتاب وما أنزل إلينا ربنا من الأحكام الشرعية إلا عن طريق الدليل الصحيح؛ ولذلك توجهت وانصرفت جهود أئمة الإسلام لحفظ السنة وتنقيتها وتمييز صحيحها عن سقيمها وضبطها، وصار الأمر كما روى مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، عن محمد بن سيرين، قال: [لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فيُنْظَر إلى أهل السنة، فيؤخذ حديثهم، ويُنْظَر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم] وصار عندنا هذا العلم -علم الجرح والتعديل-الذي ليس عند أي أمة أخرى من الأمم على الإطلاق.
ومن العلماء الذين قيضهم الله عز وجل لتمييز الحديث الصحيح من السقيم: القسم الأول: مَن تكلم في أكثر الرواة: مثل: ابن معين، وأبي حاتم الرازي.
القسم الثاني: من تكلم في كثير من الرواة: كـ مالك وشعبة.
القسم الثالث: من تكلم في الرجل بعد الرجل: كـ ابن عيينة، والشافعي رحمهما الله تعالى.
ومن العلماء الأعلام الذين حفل بهم تاريخ السنة في هذه الأمة، ومن الذين كان لهم إسهامات ضخمة في هذا العلم -وهو الذي سنتحدث عن سيرته إن شاء الله في هذه الليلة- الإمام علي بن المديني رحمه الله تعالى.
ويكفينا أنه شيخ البخاري، وأنه الذي قال البخاري فيه: "ما استصغرت نفسي عند أحدٍ إلا عند علي بن المديني ".
فمتى عاش هذا الإمام؟ وما هي الظروف التي رافقت حياته، والأحوال التي كانت موجودة في ذلك الوقت؟ هذا قبل أن ندخل في سيرته الذاتية، وجهوده في طلب العلم، ونشر السنة، وتمييز الحديث.
أما العصر الذي عاش فيه علي بن المديني رحمه الله تعالى: فإنه وُلِد رحمه الله وقد مضى على خلافة المهدي العباسي أكثر من سنتين؛ لأن ولادته رحمه الله كانت سنة (161هـ).
وتوفي الإمام ابن المديني وقد مضى من خلافة المتوكل قرابة سنتين؛ لأن وفاته رحمه الله كانت سنة (234هـ).
فيكون ابن المديني رحمه الله قد عاش (73) سنة، وعاصر خلالها من خلفاء بني العباس ما بين المهدي والمتوكل، فيكون قد عاصر: - المهدي.
- والهادي.
- والرشيد.
- والأمين.
- والمأمون.
- والمعتصم.
- والواثق.
وعاصر جزءاً من خلافة المتوكل في آخر عمره.(169/2)
استقرار الدولة الإسلامية في زمن ابن المديني
لا شك أن هذه الفترة كانت فترة استقرار في الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، ووصلت إلى أوج قوتها وعظمتها، حتى قال ابن طبا طبا رحمه الله: "واعلم -عَلِمْتَ الخيرَ- أن هذه الدولة -العباسية- من كبار الدول، ساست العالَمَ سياسةً ممزوجةً بالدين والمُلك، فكان أخيار الناس وصلحاؤهم يطيعونها تديناً، والباقون يطيعونها رهبةً أو رغبةً، ثم مكثت فيهم الخلافة والمُلك حدود ستمائة سنة".
وكانت هذه الدولة -ولا شك- في أولها وفي قوتها غُرَّةً في جبين الدهر، وتاجاً على مفرق العصر، كما ذكر ذلك المؤرخون.
وبطبيعة الحال كان المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت مجتمعاً قوياً، وكانت فيه الأموال كثيرة، وظهرت طبقات من الأغنياء، وظهرت مظاهر الترف والبذخ والتفنن في العُمْران وغير ذلك.
وكان من أشهر خلفاء هذه الفترة: هارون الرشيد رحمه الله، الذي امتدت رقعة المملكة في عصره إلى معظم الدنيا، ولَمْ يَجتمع على باب خليفة من الشعراء، والأمراء، والعلماء، والفقهاء، والقرَّاء، والقضاة، والكتَّاب، ما اجتمع على باب الرشيد رحمه الله.
وكذلك انتشر في ذلك العهد القُصَّاص الذين كانوا يتكسبون بإيراد القصص والأساطير على الناس مما لا يكون له صحة غالباً، فحصل من علماء أهل السنة تبيان حال هؤلاء القُصَّاص، وقال ابن المديني رحمه الله: أكذب الناس ثلاثة: - القُصَّاص.
- والسُّؤَّال -أي: الذين يسألون.
- والوجوه -أي الوجهاء- قلت: فما بال الوجوه؟ قال: يكذبون في مجالسهم، ولا يُرَدُّ عليهم.
فهذا شيء مما كان في عصره.(169/3)
الحركة العلمية في زمن ابن المديني
أما بالنسبة للحركة العلمية، فلا شك أنها كانت حركة علمية قوية جداً في ذلك الوقت، وصارت بغداد حاضرة العالم الإسلامي، يأتي إليها طلاب العلم من كل صوب وحدب، ويقصدونها لينهلوا منها، وكان منهم بطبيعة الحال: علي بن المديني رحمه الله الذي قدم بغداد، ونَبَغ في المدن الإسلامية في ذلك الوقت من المحدِّثين عدد من أهل العلم: فمن الذين نبغوا في البصرة؟ يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وكلاهما قد توفي في سنة (198هـ) وأخذ عنهما ابن المديني رحمه الله وتخرج.
وكذلك نبغ فيها أيضاً: إسماعيل بن عُلَيَّة، وعفان بن مسلم، وأبو الوليد الطيالسي.
وفي غيرها من أمصار المسلمين كان هناك أئمة أعلام، لكن لماذا ركزنا على البصرة؟ لأن ابن المديني رحمه الله نشأ فيها.
وكان هارون الرشيد رحمه الله معروفاً بالتواضع لأهل العلم، حتى أن أبا معاوية الضرير محمد بن خازن يقول: أكلتُ عنده -عند الرشيد - يوماً ثم قمت لأغسل يديَّ، فصب الماء عليَّ وأنا لا أرى، ثم قال -أي: الخليفة-: يا أبا معاوية! أتدري من يصب عليك الماء؟ قلت: لا.
قال: يصب عليك أمير المؤمنين.
قال أبو معاوية: فدعوت له.
فقال هارون: إنما أردت تعظيم العلم.
وبعد هارون الرشيد اشتهر من الخلفاء: المأمون، وقد وصفه ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية بقوله: "كانت له بصيرة بعلوم متعددة؛ فقهاً وطباً وشعراً وفرائض وكلاماً ونحواً وغريبَ حديثٍ وعلمَ النجوم".
ولكن الرجل اغتالته عقول المعتزلة في مسألة خلق القرآن، وحصل أيضاً أن المأمون قد شجع حركة الترجمة في ذلك العصر من لغة اليونان وغيرها من اللغات.
ولما اتسعت الفتوحات أرسل المأمون من يشتري المصنفات والخزائن -خزائن الكتب من المدن المختلفة- وفرَّغ من يترجمها، وأُودعت في بيتٍ يسمى: "بيت الحكمة" وكان قد أسسه هارون الرشيد، فعمد المأمون على تزويده بشتى الكتب، حتى أصبح بيت الحكمة من أكبر خزائن الكتب في العصر العباسي، لكن هذه الترجمة لم تمر دون ضريبة، فقد دخل عن طريق هذه الترجمة ما دخل من الانحرافات على الجسم الإسلامي أو المجتمع الإسلامي، وهذا هو عصر علي بن المديني رحمه الله.(169/4)
نسب علي بن المديني
بالنسبة لنسبه رحمه الله فهو: علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السندي -مولاهم- البصري، المعروف بـ ابن المديني.
ونسبة علي بن المديني إلى السندي نسبة ولاء، ليس من القوم، وإنما هو مولاهم.
وأما لقب المديني بفتح الميم وكسر الدال، فإنها نسبة إلى المدينة، والقياس بالنسبة إلى المدينة أن يقال: مدني، المدني، ولكن هذه الكلمة جرت على غير القياس.
وقال ياقوت الحموي: "المشهور عندنا أن النسبة إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم: مدني -مطلقاً- وإلى غيرها من المدن مديني، للفرق لا لعلة أخرى".
وهذا رأي من الآراء.
قال: وربما رده بعضهم إلى الأصل، فنسب إلى مدينة الرسول أيضاً: مديني، قال: وعلى هذه الصيغة يُنسب أبو الحسن علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السندي والمعروف بـ ابن المديني، كان أصله من المدينة ونزل البصرة.
أما كنيته رحمه الله فهي: أبو الحسن، كما قال ذلك معاصره محمد بن سعد رحمه الله تعالى، ولعله لم يكن له ولد يسمى بالحسن، لكن قد يكون كني بكنية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث أن اسمه يوافق اسمه، فأخذ الكنية من ذلك.
أصل الإمام علي بن المديني من المدينة المنورة، ولكنه بصري الدار، ولد بـ البصرة في خلافة المهدي العباسي في سنة (161هـ) كما تقدم.
ومن الذي ارتحل من المدينة إلى البصرة؟ هل هو أبوه أو جده؟ في هذه المسألة خلاف.
ووالد ابن المديني يروي عن عبد الله بن دينار وطبقة من علماء المدينة.
كان والد الإمام علي بن المديني من العلماء، وهو: عبد الله بن جعفر بن نجيح السندي، ويكنى: بـ أبي جعفر، روى عن عدد من العلماء، مثل: إبراهيم بن مُجَمِّع، وثور بن زيد الديلي، وجعفر بن محمد الصادق، وزيد بن أسلم، وسعيد بن جبير وغيرهم كثير من العلماء العشرات الذين ذُكروا في ترجمته فيمن روى عنهم.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: "وأبوه - أبو علي بن المديني - محدثٌ مشهور، روى عن غير واحد من مشيخة أنس بن مالك رحمه الله تعالى".
إذاً: أبوه محدثٌ مشهور، كما قال الحافظ ابن تغري بردي رحمه الله.
ولعله قد أصابه تغير في آخر عمره، ولذلك قال ابن حجر رحمه الله في التقريب في ترجمته: "ضعيف، تغيَّر حفظه بآخر عمره"، فهذا سبب ضعفه، أما هو من حيث الأصل، فهو محدثٌ مشهورٌ.
كانت أم ابن المديني جدها جمهان وهو من المحدثين، وكانت عاقلة لبيبة، ويدل على ذلك أن علي بن المديني -ولدها- لما غاب في إحدى السفرات وترك أمه بـ البصرة فترة طويلة، فعندما رجع إلى البصرة، فرحت به وقرت عينها برجوعه بعدما اكتسب علماً، فقالت له كما ينقل هو عنها: غبتُ عن البصرة في مخرجي إلى اليمن -وكان مخرجه قرابة ثلاث سنوات- وأمي حية، قال: فلما قدمت عليها، جعلت تقول: يا بني! فلانٌ لك صديق، وفلانٌ لك عدو.
فقلت لها: من أين علمتِ يا أُمَّة؟ قالت: كان فلانٌ وفلانٌ -وذكرت فيهم: يحيى بن سعيد - يأتون مسلِّمين فيعزونني ويقولون: اصبري، فلو قدم عليك -أي: ولدك- سرك الله بما ترينه، فعلمتُ أن هؤلاء محبوك وأصدقاؤك، وفلانٌ وفلانٌ إذا جاءوا قالوا لي: اكتبي إليه وضيقي عليه وحرجي عليه ليقدم عليكِ إلخ الكلام.
فكانت تستدل على الصداقة والعداوة من حرصهم على مصلحته، فالذين يتظاهرون بالحرص عليها، ويقولون: ضيقي عليه حرجي عليه، بيني له أنك غضبانة عليه إذا لم يرجع في الحال، فعلمت أن هؤلاء لا يتكلمون في مصلحته.
فكانت تعرف أصدقاءه من أعدائه من هذه القرينة، ولذلك يُسجل لها موقف عظيم في أنها لم تضجر لغياب ولدها الطويل ما دام ذلك في مصلحة الولد، وأنه قد ذهب في تحصيل العلم.(169/5)
أولاد ابن المديني
أما ما كان لـ علي بن المديني رحمه الله من الأولاد، فقد ذُكِر أن له ولدان، هما: محمد، وعبد الله، وقد رويا عن أبيهما، وكان يصطحب معه أولاده إلى مجالس المحدثين، وقد ورد في ذلك قصة وقعت لـ محمد بن علي بن المديني حيث يخبرنا عنه ابنه جعفر، فيقول: سمعت أبي يقول: خرج أبي إلى أحمد بن حنبل يعوده وأنا معه، قال: فدخل عليه وعنده يحيى بن معين وذكر جماعة من المحدثين، قال: فدخل أبو عبيد القاسم بن سلاَّم، فقال له يحيى بن معين: اقرأ علينا كتابك الذي عملته للمأمون - غريب الحديث، وهو من الكتب المشهورة في تبيان معاني الكلمات الغريبة أو الصعبة في الأحاديث- فأخذه أبو عبيد فجعل يقرأ ويبدأ بالأسانيد ويدع تفسير الغريب.
قال: فقال له أبي -أي: علي رحمه الله-: يا أبا عبيد! دعنا من الأسانيد نحن أحذق بها منك.
فقال يحيى بن معين لـ علي بن المديني: دعه يقرأ على الوجه، فإن ابنك محمداً معك، أي: إذا كنت حاذقاً بهذا العلم، فإن ولدك يحتاجه.
إذاً: الشاهد: أنه كان رحمه الله يعتني بأخذ أولاده إلى مجالس الحديث.
وهذه فائدة مهمة بالنسبة لطلبة العلم ألا يحرموا أولادهم العلم وخاصة إذا بلغوا سناً يميزون به ويستفيدون من الحضور، فعليهم أن يأخذوا أولادهم إلى مجالس العلم، وبعض الطلبة ينسى أخذ أولاده إلى حلق العلم، حتى قال بعض المحدثين -وربما صدق في ذلك- أربعة لا فائدة منهم: فذكر: - حارس الدرب، ومنادي القاضي، ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب العلم، وابن المحدث؛ لأن أغلبهم يشتغل عن أولاده، فلا يهتم بتربيتهم ألبتة.
وأرَّخ البخاري رحمه الله لوفاة شيخه علي بن المديني في يوم الإثنين، ليومين بقيا من ذي القعدة، سنة: (234هـ)، فهذه سنة وفاة علي رحمه الله تعالى.(169/6)
معالي الأخلاق عند ابن المديني
أمابالنسبة لسيرة هذا الإمام وأخلاقه، فإنه -رحمه الله- كان صاحب ورعٍ ونزاهةٍ.
قال ابن حبان في الحديث عن الأئمة النقاد في الحديث: "مِن أورعهم في الدين، وأكثرهم تفتيشاً عن المتروكين، وألزمهم بهذه الصناعة على دائم الأوقات: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني رحمة الله تعالى عليهم أجمعين"، فعدَّ علي بن المديني منهم.(169/7)
أبو نعيم وتزكيته لابن المديني
والقصة المشهورة في خروج بعض المحدثين إلى أبي نعيم الفضل بن دكين، وهذه القصة أخرجها الخطيب رحمه الله بسنده إلى أبي العباس بن عقدة يقول: خرج أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني إلى الكوفة إلى أبي نعيم، فدلس يحيى بن معين أربعة أحاديث على أبي نعيم، فلما فرغوا، رفس أبو نعيم يحيى بن معين حتى قلبه، ثم قال: أما أحمد فيمنعه ورعه من هذا، وأما هذا -أي: علي بن المديني - فتحنيثه -أي: عبادته وتقواه- يمنعه من ذلك, وأما أنت فهذا من عملك.
قال يحيى: "فكانت تلك الرفسة أحب إليَّ من كل شيء".
وقد وردت القصة بسياق آخر مختلف: أن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ومعهما ثالثٌ صغيرٌ في السن ذهبوا إلى أبي نعيم الفضل بن دكين، فقال يحيى لـ أحمد: أريد أن أختبر الرجل.
قال: لا حاجة إلى ذلك، فقال: لا بد من اختباره، فأخذ من أحاديث أبي نعيم عشرة أحاديث كلها من رواية أبي نعيم الفضل بن دكين وجعل على رأسها واحداً ليس من حديثه وهكذا جعل على كل عشرة أحاديث حديثاً ليس من حديث أبي نعيم، ثم جاء إليهم فجلسوا، وكان على دكة له -مكان مرتفع -مسطبة- جلسوا عليها- فبدأ يحيى بن معين بسرد الأحاديث، على طريقة الطلاب والشيوخ، يقول: حدثكم فلان عن فلان عن فلان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثكم فلان عن فلان، والشيخ يوافق، وبهذا يكون مجلس الحديث والطالب يحدث عن الشيخ بعد ذلك بهذا المجلس، ولما سرد عليه مجموعة من الأحاديث -في كل ذلك وأبو نعيم يهز برأسه موافقاً- فلما بلغ الحديث الذي ليس من حديثه، توقف أبو نعيم وقال: اضرب عليه، فهذا ليس من حديثي، ثم سرد الأحاديث التي بعدها، وكل ذلك يوافق عليه حتى وصل إلى حديث، فقال: اضرب عليه فهذا ليس من حديثي، فلما تكررت، فطن لها أبو نعيم -فطن أن القضية قضية اختبار- فقال: أما هذا -أي: أحمد بن حنبل - فأورع من أن يفعل ذلك، وأما هذا فأقل من أن يفعل ذلك، وإنه من عملك يا كذا، وأخرج رجله فرفسه فوقع من على الدكة، فلما رجعوا قال أحمد: ألم أقل لك؟ -أي: أن الرجل ثقة- فقال يحيى رحمه الله: لرَفْسَتُه أحب إليَّ من كذا وكذا.
في هذه الرواية أن علي بن المديني اصطحبهم، وأن أبا نعيم الفضل بن دكين شهد له بأن تحنثه -أي: تقواه وعبادته- يمنعه من أن يفعل هذا.
وكان علي بن المديني رحمه الله حريصاً على طاعة الله وأداء واجباته، فجاءت قصة: قال أحمد بن حنبل: حضرت عند إبراهيم بن أبي الليث، وحضر علي بن المديني، وعباس العنبري، وجماعة كثيرة، فنودي لصلاة الظهر، فقال علي بن المديني: نخرج إلى المسجد، أو نصلي هاهنا؟ إلى آخر القصة.
فكان الذي اقترح أو الذي ابتدأ باقتراح الخروج إلى المسجد هو علي بن المديني رحمه الله، ولعله جاء بالكلام على طريقة سؤال؛ لأنه يرى أن هناك في المجلس من هو أكثر منه علماً.
وكان رفيقاً حميماً للإمام أحمد رحمه الله تعالى، وكان صديقاً أيضاً للعالم الرباني محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، ولذلك يقول عن صداقته للشافعي: كان الشافعي لي صديقاً، وكان سبب معرفتي إياه عند ابن عيينة، وكان ابن عيينة يجله ويعظِّمه - ابن عيينة شيخٌ للشافعي، وشيخٌ أيضاً لـ علي بن المديني، وتعرَّف علي بن المديني على الشافعي عند ابن عيينة - وهكذا لا زال الأخيار يتعرف بعضهم على بعض عند الأخيار، وكانت مجالس العلماء وسيلة للتعارف بين طلبة العلم، ويستفيدون أشخاصاً أجلاء من خلال هذه الحِلَق والتلاقي، وهذا هو الوضع الطبيعي للوضع المتوقع لهذه الحِلَق التي هي حِلَق ذكر الله؛ لأنها تضم الأخيار والطيبين والعلماء، ومنها تنطلق وتعقد أواصر التعارف.
وهذه أيضاً فائدة من الفوائد التي ينبغي التوقف عندها.(169/8)
تأثر ابن المديني بأخلاق مشايخه
كان علي بن المديني رحمه الله حريصاً على حضور مجالس العبادة والذكر بصحبة الصالحين، يقول ابن المديني رحمه الله: كنا عند يحيى بن سعيد القطان، فلما خرج من المسجد خرجنا معه - القطان هذا من كبار العلماء- فلما صار بباب داره وقف ووقفنا معه، فانتهى إليه الروبي -ولعل هذه صفة، أو اسم لشخص كان قارئاً يجيد قراءة القرآن- فقال يحيى لما رآه: ادخلوا، فدخلنا -رأى هؤلاء الجماعة وفيهم قارئ حسن الصوت، أدخلهم جميعاً لعله يكون مجلساً إيمانياً، جلسوا في المجلس- فقال للروبي: اقرأ، فلما أخذ في القراءة، قال علي المديني: فنظرت إلى يحيى قد تغير وجهه انفعالاً وتأثراً بالقراءة حتى بلغ: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:40] غُشِي عليه -أي: على يحيى رحمه الله- وكان هناك باب قريب منه، فانقلب عليه، فأصاب فقار ظهره وسال الدم، فصرخت النساء، وخرجنا فوقفنا بالباب حتى أفاق بعد كذا وكذا -خرجوا لأجل تمكين النساء من الدخول للمعالجة المعاينة، وهذا من الأدب، قال: فوقفنا بالباب حتى أفاق بعد كذا وكذا، ثم دخلنا عليه فإذا هو نائم على فراشه وهو يقول: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:40]-يكرر الآية التي سمعها من القارئ- فما زالت فيه تلك القرحة حتى مات رحمه الله، وقد ذكر هذه القصة الذهبي في سير أعلام النبلاء.
إذاً: علي بن المديني رحمه الله ممن عايش أولئك الأئمة، وهم أناس يخافون الله، يبكي الواحد منهم عند سماعه لكتاب الله تعالى حتى يُغشَى عليه، ولذلك يكتسبون مع العلم الخشوع، لم تكن المسألة فقط مجرد فوائد علمية، أو مجرد معلومات، إنما أشياء مع الخشوع، والأدب، والإيمان، والتقوى، والزهد وهكذا يتعلمون العلم والأدب العلم والإيمان جميعاً، وهذه هي الطريقة الصحيحة في التعليم، وليست إلقاء المعلومات.
وكثيرٌ من المَجالس التي تَحصل ربما يكون قصارى ما فيها إلقاء معلومات، أما أن يتأثروا من بعض الحاضرين أو من الشيخ فهذا قليل مع الأسف! ولذلك فإن صحبة العلماء العاملين الصالحين هي المكسب الحقيقي وهي الفائدة.
وكان علي بن المديني رحمه الله يتتبع شيوخه في جانب العبادة، فقال ابنٌ لـ يحيى بن سعيد: إن أباه كان يختم القرآن في كل يوم.
قال علي: فتفقدته وأنا معه في البستان، فختمه في ذلك الوقت، فكان يتتبع شيخه ليتأسى به، ونحن نعرف أن القرآن لا يفقه في أقل من ثلاثة أيام؛ ولكن لأسباب ذكرها العلماء، وقد كان بعض السلف يختمون في كل يوم.
وكذلك من الأشياء التي تأثر بها علي بن المديني رحمه الله، من القصص التي حصلت له ونقشت في قلبه أشياء: قال محمد بن نصر: سمعت علي بن المديني يقول: إني أزور امرأة عبد الرحمن بن مهدي بعد موته - عبد الرحمن بن مهدي من كبار العلماء، وهذا وفاء لـ عبد الرحمن كان يزور أهله- فرأيت سواداً في قبلة البيت، فقلت: ما هذا؟ فقالت: هذه موضع استراحة عبد الرحمن، كان يصلي بالليل، فإذا غلبه النوم وضع جبهته على هذا الموضع، أي: اتكأ عليه حتى لا يستغرق، فإذا غلبه النوم، وضع جبهته على هذا الموضع.(169/9)
تواضع علي بن المديني
وكذلك فإن علياً رحمه الله كان من المتواضعين، ومما يدل على تواضعه وحسن خلقه الآتي: كان ابن المديني رفيقاً وصديقاً وقريناً لـ أحمد بن حنبل، لكنه كان يقول: قال لي سيدي أحمد بن حنبل: لا تحدث إلا من كتاب.
وقال مرة: نهاني سيدي أحمد بن حنبل أن أحدث إلا من كتاب.
وقال فيه: لنا فيه أسوة حسنة.
- وكان رحمه الله لا يتردد في الاستفادة ممن هو أصغر منه في السن، وكان يقول: إن العلم ليس بالسن.
- قال محمد بن يونس القديمي البصري وهو أحد تلاميذ ابن المديني: "قال لي ابن المديني: عندك ما ليس عندي"، وهذا من التواضع، فلو حصل لبعض الناس ربما تظاهر أمام التلميذ أنه يعرف المعلومة منذ زمن بعيد، أما أن يقول: إنني استفدتها منك، أو عندك ما ليس عندي، فهذا بعيد عمن لم يكن من أهل التواضع، فكان ابن المديني يقول لتلميذه محمد بن يونس القديمي: عندك ما ليس عندي.
وكان إذا مُدِحَ يأبى ذلك ويحول الكلام، فعندما ذكر له قول محمد بن إسماعيل البخاري: ما تصاغرتُ نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني، قال: ذروا قوله، هو ما رأى مثل نفسه.
خطر في ذهن أحمد بن حنبل أن يسافر مع علي بن المديني إلى مكة، ولكن خوفه على ذهاب تلك الأخوة والمحبة ترك السفر معه، حيث قال أحمد بن حنبل: إني لأشتهي أن أصحبك إلى مكة، وما يمنعني إلا خوف أن أمَلَّك أو تَمَلَّني.
قال علي بن المديني: فلما ودعته، قلت: أوصني.
قال أحمد بن حنبل: اجعل التقوى زادك، وانصب الآخرة أمامك.
فالعادة أن الأدنى يطلب الوصية من الأعلى.
علي بن المديني رحمه الله كان قريناً لـ أحمد وصديقاً له ولم يكن تلميذاً، ومع ذلك يقول لـ أحمد رحمه الله: أوصني، وهذا من تواضعه رحمه الله تعالى.
وفيه من الفائدة: أنه أحياناً ربما ترك الأخ مخالطة أخيه الطويلة خشية حدوث الملل من الصحبة، حفاظاً على المودة، أو دواماً وإبقاءً للعلاقة بحيث لا تفتر، أي: ترك الخلطة الزائدة إبقاءً لدرجة الأخوة ألَّا تنزل أو تهبط.(169/10)
حرص ابن المديني على مصلحة إخوانه
وكذلك فإن علي بن المديني رحمه الله كان حريصاً على أهل الحديث، ناصحاً لهم، وإذا وجد فائدة لأحدهم ذكرها له، فقال سعيد بن سعد البخاري نزيل الري: سمعت مسلم بن إبراهيم يقول: كانت الكتب التي عند أبي داود لـ عمرو بن مرزوق، وقال: عمرو رجل كثير الغزو -يغزو في البحر- فكانت الكتب عند أبي داود إلى أن مات أبو داود، فلما مات أبو داود حولها عمرو بن مرزوق.
قال سعيد: فقال لي علي بن المديني: اختلف إلى مسلم بن إبراهيم، ودع عمرو بن مرزوق.
قال: فأتيت مسلماً في يوم مجلس عمرو بن مرزوق، فقال لي: اليوم مجلس عمرو بن مرزوق كيف جئتني؟ فقلت: إن علي بن المديني أمرني أن آتيك.
فكان علي بن المديني رحمه الله ينصح الشخص بمن يفيده أكثر، فربما يكون هذا الشخص ليس متقناً في الحديث، أو ليس له ذاك الباع، أو كان مشتغلاً بالغزو، فلن يحصل له كثير تفنن، أو إتقان، أو غيره أعلم منه! بل كان يقول للطالب: اترك هذا وائت هذا؛ من أجل فائدته، فأمر علي بن المديني سعيد بن سعد البخاري بالاختلاف إلى مسلم بن إبراهيم، وترك الأخذ عن عمرو بن مرزوق؛ لأن مسلم بن إبراهيم إمام ثقة، وأما عمرو بن مرزوق فكان متكلَّماً فيه عند ابن المديني، ولم يكن بثقة في علم الحديث؛ لكنه من جهة أخرى كان مجاهداً كبيراً.
وهكذا دأب الإنسان الحريص على مصلحة إخوانه أنه يخبرهم بالفائدة، يقول: هذا الشيخ أحسن وأفيد لك، هذا أغزر علماً، الزم فلاناً، دع هذا واذهب إلى الآخر، لا لهوى شخصي، وإنما حرصاً على مصلحة أخيه، أو على مصلحة الطالب.
ومن باب عدم الحسد -أيضاً- على الإنسان أن يدل غيره على الخير، وعلى المكان الأكثر فائدة، وعلى الشيخ الأكثر علماً، هذا من دأب أهل العلم.(169/11)
ابن المديني وتوقيره لأهل العلم
كان علي بن المديني رحمه الله موقراً لأهل العلم، فجاء عن إسحاق بن إبراهيم بن أبي حبيب، قال: كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر، ثم يستند إلى أصل منارة مسجده، فيقف بين يديه علي بن المديني، وابن الشاذكوني، وعمرو بن علي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين وغيرهم، يسألونه عن الحديث وهم قيام على أرجلهم إلى أن تحين صلاة المغرب، لا يقول لواحد منهم: اجلس، ولا يجلسون هيبةً وإعظاماً.
هذا من تبجيله مع قرنائه لأهل العلم.
وذكر الخطيب أيضاً، عن فتح بن نوح النيسابوري، قال: أتيت علي بن المديني، فرأيت محمد بن إسماعيل جالساً عن يمينه، وكان إذا حدث ابن المديني التفت إلى البخاري كأنه يهابه، مع أن البخاري تلميذ عند علي بن المديني؛ لكن علي بن المديني كان يلتفت إلى البخاري في كل معلومة أو كلام أو حديث؛ هيبةً له، وكأنه ينظر هل يوافق عليه محمد بن إسماعيل أو عنده اعتراض؟ وكذلك نظرة احترام وهيبة إلى محمد بن إسماعيل مع أنه كان تلميذاً عند علي بن المديني رحمه الله.(169/12)
مباسطة ابن المديني وحسن خلقه
وكان رحمه الله تعالى أيضاً صاحب خلق حسن وصاحب مباسطة: فمن المباسطات التي حصلت له مع بعض أصحابه قال جعفر بن محمد الصائغ: اجتمع علي بن المديني، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن حنبل، وعفان بن مسلم.
فقال عفان مباسطاً لهم: ثلاثةٌ يضعَّفون في ثلاثة طبعاً بعض الرواة ثقة، لكنه ضعيف في شيخ معين، فمثلاً: هشيم ثقة، لكنه يضعَّف في الزهري، لماذا؟ لأنه دخل عليه في مجلس قصير، فسمع منه عشرين حديثاً، فلم يحفظها هشيم، بل كتبها كتابة، فلما خرج هشيم من عند الزهري، فُقِدَت الورقة، فصار هشيم يحدِّث مما علِق في ذهنه من حديث الزهري، فاختلط عليه حديث الزهري، فـ هشيم يضعَّف في الزهري، لكنه في غير الزهري ثقة، فهناك رواة ثقات في كل شيخ إلا في شيخ معين يكون عليهم ملاحظة، أو ضعف لسبب من الأسباب، فهؤلاء: ابن أبي شيبة، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، وعفان بن مسلم كلهم ثقات، ولا يوجد ضعف في أحدٍ منهم أبداً.
فيقول عفان بن مسلم مباسطاً لهم: ثلاثة يُضعَّفون في ثلاثة: - علي بن المديني في حماد بن زيد.
- وأحمد بن حنبل في إبراهيم بن سعد.
- وأبو بكر بن أبي شيبة في شريك.
قال علي بن المديني، ورابعٌ معهم.
قال: ومن ذلك؟ قال: عفان في شعبة.
وقال عبد الله بن علي بن المديني: حدثني أبي، قال: جعل إنسان يحدث عن ابن المبارك عن الواقدي.
فقال: صرنا إلى بحر الواقدي، أي: دخلنا في بحر الواقدي والواقدي معروف بضعفه.(169/13)
وقفة مع فتنة خلق القرآن
حصلت في عهد علي بن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وغيرهم الفتنة المشهورة في قضية خلق القرآن، وهذه الفتنة لا بد أن نقول: لقد كان لها أثر على أهل العلم عموماً.
وفتنة خلق القرآن ظهرت من قول المعتزلة الذين ظهروا في ذلك الوقت، لأن الفِرَق كانت قد خرجت؛ كـ الخوارج، والجبرية، والقدرية، والمرجئة، والجهمية، والمعتزلة، ومنهم خرجت قضية خلق القرآن.
وكانت فتنة هوجاء من أعظم الفتن التي عصفت بالأمة الإسلامية.
ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال بخلق القرآن هو الجعد بن درهم، الذي قتله خالد بن عبد الله القسري في سنة: (124هـ).
وحمل لواء فتنة القول بخلق القرآن بعد الجعد بن درهم الجهم بن صفوان المقتول سنة: (128 هـ)، قُتِل بـ مرو في خلافة هشام بن عبد الملك.
وفي أوائل القرن الثالث الهجري أظهر هذه البدعة السيئة بشر المريسي، المتوفى سنة: (218 هـ).(169/14)
أحمد بن أبي دؤاد ودوره في نشر الفتنة
بعد بشر المريسي أخذ الفتنة أحمد بن أبي دؤاد الذي نشأ وتضلَّع في علم الكلام، وكان فصيحاً معظماً عند المأمون، يصغي إلى كلامه ويأخذ برأيه، فهنا بدأت المرحلة الخطيرة في قضية خلق القرآن، لأن أول ما نشأت هذه الفتنة كانت فكرة مرذولة قال بها قلة، وكانت محارَبة، محدودة، مُسَيْطَر عليها، لكنها عندما وصلت إلى أحمد بن أبي دؤاد الذي كان له حِظْوَة عند الخليفة المأمون صاحب القوة والسلطة، وكان يسمع من ابن أبي دؤاد ولا يسمع فيه، زين له القول بخلق القرآن وحسنها عنده، حتى اعتنقها المأمون وصارت عنده حقاً مبيناً، وكان ذلك في سنة: (218 هـ) وحمل الناس على ذلك وأكرههم، وبدأت المحنة.
إذاً: بدأت بتسلل الفكرة الخبيثة عن طريق هذا الرجل الذي كان له حِظْوَة عند السلطان، فأقنعه بها، واعتقد أنها حق مبين، وبدأت المحنة بأن كتب المأمون إلى نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي في امتحان العلماء، قال له: اجمع القضاة والمحدثين والفقهاء وامتحنهم بخلق القرآن، واسأل كل واحدٍ في المجلس العام: هل القرآن مخلوق أم لا؟ قال الذهبي رحمه الله: وفيها -في سنة: (218 هـ) - امتحن المأمون العلماء بخلق القرآن وكتب في ذلك إلى نائبه بـ بغداد، وبالغ في ذلك، وقام في هذه البدعة قيام معتقد بها، فأجاب أكثر العلماء على سبيل الإكراه وتوقفت طائفة، ثم أجابوا وناظروا، فلم يلتفت إلى قولهم، وعظمت المصيبة بذلك، وهدد على ذلك بالقتل.
وكان أول من امتحن في فتنة خلق القرآن هو الإمام عفان بن مسلم صاحب الطرفة التي ذكرناها قبل قليل، وكان يعارض هذه الفكرة ويأبى الرضوخ لها- يقول الذهبي رحمه الله: فلما دعي عفان للمحنة وحضر، وعرض عليه القول بخلق القرآن، امتنع أن يجيب، فقيل له: يُحْبِس عطاءك -أي: يُمْنَع الراتب- وكان يُعْطَى في كل شهر ألف درهم.
فقال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22].
فلما رجع إلى داره بعد هذه المواجهة، عذله نساؤه ومن في داره -لاموه، من أين نأكل؟ وأذهبْتَ العطاء؟ وأذهبت المال؟ - وكان يوجد في داره نحواً من أربعين إنساناً -متكفل بأربعين شخصاًَ، الموقف ليس سهلاً- فدق عليه داقٌ الباب، فدخل عليه رجل ومعه كيس فيه ألف درهم، فقال: يا أبا عثمان! ثبتك الله كما ثبتَّ الدين، وهذا لك في كل شهر.
وكتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم أيضاً في امتحان سبعة أنفس -الخبث الآن يأتي من ابن أبي دؤاد بانتقاء الأشخاص، واختيار المشاهير من العلماء والفقهاء منهم: - محمد بن سعد، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وأحمد بن إبراهيم الدورقي.
فامتحنهم بخلق القرآن، ففي البداية ما أجابوه فأمر بترحيلهم إلى بغداد، ولكنهم في الطريق أجابوا، فردهم من الرقة إلى بغداد، وأجابوه تُقْيَةً -استعملوا التورية كما كان يقول بعضهم: أشهد أنه مخلوق -ويقصد إصبعه- أو يقول: أشهد أن التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وصحف إبراهيم أنها مخلوقة -يقصد أصابعه الخمس- المهم: صارت أفكار العلماء تدور في قضية التورية في هذا الظرف الشديد.
ثم كتب المأمون بعد امتحان هؤلاء السبعة، طلب منه أن يحضر الفقهاء ومشايخ الحديث ويخبرهم بما أجاب به هؤلاء السبعة -يقول: انظر يحيى بن معين، ومحمد بن سعد، وأبا خيثمة، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، قد وافقوا على القول بخلق القرآن، كل هذا من الخبيث ابن أبي دؤاد صاحب الأفكار التي يمليها على المأمون لكي يزلزل بها أهل السنة ويفرق بها الجمع؛ لأن الجمع على أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق- فكتب المأمون إلى نائبه بأن يحذر الفقهاء ومشايخ الحديث، ويخبرهم بما جاء به هؤلاء السبعة، ففعل ذلك، فأجابه طائفة وامتنع آخرون، وكان يحيى بن معين وغيره يقولون: أجبنا خوفاً من السيف: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106] المسألة وصلت إلى القتل.(169/15)
ثبات أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح أمام فتنة خلق القرآن
ثم كتب المأمون كتاباً آخراً من جنس الأول إلى نائبه، وأمر بإحضار من امتنع، فأُحْضِر جماعة أولهم أحمد بن حنبل، وبشر بن الوليد الكندي وغيرهما، وعرض عليهما كتاب المأمون، فلم يجيبا، فوجه بجوابات من المأمون، فكانوا في البداية لا يجيبون، بل يسكتون.
فورد كتاب المأمون بامتحانهم واحداً واحداً، فامتحنهم واحداً واحداً، فأجابوا كلهم إلا أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح وكان شاباً، فوجههما إلى طََرْسُوْس -أو طََرَسُوْس، كلاهما صحيح، وجهان لاسم هذه المدينة- فلما صاروا إلى الرقة، بلغتهم وفاة المأمون، فحملا في سفينة، فلما وصلا إلى عانات -وهي مدينة في وسط الفرات - توفي محمد بن نوح -طبعاً بوفاة المأمون لم تنته القضية؛ لأن المأمون أوصى المعتصم بأن يحمل الراية من بعده- وكان الإمام أحمد يدعو الله تعالى ألَّا يريه وجه المأمون، فاستجاب دعاءه، فتوفي المأمون قبل أن يصل إليه الإمام أحمد، ولما توفي المأمون، رُدَّ أحمد من الطريق- وتوفي محمد بن نوح، فأُطْلِق قيده -لأنه مات في القيد- وصلى عليه الإمام أحمد رحمه الله.
ومما يروى عن الإمام أحمد قوله: ما رأيت أحداً على حداثة سنه وقلة علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، وإني لأرجو أن يكون الله قد ختم له بخير.
فالذين صبروا على المحنة أربعة أشخاص، كلهم من مرو كما قال أبو العباس بن سعيد المروزي وهم: 1 - أحمد بن حنبل.
2 - أحمد بن نصر الخزاعي.
3 - محمد بن نوح.
4 - نعيم بن حماد.
وذكر ممن لم يجب أيضاً أبا نعيم الفضل بن دكين، وعفان بن مسلم، وأبا يعقوب يوسف بن يحيى البويطي -تلميذ الشافعي وصاحبه- وإسماعيل بن أبي أويس، وأبا مصعب المدني، ويحيى الحِمَّاني.
ونقل عن البويطي قولته المشهورة: "فوالله لأموتن في حديدي هذا حتى يأتي من بعدي قومٌ يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم، ولئن أدخلت عليه لأصْدُقَنَّهم عليه" أي: على الخليفة الواثق.
ويؤخذ أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الدمشقي، شيخ أهل الشام ومحدثهم، مكبلاً بالحديد فيمتحن ويصر على الرفض بخلق القرآن، ويهدَّد بالقتل، ثم يستجيب تحت التهديد بالسيف، ومع ذلك يعاد بأغلاله إلى بغداد، ويموت في سجنها.
ومات المأمون، وأوصى إلى المعتصم من بعده بامتحان الناس بخلق القرآن، فقام بتعذيب العلماء والمحدثين الذين لم يقولوا بخلق القرآن، ومكث أحمد في السجن منذ أُخِذ وحُمِل وضُرِب إلى أن خُلِّي عنه (28) شهراً.
ويقال: إن المعتصم رقَّ في أمر الإمام أحمد لما رأى ثباته وتصميمه وصلابته؛ ولكن ابن أبي دؤاد قال له: إن تركته، قيل: إنك تركت مذهب المأمون وسخطت قوله، فهاجه ذلك على ضربه أي: على ضرب الإمام أحمد رحمه الله.
وبعد المعتصم خلفه الواثق وورث الدعوة إلى هذه البدعة، وامتحن الناس، لكنه لم يتعرض لـ أحمد، إما لأنه خاف من أن يتألب عليه العامة، أو لما علم من صبره، وأنه لا فائدة من تعذيبه، ولكن قال لـ أحمد: لا تشاكلني بأرض -أي: لا أريد أن أرى وجهك في مملكتي، فاختفى أحمد رحمه الله تعالى بقية حياة الواثق، وبعد أن مات الواثق ظهر أحمد إلى العلن مرةً أخرى.
وفي عهد الواثق توسعت دائرة الفتنة، وشملت كافة الأمصار، وكان الفقهاء يُساقون إلى بغداد ليمتحنوا في هذه المسألة ويُفَتَّش عنهم وعن نواياهم وعن قلوبهم، ولم يبق فقيه ولا محدث ولا مؤذن ولا معلِّم حتى أُخِذ بالمحنة، فهرب كثير من الناس، وملئت السجون ممن أنكر المحنة، ومُنِع الفقهاء من الجلوس في المساجد، واستمر الحال في أيام الواثق.(169/16)
بداية ارتفاع محنة خلق القرآن
ورد كتاب المتوكل برفع المحنة بعد الواثق، وكان من الأسباب التي أدت إلى رفع المحنة مناظرة جرت بين يدَي الواثق، فمنها رأى الواثق ترك الامتحان، لكنه كان لا يزال على القول بخلق القرآن، لكن ترك امتحان الناس بسبب حادثة حصلت، قيل: إنه جيء له بشيخ مقيد، فأذِن الواثق لـ أحمد بن أبي دؤاد بمناظرة هذا الشيخ، فقال أحمد بن أبي دؤاد: يا شيخ! ما تقول في القرآن؟ قال الشيخ: لم تنصفنِ، ولِّنِي السؤال -لماذا أنت تبدأ بالسؤال؟ أنا أبدأ بالسؤال.
قال: سَل.
فقال له الشيخ: ما تقول في القرآن؟ قال: مخلوق.
قال: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي أم لم يعلموه؟ فقال: شيء لم يعلموه.
فقال: سبحان الله! شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، وعلمتَه أنت؟! قال: فخجل، وقال: أقِلْني، أي: أعطني فرصة أسحب جوابي.
فأعاد عليه السؤال، قال: ما تقول في خلق القرآن؟ قال: مخلوق.
قال: أهذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده، أم لم يعلموه؟ قال: علِموه ولم يدعوا الناس إليه.
لأن هذه ورطة، لأنه لو قال: ما علِموه، معناها: أن هذا صار أعلم من النبي عليه الصلاة والسلام؟! وإذا قال: علِموه، سيكون السؤال الذي بعده: حسناً: هل دعوا الناس إليه، وامتحنوا الناس عليه؟ فيكون
الجواب
لا.
فلذلك ابن أبي دؤاد جاء بالجواب في فقرتين، فقال: علِموه ولم يدعوا الناس إليه.
فقال: أفلا وسعك ما وسعهم؟ جميلٌ! علموه؟! حسناً! لكن ألا يسعك ما وسعهم؟! إذا هم تركوا امتحان الناس عليه، أما تفعل مثلهم تترك امتحان الناس عليه؟! ثم قام الواثق، فدخل المجلس -مجلس الخلوة- واستلقى على قفاه، وهو يقول: هذا شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، علمتَه أنت! سبحان الله! ويكرر ما قاله الشيخ المقيد، ثم أمر برفع القيود عنه وإعطائه أربعمائة دينار، وأذن له في الرجوع، وسقط من عينيه ابن أبي دؤاد، ولم يمتحن بعد ذلك أحداً في هذه القضية.
كانت هذه المناظرة هي بداية انفكاك المحنة.
ثم جاء بعد الواثق المتوكل، والمتوكل رجع إلى قول أهل السنة، وأظهر قول أهل السنة أن القرآن منزل غير مخلوق، وكُشفت الغمة عن الناس، وأظهر برفع الإمام أحمد رحمه الله، ورجع كل شيء إلى ما كان عليه، فحمد الناس المتوكل رحمه الله لذلك الفعل.
والكلام سيكون هو موقف ابن المديني في هذه المحنة، والاعتذار عنه بما حصل.(169/17)
موقف ابن المديني من فتنة خلق القرآن
طالت هذه المحنة أعداداً غفيرةً من العلماء، وكان منهم: علي بن المديني رحمه الله تعالى.
فما هو موقفه في هذه المحنة؟ وما قيل عنه؟ وما هو اعتقاده في هذه المسألة؟ هذه قضية جديرة بالبحث.
لا بد أن نعلم أن علي بن المديني رحمه الله لم يكن موقفه في هذه المحنة مثل موقف الإمام أحمد رحمه الله، فإن موقف الإمام أحمد رحمه الله فاق كل المواقف، وكان هو رجل الموقف بلا شك، ولكن الإمام علي بن المديني رحمه الله قد افتُريت عليه افتراءات في هذا المقام، فلا بد من بيان موقف الإمام علي بن المديني رحمه الله في هذه القضية.(169/18)
عقيدة ابن المديني في القرآن
أولاً: لا شك أن علي بن المديني رحمه الله من أئمة أهل السنة، واعتقاده في سائر أبواب العقيدة هو اعتقاد أهل السنة والجماعة، وبطبيعة الحال، فإن الكلام في اعتقاده رحمه الله في القرآن لا بد أن يكون جارياً على اعتقاد أهل السنة والجماعة في أن القرآن منزلٌ غير مخلوق، وهذا أمرٌ لا شك فيه، والنقولات عن هذا الإمام تثبت ذلك.
فقد جاء عنه رحمه الله تعالى أنه قال في هذه المسألة: أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى منزلٌ غير مخلوق، ونقل العلماء رحمهم الله عنه عباراته التي تؤدي هذا المعنى.
فيقول إبراهيم بن عثمان بن أبي شيبة: سمعت علي بن المديني على المنبر يقول: من زعم أن القرآن مخلوقٌ فهو كافر، ومن زعم أن الله لا يُرى فهو كافر، ومن زعم أن الله لم يكلم موسى على الحقيقة فهو كافر.
وقال إبراهيم بن عثمان بن أبي شيبة أيضاً: سمعت علي بن المديني يقول قبل أن يموت بشهرين: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: إنه مخلوق فهو كافر.
إذاً: اعتقاد الإمام علي بن المديني رحمه الله في المسألة اعتقاد واضح لا لبس فيه من جهة ما يعتقده الرجل في هذه القضية، لكنه -ولا شك- بحسب الروايات التي جاءت لم يكن موقفه في القوة والصلابة مثل موقف الإمام أحمد رحمه الله، ولعل له عذراً في ذلك، فالرجل قد سُجِن وضُرِب.
يقول علي بن الحسين بن الوليد: حين ودعت علي بن عبد الله بن جعفر -أي: ابن المديني - قال: بلغ أصحابنا عني أن القوم كُفَّار ضُلاَّل، ولم أجد بُدَّاً من متابعتهم؛ لأني جلست في بيت مظلم ثمانية أشهر، وفي رجلي قيد ثمانية أمنان حتى خفت على بصري.
فإذاً: واضح أنه رحمه الله قد أُكْرِه على قول الباطل، وهذا هو صريحٌ في قوله: ولم أجد بُدَّاً من متابعتهم.
والإكراه واضح من قوله: "لأني جلست في بيت مظلم ثمانية أشهر، وفي رجلي قيد ثمانية أمنان حتى خفت على بصري".
واعتقاده في المعتزلة الذين يقولون بخلق القرآن وحملوا الناس على ذلك، قال: بلغ أصحابنا -أي: أهل السنة وأهل الحديث- عني أن القوم كُفَّار ضُلاَّل، ولم أجد بُدَّاً من متابعتهم.
ويقول ابن المديني -رحمه الله- أيضاً: ما في قلبي مما قلتُ وأجبتُ إليه شيء -الذي قلتُ وأجبتُ إليه وأنا مُكرَه ليس اعتقاداً بقلبي- ولكني خفت أن أقتل، وتعلم ضعفي أني لو ضُربت سوطاً واحداً لَمُتُّ.
وذكر رجلاً من الرواة وتكلم فيه مرة، فقال له العباس بن عبد العظيم العنبري: لا يقبلون منك، إنما يقبلون من أحمد بن حنبل -أنت بسبب موقفك، ما ثَبَتَّ، لا يأخذون بقولك في الرجال، بل يأخذون بقول أحمد قال: قوي أحمد على السوط وأنا لا أقوى.
فيظهر من هذه النصوص أن الإمام علي بن المديني رحمه الله كان نحيل الجسم، ضعيف التحمل، ليس معه من القوة الجسمية ما يعينه على تلقي الضرب وهو معذور، والله تعالى قد قال: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106] ولكن مع ذلك فإن ابن المديني رحمه الله ظل يشعر بالندم على ما حصل منه تحت هذا الإكراه، وعدة روايات تُنْقَل عنه في تأسفه وتندمه، ونقلها العلماء.(169/19)
افتراءات على ابن المديني في قضية خلق القرآن
لكن الذي حصل أنه قد افتُريَت عليه أخبار.
فمن القصص التي افتريت عليه: قيل: إنه دخل عليه أحد تلاميذه يوماً، فرآه واجماً مغموماً، فقال: ما شأنك؟ قال: رؤيا رأيتها؟ قال: قلت: وما هي؟ قال: رأيت كأني أخطب على منبر داوُد عليه السلام.
قال: فقلت: خيراً، رأيتَ أنك تخطب على منبر نبي.
قال: لو رأيت كأني أخطب على منبر أيوب، كان خيراً لي؛ لأن أيوب بلي في بدنه وداوُد فتن في دينه، وأخشى أن أفتتن في ديني، فكان منه ما كان.
قال الخطيب البغدادي: أي: أنه أجاب لَمَّا امتُحِن إلى القول بخلق القرآن.
ولكن هذه الرواية يقول أهل العلم في رجالها: إن العنبري هذا ناقل القصة وكنيته: أبو عبد الله غلام خليل ضعيفٌ بالاتفاق.
قال الذهبي بعد حكاية القصة: غلام خليل غير ثقة.
وقال فيه أبو داود: أخشى أن يكون دجال بغداد.
وقال الدارقطني: متروك.
وقال فيه مرة أخرى: يضع الحديث.
إذاً: هذه حكاية مُطَّرَحة باطلة لا يُعَوَّل عليها.
ثم قد افتُرِيَت عليه قصة أخرى أيضاً: فجاء عن الحسين بن فهم عن أبيه: قال ابن أبي دؤاد للمعتصم: يا أمير المؤمنين! هذا -أي: أحمد بن حنبل - يزعم أن الله تعالى يُرى في الآخرة، والعين لا تقع إلا على محدود, والله تعالى لا يُحَدُّ.
فقال له المعتصم: ما عندك في هذا؟ فقال الإمام أحمد: يا أمير المؤمنين! عندي ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن أبي دؤاد -ما عنده إلا عقليات، العين لا تقع إلا على محدود، والله لا يُحد! وهذا حتى في العقليات باطل.
فالآن نحن إذا نظرنا إلى السماء، نراها لكننا لا نحيط بها، هل يمكن أن يقول أحد: لا نراها، لأننا لا نحس بها؟ لا.
هل هناك منافاة بين الإحاطة والرؤيا؟ لا.
يمكن أن ترى الشيء وأنت لا تحيط به، فـ ابن أبي دؤاد ما عنده إلا عقليات فاسدة- يقول: إن هذا -أي: الإمام أحمد - إن الله تعالى يُرى في الآخرة، والعين لا تقع إلا على محدود, والله تعالى لا يُحد.
فقال المعتصم للإمام أحمد: ما عندك في هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين! عندي ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: حدثني محمد بن جعفر غندر، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة أربع عشرة من الشهر، فنظر إلى البدر، فقال: أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا البدر، لا تُضامُون في رؤيته) فأتى الإمام أحمد بالدليل الصريح على هذا.
ما أتينا بعدُ إلى موضع الشاهد من القصة المفتراة.
فقال المعتصم لـ أحمد بن أبي دؤاد: ما عندك في هذا؟ قال: انظر في إسناد هذا الحديث، يقول: لا بد أن نراجع الإسناد.
ماذا فعل ابن أبي دؤاد -حسب القصة هذه-؟! وجَّه إلى علي بن المديني، وهو في بغداد مُمَلَّق -أي: فقير لا يقدر على درهم- فأحضره، فلما كلمه حتى أعطاه عشرة آلاف درهم، وقال: هذه من أمير المؤمنين وأن تُدْفَع إليه أرزاقه المقطوعة سابقاً رزق سنتين.
ثم قال له: يا أبا حسن - ابن أبي دؤاد يقول لـ علي بن المديني، الخبير بـ العلل - يا أبا حسن! حديث جرير بن عبد الله في الرؤية ما هو؟ قال: صحيح.
قال: فهل عندك فيه شيء؟ قال: يعفيني القاضي من هذا.
قال: يا أبا حسن! هذه حاجة الدهر.
ثم أمر له بثيابٍ وطيب ومركب بسرجه ولجامه، ولم يزل حتى قال له: في هذا الإسناد مَن لا يعوَّل عليه ولا على ما يرويه، وهو: قيس بن أبي حازم، إنما كان أعرابياً بوَّالاً على عَقِبَيه.
فقبَّل ابن أبي دؤاد ابن المديني واعتنقه.
فلما كان الغد وحضروا، قال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين! -يحتج في الرؤية بحديث جرير - وإنما رواه عنه قيس بن أبي حازم وهو أعرابي بوَّال على عَقِبَيه.
هذه القصة التي ذُكِرَ بعد ذلك في تكملة القصة أن الإمام أحمد قال: هذا مما عمله ابن المديني، هذه القصة باطلة النسبةِ إلى ابن المديني وكَذِبٌ عليه وافتراء.
يقول الخطيب البغدادي في القصة السابقة من الخبراء بثبوت القصص، ولذلك لما أظهر اليهود في حياة الخطيب البغدادي خطاباً أو رسالة، قالوا: هذه من محمد بن عبد الله -النبي صلى الله عليه وسلم- يضع عنا الجزية، وجاءوا إلى الخليفة، قالوا: لا تأخذ منا الجزية، أن الجزية موضوعة عنا وهذا إثبات ذلك، نبيكم أعطانا صكاً بوضع الجزية، فعرضه الخليفة على العلماء، فوصل إلى الخطيب، فقال: مزور.
قال: وما دليلك؟ قال: فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان، وإنما أسلم في الفتح، والصك هذا من أيام خيبر، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وقد مات في الخندق قبل خيبر.
فـ الخطيب رحمه الله كان ذكياً وخبيراً بموضوع القصص.
قال الخطيب البغدادي في هذه القصة: أما ما حُكِي عن علي بن المديني في هذا الخبر أن قيس بن أبي حازم لا يُعْمَل على ما يرويه لكونه أعرابياً بوَّالاً على عَقِبَيه، فهو باطلٌ، وقد نزه الله علياً -أي: ابن المديني - عن قول ذلك؛ لأن أهل الأثر -وفيهم علي - مجمعون على الاحتجاج برواية قيس بن أبي حازم وتصحيحها؛ إذ كان من كبراء تابعي أهل الكوفة، وليس في التابعين من أدرك العشرة المقدمين -أي: العشرة المبشرين بالجنة- وروى عنهم غير قيسٍ، مع روايته عن خلق من الصحابة سوى العشرة، ولم يَحْكِ أحدٌ ممن ساق خبر محنة أبي عبد الله أحمد بن حنبل أنه نوظر في حديث الرؤية.
يقول الخطيب البغدادي: فإن كان هذا الخبر المحكي عن ابن فهم -الراوي للقصة- محفوظاً فأحسب أن ابن أبي دؤاد تكلم في قيس بن أبي حازم بما ذكر في الحديث، وعزا ذلك إلى ابن المديني، أي: ألصقها بـ ابن المديني وابن المديني منها بريء، والله أعلم.
واستبعد أيضاً تاج الدين السبكي هذه القصة، فقال: وما حُكِي من أنه علل حديث الرؤيا بسؤال القاضي أحمد بن أبي دؤاد له، وقال: هذه حاجة الدهر، وأن علياً قال: فيه من لا يعوَّل عليه وهو قيس بن أبي حازم، إنما كان أعرابياً بوَّالاً على عَقِبَيه، وأن ابن أبي دؤاد قال لـ أحمد كذا والرد عليه، وأن ابن حنبل قال: علمتُ هذا من عمل ابن المديني، فهو أثرٌ لا يصح.
فالمهم: أن العلماء بيَّنوا براءة علي بن المديني من هذه الفرية، وأن علي بن المديني أورع وأعظم وأرفع من أن يطعن في راوٍ متفق على أنه ثقة من أجل بغلة بسرجها ولجامها وبعض النقود، لا يمكن، فـ ابن المديني أورع من أن يفعل هذا.
ومما يدل على ذلك أيضاً: أن ابن المديني له كتاب اسمه العلل، عندما جاء على ذكر قيس بن أبي حازم، توسع ابن المديني في الكلام عنه جدِّاً أكثر من أي شخص آخر في الكتاب، وأن الرجل ثقة، مما دفع بعض الباحثين إلى أن يقول: لعل ابن المديني سمع بالفرية التي ألصقت به، فلما ألف كتاب العلل، أشبع قيس بن أبي حازم توثيقاً له ليدافع عن نفسه ضد الفرية التي ألصقت به.
فخلاصة القول: أن ابن المديني رحمه الله كان صحيح العقيدة في القرآن، صحيح أنه لم يثبت مثل الإمام أحمد، هذا بلا شك، أما أنه افترى وأعطى أدلة للقوم يتقوون بها فهذا كذب وافتراء، وقد تبرأ من القوم بعد ذلك، وقال: إنهم كفار، وأعلن عقيدته صريحة بعد ذلك، وبيَّن عُذْرَه، وأنه ضعيف لا يقوى على الضرب، وأن هناك فرق بينه وبين أحمد بن حنبل رحمه الله، وأظهر ندمه على كلامه مع أنه مكره عليه، وكان يبجل أحمد جداً لموقفه، ولذلك لما ورد عليه رسالة من أحمد بن حنبل في تلك الأيام ونظر إليها جعل يقول علي بن المديني: يأتي بأبي تركةُ الأنبياء.
وقبَّله ووضعه بين عينيه.
فقال له رجلٌ من جلسائه: يا أبا الحسن! ما نشبه أحمد بن حنبل في زماننا إلا بـ سعيد بن جبير في زمانه، فقال علي بن المديني: لا.
بل أحمد في زماننا أفضل من سعيد بن جبير في زمانه؛ لأن سعيداً كان له نظراء في زمانه، وأما أحمد فلا يُعرف له نظيرٌ في شرقها ولا في غربها.
الذهبي رحمه الله في ترجمة علي بن المديني: "مناقب هذا الإمام جمة لولا ما كدَّرها بتعلقه بشيء من مسألة القرآن، إلا أنه تنصل وندم وكفَّر من يقول بخلق القرآن، فالله يرحمه ويغفر له".
إذاً: هذا موقف الإمام علي بن المديني رحمه الله، وكان يدعم(169/20)
نفي تهمة رمي ابن المديني بالتشيع
ابن المديني رحمه الله له موقف آخر في مسألة إظهار بعض الأشياء في بعض الأماكن لمصلحة معينة، فقد قال يحيى بن معين: كان علي بن المديني إذا قدم علينا أظهر السنة، وإذا ورد إلى البصرة أظهر التشيع.
فهذه العبارة يجب معرفة معناها، وقد شرحها الذهبي حيث قال: كان يظهر ذلك بـ البصرة ليؤلفهم على حب علي رضي الله عنه، فإنهم عثمانية.
أي: أهل البصرة كان فيهم بغضٌ لـ علي رضي الله عنه تعصباً لـ عثمان.
لما كان علي بن المديني يدخل البصرة يظهر التشيع، ما معنى التشيع؟ أي: نصرة علي، وإظهار فضله، وذكر مناقبه؛ لمعالجة انحراف أهل البصرة في كره علي والتعصب لـ عثمان، وقد كانت مدينة الكوفة معروفة بتشيعها، فكان ابن المديني إذا دخل الكوفة، لا يظهر التشيع؛ لأن أهلها لا يحتاجون إلى إظهار التشيع؛ لأنهم متعصبون لـ علي.
إذاً: ما حصل منه رحمه الله من التَّقِيَّة في مسألة خلق القرآن كان اضطراراً، وكما قال بعض المؤرخين وهو الصحيح: "أنه إنما أجاب خشية السيف".(169/21)
الرد على القول بأن الإمام أحمد لم يرو عن ابن المديني بعد المحنة
وهناك -أيضاً- مطعن يطعنون في علي بن المديني رحمه الله، ينبغي الدفاع فيه عنه: يقولون: إن أحمد رحمه الله ما روى عنه شيئاً بعد المحنة.
فالجواب عن هذه القضية: أن المحنة رُفِعَت في أيام الخليفة المتوكل سنة: (234 هـ)، وفيها توفي علي بن المديني، فكيف سيحمل أحمد عنه بعد المحنة وهو أصلاً توفي في هذه السنة؟! لكن لا يمنع أن أحمد رحمه الله من أجل تعزيز موقف أهل السنة قد أفتى أو تكلم بعدم الرواية عمن أجاب في المحنة من باب تعزيز الموقف، ولكي يحمل الرواة والمحدثين والفقهاء والعلماء ويلقنهم درساً في القضية، ولكن أحمد رحمه الله زميل علي بن المديني، وروى عنه، وكونه لم يرو عنه بعد المحنة؛ لأن علي بن المديني مات بعد ارتفاع المحنة مباشرةً، وستأتي أخبار بين أحمد بن حنبل رحمه الله وعلي بن المديني بمشيئة الله تعالى.
ودافع الذهبي رحمه الله عن علي بن المديني دفاعاً قوياً لَمَّا أورد العقيلي في كتابه الضعفاء اسم علي بن المديني، وقال العقيلي: "جنح إلى ابن أبي دؤاد والجهمية -كذا يقول- وحديثه مستقيمٌ إن شاء الله".
لا شك أن التعليق بالمشيئة يضعف العملية، ولذلك يقولون: (لا بأس به) أقوى مِن (لا بأس به إن شاء الله)، و (ثقة) أقوى مِن (ثقة إن شاء الله)، و (صدوق) أقوى مِن (صدوق إن شاء الله)؛ لأن تعليق الصيغة بالمشيئة يضعفها.
فالآن العقيلي يزعم في كتابه الضعفاء أن علي بن المديني ضعيف.
كتاب الضعفاء جَمَع فيه أسماء الضعفاء، فيأتي ويضع اسم علي بن المديني فيه؟! يقول الذهبي: وقد بدت منه هفوةٌ -أي: من علي بن المديني رحمه الله- ثم تاب منها، وهذا أبو عبد الله البخاري قد شحن صحيحه بحديث علي بن المديني، ولو تركت حديث علي، وصاحبه محمد، وشيخه عبد الرزاق، وعثمان بن أبي شيبة، وإبراهيم بن سعد، وعفان، وأبان العطار، وإسرائيل، وأزهر السمان، وبهز بن أسد، وثابت البناني، وجرير بن عبد الحميد لغلقنا الباب، وانقطع الخطاب، ولماتت الآثار، واستولت الزنادقة، ولخرج الدجال، أما لك عقلٌ يا عقيلي؟! - الذهبي يقول مناقشاً إيراد علي بن المديني في كتاب الضعفاء - يقول: أفما لك عقلٌ يا عقيلي؟! أتدري فيمن تتكلم؟ وإنما تبعناك في ذكر هذا النمط لنذب عنهم، ولنزيف ما قيل فيهم، كأنك لا تدري أن كل واحد من هؤلاء أوثق منك بطبقات، بل وأوثق من ثقات كثيرين لم توردهم في كتابك، فهذا مما لا يَغتاب فيه محدِّث، وأنا أشتهي أن تعرفني من هو الثقة الثبت الذي ما غلط، ولا انفرد لما لا يُتابَع عليه؟! ثم شرح الذهبي قضية انفراد الثقة، وقال ملخص الكلام: "الثقة إذا انفرد بما ليس عند غيره، هذا دليل على سعة علمه، وأنه سمع أشياء ما سمعوها، أما الصدوق الذي لا يصل إلى مرتبة الثقة إذا انفرد بما انفرد به غيره، كان ذلك شذوذاً".
وهو يعبر عنه بالإنكار رحمه الله.
ثم قال الذهبي: "فَزِنِ الأشياء بالعدل والورع، وأما علي بن المديني فإليه المنتهى في معرفة علل الحديث النبوي مع كمال المعرفة بنقد الرجال، وسعة الحفظ والتبحر في هذا الشأن، بل لعله فردُ زمانه في معناه، وقد أدرك حماد بن زيد، وصنَّف التصانيف وهو تلميذ يحيى بن سعيد القطان ".
هذا قد ذكره الذهبي رحمه الله في كتابه الميزان.
إذاً: هذه خلاصة قضية علاقة علي بن المديني بموضوع محنة خلق القرآن، والجواب عن ذلك.
ومن الذين أجابوا تُقْيَةً: يحيى بن معين.
وأناس آخرين.
أما الذي برز في المسألة فهو الإمام أحمد رحمه الله.
والذين لم يجيبوا قلة يسيرة جداً، بعضهم مات في الحبس، وبعضهم مات تحت العذاب، وما بقي إلا أحمد رحمه الله، والبَقِيَّة كلهم كانوا قد أجابوا تُقْيَةً، أو أنهم تواروا واختفوا، وأما الذي ثبت وظهر فهو: الإمام أحمد رحمه الله، ولعل بعضهم قد اكتفى بموقف الإمام أحمد أنه قام بالحق وأعلنه والناس ينظرون إليه، فقالوا: لعله يسعنا نحن أن ننسحب ما دام أن واحداً هناك قام بالمهمة، ومع ذلك لا يُبَرَّءون، بل أخطئوا والله يغفر لهم.(169/22)
فقه الإمام علي بن المديني
كان الإمام علي بن المديني رحمه الله ليس محدثاً فقط -مع أنه من كبار رواة الحديث- ولا نقاداً للعلل فقط، وإنما كان فقيهاً أيضاً: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتي بالوحي، والصحابة الكرام كانوا يفتون بأقواله عليه الصلاة والسلام، وإذا لم يجدوا نصاً في الكتاب وولا في السنة اجتهدوا آراءهم، والتابعون ساروا على منوال الصحابة، يعرضون الأمور على الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، فإذا لم يجدوا اجتهدوا من عندهم.
وفي عصر الأئمة المجتهدين: أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، والشافعي، والأوزاعي، والثوري، تكونت المذاهب الفقهية، فكان بـ المدينة مدرسة، وبـ العراق مدرسة فقهية أخرى، وبـ الشام مدرسة كذلك، وكل واحدة من هذه المدارس كان لها مميزاتها وملامحها.
أما بالنسبة لـ علي بن المديني رحمه الله فلا شك أنه كان من العلماء الذين جمعوا في الحديث بين الدراية والرواية، أي: من ناحية الصحة والعلل، ومن جهة المعنى والفهم والفقه، ولذلك عندما تكلم بعض العلماء الذين يعرفون الحديث رواية ودراية، ذكروا علي بن المديني من رءوس هؤلاء، فهذا الحاكم النيسابوري في كتابه معرفة علوم الحديث، قال: "فأما فقهاء الإسلام أصحاب القياس والرأي والاستنباط والجدل والنظر، فمعروفون في كل عصر وفي كل بلد، ونحن ذاكرون بمشيئة الله في هذا الموضع فقه الحديث عن أهله ليُسْتَدل بذلك على أن أهل هذه الصنعة مَن تبحَّر فيها لا يجهل فقه الحديث، إذ هو نوعٌ من أنواع هذا العلم".
ثم ذكر بعض أئمة الحديث المشهورين بالرواية والدراية، يروون الأحاديث ويفقهون معانيها ليسوا فقط نَقَلَةً، قال: منهم: - محمد بن مسلم الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وسفيان بن عيينة، وابن المبارك، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، رحمهم الله تعالى جميعاً، فذكر علياً منهم.
قال الذهبي في كتابه تذكرة الحفَّاظ: لا تنظر إلى هؤلاء الحُفَّاظ النظر الشزر، ولا ترمقنهم بعين النقص، ولا تعتقد فيهم أنهم من جنس محدثي زماننا! حاشا وكلا، فما فيمن سميتُ أحداً -ولله الحمد- إلا وهو بصيرٌ بالدين، عالم بسبيل النجاة، وليس في كبار محدثي زماننا أحدٌ يبلغ رتبة أولئك في المعرفة -لأن الذهبي متأخر، في القرن الثامن- فإني أحسبك لفرط هواك تقول بلسان الحال إن أعوزك المقال: مَن أحمد؟! ومَن ابن المديني؟! وأي شيء أبو زرعة، وأبو داود؟! هؤلاء محدثون، ولا يدرون ما الفقه وما أصوله، ولا يفقهون الرأي ولا علم لهم بالبيان والمعاني والدقائق، ولا هم من فقهاء الملة -هذه كانت دعوى، ربما قالها بعضهم في عصر الذهبي، فقال الذهبي راداً على من يقول ذلك الكلام: فاسكت بحلمٍ، أو انطق بعلمٍ، فالعلم النافع هو ما جاء عن أمثال هؤلاء؛ ولكن نسبتك إلى أئمة الفقه كنسبة محدثي عصرنا إلى أئمة الحديث، فلا نحن، ولا أنت، وإنما يَعْرِف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل.
وإذا كان الرجل الذي هو علي بن المديني رحمه الله، قد اطلع على فقه أبي حنيفة ومالك، وروى عنه وسمع روايات كثيرة عن مالك في الفقه، وكان صديقاً للشافعي، ومبجِّلاً لـ أحمد وصاحباً له، وتتلمذ على يحيى بن سعيد القطان، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن مهدي، فكيف لا يكون رجلاً فقيهاً؟! ومن الأدلة على فقهه: أن كل أصحاب مذهبٍ حاولوا أن يدَّعوه إليه.
فهذا العبَّادي الشافعي في طبقات الشافعية ذكر علي بن المديني في الطبقة الأولى من طبقات الشافعية.
وكذلك الشيرازي قال: " علي بن المديني صاحبنا، وهو شافعي".
وقال أبو يعلى الفراء الحنبلي: علي بن المديني حنبلي، صاحبنا، وهو ما وضعه في كتاب طبقات الحنابلة.
وكذلك محمد بن محمد المخلوف المالكي اعتبر علي بن المديني في الطبقة السادسة من المالكية، قال: صاحبنا.
إذاً الرجل كان فقيهاً، وحتى أن كل واحد من أصحاب المذاهب الذين ذكروا طبقات المذاهب يدَّعون أن علي بن المديني منهم، ويريدون أن يلصقوه بهم.
والحقيقة: أن الرجل فيما يظهر كان مجتهداً، ليس متقيداً بمذهب معين، عنده أحاديث وأدلة كثيرة جداً، حافظ للقرآن، وعنده فهم كبير، ولا يحتاج إلى تقليد والحمد لله؛ ولذلك كان إماماً مجتهداً.(169/23)
ابن المديني كان مجتهداً لا مقلداً
نُقِلَت عن ابن المديني أقوال يعرف من خلالها أنه كان غير متمسك بمذهب معين، ولا يتبع شيخاً أو إماماً معيناً.(169/24)
قول ابن المديني في مسألة السترة
فمثلاً: حديث الخط في السترة، إذا لم يجد الإنسان عصا ولا شيئاً يغرسه، يخط خطاً، وقد ذهب علي بن المديني إلى الاحتجاج بحديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا صلى أحدكم، فليجعل تلقاء وجهه شيئاً، فإن لم يجد فلينصب عصاهً، فإن لم يكن معه عصاًَ فليخط خطاً ولا يضره من مرَّ بين يديه) أي: إذا ما وجدت شيئاً تضعه، فخط خطاً، هذا الحديث مختلف في صحته.
لكن أحمد بن حنبل يقول: حديث صحيح، وكذا علي بن المديني -كما يقول ابن عبد البر - يصحح الحديث ويحتج به.
والأحناف يقولون: لا بد من شيء يغرز، أما الخط فإنه لا يرى من بُعد ولا يغني، مع أن ابن همام الحنفي خالف مذهبه رحمه الله في هذه المسألة، وقال: السنة أولى بالاتباع.
والمالكية قالوا ببطلان الخط وعدم ثبوته.
والشافعي رأى في مذهبه الجديد عدم الأخذ بالخط، وذهب إلى تضعيف الحديث.
فـ ابن المديني يرى بأن حديث الخط ثابت، ولذلك أخذ به ولم يتابع الشافعي، ولا مالكاً، ولا أبا حنيفة بل وافق قوله في هذه المسألة قول أحمد.(169/25)
قول ابن المديني في مسألة مس الذكر
ومسألة مس الذكر ينقض الوضوء أم لا؟ هذه المسألة من المسائل الخلافية الكبيرة في الفقه الإسلامي، ولكل من الفريقين أدلة، فذهب بعضهم إلى حديث بسرة، وذهب بعضهم إلى حديث قيس بن طلق، وقالوا: هذا لا يُتَوَضَّأ منه لحديث: (إنما هو بضعة منك)، وأولئك قالوا: (من مس ذكره فليتوضأ) حديثان كل واحد يُفْهَم منهم شيء مخالف للآخر.
حصل نقاش ظريف ولطيف ونادر بين علي بن المديني ويحيى بن معين بحضور أحمد بن حنبل، فيقول الحافظ رجاء بن مرجى: اجتمعنا في مسجد الخيف أنا، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، فتناظروا في مس الذكر، قال يحيى بن معين: يُتَوَضَّأ منه، أي: من مس الذكر.
وتقلد علي بن المديني قول الكوفيين، وقال به.
وقول الكوفيين أنه لا يتوضأ من مس الذكر.
واحتج ابن معين بحديث بسرة بنت صفوان الذي هو: (من مس ذكره، فليتوضأ).
واحتج علي بن المديني بحديث قيس بن طلق، الذي هو: (إنما هو بضعةٌ منك) أي: هو جزء من جسدك، فلماذا تتوضأ؟ وقال علي بن المديني لـ يحيى -في المناظرة-: كيف تتقلد إسناد بسرة، ومروان بن الحكم أرسل شرطياً حتى رد جوابها إليه، أي: الناقل بين بسرة وبين مروان شرطي، فكيف تقبل هذا السند؟ فقال يحيى بن معين -رداً على هذا الإيراد-: ثم لم يُقْنِع ذلك عروة حتى أتى بسرة -أي: بنفسه عروة بن الزبير ثقة لا شك- حتى أتى بسرة وسألها وشافهته بالحديث، فإذا لم يقنعوا بطريق الشرطي، فهذا طريق عروة عن بسرة.
ثم انتقل يحيى بن معين إلى الهجوم -الآن- فقال: ولقد أكثر الناس في قيس بن طلق، وأنه لا يُحتج بحديثه، أي: وأما أنت يا علي بن المديني! حديثك -حديث قيس بن طلق - هو الذي فيه المشكلة.
قال أحمد بن حنبل رحمه الله متدخلاً في النقاش: كلا الأمرين على ما قلتما -أي: كل واحد منكما له حظ من النظر والدليل، كأنه قال أي: كلاكما مصيب، كلاكما كلامه وقوله له دليل، فقال يحيى بن معين -متابعاً للنقاش، ناصراً قوله في أن من مس ذكره فليتوضأ- قال يحيى: عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: [يُتَوَضَّأ من مس الذكر] الآن انتقل، قرأ الأحاديث المرفوعة، وانتقل إلى قول الصحابة.
فقال علي بن المديني: كان ابن مسعود يقول: [لا يُتَوَضَّأ منه، وإنما هو بضعةٌ من جسدك] أي: أن ابن مسعود أفقه من ابن عمر وأعلم، أنت تقول عن ابن عمر، وهذا ابن مسعود يقول: إنه لا يُتَوَضَّأ.
فقال يحيى: هذا عَن مَن؟ أي: حديث ابن مسعود مَن الذي رواه؟ فقال: عن سفيان، عن أبي قيس، عن هزيل، عن عبد الله بن مسعود، وإذا اجتمع ابن مسعود وابن عمر واختلفا، فإن ابن مسعود أولى أن يُتَبَّع؛ لأنه أكبر وأفقه.
هنا تدخل أحمد بن حنبل فقال: نعم.
ولكن أبا قيس الأودي لا يُحْتَجُّ بحديثه؛ لأن أبا قيس الأودي في إسناد الحديث الذي أورده ابن المديني، عن ابن مسعود، كأنه يقول: يا علي بن المديني! إسنادك الذي سقته عن ابن مسعود فيه أبو قيس الأودي لا يُحْتَجُّ بحديثه.
فقال علي: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مسعر، عن عمير بن سعيد، عن عمار، قال: [لا أبالي مسسته، أو أنفي] أي: أنا عندي هذا والأنف سواء، فأتى له بإسناد آخر، ابن المديني دائرة معلوماته واسعة، فقال: طعنتَ في إسناد ابن مسعود من جهة أبي قيس الأودي! خذ هذا شيء عن عمار.
فتدخل يحيى بن معين، قال: بين عمير بن سعيد وعمار بن ياسر مفازة -كأنه قال: فيه انقطاع بين عمير بن سعيد -الذي ذكرته الآن في السند- وبين عمار بن ياسر.
فتدخل أحمد، وقال: عمار وابن عمر استويا، فمن شاء أخذ بهذا، ومن شاء أخذ بهذا، فـ أحمد بن حنبل رحمه الله أنهى النقاش على أن كلا القولين لكل واحد من الفريقين أن يأخذ بما رآه، فلا هذا ولا ذاك ولا هذا القول باطل، المسألة خلافية قوية، وكلٌ قول له أدلة.
وقد ذهب شيخ الإسلام رحمه الله وغيره من أهل العلم إلى التوسط بين القولين، فقال: إن مسه بشهوة أعاد الوضوء، وإن مسه بغير شهوة لا يعيد الوضوء؛ لأن حديث: (إنما هو بضعةٌ منك) يدل على ذلك -أي: أنه هو والأنف سواء، هذا يدل في حالة إذا مسه بغير شهوة، متى يكون الذكر وأي جزء من جسد الإنسان سواء في المس؟ إذا كان هناك شهوة؛ لأنه لا يحس بشهوة إذا مس أنفه، أو يده، أو رجله، فإذا مس بشهوة أعاد الوضوء، وإذا مسه بغير شهوة فلا يعيد الوضوء، ولعل هذا القول أرجح الأقوال وأعدلها، والله أعلم.
لكن هذه مناظرة من المناظرات التي تثبت كيف كان العلماء يتناقشون، وهي من النوادر التي ينبغي النظر فيها، وما خسروا بعضاً من أجل نقاش، ولا صار بينهم منازعة ومقاطعة من أجل النقاش، كل إنسان يورد الإيرادات وبالأدب.
فالمهم أن علي بن المديني رحمه الله لم يكن متقيداً بمذهب معين من المذاهب المعروفة، وإنما يأخذ بما ترجح لديه وما أداه إليه اجتهاده بناءً على الدليل الصحيح.
وقال علي بن المديني: "إن الذي يُفتي في كل ما يُسأل عنه لأحمق"، أي: هناك أشياء تخفى.(169/26)
بداية نشأة ابن المديني العلمية
بالنسبة لمسيرة الإمام علي بن المديني رحمه الله العلمية، فقد سبق أن ذكرنا أنه بدأ منذ الصغر بطلب العلم، وحفظ القرآن، وانتقل في صباه إلى علم الحديث وتقييده، انضم في مجالس العلماء.
وكانت بداية علي بن المديني في العلم مبكرة للغاية.(169/27)
تقييد ابن المديني للحديث وعلومه
قال ابن المديني عن بداية تقييده للحديث وعلومه: مرَّ بنا الجمَّاز ونحن في مجلس للحديث، فقال: يا صبيان -كان علي بن المديني يلعب مع الصبيان في صغره -أنتم لا تحسنون أن تكتبوا الحديث، كيف تكتبون أُسَيْداً وأَسِيْداً وأُسَيِّداً؟ -هذه كلها من أسماء الرواة، أَسِيْد، وأُسَيْد، وأُسَيِّد، كيف تكتبون هذا وهذا وهذا؟ قال ابن المديني: فكان ذلك أول ما عرفت التقييد وأخذت فيه، لَفَتَت نظره هذه الملاحظة، وبدأ يهتم بالتقييد والشكل والتفريق في نطق الكلمات المتماثلة كتابةً، والمختلفة لفظاً ونطقاً، فبدأ تمييزه منذ صغره في قضية الدقة.
فالرجل منذ الصبا كان مهتماً بدقائق الأشياء، وهذا كان له شأن عظيم في المستقبل.
وهنا يجب أن نلتفت إلى هذه القضية، وهي: أن إلقاء الملاحظة على الصغير مع بساطتها، أو عدم الاهتمام بها قد تكون لها آثاراً كبيرة عليه في المستقبل، فربما يندفع الإنسان لحفظ القرآن، أو طلب العلم الشرعي، أو إلى شيء من الخير بفعل ملاحظة، وأحياناً تكون بدون قصد، يبديها أحد الأشخاص له، لكنها تقر في نفس الصبي وترسخ فيه، ويكون لها أبعاداً في نفسه، فتنفتح له بها آفاق ومجالات.
إذاً: يجب عدم التواني في توجيه الصغار، وكذلك ألَّا يستحقر الإنسان الملاحظة أو التنبيه؛ لأنه قد يكون هذا هو الدافع لأن يكون هذا الولد من العلماء في المستقبل.
وكذلك قد يكون تنبيهاً على جانب مُهْمَل في حياته، فيبدأ بالاهتمام به.
وكذلك كان ابن المديني رحمه الله له تمييز وذكاء مبكر، فقال إبراهيم بن عثمان بن أبي شيبة: سمعت علي بن المديني يقول: جلست إلى عبد الله بن خراش وأنا حدث، فسمعته يقول: حدثنا العوام، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف، فعلمتُ أنه كذاب -هذا وهو حدث، في نقد الكلام- لكن جده شهاب بن خراش ثقة مأمون.
فلما جلس إليه اكتشف كذبه وكان عمره لم يتجاوز العاشرة تقريباً.
استمر علي بن المديني في الدراسة في الكتَّاب إلى السنة الرابعة عشرة من عمره تقريباً، ولذلك يقول علي بن المديني عن نفسه: مات أبو عوانة وأنا في الكتَّاب، والمعروف أن أبا عوانة قد توفي سنة: (176) أو (175هـ) فإذا طرحنا هذا من سنة ولادة علي بن المديني، يكون في ذلك الوقت عمره تقريباً أربعة عشر عاماً.(169/28)
تلقي ابن المديني للعلم
وأما تلقيه للعلم وطلبه للحديث، فقد بدأ تقريباً وهو في الخامسة عشرة من عمره، وذلك أنه روى عن أبيه الذي توفي سنة: (178هـ) وعن غيره، ولما لاحظ شيخه سفيان بن عيينة بفراسته رغبة ابن المديني الشديدة في العلم والتحصيل، قال له مودعاً له: أما إنك ستُبْلَى بهذا الأمر، وأن الناس سيحتاجون إليك، فاتقِ الله ولتُحْسِن نيتك فيه.
وهذه فائدة مهمة: إذا رأى المدرس من طالبٍ نبوغاً، وأدرك بفراسته أن هذا الطالب سيكون له شأن في المستقبل، فعليه أن يوصيه؟ لا يمكن إهمال الطالب النابغة أو الذكي، أو المجد الذي يُتَوَقع أن يكون له شأنه في المستقبل، يوصيه كما أوصى سفيان علي بن المديني.
إذاً: الوصية بتقوى الله وحسن النية في الطلب، رأى طالباً مُجِداً حافظاً مهتماً، عرف أن هذا سيكون له شأن، فأوصاه بتقوى الله، وإحسان النية في طلب العلم، وإلا فإن هذا الطالب ربما قد يكون في المستقبل من أئمة السوء والضلالة، وهناك من الحفاظ ومن الناس الذين عندهم فقه وفهم عندما ساءت نيتهم ودخل عليهم الهوى أضلوا عباداً كثيراً: (إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين).
وقد صدقت فراسة سفيان رحمه الله في تلميذه علي بن المديني، فعندما كبر -رحمه الله- احتاج الناس إليه، وأثنى العلماء على علي بن المديني رحمه الله في قوة حفظه، وعدُّوه من الأئمة الحفَّاظ، كـ أبي يعلى الفراء، وابن عساكر، والذهبي، وابن رجب الحنبلي، وابن العماد، وجمال الدين يوسف بن تغري بردي، والخزرجي، كلهم وصفوا علي بن المديني رحمه الله بأنه إمام حافظ.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: كان علي بن المديني أحفظنا للطوال.
وقال ابن أبي حاتم: سمعت محمد بن مسلم بن وارة عندما سئل عن علي بن المديني ويحيى بن معين: أيهما كان أحفظ؟ قال: علي كان أسرد وأتقن.
ويحيى أفهم لصحة الحديث وسقيمه.
وأجمعهم: أبو عبد الله أحمد بن حنبل.
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: سألت أبي رحمه الله عن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني: أيهما كان أحفظ؟ قال: كانا في الحفظ متقاربين، وكان أحمد أفقه، وكان علي أفهم بالحديث.
وعلي بن المديني رحمه الله كانت له في طلب العلم رحلات ولقاءات بالمشايخ، وكان له حرصٌ ومثابرةٌ على طلب العلم، وتقدمت الإشارة إلى أن ابن المديني غاب عن البصرة في طلب العلم إلى اليمن ثلاث سنوات، ولا شك أنه قد واجه فيها صعوبات؛ لأن اليمن في ذلك الوقت لم تكن بلاد كسب ولا تجارة، ولذلك لما ودع عبد الرزاق أحمد بن حنبل عندما جاء يطلب العلم عنده في اليمن والرواية في الحديث، قال له وقد عرض عليه شيئاً من المال: خذ هذا الشيء فانتفع به، فإن أرضنا ليست بأرض متجرٍ ولا مكسبٍ، فـ علي بن المديني ذهب إلى اليمن، ومعنى ذلك أنه واجه صعاباً ومشاقَّاً، وكان إذا دخل بلداً، كعادة العلماء يطوف على شيوخها واحداً واحداً يغترف مما عندهم ولا يترك أحداً.
ولما كان في يوم النفير من مزدلفة -لما قدم مكة للحج- إلى منى، كان ملازماً لشيخه الوليد بن مسلم - والوليد بن مسلم شيخ أهل الشام ومحدث الديار الشامية في ذلك الوقت- ملازماً للوليد بن مسلم في مسجد منى، مع أن الزحام عليه كثير، يأخذون عنه العلم وينتظرون فرصة في الموسم، ومع ذلك كان علي بن المديني ملازماً له، حتى قال في شغفه في طلب الحديث: يحملني حبي لهذا الحديث أن أحج حجةً، فأسمع من محمد بن الحسن.
وكان يقول: ربما أذكر الحديث في الليل، فآمر الجارية أن تسرج السراج، فأنظر في الحديث- إسراج السراج كان شَغْلَة، ليس مثل مفتاح النور الآن، ومع ذلك كانوا يفعلونه مرات كثيرة، البخاري رحمه الله ربما فعله في الليلة الواحدة عشرين مرة، كلما تذكر فائدة قام لكتابتها، يضع خده على الوسادة، فيتذكر الفائدة، فيقوم ويشعل السراج ويكتب، عشرين مرة في الليلة.(169/29)
اعتناء ابن المديني بحديث الأعمش
لما قدم ابن المديني الكوفة من عند جرير بن عبد الحميد، جعل يُعْنَى في الكوفة بحديث الأعمش -أي حديث فيه الأعمش يطلبه ابن المديني ويكتبه- فتتبع الحديث من أصحاب الأعمش وعلى رأسهم أبو معاوية محمد بن خازن السعدي، وقدم البصرة ولقي عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله، ويحيى بن سعيد القطان قرينان تعاصرا وعاشا معاً، وكانا من كبار العلماء، وتخرج علي بن المديني على أيديهم.
أخبر علي بن المديني عبد الرحمن بن مهدي، أنه يحرص على حديث الأعمش وأنه قد جمعه وكتبه، وأنه لا يزال يبحث في حديث الأعمش.
فقال عبد الرحمن بن مهدي لـ علي بن المديني: اكتب ما ليس عندك.
قال: فأملى عليَّ ثلاثين حديثاً من أحاديث الأعمش لم أسمع شيئاً منها، قال علي: فجعلت أتعجب من فمهمه -من أي شيء تعجب علي؟ كيف علم أنه لا يعرف الأحاديث الثلاثين؟! - قال: فجعلت أتعجب من فهمه بما ليس عندي -لأنه مجرد أن لقي علي بن المديني عبد الرحمن بن مهدي، قال: أنا حريص على جمع حديث الأعمش، وجمعت منه، قال: اكتب، اكتب، اكتب، اكتب، هذه ثلاثون حديثاً ما عندك منها شيء.
قال علي: فجعلت أتعجب من فهمه بما ليس عندي.
هؤلاء عباقرة، عبد الرحمن بن مهدي يعرف إلى من ذهب علي بن المديني، ذهب إلى البلد الفلانية، إذاً: لقي فلاناً وفلاناً وفلاناًَ، وعبد الرحمن بن مهدي كان قد طاف الأرض قبله، فيعرف أن الأحاديث التي سيقولها -الآن- ليست من الأحاديث التي أخذها من البلد، هو أتى بها من بعيد من قبل، فكل واحد كان يفهم ماذا عند الآخر من هؤلاء الكبار.
وقال إبراهيم بن منذر: قدمت البصرة، فجاءني علي بن المديني، فقال: أول شيء أطلب: أَخْرِجْ إليَّ حديثَ الوليد بن مسلم.
فقلت: يا سبحان الله! وأين سماعي من سماعك؟ إبراهيم بن منذر تواضعاً منه يقول: تريدني أن أحدثك بحديث الوليد بن مسلم وأنت يا علي بن المديني أخذت من الوليد بن مسلم وسمعته، لقيته في الحج وجلستَ عنده ورحلتَ إلى الشام، وتريدني أن أحدثك بحديث الوليد بن مسلم، وأين سماعي من سماعك؟ أنت أتقن وأجود وأضبط، فجعل يأبى ويلح.
فقلت له: أخبرني بإلحاحك ما هو؟ قال: أخبرك! الوليد رجل الشام -أي: عالم أهل الشام - وعنده علم كثير، ولم أستمكن منه -ما استطعت أن أحصر روايات الوليد بن مسلم - وقد حدثكم بـ المدينة -في المواسم، وأنت يا إبراهيم بن منذر مدني، لابد أن الوليد عندما جاءكم حدثكم بأحاديث، أنا تبعت الوليد بن مسلم إلى منى، وتبعته في الشام، لكن الرجل موسوعة، وعنده روايات كثيرة جداً، ولكني لم أحصل على روايات ابن مسلم كلها، فأنا أرى أن أسمع منك -قال: وقد حدثكم بـ المدينة فتقع عندكم الفوائد؛ لأن الحجاج يجتمعون بـ المدينة من آفاقٍ شتى- قال: فأخرجت إليه، فتعجب من فوائده، وكاد أن يكتب على الوجه -أي: على الإسناد، عن إبراهيم بن منذر عن الوليد بن مسلم.(169/30)
عناية ابن المديني بجمع الحديث من عدة طرق
ومن دقة علي بن المديني رحمه الله وجمعه للعلم أيضاً: أنه كان يُعنى بجمع الحديث بالطرق المختلفة عن الشيخ الواحد يبحث عن طريق هذا الشيخ، من هنا ومن هنا ومن هنا، يبحث عن كثرة الطرق، فقال: كتبتُ عبد الوارث، عن عبد الصمد وأنا أشتهي أن أكتبها عن أبي معمر.
أي: قال: أنا أريد أن أجمع حديث عبد الوارث - عبد الوارث بن سعيد التنوري التميمي من مشاهير الرواة- قال علي بن المديني: أنا سمعت أحاديث عبد الوارث من ابنه عبد الصمد، لكني أشتهي أن أسمع أحاديث عبد الوارث من غير ابنه، من طريق أبي معمر عن عبد الوارث، مع أن علي بن المديني لقي عبد الوارث مباشرةً وسمع منه، فهو سمع منه مباشرة، وسمع منه بواسطة ابنه عبد الصمد، وسمع منه بواسطة تلميذه أبي معمر، وأبو معمر كان راوية عبد الوارث، وأتقن لحديثه من ابنه.
فالآن هذا علي بن المديني يجمع حديث عبد الوارث من طريق ابنه عبد الصمد، ومن طريق أبي معمر، وقد سمع منه مباشرة، ويجمع حديث الأعمش من هذا ومن هذا، ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي، ومن طريق أبي معاوية، ومن طريق كذا، لماذا؟ حتى تُدْرَك العلل؛ لأنه إذا اتفقت الطرق عن الشيخ بنفس اللفظة، عرفت أن هذا ثابتٌ عنه، وإذا اضطربَتْ، ولاحظتَ الموازنة، ولاحظتَ الفروق، ولذلك ما كانوا يسمعون الحديث من طريق واحد، بل كانوا يسمعونه من طرق عديدة.
ولذلك يقول يحيى بن سعيد القطان لـ علي بن المديني: ويحك يا علي! إني أراك تَتَتَبَّع الحديث تتبعاً لا أحسبك تموت حتى تُبْتَلى.
وكان له مراسلات بينه وبين علماء عصره كـ أحمد رحمه الله، قال عندما أراد أن يسمع من الواقدي، وكان قاضي بغداد، كان علي بن المديني متروياً في ذلك، ولذلك كتب إلى أحمد يستشيره: هل أسمع من الواقدي أم لا؟ فكتب إليه أحمد يقول: كيف تستحل أن تكتب من رجل روى عن معمر حديث نبهان، وهذا حديث يونس تفرد به، ومعروف أن الواقدي متروك، مع سعة علمه بالمغازي والتاريخ والمرويات، لكنه متروك.
والمراسلات بين العلماء سنة ماضية ومتبعة، يستفيد بعضهم من بعض.(169/31)
السلف ورحلتهم في طلب العلم
الرحلة في طلب العلم سنة متبعة، ومِن أول مَن سافر لطلب العلم: الصحابة رضوان الله عليهم، وقد رحلوا من الأمصار المختلفة، والقبائل المختلفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
والصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري رحمه الله ورضي عنه رحل من المدينة إلى عقبة بن عامر بـ مصر يسأله عن حديث سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري -أمير مصر - عانقه، وبعث معه من يدله على منزل عقبة، فلما لقيه، قال له: [حدثنا ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستر المسلم، لم يبق أحدٌ سمعه غيري وغيرك] فلما حدثه ركب أبو أيوب راحلته راجعاً إلى المدينة، وما حل رحله، وما أدركته جائزة مسلمة الأمير إلا بعريش مصر.
وقد خشي أبو أيوب أنه قد نسي شيئاً من الحديث، فرحل شهراً كاملاً من الحجاز إلى مصر يقطع المفاوز لأجل هذا الحديث.
وكذلك فإن جابر بن عبد الله رضي الله عنه رحل إلى عبد الله بن أنيس في الشام شهراً كاملاً ليحمل عنه حديثاً واحداً لم يكن جابر قد سمعه من النبي عليه الصلاة والسلام، وهو حديث: (يحشر الناس يوم القيامة عراةً غرلاً بهماً).
هذه همة الصحابة في حديث واحد، يسافر لأجل حديث واحد.
اتسعت الرحلة بعد ذلك في جيل التابعين؛ نظراً لأن الصحابة قد تفرقوا في الأمصار واستقروا بها، فذهب التابعون وراءهم يسافرون لطلب العلم.
قال سعيد بن المسيب رأس التابعين رحمه الله: [إن كنت لأسير في طلب الحديث الواحد مسيرة الليالي والأيام].
ورحل الحسن البصري من البصرة إلى الكوفة لمقابلة كعب بن عجرة رضي الله عنه ليسأله عن مسألة.
وكذلك رحل غيرهم.
وقال الشعبي: لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن، فحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبله من عمره، رأيت أن سفره لا يضيع.
ورحل شعبة بن الحجاج رحمه الله للبحث في أصل حديث واحد من الكوفة إلى مكة، ومن مكة إلى المدينة، ومن المدينة إلى البصرة؛ لأجل حديث واحد؛ ليعرف أصل هذا الحديث مِن أين خرج، ومَن الشيخ الذي حدث به حتى يصل إلى أعلى شيخ يمكن الوصول إليه؛ ليتأكد من صحة حديث واحد.
في القرن الثاني والثالث الهجري اتسعت دائرة الرحلة في طلب الحديث، وأدرك العلماء والمحدثون أهمية الرحلة وأثرها البعيد في حفظ السنة.
عندما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن طالب العلم: هل يلزم رجلاً عنده علم فيكتب عنه، أو يرحل إلى المواضع التي فيها العلم، فيسمع منهم؟ فقال: يرحل، يكتب عن الكوفيين والبصريين وأهل المدينة ومكة، يشام الناس ويسمع حدثيهم.
أي: يتطلع ويترقب ويختبر الناس ويسمع منهم.
وقال يحيى بن معين: أربعة لا تؤنِس منهم رشداً: 1 - حارس الدرب.
2 - مُنادي القاضي.
3 - ابن المحدث.
4 - رجل يكتب في بلده، ولا يرحل في طلب الحديث.
كأنه يقول: هؤلاء لا ترجو منهم شيئاً.
ورجل يكتب في بلده، ولا يرحل في طلب الحديث؛ لأنه إذا لَمْ يرحل، فإنه لا يُحصِّل إلا ما في بلده، فتكون دائرة معلوماته ضيقة.
وعلي بن المديني رحمه الله سار على هذا النهج مقتفياً أثر الصحابة والتابعين، مصابراً ومتعلماً منهم كما قال الشعبي لما سئل: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبرٍ كصبر الجماد، وبكورٍ كبور الغراب.
فجمع الشعبي رحمه الله العلم بهذه الصفات التي سار بها في البلدان.
فاليوم بعد جمع الحديث وكتابته وتدوينه في الكتب، صارت الرحلة في طلب الحديث لم تعد لها تلك الأهمية السابقة؛ لأن الأحاديث قد دونت وطبعت ووجدت في الكتب، فالآن إذا أردت الحديث، ما عليك إلا أن تفتح الكتاب، في السابق لم تصنف الكتب بعد ولم تكتمل، فكانوا يرحلون إلى الرواة والأشياخ، في الأمصار والمدن المختلفة يجمعون الحديث، ولما جمعوه وصنفت الكتب، لم تعد هناك فائدة تكاد تكون مهمة في مسألة الرحلة والسفر في طلب الحديث، لكن بقيت الرحلة والسفر في طلب العلم عموماً، فإنه يوجد في بلد ما لا يوجد في بلد أخرى من أهل العلم، فربما ترحل إلى المدينة، وترى من أهل العلم ممن فيها مما لا يوجد في مكة، وفي مكة تجد ما لا يوجد مثلاً: في القصيم، وفي القصيم تجد ما لا يوجد في الرياض، وفي الرياض تجد كذا.
وإذا رحل إلى الهند والشام ومصر واليمن ربما يتعرف على علماء لا يوجد لهم مثيل في بقية البلدان.
فالآن الرحلة في طلب الحديث تكاد تكون قد انقطعت وانتهت بتصنيف الكتب وجمعها.
بقيت الرحلة في طلب العلم عموماً والمسائل والأخذ عن الأشياخ والدراسة، وقد يوجد شيخ متقن للفرائض في بلد، وشيخ متقن للغة في بلد، وشيخ متقن للفقه في بلد وهكذا.
ثم إن لقاء أهل العلم فيه فوائد: في الأدب وتعلمه في الزهد والورع، وربما يتعرف الإنسان على أصناف من المشايخ، أو الذين يلقاهم في رحلات مختلفة، يتعرف عليهم بحيث أنه يكمل شخصيته مِمَّا يعاشر من هذا وهذا وهذا.
رحل علي بن المديني رحمه الله في طلب العلم إلى مدن العراق المختلفة التي كانت معروفة بلواء العلماء في ذلك الوقت، فلا شك أنه في البداية أخذ العلم عن علماء بلده كالطريقة المعتادة.
أولاً: يأخذ العلم عن علماء بلده، ثم يرحل وإذا انتهى من علماء البلد رحل.(169/32)
ابن المديني ورحلته في طلب العلم
سمع ابن المديني العلم عن أبيه في بلده، وحماد بن زيد، ولازم الشيوخ الكبار في البصرة كـ يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وكان: يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي، وحماد بن زيد رءوس الناس في البصرة في ذلك الوقت، وكان عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله من أجل العلماء، ولعلنا نتحدث في درس مستقل عن سيرة عبد الرحمن بن مهدي العالم الجليل.
ورحل علي بن المديني رحمه الله إلى الكوفة، وسمع فيها، وكتب عن أبي نعيم الفضل بن دكين، ووكيع بن الجراح، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، ويحيى بن آدم، وغيرهم.
ورحل إلى بغداد أيضاً، وكانت حاضرة العلم ومقصد العلماء، وكتب فيها عن عدد من أهل العلم، مثل: أبي عبيد القاسم بن سلام، وهو إمام جليل، وسيرته سيرة مهمة، وكذلك: إسماعيل بن إبراهيم بن علية، والحكم بن موسى وطبقته.
وقال عثمان بن سعيد الدارمي: قدم علي بن المديني بغداد، فحدثه الحكم بن موسى بحديث أبي قتادة: (إن أسوأ الناس سرقةً الذي يسرق في صلاته) فقال له علي: لو غيرك حدث به، كنا نصنع به -أي: لولا أنك ثقة، لو غيرك حدث بهذا المتن المستغرَب، لكنا صنعنا به أشياء، لكن أنت الحكم بن موسى ثقة، لا نستطيع أن نقول فيك شيئاً- ولأن الحديث هذا تفرد به الحكم ولم لم يروه غيره.
وكذلك فإن علي بن المديني رحمه الله قد أخذ العلم عن مشايخ واسط لما قدم إليها، ومنهم: هشيم بن بشير الواسطي، وحسين بن نمير الواسطي، وقال عن نفسه: أتيت علي بن عاصم بـ واسط، فنظرت في أثلاث كثيرة -جمع ثلث وهو: الجزء، الأجزاء الحديثية- فأخرجت منها قدر مائتي طرف.
طرف الحديث: هو الجزء من المتن الدال على بقيته، هذا هو الطرف، عندما نقول: أطراف الحديث، أي: أول المتن، فمثلاً إذا قلنا: حديث: (كلكم راعٍ) هاتان الكلمتان: هذا طرف، طرف الحديث، (كلكم راعٍ) هذا الطرف تستدل به على الطرف الآخر، إذا قال لك أحد: اسرد علينا حديث: (كلكم راعٍ) فإن هذه معروفة، فبقية المتن معروفة، فهذا الطرف هو الجزء من المتن الدال على بقية المتن، وهناك كتب رتبت الأحاديث على الأطراف، مثل: كتاب المزي رحمه الله: تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف.
ثم رحل رحمه الله تعالى كذلك إلى مكة، وكتب عن سفيان بن عيينة، وجرير بن عبد الحميد، والوليد بن مسلم.
وكذلك فإنه رحل إلى مكة مرةً بصحبة أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، ومرةً عزم على الرحلة إلى مكة، فتمنى أحمد بن حنبل أن يصحبه، لكنه ترك الصحبة، خشية أن يحدث ملل بينهما في السفر، فحفاظاً على جو الأخوة لم يصحبة في هذه السفرة، ولكن في سفرة أخرى يبدو أنهما قد صحب بعضهما بعضاً ومعهما يحيى بن معين.
وأيضاً ذهب رحمنه الله تعالى إلى المدينة، وسمع فيها من خلق كثير، وقال علي بن المديني: سمعت معن بن عيسى يقول: مخرمة سمع من أبيه.
وعرض عليه ربيعة أشياء من رأي سليمان بن يسار، قال علي: ولا أظن مخرمة سمع من أبيه كتاب سليمان، لعله سمع الشيء اليسير، ولم أجد بـ المدينة من يخبرني عن مخرمة بن بكير أنه كان يقول في شيء عن حديثه: سمعت أبي، فذهب إلى المدينة ليتحرى من قضية سماع مخرمة بن بكير من أبيه، وفعلاً هذا الذي تبين له، ما رأى أحداً من الرواة في المدينة يقول: مخرمة بن بكير عن أبيه أبداً.
ورحل إلى اليمن، وأخذ فيها عن شيخ اليمن: عبد الرزاق بن همام الصنعاني، وهشام بن يوسف الصنعاني، وهذه الرحلة كانت قبل المائتين للهجرة؛ لأن شيخه يحيى بن سعيد القطان كان موجوداً وقت هذه الرحلة، ويحيى بن سعيد القطان هو الذي كان يزور أم علي بن المديني، ويطمئنها ويسليها، ويحثها على الصبر على فراق ولدها، ويبين لها فضل الرحلة في طلب العلم، وكانت أم علي بن المديني ترتاح غاية الراحة لكلام يحيى بن سعيد القطان وهو يصبرها على فراق ولدها الذي ذهب في طلب العلم.
وهكذا أهل العلم وطلبة العلم يسد بعضهم ثغرة بعض، ويساعد بعضهم بعضاً.
وربما رحل الواحد وأوصى الآخر على أهله، يتفقدهم، ويأتيهم بما يحتاجون إليه، هذه أخلاقهم هكذا ينبغي أن تكون الأخلاق، إذا رحل الواحد، قام الثاني على أهله وهكذا يتناوبون.
ورحم الله من خلف طالب علم في أهله.
رحلوا ولم تكن الطرق معبدة ولا سيارات ولا طائرات.
بل كانت المركب هي: الجمال.
بل ربما ذهب بعضهم مشياً على الأقدام.
وبعضهم قد افترسته الذئاب.
وبعضهم خرج عليهم قطاع الطرق، فقتلوهم.
وبعضهم وقع في أسر العدو.
وبعضهم خرج عليهم لصوص فأخذوا ما معهم من متاع وسلبوهم أموالهم.
وبعضهم مات من الجوع في الرحلة في طلب الحديث.
وبعضهم اضطر لأن يشرب بوله.
وبعضهم أكل أوراق الشجر.
وبعضهم أكل من سلحفاة، مشى على شاطئ البحر يلتمس شيئاً، فما وجد إلا سلحفاة، فأخرج غطاءها وأكله، فسألوه عن مذاقه، فقال: مثل صفار البيض.
وعانوا من برد الليل وقيظ النهار.
كل ذلك في سبيل جمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وانقطعت ببعضهم النفقة في السفر، وربما تعطل في بلد ينتظر فرج ربه، كما حصل لأربعة من أهل الحديث، ومنهم: الإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى، لما انقطعت بهم النفقة في السفر حتى أنهم ما صار عندهم شيء يوارون به عوراتهم، حتى لجئوا إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء، حتى أن بعضهم في النهاية اتفقوا على أن يخرج واحد منهم لسؤال الناس، يبحث عن حل، حتى أن السهم خرج على ابن خزيمة رحمه الله، فقام يصلي ويدعو ربه ويناشده، حتى جاء إنسان وطرق الباب، وأخبر أنه غلام السلطان، وقال: إن الأمير -أمير البلد- رأى في الليل في منامه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: إن أربعة من المحمدين من العلماء نزلوا ببلدك فقراء وأنت لا تدري عنهم، وطبعاً منهم: الإمام ابن خزيمة رحمه الله، وأرسل إليهم بالنفقة، فكان من كرامة الله تعالى لهم، فكفى الله ابن خزيمة السؤال، وكفاهم الفقر وقطْع النفقة، فأرسل إليهم بأموال، فخرجوا من البلد معززين مكرمين بعد أن صبروا على مرارة الفقر.
ورحل علي بن المديني رحمه الله كذلك إلى الري -وهي من أهم المراكز العلمية في بلاد المشرق- وكتب فيها عن جرير بن عبد الحميد الرازي.
وكذلك رحل إلى همذان، وكتب فيها عن أصرم بن حوشب قاضي همذان، وقال: كتبت عنه بـ همذان وضربت على حديثه.
بعدما كتب وجمع حديث هذا الرجل، شطب على الأحاديث كلها؛ لأنه اتضح له بعد ذلك ما يوجب ترك حديث هذا الرجل؛ لأنه غير ثقة.(169/33)
أقوال العلماء في ابن المديني
علي بن المديني رحمه الله -كما قلنا-: هو إمامٌ في الحديث، وناقدٌ للرجال، وقد أجمعوا على جلالته وإمامته وبراعته في هذا الشأن وتقدمه على غيره، وهو من الذين استحقوا لقب أمير المؤمنين في الحديث.
وقال الذهبي في ترجمة علي بن المديني: الشيخ الإمام الحجة أمير المؤمنين في الحديث.
وقال ابن كثير رحمه الله: إن أول من تصدى للكلام في الرواة: شعبة بن الحجاج، وتبعه: يحيى بن سعيد القطان، ثم تلامذته: أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وعمرو بن فلاس، وغيرهم.
إذاً: علي بن المديني مِن أي جيل مِن الذين تكلموا في الجرح والتعديل؟ من الجيل الثالث؛ لأن أول من بدأ بالكلام في الرواة والبحث فيهم هو: شعبة، ثم جاء بعده: يحيى بن سعيد القطان، ثم جاء بعده: تلامذة يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي، وهم: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وعمرو بن فلاس، وغيرهم.
وقال أبو قدامة السرخسي: سمعت علي بن المديني يقول: رأيت فيما يرى النائم كأن الثريا تدلت حتى تناولتُها -السماء ذات النجوم، الثريا نزلت إليه فأخذ منها- قال أبو قدامة: فصدَّق الله رؤياه، فقد بلغ في الحديث مبلغاً لم يبلغه أحد، كأنه صار في السماء، شأنه مرتفع جداً كأنه قد طال السماء.
وشهد له شيوخه، ومنهم: عبد الرحمن بن مهدي حيث قال: علي بن المديني أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاصةً بحديث سفيان بن عيينة.
ومن شيوخه الذي اعترفوا له وأقروا له بالفضل والإمامة: أبو عبيد القاسم بن سلام، يقول: انتهى العلم إلى أربعة: - إلى أحمد بن حنبل، وهو أفقَهُهم فيه.
- وإلى علي بن المديني، وهو أعلَمُهم به.
- وإلى يحيى بن معين، وهو أكتَبُهم له.
- وإلى أبي بكر بن أبي شيبة، وهو أحفَظُهم له.
وقال أبو عبيد أيضاً: ربانيو الحديث أربعة: - فأعلَمُهم بالحلال والحرام: أحمد بن حنبل.
- وأحسَنُهم سياقةً وأداءً له: علي بن المديني.
- وأحسَنُهم وضعاً لكتابٍ وتصنيفاً: أبو بكر بن أبي شيبة.
- وأعلَمُهم بصحيح الحديث وسقيمه: يحيى بن معين.
وكذلك ممن شهد لـ علي بن المديني: شيخه عبد الرزاق بن همام الصنعاني، فيقول رحمه الله: رحل إلينا من العراق أربعة من رؤساء الحديث: - ابن الشاذكوني، وهو أحفَظُهم للحديث.
- وابن المديني، وكان أعرَفَهم باختلافه.
- ويحيى بن معين، وكان أعلَمَهم بالرجال.
- وأحمد بن حنبل، وكان أجمَعَهم لذلك -اجتمعت في أحمد كل هذه الخصال: حفظ الحديث، ومعرفة الاختلاف والعلم بالرجال.
وكان محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، وهو عين عيون أهل الحديث.
يقول عن علي بن المديني: كان أعلم أهل عصره.
وقال أبو حاتم الرازي: الذي كان يحسن صحيح الحديث من سقيمه وعنده تمييز ذلك ويحسن علل الحديث: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وبعدهم: أبو زرعة، كان يحسن ذلك، قيل له: فغير هؤلاء قال: لا.
وقال إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد: أفخر على الناس برجلين بـ البصرة: - أحمد بن المعذل؛ يعلمني الفقه.
- وعلي بن المديني؛ يعلمني الحديث.
وقال أبو عمرو الطالقاني: رأيتهم يقولون: الناس عندنا أربعة: - أحمد بن حنبل.
- ومحمد بن عبد الله بن نمير.
- وعلي بن المديني.
- ويحيى بن معين.
وسمعتهم يقولون: محمد بن نمير: ريحانة الكوفة.
وأحمد: قرة عين الإسلام.
وابن المديني: أعلم علماء آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وابن معين: أعلمُ بِرُواته.
وقال أبو عبد الرحمن النسائي: كأن الله خلق علي بن المديني لهذا الشأن، أي: كأن الله ما خلقه إلا للحديث.
ومدحه المشهورون من المحدثين، كـ البيهقي حين قال: علي بن المديني أحد أئمة أهل العلم بالحديث.
وقال الخطيب البغدادي، عن علي بن المديني: هو أحد أئمة الحديث في عصره، والمقدم على حُفَّاظ وقته.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الأئمة الذين أخذ الناس عنهم العلم، قال: فهؤلاء وأمثالهم أعلم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال: فإن يحيى بن معين، وعلي بن المديني، ونحوهما أعرف بصحيح الحديث وسقيمه من مثل أبي عبيد، وأبي ثور.
هذه شهادة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في علي بن المديني.
وأما الحافظ أبو الحجاج المزي؛ الذي عاصر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وكان من تلاميذه، فقد قال في ابن المديني: علي بن عبد الله الإمام المبرز في هذا الشأن، صاحب التصانيف الواسعة، والمعرفة الباهرة.
كذلك الذهبي رحمه الله الذي عاصر ابن تيمية رحمه الله، قال: حافظ العصر، وقدوة أرباب هذا الشأن: أبو الحسن علي بن المديني، صاحب التصانيف.
ومدحه كذلك غيرهم من أهل العلم، كـ ابن رجب، وغيره.
وقد اجتمع بهذه المناسبة أربعة من العلماء في عصر واحد كل واحدٍ أفاد الآخرين في فنه: - المزي وابن تيمية، والذهبي، والبرزالي.
البَرْزالي: مبرزاً في التاريخ.
وكان الذهبي مبرزاً في السِّيَر والتاريخ والحديث.
والمزي: في علل الحديث والرجال لا يوجد له نظير.
وابن تيمية: في سائر الفنون.
فهؤلاء الأربعة كانوا في عصر واحد، وكل واحدٍ منهم استفاد من الآخر.
وعلي بن المديني رحمه الله كان له مجلس يعقده للناس ولطلبة العلم يأتون إليه من كل حدب وصوب، ويتسابقون إليه.
قال الخطيب البغدادي عن مجلس علي بن المديني: وقد كان خلقٌ من طلبة العلم بـ البصرة في زمن علي بن المديني يأخذون مواضعهم في مجلسه في ليلة الإملاء، ويبيتون هناك حرصاً على السماع وتخوفاً من الفوات.
وقال ابن درستوية: ما رأيت علي بن المديني يروي من كتاب قط إلا أن يُسأل أن يروي ألفاظ سفيان بن عيينة على وجهه كما سمع.
قال: وكنا نأخذ المجلس في مجلس علي بن المديني وقت العصر اليوم لمجلس غدٍ، فنقعد طوال الليل مخافة ألَّا يلحق من الغد موضعاً يُسمع فيه، أي: إذا كان الدرس غداً، جلسوا عصر اليوم والليل، ويبيتون إلى ثاني يوم حتى يأتي وقت الدرس مخافة ألا يجدوا مكاناً، فيبيتون في مجلس الدرس حتى يأتي وقت الدرس في اليوم التالي، هذا درس علي بن المديني.
وقد اتخذ علي بن المديني رحمه الله مستملياً، والمستملي هو: الذي يطلب استملاء الأحاديث من المحدِّث، ويقال: استمليتُ فلاناً الكتاب، أي: سألته أن يمليه عليَّ، وهذا الاستملاء له أدب، وقد ألف السمعاني رحمه الله كتاباً في أدب الإملاء والاستملاء.
وذات مرة اشتهى المأمون شيئاً غير الملك الذي هو فيه أن يقول للمستملي: من ذكرت يرحمك الله؟ لأن المستملي كان يجلس عند الشيخ، ويطلب منه الإملاء، ويبدأ الحديث والدرس ويقيد، فإذا أشكل عليه شيء، أو أراد استعادة شيء، قال: من ذكرت يرحمك الله؟ فالذين حول الخليفة من هؤلاء أهل المجاملات عملوا له مجموعة وأحضروا كتباً وأقلاماًَ، وقال: من ذكرت؟ لكن اتضح أن المسألة انهارت وأنها تمثيلية، وعرف أنها لا تأتي إلا لأهل العلم الحقيقيين، وأن هذا كله تصنع في تصنع.(169/34)
اعتناء ابن المديني بالكتب (النسخ)
كان علي بن المديني رحمه الله شديد العناية بكتب المحدثين، -النُّسَخ- وينظر فيها، قال علي بن المديني: تركت من حديثي مائة ألف حديث، فيها: ثلاثون ألفاً لـ عباد بن صهيب -هو الآن جمع أحاديث كثيرة، مائة ألف شطب عليها؛ لأنه تبين له أنها غير صالحة للنشر، منها ثلاثون ألفاً لـ عباد بن صهيب؛ لأن عباد بن صهيب أحد المتروكين، فإذا كان علي ابن المديني ترك مائة ألف حديث، وشطب عليها، فكم الأصل والأساس الباقي؟! وقال علي بن المديني: نظرت لـ روح في أكثر من مائة ألف حديث - روح بن عبادة من شيوخ علي رحمه الله- كتبتُ منها عشرة آلاف، فإذا كان قد نظر لـ روح بن عبادة فقط في مائة ألف حديث، ويكتب عن أبي معاوية الضرير عن الأعمش ألف وخمسمائة حديث، فلا شك أنه نظر لغير روح مثل ذلك، وما كَتب عن الأعمش من غير طريق أبي معاوية أكثر، فهذا يُشْعِر بتَبَحُّر الرجل واستقصائه لأطراف الأحاديث المختلفة.
وذكر السخاوي أن الطرق التي عند علي بن المديني لحديث واحد فقط الذي هو: (من كذب عليَّ متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار) أن له - لـ علي بن المديني - عشرون طريقاً في هذا الحديث فقط: (من كذب عليَّ متعمداً) وهذا يدل على شدة اعتنائه بطرق الحديث.
بالنسبة للأحاديث عندما يقول: مائة ألف، أو يقول البخاري: حفظت مائة ألف حديث صحيح، أو قال: انتقيت هذا الكتاب من ستمائة ألف حديث، وأحمد بن حنبل يقال: إنه يحفظ ألف ألف حديث، هذا معناه أنه يدخل المراسيل والمقاطيع والمعلقات، ويدخل فيها المرفوع والصحيح والضعيف والشواهد والمتابعات ولذلك يقول الذهبي رحمه الله تعالى: "ما على وجه الأرض من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة المرفوعة من غير تكرار عشرة آلاف حديث فقط"، لكن عندما يقول: مائة ألف، هذا يقصد بها كل شيء، المقطوع الذي إلى التابعي، والمرسل، والمعلق، وكل الأنواع، والمكررات، والشواهد، والمتابعات، يدخل هذا كله في عموم لفظة حديث.
وكذلك فإنه رحمه الله كان يطلع على حديث مالك اطلاعاً دقيقاً، وكذلك نُسَخ الزهري، وكتاب عبد الأعلى، وحدثت في ذلك قصة، قال علي بن المديني: سألت أبي عن أبي حفص الفلاس، فقال: قد كان يطلب، قلت: روى عن عبد الأعلى، عن هشام، عن الحسن بن علي: (الشفعة لا تورث) فقال: ليس هذا في كتاب عبد الأعلى، عن هشام، عن الحسن -فعنده خبرة بكتاب عبد الأعلى، ولذلك جزم لولده عبد الله، أنه ليس في ذلك الكتاب.
وكذلك فإنه كان ينتخب الكتب وينتقي منها، وهذا يدل على إتقانه، وأنه ليس بجمَّاع فقط.(169/35)
ابن المديني وفن علل الحديث
ومن أبرز الأشياء التي كان علي بن المديني رحمه الله بارعاً فيها: علم العلل.
وفن العلل هو أصعب نوع من أنواع الحديث: الحديث المعلل؛ لأن العلة سبب خفي غامض يطرأ على الحديث، فيقدح فيه، العلة شيء خفي؛ ولذلك خص الله به عدداً قليلاً، ونفراً يسيراً ممن يدعي علم الحديث.
ومن الأشياء التي تساعد على اكتشاف الحديث: جمع الطرق، ينظر المتخصصون في طرق الحديث فيكتشفون العلة.
إذاً: من أسباب اكتشاف العلة: جمع طرق الحديث الواحد.
قال علي بن المديني: الباب إذا لم تُجْمَع طرقه، لم يتبين خطؤه.
وربما ما انكشفت العلة إلا بعد وقت طويل.
قال علي بن المديني: ربما أدركت علة الحديث بعد أربعين سنة.
وقال أحمد بن حنبل: أعلمنا بالعلل علي بن المديني.
وقال الذهبي: كان ابن المديني رأساً في الحديث وعلله.
ابن العلائي رحمه الله عندما عرَّف من علل الحديث قال: وهذا الفن -فن العلل- أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكاً، ولا يقوم به إلا من منحه الله فهماً غايصاً، واطلاعاً حاوياً، وإدراكاً لمراتب الرواة، ومعرفةً ثاقبةً.
ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحُذَّاقهم.
مَن الذي تكلم في العلل؟ لا يتجرأ أحد أن يتكلم في العلل إلا نَفَرٌ يسيرٌ من المحدثين، ليس أي محدث يتكلم في العلل، مَن الذي يتكلم في العلل؟ - علي بن المديني.
- البخاري.
- الدارقطني.
- أبو زرعة الرازي.
- أبو حاتم.
ومن المتأخرين كذلك من بعدَهم: - الترمذي.
- ابن رجب.
الحديث المعلل: هو من أغمض أنواع العلوم وأدقها، ولا يقوم به إلا من رزقه الله تعالى فهماً ثاقباً، وحفظاً واسعاً، ومعرفةً تامةً بمراتب الرواة، ومَلَكةً قويةً بالأسانيد والمتون، ولهذا لم يتكلم فيه إلا القليل من أهل هذا الشأن، كما يقول ابن حجر رحمه الله، مثل: - علي بن المديني.
- وأحمد بن حنبل.
- والبخاري.
- ويعقوب بن شيبة.
- وأبو حاتم.
- وأبو زرعة.
- والدارقطني.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في مقدمة الفتح: لا ريب في تقديم البخاري، ثم مسلم على أهل عصرهما، ومَن بعده من أئمة هذا الفن، في معرفة الصحيح والمعلل، فإنهم لا يختلفون في أن علي بن المديني كان أعلم أقرانه بعلل الحديث، وعنه أخذ البخاري ذلك.
إذاً: أعلم أهل زمانه بعلل الحديث: علي بن المديني، وهذه المسألة الشاهد فيها: أحمد بن حنبل رحمه الله، وعن علي بن المديني أخذ البخاري فن العلل، فالذي ورث منه البخاري فن العلل هو: علي بن المديني.
وكان لـ علي بن المديني بين معاصرية مكانةٌ بالغةٌ عظيمةٌ.
وهذا يحيى بن سعيد القطان يكرمه غاية الإكرام وهو شيخه، ويقول: الناس يلوموني في قعودي مع علي وأنا أتعلم من علي أكثر مما يتعلم علي مني.
وهذا فيه تواضع من جهة، وفيه حقيقة من جهة أخرى.(169/36)
علاقة سفيان بن عيينة بابن المديني
كان سفيان بن عيينة رحمه الله يلقب علي بن المديني بحية الوادي، لماذا؟ ما هي العلاقة بين الحية وعلي بن المديني؟ سفيان بن عيينة شيخ علي بن المديني كان يقول عن علي بن المديني: إنه حية الوادي، فلماذا؟ لأن الحية تعرف المداخل والمخارج، وعلي بن المديني يجيد معرفة مداخل الحديث ومخارجه من أين جاء؟ وأين ذهب الحديث؟ وكيف انتقل؟ وقال أحمد بن سنان: كان سفيان بن عيينة يقول لـ علي بن المديني ويسميه: حية الوادي، وكان إذا استفتي سفيان، أو سئل عن شيء؟ يقول: لو كان حية الوادي موجوداً الآن لأفادنا.
وعن عمرو بن دينار أنه ذكر حديثاً، ثم قال سفيان: تلوموني على حب علي بن المديني، والله لقد كنت أتعلم منه أكثر مما يتعلم مني.
وقال حفص بن محمود الخزاعي: كنت عند سفيان بن عيينة ومعنا علي بن المديني والشاذكوني، فلما قام -أي: قام ابن المديني - قال سفيان بن عيينة: إذا قامت الفرسان، لم نجلس مع الرجَّالة.
لأن الجيش فيه فرسان يقاتلون على الخيول، وفيه رجَّاله على أرجلهم، سفيان بن عيينة شيخ علي بن المديني، في المجلس كان سفيان، والشاذكوني، وعلي بن المديني، وحفص بن محمود الخزاعي، فقام علي بن المديني وانصرف، فلما انصرف، قال سفيان بن عيينة: إذا قامت الفرسان، لم نجلس مع الرجَّالة، ماذا نعمل مع الرجَّالة؟ وقال أحد المحدثين: خرج علينا ابن عيينة يوماً ومعنا علي بن المديني، فقال: لولا علي، لم أخرج إليكم.
وقال محمد بن قدامة الجوهري: سمعت ابن عيينة يقول: إني لأرغب بنفسي عن مجالستكم منذ ستين سنة، ولولا علي بن المديني.(169/37)
أبو عبيد وشدة إجلاله واحترامه لابن المديني
دخل أبو عبيد القاسم بن سلام -أحد شيوخ ابن المديني - دار أحمد بن حنبل زائراً إياه، وعنده جماعة من المحدثين فيهم: علي بن المديني ويحيى بن معين، فطلبوا من أبي عبيد أن يقرأ عليهم كتاب غريب الحديث على الوجه -أي: بالأسانيد- فقال لهم أبو عبيد: ما قرأته إلا على المأمون، فإن أحببتم أن تقرءوه فاقرءوه.
فقال له علي بن المديني: إن قرأتَه علينا، وإلا فلا حاجة لنا فيه.
ولم يكن أبو عبيد يعرف علي بن المديني.
فقال لـ يحيى بن معين: من هذا؟ قال: هذا علي بن المديني، فالتزمه وعانقه وقرأه عليه؛ لأن علي بن المديني سمعته معروفة، وأبو عبيد يسمع ويعرف من هو علي بن المديني من بعيد، لكنه ما سبق أن قابله، فلما عرفه رضخ لطلبه وقرأه عليه وهو شيخه.
فهذا من تمكن مكانة علي بن المديني في قلب أبي عبيد القاسم بن سلام، والإكبار له من قبل شيخه، وأبو عبيد القاسم بن سلام رجل عظيم لا يستهان به ألبتة، ومن نوادره -ولعلنا نأتي على سيرته -أن طاهر بن عبد الله - وهو أحد الأمراء في الدولة العباسية بـ بغداد، أراد أن يسمع من أبي عبيد -كان الولاة لهم اهتمام بالعلم- وكان حريصاًَ أن يأتي أبو عبيد إلى منزله، فيحدثه، وكتاب أبي عبيد الذي هو غريب الحديث كتاب اشتُهِر، فيه شرح للألفاظ الغريبة والصعبة في الأحاديث، يسوق أبو عبيد الحديث بسنده ويشرح الغريب في هذا الكتاب، وكان قد تعب عليه وجمعه وهو كتاب نفيس، من أجود الكتب في غريب الحديث، هذا الوالي كان يشتهي أن هذا العالم أبو عبيد مؤلف الكتاب يأتي بكتابه ويحدث به في بيته، يشتهي ذلك ويتمناه، فأرسل إلى أبي عبيد معرباً له عن الرغبة، يقول: يدعوك الأمير إلى بيته لتأتي وتجلس فيه وتحدث بكتابك غريب الحديث، فرفض أبو عبيد، وقال: أبداً، هو يأتي، مثله مثل غيره من الطلاب ويجلس في الدرس العلم يؤتى ولا يأتي.
فلما جاء علي بن المديني وعباس العنبري، إلى بلد أبي عبيد، وأرادا أن يسمعا غريب الحديث، كان أبو عبيد يحمل كتابه كل يوم ويأتيهما في منزلهما يحدثهما.
وقد علق الخطيب على هذه القصة، فقال: إنما امتنع أبو عبيد من المضي إلى منزل طاهر توقيراً للعلم، ومضى إلى منزل ابن المديني وعباس تواضعاً وتديناً.
وقد فعل سفيان الثوري مع إبراهيم بن أدهم مثل هذا، فهذه من عجائب العلماء.
ويحيى بن معين سئل عن علي بن المديني وعن الحميدي: أيهما أعلم؟ فقال يحيى بن معين: ينبغي للحميدي أن يكتب عن آخر، عن علي بن المديني.
أي: لا يصلح حتى أن يكون تلميذاً، بل تلميذ التلميذ.
وقال الأعين: رأيت علي بن المديني مستلقياً وأحمد بن حنبل عن يمينه، ويحيى بن معين عن شماله وهو يملي عليهما.
وكان أحمد بن حنبل رحمه الله لا يسمي علي بن المديني، أي: لا يقول: يا علي، بل يقول: يا أبا الحسن! توقيراً له وتبجيلاً.
قال أبو حاتم: ما سمعت أحمد بن حنبل سماه قط.
وكان علي بن المديني كما يقول عباس العنبري رحمه الله: بلغ ما لو قُضِي له أن يتم على ذلك، لعله كان تقدم على الحسن البصري، كان الناس يكتبون قيامه وقعوده ولباسه، وكل شيء يقوله ويفعله.
وهذا فيه فائدة تربوية مهمة: وهي أن الإنسان إذا صار قدوة، الناس لا يأخذون عنه العلم فقط، بل يأخذون عنه كل الحركات، ويتأثرون بصَمْتِه وكلامِه وأفعالِه وتصرفاتِه، وفي كل شيء، كان الناس يكتبون قيامه وقعوده ولباسه وكل شيء يقول ويفعل، لأنه صار أهلاً أن يُنْظر إليه في كل أفعاله، وليس فقط فيما يخرج منه من الكلام.
وقال أبو يحيى: كان ابن المديني إذا قدم بغداد تصدَّر وجاء يحيى وأحمد بن حنبل والمعيطي والناس يتناظرون، فإذا اختلفوا في شيء، تكلم فيه علي.
وقال محمد بن إسماعيل البخاري: ما تصاغرتُ نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني.
وقال: ما سمعت الحديث من فِيِّ إنسانٍ أشهى عندي من أن أسمعه من فِيِّ علي رحمه الله.
وقال محمد بن إسحاق السراج: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري وقلت له: ما تشتهي؟ قال: أشتهي أن أقدم العراق وعلي بن المديني حيٌّ فأجالسه.
ولما ألف البخاري كتابه صحيح البخاري، عرضه على علي بن المديني، فحكم له بالصحة والإتقان - البخاري عرض كتابه على ثلاثة من كبار العلماء، هم: 1 - علي بن المديني.
2 - وأحمد بن حنبل.
3 - ويحيى بن معين، فحكموا له بالصحة والإتقان.
وعن إبراهيم الحربي قال: كان أبو عاصم -وهو: أبو عاصم النبيل، ملقب بـ النبيل - إذا حدث عن ابن جريج وغيره من أصحابه، جاء مستوياً، وإذا حدث عن سفيان أخطأ؛ لأنه لم يضبط عنه، فكان إذا أخرج المجلس -قبل أن يأتي الدرس أخرج الكتاب الذي هو عن سفيان - ووجهه إلى علي بن المديني لينظر فيه ويصلح خطأه -الشيخ يبعث بالكتاب إلى علي بن المديني، يقول: صحح لي قبل أن أحدث في المجلس.
فقال له بعض مَن قال له: لماذا توجه بكتابك إلى هذا؟ حدِّث كما سمعتَ.
قال: ففعل، وكان يخطئ في كل مجلس وعندما كان يصحح له علي بن المديني، لم يكن هناك خطأ، ولذلك كانت مكانة علي رحمه الله أحياناً ربما سببت رعباً في قلوب بعض شيوخه، ولذلك قال أحمد بن يوسف السلمي النيسابوري: سمعت عبد الرزاق يقول لـ علي بن عبد الله بن المديني حيث ودعه -الآن علي بن المديني جاء إلى اليمن وسمع من عبد الرزاق، وعبد الرزاق رأى نباهة وحفظ وجلالة علي بن المديني، ولما أراد عبد الرزاق أن يودع علي بن المديني قال له: إذا ورد حديث عني لا تعرفه، فلا تنكره، فلأني ربما لم أحدثك به.
وقال ابن أبي حاتم الرازي: سمعت هارون بن إسحاق الهمداني وذُكر له خطأ في إسناد حديث، فقال: هذا كلام أحمد بن حنبل وعلي بن المديني -كأنه يقول: هذا ليس شغلكم، أكيد أنه علمكم إياه ونبهكم على الخطأ إما أحمد بن حنبل، أو علي بن المديني.
وقال الخطيب رحمه الله مبيناً مكانة علي بين قرنائه: كان علي بن المديني فيلسوف هذه الصنعة وطبيبها، ولسان طائفة الحديث وخطيبها، رحمة الله عليه وأكرم مثواه لديه.(169/38)
مشايخ ابن المديني
من أشهر شيوخه: 1 - حماد بن زيد، حافظ العراق:، وكان حماد إماماً من أئمة أهل السنة.
وقال أحمد فيه: هو من أئمة المسلمين من أهل الدين، وهو أحب إليَّ من حماد بن سلمة.
وهو الذي قال فيه ابن المبارك:
أيها الطالب علماً ائت حماد بن زيد
فاقتبس علماً وحلماًَ ثم قيَّده بقيدِ
ودع البدعة من آثار عمرو بن عبيد
حماد بن زيد هو شيخ علي بن المديني، وهو الشخصية الأولى ربما بعد أبي علي، الذي كان له أعظم الأثر في توجيه علي بن المديني إلى طلب السنة، وكان شيخ البصرة.
2 - سفيان بن عيينة: وكان طلاب الحديث يتكلفون الحج، وما قصدهم إلا لقاء سفيان بن عيينة.
البخاري أخرج لـ علي بن المديني، عن سفيان بن عيينة في صحيحه (196) حديثاً.
3 - يحيى بن سعيد القطان: وهو الذي درس على يديه الرجال، وكان يستفيد من علي بن المديني كما قلنا، ويقول: إني كلما قلت: لا أحدث كذا، استثنيت علياً، فلو قلت: لا أحدث أسبوعاً أو شهراً، يقول: أنا أستثني في قلبي علي بن المديني إذا جاءني أحدثه.
وكان علي ملازماً لشيخه يحيى بن سعيد القطان يسأله عما أشكل عليه من أمور النقد، حتى يسأله عن أحواله الشخصية.
فقال يوماً: قلت لـ يحيى بن سعيد في ربيع الأولي سنة: (190هـ) كم لك من سنة؟ قال: إذا مضى شهر، أو شهران، استوفيت سبعين، ودخلت في أحد، -أي: واحد وسبعين.
وكان علي يحب يحيى حباً جعله يشتهي أن يراه في المنام، فيقول: مكثت أشتهي أرى يحيى بن سعيد القطان في النوم مدة، قال: فصليتُ ليلةً العَتَمَة -العشاء- ثم أوترت واتكأت على سريري، قال: فسنح لي -أي: في المنام- رأيت خالد بن حارث، فقمت فسلمت عليه وعانقته، وقلت له: ما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي على أن الأمر شديد.
قلت: فما فعل يحيى بن سعيد القطان؟ قال: نراه كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء، أي: أن الله رفعه منزلة عالية جداً.
من شيوخ علي بن المديني: عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله، وهذا الذي قال علي بن المديني فيه: "لو أخذت فأُحْلِفْتُ بين الركن والمقام، لَحَلَفْتُ بالله عز وجل أني لم أر أحداً قط أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي ".
وكان عبد الرحمن بن مهدي استفاد منه علي بن المديني جداً.
يقول علي بن المديني: كنا في جنازة معاذ، وعبد الرحمن بن مهدي آخذٌ بيدي، فقال عبد الرحمن لي -أي: أثناء الجنازة ونحن نتبع الجنازة-: ألا أحدثك حديثاً ما طن في أذنيك؟ حدثني صاحب السرير -الذي هو الميت- وسرد علي الحديث.
وعبد الرحمن بن مهدي يفيد تلميذه علي بن المديني حتى في وقت تشييع الجنازة.
وعندما نقول: شيوخ علي بن المديني: فلان، وفلان، وفلان، هؤلاء العظماء، فهؤلاء العلماء كلهم ساهموا في صياغة شخصية علي بن المديني، ولذلك هناك نقطة مهمة جداً وهي: أن هؤلاء العلماء الأئمة الكبار ما جاءوا من فراغ، ما ظهروا من غابة أو صحراء، ما خرجوا الإجراء نتاج بيئة تربى فيها وأخذ فيها عن الأجلاء، هذه تربية، فهذه الشخصيات صيغت من شخصيات أخرى، أجيال تربي أجيالاً، وعندما نتوسع أكثر في المحدثين، نرى فعلاً أن هذه القضية واضحة، أجيال تربي أجيالاً، سفيان بن عيينة يربي علي بن المديني، وعلي بن المديني يربي البخاري، والبخاري يربي غيره، فمسألة تخرُّج الأجيال على أيدي أجيال، وأن الواحد كان يحتك بشخصيات فذة هذا الذي ينشئ الشخصية، ما الذي يساعد على نمو الشخصية؟ يحاط أن الإنسان بأناس كبار أجلاء أئمة، فيخرج إماماً في النهاية.
وهذه المسألة -كما قلنا- واضحة غاية الوضوح، إنسانٌ شيوخُه: - سفيان بن عيينة، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرزاق الصنعاني، وغيرهم.
وقرناؤه: - أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وابن أبي شيبة.
وتلاميذه: - البخاري، وأبو حاتم الرازي، وأبو داود.
لا بد أن يكون شخصية فذة.
فمن هنا نتعلم درساً كبيراً في أن الإنسان إذا أراد أن يرتقي بنفسه فعلاً، فلا بد أن يُحاط بشخصيات على مستوى عظيم حتى يكون لها ذلك الأثر في نفسه.(169/39)
آثار علي بن المديني التراثية
ورحل علي بن المديني رحمه الله تعالى إلى ربه تاركاً عدداً من الآثار والكتب، مثل: علل الحديث ومعرفة الرجال، وسؤالات لشيخه يحيى بن سعيد القطان، كَتَبَها وبَوَّبَها، وكتاب المسند ويبدو أنه قد ضاع، وَضَعَه في قِمَطْر وغاب فترة طويلة عن البيت ورجع، قال: فحركتها، فإذا هي ثقيلة، ففتحتها، فإذا الأرضة قد خرقت الكتب، فصارت طيناً، وإلا فإن علي بن المديني كان عنده كتاب عظيم هو: المسند بِعِلَلِه.
وذهب علي بن المديني رحمه الله تاركاً تراثاً كبيراً من أهم ذلك: الأحاديث التي نقلها لتلاميذه.
ودَوَّن البخاري رحمه الله قسماً، ومسلم، والترمذي، وأبو داود، دوِّنت الأحاديث، ودوِّن كلام علي بن المديني في الرجال جرحاً وتعديلاً.
وترك كذلك آثاراً في فقهه رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً.
نسأل الله عز وجل أن يعلي منزلته، وأن يرفع درجته، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(169/40)
الحث على طلب العلم
العلم فخر وشرف في الدنيا والآخرة، والعلم أفضل من المال، فهو سبيل إلى الخشية من الله تعالى.
في نطاق هذا الموضوع يتحدث الشيخ عن العلم وفضله، وواقع السلف مع طلب العلم، كما يذكر الأسباب التي قتلت طلب العلم عند كثير من الشباب، ويعرج على أهمية المجاهدة في طلب العلم، ويكشف حقيقة بدعة الاحتفال بالموالد ومنكراتها، ويرجع ذلك إلى الجهل بالدين وأحكامه.(170/1)
فضل العلم والتعلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله لقد قصرنا في حق الله كثيراً كثيراً، ومن تقصيرنا في حق ربنا: جهلنا بما أنزله إلينا وبما أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وكيف يليق بمسلم أن يجهل رسالة ربه إليه، وأن يجهل معاني أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تشرح كتاب الله تعالى، ولا ينال معرفة الكتاب والسنة إلا بالعلم الذي هو أفضل ما صرفت فيه الأوقات.
وفي الإجازة يتوفر من الوقت للطلاب ما لا يتوفر في غيره، فينبغي أن تتداعى الهمم، وأن تسمو النفوس، وأن يتفرغ الإخوان لطلب العلم.
ينبغي أن يكون الدافع قوياً لتحقيق هذه المصلحة، وأن يتضافر الآباء مع الأبناء لعملية التعليم وطلب العلم، وأن تكون الحياة شعلة في هذا الطريق، قال الله عز وجل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18] استشهد الله العلماء دون غيرهم من سائر البشر، فقد أشهد نفسه وأشهد الملائكة وأشهد العلماء فقط من خلقه، وهذا دليل على فضلهم، فأشهدهم على أعظم حقيقة وهي حقيقة التوحيد، وقرن الله شهادتهم سبحانه وتعالى بشهادته.
وفي ضمن هذا الاستشهاد تزكية للعلماء وتعديل ولا شك؛ لأن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول، وكذلك فإن العلماء هم الذين يطاعون في المدلهمات ويتبعون في الخطوب، وإذا استشكلت الأمور.
علماء الشريعة هم الذين نزَّهوا أنفسهم عن الأهواء والأموال وعن سائر أنواع الشبهات، تعلموا العلم لله وعلموه في ذات الله، وقالوا بالعلم وحكموا به، لا تأخذهم في الله لومة لائم.(170/2)
الفرق بين العالم والعابد
عباد الله إذا كان الله قد أباح لنا أكل الصيد الذي صاده الكلب المعلم، وإذا صاده كلب غير معلم لا يؤكل {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] فلولا فضل العلم لكان فضل صيد الكلب المعلم والجاهل سواء، وقد علمه كيف يصيد، وكيف يمسك لصاحبه، فما بالك بمن تعلم الكتاب والسنة! (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) إذا رأيت نفسك تتجه إلى الفقه، تتجه إلى العلم، تتجه إلى فهم الكتاب والسنة، فاعلم أنك ممن أراد الله بهم خيراً (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر) فخذ بهذا الحظ الوافر يا أيها الشاب، يا عبد الله، يا أيها الكبير ويا أيها الصغير خذ من هذا الحظ الوافر الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم.
مسألةٌ واحدة تتعلمها وتعلمها لولدك، أو تعلمها لأخيك، أو تعلمها لصاحبك وصديقك، أو تعلمها للناس والعامة تستفيد بها أجراً بعد موتك، قال عليه الصلاة والسلام في الأربع من عمل الأحياء التي تجري للأموات: (ورجلٌ علم علماً، فعمل به من بعده، له مثل أجر من عمل به من غير ينقص من أجر من يعمل به شيء).
عباد الله لو علمنا شخصاً كيفية الصلاة، كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإن هذا المعلم ولا شك يكون له أجر عظيم حتى بعد وفاته، فقوموا بالعلم والتعليم.
(فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، وإن الله عز وجل وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير) فلنحتسب الأجر في هذا التعليم، نعلم الناس الخير، ولا يمكن أن نعلمهم إلا بأن نتعلم، فإننا لا يمكن أن نعلمهم ونحن جهال، لابد أن نتعلم، أن نبلغ ولو آية، إذا علمناها وعلمنا معناها بلغناها فكتب لنا أجر عظيم، لماذا تنصرف النفوس عن هذه العبادة العظيمة؟ يا عباد الله إنه فخرٌ وشرفٌ في الدنيا والآخرة، إن العلماء يحضرون ربهم يوم القيامة ويقفون بين يديه مكرمين منعمين يتقدمهم معاذ بن جبل بين أيديهم برمية حجر؛ لأنه أعلم الناس بالحلال والحرام بعد النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه كما أخبر.
عباد الله ما هو أفضل من أن يستغفر لك الحوت في البحر والدواب وحتى النمل تستغفر لطالب العلم؟ ما هو أفضل من أن تضع الملائكة أجنحتها لك إذا سلكت سبيلاً في طلب العلم سواء كان في درس تذهب إليه أو في كتاب تشتريه لتفتحه وتقرأ فيه؟ أي فضل عظيم هو ذاك وفَّره الله عز وجل لطلبة العلم الشرعي الذين يتعلمون الكتاب والسنة.(170/3)
عاقبة مبلغ العلم
عباد الله، يا أيها الناس إن نبيكم قد دعا بالنضارة نضارة الوجه لمن بلغ العلم ولو حديثاً واحداً، فقال: (نضَّر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغ، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) (نضَّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) تبليغ القرآن، تبليغ الحديث، تبليغ العلم للناس، الإبلاغ والبلاغ وظيفة الرسل {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:20] نقل المعلومات الصحيحة إلى الناس، ينبغي أن يكون هذا ديدناً لنا وعادة دائماً إذا تعلمنا شيئاً، نقلناها إلى غيرنا صغيراً وكبيراً قريباً وبعيداً، وهل نريد إلا الأجر؟ وهل نريد إلا النجاة يوم الحساب؟ وهل نريد إلا الحسنات أن تأتينا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ونحن في قبورنا؟ يا عباد الله إن المسألة جدٌ والله وفوزٌ عظيم، لو علم الإنسان ما له من الأجر لقام بذلك حق القيام.(170/4)
أقوال السلف في طلب العلم
عباد الله يقول معاذ رضي الله عنه: [تعلموا العلم؛ فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة].
وقال الحسن: "لولا العلماء، لصار الناس كالبهائم لا يدرون لا كيف يعبدون ولا كيف ينكحون".
والعلم أفضل من المال، تفانى الناس في جمع الأموال، وأقبلوا على أنواع الاستثمارات، والعلم يحكم في المال، والمال لا يحكم في العلم، والعلم يكون مع صاحبه إلى القبر، والمال يفارق صاحبه إذا خسره في صفقة، العلم يكثر بالنفقة ويزداد ويترسخ، والمال ينقص إذا أنفقت منه إلا إذا كان في سبيل الله.
عباد الله ما عُبد الله بشيء أفضل من الفقه، الناس إلى العلم- كما يقول أحمد رحمه الله- أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ وذلك لأن الرجل قد يحتاج إلى الطعام والشراب مرة أو مرتين أما حاجته إلى العلم فهي بعدد أنفاسه، وكذلك فإنه ميراث النبوة، والناس لا يفهمون الميراث إلا باللغة المادية، ولما مر أعرابي على ابن مسعود رضي الله عنه وهو يحدث طلابه وهم مجتمعون حوله، رأى أناساً مجتمعين على شخص، فقال الأعرابي: علام اجتمع هؤلاء؟ فقال ابن مسعود مخاطباً إياه بلغته -الأعراب يفهمون الاجتماع على وليمة، على قسمة مال، على عطايا، هكذا يجتمع الناس على شخص- قال ابن مسعود رضي الله عنه: [على ميراث محمد صلى الله عليه وسلم يقتسمونه بينهم].(170/5)
فوائد العلم
والعلم يؤدي إلى الخشية، وهذه من أعظم الفوائد قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ليس العلم بكثرة الرواية، ولكن العلم الخشية
ورأس العلم تقوى الله حقاً وليس بأن يقال لقد رأُست
والعلم يدفع إلى الخشية من أن يسأل عنه صاحبه ولم يعمل به؛ ولذلك قال أبو الدرداء رضي الله عنه: [إنما أخشى أن يكون أول ما يسألني عنه ربي أن يقول لي: ماذا عملت فيما علمت؟].
وقال بعض السلف: والله إني لأخشى ألا تبقى آية في كتاب الله آمرةٌ أو ناهية إلا جاءتني يوم القيامة، فتقول الآمرة بالخير: هل عملت به؟ وتقول الناهية عن الحرام: هل انتهيت عنه؟ ولذلك لابد إذا تعلمنا أن نطبق، فهي سلسلة متواصلة علم وعمل، تعلم وتطبيق، ولذلك فليست القضية حشو أذهان ولا حفظ معلومات، وإنما هي أثر حقيقي على الإنسان، ولذلك كان العلماء الربانيون مخبتين لله تعالى، يقومون له بالعبادة، يقومون الليل ويستغفرون بالأسحار، قال ابن القيم رحمه الله عن شيخ الإسلام: أنه كان إذا صلى الفجر يقعد في مصلاه يذكر الله حتى ترتفع الشمس جداً، وكان يقول: هذه غدوتي، وإذا لم أتغد سقطت قواي.
وقال الحسن رحمه الله: كان الرجل- يعني: من السلف - يطلب العلم، فلا يلبث إلا يسيراً حتى يرى أثر العلم في صلاته وخشوعه وكلامه وسمته؛ لأن الله قال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:107 - 109].(170/6)
أسباب قتل طلب العلم عند الشباب
عباد الله لا ينال هذا العلم إلا من جعل همته لله، إلا من ارتفعت همته، وقد سقطت كثير من الهمم هذه الأيام بأمرين عند كثير من الشباب: باللهو والملل.
ما قتل طلب العلم عند الشباب وعند غيرهم أيضاً إلا بأمرين: اللهو والملل، فتراهم يعكفون على وسائل من اللهو، يشتغلون بها عن الشيء الذي خلقوا من أجله، فهذا يتبع ألعاباً ويعبث بها ويضيع وقته بها، وهذا يتبع مباريات ويشاهد مسابقات ويتابع أولمبيات، وهكذا تضيع الأعمار في اللهو، في خروج وسفر لتزجية الوقت وإضاعته، وألعاب قد اخترعت يمضي بها كثير من الناس أوقاتهم بلا حساب.
وأما الملل الذي صار به الشاب لا يستطيع العكوف على الكتاب، سريع الملل، إذا فتحه لم يمكث عنده صفحة أو صفحتين إلا ويشعر بالملل، فيغلق الكتاب، وإذا كان في درسه ربما لا يستطيع أن يستوي قاعداً مطمئناً، فتراه يكثر الحركة يريد القيام، بل ترى كثيراً من العامة في مجالس الذكر أو إذا أُلقيت كلمة بعد صلاة من الصلوات لا يستطيعون أن يجاهدوا أنفسهم ويصابروا في دقائق يجلسونها لسماع العلم، لكن يمكن لهم أن يجلسوا عند المصارعة ساعات، وأن يجلسوا عند الملهيات أياماً طوالاً يتابعون ذلك بغير ملل، وعلم الكتاب والسنة يحصل منه الملل؛ لأن النفوس أسنت بالمعاصي، وفسدت بارتكاب الذنوب، فصارت نتيجة لذلك تنفر من كلام ربها وحديث رسولها، ولكنها لا تمل ولا تكل وتلتذُّ وتصابر في سبيل الاستماع إلى لغو أو مشاهدة لعبة! هذه هي الحقيقة، ولذلك كان لابد للمسلم أن يتجرد لله بالطاعة، وأن يصابر في طلب العلم، تعلو همته، عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنه: [لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شاب قلت لشاب من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولنتعلم منهم فإنهم اليوم كثير، فقال لي: يا عجباً لك يا ابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم من فيهم؟! قال ابن عباس: فتركت ذلك الرجل وأقبلت أنا على المسألة، وجعلت أتتبع الصحابة وأسألهم، فإن كنت لآتي الرجل في طلب حديث واحد يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجده قائلاً -نائماً نوم القيلولة في بيته- فأتوسد ردائي على بابه، تسفي الريح على وجهي التراب حتى يخرج، فإذا خرج قال: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما جاء بك؟ هلا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، بلغني حديث عنك أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحببت أن أسمعه منك، قال ابن عباس: فكان ذلك الفتى الأنصاري إذا لقيني بعد يقول: هذا كان أعقل مني].(170/7)
التنافس في طلب العلم
عباد الله إذا تنافس الناس في الدينار والدرهم، فلنتنافس نحن في طلب العلم، فإن الإنسان إذا عنى بالعلم والعمل تشتاق إليه الجنة، وكذلك فإن هذه الهمة التي ينبغي أن تكون الرائد في الطلب، ينبغي أن تكون موفورة بتجديد النية بتحصيل العلم لله عز وجل.
ولذلك ينبغي أن يكون لنا دعاء بأن ييسر الله لنا العلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] وإذا استغلقت مسألة نلجأ إلى الله كما كان العلماء يلجئون، كان شيخ الإسلام يقول إنه كان يقرأ في الآية الواحدة أحياناً مائة تفسير، فلا يفهمها فيسأل الله الفهم، ويقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، ويمرغ وجهه في التراب ويسأل الله عز وجل حتى يفتح الله عليه.
وكان أبو حنيفة رحمه الله إذا أشكلت عليه مسألة، قال: ما هذا إلا لذنب أحدثته، فيبدأ يستغفر الله، أو يقوم يصلي ويتضرع إلى ربه ويدعو مولاه، فيفتحها الله عليه.
ويقول: أرجو أن يكون قد تاب علي، أرجو أن يكون قد تاب علي.
بدلاً من صرف الأموال في التوافه لننفقها في شراء كتب العلم، وإن مسئولية الآباء في ذلك كبيرة وكبيرة للغاية، قال علي بن عاصم الواسطي: دفع إلي أبي مائة ألف درهم، وقال لي: اذهب وسافر لطلب العلم، ولا أرى وجهك إلا ومعك مائة ألف حديث.
فسافر وارتحل في طلب العلم، وكتب عن كثير من العلماء ورجع إلى أبيه وقد غدا عالماً اشتهر بين الناس.
هكذا يكون موقف الأب المسلم يوفر لولده سائر الوسائل المتاحة لتحصيل العلم من نفقة في كتب أو سفر أو تهيئة جو وتشجيع وتحفيز، انظر إلى عبارة ذلك الأب الصالح: هذه مائة ألف، ولا أرى وجهك إلا ومعك مائة ألف حديث.
فالله أكبر على ما كان من ذلك الأب بما دفع ولده إلى طلب العلم!(170/8)
حال السلف مع العلم
عباد الله، يا عباد الله لا تصلح الإقامة على الجهل ألبتة، وإنما ينبغي السعي في الطلب حتى يصل الإنسان بالمجاهدة إلى مرحلة اللذة في الطلب، أولها: مؤلم وآخرها لذيذ.
قيل للشافعي: كيف شهوتك للعلم؟ فقال: أسمع بالحرف- أي: بالكلمة من العلم- لم أسمعها من قبل؛ فتود أعضائي أن لها آذاناً تتنعم بهذه الكلمة كما تنعمت بها أذناي! قيل له: كيف طلبك للعلم؟ فقال: كطلب المرأة التي أضاعت ولدها وليس لها ولد سواه.
كانوا رحمهم الله يقسمون الأوقات، يقول الخطيب: واعلم أن للحفظ ساعات ينبغي لمن أراد التحفظ أن يراعيها.
وللحفظ أماكن ينبغي للمتحفظ أن يلزمها، فأجود الأوقات للحفظ الأسحار، ثم بعدها وقت انتصاف النهار، وبعدها الغدوات- أي: أول النهار- دون العشيات، وحفظ الليل أصلح من حفظ النهار للهدوء والسكون فيه.
قيل لبعضهم: بما أدركت هذا العلم؟ قال: بالمصباح والجلوس إلى الصباح.
وقال الخطيب: وكل موضع بعيد مما يلهي لا خضرة ولا أشكال ولا جمال ولا ألوان ولا أصوات لا يصلح الحفظ كما يقول: على شطوط الأنهار ولا على قوارع الطريق ولا بحضرة النبات والخضرة، ينتقون الأوقات وينتقون الأماكن لأجل طلب العلم، ومواصلة بعد مواصلة.
ورئي مع أحمد العالم الجليل محبرة وقلم فقيل له: أنت إمام المسلمين ولا زلت تحمل المحبرة وتكتب؟! فقال الإمام أحمد -شعار أهل الحديث تلك العبارة-: مع المحبرة إلى المقبرة.
وهكذا كانوا رحمهم الله تعالى، ولذلك صاروا علماء أجلاء، فالمسألة أولها صعب، أولها مؤلم، أولها ممل، تحتاج إلى جلد ومصابرة حتى تأتي اللذة، فإذا جاءت اللذة انفرجت الأمور ووصلنا، نحتاج إلى أن نطلب العلم شباناً وشيبة، كهولاً كباراً وصغاراً، هذا باب لابد من ولوجه والسعي إلى تحصيله بالشيوخ والكتب والأشرطة وسائر الوسائل المتاحة التي فيها العلم: الفقه، التفسير، الدين، الحديث، وإلا كنا هملاً لا فرق بيننا وبين هؤلاء البهائم الذين يعيشون لدنياهم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا، وأن يعيننا على طلب العلم وييسره لنا، وأن يذلل الطريق والمصاعب حتى يرتفع فيه الكعب وتعلو الدرجة إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(170/9)
حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله خالق الناس أجمعين، وفاطر السماوات والأراضين، أشهد أن لا إله إلا هو العليم الحكيم، علام الغيوب، سبحانه وتعالى، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم العالم المعلم، لم ير مثله قط، لم ير أحسن منه تعليماً صلى الله عليه وعلى أصحابه الذين نقلوا علمه، وعلى التابعين الذين تابعوهم على ذلك، وعلى كل من تعلم العلم وساهم في تحصيله ونشره.
عباد الله في هذه الليلة يحتفل كثير من المسلمين في أقطار الأرض احتفالاً ينم عن جهلهم بالعلم، وكلما انحسرت السنة امتدت البدعة، وكلما نقص العلم زاد الجهل، وهذان أمران محتومان، إذا كان هذا في نقصان فالآخر في زيادة والعكس بالعكس: الاحتفال بالمولد هل فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كلا والله، هل فعله أصحابه له من بعده؟ هل فعله أبو بكر أو فعله عمر أو عثمان أو علي أو عمر بن عبد العزيز؟ لم يفعلوا ذلك، هل فعله الأئمة أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد والليث والأوزاعي وسفيان إلى آخرهم؟ هل فعلوا وقاموا بالاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم؟ لم يفعلوا ذلك.
إذاً ألا يسعنا ما وسعهم؟ ألا يصلحنا ما أصلحهم؟ ألا يصلح لنا ما صلح لهم؟ كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وهذا الاحتفال بالمولد أمر تعبدي يقصدون به العبادة والحسنات، فليس أمراً دنيوياً حتى نقول: اخترعوا ما شئتم من المخترعات (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ومردود على وجهه، وسيأثم بدلاً من الأجر الذي يظنه حاصلاً له ما دام يعلم بحكم ذلك.(170/10)
واجبنا تجاه الرسول عليه الصلاة والسلام
إن ذكره عليه الصلاة والسلام عبادة وقربة نشرف به آذاننا ونصلح به أنفسنا بذكر سيرته وعبادته وهديه، يرفع ذكره في الأذان والإقامة والخطب والصلوات في التشهد وغير ذلك، في المجالس وفي الدعاء وعند ذكره صلى الله عليه وسلم، لسنا من الذين يذكرون النبي عليه الصلاة والسلام ليلة في السنة، بل نحن نذكره في كل ليلة ويوم طيلة السنة، وهكذا يجب أن نكون، ليست ذكراه عندنا سنوية، بل ذكراه عندنا يومية وأسبوعية وشهرية، ذكره دائم صلى الله عليه وسلم في كل يوم وليلة.
المسلم الحقيقي لا يحتاج إلى موالد لتذكر النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه يتذكره دائماً، وتُعمل الدروس والخطب في السيرة والغزوات والشمائل المحمدية، هكذا ينبغي أن تكون على مدار العام، وبين فترة وأخرى يذكر الناس بهدي نبيهم عليه الصلاة والسلام وسيرته، وهكذا ينبغي أن يكون، ولكن الناس إذا اعتراهم الوهن والفسق والضعف راحوا يقيمون الاحتفالات لعظمائهم، وهذه طريقة الكفار، انظر إليهم في احتفالاتهم بالأشخاص.
قال العلامة المصري/ محمد رشيد رضا رحمه الله: إن من طباع البشر أن يبالغوا في تعظيم أئمة الدين والدنيا في طور ضعفهم في أمور الدين والدنيا، لأن هذا التعظيم- هذا هو التحليل النفسي للمولد- لا مشقة فيه على النفس، فيعملونه بدلاً مما يجب عليهم من الأعمال الشاقة التي تُعمل طيلة العام، ولذلك ترى أهل الفسق أفسق الناس وأفجر الناس يشاركون في المولد لأنها ليلة في السنة، يدخل بها مع المحتفلين ثم يخبره ضلال الصوفية بأنه قام مغفوراً له عند رب العالمين، ليلة في السنة يحتفل بها معهم ثم يقوم مغفوراً له، ما أسهل ذلك! وليس من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم الابتعاد عن دينه، ولا الابتداع في دينه، ونحن نعلم بالتاريخ الذي ذكره العلماء متى اخترع المولد الذي أحدثه السلطان المسمى كوكا بوري بن أبي الحسن علي بن باتكين في القرن السادس الهجري، ولا زال العلماء يفتون بتحريمه وينصون على ذلك ممن عرفوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم وفقهوا ذلك ولم تنطلِ عليهم الأمور وتختلط.(170/11)
عجيب أمر مبتدعة الموالد
وهناك ممن ينتسب إلى العلم من اختلط عليه الأمر ولم يتبين له أو جهل ذلك أو تابع الكثرة الكاثرة من الناس، أو رأى فيه نوع بدعة حسنة وليس هناك بدعة حسنة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (كل بدعة ضلالة) فإذا قال الشارع: كل بدعة ضلالة لا يمكن أن يأتي إنسان ويستحسن ويستثني، إذا لم يستثن الشارع ليس لنا حق الاستثناء (كل بدعة ضلالة) ويقال لهؤلاء: شهر ربيع الأول هذا الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم هو بعينه الذي مات فيه فليس الفرح فيه بأولى من الحزن، لماذا لا تحزنون؟ إذاً أو يستوي عندكم الأمران؟ وإذا كانت البعثة للإسلام أهم من مولده، فلماذا لا تحولون الاحتفال إلى البعثة؟ أيهم أهم للعالم والبشرية: البعثة أم المولد؟ مولده أهم أم بعثته أهم أم هجرته أهم؟ فلو كنتم صادقين بالاحتفال بأهم مناسبة كما تزعمون احتفلوا ببعثته، لكن لا أحد يحتفل ببعثته، ولا نريد منهم أن يحتفلوا بالبعثة، ولكن من باب الإلزام والمحاجة نقول لهم ذلك.(170/12)
بدع ومنكرات ترافق الموالد
ثم إن في كثير من هذه الموالد اعتقادات فاسدة ممن يحضرون، سواء كان ذلك في قراءة قصائد فيها غلو وشرك أكبر وليس بأصغر، كقصيدة البوصيري:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
ترك الله ويريد أن يلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم عند حلول الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
وضرتها: هي الآخرة، ومن علمك: (من) للتبعيض، فماذا بقي الله إذاً؟! هذه هي قصيدة البردة التي يلهجون بذكرها، الشرك الأكبر وغير ذلك يحضرونه، ويقومون عند ذكر ولادته عليه الصلاة والسلام احتراماً وقوفاً، ويقول بعض الغلاة منهم: دخلت روحه إلى المجلس قوموا، وأن روحه تطوف بالمكان، وهذا من أبطل الباطل وأكذب الكذب.
ولو قال إنسان: نحن لا نقرأ البردة ولا نقول الشرك نقرأ سيرة ابن هشام، نقرأ في كتاب للسيرة كتاب موثوق، فنقول: عينتم يوماً أم لا؟ واحتفلتم به أم لا؟ واعتقدتم أنه قربة إلى الله أم لا؟ في يومٍ ما عينه الشارع ولا فضله ولا جعله عبادة فإذاً اجتماعكم غير مشروع حتى لو لم تقرءوا البردة ولا غيرها.
ثم تملأ البطون بالأطعمة والحلويات الخاصة، والفقراء بالحمص، ولذلك يقولون في الأمثال العامية: خرجنا من المولد بلا حمص.
وفي هذه الموالد تحصل كثير من المنكرات والمفاسد، وفي بعض البلدان استعمال الغناء وآلات الطرب، واختلاط الرجال بالنساء وهذا مشاهد ولا يمكن إنكاره، وحتى الراقصات يشاركن في ذلك، وقد قرأت في بعض الجرائد تحقيقاً صحفياً في مشاركة الراقصات في المولد والأجور التي يأخذنها، ويسمع الغناء وتصفيق النساء ويكون في الاختلاط سبب عظيم للفتنة.
الجمع بين كتاب الله والأغاني في مناسبة واحدة، الأغاني والألحان والطرب وهز الرءوس والتمايل والدف والمزهر والمزمار والدربكة وغيرها أو بعضها في مجلس ذكر، كيف يكون هذا؟! يعملون أعمال الشياطين ويطلبون الأجر من رب العالمين؟! أين هؤلاء من قوله عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83]؟ هذا هو التفاعل الحقيقي {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83] وتخرج النساء إلى المقابر متبرجات في المولد، ويصبح المولد غرضاً ومجالاً للأغراض المشينة، ويتبعونه بموالد أخرى وزيارات لقبور أخرى في بعض البلدان.
عباد الله لو خلا هذا من المحرمات وكان مجرد جلسة كما قلنا، فإن العلماء قد بينوا حكم ذلك قال ابن الحاج الإمام المالكي في كتابه المدخل: فإن خلا المولد النبوي- يعني من المنكرات والغناء وتوابعها- وعمل طعام فقط ودعي إليه الناس، دعا به الإخوان، فهو بدعة بنفسيته فقط، إذ أن ذلك زيادةٌ في الدين وليس من عمل السلف الماضية (لا تقوم الساعة حتى يصير المعروف منكراً والمنكر معروفاً) ولذلك أكثر العالم الإسلامي- وهذه حقيقة يعترف بها- يحتفلون بالمولد.
قد عرف المنكر واستنكر المعروف في أيامنا الصعبة
وصار أهل العلم في وحدةٍ وصار أهل الجهل في رتبة
حادوا عن الحق فما للذي ساروا به في ما مضى نسبة
فقلت للأبرار أهل التقى والدين لما اشتدت الكربة
لا تنكروا أحوالكم قد أتت نوبتكم في زمن الغربة
وهذا ما حصل والله، ونحن من الواجب علينا النصح والتذكير بالأسلوب الحسن والكلام الحسن {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
نسأل الله أن يجنبنا البدع ما ظهر منها وما بطن، نسأل الله تعالى أن يرزقنا اتباع السنة وأن يحيينا عليها وأن يميتنا عليها إنه سميع مجيب قريب.
اللهم آمنا في الأوطان والدور وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، اللهم إنا نسألك نصراً تنصر به أولياءك وحزبك المفلحين، اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل المسلمين، اللهم رد عن إخواننا كيد الكائدين وعدوان المعتدين يا رب العالمين، كن معهم ولا تكن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(170/13)
الزواج السري
إن الشريعة الإسلامية قد حافظت على المجتمع المسلم وحفظته من كل ما يمس طهره وعفافه ويخدشه، أو يجعل للريبة والشك فيه مكاناً، وذلك بالتشريعات الربانية المحكمة، ومن ذلك أمر الزواج، فقد أمرت وأوجبت الولي والشاهدين في النكاح، وبعد ذلك لابد من إعلان النكاح حتى يفرق بينه وبين الزنا والسفاح، وقد انتشر في هذه الأيام ما يسمى بالنكاح السري، الذي يدخل الريبة والشك إلى المجتمع، هذا هو ما تحدث عنه الشيخ حفظه الله، ذاكراً تحريمه، وبعض مفاسده، ووجوب إعلان النكاح، وفوائده.(171/1)
حكم الزواج السري
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة: كنا قد تكلمنا في خطبةٍ ماضية عن أركان النكاح وشروطه في هذه الشريعة، ثم أتبعنا ذلك بخطبة أخرى في الكلام عن نوع من الزواج الذي بدأ يظهر عند بعض الناس، وهو أن يتزوجها بشرط ألا يكون للزوجة مبيت ولا نفقة، وبعضهم يتزوجها عند أهلها، وبعضهم يخفي هذا الزواج، وهو الذي يعرفه بعض الناس بـ (زواج المسيار) وذكرنا أن هذا الزواج إذا كان مكتمل الشروط، بأن تحققت فيه شروط العقد، وشروط صحة النكاح؛ فإنه نكاح صحيح، وبهذا يفتي شيخنا أبو عبد الله ابن باز نفع الله به.
وكذلك عرفنا أن الشروط هذه فاسدة غير مفسدة للعقد، لأن للمرأة الحق في المبيت والنفقة، فإذا سكتت عن هذه المطالبة فالعقد صحيح باقٍ على صحته، وإذا طالبت بحقها في المبيت والنفقة فلها ذلك، وكان الشرط الذي اشترطه عليها في العقد باطلاً وفاسداً غير مفسد، فإذا أعطاها حقوقها فالحمد لله، وإن أبى فإنه يجبر على الطلاق، ولكن هذا النكاح قد لا يكون مرشحاً للنجاح من الناحية الاجتماعية، حيث إن الزوج لا يتكلف فيه شيئاً، وربما كان مجالاً للتذوق والتنقل من امرأة إلى أخرى، ولوحظ أنه يفتح باباً للفساد عند المرأة التي لا يأتيها هذا الرجل إلا مرة في الشهر أو نادراً، فاتخذت ذلك ذريعة إلى ارتكاب الفواحش، واستعانت على ذلك بظهورها أمام الناس أنها متزوجة، فعند ذلك يصبح هذا النكاح حراماً ليس في ذاته ولكن لما يؤدي إليه من المفاسد، فالنكاح إذا اكتملت فيه الشروط فهو صحيح، وإذا وجدت فيه شروطٌ فاسدة غير مفسدة فهو باق على صحته، وإذا أدى إلى وقوع الفساد فإنه يحرم لا لذاته، ولكن لما يؤدي إليه من الفساد.
وذكرنا أن لبعض الناس أغراضاً في مثل هذا النكاح، كأن يكون فقيراً، أو أن تكون المرأة موظفة لا تريد فراق وظيفتها أو أهلها، أو هو لا يريد أن يكتشف أمره، وأن عنده زوجة أخرى ونحو ذلك.
وسنزيد الكلام إيضاحاً -إن شاء الله- في هذه الخطبة، في قضية حكم الزواج السري، ما حكم الإسرار بالزواج وكتمان أمره وجعله خفياً؟ وقد ذكرنا أن بعض الناس يعمدون إلى الزواج من بعض النساء في الخارج، أو يتزوج الخادمة في بلدها ويأتي بها ويكتم هذا الأمر، فما حكم كتمان الزواج؟ وما حكم هذا النوع من النكاح؟ وما حكم نكاح الهبة التي يسميها بعض الناس كذلك؛ أن تهب المرأة نفسها للرجل بدون ولي ولا شاهدين ولا إعلان؟(171/2)
حكم إعلان النكاح
أما بالنسبة لإعلان النكاح، فقد قال ابن قدامة -رحمه الله- في كتابه المغني: ويستحب إعلان النكاح والضرب فيه بالدف، قال أحمد: يستحب أن يظهر النكاح، ويضرب فيه بالدف، حتى يشتهر ويعرف.
وقيل له: ما الدف؟ قال: هذا الدف -أي: المعروف- وقال: لا بأس بالعزف في العرس بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:
أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم
ولولا الذهب الأحمر ما حلت بواديكم
ولولا الحبة السوداء ما سمنت عذاريكم
وله ألفاظ أخرى.
قال أحمد رحمه الله: لا على ما يصنع الناس اليوم من الكلام الفاحش، والتوسع في المعازف.
يقول أحمد -رحمه الله-: لا على ما يصنع الناس اليوم، وابن قدامة -رحمه الله- يقول ذلك، فما بالهم لو شاهدوا ما يحدث في هذا اليوم! وقال أحمد أيضاً: يستحب ضرب الدف والصوت في الإملاك -التي يسميها الناس: الملكة- فقيل له: ما الصوت؟ قال: يتكلم ويتحدث ويظهر.
والأصل في هذا: ما رواه محمد بن حاطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدف في النكاح) رواه النسائي، وقال عليه الصلاة والسلام: (أعلنوا النكاح)، وفي لفظ: (أظهروا النكاح) وكان يحب أن يضرب عليه بالدف، وفي لفظ: (واضربوا عليه بالغربال) وهو الدف المعروف المفتوح، والشرط ألاَّ يكون فيه ما يجعله بعض الناس من أنواع من الحلق المعدنية، التي تصدر أصواتاً عند الضرب به، فيكون دفاً مجرداً، وهو الدف المعروف للنساء في الأعراس.
وعن عائشة أنها زوجت يتيمة رجلاً من الأنصار، وكانت عائشة فيمن أهداها إلى زوجها، قالت: (فلما رجعنا قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قلتم يا عائشة؟ قالت: سلمنا ودعونا بالبركة ثم انصرفنا، فقال: إن الأنصار قوم فيهم غزل، ألا قلتم -يا عائشة:
أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم
وفي لفظ:
ولولا الحنطة الحمراء ما سمنت عذاريكم
وقال أحمد رحمه الله: لا بأس بالدف في العرس والختان، وأكره الطبل.
والمقصود التحريم، فإن أحمد -رحمه الله- قال: أكره -ويقصد كراهية التحريم- وأكره الطبل -وهو المنكر- وهي الكوبة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء ذلك في الحديث الصحيح، في النهي عن الكوبة، وهي الطبل المشهور بين الناس، مما هو مغلق الطرفين ويضربون به، مثل: القمع الكبير، وهيئته معروفة عند العامة.(171/3)
كراهية كتمان النكاح مع الولي والشاهدين
وإن عقدوا النكاح بولي وشاهدين، فأسروه، أو تواصوا بكتمانه، كره ذلك وصح النكاح، وبه يقول أبو حنيفة والشافعي وابن المنذر.
وممن كره نكاح السر: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعروة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، والشعبي، ونافع.
وقال أبو بكر بن عبد العزيز: النكاح باطل؛ لأن أحمد قال: إذا تزوج بولي وشاهدين فلا حتى يعلنه.
وهذا مذهب مالك، وهو وجوب إعلان النكاح.
إذاً: مذهب جمهور الفقهاء على أن إعلان النكاح مستحب، وذهب بعضهم: إلى أنه فرض واجب، وهذا رأي الزهري رحمه الله، وعنده أنه إذا نكح نكاح سر وأشهد رجلين وأمرهما بالكتمان، وجب التفريق بين الزوجين، ورأي مالك -رحمه الله- أن نكاح السر يفسخ، وسيأتي كلام الإمام ابن تيمية -رحمه الله- مفصلاًً في هذه القضية بعد قليل.
ونلاحظ أن الشريعة أمرت بالإشهاد عند العقد، وأمرت بالإعلان عن النكاح في أمره عليه الصلاة والسلام بقوله: (أعلنوا النكاح)، وبقوله: (أظهروا النكاح) غير أنه إذا أعلنه في بلد لم يجب عليه إعلانه في بلد آخر، وهذا اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز نفع الله به، في الأمر بالإعلان بالنكاح وإشهاره، وأنه لو أشهره في بلد لا يلزمه أن يشهره في بلد آخر.
إذاً: الإشهاد عند العقد والإعلان بعده مما جاءت به الشريعة، وأمرت بالضرب بالدف إعلاناً للنكاح، وأي وسيلة لإعلان النكاح، كهذه الأنوار والزينات، وبطاقات الأعراس، واجتماع الناس على الوليمة، كل ذلك من وسائل الإعلان؛ فهي مشروعة، إذا لم يرتكب محرم فيها، ولولا أن في دق منبهات السيارات إزعاج للناس لقال به بعض أهل العلم من المعاصرين، كما ذكروا ذلك في فتاويهم، فيسلك في إعلان النكاح كل طريق يؤدي إليه؛ تنفيذاًَ لأمر الشارع.
وجاء في رواية ضعيفة: جعله في المسجد.
وذكر العلماء أن علة ذلك إعلانه؛ لأنه إذا كان العقد في المسجد لم يكن خفياً، فإن المصلين سيشهدون ذلك، وعند الإشهاد في العقد يعلن بين الأقارب، وعند الوليمة والضرب بالدف ونحوه يعلن على الأباعد، فيتحقق الغرض الذي قصده الشارع في إعلان النكاح.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- وقد سئل عن رجل تزوج امرأة مصافحة؛ والمصافحة: اسم كانوا يطلقونه في زمن
شيخ الإسلام
رحمه الله على نكاح السر: هل يصح النكاح أم لا؟ فأجاب: الحمد لله، إذا تزوجها بلا ولي ولا شهود وكتم النكاح فهذا نكاح باطل باتفاق الأئمة، بل الذي عليه العلماء أنه لا نكاح إلا بولي: (أيما امرأة تزوجت بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل).(171/4)
حكم زواج الهبة
وهنا نتوقف قليلاً قبل أن نتابع كلامه -رحمه الله- في قضية الإعلان، لنذكر حكم زواج الهبة، الذي يسميه بعض الناس كذلك.
إذا لم يوافق أبوها، وأحبها وأحبته، وتعلق بها وتعلقت به، هرب بها، أو اختلى بها، وقال: زوجيني نفسك، فتقول: زوجتك نفسي، فيقول: قبلت.
وقد يستدعي بعض هؤلاء الجهلة من أرباب المعصية، يستدعي اثنين من أصحابه، ليشهدوا على هذا العقد ليكون حلالاً بزعمه ألا فليعلموا أن هذا النوع من العقد باطل باطل باطل، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فللولي الحق في تزويج المرأة، ولكنه ليس مستبداً بذلك، بل وضعت الشريعة له شروطاً: 1 - منها: أن تكون المرأة راضية.
2 - ألاَّ يعضل المرأة، وإلا يخلع من الولاية وتجعل إلى غيره، فالذي يزعم أنه أحب امرأة وتعلق بها وتعلقت به، وأن أهلها لا يوافقون على الزواج، فيهرب بها، أو يذهب إلى بلد، ويقول: إن فيه شيخاً يزوج بغير ولي، فإن ذلك باطل بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما مسألة الهبة؛ أن تهب المرأة نفسها لرجل، فإن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] فهذا حكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأما غيره فليس هناك شيء اسمه زواج الهبة، أن تقول: وهبتك نفسي، فيقول: قبلت، ويكون عقداً شرعياً، هذا محال ولا يكون في هذه الشريعة، وبعض الناس يريدون التحايل بأي طريقة، ليصل إلى فرج امرأة، فهذا إنسان فاسق متحايل على الشريعة والدين، وفعله حرام، ويأثم بذلك، وبهذا تتبين قضية الزواج بامرأة دون موافقة أهلها أو الهرب بها، أو الذهاب إلى بلدٍ لا يشترطون فيه في المحكمة الولي ونحو ذلك.(171/5)
مشابهة النكاح السري للزنا
ثم قال رحمه الله: فإن قدر فيه خلاف، وكتما ذلك، فهذا مثل الذي يتخذ صديقة، ليس بينهما فرق ظاهر معروف عند الناس يتميز به عن هذا.
إذاً: الذي يتزوج امرأة ولا يعلن ذلك أمام الناس، ما الفرق بينه وبين الزاني؟ ليس هناك فرق، والإسلام يمنع كل ما يجلب ريبة إلى المسلم، ويريد أن يكون أمر المسلم واضحاً للناس، وألاَّ يتلبس بشيء يسيء إلى عرضه، ويجعل الناس يتكلمون فيه، قال: فهذا مثل الذي يتخذ صديقة، ليس بينهما فرق ظاهر معروف عند الناس يتميز به عن هذا، فلا يشاء من يزني بامرأة صديقة له إلا قال: تزوجتها، ولكن إذا أعلن يقول الناس: فعلاً تزوجها، وإذا لم يعلن يستريب الناس في أمره، هل هو كاذب أم لا؟ ولا يشاء أحد أن يقول لمن تزوج في السر: إنه يزني بها إلا قال ذلك، لأنه ليس عنده دليل ولا سمع ولا أعلن النكاح، فيتهمه، فلا بد أن يكون بين الحلال والحرام فرق مبين، والفرق المبين هو الذي يعني به -رحمه الله تعالى- إعلان النكاح، ولذلك قال: فقيل: الواجب الإعلان فقط، سواء أشهد أم لم يشهد، كقول مالك وكثير من فقهاء الحديث وأهل الظاهر وأحمد في رواية، والأحسن والأفضل وخروجاً من جميع الاشكالات -كما تقدم- أن يشهد عند العقد، ويعلن النكاح بعده، فإذا أشهد عند العقد، وأعلن النكاح بعده؛ فإن ذلك يكون صحيحاً عند جميع العلماء، ولا شك ولا ريبة في هذا النكاح، وهذا الذي ينبغي أن يكون.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا بدينه مستمسكين، وبسنة نبيه عاملين، وأن يرزقنا العفة والعفاف، وأن يباعد بيننا وبين الحرام، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، سبحانه وتعالى، يحكم ما يشاء ولا معقب لحكمه وهو الحكيم الخبير، يفعل ما يشاء ويحكم ما يشاء سبحانه وتعالى، أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالعدل، وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
يقول -رحمه الله- في تكملة كلامه في مسألة إعلان النكاح: وقد روي عن ابن عباس: [((مُحْصَنَاتٍ)) [النساء:25] أي: عفائف غير زوانٍ، ((وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ)) [النساء:25] أي: أخلاء، كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا، ويستحلون ما خفي -كان عند أهل الجاهلية أن الزنا إذا خفي فليس بعيب، وإذا صار علناً فهو عيب- فقال الله: ((مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ)) [النساء:25]].
فالمسافحات: المعلنات بالزنا، والمتخذات أخذان: المسرات بالزنا، فقال ابن عباس رضي الله عنه: [المسافحات: المعلنات بالزنا، والمتخذات أخذان: ذوات الخليل الواحد] قال بعض المفسرين: كانت المرأة -أي: في الجاهلية- تتخذ صديقاً تزني معه، ولا تزني مع غيره، ويعتبرون ذلك أمراً لا شيء فيه، فالله سبحانه وتعالى قال في الكتاب العزيز مبيناً حكم الزنا بجميع أنواعه، ما صار منه علناً، وما كان منه سراً: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25].
لا معلنات ولا غير معلنات، لا بغي زانية مع الجميع، ولا مع شخص واحد، كله حرام، وكثير من الزناة في هذا الزمان لم تقع آذانهم على هذه الآية ألبتة ولا عرفوا معناها، وبعضهم كذلك يرتبط بالحرام بامرأة بغي، ويقول: إنها لا تزني مع غيره، وهل إذا كانت لا تزني مع غيره، يكون أمراً مباحاً؟! ((غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ)) [النساء:25] ذكروا بهذا كل من يقع في الفاحشة، ((وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ)) [النساء:25] لا البغايا المعلنات المتعدّدات والمعددات، ولا ذوات الخليل الواحد.
وذكروا أن الزنا في الجاهلية كان على نوعين: 1 - نوع مشترك.
2 - نوع مختص.
3 - المشترك ما يظهر في العادة، بخلاف المختص فإنه مستتر في العادة، ولما حرم الله الزنا المختص الذي لا يزني إلا بواحدة، وهو شبيه بالنكاح، فإن النكاح تختص فيه المرأة بالرجل، ومن فقه شيخ الإسلام يقول: لما شابه الزنا المختص بامرأة معينة، ورجل معين، وجب الفرق بين النكاح الحلال والحرام من اتخاذ الأخدان، والفرق هو فصل ما بين الحلال والحرام -الحلال النكاح والحرام الزنا- بالضرب بالدف، وإعلان النكاح.
فذهب شيخ الإسلام -رحمه الله- إلى وجوب الإعلان، وقال: فلهذا كان عمر بن الخطاب يضرب على نكاح السر؛ إذا سمع بنكاح سري ضرب عليه، فإن نكاح السر من جنس اتخاذ الأخدان، وشبيه به، لاسيما إذا زوجت نفسها بلا ولي ولا شهود.(171/6)
فوائد إعلان النكاح
إذاً إعلان النكاح أمر لا بد منه، وله فوائد أخرى غير دفع الريبة، ووقاية العرض، وعدم إشاعة الفاحشة في المجتمع، ومن الفوائد: 1 - أنه إذا كانت المرأة ذات زوج سابق تظهر المسألة، وإذا كان بينهما رضاع جاءت المرضعة، فقالت: قد أرضعتهما، لكن إذا كان خفياً لم يعلن، فإن مثل هذه الأمور تفوت.
2 - ومن الأمور المهمة كذلك في إعلانه: حفظ حقوق الزوجة والأولاد الجدد، وخصوصاً الزوجة الثانية في الميراث، فإنه إذا تزوج -وهذا حالة معروفة- سراً ثم مات، غضب أولاده، وقالوا: ظهر لنا إخوة لا نعلم عنهم شيئاً، وتقول زوجته: ظهرت لي ضرة لم أكن أعلم عنها شيئاً، وإذا كانت هذه المرأة ظالمة، والأولاد ظلمة، سيحرمون الزوجة الثانية وأولادها من الميراث، ويقولون: ما عندنا إثبات رسمي، ومن هنا كان لابد للعاقل -ومثله الذي يتزوج خادمة ويأتي بها- لابد له من مراعاة القوانين التي تكون موجودة في البلد لأجل مثل هذه القضية وهي حفظ حقوق المرأة الجديدة، وحقوق أولادها، حتى إذا مات ورثوه وأخذوا حقهم ونصيبهم، وإلا ضاع؛ فوجب عليه أن يحتاط لأجل ذلك، وأن يراعي هذه المسألة أشد المراعاة، فإن حقوق العباد لا يتسامح فيها، فيجب على الإنسان أن يكون حصيفاً حكيماً في إقدامه على زواج في مكان خفي أو لا يعلنه، ويحسب حساب المستقبل.
المرأة في المستقبل ما وضعها؟ أولاده في المستقبل من هذه المرأة الجديدة ما وضعهم؟ كل ذلك من حكمة المسلم التي ينبغي عليه أن يتفطن لها.
وبقيت قضايا أخرى متعلقة بالموضوع، مثل: زواج المغتربين، والزواج بنية الطلاق، لعلنا نأتي على ذلك في خطبة قادمة إن شاء الله، ولكن لا بد أن نقول: إن أي زواج -وإن كان مباحاً- إذا كان يؤدي إلى ضياع الأولاد عند النصارى، أو ارتداد المسلمات، فإنه يحرم لا لذاته، ولكن لما يؤدي إليه من المفاسد، ونقول عموماً في زواج الغربة، وفي زواج المسيار، وفي الزواج الذي لم يعلن وغير ذلك: لا بد أن يراعى الحال، وأن ينظر فيما يؤدي إليه هذا النكاح من المفاسد، فإذا كانت المفاسد متحققة، كأن يأخذ النصارى أولادهم بالقانون الألماني والفرنسي والأمريكي والبريطاني وغيره، ويُجعلون نصارى، أو المرأة ترتد لما ترى من أمره ونحو ذلك، فإنه يحرم عليه أن يقدم على مثل هذه الفعلة، وقد ذكر العلماء في الزواج في بلاد الحرب أموراً مهمة، ينبغي الرجوع إليها.
إذاً: النكاح وإن كان مباحاً فيجب التفطن لما بعده، ولما ورواءه، وما هو المستقبل بحسب التجربة، وما أرانا الله إياه من واقع الناس وحال مثل هذه الزواجات.
وكذلك في الجانب الآخر لا يجوز الإنكار على من تزوج زواجاً شرعياً، قد تحققت فيه الشروط، ولا اتهامه بالزنا إذا علمت أنه قد تزوج زواجاً شرعياً، فلا يحل مطلقاً قذفه، وهذا ما يتساهل فيه بعض الناس.
أيها الأخوة: إن الحاجة إلى الفقه في الدين ماسة، خصوصاً في هذه القضايا الحياتية الحساسة والخطيرة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في دينه، وأن يرزقنا العفاف، وأن يباعد بيننا وبين الحرام.
اللهم طهر قلوبنا، وحصن فروجنا.
اللهم اجعل بيننا وبين الحرام برزخاً وحجراً محجوراً.
اللهم أعز دينك، اللهم أعز عبادك، والمجاهدين في سبيلك.
اللهم ارفع لواء الدين، واخذل الكفرة والمشركين.
اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، ومن أراد ببلدنا هذا سوءاً فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه.
اللهم انشر رحمتك على العباد، وارفع لواء الجهاد، واغفر لنا وتجاوز عنا في يوم المعاد، إنك أنت البصير بالعباد.
سبحانك ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(171/7)
الشهوة الخفية [حب الرئاسة، حب الشهرة]
حب الرئاسة، وحب الشهرة مرضان خطيران على المرء المسلم، وفي هذا الدرس تحدث الشيخ عن هذين المرضين، فذكر أسباب مرض حب الرئاسة، ومظاهر هذا المرض، ثم أتى إلى العلاج الناجع الذي يقضي على حب الرئاسة في النفس.
وتحدث عن مرض حب الشهرة، وبين خطره على الإخلاص، ثم انتقل لعلاج هذا المرض، وذلك بأمرين هما: التواضع لله بعد الإخلاص، ثم إخفاء العمل، وعرض عدة قصص للسلف مبيناً فيها كيف أخفوا أعمالهم، حتى تكون بينهم وبين الله.(172/1)
مقدمة عن حب الرئاسة
الحمد لله الذي شرع لنا الإسلام دينا، وأوجب علينا الإخلاص له سبحانه وتعالى في العبادة، فالذي يعبده لا يشرك به شيئاً يدخل الجنة، والذي يعبده مع الشرك فإن كان الشرك أكبر فإنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها، أمرنا بالإخلاص فقال: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2] وقال الله سبحانه وتعالى مبيناً خطورة الشرك: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وهذا الشرك -أيها الإخوة- له صورٌ كثيرة: ومن صور الشرك، ومن أنواع الشرك ما يكون جلياً واضحاً ومنه ما يكون خفياً، كما أنه ينقسم إلى شركٍ أكبر وأصغر فلذلك ينقسم إلى شركٍ جليٍ وخفي، فالشرك الجلي واضح يعرفه كل أحد، والشرك الخفي: الذي يخفى على كثيرٍ من الناس، أما المؤمنون فإن الدافع عندهم للشرك الجلي لا يكاد يوجد، لكن الخطورة والمصيبة في الشرك الخفي -بالنسبة للمؤمنين- أما المشركون فهم واقعون في أنواع الشرك، جليها وخفيها.
موضوعنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- عن شهوةٍ خفية في النفس تقدح في الإخلاص وتخالف التجرد لله سبحانه وتعالى، وهي حب الرئاسة وحب الشهرة، وهما موضوعان متقاربان، بينهما كثيرٌ من الارتباط ولعلنا نتحدث عن هذين الموضوعين -إن شاء الله- في هذه الليلة ونسأل الله الإخلاص والقبول والسداد، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجنبنا وإياكم هذه المزالق، وأن يطهر نفوسنا من أنواع الشرك جليه وخفيه.
أما حب الرئاسة فهو: حالقةٌ تحلق الدين، ومزلقٌ عظيمٌ من المزالق التي يفنى فيها الإخلاص ويذوب، بل إن خطورته على الدين أشد من خطورة الذئب الذي يترك في زريبة غنم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنمٍ بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه).
ذئبان جائعان: الحرص على المال ذئب والحرص على الشرف شبهه بذئبٍ آخر، إذا أرسل الذئب في الغنم ماذا يفعل؟ فكذلك يفعل الحرص على الشرف والحرص على الجاه والحرص على الرئاسة كذلك تفعل في الدين، تفسد الدين إفساداً عظيماً، والحرص على الرئاسة وحب الرئاسة والسعي لها، شهوةٌ خفيةٌ في النفس ولا شك، والناس عندهم استعداد للزهد في الطعام والشراب والثياب لكن الزهد في الرئاسة هذا نادر.
قال سفيان الثوري رحمه الله: ما رأيت زهداً في شيءٍ أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب فإن نوزع الرئاسة تحامى عليها وعادى.
وقال يوسف بن أسباط: الزهد في الرئاسة أشد من الزهد في الدنيا، ولذلك كان السلف رحمهم الله يحذرون أتباعهم وأصحابهم من ذلك، كتب سفيان إلى صاحبه عباد بن عباد رسالةً فيها: إياك وحب الرئاسة، فإن الرجل تكون الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة وهو بابٌ غامضٌ لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة فتفقد نفسك واعمل بنية.
إذاً: هو خفي جداً إنه شهوة خفية في النفس، وقال أيوب السختياني رحمه الله: ما صدق عبدٌ قط فأحب الشهرة، وقال بشرٌ: ما اتقى الله من أحب الشهرة، وقال يحيى بن معاذ: لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة، وقال ابن الحداد: ما صدّ عن الله مثل طلب المحامد وطلب الرفعة: المنصب، والرياسة.(172/2)
من مظاهر حب الرئاسة
وحب الرئاسة له مظاهر كثيرة، فمنها مثلاً: أنه لا يعمل إلا إذا صدر، فإذا لم يصدر لم يقدم شيئاً ولا حتى رأياً مفيداً ينفع من عنده، وربما يقول: أَدَعُ غيري يفشل حتى أستلم أنا، مع أن بالإمكان أن يساعده ويكون التعاون من أسباب النجاح، لكن يريد أن يفشله ليخرج هو إلى الصدارة.
وقال بعض السلف موضحاً مظاهر حب الرئاسة: ما أحب أحدٌ الرياسة إلا أحب ذكر الناس بالنقائص والعيوب، فهذه أيضاً من علامات حب الرئاسة، ما أحب أحدٌ الرياسة إلا أحب ذكر الناس بالنقائص والعيوب ليتميز هو بالكمال، ويكره أن يذكر الناس أحداً عنده بخير، ومن عشق الرئاسة فقد تودع من صلاحه.
وكذلك من مظاهرها: ألا يدل على من هو أفضل منه في الدين أو العلم والخلق ويحجب فضائل الآخرين، ويكتم أخبارهم حتى لا يستدل الناس عليهم فيتركوه ويذهبون إلى الأخير، أو يخشى أن يقارن الناس بينه وبين الأفضل فينفضوا عنه أو ينزل في أعينهم ويقل مقداره عندهم.
وكذلك من مظاهر حب الرئاسة الحسرة إذا زالت أو أخذت منه، تأمل لو أن إنساناً كان في قريةٍ أو مدرسةٍ أو بلد، فالتف الناس حوله يعلمهم، ثم جاء من هو أعلم منه، فسكن البلد، ونزل فيها، فماذا يحصل؟ سيتركه الناس ويذهبون إلى الأعلم، فهذا السؤال الآن: هل يفرح الرجل أو يحزن.
؟ هل يفرح لأنه قد جاء من هو أعلم منه يحمل عنه المسئولية ويرفع عنه التبعة؟ ويفيد الناس أكثر.
؟ أو أنه يغتم ويخزن لأنه قد جاء من خطف منه الأضواء وبهت نجمه بقدوم غيره؟ هب أن شخصاً في مجلس فجاء من هو أعلم منه في المجلس، أو أقدر منه، فهل يفرح لمجيء من هو أعلم منه، ويفسح له المجال في الكلام، أو يغتم لحضور شخصٍ سيتصدر المجلس وتلتفت إليه الأنظار ويسعى إليه الناس الجالسون بأسئلتهم؟! لو أن شخصاً في منصب فنقل إلى دائرته أو القسم الذي هو فيه شخصٌ أقدر منه، وشهادته عالية ويرجح أنه يرشح للمنصب بدلاً منه، فكيف يكون عمله في هذه الحالة؟! هناك يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، إن هذا خطر عظيم أيها الإخوة.(172/3)
أسباب مرض حب الرئاسة
حب الرئاسة كما أن له مظاهراً، فكذلك له أسباب ومن ذلك: التحرر من سلطة الآخرين، يريد أن يكون هو رئيساً، لا يريد أحداً فوقه، لو أن الذي فوقه كافرٌ أو فاسقٌ أو خائنٌ، لقلنا: نعم.
ينبغي إزاحته، لكن لو كان الذي يرأسه تقياً مسلماً أميناً عارفاً، فما هو المبرر للتحرر من هذه السلطة والرئاسة التي فوقه؟ وكذلك من أسبابها: الرغبة في التسلط على الآخرين، النفس جبلت على التسلط والسعي للتحكم والسيطرة والنفوذ، ولذلك ترى الذين يحبون هذه يريدون التسلط على الآخرين، ويتلذذون بإعطاء الأوامر، هو يصدرُ أمراً وعلى من تحته أن ينفذ، وربما كان عنده ظلمٌ وبغي فيتلذذ بتعذيب غيره، أو أن يسوم من تحته ألوان العذاب بأوامره الجوفاء.
ومن أسبابه كذلك، من أسباب حب الرئاسة وعدم التورع عن السعي إليها: عدم تقدير عواقب التقصير في الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من رجلٍ يلي أمر عشرةٍ فما فوق ذلك) انتبه يا أيها الأب في البيت! ويا أيها الرئيس في القسم والدائرة! ويا أيها الصاحب للعمل وتحته عمال! (ما من رجلٍ يلي أمر عشرةٍ فما فوق) وانتبه يا طالب العلم الذي تعلم من تحتك، وانتبه يا أيها المربي الذي تدرب من عندك وتسوسهم وينبغي أن تسوسهم بأمر الشريعة: (ما من رجلٍ يلي أمر عشرةٍ فما فوق ذلك، إلا أتى الله مغلولاً يده إلى عنقه، فكه بره أو أوثقه إثمه)، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزيٌ يوم القيامة أولها ملامة: تتوجه إليه سهام الانتقادات، وأوسطها ندامة: إذا نحي عن منصبه، أو خرج عليه فخلع، وآخرها: خزيٌ يوم القيامة بما يلقى الله عز وجل من الخيانة أو عدم القيام بالمسئولية وأداء الأمانة.(172/4)
آثار حب الرئاسة على الفرد والمجتمع
حب الرئاسة له آثارٌ مترتبةٌ عليه لمن لم يخش الله ولم يتقه فيما وُلِّي، والسعي إليها بغير مبررٍ شرعي من أسباب حبوط العمل وفقدان الإخلاص، لأنه يصبح للإنسان غرض دنيوي يسعى إليه، وهدفٌ يطمح إلى تحقيقه وهو أن يترأس ويتزعم، فيوالي ويعادي بناءً على هذه المصلحة الشخصية، وقد يظلم ويفتري ويقترف من الآثام ما يقترف من أجل الوصول إلى هدفه، ويظلم العباد من أجل المحافظة على منصبه ومكانته، وبناءً على ذلك أي إخلاصٍ يرجى في مثل هذا الموقع؟! ومن الأمور والآثار المترتبة على هذا كذلك: الحرمان من التوفيق، قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ عبد الرحمن بن سمرة: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألةٍ) -أعطوك الإمارة لما سألت وألححت- (أوكلت إليها) فالله لا يعينك بسبب حرصك على ذلك، (أوكلت إليها)، والناس لا يعينوك أيضاً، لأنك أنت تسعى فأنت صاحب الطمع الشخصي- (وإن أوتيتها عن غير مسألةٍ أُعِنْتَ عليها) إذا رفعك الناس وقالوا: تعال وتولَّ، أنت أفضل من هو موجود، نحن نريدك، فإذا دفع إليها دفعاً، أعين عليها، الناس يتكاتفون معه، يقومون معه يعينونه، لأنه ليس صاحب طمع شخصي، بل هم الذين دفعوه وحملوه المسئولية، فيقومون معه، ويعينه الله قبل ذلك، لأنه ما تولى هذا الشيء إلا لمصلحة المسلمين ليس لمصلحته الشخصية هو.
وكذلك من آثار حب الرئاسة السلبي: الوقوع في البدع والضلال، كما قال أبو العتاهية رحمه الله:
أخي من عشق الرئاسة خفت أن يطغى ويحدث بدعةً وضلالة
فهو يزين الذميم ويقمع المخالف بأي وسيلة، يترتب عليه ظلمٌ كثير إذا لم يخش الله، فيمنع غيره من الأكفاء من الوصول إلى مثل منصبه ويعرقلهم ويضع العوائق في طريقهم، كيف وقد تلبس الشيطان بداخله وزين له أمره؟! هذه لذة لا يتخلى عنها لمن هو أفضل منه إلا من عصمه الله ليس الأمر سهلاً وكذلك: إذا لم يكن على أهلية، افتضح وظهر أمره وتقصيره وأنه عاجز ليس بأهل، ولا يستطيع حل المشكلات، فإما أن يعاند ويستمر وينجرُّ عليه من الإثم، أو يتخلى مع ما حصل له من الفشل وهذا أيضاً أمرٌ مر، ولكنه أهون، لكن السؤال لماذا تصدر وليس بأهل لذلك؟!! قد يجلس في مجلس علم يتصدر، ويجمع الناس حوله ليعلمهم ثم يظهر من حاله وفي جلسته وحلقته وإجابته عن الأسئلة لا يفضح حاله ويبين جهله، فيتركه الناس ويقومون عليه، هو الذي تصدر؛ [تفقهوا قبل أن تسودوا].
فالمنصب له أحكام، والمسألة تحتاج إلى علم، ولا يجوز لإنسان أن يتقدم بدون علم وأهلية، هو الذي اختار ذلك وسعى إليه، فأكلَ النتيجة، كانت النتيجة مراً وعلقماً.
وكذلك من آثار الحرص على الرئاسة والسعي إليها: الابتلاء بالشحناء وتفرق الصف وحصول الصراعات الداخلية والتنافسات، وكلٌ من الحريصين عليها يتهم الآخر بأنه قاصر وعاجز، أو يتهم الواحد الآخر بأنه يريد إقصاءه ويتبادلون الاتهامات، يقول هذا: تريد أن تقصيني عن موضع التأثير والقيادة، وهذا يتهم الآخر في مثل ذلك فيفشل العمل، أي عمل تجاري دعوي أو أي عملٍ من الأعمال إذا حصل في هذا الأمر يفشل.(172/5)
علاج آفة حب الرئاسة(172/6)
اللجوء إلى الله
وأما علاج هذه الآفة، فلا شك أنه اللجوء إلى الله أولاً وقبل كل شيء، اللجوء إلى الله بأن يرزقه الإخلاص والسداد وأن يزيل ما في نفسه من المرض والعيب، فإن الإخلاص هو الذي عليه قبول الأعمال: (أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة، عالم ومجاهد وقارئ) يقول هذا: تعلمتُ العلم في سبيلك لأعلم الناس وأنشر العلم، فيقال: تعلمت ليقال: عالم، وذاك يقول: قاتلتُ في سبيلك، فيقال: كلا.
قاتلت ليقال: جريء، وقد قيل، أخذت أجرك في الدنيا، قيل عنك أنك جريء، فيسحب إلى النار، والآخر يقول: قرأت القرآن فيك، فيقال: قرأت ليقال: قارئ، حسن الصوت، خاشعٌ في تلاوته، مؤثر، وذاك يقول: تصدقت في سبيلك، فيقال: لا: تصدقت ليقال: جواد، وقد قيل، أخذت أجرك في الدنيا، فيسحبون إلى النار.
فلابد من الإخلاص لله سبحانه وتعالى, والتجرد عن النوازع الشخصية وتقديم مصلحة الإسلام والمسلمين قبل كل شيء.(172/7)
استشعار المسئولية
وكذلك من العلاج: استشعار المسئولية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى سائلٌ كل راع ٍعما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته).
(إن الله تعالى سائل كل راعٍ عما استرعاه) كل واحد عنده رعية، يسوس أُناساً أو يقودهم ويرأسهم ويتولى عليهم، يحاسب أمام الله يوم القيامة على هذا، والسؤال يوم القيامة ليس سؤالاً هيناً بل سؤال حساب.
(إن الله تعالى سائلٌ كل راعٍ عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) وكلما كبرت المسئولية، ازداد الحساب واشتد.(172/8)
رحم الله امرأً عرف قدر نفسه
وكذلك من علاج حب الرئاسة: تقدير النفس أن يعرف الإنسان قدره: [رحم الله امرأً عرف قدر نفسه] يعرف المسئولية وما يتطلبه الوضع، ويعرف إمكانات نفسه، وهل يستطيع أن يقوم بالمسئولية أو لا، هذا الحساب للنفس مهم، هل أنا أصلح لهذه المسئولية؟ هل عندي قدرات لأن أقوم بهذه المسئولية؟ هل عندي ما أستطيع أن أملأ به هذا المكان وأعطيه حقه وأؤدي الأمانة؟ محاسبة النفس في غاية الأهمية، فإذا عرف أنه ضعيف فلا يقدم، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر -وهذا حديث عجيب- فعلاً: (يا أبا ذر! إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) وقال في رواية أخرى: (يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تتأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم) النبي عليه الصلاة والسلام يعرف شخصية أبي ذر جيداً، فـ أبو ذر رحمه الله ورضي عنه وأرضاه صادق من أصدق الناس لساناً، ورع، زاهد في الدنيا، عنده مناقب كثيرة ومن السابقين للإسلام، ضرب حتى صار نقباً أحمر من الدم الذي نزل عليه، ضربه كفار قريش لما جهر بإسلامه فما خاف، ومن أوائل السابقين للإسلام أبو ذر الغفاري، لكن ليس كل فاضل عابد عنده علم وزهد وورع يصلح للقيادة، القيادة تتطلب متطلبات ومواصفات معينة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي) أحب لك أن تبقى في جانب السلامة، أن تظل على خير، ألا تظلم أحداً ولا تبوء بإثم أحد: (إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تتأمرن على اثنين- لا تتأمرن على اثنين ولو في طريق سفر- ولا تولين مال يتيم) رضي الله عنه كان عنده شدةٌ يأخذ نفسه بها، وربما رغم غيره ويدعو غيره عليها، يحملهم عليها، فلا يطيقه؛ لا يطيق زهده وورعه من تحته، ولذلك قال: (لا تتأمرن على اثنين).(172/9)
التفكر في العاقبة يوم الدين
ومن علاج حب الرئاسة: التفكر في العاقبة يوم الدين، يوم الجزاء والحساب، يوم يحاسب كل إنسانٍ: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] يوم الحساب؛ لأن فيه محاسبة قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي، أولها: ملامة، وثانيها: ندامة، وثالثها: عذابٌ يوم القيامة إلا من عدل) وقال عليه الصلاة والسلام: (إنكم ستحرصون على الإمارة، وإنها ستكون ندامةً وحسرةً يوم القيامة، فنعمَ المرضعة وبئست الفاطمة) نعم المرضعة في الدنيا بما تأتي على صاحبها من المنافع وتجر له من الجاه والأموال والبسط والنفوذ، ولكن بئست الفاطمة بالموت الذي يهدم لذاتها، ويورث النفس الحسرات، بما سيكون يوم القيامة، هذا أمر خطير ينبغي أن يحسب له حسابه، لا يتقدم إنسان ويتجرأ على منصب أو مكان أو مسئولية إلا وهو يضع نصب عينيه ماذا سيحدث له يوم القيامة ويحاسب نفسه قبل أن يحاسب، قال عليه الصلاة والسلام: (ليتمنينَ أقوامٌ ولوا هذا الأمر أنهم خروا من الثريا وأنهم لم يلوا شيئاً) سيأتي عليهم يوم يندمون ويتمنون لو أنهم خروا من السماء -نجم الثريا الذي في السماء- خروا إلى الأرض وأنهم ما تولوا شيئاً من أمور الناس لما حصلَ منهم من الخيانة أو التقصير أو الإثم والاعتداء والظلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (ليودَّنَّ رجلٌ أن خرَّ من عند الثريا وأنه لم يلِ من أمر الناس شيئاً).
ولذلك كان أحد الخلفاء يقول: [وددت أني خرجت منها كفافاً لا لي ولا علي] من عظم استشعار المسئولية، ولو حصل خطأ أو شيء جلس يبكى، كيف هو مقصر، كيف لم يعلم عن هذه الأمة، أو كيف لم يعلم عن هؤلاء الناس والأفراد، وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً خطورتها أيضاً: (لابد من العريف، والعريف في النار) أما العريف فهو: الذي يلي أمر القبيلة أو الجماعة من الناس.
رئيس الفوج من الجنود المتولي عليهم، المراتب العسكرية كل مرتبة تحته أشخاص، كلما ازدادت رتبته ازداد عدد الأفراد الذين يشرف عليهم، (لابد من العريف والعريف في النار) لابد من العريف لأنه لا يمكن أن يستقيم أمر الناس بدون عرفاء، لابد من وجود مسئولين ينظمون الأمور، والعريف في النار إذا لم يعدل، فهذا مقيد بعدم العدل وحصول الظلم منه يكون في النار، أما إذا عدل واستقام، فإن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل؛ تولى وعدل.(172/10)
إيثار الباقي على الفاني
وكذلك من الأشياء التي تعين على علاج حب الرئاسة في النفس: إيثار الباقي على الفاني والتفكر في هذه الدنيا وزوالها وسرعة انقضائها وهمومها وغمومها وأحزانها، وقصرها وهوانها على الله، لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فلو كانت تساوي جناح بعوضة ما أعطى الكافر ولا شربة ماء.
جاء في البخاري: أن عبد الله بن عمر حضر خطبة من تولى الملك في زمنه، قال الخطيب الذي تولى: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر -يعني: ينازعنا فيه- من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر، فليطلع لنا قرنه -فليظهر وليقف- فلنحنُ أحقُّ به منه ومن أبيه -نحن أحق بهذا الأمر منه ومن أبيه وعبد الله بن عمر جالس- قال عبد الله بن عمر: [فحللت حبوتي وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام -لأنه كان متأخراً في الإسلام هو وأبوه -يقول عبد الله بن عمر: هممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام من السابقين الأولين- قال ابن عمر: فخشيت أن أقول كلمةً تفرق بين الجمع وتسفك الدم، ويحمل عني غير ذلك، فذكرت -هذا الشاهد- فذكرت ما أعد الله في الجنان -أي: لما تذكر ما أعد الله في الجنان، سكت وما تكلم فالمسألة الآن في الرئاسة، كاد ابن عمر أن يتكلم لكنه سكت، لماذا سكت؟ - قال: فذكرت ما أعد الله في الجنان فهانت علي] هينة لا شيء لا تساوي شيئاً.(172/11)
التفكر في حال السلف وموقفهم من الرئاسة
وكذلك من علاج حب الرئاسة في النفس ومطاردة هذا النازع الموجود: التفكر في حال السلف في قضية موقفهم من الإمارة والرئاسة، فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: (كان سعد في إبلٍ له وغنم -ترك البلد جلس في الإبل والغنم- فأتاه ابنه عمر بن سعد، فلما رآه قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فلما انتهى إليه فإذا هو ابنه عمر، قال: يا أبتي! أرضيتَ أن تكون أعرابياً في إبلك وغنمك والناس يتنازعون في الملك؟!) -أنت تخرج خارج المدينة بالإبل والغنم والناس يتنازعون في الملك وأنت من الصحابة السابقين الأولين، فـ سعد بن أبي وقاص! ما خرج رغبة في الدنيا والترويح عن النفس والغنم والإبل، لا.
لكنه هجر الفتنة، وترك هذا التنازع- (قال: فضرب سعدٌ صدر عمر وقال: اسكت يا بني فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) غني النفس، تقي في نفسه، خفي يخفي عمله ولا يطلب رئاسات ومناصب، يكفيه ما هو فيه من شئون نفسه.
وكذلك حال الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، كيف كانوا يقولون، وعمر بن عبد العزيز بكى عدة مرات على المنبر، ويقول: يا أيها الناس: أنا أخلع نفسي ولا ألزم أحداً بطاعة، والناس هم الذين يصرون عليه ويقولون: بلى.
أنتَ وتبقى، ويؤكدون له العهد، كذلك العلماء لما تهربوا من القضاء، القضاء مسئولية خطيرة جداً (قاضٍ في الجنة وقاضيان في النار) كيف كان هروب العلماء من القضاء؟ القضاء منصب ومسئولية وسلطة، وكان القاضي من أعظم الناس في زمانه، وكلمته لا تنزل إلى الأرض؛ فقد كانت مسموعة، وكانوا يهربون ويضربون عن القضاء ولا يتولونه ويسجنون ولا يتولونه، يرغمون يدفعون ويأبون، وكانوا يهربون من منصب الفتوى، مع أنهم أهل، لكن الواحد يرد الفتوى إلى الآخر، يقول: اذهب فاسأل فلاناً؟ لا يريد أن يتبوأ منصباً ويتصدر في الفتوى، لا يتصدر الفتوى بل يحيلها على غيره، وكانت الفتوى تذهب تدور على نفر وترجع إلى الأول كل واحد يرحلها إلى صاحبه، فهربوا من المسئوليات والقضاء والمناصب والفتوى هربوا يريدون النجاة لأنفسهم، لا يريدون تبعات، لم يكن قصدهم التهرب من المسئولية، وإنما كان الابتعاد عن النار.(172/12)
التعود على الطاعة بالمعروف
وكذلك من علاج هذه النزعة في النفس: التعود على الطاعة بالمعروف وهضم النفس بأن يقبل أن يكون جندياً، يوضع حيث يوضع.
ألم تر أنه صلى الله عليه وسلم أثنى على رجل وعلى صنف من الناس فقال عليه الصلاة والسلام: (طوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثٌ رأسه مغبرةٌ قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة) -إذا وضعوه يحرس حرس، وإذا وضعوه في مؤخرة الجيش في الساقة: بقي في المؤخرة، ما قال: لا.
لابد أن أكون في المقدمة وفي الصفوف الأولى، أنا في آخر الناس لماذا؟ (إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة) ما دام في ذلك مصلحة المسلمين، وما دام هذا الذي أمره به القائد المسلم الذي يحكم فيهم بشريعة الله يطيع وينفذ- (إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع) هذا الرجل من هوانه على الناس أنه إذا استأذن على إنسان لا يؤذن له، وإن شفع في شخص لا يشفع، مغمور مجهول ليس له قدر، فلذلك لا تقبل شفاعته عند الناس، لكن هذا عند الله شأنه عظيمٌ جداً.(172/13)
التحذير من تولية المنصب من يطلبه
وكذلك ينبغي على من كان له الأمر ألا يولي من طلب المنصب، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الله، فإن أخونكم عندنا من طلب العمل) العمل: يعني: الرئاسة والإمارة أو طلب المسئولية، قال: (اتقوا الله، فإن أخونكم عندنا -يعني: هذا متهم بالخيانة- من طلب العمل) العمل أو العمال: كان الخلفاء يوظفون العمال على البلدان، فيقال: عمر استعمل عاملاً أو جاء عامله الذي في البصرة يعني: من وكله بأمر البصرة وجعله أميراً عليها، يقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: (اتقوا الله، فإن أخونكم عندنا من طلب العمل) وقال عليه الصلاة والسلام: (إنا لن نستعمل على عملنا من أراده) فمن المعجلات لشقاء هذا الشخص الذي عنده هذه النزعة: أنه إذا جاء يطلبها لا يعطاها، يمنع منها: (إنا لن نستعمل على عملنا من أراده).
وعن أبي موسى قال: دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحد الرجلين: أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل؟ اجعلنا أمراء على بعض ما ولاك الله عز وجل من المناطق، وقال الآخر مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه).
وكذلك على المربين مراقبة النوازع هذه عند من يربونهم، فلا يسمحون لمن طلب أمراً من هذه المسئوليات التي يتحملها إلا إذا كان عن شيءٍ شرعيٍ صحيح.
وعن أبي بردة قال: قال أبو موسى: (أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين) -وهذه الرواية الأخرى في مسلم أيضاً مع الرواية السابقة- (أحدهما عن يميني والآخر عن يساري فكلاهما سأل العمل -يعني: أعطنا ولاية- والنبي صلى الله عليه وسلم يستاك بالسواك، فقال: ما تقول يا أبا موسى؟ -أو يا عبد الله بن قيس - قال: فقلتُ: والذي بعثك بالحق، ما أطلعاني على ما في أنفسهما وما شعرتُ أنهما يطلبان العمل، قال: وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته فقال: لا نستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس فبعثه إلى اليمن أميراً عليها ثم أتبعه معاذ بن جبل).(172/14)
شبهة في طلب المنصب
وهنا شبهة أو قضية يمكن أن تثار، في المجتمع الإسلامي الصحيح، لو قال أحد: إن الناس كثروا والمجتمع اتسع، ولا أحد يعرف بالضبط طاقات الموجودين، فلابد أن يعلن كل إنسان عن نفسه، وأن يقول: أنا عندي كذا وأنا مستعد أن أتحمل كذا، لأن الناس كثيرون مختلطون، فكيف تكون طبيعة التولية في المجتمع الإسلامي؟ في المجتمع الإسلامي الصحيح لا يحتاج الناس إلى تزكية أنفسهم -لا حظ معي- في المجتمع الإسلامي الصحيح، لا يحتاج الناس إلى تزكية أنفسهم، وعمل الدعايات لأشخاصهم ليختاروا للمناصب والوظائف.
أولاً: لأن أصحاب الفضل والأحقية معروفون عند الناس، والمجتمع يعلم عملهم وإخلاصهم، والمجتمع الإسلامي الصحيح يبرز بمسيرته الصحيحة الطاقات المخلصة، لكن عندما تكون هناك انحرافات في المجتمع يظلم الذكي وصاحب الطاقة وصاحب القدرة يظلم ويغمط حقه، ولذلك يقع هناك ظلمٌ كثير في تولي المسئوليات، وأما في المجتمع الإسلامي الصحيح فصاحب العلم معروف وصاحب العطاء معروف وصاحب الفضل معروف، فالمجتمع صحي فهو يبرز بطبيعته دون تكلف ودون تزكيات ودون دعايات يبرز أصحاب الطاقات المخلصة، تصور جيشاً إسلامياً من جيوش الفتح الإسلامي، قائده مخلص وجنوده مخلصون خلال القتال وخلال الحركة يتبين صاحب القدرة الذي يسد الثغرة وصاحب الطرح الوجيه وصاحب الخبرة، يتبين الجريء والفعال.
فحركة المجتمع الإسلامي الصحيح تفرز وتبرز الطاقات فلا تحتاج المسألة إلى تزكيات ولا إلى دعايات، وكذلك في المجتمع الإسلامي الصحيح المناصب والوظائف تكليفٌ ثقيل لا يغري أحداً من الذين يخافون الله بالتزاحم عليه، وفي المجتمع الإسلامي الأول تميز السابقون من المهاجرين ثم الأنصار، وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان ومن أنفق قبل الفتح وقاتل، حصلت فيهم وأبرزت الطاقات، فظهر هذا للأذان، وهذا لقيادة الجيش، وهذا للفتوى، وهذا للقضاء، وهذا للإقراء، وهذا للإمامة وهذا للإمارة، أفرز المجتمع أصحاب الطاقات، ولذلك ينبغي السعي إلى إقامة المجتمع الإسلامي للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ونشر الخير في الناس وتربية الناس عليه حتى يتم التخلص من كل هذه السلبيات والمعوقات والظلم الذي يمنع من ظهور أصحاب الطاقات.
هذا المجتمع الإسلامي الصحيح لا يبخس الناس بعضهم بعضاً، ولا ينكر الناس فضائل المتميزين وعندئذٍ تنتفي الحاجة إلى أن يزكي المتميزون أنفسهم ويطلبوا مراكز التوجيه والقيادة، ومهما كبر المجتمع المسلم واتسع، فإن أهل كل محلة متعارفون متواصلون يعرفون بأصحاب الكفايات والمواهب فيهم، كل دائرة، كل حارة، كل منطقة، كل مدرسة معروف صاحب الطاقة، صاحب القدرة على تحمل المسئولية، مهما كان المجتمع كبيراً، لكن المجتمع يتقسم مؤسسات وشركات ودوائر ومدارس ومجامع فإذا كان كل مجمعٍ فيها يسوده الشرع، أفرز وأبرز كل مجمع ٍفيها من هو قادرٌ ومن هو صاحب الموهبة والطاقة لتحمل المسئولية، فيوضع الرجل الصحيح في المكان الصحيح.
ينبغي لأهل الحل والعقد في المجتمع الإسلامي أن يكونوا متجردين لله من كل الانحرافات والأهواء عند ترشيح أحدٍ لمنصب من المناصب، ولو حصل اختلافٌ في الرأي في ترشيح شخصٍ، فينبغي سرعة الأوبة، لأننا نحتاج إلى الوحدة، ونحتاج إلى التكاتف والتعاون، كما جاء في صحيح البخاري في توضيح هذا المفهوم في هذه القصة: (قدم ركبٌ من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد بن زرارة، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، قال أبو بكر لـ عمر: ما أردت إلا خلافي، وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1]).
الخلاف حصل بين أعظم رجلين بعد النبي عليه الصلاة والسلام، الخلاف يمكن أن يحصل لكن كانوا يسرعون الأوبة، الفرق بيننا وبين الصحابة من الفروق العظيمة، ليس أنهم لا يخطئون ونحن نخطئ، لا.
يمكن أن يخطئوا لكن سرعان ما يتدارك الخطأ ويرجع كل واحدٍ منهما يفيء إلى الحق ويرجع إليه.(172/15)
الخشوع والتواضع مطلوبان عند من ولي الرئاسة
وينبغي كذلك على من ابتلي بالرئاسة والتصدر أن يكون خاشعاً لله، متواضعاً لعباد الله، قال الذهبي رحمه الله عن الفضيل بن عياض: حاز من الرئاسة في بلده والرفعة ما لم يصل إليه أحدٌ قط من أهل بلده، وما زاده ذلك -هذا الشاهد الآن، فالواحد يمكن أن يرشح ويصل إلى منصب، أو وظيفة، أو عمل، لكن ماذا عليه أن يفعل هذا الواصل؟ - قال: الذهبي عن الفضيل: حاز من الرئاسة في بلده والرفعة ما لم يصل إليه أحدٌ قط من أهل بلده، وما زاده ذلك إلا تواضعاً وخشيةً لله تعالى، وما زاده المنصب هذا إلا تواضعاً وخشيةً لله تعالى، فهكذا ينبغي أن يكون.
وبعد هذا العرض لهذا المرض في بعض مظاهره وأسبابه وآثاره وعلاجه، قد يطرح سؤالٌ ويثار وهو: لماذا طلب يوسف عليه السلام المنصب؟ وقال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [يوسف:55]؟ وهل ينافي هذا ما تقدم ذكره من قضية ترك السعي إلى هذه المطامح؟ وما معنى قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74]؟ قال العلماء في هذه الآية {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] أي: واجعلنا أئمة يقتدى بنا من بعدنا، اجعلنا على درجة من العمل الصالح والخير حتى نكون قدوة للناس بأعمالنا، يكون واقعنا قدوة، يجذب الناس إلى الإسلام، ونكون نحن منارات لغيرنا، فهم لا يقولون للناس: يا أيها الناس! هلمُوا إلينا، يا أيها الناس! قلدونا، يا أيها الناس! اعملوا مثلنا، يا أيها الناس! انظروا إلينا، لا.
وإنما يطلبون من الله، وليس من الناس: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] أئمة في الخير يقتدى بنا من بعدنا، وأنتم لا يخفى عليكم -أيها الإخوة- أن الذي يَسنُ سنةً حسنةً، يكون له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، وإذا اقتدى الإنسان بإنسان آخر في الخير، فيكون للمقتدى به من الأجر مثل المقتدي من غير أن ينقص من أجر المقتدي شيء.
فهذا مطلب عظيم أن الإنسان يدعو الله أن يجعله من أئمة المتقين، يعني: يطلب من الله أن يجعل له باباً من أبواب الأجر، وهو أن يكون هو على خيرٍ فيقتدي به الناس، وليس أن يرائي ويتمظهر، وأنه يقول للناس: انظروا إلي، تشبهوا بي، لا.
بل يخلص في نفسه لله، والله يقيض من الناس من يشعر به وينظر إليه ويقتدي بفعله، الله الذي يقيض، وليس هو الذي يقول: يا أيها الناس! تعالوا وانظروا إلى حالي وامشوا ورائي.(172/16)
الرد على من يقول بأن يوسف عليه السلام طلب الرئاسة
أما بالنسبة ليوسف عليه السلام: فأنتم تعلمون أن يوسف عليه السلام كان في بلدٍ كافر وأهل جاهلية، وأنتم تعلمون أن يوسف عليه السلام قد علم من الله أن البلد سيقدم على محنة ومجاعة عظيمة سبع سنوات قحط، يمكن أن يهلك فيها الأخضر واليابس، وألا يلقى إنساناً ولا دابة إلا هلك من القحط، ويوسف يعلم من نفسه أنه قادرٌ على القيام بهذه المسئولية، ثم إن هذه المسئولية تنقطع دونها أعناق الرجال؛ لأنها ليست مسئولية ترف وأنه يقعد على أريكته ويتمدد وينظر الخدم من حوله أن يقوموا عليه، والناس أن يدخلوا عليه ويقبلوا يديه، لا.
المسئولية هذه مسئولية شائكة جداً، كيف توفر من زرع سبع سنين قوتاً لسبع سنين أخرى؟ كيف يكون عندك من الاقتصاد والتدبير والحكمة ما تستطيع به أن تقدم للشعوب -ليس شعباً واحداً، ليس فقط شعب مصر، وإنما من حوله- ولذلك جاء إخوة يوسف من فلسطين، يطلبون الميرة والمدد، يوسف يريد أن يقوم بعمل إطعام شعب جائع، سبع سنين سيجوع الشعب، وكذلك شعوبٌ أخرى ستكون أيضاً ممن يأتي ليأخذ المير والطعام، هذه مهمة ثقيلة.
يوسف عليه السلام يريد أن يجعل من هذا المنصب وسيلةً للدعوة إلى الله عز وجل، ثم يوسف يعلم أنه لا يوجد هناك من هو أفضل منه للقيام بهذا المنصب وتحمل هذه المسئولية، ولذلك لا توجد شبهة، فيقول الإنسان أراد المنصب بطمع شخصي ومطمح دنيوي، لا.
لأن المسألة صعبة وشاقة ثم هؤلاء كفرة وهو يريد أن يدعوهم إلى الله ولا يوجد أكفأ منه، ثم إن العزيز أشعره: {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54] فانتهز اللحظة المناسبة وكان حصيفاً في اختيارها، لحظة يطلب فيها المنصب والقيام بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة وليكون مسئولاً عن إطعام شعبٍ كامل وشعوبٍ مجاورة، طيلة سبع سنوات لا زرع فيها ولا ضرع، وسبع سنوات من التدبير فهذا ليس ظلماً أن يطلبه لنفسه، ولا مغنماً شخصياً، وإنما هي تبعةٌ يهرب منها عظماء الرجال.
ولذلك قال العلماء: يجوز للمرء أن يطلب المنصب إذا رأى الأمر في يد الخونة أو اللصوص أو الضعفاء، فيجوز أن يتقدم هو وليطلب المنصب لإنقاذ الموقف، فإذا كان بيد من لا يؤدي أمانة، وعلم من نفسه الكفاية وأنه ليس هناك من هو أفضل منه، جاز أن يطلب، إذا كان يعلم لنفسه الأمانة والكفاءة وليس هناك من هو أفضل منه، وهذه الثغرة لا يوجد فيها من يقوم بحقها، ولا يوجد هناك من يلتفت إليه ليطلب منه هذا الطلب، يجوز له هو أن يتقدم.
بل لو كان هناك كافر في هذا المكان أو المنصب أو خائن، ربما يأثم لو لم يتقدم لإنقاذ الموقف، لأنه يريد مصلحة المسلمين، لا مصلحته الشخصية، وكذلك إذا كان مستعملاً على عمل، وهناك عملٌ آخر يرى أنه أنسب له، وأكثر إتقاناً في مجال الدعوة إلى الله أو غيره من الأعمال، أو يرى مصلحةً لم يرها غيره، فلا بأس أن يطلب ذلك إذا أمن الغرور والتطلع الشخصي، يطلب ذلك بتعريض وأدب وليس بفمٍ مفتوح وعنجهية، ويقول: أنا لها أنا لها، وإنما بتعريضٍ وأدب، فالإنسان قد يكون في موقع فيطلب الانتقال إلى موقعٍ آخر يسد ثغرةً أو يصلح خللاً لعلمه أنه ليس هناك من هو أكفأ منه، دون غرور، هذه هي الحقيقة التي يعلمها باجتهاده، هذا يختلف عن حال من لم يكن لديه عمل أصلاً، فهو يبحث عن عمل، -أقصد بالعمل: المنصب أي: الرئاسة أو من كان له مكانٌ صغير- فهو يقول: ولوني في المكان الأكبر، التهمة هنا موجودة وواضحة، ولذلك ينبغي على كل إنسان أن يتقي الله سبحانه وتعالى في هذا الأمر وليست المسألة سعياً للرئاسة والمسئولية، لا سعياً للرئاسة المهلكة والمطامع الشخصية الدنيوية، ولا تهرباً من المسئولية التي تستطيع أنت أن تقدم فيها ما تستطيع للإسلام والمسلمين.
وهذه خلاصة الموضوع وهذا هو القسم الأول من هذا الدرس.(172/17)
خطر حب الشهرة
أما القسم الثاني: حب الشهرة، وقد ذكرت أن له ارتباطاً بالقسم الأول ارتباطاً وثيقاً، حب الشهرة والصيت هذا المرض موجودٌ في نفوس الكثيرين، وهذا المرض موجود عند الفسقة، وقد يكون موجوداً أيضاً عند بعض أهل الدين، فعند الفسقة الآن هناك شيء اسمه عالم الأضواء وعالم الشهرة، ويقال: فلان أو فلانة من الممثلين والممثلات دخل عالم الشهرة بفلم كذا، وفلانة من المغنيات دخلت عالم الشهرة بأغنية كذا، وفلان من اللاعبين دخل عالم الشهرة وعالم الأضواء بهدف من الأهداف الرياضية، بمباراة كذا، وهكذا من أنواع الشهرة الدنيوية المذمومة القبيحة المضيعة للوقت الصارفة للجهد بغير طاعة الله، والمورثة للإثم والعدوان، والمثيرة للشهوات والأهواء التي تؤدي إلى إضلال الناس.
عالم الشهرة الآن يدخل فيه كثيرٌ من أهل السوء والباطل كما هو معروف وواضح جداً.
وهؤلاء الذين يحبون الأضواء والكاميرات ويحبون أن تسلط إليهم الأنظار، كثيرٌ منهم تافهون جداً، إنما يعملون على الإضرار بالمجتمع ويعملون في حقل المعصية وخطوات الشيطان وسبيل إبليس، كثير من المشهورين الآن لاشك ولا يخفى عليكم هذا الحال فيه، وهؤلاء أمرهم واضح، ولا يحتاجون إلى تبيين لكن نحن نلتفت الآن إلى مسألة حب الشهرة وحب الصيت عند الأوساط التي يكون فيها شيءٌ من التدين أو الدين والعلم، فلا شك أنه يخترق هذه الأوساط شيءٌ من هذه النوازع، حب الشهرة وحب الصيت.(172/18)
حب الشهرة مرض قادح في الإخلاص
قال الذهبي رحمه الله تعالى في صاحب العلم الذي تعجبه مسألة من علمه قال: فليتكتم بها ولا يتراءى بفعله، فربما أعجبته نفسه وأحب الظهور فيعاقب ويدخل عليه الداخل من نفسه، فكم من رجلٍ نطق بالحق وأمر بالمعروف فيسلط الله عليه من يؤذيه.
لاحظ الآن كم من رجل نطق بالحق وأمر بالمعروف فيسلط الله عليه من يؤذيه، لماذا؟ كيف هذا؟! كيف ينطق بالحق ويأمر بالمعروف والله يسلط عليه من يؤذيه؟! قال الذهبي رحمه الله: لسوء قصده وحبه للرئاسة الدينية، فهذا داءٌ خفيٌ سارٍ في نفوس الفقهاء، كما أنه داءٌ سارٍ في نفوس المنفقين من الأغنياء، وأرباب الوقوف -الأوقاف الذين يعملون الوقف والترب المزخرفة وربما بنوا المساجد، وهو داءٌ خفي يسري في نفوس الجند والمجاهدين- أي: حتى المجاهدون الذين يقاتلون، فتراهم يلتقون العدو.
فـ الذهبي يصور حالة في عهده، نحن الآن عرفنا الشهرة هذه في أوساط أهل السوء لا تحتاج إلى بيان، لكن حب الشهرة في أوساط أهل الطاعة عند بعض طلبة العلم، أو بعض المنفقين يطبع اسمه على الكتب التي يطبعها، أو يكتب اسمه على مسجدٍ يبنيه، أو وقفٍ يعمره، أو نهرٍ يجريه، هذا يحب الصيت والشهرة، ليقال: فلانٌ بناه، وفلانٌ طبعه، ونحو ذلك وربما كتب المحسن على نفقة المحسن الكبير، ما هذا؟! حب شهرة وحب الصيت ينافي الإخلاص، أين إخفاء العمل، الذي يوفر الأجر؟ غير موجود؛ موجود بدلاً منه حب الشهرة، وحب صيت، يدمر العمل تدميراً ويفني الأجر إفناءً، فيأتي الله وليس له حسنة، قد استهلكت في الدنيا قالوا عنه: محسن وكريم، ويحب الخير، أخذها في الدنيا، قال الذهبي: ويصطدم الجمعان وفي نفوس المجاهدين مخبئاتٌ وكمائن من الاختيال وإظهار الشجاعة ليقال: فلان شجاع وفلان جريء والعجب، ولبس القراقل المذهبة، وهي نوعٌ من الثياب يستخدمها العسكر، والخوذ المزخرفة، والعدد المحلاة، على نفوسٍ متكبرة، وفرسانٍ متجبرة، ويضاف إلى ذلك إخلالٌ بالصلاة، وظلمٌ للرعية، وشربٌ للمسكر فأنى ينصرون وكيف لا يخذلون؟!! الذهبي رحمه الله يقول هذا عن صورة في عهده، وأشياء موجودة، فإذاً حب الشهرة والصيت يمكن أن يتطرق إلى طلاب العلم وإلى الدعاة والمنفقين والمقاتلين في سبيل الله، يخرجون لقتال الأعداء والكفار، ولذلك هذا حب الظهور وحب الصيت والشهرة، مرض يقدح في الإخلاص ويجرح الإخلاص، بل هذا مرض ينافي الإخلاص من أساسه؛ ولذلك يقول الله عز وجل يوم القيامة: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه أحداً غيري تركته وشركه) ولذلك لاحظ وانتبه لهذه النقطة، الأعمال التي فيها شرك لا يثيب الله الشخص على المقدار الذي لم يشرك فيه، فأي واحد عمل عملاً فيه شيء لله وشيء لغير الله؛ في عمل واحد، لا يثيبه الله عن الجزء الذي له ويحبط الجزء من العمل الذي ليس له، وإنما يحبطه كله، بنص الحديث: (من عمل عملاً أشرك معي فيه أحداً غيري تركته وشركه) ويقال له يوم القيامة: خذ أجرك من الذين أشركت معي في هذا العمل، خذ أجرك منهم، الله لا يقبل إلا العمل الخالص لوجهه، يقول الله في الحديث القدسي: (أنا خير الشركاء) فيتركه يقول: أشركت معي فلاناً وفلاناً، هذا الشخص ما عملها لفلان عملها لله ولفلان، لاحظ، ليس له أجرٌ عليها مطلقاً، فإذا صلى إنسان لله لكن طول الركعات من أجل من يراه من الحاضرين، فليس له شيء أبداً، هو لا يقول: فلان أكبر، يقول: الله أكبر، لا يقول: سبحان فلان، يقول: سبحان الله، لكن لما طرأ الرياء عليه في الصلاة وما قاومه بل استمرأه واستمر معه، فذلك يحبط العمل، إذا كان العمل متصلاً أوله بآخره يحبط العمل كله، أما لو عمل عملاً لله وعملاً منفصلاً لغير الله، قبل الله العمل الذي له، وأحبط العمل الذي ليس له، كمن تصدق بخمسين ريالاً لفقير لله، ثم رأى الناس يخرجون من المسجد، فأحب أن يقال عنه كريم، فأخرج خمسين أخرى تصدق بها، يعني: لأي شيء للناس؟ فماذا يقبل الله منه؟ الخمسين الأولى هذه صدقة مستقلة، والخمسين الثانية حابطة وآثم عليها وليس فقط لا أجر له، يأثم إثم الشرك الذي حصل فيها، والشرك خطير؛ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] لا يغفر إلا بالتوبة، وخصوصاً هذا الشرك، سواء كان شركاً أكبر أو شركاً أصغر، ولذلك يجب على العبد أن يتوب من جميع أنواع الشرك: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] ما قال: أكبر أو أصغر: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] لابد أن يتوب منها، وإلا سيبقى عليه إثم شركه، لا يغفره الله، لا تكفره الحسنات، بل لابد من توبة.(172/19)
مظاهر حب الظهور
حب الظهور مرض وله مظاهر كثيرة: ذكرنا نقلاً عن الذهبي رحمه الله شيئاً منها، ويدخل فيها الناس الذين يحبون أن يظهروا في المجامع والمحافل وحول المشايخ يقال: من طلاب فلان، ومن طلاب فلان، دون مناسبة، ويظهرون عند مكبرات الصوت، أو يرفعون أصواتهم، ويفعلون حركات استعراضية، وبعضهم عندما تأتي كاميرة تليفزيون لتصور تجد بعض الناس وضع وجهه أمام الكاميرا، ليقال ماذا؟ ليقال: ظهر في التليفزيون، هذا من حب الشهرة، هذا داء يمكن أن يولد للإنسان المهالك.
روي أن أعرابياً بال في ماء زمزم، فقام الناس عليه فأمسكوا به، وقالوا: ما حملك؟ قال: أحببت أن يذكرني الناس ولو باللعنات، يعني: المهم عنده الصيت، ولذلك هذا المرض الخطير يمكن أن يجعل الإنسان يعمل من البلايا ما الله به عليم، لأجل فقط أن يخرج صيته، يعمل أي شيء، له حاجة أوليس له حاجة، له داع أو ليس له داعٍ، يحرك ساكناً ويسكن متحركاً المهم أن يخرج صيته أمام الناس.(172/20)
المراءاة والتسميع بالأعمال
ولا شك أن هذا المرض يفضي إلى الرياء والسمعة؛ لأن الذي يطلب الصيت والشهرة، سيسمع بأعماله، يقول: والله إني اليوم صليت في الجماعة، وأنا صائم، وجاء والله ذاك اليوم واحد يجمع تبرعات الحمد لله تصدقنا بألف وأعطيناه وكفلنا يتيماً، ونحن هل رأيت المسجد هذا الذي في الحارة، نحن قائمون فيه من أوله إلى آخره، يسمع بأعماله، ولذلك يقع في التسميع الذي يقول النبي عليه الصلاة والسلام في خطورته: (من سَمَّع، سَمَّع الله به) ماذا يعني سمع الله به؟ جاء في الحديث سمع الله به: مسامع خلقه وصغره وحقره، يعني يوم القيامة: يفضحه على رءوس الأشهاد، جزاء وفاقاً والجزاء من جنس العمل، هو أراد الشهرة في الدنيا، وأراد الصيت، قيل له يوم القيامة: يا منافق يا مرائي على الملأ! فعلت ما فعلت وقلت ما قلت رياءً وسمعةً، فيقال على مسامع الناس يوم القيامة على مشهد من جميع الخلق: هذا المرائي فلان: من سمع في الدنيا بأعماله سمع الله به يوم القيامة فشهر به وجعل ذكره سيئاً في الأولين والآخرين.
ويمكن أن يكون هناك عند بعض من يطلب العلم شيء من هذا، عنده دافع طلب العلم من أجل الشهرة، كيف؟ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله في النار) فهو تعلم لأي شيء؟ ليقعد فيسأل فيجيب، فيقال: الله! فلان عنده جواب، أو ليتصدر فيتكلم ويدرس ويقال: فلان صاحب علم! قد لا يُظهر لنا نحن شيئاً، فنظن أنه إنسان يتكلم بكلامٍ طيب، ما هو الفرق بين إنسان يتقدم ليحمل الأمانة ويعلم الأمة؛ يتعلم العلم لأجل سد الفراغ، فالناس في جهل، والمسلمون يحتاجون إلى علماء وطلبة علم، وبين هذا الرجل المذكور في الحديث؟! الفرق: (إنما الأعمال بالنيات) هذا نيته في التعلم إصلاح نفسه وإصلاح الخلق، أن يعبد الله على بصيرة ويعلم الناس، هذا مأجور مثابٌ على فعله، من ورثة الأنبياء، وهذا تعلم لكي إذا ناقشه عالم يأخذ ويبين له للعلم أنا اطلعت وقرأت كذا وقرأت كذا وعندي خبر من الذي تقوله، أو يماري به السفهاء، يجلس مع الناس ويماريهم ويتشاكس معهم ويتناقش، ويقال: فلان عنده ذخيرة وعنده اطلاع وعنده حصيلة.
أو يصرف به وجوه الناس إليه ويتصدر المجالس ويتكلم ويلعلع بصوته قصده الشهرة، والصيت، وقصده أن يرفع من نفسه.
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: من طلب العلم لله كان الخمول أحب إليه من التطاول؛ فإذا طلب الإنسان العلم لله فعلاً يكون الخمول عنده أحب إليه من التطاول.
ومن مظاهر حب الظهور أيضاً تصدر المجالس: العمل لكي يكون مشتهراً- كما قلنا- بكثرة الكلام والتسميع والتعليق والظهور أمام الملأ وتصدر المجالس، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اتقوا هذه المحاريب) يعني: صدور المجالس؛ فإذا جاء الإنسان يسلم على القوم فعليه أن يجلس حيث انتهى به المجلس، ولا يقيم إنساناً ويجلس مكانه، أما أن يقول: أنا بصدر المجلس، ما أجلس إلا في صدر المجلس، فهذه المحاريب مذابح، هذه مذابح تذبح الإخلاص وتذبح الدين، وتذبح العلاقة التي تكون بين الإنسان وربه؛ لأنه يجعلها حطاماً محطمة، من أجل أن يكون المكان عنده بين الناس.
وكثرة الكتابات والظهور في القنوات المختلفة، ومن مظاهرها الفرح بالمدح وإن كان باطلاً؛ الفرح بالمدح وإن كان باطلاً، هذا موضوع حب الظهور والسعي لنشر ذلك ونشر مناقبه أو ما تكلم الناس به عنه، والتألم لفوات المديح، لو فاته مدح، يتألم، والغضب من النصيحة، هذه من علامات الذين يحبون الظهور والغضب من النصيحة، فلو وجهت له النصيحة جادل وراءى وقال: ليس عندي هذا الكلام الذي تقوله وهذه الصفة والخصلة غير موجودة في نفسي ويدافع عن نفسه بالباطل.(172/21)
افتعال المواقف لإبراز النفس
ومن مظاهر حب الشهرة: افتعال المواقف لإبراز النفس، ونسج القصص والخيالات التي تحكي من البطولات المكذوبة ويكثر في كلامهم قول: أنا أنا أنا ولي، عندي مثل ما قال فرعون وهامان وقارون، والمبالغة في وصف مواقفه وسرعة بديهته وذكائه وفطنته وتخلصه ومقدرته، ويقول لك: حصل، ويعطيك أشياء يظهر فيها بطولته ومواقفه ومآثره ومناقبه، أو أنه قد يشترك في عمل مع آخر فينسب الفضل له، ولا يذكر الآخر بشيء، ويستغل في الذكر مع أن فعل غيره ربما يكون أجود من فعله، وربما يكون غيره هو الذي أنقذ الموقف في الحقيقة، لكنه ينسبه إلى نفسه.(172/22)
أن ينسب إليه أعمالاً ليست له
ظهر الآن انتحال المؤلفات الذين يسرقون علم السلف أو علم العلماء وينسبونه إلى أنفسهم، ويقول: فلان كذا، ومن الأشياء المضحكة أن بعضهم مثلاً: ينتحل كتاباً لغيره والكاتب هذا يكون قد مات قبل أن يولد صاحبنا؛ صاحب الكتاب الأصلي مات قبل أن يولد صاحبنا المنتحل الذي يريد الشهرة والصيت، والكاتب يقول: ولقيتٌ فلاناً فقال لي كذا وكذا، وهناك من يمسح اسم المؤلف الحقيقي ويضع اسمه، ويصبح عند الناس مضحكة، ويلعنونه يقولون: هذا كذب ووضع اسمه على الكتاب وداخل الكتاب يقول: لقيت فلاناً وهو ولد بعد ما مات صاحب القصة، كيف هذا؟!! وكثير من يسرقون مجهودات الآخرين، فهذا من المرض سرقة مجهودات الآخرين، عملية أو مشروع أو بحث كتاب أو رسالة، سرقة مجهودات الآخرين من قضية حب الشهرة، وحب الصيت، وهؤلاء من صفاتهم أنهم يتحرجون قولة لا أعلم، بل إنه لا يقولها أصلاً كلمة لا أعلم ليست واردة على لسانه.(172/23)
مصاحبة قليلي الخبرة
وكذلك من صفاتهم مصاحبة حدثاء السن، قليلي الخبرة والتجربة ليظهر بينهم ويبرز عليهم، ليس غرضه نصحهم وتربيتهم، ليته فعل ذلك وكان قصده ذلك، لكنه قصده يعاشر هؤلاء الصغار حتى يكون بارزاً عليهم ويكون له بينهم شأن.(172/24)
انتقاص الآخرين بقصد رفع نفسه
وكذلك من صفات الذي يريد الشهرة: انتقاص الآخرين ليرفع نفسه، ويؤثر أن يبقى من معه على جهلهم ولا يدلهم على من هو أفضل منه، ليبقى دائماً هو الأفضل في نظرهم ومن سماته: الحسرة إذا منع من الظهور وفاته المجال والمناسبة، فإذا فاتهم المجال بالمناسبة كان يمكن لتصدر وفات عليهم قال: لقد فاتني، يا ليتني كنتُ هناك فأفوز فوزاً عظيماً، وهؤلاء من سماتهم أيضاً: إضفاء هالات الأهمية الزائفة كادعاء المواعيد الكاذبة والانشغالات التافهة، تجده دائماً يقول: مشغول مشغول عندي مواعيد أنا غير فاض لك هذا حاله يريد أن يقول: أنا رجل مهم، عندي مواعيد وانشغالات وهو كذاب ما عنده شيء، يمكن أن يذهب ويختبئ في غرفته ويقفل على نفسه الباب، أو يذهب يلعب ويقول: عندي مواعيد، وعندي انشغالات، فهذا المرض منتشر.
أيها الإخوة، هذا من الأمراض الاجتماعية المنتشرة في المجتمع: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، يقول: كنت مع الشيخ فلان، وهو ما كان معه، وحصل لي الموقف الفلاني وهو ما حصل له، ويدعي بطولات زائفة.(172/25)
لبس ملابس الشهرة ومراكبها
وكذلك من صفاتهم: أنهم يلبسون ملابس الشهرة، ويركبون مراكب الشهرة.
قال شهر بن حوشب رحمه الله: من ركب مشهوراً من الدواب ولبس مشهوراً من الثياب أعرض الله عنه وإن كان كريماً.
قال الذهبي رحمه الله معلقاً: من فعله بذخاً وتيهاً وفخراً أذله الله، وأعرض عنه، فإن عوتب ووعظ فكابر وادعى أنه ليس بمختال ولا متباهٍ فأعرض عنه فإنه أحمق مغرورٌ بنفسه، هذا لابس ثوب شهرة، وهذا في النساء كثير أن يقال عنها: صاحبة الثوب الفلاني، أو أنهم يعملون حفلة زفاف ما سمع بها الأولون والآخرون ليقال: إن هؤلاء عملوا، ليشتهر ذكرهم بين الناس.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أعلن النكاح) لكن ما قال: أسرفوا وابذخوا وارموا الطعام وغالوا في الملابس، والفقراء من المسلمين يموتون من فقرهم، لا.
فلذلك هذه قضية الشهرة وأن يذيع صيتٌ بين الناس ويتكلمون عن حفلته وعن وليمته وما حصل فيها.(172/26)
الإعجاب بالنفس من دوافع حب الظهور
ولاشك أن من الأسباب المشتركة بين حب الرئاسة وحب الظهور: الإعجاب بالنفس، يعني من الدوافع: الإعجاب بالنفس: عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثٌ مهلكات وثلاثٌ منجيات، وثلاثٌ كفارات وثلاثٌ درجات، فأما المهلكات: فشحٌ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) فمن المهلكات إعجاب المرء بنفسه فيرى لنفسه من الميزات والفضائل، وذلك من وسوسة الشيطان، ويرى أنه صاحب فضل، وأنه صاحب ميزة، أنه إنسان شريف، إنسان صاحب قدرات، يتوهم هذا، ولابد أن ينشر فضله في العالمين.
وكذلك من أسبابه: الرغبة في ثناء الناس، وإرادة المنزلة عندهم، ومن أسبابه أيضاً: التربية الخاطئة في البيت أو المجتمع كأن يُقَدِّم ويُثْنَى عليه في حضوره وليس بذاك، فيتوهم أنه فعلاً إنسان مهم، ويتصرف بناءً على هذا الأساس، ومن الأسباب القريبة من هذا أن يبتلى بأناسٍ أحداثٍ أغرار، يضعونه في غير موضعه ويرفعونه ويقولون: شيخنا المبجل، وقال شيخنا، وهو ليس بشيخ.
والواقع -أيها الإخوة- الواقع السيئ يساعد على الشهرة والرئاسة، الناس إذا جهلوا العالم والعلماء الحقيقيين، فالعلماء العارفون ندرة.
خلا لك الجو فبيضِي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري
ويتكلم أي واحد من الدهماء والرويبضة ينطق في أمور العامة، والواحد يبرز بسرعة من الجهال، ويدرس ويجلس إليه ويستفتى ويفتي، والناس في حاجة، المجتمع أحياناً يساعد على بروز هذه النوعية، ويقال: فلان والمحاضر فلان المؤلف فلان وكثيرٌ منهم أئمة ضلالة، فما أسهل مهمة الأعور الدجال في هذه الأمة!(172/27)
علاج مرض حب الشهرة
ينبغي أن يعالج المرء المصاب بحب الشهرة نفسه بكثيرٍ من العناية.(172/28)
التواضع لله
ومن ذلك: التواضع لله، العلماء كانوا يتكلمون في كتبهم عن أبواب مهمة بعنوان " خمول الذكر " ما المقصود به؟ أن يسعى الإنسان يسعى إلى إخفاء عمله، وإخفاء ذكره، ومحو اسمه فلا تبقى إلا عبوديته لله، عن ثوبان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن حوضي من عدن إلى عمان البلقاء ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأكوابه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربةً لا يضمأ بعدها أبداً، أول الناس وروداً عليه فقرءا المهاجرين، فقال عمر بن الخطاب: من هم يا رسول الله؟ قال: هم الشعث رءوساً، الدنس ثياباً، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم أبواب السدد) قال ابن الأثير رحمه الله في شرح العبارة الأخيرة في حديث واردي الحوض: (هم الذين لا تفتح لهم السدد) أي: لا تفتح لهم الأبواب، لو جاء إلى مكان، طردوه، قالوا: هذا فقير هذا مسكين ليس له مكانٌ عندنا، لا تفتح لهم الأبواب هؤلاء والوعد الحوض حوض النبي صلى الله عليه وسلم، حديثٌ صحيح.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (رب أشعث مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره) هذا الشخص الذي يظهر أمام الناس أنه مهين وذليل ليس له قيمة، لو جاء إليهم دفعوه عن الأبواب وقالوا: اذهب عنا، هذا الرجل ربما لو أقسم على الله لأبره.(172/29)
إخفاء العمل عند السلف الصالح
من العلاج المهم لهذه المسألة: إخفاء العمل، فعن عوف بن مدرك قال: [كنت عند عمر إذ جاءه رسول النعمان بن مقرن - قائد الإسلام في الفتوحات- فسأله عمر عن الناس، فقال الرجل: أصيب فلان وفلان وآخرون لا أعرفهم، فقال عمر: لكن الله يعرفهم] ما يضرهم أن عمر ما عرفهم؛ لأن الله يعرفهم، فهذا من إخفاء العمل.(172/30)
أويس القرني وإخفاء نفسه
إخفاء العمل أمرٌ مهمٌ فقد كان السلف يحرصون عليه رحمهم الله تعالى، وسنسوق بعض الأمثلة على ذلك: ومن أعظم من كان يمثل هذا المعنى أويس القرني رحمه الله تعالى، هذا الرجل عجيب وسيرته عجيبة! ومع إخفاء الرجل لنفسه إلا أن الله أبقى لنا ذكره، فنحن نقتدي به ونتأثر من سيرته، قال عليه الصلاة والسلام: (إن خير التابعين رجلٌ يقال له: أويس وله والدة، وكان به بياض -يعني: برص- فأذهبه الله عنه إلا موضع الدينار أو الدرهم فمن لقيه منكم، فليستغفر لكم) رواه مسلم.
وفي روايةٍ لـ مسلم: (له والدةٌ هو بها بر) من أسباب سعادة الرجل هذا بره بأمه لو أقسم على الله لأبره، هذا الرجل من أهل اليمن، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، قال عمر لـ أويس: فاستغفر لي، فاستغفر له، قال عمر: أين تريد؟ -هو خارج من اليمن مع الأمداد إلى الجيوش الإسلامية في الشمال في الشام والعراق - قال عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها -وصية أعطيك توصية- قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي، قال: فلما كان العام المقبل حجّ رجل من الناس من تلك الناحية التي ذهب إليها أويس، فسأله عمر عن أويس قال: تركته رثَّ البيتِ قليل المتاع، ثم جاء الرجل هذا إلى أويس -ذهب إلى أويس - فقال: استغفر لي، قال: أنت أحدثُ عهدٍ بسفرٍ صالح، فاستغفر لي أنت، فـ أويس يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال عنه: (يا أيها الناس اطلبوا من أويس أن يستغفر لكم) وعندما قال له هذا الرجل هذا: يا أويس! استغفر لي، قال: أنت أحق أن تستغفر لي، أنت حديث عهدٍ بسفرٍ صالح، قال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهدٍ بسفرٍ صالح، قال: استغفر لي، قال أويس: لقيت عمر، قال: نعم.
فاستغفر له ففطن له الناس فانطلق على وجهه واختفى.
هذه رواية مسلم أيضاً.
وفي رواية للحاكم: لما أقبل أهل اليمن جعل عمر رضي الله عنه يستقرئ الرفاق - عمر حافظ للحديث فمنذ زمن والحديث في ذهنه، عمر يريد أن يعرف الرجل- فيقول: هل فيكم أحدٌ من قرن، حتى أتى عليه قرن، فقال: من أنتم؟ قالوا: قرن، فرافع عمر بزمامٍ أو زمام أويس فناوله عمر، فعرفه بالنعت - عمر كان فطناً وكان عنده فراسة لا يقول لشيء هو كذا إلا كأنه- فقال له عمر: ما اسمك؟ قال: أنا أويس، قال: هل كان لك والدة؟ قال: نعم.
قال: هل بك من البياض؟ قال: نعم.
دعوت الله تعالى فأذهبه عني إلا موضع الدرهم من سرتي لأذكر به ربي -الله أبقى موضع درهم في سرة أويس من البرص ليتذكر نعمة الله عليه، أبقاه في موضعٍ خفي لنعمة الله عليه ليس في وجهه عيبه بل في سرته- دعوت الله تعالى فأذهبه عني إلا موضع الدرهم من سرتي لأذكر به ربي، فقال له عمر: استغفر لي؟ قال: أنت أحق أن تستغفر لي، أنتَ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فقال عمر: (إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن خير التابعين رجلٌ يقال له أويس القرني وله والدةٌ وكان به بياضٌ فدعى ربه فأذهبه عنه إلا موضع الدرهم في سرته).
قال: فاستغفر له، قال: ثم دخل في أغمار الناس فلا يدرى أين وقع -ذهب أويس واختفى- قال: ثم قدم الكوفة، فكنّا نجتمع -راوي القصة عند الحاكم أسير بن جابر - قال: كنا نجتمع في حلقة فنذكر الله في الكوفة، وكان يجلس معنا أويس ولا يدري أحد أنه أويس، فكان إذا ذكّرهم، وقع حديثه من قلوبنا موقعاً لا يقع حديث غيره، ففقدته يوماً، فقلت لجليسٍ لنا: ما فعل الرجل الذي كان يقعد إلينا؟ لعله اشتكى -أي: مريض- فقال رجلٌ: من هو؟ فقلت: من هو وصفه؟ قال: ذاك أويس القرني، فدللت على منزله فأتيته فقلت: يرحمك الله، لماذا تركتنا؟ فقال: لم يكن لي رداءٌ فهو الذي منعني من إتيانكم، قال: فألقيتُ إليه ردائي، فقذفه إلي -رفض أن يأخذه- قال: فتخاليته ساعة، يحاول في أخذ الرداء، ثم قال أويس: لو أني أخذتُ رداءك هذا فلبسته فرآه علي قومي قالوا: انظروا إلى هذا المرائي لم يزل في الرجل حتى خدعه وأخذ رداءه، لو أخذت رداءك سيتهموني بهذا، فلم أزل به حتى أخذه، فقلتُ: انطلق، فقال الرجل -هذا أسير بن جابر -: انطلق اسمع ما يقول الناس عنه، فلبسه -لبس أويس الرداء- فخرجنا فمر بمجلس قومه، فقالوا: انظروا إلى هذا المرائي لم يزل بالرجل حتى خدعه وأخذ رداءه، فأقبلت عليهم فقلت: ألا تستحيون عندما تؤذونه، والله لقد عرضته عليه فأبى أن يقبله، قال: فوفدت وفودٌ من قبائل العرب إلى عمر فقال: فكان فيهم سيد قومه، هذا الوفد الذي جاء إلى عمر، فقال له عمر بن الخطاب: أفيكم أحدٌ من قرن؟ فقال له سيدهم: نعم أنا، فقال له: هل تعرف رجلاً من أهل قرنٍ يقال له أويس، من أمره كذا ومن أمره كذا، فقال: يا أمير المؤمنين! ما تذكروا من شأن ذا، ومن ذاك؟! فقال له عمر: ثكلتك أمك، أدركه أدركه -مرتين أو ثلاثة- ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: إن رجلاً يقال له أويس القرني من أمره كذا ومن أمره كذا، فلما قدم الرجل هذا الذي تحدث مع عمر لم يبدأ بأحد، لما قَدِم على بلدة أويس لم يبدأ بأحدٍ قبله، فدخل عليه، فقال: استغفر لي، فقال: ما بدا لك؟! قال: إن عمر قال لي كذا وكذا، قال: ما أنا بمستغفرٍ لك حتى تجعل لي ثلاثة؟ قال: وما هن؟ قال: لا تؤذيني فيما بقي، ولا تخبر أحداً بما قال لك عمر، ونسيت أنا الثالثة -الراوي- قال الذهبي: إسناده على شرط مسلم.
روى الإمام أحمد وهو حديثٌ صحيح، قال: (ليدخلن الجنة بشفاعة رجلٍ ليس بنبيٍ مثل الحيين ربيعة ومضر) قبيلة ربيعة كلها عن بكرة أبيها وقبيلة مضر كلها عن بكرة أبيها، كم عددهم؟ هناك واحد من أمة محمد ليس بنبي، سيدخل بشفاعته عدد مثل عدد ربيعة ومضر يدخلون الجنة بشفاعة هذا الرجل يوم القيامة، انتهى الحديث بقول عليه الصلاة والسلام: (إنما أقول ما أقول).
قال الحسن البصري: إنه أويس القرني، وقد ورد في رواية أنه أويس، لكنها ضعيفة، هؤلاء الناس إذا فقدوا طلبوا، وإذا طلبوا هربوا.(172/31)
ابن المبارك وإخفاء عمله
كان السلف رحمهم الله حريصين على إخفاء أعمالهم، ويكرهون الشهرة، فعن عبدة بن سلمان المروزي، قال: كنا في سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل- يعني: من المسلمين- فقتله، ثم آخر خرج من الكفار خرج إليه نفس الرجل من المسلمين فقتله، ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله -المسلم قتل ثلاثة- تحدٍ أمام الجيشين فازدحم إليه الناس -إلى هذا المسلم- فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكمه -يخفي وجهه بكمه- فأخذت بطرف كمه فممدته فإذا هو ابن المبارك، فقال عبد الله بن المبارك للرجل هذا: وأنت يا أبا عمر ممن يشنع علينا.(172/32)
صاحب النقب يخفي عمله
وعن أبي عمر الصفار قال: حاصر مسلمة حصناً فندب الناس إلى نقب منه، من يدخل ليفتح لنا؟ فما دخله أحد، فجاءه رجل من عرض الجيش فدخله ففتح الله عليهم، فنادى مسلمة أين صاحب النقب؟ أين صاحب النقب؟ فما جاءه أحد، فنادى القائد بالجيش: إني قد أمرت الآن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلا جاء، فجاء رجل فقال: استأذن لي على الأمير، فقال له: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم عنه، فأتى مسلمة فأخبره عنه، فأذن له، فقال له: إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثاً: ألا تسود اسمه في صحيفة الخليفة، ولا تأمروا له بشيء -يعني: من المال- ولا تسألوه ممن هو ولا تستخبروا عن اسمه، قال القائد مسلمة: فذلك له، فقال الرجل: أنا هو، هذا الرجل لأن أمر القائد لابد أن يطاع، القائد قال: عزمت عليه أن يأتي، لابد أن يطاع، فكان مسلمة لا يصلي بعدها صلاةً إلا قال: اللهم اجعلني مع صاحب النقب.(172/33)
أبو العالية وثابت البناني وإخفاء أعمالهما
وكان السلف يبتعدون عن الشهرة قدر ما استطاعوا، قال عاصم الأحول: كان أبو العالية إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام فتركهم، وعن خالد بن معدان أنه كان إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة.
وقال محمد بن سيرين لـ ثابت: يا أبا محمد! لم يكن يمنعني من مجالستك إلا مخافة الشهرة، فلم يزل بي البلاء حتى قمت على المصطلة، قال معمر: كان في قميص أيوب بعض التذييل -يعني: فيه طول قليل فقط ولكن ليس بمسبل- فقيل له: ما السبب وأنت قدوة؟! فقال: الشهرة اليوم في التشمير؛ اليوم صارت الشهرة أنهم يحسرون يعني: ليقال هؤلاء يتبعون السنة.(172/34)
قصة لابن نجيد
وهذه قصة عن ابن نجيد القدوة المحدث وكنيته أبو عمر: من محاسنه أن شيخه الزاهد أبا عثمان الحيري، طلب في مجلسه مالاً لبعض الثغور قال: يا أيها الناس! الثغر الفلاني يحتاج إلى مال، فتأخر ولم يأتِ أحد بمال، فتألم الشيخ وبكى في الدرس على رءوس الناس، فجاءه ابن نجيد بألفي درهم، فدعا له الشيخ، ثم إنه نوه به، صارت مناسبة، فقال: قد رجوت لـ أبي عمر بما فعل، فإنه قد نابَ عن الجماعة، يعني: ذكر اسمه وعرف به أنه هو الذي قدَّم المال، وعمل كذا وكذا، فقام ابن نجيد الذي قدَّم المال وسط الناس وقال: لكن إنما حملت من مال أمي وهي كارهة، فينبغي أن ترده لترضى، أرجع المال حتى ترضى أمي، فأمر أبو عثمان بالكيس فرد إليه، فلما جنَّ الليل جاء بالكيس، والتمس من الشيخ ستر ذلك، أرجع الكيس، هو أصلاً قال الكلام وورى استخدم التورية، لأجل أن ينفي عن نفسه التزكية التي زكاه بها الشيخ على المال، فلما صار الليل أرجع الكيس النقود، وكان الشيخ بعد ذلك يقول: أنا أخشى من همة أبي عمر.(172/35)
شريك وتواضعه
وقال سهل بن المغيرة: رأيت شريكاً وقد خرج من دار المهدي، فاحتوشه أصحاب الحديث- تجمعوا- فتقدمت إليه وقلتُ له: أطردهم عنك يا أبا عبد الله، قال: وأنطرد معهم.
فهذا الشيء من حال السلف في هذه المسألة يجب أن يتعظ أصحاب الشهرة به، والذين يحاولون الصيت، والذين يلبسون ثياب الشهرة ينبغي عليهم أن يعلموا بما لصاحب ثوب الشهرة يوم القيامة من العذاب والنكال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوباً مثله، ثم يلهب فيه النار) رواه أبو داود وابن ماجة وهو حديثٌ حسن.(172/36)
وصية فضالة بن عبيد لابن محيريز
حذر السلف من الشهرة وحبها، ولابد من سماع نصائحهم، فعن ابن محيريز أنه قال: سمعت فضالة بن عبيد وقلت له: أوصني، قال: خصالٌ ينفعك الله بهن، إن استطعت أن تَعرِف ولا تُعرَف، فافعل، وإن استطعت أن تسمع ولا تكلم، فافعل، وإن استطعت أن تجلس ولا يجلس إليك، فافعل، وفي رواية: إن استعطت أن تَعرِف ولا تُعرَف، وتسأل ولا تُسأل وتمشي ولا يُمشي إليك فافعل، ما أحب الله عبداً إلا أحب ألا يشعر به، يعني: يكتم أمره على الناس.
وعلينا أيها الإخوة بالتواضع، فإن الله مع المتواضعين، وقال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: (ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملك، فإذا تواضع قيل للملك: ارفع حكمته، وإذا تكبر قيل للملك: دع حكمته) فإذا تواضعت يرفعك الله بين الناس، وإذا تكبرت يذلك الله بين الناس.
ولابد أن يكون عندنا من يعطينا النصيحة من المخلصين، عمر بن عبد العزيز قال لغلامه: إن الولاة قد جعلوا العيون على العامة، وإني جعلتك عيني على نفسي، ما ترى عيباً علي إلا وتنبهني عليه، وينبغي أن ننظر في قصور أنفسنا وأن نجالس المتواضعين والعلماء الصالحين؛ لأن الإنسان يعرف قدره عند ذلك، وأن نحاسب أنفسنا بالكلمة والحركة، وإذا عوتبنا في شيء، لا ننفي عن أنفسنا التهمة، وإنما نسأل الله السداد.
وينبغي علينا أن نمنع المداحين الذين يمدحون في وجوهنا ونسكتهم ولا نرضى بمدحهم، وينبغي أن نربي الناس على هذا المفهوم، وأن نضع الشخص المناسب في المكان المناسب.
ونسأل الله سبحانه وتعالى في الختام أن يرزقنا الإخلاص اللهم اجعل عملنا خالصاً لوجهك، ولا تجعل لأحدٍ من الناس فيه نصيباً يا رب العالمين، اللهم عظم أجورنا واغفر زلاتنا، اللهم إنا نستغفرك لما لا نعلم من الشرك، ونعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(172/37)
العيد آداب وأحكام
لكل قوم عيد، وللمسلمين عيد يوم الفطر وآخر يوم النحر، ولا ثالث لهما، وصلاة العيدين مشروعة، وقد ورد في الشريعة بيان وقتها وصفتها، وآداب العيدين.
هذا ما احتوت عليه المحاضرة، مع ذكر أقوال أهل العلم في حكم صلاة العيد، وسننها وآدابها، وبيان لضوابط اللهو والفرح والألعاب في الأعياد.(173/1)
مشروعية العيدين وصلاتهما
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا أجمعين ما حصل من الصيام والقيام، إنه خير مسئول وأكرم من أعطى سبحانه وتعالى، وقد انتهى هذا الشهر الكريم بأسرع مما كنا نتخيل ونتصور، وانقضت تلك الأيام، وكنا في الليلة الماضية نقوم ونصلي وقد صرنا الآن في ليلة الأول من شوال، ورجع الأمر إلى ما كان عليه من قيام كل شخصٍ بمفرده، لأنه لا يشرع الاجتماع للقيام إلا في رمضان.
وبهذه المناسبة أيها الإخوة، نتعرض اليوم إن شاء الله لبعض أحكام وآداب العيدين، وذلك لأن المسلم مطالبٌ بأن يعرف أحكام دينه، وكلما حدثت مناسبة أن يعرف أحكامها الشرعية.
فأما بالنسبة لأحكام العيدين وآدابهما؛ فإن صلاة العيدين عيد الفطر وعيد الأضحى مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وقد كان المشركون يتخذون أعياداً زمانية ومكانية فأبطلها الإسلام وعوض عنها عيد الفطر وعيد الأضحى شكراً لله تعالى على أداء هاتين العبادتين العظيمتين، صوم رمضان وحج بيت الله الحرام.
فإذاً يأتي موسم الفرح هذا بعد انتهاء عبادة عظيمة وهي الصيام، وتأتي فرحة عيد الأضحى بعد الانتهاء من العبادة العظيمة أو في نهاية حج بيت الله الحرام.(173/2)
النهي عن مشاركة الكفار والمبتدعة في أعيادهم
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم المدينة كان لأهلها يومان يلعبون فيهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أبدلكم الله بهما خيراً منهما يوم النحر ويوم الفطر) وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً اختصاص الأمم بأعيادٍ معينة فقال: (لكل قومٍ عيد) وبما أنه (من تشبه بقومٍ فهو منهم) فلا تجوز مشاركة الكفار في أعيادهم ولا المشاركة في المناسبات والأعياد البدعية الأخرى، ولا يجوز في الدين إحداث أعيادٍ أخرى غير عيد الفطر وعيد الأضحى في السنة، كما يفعله بعض المبتدعة من أعياد الموالد وغيرها، أو ما يفعلونه تقليداً للأمم الكافرة باتخاذ أعياد كعيد المسيح، وعيد الميلاد، وعيد رأس السنة، وعيد الزواج، وعيد الشجرة، وعيد الأم، وعيد الوطن، ونحو ذلك من الأعياد المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان؛ فإنها كلها محرمة الإنفاق فيها والمشاركة فيها والاحتفال بها، كل ذلك محرمٌ تحريماً بالغاً ومصادم للعقيدة الإسلامية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقومٍ فهو منهم) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة).(173/3)
مذاهب العلماء في حكم صلاة العيد
وسمي العيد عيداً لأنه يعود ويتكرر كل عام، ولأنه يعود بالفرح والسرور، ويعود الله فيه بالإحسان على عباده على إثر أدائهم لطاعته بالصيام والحج، فإذاً هذان العيدان مرتبطان بعبادتين عظيمتين الصيام والحج، وعيد الفطر لزوال المنع من المباحات من الطعام والشراب والنكاح، والدليل على مشروعية صلاة العيد قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] وقال سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15] فذكر الله العيدين في هاتين الآيتين: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] هذا عيد الأضحى، صلّ وانحر بعد الصلاة {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] أي: زكاة الفطر على أحد الأقوال، و {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15] أي: بعد زكاة الفطر وهي صلاة عيد الأضحى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده يداومون عليها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج لصلاة العيدين، وقالت المرأة وهي أم عطية رضي الله عنها: [كنا نُؤمر أن نخرج يوم العيد حتى تخرج البكر من خدرها، حتى نخرج الحيَّض فيكنَّ خلف الناس فيكبرن بتكبيرهم ويدعين بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته] رواه البخاري رحمه الله تعالى، وهذا يبين التأكيد على مشروعية صلاة العيد وهي التي ذكر عددٌ من العلماء أنها واجبة، وهم قد ذكروا حكم صلاة العيد على ثلاثة أقوال: فقال بعضهم: إنها واجبة، يأثم من لم يحضر صلاة العيد؛ لأنه إذا كانت النساء اللاتي يطلب منهن القرار في البيوت قد أمرن بالخروج فالرجال من باب أولى، وأن هذا فيه دليلٌ على وجوب الخروج وأنه فرض عينٍ لنص الآية عليه، وللأمر به في الكتاب والسنة، وهذا رواية عن الإمام أحمد رحمه الله وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنها فرضٌ على الكفاية، إذا قام بها البعض سقط عن الباقين، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى بأنها فرض كفاية.
وذهب بعضهم وهم المالكية والشافعية إلى أنها سنة مؤكدة لقوله في حديث الأعرابي: (هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع) ورد القائلون بالوجوب: إن حديث الأعرابي على صلوات تتكرر في اليوم والليلة ماذا يجب منها؟ قال: خمس صلوات أما وجوب صلاة أخرى لسبب يعرض مثل صلاة العيد، فإنه لم يكن متطرقاً إليه في حديث الأعرابي، وبما أننا أمرنا به وأمرت النساء بالخروج فإنه يكون واجباً، وقالت حفصة بنت سيرين: كنا نمنع جوارينا أن يخرجن يوم العيد فجاءت امرأة فنزلت قصر بني خلف فأتيتها، فحدثت أن زوج أختها غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة غزوة فكانت أختها معه في ست غزوات فقالت: فكنا نقوم على المرضى ونداوي الكلمى، فقالت: يا رسول الله أعلى إحدانا بأسٌ إذا لم يكن لها جلبابٌ ألا تخرج فقال: (لتلبسها صاحبتها من جلبابها، فليشهدن الخير ودعوة المؤمنين) يعني لو لم يكن عندها جلباب تأخذ جلباب صاحبتها، قالت حفصة: فلما أتيت أم عطية فسألتها: أسمعت في كذا وكذا، قالت: نعم بأبي -وقلما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم إلا قالت: بأبي- وقال: (ليخرج العواتق) والعواتق جمع عاتق وهي البكر البالغة أو المقاربة للبلوغ، أو قال: (العواتق ذوات الخدور والحيَّض) وتعتزل الحيَّض المصلى وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين، قالت: فقلت لها: الحيَّض؟ قالت: نعم أليس الحائض تشهد عرفاتٍ وتشهد كذا وتشهد وكذا، رواه البخاري رحمه الله.
إذاً الخروج لصلاة العيد مؤكد، والنساء مأمورات به يخرجن على الوجه الشرعي، وخروج المرأة على الوجه الشرعي يعني ألا تكون متطيبة ولا لابسة لثياب زينةٍ أو شهرة لقوله عليه الصلاة والسلام: (وليخرجن تفلات -يعني غير متزينات- ويعتزلن الرجال، ويعتزل الحَّيض المصلى).(173/4)
مكان صلاة العيد
والخروج لصلاة العيد، وأداء صلاة العيد على هذا النمط المشهود من الجميع فيه إظهارٌ لشعار الإسلام، فهي من أعلام الدين الظاهرة، وأول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم للعيد يوم الفطر من السنة الثانية من الهجرة، ولم يزل صلى الله عليه وسلم يواظب عليها حتى فارق الدنيا صلوات الله وسلامه عليه، واستمر عليها المسلمون خلفاً عن سلف فلو تركها أهل بلد مع استكمال شروطها فيهم قاتلهم الإمام، لأنها من أعلام الدين الظاهرة كالأذان، وينبغي أن تُؤدى صلاة العيد في صحراء قريبة من البلد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العيدين في المصلى الذي على باب المدينة -وهو يبعد مسافة ألف متر من باب السلام (ألف ذراع من باب السلام) كما قدره بعض أهل العلم، هذا مكان مُصلى النبي صلى الله عليه وسلم- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العيدين في المصلى الذي في باب المدينة، فعن أبي سعيد: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج في الفطر والأضحى إلى المصلى) متفقٌ عليه، ولم ينقل أنه صلاها في المسجد لغير عذر، ولأن الخروج إلى الصحراء أوقع لهيبة المسلمين والإسلام وأظهر لشعائر الدين، ولا مشقة في ذلك لعدم تكرره بخلاف الجمعة إلا في مكة المشرفة فإنها تُصلى في المسجد الحرام، وفي صلاتها في الصحراء فائدة وهي تمكين الناس من الاجتماع الكبير الذي لا يسعهم فيه إلا الصحراء، لكن إذا حدث عذرٌ جاز لهم الصلاة في المساجد، كالمطر، أو الخوف كحصار البلد، أو الزحام.
كان المصلى خارج البلد فلما توسع البنيان صار المصلى داخل البلد، فلو كان من الممكن الصلاة في صحراء تسع الجميع لكان هو السنة، لكن أصبح الآن المصلى محاطاً وأصبح لا يكفي للناس، ولذلك أصبح لفتح المساجد الكبيرة لصلاة العيد حاجة خصوصاً في عيد الفطر، ولذلك فإن صلاتها في المساجد لا بأس بها، ولو تعددت إذا لم يكفهم مسجدٌ واحد أو مُصلى واحد جاز لهم أن يعددوا المساجد لصلاة العيد.(173/5)
وقت صلاة العيد
ويبدأ وقت صلاة العيد إذا ارتفعت الشمس بعد طلوعها قدر رمح، لأنه الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها فيه، ويمتد وقت صلاة العيد إلى زوال الشمس، فإن لم يعلم بالعيد إلا بعد الزوال صلوا من الغد قضاءً، وقيل أداءً، لما روى أبو عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قالوا: غمَّ علينا هلال شوال فأصبحنا صياماً، فجاء ركبٌ في آخر النهار فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا من يومهم -لأنه تبين أنه يوم عيد- وأن يخرجوا غداً لعيدهم.
رواه أحمد وأبو داود والدارقطني وحسنه وصححه جماعة من الحفاظ.
فلو كانت تؤدى صلاة العيد بعد الزوال لما أخرها صلى الله عليه وسلم إلى الغد، فلما جاء الخبر بعد الزوال وأخرها إلى الغد علمنا أن آخر وقت لها هو الزوال؛ ولأن صلاة العيد شرع لها الاجتماع العام، فلا بد أن يسبقها وقتٌ يتمكن الناس من التهيؤ لها، ولذلك لا بد من نشر الخبر قبل الصلاة بوقتٍ كافٍ حتى يتمكن الناس من الإتيان لصلاة العيد.
ويسن تقديم صلاة الأضحى وتأخير صلاة الفطر ليتسع الوقت للناس لإخراج زكاة الفطر إذا أخر صلاة العيد، وتعجيل الأضحى لأجل أن يتمكن الناس من ذبح الأضاحي، أو أن يسرع الناس إلى ذبح الأضاحي، هذا بالنسبة للسنة، والآن الناس في عجلة من أمرهم، ويقولون: نريد أن نصلي العيد بسرعة ونذهب للسلام على الأقارب والجيران ونحو ذلك، وتقريباً كلهم يتعجلون في إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيومٍ أو يومين حتى صارت السنة في إخراج زكاة الفطر قبل صلاة العيد شبه مهجورة، وصاروا يقولون نحن أخرجناها قبل صلاة العيد، قبل العيد بيومٍ أو يومين فلا حاجة لتأخيرنا، صلوا بنا بسرعة حتى نذهب ونسلم على أهالينا والناس، فلا حرج أن يصلي الإمام صلاة عيد الفطر في أول الوقت لمصلحة الناس، فنحن إن شاء الله سنصلي صلاة العيد غداً بإذن الله بعد ارتفاع الشمس مباشرة، فإذا كان الإشراق الساعة السادسة وخمس دقائق فبعدها بربع أو ثلث ساعة نصلي مباشرة، بإذن الله تعالى.(173/6)
حكم الأكل قبل الخروج لصلاة العيد
ويسن أن يأكل قبل الخروج لصلاة الفطر تمرات، وأن لا يطعم في الأضحى حتى يصلي، يوم الفطر يأكل تمرات قبل صلاة العيد، أما الأضحى فإنه لا يأكل حتى يصلي لقول بريدة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي) رواه أحمد وغيره، واتفق أهل العلم على استحباب تعجيل الفطر في هذا اليوم قبل الصلاة، ويستحب أكل التمرات الواحدة بعد الأخرى، فهو أصح وألذ وأمرأ، وإذا لم يجدها أفطر على غيرها، واستحب بعض أهل العلم الحلوى، وأقل الجمع ثلاث.
إذاً السنة أن يأكل ثلاث تمرات فأكثر، خمساً أو سبعاً أو أكثر ويقطع على وتر، يعني: تسع أو إحدى عشرة فالسنة أن يفطر على تمراتٍ وتراً، وقال شيخ الإسلام رحمه الله في استدلالٍ بالغ ولطيف قال: لما قدم الصلاة على النحر في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] وقدم التزكي على الصلاة {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15] كانت السنة أن الصدقة قبل الصلاة في عيد الفطر والذبح بعد الصلاة في عيد الأضحى.(173/7)
التبكير والتجمل لصلاة العيد
ويسن التبكير في الخروج لصلاة العيد ليتمكن من الدنو من الإمام، لأن بعض الناس يتأخرون وبعضهم ينامون وبعضهم لا يأتون إلا وقد انتهت الصلاة، وبعضهم لا يأتون إطلاقاً.
والتبكير لصلاة العيد سنة، وتحصل فضيلة لصاحبه في انتظار الصلاة فيكثر ثوابه، ويُسن أن يتجمل المسلم لصلاة العيد، ويلبس أحسن ثيابه، لحديث جابر: (كانت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة يلبسها في العيدين ويوم الجمعة) رواه ابن خزيمة في صحيحه، وعن ابن عمر رضي الله عنه: (أنه كان يلبس في العيدين أحسن ثيابه) رواه البيهقي بإسنادٍ جيد.
وعمر رضي الله عنه ابتاع أو جاء للنبي عليه الصلاة والسلام بحلة من إستبرق أو من حرير، وأخبره أنه أتاه بها ليلبسها للعيد، وليتجمل بها للوفود، فأخبره النبي عليه الصلاة والسلام: (أن هذا لباس من لا خلاق له) لأنها حرير ولا يجوز للرجال لبس الحرير، لكن لم ينكر عليه أن يأتي بثوبٍ جديدٍ جميلٍ لأجل العيد.
فالسنة إذاً أن يأتي بأحسن ثيابه لصلاة العيد.(173/8)
(الاستيطان) من شروط صلاة العيد
وكذلك فإنه يشترط لصلاة العيد الاستيطان، وأن يكون الذين يقيمونها مستوطنين في مساكن مبنية بما جرت العادة بالبناء به كما في صلاة الجمعة، فلا يقيمها البدو الرحل مثلاً، ولذلك قال العلماء متى يذبح البدوي أضحيته وليس عنده صلاة عيد في البر والصحراء؟ قالوا: ينتظر حتى تنتهي صلاة العيد في أقرب البلدان إليه فيذبح بعد ذلك، ينتظر ويتربص فترة يظن أن صلاة العيد قد انقضت بها في البلد ثم يذبح بعدها، وهو في الصحراء.(173/9)
صفة صلاة العيد
وصلاة العيد ركعتان قبل الخطبة لقول ابن عمر رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان يصلون العيدين قبل الخطبة) متفق عليه، وقد استفاضت السنة بذلك وعليه عامة أهل العلم، قال الترمذي رحمه الله: والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن صلاة العيدين قبل الخطبة، وحكمة تأخير الخطبة عن صلاة العيد وتقدميها على صلاة الجمعة، أن خطبة الجمعة شرط للصلاة، والشرط مقدمٌ على المشروط، بخلاف خطبة العيد فإنها سنة، ولذلك فإنه إذا حضر فيها فإنه ينصت للإمام ولكنه لا يشترط له حضورها بمعنى أنه يأثم لو ترك الخطبة، وهي ركعتان بإجماع المسلمين، وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما) وقال عمر: [صلاة الفطر والأضحى ركعتان تمامٌ غير قصرٍ على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم وقد خاب من افترى] رواه أحمد وغيره.
ولا يشرع لصلاة العيد أذانٌ ولا إقامة، لما روى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: [صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيد غير مرة ولا مرتين فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذانٍ ولا إقامة] ولذلك أنكر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على بعض الخلفاء أو بعض الملوك لما قدموا الخطبة على الصلاة، قالوا: إن الناس لا يجلسون إلينا فنجعلها قبل الصلاة لإلزام الناس بالاستماع، فكانت بدعة من البدع أنكرها الصحابة رضوان الله تعالى عليهم.
وبالنسبة للركعة الأولى فإن الإمام يكبر فيها تكبيرة الإحرام والاستفتاح، وقبل التعوذ والقراءة يكبر ست تكبيرات، فتكبيرة الإحرام ركنٌ لا بد منها، لا تنعقد الصلاة بدونها وغيرها من التكبيرات سنة في الركعة الأولى، ثم يستفتح بعدها، لأن الاستفتاح في أول الصلاة، ثم يأتي بالتكبيرات الزوائد الست ثم يتعوذ عقب التكبيرة السادسة، لأن التعوذ للقراءة فيكون عندها ثم يقرأ.
فإذاً يقول: الله أكبر، ثم يذكر دعاء الاستفتاح: (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك إلى آخر الأدعية) ينتقي من الأدعية ثم يكبر ست تكبيرات بعد التكبيرة السادسة يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ويقرأ الفاتحة، ويكبر في الركعة الثانية قبل القراءة خمس تكبيرات غير تكبيرة القيام، لما روى أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في عيدٍ اثنتي عشرة تكبيرة سبعاً في الأولى -يعني مع تكبيرة الإحرام- وخمساً في الآخرة -يعني بدون تكبيرة القيام-) وإسناده حسن، ويرفع يديه مع كل تكبيرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير.(173/10)
حكم التكبيرات وما يقال بينها
نأتي الآن إلى سؤال، هل يقول بين التكبيرات شيئاً أم لا؟
الجواب
ورد عن بعض الصحابة أنهم كانوا يقولون بين التكبيرات أشياء، فعن حماد بن سلمة عن إبراهيم: أن الوليد بن عقبة دخل المسجد وابن مسعود وحذيفة وأبو موسى في المسجد، فقال الوليد وهو أمير البلد: إن العيد قد حضر فكيف أصنع؟ فقال ابن مسعود: [يقول: الله أكبر، ويحمد الله ويثني عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو الله، ثم يكبر ويحمد الله ويثني عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يكبر ويحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم] الحديث رواه الطبراني وصححه الألباني في الإرواء.
فإذاً هناك أشياء تقال بين التكبيرات وهي: حمد الله والثناء عليه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تقال بين تكبيرات صلاة العيد الستة في الأولى والخمسة في الثانية.
ويرفع يديه مع كل تكبيرة اقتداءً بالسنة، وأشار ابن القيم رحمه الله بأنه يسكت سكتة يسيرة بين التكبيرتين لأنه لم يثبت عنده شيء، ولكن هذا الذي ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه ينبغي الأخذ به، وإن شك الإمام في عدد التكبيرات بنى على اليقين وهو الأقل، وإن نسى التكبير الزائد حتى شرع في القراءة -يعني الإمام أخطأ وكبر الإحرام وبدلاً من أن يكبر ست تكبيرات شرع في الفاتحة، ما العمل؟ يسقط التكبير، لأنه سنة وقد شرع في الركن الآن، سقط التكبير لا يعود إليه وهو سنة، لو نسيها فصلاته صحيحة، هذه التكبيرات سنة، وإذا شرع في القراءة تكون هذه السنة قد فات محلها، وكذلك إذا أدرك المأموم الإمام بعدما شرع في القراءة لم يأت بالتكبيرات الزوائد، وعليه أن ينصت للإمام، ولا يأتي بالتكبيرات الزوائد، وكذلك إذا أدركه راكعاً فإنه يكبر تكبيرة الإحرام ثم يركع، ولا يشتغل بقضاء التكبير.(173/11)
ما يقرأ في ركعتي صلاة العيد
وصلاة العيد ركعتان يجهر فيهما الإمام بالقراءة لقول ابن عمر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة في العيدين والاستسقاء) كذا رواه الدارقطني رحمه الله تعالى، وقد أجمع العلماء على ذلك ونقله الخلف عن السلف واستمر عليه عمل لمسلمين، فهي وإن صليت بالنهار فإنها صلاة جهرية، ويقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] ويقرأ في الركعة الثانية (الغاشية) لقول سمرة رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]) رواه أحمد، أو يقرأ في الركعة الأولى بـ (ق) والثانية (القمر) لما في صحيح مسلم والسنن وغيرها: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بـ (ق) و (اقتربت)) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: مهما قرأ به جاز، كما تجوز القراءة في نحوه من الصلوات، لكن إن قرأ (ق) و (اقتربت) أو نحو ذلك مما جاء في الأثر كان حسناً، وكانت قراءته في المجامع الكبار بالسور المشتملة على التوحيد، والأمر والنهي، والمبدأ والمعاد، وقصص الأنبياء مع أممهم، وما عامل الله به من كذبهم وكفر بهم، وما حل بهم من الهلاك والشقاء، ومن آمن بهم وصدقهم، وما لهم من النجاة والعافية، فإذا سلم من الصلاة خطب خطبتين يجلس بينهما.(173/12)
ما ورد في خطبتي العيدين
وأما مسألة ثبوت الخطبتين مرفوعاً فربما لا يوجد له نص أنها خطبتين، ولكن ورد في النص أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خطب قائماً، وفي الصحيح: (أنه بدأ بالصلاة ثم قام متوكئاً على بلال، فأمر بتقوى الله وحث على طاعته) الحديث، وفي صحيح مسلم: (ثم ينصرف من الصلاة فيقوم مقابل الناس والناس جلوسٌ على صفوفهم) إذاً يستحب للناس البقاء كما هم على صفوف الصلاة وعدم تغيير المواقع وتغيير القبلة، يستحب للناس البقاء على الصفوف واستقبال القبلة والاستماع للإمام لأجل الحديث والناس جلوس على صفوفهم.
ويحثهم في خطبة عيد الفطر على تقوى الله تعالى ويذكرهم بصدقة الفطر وأحكامها.
ويرغبهم في خطبة عيد الأضحى في ذبح الأضحية ويبين لهم أحكامها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في خطبة الأضحى كثيراً من أحكامها.
وينبغي على الخطباء أن يركزوا في خطبهم على المناسبات وما يحتاج إليه الناس من البيان في كل وقتٍ بحسبه وخصوصاً الوعظ والتذكير، لا سيما في المجامع العظيمة، ويذكر الغافل ويعلم الجاهل، وينصح العاصي، ويُؤتى بما يفيد المستمعين، وليس هناك شيءٌ قبل صلاة الأضحى أبداً ولا الفطر، ليس هناك شيءٌ قبل الصلاة مطلقاً، وذلك لحديث أبي سعيد قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيءٍ يبدأ به الصلاة) إذاً ليس هناك سنة قبل صلاة العيد، فإذا ذهب إلى المصلى جلس ينتظر، وإذا ذهب إلى المسجد يصلي تحية المسجد فقط، تحية المسجد لأجل المسجد.(173/13)
حكم إتيان النساء لصلاة العيد
وكذلك فإنه ينبغي حضور النساء لصلاة العيد، وتوجه إليهن موعظة خاصة ضمن خطبة العيد، لأنه عليه الصلاة والسلام لما رأى أنه لم يسمع النساء أتاهن فوعظهن، وحثهن على الصدقة، وهكذا ينبغي أن يكون للنساء نصيبٌ من موضوع خطبة العيد لحاجتهن إلى ذلك، واقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، أما حكم إتيان النساء لصلاة العيد فذهب بعض أهل العلم إلى الوجوب للأمر به الوارد في الحديث، وقال بعضهم: إنه سنة لأن الأمر بخروجهن لشهود دعوة المسلمين ليس بواجب، قال شيخ الإسلام رحمه الله: لا بأس بحضور النساء غير متطيبات ولا لابساتٍ ثوب زينة أو شهرة لقوله صلى الله عليه وسلم: (وليخرجن تفلات) وقال بعض أهل العلم: إن الأمر منسوخ لأجل أنه كان يُحتاج في أول الإسلام لإكثار سواد المسلمين، فيأتي الناس والنساء أيضاً ولما كثر الناس لم تعد هناك حاجة لخروج النساء.(173/14)
كراهة التنفل قبل صلاة العيد أو بعدها
ومن أحكام صلاة العيد: أنه يكره التنفل قبلها وبعدها في موضعها حتى يفارق المصلى، لقول ابن عباس رضي الله عنه: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيدٍ فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما) متفقٌ عليه، ولئلا يُتوهم أن لها راتبة قبلها أو بعدها، صلاة العيد ليس لها سنة قبلية ولا بعدية، قال الإمام أحمد رحمه الله: أهل المدينة لا يتطوعون قبلها ولا بعدها، وقال الزهري رحمه الله: لم أسمع أحداً من علمائنا يذكر أن أحداً من سلف هذه الأمة كان يصلي قبل تلك الصلاة ولا بعدها، وكان ابن مسعود وحذيفة ينهيان الناس عن الصلاة قبلها، فإذا رجع إلى منزله فلا بأس أن يصلي فيه لما روى أحمد وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رجع إلى منزله صلى ركعتين).(173/15)
قضاء صلاة العيد
ويسن لمن فاتته صلاة العيد أو فاته بعضها، قضاؤها على صفتها، بأن يصليها ركعتين بتكبيراتها الزوائد لأن القضاء يحكي الأداء، يعني: إذا فاتته صلاها ركعتين بتكبيراتها كما يصليها الإمام، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) فإذا فاتته ركعة مع الإمام أضاف إليها أخرى، فما العمل إذا جاء والإمام يخطب؟
الجواب
إذا جاء والإمام يخطب جلس لاستماع الخطبة، فإذا انتهت صلاها قضاءً بعد ذلك، ولا بأس بقضائها منفرداً أو في جماعة.
فبعض الناس من جهلهم يصلون جماعة والإمام يخطب، الإمام يخطب وهم يكبرون، هذا من جهلهم، ينبغي عليهم إذا جاءوا وقد بدأ الإمام بالخطبة أن يجلسوا لاستماع الخطبة، فإذا انتهى الإمام قاموا فصلوا جماعة أو فرادى.(173/16)
سنة التكبير المطلق في العيدين
ويسن في العيدين التكبير المطلق، وهو الذي لا يتقيد بوقت، يرفع به صوته، إلا الأنثى فإنها لا تجهر به، فيكبر في ليلتي العيد وفي كل عشر ذي الحجة لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] فالفقهاء يقولون: التكبير للعيد يبدأ من بعد المغرب ليلة العيد، لأنه قال في الآية: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] فمتى تكتمل عدة رمضان؟ بغروب شمس آخر يوم.
اليوم لما غربت الشمس اكتملت العدة، أليس كذلك؟ إذاً نكبر بعدها لأنه قال في الآية: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] ويجهر به في الأسواق والمساجد والبيوت وفي كل موضعٍ يجوز فيه ذكر الله تعالى، ويجهر به بالذات في الخروج إلى المصلى، لما أخرجه الدارقطني وغيره عن ابن عمر أنه كان إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى ثم يكبر حتى يأتي الإمام، فإذاً ينبغي الحرص على التكبير.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى، وكان صلى الله عليه وسلم يخرج في العيدين رافعاً صوته بالتهليل والتكبير وهذا من الأحاديث الصحيحة، وقد جمع الفريابي رحمه الله كتاباً في أحكام العيدين ذكر فيه كثيراً من الأحاديث المتعلقة بالعيدين ومنها التكبير، وعن وليد بن مسلم قال: سألت الأوزاعي ومالك بن أنس عن إظهار التكبير في العيدين قالا: نعم كان عبد الله بن عمر يظهره في يوم الفطر حتى يخرج الإمام، وصح عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال: كانوا في الفطر أشد -يعني التكبير في الفطر أشد من التكبير في الأضحى، يعني في القوة والملازمة والحرص عليه- كانوا في الفطر أشد منهم في الأضحى، يعني التكبير، هذا صحيحٌ إلى أبي عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى، وذكرنا كذلك رواية الدارقطني عن ابن عمر أنه كان إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى، ثم يكبر حتى يأتي الإمام، وصححه الألباني في إرواء الغليل.
وروى ابن أبي شيبة بسندٍ صحيح عن الزهري قال: كان الناس يكبرون في العيد حين يخرجون من منازلهم حتى يأتوا المصلى وحتى يخرج الإمام، فإذا خرج الإمام سكتوا فإذا كبر كبروا، أي: فإذا كبر وبدأ بالصلاة كبروا معه وصلوا، فإذاً متى ينتهي التكبير؟ عند خروج الإمام لصلاة العيد، إذا خرج الإمام انقطع التكبير، بالنسبة لعيد الفطر ينقطع التكبير بخروج الإمام.(173/17)
صيغة التكبير
وأما صيغة التكبير، فإنه قد روى المحاملي بسندٍ صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه صفته، وهي: الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيرا، الله أكبر وأجل، الله أكبر ولله الحمد، وفي مصنف ابن أبي شيبة ثبت تشفيع التكبير عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يكبر أيام التشريق: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وهي أشهر صيغ التكبير، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ورواه ابن أبي شيبة مرة أخرى بنفس السند بتثليث التكبير أي: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، إلى آخره، فجاء في رواية بتكبيرتين بتشفيعه ومرة بتثليثه، وإن فعل هذا وهذا فهو حسن.(173/18)
الفرق بين الأضحى والفطر في التكبير
وكذلك فإن التكبير في عيد الفطر آكد لأجل الآية: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] هذا جاء في سياق صيام رمضان، ولتكملوا العدة: عدة رمضان، ولتكبروا الله على ما هداكم، لكن هناك فرق في التكبير بين عيد الأضحى وعيد الفطر: أن عيد الأضحى فيه مشروعية التكبير المقيد وهو التكبير الذي شرع في عقب كل صلاة فريضة في جماعة فيلتفت الإمام إلى المأمومين ثم يكبر ويكبرون، ويبتدئ التكبير المقيد بأدبار الصلوات في حق غير المحرم من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، وأما المحرم فيبتدئ التكبير المقيد في حقه من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق؛ لأنه قبل ذلك مشغولٌ بالتلبية، هذا تفصيل الفقهاء في التكبير المطلق والمقيد بالنسبة لعيد الأضحى، وقد قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203] وهي أيام التشريق، وقال الإمام النووي رحمه الله: هو الراجح وعليه العمل في الأمصار، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: أصح الأقوال في التكبير الذي عليه الجمهور من السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة: أن يكبر من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق عقب كل صلاة، لما في السنن: (يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله) وكون المحرم يبتدئ التكبير المقيد من صلاة الظهر يوم النحر وليس من فجر يوم عرفة كما يفعل المقيم، ذلك لأن التلبية لا تقطع إلا برمي جمرة العقبة، ووقت رمي جمرة العقبة المسنون ضحى يوم النحر، فكان المحرم فيه كالمحل، فلو رمى جمرة العقبة قبل الفجر فلا يبتدئ التكبير إلا بعد صلاة الظهر أيضاً عملاًَ بالغالب.
انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.(173/19)
سنة المشي إلى المصلى ومخالفة الطريق
ومن السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى العيد ماشياً، ويرجع ماشياً، وفي حديث آخر: (كان يخرج إلى العيدين ماشياً ويصلي بغير أذانٍ ولا إقامة، ثم يرجع ماشياً من طريقٍ آخر) وفي رواية: (كان إذا خرج يوم العيد في طريق، رجع في غيره) وفي رواية: (كان إذا كان يوم عيدٍ خالف الطريق).
إذاً السنة أن يخرج ماشياً لا يركب، يأتي المصلى ماشياً وهو الأكثر أجراً وهو الأفضل ولا شك، لكن إن شق عليه المشي لبعد المصلى فإنه يمكن أن يوقف سيارته مثلاً في أقرب مكان يمكن أن يمشي منه إلى المصلى ويمشي، ليحافظ على سنة المشي، وإن قال إنسان ما فائدة مخالفة الطريق؟ ف
الجواب
إن مخالفة الطريق في العيد لها عدة فوائد، وقد ذكر العلماء عدة حكم في مسألة مخالفة الطريق منها: ليسلم على أهل الطريقين، ومنها لينال بركة المشي فيهما يشهدان له عند الله {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4] فالأرض تحدث بما عُمل عليها من خير أو شر، ومنها ليظهر شعائر الإسلام في كل الفجاج والطرق في هذا وفي هذا، فيكون البلد من جميع طرقه فيه ذكر، ومنها للتفاؤل بتغير الحال إلى المغفرة والرضى، يعني من الغضب والسخط إلى المغفرة والرضى، وقيل من الحكم في ذلك: إغاظة المنافقين واليهود وليرهبهم بكثرة من معه، وقيل: ليقضي حوائج الناس من الاستفتاء والتعليم والاقتداء أو الصدقة على المحاويج، ومنها: أن يزور أقرباءه وأصحابه، لأنه قد يوجد بعضهم في هذا الطريق وبعضهم في الطريق الآخر، فهذا بالنسبة للسبب، ولا مانع من أن يكون السبب كل هذه الأشياء مجتمعة لمن يستطيعها.
وكذلك فإنه لا بأس بتهنئة الناس بعضهم بعضاً بأن يقول لغيره: تقبل الله منا ومنك، وقد أخبر ابن حجر رحمه الله أن ذلك قد جاء بإسنادٍ حسن عن جبير بن نفيل قال: [كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك] وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد روي عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه ورخص فيه الأئمة كـ أحمد وغيره، والمقصود من التهنئة: التودد وإظهار السرور، ولا بأس بالمصافحة في التهنئة.
وإذا قال أي عبارات أخرى طيبة مثلاً: كل عامٍ وأنتم بخير، جعلكم الله من الفائزين ونحو ذلك، أو أعاده الله علينا وعليكم بالخير والمسرات ونحو ذلك فلا بأس، أي عبارة طيبة يقولها لا بأس بذلك.(173/20)
حكم العيد إذا وافق جمعة
ما العمل إذا وافق العيد جمعة؟
الجواب
الإمام يصلي الصلاتين يصلي العيد والجمعة، لأجل أن يخطب بالناس، أما الناس فيرخص لهم إذا حضروا العيد ألا يأتوا إلى الجمعة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد اجتمع في يومكم عيدان فمن شاء أجزأه عن الجمعة وإنا مجمعون إن شاء الله تعالى) فلا بد أن تقام صلاة العيد وتقام صلاة الجمعة، ولكن من حضر صلاة العيد فإنه يعفى عنه حضور صلاة الجمعة إذا لم يحضر، ولكن لا بد له أن يصلي الظهر لأنها فرض الوقت ولا يجوز تركها.(173/21)
المحافظة على السنة في العيد
كذلك فإنه لا بد من المحافظة على السنة، العيد فرصة للمحافظة على السنة، التمسك بالسنة وكسب الأجر من وراء ذلك، وقد جاء في صحيح مسلم: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيءٍ يبدأ به الصلاة ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس والناس جلوسٌ على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإذا كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه- يرسل سرية في الجهاد مثلاً- أو يأمر بشيءٍ أمر به، قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبرٌ بناه كثير بن الصلت فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع- يعني عصى الصحابي بالقوة فخطب قبل الصلاة- فقلت له: غيرتم والله، وأنكر عليه علناً أمام كل الناس، فقال: يا أبا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خيرٌ مما لا أعلم فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجلعتها قبل الصلاة) فتأمل إذاً! درس عظيم من هذا الصحابي في المحافظة على السنة وعدم الرضى بمخالفة السنة وكيف أنكر ذلك.
ولأجل ذلك لا بد من المحافظة على السنة في هذا العيد، ولذلك من السنة أن يلبس الجديد أو الجميل، ويأمر بناته ونساءه أن يخرجن بالتستر الكامل والحشمة الشرعية، والتكبير من خروجه من بيته حتى يأتي المصلى رافعاً صوته بالتهليل والتكبير، وأكل تمراتٍ وتراً قبل أن يخرج، وشدة التكبير في الفطر، وإذا خرج الإمام سكتوا، والقراءة بـ (سبح) و (الغاشية) أو (ق) و (القمر) والخروج ماشياً، والصلاة بغير أذانٍ ولا إقامة، والرجوع ماشياً من طريقٍ آخر، وغير ذلك من السنن التي تقدم ذكرها ينبغي المحافظة عليها.(173/22)
ضوابط اللهو والفرح في الأعياد
واعلموا رحمكم الله تعالى أن إظهار الفرحة بالعيد سنة، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، ولذلك صارت هناك كثيرٌ من المخالفات الشرعية، ولا بد أن نشير إشارة إلى هذا الموضوع وهو مسألة اللهو وما يجوز منه وما يباح في العيد، فقد روى البخاري رحمه الله تعالى عن عائشة قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان -زاد مسلم بدف- فاضطجع على الفراش وحول وجهه ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم -يستنكر- فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (دعهما) وهذا يدل على جواز ضرب النساء بالدف في العيد، وعلى جواز الغناء بالمباحات من الكلام والشعر في العيد، لكنه لا يدل أبداً على استخدام الموسيقى والمعازف في العيد، فإن المرخص به هو الدف وأبو بكر قال: مزمارة الشيطان! استنكر حتى الدف، حتى أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكف عن الإنكار، ولا حجة في الحديث أبداً لسماع غناء النساء، فإن عائشة قالت: وعندي جاريتان، يعني: بنتان صغيرتان، فأين غناء الجاريتين الصغيرتين بشعرٍ، فيه ذكر الحرب أو الكلمات المباحة بدفٍ، أين هذا من غناء النساء الكبيرات بالمعازف والعود والطبل والكمنجة وغير ذلك من الآلات الوترية والكهربائية وغيرها من أنواع المعازف، وسماع الرجال لهذا؟! ومع الأسف إن الذين يجيزون الغناء الموسيقي، وغناء النساء الكبيرات، وسماع الأغاني يستدلون بهذا الحديث فتباً لهم على استدلالهم! وتعساً لهم على طريقتهم المنحرفة! فإنهما جاريتان صغيرتان تضربان بالدف بكلامٍ مباح، أين هذا من غناء النساء الكبيرات بالأصوات الفاتنة، بالكلام الماجن، وذكر الحب والغرام، ووصف النساء والتشبيب بهن، وذكر الحب والعشق، ونحو ذلك من الألفاظ السيئة عند الرجال؟! أين هذا من هذا؟! فإذاً اللهو المباح لا بأس به، والنساء يضربن بالدف في الأعراس لا بأس به، وفي الأعياد لا بأس به، وفي توابع الأعراس لا بأس به، وفي توابع الأعياد لا بأس به، وأما أن يكون هذا لنساء كبيرات بمحضر من الرجال فهو حرام ولو بالدف، بل ولو بدون دف، لأن أصوات النساء الكبيرات فتنة للرجال، يحرك الشهوة ويبعث على الفتنة، يحرك كل كامن، ولذلك فإن تهييج الكامن وتحريك الساكن بالغناء المحرم لا شك أنه مما يسخط الله تعالى، فلا حجة في هذا الحديث أبداً لسماع الرجال لغناء النساء الكبيرات والبالغات بالأصوات الفاتنة، بهذه الكلمات الماجنة بالأدوات الموسيقية المختلفة.
أما اللهو المباح، جوار صغيرات (بنات صغيرات) يغنين بأهازيج وأناشيد مباحة فلا بأس به.(173/23)
حديث عائشة في لعب الأحباش وفائدة التوسعة على الأهل
كذلك فإن إعطاء الفرصة للأهل للمتعة المباحة لا بأس به، عن عائشة كما عند البخاري: (كان يوم عيدٍ يلعب فيه السودان بالدرق والحراب، الحبشة كانوا في المسجد يتمرنون على أدوات الحرب التروس والحراب، ولهم فيها فعلٌ معين، لعبٌ فيه تدريب، كتقابل المتقاتلين بوسيلة معينة ليس فيها إيذاء ولا شهر السلاح في وجه الواحد الآخر ونحو ذلك، وإنما هو طريقة للعب بهذه الحراب فكان منظراً مسلياً- فإما سألت النبي صلى الله عليه وسلم وإما قال لي، أي: من نفسه: أتشتهين تنظرين؟ فقلت: نعم، فأقامني وراءه خدي على خده -يعني يسترها من الناس، حتى لا يراها الأجانب- وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة، حتى إذا مللت قال: حسبك؟ قلت: نعم، قال: فاذهبي) وفي رواية: (حتى أكون أنا التي أسأم) ولـ مسلم: (ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف) وفي رواية النسائي: (أما شبعت؟ فجعلت أقول: لا، لأنظر منزلتي عنده) -تتبين منزلتها عن بقية نسائه رضي الله عنها- وفي رواية قلت: (يا رسول الله! لا تعجل، فقام لي ثم قال: حسبك قلت: لا تعجل، قالت: وما بي حب النظر إليهم، ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه) وتقول عائشة: [فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو] إذاً اللهو واللعب للبنات الصغيرات في العيد جيد وسنة ومشروع، وينبغي أن يمكن منه هؤلاء، لكن بعض الناس اليوم يلبسون بناتهم الملابس القصيرة، وربما يكون عمر البنت ست وسبع وثمان وتسع وعشر سنوات وقرب البلوغ، ويتساهلون في خروجهن إلى الشوارع، وضرب أبواب الناس لأخذ العيديات، ولا شك أن هذا باب فتنة، ولا شك أن فيه شراً وفساداً، ولذلك هو حرامٌ ولا يجوز أبداً، لكن أن يدعى البنات إلى بيتٍ من بيوت صديقاتهن المأمونة الموثوق بأهلها فيلعبن مع بعضهن البعض هذا طيب، أو يشاهدن شيئاً مباحاً هذا طيب، التوسعة على الأولاد بالألعاب المباحة في الأعياد، والملابس الجميلة الجديدة أيضاً هذا من الطاعات، لأن فيه إدخال السرور على الأهل، والعيد مناسبة فرح، فينبغي إذاً أن يكون فيه من مظاهر الفرح ما فيه إظهار لهذه الشريعة العظيمة.(173/24)
اجتناب الألعاب الخطيرة والمحرمة
وكذلك فإنه لا بد من اجتناب الألعاب الخطيرة، فإن هذه المفرقعات النارية التي ابتلينا بها في هذا الزمان تضيع فيها الأموال، وتؤذى بها الأبدان، ويشوش بها على الناس في البيوت، وربما تصاب بعض النساء بالرعب، أو فيها إقلاقٌ وإزعاجٌ لراحة المسلمين، فلا شك أن هذا حرامٌ لا يجوز، وبيع هذه الأشياء التي فيها خطورة حرامٌ لا يجوز أيضاً، ولا يمكن الأولاد من شراء الأشياء المؤذية المحرمة، إذا كانت مؤذية تسبب حرائق أو تؤذي الأبدان فإنه لا يجوز أن يلعب بها، وربما نسمع عن ولدٍ فقد بصره، أو مكان احترق بسبب ذلك، فإن الأطفال يأخذون الكبريت وأعواد الكبريت لإشعال هذه الفتائل فربما أدى إلى نشوب حرائق، ولذلك نقرأ في الأخبار المكتوبة عن ازدياد نسبة الحرائق في بلاد الكفار أيام عيد الميلاد، لأنهم يستخدمون هذه الألعاب النارية وبتفنن وتنوع وكثرة، مما يؤدي إلى اشتعال الحرائق، فعلى أية حال لا بد من الانتباه في قضية الألعاب إلى عدم الإتيان بالألعاب المحرمة، سواءً ما كان فيه موسيقى أو ما كان فيه صلبان، أو ما كان مؤذياً للبدن، أو ما كان فيه مقامرة أو شكلٌ من أشكال الميسر، أو ما كان فيه إلهاءٌ عن ذكر الله وعن الصلاة، أو ما كان فيه صورٌ من ذوات الأرواح، فإذاً المنكرات الموجودة في الألعاب كثيرة، أو ما كان فيه نرد فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من لعب بالنردشير أو بالنرد فقد عصى الله ورسوله، أو كأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه، كما جاء في الحديث الصحيح.
إذاً ينبغي اجتناب الألعاب المحرمة والمؤذية، والحرص على الألعاب المباحة المفيدة، التي فيها تسلية وفيها إدخال للسرور على الأولاد وتمتيع الأولاد ما أمكن بالفرجة المباحة والفسحة المباحة، والاجتماع بين الأولاد وإظهار الزينة المباحة ونحو ذلك هذا مشروع ينبغي عدم خلطه بالممنوع.
هذا ما تيسر ذكره في أحكام صلاة العيد وبعض الآداب المتعلقة بالعيدين، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يتقبل منا الصيام والقيام، وأن يجزينا بذلك الجزاء الأوفى، وأن يجعلنا في ختام هذا الشهر من عتقائه من النار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على النبي الأمي محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(173/25)
الغلام المؤمن وأصحاب الأخدود [1،2]
إن الله عز وجل إذا رأى من عباده من يظلم ويطغى، ويستعبد الناس، ويترك عبادة رب العالمين- يسر له من يقيم عليه الحجج والبراهين في الدنيا، حتى إذا أعذر إليه الله عز وجل أخذه أخذ عزيز مقتدر.
وقد ضرب الله عز وجل للمؤمن أمثلة في كتابه وفي وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذه قصة الغلام المؤمن والراهب وأصحاب الأخدود، خير مثال يبين كيفية شق الداعية طريقه في الدعوة إلى الله مع تحمل الصعاب والابتلاءات من أجل الدين.(174/1)
نص حديث الغلام المؤمن وأصحاب الأخدود
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قصة من أجمل القصص ليس التي يقرؤها المسلم فقط، بل يمكن أن تكون من أجمل القصص التي يمكن أن يطلع عليها أي واحد من البشر، وهذه القصة -أيها الإخوة- هي قصة: الغلام المؤمن وأصحاب الأخدود، وسوف نسرد القصة إن شاء الله، ثم نتدارسها معكم مقطعاً مقطعاً.
روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى بإسناده إلى صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان ملكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر- أي: الساحر- قال للملك: إني قد كبرت، فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه، وكان في طريقه إذا سلك راهب- كان في طريق الغلام إذا سلك إلى الساحر راهب- فقعد إليه وسمع كلامه، فكان إذا أتى الساحر مرَّ بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه- لأنه يتأخر عن موعد الدرس، درس السحر- فشكا ذلك إلى الراهب- شكا الغلام إلى الراهب- فقال- أي: الراهب-: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل، فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها، فقتلها ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني، وقد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي، وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليسٌ للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة- جاء إلى الغلام بهدايا كثيرة- فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، قال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت بالله دعوتُ الله فشفاك، فآمن به- الأعمى آمن بالله- فشفاه الله فأتى الملك- الأعمى جليس الملك، جاء إلى الملك- فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي، قال: ولك ربٌ غيري -هؤلاء الناس كفرة مجتمع كافر كانوا يعبدون ملكهم- قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل؟ فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله فأخذه، فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى فدعا بالمنشار، فوضع المنشار على مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه -من حاشيته وجنده- فقال: اذهبوا به إلى جبل كذ وكذا -سمى لهم جبلاً- فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه- من فوق الجبل- فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال- أي: الغلام-: اللهم اكفنيهم بما شئت، اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فسقطوا إلا هو، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه آخرين، قال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور- والقرقور هو: السفينة- وتوسطوا به البحر- في منتصف البحر- فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة -انقلبت- فغرقوا كلهم، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فقال للملك- هذا الغلام-: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيدٍ واحد وتصلبني على جذعٍ، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارم، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيدٍ واحد وصلبه على جذعٍ، وأخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه- الصدغ من العين إلى شحمة الأذن- فوضع يده على صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس، فأمر بالأخدود بأفواه السكك، فخدت- حفرت في الطرق- وأضرم فيها النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم، ففعلوا حتى جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌ لها، فتقاعست أن تقع فيها رحمة بالولد، فقال لها الغلام: يا أمه! اصبري فإنك على الحق) رواه مسلم.(174/2)
روايات قصة الغلام المؤمن
هذا الحديث -أيها الإخوة- من أجمل القصص التي يمكن أن يسمع بها إنسان، الذي رواها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي المصدق عن ربه عز وجل، هذه القصة رواها بالإضافة للإمام مسلم الإمام أحمد والنسائي، وكذلك رواها الترمذي، ولكن رواية الترمذي فيها اختلاف عن هذا السياق الذي سقناه، قال ابن كثير رحمه الله عن سياق الترمذي: وهذا السياق ليس فيه صراحة أن هذه القصة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، سياق الترمذي ليس سياق مسلم الذي ذكرناه، قال شيخنا أبو الحجاج المزي: فيحتمل أن يكون من كلام صهيب الرومي، فإنه كان عنده علمٌ من أخبار النصارى انتهى.
قال الحافظ في الفتح: صرح برفع القصة بطولها حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب ومن طريقه أخرجها مسلم والنسائي وأحمد، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووقفها معمر عن ثابت، على صهيب، ومن طريقه أخرجها الترمذي، فهذا السياق -سياق الإمام مسلم - الذي ذكرناه سنعتمد عليه في شرح القصة، وسنأخذ من سياق الترمذي ما يكون فيه زيادة تفاصيل بحيث لا تكون تتعارض مع نفس القصة، لأن القصة التي نشرحها الآن رواية مسلم هي المرفوعة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهي المعتمدة.
أيها الإخوة! لو أنا أوكلنا كتابة مثل هذه القصة إلى أعظم روائي في العالم فهل يا ترى سيكتب لنا قصة مثل هذه في جمالها ودقتها، وعظم الفوائد المحتوية عليها، ومدى تأثيرها في النفس؟ لا يستطيع أحد مطلقاً، لا يمكن أن يأتي بشر بأجمل مما رواه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه القصص -أيها الإخوة- ليست قصص حكايات، ليست روايات تسلية، هذه قصة مجتمع بأسره، مجتمع حي كان في فترة من الزمان موجوداً على ظهر الأرض.
يا إخواني! ابتلينا في هذه الأيام بروايات سخيفة وقصص ماجنة، يُقبل عليها الكبار والصغار، يقرءون قصصاً، وفيها فسادٌ عظيم، وفي بعضها خرافات وشعوذات تفسد واقعية الأطفال، لذلك كان مما يُنصح به لكل أب لديه طفل، لكل أخ أو أخت لديه أخ أصغر منه أن يقرأ عليه هذه القصة حتى قبل أن ينام، حتى لو قبل النوم يقرؤها عليه، أو أن يجزئها له.(174/3)
فوائد قصة الغلام المؤمن وأصحاب الأخدود
أيها الإخوة: هذه الأحداث عظيمة جداً، مثل هذه القصة فيها فوائد مباشرة وفوائد غير مباشرة، قد لا يحس بها القارئ أنه يستفيد، ولكن هو يستفيد، فمن ذلك مثلاً من القضايا الخفية: أننا نتعلم درساً عظيماً في التواضع، كيف نتعلم درساً عظيماً في التواضع؟ لأننا نحن الآن الكبار نتعلم هذه الفوائد العظيمة من غلام، والغلام كما قال ابن علان في دليل الفالحين في شرح الحديث: والغلام في لغة العرب من كان بعد سن الفطام وقبل البلوغ، الذي يكون بعد الفطام وقبل البلوغ يطلق عليه غلام في لغة العرب، نحن الآن الكبار والشيوخ نتعلم من غلام، من هذا الغلام المؤمن، هذا فيه فائدة عظيمة في التواضع.
ونبدأ معكم باستعراض هذه القصة جزءاً جزءاً مقطعاً مقطعاً كلمةًَ كلمة.(174/4)
هذه القصة تمثل دور دعوة كاملة
هذه القصة من أهميتها: أنها تمثل دعوة كاملة من بدايتها إلى نهايتها، ابتداءً من مرحلة الاستضعاف، لما كان الحق لا يعرفه إلا شخص واحد فقط، وحتى نهاية القصة وهي مرحلة إيمان الناس كلهم، الذين آمنوا في آخر القصة، مروراً بالمرحلة السرية التي طلب فيها الراهب من الغلام أن يكتم خبره، ومروراً بالمرحلة العلنية وهي أن يصدع الغلام بالحق على الناس كافة.
كذلك فيها تنوع الأساليب من الفردية إلى الجماعية، وغير ذلك، فيحتاج أصحاب الدعوات لدراسة هذه القصص جيداً، هذه القصص التي تمثل واقعاً متكاملاً، هذه التجارب، فالدين الإسلامي من عظمته أنه لا يبدأ بك أيها المسلم من الصفر، يقول لك: ابدأ، لا، بل يعطيك خلاصات تجارب الأمم السابقة، يقول لك: هذه التجارب استفيد منها، عندنا أرصدة في الإسلام من ضمن الأرصدة رصيد التجربة، تجارب الأمم السابقة مجموعة في القرآن والسنة.
نبدأ من البداية عن صهيب رضي الله عنه، من هو صهيب أيها الإخوة؟ صهيب الرومي، نلاحظ في بعض الأحاديث عن بعض الصحابة أنهم يتخصصون في رواية أنواع معينة من الأحاديث، هذا التخصص نابع من الواقع الذي عاشوه، فلو عرفنا واقع صهيب الرومي، كيف كان واقعه؟ صهيب الرومي كان مسلماً مضطهداً في قريش، يعذب ويُطارد ويُشرد ويُستولى على ماله، وقصة هجرته إلى المدينة معروفة، فإذا عرفنا واقع صهيب لا نستغرب لماذا بالذات صهيب الرومي الذي روى هذا الحديث الذي فيه ابتلاء وفتن ومحن، هذه العلاقة بين الراوي والمروي، بين الصحابي والحديث الذي رواه هذا الصحابي، وإذاً علمنا أيضاً أن خباب بن الأرت رضي الله عنه روى جزءاً في هذا الحديث في صحيح البخاري لما قال: (جئنا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببردة في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟) -فـ خباب كان يعذب، وكان من تعذيبه أن سيدته الكافرة كانت تطرحه على أسياخ الحديد المحماة بالنار، فلا يطفئ النار في أسياخ الحديد إلا شحم ظهر خباب الذي كان يسيل عليه، لما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منه- (ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، ويوضع المنشار في مفرق رأسه فيشق حتى يقع نصفين لا يرده ذلك عن دينه) فروى خباب رضي الله عنه مقطعاً من هذا الحديث.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان ملكٌ فيمن كان قبلكم) هذه القصة هل ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم التاريخ الذي حدثت فيه القصة بالضبط؟ في اليوم الفلاني، في الشهر الفلاني، في السنة الفلانية؟ هل ذكر فيها المكان في البلد الفلانية؟ لا، نلاحظ هنا أن القصة تجردت عن أي تفاصيل إضافية تشتت ذهن القارئ أو السامع، واقتصرت على أهم التفاصيل المتعلقة بالموضوع، حتى لا يتشتت ذهن القارئ، لا توجد تفاصيل، مجردة عن الزمان والمكان، الزمان الوحيد الموجود (قبلكم)، قبل الصحابة، والراجح من كلمة (راهب) أنها وقعت بعد عهد عيسى لما تفرق الناس، وحصل الضلال في شريعة عيسى، وبقي رهبان قلة على دين عيسى على دين التوحيد، وقبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.(174/5)
أهذه القصة تجربة حية مرتبطة بكل زمان ومكان إلى قيام الساعة
ثانياً: من فوائد تجريد القصة من التفاصيل الإضافية: أن هذه القصة تصبح تجربة حية غير مرتبطة بزمان أومكان، تجربة حية كأنها قائمة اليوم، يعيشها كل المسلمين، كأنها قائمة يستفيد المسلمون منها إلى قيام الساعة، لو صار فيها زمان أو مكان معين، كان الناس قالوا: نعم.
هذه خاصة بذلك الزمان، مثل بعض الناس عندما نقول لهم الآن: يا جماعة! هذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول لك: نعم.
هذا كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
يا جماعة! هكذا كان واقع الصحابة ما كان هناك من المنكرات كذا وكذا، يقول: نعم.
ذاك كان واقع الصحابة، يحتجون بالزمان، ذاك الزمان مختلف نحن الآن تطورنا وتغيرنا.(174/6)
ميزة أهل الحق الوضوح وميزة أهل الباطل الدجل والتضليل
ثم قال: (كان ملكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر) فكلمة (ساحر) تحدد حال الملك، هل كان ملكاً صالحاً مثل سيلمان عليه السلام؟ لا.
وإنما كان كافراً، وكان يستخدم هذا الساحر في استعباد الناس، يستخدم السحر والشعوذة والتضليل والخرافات للسيطرة على عقول الناس، وهذا الساحر واحد من أعوان الباطل الذين كانوا يساعدون هذا الملك الظالم في استعباد من تحته من الرعية.
والسحر -أيها الإخوة- دائماً في كل مكانٍ وزمان ضد الدين والعقل؛ لأن السحر قائم على الخرافة والشعوذة، والدين قائم على الوضوح، الدين واضح جداً فهو عقيدة صافية، فالسحر ضد الدين على طول الخط، وهو كذلك ضد العقل الصحيح، العقول الصحيحة ترفض السحر، والشعوذة، والخزعبلات، والخرافات، هكذا العقول الصحيحة المستنيرة بنور الله عز وجل.(174/7)
خطورة تعريض الطفل للكفر والزندقة والبدع والخرافات
ثم قال: (فلما كبر، قال للملك: إني قد كبرت، فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر) كبِر، أم كبُر، بكسر الباء كبِر، في لغة العرب تستخدم (كبِر) للسن، يعني: إذا تقدم رجل بالسن يقال: كبِر، أما بضم الباء، فتستعمل للقدر، يعني: إذا صار الشيء عظيم القدر وكبير القدر يقال: كبُر.
ما هو الدليل من القرآن؟ {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ} [غافر:35] {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] هذه الكلمة قدرها في الشرك عظيم، فالله عز وجل قال: {كَبُرَتْ كَلِمَةً} وفي رواية الترمذي في هذا المقطع يقول الساحر: (انظروا لي غلاماً فطناً لقناً فأعلمه علمي، فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم) سبحان الله! الساحر هذا خائف على ماذا؟ خائف على هذا العلم المهم سوف يضيع، وسوف ينقرض، وهو يريد غلاماً ليعلمه السحر حتى يحصل استمرارية لهذا السحر في الأرض.
فانظروا -أيها الإخوة- كيف تفسد أجواء الكفر الفطر السليمة؟! الأطفال الآن عندما يخرجون إلى الدنيا يخرجون صفحات بيضاء ما فيها شيء، فطرة سليمة، فمن الذي يخرب فطر الأطفال؟ إنها هذه الجاهليات الممتلئة بالكفر والسحر والزندقة والضلال والبدع والخرافات والإلحاد والشهوات والأهواء، هذه التي تفسد عقول الأطفال الصغار، ينشئون على الكفر، إفسادٌ لفطرته، الله فطر الناس على التوحيد فطرة الناس {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] فإذاً رصيد الفطرة مهم للدعاة إلى الله عز وجل لعرض الحق، فمن رحمة الله أنه جعل لك -يا أخي الداعية- عندما تعرض الكلام على ناس ما تأثروا بشيء مطلقاً صفحات بيضاء يقبلون الحق مباشرة، لأن الله فطرهم على هذا، لذلك الطفل ما يعارضك لو قلت له: الله أمرك بكذا، وأن تفعل كذا، تصادف موقعاً في نفسه ويقتنع، لأنه موافق الفطرة، لكن انظر إلى الطفل الذي يعيش في أجواء الشرك والكفر، كيف ينشأ؟ الآن أطفال المسلمين في أقطار كثيرة من الأرض يتعرضون للأخطار، فكما سمعنا أن أطفال المسلمين في أفغانستان يرسلون إلى روسيا ليتعلموا الإلحاد والشيوعية، وهناك مؤسسات تنصيرية في العالم قائمة على تجميع أطفال المسلمين الأيتام، وضحايا الحرب، والذين ليس لهم مُعين ينفق عليهم، مثل أطفال المسلمين في لبنان -مثلاً- يُؤخذون إلى الخارج إلى سويسرا وغيرها من البلاد لكي يُدخَلوا في مدارس تنصيرية، فتتلف فطر هؤلاء الأطفال، وإذا رجع، يرجع شيوعياً أو نصرانياً كافراً ملحداً لا عقيدة له، هذا بسبب هذه الكلمة: (فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر) نستنتج خطورة تعريض الأطفال لأجواء الكفر والشرك والبدع، الذين يأخذون أطفالهم إلى الخارج عليهم أن يتقوا الله عز وجل، والذين يأخذون الأطفال إلى الخارج ويدخلونهم المتاحف، وما يرى في المتاحف؟ الأصنام، ويذهبون بهم إلى المعابد على أنها آثار، ويدخلونهم المعبد الفلاني، ويشاهدون الآلهة الفلانية، والطفل هذا صفحة بيضاء، تتسطر فيه الآن سطور الشرك في نفسه، فإذاً -أيها الإخوة- مسئولية أمام الله عز وجل الاهتمام بأطفالنا، وأطفال المسلمين الذين يحتاجون إلى إعانة حتى لا يتسلط عليهم الكفرة فيأخذونهم.(174/8)
توجيه الطاقات النادرة والذكية إلى خدمة الدين
الملاحظ هنا -أيضاً- لما قال: (انظر لي غلاماً فطناً لقناً) يعني: ذكي ويفهم بسرعة، فأهل الجاهلية يحرصون على انتقاء العينات من الأطفال التي لها استعداد للفهم السريع، وعندها ذكاء لكي يعلمونهم الباطل، أفلا يكون أحرى بنا نحن المسلمين أن نوجه الطاقات النادرة في بعض الأطفال إلى وجهات الخير، لو أن واحداً وجد من طفل مثلاً حافظة قوية جداً، لماذا لا يوجهه إلى حفظ القرآن؟ لماذا لا ننتقي من أطفال المسلمين؛ الناس الذين فيهم نبوغ فنعلمهم شرع الله عز وجل، ونعلمهم الأشياء المفيدة حتى الأشياء الدنيوية؟ نوجه طاقاتهم، نوجه هذه العقلية الجبارة التي تكون موجودة في بعض الأطفال إلى معرفة الحق، ودراسة الحق والتمرن والسير عليه وتطبيقه، لا نحتقر أنفسنا، مجتمعات المسلمين فيها طاقات كبيرة تحتاج إلى من يوجه ويستغل فقط، فإذاً شعور المسلمين بالمسئولية تجاه أولادهم من الأمور المهمة.
ملاحظة أخرى في هذا المقطع: (فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت، فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر) يعني: هناك شيء غريب وهو: أن هذا الساحر الآن إذا مات ماذا سيستفيد من تعليم الغلام بعد موته؟ هذا الساحر سيموت، يقول: أنا كبرت في السن وسأموت، أعطني غلاماً أعلمه السحر، ماذا يستفيد؟ لا يستفيد شيئاً، ولن يأخذ زيادة لأنه سوف يموت، إذاً لماذا يعلم الغلام السحر؟ لأنه -أيها الإخوة- لو طبعت النفس على الباطل فإن أهل الباطل يتبرعون مجاناً لتعليم باطلهم، لو صار الواحد منطبعاً ومنغمساً في الباطل بكامله كله باطل في باطل، هذا يصل إلى مرحلة -والعياذ بالله- أنه يتبرع تبرعاً بدون مقابل ليضل الناس، لأن الكفر انطبع في قلبه، فصار شيئاً طبيعياً أن يعلم الناس الكفر حتى بدون مقابل، وبدون أجر.(174/9)
إذا أراد الله الهداية للعبد يسر له الأسباب الشرعية
ثم قال: (فبعث إليه غلاماً يعلمه، وكان في طريقه إذا سلك راهب) هذا الغلام لما ذهب الآن يتعلم يخرج من بيته إلى الساحر ليتعلم، كان في طريقه راهب، والرهبان كما ذكرنا هم النصارى الذين كانوا على دين عيسى الصحيح، ثم تحرف بعد ذلك، هذا الراهب كان موحداً كما هو واضح من سياق الحديث، يعني: يوحد الله، لا يقول: عيسى ولد الله، ولا يقول: عيسى ثالث ثلاثة، كان على التوحيد، يعني: على دين عيسى الأصلي الذي بدون تحريف، والراهب: كلمة تقال على الإنسان المنقطع عن الدنيا وملذات الدنيا ومتفرغ للعبادة، والرهبانية كانت شيئاً مشروعاً في دين النصارى، لكن في الإسلام لا يوجد شيء اسمه انقطاع عن الدنيا في العبادة وما تتصل بالدنيا، لا، الإسلام طريق الآخرة والدنيا مع بعض، إذا احتسبت نومتك لله عز وجل، أجرت على النوم، مع أنه شيء دنيوي، إذا نويت في أكلك التقوي على طاعة الله، صار هذا الأكل فيه أجر، وليس الأجر فقط في الصلاة والدعاء والزكاة والصيام، يصير الأجر حتى في الأكل والشرب والنكاح، إذا نوى الإنسان أن يعف نفسه، قال معمر: أحسب أن أصحاب الصوامع كانوا يومئذٍ مسلمين، لأن هذا الراهب كان في صومعة وهو: بناء يعتكف فيه، انظر الآن يا أخي المسلم كيف ييسر الله عز وجل الأسباب لكي يهتدي هذا الغلام، أقدار الله تجري بطرق عجيبة، لا يمكن أن يتوقعها البشر، كيف بدأت القصة؟ بدأ معرفة التوحيد من أين؟ الآن القصة انتهت أن الناس كلهم آمنوا، ولكن كيف كانت البداية، كيف جرى قدر الله حتى تحصل هذه النهاية؟ أنه كان يوجد راهب في الطريق، يعني: لو كان الساحر في مكان ثانٍ، فلو أن الغلام ذهب من طريق آخر، ربما كان ما مر على هذا الراهب، وما عرف أصلاً أن هناك توحيداً وما عرف الله، فانظر كيف جرى قدر الله، يسر الله الأسباب أن جعل مكان الراهب في الطريق حتى يمر عليه الغلام ويتربى منه على هذا التوحيد.(174/10)
ترك التعقيد في عرض قضايا الدين والعقيدة
ثم قال: (فقعد إليه وسمع كلامه، فأعجبه) الغلام لما سمع صوت الراهب جلس، تعرف على المكان ودخل وسلم عليه وجلس يستمع منه، وفي رواية الترمذي: (فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به- كلما مر به يسأله؛ ماذا تعبد؟ - فلم يزل به ملحاً ومصراً حتى أخبره- الراهب أخبر الغلام- فقال: إنما أعبد الله) والناس أولئك الذين في المجتمع ما كانوا يعبدون الله أبداً، التوحيد ما كان معروفاً، فالراهب قال: إنما أعبد الله.
فالآن ننظر -أيها الإخوة- في الجاذبية التي تعرض بها العقيدة الصحيحة، العقيدة الموافقة للفطرة إذا عرضت بطريقة صحيحة، تدخل القلب وتستقر فيه، هناك فرقٌ جذري مهم بين عرض المتكلمين -أصحاب علم الكلام من الأشاعرة وغيرهم- للعقيدة وبين عرض السلف للعقيدة، السلف يعرضون العقيدة بنصوص القرآن والسنة، مع شرح الأشياء التي ينبغي شرحها.
أما أهل الكلام فإنهم يعرضون العقيدة بقواعد كلامية، يسمونها: قواطع كلامية، أو براهين عقلية، ما فيها شيء من القرآن والسنة، واجب الوجود، وجائز الوجود، والعدم، والجوهر، والعرض، مصطلحات ما أنزل الله بها من سلطان، هكذا يعرضون العقيدة على الناس، هؤلاء أهل علم الكلام هكذا يقولون: الناس عرض والله جوهر، والجوهر كذا تعريفه، والعرض كذا تعريفه، وضاع الناس، لا يمكن لهذه العقيدة التي تعرض بهذه الطريقة أن تنجح في دخول القلب، ولذلك يصبح إيمان هؤلاء الناس الذين تُعرض عليهم العقيدة بطريقة الفلسفة وعلم الكلام عقيدة باردة معقدة لا تؤدي إلى تحريك الإنسان للعمل ولا إلى خوف الله عز وجل، وهل هي إلا قواعد وكلام وفلسفة؟ فالآن هذا الراهب كيف عرض العقيدة؟ ببساطة شديدة جداً، بالبساطة التي يعرفها هو، والفطر السليمة دائماً عندها ما يدفعها لتقبل الحق.(174/11)
الإسلام دين الامتحان والابتلاء
ثم قال: (وسمع كلامه، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه) لماذا يضربه الساحر؟ لأنه تأخر، هذا الضرب الذي تعرض له الغلام منذ البداية يدلنا على ماذا؟ يدلنا على أن الله عز وجل شاء لهذا الغلام أن يتربى على الابتلاء منذ صغره، الساحر يضرب الغلام؛ لأنه يسمع الحق، هذا ابتلاء يتربى هذا الغلام على الابتلاء منذ البداية، والشخصية المتكاملة هي التي يؤثر فيها الابتلاء تأثيرً إيجابياً، هذا الغلام تعرض للابتلاء في لحظات التكوين، وزمن التربية، وفترة النمو، يعني: منذ صغره تعرض للابتلاء، فصبر على هذا الابتلاء، فكانت النتيجة شخصية قوية ومؤثرة وفاعلة في الواقع، والابتلاء -أيها الإخوة- يناسب طبيعة الدين، الإسلام دين ابتلاءات؛ لأن الناس يفكرون الآن يقولون: نحن نريد إسلاماً سهلاً ما نتعرض فيه للإيذاء، ما نريد واحداً يسخر منا إذا طبقنا الإسلام، نريد ديناً إذا طبقناه لا نتعرض لمصائب ومشاكل، ومن قال: إن الإسلام دين الراحة؟ يقول الله عز وجل: {ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3] ما هي فائدة الابتلاء والفتن؟ إنها تمحيص: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3] لو كان الدين مسألة سهلة بدون متاعب ولا مصائب ولا إيذاء ولا سخرية، ولا همز ولا غمز ولا سجن ولا ضرب ولا شيء، لدخل كل الناس في الدين، ما كان هناك أهل النار، وشطبت هذه النار، لكن لما صار هذا الدين فيه تمحيص وابتلاء وشدة، وفيه ضغط وواقع يضغط عليك، وفيه شهوات وأهواء تحاربك من كل جانب وأنت تصبر على هذه الابتلاءات، هنا تتميز الشخصيات، وهنا يرى الصادق من الكاذب.(174/12)
جواز الكذب وتقديم الرخصة الشرعية لمصلحة المسلمين
ثم قال: (فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب) هذه الشكوى -أيها الإخوة- ليست اعتذاراً عن مواصلة الطريق، ولا تذمراً، يعني ما قال له: أنا ضربت من أجلك، من الآن لن آتيك ولن أتعلم منك، ما قصد الغلام بالشكوى التذمر أو الاعتذار عن مواصلة الطريق؛ وإنما شكوى لأصحاب الخبرة لإيجاد الحلول المناسبة للمشكلة، فالناس اليوم عندما يتعرضون لأدنى أذى يتركون الدين، الواحد إذا قال له مديره في العمل: لا تصل في وقت العمل لو وجد زبائن، فلو صليت طردتك من العمل، لأدنى إيذاء تهديد بالطرد من العمل ترك الصلاة.
فإذاً أيها الإخوة! الإيذاء الذي يحصل للإنسان من جراء التمسك بالدين، إذا صبر عليه الإنسان هذا، يعني أنه مسلم حقيقي، وإذا ما صبر، يعني أنه مسلم مزيف، هنا ماذا يقول الحديث؟ (فقال الراهب: إذا خشيت الساحر، فقل: حسبي أهلي، وإذا خشيت أهلك، فقل حبسبي الساحر) لأن هذا الغلام الآن يُضرب من جهتين، إذا ذهب إلى الساحر وجلس عند الراهب تأخر عن الساحر وضربه الساحر، وإذا رجع من عند الساحر إلى أهله في البيت تأخر عليهم، فيضربه أهله، فما هو الحل الذي أوجده له الراهب؟ قال له: إذا قال لك الساحر: لماذا تأخرت؟ قل له: أهلي أخروني، وإذا قال لك أهلك: لماذا تأخرت؟ قل لهم: اليوم كانت المعلومات زيادة، هنا قد يسأل سائل فيقول: أليس هذا بكذب؟ كيف يكذب الغلام؟ وكيف أن الراهب يعلم الغلام الكذب والكذب نعرف أنه محرم؟ فنقول: أيها الإخوة: من رحمة الله عز وجل أنه حرم الكذب، لكن الله أباحه في مواضع، فأباح الكذب مثلاً للإصلاح بين الناس، وأباح الكذب في الحرب؛ حادثة نعيم بن مسعود الثقفي معروفة، لما أسلم في معركة الأحزاب وذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (ادفع عنا ما استطعت إنما أنت رجل) أنت واحد افعل الذي تقدر أن تفعله، واليهود محيطون بالمسلمين من الوراء، والأحزاب من كفار قريش وغطفان وغيرهم من الأمام والمسلمون بين فكي الكماشة، هذا رجل واحد ماذا فعل في الحرب؟ كذب كذبة أنهت الحرب كلها- ومن شاء التفاصيل فليرجع إلى كتب السيرة- فإذاً الكذب في الحرب على الكفرة ليس على المسلمين جائز لمصلحة الدين ولمصلحة المسلمين، ولو أن أحداً -مثلاً- سب إنساناً في مجلس، وهذا السب بلغ الشخص الذي وقع عليه السب، وجاءك أنت أحد الذين كانوا في المجلس، وقال: صحيح فلان شتمني؟ فأنت لو أتيت من باب الإصلاح بينهما وقلت له: لا.
ما شتمك ما تكلم عليك تكلم على واحد آخر، أنت ماذا قصدت بهذه الكذبة؟ الإصلاح حتى لا يحدث بينهما شقاق، هل يوجد أحد تضرر من هذه الكذبة؟ لا، هل يوجد منها مصلحة؟ نعم، منها مصلحة عظيمة، فإذاً في هذه الحالة أباح الإسلام الكذب في حالات ضيقة جداً، وليس حالات مفتوحة كل واحد يكذب متى أراد، في حالات ضيقة جداً أُبيح الكذب، فالآن مصلحة الدين عند الراهب وعند الغلام تقتضي أن الغلام يكذب، ولو ما كذب هل يمكن أن يتعلم؟ لا، ولو قال الحقيقة: أنا أمر على راهب يعلمني، كانوا أخذوا هذا الراهب منذ زمن، لكنه من أجل مصلحة الدين، والسلامة من الشر وتعلم العلم، صار الكذب في هذه الحالة جائزاً.
نلاحظ -أيضاً- هنا أن الراهب اهتم بإيجاد الحل للغلام الذي اشتكى إليه، وهذا يفيدنا نحن الآن لو أن أحداً من الناس اشتكى إلينا في ضائقة يجدها بسبب تمسكه بدينه، فإن من واجبنا نحن أن نسعى في إيجاد حل لمشكلة هذا الرجل، من باب الأخوة الإسلامية لا بد من إيجاد الحلول لمشاكل المسلمين، ليس أن تعرض المشكلة فقط ثم يكون مصيرها في سلة المهملات، يجب أن نوجد الحلول للمشاكل.
كذلك مما نستفيد منه في هذا المقطع: أننا إذا وجدنا رخصة شرعية تيسر أمور الناس ولا تخالف الشريعة، ليست أمراً محرماً، وفي نفس الوقت تيسر على الناس ضائقة يعيشونها، فإننا في هذه الحالة نقدم الرخصة لهم، إذا كانت رخصة شرعية، نقدم رخصة لهم، ولا نجعلهم يستمرون في معيشتهم في الحرج، لا، لا نجبرهم على أخذ العزيمة، فلو أن أحداً في الصحراء لم يجد ماء إلا ما يكفيه للشرب كيف يتوضأ؟ لا نقول: والله يا أخي اعطش حتى لو هلكت في سبيل الله عليك أن تتوضأ، بل نقول له: هناك رخصة شرعية وهي التيمم، وآخر يشق عليه أن ينزع الجوارب دائماً وهو في العمل حال البرد، ما نقول: لا.
يجب عليك تحمل البرد، وتتحمل هذه العزيمة، نقول: هناك رخصة إذا كانت الرخصة شرعية، فنيسر على الناس في حدود الشرع وليس أن نسلك مسلك الجهلة، فنيسر على الناس بالحق والباطل، بعض الناس يقول: يا شيخ! يسر ولا تعسر والدين يسر، وبالتيسير هذا نبيح للناس شراء الأسهم الربوية، والتعامل بالحرام، وسماع المنكرات، وحضور مجالس اللغو والباطل باسم التيسير، يجب أن يكون التيسير شرعياً موافق للشريعة.(174/13)
الحق والباطل طرفا نقيض ولابد من التمييز
ثم يقول في الحديث: (فبينما هو كذلك، إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل) هذا القلق جعل الغلام ينتظر اليوم الذي يأتي ويكون فيه حصحصة الحق وتمييز الهدى من الضلال، الآن الغلام جالس ينتظر لأنه فيها جذب فيها قلق وحيرة واضطراب يريد أن يعرف أين الحق، فالآن هنا عدة نقاط: النقطة الأولى: أن القلق والاضطراب نتيجة التلقي من أكثر من مصدر متضادة هو علامة صحيحة تبين صحة التلقي، يعني: لو أن الغلام هذا يأخذ الدين والسحر، وليس عنده إشكال، الدين لأهل الدين، والسحر لأهل السحر، فهل هذا شيء واقع صحيح؟ لا.
لا بد أن يحدث التناقض ما دام أن مصدر التلقي فيه تضاد واختلاف، فإذاً نفكر الآن نحن في واقعنا، أجيال المسلمين -أيها الإخوة- اليوم تتلقى الإسلام بطريقة لا تشعرهم بمخالفة الواقع لهذا الدين، الآن بعض المسلمين يتلقون الدين بطريقة عجيبة لا تشعرهم مطلقاً أن واقعهم أصبح واقع منكرات وواقعاً جاهلياً يخالف ما يتلقونه، فلذلك ليس عندهم مشكلة، ليست عندهم قلق، ولا اضطراب ولا تحير ولا شيء، الدين لأهل الدين، والباطل يوجد له مجال، ولا يوجد إشكال، هذا التلقي عندهم تلقٍّ مرضي، غير صحيح، إذ يجب أن يثور القلق والاضطراب في النفس إذا كان الواحد يتلقى شيئين متضادين، فلا بد أن يتحرك أهل الدين لتحديد موقفهم من الواقع، إذا كانت طريقة تلقيهم للدين صحيحة، أما إذا كان لا يوجد تميز ولا يوجد تحديد موقف فعند ذلك نقول: هذا الدين الذي تتلقونه فيه أخطاء، وإلا كنتم أحسستم بالتناقض، لو أن أحداً مثلاً يتعلم أحكام الإسلام، لا يجوز الاختلاط ويذكر الأدلة والأحاديث وهو واقعه في البيت اختلاط، الرجال والنساء يجلسون مع بعض، والأمور تسير عنده ولا يوجد إشكال، ولا يشعر بأي نوع من القلق والاضطراب، هل هذا الأمر صحيح؟ لا.
نقول له: إما أن طريقة تلقيك خطأ، فعندك مبدأ في أنه يمكن التعايش بين الحق والباطل، أو أن الشيء الذي أنت تتلقاه خطأ، كأن تكون فاهماً أن الاختلاط مكروه، يعني: خلاف الأولى والأحسن عدم الاختلاط، لكن في حقيقة الأمر الاختلاط حرام في الشرع.
فإذاً: شعور الغلام بالتناقض الذي يجعله يترقب بشدة اليوم الذي يأتي ليتبين فيه الحق، فجاء اليوم الذي طالما ترقبه هذا الغلام بلهفة وطول انتظار.(174/14)
إقرار الفطرة بإحقاق الحق وبطلان الباطل
فهذه الدابة وضعت الناس محبوسين في الطريق (فأخذ حجراً، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس) يا رب! إن كان أمر الراهب أحسن، والراهب هو الذي معه الحق، فاقتل هذا الدابة بهذه الحجر الصغير، اقتل هذه الدابة العظيمة حتى يمضي الناس، هنا نلاحظ -أيها الإخوة- أن الغلام عنده إحساس بأن أمر الراهب أفضل، كيف عرفنا؟ لأنه بدأ به (أخذ الحجر وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس) وهذه نتيجة طبيعية تبين أن الحق عليه علامات، وأن الفطرة السليمة إذا سمعت بالحق، فعلى أقل تقدير ترجحه على الباطل، وهذا يدل على رسوخ الإيمان.(174/15)
حقيقة الألوهية مرتكزة في الفطرة
وأيضاً: أول كلمة قالها لما أخذ الحجر: (اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك) كلمة: اللهم، تعني: أن الغلام لما نطق بالكلمة أقر ضمنياً بأن هناك إلهاً موجوداً، ولذلك يسأل الله يقول: (اللهم إن كان أمر الراهب) هذا نتيجة التعليم الذي تلقاه ونتيجة التربية على العقيدة، فرسخت في نفسه فظهرت النتيجة، عرف لمن يتوجه (اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك) وهذه القضية -أيها الإخوة- وجود الله عز ووجل مرتكزة في الفطرة، ولا يمكن أن يجحد بها أي واحد، حتى الشيوعي الكافر يعلم بداخل فطرته أن الله موجود، لكنه يعاند ويكابر، فطرته تخبره بأن هناك خالقاً، وهذه حادثة تروى أن أحد الملحدين تناقش مع موحد مسلم فالموحد المسلم يقول للشيوعي يجادله: هناك خالق والطبيعة ما خلقت، ولا يمكن للطبيعة أن تخلق، الله الذي خلق كذا وكذا، وذاك الشيوعي يقول: مستحيل، لا يوجد خالق، ولا يوجد دين، والطبيعة هي التي خلقت، ونحن جئنا من الطبيعة، فلما احتدم النقاش بينهما وثارت ثائرة ذاك الملحد، فقال في عرض الكلام للمسلم: والله ما الطبيعة خلقتنا، فيقولون: إنه في عرض كلامه حلف بالله أن الطبيعة ما خلقت، يقول الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] جحدوا بحقيقة الألوهية وهم مستيقنون، لكنهم يجحدونها بألسنتهم لماذا؟ لسببين: الظلم والعلو، وهنا في الحديث يقول: (فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس) فالآن الغلام سأل الله عز وجل أن يقتل الدابة لكي يعرف الحق، أو لكي يمضي الناس؟ فهنا قالوا في شرح الحديث: يحتمل أن تكون (حتى) هنا علة لل
السؤال
يعني سبب الطلب من الله عز وجل، فيكون اجتمع الأمران: أمر لنفسه يريد أن يعرف الحق، وأمر آخر: من أجل مصلحة الناس أنهم يمروا، وقيل: إن ما بعد (حتى) غاية للسؤال وليس علة له، يعني: الذي أثار السؤال أمر الراهب والساحر، وغاية السؤال مصلحة الناس حتى يمروا، المهم أن المعنى متقارب وليس ببعيد، وفي قول الغلام: (حتى يمضي الناس) إشارة إلى حب هذا الغلام لمنفعة قومه، ولم يكن أنانياً ويريد أن يبقى في الحق والناس يصير فيهم ما يصير، لكن ما دام يمكن أن يجتمع الأمران أن يعرف الحق وينفع الناس، فلذلك قال في دعائه: (فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس) فيها فائدة أخرى.(174/16)
إثبات الكرامة للأولياء
ثم قال: (فرماها فقتلها) وفي هذه الجملة إثبات كرامات الأولياء، وهو أن الله عز وجل من قدرته أنه يخرق العادة لبعض أوليائه، لا يمكن أن يحصل في العادة أن حجراً صغيراً يقتل دابة عظيمة؛ لكن هذه كرامة لهذا الغلام المتمسك بدينه، أجرى الله على يديه خارقة من الخوارق كرامة له، فالإيمان بكرامات الأولياء من عقيدة أهل السنة والجماعة، لكن المشكلة خلط الناس بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، لأن أولياء الشيطان من السحرة والدجالين والمشعوذين وأرباب الطرق الصوفية المنحرفة يمكن أن يحصل عندهم خوراق للعادة، فتجد بعضهم يضرب نفسه بسيفٍ يدخل في بطنه ويخرج من ظهره ويسحب السيف وما نزلت منه قطرة دم واحدة، أو يدخل في نار موقدة ويخرج منها سليماً ما فيه شيء، وكيف يكون هذا؟ يكون هذا باستخدام الشياطين، إما أنها تلعب بأعين الناس الذين يشاهدون، أو أنها تمنع الحرق عن هذا الرجل بالقدرة التي عند الشيطان لكي يتوهم الناس أن هذا الدجال وهذا الساحر المشعوذ وشيخ الطريقة أنه ولي من أولياء الله، بينما الحقيقة هو ولي من أولياء الشيطان، فإن قلت لي: أولياء الله لهم خوارق وهؤلاء لهم خوارق، كيف نميز بين الحالتين؟ نقول: واقع هؤلاء وواقع هؤلاء هو الدليل، فإن رأيت الرجل الذي حصلت على يديه خارقة من خوارق العادة رجلاً مؤمنً تقياً صالحاً عابداً مستقيماً ليس بصاحب بدعة ولا صاحب هوى الذي صارت له الخارقة فتعرف أنه من أولياء الرحمن، لكن هناك رجل دجال ومشعوذ، ويأكل أموال الناس، ويستخدم الخرافات، ويتعامل مع الشياطين، وعنده الطلاسم وهذه الحجابات، فهنا تعرف أنه من أولياء الشيطان.(174/17)
التجرد من الحسد والاعتراف بالفضل للآخرين
ثم قال في الحديث: (ومضى الناس) قتلت الدابة ومضى الناس، في رواية الترمذي التي أشرنا إليها آنفاً: (فقال الناس: من قتلها؟ قالوا: الغلام، ففزع الناس فقالوا: قد علم هذا الغلام علماً لم يعلمه أحد) يعني: الغلام اشتهر عند الناس الذين حضروا الحادثة (فأتى الراهب فأخبره) فالغلام الآن لما حصلت القصة أتى الراهب فأخبره بالخبر، وهذا الإخبار للراهب نتيجة طبيعية لكل من رأى حدثاً مثيراً أن يذهب لمن تلقى منه الدين ليطلعه على ما حصل، أو يطلب منه تفسيراً على ضوء الشريعة على ما حصل، لو أن الناس اليوم رأوا حادثاً مثيراً فكل واحد يرى الحادث يذهب لمن؟ يذهب لمن تلقى منه الدين أو للعالم أو لمن يثق به من أهل العلم والخير والدعوة إلى الله عز وجل فيطلعه على ما حدث، أو يطلب منه تفسيراً إن كان الأمر فيه غموض أو رأياً فيما يحدث، فأجابه الراهب لما أخبره الخبر (فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني) هذه الكلمة -أيها الإخوة- كلمة عظيمة جداً يحتاج أن نقف عندها وقفة مهمة نتأمل في هذه الكلمة التي قالها الراهب، ماذا قال الراهب؟ قال: (أنت اليوم أفضل مني) فهذا شيخ الغلام، وهذا مصدر العلم، وهذا الذي يوجه وهو الكبير، كيف يقول لغلام صغير: أنت اليوم أفضل مني؟ هذه الكلمة -أيها الإخوة- كلمة لها وزن، هذا الموقف من الراهب موقف الاعتراف للغلام أنه قد صار اليوم أفضل منه يدل على تجردٍ كامل من هذا الراهب من الحسد، لم يقل: صارت له خارقة وصار أحسن مني أحسده وأكتم مواهبه، لكن قال: أنت اليوم أفضل مني، إن النفوس -أيها الإخوة- فيها مداخل شيطانية كثيرة، منها: حب التميز، وحب ألا يوجد أحد يفوقك، فليس الإشكال أن تكون متفوقاً، لكن الإشكال إذا تفوق عليك أحد أن تعاديه وتحسده، وتحاول أن تمنع عنه الخير الذي جاءه، هذا الإشكال، فالآن الراهب هل قال: أترك لقد صار هذا الغلام أحسن مني؟ لم يقل هذا، وقال له بكل صراحة وبكل وضوح: (أي بني أنت اليوم أفضل مني) فالقضية ليست قضية كبر وصغر، وإنما القضية فهم الدعوة، وتحقيق مصلحة الدعوة، تحقيق منهج الله في الأرض، هذه المسألة، فلو أن إنساناً اليوم فاق شيخه في طلب العلم، وهذا قد يحصل فما هو الموقف السليم للشيخ؟ هنا يقول له: أعطيتك إجازة وليس هناك داعٍ إلى أن تتعلم، يقول: هذا غداً يصبح أحسن مني، والناس يتحولون مني وينتقلون لهذا الجديد الذي صار أحسن مني، فتأخذه العزة بالإثم ويتغلب الحسد والنفسية السيئة، ولكن الراهب تجرد من هذا كله، تجرد بلا حرج مطلقاً (أنت اليوم أفضل مني) وفتح الطريق أمام المواهب الناشئة التي وفقها الله عز وجل، وليس العمر هو الأساس، بل هو الإيمان والكفاءة، والناس طاقات يتفاوتون، هذه المسألة اليوم تلعب أدواراً سيئة في واقعنا، فتجد مثلاً رئيساً تحته موظف، وهذا الموظف مثلاً نشيط وفاهم وتعلم بسرعة، ويأخذ شهادات ودورات مثلاً، ماذا يفعل الرئيس؟ يخاف، يقول: هذا بعد أيام سيأخذ محلي، فيدب الحسد والبغضاء، ويبدأ يحجب عن هذا الموظف كل المعلومات التي تفيده، بل قد يشغله بأشياء تافهة جداً، افعل كذا وابحث هذا؛ أشياء لا تصلح للعمل ولا تنفع العمل بشيء، فيبعد هذا الموظف النشيط عن حيز المسئولية، حتى لا يأخذ مكانه، وقس على ذلك من الأمثلة الكثيرة التي تحدث في حياتنا اليومية، وواقع الحياة اليوم بين الناس من جراء الحسد عندما يتفوق إنسان على إنسان، فلله در هذا الراهب ما أطيب قلبه! وما أشد تجرده لله! عندما اعترف لهذا الغلام، وقال له: (أنت اليوم أفضل مني، وقد بلغ من أمرك ما أرى) ما أرى من الصدق والاعتقاد الحسن، والكرامة التي أجراها الله على يديك، الآن لما قال له: (أنت اليوم أفضل مني) هذه الكلمات ماذا تنتج في نفس الغلام؟ قد تنتج نوعاً من الزهو، ليس الغرور، قد تنتج أشياء من هذا، فلكي يحدث هذا الراهب المربي التوازن في نفس الغلام، ماذا قال له بعدها مباشرة؟ حتى لا يصيبه الغرور، هو الآن حقيقة أفضل من الراهب، هذا قدر الله عز وجل وهذه حكمة الله، لكن ماذا قال الراهب بعدها لكي يحدث التوازن ويزيل السلبيات الناشئة عن الإخبار بالحقيقة الأولى التي لا بد من الإخبار بها؟ لكن فيها سلبية، فكيف تزال؟ قال له: (وإنك ستبتلى) فكلمة إنك ستبتلى ماذا تحدث؟ لأن هذا التشريف الذي حصل الآن ليس بلا مقابل، وإنما سيعقبه تكليف وابتلاء، فهذه الأفضلية لها ثمن، وإنك ستبتلى، فعندما يشعر الغلام بأنه سيبتلى، يذهب عنه الغرور والزهو وغير ذلك.(174/18)
التكتم والسرية لمصلحة الدين
إن الإخبار بالابتلاء سيحدث الخوف عند الغلام فيؤدي إلى أن يخاف وقد يترك، لكن الابتلاء حقيقة لا بد من الإخبار به، فماذا قال له الراهب بعد ذلك؟ قال له: (فإن ابتليت، فلا تدل علي) فيقول ابن علان رحمه الله في شرح الحديث: لماذا الراهب في البداية أخبره بشكل قاطع أنه سيبتلى، ثم في العبارة التي بعدها قال: (فإن) وإن: تدل على التشكيك، لماذا؟ لكي يخفف من الخوف الذي قد ينبعث في نفسه، وحتى لا يقع الكرب في نفس الغلام قبل حلول البلاء الحقيقي، فقال: (فإن ابتليت، فلا تدل علي) هذه كلمة" فإن ابتليت فلا تدل علي" طلب الراهب من الغلام أن يتكتم على الأمر، قال: إن ابتليت وإن عذبت وضربت لا تخبر عني، لأنك لو أخبرت عني، فأنا عدو ولا بد أني أُقتل وأهلك، فحفاظاً على نفسي ولمصلحة الدين بقاء الراهب لا شك، فهنا هذا الكتمان الذي طلبه الراهب من الغلام هل هو هدف وغاية أم وسيلة؟ إنما هو وسيلة، فإذاً الكتمان في طريق السير إلى الله ليس غاية وهدفاً، أن يكون الإنسان متكتماً في الدين، لا، فالدين يحتاج إلى وضوح، لكن في هذه الحالة التي صار فيها مصلحة الإسلام أن هذا الراهب لا يُفشى أمره، فصار التكتم هنا وسيلة لجأ إليه الراهب لجوءاً واضطراراً، وإلا فبروز الشخصيات وكونها قدوات في المجتمع هو الأساس، ولذلك كان الرسل واضحين في الناس، خرجوا أمام الناس، ما قعد الرسول يدعو من طرفٍ خفي ولا أحد يعلم من هو الرسول، كان الرسول يظهر أمام الناس ويعلم الناس.(174/19)
استخدام الغلام للمعجزات التي أعطاه الله إياها في الدعوة وانتشار أمره
ثم قال: (وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص) الأكمه: هو الذي ولد أعمى، والأبرص والبرص: مرض معروف (ويداوي الناس من سائر الأدواء) هنا الله عز وجل أعطى الغلام مقدرة على أن يشفي الأمراض بإذن الله، كما أن الله أعطى عيسى القدرة على إحياء الموتى بإذن الله، فأعطى الله الغلام القدرة على علاج المرضى وإبراء المرضى بإذن الله، فكيف استخدم الغلام هذه القدرات التي أعطاه الله عز وجل إياها؟ لقد انتشر بين الناس، يعالج هذا ويبرئ هذا بإذن الله، يزيل علة هذا، ويداوي هذا (ويداوي الناس من سائر الأدواء) كل الأمراض، فهل سيستخدم الغلام هذه القدرة في جلب الأموال، وفي تحصيل الفلوس من الناس على المداواة؟! لم يكن هذا إطلاقاً، وإنما سيستخدمها أجل وأعظم وأعلى وأغلى من قضية متاع الدنيا، سيستخدمها في إقناع الناس بالتوحيد وعرض العقيدة الصحيحة عليهم، هذه العملية- طبعاً القصة طويلة جداً، ولذلك سوف نقف بعد قليل حتى لا يطول الوقت، ونكمل إن شاء الله في وقت لاحق، لأن عرض القصة يطول بنا- هذه عملية المداواة ماذا سببت للغلام؟ أن ذاع صيته وشاع أمره بين الناس أليس كذلك؟ (فسمع به جليسٌ للملك كان قد عمي) أصابه العمى، فماذا فعل؟ (فأتاه بهدايا كثيرة) عند كلمة (فسمع به جليسٌ للملك) وقفةٌ بسيطة، ذيوع الدعوة وانتشار صيت الدعاة ومعرفة مصدر النور يؤدي إلى استقطاب الناس بشتى طبقاتهم ومستوياتهم، فعند ذلك يقتنع بالعقيدة الصحيحة الغني والفقير والأمير والحقير والصعلوك والعظيم، إذا ذاع أمر الدعوة، يقبل الناس عليها زرافاتٍ ووحداناً، صحيح أن هناك تفاوتاً في التقبل، فأهل الجنة أكثرهم الفقراء، وأول من يدخل الجنة الفقراء، فالفقراء يقبلون أكثر من الأغنياء، والمستضعفون يقبلون أكثر من الجبارين هذا معروف، لكن ذيوع الدعوة مهم حتى تستقطب الناس كافة (فسمع به جليسٌ للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال- الأعمى للغلام-: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني) كل الهدايا هذه لك أجمع إن أنت شفيتني (قال الغلام: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله عز وجل) هنا أمر ملفت للنظر، أن الغلام تجاهل أمر الهدايا تماماً، ولا كأنه يوجد هدايا، ولم يقل: أنا ما أريد أن أنتقل مباشرة للأمر المهم، كأن أمر الهدايا مسألة ما طرحت، فقضية الهدايا والأموال تافهة جداً مع أن فيها بريقاً وجاذبية، لكنه تجاهلها (قال: إني لا أشفي أحداً) ركز على المقطع المهم من الكلام الذي هو كلام الأعمى حين قال: (إن أنت شفيتني) ومعروف أن الشفاء بيد الله عز وجل {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] من أفعال الله عز وجل أنه يشفي أما الناس فلا يشفون، فركز الآن على خطأٍ في العقيدة وفي العبارة، وهذا يدلنا على وجوب تصحيح أخطاء الناس، العامة أحياناً لهم ألفاظ فيها عبارات خطأ، وتدخل أحياناً -أيها الإخوة- هذه العبارات التي نعلمها للأطفال إذا دققت النظر، تجد أشياء من هذه الأناشيد المتداولة، أذكر لكم مثالاً: مرةً خطر في ذهني لفظة مستخدمة جارية، فالولد الآن إذا لم يعرف الإجابة الصحيحة في الامتحان، أو لم يعرف هل يأخذ هذا أو هذا، أو جاءت أمه وقالت: تأخذ الذي بهذه اليد أو الذي في هذه اليد ماذا يعمل؟ عبارة مشهورة يقول: حادي بادي صح؟ وما هي حادي بادي، سيدي محمد البغدادي إلى آخر الكلام؟ فأنا مرة طرأت في ذهني قضية: من هو محمد البغدادي؟ هو ولي من أولياء الله، ولماذا يؤتى بذكره هنا في وقت التحير والواحد لا يعرف ماذا يختار؟ هل سيدي محمد البغدادي هو الذي يرشد الناس إلى الخير وإلى الأحسن؟! وهل هو شخصية وهمية أم حقيقة؟ هذا أكيد أنه مات وأن هذا كلام قديم، وعلى فرض أنه موجود، أليس هذا استعانة بالموتى في الاختيار، فنحن الآن نعلم الأطفال ونسكت عندهم على أشياء مخالفة للعقيدة ومخالفات صريحة.(174/20)
عدم أخذ الأجرة على الرقية لمصلحة الدعوة
ثم إن الغلام لما قال له الأعمى: (ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني) فهنا بدأ الغلام يصحح عبارة خطأ، يوجد شيء خطأ في العبارة، قال: (إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله عز وجل) فوجهه هنا إلى الشافي الحقيقي وهو الله عز وجل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك) وفي رواية: (لا شافي إلا أنت وحدك لا شريك لك) فهذا درس لمعاشر الأطباء اليوم الذين يذهب إليهم المرضى يجب أن يستقر في عقل الطبيب وأن يكون من الأشياء التي يضعها نصب عينيه، أول ما يأتيه المريض ويعطيه العلاج يوضح الطبيب للمريض من الشافي حقيقة ومن الذي يشفي وإني أنا الطبيب لا أملك شيئاً ولا أملك شفاءً وهذه مجرد أسباب قد تصيب وقد تخيب، وإذا أصابت وشفت، فإن الله هو الذي شفى وهذا الدواء سبب فقط لكن الفاعل الحقيقي الذي شفى هو الله عز وجل، وقس على ذلك من الأشياء الكثيرة التي يحتاج العامة إلى توجيههم فيها.
وفي إهمال الغلام لأمر الهدايا درسٌ عظيم في أن منهج الرسل في عرض الدعوة: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] الواحد يعرض الدين على الناس لا ليسألهم أجراً ويأخذ منهم مالاً، لا يعظهم لكي يأخذ منهم أجراً، فأجره على الله عز وجل، فهنا الغلام كان من الممكن أن يأخذ، ولأجل أنها رقية قد يقال: ما فيها حرج، لأنه يجوز أخذ المال على الرقية، فهذا قرأ عليه أو دعا له شفي، لكن الغلام هنا هدفه عظيم أعظم من ذلك، بل إنه إذا أخذ المال سقطت هيبته وتقل عظمة الشيء الذي يدعو إليه، لذلك ترى الناس الآن عندما يموت لهم شخص فمن البدع أنهم يستأجرون قارئ قرآن ليقرأ في العزاء، فيجلس الناس الآن وبعض الناس يخشع مع الآيات، فإذا انتهى القارئ، طلب الحساب، وأعطاه وحاسبه، فماذا يكون موقف الناس الآن؟ تذهب كل التأثرات بمجرد ما رأوا القارئ يأخذ الفلوس فيذهب كل شيء، لأن القضية مادية بحتة، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (أكثر منافقي أمتي قراؤها) حديثٌ صحيح.
(إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن به فشفاه الله عز وجل) قد يقول أحد: كيف أن الغلام يدخل من مدخل دنيوي؟ يقول: أنت إذا آمنت أدعو لك أن تشفى، ولم يقل له: عليك أن تؤمن بالله، فقط، فإذا آمن يقول له: تعال مادام أنك آمنت، لكنه قال: (إن آمنت بالله دعوت الله فشفاك) فهذا أسلوبٌ لا بأس فيه ولا حرج إن شاء الله، بل إن باباً من أبواب الزكاة: المؤلفة قلوبهم، فيُعطى بعض الناس من أموال الزكاة لكف شرهم أو استجلابهم إلى الإسلام، يعني: إذا كان الولد لا يصلي فإذا أعطيته فلوساً صلى، قد يقول أحد: لا تعطه فلوساً حتى لا يتعود فيصلي لأجل الفلوس، نقول له: لا.
أعطه الفلوس، وإذا صلى كافئه مكافأة مادية، لماذا؟ لأنه الآن صحيح أنه يندفع من أجل شيء مادي، لكنه غداً في المستقبل عندما يدخل في الصلاة أكثر وأكثر، ويستشعر فائدة الصلاة، ويستشعر عظمة الله عز وجل وهو يصلي ستزول القضية المادية ويصبح يصلي حتى لو لم تعطه شيئاً، فالخلاصة: لا بأس أن يكون المدخل على الناس لكي يدخلوا في الإسلام أو استجلابهم إلى الدين أو تقريبهم إليه أن يكون في البداية شيئاً مادياً، لكن يستمر الإنسان الصافي النقي بحيث أن الناس في الأخير لا يعتمدون على المادة فقط، لكنه بابٌ على أية حال من أبواب الإسلام وهو: المؤلفة قلوبهم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يدركون هذا الشهر، فيصومونه ويقومونه، ونسأله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من المقبولين، وأن يجعلنا وإياكم من التائبين، وأن يكثر ثوابنا ويعلي درجاتنا في الجنة.(174/21)
وضوح المنهج في الدعوة إلى الله عز وجل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كنا قد بدأنا -أيها الإخوة- في المرة الماضية بحديث أصحاب الأخدود وقصة ذلك الغلام المؤمن الذي سخره الله عز وجل فجعله سبباً لهداية الناس، ونحن نتابع -أيها الإخوة- معكم في هذه الليلة إن شاء الله هذه القصة وما نستطيع أن نعرج عليه من فوائد وعظات وحكم تؤخذ من هذه القصة العظيمة، وهذه السيرة الفذة لتلكم الأمة التي أراد الله عز وجل لها أن تهتدي إلى دين الله تعالى.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأتى الملك) وهذا الذي أتى هو الأعمى، وقد سبق أن ذكرنا مختصر القصة أن ملكاً كان في بلد، وكان له ساحر، فأراد الساحر غلاماً يعلمه السحر، فانتقى له غلاماً ذكياً فصار يعلمه، وكان راهب على طريق الغلام، فتعلم منه الإسلام ثم إن الله أجرى على يد الغلام معجزات منها: قتل الدابة وشفاء المرضى بإذن الله عز وجل حتى سمع به جليسٌ للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة، فعرض الغلام عليه الإسلام فأسلم هذا الرجل الجليس، ثم إن الله رد عليه بصره (فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟) استغرب الملك من هذا الأعمى الذي كان بالأمس لا يبصر واليوم يأتي ويجلس في المجلس يفتح ويرى: (فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي) يقول الجليس: ربي، وانظروا -أيها الإخوة- إلى هذا الوضوح في هذه الكلمة، قال: ربي، الوضوح هنا في الإجابة هو نتيجة طبيعية للوضوح في التلقي، لما كان تلقي هذا الجليس واضحاً بأن الله عز وجل هو الذي يشفي وهو الخالق، فكانت إجابته واضحة في سؤال الملك الذي قال له: (من رد عليك بصرك؟! قال: ربي) فإذاً أيها الإخوة ينبغي أن يكون تلقينا للإسلام فيه وضوح يجب أن تكون الفكرة واضحة، يجب أن يكون المنهج الذي يتربى عليه المسلمون واضحاً حتى تكون الإجابات على الشبهات والتساؤلات التي تطرح إجابات واضحة، أما إذا كان هناك غبش في الإسلام الذي يدرس طبعاً في طريقة عرض الإسلام، فإنه لن تكون هناك إجابات واضحة عن الشبهات والتساؤلات التي تطرح من قبل أعداء الإسلام (قال: ربي، قال: ولك ربٌ غيري؟!) هذا الملك الكافر الطاغية كان مستبداً، كان مدعياً الألوهية، فيقول بكل تبجح ووقاحة يقول: (ولك ربٌ غيري؟! قال الجليس: ربي وربك الله) وهذه النفسية -أيها الإخوة- التي تصل إلى حد ادعاء الألوهية من دون الله عز وجل ينبغي أن يتوقف عندها أهل الحق ليروا طبيعة هذه النفسية المماثلة لنفسية فرعون لعنه الله الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] نفس المنطق، وهذا هنا يقول: (ولك ربٌ غيري؟!) نفس المنطق ادعاء الألوهية وفي رواية الإمام أحمد بسياق مشابه، لكن في تفصيل أكثر لهذه النفسية يقول: (من رد عليك بصرك؟! قال: ربي، قال: أنا؟! قال: لا، قال: ولك ربٌ غيري؟! قال: نعم) انظر كيف يقول هذا: أنا؟! فيقول له: لا.
ربي وربك الله، فإذاً قد يصل الكفر في مرحلة من مراحله لدرجة أن يدعي أناسٌ الألوهية من دون الله، وقد يكون هذا الادعاء قولاً ولفظاً مثلما قال هذا، وقد يكون حكماً وواقعاً، فإذا كان هناك أناس يشرعون للناس من دون الله عز وجل، فهذا ادعاءٌ للألوهية من دون الله تعالى بالفعل، قد لا يكون واضحاً بالقول، ولكنه على أية حال منازعة لله عز وجل في حقٍ عظيمٍ من حقوق الألوهية، وهو التشريع.
(فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام) أُخذ هذا الجليس، فصُب عليه العذاب حتى دل على الغلام (فجيء بالغلام) وهنا هذا الطاغية لم يقتل الجليس مباشرةً، هو ينوي قتله كما سنرى، لكن ما قتله مباشرة؛ لأنه أراد أن يعرف من وراءه، ومن أين أتى بهذا الكلام استقصاء لكل من يحمل العقيدة الصحيحة.
(فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل؟!).(174/22)
الطغاة يستميلون أهل الحق إما بالترغيب أو الترهيب
انظر إلى هذه العبارة العجيبة أولاً: استهلت بكلمة عاطفية، (أي بني)، يريد هذا الطاغية أن يستجلب الغلام ويستميله، فيأتي له بهذه العبارة أو بهذه الكلمة التي فيها نوع من العطف -أي بني- وهذا ليس أبوه، لا أبوة نسب، ولا أبوة تربية أو تعليم، فهذه الألفاظ المعسولة التي تستخدم في استمالة أهل الحق لعلهم يرجعون عن حقهم، (أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل).
فإذاً هنا هذا الطاغية ينسب إبراء الأكمة والأبرص إلى السحر لماذا؟ لأنه يريد أن يُعمي الحقائق ويُضيع هذه المبادئ التي استقرت في نفس الغلام، يريد أن يحرف الطريق ويقول للغلام: إن هذا الإبراء الذي أنت تفعله ليس من عند الله، وإنما هو بسبب السحر، يقول: بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، إلى هذه الدرجة وصل بك السحر، أي: كأنه من باب الإعجاب، ولكن أهل الباطل دائماً يريدون أن يفسروا الحق بأي شيء باطل دون الحق.
ولذلك بماذا فسر أنصار قريش القرآن؟ القرآن المعجز الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بماذا فسروه؟ قالوا: ساحر، كاهن، شاعر، مجنون، أي سبب، المهم إلا أن يكون القرآن من عند الله، فهم دائماً يريدون أن يفسروا الحق ويعزوا الحق إلى أي شيء آخر، إلا المصدر الصحيح للحق.
وكأن هذا الرجل يريد أن يقول لهذا الغلام: إن عندك قدرة ذاتية تشفي بها المرض، يريد أن يثير في نفس الغلام نوعاً من التكبر والغطرسة، ويصرف هذا الغلام عن السبب الحقيقي في الشفاء، لكن أنى له ذلك، وقد استقر في نفس الغلام أن الشفاء من عند الله، قال: فقال: (إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله).
هنا يأتي الرد من الغلام على هذه الشبهة والفرية، فالغلام ما سكت، بل قال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله، فرد الشفاء إلى الشافي وهو الله عز وجل، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث: (اللهم رب الناس أذهب البأس، اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت) وفي رواية: (لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر بلاءً ولا سقماً) هذا الدعاء الذي يدعى به للمريض، يدعى به لمن كان به مرض.
فإذاً: الشافي هو الله عز وجل: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] ولقد كان هذا الغلام -أيها الإخوة! - له أفعال كثيرة، وجهود كبيرة حتى إن هذا الملك سمع بها، فقال: تفعل وتفعل، أي: تفعل هذه الأشياء، فقد كان يسمع عن أخبار هذا الغلام، (إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب).(174/23)
بداية الابتلاء الحقيقي
هنا أيها الإخوة! تأتي نقطة هامة، وهي: صفة البشرية التي هي ملازمة لكل إنسان، فالإنسان بشر، والبشر من صفاتهم أنهم ضعفاء: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28] في مراحل ضعف، وهناك حدٌ معين يصل إليه الإنسان ولا يستطيع أن يتحمل أكثر منه.
هذا الغلام صغير ماذا يستطيع أن يقف أمام هذه القوة الباطشة والتعذيب الكبير، وإلى أي درجة يستطيع أن يتحمل؟ لا يستطيع أن يتحمل كثيراً، لأنه بشر، صحيح أن الراهب كان قد أوصاه، قال له: فإن ابتليت فلا تدل عليَّ، هذا صحيح، والغلام يودّ ألا يخبر عن الراهب، لأنه يعلم بأنه إذا أخبر عنه فإن الراهب سيقتل.
لكن أمام هذا التعذيب، ما استطاع أن يصمد، وليست خيانة، فما أخبر به على سبيل أن يُوصل إلى ذلك الرجل فيقتل، لا، لكن ما استطاع أن يتحمل أكثر من ذلك، لأنه بشر!! إذاً: الناس -أيها الإخوة! - يعذرون إذا سلط عليهم شيءٌ أكثر من طاقتهم فلابد أن نعذرهم فيما يتعرضون له، وهذا الاعتراف الذي أدلى به الغلام لا يحط من قدره، لا يأتي أحد يقول: إن هذا الغلام انتهى وسقط الآن، ما دام أنه اعترف على الراهب، إذاً صار ليس له قيمة، لا تبقى له قيمته، بل تبقى له شخصيته، وتبقى له جهوده الكبيرة جداً، والتي لم تنتهِ بعد، فما سيأتي أعظم مما مضى، وما سيأتي بعد الاعتراف أعظم مما قبله.
(فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى) فعلم بأن هذا هو مصدر العقيدة الصحيحة، (فدعا بالمنشار فوضع المنشار على مفرق رأسه فشقه بالمنشار حتى وقع شقاه) وهو صامد لم يتزحزح ولم يتراجع، ولم يتخل عن هذه العقيدة التي اعتقدها واستقرت في قلبه، (ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه).
هذا الجليس كم له منذ أن أسلم؟ هنا العجب أيها الإخوة! شخص كافر يعرض عليه الإسلام غلامٌ فلما تبين له الحق اعتنقه، وجاء في اليوم الثاني وجلس وهو مسلم، ثم عذب حتى دل على الغلام، وأتي بالغلام حتى دل على الراهب، وأتي بالراهب فشق نصفان، أمام هذا الجليس، أي: أن مدة إسلام الجليس قليلة وقتل صابراً محتسباً.
فالشاهد من الكلام أن العقيدة الصحيحة إذا استقرت في النفوس، فإنها لا تحتاج إلى فترة طويلة جداً حتى تتصف بصفة الثبوت، بل إنها قد تتصف بصفة الثبات إذا توفرت فيها الشروط، فاستقر الإيمان في سويداء القلب، ولذلك ورد في السيرة النبوية أن رجلاً كافراً أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأسلم والرسول صلى الله عليه وسلم في معركة، أسلم ودخل الإسلام فكان أول واجب أن يقاتل، لأنه في وقت جهاد، فدخل المعركة فقاتل وقتل وهو ما سجد لله سجدة واحدة، يدخل في الإسلام ثم يقتل في لحظات! يقتل على هذا الدين، صابراً على هذا الدين، لأن الإسلام -أيها الإخوة! - لما دخلت العقيدة في هذه القلوب ما كان دخولاً بارداً.
وإنما كان دخولاً حاراً بأدلة وإثباتات وبراهين نابعة من الفطرة، فإذاً كثيرٌ من المسلمين اليوم لا يثبتون مع أنهم صاروا مسلمين أربعين سنة، أو ثلاثين سنة، أو عشرين سنة، لا يثبتون، يزل أمام الشهوات والأهواء، وربما يعتقد عقائد فاسدة، مع أنه صارت له ثلاثون أو عشرون سنة مسلماً، وهذا الآن رجل أمامنا ما صار له إلا أيام حين اعتنق الإسلام يرى أمامه رجل يشق نصفين، ويعلم أنه سيلاقي نفس المصير، ومع ذلك يثبت.(174/24)
السر في قتل الغلام بطريقة أخرى
ثم جيء بالغلام، لماذا أخر الغلام يا ترى؟ لماذا لم يُقتل الغلام في البداية؟ لعل هذا الطاغية أراد أن يرى الغلام بعينيه مصرع الاثنين، مصرع الراهب ثم مصرع الجليس، لعله إذا رأى بعينيه مصرع اثنين أمامه وهو صغير فقد يتراجع، أليس كذلك؟ فلذلك أخر الغلام للنهاية، (ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه)، وكلمة نفر: أي: جماعة من الناس، وهذه من الكلمات في اللغة العربية التي لا واحد لها إلا من لفظها، يعني: كلمة نفر جمع ليس لها مفرد.
إفهناك كلمات في اللغة العربية مفرد ليس لها جمع، أو جمع ليس له مفرد، هذه منها (فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه)، هذا الملك دفع الغلام إلى نفرٍ -مجموعة من الجنود- من أصحابه، فقال: (اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا) سمى لهم جبلاً معيناً مرتفعاً (فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه) خذوه الآن إلى الجبل واصعدوا الجبل، في قمة الجبل اعرضوا عليه الرجوع فإن رجع عن دينه وإلا فألقوه من فوق الجبل.
إذاً: لماذا لم يُقتل الغلام بنفس الطريقة التي قتل بها من قبله؟ لماذا لم يُنشر الغلام بالمنشار وإنما أعطي إلى هؤلاء الجنود ليذهبوا به إلى الجبل ويطرحوه من فوق الجبل؟ الذي يفكر في هذه النقطة يجد أن هناك أسباباً: منها: أن هذا الغلام الآن بعدما صار يداوي الناس من الأمراض، صارت له شعبية كبيرة بين الناس، فإذاً ليس من مصلحة هذا الطاغية في هذه الحالة أن يُقتل الغلام هذه القتلة وإنما يكون هنا من المصلحة إن صحت تسميتها بهذا الاسم أن يُذهب به إلى مكان بعيد ويقتل قتلة يظن الناس أنها طبيعية، فقد ذهب يتمشى وانزلق من فوق الجبل ومات.
كذلك أن الطاغية أراد من هذا الغلام أن يكسبه إلى صفه، يريد أن يبقيه حتى آخر لحظة لعله يرجع؛ لأن الغلام عنده قدرات متميزة، ومن مصلحة هذا الطاغية أن يكسب هذا الرجل صاحب القدرات إلى صفه، فهو يريد أن يعطيه فرصة أكبر، اذهبوا به إلى جبل كذا ثم صعدوا به الجبل وهذا يأخذ وقتاً، ثم من فوق الجبل هددوه، لعله في طريق الذهاب وصعود الجبل في هذه الفترة قد يراجع نفسه، وقد يعود إلى ما يريده ذلك الكافر.
كذلك إذا نُشر الغلام بالمنشار فإن هذه قتلة سيستبشعها الناس لماذا؟ لأنه غلام صغير وينشر بالمنشار؟! هذه بشعة تثير الناس لذلك لا بد من إحضار وسيلة غير مستبشعة، تردى من جبل، سقط من جبل، كأنها تبدو بغير فعل فاعل، (ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى).
فالمهم أن هؤلاء الجنود أخذوه فذهبوا به وصعدوا به الجبل، فوقفوا الآن على قمة الجبل وهذا الغلام يُساوم على عقيدته قالوا له: ارجع عن دينك فما رجع عن دينه، فالآن سيطرحوه بالتأكيد أنهم سيلقوه، ماذا يملك هذا الغلام الأعزل؟ لا قوة جسدية فهو واحد أمام هذا الجمع من الناس لا يملك شيئاً، عندما يقف المؤمن أعزل أمام عدد من الكفرة الطغاة ماذا يملك؟ لا يملك إلا اللجوء إلى الله عز وجل.(174/25)
أهمية لجوء الداعية إلى الله عند اشتداد الكرب
يجب أن يكون لجوء المؤمن إلى الله عز وجل دائماً في ساعات الشدة والمحنة والرخاء وفي جميع الأوقات يجب أن يكون اللجوء إلى الله عز وجل، وهنا يتجه هذا الغلام إلى السند الحقيقي، إلى ركنٍ شديد، لا يُوجد أشد منه، إلى المعتمد الأول والأخير وهو الله عز وجل، فيقول متوجهاً لربه عز وجل: (اللهم اكفنيهم بما شئت) يرفع ويدعو (اللهم اكفنيهم بما شئت) اللهم أنت تكفي من الشر فاكفني هؤلاء، كلمات معدودات، بالطريقة التي تريد وبما تشاء يا رب! اكفني هؤلاء الناس (فرجف بهم الجبل) هذه نتيجة الدعاء وهذه نتيجة اللجوء وصدق اللجوء إلى الله عز وجل (فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك) سبحان الله العظيم! قدرة الله عز وجل ليس لها حد، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو على كل شيء قدير، أناس على الجبل والغلام معهم فيرجف الجبل ويسقطوا كلهم إلا هو يسلم من السقوط، ويأتي يمشي فيدخل مرة أخرى، هذه النتيجة لصدق التوجه إلى الله عز وجل.
أيها الإخوة! وهنا درسٌ عظيم، أن الناس إذا عجزوا عن الوسائل فلا ييأسوا من رحمة الله، لأن الإنسان قد تنحل المشكلة الكبيرة عنده بدعاء.
لذلك تسمع كثيراً من القصص واحد يقول انتهينا، كل الأطباء عجزوا وما بقي أمل مطلقاً، الرجل على فراش الموت وقال الأطباء: ودعوا صاحبكم انتهت المسألة، ثم بعد ذلك بقدرة الله عز وجل يشفى هذا الرجل ويقوم من فراشه وسط ذهول الأطباء، كيف حدث هذا؟! إنها قدرة الله عز وجل، ورحمة الله تعالى المحيطة بكل شيء، والله لا يعجزه شيء، لا يقف أمامه أحد، هذه الجزئية من جزئيات العقيدة كم هي ضعيفة اليوم في نفوس كثيرٍ من المسلمين، وإلا لو أن الناس آمنوا بأن الله على كل شيءٍ قدير لما أذلهم ولما استضعفهم أحد.
وجاء يمشي إلى الملك فلماذا لم يهرب؟ ويقول: هذه فرصة ما دام أني نجوت أنفذ بجلدي، لماذا جاء يمشي إلى الملك؟ لأن الغلام لديه مهمة، عنده رسالة لم تنته بعد، لا بد من عرض الإيمان على الناس ولا بد من إيضاح الحق، فقد يتراجع هذا الطاغية عندما يرى قدرة الله ويسمع بها، فقد يؤمن، (وجاء يمشي إلى الملك).
لو أن واحداً فينا مكان هذا كان قال: فرصة أني الآن أنجو (وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله) علماً أن هذا الطاغية لا يريد أن ينسب الهزيمة إلى نفسه؛ لأنه واضح أنه صار فيه هزيمة، فما قال: ما فعل أصحابي أو ما فعل جنودي، ولكن قال: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله فقط، هنا ما أبرز الغلام عضلات وقال: أنا فعلت طريقة وعملت حيلة فالمهم أني تخلصت منهم وجئت وأنا الآن أتحداك، لا، لم يكن هذا، إن تواضع المؤمن لا يزال ملازماً له حتى في لحظات الانتصار، وهو متواضع لا يفتخر بقوته وليس له من الأمر شيء، قال: (كفانيهم الله) الله عز وجل هو الذي يكفي، الله عز وجل هو الذي كفاني هؤلاء (فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور -سفينة- وتوسطوا به البحر -اذهبوا إلى الوسط حتى لا يصير أي احتمال للنجاة- فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه حتى يغرق ويموت) فأخذوه ونفذوا الأمر فذهبوا به في وسط البحر، كل ما حوله ماء، وعرضوا عليه أن يرجع عن دينه فأبى فأرادوا أن يقذفوه مرة أخرى.
ما حيلة الغلام؟ لا شيء، ماذا يستطيع أن يفعل؟ لا شيء، هل هناك وسيلة للنجاة؟ لا، فالبحر من جميع الجهات (فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت) نفس الدعاء: (اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك)، وهنا قدرة الله عز وجل تتراءى مرة أخرى، وتظهر عياناً، تنقلب السفينة ويغرقوا كلهم ويأتي هذا الغلام يمشي مرة أخرى إلى الملك، وهذه هي معجزة طبعاً الذي هو المشي على الماء، لأنه لا بد أن يأتي من وسط البحر على الماء وهذا الغلام صارت له أكثر من خارقة من الخوارق، وهذه من أعظمها، وجاء يمشي إلى الملك، مرة أخرى ما انتهت الرسالة، لم تنته المهمة، لا بد من إكمال الطريق، وهنا أيها الإخوة! يلفت نظرنا شيء، كيف أن الغلام الآن يريد أن ينجو ويقول: اللهم اكفنيهم بما شئت، فلما ينجو يرجع مرة أخرى ويأتي إلى مصدر الشر الذي يريد أن يهلكه، أي: كيف يأتي موقف يدعو فيه بالخلاص وبعد ذلك يأتي مرة أخرى إلى مصدر الخطر؟ هنا نتعلم درساً مهماً في متى يُلقي الإنسان بنفسه في المهالك، ومتى يحاول أن يتخلص من المهالك.
فعندما كان فوق الجبل وفي وسط البحر، إذا قتل الآن هل حصلت الفائدة الكبرى؟ لا.
فإذاً هو يريد أن ينجو لأن الرسالة ما انتهت بعد، فلذلك دعا الله بالخلاص، ولكن عاد للمهلكة مرة أخرى وجاء يمشي إلى الملك وهذه فيها مهلكة؛ لأن الغلام يعلم أنه سيعيد الكرة وقد ينجح الملك ويقتله، لكنه جاء وأوصل نفسه إلى مصدر الخطر مرة أخرى، لأي شيء؟ هنا في هذه الحالة المسألة تستاهل أنه يرجع إلى الملك؛ لأن القضية ما انتهت، ما زال يعرض الدعوة، فهناك خطٌ بين الشجاعة والتهور، فهناك حالة من الحالات يكون إلقاؤك بنفسك في هذا المكان تهوراً ولا تستفيد منه أي شيء.
وهناك حالة أخرى يكون إتيانك إلى الخطر شجاعة، فالثبات على الحق في أوقات المحنة شجاعة، والثبات أمام الطغيان شجاعة، فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أعظم الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، ورجلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ فأمره ونهاه فقتله) فهذان الرجلان أفضل الشهداء عند الله عز وجل.(174/26)
التركيز على قضية توحيد الألوهية
ثم قال: (وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ماذا فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله) تتردد العبارة مرة أخرى، لاحظوا أيها الإخوة! انتقال العبارات -كفانيهم الله- مرة ثانية، أي: يزيد ويعيد في العبارات لعل هذا الرجل يهتدي، وأنت إذا استعرضت كلام الغلام في القصة تجد أنه متركز تركزاً عجيباً وإصراراً كبيراً على عرض قضية الألوهية فتراه مثلاً يقول: (إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله) (إن أنت آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك) (ربي وربك الله) (اللهم اكفنيهم بما شئت) (كفانيهم الله) (بسم الله رب الغلام) كما سيأتي بعد قليل.
فكل العبارات تدور حول القضية الأساسية في الدعوة وهي عرض حقيقة الألوهية، فلذلك كل عبارات الغلام تدور حول هذه المسألة، عرض حقيقة الألوهية التي ضاعت في وسط هؤلاء الناس، إذاً انتقاء العبارات في التركيز على القضية التي يحتاج إليها الناس مهمة، فيجعلها الإنسان هي المحور الذي يدور حوله، يجعل الداعية المسألة الأساسية التي يريد أن يدعو الناس إليها هي المحور الذي يدور حوله، فتؤثر هذه القضية في عباراته، وتنتقى الكلمات المناسبة لخدمة هذا الغرض.(174/27)
التضحية من أجل مصلحة دعوة الناس إلى الدين
الآن الملك قد عجز، وهو في لحظات تحير، ويفكر ماذا يفعل؟! وهنا يقول الغلام: (فقال الغلام للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيدٍ واحد إلخ) هنا عبارة عجيبة، إنه غلام وحيد أمام رجل جبار باطش عنده من القوة شيء كبير يقول له في تحدٍ: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ماذا؟ هل قال حتى تفعل ما أخبرك به؟! حتى تتبع الطريقة التي سأشرحها لك؟! لا، وإنما قال: (حتى تفعل ما آمرك به).
انظروا فالقضية ليست سهلة، غلام يقول لهذا الطاغية وهو الكبير: حتى تفعل ما آمرك به، حتى تفعل ما أمليه عليك، هنا إظهار عزة الإسلام وعزة المسلم أمام الطغيان من القضايا المهمة.
ولذلك يفرض الحل فرضاً على هيئة أمر، وربما يكون هذا هو الأمر الوحيد الذي تلقاه الملك طيلة حياته، فلا يتصور أن يأتي أحد يأمر هذا الطاغية، لكن هنا يحصل! إنه إظهار عزة المسلم وإثبات عجز ذلك الطاغية وأنه يتقلى الأوامر من واحد مسلم: (قال: ما هو) فالآن هذا يريد أن يتخلص بأي طريقة: (قال: تجمع الناس في صعيدٍ واحد -الصعيد: هي الأرض الخالية الفضاء البارزة- وتصلبني على جذعٍ -الصلب: هو ربط الإنسان الذي يراد قتله، ربطه على شيء، يسمى صلباً، وتصلبني يعني: تشد صلبي أي: ظهري على جذع فرع من فروع النخلة- ثم خذ سهماً من كنانتي -والكنانة: هي التي تجمع فيها السهام- ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام).
إذاً تجمع الناس في صعيدٍ واحد فما هو الهدف؟ إن الطغاة قد يغيرون الحقائق، ولو تمت هذه المعركة، أو هذا المشهد، في وسط منغلق لم يره أحد من الناس فإنه بمقدور هذا الطاغية أن يقلب الحقائق، ويصور المسألة بأي عبارة يريدها بعد ذلك وقد يصدقه الغافلون.
لكنه أراد هذا الغلام أن تعرض القضية أمام الناس كلهم، أن تعرض هذه المسألة أمام جميع الناس على صعيدٍ واحد يجمع الناس كلهم حتى لا يكون هناك مجال لقلب الحقائق بعد ذلك (وتصلبني على جذع) وهو منظر مثير لشفقة الناس غلام مصلوب على جذع (ثم خذ سهماً من كنانتي) انظر لهذا الغلام الذي يريد أن يكون للملك ولا (1%) من الأسباب أي: ليس عنده ولا شيء من الوسائل التي تقتل، فالسهم سهم الغلام، ومن كنانة الغلام، ثم إن هذا الغلام يعلمه فيقول له: (ثم ضع السهم في كبد القوس) علماً بأن السهم أصلاً إذا أريد أن يطلق أين يوضع؟ في كبد القوس، وهو شيء طبيعي أن يوضع في كبد القوس، لكن هذا الغلام يريد أن يقول لذلك الرجل: ليس لك أي شيء بالموضوع أبداً، فالسهم من عندي وكنانتي، وتفعل الشيء الذي أقوله لك، وتضع السهم في كبد القوس وأنا الآن أرشدك على كل شيء حتى الأشياء المعروفة أنا أعلمك إياها (وتضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارمِ) طبيعي أن يرمي لكن الغلام، سبحان الله!! ومع ذلك يقول: (ثم ارم) أي: حتى التصرف الطبيعي المتوقع حدوثه، أو ليس هناك غيره فلا بد أن يرمي، ثم يقول له: (ثم ارمِ فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني).
فجمع الناس في صعيدٍ واحد، فما كان أمام هذا الطاغية إلا هذا الحل؛ لأنه لو ترك الغلام يدعو بعد فترة المجتمع كله سينقلب إلى مجتمع مسلم، لو أنه استمر في عملية اختراع طرق القتل من عنده سيفشل مثلما فشلت الطرق التي سبقت وسيزداد الناس إعجاباً بالغلام وانجذاباً إليه، وتأثراً به.(174/28)
قوة الإيمان وعمقه في نفوس المؤمنين والصبر على البلاء من أجله
إذاً ما هو الحل الأخير؟ الحل الأخير هو قتل الغلام بالطريقة التي يقولها الغلام، ولذلك اضطر الطاغية أن يلجأ لهذا الحل، يريد أن يقتله بأي وسيلة؛ لأن بقاء هذا الغلام مصدر خطرٍ على هذا الجبار المتكبر، (فجمع الناس في صعيدٍ واحد وصلبه على جذعٍ وأخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس -وتر القوس- ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه) وقع السهم وقع في صدغ الغلام، والصدغ منطقة بين العين وشحمة الأذن، فهل مات الغلام؟ في الرواية تقول: (فوضع يده في صدغه فمات)، يعني سبحان الله! حتى موت هذا الغلام ما جاء إلا بعد ماذا؟ ليس مجرد إطلاق ذلك السهم وإنما (وضع الغلام يده في صدغه فمات) أي: يستبين إلى آخر لحظة أن ذلك الرجل ليس له من الأمر شيء مطلقاً.
وأنها كلها حصلت بإرادة الله عز وجل، (فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات الغلام)، مات الغلام فما هي النتيجة، وما هو الأثر على هؤلاء الناس المتجمعين كلهم الذين عرفوا بأن الغلام ما استطاع هذا الطاغية أن يقتله أبداً، وما قتل إلا بعدما نُفذ كلامه حرفياً ومن ضمن هذه الخطوات قول الملك وهو يرمي السهم: بسم الله رب الغلام، فماذا عرف الناس؟ عرفوا أن هناك فعلاً رباً للغلام هو الذي لما شاء أن الغلام لا يقتل فما قُتل، ولما شاء أن يقتل الغلام قتل فإذاً هناك محيي، وهناك مميت، وهو الله عز وجل فصارت القضية واضحة جداً الآن وليس فيها خفاء، وأثر موت الغلام على الحق، دفع الغلام نفسه ثمناً لأي شيء؟ لكي يؤمن الناس، ثمناً للدعوة إلى الله.
إن التضحية بالنفس أمام الناس مؤثرة جداً، لأن الناس سيقولون ما قتل هذا نفسه ولا أتى بنفسه إلى موضع الهلكة إلا وهو على الحق، ولما تبينوا بأنفسهم أن هناك رباً يُميت ويدفع الضر آمنوا (فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام ثلاث مرات).
دلالة وتأكيداً على أصالة وعمق الإيمان في نفوسهم، أعلنوها واضحةً أمام الجميع، آمنا برب الغلام، (فأُتِيَ الملك -أتاه أعوان السوء- فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس) وفي رواية الترمذي التي سبق أن تكلمنا عليها: (قالوا له: أجزعت أن خالفك ثلاثة فهذا العالم كلهم قد خالفوك).
وهنا ما هو الحل؟ فالناس آمنوا أي: الشيء الذي كان محذوراً قد وقع، والذي كان خائفاً منه قد حصل، فما هو الحل؟ لم يبق إلا الحل البشع أو الحل الجنوني والحل الانتقامي وهو القتل الجماعي، الإبادة الجماعية: (فأمر بأخدود بأفواه السكك -الطرقات- فخدت) والأخدود: هو الشق في الأرض.
(وأضرم فيها النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم ففعلوا) ففعلوا حتى جعل الناس يتدافعون في الخنادق المضرمة فيها النيران، لأن الإيمان صار إيماناً قوياً جداً، ما أثَّر لهيب النار ألقوا أنفسهم بالنار لكي يحصلوا على مرضاة الله عز وجل، في سبيل الله الذي آمنوا به: (حتى جاءت امرأة ومعها صبيٌ لها فتقاعست أن تقع فيها) معها صبي وفي رواية الإمام أحمد (فجاءت امرأة بابنٍ لها ترضعه) أي: هذا الصبي رضيع صغير، والطفل الذي يرضع هل من عادته أن يتكلم بالكلام الواضح؟ لا! (حتى جاءت امرأة ومعها صبيٌ لها فتقاعست أن تقع فيها) لأن الله عز وجل خلق في المرأة عاطفة الأمومة التي ترحم بها ولدها الصغير، ولولا هذه الأمومة لما أرضعت امرأة ولداً، ولما عطفت عليه ولما ضمته إلى صدرها.
فالله خلق في هذه الأم العاطفة نحو الولد، والمرأة الآن مؤمنة ومحتسبة وصابرة، وليس عندها إشكال أن ترمي نفسها في النار، وتموت من أجل العقيدة؛ لكن جذبها شيء ومانع في نفسها، وهو هذا الغلام الصبي الصغير الذي معها، كيف تفعل به؟ أي: رحمته وأشفقت عليه أن يحترق بالنار، فتقاعست أي: ترددت أن تقع فيها من أجل الغلام لا من أجلها هي (فقال لها الغلام: يا أمه! اصبري فإنك على الحق) أنطق الله هذا الصبي الرضيع (فقال: يا أمه! اصبري فإنك على الحق فرمت نفسها).
هذا المقطع فيه فائدة كبيرة وهي أن الناس إذا اعتنقوا العقيدة الصحيحة فإن الله يثبتهم بأشياء لا تخطر ببالهم، أي: أن الناس إذا تجردوا لله وعرفوا الحق وأرادوا أن يثبتوا عليه فإن الله يثبتهم بأشياء من عنده ليست من عندهم، يمدهم الله بطاقات جديدة، هذه المرأة ما كانت تتوقع أن ينطق الغلام بهذه العبارة المثبتة (يا أمه! اصبري فإنك على الحق) من الذي أنطقه؟ إنه الله عز وجل فإذاً: جاءت وسائل التثبيت من عند الله.(174/29)
إذا أراد الله شيئاً غير ما يريده الكفار لم تنفع خططهم
إذاً هذه القصة أيها الإخوة! التي عرضنا تفاصيلها والتي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم جرى فيها قدر الله العجيب المذهل! هذا الغلام الذي أرادوا منه أن يكون وسيلة للغواية، أرادوا أن يكون منه ساحر المستقبل، أرادوا منه في البداية أن يكون ساحراً هذه خططهم، وهذه أساليبهم، وهذه نواياهم وإراداتهم، وهم يريدون شيئاً وأراد الله شيئاً آخر، هم يريدون أن يجعلوا الغلام كافراً، أرادوا أن يجعلوا منه وسيلة للضلال وإغواء الناس، وأراد الله شيئاً آخر أن يحاربهم بنفس السلاح الذي أرادوا أن يحاربوه به، وعكس مقصودهم عليهم، منقوضاً، فجعل هذا الغلام بدلاً من أن يكون وسيلة غواية صار وسيلة هِداية، بدلاً من أن يكون وسيلة إضلال صار وسيلة إصلاح وتعليم للناس.
فإذاً أعداء الإسلام يخططون ويريدون، ولكن إذا أراد الله شيئاً آخر لا تنفع خططهم أبداً، بل إن الله قد يحاربهم بنفس السلاح الذي يحاربونه به، وإذا أراد الله أن يرد سهام هؤلاء ردها في نحورهم، إذا سلطوها على عباد الله المؤمنين، فإن الله قادرٌ على أن يرجعها إلى نحورهم.(174/30)
العاقبة والانتصار الحقيقي للمؤمنين
ثم إن لـ سيد رحمه الله تعالى كلاماً جميلاً ينبغي أن نذكره يقول: في حساب الأرض تبدو هذه الخاتمة أسيفة أليمة، أي: في الحسابات الأرضية الآن تبدو هذه النهاية نهاية مؤسفة، أي: أن الناس كلهم قتلوا إبادة جماعية، وتذهب الفئة المؤمنة مع آلام الاحتراق في الأخاديد، بينما الفئة الباغية قاعدة تتفرج على المؤمنين وهم يحترقون: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:4 - 5] ذات الاشتعال {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} [البروج:6] هؤلاء الطغاة يتفرجون {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:7].
ويتلذذون بصرخات المؤمنين وهم يحترقون، عندما يكون الضلال أو الكفرة إذا وصلوا إلى مراحل أي: يصبح تعذيب الناس فيه لذة لهم، ولكن صحيح أن في حساب الدنيا هذه النتيجة مؤسفة وأليمة، وقد يعتبرها بعض الناس هزيمة، أي: قُتل الناس وما استفدنا شيئاً، لكن عند الله عز وجل في حساب الآخرة النتيجة أكبر من ذلك بكثير، النتيجة عظيمة جداً كيف؟ الآن ما هو الهدف من خلق الناس؟ إنه عبادة الله، وما هو الهدف من الدعوة إلى الله؟ أن يدخل الناس في دين الله، فهل الغرض من الدعوة والعبادة الانتصار؟ لا.
إن الانتصار هو -لا شك- هدف يسعى إليه كل مسلم، ولكن هل هو الهدف الرئيسي الذي إذا لم يتحقق فشلنا وانتهت المسألة هكذا بدون ثمن؟ لا.
إن النتيجة قد تحققت، فما هو الهدف من خلق الناس؟ إنه عبادة الله، وما هو الهدف من الدعوة إلى الله؟ إنه دخول الناس في الدين، أليسوا قد دخلوا في دين الله، أليسوا قد عبدوا الله عز وجل؟ أليسوا قد صبروا على دين الله، أليسوا قد قدموا أنفسهم في سبيل الله عز وجل؟ نعم.
إذاً هذا هو الانتصار الحقيقي، الانتصار الحقيقي: أن يدخل الناس في الدين فهذا هو الهدف، لا نريد أكثر من هذا، ليس هناك أعظم من أن يدخل الناس في دين الله، وبعد ذلك انتصر المسلمون أو لم ينتصروا هذه قضية أخرى، صحيح أنها هدف جميل، وصحيح أنها مطمح طيب أن يطمع إليه المسلمون، لكن لو لم يحصل هل يعتبر أننا فشلنا وانتهينا وصارت جهودنا هباءً منثوراً؟! لا.
الانتصار الحقيقي: هو انتصار الإيمان على الفتنة والطغيان، وليس كل الانتصار هو قضية الغلبة في الدنيا، لا، الانتصار الحقيقي: هو الفرق بين قول الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] وبين: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196 - 197].
هذه المسألة تحتاج إلى تفسير من أهل الإيمان: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] لا تحسبن أن القضية انتهت وهؤلاء ماتوا وفشلوا وراحت جهودهم هباءً منثوراً، والغلام والراهب والجليس والناس: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] هؤلاء الذين في الظاهر عندما انتصروا وأحرقوا كل المسلمين وأبادوهم إبادة جماعية ما هي حقيقة أمرهم؟(174/31)
ترك الاغترار بالكافرين
قال سبحانه وتعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196] هذا خطاب آخر سورة آل عمران للرسول صلى الله عليه وسلم ولكل مؤمن، لا يغرنك يا أيها المؤمن انتصار هؤلاء انتصاراً ظاهرياً، أو غلبتهم الغلبة الظاهرية، لا يغرنك تقلبهم وتحكمهم في مقاليد الأمور في البلاد، وما هو هذا؟ {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ} [آل عمران:197 - 198] ويقول الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ} [إبراهيم:42 - 43].
فإذاً رغم كل ما حدث فإن الدعوات التي سبقتنا انتهت نهايات كثيرة، وقد عرض القرآن نماذج لنهايات كثيرة انتهت فيها الدعوات، فقد عرض الله مثلاً مصارع الطغاة، وانتصار المؤمنين في قوم نوح وهود وصالح، وموسى لما غرق فرعون، فانتهى الطغاة وانتصر المؤمنون، والرسول صلى الله عليه وسلم هذا نموذج، نتيجة الجهود المباركة انتصر المؤمنون وهزم الكفرة، لكن كان لا بد من عرض صورة أخرى قد لا ينتصر فيها المؤمنون ولا يغلبون الكفرة، وتكون نهاية الغلبة للكفرة، فجاءت مثل هذه القصة؛ لتعرض هذا الأنموذج الذي يمكن أن يقع.
حتى لا يستغرب المؤمنون أبداً إذا ما حصل شيء من هذا القبيل، ويعرف الناس بأن الانتصار الحقيقي هو انتصار الإيمان، وهو أن يموت الناس على طاعة الله وعلى التوحيد.(174/32)
لابد من العمل للإسلام دون النظر إلى النتيجة
إذاً هذه المسألة تقودنا إلى نقطة، قبل النقطة الأخيرة في موضوعنا نقول: من وظيفة القرآن أن ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة والرسالة، قلوباً فيها القوة والتجرد لله عز وجل متجهة إلى الآخرة، ومن شروط الإعداد أن يستقر في هذه الأنفس أنه ليس هناك ثمن للدعوة مادي ودنيوي، وأن الناس عندما يعملون للإسلام وهم الدعاة إلى الله لا ينتظرون ثمناً دنيوياً حتى لو كان انتصاراً، لا ينتظرونه وإنما يعملون لله عز وجل، حتى لو ماتوا وهم في قهر، وهم تحت وطأة العذاب، فإنهم لا بد أن يعملوا؛ لأن الذي يعمل لكي يرى نتيجة العمل الآن في حياته بعد فترة طويلة من الزمن، إذا ما رأى النتيجة ماذا سيحدث؟ تثبيط وانهيار في المعنويات، لكن عندما يتربى الإنسان المسلم على أن لا يرى النتيجة أنه ليس من المهم أن يرى النتيجة، قد يراها وقد لا يراها، كثيرٌ من الدعاة الآن يدعون إلى الله عز وجل، قد يرون النتيجة، ويبزغ فجر الإسلام من جديد، وينتشر الإسلام في الأرض وينهزم كل الكفار، قد يرون هذا؛ لكن قد لا يرون هذا.
فإذاً نوع التربية وهدف التربية التي يتلقاها الإنسان المسلم، هو الذي يحدد ماذا سيكون موقفه في حال الهزيمة وفي حال الانتصار، فالغرض أيها الإخوة! إذاً: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] المهم أن نعمل، لو حصلت النتيجة الحمد لله، لو ما حصلت الحمد لله على كل حال، يموت الإنسان وهو مستريح أنه قد عمل للإسلام.(174/33)
المعركة بين المسلمين والكفار معركة عقيدة
ختاماً: يجب أن نعلم -أيها الإخوة- أن المعركة بين المسلمين والكفار هي أولاً وأخيراً معركة عقيدة، وإن تلبست بلبوسٍِ من أنواعٍ مختلفة، لكنها تبقى معركة عقيدة، قد يظن بعض الناس أن الخلاف بين المسلمين والكفار معركة اقتصادية، أو معركة عسكرية، أو معركة سياسية، لا، ولا شيء من هذا، المعركة حقيقةً بين المسلمين وأعدائهم هي معركة عقيدة وهذه قصة شاهد قوي جداً في هذا الموضوع، لأن الله يقول في سورة البروج: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:4 - 8].
أي: ما فعلوا هذا الكلام ولا هذا الإحراق ولا هذا التعذيب ولا هذا الاضطهاد! لماذا؟ ما هو السبب؟ {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] فقط، لماذا أحرقوهم؟ {إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
إذاً المعركة معركة عقيدة، وأعداء الإسلام يصورون أن المعركة ليست معركة عقيدة بل معركة مطامع دنيوية واقتصادية وسيطرة لكن الحقيقة أنها معركة عقيدة، إنهم لا يحاربوننا من أجل أشياء مادية فقط! بل يحاربوننا من أجل عقيدتنا، والذي يعرف هدف المعركة، يعرف كيف تسير الأمور.
أما الذي يُضَلَّلَ بالأشياء الكاذبة ويُذَرُّ الرماد في عينه، فإنه لا يعرف كيف يسير ولا يعرف النهاية الحقيقية للمعركة، إذاً لا بد أن نعمل لكي تنتصر العقيدة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم أيها الإخوة! من جنده وأتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا من أهل الحق السائرين على طريق الله تعالى، وأن يجعلنا من المجاهدين في سبيل الله، وأن يختم بالصالحات أعمالنا، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل لنا بلاغاً إلى خير، وأن يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأن يجعل عقيدتنا عقيدة سليمة، نحارب من أجلها، ونثبت عليها إلى يوم نلقاه عز وجل، والحمد لله أولاً وآخراً.(174/34)
المسلم بين الزهد والورع
القلب سريع التقلب، ولذلك يحتاج إلى ما يثبته ويصلحه، وهنالك وسائل لإصلاح القلوب مثل العبادات من صلاة، وصيام، وحج إلخ.
ومنها الورع المشروع على الفهم الصحيح السليم، وقد بين الشيخ أسباب الورع، وأقسامه، وذكر أمثلة له، كالورع في المال والورع في الكلام.
والوسيلة الثانية هي الزهد، فذكر الشيخ تعريفه وحدوده، وأقسامه، والأمور التي يُزهد فيها، والفرق بينه وبين الورع.
كما تحدث عن الوسيلة الثالثة وهي: التذكر، حيث ينقسم الناس فيها إلى ثلاثة أقسام.(175/1)
وسائل إصلاح القلوب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فيسرني أيها الإخوة! أن أرحب بكم في هذه الليلة، وموضوعنا فيها: (إصلاح القلوب) والحقيقة أن هذا الموضوع كبير وضخم، ولا يمكن أن يفي به الكلام في ساعة مثلاً، كما أنه يحتاج إلى إعداد، ويحتاج إلى بحث وتفكير، ولا شك أن القلب سريع التقلب:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب(175/2)
إصلاح القلب
إن الله عز وجل يثبت من يشاء من أصحاب القلوب، ويزيغ قلوب من يشاء سبحانه وتعالى، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) نظراً لأن تقلب القلب سريع جداً، وأنه يتقلب كما تقلب الريح الريشة في الأرض الفلاة، وهذا القلب يتغير كما يغلي القدر تحته النار، فيتصعد الماء من الأسفل إلى الأعلى ثم ينزل وهكذا، وذلك لأن القلب في غاية الحساسية، ولأن المؤثرات التي تؤثر في القلب كثيرة جداً، وهو سريع التقلب والتغير.
ولا شك أن إصلاح القلوب يعتمد على أمرين: الأول: جلب المصالح له، وتغذيته بالأمور النافعة.
ثانياً: درء المفاسد عنه وقطع الأمور المفسدة له.
فلا شك أن مما يصلح القلب مثلاً: العبادات، من الصلاة، والصيام، والزكاة، والصدقات، وقراءة القرآن، وذكر الله إلخ.
فهذه الأمور من المصلحات، وهي عبارة عن أغذية تغذي القلب، ولا شك أن من الأشياء التي يجب قطعها عن القلب حتى يصلح: أنواع المفسدات: كالكفر، والبدعة، والمعصية، والحسد، والغضب، والكبر، والعجب، ونحو ذلك.
فهذه الأشياء لا بد أن تقطع حتى يصلح القلب، وسنتحدث في هذه الليلة -ولا نستطيع أن نتحدث عن أكثر الأمور، ولكن سنتحدث- عن بعض ما يصلح القلب من الأمور التي لا بد من الأخذ بها، حتى يصلح هذه القلب، وعن بعض الأمور التي لا بد من إزالتها، أو على الأقل التخفيف منها ما أمكن ذلك حتى لا يفسد هذا القلب.(175/3)
الورع
وسنتحدث من ضمن ما نتحدث فيه عن الأمور التي تصلح القلب، من وسائل إصلاح القلوب، ومن المنازل المهمة التي لابد للعبد أن يأتيها حتى يصلح قلبه: الورع، والزهد، والتذكر، والتفكر، والحذر من مفسدات القلب، ككثرة الخلطة والتمني والتعلق بغير الله، والشبع، وكثرة النوم، وسنتحدث كذلك عن شيء يسير من ضرر الذنوب على القلوب، ومن أهمية الاعتناء بالخواطر والأفكار الذي هو باب مهم من أبواب إصلاح القلوب، وسنبتدئ الكلام عن الورع: الورع لا شك أنه من المطالب العظيمة التي لا بد منها لإصلاح القلوب.
من عمليات السعي في إصلاح القلوب أن يكون الإنسان ورعاً، والرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالتورع فقال: (وكن ورعاً تكن أعبد الناس).
والورع في اللغة: هو الكف والترك، وفي الشرع: ترك كل شبهة، أو ترك ما حاك في نفسك، هذا هو الورع، ويعرفه شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: الورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة، فأي شيء تخاف وتخشى أن يكون له أضرار في الآخرة؛ فتركه هو الورع، ولا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس، هذه منزلة من المنازل، لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به خوفاً مما به بأس، خوفاً من أن تتدرج به الحال حتى يقع في أشياء فيها ضرر فعلاً.(175/4)
الورع المشروع
والورع المشروع هو: اتقاء ما يخاف أن يكون سبباً للذنب والعذاب مع عدم المعارض الراجح -كما ذكر في موضع آخر شيخ الإسلام رحمه الله في تعريفه- وذُكر أيضاً من معاني الورع: فعل المستحب الذي يشبه الواجب، وترك المكروهات التي تشبه الحرام، فهنالك أمور واجبة، وأمور مباحة، وأمور محرمة، وبين الواجب والمباح يوجد المستحب، وبين المباح والمحرم يوجد المكروه، هذه الأشياء البينية ليست على درجات واضحة في القطع، بحيث إنك في جميع الحالات تقول هذا مكروه (100%) لا يمكن أن يكون حراماً مثلاً أبداً في جميع الأشياء.
بعض الأشياء تأتي فيها نصوص وفيها نوع من التباين، بحيث إنك تتردد في هذا الأمر هل هو مكروه أو محرم؟ وفي بعض المسائل تأتي أشياء ونصوص تقول لك بأن هذا الأمر يكاد يصل إلى الوجوب، هب مثلاً أنك أخذت موضوع السترة، ودرست النصوص الواردة في السترة، فتبين لك أن السترة فيها نصوص واردة في فضلها لا شك، وفيها نصوص واردة تقريباً تؤدي إلى وجوبها، وتقرأ أن جموع أهل العلم على أن السترة مستحبة، وقالت طائفة من أهل الحديث بوجوب السترة.
لكن ما هو الورع عندك الآن؟ الورع أنك إذا صليت أن تصلي إلى سترة، لأن هذا الأمر فيه نصوص تقربه من الوجوب، ولا تستطيع أن تقول هذا مستحب (100%) بحيث إني أطمئن إلى كونه مستحباً تماماً، وأنه لا يمكن أن يكون واجباً لأن فيه نصوصاً فيها تشديد على هذا الأمر والأخذ به.
ولذلك فإن العبد الصالح الذي ينوي إصلاح قلبه، يفعل المستحبات التي تشبه الواجب، وينتهي عن المكروهات التي تشبه المحرم، وتأمل في حديثه صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه،- فعلوا الأحوط، فعلوا الورع- ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام).
وذلك لأن الشخص عندما يتدرج في الأمور، ويفعل الأشياء المكروهة ولا يبالي، فإن هذا الفعل منه سيؤدي إلى أن يتساهل فيها حتى يأتي عليه يوم يقع فيه في الأمور المحرمة، فأول شيء يفعل الأشياء المكروهة كرهاً يسيراً، خلاف الأولى، ثم بعد ذلك يفعل الأشياء المكروهة، ثم يفعل الأشياء المكروهة جداً، ثم يفعل الأشياء المكروهة كراهية تحريمية، ثم يقع في الحرام القطعي، وهذا شيء طبيعي؛ لأن الذي يتدرج وينزل لا بد أن يصل إلى أسفل السلم، وفي النهاية يقع في المحرمات.
وخير الورع الكف -الترك- وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) هذه قاعدة مهمة في الورع، كل شيء اشتبهت فيه اتركه إلى شيء لا تشتبه فيه.
والإثم: أحياناً تجد أحدهم يسأل المفتين ويقول: أفتوني في كذا، أفتوني في كذا، وهو نفسه متحرج من المسألة، وقد يأتي بأشياء إلى المفتي يزين له المسألة بحيث يقول له المفتي افعل ولا حرج، وهو الذي زخرف المسألة، ولكنه في نفسه يعلم من التفاصيل التي لم يذكرها للمفتي مثلاً، أن الأمر هذا فيه حرام، وفيه أشياء: (الإثم: ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس).
فما أنكره قلبك فدعه، إذا أحسست بالأمر أن قلبك ليس مطمئناً إلى هذا الأمر، وغير مستريح إلى هذا الأمر فماذا تفعل؟ تتركه، هذا هو الورع، والورع ينتج من أي شيء؟ متى يتورع الإنسان؟ إذا خاف من الله، الورع مرتبة تنتج من الخوف، والخوف يثمر الورع: (اتق المحارم تكن أورع الناس) هذا حديث صحيح يبين أن من أهم درجات الورع، اتقاء المحارم: (اتق المحارم تكن أورع الناس).(175/5)
أسباب الورع
ومن أسباب الورع أيضاً: التفكر في الحساب، وعذاب القبر، وهوان الدنيا، والقناعة وهكذا إلخ، ولو قال الإنسان: كيف أزيد درجة الورع في نفسي؟ فنقول: من الأسباب أن تتأمل في قصص السلف الذين كانوا يتورعون، وخذ مثالاً: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، إذ جاءه مرة خادمه بطعام فأكله، فلما فرغ من الطعام، قال الخادم: أتدري من أي شيء اشتريت هذا الطعام؟ فقال: لا، قال: إني كنت تكهنت لأناس في الجاهلية وأنا لا أحسن الكهانة، فأعطوني مالاً فاشتريت به طعاماً وأعطيته لك، فالآن هذا المال عند الخادم محرم من وجهين: الأول: أنه أجرة على عمل محرم، وهو الكهانة.
ثانياً: أنه أخذه بطريق المخادعة والخداع، قال: إني تكهنت لأناس في الجاهلية وأنا لا أحسن الكهانة، أي: من باب الكهانة، أخذ المال وخدعهم أيضاً.
ولذلك فإن هذا العمل من الخادم في شراء الطعام بالمال المحرم، قد يقول الإنسان: ما دخل السيد فيه؟ الخادم أخذ مالاً حراماً ثم وهبه إياه فجاء إلى أبي بكر بطريق هبة، ولكن ما كان لـ أبي بكر أن يسكت عن ذلك أبداً، فماذا فعل؟ -هذا الحديث في الصحيح-[وضع إصبعه في فيه حتى استقاء كل ما في بطنه رضي الله عنه]؛ لأن هذا الطعام يرى أن مصدره من مال محرم (وأن كل لحم نبت من سحت؛ فالنار أولى به) وأن الجسد يتغذى على هذا الطعام، فإذا كان الطعام محرماً، صار الجسد متعفناً بهذا الحرام، وهذا يؤثر على عبادة الإنسان، وعلى تفكيره، وعلى قلبه، وعلى صلاح نفسه، وعلى نيته، وهكذا.
فإذا كان سلفنا يُخرجون الحرام من بطونهم على الشبهة، يخرجونه بعد ما يدخل وما كانوا متعمدين، لم يكن متعمداً، فكيف بالقوم الآن في زماننا الذين يدخلون الحرام إلى بطونهم عن عمد؟! إن أبا بكر الصديق أخرج الطعام من بطنه، على أنه جاء من طريق يشتبه فيه وما كان متعمداً عندما أكل، ما كان يدري، كان يمكن له أن يكون معذوراً؛ لأنه لا يدري عندما أكله، لكنه تحرزاً استقاء ما في بطنه، كانوا يخرجون الحرام من بطونهم، أو الشبهة من بطونهم، وكانوا قد أخذوها بغير تعمد، فكيف بالناس الآن الذين يأكلون الحرام وهم يعلمون أنه حرام، ويدخلونه إلى بطونهم وهم يعلمون أنه كسب خبيث؟!!(175/6)
أقسام الورع
والورع على أقسام: ورع في الأرباح والأموال، وورع في الأعطيات التي تأتي من السلاطين وهبات الناس، بعضهم يقول: الشركات المساهمة فيها أسهم نشتري أم لا؟ يقول: أنا لا أدري فقد يكونون هم يضعون أموال الشركة في البنك ويأخذون عليها أرباحاً -أقصد ربا- ويوزعون من الربا كأرباح على المساهمين، قد يعملها كثير من الشركات الآن.
إذاً: ماذا نفعل؟ نقول: إذا اشتبهت عليك الأمور؛ فلا تشتر من هذه الأسهم، أي: هذا من الورع، أنك لا تشتري هذه الأسهم وأنت تعلم أن سياسة عامة الشركات أن تضع أموالها في بنوك ربوية، وتأخذ عليها ربا، وتوزع أرباحاً على المساهمين، أو تدخله في رأس المال وتوسع المنتجات مثلاً، أو نشاطات الشركة أو فروعها ومكاتبها وهكذا.
ومن الورع: التورع عن هبات السلاطين، نظراً لأن كثيراً منهم يأخذونها ظلماً أصلاً، فإذا أعطيتها من قبلهم تكون قد أخذت شيئاً من طريق أخذ بالظلم.
ومن الورع: الورع في الفتيا: فهنالك أناس تجد الفتيا على طرف لسانه، فلا يكاد يسأل إلا ويجيب، سواء يعلم أو لا يعلم، متأكد أو غير متأكد فإنه يجيب، ولا يتورع أن يفكر في المسألة أولاً قبل أن يقول شيئاً، ثم ينظر هل عنده علم فعلاً، أو يغلب على ظنه، أو ينظر الحديث هذا كأنه جواز، وهذا كأنه تحريم، وهذا كأنه وكأنه وهكذا، فهؤلاء الناس الذين لا يتورعون في إجابة الناس على أسئلتهم بالفتيا، ولا يعلمون أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من أُفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه).
لقد كان السلف رحمهم الله يتدافعون الفتيا، وكان الصحابة رحمهم الله يُسأل الواحد منهم فيدفعها إلى غيره والآخر إلى غيره حتى ترجع إليه هو، وقال بعضهم: إنكم تتساهلون في الإفتاء، في مسألة لو وردت على عمر؛ لجمع لها أهل بدر، وسأل رجل إبراهيم النخعي وهو من هو في علمه، فقال له إبراهيم: ما وجدت من تسأله غيري؟! فلاحظ هذا إبراهيم النخعي العالم، يقول للسائل لما جاءه بالمسألة قال له: ما وجدت من الناس من تسأله إلا أنا؟ اذهب واسأل غيري، وابحث عن العلماء، وإذاً هو يعلم أن هناك غيره من يفتي في البلد، ولو كان يعلم أنه ليس هناك إلا هو لتعين عليه الجواب؛ لأن كتم العلم لا يجوز، ولكنه تورع أن يفتي وغيره في البلد يفتي، دع العالم الآخر يتحمل المسئولية، ما دام هناك من يفتي غيري، كان الصحابة يتدافعون الفتوى ورعاً يخشى أن يخطئ.
ومن أنواع الورع: الورع في الكلام في الناس وتقويمهم: فبعض الناس عنده شهوة تقويم الأشخاص: هذا العالم فقيه، وهذا غير فقيه، وهذا واع، وهذا منغلق، هذا داعية أو خطيب أو محاضر وهذا كذا وهذا كذا، فهناك شهوة عند كثير من الناس في تصنيف الأشخاص، فهو يجلس في المجالس ويصنف الأشخاص، وهذه المسألة توافق هوىً في النفس؛ لأنه يشعر المتكلم أنه أعلم منهم، ولذلك فهو يستطيع أن يصنفهم.
ولذلك يأخذ راحته في تصنيف الناس، وربما اغتاب أحدهم، ووقع في الغيبة المحرمة، وإذا سُئل عن ذلك أو نبه قال: يا أخي الجرح والتعديل وأنتم تعلمون الجرح والتعديل والعلماء تكلموا في الرواة وو وإلخ.
إذاً: الداعي الكبير، والضرورة الذي جعل بعض أهل العلم يتكلم في بعض الرواة، من أجل حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنت الآن تأخذه وتستعين به على ماذا؟ تريد أن تحفظ به ماذا؟ أولئك تكلموا في الرواة كلاماً حقاً وهم جهابذة، وطبقوا قول الله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152] من أجل إنقاذ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنت الآن تريد أن تتكلم في الأشخاص، وتقوم الأشخاص، وتصنف الناس، أي: ما هي المصلحة العظيمة التي عندك لتوازي المصلحة التي عمل من أجلها أهل الحديث في حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!! كذلك الورع -وهو يشبه الورع في الفتوى- وهو الورع في نقل الفتاوي، فهناك كثير من الشباب -وبالذات في هذه المرحلة وفي هذا الوقت- كثر النقل في الفتاوي: سمعت الشيخ فلاناً غير رأيه صار كذا، وفلان أفتى بكذا، سمعت كذا وسمعت كذا وصارت المسألة يقولون ويقولون ولم يسمع بأذنه.
ولذلك صار الواحد لا يستطيع أن يعتمد على فتوى شيخ إلا إذا كان الذي أخبره ثقةً سمعها بنفسه، صار الواحد الآن من كثرة الإشاعات، ومن كثرة النقل الخطأ في الفتاوي، وعدم التورع في نقل الفتاوي، صار الواحد لا يستطيع أن يعتمد على أن الشيخ فلاناً أفتى بكذا؛ إلا إذا كان الناقل له ثقةً سمعها بنفسه، وهو ثقة في صدقه، وثقة في فهمه؛ لأن بعض الناس صادقون في الكلام، لكن عندهم انحراف في طريقة التفكير، فهو يتخيل أن العالم أفتى بالجواز وهو لم يفت بالجواز، يتخيل أن العالم يتكلم عن الواقع، بينما العالم كلامه نظري، العالم تكلم في مسألة نظرية، هذا فهم أن العالم يتكلم على الواقع، فنقل الفتوى على أنها عن الواقع بينما العالم يتكلم في شيء نظري، يتكلم في أمور في الكتب ويقوم ويفرع المسألة، فيفهم صاحبنا أنه يتكلم عن الواقع، فينقل الفتوى على أنها على الواقع، مع أن الشيخ ما نزلها على الواقع، مجرد ذكر تفصيل أهل العلم في الكتب.
وأنواع الورع كثيرة، أي: الورع في المطاعم والمشارب ونقل الفتوى وتصنيف الناس وتقويمهم، والورع في النصح، والورع في تقديم النصيحة بحيث أنها لا تتعدى الواجب الشرعي في النصيحة، ولا يكون فيها تشفٍّ من الناس الذين ينصحون بشأنهم وهكذا.
ومن الأمور أيضاً: -أي: من الورع- ترك الأشياء التي لم يتبين فيها وجه الحق، أو لم يتبين فيها الحلال من الحرام، فلو أنك بحثت في مسألة الدجاج المستورد، فمثلاً وصلت إلى نتائج مختلفة: أن هذا الأكل جاء من بلاد النصارى وهم أهل كتاب، نأكل ذبائحهم حسب الأصل، نعم، ولكن بلادهم فيها أحزاب شيوعية وعلمانية وهؤلاء أصحاب الحزب الشيوعي لهم مصانع، فالشبهة قوية جداً، باستعمالهم آلات غير شرعية كالخنق والإغراق والصعق والقتل بالمسدس، وغير ذلك.
فالمسألة في النهاية صار عندك فيها شكوك وشبهات كثيرة، فما هو الورع؟ ترك الأكل من هذا اللحم مثلاً، لأن عندك مستندات، وليس وسوسة، لكن بعض الناس يوسوس، وليس عنده مستندات، ما سمع أن هناك أشياء من طرق الذبح غير الصحيحة، ولا سمع أنه توجد مصانع لأناس من غير أهل الكتاب إلخ.
فيعقد الموضوع ويكون الورع الترك، فيترك كل شيء، فإذا صار عنده وسوسة في ترك كل شيء صار مُعقداً فعلاً، ترك كل شيء، فالمشكلة الآن أن الحرام شاع في العالم وانتشر، حتى قال بعض العلماء -وهذا من القديم- قال: ليس في الدنيا حلال محض، لا يوجد شيء لو فكرت فيه إلا وفيه شيء من الشبهة، لا يوجد شيء لو فكرت فيه إلا وتجد فيه مالاً من الأموال المحرمة، قد جاء من هنا أو من هناك.
مثلاً: الراتب، من أين جاء الراتب؟ من الربا، من كذا أو كذا فأنت إذا أردت أن تتشعب في الأمور فإنك ستتعب كثيراً، ولذلك فإن الورع يجب ألا يوقعنا في الوسوسة وفي التعقيد التي لم تأت به الشريعة أصلاً.
ومن قواعد الشريعة: أن المشقة تجلب التيسير.
ومن قواعد الشريعة: أن الأمر إذا ضاق اتسع، وهناك مسألة وهي تتعلق بالورع وهي: أن الشبهة مسألة نسبية، فما قد يكون مشتبهاً على شخص، قد لا يكون مشتبهاً على آخر، فأنت قد ترى في المسألة شبهة، وقد تكون عندي واضحة، تكون عندي شبهة وعندك واضحة، فيكون الورع في حقي أن أترك، ويكون في حقك -لا يقدح في ورعك- أن تفعل، فالشبهة مثلاً مسألة نسبية، وتعتمد أحياناً على القناعات، قناعات الأشخاص، وعلم الأشخاص.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لنا مثلاً في التورع لما وجد تمرة في بيته في يد الحسن، الولد الصغير فأخذها وقال: كخ كخ، مع أن هذا الولد صغير وهذا التمر قد يكون من تمر الصدقة، وقد يكون من تمر هدية وقد يكون كذا، لكنه كان يعتني بأن يتورع حتى الصغار عن الأطعمة المشتبهة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته، ما كان يجوز لهم أن يأكلوا من صدقة، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يأكل من الهدية، ولا يجوز لأهل البيت أن يأخذوا من الزكاة.
والتورع يجب أن يكون من جميع أنواع المحرمات، لأن بعض الناس يسهل عليه أن يتورع في شيء لكن يصعب عليه أن يتورع في شيء آخر من الحرام، فيقع في هذا ويترك ذاك، ويعتبر نفسه أنه متورع عن الأشياء.
خذ مثالاً: هؤلاء أهل العراق قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءوا يسألون عبد الله بن عمر عن أي شيء؟ عن دم البعوض نجس أو غير نجس؟ قتل الذباب في الحرم يجوز أم لا يجوز؟ سبحان الله! هذا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تورعوا عن قتله، ثم دم البعوض يستفتون فيه وقتل الذباب يستفتون فيه!! معناه أن معايير هؤلاء الناس مقلوبة فهم يتورعون في الذباب والبعوض ولا يتورعون في دم الآدمي، وهو من هو، حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الخوارج حدث من قصصهم أنهم لما خرجوا عن الصحابة وقتلوا علياً، وحاولوا قتل معاوية وعمرو بن العاص، وخرجوا بالسيف على الصحابة، وقاتلوا علياً رضي الله عنه، إلى آخره، قبل أن يقاتلهم علي كانوا قد عاثوا فساداً وعملوا تجمعاً، وخرجوا بالسلاح على المسلمين، وكانوا كل من مشى في طريقهم قد يقتلونه، ومروا على صحابي يعبد الله معتزل الفتنة، قالوا: يا فلان ما رأيك في الفتنة هذه؟ قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تكون فتنة: القاعد فيها خير من القائم فيها، والقائم فيها خير من الماشي فيها، فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل) قالوا: إذن أنت تقصدنا، فقتلوه وأساحوا دمه في النهر، وكان عنده وليدة فبقروا بطنها وأخرجوا الجنين ورموه، ومروا بعد فترة على بستان واحد من أهل الكتاب، وكان فيهم جوع، فأراد بعضهم أن يأخذ من التمر؛ تمر البستان، فقال: بعضهم لبعض: لا، انتظروا كيف تأخذون من هذا ا(175/7)
أمثلة على الورع
وبعض الناس يتركون المشتبهات ويفعلون المحرمات، وبعض الناس يتورع عن المشتبهات، ولكنهم يتركون الواجبات، يتورع عن الشبهات ولكنه يترك بعض الواجبات، وبعض الناس يتورع عن الشبهات لكنه يفعل المحرمات، وكمثال على هاتين المسألتين: أولاً: رجل توقى من درهم شبهة في ماله، لكن قضاء الدين الواجب لا يقضيه، فقضاء الدين واجب، لكنه مهمل في قضاء الدين، يدع صاحب الدين ينتظر ولو جاءه يقول: ما عنده، لكن تجده في بعض القضايا التي تتعلق بالأموال دقيق جداً وفي الأشياء المشتبهات ويتصدق بكذا ويفعل كذا، وهذا يوجد عند كثير من العامة.
ومن أمثلة الورع: الخروج من خلاف العلماء: فإذا كان عندك مسألة تستطيع إذا تصرفت تصرفاً معيناً ألا تكون قد خالفت أحداً من أهل العلم، فإذاً: الأحوط أن تفعل هذا الفعل لأن الخروج من الخلاف في كثير من الأحيان يكون من الورع.
ومن الورع: فعل ما يشك في وجوبه، فلو شك أحد في هذا الأمر أنه واجب، فهذا من الورع بشرط ألا يخالف السنة، وليس من الصحيح التوقف عن كل أمر فيه خلاف أي: كلما وجدت خلافاً في الأمر تقول: ما أفعل، لا.
فقد يكون الخلاف مرجوحاً، وبالتالي عندك فسحة أن تفعل.
مثلاً: في باب العبادات إذا كان عند أحد شبهة، هل العبادة هذه ثبتت أم لا؟ فعنده شك، فما هو الأحوط؟ هو الآن لا يعلم هل هي مشروعة أم غير مشروعة، فهناك احتمالات: عنده احتمال أن تكون مشروعة، واحتمال أن تكون مستحبة واحتمال أن تكون بدعة، فماذا يفعل؟ يترك لأن الأصل في العبادات الحظر حتى تثبت المشروعية.
وهناك نقطة مهمة وهي أنه ليس للإنسان أن يُلزم غيره بما تورع عنه هو، فمثلاً: أنت تشك في الدجاج الفرنسي -مثلاً- ما تأكل منه، لكن هل يجوز لك أن تلزم كل الناس بعدم الأكل منه وتقول: حرام عليكم يجب عليكم ألا تأكلوا، لا.
فالتورع لا يُلزم فيه الناس، قد ينصح مثلاً، تتباحث معه في الأمر لكن لا تلزمه بتورعك أنت، لأنه قد يكون عنده ليس بشبهة، والإنسان قد يتحمل الشدة في بعض الأمور على نفسه لكن -مثلاً- أقرباؤه أو نساؤه قد لا يتحملون ذلك.
وعلى العموم فإن الورع يختلف باختلاف حال الأشخاص والأحوال، فتطبيق الورع في زمن الصحابة غير زماننا، وكذلك لو كان شخصاً ملتزماً، فأنت تحثه بشكل أكبر على الورع، لكن قد لا تحث الشخص العادي على هذا الأمر لأنه قد لا يطيق فعله الآن فقد ينفر منك.
وكذلك مجالات الورع ليست سواءً، فالتورع في مجال المطعوم والمشروب، غير التورع في مجال الأثاث مثلاً، أيهما أشد المطعوم والمشروب أم الأثاث؟ طبعاً المطعوم والمشروب الذي يدخل في الجسم، ويتغذى عليه الجسم، لكن هل يعني هذا أنه إذا جاء واحد وقال: أنا عندي أموال ربوية ما آكل منها، والله ما آكل منها، ولا أشتري منها طعاماً ولا أدخل شيئاً حراماً على جسدي، لكن أنا اشتريت بها سيارة، فنقول أين الورع؟ هذه سخافة! صحيح أنك ما أدخلتها في جسمك، لكنك استعملت المال المحرم.
فالأموال الربوية حرام عليك، فبعض الناس يظن أن الورع عن الربا ما يدخله بطنه، لكن يمكن أن يستعمله في أشياء كالأثاث والسيارات ونحو ذلك، وهذا حرام، لكن بعضها أشد من بعض، والتورع في التدقيق في نفقات العبادة كالحج غير النفقات العارضة الأخرى، لأن الحج لا بد أن يكون من كسب طيب (وذكر الرجل أشعث أغبر يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له).(175/8)
الزهد
ثم ننتقل إلى مسألة أخرى من المسائل التي هي من أسباب إصلاح القلوب، وهي الزهد: الزهد أمر مطلوب شرعاً {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:45 - 46] {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] فالله عز وجل يحثنا على عدم التعلق بالدنيا، وعلى الزهد فيها، وعلى أن هذه الزينة والأموال والأولاد والخيل المسومة والأنعام والحرث والذهب والفضة، أن هذه متاع الحياة الدنيا لكن ما عند الله خير وأبقى، فنحن نزهد فيها، ولكن نحتاج أن نتعلم ما معنى الزهد.(175/9)
تعريف الزهد
ما معنى الزهد؟ ما معنى الزهد في المال؟ هل يعني أن أترك المال ولا آخذه ولا أسعى في طلبه أبداً؟ ما معنى الزهد شرعاً؟! قال الإمام أحمد رحمه الله: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، وقال سفيان: الزهد في الدنيا قصر الأمل، أي: أن تشعر أن الدنيا ذاهبة وأن حياتك فيها قليلة، وأن ما بقي منها إلا كالصبابة يتصابها صاحبها.
والزهد في اللغة: هو الانصراف عن الشيء احتقاراً له وتصغيراً لشأنه للاستغناء عنه بخير منه، وهذا تعريف جيد.
ذكر الإمام أحمد رحمه الله في كتابه الزهد قال: الزهد على ثلاثة أنواع: الأول: ترك الحرام: وهو زهد العوام.
الثاني: ترك الفضول من الحلال: وهو زهد الخواص.
الثالث: ترك ما يُشغل عن الله: وهو زهد أولياء الله العارفين بالله سبحانه وتعالى.
وقال الإمام أحمد -أيضاً- رحمه الله: الزاهد لا يفرح من الدنيا بموجود، ولا يأسف منها على مفقود.
أي: إذا جاءه شيء من المال من الدنيا مثلاً لم يتعلق قلبه به، ويسيطر حب هذا الشيء على قلبه، وأيضاً إذا فاته شيء من الدنيا كأن يكون خسر مالاً، أو ذهب له ولد، لا ييأس ويتأسف التأسف المنهي عنه شرعاً، فنحن بشر والإنسان لا بد أن يسر إذا جاءه مال، ولا بد أن يشعر بشيء من الضيق ويشعر بشيء من الأسف إذا فاته شيء من الدنيا أو خسر، لكن إلى أي درجة يكون الفرح بالمال؟ وإلى أي درجة يكون التأسف على فقده؟ هذا هو السؤال الكبير.
فبعض الناس سروره بالمال طبيعي عادي حسب الفطرة التي في النفس، فالنفس مجبولة على حب المال والسرور بكسبه، فالإنسان إذا ذهب يقبض الراتب يكون مسروراً في قبض الراتب، فإذا فلس في آخر الشهر صار فيه نوع من الغم طبيعي، لكن إلى أي وضع هو يكون مسروراً بالمال؟ كأنه يريد أن يأكله أكلاً، كما فعل ذلك البخيل لما أقبل على الموت أكل المال حتى لا ينتفع به غيره، هذا غير طبيعي.
وكذلك إذا فاته شيء من المال هل يشعر بشيء من الانهيار، واليأس والإحباط والقنوط وانتهت المسألة، وأغلقت في وجهه أبواب الدنيا، وكأن هذا المال صار إلهاً يعبد، وصار هو الذي يفرح به ولوجوده، ويحزن لفقده ولا يسر لطاعة، ولا يحزن في الوقوع في معصية، وإنما صار السرور لجلب المال، والحزن لفقد المال فقط.
وقال بعض السلف: الزهد ألا يفرح من الدنيا بموجود، ولا يأسف منها على مفقود، كما قال تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] أي: أن الله عز وجل كتب كل المصائب في اللوح المحفوظ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] أي: من قبل أن نخلقها في الأرض، لماذا؟ ما هو السبب والحكمة؟ {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] لأنك لو كنت مؤمناً وموقناً بأن هذا مكتوب عند الله قبل أن يحدث لك، سواء جاءك لا تطير به فرحاً، كأنه هو كل شيء، ولو فقدته فلا تنزل فيه غمرات اليأس، لأنه ليس كل شيء، وهو أمر مكتوب ومقدر ومقضي، انتهى وقضي الذي في الكتاب، شيء قد قضاه الله عز وجل، فلا تفرح به أكثر مما يجب شرعاً، ولا تغتم لفقده أكثر مما يصلح شرعاً.
وقيل للإمام أحمد رحمه الله: أيكون الرجل زاهداً ومعه ألف دينار؟ قال: نعم، شريطة ألا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت، بمعنى: أن قلبه غير متعلق بالمال، فإذا زادت لا يشعر كأنه صلى ألف ركعة، وإذا نقصت يغتم كأنه وقع في المعاصي، وإلا صار عنده المال أهم من الدين.(175/10)
حدود الزهد
والزهد منزلة عظيمة بلغها السلف والصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وانظر في عيش الصحابة رضوان الله عليهم كيف عاشوا من الدنيا كفافاً.
وكان الواحد يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن حكم الصلاة بالثوب الواحد؟ ويقول: ما عندي إلا إزار؟ ما عندي إزار ورداء، كيف يفعل؟ يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم فأهل الصفة ثلاثمائة واحد تقريباً كانوا في الصفة مجتمعين، الذي يأتي من المسلمين بعذق من تمر وبشيء من خبز، أو كل واحد يأخذ له واحداً، يعشيه كل يوم إذا وجد، أو يبيتون فقراء طاوين، فـ أبو هريرة يسعى سعياً حثيثاً يقول الناس مجنون، وما به جنون ما هو إلا الجوع.
فقد سأل أبا بكر مسألة لا لمعرفة الجواب، بل من أجل أن يفطن له، فلا يستطيع أن يبين صراحة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يمر زمن وما يوقد في بيته نار ولا يطبخ، لكن إذا دعاه أحد الصحابة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أكل خبزاً أبيض وقد يمر الشهر والشهران والثلاثة، ولم يوقد في بيته نار فليس هناك شيء يطبخ، سوى الأسودان التمر والماء، لكن انتبه معي إلى هذه النقطة، إنه لم يكن عنده عليه الصلاة والسلام إلا هذا، فهذا زهد في الدنيا، إن الله عز وجل يستطيع أن يجعل منه ملكاً، عنده الخزائن، لكن ما سأل الله هذا.
لكن لما دعاه واحد من الصحابة في بستانه، وأخذ المدية وذبح له شاة وأتى له باللبن وأكلوا، وشوى لهم، هل قال له الرسول صلى الله عليه وسلم لا.
هذا الطعام أو هذه الشاة المشوية، هذا طعام نفيس وزهد فيه ولم يأكل، بل أكل، أي: لما تيسرت له الأشياء ولما وجد أكل، فأكله من هذا اللحم المشوي النفيس هل ينافي الزهد؟ كلا.
كان له تسع نسوة ويقوم بأمرهن ويعدل، وقد أباح الله له الزيادة على أربع خصوصية في حقه، هل قال: أزهد في النساء وأطلق نسائي كلهن؟ لا.
فهذا الذي نحتاج إليه وهو المفهوم الصحيح في الزهد.
لقد كان ابن عوف وعثمان من أغنياء الصحابة، لكنهما كانا زاهدين مع ما فيهما من غنىً وابن المبارك، كان زاهداً مع أنه كان ذا مال وفير، وكان يقول: لولا هذا -يعني المال- لتمندل بنا هؤلاء، أي: لولا عندنا المال يسترنا وإلا كنا لجأنا إلى الناس واحتجنا إليهم وتمندلوا بنا، وصرنا مثل الطراطير نأتي إليهم ونذهب على المال الذي عندهم، لا.
بل نحفظ ماء وجهنا بمال أعطانا الله إياه، لكن كان من الزاهدين، ليس كلما رغبت نفسه أكلة ممتازة، كلف نفسه وذهب إلى أقصى البلاد لكي يأتي بها.
لعلنا سمعنا أن غنياً أحضر (إسكريم) بالطائرة من المحل الفلاني! هذا ممكن أن يكون زاهداً، إذا أكل من الخير الموجود عنده بلا تكلف ولا إسراف، لكن أن يرسل طيارة من أجل أن تأتي له بإسكريم، هذا إنسان!! نسأل الله السلامة.
فالغني يمكن أن يكون زاهداً، إذا كان متواضعاً ولم تطغه النعمة، فإذا كان عنده بيت واسع ونظيف وأكله جيد أعطاه الله نعمة، يحب أن يرى نعمته على عبده، أو سيارة جيدة، لكن تكلف هذه الأزياء والأشياء ومتابعة الموديلات بحيث كل ستة أشهر يغير، ويغير أثاث البيت دائماً باستمرار، هذا معناه أنه متعلق بالدنيا فلا يمكن أن يكون زاهداً.
فمتى يعرف الغني الذي عنده مال أنه زاهد أم لا؟ إذا شغلتك النعمة عن الله فازهد فيها، فزهدك فيها أفضل، وإن لم تشغلك عن الله، بل كنت شاكراً لله فيها، فحالك فيها أفضل.
فمثلا: شخص عنده تجارة، كيف يعرف أنه زاهد أم لا؟ إذا رأى أن التجارة تشغله عن طاعة الله، ويؤخر صلوات، ويتأخر عن المساجد، وعن دروس العلم والحلق والإخوة في الله، وصار إنساناً دنيوياً، لا.
إن تركك التجارة أفضل، خذ لك وظيفة عادية واجلس أحسن لك.
لكن إذا رأى أن التجارة لم تقطعه عن العبادة، ولا عن المسجد، والإخوة في الله، وحلق العلم، ويعطي الزكاة والصدقات ويتصدق، وكلما جاءه فقير أعطاه، ويعطي للمجاهدين ولبناء المساجد ولطباعة كتب وإلى آخره، فإذاً بقاؤه في تجارته أفضل بالنسبة له.(175/11)
الأشياء التي يزهد فيها
والأشياء التي يُزهد فيها كثيرة: المال، والرئاسة، والنساء أحياناً، ومن معاني الزهد ومن الأشياء التي تثمره، ومن المشاعر التي تقترن به كراهية مشاركة الفساق وأرباب الدنيا الذين يزدحمون على المواضع الدنيوية، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا قال: (يوشك أن يحسر الفرات عن جبل من ذهب فيقتتل عليه الناس، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون، أو من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون) من كل مائة يقتل تسعة وتسعون، قتال على الذهب، قال صلى الله عليه وسلم: (فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً) فقد علمنا صلى الله عليه وسلم فقال: إذا انحسر الفرات عن جبل من ذهب فيقتتل عليه الناس (فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً).
قيل لبعضهم: ما الذي زهدك في الدنيا؟ قال: قلة وفائها، وكثرة جفائها، وخسة شركائها.
إذا لم أترك الماء اتقاءً تركته لكثرة الشركاء فيه
إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماءٍ إذا كان الكلاب يلغن فيه(175/12)
أقسام الزهد
والزهد أقسام: الأول: زهد في الحرام وهو فرض عين.
الثاني: زهد في الشبهات، وهو بحسب مراتب الشبهة، فإن قويت ألحقت بالقسم الواجب، وإن ضعفت كان تركها مستحباً والزهد فيها أولى.
والزهد في الفضول: يعني في المباحات، الأشياء الزائدة عن الإنسان أي: الترفهات والترفيهيات والكماليات.
الثالث: زهد فيما لا يعني من الكلام.
الرابع: النظر.
الخامس: السؤال.
فبعض الناس إذا دخل بيتاً نظر في كل شيء، في كل زاوية، وثقب، وقماش، هذا من الفضول، والمفروض أن يزهد فيه ويتركه، وكذلك
السؤال
من أين جئت؟ وإلى أين سوف تذهب؟ ومن كان معك؟ ومن كنت تكلم قبل قليل؟ ومن ومن؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم كره لنا كثرة السؤال، فالزهد في الأسئلة هذه التي ليس لها معنى إلا إحراج الآخرين، هو من الزهد المشروع.
السادس: الزهد في المدح والثناء، أي ينبغي للإنسان ألا يطلب المدح والثناء، بل يزهد في مدح الناس وثنائهم، سواء مدحك الناس أو لم يمدحوك، الأمر عندك سيان، مدحوك أو ذموك ما دمت تعمل لإرضاء الله فلا يهمك مدحهم ولا ثناؤهم، لأنه يهمك أن الله عز وجل يمتدحك على أفعالك، ولا يهمك أن الناس يمتدحونك على أفعالك.
السابع: الزهد بالنفس حين تهون من أجل الله عز وجل، كالزهد بالنفس في المعركة وفي قتال المشركين مثلاً.
الثامن وهو أفضلها وأهمها: إخفاء الزهد.
وكذلك فإن المسلم لا بد أن يكون زهده في هذه الأمور الدنيوية نابعاً من عدم تعلق قلبه بالدنيا، فنتيجة لعدم تعلق القلب بالدنيا فإنه يترك هذه الأشياء والتوسع في المباحات؛ لأن التوسع في المباحات يأخذ وقتاً طويلاً، فأنت إذا كنت تريد أن تتابع كل موديل وكل جديد -صحيح أنه مباح- مثلاً: سيارة مباحة، أو أثاث مباح، لكن عندما تتابع وتتابع وتتابع، فإن وقتك يذهب في هذه المباحات، فتنشغل عن كثير من الطاعات.(175/13)
التذكر
ومن الأمور التي تصلح القلب: التذكر، لقد ذكرنا أن الورع يصلح القلب والزهد يصلح القلب، وفرعنا أشياء في الزهد والورع، وثالثاً: التذكر.
قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19] والله عز وجل أنزل القرآن: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:8] والتذكر هذا لا يحصل إلا لصاحب القلب الحي، أي: من الذي يفكر في الآيات؟ الآن تسمعها في الصلاة وتسمعها في الإذاعة، والشريط، بعض الناس يتذكرون، فهذه الآيات تمر على قلبه فيفكر فيها فيلفت نظره وتستقطب تفكيره، ويمعن فيها التبصر والتفكير، وتهيمن على قلبه وتدخل شغاف قلبه، هذا إنسان تذكره يحيي قلبه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] عنده القلب يسمع وهو شهيد، فهو يتفاعل مع الآيات.
لقد بكى واحد من السلف مرة في آية وهي قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] ففكر فيها أنه يوم القيامة هؤلاء العصاة تتضح لهم أشياء من رب العالمين ما كانت على بالهم ولم يكونوا يفكرون فيها: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] فذنوبهم وجدوها كلها مسطرة واحدة واحدة، وما توقعوا أنها بكل هذه الدقة كل هذه الأشياء موجودة، فيأتي هذا العذاب مفاجئاً، ما كان على باله ولا كان في خاطره: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] فبكى.
الشاهد أن الإنسان -أحياناً- تمر به آيات فيفكر فيها -مثلاً- ويربطها بالواقع، فينتج عنده في نفسه مشاعر كثيرة، ففي هذه الأزمة التي نمر بها، قد تأتي للواحد منا في باله الآيات والآيات، يفكر مثلاً: في قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} [الأنعام:129] وفعلاً نجد أنها تنطبق على الواقع بالضبط كما أخبر الله بهذه السنة الموجودة: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129].
والناس في مسألة التذكر أنواع، فمن فوائد الأزمة هذه أن الناس صاروا -والحمد لله- أنهم تعودوا على هذه الأشياء وعلى هذه المخاطر، فصارت المسألة معروفة، والواحد صار -كما ذكر أهل الفقه- قبل أن ينام يتشهد ويقرأ آية الكرسي والكافرون، فإذا جاء الموت فعلى التوحيد والحمد لله، وإذا سلمنا فخير، فهناك معانٍ كثيرة تجول في النفوس (اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها، لك موتها وإحياها، إن أمسكتها فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين).
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا، وأنا أقول: إن دعاء المسلمين في المساجد وفي القنوت كان له أثر عظيم في الحفظ، فكم قلَّت خسائر وكم بعد شر، كان يمكن أن ينزل على رءوسنا، ولم تنفع بعض الأسباب الدنيوية فيه، كهذه الصواريخ والمضادات والأشياء ما نفعت، ما الذي نفع قولوا لي بالله؟ كيف يتخيل أن صاروخاً ينفجر في الجو لوحده هكذا؟ فهو ليس صناعة تايوانية، قد تجد -والله- دعاء شيخ وشايب في المسجد، بقوله: آمين، هو الذي جعل الله يحفظ البلاد والعباد، نعم، الدعاء من أسباب الحفظ.(175/14)
أقسام الناس في التذكر
الناس في التذكر ثلاثة: الأول: رجل قلبه ميت فلا يتذكر فهو غافل.
الثاني: رجل له قلب لكن لا يسمع، كيف؟ أي: أنه إنسان ليس بغافل، ولكنه إنسان خامة جيدة، لكن ما جاءه أحد ووضع فيها بذراً، وسقاها وقلع شيئاً، لكنها أرض خصبة تنتظر من يبذر فيها، فهناك أناس عندهم قلوب، لكن ما تهيأت لهم الأسباب، أو الأشياء التي تجعلهم يفكرون في هذه الآيات.
الثالث: رجل له قلب وتمر عليه الآيات ويسمعها ويفكر فيها، فالناس الذين عندهم قلوب وعندهم استعداد لكن ما عندهم تفكر، هؤلاء ناس من العامة، مثلاً: ربما أنهم لم يحصل لهم مجال لسماع الخير؛ فينبغي أن نهتم بهم، وأن نوجه لهم جهودنا.
فالإنسان الذي ليس له قلب، هذا غافل، والإنسان الذي ليس له قلب هذا بمثابة الأعمى، والذي له قلب لكن لم يتفكر؛ لأنه لم يسمع ولم يصل إليه شيء، كإنسان له بصر لكنه لا ينظر إلى شيء ينظر إلى الفضاء إلى الخلاء هكذا، والشخص الثالث: الذي عنده قلب ويتفكر فهو كالناظر إلى الشيء المهم الذي يستحق النظر والتفكير.
والتفكر درجات، فليس كل الناس يستطيعون أن يفكروا في الآيات والأحاديث والأشياء، ولا يستطيع بعضهم أن يتعمق فيها جداً، بعضهم يتعمق إلى آخر الشيء، وبعضهم يتعمق إلى ما قبله، وبعضهم إلى نصف الموضوع وبعضهم إلى أطراف الموضوع، ولكن العموم الذين يتفكرون، يعني: إن لم يصبها وابلٌ فطل، فإذا ما جاءه مطر غزير، يأتي ولو رش ينتفع به.
فلذلك قال الله عز وجل: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ:6] بماذا يرون؟ بالتفكر، درسوا الآيات، فلو يدرس فقط المحرمات في الشريعة لعلم أن هذا الشرع مبني على حكمة رب العالمين: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ:6] بما آتاهم الله من البصيرة، فتفكروا وتمعنوا في معنى هذا القرآن والسنة، فهذه القلوب تحيا، إن القلوب تحيا بالتدبر والتفكر في آيات الله عز وجل، سواء كانت: المذكورة في القرآن، أو في كتب الحديث، أو المنثورة في الأرض والكون والجبال والشجر والدواب والبحار والأنهار وهكذا.(175/15)
الأسئلة(175/16)
الفرق بين الورع والزهد
السؤال
هلا ذكرت لنا الفرق بين الورع والزهد؟
الجواب
نعم.
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الفرق بين الورع والزهد فقال: الورع: يتعلق بما يخشى من عقابه في الآخرة، والزهد يتعلق بما لا ينفع ولا يرجى نفعه في الآخرة، فالزهد يتعلق بترك شيء؛ لأنه لا ينفع، لكن الورع: ترك شيء لأنه يُخشى أن يضر، فأيهما أخطر؟ الورع: أخطر لكن كلاهما مراتب، الزهد والورع مراتب، فليست مرتبة واحدة، ويصعب المقارنة بين مراتب الزهد ومراتب الورع، ولكن هذا هو ما ذكره شيخ الإسلام في التفريق بينهما.(175/17)
ترك الورع
السؤال
هل يعاقب الإنسان على ترك الورع في أمور لم يتبين تحريمها قطعاً؟
الجواب
إذا لم يتبين تحريمها، وقد ارتكبها ولم يتبين عنده أنها حرام فلا يأثم عليها، لكن المشكلة أين؟ (فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه) هذه الخطوات، فتهون الأشياء على الإنسان.(175/18)
الكتب التي تتكلم عن الورع
السؤال
أرجو أن ترشدني إلى بعض الكتب التي تتكلم عن ورع الصحابة والسلف؟
الجواب
هناك بعض الكتب مثل الزهد للإمام أحمد، والزهد لـ ابن المبارك، والزهد لوكيع ثلاثة مجلدات كتاب محقق فيه أشياء طيبة، وابن القيم رحمه الله ذكر في مدارج السالكين في منزلة الورع، ومنزلة الزهد طائفة طيبة، وفي كتاب الذهبي رحمه الله سير أعلام النبلاء فيه أشياء أخرى من الأمثلة طيبة.(175/19)
ترك التورع في أمور مع فعل بعض المحرمات
السؤال
لا شك بأن الإنسان خطاء، وقد يستطيع مثلاً: ترك الشرب قائماً أو النوم على الشق الأيسر أو على البطن، ولكن لا يستطيع بسهولة أن يترك الكلام مع امرأة في الهاتف، فهل يترك التورع عن تلك الأمور حتى يترك فعل الحرام؟
الجواب
هذا الأخ يقول: إنه يشرب قاعداً تورعاً؛ لأنه قد يكون الشرب قائماً محرماً، كما ذكر بعض أهل العلم مثلاً، فهو يشرب قاعداً، لكنه عجز أو أنه لم يتب إلى الله من الكلام مع امرأة أجنبية، فهل يترك التورع في الشرب؛ فيشرب قائماً وينام على بطنه، مادام أنها فلتت من هنا فلتفلت من جميع النواحي؟!! أم أنه يحافظ على الخير الذي عنده، ولو أنه عصى الله في مسألة من المسائل، ولو كان مقيماً على ذنوب، ما هو الأحسن في نظركم؟! أن يحافظ على الخير الذي عنده؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات، ما تدري يا أخي! قد يغفر الله لك أشياء مثل كلامك مع المرأة الأجنبية، بسبب أنك تشرب قاعداً وتنام على جنبك الأيمن إلخ، يغفر لك أشياء مثل هذا الذنب، فلماذا تقول لا.
أترك كل الورع وكل الزهد لأني واقع في محرم؟!! لا.
لا تفعل ذلك، وواصل على ما أنت فيه من الخير، وحاول أن تتوب إلى الله بشتى الوسائل وأن تمتنع، فهذه مسألة إرادة.(175/20)
ترك النساء هل هو من الزهد
السؤال
ذكرت أن من الزهد ترك النساء، فما معناه؟
الجواب
لا، نحن ذكرنا أن الإنسان يجوز له أن يطلق ويتزوج، يتزوج أربعاً ويطلق، فيتزوج أربعاً ويطلق ويتزوج ويطلق، أنت يمكن لك أن تتزوج إلى مائة وعشرين امرأة مثلاً، لكن هذا العمل منه قد يشغله عن العبادات، فتصير المسألة كلها تحصيل مهور، وترتيب زواجات، وأوراق محاكم، وإلى غير ذلك، صارت حياته كذلك، فهو بهذا الوضع لا يكون وضعه سليماً.(175/21)
أنواع القلوب
السؤال
هل يمكن إيضاح أنواع القلوب؟
الجواب
لقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه توجد قلوب منيرة، وقلوب عليها ران، وقلوب قد غلفتها الذنوب وصارت صدئه، وصارت عفنة، وصارت مغلقة جداً لا ينفذ إليها شيء.(175/22)
الدجاج المستورد
السؤال
تكلمت عن الدجاج المستورد من بلاد غير إسلامية؟
الجواب
هناك فتاوى للعلماء فارجعوا إليها إن شاء الله.
قد يقول قائل: بلغني خبر من مصدر موثوق من السفارة الفلانية في البرازيل أن الدجاج الفلاني مذبوح، وشخص آخر ما بلغه هذا يتورع لأنه ما بلغه، والذي بلغه يأكل، إذن هناك فرق، الفرق بين الأشياء في الورع في المعلومات التي عندك والمعلومات التي عند الآخرين، فقد يكون ما عندك من معلومات زيادة على ما عنده، أو ما عنده زيادة على ما عندك، فتؤثر في العملية، فلا يقال: إنه غير ورع وأنك ورع في هذه الحالة.
وهناك كتاب جيد للشيخ الطريقي اسمه: حكم الذبائح واللحوم المستوردة وهناك كتاب آخر للشيخ الفوزان في نفس الموضوع، هذان مرجعان مهمان في هذا الموضوع.(175/23)
التورع في الصغائر دون الكبائر
السؤال
أيهما أفضل شخص يهتم بالصغائر ولا يتورع في الكبائر، أم الذي لا يتورع لا في الكبائر ولا في الصغائر؟
الجواب
أنت الآن جلبت الجواب بنفسك، طبيعي أن الشخص الذي يفعل الكبائر ولا يقع في الصغائر أفضل من الذي يقع في كليهما.(175/24)
الوسواس والورع
السؤال
ما هو المقياس الدقيق بين الوسواس والورع، لأني في بعض الأحيان أريد أن أتورع عن بعض الأشياء فأقول لنفسي لا توسوس؟
الجواب
الميزان يا أخي! ميزان الشرع، فإذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتورعون عن مثل هذا فتورع عنه، وإذا رأيت أنه لا يمكن أن تكون الشريعة في ترك هذه الأمور وأن هذا تعقيد وتشديد فافعله ولا حرج عليك في ذلك.(175/25)
هبة السلاطين وجراياتهم
السؤال
ما الفرق بين هبة السلطان وجِرايات السلاطين؟
الجواب
لا أفهم ماذا تقصد، لكن إذا كنت تقصد مثلاً: ما حكم النقود التي تعطى لطلاب المعاهد والجامعات، فهذه لا شيء فيها، يأخذها وليس فيها شيء؛ لأن هذه رتبت من أجل إعانته على الدراسة، أي: كأن الحكومة قد أعطته راتباً لتفرغه للدراسة، أو أعطته مكافأة لكي يستعين بها على التفرغ للدراسة، لأنه كان يمكن أن يعمل ولا يدرس، لكن ما دام تفرغ للدراسة فأعطته مكافأة لكي يقيم بها شأنه، فلا بأس أن يأخذها.(175/26)
السؤال عن اللحم المقدم في الوليمة
السؤال
هل يلزم السؤال عن اللحم إذا قدم في وليمة؟
الجواب
لا.
لا يلزم ما دام إنسان مسلم دعاك وقدم لك طعاماً تأكله، الأصل في طعام المسلم أنه حلال، فإذا قامت القرائن على أنه حرام، فإذا قامت قرائن واضحة جداً على أن في الطعام شيئاً فيه طعم كذا أو فيه شيء أو فيه لون يدل على أن فيه محرمات عند ذلك يُسأل الإنسان عنه.(175/27)
حكم الورع في الشبهات مع فعل المحرمات
السؤال
بعض الناس قد ابتلي بالحرام، فلا يستطيع تركه، فهل يعني هذا أنه يترك جميع الشبهات لأنه يفعل ما أكبر منه؟
الجواب
قد أجبنا عليه، قلنا: لا.
عليه أن يستمر على ورعه ولو كان مقيماً على معصية من المعاصي، لكن ما هي فائدة الكلام الذي ذكرناه؟ الفائدة: أن يستحي الإنسان من نفسه ويقول: كيف أنا أتورع عن شيء تورعاً مستحباً، ثم أنا أفعل شيئاً محرماً.(175/28)
التورع في الأكل
السؤال
أمرني أبي أن أذهب معه إلى رجل شيخ قبيلة، فأبى أخي بسبب التورع، وذهبت مع أبي بسبب بر الوالدين، فقد غضب أبي من أخي، فلما كنت على مائدة العشاء تظاهرت بأني آكل ولم آكل بسبب أني تورعت؟
الجواب
جزاك الله خيراً، إذا كان فعلاً هذا شيخ القبيلة أمواله مشبوهة فيكون فعلك طيباً، ذهبت وأرضيت والدك وما أكلت من الطعام.
وهناك كتاب الزهد للإمام أحمد وهو كتاب يذكر فيه أمثلة كثيرة من هذا النوع.(175/29)
التدقيق في الأمور البسيطة وإهمال الكبرى
السؤال
بعض الناس يقولون: أنتم تدققون في هذه المسائل كالتصوير والإسبال وتوفير اللحية في الوقت الذي توجد فيه أمور كبرى كالدعوة والجهاد لأعداء الله، فلا تلقوا لها بالاً؟
الجواب
إذا كان كلامهم صحيحاً، أي: إذا كنت لا تلقي للجهاد والدعوة بالاً، وهمك مقتصر على هذه المسائل فأنت مخطئ، لكن ما هو الخطأ المقابل: هو أنك تعتبر أن الانشغال بالجهاد والدعوة عذر بأن ترتكب المحرمات كالإسبال وحلق اللحية وغيره، بالعكس يا أخي! فلو أعفى الإنسان لحيته أظن أنه يعينه أكثر في الجهاد والدعوة أليس كذلك؟!(175/30)
التهجم على العلماء
السؤال
كثر في الآونة الأخيرة التهجم على العلماء من قبل بعض الناس؟
الجواب
هذا خطأ يا جماعة! إن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في الانتقام من شانئيهم معلومة، فالعالم بشر يخطئ وليس نبياً معصوماً، لكن هل يجوز أن نمسح حسناته كلها، وننسى كل الحسنات التي فعلها؛ لأنه أخطأ في مسألة أو مسألتين أو ثلاث، لا يصح هذا، بل إنه بالعكس إذا ثبت عندنا أنه عالم ورع، وعالم تقي، وعالم زاهد في الدنيا، فإننا نشفق عليه ونرحمه ولا نشعر نحوه بالكره والبغض والحقد على أنه أخطأ في فتوى أو شيء من هذا القبيل، وإنما ندعو له ونقول: نسأل الله أن يبصره وأن يثبته وأن يهديه للجواب الصحيح، وهكذا، فنشعر نحوه بالرحمة والشفقة، ولا نشعر نحوه بالحقد والكره والبغضاء لأجل هذا الأمر، إذا كان من علماء أهل السنة الأتقياء.(175/31)
الهدايا التي يقدمها الطلاب
السؤال
هل نتورع عن الهدايا التي يقدمها الطلاب للمدرس؟
الجواب
نعم نتورع عنها؛ لأنها قد تكون مصدراً أن يحابي بعضهم أو يعطي بعضهم أشياء لا يعطيها للآخرين، وإذا كان بقي عنده يتخلص منها بأن يهديها أو يتصدق بها فهذا طيب.(175/32)
دعوة الأهل لترك الغيبة
السؤال
دعوة أهلي لترك الغيبة؟
الجواب
قل لهم: لو كان أمامكم لحم آدمي ميت هل تأكلون منه؟ لو وجدتم جدياً متعفناً ميتاً هل تأكلون منه؟ أو جيفة حمار أتأكلون منه؟ هكذا ضرب لنا القرآن والسنة المثل في ترك الغيبة والتقبيح في شأنها.(175/33)
جمع الصلاة في الحضر
السؤال
جمع صلاة الظهر والعصر في الحضر؟
الجواب
نعم.
يمكن للمريض مثلاً، أنه يجمع إذا شق عليه الوضوء لكل صلاة أنه يجمع، فمثلاً صاحب سلس البول يجمع، إذا شق عليه جداً فماذا يفعل؟ هل يتوضأ لكل صلاة في وقتها ويصليها.
والطبيب في غرفة العمليات لا يمكن أن يترك المشرط في بطن المريض مفتوحة ويذهب يصلي كل صلاة في وقتها فماذا يفعل؟ يجمع الظهر مع العصر إذا احتاج إلى عملية طويلة، والمغرب مع العشاء، لكن هل يجوز أن يؤخر الظهر والعصر إلى المغرب؟ أبداً لا يجوز، ولو كانت العملية طويلة جداً، وعلى فرض أنه ما استطاع أن يهيئ وقتاً آخر يتسع، وعلى فرض أنه ما وجد شخصاً آخر يمسك مكانه وهو يذهب ويصلي ويرجع، على جميعهم إذا انتهت جميع الأشياء أن يصلي بحسب حاله، وهو يشتغل في العمليات، ويجوز جمع الظهر والعصر ولكن لا يجوز أن تأخرهما إلى المغرب إذا غربت الشمس فهذا حرام.
فإذاً: المسألة فيها حرج شديد فالرسول صلى الله عليه وسلم جمع قال ابن عباس: [لئلا يحرج أمته] فكل أمر فيه حرج شديد، مثل: المرض مثلاً أو مثل الطبيب في غرفة العمليات، يجمع، مع عدم التساهل في هذا الأمر.(175/34)
الشارع بين مقبرتين
السؤال
الشارع بين مقبرتين؟
الجواب
إذا كان هو من المقبرة، فلا يجوز أن يمشى عليه، إذا كان ليس من المقبرة فلا بأس؛ لأنه قد تكون البلدية خططت شارعاً ليس مقبرة، ولكن المقبرة على اليمين وعلى اليسار، والشارع ليس تحته قبور، وليس من المقبرة، ويوجد أسوار من اليمين ومن اليسار فلا بأس بالمرور في هذا الشارع.(175/35)
المؤذن يفطر قبل الأذان
السؤال
هل على المؤذن أن يفطر قبل الأذان بوقت يسير؟
الجواب
نعم.
إذا غربت الشمس، أكل التمر وأذن.(175/36)
استعمال عطر الكلونيا
السؤال
استعمال عطر الكلونيا؟
الجواب
بعض العلماء يقول: إنها نجاسة عينية، وبعضهم يقول: إنها نجاسة معنوية، فإذاً: بعضهم يجيز استعمالها وبعضهم لا يجيز بناءً على هذا الفهم، والأورع أنك لا تفعل، فإذا تبين لأحد بالدراسة أنه لا يوجد فيها شيء؛ لأن القول بأنها نجسة قول مرجوح مثلاً، فاستعملها فلا عليه شيء، لكن آخر لم يتبين له، فالأدلة متكافئة ما هو الورع في حقه؟ الترك.(175/37)
الغسل بعد التبول
السؤال
إذا تبول الإنسان هل يغسل السبيلين أم محل البول؟
الجواب
يكفي محل البول.(175/38)
مد القدمين تجاه القبلة
السؤال
مد القدمين إلى اتجاه الكعبة؟
الجواب
لا أعلم فيه حرمة، في حدود ما أعلم أنه ليس بحرام.(175/39)
الصور في البيت
السؤال
ذهبت إلى بيت أختي فوجدت عندهم رجلاً يريد أن يشتري البيت، وكان صاحب البيت معه، فقمت لأقلب الصور التي كانت على الجدار؛ فجاءت أختي وتكلمت علي بكلام غير لائق؟
الجواب
اصبر واحتسب الأذى في سبيل الله، ورفعها أحسن من قلبها.(175/40)
الاستيقاظ لصلاة الفجر
السؤال
أخي يأتي لينام ويطلب مني أن أوقظه لصلاة الفجر وهو متزوج فأتصل عليه ولا يرد عليّ ويضع المنبه ولكن نومه ثقيل، وإذا رأيته فيما بعد أراه يلوم نفسه على عدم قيامه، فهل يأثم؟
الجواب
إذا اتخذ جميع الوسائل وما تكاسل، فإنه إن شاء الله لا يأثم، وأما إذا كان تكاسلاً وأوقظ وأحس بأنه قد أوقظ، ولكنه استمر في النوم فهذا مقصر.(175/41)
طلب السماح من المغتاب
السؤال
جلست في مجلس فيه غيبة فهل الواجب علي أن أتسامح من المغتاب؟
الجواب
نعم.
طبعاً إذا كنت أنت راضياً باغتيابه، إلا إذا كان سيجد في نفسه عليك شيئاً، أي: ما كان يعلم أنه قد اغتيب فلما أخبرته آذيته، فارتفعت المسألة في نفسه، وصار فيها مضاعفات، فلا تخبره بالغيبة، بل تب إلى الله واستغفر له ودافع عنه في المستقبل، وأنكر على من يغتابه، واذكر محاسنه.(175/42)
الساعة المطلية بالذهب
السؤال
لبس الساعة المطلية بالذهب؟
الجواب
بعض العلماء يقول: الطلاء إذا حك وكان له جرم فلا يجوز، وبعضهم يقول العبرة بما يظهر وليس بالقيمة، فلو كان الذي يظهر الذهب أو الطلاء الذهبي فهذا لا يجوز ولو كان طلاءً، لكن يكون ذهباً، فلو كان طلاءً أصفر من معادن أخرى، فلا بأس، لكن الذهب لا تلبسه.(175/43)
الراتب المصروف من البنك
السؤال
هل يجوز أن نأكل من راتبنا الذي صرفناه من البنك؟
الجواب
هذا راتبك وهذا تعبك، ولو جاء من البنك، لكن أنت هذا تعبك، فجهة العمل حولته إلى البنك حتى لا تضيع الرواتب أو شيء من هذا القبيل، فصار الآن ضرورة أن تأخذ الراتب من هذا المكان، فكون عملك حلال لا يعني أن الراتب الذي تأخذه حرام، ما دام أن عملك حلال فراتبك حلال، لكن إذا استطعت أن تجد وسيلة أخرى للقبض من غير وضع الفلوس في البنك فهو أحسن.(175/44)
نكاح المشركات الكتابيات
السؤال
نكاح المشركات الكتابيات وهن يعتقدن بذلك؟
الجواب
بعض العلماء مثل ابن عمر قال: لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول بأن عيسى ربها أو كفر أعظم، لكن الصحيح أن الكتابيات يجوز الزواج منهن إذا كن محصنات، لكن أين تجد الآن محصنة من أهل الكتاب، هذا أولاً، وثانياً: الزواج منهن فيه خطر وخصوصاً إذا أقمت في تلك البلاد، لأن القانون يكون معها أحياناً، وتحرم من أولادك، ويتربون في بلاد الكفار، وإذا طالبت بهم في المحكمة تأخذهم وأنت ترجع بلدك خائباً وأنت حسير تلوم نفسك، وذهب أولادك بسبب هذه الخطوة التي أقدمت عليها من الزواج بالكافرة.(175/45)
الاعتذار من إجابة الفتوى
السؤال
بعض الإخوة يكون لديه إلمام جيد ومعرفة أكيدة ببعض الفتاوى الشرعية، لكن إذا سألته عنها اعتذر عن الإجابة وقال: لا أتحمل إثم الفتوى؟
الجواب
إذا كان هناك غيره ممن يفتي في المسألة أو يعلم الفتوى ففعله جيد، أما إذا كان ليس هناك غيره في المكان الذي يسأل فيه السائل وليس هناك من يعلم إلا هو، فلا بد أن يجيب.(175/46)
التبرع بالفوائد الربوية
السؤال
رجل أودع مالاً كثيراً في بنك ربوي، وبعد سنة أخذ الفوائد وتبرع بها للمجاهدين، فهل هذا جائز؟
الجواب
هذا ليس تبرعاً، وإنما هو تخلص، وليس فيه أجر التبرع وإنما هو تخلص.(175/47)
الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها
السؤال
الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها؟
الجواب
إذا كان نفلاً فلا يجوز لأنه وقت نهي، وإذا كان فرضاً واحداً ولم يتذكر الصلاة إلا في ذلك الوقت فيصليها.(175/48)
حكم توليد الرجل للمرأة
السؤال
زوجتي حبلى ولا يوجد في المستشفى إلا رجال أخصائي طب ونساء وطبيب الحالات المستعصية؟
الجواب
إذا كان لا يوجد مستشفى ثانٍ فيه طبيبة نساء صار ذلك اضطراراً، أما إذا وجدت في المستشفيات الأخرى، فاذهب المستشفيات الأخرى.(175/49)
بناء منزل من العمل في البنك
السؤال
أعمل في البنك وأثناء العمل بنيت منزلاً، فما حكمه؟
الجواب
إذا كان أثناء العمل الذي بنى منه لا يعلم بحكم العمل، فلا بأس، أي: أن الأموال التي استفاد منها من البنك ولم يكن يعلم بحكم العمل أنه حرام فلا بأس، عفا الله عما سلف، أما إن كان يعلم فيجب إخراجها أو إخراج مثلها، إذا كانت عنده يتخلص منها، وإذا كانت في شيء لا يمكن إخراجه، مثلاً: شخص عنده سيارة فيها نسبة من مال حلال ونسبة من مال حرام، ماذا يفعل؟ هل يقسم السيارة بالنصف؟! لا.
وإنما يتصدق بمال آخر يوازي قيمة الحرام الذي في السيارة ويتخلص منه.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(175/50)
الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية
في هذا الدرس تحدث الشيخ عن الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية، وقد تطرق فيها إلى مواضيع عدة، منها: فضل معاذ رضي الله عنه، وإتباع السيئات بالحسنات، والحذر من موافقة أهل الكتاب، وأهمية ذكر الله.
ثم عرج على رسالة أخرى اسمها: "قاعدة في المحبة" ذكر فيها أكثر من ثلاثين قاعدة في المحبة ومسائل أخرى مهمة.(176/1)
فضل معاذ رضي الله عنه
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فموضوع الرسالة التي سنتحدث عنها هي: الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وسنمر على هذه الوصية، ثم بعد ذلك نعقبها بتلخيص قاعدة في المحبة في نحو عشرين قاعدة بمشيئة الله تعالى، مع عرض بقية النقاط.
الوصية الصغرى اسم اُشتهرت به رسالة صغيرة لـ شيخ الإسلام رحمه الله، وهي في الحقيقة شرح لحديث معاذ رضي الله عنه:) اتق الله حيثما كنت).
وهذه الوصية أوصى بها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شخصاً طلب منه الوصية، فيكون الكلام عنها من باب التواصي بالحق والتواصي بالصبر الذي أُمرنا به، واشتملت على موضوعات مختصرة ذكرها رحمه الله تعالى، فمنها: فضل معاذ رضي الله تعالى عنه، وقضية إتباع السيئات بالحسنات، ومسألة الحذر من موافقة أهل الكتاب، وأهمية ذكر الله سبحانه وتعالى والإخلاص له، وعموماً فإن الرسالة تدور على التقوى ومعانيها.
أما بالنسبة لهذه الرسالة فإن السبب في كتابتها؛ كان سؤالاً وجهه شخص اسمه القاسم بن يوسف بن محمد التوجيبي السبتي المغربي يقول في رسالته أو سؤاله لـ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "يتفضل سيدنا الشيخ الفقيه الإمام الفاضل العالم بقية السلف وقدوة الخلف، المُبدع المفصح، أعلم من لقيت في بلاد المشرق والمغرب تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية أبقى الله علينا بركته، بأن يوصيني بما يكون فيه صلاح ديني ودنياي، ويرشدني إلى كتاب يكون عليه اعتمادي في علم الحديث، وكذلك في غيره من العلوم الشرعية، وينبهني على أفضل الأعمال الصالحة بعد الواجبات، ويبين لي أرجح المكاسب، كل ذلك على قصد الإيماء والاختصار والله تعالى يحفظه، والسلام الكريم عليه ورحمة الله وبركاته".
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه: الحمد لله رب العالمين، أما الوصية فما أعلم وصية أنفع من وصية الله ورسوله لمن عقلها واتبعها قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]-فما هي أعظم وصية؟ تقوى الله- ووصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً لما بعثه إلى اليمن فقال: (يا معاذ! اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) وهذا حديث صحيح.
وكان معاذ رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة عليَّةٍ فإنه قال له: (يا معاذ والله إنني لأحبك) وكان صلى الله عليه وسلم يردفه وراءه كما جاء في الحديث الصحيح الذي يقول فيه معاذ رضي الله عنه: (كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير، فقال: يا معاذ! هل تدري ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، فقلت: يا رسول الله! أفلا أبشر به الناس؟ فقال: لا تبشرهم فيتكلوا) أخرجه البخاري، ثم أخبر به معاذ رضي الله عنه عند موته تأثماً من كتم العلم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه -أي: في معاذ -: (أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام) كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر -وفي رواية: أرأف أمتي بأمتي أبو بكر - وأشدهم في دين الله عمر، وأشدهم حياءً عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا إن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح) وهذا الحديث أخرجه الترمذي وغيره وهو حسن بمجموع طرقه.
وأخبر عليه الصلاة والسلام أن معاذاً رضي الله عنه يُحشر أمام العلماء برتوة، يتقدم العلماء كلهم يوم القيامة، معاذ بن جبل رضي الله عنه برمية حجر -مسافة- أمام والعلماء وراءه، وقد جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمر وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
ومن فضله أنه صلى الله عليه وسلم بعثه مبلغاً عنه داعياً ومفقهاً ومفتياً وحاكماً -أي قاضياً- إلى أهل اليمن، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري، أنه عليه الصلاة والسلام: (بعث معاذاً إلى اليمن، قال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبهه بإبراهيم الخليل، ولكن هذا قد جاء في طرق موقوفة عن ابن مسعود رضي الله عنه، أي: ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أن معاذ بن جبل يُشبه إبراهيم الخليل من جهة، وإبراهيم كان إمام الناس، وكان ابن مسعود يقول: [إن معاذاً كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين] تشبيهاً له بإبراهيم.
فإذاً: معاذ موحد وإمام يأتم به الناس، وهذا هو وجه مشابهته للخليل إبراهيم عليه السلام.
وكان معاذ رضي الله عنه يجلس ويتصدر في المسجد الجامع في دمشق، وقد دخل عليه واحد من الناس فرآه براق الثنايا فتىً لم يكن كبيراً في السن عندما تصدر بالعلم الذي آتاه الله إياه.
يريد ابن تيمية أن يُوصي الشخص الذي طلب منه الوصية، وأن ينقل له وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل رضي الله عنه.
فوصاه بهذه الوصية، فعُلم أنها جامعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما وصى أعرابياً من الأعراب وإنما وصى معاذاً، ولما وصى معاذاً معناها أنه انتقى له وصية تناسب حاله، فعُلم أنها جامعة، وهي كذلك لمن عقلها، مع أنها تفسير للوصية القرآنية، ووصية الله للبشرية: أن اتقوا الله.
هذه الوصية جامعة -وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ - لأن العبد عليه حقان: حق لله عز وجل، وحق لعباده، فالحق الذي عليه لله قد يُخل به أحياناً والعبد يمكن أن يخل من عدة جهات: أولاً: إما بالإخلال وذلك بترك الواجبات، أو الإخلال بفعل المحرمات، إما أن يترك واجباً أو يفعل محرماً، هذا هو الإخلال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت) أي: لا تترك واجباً ولا تفعل محرماً، وهذه كلمة جامعة، وهذه هي التقوى.
ثم إنه أوصاه بها في السر والعلانية.(176/2)
إتباع السيئات الحسنات
ثم قال له: -فإذا حصل الإخلال ماذا يفعل العبد؟ فجاء الجواب-:) وأتبع السيئة الحسنة تمحها).
فإن المريض متى ما تناول شيئاً مضراً، فإن الطبيب يأمره بإصلاح هذا الضرر الحاصل من تناول الشيء المضر، والذنب للعبد كتناول الشيء المضر، فالكيّس الذي يتعاطى ما يصلح الضرر الذي تناوله، وكذلك لما قال له: (أتبع السيئة الحسنة تمحها) مثل الطبيب إذا جاءه واحد تناول شيئاً مضراً، فإنه ينصحه بأن يتناول شيئاً يصلح الضرر.
والعبد إذا أذنب؛ فعليه أن يأتي من الحسنات ما يكفر الذنب ويزيل الضرر، وتنبه للحكمة البالغة في أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بذكر السيئة قبل الحسنة، قال: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) فبدأ بالسيئة؛ لأن المقصود هنا إزالة أثر السيئة لا مجرد فعل الحسنة، ولذلك بدأ بذكر السيئة، فصار قوله كما في بول الأعرابي: (صبوا عليه ذنوباً من ماء) هذه مثل أتبع السيئة بالحسنة فيذهب الماء دنس النجاسة وأثرها.
وقد نبه شيخ الإسلام رحمه الله إلى مسألة وقال: ينبغي أن تكون الحسنات المعمولة -إذا عملت ذنباً- من جنس السيئة فإنه أبلغ في محو الذنوب.
فإذا سافر شخص إلى بلد فسق وفجور وعمل معصية، فالحسنة المشابهة أن يذهب في عمرة، أو في سفر حج، أو في سفر جهاد، أو في سفر طلب علم، أو في سفر طاعة مثلاً.
(من قال لصاحبه: تعال أقامرك؛ فليتصدق) أي: إذا عمل معصية تتعلق بالأموال، فالحسنة المشابهة التصدق، إذا قطع رحماً يصله، فالحسنة المكفرة من جنس السيئة ومن نفس الباب تكون أبلغ في التكفير والتطهير، وأبلغ في محو الذنوب.(176/3)
أسباب إزالة السيئات
ثم نبه رحمه الله تعالى إلى أن السيئة عموماً تزال بأشياء، فلو قال لك أحد: أنا عملت سيئة، ما هي أسباب إزالة السيئات في الشريعة؟ وهذا الموضوع مهم أن يطرح وخصوصاً في هذه الأيام لكثرة السيئات، الآن نتيجة وجود المعاصي وأبواب الشر والشهوات، وهذه الأفلام وهذه الصحون وغيرها وقع الناس في المعاصي، فالشاهد فساد الأسواق والشوارع والمدارس والبنات والنساء، فصارت هناك معاصٍ كثيرة في المجتمع، فالمهم أن يطرح موضوع: كيف نطهر السيئة؟ لأن كثيراً من الناس لا يخلون من فعل المعصية، فمن ذا الذي يخلو من فعل المعصية في هذه الأيام، مع كثرة أبواب الشر والمعاصي التي فتحها اليهود وأعوانهم.
فمهم جداً أن يركز على قضية كيف تكفر السيئة؟ تكفر السيئة بأسباب: أولاً: التوبة.
ثانيا: الاستغفار.
فإن الله تعالى قد يغفر لهذا الشخص بإجابة دعائه عندما يقول: اللهم اغفر لي، وإن لم يتب التوبة بشروطها المعروفة، وإذا اجتمعت التوبة مع الاستغفار؛ كان أكمل.
ثالثاً: الأعمال الصالحة المكفرة.
ثم إن هذه المكفرات قد تكون مقدرة وقد تكون غير مقدرة.
المكفرات المقدرة: تدور أجناسها في الشريعة على أربعة أشياء: الأول: الذبح.
الثاني: العتق.
الثالث: الصدقة.
الرابع: الصيام.
لو نظرنا إلى المكفرات، فمثلاً: إذا حلف شخص فعليه كفارة يمين، شخص جامع في نهار رمضان، أو ظاهر من زوجته، أو عمل محظوراً من محظورات الإحرام مثلاً: صاد في الحرم.
المكفرات إذا نظرنا إليها في الشريعة إما أن تكون مقدرة أو غير مقدرة، وإذا نظرنا إلى الأشياء المقدرة، نجد أنها تدور على أربعة أشياء: الذبح والعتق والصدقة والصيام.
كما جاء في مرتكب بعض محظورات الحج والمجامع في رمضان، والتارك لبعض واجبات الحج ونحو ذلك.
أما الكفارات المطلقة غير المقدرة، فإنه قد أشير إليها في حديث حذيفة لـ عمر رضي الله عنهما، قال له من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في أهله وماله وولده، يكفرها: الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إذاً أبواب الخير عموماً، وقد دل القرآن والسنة على أن التكفير يكون بالصلوات الخمس، كما في الحديث: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر).
وكذلك من فعل كذا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه، ونحو ذلك جاءت أعمال صالحة مطلقة، أي: أعمال صالحة عموماً التي يفعلها يُغفر له، فإذاً: من المكفرات الأعمال الصالحة عموماً.(176/4)
الحذر من موافقة أهل الكتاب
ثم يقول منبهاً على زمان كأنه زماننا، ولكن نحن أسوأ بزمانه بكثير بالتأكيد، يقول: (واعلم أن العناية بهذا من أشد ما بالإنسان الحاجة إليه، فإن الإنسان من حين يبلغ خصوصاً في هذه الأزمنة ونحوها من أزمنة الفترات التي تشبه الجاهلية) الفترة هي التي ما جاء فيها رسول، وقد جاء رسولنا على حين فترة من الرسل، أي: انقطاع من الرسل.
يقول: (فإن الإنسان من حين يبلغ خصوصاً في هذه الأزمنة ونحوها من أزمنة الفترات التي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه).
فتشبه الجاهلية بسيادة الشر وعلو الشر وباختفاء آثار دعوة الرسل، وقلة العلم، وفشو الجهل، وفشو المعاصي، فجاهليتنا تشبه الجاهلية الأولى من وجوه كثيرة.
(التي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه) إذاً: هذه العناية بقضية تكفير السيئات خصوصاً عند الإنسان إذا بلغ في أزمنة الجاهلية التي نحن الآن واقعون فيها قال: (فإن الإنسان الذي ينشأ بين أهل علم ودين قد يتلطخ من أمور الجاهلية بأشياء، فكيف بغير هذا؟).
فلو نشأ واحد في القرون الثلاثة الأولى، أو نشأ بين أهل علم ودين فمن الممكن جداً أن يتلطخ بذنوب، فكيف إذا نشأ الشخص في أوقات جاهلية، مثل زماننا.
يقول: زمانه ومن باب أولى زماننا الذي نحن فيه الآن، حيث يتلطخ زيادة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر أن الناس يتلطخون بالأشياء التي يفعلها اليهود والنصارى بالذات، ولذلك قال في الحديث الصحيح: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) مثل ريش السهم في تواليها وانتظامها وموازاتها لبعضها حذو القذة بالقذة في تتاليها وتوازيها وتماثلها (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن) من غيرهم؟ هؤلاء الذين أعني، فهذا الحديث يبين أن التشبه سيسري، فقد قال: لتتبعن، فالخطاب للمسلمين، فأثبت أن التشبه سيسري في الأمة، وأنه سيسري إلى أصحاب الدين أيضاً، كما قال غير واحد من السلف، فإن كثيراً من أحوال اليهود قد ابتلي به بعض المنتسبين إلى العلم، مثل كتم العلم، والتلبيس، يشترون به ثمناً قليلاً، يبيع لك فتوى، أو يصدر فتوى توافق هوى شخص، فإن بعض أهل العلم سيتشبهون باليهود والنصارى.
(وكثيراً من أحوال النصارى قد ابتلي به بعض المنتسبين إلى الدين) كما يوصل ذلك من فهم دين الإسلام، فـ الصوفية منتسبون للدين مشابهون للنصارى، وبعض المفتين وبعض الذين يحملون شهادات شرعية ودكاترة وإلى آخره، يتشبهون باليهود من جهة كتم العلم وتحريف العلم، ولوي أعناق النصوص، وبيع الفتاوى وإصدار الفتاوى حسب الأهواء، وبعض المنتسبين للدين من العبّاد والزهاد وغيرهم سيشابهون النصارى في الرهبنة والبدع والانحراف.
فالنصارى مشكلتهم البدعة: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد:27] وهؤلاء بعض الذين ينتسبون للدين من أصحاب بعض الطرق الصوفية، ملايين في العالم، وهم سائرون في قضية البدعة.
(وإذا كان الأمر كذلك {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ} [الزمر:22] {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122] لا بد أن يلاحظ أحوال الجاهلية، وطريق الأمتين المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى فيرى أنه قد ابتلي ببعض ذلك).
إذاً: يقول: ألقوا نظرة على سيرة اليهود والنصارى وتمعنوا فيها، لاحظوا أحوال الجاهلية ستجدون أنفسكم أنكم قد ابتليتم بشيء من هذا، واتبعتموهم في قليل أو كثير.
فأنفع ما للخاصة والعامة لو قلنا: نحن المتدينين والملتزمين، لو قلنا نحن الخاصة، وهؤلاء العامة الذين لا ينتسبون إلى التدين، ولكن دخول التشبه في الجميع، لا يمكن استثناء أحد.
فإذا وقعت الواقعة في قضية التشبه واتباع اليهود والنصارى في أشياء (فأنفع ما للخاصة والعامة العلم بما يُخلص النفوس من هذه الورطات) والورطات جمع ورطة، والورطة في لغة العرب: الشيء الذي لا مخلص منه، ولا مخرج منه، فإذا دخل شخص فيه لا يكاد يخرج منه، قال: (وهو إتباع السيئات الحسنات).
إذن المخرج من الورطات هو إتباع السيئات الحسنات (والحسنات هو ما ندب الله إليه على لسان خاتم النبيين من الأعمال والأخلاق والصفات).
إلى هنا ذكرنا من مكفرات الذنوب ثلاثة: أولاً: التوبة.
ثانياً: الاستغفار.
ثالثاً: الحسنات الماحية وهي الأعمال الصالحة.
رابعاً: المصائب المقدرة، وهذه من المكفرات.
المصائب المكفرة أي: التي تكفر الذنوب، هي: كل هم وغم وألم وحزن ومرض وأذية في مال أو جسد أو غير ذلك، أو عرض إلى آخره، فالحسنات الماحية مطلوب منك أن تسعى إليها، لكن المصائب المقدرة ليست من فعلك، وهذه مسألة مهمة، فلا يقال: مرّض نفسك؛ حتى يكفر عنك سيئاتك، أو قف بالشمس؛ حتى تُصاب بضربة وتكفر عنك سيئاتك، وجوّع نفسك حتى تتألم ويكفر عنك سيئاتك، لا! المصائب المكفرة لا تكون بفعل العبد وإنما هي من قدر الله تعالى.
فلما قضى من هذا الأمر قال له: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها) قال له: (وخالق الناس بخلق حسن) ونحن كنا قد تكلمنا أن الحقوق على العبد من جهتين: حقوق لله، وحقوق للخلق، حقوق لله قد جرى الكلام فيها، وحقوق العباد كيف تؤدى؟
الجواب
بهذا الشطر من الحديث وهو قوله: (وخالق الناس بخلق حسن) فما هو جِمَاع الخلق الحسن مع الناس؟ جاء في أحاديث لو جمعتها تخرج بنتائج، ومنها: أولاً: (صل من قطعك) بالسلام والإكرام والدعاء له والاستغفار والثناء عليه والزيارة له وغير ذلك.
ثانياً: (وتعطي من حرمك) من التعليم والمنفعة والمال.
ثالثاً: (وتعفو عمن ظلمك) من ظلمك في دم أو مال أو عرض، وبعض هذه الأشياء واجبة وبعضها مستحبة، فهذا كله داخل في التقوى؛ لأن وصية الله لعباده بالتقوى تجمع كل ما أمر الله به، أمر إيجاب أو أمر استحباب، وما نهى عنه تحريماً أو تنزيهاً، سواء كان حراماً أو مكروهاً، فهذا يجمع حقوق الله وحقوق العباد.
ولا شك أن أكثر الناس إيماناً أكملهم خلقاً، كما جاء في الحديث الصحيح: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) فجعل كمال الإيمان في كمال حُسن الخلق، والإيمان كله هو تقوى الله، فهذا إذاً ملخص الموضوع.
وأصول التقوى وفروعها كلها هي الدين، وينبوع الخير وأصله: هو إخلاص العبد لربه عبادة واستعانة، لو قال: فسرها لنا بكلام آخر، نقول: التقوى هي الدين، وبكلام آخر: قال عبادة واستعانة، التي جاء قوله تعالى فيها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وقوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123] وقوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].(176/5)
أفضل الأعمال بعد الفرائض
بهذا انتهى الجزء الأهم والأعم والأشمل من الوصية، ثم انتقل بعد ذلك للجواب على جزئية وردت في السؤال.
الجزئية الثانية التي وردت في السؤال هي عن أفضل الأعمال بعد الفرائض، كأن السائل يقول: الفرائض أنا أعرفها، وأنت عالم، وأنا وقتي وعمري محدود، دلني على عمل بعد الفرائض أعمله، فأنت عالم حجة، فأنا سوف أستفتيك في عمري هذا بعد الفرائض في أي شيء أقضيه؟ قال: (وأما ما سألت عنه من أفضل الأعمال بعد الفرائض، فإنه يختلف باختلاف الناس فيما يقدرون عليه وما يناسب أوقاتهم) لاحظ الكلام ففيه حكمة بالغة؛ لأنه يُراعي ظروف الناس.
فهناك من هو طالب، أو تاجر، أو موظف، ومن وظيفته قصيرة كمدرس، ومن وظيفته طويلة كموظف في شركة، ومن لديه نوبات، أو عاطل عن العمل، فالناس يختلفون، وهناك من ترك له أبوه إرثاً وعقارات، فلا يحتاج أن يعمل، فأفضل شيء بالنسبة لكل واحد يختلف باختلاف أحوال الناس وأوقاتهم، وهذه أوقات وقد ذكرنا أمثلة.
أما أحوالهم فهذا مثلاً عنده علم والنفس لا تشبع من العلم نهمة، وهذا عنده جلد وصبر على القراءة، وهذا عنده فهم وقوة وحافظة وقدرة على التعليم، فما أنفع شيء بالنسبة له، أن يعلِّم ويتعلم.
وهناك من عنده قدرة في التخطيط للقتال وخبرة في المعارك والسلاح، فهذا الأنفع له أن يعاون المسلمين مثلاً في الجهاد.
وآخر عنده صبر على الأذى وجرأة في الحق وقوة في الدين وحسن أسلوب، يشتغل في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويركز عليه.
وقد يكون آخر عنده خبرات تفيد المسلمين في مال أو اقتصاد أو تأسيس أعمال خيرية ونحو ذلك.
وهذا عنده خبرة في الأسفار وتعلم اللغات بسرعة، وقد يفيد في أعمال الإغاثة ونحو ذلك.
إذاً أفضل شيء عموماً يختلف باختلاف أحوال الناس، وحتى في العلم، قد يكون واحد عنده قدرة على الخطابة، وآخر عنده قدرة على التأليف، فتقول لهذا الذي يحسن التأليف ألِّف، والذي يحسن الخطابة ألق دروساً ونحو ذلك.
هذا صوته جميل بالإمامة، وهذا موهبته الشعرية يذب عن المسلمين بها وهكذا.
فالمسألة قدرات، والناس قدرات وطاقات، لكن قد يقول واحد مثلاً: أليس هناك شيء جامع أو ورد فضله على جميع الأعمال مثلاً فلفت نظره إلى هذه المسألة.(176/6)
أهمية الذكر وفضله
بعد أن قال: (فلا يمكن فيه جواب جامع مفصل لكل أحد، لكن مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره) -يقول وإذا لم نتمكن أن نعطي جواباً مفصلاً في هذه المسألة، لأن الناس يتفاوتون، لكن هناك شيء معين يمكن أن يشترك فيه الجميع، بالإضافة لقيام كل واحد بما يحسنه، فما هو هذا الشيء؟ قال: (إن ملازمة ذكر الله دائماً هو أفضل ما يشغل العبد به نفسه في الجملة).
وعلى ذلك دل حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون، قالوا: يا رسول الله! من المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) وهذا حديث صحيح والمفردون: هم المنفردون الذين هلك أقرانهم وبقوا هم، والمقصود أنهم بقوا يذكرون الله سبحانه وتعالى.
وكذلك حديث أبي داود: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم -هذا يقتضي التفضيل- وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله) حديث صحيح بطرقه.
وكلمة (ذكر الله) ماذا تعني؟ قال: (أقل ذلك-أي: أقل مرتبة في ذكر الله- أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين، كأذكار طرفي النهار، وعند المضجع، والاستيقاظ من المنام، وأدبار الصلوات، والأذكار المقيدة في الأكل والشرب واللباس والجماع، ودخول المنزل والخروج منه، ودخول المسجد والخروج منه، ودخول الخلاء والخروج منه، وعند العطاس وعند المطر وعند الرعد وعند المصيبة وغير ذلك من المناسبات) وهذه هي التي صُنفت لها كتب بعنوان: عمل اليوم والليلة، فإذا رأيت عالماً كتب كتاباً بعنوان: عمل اليوم والليلة فاعلم أن هذا موضوعه.
فهذه الأذكار المقيدة بمناسبات وأوقات، وهناك الأذكار المطلقة، وأفضل شيء في الأذكار المطلقة (لا إله إلا الله) وأذكار أخرى وردت مثل: (سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله).
فالآن كلمة (ذكر الله) -حتى لا يتصور الواحد أنها محصورة في هذه الجمل- أشار رحمه الله إلى أن كلمة (ذكر الله) تشمل إلى جانب الأشياء اللسانية التي تكون فاضلة جداً إذا تصورها القلب، فبعض الناس تجده بعد الصلاة فقط لسانه وأصابعه تشتغل وعقله في مكان ونظره على الناس، ويظن أنه الآن يقوم بأفضل الأعمال، لا، هذا قلب غافل لاه، فإذا كان اشتغال اللسان مع موافقة القلب، هذا من هذه الجهات، لكن ذكر الله أشمل وأعم من قضية الأذكار التي هي باللسان.
قال: (فإن ذكر الله يشمل كل ما يقربه من الله، من تعلم العلم وتعليمه) مثل جلوسنا للعلم إذا أخلصنا فيه النية، هو من ذكر الله الذي هو أفضل من كل شيء ومن أفضل الأعمال، قال: (تعلم العلم وتعليمه، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، هذا من ذكر الله) ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض، أو جلس مجلساً يتفقه أو يفقه فيه الفقه، الذي سماه الله ورسوله فقهاً، ليس فقط الفقه الحلال والحرام، الفقه الأكبر، الإخلاص وما يتعلق به، فهذا أيضاً من أفضل ذكر الله، وعلى ذلك إذا تدبرت لم تجد بين الأولين في كلماتهم في أفضل الأعمال كبير اختلاف، فعندما يقول الأفضل كذا وأفضل الأشياء كذا، فإذا نظرت لها في النهاية تجد أن ذكر الله يجمعها، فلا تعارض إذاً.
وهذا الذي كان يُشير إليه ويُدندن حوله في عدد من كتبه رحمه الله في قضية اختلاف التنوع واختلاف التضاد، وأن هذا كله في قضية اختلاف التنوع الذي هو في الحقيقة لا تعارض فيه ولا تصادم.
نظراً لأن الناس قد يجهلون ما هو الأصلح لهم، وليس كل شخص يدرك ما هو الأفضل بالنسبة في حقه، وقد لا يعرف الشخص دائماً كل قدراته، ولا يدري إذا ضرب بسهم في هذا المجال أفضل أو في هذا المجال أفضل، هل يتوجه إلى هذا العمل أفضل، أو إلى هذا العمل أفضل.
نظراً لأنه ستعترض الشخص أشياء من الإشكالات لأجل عدم قدرته على الإحاطة بالظروف الموجودة، وعدم معرفة الغيب طبعاً، وماذا سيئول إليه حاله لو اشتغل بالتعليم أو بالجهاد أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك.
نظراً لهذا أشار رحمه الله إلى أهمية أنه لو وقع أحد في مثل هذا الظرف ما هو المهم بالنسبة له أن يعمل؟ الاستخارة! قال: (وما اشتبه أمره عليه فعليه بالاستخارة المشروعة، فما ندم من استخار الله تعالى، وليُكثر من ذلك ومن الدعاء؛ فإنه مفتاح كل خير، ولا يعجل فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي، وليتحرَّ الأوقات الفاضلة كآخر الليل وأدبار الصلوات وعند الأذان ووقت نزول المطر وغير ذلك).
هذا حتى يدعو الله أن يوجهه إلى أحسن وجهة وأحسن شيء يستغل فيه نشاطه ووقته ويستفيد ويفيد.(176/7)
أرجح المكاسب
بعد ذلك كأن السائل قد سأل سؤالاً يتعلق بالمكاسب، أي: من أين يعيش؟ وما هي العدة في مسألة كسب الرزق؟(176/8)
التوكل والدعاء
فقال شيخ الإسلام: (وأما أرجح المكاسب، فالتوكل على الله والثقة بكفايته وحسن الظن به، وذلك لأنه ينبغي للمهتم بأمر الرزق؛ أن يلجأ فيه إلى الله ويدعوه كما قال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم).
وفيما رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر) شسع النعل: هي سيور النعل الذي يدخل بين الأصبعين، وطرفه في الثقب الذي في صدر النعل، حتى يمسك القدم بالنعل، فلو انقطع هذا؛ فإنه يسأل ربه.
فإذا جئت تطلب الرزق والمكاسب؛ عليك بأمرين مهمين جداً: التوكل والدعاء {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] وهذا وإن كان في يوم الجمعة، ولكن المعنى قائم في جميع الصلوات، بعد الصلاة اخرج وابتغ من فضل الله.
(ولهذا -والله أعلم- أمر الشخص إذا دخل المسجد أن يقول: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج أمر أن يقول: اللهم إني أسألك من فضلك) فكأنه الآن يناسب الخروج من المسجد كأنك ستذهب إلى المكاسب، فتسأل الله من فضله، لأن الأعمال والوظائف تُقطع لأجل الصلاة وتخرج من الصلاة وأنت قاصد العودة أو الذهاب إلى المكاسب {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت:17] هذا الأمر للوجوب، فهذه أول وصية في قضية المكاسب: التوكل على الله والدعاء وحسن الظن بالله وأنه يدبرك سبحانه وتعالى أحسن من تدبيرك لنفسك.(176/9)
سخاوة النفس في المال
ثانياً: (ثم ينبغي له أن يأخذ المال بسخاوة نفس ليُبارك له فيه) أي يأخذ المال بطيب نفس دون حرص على المال ودون جشع فيه، ودون هلع فيه، دون جمع للمال وكنزه وعدم إنفاقه وتجميده، وبخل به وحرص عليه، وإنما يجب أن يكون معطاءً كريماً سخياً، وإن أخذ قرشاً لا يقول له وقد أودعه صندوقه: (لن ترى النور بعد الآن) وإنما يأخذه بسخاوة نفس، أي يأخذه الآن ويعطيه غداً ويسلف هذا، ويؤجل هذا، ويسامح في هذا ويصل رحماً به، ونحو ذلك بسخاوة، فلا يكون القرش عنده عزيزاً إذا دخل صندوقه لا يرى النور ولا يخرج، وإنما يأخذ المال ويضع المال وينفق ويدخل بسخاوة نفس، نفس ليست هلعة على المال، وإنما يكون المال عنده بمثابة الحمار الذي تركبه، وبيت الخلاء الذي تقضي فيه حاجتك.
فالمال لا بد منه، فهو لازم وهو الذي جعل الله لكم قياماً، فقال: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء:5] دنياك لا تقوم إلا بالمال، لا تذهب ولا تجيء إلا بالمال الذي جعله الله لك قياماً، ولكن هذا المال إذا أخذته بسخاوة نفس ولم تكن جشعاً وهلعاً فيه، يكون هذا المال بالنسبة لك وتعلقك به كحمارك الذي تركبه، وبيت الخلاء الذي تدخله، فهل تجد الإنسان وهو يحتاج إلى الدابة للتنقل والمشاوير مثلاً، يحتاج إلى بيت الخلاء ليقضي الحاجة فيه، أليست الحاجة ماسة إلى الحمام والمرحاض، ولكن هل تجد الواحد يعانق حماره بلهف وهو عزيز عليه، ولا ينتظر اللحظة التي يدخل فيها الخلاء ويحبه جداً ولا يكاد يفارقه، لا، فالشيء الذي لا بد منه، فاتخاذه لا بد منه، لكن هل نفسه متعلقة فيه ومنشدة إليه وحريصة عليه ومنكبة عليه، تحبه حباً جماً، لا! بالعكس، فالمطلوب إذاً اتخاذ المال ولكن يكون مثل حمارك ومرحاضك، ولكن من الذي ينفذ القضية الآن، هذا الكلام سهل ولكن أين التطبيق؟! وقد مر معنا في سيرة الشيخ الشنقيطي رحمه الله أنه كان لا يميز بين الأوراق النقدية العشرة والمائة والخمسين والذي في يده للآخرين، يأخذ مصاريف البيت والباقي يتصدق به، هذا من سخاء النفس، يُبارك له فيه، ولو ما استعمل منه إلا القليل، لكن يبارك له فيه، وأما الذي يجمع الملايين بدون سخاوة نفس لا يبارك له فيها، ولا يستمتع بها، بل قد تكون نكداً عليه، وهو في قلق وهم وغم ملازم له (من أصبح والدنيا أكبر همه، شتت الله عليه شمله، وفرق عليه ضيعته، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة أكبر همه، جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) حديث رواه الترمذي رحمه الله تعالى وهو حديث صحيح بطرقه.
وقال بعض السلف: [أنت محتاج إلى الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج] فإذا بدأت بنصيبك في الآخرة، مر عليك نصيبك في الدنيا فانتظمته انتظاماً، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].
وأما إذا بدأت بالدنيا فقد لا تصل إلى عمل الآخرة، لكن إذا بدأت بعمل الآخرة، وجعلت الآخرة هي الأولوية وهي الأصل جاءتك الدنيا وهي راغمة، وإذا ركضت وراء الدنيا واجتهدت فيها وجعلتها هي الأولوية، فكيف تعمل لآخرتك، وقد قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص:77] هذا رقم واحد، والثاني: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] وقال: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] وقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
هذا كله في أعمال الآخرة، وفي الدنيا قال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] قال: امشوا، والآخرة قال: اسعوا، إذاً الآخرة مقدمة وينبغي أن يكون العمل لها أكثر وتأتيك الدنيا.
قال: (فأما تعيينه) الآن جاء على التفصيل في قضية المكاسب، فهذه الأشياء هي الإطارات العامة لقضية كسب الرزق، وهناك الأشياء الخاصة، فلو قال مثلاً: بماذا تنصحني أيها الشيخ أن أتوجه، قال: (فأما تعيين مكسب على مكسب من صناعة أو تجارة أو بناية -عقارات- أو حراثة -زراعة- أو غير ذلك فهذا يختلف باختلاف الناس ولا أعلم في ذلك شيئاً عاماً، لكن إذا عَنَّ للإنسان جهة فليستخر الله تعالى فيها الاستخارة المتلقاة -إن فتح لك مثلاً باب تجارة أو باب عقار أو باب زراعة- عن معلم الناس الخير صلى الله عليه وسلم فإن فيها من البركة ما لا يُحاط به، ثم ما تيسر له أن ينفتح له الباب فلا يتكلف غيره، إلا أن يكون منه كراهة شديدة، فالباب الذي ينفتح توكل على الله واستمر فيه، إلا إذا كنت تكرهه كراهة شديدة.(176/10)
وصية لطالب العلم
ثم تحدث شيخ الإسلام رحمه الله في وصيته في اتجاه السؤال الذي سأله السائل عن قضية الكتب قائلاً: (وأما ما تعتمد عليه من الكتب في العلوم فهذا باب واسع، وهو أيضاً يختلف باختلاف نشء الإنسان في البلاد).
لأن المذاهب موزعة في البلاد، هناك بلاد -مثلاً- أكثر ما يمشون عليه المذهب الحنبلي، وبعضها الحنفي، وبعضها الشافعي، والمالكي في المغرب كذا، فالمسألة أو القضية الآن تختلف باختلاف أين ينشأ الإنسان؟ قال: (تختلف باختلاف نشء الإنسان في البلاد، فقد يتيسر له في بعض البلاد من العلم أو من طريقه ومذهبه فيه ما لا يتيسر له في بلد آخر، لكن جماع الخير، أن يستعين بالله سبحانه في تلقي العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذي يستحق أن يسمى علماً).
إذن يا إخوان يا طلبة العلم هذه الوصية لـ شيخ الإسلام في منهج طالب العلم أنه مهما تفقه على أي كتاب وعلى أي مذهب، أو على أي شيخ، يجب أن يكون عنده حرص خاص واهتمام بالغ وعناية زائدة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا هو العلم، حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي يستحق أن يُسمى علماً، وما سواه أي غير القرآن والسنة:
كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
العلم ما كان قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين
فإذن أن يكون ميراث محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي يغنيك ولتكن الهمة فهم مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره ونهيه وسائر كلامه.
فضع يا طالب العلم في نصب عينيك وفي ذهنك هذا الأمر: ما هو مقصود الشارع في كل أمر ونهي وفي كل تشريع، تجد مقصود الشارع هو هذا التفقه أما الحفظ فقد يحفظ أي أحد، لكن ماذا وراء الأمر وماذا وراء النهي وماذا قصد الشارع، هذا هو العلم والفقه.
قال: (فإذا اطمأن قلبك أن هذا هو مراد الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يعدل عنه) خذ القول الموافق لأن يكون هو مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، فأقوال العلماء في الأحكام كثيرة جداً، خذ القول الذي تعتقد أنه موافق لمراد الرسول صلى الله عليه وسلم.
(فلا يعدل عنه فيما بينه وبين الله تعالى ولا مع الناس إذا أمكنه ذلك، وليجتهد -وهذه وصية ثانية لطالب العلم- أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا اشتبه عليه مما قد اختلف فيه الناس فليدْعُ بما رواه مسلم) إذاً: بعد قضية ما تيسر لك من التفقيه على أي مدرسة أو شيخ أو مذهب على حسب البلد التي أنت موجود فيها، تتوجه همتك نحو: أولاً: السنة.
ثانياً: معرفة مقصد الشارع.
ثالثاً: أن يكون في كل مسألة عندك دليل تحفظه، تعتصم في كل باب بأصل مأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون عندك في كل مسألة دليل مهم تحفظه، وأصل ترجع إليه، قوة وحجة وبيان وبرهان، فلو قال لك واحد: هاتوا برهانكم، تقول: خذ، ائتوني بأثارة من هذا؟ خذ هذا الدليل.
رابعاً: إذا اشتبه عليك، فقد يحرص ويجتهد ويتعب ولكن لا يخرج بنتيجة نهائية واضحة في الموضوع، ولا يدري هذا أم هذا، فماذا تقول، وماذا تفعل؟ قال: (فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام يصلي من الليل: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب الشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
فإذاً الدعاء أن يوفقك الله، إذا كان هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي يقوم ويصلي في الليل ويدعو: (اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك) فما بالك بنا حيث نحن أدنى منه ونحتاج إلى هذا الطلب والدعاء دائماً، وكثير من المسائل خلافية، التي يحتار الإنسان فيها: (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم).
أما وصف الكتب والمصنفين، فقد ذكرنا ذلك في مناسبات كثيرة من أفضل الكتب: (وما في الكتب المصنفة المبوبة أنفع من صحيح محمد بن إسماعيل البخاري) هذا أنفع كتاب في السنة، فإذاً طالب العلم إذا أراد أن يدرس السنة أول شيء يتوجه إليه أو أهم شيء في هذا الموضوع، صحيح محمد بن إسماعيل البخاري أبو عبد الله أمير المؤمنين في الحديث، قال: (لكنه وحده لا يقوم بأصول العلم) فليس كل العلوم في صحيح البخاري، ولا يقوم بتمام المقصود للمتبحر في أبواب العلم، إذ لا بد من معرفة: أولاً: أحاديث أخر.
ثانياً: كلام أهل الفقه وأهل العلم في الأمور التي يختص بعلمها بعض العلماء، فهناك أقوال تحتاج فيها إلى أقوال علماء لا تجدها في صحيح البخاري، وأحاديث أخرى لا تجدها في صحيح البخاري، وقد أوعبت الأمة في كل فن من فنون العلم إيعاباً، فمن نور الله قلبه وهداه بما يبلغه من ذلك بلغه، ومن أعماه لن تزيده كثرة الكتب إلا حيرة وضلالاً).
إذاً: المسألة ليست بكبر المكتبة التي عندك، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن لبيد الأنصاري: (أوليست التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى، فماذا تغني عنهم؟) وهذا حديث صحيح الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام لما نظر إلى السماء مرة قال: (هذا أوان رفع العلم، قال رجل من الأنصار يقال له زياد بن لبيد: يا رسول الله! يرفع العلم وقد أثبت ووعته القلوب، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كنت لأحسبك أفقه أهل المدينة، ثم ذكر ضلالة اليهود والنصارى على ما في أيدهم من كتاب الله) يقول: كان عندهم التوراة الحقيقية وعندهم الإنجيل الحقيقي، فحرفوه وضلوا.
ثم ختم وصيته بهذا الدعاء فقال: (فنسأل الله العظيم، أن يرزقنا الهدى والسداد ويلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد أن هدانا، ويهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، والحمد لله رب العالمين وصلواته على أشرف المرسلين).
ثم ذكر بعد ذلك الذين سمعوا هذه الوصية منه عدد من الأئمة في هذا المجلس بقراءة القاسم بن محمد بن يوسف البرزالي على ابن تيمية في ليلة الثالث من شهر ربيع الآخر سنة (697هـ) بدار الحديث بالقصاعين بـ دمشق.
والحمد لله رب العالمين.(176/11)
ثلاث وعشرون قاعدة في المحبة
الموضوع التالي: هناك ثلاث وعشرون قاعدة في المحبة.
الحمد لله، نلخص الآن قواعد المحبة التي ذكرها رحمه الله تعالى، وهناك بعض العبارات الجامعة التي ذكرها رحمه الله في كتاب (قاعدة في المحبة) ونرى بعد ذلك ما يمكن أن نأخذه من التفاصيل، أو بعض التفاصيل الأخرى المهمة التي ذكرها.
القاعدة الأولى: الحب والإرادة أصل كل فعل وحركة في العالم.
القاعدة الثانية: أصل المحبة المحمودة التي أمر الله بها، هي عبادته وحده لا شريك له.
القاعدة الثالثة: لا صلاح للموجودات إلا أن يكون كمال محبتها وحركتها لله.
القاعدة الرابعة: المحبة لها آثار وتوابع، ولها لذة وألم، فاللذة عند نيل المحبوب، والألم عند فقده.
القاعدة الخامسة: كل محبة لا يكون أصلها محبة الله وإرادة وجهه؛ فهي باطلة وفاسدة.
القاعدة السادسة: المحبة والإرادة أصل كل دين، سواء كان ديناً صالحاً أو ديناً فاسداً، فهذه العلاقة بين الدين والمحبة.
القاعدة السابعة: أن بني آدم لا بد أن يشتركوا في محبة شيء عام، وبُغض شيء عام، وهذا هو الدين المشترك.
القاعدة الثامنة: في قلوب بني آدم محبة لما يتألهونه ويعبدونه، وهذا صلاح القلوب -إذا كان التأله لله عز وجل صلحت قلوبهم بمحبة الله- وكذلك كما أن في نفوس بني آدم محبة لما يطعمونه وينكحونه، ولكن حاجة البشرية إلى التأله أعظم من حاجتهم إلى الغذاء؛ لأن الغذاء إذا فُقد يفسد الجسم، وبفقد التأله؛ تفسد النفس كلها، فحاجة البشرية إلى عبادة الله ومحبته، أكثر من حاجتها إلى محبة الطعام والشراب بما لا يُوصف.
القاعدة التاسعة: قوة المحبة يتفاوت الناس فيها تفاوتاً عظيماً، حتى إن الناس يتفاوتون في الشيء الواحد، والمحبة تارة تضعف وتارة تقوى، فالمحبة مثل الإيمان تزيد وتنقص.
القاعدة العاشرة: محبة غير الله إذا زادت؛ صارت إفراطاً وانقلبت، ومحبة الله مهما زادت؛ فإنها تنفع ولا تضر، فمحبة غير الله إذا زادت عن حد معين؛ تصبح إفراطاً وتنقلب وتصبح ضارة، ومحبة الله مهما زادت؛ تنفع ولا تضر.
القاعدة الحادية عشرة: إثبات المحبة لله على أن محبة الله صفة من صفاته، وإثبات محبة العبد لربه، وذكر أنه ضل في هذا الباب فريقان، فريق جحدوا محبة الله، فقالوا: الله لا يحب، وفريق أدخلوا فيها اعتقادات فاسدة من المتصوفة وغيرهم، فإثبات المحبة صفة لله وإثبات محبة المؤمنين لربهم.
القاعدة الثانية عشرة: محبة ما يحبه الله من الأعيان والأعمال من تمام محبة الله، ولا يمكن أن تُفْصَل، فإذا كنت تحب الله ستحب كل شخص يحبه الله، كل نبي، وولي، وصالح، وعالم قائم بأمر الله، وكذلك ستحب كل عمل يحبه الله من صلاة وزكاة وصيام وحج وذكر ودعاء وبر.
القاعدة الثالثة عشرة: الذنوب تنقص من محبة الله، وذكر رحمه الله هنا أن الذنوب قد تنقص من المحبة ولكن ليس بالضرورة أن تزيل أصلها، مثل الصحابي الذي جيء به يشرب الخمر فلعنه شخص، قال: (لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله) فقد ينقص الذنب المحبة، لكن ليس بالضرورة أن يزيل أصلها، إلا إذا صار الذنب شركاً وكفراً فهذا يزيلها.
القاعدة الرابعة عشرة: الفرق بين الحب في الله والحب مع الله، فالمشركون يحبون مع الله، والمؤمنون يحبون في الله، فقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] فهؤلاء أشركوا في المحبة بين الله والأنداد، وأما المؤمنون فهم أشد حباً لله من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم.
ولذلك قال: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم) لأن محبتهم للدينار والدرهم والزوجة والقطيفة والخميلة والدنيا صارت محبة شركية، محبتهم للدنيا إن أعطوا منها رضوا، وإذا لم يعطوا إذا هم يسخطون.
القاعدة الخامسة عشرة: أصل العبادة محبة الله، والشرك في المحبة هو أصل الشرك.
القاعدة السادسة عشرة: محبة الله توجب المجاهدة في سبيله قطعاً، إذا كنت تحب الله لا بد أن تجاهد في سبيله.
القاعدة السابعة عشرة: موادة عدو الله تنافي المحبة: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22].
القاعدة الثامنة عشرة: محبة الله على درجتين: الدرجة الأولى: واجبة.
الدرجة الثانية: مستحبة.
فإذا كنت قائماً بالواجبات ومنتهياً عن المحرمات فهذه المحبة الواجبة، وإذا كنت عاملاً بالنوافل بالإضافة إلى ذلك مبتعداً عن المكروهات والشبهات؛ فأنت عندك المحبة المستحبة.
القاعدة التاسعة عشرة: انقسام الناس في المحبة والإرادة إلى أربعة أقسام -نجمل الأقسام ثم نشرحها-: القسم الأول: قوم لهم قدرة وإرادة ومحبة في أشياء غير مأمورين بها.
القسم الثاني: قوم لهم إرادة صالحة ومحبة كاملة لله وقدرة كاملة.
القسم الثالث: قوم فيهم إرادة صالحة ومحبة قوية وقدرة ناقصة.
القسم الرابع: قوم قدراتهم وإرادتهم قاصرة وعندهم إرادة للباطل.
فما هؤلاء الأقسام الأربعة؟ الذين لهم قدرة ولهم إرادة ولكن في محبة أشياء غير مأمورين بها، عندهم طاقة، وقوة، وجهد، وقدرة، لكن ليست في سبيل الله، إما أن تكون في أشياء محرمة أو مباحة غير مأمورين بها، فهؤلاء الأشخاص تلقاهم أصحاب عمل وإنتاج إما في أشياء محرمة أو في أشياء مباحة، مثل الذين يكدحون ويعملون في الوظائف والتجارات، أو يقول لك: أنا عندي هواية في تربية الحيوانات مثلاً، فهذه أشياء غير مأمورين بها، فهم يبدعون وينتجون في أشياء غير مأمورين بها، وليست مما يحبه الله، لكن عندهم قدرة، لكن في أشياء لا يحبها الله.
وقوم لهم إرادة صالحة ومحبة كاملة وقدرة كاملة، كعالم مجاهد لله عز وجل، فهذا عنده إرادة وعنده قدرة في العلم والجهاد والصدقة، فهو يعمل في أشياء يحبها الله، فهؤلاء أشرف الأنواع.
والقسم الثالث: ناس عندهم إرادة صالحة ومحبة لله قوية ولكن قدراتهم ناقصة، فهؤلاء يريدون أن يعملوا لمحبة الله ولكن لا يستطيعون، مثل الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (إن بـ المدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا سلكتم وادياً إلا كانوا معكم، قالوا: وهم بـ المدينة، قال: وهم بـ المدينة -ما خرجوا للغزو، من هم هؤلاء- قال: حبسهم العذر) فهناك من يريد الجهاد ولكن ليس عنده سلاح، ولا مال، أو ضعيف البنية، أو مريض، فمثلاً: عثمان تخلف عن بدر؛ لأنه قام على زوجته المريضة، وآخر يريد الصدقة: (ذهب أهل الدثور بالأجور) لكن ليس عنده مال يتصدق به، فهذا صاحب قدرة ناقصة، لكن محبته لله طيبة، فهو حريص على الأشياء التي يحبها الله، ولكن ما عنده قدرة.
القسم الرابع: من قدرته وإرادته للحق قاصرة، وهو يريد أن يقع في الباطل وفيما يغضب الله ولكن ليس عنده قدرة، فهؤلاء ضعاف المجرمين، فلهذا انقسم الناس إلى أقسام أربعة.
القاعدة العشرون: أن المحبوبات على قسمين: القسم الأول: قسم يُحب لنفسه.
القسم الثاني: قسم يُحب لغيره، وليس في هذه الدنيا وهذا العالم والكون شيء يُحَب لذاته إلا الله سبحانه وتعالى.
حتى المخلوقين تقول: أنا أحب فلاناً لأنه عبد لله، لأن القرب منه يؤدي إلى القرب من الله، لكن ليس لذات الشخص، لكن لأن محبة الشخص والتقرب منه تؤدي إلى تحصيل أجر مثلاً، فأنت تحبه، لكن الذي يُحب لذاته فقط، هو الله عز وجل، فإليه منتهى المحبة والتعظيم سبحانه وتعالى.
القاعدة الحادية والعشرون: أن الموالاة تقتضي التحاب والجمع، والمعاداة تقتضي التباغض والتفرق: فالتحاب إذا واليت شخصاً معناه أنك تحبه.
وقد نبه شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة إلى أنه لا يجوز أن يفرق بين المؤمنين لنسب أو بلد أو مذهب أو طريقة أو مسلك ونحو ذلك، وأن الذي يجمعنا كلنا أننا مسلمون موحدون، وأنه بالنسبة للمشركين فنحن في قطيعة وعداوة وكره، ولا يجوز لنا أن نواليهم، موالاتنا للمؤمنين لأننا نحبهم، وذلك يقتضي محبتهم والاجتماع في جماعة، وأما بالنسبة للكفار فإن العلاقة معهم علاقة عداوة، تقتضي قطع العلاقات وكرههم والتفرق عنهم وعدم الاجتماع بهم أو الإقامة معهم، وعدم دعمهم.
القاعدة الثانية والعشرون: إمكان اجتماع المحبة، أي الحب في الله والبغض في الله في شخص واحد: فقد تحب شخصاً لله وتبغضه في الله وهو شخص واحد، وهؤلاء هم الذي خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فلو كان عندك ولي من أولياء الله من العباد، فموقفك منه أن تحبه، ولو كان عندك واحد جبار عنيد كافر فاجر، فموقفك منه أن تبغضه.
ولو وجد شخص فيه هذا وهذا، فيه خير وشر، وصلاح وفساد، وإيمان وفجور، وحق وباطل، وطاعة ومعصية، وحسنات وسيئات، خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، مثل أكثر الناس المسلمين على هذا، فما هو الموقف منه؟ هل تحبه أم تبغضه؟ أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى قاعدته العظيمة التي ذكرها ونافح عنها وشرحها في عدد من كتبه وهي قضية أنه يمكن أن يجتمع الحب في الله والبغض في الله في شخص واحد، تحبه من جهة وتبغضه من جهة، تحبه في الله بقدر الخير الذي فيه، وتبغضه في الله بقدر الشر الذي فيه، وتواليه في الحق وتعاديه في الباطل، وتتعاون معه في البر والتقوى، وتنبذه في الإثم والعدوان، هذه قاعدة مهمة، لأنه بناءً عليها تستطيع أن تتعامل مع الناس.
وذكر أنه بغير هذه القاعدة لا يمكن أن تسير الأمور؛ لأن كثيراً من الناس فيهم شر وخير، والموقف منهم أنه إذا دعاك إلى خير تعاونت معه، وإذا دعاك إلى شر نبذته، وعندما يعمل طاعة تفرح به وتحبه وتثني عليه، وعندما يعمل معصية تكرهه وتنبذه وتكره معصيته.
قال: وهذه القاعدة قد ذكرناها غير مرة وهي اجتماع الحسنات والسيئات والثواب العقاب في حق الشخص الواحد كما عليه أهل جماعة المسلمين من جميع الطوائف، نذمه على فعل السيئات، ونمدحه على فعل الحسنات.
وذكر كلاماً نفيساً فقال: إن بعض الناس عنده السماحة في النفس، بحيث يسمح بالخير والشر، مثلاً: وهناك شخص عنده حب(176/12)
مسائل مهمة تناولتها رسالة (قاعدة في المحبة)
وقد ذكر في هذا الكتاب أموراً أخرى مهمة، مثل أهمية التعاهد والتعاقد في بني آدم، وأن الناس لا تصلح أمورهم إلا بالوفاء بالعهد والعقد، ولو لم يكن وفاء بالعقد؛ لضاعت حياة الناس، ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فحياة الناس تختل بدون عهود وعقود محترمة.
ومن المسائل المهمة التي تناولتها هذه الرسالة أيضاً قضية العِشق والفساد الذي ينطوي عليه، ومسألة علاجه، والشيطان الذي يتولى العشاق وأنهم يشركون به، وذكر رحمه الله الفرق بين المحبة في الله وبين محبة العشق، وأن بعض الناس يخلطون، يقول: أنا أحب فلاناً في الله، وهو في الحقيقة عشق وليس محبة في الله.
وكذلك من المباحث المهمة التي ذكرها رحمه الله تعالى في هذا الكتاب مباحث تتعلق في الموقف الصحيح من القضاء والقدر، وكذلك مبحث مهم في مسألة أن الله ينصر المسلمين في الدنيا، وليس في الآخرة فقط، وأن من ظن أن النصر والتقدم والرفعة للكفار دائماً في الدنيا؛ فإنه مسيء الظن بالله؛ لأن معنى ذلك أنه يعتقد أن الدنيا كلها للكفار وأن المسلمين ما لهم شيء، يبقون في ضعف وهزيمة وذل إلى أن تقوم الساعة وهذا غير صحيح، فإنك إذا استعرضت التاريخ رأيت أن الله نصر المسلمين وكانت لهم القوة والاستعلاء في الأرض في أوقات كثيرة جداً في التاريخ، ونصر موسى على فرعون، ونصر نوحاً، ونصر أتباع الأنبياء وأتباعهم، ونصر محمداً صلى الله عليه وسلم وفتح له مكة والجزيرة، وفتح خلفاؤه الشام والعراق والمغرب والمشرق، واتسعت دولة الإسلام وقامت، حتى ضعفت وصار المسلمون الآن في تفرق، لكن ليس هذا الذي نراه الآن هو الأصل وكل الزمان مثله، لا، نحن الآن في مرحلة غير كل المراحل التي سبقت، وعندما ينزل عيسى بن مريم عليه السلام سيحكم الأرض بشريعة الإسلام والغلبة للدين.
إذاً: من ظن أن الله لا ينصر المسلمين في الدنيا فهو مسيء الظن بربه.
إلى غير ذلك من المسائل المهمة التي انطوت عليها هذه القاعدة، وقد كنا نرجو لو ذكرنا بعض المباحث فيها، ولو لم يكن لها علاقة مباشرة بالمحبة وذلك لأهميتها ونفاستها، ولكن يرجع إليها من شاء في هذا الكتاب بعنوان (قاعدة في المحبة) ورحم الله المؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية، وأعلى درجته وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(176/13)
أيتها المرأة! الحجاب أو النار
إن الأمر بالحجاب قد جاء في الكتاب والسنة؛ فهو واجب وجوباً عينياً على كل مسلمة، بل إنه قد ورد التنويه بوجوبه في الكتب السماوية الأخرى، وكذلك كان الحجاب موجوداً حتى عند الجاهليين وعن موضوع الحجاب تحدث الشيخ حفظه الله، فذكر أدلة وجوبه من الكتاب والسنة، ثم ذكر شروطه وأنواعه، ثم تحدث عن بعض شبهات العلمانيين حول الحجاب، ورد عليها وفندها تفنيداً مقنعاً.(177/1)
الحجاب عند الأمم الماضية والجاهلية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
أيها المسلمون: إن مما جاء به هدي كتاب ربنا سبحانه وتعالى، ومما جاء في سنته صلى الله عليه وسلم: الأمر بحجاب المسلمات؛ صيانةً للمرأة المسلمة عن المفاسد والشرور، وربها الذي هو أعلم بها قد فرض عليها الحجاب، وهؤلاء النساء هن بناتنا، وأخواتنا، وزوجاتنا، وقريباتنا، وجاراتنا، هؤلاء لا بد أن تدخل كل واحدةٍ منهن تحت حديثه صلى الله عليه وسلم: (كلكم راعٍ، وكلكم مسئولٌ عن رعيته).
لقد أنزل الله في كتابه بياناً لنعمةٍ ومنةٍ منه سبحانه وتعالى، وهي قوله: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ} [الأعراف:26] ولباس التقوى: هو ما يلبسه المرء المسلم مما يتقي به ربه، فيستر عورته، والله سبحانه وتعالى حييٌ ستيرٌ يحب الحياء والستر، وكان صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: (اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي).
لقد فرض الله الحجاب على نساء المسلمين، وجاءت إشارات إلى أنه كان معروفاً في الأمم من قبلنا، وحتى كتبهم المحرفة التي بقيت إلى هذا الزمان فيها إشارات إلى حجاب المرأة في ذلك الوقت، كما في كتب العهدين القديم والجديد، وكما ورد في الأصحاح الرابع والعشرين والثامن والثلاثين من سفر التكوين، والأصحاح الثالث من سفر أشعياء: إن الله سيعاقب بنات صهيون على تبرجهن، والمباهاة برنين خلاخلهن؛ بأن ينزع عنهن زينة الخلاخل والضفائر والحلق والأساور والبراقع والعصائب.
وكانت الكنيسة حتى القرون الوسطى تخصص جانباً منها للنساء حتى لا يختلطن بالرجال، وكفار العرب في الجاهلية كان من مكارم الأخلاق عندهم- كما تذكر أشعارهم- ستر المرأة وحجبها، قال الشاعر:
تكثم عن جاراتها فيزرنها وتعتل من إتيانهن فتعذرُ
لأنها كانت تجلس في البيت، وحجاب الوجه كان معروفاً عند العرب أيضاً، كما حدث أن امرأة النعمان سقط خمارها عن وجهها أمام الناس وهي تسير، فمالت إلى الأرض تلتقطه بيد ويدها الأخرى على وجهها، حتى قال النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليدِ
وحرب الفجار قامت بين قريش وهوازن بسبب تعرض شباب من كنانة لامرأة من غمار الناشي راودوها على كشف وجهها، فنادت: يا آل عامر! فجاوبتها سيوف بني عامر، وورد في أشعارهم ذكر القناع والبرقع والحجاب والمرط والكساء ونحوها.
هذا ما كانت تفعله بعض نساء العرب، دلالة على أنه من مكارم الأخلاق عندهم.
أما البعض الآخر فكن متبرجات، ووصل الأمر بحالهن أنهن كن يطفن بالكعبة عرايا، فقال الله عز وجل: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33].(177/2)
أدلة وجوب الحجاب من الكتاب والسنة
إن أدلة حجاب المرأة في القرآن والسنة أكثر من أن تذكر، وأعظم من أن يحاط بها، قال الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (المرأة عورة) لم يستثن منها شيئاً صلى الله عليه وسلم، وهذا هو النص المحكم الجامع للأمور، ومن فقه هاتين الكلمتين فقط (المرأة عورة) لم يحتج بعد ذلك إلى دليل آخر لحجب بدن المرأة كاملاً وجهها وشعرها وكفيها وقدميها وسائر بدنها.
وقد أمر الدين بستر العورات أمر وجوب لا محيد عنه، وقد ورد في تطبيق صحابيات المؤمنين وأمهاتهم ما يدل دلالة قطعية على وجوب تغطية جميع البدن بما فيه الوجه أمام الرجال الأجانب جاء في صحيح الإمام البخاري في حديث الإفك الطويل المشهور وفيه: (وكانوا في سفر في غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت عائشة لتقضي حاجتها، وتبحث عن عقد لها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير الجيش، فأخذوا بهودج عائشة ليرفعوه على البعير، ولم تكن موجودة داخل الهودج لذهابها، فأخذوا برأس البعير وانطلقوا به، ورجعت إلى العسكر، وما فيه من داعٍ ولا مجيبٍ، قد انطلق الناس، قالت رضي الله عنها: فتلفعت بجلبابي، ثم اضطجعت في مكاني، إذ مرَّ بي صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، وكان امرءاً يثقل عليه النوم، فيستيقظ متأخراً -ولأجل ذلك كان يستفاد منه أنه كان يسير وراء الجيش يتفقد الأغراض الضائعة، فيحملها لأصحابها في الجيش- تقول: إذ مرَّ بي صفوان بن المعطل السلمي، وكان قد تخلف عن المعسكر لبعض حاجاته، فلم يبت مع الناس، فرأى سوادي، فأقبل حتى وقف عليَّ فعرفني حين رآني، وكان قد رآني قبل أن يفرض علينا الحجاب مرت فترة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين كان الحجاب غير واجب، وهذا من حكمة الله في التدرج في التشريع.
قالت: وكان قد رآني قبل أن يفرض الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه -أي: وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون- فخمرت وجهي بجلبابي).
احفظوا هذه العبارة لكي تضعوها سهماً تخزقون به أعين دعاة التحرر والسفور والتبرج، الذين ما فتئوا يشيعون الفاحشة في الذين آمنوا بجميع الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية، اجعلوا هذا النص من عائشة سهماً تخزقون به عيونهم، قولوا لهم: إن عائشة قالت في صحيح البخاري: إن صفوان كان قد رآها قبل آية الحجاب، وفي غزوة بني المصطلق في حادثة الإفك، قالت عائشة لما عرفت بوجود صفوان: فخمرت وجهي بجلبابي؛ دلالة على أنها تفهم تماماً وجوب تغطية وجهها.
وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قد أمر الخاطب بالنظر إلى المخطوبة أسألكم بالله لو كان كشف الوجه جائزاً فلماذا يأمره بالذهاب والنظر إلى وجهها؟ أفلا ينظر إليها في الشارع؟ أفلا ينتظرها حتى تخرج من البيت فيسير مقابلاً لها ليرى وجهها؟ فلماذا يقول عليه الصلاة والسلام: (اذهب فانظر إليها)؟ فإن قلت: يقصد الشعر والذراعين.
أقول لك: إنه عليه الصلاة والسلام قال: (اذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئاً) أي: إن أعين نساء الأنصار كان فيها شيء من الصغر، فقال: (اذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئاً) وأين العينين؟ هل هن في الشعر أم في الذراعين أم في القدمين أم في المؤخرة؟ إن العينين في الوجه.
ولماذا كان بعض الصحابة يختبئ للمرأة التي يريد خطبتها حتى يراها وهي غير عالمة؟ ولو كان كشف الوجه جائزاً فلماذا يختبئ؟ لماذا يكلف نفسه عناء الاختباء؟ كان عليه أن يسير في الشارع فينظر إليها.
إذاً: كان الوجه يجب ستره، كذا فهمن، وكذا عملن.
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له امرأة أخطبها، فقال: (اذهب فانظر إليها، فإنه أجدر أن يؤدم بينكما) فأتيت امرأة من الأنصار، فخطبتها إلى أبويها، وأخبرتهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنهما كرها ذلك -أي: أن يطلع هذا الرجل على ابنتهما في البيت- قال: فسمعت ذلك المرأة وهي في خدرها، فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر، اكشف الغطاء وانظر إليَّ، وإلا فأنشدك -غلظت عليه- إن كان لم يأمرك، فإني أحرج عليك النظر.
قال: فنظرت إليها، فتزوجتها، ثم ذكر من موافقتها -أي: من طوعها- لزوجها وحسن تعاملها معه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: نساءٌ كاسيات عارياتٌ، مائلاتٌ مميلاتٌ، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا، العنوهن فإنهن ملعونات).
وهذه روايات صحيحة.
كيف تكون المرأة كاسية عارية؟ كيف تكون لابسة وفي نفس الوقت غير لابسة؟ يكون ذلك بأحد أمور ثلاثة: أولاً: إما أن يكون الثوب الذي تلبسه قصيراً لا يستر جميع البدن.
ثانياً: أن يكون شفافاً غير سميك، ولو كان طويلاً، ولو كان كاملاً، لكن يكون غطاء الوجه -مثلاً- شفافاً لا يستر، فتكون كاسيةً عاريةً.
ثالثاً: أن يكون الحجاب ضيقاً غير فضفاض، فيجسد جسدها، ويبين تقاسيم بدنها.
عباد الله: انظروا اليوم إلى نساء المسلمين وهن خارجات من بيوتهن في الشوارع والأسواق، وفي السيارات انظروا إليهن كم بالمائة منهن يدخلن في هذا الحديث؟ (كاسيات عاريات لا يجدن ريح الجنة).
أيها الناس: إن المرأة التي تسير في الشارع؛ سواء كانت زوجة، أو أختاً، أو أماً، أو بنتاً، أو جارة، فإنها تدخل في مسئوليتك أنت، وإني أهيب بك -أيها المسلم- ألَّا تجعل هذه المرأة محرومة من رؤية الجنة، ووجود ريح الجنة، أهيب بك أن تأخذ عليها، فتأمرها بالستر.
لقد كن الصحابيات حريصات كل الحرص على ستر العورة، وهذا حديث المرأة السوداء المصروعة، فيه دلالة قاطعة على ما نذكر عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: (ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف- فيها جني يدخل بها ويصرعها، فيسبب لها انكشاف عورتها- فادع الله لي أن أبرأ من الصرع.
فقال صلى الله عليه وسلم: إن شئت صبرت ولك الجنة -على هذا الصرع- وإن شئت دعوت الله عز وجل أن يعافيك، فلما وازنت المرأة بين الأمرين، قالت: أصبر، ولكني أتكشف، وفي رواية: إني أخاف الخبيث أن يجردني- أي: الشيطان الذي بداخلها، ابتلاء- فادع الله ألَّا أتكشف.
فدعا لها) رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: (خير نسائكم الودود الولود المواتية- التي تطيع زوجها- المواسية- التي تواسيه- إذا اتقين الله، وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات -وهن المنافقات- لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم) هل رأيت غراباً قدماه حمراوان ومنقاره أحمر، إنها فصيلة نادرة جداً من الغربان، فإن الغربان سوداء خالصة، وهذا النوع من الغربان نادر.
إذاً: نسبة دخولهن في الجنة كنسبة وجود الغراب الأعصم بين الغربان.
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: [كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي رضي الله عنه واضعةً ثوبي- بعد موتهما كانت تدخل الحجرة التي كانا فيها واضعةً ثوبها- وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر رضي الله عنه والله والله والله ما دخلته إلا مشدودةً عليَّ ثيابي حياءً من عمر رضي الله عنه].
أين عمر؟ إنه تحت الأرض، ولكنها تستحي، وهذا أثر صحيح.
أيتها النساء في البيوت! أخاطبكن من هذا المنبر، عائشة تستحي من عمر، وعمر تحت الأرض، فلا تدخل الحجرة إلا وثيابها مشدودة عليها، وكثير منكن يخرجن إلى الشوارع والأسواق أمام الناس الذين لا يساوون شيئاً بجانب عمر وهو حي وهم أحياء، ويشاهدنك وأنت متبرجة متهتكة سافرة، وإن لبست حجاباً فإنه يكون مزركشاً أو مطرزاً -قاتل الله الذين يستوردون هذا النوع من الحجاب ويبيعونه في الأسواق، وقاتل الله من يشتري لزوجته مثل هذا، وقاتل الله المرأة التي تلبس مثل هذا- وأنتم ترون بأنفسكم الآن -أيها الإخوة- هذه الخُمر التي يزعمون أنها خُمر مطرزة من جوانب الخمار مزركشة يلبسنها هكذا فوق الرأس مستديرة، ويزعمن أنها حجاب، وأصناف أخرى بغير حجاب ألبتة.
أيها الناس أيها المسلمون عباد الله: اتقوا الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
عائشة ومن معها كن إذا مرَّ بهن الركبان من الرجال، وهن ذاهبات في سفر الحج والعمرة، إذا مرَّ بهن الرجال أسدلت إحداهن جلبابها وخمارها على وجهها، إذا حاذين الرجال في السير؛ حتى لا يرى الرجل شيئاً من تلك المرأة مطلقاً.
وهذه قصة سجلها التاريخ بمداد من الذهب لامرأة اختصمت مع زوجها إلى قاضي الري سنة (286هـ)، فادعت على زوجها صداقاً قيمته خمسمائة دينار، وقالت: لم يسلمه إلي، فأنكر الرجل، فجاءت المرأة ببينة تشهد لها بالصداق، فقال الشهود: نريد أن تسفر لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا؟ والنظر إلى وجه المرأة من قبل الرجل الأجنبي يباح في حالات الضرورة، كالخطبة والشهادة في المحكمة، فإنه يضطر أحياناً إلى معرفة هل المرأة التي تقدمت للمحكمة فلانة أم لا؟ ثالثاً: التطبيب ورؤية الطبيب لشيء في وجه(177/3)
القرار في البيوت
هذا الحجاب الذي أنزله ربنا حجاب في البيوت أولاً، لأنه قال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] فلا تخرج إلا للحاجة مكان المرأة في البيت رغماً عن أنف العلمانيين.
مكان المرأة في البيت رغماً عن أنف دعاة التحرر والسفور.
مكان المرأة في البيت لا تخرج إلا للحاجة، ولا يعني للحاجة أي: للمقبرة، أو بيت الزوج، كلا.
لكن تخرج لحاجة، إذا احتاجت الخروج فتخرج، كأن تزور أهلها، أو تشتري أشياء لا يعرف شراءها إلا هي، فتخرج، ولكن بالشروط الشرعية، أما أن تصبح المرأة خراجة ولاجة، تخرج كل يوم عدة مرات لحاجة ولغير حاجة، فإنها تخالف قول الله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] وأنتم تعلمون معنى القرار والاستقرار.
الحجاب الثاني: هو الجلباب والخمار الذي تستر به المرأة نفسها {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59].
الحجاب الثالث: وهو حجاب ثالث داخل البيت، تستر به المرأة نفسها أمام المحارم أمام الأخ والأب وحتى الأخت، لا تكشف المرأة إلَّا الشعر والوجه والعنق وما فوق موضع القلادة، ومن منتصف العضد إلى الأسفل، والقدمين وأسافل الساقين دون الخلاخل تكشفه، وما فوق ذلك تستره حتى أمام محارمها، فهذا حجاب ثالث داخل البيت.(177/4)
شروط الحجاب
لقد ذكر علماؤنا شروطاً للحجاب، فالمسألة ليست لعباً، وأي حجاب يُشترى في السوق، فلا بد فيه: أولاً: أن يكون شاملاً للبدن لا يكشف شيئاً منه أمام الأجانب.
ثانياً: أن يكون سميكاً صفيقاً غير شفاف.
ثالثاً: أن يكون فضفاضاً واسعاً غير ضيق.
وأنواع العباءات التي تلبس الآن، والتي تلتصق بالجسد، فهي سوداء، ولكنها ملتصقة تعرف منها حجم المرأة وأعضاءها، وتميز يديها ووسطها من هذه العباءة التي تلبسها.
رابعاً: ألا يكون مطيباً ولا مبخراً.
خامساً: ألا يشبه لباس الرجال، فلا يجوز للطبيبة في المستشفى أن تلبس هذا الصدار الذي يلبسه الطبيب، لا بد أن يختلف عنه في تفصيله حتى لو كانت متحجبة حجاباً كاملاً.
سادساً: ألا يشبه لباس الكافرة، فلا يجوز مشابهة لباس الكافرات.
سابعاً: ألا يكون ثوب شهرة.
وكل الأحاديث التي وردت فيها شيء يدل على كشف المرأة لوجهها، فإما أن تكون أحاديث ضعيفة، وإما أن تكون أحاديث وقائع لا عموم لها، أي: أشياء فردية لا يمكن تطبيقها، ومجابهة ونسف النصوص العامة بهذه الأحاديث الخاصة، أو أن تكون الأحاديث فيها ترخيص في الرؤية؛ كالخطبة والتطبيب والشهادة، أو أن تكون أحاديث يتطرق إليها الاحتمال، فيسقط بها الاستدلال، ونحن مع المحكم من كتاب الله مع الأدلة القطعية {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31] وأنتم تعلمون الآن من الواقع حكمة ربنا في فرض الحجاب.
نظرةٌ فابتسامةٌ فسلام فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ
وكم من البيوت تدنست، وكم من الأعراض تلوثت بسبب عدم لباس هذا الحجاب! أيها الإخوة:
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ
وهذه محنة الدين التي يعيشها كثيرٌ من المسلمين الآن؛ فلا يبالي الرجل مطلقاً وزوجته تسير سافرة بجانبه، ولا يبالي أبداً وهي تختلي بسائق في السيارة، ولا يبالي وهي تخرج من المدرسة كاشفة، وثيابها رقيقة، وقد رفعتها، وسمي الآن بنصف العباءة، أن تكون الثياب من أسفل كاشفة وضيقة.
أيها المسلم: عندما تخرج معك زوجتك متزينة إلى السوق والشارع، أتراها تتزين لمن؟ اسأل نفسك هذا
السؤال
تتزين لمن؟ أسألك بالله العظيم إذا خرجت معك زوجتك إلى الشارع وهي متبرجة متعطرة متكشفة، رافعة جلبابها، حاسرة عن وجهها، والخمار إلى نصف الشعر لمن تتزين؟ هل تتزين لك أنت وقد كان حريٌ بها أن تتزين لك داخل البيت؟ ما معنى أن تترك الزينة لك داخل البيت ثم تتزين للناس في الشارع؟ أين الغيرة يا عباد الله؟ اللهم مُنَّ علينا بالحياء والستر يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(177/5)
شبهات حول الحجاب والرد عليها
الحمد لله الذي لا إله إلا هو ولي الصالحين، الحمد لله القائل في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] وإذا قالوا لنا: إن الدين لا يأمر بهذا الحجاب الكامل، نقول لهم: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف:28 - 29] لقد كان الناس في هذه البلاد إلى عهد قريب يقومون ويطبقون ما قاله عليه الصلاة والسلام: (المرأة عورة) فكانت المرأة تستر في كثير من البيوت، وفي كثير من المجتمعات، ولكن الآن -أيها الإخوة- انخلعت الغيرة من قلوب الكثيرين، صرت تمشي في الطريق فترى التبرج عاماً شاملاً إلا من رحم الله، تقف بسيارتك عند إشارة المرور، فتلتفت يميناً وشمالاً لترى رجلاً واضعاً زوجته بجانبه وهي متبرجة في السيارة عند إشارة المرور.
وهناك في الأسواق -أيها الإخوة- مناظر ما كنا نراها من قبل أبداً، وقد غزت مجتمعنا هذا، فما بالك بغيره من مجتمعات المسلمين.
أسألكم: هل كان التبرج موجوداً من قبل مثلما هو موجود الآن؟ التستر الذي كان موجوداً أين ذهب؟ كانت طبائع كثير من البدو تأبى تماماً أن تكشف المرأة، ثم قامت المسلسلات البدوية المعروضة بنسف وإزالة جميع أنواع الغيرة الموجودة عند كثير من هؤلاء، حتى أصبحت ترى اليوم الموظفة في بعض الشركات التي كان أبوها في يومٍ من الأيام أو جدها يرفض نهائياً أن يرى منها شيئاً، تخرج متبرجة بين المكاتب والموظفين! حرامٌ عليكم حرامٌ عليكم ما أقررتم من الفساد والخبث في بيوتكم، وحرامٌ ما أقررتم من الشر والفحشاء والسفور في مجتمعاتكم، إن الله سيسألكم عن هؤلاء، وسيعذب كل من قضت حكمته أن يعذبه بمخالفة هذا الأمر.
أيها الناس: أما كفاكم أن يكون التبرج في كثير من نسائكم، حتى رضيتم أن تكون هؤلاء المتبرجات فتنة للناس الآخرين الذين يمشون في الشوارع، فيطالعون في وجوه النساء، وينظرون إلى أبدانهن.
إن المرأة لو كانت لابسةً لباساً كاملاً متحجبةً حجاباً تاماً، فمن الذي يجرؤ على ملاحقتها أو النظر إليها؟ وقد يقول هؤلاء المتشبعون بشبهات العلمانيين: إن المرأة إذا كانت متحجبة حجاباً تاماً لفتت الأنظار إليها، لكن إذا صارت متبرجة مثل عموم النساء، لن يلتفت إليها أحد!! كذبوا والله {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5] إذا كانت المرأة مستوفية لشروط الحجاب التام، فإن بعض الناس ينظرون إليها باستغراب، ولكن سينظرون، ويوجهون البصر، ثم يعيدون النظر مرة أخرى، ماذا سيحدث؟ سينقلب إليهم البصر خاسئاً وهو حسير، لأنهم ما ظفروا بشيء من هذه المتحجبة، لأنها ما أخرجت من بدنها شيئاً ينظرون إليه، فلو نظروا للاستغراب في الوهلة الأولى، فإنه سينقلب إليهم بصرهم خاسئاً كليلاً وهو حسير، لأنهم ما رأوا شيئاً، ولا ظفروا ببغيتهم، لكن أن تجعلوا نساءكم معارض يشاهدها الغادي والرائح، فأين الغيرة أيها المسلمون؟
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ
يا أيها الناس يا أيها المسلمون: لا تستمعوا إلى دعاة العلمانيين، إن هؤلاء الذين يروجون المقالات التي تأتي بالشبهات لا تستجيبوا لهم مطلقاً، وهذا الضال الذي يقول ما يفرح العلمانيين الملحدين الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، هذا الضال الذي لا زال يجرؤ على الشريعة، ويقول: إن حجاب الوجه غير موجود في المذاهب الأربعة كلها، هذا الضال الجاهل لا تستجيبوا لدعوته ولا لكلامه، اقرءوا كلام أهل العلم، إن هؤلاء يكتبون {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:202] ويقولون لك في ضمن شبهاتهم: إذا كانت تغطية الوجه واجبة فلماذا أمرت الشريعة بغض البصر؟ يقولون لك: إذا كانت تغطية الوجه واجبة فعن أي شيء نغض الأبصار؟ ولماذا قال الله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]؟ نقول لهم: يا دعاة التحرر والسفور! يا أيها الذين لا تخشون الله! لأنكم تعلمون أن الوضع وضع فتنة، ولو رجحتم كشف الوجه فهل يجوز أن ترجحوه الآن في هذا الزمان؟ افرضوا -أيها الإخوة- أن الرأي الآخر القائل بكشف الوجه رأي سديد صحيح، فهل يجوز أن يطبق في هذا العصر وفي هذا الزمان؟ ألستم تعلمون أن من قواعد الشريعة سد الذرائع، وكل باب يؤدي إلى الفساد يسد حتى لو كان أصله حلالاً، أنت تعلم أن بيع العنب حلال، لكن لو وجدت واحداً يشتريه منك ليصنع الخمر فلا يجوز أن تبيعه، مع أن بيعه في الأصل حلال.
فنقول: افترض أن كشف الوجه حلال، فهل يصلح في هذا الزمان أن تكشف فيه الوجوه؟ وهل يصلح أن تبدي فيه المرأة عن زينتها؟ وأنتم ترون كلاب الشهوات المسعورة تلاحق النساء في كل مكان، فهل يصلح أن نطبق فيه هذا الرأي؟ نقول له: إن المرأة لو كانت متحجبة فإنها قد تتعرض لأحوال ينكشف فيه حجابها، قد تهب عليها الريح الشديدة في الشارع فينكشف شيء من ساقها، فهل آية غض البصر مفيدة أم لا؟ قد ترفع قدمها لتركب في السيارة، فتشاهد أنت شيئاً من القدم، فهل آية الأمر بغض البصر مفيدة أم لا؟ إذا كنت صاعداً في سلم عمارة، وفتح ولدٌ باب شقة من الشقق فجأة، ونساء في الداخل لا يقصدن أن يرى أحدٌ منهن شيئاً، فهل آية الأمر بغض البصر مفيدة أم لا؟ ثم إن الله يعلم أنه بالرغم من الأمر بالحجاب فإنه سيبقى هناك أناسٌ لم يستجيبوا للحكم، وسيبقى هناك عصاة لن يستجيبوا للحكم، وسيخرجون بنسائهم إلى الشوارع- الله يعلم هذا- {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] فعندما يعلم الله أن هناك من النساء من يرفضن الحكم ويخرجن في الشوارع، أفتكون آية الأمر بغض البصر مفيدة أم لا؟ فإذا أطبقن النساء المسلمات على تغطية الوجه، أليس سيبقى من النساء الكافرات من لم يستجبن للحكم مطلقاً؟ إذاً: الآية الآمرة بغض البصر مفيدة، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنعام:37] ولكن أكثرهم لا يعقلون، ولكن أكثر الناس بآيات الله يستهزئون.
أيها الإخوة: إن هذه الخطبة على مشارف شهر رمضان، وشهر رمضان له حرمته وقدسيته، فنريد أن نصوم شهراً بدون شهوات ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، نريد أن نصوم شهراً ولا نرى إلا خيراً، وإنني أدعوكم ونفسي للالتزام بهذا الفقه، والشر الناتج عن التبرج كثير، ولو جلسنا نشرحه لطال بنا الموقف، فأدعوكم ونحن مقدمون على شهر رمضان أن تتوبوا إلى الله جميعاً، ومن كان منكم لم يأخذ على نساء أهل بيته بالحجاب، فليأخذ الآن، فإن المعصية في الزمان الفاضل تضاعف، كما أن المعصية في المكان الفاضل تضاعف، وهذا من قواعد الشريعة.
اللهم إنا نسألك أن تحصن فروجنا، وأن تطهر قلوبنا، وأن تستر نساءنا.
اللهم إنا نسألك العفاف والتقى والغنى.
اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم العظيم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا كرباً إلا نفسته، ولا عيباً إلا سترته، ولا عورةً إلا سترتها يا رب العالمين.(177/6)
أين المحافظة على الأعراض؟
حفظ الضرورات الخمس مقصد من مقاصد شريعتنا الغراء، ذكرها القرآن وأكدتها السنة.
ومن هذه الضرورات حفظ النسل، وهو بعينه حفظ العرض، فقد شرعت عقوبات خاصة لمن انتهك العرض، فالرجم للزاني المحصن عقوبة لا يشاركه فيها غيره.
وقد شرعت إجراءات احترازية عامة لحفظ الفرج، ليس من الزنا فحسب، بل من مختلف المزالق الأخلاقية.
وبالإضافة إلى ذلك تحوي هذه الخطبة مناقشة لأسباب ترك النكاح، وتفصيلاً لأحكام تحديد النسل، وقطع الإنجاب، والإجهاض وأضراره في الشريعة الإسلامية.(178/1)
حفاظ الشريعة على الضرورات الخمس
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن من حق هذه الشريعة علينا -يا عباد الله- أن نفهمها، ومن فهمها معرفة مقاصدها، ومن مقاصدها حفظ الضروريات التي جاءت بها الشريعة لصلاح الناس في معاشهم ومعادهم، حفظ الضروريات الخمس، وهي: (الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسب) التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت؛ لم تستقم مصالح الدنيا، بل تصير إلى فساد وتهارج، وكذلك تفوت الحياة الأخروية بفوات النجاة والنعيم، وحصول الخسران المبين نتيجة اختلال حفظ هذه الضروريات.
لقد ذكرها ربنا وأشار إليها كما في آيات الوصايا العشر، وهي ثلاث آيات في سورة الأنعام المبدوءة بقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام:151]، ثم قال سبحانه: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151]، ثم قال سبحانه: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [الأنعام:152].
هذه الآيات فيها إشارة إلى العناية بالضروريات؛ ففي حفظ الدين قوله عز وجل: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151]، وفي قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، وحفظ النفس في قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام:151] وفي قوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151]، وحفظ النسل في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151]، وفي حفظ المال قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152]، وفي قوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [الأنعام:152]، وحفظ العقل لا يمكن قيام الأمور الأخرى إلا به، فلا يقوم بها فاسد العقل، فحصلت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151].
وقد جاءت آيات أخرى فيها ذكر هذه الضروريات التي لا بد من حفظها، وأشارت الشريعة إلى ذلك في أحكام كثيرة في القرآن والسنة.(178/2)
حفظ النسل في الشريعة الإسلامية
نريد أن نستعرض شيئاً مما جاءت به الشريعة في حفظ النسل، أو حفظ النسب.
إن هذه المسألة مسألة خطيرة جداً، لأن البضع -وهو: الفرج- مقصودٌ حفظه في الشريعة، لأن في التزاحم عليه اختلاط الأنساب، وتلطيخ الفراش، وانقطاع تعهد الأولاد، والتوثب على الفروج والتغلب، وهذه مجلبةٌ للفساد والتقاتل، ولذلك جاءت الشريعة بحفظ الفرج وحفظ النسل جاءت الشريعة بحفظهما لأجل أهميتهما، وما يترتب على حفظهما من المصالح العظيمة، وما يترتب على الإخلال بحفظهما من المفاسد العظيمة.
وحفظ النسب مكملٌ لحفظ النسل، لأن حفظ النسل يؤدي إلى بقاء الكيان الإنساني، وحفظ النسب يؤدي إلى الاهتمام بالإنسان، فكلٌ منهما مكملٌ للآخر.
ومن المفاسد التي تحصل بعدم حفظهما: أولاً: انتهاك الأعراض وما يجر ذلك من التقاتل.
ثانياً: اختلاط الأنساب.
ثالثاً: قطع النسل.
رابعاً: انتشار الفساد الخلقي.
خامساً: نزول المصائب وحلول الكوارث والمحن.
ولو لم يرد في سوء إهمال حفظ النسل إلا قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] لكان ذلك كافياً، كيف لا، وقد قرنه بالشرك والقتل في قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68] وأوجب رجم الزاني المحصن حتى الموت؟ وميز حد الزنا عموماً بثلاثة أمور: أولاً: القتل فيه بأبشع القتلات، إذ لا توجد قتلة في حد شرعي أشنع من قتل إنسان بالحجارة حجراً بحجرٍ حتى يموت جمعاً للعقوبة على البدن بالجلد، أو الرجم، وعلى القلب بتغريب الزاني عن وطنه سنة كما جاء في السنة.
ثانياً: أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه بحيث تمنعهم عن إقامة الحد.
ثالثاً: أنه أمر أن يكون تطبيق الحد بمشهدٍ من المؤمنين، فلا يكون في خلوة بحيث لا يراهما أحد، لماذا هذه الفضيحة؟ للمبالغة في الزجر عن هذا الفعل.(178/3)
عموم مقاصد حفظ الفرج
ليس المقصود بحفظ الفرج في الشريعة حفظه من الزنا فقط، بل حفظه من أي شيء غير سويٍ وأي انحرافٍ؛ كاللواط والسحاق والاستمناء، وغير ذلك من الأمور التي لا يرضاها خلقٌ مستقيمٌ، ولا فطرةٌ سليمةٌ.
قال ابن القيم رحمه الله: "فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين -أي: الزنا واللواط- ولهما خاصيةٌ في إبعاد القلب عن الله عز وجل، فإنهما من أعظم الخبائث.
وقال: ومفسدة الزنا مناقضةٌ لصلاح العالم، فليس بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدته، ولذلك شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها، ولو بلغ العبد أن امرأته قتلت، كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت إلى أن قال رحمه الله: وظهور الزنا من أمارات خراب العالم، وهو من أشراط الساعة".
وما من أمةٍ يظهر فيها الزنا والربا إلا حلوا بأنفسهم عقاب الله، وهذا آتٍ ولا ريب على تلك الأمم التي شاعت فيها الفاحشة من رأسها إلى أخمص قدميها، والتفكك والتفتت والتقاتل حالٌ بهم ولا ريب، كيف وقد استمرءوه وظهر فيهم في الكبير والصغير؟! وقد شرعت الشريعة الإسلامية إجراءات متعددة لحفظ النسل وحفظ الفرج وحفظ النسب، ومن ذلك: تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية، إجراءات احترازية قبل وقوع الجريمة، وإجراءات معها وإجراءات بعدها، وتحريم الخلوة بالأجنبية، وتحريم الزنا، وتحريم اللواط، وفي المقابل شرع النكاح، وتحريم كل ما يؤدي إلى وقوع الفاحشة.(178/4)
دعوة الإسلام إلى تكثير النسل
وحفظ النسل من الركائز الأساسية في الحياة، ومن أسباب عمارة الأرض، وفيه تكمن قوة الأمم، وبه تكون مرهوبة الجانب، والإسلام قد عُني بحماية النسل، ودعا إلى تكثيره من وجهين: الأول: الحث على ما يحصل به استمرار النسل وبقاؤه وتكاثره.
الثاني: منع ما يقطع النسل بالكلية أو يقلله أو يعدمه بعد وجوده.
فأما بالنسبة للأول، فقد جاءت الشريعة لتحقيقه بالحث على النكاح والترغيب فيه، وجاءت النصوص الشرعية بذلك، قال عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] وهذا ولا شك أمر ترغيب في قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة) والولود: من عرف عنها كثرة الولد، إن كانت ثيباً بسابقتها، وإن كانت بكراً فمن حال أقاربها كأمها وعماتها وخالاتها، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على نكاح الأبكار، ومن أسباب ذلك قال: (فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً) ومعنى: (وأنتق أرحاماً) أي: أكثر أولاداً، لأنها شابةٌ ونشيطةٌ وقويةٌ على المواصلة في الإنجاب، وقال عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج).
وقد ذكر العلماء حالات يجب فيها النكاح، ومنها: إذا وقع في الحرام، أو كاد أن يقع فيه، أو خشي على نفسه العنت، فيجب عليه حينئذٍ النكاح.
فانظر إلى هذه الشريعة التي حثت على النكاح -ونكاح الولود بالذات- وأباحت التعدد، كل ذلك لأجل المحافظة على استمرار النسل، والله خلق البشرية وهو أعلم بما يصلحها.
ثم بالمحافظة على النسل وعدم ذهابه أو تقليله منعت الشريعة ترك النكاح، ومنع الحمل بالكلية، والإجهاض بعد حدوث الحمل.(178/5)
مناقشة أسباب ترك النكاح
ويترك الإنسان النكاح لأسباب كثيرة منها: أولاً: التبتل وزعم الانقطاع للعبادة.
ثانياً: عدم القدرة البدنية، أو المالية.
ثالثاً: لأن عنده طريقاً أخرى يسلكها لتصريف شهوته بالحرام.
أما بالنسبة للأولى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عدها بدعة، والذي قال من الصحابة: لا أتزوج النساء، قال له مجيباً: (من رغب عن سنتي، فليس مني) ورد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون لما استأذنه في التبتل والاختصاء، قال الراوي: ولو أذن له لاختصينا، فنهت الشريعة إذاً عن قطع سبيل الإنجاب ووسيلته وآلته لتحقيق تكثير النسل.
قال ابن حجر رحمه الله: "والحكمة في منعه من الاختصاء: إرادة تكثير النسل ليستمر جهاد الكفار، وإلا لو أذن في ذلك، لأوشك تواردهم عليه، فينقطع النسل، فيقل المسلمون بانقطاعه، ويكثر الكفار، فهذا خلاف المقصود من البعثة المحمدية".
وقد أنكر السلف على من ترك النكاح، وقال طاوس لرجل: لتنكحن، أو لأقولن لك ما قال عمر، قال: وماذا قال عمر؟ قال: [ما يمنعك من النكاح إلا عجزٌ، أو فجور] إذا رأيت شاباً قادراً على الزواج، وتأخرت به السن ولم يتزوج وهو قادر وليس هناك مانع، فما هو السبب؟ لا يمنعه إلا عجزٌ عن الوطء وهذا عيبٌ، أو فجورٌ، ولذلك تأخر به النكاح.
وقال الإمام أحمد: ليست العزبة من أمر الإسلام في شيء، والنكاح أفضل من التخلي للنوافل كما ذكر أهل العلم رحمهم الله.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد تزوج وعدد، وفعل ذلك أصحابه، ولا يشتغل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا بالأفضل، ولا تجتمع الصحابة على ترك الأفضل والاشتغال بالأدنى.
يا عباد الله! إن ترك النكاح ليس من أمر الإسلام، وأما تركه لعدم القدرة البدنية، فقال بعض العلماء: بوجهاته كما إذا كان به مرض ولا شهوة له، أو كبير السن طاعناً لا همة له في النكاح ولا حاجة، فلو تركه، فلا يعاتب على ذلك.
وأما المال، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] فليسع الشاب، فإن الله معه.
وأما ترك النكاح بسبب وجود طريق محرمة أخرى لتصريف الشهوة كالزنا واللواط وسائر الشذوذات التي انتشرت في هذا العصر، فمعروفٌ حكم ذلك والحدود التي جاءت الشريعة بشأنها.(178/6)
حكم منع الحمل وتحديد النسل
ومما جاءت الشريعة به من الإجراءات لحفظ النسل: مَنْعُ مَنْعِ الحمل لدى المرأة، أو ما يضعف الشهوة، أو يقطعها بالكلية عند الرجل والمرأة، فأما إن كان منع حمل كلي، أو تعاطي دواء يقطع الشهوة بالكلية، فإنه ممنوع عند العلماء، ولا شك في ذلك، ولا يجوز تعاطي ما يمنع الشهوة بالكلية، أو أن تتعاطى المرأة ما يمنع الحمل بالكلية، أو أن يتعاطى الرجل ذلك؛ كاستئصال الحبل المنوي وهي عمليات حاصلة في الشرق والغرب، واستئصال الرحم، وربط المبايض، وما شابه ذلك، عمليات يقام بها في الشرق والغرب، وقال بعض العلماء بجواز تعاطي ما يسكن الشهوة إذا خشي على نفسه الحرام، لكن لا يجوز أن يتعاطى ما يضره أو ما يؤدي إلى قطعها بالكلية.(178/7)
الأبعاد الخطيرة لتحديد النسل
لقد ثارت في بلاد المسلمين الدعوة إلى تحديد النسل، وأدرك أعداء الإسلام خطورته، وأثره الفعال في تقليل أفراد الأمة الإسلامية، وتوهين قواها، وجعلها لقمة سائغة وفريسة سهلة يفترسونها متى أرادوا، وكيف أرادوا، فأخذوا ينادون بضرورة تحديد النسل في كثير من البلاد الإسلامية بحجة قلة الموارد فيها، وبحجة التخوف من الانفجار السكاني، وجندوا لهذه الفكرة أناساً من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويذودون عن هذه الدعوة، ويرفعون لها اللافتات المتعددة، والمظاهر البراقة، وجندت المكتبات والكتب، والأبحاث الطبية المزيفة، وكل وسيلة مقروءة أو مسموعة أو مرئية، وأُنشئت لأجلها المؤسسات والجمعيات، ورصدت لها الأموال الطائلة، والمساعدات الهائلة، وكذلك سنت القوانين لمنع تعدد النسل كعدد معين في عددٍ من البلدان الإسلامية، في الوقت الذي ينادي فيه علماء الغرب بالخطر الداهم على مجتمعاتهم، ويقولون: في بعض مدن روسيا عدد الوفيات أكثر من عدد المواليد، ماذا سينتج عن ذلك في المستقبل؟ قلة عددهم، وبالتالي ضعف قوتهم، فإن العامل البشري هو العامل الأول في سائر القوى والموازين، وانظر ما الذي أدى إليه الحال في الصين من منع إنجاب أكثر من طفلٍ واحدٍ، والعائلة تريد ذكراً، فإذا كان المولود أنثى والقانون لا يسمح لا بولدٍ واحد، أقدم على قتلها، فوجد الوأد، وقتل البنت والأنثى في الصين كثيراً في هذه الأيام.
إن قضية تحديد النسل هي مؤامرة على الدين لها أبعادها الخطيرة، والتنقيص من عدد المواليد لا يخدم إلا مصلحة أعداء الإسلام، ولا شك أن هناك دوافع في ترويج هذه المسألة بيننا، بل إنهم عملوا على تصدير ما يسبب العقم في بلاد المسلمين، وكذلك فإن بعض أطبائهم قد ثبت أنهم كانوا يقتلون مواليد المسلمين في المستشفيات، وكذلك بعض ممرضاتهم وممرضيهم وجدوا مضبوطين بالتلبس في قتل أجنة المسلمين، والطبيب ينصح المرأة بعدم الحمل، أو ينصحها بالإجهاض إذا حملت، وروجت الوسائل المعينة على الإجهاض، وفتحت عيادات لأجل ذلك، وسهلت القضية في الوصول إليها.(178/8)
مبررات المنع المؤقت للإنجاب وشروطه
إذا قال قائل: هل يوجد في الشريعة ما يبرر منع الإنجاب مؤقتاً للحاجة؟
الجواب
نعم، لا شك أن الشريعة تراعي الحاجات، والعزل جائز كما دل عليه حديث: (كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينهنا)، وجاء في رواية لـ مسلم: (أن أناساً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال: ذلك الوأد الخفي) ومن هنا تفاوتت أنظار العلماء في حكمه، فقال عددٌ منهم بكراهيته، لأن فيه تقليل النسل، وقطع اللذة عن الموطوءة، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على مراعاة أسباب التكاثر، ولكن إذا دعت الحاجة في ظروف معينة ما مصلحته راجحة في تأخير الإنجاب للمولود القادم، كالخوف على الأم من الهلاك بالحمل، أو كالخوف على الولد، وعلم ذلك من مسلمٍ طبيب ثقة أو أكثر ليتأكد الإنسان، فإنه في هذه الحالة لا بأس بتعاطي ما يؤخر الإنجاب لسنتين حتى تكون هناك كفاية من الوقت لتربية الولد الحاضر، والاستعداد لاستقبال المولود القادم، والله تعالى قال: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233] ويشترط في مانع الحمل ثلاثة شروط: أولاً: إذن الزوجين، فلا يجوز للزوج أن يجبرها، ولا يجوز لها أن تتعاطاه سراً.
ثانياً: ألا يكون منعاً دائماً.
ثالثاً: ألا يكون ضاراً.
وكثيرٌ من هذه اللوالب والحبوب ضارة بشهادة عقلاء الأطباء.
اللهم إنا نسألك الفقه في الدين، واتباع سنة سيد المرسلين، وأن تختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(178/9)
الإجهاض في الشريعة الإسلامية
الحمد لله الكبير المتعال، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، إليه المرجع والمآل، وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى صحبه والآل.
عباد الله! لقد جاءت هذه الشريعة من الإجراءات في ظل ما جاءت به لحفظ النسل في تشريعات بشأن الإجهاض، وعنيت الشريعة بالجنين في بطن أمه عناية فائقة، لأن ذلك الجنين هو الطريق إلى إيجاد النسل، ولو لم يراعِ حال الأجنة في بطون أمهاتها، للزم من ذلك فساد النسل وضياعه، وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بدية الجنين على من قتلت جنين امرأة في بطنها، وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى، فطرحت جنينها، فقضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة عبدٍ أو أمة.
فإذاً عبدٌ أو أمةٌ أو ما يقابلهما من المال كعشرة آلاف ريال ونحوها دية إسقاط الجنين عمداً، وكذلك قضى عمر رضي الله عنه وأرضاه بهذا القضاء، قال ابن قدامة رحمه الله في شرح قول الخرقي رحمه الله: "وإذا شربت الحامل دواءً فألقت جنيناً، فعليها غرةٌ لا ترث منها شيئاً، وتعتق رقبة"، فتعتق رقبة إذا تعاطت دواء قتل الجنين وأسقطته، وتسلم عبداً أو أمةً أو قيمتهما إلى ورثة الجنين دون أن تأخذ منهما شيئاً.
ولا يجوز إسقاط الحمل بعد نفخ الروح فيه إطلاقاً عند جميع العلماء، لأنه قتل نفس محرمة، لا يجوز ذلك مطلقاً، وفي جواز إسقاطه قبل نفخ الروح تفاصيلٌ في كلام أهل العلم.(178/10)
أضرار الإجهاض على النسل والصحة
وأما الإجهاض، فإن له أثاراً سلبية كثيرة، ومنها ما ذكره بعض أطباء الكفار، قال أحدهم: للإجهاض على النسل ثلاثة أضرار: أولاً: هلاك عدد غير معلوم من أفراد البشرية قبل أن يخرجوا إلى نور الحياة.
ثانياً: ذهاب عدد غير يسير من الأمهات ضحية الموت أثناء عملية الإجهاض.
ثالثاً: حدوث مؤثرات مرضية للمرأة لا يستهان بعددها تؤدي إلى عدم الإنجاب مستقبلاً.
هذه بعض الإجراءات الشرعية التي جاءت بها الشريعة لحفظ النسل وحفظ النسب.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يطهرنا من كل فاحشة، وأن يتوب علينا من كل ذنب، وأن يحفظنا ويحفظ بيوتنا من سائر الأمراض، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يقيمون الملة الحنيفية.(178/11)
مسئولية أولياء الأمور في الحفاظ على أبنائهم
عباد الله: إن جانباً عظيماً من المسئولية يقع على أولياء الأمور في تعهد بناتهم وأولادهم، فإن كثيراً من الأولاد يساقون إلى الفاحشة ذكوراً وإناثاً بهذه المثيرات للغرائز التي تعرض على العالمين مما يأتينا من الكفار، ومن هم من جلدتنا من أبناء المسلمين، ولذلك كان لزاماً على كل أبٍ أن يقوم على تعهد بناته وأبنائه، ولزاماً على كل زوجٍ أن يقوم على تعهد زوجته، وإلا فالخراب والدمار.
قال لي أحد الإخوة: مررت بمجمع تجاري في الساعة الواحدة ليلاً، فرأيت منظراً عجيباً، ثلاثة أولاد يقفون في الشارع بنت عمرها سنتين ونصف تقريباً، وولد عمره ثلاث سنوات، وولد آخر عمره سبع سنوات، فأكملت طريقي، ثم عدت من نفس الشارع في قراب الساعة الثالثة إلا ربع وقبل الفجر، فوجدت المنظر ذاته البنت الصغيرة جالسةً على الرصيف وهكذا حال الأولاد، فاستغربت وتعجبت لهذا المنظر، وهؤلاء الأولاد في هذه الساعة المتأخرة من الليل قبل الفجر، فأوقفت سيارتي، ونزلت إليهم، فقلت: مالكم واقفين في هذه الساعة؟ وما سبب حضوركم في هذا المكان؟ ورأيت البنت الصغيرة في عينيها عبرةٌ ودمعةٌ، وكذلك في عيون إخوانها، فأجابني الولد الكبير بعد السؤال والنقاش: إن أمنا قد خرجت في (ليموزين) إلى هذا السوق الذي فيه مكان للألعاب، ووضعتنا فيه، وقالت: سأعود إليكم الساعة الواحدة، ثم مضت مع شخصٍ تقول: إنه خالي، ولكنني لم أره من قبل، لكنه كان يقول إنه خالي، ثم تحدث الطفل عن مأساته، وعن مأساة إخوانه والدمعة تترقرق، والعبرة تختنق، والصوت يتهجد، وانتهت القضية بأن أوصلهم إلى بيته.
ولكن هذه الأم المجرمة التي تلقي بفلذات كبدها إذا كان لها فلذات إلى هذا الوقت إلى الساعة المتأخرة في الليل لتذهب مع رجل أجنبي تعرفت عليه في استقبال المستشفى.
أيها الإخوة: أين الزوج؟ أين العائلة؟ أين الأسرة؟ أين الحماية؟ ضياع الأولاد انتشار الفواحش شيوع الأمراض جلب نقمة الرب على المجتمع، أين العقول؟ أين الغيرة؟ لماذا هكذا نفيت الأسرة؟ لماذا يذهب الزوج بعيداً عن زوجته؟ لا رقابة، تفلت الأمور للمرأة للخروج كيف تشاء، و (للموزينات) تعمل في نقل البغايا، عجباً لنا كيف وصلنا إلى هذه الحال؟!! هل من توبة؟ هل من عودة؟ هل من قيام بالمسئولية يا عباد الله؟ (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته) وأنت موقوف بين يدي الرب سائلك عن أولادك ذكوراً وإناثاً، وعن زوجتك، إن الله سائلٌ كل راعٍ عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيعه.
اللهم إنا نسألك الرأفة واللطف بنا يا رب العالمين، اللهم الطف بنا يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء، اللهم انشر رحمتك على العباد، واقمع أهل الزيغ والكفر والعناد.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(178/12)
جنة الدنيا [1]
في الدنيا جنة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة، وفي هذه الجنة تجد النفس بغيتها من طرد الهموم، وذهاب الشقاء، وحصول السعادة التي تغمر القلب وتنعش الروح، وفي هذه المادة تعيش في سعادة مع جنة الدنيا.(179/1)
الحياة الطيبة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فقد قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] هذا الإيمان والعمل الصالح هو سبب الحياة الطيبة وهو سبب السعادة والسكينة والطمأنينة التي يحس بها المؤمن، ونعمة الإيمان عظيمة فهي منة من الله تعالى.
فما هو أثر الإيمان في حياة الإنسان؟ هذه مسألة ينبغي أن نقف أمامها -أيها الإخوة- وأن نتدبر فيها لنستشعر نعمة الله تعالى علينا.
ما هو الفرق بين المؤمن وبين غيره؟ ما هو الفرق بين حياة المؤمن وحياة غيره؟ ما هي ميزته على غيره؟ إن الحياة الطيبة: أن يعلم المؤمن أن الله خلقه وسخر له ما في السماوات وما في الأرض سخرها من أجله {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20] إن المؤمن يعلم بأن الله قد اصطفاه وكرمه، إن الله خلق آدم على صورته، قال العلماء: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله تعالى خلقه حياً عالماً قادراً متكلماً سميعاً بصيراً حكيماً وهذه صفات الرب جل وعلا فإن الله خلق آدم على صورته.
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: " اعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرمه وفضله وشرفه، وخلقه لنفسه وخلق له كل شيء، وخصه من معرفته ومحبته وقربه وإكرامه بما لم يعط غيره، وسخر له ما في سماواته وأرضه وما بينهما حتى ملائكته الذين هم أهل قربه استخدمهم له -أي: للإنسان- وجعلهم حفظة له في منامه ويقظته وضعنه وإقامته، وأنزل إليه وعليه كتبه، وأرسل إليه رسله، وخاطبه وكلمه منه وإليه فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات ".
يشعر المؤمن بالعزة التي سجلها الله في كتابه {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] ويشعر بأن الله أعطاه الكرامة التي بها يعلو ولا يُعلا، ويسود ولا يساد كما قال عز وجل: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] ويشعر المؤمن بأنه في ولاية الله البر الكريم {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11].
يشعر المؤمن بأنه في معية الله الذي يكلؤه دوماً بعينه التي لا تنام سبحانه وتعالى، ويحرسه في كنفه الذي لا يرام ويمده بنصره الذي لا يقهر {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19] {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
ويشعر المؤمن بأنه في حماية الله القوي القدير يذود عنه ويرد عن صدره سهام المعتدين {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38].
كل هذه المعاني وغيرها لا يشعر بها الكفار على الإطلاق، هل رأيت الكفرة في الشركة والجامعة والمصنع؟ يا عبد الله! إن لك ميزة عليهم أنك تشعر بمقتضيات الإيمان وهم لا يشعرون بشيء منها؛ فجعلك الله إنساناً عزيزاً كريماً كبير النفس لا يحني رأسه لمخلوق، ولذلك لا عجب أن ترى بلال بن رباح ذلك العبد الحبشي الأسود لما أشرب قلبه الإيمان كان يستعلي على المستكبرين فخراً، ويرفع رأسه عالياً؛ لأن الإيمان قد جعله أرفع عند الله ذكراً وأسمى مقاماً فهو ينظر إلى سيده أمية بن خلف، وإلى أبي جهل بن هشام وغيرهما من زعماء قريش وصناديد مكة نظرة البصير للأعمى، ونظرة السائر في النور إلى المتخبط في الدجى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
إذا رأيت الكافر أمامك فاعلم أنه أعمى وأنت بصير.
إن الإيمان يولد عزاً يفوق ما عند الكفار من ألوان النعيم.
ولذلك كان الأعرابي الأمي البدوي ربعي بن عامر رضي الله تعالى عنه الذي لف سيفه بخرقة ودخل على رستم قائد قواد الفرس وهو في هيله وهيلمانه وأبهته وسلطانه دخل غير مكترث له، ولا عابئ به، ولا بما حوله من الخدم والحراس، ولا بما يتوهج في خيمته من ألوان الذهب والفضة والحلي والحرير، وقال له تلك العبارة التي خلدها التاريخ: [نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام].
إن الإيمان أيها الإخوة: يجعل المؤمن في درجة عالية لا يصلها غيره وهي درجة العبودية لله.
ومما زادني شرفاً وعزاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبيا(179/2)
الفرق بين المؤمن وغيره
ما أعظم الفرق بين رجلين: يعيش أحدهما وهو يعتقد في نفسه أنه مجرد حيوان يسعى للذاته ويهيم فيها، ويعيش الآخر في الطرف الآخر وهو يعتقد أن الله قد استخلفه في الأرض، وأمره بعمارتها، وإقامة منهج الله فيها، والجهاد للدفاع عن هذا المنهج، إنه يحس أنه صاحب رسالة، وأنه مكلف بإقامة العدل، والدعوة إلى الدين، وبإقامة صرح الإسلام في الأرض.
بينما الكافر يحس ماذا؟ يحس أنه حيوان يسعى في لذاته وبهيميته وظلمه للناس، واضطهاده للمستضعفين، وامتصاص الخيرات والهيمنة والسيطرة؛ لأجل لذاته، ولأجل جيبه وأمواله وهكذا الفرق العظيم بين الرجلين.
أيها الإخوة! إن أثر الإيمان في حياة الإنسان عظيم، إنه يجلب له السعادة التي يبحث عنها الناس شرقاً وغرباً؛ وبعض الناس يذهبون في الرحلات السياحية، ويغيرون الأجواء، ويغيرون أثاث البيت، ويدخلون المطاعم المختلفة الشرقية والغربية، ويلبسون الثياب المختلفة باحثين عن السعادة وهي عند المسلم في نفس المؤمن.
جرب الناس في شتى العصور ألوان المتع المادية والشهوات الحسية فما وجدوا السعادة فيها، بحثوا في رخاء العيش، ووفرة النعيم، ورفاهية الحياة، ومستوى المعيشة المرتفع، بحثوا فيها فلم تزدهم إلا ضيقاً وانحباساً، ولم تزدهم إلا شقاءً وخوفاً وتعاسة، بل أدت بهم إلى الاضطرابات النفسية والعصبية.
هاأنت ترى بلداً مثل السويد مثلاً؛ لا يشعر سكانها بخوف من فقر، أو شيخوخة، أو بطالة، أو كارثة؛ لأن الدولة تضمن لهم كل شيء؛ هناك إعانات دورية ضخمة يستحق السويدي معاشاً وإعانة مرض، ومعاش عدم الصلاحية وإعانة غلاء معيشة، وإعانة مسكن، وإعانة للعمى تصرف نقداً، وعلاجاً مجانياً في المستشفيات، وتدفع إعانة أمومة لكل النساء شاملة مصاريف الولادة والرعاية الطبية في المستشفى، وإعانة إضافية لكل مولود، وللطفل مخصص شهري حتى يبلغ ستة عشر عاماً، ومصاريف انتقال مجانية في الإجازات، ومدارس رياض الأطفال برسوم تافهة، والتعليم مجاني في جميع مراحله، وإعانة ملابس، وللطلبة المجتهدين، وتأثيث منازل العرسان وغيرهم، فماذا جلبت عليهم؟ إن معدل الانتحار في السويد من أعلى معدل الانتحارات في العالم! لماذا وعندهم كل هذا النعيم، وعندهم كل هذا الرخاء، وكل هذه الرفاهية؟ وهذه البلد الأخرى الكبيرة لم يحقق الغنى لأبنائها السعادة على الرغم من ناطحات السحاب، ومراكب الفضاء، وتدفق الذهب من فوقهم ومن تحت أرجلهم حتى قال قائلهم: إن الحياة في نيويورك غطاء جميل لحالة من التعاسة والشقاء.
إن السعادة ليست بكثرة المال والأولاد، وصدق الله إذ يقول في وصف الكفار الذين نراهم اليوم: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة:55] {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:85] قال عليه الصلاة والسلام: (من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له) هكذا هُم في هَمٍ لازم، وتعب دائم وحسرة لا تنقضي، مهما نال الشخص منهم شيئاً منها طمحت نفسه إلى ما فوق، وهكذا في عذاب دائم لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً.
حالهم في الدنيا كحال شارب الخمر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً.
ثم إن أولادهم كثيراً ما يجلبون عليهم التعاسة والشقاء؛ في عقوقهم وكفرانهم لنعمة آبائهم، وإذا لم يكن الولد مؤمناً تقياً براً كريماً فإنه يكون سبب تعاسة لأبوية.
أرى ولد الفتى ضرراً عليه لقد سعد الذي أمسى عقيما
فإما أن يربيه عدواً وإما أن يخلفه يتيما
وإما أن يوافيه حمام فيترك حزنه أبداً مقيما
وهكذا أحس هذا الشاعر بأن العقم هو السعادة من جراء ما رآه من تعاسة الأولاد.
ليست السعادة في وفرة المال، ولا سطوة الجاه، ولا كثرة الولد، ولا نيل المنفعة، ولا العلم المادي، ولا المخترعات، ولا الآلات؛ إنها شيء لا يرى بالعين، ولا يقاس بالكم، ولا تحتويه الخزائن، ولا يشترى بالدينار، ولا الجنيه والدولار؛ السعادة: شيء يحسه الإنسان بين جوانحه إنها صفاء نفس، وطمأنينة قلب، وانشراح صدر، وراحة ضمير.
قال زوج لزوجته: لأشقينك، فقالت له بهدوء: لا تستطيع ذلك أبداً كما أنك لا تملك أن تسعدني، فقال في حنق: وكيف لا أستطيع؟ فقالت في ثقة: لو كانت السعادة في راتب لقطعته عني، أو زينة من الحلي والحلل لحرمتني منها، ولكنها في شيء لا تملكه أنت ولا الناس أجمعون فقال: وما هو؟ فقالت في يقين: إني أجد سعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي، وقلبي لا سلطان لأحد عليه إلا ربي.
هذه هي السعادة التي أحس بها المؤمنون الصالحون فقال قائلهم: إننا نجد سعادة لو علم بها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف؛ لأنهم يبحثون عنها أشد البحث.
وقال الآخر وهو في جنة ذكره في الدنيا وخلوته بربه: إنه لتمر علي ساعات أقول فيها: لو كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه لكانوا في عيش طيب.
هؤلاء الذين يعيشون في جنة الإيمان وواحته في الدنيا، هؤلاء هم المغمورون في السعادة حقاً.
يا عباد الله! لا نجحد أن للجانب المادي أثراً في تحقيق السعادة للإنسان، ولأجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع من السعادة وذكر منها أموراً دنيوية: كالدار الواسعة، والمركب الهنيء) ولكنها ليست كل شيء، ليست في المكان الأول، إن المكان الأول إنما هو للإيمان الذي هو حقيقة السعادة، السعادة الحقيقية فيه أنه يحس بسكينة النفس.
قال أحد الأطباء اللامعين في أمريكا: وضعت مرة وأنا شاب جدولاً لطيبات الحياة المعترف بها، فكتبت رغباتي الدنيوية: الصحة والموهبة والقوة والثراء والشهرة، ثم أطلعت حكيماً من الحكماء عليها، فقال: يبدو أنك أغفلت العنصر المهم الذي بدونه يعود جدولك عبئاً لا يطاق، فقلت ما هو: فضرب على الجدول كله وكتب كلمتين: سكينة النفس وهي ما يبحثون عنها، ثم قال: وقد وجدت يومئذ أن من الصعب أن أتقبل هذا، ولكن الآن بعد نصف قرن من الزمن والتجربة الخاصة والملاحظة الدقيقة؛ أصبحت أدرك أن سكينة النفس هي الغاية المثلى للحياة الرشيدة، لقد رأيت السكينة تزهر بغير عون من المال، وبغير مدد من الصحة، بل إنها تحول الكوخ إلى قصرٍ رحب، كما تحول القصر قفصاً وسجناً.
فلا سكينة -أيها الإخوان- بلا إيمان، السكينة التي يبحثون عنها أين هي؟ إنها في الإيمان بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، لقد علمتنا الحياة أن أكثر الناس قلقاً واضطراباً وشعوراً بالتفاهة والضياع هم المحرومون من نعمة الإيمان؛ انظر إليهم في المخدرات، وانظر إليهم في حالات الانتحار، وانظر إليهم في عيادات الأطباء النفسانيين، إن حياتهم ليس لها طعم ومذاق وإن حفلت باللذائذ والمرفهات؛ لأنهم لا يدركون لها معنى ولا يفقهون لها سراً، ولكن المؤمن سكينته في نفسه روحٌ من الله ونور، يسكن إليها إذا خاف، ويطمئن عندها إذا قلق، ويتسلى بها إذا حزن، ويستروح بها إذا تعب، ويقوى بها إذا ضعف {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40].
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع على الله وجمع القلب وتوحد النية والتوجه والفرار إلى الله، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً ".(179/3)
الفرق بين حياة المسلم والكافر
عباد الله! إن الإيمان الذي حرم منه الكفرة والملاحدة قادهم إلى شقاء؛ لأن الواحد منهم لا يعرف الحكمة من خلقه، ولا السبب في وجوده في هذه الحياة، يولدون ويعيشون كالبهائم ويموتون كالهمل، لقد قال قائلهم:
لعمرك ما أدري وقد أذن البلى بعاجل ترحالي إلى أين ترحالي
وأين محل الروح بعد خروجه عن الهيكل المنحل والجسد البالي
فأجابه مؤمن: وما علينا من جهلك إذا كنت لا تدري إلى أين ترحالك؛ فإننا ندري إلى أين المصير، قال الله تعالى {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيم} [الانفطار:13 - 14].
لقد حاولوا أن يحلوا أسرار الوجود، وقام فلاسفتهم فتكلموا، وقام الذين تبعوهم من بعدهم فتكلموا؛ فإلى أي شيءٍ انتهوا؟
لقد طفت في تلك المعاهد كلها وسرحت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم
وتمنى أحدهم لو رزق إيماناً كإيمان العجائز {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} [الأنعام:71] حيران: هو الوصف الدقيق البليغ لهذا الوضع {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [الأنعام:71].
إن الذي لا يؤمن لا يثبت على قرار ولا يدوم على وجهة أو طريق.
كريشة في مهب الريح طائرة لا تستقر على حال من القلق
إن أمرهم يعيش بين ضياع عن معرفة الهدف من الخلق وشعور بالجبرية، فتجد مذهب الجبرية في كلامهم، وهذه قصيدة الخيام التي غنتها من يقول بعض الناس: إن غناءها عفيف بينما فيه الكفر والإلحاد:
لبست ثوب العمر لم أستشر وحرت فيه بين شتى الفكر
وسوف أنضو الثوب عني ولم أدرك لماذا جئت أين المفر
وقال المعري الملحد في قديم أمره:
نفارق العيش لم نظفر بمعرفة أي المعاني بأهل الأرض مقصود
وقال:
سألتموني فأعيتني إجابتكم من ادعى أنه دارٍ فقد كذبا
تحطمنا الأيام حتى كأننا زجاج ولكن لا يعاد له سبكا
ولذلك امتنع هذا عن الزواج حتى لا يجني الشقاء على ذريته كما جناها عليه أبوه وأمه، وقال:
وأرحت أولادي فهم في نعمة الـ عدم التي فضلت نعيم العاجل
فأراحهم في نعيم العدم من الشقاء الذي رآه وقال الآخر معبراً عن عقيدة الجبرية التي يحس بها من لا إيمان له:
جئنا على كرهٍ ونرحل رغَّماً ولعلنا ما بين ذلك نجبر
والملحد الحديث الذي يقول:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري
وطريقي ما طريقي أطويل أم قصير
هل أنا أصعد أم أهبط فيه وأغور
أأنا السائر في الدرب أم الدرب يسير
أم كلانا واقف والدهر يجري لست أدري
أتراني قبل ما أصبحت إنسانا سويا
كنت محواً ومحالاً أم تراني كنت شيا
ألهذا اللغز حل أم سيبقى أبديا
لست أدري ولماذا لست أدري لست أدري
لكن المؤمن يدري؛ لأن الغاية عنده واضحة والطريق أمامه واضح {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] ما أعظم الفرق بين رجلين: أحدهما عرف الغاية التي من أجلها خلق فهو يسعى لتحقيقها فيطمئن ويستريح، والآخر ضال يخبط في عماية ويمشي إلى غير غاية.
إن المؤمن لما عرف الغاية وسار في طريقها استعذب كل عذاب، واستهان بكل صعب، ولما اجتمع عليه الكافرون ليشمتوا فيه، ويظهروا الحرب النفسية، ويرشقونه بالسهام، وهم يظنون أن أعصابه ستنهار في ذلك الموقف قال معبراً عما يدين به:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنبٍ كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزعِ
ألا ترى إلى الرجل من الصحابة ومن تبعهم بإحسان يخوض عباب الموت والموت يبرق ويرعد وهو يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] ألا تسمع إلى أحدهم وهو حرام بن ملحان رضي الله عنه وقد نفذ الرمح في صدره وهو يقول: فزت ورب الكعبة.
وفي غزوة الأحزاب لما ابتلي المسلمون ابتلاءً شديداً، وزلزلوا زلزالاً عظيماً {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] كان للمؤمنين موقفٌ آخر: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] من الذي وهب السكينة لهم فأعانهم على الثبات؟ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح:4] {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] لماذا تنخلع قلوب العالم الآن؟ كثيرٌ من الناس في اهتزاز، شخصياتهم في اهتزاز، أفكارهم مشوشة ومضطربة، الأمراض النفسية؛ لأن القلوب لم تطمئن بذكر الله، فظهر المرض النفسي الخطير مرض التوحد، الذي يشبهه الأطباء النفسانيون -يشبهون صاحبه- بشخصٍ في غرفةٍ جميع جدرانها مرايا، فأينما ينظر لا يجد إلا نفسه، وليس لهذه الغرفة أبوابٌ ولا نوافذ، هكذا يعيشون، ويقول أحد أطبائهم: إن مرض إحساس الإنسان بوحدته لمن أهم العوامل الأساسية للاضطرابات العقلية، وبحثوا وبحثوا وأجروا التجارب وفي النهاية قالوا: لا حل إلا بالرجوع إلى الدين.
كيف يشعر بالتوحد من يقرأ في كتاب الله {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] كيف يشعر بالتوحد من يقرأ قول الله ويعتقد به: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] إنه شعور موسى عليه السلام لما قال لبني إسرائيل: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] وهو مشاعر محمد صلى الله عليه وسلم لما قال لصاحبه: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] فالسكينة والطمأنينة في الإيمان، نسأل الله أن يجعلنا من أهل الإيمان، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، وبك مؤمنين، وعليك متوكلين، وبك واثقين، ولا حول ولا قوة إلا بالله رب العالمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(179/4)
أسباب الوصول إلى الراحة النفسية والحياة الطيبة
الحمد لله معز من أطاعه ومذل من عصاه، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي أعطى كل شيء خلقه وهداه، وأشهد أن محمداً رسول الله الرحمة المهداة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله! إن من الأسباب التي تجعل المؤمن يعيش في أمان وطمأنينة، وراحة نفسية، وحياة طيبة، كما قال الله: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] إن من الأسباب: مسألة رضا المؤمن بالله، ورضاه عن الله، ورضا الله عنه، ولذلك كان الساخط إنساناً دائم الحزن، دائم الكآبة، ضيق الصدر، تضيق الدنيا به على سعتها كأنها سم الخياط، والمؤمن راض بأمر الله تعالى، يكتنفه في قضية القدر أمران: الاستخارة قبل وقوع الشيء، والرضا بعد وقوعه، إنه إذا احتار فإن السبيل أمامه واضحة: اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري، فيسره لي، وبارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به.
يتمنى الكفار لو وجدوا شيئاً كهذا؛ لأنهم يحتارون كما نحتار، ولكن لا سبيل عندهم لمعرفة الاختيار، وأما المؤمن فإنه يلجأ إلى الله، راضٍ بالله (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً) رواه الإمام أحمد ومسلم.
المؤمن راض عن نفسه، وراض عن ربه، وهو يشعر بأنه -ولو كان فقيراً ولو كان ما كان حاله- لا يزال يتقلب في نعم الله، أولها نعمة خلقه: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:1 - 2] ويتملى كذلك في حسن خلقه وتفضيله على غيره: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4].
وثالث النعم: نعمة الإدراك والعلم {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:3 - 5] {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].
ورابع النعم: نعمة البيان النطقي والخطي {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1 - 4].
وخامسها: نعمة الرزق {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر:3] نعمة النَّفَس نعمة، ومن وقع في مرض الربو وغيره عرفها.
والنعمة الخاصة بالمؤمن: نعمة الإيمان والهداية {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7].
والسابعة: نعمة المحبة والأخوة التي يعرفها المتآخون في الله، المجتمعون على طاعة الله، قلوبهم متحدة برباط الأخوة {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103].
إن المؤمن راضٍ عن ربه دائماً وأبداً، فإذا ختم طعامه قال: الحمد لله الذي أطعمنا، وإذا اكتسى ثوباً قال: الحمد لله أنت كسوتني، اللهم لك الحمد أنت كسوتني، وإذا ركب دابة قال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف:13] وإذا استيقظ من نومه قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإذا قضى حاجته في الخلاء قال: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني، وإذا رأى مبتلىً في حواسه قال: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاك به، وإذا تم له ما يريد قال: الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، وإذا لم يتم له ما يريد قال: الحمد لله على كل حال، فهو لا يزال يتقلب في رضا الرب ويحمد ربه في جميع أحواله.
إن قضية الرضا مسألة عظيمة لا يعرفها إلا المؤمنون، لقد كتب أحد الكفرة إف إس بودلي يقول: في عام 1918م أوليت ظهري للعالم الذي عرفته -للغرب- طيلة حياتي ويممت شطر إفريقيا الشمالية الغربية حيث عشت بين الأعراب في الصحراء، وقضيت هناك سبعة أعوام، أتقنت خلالها لغة البدو، وكنت أرتدي زيهم، وآكل من طعامهم، وأتخذ مظاهرهم في الحياة، وغدوت مثلهم أمتلك أغناماً، وأنام كما ينامون في الخيام، وقد كانت تلك الأعوام التي قضيتها مع هؤلاء البدو الرحل من أمتع سنين حياتي وأحفلها بالسلام والاطمئنان، والرضا بالحياة، لقد تعلمت من عرب الصحراء التغلب على القلق، فهم بوصفهم مسلمين، يؤمنون بالقضاء والقدر، وقد ساعدهم هذا الإيمان على العيش في أمان وأخذ الحياة مأخذاً سهلاً ليناً، فهم لا يلقون أنفسهم بين براثن الهم والقلق إنهم يؤمنون بأن ما قدر يكون، ولا يصيب الواحد منهم إلا ما كتب الله تعالى، وليس معنى ذلك أنهم يتواكلون أو يقفون في وجه الكارثة مكتوفو الأيدي كلا.
دعني أضرب مثلاً لما أعني: هبت ذات يومٍ عاصفة عاتية، حملت رمال الصحراء وكانت عاصفة حارة شديدة الحرارة، حتى أحسست كأن شعر رأسي ينتزع من منابته لفرط وطأة الحر، وأحسست من فرط القيظ كأنني مدفوعٌ إلى الجنون، ولكن العرب لم يشكوا إطلاقاً، فقد هزوا أكتافهم وقالوا كلمتهم المأثورة: قضاء مكتوب، ولكنهم ما إن مرت العاصفة حتى اندفعوا إلى العمل بنشاط كبير فذبحوا صغار الخراف قبل أن يودي القيظ بحياتها، ثم ساقوا الماشية إلى الجنوب نحو الماء فعلوا هذا كله في صمتٍ وهدوء دون أن تبدوا من أحدهم شكوى، وقال رئيس القبيلة: لم نفقد الشيء الكثير فقد كنا خلقاء بأن نفقده، وبأن نفقد كل شيء، ولكن حمداً لله وشكراً، فإن لدينا نحو أربعين بالمائة من ماشيتنا وفي استطاعتنا أن نبدأ بها من جديد.
شهادة شهد بها ذلك الكافر على الرضا بالقضاء عند المسلمين، الرضا بما كتب الله، والرضا بما قسم الله وكثيرٌ من الناس يفقدونه، تأمل قول الله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131] إنها تعلم القناعة، والرضا بما قسم الله تعالى، وتأمل قول الله: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32] فبين لهم أن هناك أمراً لا يمكن تغييره، وهو أن يصبح الرجل امرأة، أو المرأة رجلاً وإن قاموا بعملية لتحويل الخنثى، لكن تحويل رجل كامل الذكورة إلى امرأة كاملة الأنوثة لا يتمنى هذا هذا، ولا هذا هذا، والشيخ إذا ولى شبابه لا يتمنى ولا يحقد على الشاب، وإنما هو مستريحٌ بقضاء الله تعالى.
هذه حياة المؤمن أيها الإخوة! وهذا طرفٌ من الحياة الطيبة التي يشيعها الإيمان في جنبات الإنسان، ومن تدبر عرف، والقضية أهلٌ للتدبر والتأمل والتفكير، والمقارنة بين حال المؤمن وحال غيره هي التي تجعلك تشعر بنعمة الله عليك.
اللهم إنا نسألك الأمن والأمان، اللهم إنا نسألك الأمن يوم الفزع الأكبر، اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، وأهلك عدونا، واستر عيوبنا.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الأخيار، نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، اللهم اجعلنا في حياتنا مطمئنين، وفي الألحاد من الآمنين، ويوم القيامة من الفائزين يا رب العالمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(179/5)
أدرك أهلك قبل أن يحترقوا
نحن ندرك اليوم التفكك الأسري الحاصل في العالم الإسلامي؛ وذلك لأننا قصرنا في انتهاج شرع الله جل وعلا.
فالإسلام قد وضع للأسرة أهمية كبيرة جداً؛ لأن بتفكك الأسرة يتفكك المجتمع، وفي هذا الدرس بعض الأمور التي يجب أن يوجه رب الأسرة أسرته للعمل بها، كما ذكر الشيخ وسائل الدعوة داخل الأسرة، ثم تحدث عن آداب وحقوق واجبة على كل داعية في أسرته، بل على كل مسئول في رعيته، منها: الإنفاق عليهم، وتعليمهم أمور دينهم، وحسن معاشرتهم، وملاطفتهم ومداعبتهم، ثم الدفاع عنهم، وعدم الغلظة والشدة عليهم، وعدم التغيب عنهم لغير حاجة.
كما نبه الشيخ على قضية فتنة الرجل بأهله وعلاج ذلك.(180/1)
الاهتمام بالأهل واجب شرعي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخواني الحاضرين والحاضرات، والمستمعين والمستمعات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم من المتجالسين فيه والمتذاكرين فيه والمتحابين فيه.
"أدرك أهلك قبل أن يحترقوا" أخذاً من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] هذا الموضوع: يدور حول العناية بالأهل، والعناية بالأسرة، والسبيل نحو أسرة مستقيمة ومستقرة، موضوع يمس كل إنسان له أهل، أب وأم وزوجة وقريبة وأولاد وإخوان وأخوات، والاهتمام به طاعة لأمر الله واستجابة لداعي الله ورسوله، وإهماله يؤدي إلى فساد عظيم كما نشاهد ذلك في الواقع.
أهل الإنسان -أيها الإخوة- هم أصله ومحيطه وبيئته وردؤه المحامون عنه ومستودع أسراره وأعرف الناس به وأحرصهم على مصلحته في الغالب، ألم تر أن الله قال عند شقاق الزوجين: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35].
تربية الأهل والاهتمام بهم من قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] قال مجاهد: أوصوا أنفسكم وأهليكم بتقوى الله وأدبوهم، وهو اقتداء بأنبياء الله الكرام: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:54 - 55].
أيها الإخوة هذه الآية يجب أن تتردد في أنفسنا كثيراً وباستمرار: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] نادانا الله بنداء الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] قال قتادة: يأمرهم بطاعة الله وينهاهم عن معصيته، وأن يقوم عليهم بأمر الله يأمرهم به ويساعدهم عليه.
فإذا رأيت معصية ردعتهم، وزجرتهم عنها، قال الضحاك ومقاتل: حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم عنه كما في ابن كثير، وقال علي رضي الله عنه في الآية: علموهم وأدبوهم، ونقل القرطبي عن الكيا رحمه الله: فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير وما لا يستغنى عنه من الأدب.
إن الحديث عن تربية الأهل هو حديث عن تحصين حارسة القلعة، بل حراس القلعة جميعاً، إنه أمر بالمعروف: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:55] إنه صبر ومصابرة: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] إنه تعاون ومؤازرة داخل في عموم قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] إنها مسئولية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) وقال: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) رواه النسائي وهو حديث صحيح.(180/2)
الأسرة هي نواة المجتمع وأساسه
يا إخواني لو تلفتنا يميناً وشمالاً وسمعنا الأخبار لوجدنا أن هناك كثيراً من المآسي حاصلة في المجتمع بسبب الانحرافات الموجودة في الأسر وما المجتمع إلا أسر، فإذا صلحت الأسر صلح المجتمع، وإذا فسدت الأسر فسد المجتمع، وكل واحد فينا له أهل، الشاب له أهل، الكبير والصغير له أهل في الغالب، إذا حصل الاهتمام بهؤلاء الأهل صلح المجتمع؛ ولذلك يجب أن نؤكد على هذه القضية الخطيرة وهي: تربية الأهل ودعوتهم وإصلاحهم لوقايتهم من عذاب النار.
أدرك أهلك قبل أن يحترقوا كيف نفعل؟ كثير من الشباب يتساءلون: نحن مع إخواننا في الله نتفاهم، نحن مع إخواننا في الله نتجالس، ونتذاكر، ونشتغل بالدعوة، وبطلب العلم، وباللقاء مع الإخوان وزيادة الإيمان، لكن مع أهلينا قد نشعر كثيراً بالفشل وأننا لا نؤدي دورنا ماذا نفعل؟ الزوج ماذا يفعل مع زوجته؟ الأب ماذا يفعل مع أولاده؟ الابن ماذا يفعل مع أبيه وأمه؟ الأخ ماذا يفعل مع إخوانه وأخواته؟ الأخت ماذا تفعل مع إخوانها وأخواتها؟ هناك أدوار عظيمة جداً، تستغرب أحياناً عندما يقول لك بعض الناس: الوقت عندي لا أعرف بماذا أملؤه؟ هل نظرت إلى أقرب الناس إليك في من حولك، وفي بيتك؟ هل نظرت إليهم فرأيت ماذا يحتاجون؟ وهل تعمل على وقايتهم فعلاً من النار كما أمر الله سبحانه وتعالى؟ نحتاج لوقاية أهلينا من النار إلى أمور كثيرة تقدم ذكر بعضها في كلام السلف الذين فسروا الآيات، ومن ذلك أيضاً: تعليمهم، قال البخاري رحمه الله تعالى: باب تعليم الرجل أمته وأهله، أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لهم أجران -ذكر منهم- ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران) قال ابن حجر رحمه الله: مطابقة الحديث للترجمة في الأمة بالنص وفي الأهل بالقياس، إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله وسنن رسوله آكد من الاعتناء بالإماء، فإنه إذا حث على الاعتناء بالإماء فالاعتناء بالأهل الحرائر أولى وأوجب لأنك منهم نسباً وهم منك.
وحتى لا يقول أحد: أنت تتكلم للأب والزوج ونحن الشباب دورنا ضئيل في هذا الموضوع فأقول: لا.
خذ هذا الحديث: عن أبي سليمان مالك بن الحويرث قال: (أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون -شباب- فأقمنا عنده عشرين ليلة فظن أنا اشتقنا أهلنا وسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه، وكان رفيقاً رحيماً فقال: ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي الحديث) رواه البخاري.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يهتم بتعليم النساء، وأتاهن في خطبة العيد فوعظهن موعظة خاصة، وجعل لهن يوماً يحاضرهن فيه وواعدهن بيتاً من البيوت.
إن القضية -أيها الإخوة- جد خطيرة، ولذلك اعتنى بها إمام الأنبياء وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
فهل علمنا أهلنا ما يحتاجون إليه من الدين؟! هل علمناهم ما هو حق الله، وما هو حق رسوله صلى الله عليه وسلم؟ أدعوناهم إلى عبادة الله وقمنا بتربيتهم على هذه العبادة؟ كان النبي عليه الصلاة والسلام يوقظ عائشة لقيام الليل، إذا أوتر قال: (قومي فأوتري يا عائشة) رواه مسلم وقال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح.(180/3)
الهدف من الاهتمام بالأسرة
إلى أي شيء نطمح في قضية الأهل؟ إلى أي مستوى نريد أن نصل؟ إننا نريد أن نصل إلى تحقيق الشخصية في الذكر والأنثى المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35] هذه الصفات إذا صارت موجودة في البيت ذكوراً وإناثاً، نكون قد وصلنا وحققنا المطلوب.(180/4)
الاعتناء بالفرائض وحث الأهل عليها
ولابد من الاعتناء بالفرائض خاصة لا سيما الصلاة، لابد من أدائها في أوقاتها وبالذات صلاة الفجر، ولذلك نص العلماء على إيقاظ الرجل أهله لصلاة الفجر، وأن يأمر زوجته بغسل الجنابة لأجل الصلاة، والمرأة قد تنسى مع أشغال البيت، فحتى الابن يذكر أمه والأخ يذكر أخته بقضية الصلاة، ويتابع الأب أولاده على قضية الصلاة في أوقاتها وعلى إقامتها بشروطها، وهذه مسألة في غاية الأهمية، انظر إلى أولادنا حين يصلون كيف هم في الصلاة من ناحية العبث، فلا خشوع ولا تطبيق للسنن، وإنما يجاري بعضهم بعضاً كما يرون أصحابهم في المدارس يفعلون.
كنت قد سألت شيخنا -الشيخ عبد العزيز بن باز تغمده الله برحمته- قلت له: يا شيخ لو أن شخصاً عنده درس في المسجد بعد صلاة الفجر فخرج وأهله نائمون إلى الصلاة، فهل يجب عليه أن يرجع إلى البيت ويوقظ أهله ولو فات جزء من الدرس أو فات الدرس كله أم يجلس في الدرس؟ فقال: بل يجب عليه أن يرجع؛ لأن أمره أهله بالصلاة واجب وحضوره الدرس مستحب، فلا يقدم المستحب على الواجب، وعليه أن يرجع لإيقاظ أهله.
ومع أن المسألة معروفة وكثير من الوعاظ يتكلمون عن الصلاة وأمر أهل البيت بالصلاة، لكن إذا جئنا نتفكر في الواقع من هذه الجهة وجدنا تقصيراً كبيراً جداً في قضية أمر الأهل بالصلاة.
وكذلك جاء عن نبي الله إسماعيل عليه السلام أنه كان يأمر أهله بالزكاة أيضاً: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:54 - 55] قد يكون عندها مال، أو إرث، أو حلي، فيجب عليه أن يأمرها بالزكاة، وكذلك أن يتعاهدهم في الصيام، وأن يتعاهدهم في الحج والعمرة من بلغ منهم واستطاع، وأن يأمرهم بذلك، وألا يقف الزوج في طريق زوجته إذا أرادت أن تؤدي الحج المفروض عليها ولها محرم، لا يقف في طريقها ولا يجوز له ذلك ولا يجب عليها أن تطيعه إذا أمرها بالبقاء وهي قادرة على الذهاب.
نحتاج إلى أن نربي أهلنا على الاعتناء بكتاب الله تعالى، سأل أحد طلاب العلم شيخاً له قبل أن يذهب للسفر قال: يا شيخ أريدك أن توصيني -لقد كان الصحابة يسألون الوصية من النبي عليه الصلاة والسلام قبل السفر، وهكذا كان الطلاب يسألون العلماء قبل السفر- بأي شيء توصيني؟ قال: أوصيك بكتاب الله تعالى تلاوة وتدبراً وحفظاً ومعرفة للتفسير.
ألا ما أجمع هذا الوصية! فنحتاج أن نقيم فيهم كتاب الله عزَّ وجلَّ، وأن نحيي فيهم الاعتناء بالقرآن الكريم وبسنة النبي عليه الصلاة والسلام: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] والحكمة هي السنة، وإقامة ذكر الله عموماً في البيت.(180/5)
وسائل الدعوة في الأسرة(180/6)
من وسائل الدعوة في الأسرة: القدوة الحسنة
نحتاج كذلك أن نكون قدوات في البيت؛ لأجل أن يقتدي بنا أهل البيت؛ لأن الناس يريدون قدوات عملية، كثر الكلام على الناس لكن أين الأفعال، فإنه لا يؤثر فيهم مثل القدوات الحية، القدوة تؤثر أكثر من الكلام بكثير، ألق خطباً على ولدك الصغير في شأن الصلاة، ثم قم للصلاة عملياً، يقم الولد معك ويعرف أنك صادق، بل ربما قام يصلي بجانبك حتى لو لم تأمره، وإذا أمرته قد يقوم أو لا يقوم، ففعل العمل الصالح أعظم أثراً من الكلام.
وأنس رضي الله عنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله فدعا بهم، وبعض السلف قال عن أبيه في رمضان: كان أبي يجمعنا كل يوم؛ من اجتهادهم في الختمة.(180/7)
من وسائل الدعوة في الأسرة: الترغيب والترهيب
ونحتاج كذلك إلى الاعتناء بقضية الترغيب والترهيب، وهذه مسألة في غاية الأهمية، لو قلت لبعض الشباب: ما هي سياستكم في دعوة الأهل؟ ماذا قلت لأهلك عن الدين؟ يقول: قلت لهم: التلفزيون حرام والدش حرام والأغاني حرام والتصوير حرام أو شيء من هذا القبيل، فهل هذا كل شيء؟ قال: وقلت لهم: إن هذه الحفلات التي فيها موسيقى وأغاني حرام، فهذا هو الذي قاله، أفلا كان الوعظ طريقاً للتأثير في الأهل قبل أن يسرد عليهم الأحكام في الحلال والحرام؟! لماذا لا نبدأ -يا إخواني- بقضية ذكر عظمة الله تعالى، وحق الله عزَّ وجلَّ واليوم الآخر والجزاء والحساب والجنة والنار والصراط والميزان والشفاعة والحوض، والقبر وفتنته وعذابه، وعند الموت والنزع، وكيف تنزع روح المؤمن، وكيف تنزع روح الكافر قبل أن نذكر لهم تحريم الأغاني وغيرها، حتى إذا جاءت الأحكام كان الطريق ممهداً، وكانت النفوس مستعدة للتلقي، فمشكلة الدعوة مع أهالينا، وهذا من الأخطاء التي نفعلها في الدعوة، أننا لا نمهد لأحكام الشريعة بالتمهيد الصحيح، ندخل مباشرة: هذا حلال، هذا حرام، هذا لا يجوز.
ولا نمهد لهذه الأحكام بترقيق القلوب، والترغيب والترهيب.
ولهذا الأحكام التي ذكرها ربنا في كتابه كيف ذكرها؟ هل قال: هذا حلال وهذا حرام وهذا حلال فقط أو أنه سبحانه وتعالى ذكر آيات كثيرة عن اليوم الآخر، وذكر آيات كثيرة عن عظمته وحقه عز وجل، ذكر آيات كثيرة في طاعته سبحانه وتعالى وتنفيذ أوامره والاستجابة له، ذكرنا بناره وبعذابه وببطشه ونقمته وقوته وجبروته سبحانه وتعالى، ثم بدأ بنداءات محببة قبل الأحكام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104] {يَا عِبَادِيَ} [العنكبوت:56] نداءات محببة تستجذب نفوس المؤمنين.
ثم بأي شيء ختم الآيات حتى التي فيها أحكام؟: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:196] ومرة يقول: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173] ومرة يقول: {يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة:235] وهكذا من الأشياء التي تأتي في الآيات مما فيه موعظة، مما يدل على أن طريقة الشارع في تقرير الأحكام ليست التقرير المجرد عن الوعظ ولا التقرير المجرد عن فتح النفوس بالنداءات التي تمهد الطريق لقبول الحكم، وإذا كان عندنا فقه في الدعوة فلابد أن نعي هذه القضية، وإلا فسيكون عندنا قصور كبير في دعوة الأهل والناس عموماً.
عائشة رضي الله عنها بينت أن النبي عليه الصلاة والسلام ما قال للناس بداية: إن الخمر حرام، وإن الزنا حرام، وإن الربا حرام لا.
قبل هذا ذكرهم بأشياء كثيرة جداً، تلا عليهم النبي عليه الصلاة والسلام أموراً كثيرة عن عظمة الله واليوم الآخر.
أيها الإخوة إننا نحتاج -ونسأل الله أن يبارك في الجهود- إلى سلوك الطرق الصحيحة في دعوة الأهل؛ لأن الله قال: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} [التحريم:6] والسلف قالوا: علموهم، أدبوهم، وعظوهم هذا الكلام كله داخل فيه، نحن أحياناً يقول الواحد منا: أعطيتهم الكتب والأشرطة حسناً هذا عمل تؤجر عليه وعمل طيب وجزاك الله خيراً على هذا، لكن -يا أخي- المسألة تحتاج أحياناً إلى تحريك قلوبهم بكلام منك، وحسن الدعوة يكون بمناقشة هادئة، تذكير، تليين القلوب، ولذلك ينبغي علينا أن نحسن المدخل للقلوب.(180/8)
من وسائل الدعوة في الأسرة: إدخالهم مراكز التحفيظ
بعض الناس يتقدمون بخطوات جيدة ويقولون: ذهبنا بأهلينا إلى حلق العلم في بعض المساجد في مراكز تحفيظ القرآن للنساء، ومراكز تحفيظ القرآن للنساء إذا استثمرت جيداً فهي -والله- خير عظيم، تقول إحدى الداعيات من النساء: كنا أولاً نقول: المرأة ينبغي ألا تخرج من البيت لأن خروجها يفسدها، تقول: نحن نلاحظ الآن أن هذا الكلام لا يكفي؛ لأن كثيراً من النساء يفسدن في البيوت بفعل الدش والمجلات الخليعة، فلا تفسد المرأة إذا خرجت فقط، بل حتى وهي داخل البيت! وهكذا الأولاد، أي أنك لو قلت: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] الآن، فإن البيوت التي ليست معمورة بطاعة الله عز وجل وفيها وسائل لهو وفساد يكون جلوس النساء والأولاد فيها خطراً أليس كذلك؟ ولذلك لا يكفي أن تقول لها: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] فقط من دون أن تقول: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} [الأحزاب:55] {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] وأن تحارب المنكرات في البيوت.
وبعض هذه المراكز -تحفيظ القرآن وغيرها- تؤدي دوراً عظيماً في إصلاح النساء وتعليمهن، وحتى بعض الأزواج لا يملك سلطة تأثيرية على زوجته مثل ما يلاحظ من التحسن عندما تذهب زوجته لمركز تحفيظ القرآن الكريم، وتسمع من بنات جنسها من الداعيات الفاضلات الطيبات كلاماً مؤثراً يجد الزوج أو الابن أو الأب أثره الطيب على بناته، فلا بد أن تستثمر هذه المراكز الخيرية لأن فيها نفعاً عظيماً وأثراً كبيراً، وإذا لاحظت أن المرأة لا بد أن تخرج في الأسبوع مرة أو مرتين، لأنها لا تطيق القرار في البيت فاجعل خروجها لمثل هذه الأماكن الطيبة، مع التأكيد على أن الخروج الكثير من أسباب الفتنة، وذكرها بالآية: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] وهي بيوت إذا قرت فيها المرأة صلحت، وهذه هي البيوت الطيبة.(180/9)
من وسائل الدعوة في الأسرة: البرامج التربوية داخلها
كذلك لابد من عمل جلسة أو حلقة علم للأولاد في البيت، لا بد من التنشئة من البداية، كما أن الأولاد ينشئون على أشياء سيئة مثل أفلام الكرتون وألعاب الكمبيوتر وغيرها، لا بد أن نزاحم ذلك بخير وبرامج تربوية لهؤلاء الأطفال، لابد من الاعتناء بهم.
إنني أفرح -والله- لو أن واحداً من الشباب في العائلة -أو حتى كبيراً في السن- احتسب الأجر ساعة ونصف أو ساعة في الأسبوع يلم أطفال العائلة في مجلس ويعمل لهم برنامجاً لطيفاً؛ فيه موعظة، فيه مسابقة، أو قصة، أو لعبة مباحة، ويعلمهم شيئاً من الأدب، شيئاً من الخلق؛ لأن أولادنا يفتقدون أشياء كثيرة من الآداب الشرعية، فإن هذا يثمر أشياء عظيمة، كل هذا من باب قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] فإذا صارت المرأة أو صار الولد من الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، وسلك سبيل الاستقامة، وصار ملتزماً بالإسلام ومهتدياً، وبدأ يتجه للدعوة والعلم؛ فعند ذلك سوف تطمئن إلى أن الأمور بدأت تأخذ مجراها الصحيح، وأن هذه الأقدام بدأت ترسخ وتثبت على طريق الطاعة والهداية.(180/10)
أهمية الاعتناء بقضية الأخلاق في الأسرة
ولا بد هنا من التذكير -أيضاً- على الاعتناء بقضية الأخلاق والآداب، وليس فقط في قضية العلم المجرد في العقيدة أو في الفقه وغيرها؛ لأن من النواقص التي تنقصنا -فعلاً- في هذه الصحوة المباركة أنك تجد -أحياناً- اهتماماً بالعلم وبالمتون وبالشروح وبالحلق أحياناً، ولا تجد مع هذا اهتماماً موازياً ومكافئاً في جانب الأدب والخلق، مما يجعل بعض الناس لا يتأثر من هذا الداعية أو طالب العلم، مع أن عنده كنزاً وعطاء، لكن ينقصه مفتاح القلوب وهو الأدب والخلق.
ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (خيركم خيركم لأهله) أي: في كل شيء؛ في تعليمهم، وفي كونه قدوة في العبادة، وفي كونه مانعاً للشر عنهم، وفي كونه قدوة بالأخلاق والأدب وحاملاً لهم على طاعة الله، ومحسناً لهم بالمال وبالكرم وبالخلق، فهو لا شك داخل في الخيرية.
فلابد أن ننمي الصفات الحميدة في أهالينا، كالصدق، والأمانة، والسماحة، والقناعة، والتأني، وأن نعلمهم التواضع والحياء، وأن نعلمهم كيف يتعاملون مع الوالدين والجيران والأقارب والأصدقاء وهكذا.
وإننا بأشد الحاجة أيضاً أن يكون عملنا متتابعاً وليس منقطعاً، وأن يكون مرتباً مع أهلينا، وأن يكون هناك أشياء من الخير المتواصل والمتنوع، فنحدثهم عن مسائل في العقيدة، مثلاً: لو قلت: أنا أريد أن أعطي أهلي كتاباً صغيراً في العقيدة كمثل كتاب 200 سؤال وجواب للحافظ الحكمي رحمه الله وأدرسهم شيئاً من القرآن، جزء عم -مثلاً- أو تبارك، وأدرسهم شيئاً من الحديث، مثلاً أعطيهم كتاب الأربعين النووية، وفي الفقه: أعطيهم صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، والأشياء المتعلقة بالمرأة كالحجاب والزينة وأحكام الحيض، وكذلك دروس في السيرة، وخصوصاً للأولاد الصغار.(180/11)
أثر القصص في تربية الأطفال
جربت بعض القصص مع بعض الأطفال فوجدت لها أثراً كبيراً مع صغرهم سناً، مثلاً: قصة الجمل لما جاء يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجيعه ويدئبه، مثلاً: تلك الحمّرة التي أخذ أحد الصحابة أولادها وفراخها فصارت تحوم وتصيح حتى عرف النبي صلى الله عليه وسلم حالها فأمر برد فراخها إليها هذه القصص تركز أشياء في نفس الطفل الصغير، وإن كان هذا الطفل صغيراً جداً، أشياء من الحنان والعطف وكيفية التعامل حتى مع الدواب والبهائم.
ثم هناك أشياء يمكن أن تؤخذ مثل قصة ابن عمر مع راعي الغنم لما قال: قل أكلها الذئب، وقصة عمر مع المرأة بائعة اللبن وابنتها في إناء اللبن، لما قالت لها: قومي فشوبي هذا اللبن بالماء، وكذلك قصة أصحاب الأخدود إذا عرضت بطريقة مبسطة، وقصة يوسف إذا عرضت بطريقة مختصرة مبسطة، وقصة أم موسى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] وكذلك قصة أبي هريرة مع الشيطان في فضل آية الكرسي، وغيرها من القصص التي سترى أثرها -إن شاء الله- على الأطفال لو أنك أحسنت عرضها عليهم.(180/12)
الاعتناء بالرقائق في حياة الأسرة
ونحتاج -كما قلنا- في جانب السلوك والرقائق إلى التركيز على قضية الخشوع وتعليم الأولاد والأهل الأذكار والأدعية، أنا أعطيكم قصة حدثت معي: مرة كنت عائداً من المطار، وركبت مع سائق "ليموزين" باكستاني، وفي الطريق عطست فقلت: الحمد لله، ولم يرد علي، فقلت له: ما اسمك؟ قال: فذكر اسماً من أسماء الناس في تلك البلاد، فقلت له: أنت مسلم؟ قال: نعم مسلم سني.
فقلت له: حسناً ماذا ترد على الرجل إذا قال: الحمد لله بعد عطاسه؟ قال: لا أدري.
هذا شيء بسيط! فذكرت له هذا الأدب، ثم أشياء أخرى بعد الصلاة وفي النوم وقبل الخلاء، فإذا بالرجل يكاد لا يعرف من الأذكار إلا ذكر الطعام فقط "باسم الله والحمد لله"! ثم قال: أنا لي أربع سنوات وما أحد فتح معي موضوعاً في الدين وهو ماشي معي في السيارة! إذاً: عندنا تقصير يا إخوان، أحياناً الخير بجانبنا وليس صعباً ولا يحتاج إلى جهد لكن نقصر فيه، كم مرة تركب "ليموزين" في البلد؟ كم مرة فكرت أن تغتنم هذه الفرصة لتعلم هذا الشخص شيئاً من الدين؟ إذاً: نحن نحتاج إلى التأكيد على قضية الأخلاق والآداب الشرعية.(180/13)
التنبيه على خطر المجرمين وطرقهم
كما نؤكد على مسألة توعية الأهل بسبيل المجرمين وطرق هؤلاء الأخباث الذين يريدون إخراج المرأة وتحريرها وإفسادها وإفساد الأسرة والقضاء على النسل وتحديده والدعوات التي تخرج لكي تفسد هذه الأسر، وكذلك نؤكد عليهم ما يفعله أعداء الله عز وجل في هذه الموجات الفضائية التي تأتي لتهدم البيوت والأخلاق وتذبح العفة والحياء وتنحرها نحراً.
وعلينا كذلك تفقد الأهل في عباداتهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله في رمضان في العشر، أحيا ليله وأيقظ أهله، ولما قام مرة فزعاً من النوم، قال: من يوقظ صواحب الحجرات؟(180/14)
منع المنكرات وسط الأهل
من الاعتناء بالأهل أيضاً: منع المنكرات فيهم، وهذا الشيء الذي قد نحرص عليه بداية الأمر، ونكثر من الاهتمام به، ونحن نؤكد عليه لأنه من الدين، وحماية الأهل من المنكرات من الأمور العظيمة جداً لكن ليس ذلك كل شيء، بل الدين أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وليس نهياً عن المنكر فقط.(180/15)
إنكار النبي صلى الله عليه وسلم المنكرات في بيته
النبي صلى الله عليه وسلم دخل مرة على عائشة وفي البيت وجد سترة فيها تصاوير، فتغير وجه النبي عليه الصلاة والسلام، وكان إذا غضب رئي ذلك في وجهه، وأحست عائشة أن هناك أمراً خطيراً واستغفرت، وعرفت القضية، وقامت وشقتها وانتهى المنكر وقضي عليه؛ لما رأت أن زوجها النبي عليه الصلاة والسلام رأت في وجهه الغضب من هذا المنكر الذي دخل ورآه أمامه.(180/16)
أبو موسى وتنبيه أهله على شيء محرم
أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وجع وجعاً شديداً في مرض موته وغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله فصاحت؛ لأنه غشي عليه ما استطاع أن يرد عليها، فلما أفاق قال: (أنا بريء مما برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة -أي: التي ترفع صوتها عند المصيبة وتنوح- والحالقة -أي: التي تحلق شعرها وتقطعه عند المصيبة- والشاقة -أي: التي تشق ثوبها عند المصيبة) رواه البخاري، فهذا أبو موسى الأشعري ينكر على امرأته وهو على فراش الموت رضي الله تعالى عنه.
والبخاري رحمه الله من أبوابه في الصحيح "باب إخراج أهل المعاصي من البيوت بعد المعرفة" والنبي عليه الصلاة والسلام أخرج هيتاً وكان يوصف بأنه ليس له إرب بالنساء، أي فيه علة: ليس فيه شهوة بالنساء، كان يدخل ويخرج على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وصف امرأة من نساء أهل الطائف فانتبه له النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه يمكن أن يصف زوجات النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (لا يدخل عليكن هذا).(180/17)
عمر ينكر النياحة ويضرب النائحة
قال البخاري: باب إخراج أهل المعاصي بعد المعرفة، وقد أخرج عمر فلانة حين ناحت، وقال ابن حجر: وصلها ابن سعد في الطبقات بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال: لما توفي أبو بكر أقامت فلانة -يعني: من أقربائه- عليه النوحة، فبلغ عمر فنهاهن فأبين، فقال لـ هشام بن الوليد: اخرج إلى بيت أبي قحافة -يعني: فلانة- فعلاها بالدرة ضربات فتفرقت النوائح حين سمعن ذلك، وفي رواية: فجعل يخرجهن امرأة امرأةً وهو يضربهن بالدرة؛ لأنه لما تحولت القضية إلى نياحة قام واستعمل سلطته وأنكر هذا المنكر وفرق النائحات.
أيها الإخوة: إذا كنا نقول عن أنفسنا: نحن متمسكون بالدين وملتزمون به؛ فينبغي أن يكون أهلنا على هذا المستوى، إن من العيب الشنيع جداً أن ترى الآن إنساناً ملتحياً يمشي في الشارع بجانبه زوجته وهي تمشي سافرة، والعطر فوَّاح، الوجه مكشوف، الغطاء رقيق، الفتحة في التنورة.
لا يوجد تناسب بين منظر هذا الإنسان وبين المرأة التي بجانبه، أو التي تركب بجانبه في السيارة! ثم إنه الناس يشنعون يقولون: هذه زوجة فلان، هذا فلان شيخ، وهذا طالب علم، وهذا متدين وهذه زوجته وهذه بنته!!(180/18)
ابن مسعود وتبرؤه من المنكرات
انظر وتأمل في قصة ابن مسعود رضي الله عنه، وابن مسعود من الناس الذين ينبغي أن تؤخذ سيرتهم ويتدبر فيها ويتعلم منها؛ لأنها فيها عبراً عظيمة، ابن مسعود رضي الله عنه من الشخصيات الجديرة بجمع قصة حياته رضي الله عنه، في سيرة ابن مسعود فوائد عظيمة لو أخذها الشباب ودرسوها والكبار والصغار ففيها فوائد عظيمة جداً، وجربوا هذا، وستجدون أثر ذلك، وقد كان في غاية العناية بقضية أهل بيته.
إليكم هذه القصة: قال ابن مسعود مرة: [لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات المتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله] فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب فجاءت فقالت: إني أرى أهلك يفعلونه -انظر إلى الكلام! - قال: فاذهبي وادخلي البيت وتأكدي من هذا الذي تقولينه، فذهبت فنظرت فلم تر شيئاً، -تهمة باطلة وامرأة ابن مسعود بريئة- فقال ابن مسعود رضي الله عنه: [لو كانت كذلك ما جامعتها].
رواه البخاري، والراجح في معنى كلامه: ما اجتمعت أنا وإياها في بيت واحد ولا صاحبتها ولا بقيت معها ولا أبقيتها في بيتي هذه القصة في البخاري.
قصة في صحيح مسلم: عن أبي وائل قال: [غدونا على عبد الله بن مسعود يوماً بعد ما صلينا الغداة -الغداة: صلاة الفجر- فسلمنا فأذن لنا فمكثنا بالباب هنيهة -أي: ما استعجلنا بالدخول مع أن الإذن حصل- فخرجت الجارية فقالت: ألا تدخلون؟ فدخلنا فإذا هو جالس يسبح، فقال: ما منعكم أن تدخلوا وقد أذن لكم؟ فقلنا: لا.
إلا أنا ظننا أن بعض أهل البيت نائم.
-أي: قالوا: خفنا أن ندخل عليك يا عبد الله بن مسعود وبعض أهلك نائمون، فنزعجهم وخاصة أن الوقت بعد الفجر، فنحن تأخرنا عند الباب قليلاً لهذا- قال: ظننتم بآل ابن أم عبد غفلة؟ -تظنون أن أهلي لا يقومون لصلاة الفجر أو لا يسبحون الله بعد الفجر ولا يذكرون الله؟ - ثم أقبل يسبح حتى ظن أن الشمس قد طلعت فقال: يا جارية انظري هل طلعت؟ قال: فنظرت فإذا هي لم تطلع، فأقبل يسبح حتى ظن أن الشمس قد طلعت قال: يا جارية انظري هل طلعت؟ فنظرت فإذا هي قد طلعت، فقال: الحمد الله الذي أقالنا يومنا هذا ولم يهلكنا بذنوبنا].
يقول النووي: وفي هذا الحديث مراعاة الرجل لأهل بيته ورعيته في أمور دينهم.(180/19)
حقوق وآداب على رب الأسرة
أيضاً لابد من معرفة حقوق الأهل، فإن كل واحد فينا لأهله عليه حقاً، وحق الأهل كثير، فالزوجة حقها في النفقة وفي الفراش وفي أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر إلى آخره، والنبي عليه الصلاة والسلام لما وصله خبر أن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه يصوم كل الأيام ويقوم كل الليالي فلقيه مرة، فقال: (إني أخبرت أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ قلت: إني أفعل ذلك.
قال: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك -غارت وضعفت- ونفهت نفسك -كلت وملت- إن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً) زوجتك لها حق، أعطها من وقتك.
ومن أسباب انحراف بعض الزوجات: أن زوجها ليس فارغاً لها -ولاطها كما يقول الناس- لا يصاحبها ولا يجالسها فضلاً عن أن يعلمها ويدلها ويرشدها، وهذا من أخطائنا.(180/20)
من حقوق الأهل: الإنفاق عليهم واحتساب ذلك
من حق الأهل الإنفاق عليهم، إن معيل الأسرة له أجر عظيم، عن أبي مسعود عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة) رواه البخاري وانتبهوا معي إلى هذا الحديث؛ لأن فيه أمراً لو انتبهنا إليه فستكثر حسناتنا إن شاء الله، ولو لم ننتبه إليه فستفوت علينا حسنات كثيرة جداً جداً.
لاحظ الحديث مرة أخرى (إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة) لقد ربط الصدقة بالاحتساب، فما هو الاحتساب؟ قال ابن حجر رحمه الله: الاحتساب القصد إلى طلب الأجر، ويستفاد منه أن الأجر لا يحصل بالعمل إلا مقروناً بالنية، ولهذا أدخل البخاري حديث أبي مسعود المذكور في باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، وقوله (على أهله) يحتمل أن يشمل الزوجة والأقارب، والنفقة على الأهل واجبة بالإجماع، وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عرفوا ما للصدقة من أجر، فعرفهم أنها لهم صدقة حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم.
إذاً: لا منافاة بين كونها واجبة وبين تسميتها صدقة، بل هي أفضل من صدقة التطوع.
كم الذي نصرفه على مقاضي البيت وأغراضه؟ كثير، متى تؤجر عليه؟ إذا احتسبت عند الإنفاق ونويت وقصدت أجر الإنفاق على الأهل، كم واحداً فينا عندما يصل إلى آلة المحاسبة أو إلى العامل الذي يحاسب في باب البقالة يحتسب عند الدفع أجر الإنفاق على الأهل، ويقصد أجر الصدقة وثوابها؟ كم فاتنا من الأجر؟ وكم سيفوت إذا ما انتبهنا لهذا؟ لذلك ابن حجر رحمه الله قال: المراد بالاحتساب القصد إلى طلب الأجر.
فيا أخي، يا عبد الله إذا أتيت تحاسب المحلات على طعام لبيتك أو ملابس لأولادك أو أشياء لزوجتك فعليك أن تحتسب الأجر، هذه نصيحة لوجه الله.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك) وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن واحداً من أصحاب الغار الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة قال في عمله الذي دعا الله وتوسل به: إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت أخرج فأرعى ثم أجيء بالحلاب فآتي به أبواي فيشربان ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يحبس لأهله نفقة سنة.
طبعاً بهذا الكلام لا يعني أن ننسى الصدقات الأخرى، وننسى إخواننا في الشيشان وفي غيرها، ونقول: كله للأهل لا.
بل ينبغي أن يكون لجوانب الخير الأخرى نصيب من صدقاتنا، وألا نسرف في الإنفاق على البيت؛ لأن بعض الناس يصرفون أكثر من المطلوب وزيادة على الحاجة، ثم يقول: ما عندنا والله يا أخي شيء نتصدق به، كله صرفناه على البيت.
وقد يكون رمى من الطعام أشياء كثيرة، والاقتصاد من النبوة، فأين الاقتصاد؟ أين صرف المال في وجهه الصحيح؟(180/21)
من حقوق الأهل: الأدب والسمر معهم
مما يتعلق بحقوق الأهل -أيضاً- حفظ الأدب معهم، يقول صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدكم إذا أتى أهله فقال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد لم يضره) رواه البخاري.
وكذلك لا يطرق زوجته ليلاً إلا أن تعلم أنه سيأتي لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يطرق الرجل زوجته ليلاً وقال: (إذا دخلت ليلاً فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة -التي غاب زوجها- وتمتشط الشعثة).
وقال لـ جابر: (عليك بالكيس الكيس) رواه البخاري الكيس معناه: الرفق وحسن التأتي، وأيضاً يؤخذ من معناه إتيان المرأة، ولذلك لما قال جابر لزوجته لما دخل عليها: (إن النبي عليه الصلاة والسلام أمرني أن أعمل عملاً كيساً.
قالت: سمعاً وطاعة فدونك، فبات معها تلك الليلة).
السمر مع الأهل: كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعله، وابن عباس أخبر أنه عليه الصلاة والسلام تحدث مع أهله ساعة قبل أن ينام، وقال البخاري في صحيحه: باب السمر مع الضيف والأهل، والنبي عليه الصلاة والسلام كان في السفر بعيره يمشي وبجانبه بعير حفصة وعائشة يسامرهن في الطريق في الليل.(180/22)
من حقوق الأهل: الخدمة والمشاركة في عمل البيت
من حقوق الأهل أيضاً: خدمتهم ومشاركتهم في عمل البيت، ورد أن الأسود سأل عائشة: (ما كان النبي عليه الصلاة والسلام يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله -أي: في خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة) رواه البخاري خدمة الأهل في أي شيء؟ جاء في الروايات الأخرى: يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم، ويصلح دلوه، ويحلب شاته، ويفلي ثوبه، ويخدم نفسه.
وقالت عائشة: (كان ألين الناس وأكرم الناس، وكان رجلاً من رجالكم إلا أنه كان بساماً) فهو كثير التبسم صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الحديث فوائد كثيرة، وليس صحيحاً ما يراه بعض الناس أن العمل مع الأهل عيب كبير، لا يا أخي، إذا عملت مع أهلك في البيت، ولا بأس عليك لو غسلت لهم الصحون مرة، وساعدتهم في نقل الغسيل مرة، وطبخت مرة فهذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام، ومن فوائده: أن المرأة ترتاح جداً إذا شاركها الرجل في بعض أعمالها، وتحس أن هذا إنسان وفي يريد أن يحمل عنها شيئاً من المسئولية ويساعدها، وفيه تواضع عجيب، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان يكون في مهنة أهله، وهذا من أعظم أسباب التواضع، وبعض الرجال يكون عنده عظمة في نفسه، لا تعالج تربوياً إلا بمثل هذه الخدمة في البيت.
وأيضاً: من الفوائد التي ذكرها العلماء البعد عن التنعم، لأن بعض الناس يقول: هذه ليست شغلتي، هذه شغلة الخدامة.
فمن فوائد العمل في مهنة الأهل البعد عن الترفه والتنعم، ولئلا يخلد الشخص إلى الرفاهية المذمومة التي أشير إليها في قوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} [المزمل:11] أولو النعمة هم المرفهون المترفون، هؤلاء أولي النعمة، فهذه تربية عظيمة للنفس.(180/23)
من حقوق الأهل: الدفاع عنهم إذا كانوا أبرياء
من حقوق الأهل عليك: الدفاع عنهم إذا كانوا أبرياء، النبي عليه الصلاة والسلام لما رميت عائشة وهي بريئة ولا يعلم عنها إلا خيراً قام على المنبر وقال: (يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً؟ وفي رواية: أشيروا عليَّ في أناس أبنوا أهلي -أي: اتهموهم بالباطل- وايم الله! ما علمت على أهلي من سوء).
ولو وصل الدفاع عن الأهل إلى درجة القتال وإراقة الدم، فأرق دمك في سبيل الدفاع عن أهلك وأنت مأجور بالشهادة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ومن قتل دون أهله فهو شهيد).
أيها الإخوة إن القيام بالمسئوليات في الأسرة مسألة متكاملة في الإسلام، إنها مسألة موزعة على الأفراد، إن كل واحد في العائلة عليه مسئولية، وإن عظمة هذا الشرح الذي جاءت به الشريعة في هذا التوزيع يدل على عظمة الشريعة نفسها، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) رواه البخاري ما هي رعاية الرجل أهله؟ أن يسوسهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويوصل إليهم الحقوق، ويقيم فيهم الدين ويربيهم عليه.
ما هي رعاية المرأة في بيت زوجها؟ تدبير أمر البيت والأولاد والخدم والنصيحة للزوج في كل ذلك.
ما هي وظيفة الخادم والخادمة؟ حفظ ما تحت يده والقيام بما يجب عليه من الخدمة، ووظيفة الولد أن يقوم على مال أبيه ينميه ويثمره ويقوم بما يجب فيه.(180/24)
من حقوق الأهل: حسن المعاشرة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) وسابق عائشة ومازحها، ولاطف زوجاته، وفاطمة رضي الله عنها ابنته كان لها في نفسه معزة خاصة جداً جداً، إذا دخلت عليه قام إليها ويقول: (مرحباً بابنتي فاطمة).
إن من حسن المعاشرة للأهل أيها الإخوة: العطف والحنان والحنو عليهم كمثل فعل نبي الله موسى عليه السلام عندما سار بأهله: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص:29] فمن حنانه وعطفه على أهله ورعايته لهم أوقفهم بعيداً عن مكان النار لأنه لا يدري ماذا يوجد عندها، عدو أو صديق أو خير أو شر، ثم قال لأهله: امكثوا لعلي آتيكم بجذوة من النار لعلكم تصطلون، أي: تستدفئون من هذا البرد، ففي هذا حرص الزوج على زوجته بتدفئتها من البرد.(180/25)
من حقوق الأهل: رقيتهم ومعالجتهم إذا مرضوا
ومن الحنان أيضاً والعطف على الزوجة وعلى الأهل: رقيتهم إذا مرضوا، تقول عائشة رضي الله عنها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بعض أهله) هكذا نطبق هذا الحديث، لا يوجد أحد في البيت إلا ويتعرض للمرض، يمرض يوماً من الأيام (كان يعوذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى -قال العلماء: تفاؤلاً بزوال الوجع، وأيضاً فيه حنان وعطف- ويقول: اللهم رب الناس أذهب البأس، اشفه وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً) رواه البخاري.
إذا مرض أحد من أهلك فطبق الحديث، بل وتعلمهم الرقية أيضاً، عن عثمان بن أبي العاص أنه قال: (أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وبي وجع قد كاد يهلكني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: امسح بيمينك سبع مرات، وقل: أعوذ بعزة الله وقدرته وسلطانه من شر ما أجد، قال: ففعلت فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر به أهلي وغيرهم) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.(180/26)
من حقوق الأهل: مراعاة ضعفهم
ولابد من مراعاة ضعف المرأة الذي جبلها الله عليه، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يقدم ضعفة أهله من مزدلفة بعد منتصف الليل أو عند ثلثي الليل، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: (أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله) رواه البخاري.(180/27)
من حقوق الأهل: ملاطفتهم ومداعبتهم
ومن حقوق الأهل ملاطفتهم وممازحتهم ومداعبتهم، والدعابة: هي الملاطفة في القول بالمزاح، وليس المقصود أن ينقلب الإنسان إلى شخص هزلي أبداً، بل إن الشخص الهزلي هذا إنسان ليس لكلامه تأثير في النفوس؛ لأن هزله يقضي على تأثير كلامه، ولا يكاد الناس يحترمونه؛ فتسقط مهابته ووقاره، لكن لو قلت لي: هل أحتشم عند الناس الغرباء أكثر أو عند أهلي؟ فأقول: طبعاً عند الناس الغرباء أكثر، لكن عند أهلك يمكن أن تمازح أكثر، المشكلة أن بعض الشباب يمازحون أصحابهم أكثر مما يمازحون أهليهم، فيسقط وقاره عند أصحابه، وعند أهله يظل عبوساً لا يكاد يمازح كيف هذا؟! أنت مع الشباب في مزح وضحك، ثم قد يكون هناك واحد هو المهرج وهو مضحك القوم وإذا جاء ضحكوا من مجرد رؤيته، وإذا قال كلمة ضحكوا.
ولذلك بعض أهل العلم قال: من الغلط أن يتخذ المزاح حرفة نقله ابن حجر في فتح الباري، يأتي واحد يشتغل مهرجاً أو ممثلاً كوميدياً، ليس هناك شيء اسمه ممثل كوميدي في الإسلام؛ لأن هذا يتخذ المزاح حرفة، ولذلك فإن الإكثار منه يقضي على جدية الإنسان وعلى كلامه عند الناس، لكن الإنسان إذا كان عند أهله فله أن يمازح أكثر مما يمازح خارج البيت، لأن طبع المعاشرة للأهل الممازحة والملاطفة وفيهم صبيان وأطفال، والرجل مع زوجته ربما تغضب الزوجة فيعطيها من الكلام الطيب والضحك، فتنتهي المشكلة وتمشي الأمور والحمد الله.(180/28)
استشارة الأهل والأخذ برأيهم
ومن حسن الخلق أخذ آرائهم واستشارتهم، وكعب رضي الله عنه استعان بكل ذي رأي من أهله لما وقعت له مصيبة التخلف عن غزوة تبوك، والنبي صلى الله عليه وسلم عمل برأي أم سلمة في غزوة الحديبية، ولذلك حديث: (شاوروهن وخالفوهن فإن في خلافهن البركة) موضوع مكذوب لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، وبعض الناس يجعلها قاعدة يقول: تريد أن تعرف الصحيح فشاور المرأة، التي تقوله خالفه وسترى البركة! بعض النساء قد يكون لها عقل تتفوق به على كثير من الرجال، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام أخذ برأي أم سلمة رضي الله تعالى عنها.(180/29)
من حقوق الأهل: عدم الغلظة والشدة عليهم
ومن حقوق أهل الإنسان عليه ألا يعنتهم ولا يشق عليهم؛ ولذلك حدثنا صلى الله عليه وسلم بقوله: (لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه) رواه البخاري يلج: من اللجاج وهو التمادي في الأمر ولو تبين له الخطأ، ما معنى هذا الكلام؟ قال النووي: من حلف يميناً تتعلق بأهله بحيث يتضررون بعدم حنثه فيها، فينبغي أن يحنث فيفعل ذلك الشيء ويكفر عن يمينه، فإن قال: لا أحنث، بل أتورع عن ارتكاب الحنث خشية الإثم فهو مخطئ؛ كما لو حلف وقال: والله لا ترون فلساً واحداً فلو قال: أنا سأبر بيميني ولن يروا ولا فلساً واحداً، فهذا خطأ لأنه كيف لا ينفق على زوجته وهو من حقوقها عليه؟ فلذلك عليه أن يكفر عن اليمين ويريهم الريالات وألا يتمادى، بعض الناس يظن التمادي من الرجولة، أنا يميني لا ينزل الأرض، ويمكن أن يحلف بالطلاق: إذا رفعت السماعة فأنت طالق، وإذا خرجت من البيت فأنت طالق، وإذا ذهبت بيت خالك فأنت طالق، وإذا فعلت كذا فأنت طالق، كله على الطلاق يمشي بوتيرة واحدة، طلقات مدفع وراء بعض وبعد ذلك كيف تعيش هذه المرأة مع مثل هذا الرجل؟! يا إخوان ينبغي أن نتقي الله عزَّ وجلَّ.(180/30)
من حقوق الأهل: عدم كثرة التغيب عنهم لغير الحاجة
ثم علمنا عليه الصلاة والسلام ألا نتغيب عن أهلنا فترة طويلة وننقطع عنهم بغير حاجة، وإذا قضى الواحد حاجته في السفر فليرجع، ولذلك قال في الحديث: (السفر قطعة من العذاب، فإذا قضى أحدهم نهمته فليعجل إلى أهله) رواه البخاري وذلك كراهة الاغترب عن الأهل لغير حاجة، لئلا يضيعوا؛ ولأنه إذا سافر شق على الزوجة وعلى الأولاد.
لما جلس إمام الحرمين موضع أبيه سئل: لِمَ كان السفر قطعة من العذاب؟ فأجاب على البديهة: لأن فيه فراق الأحباب؛ فلذلك ينبغي ألا نتغيب عن أهلنا فترة طويلة، وإذا انتهت الحاجة من السفر رجعنا لهم مباشرة، بعض الناس يتحجج بالدعوة، ويخرج أياماً طويلة يقول: في الدعوة، وقد ترك أهله ما عندهم قطعة خبز، والولد يريد المستشفى ولا يوجد أحد يذهب به، ماء عذب للشرب لا يوجد الخ.(180/31)
كوارث غياب الأب عن أولاده
بعض الناس يغيبون للأمور الدنيوية، ويسافرون أسفاراً لا معنى لها ولا داعي لها، إلى أي شيء نريد أن نصل؟ هل نريد أن نصل إلى ما وصل إليه الكفار؟ في الولايات المتحدة الأمريكية تعد مشكلة غياب الأب عن أبنائه من أكبر المشكلات، (51%) فقط من الأطفال يعيشون مع آبائهم الحقيقيين، والأطفال الذين يولدون سفاحاً (30%) من مجمل الأطفال، (68%) من بعض قطاعات مجتمعهم سفاح، وعدد حالات الطلاق (1.
2) مليون حالة في السنة، نصف هذه الحالات بها أطفال، يعيش (38%) من الأطفال بعيداً عن آبائهم، كانت في الستينيات النسبة (17%) تطورت بعد ثلاثين سنة لتصل إلى (38%) ولذلك أحد مؤلفيهم ألف كتاب أمريكا اليتيمة يشير إلى قضية أن الأطفال هناك يتامى، أمٌ تخلت أو أبٌ مشغول ومسافر؛ ولذلك قال: ارتباط الأولاد بالمسدسات جاء نتيجة لذلك، والعنف والوحشية والحوادث الهمجية، يقول أحدهم: أبي دعني أراك، وآخر قتل أباه وأمه لما حدث فراغ عاطفي في نفسه نتيجة الغياب من الأبوين، الأب خارج البيت للعمل، وأيضاً الأم خارجة للعمل، ثم قام بعد ذلك الكتاب والصحفيون والناس يقولون: لا تتركوا أطفالكم، شاركوهم في ألعابهم وأحلامهم، وعلموهم، وذلك نتيجة لهذه الجريمة التي حصلت، في ذلك الوقت هرعوا يفتشون في أدراج مكاتب أبنائهم عما يوجد لما وقعت الجريمة.
حنان الأب وجلوسه بجانب أطفاله أمر في غاية الأهمية، إنه يعوض الطفل عن حاجة نفسية متأصلة في نفسه، وقد وجد الأطباء النفسانيون أن الولد إذا غاب عنه أبوه افتعل أشياء في مخيلته، عن قصة فيها ولد ومعه أبوه وأن أباه أتى له بلعبة كذا وأعطاه لعبة كذا وخرج معه كذا، ويفتح القناة الثانية على التخيل ويتخيل هذا الوضع ليعوض عن نفسه بالخيال، يعوض نقص الواقع بالخيال؛ ولذلك تنشأ المشكلات النفسية والاضطرابات العاطفية، فسبب ذلك وقوع حوادث الاعتداءات، هذه من الأمور التي تترتب على هذا، إنها المخالفة لما جاء به الإسلام من تربية الأهل والقيام عليهم وملازمتهم والحرص عليهم، (46%) من الأسر التي يغيب عنها الأب وتشرف عليها الأمهات تحت مستوى خط الفقر.
إن غياب الأب يزيد احتمال تعرض الأطفال للانطوائية والتعطل وإدمان المخدرات والجريمة والانتحار والاعتداءات الجنسية، وعدد القتلى على أيدي مراهقين تقل أعمارهم عن 18 سنة ارتفع بنسبة (125%) بين عام (84 - 94) في خلال عشر سنوات فقط، وأنتم تسمعون حوادثهم وجرائمهم، وتسمع أن ولد في المتوسط الثانوي يفتح النار على طلاب أو مدرس أو مدرسة، فيقتل ثلاثة أو يقتل ثمانية، وحوادث متوالية لماذا وقعت هذه الأشياء؟ لهذه الأسباب أيها الإخوة، هؤلاء ضحايا الابتعاد عن الأبوين، ضحايا الترك والإهمال، إنه شيء يدفعونه من دمائهم وصحتهم بسبب البعد عن الدين.
أيها الإخوة ينبغي علينا نفع الأهل بكل طريقة، إن موسى عليه السلام ما زال يدعو ربه أن يجعل أخاه هارون نبياً حتى استجاب الله له: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:29 - 36] ولذلك ليس أحد أعظم منة على أخيه من موسى على هارون.(180/32)
عدم إيذاء الأهل وكشف أسرارهم
كذلك يجب أن نترك أذية الأهل، وقد روي حديث ضعيف، رواه ابن ماجة عن حذيفة، ولكن فيه عبرة، وبعض الأحاديث ضعيفة لا تثبتها عن النبي عليه الصلاة والسلام، لكن إن كان فيها حكمة فخذها، واعتبرها حكمة من الحكم قال: (كان في لساني ذرب على أهلي، وكان لا يعدوهم إلى غيرهم) أي: أن معاملتي مع الناس جميلة ولساني حلو عذب، وأما مع أهلي فإن لساني سيف قاطع، فقال: (أين أنت من الاستغفار؟ تستغفر الله في اليوم سبعين مرة) والاستغفار في اليوم سبعين مرة أمر ثابت، إذا وجد الإنسان سلاطة من لسانه على أهله فعليه أن يشغل لسانه بالاستغفار أو يتبع هذه السلاطة والأذى بالاستغفار.
وكذلك يجب حفظ أسرار الأهل، النبي عليه الصلاة والسلام سألهم مرة عن الذين يكشفون أسرار الحياة الزوجية، فاعترفت امرأة من الموجودات بأنهم يفعلونه، فأخبر عن مثل ذلك بمثل شنيع، شيطان لقي شيطانة في الطريق فقضى حاجته والناس ينظرون.
إذاً لابد من حفظ أسرار الأهل، والدعاء لهم دائماً بالصلاح والهداية، كما هو الحال في دعاء السفر: (اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل -كأنه يستودعهم الله عزَّ وجلَّ، والله إذا استودع شيئاً حفظه- اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل) والحديث في صحيح مسلم.(180/33)
فتنة الرجل في أهله
هل الإنسان يفتن بأهله؟ نعم.
يمكن أن يفتن بأهله، لكن كيف يفتن بأهله؟ وما هو الدليل؟ ولو حصل ما هو الحل والعلاج؟ اسمع معي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي) رواه البخاري ومعنى فتنة الرجل في أهله وولده الالتهاء بهم عن طاعة الله، وأن يترك واجبات بما يولدونه عليه من الضغوط، هذه فتنة الرجل في أهله وولده، أو يفعل المحرمات أو يأتي بها لأجلهم، يأتي لهم بأجهزة لهو، أجهزة محرمة، ألعاب محرمة، الولد يقول: أريد سوني بلير ستيشن، الأولاد كلهم في المدرسة يتكلمون عن سوني بلير، حسناً أتى به، ماذا فيها؟ موسيقى، نساء متعريات، صلبان وكلها لا تجوز لكن تحت الضغط جاء بها، وتحت الضغط أتى بكذا وجاء بكذا من المحرمات، وأحياناً يتكاسل الإنسان في الصلاة بسببهم، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يكون في مهنة أهله فإذا سمع نداء الصلاة خرج.(180/34)
الحل إذا فتن الإنسان في أهله
فإذا فتن الإنسان وحصل منه تراجعات بهذا السبب؛ فعليه أن يتوب إلى الله ويصلح الأمر، ويخرج المنكر، ويعظ أهله ويعظ نفسه، وبالإضافة إلى ذلك الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أليس الولد مجبنة عن الجهاد، مبخلة عن الصدقة، مجهلة عن طلب العلم؟ ألا يحدث ذلك؟ يحدث، ولذلك لا يصح أن يشغلك أهلك عن ذكر الله عزَّ وجلَّ، فإذا انقلب الأهل أعداءً فما هو الموقف؟ قد يبتلى الإنسان بولد ضال فاسق أو كافر: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:45 - 46] قد يبتلى بزوجة عاصية فاسقة وربما كافرة: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10] ليست خيانة فراش لا.
لكن كانت زوجة نوح تدل قومها على المؤمنين الذين تبعوا نوح ليفتنوهم عن دينهم، وكانت الأخرى تدل قومها على أضياف زوجها ليفعلوا بهم الفاحشة فما هو الحل إذاً؟ الدعوة وإن لم تحدث الموافقة على الحق فالمفارقة.
وفي قصة الغلام والراهب وأصحاب الأخدود كيف علم الراهب الغلام كيفية التصرف مع أهله، كان يجلس ويذهب إلى الساحر يعلمه السحر، وفي الطريق يرجع إلى أهله يجلس إلى هذا الراهب المسلم يعلمه الدين؛ فكان يتأخر على الساحر ويتأخر على أهله، فشكا إليه ذلك، فقال: إذا خشيت الساحر، فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر وهذا الحديث في صحيح مسلم.
كيف يكون التصرف مع الأهل إذا صاروا فتنة، وإذا صاروا أعداء، وإذا صاروا ضد الدين: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] هذا قد يكون كثيراً في زمن الفساد؛ ولذلك ينبغي أن نعرف كيف نواجه مثل هذه المواقف.(180/35)
أهمية القوامة للرجل
يا إخوان نحن نحتاج إلى بيوت مستقرة؛ لأن الواحد يأتي متعباً ومنهكاً، يحتاج إلى بيت يستقر فيه ويرتاح فيه، وحتى يكون البيت المستقر معموراً بذكر الله وبطاعته، وأن يكون الرجل له القوامة، هذه القوامة التي يريد أعداء الله اليوم أن يسقطوها، فيقولون: المرأة تسافر بغير إذن الزوج، المرأة تنفق مثل الزوج، لابد من مساواة هذا الكلام يقولونه الآن ويعملون من أجله مؤتمرات، مثل بمثل، وقد قال الله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] فجعل الله عقل الرجل أكمل؛ ولذلك جعل قرار الطلاق بيده لا بيد المرأة، غالباً أن عقل الرجل أكمل فجعلت هذه القرارات المصيرية بيده، وجعل له الإمارة عليها والقيادة؛ لأنه هو الذي ينفق عليها: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] فإذا قالوا: هو ينفق وهي تنفق فالقيادة مشتركة هل يمكن أن يقود السفينة أكثر من ربان هذا يوجهها يميناً وهذا يوجهها شمالاً؟! كل منهما يريد استلام دفة التوجيه ماذا يحدث للسفينة -سفينة البيت-؟ تضطرب، وإذا صارت قائدة السفينة امرأة فهي مصيبة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) ولذلك لا بد من إظهار القوامة، ولا يمكن أن يستقيم البيت من دون قوامة واضحة من الرجل على أهله.
وينبغي أن نتحسب كثيراً لقضية المشكلات، وأن نراعي الأمور بحيث نقيم البيت على الدين كما أمر الله عزَّ وجلَّ.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويحفظ حدوده، ويقيم شرعه.
اللهم اجعل عملنا في رضاك، وأسعدنا بتقواك، ولا تشقنا بمعصيتك، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.(180/36)
الأسئلة(180/37)
ترك توجيه الأهل حياءً
السؤال
بعض الناس يترك توجيه الأهل حياءً.
الجواب
يا أخي كيف يترك الشاب أو أي إنسان الواجب الشرعي حياءً؟ لا يمكن، ولذلك جرئ نفسك على قول الحق وعلى القيام بالواجب، ولا بأس أن تأخذ المسألة بتمهل خطوة خطوة، لكن لا بد أن تكون دائماً في ازدياد.(180/38)
حكم الذهاب إلى الأفراح المليئة بالمنكرات
السؤال
كثير من الرجال آباءً وإخواناً وأزواجاً يتساهلون في ذهاب النساء القريبات ممن يعولونهم إلى الأفراح المليئة بالمنكرات؟
الجواب
هذا التساهل مذموم ومحرم ولا يجوز، والذاهب والسامح بالذهاب آثم؛ ولذلك لابد أن نتقي الله عز وجل في هذا الأمر.(180/39)
الطلاق ينقض عرى الأسرة
السؤال
من أشد ما ينقض عرى الأسرة الأشياء التي تؤدي إلى الطلاق، فكيف نعالج هذه المشكلة التي تتفشى؟
الجواب
أما أنها تفشت نعم يا أخي، الإحصاءات تقول: أنه من كل أربع زوجات فيها واحدة تنتهي بالطلاق، معنى ذلك: خمسة وعشرين في المائة (25%) من الأسر تتفكك، وهذه إحصائية مخيفة جداً يا إخوان! ربع المجتمع ينهار! أسر تنهار! بنت تمسك في حالة مزرية جداً، فتتبع القضية فتجد -أحياناً- أباها طلق أمها والبنت تعيش عند خالها، أو تعيش عند جدتها، لاحظ أنه عندما تعيش بنت عند جدتها أو خالها بعيداً عن رقابة الأبوين، وليس عليها رقابة مثل ما تكون عند والدها يحدث الفجور، فهو سبب عظيم للفجور؛ ولذلك الطلاق فيه مصائب عظيمة، وأنا أنصح كل امرأة أن تتحمل إلى أقصى ما يمكن قبل أن تطلب الطلاق، وألا تستجيب لنزغات الشيطان فتسارع بطلب الطلاق في أي مشكلة، حصول الطلاق يسبب فراغاً عاطفياً وفقدان مصدر الحنان، وإذا صادفت الفتاة أماً تخلت أو أباً مشغولاً سقطت بسهولة بين براثن الذئاب.
ولا ينبغي أن تطلب المرأة الطلاق إلا إذا صار الزوج منحرفاً في أخلاقه، تاركاً لدينه، مجاهراً بالمعاصي كشرب الخمر أو المخدرات، ولا تطيق إصلاحه ولا الصبر عليه، لأنه صار من معتادي الإجرام، تردد على السجون ومخافر الشرطة هذا حال لا يطاق، لكن بعض النساء تطلب الطلاق لسبب تافه.
لاحظ معي ما يحدث عند بعض الناس حتى ممن عندهم شيء من العلم، إذا طلق قال لها: اذهبي إلى أهلك.
أو هي تقول فوراً لأهلها: تعالوا خذوني.
كلاهما عاصيان، ألم يقل الله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1]؟! لماذا يريد الشارع أن المرأة تبقى في البيت في وقت العدة في الطلقة الرجعية؟ ولماذا ينهى عن الطلاق في حيض أو في طهر جامعها فيه ويقول له: إذا أردت أن تطلق وهي حائض: انتظر حتى تطهر؟ لأنه في خلال هذه الفترة ربما اشتاق إليها ونسي الموضوع أصلاً، هناك حكم من وراء هذه العملية، ومع ذلك تجدهم يطلقون في الحيض وفي النفاس وفي طهر أتاها فيه، ويطلقها بالثلاث دفعة واحدة ويخرجها من البيت! مخالفات كثيرة في الطلاق، وأهلها يقولون: لست بدار هوان ولا مضيعة الحقي بنا نواسك الله أكبر! ولذلك يقع الخطأ في الطلاق ويقع الخطأ بعد الطلاق وتتشتت الأسر وتحدث النكبات العظيمة، لا يكاد يوجد زوجين افترقا إلا ونالهما أذى، والمرأة أحياناً تريد أن تهرب من ظلم الزوج، فتقع في ظلم المجتمع وتقول بعد ذلك: ليتني ما طلبت الطلاق، ليتني ما طلبت الطلاق.
وبعض الناس في سبيل العلاج من المشكلات الأسرية يذهبون إلى الدجالين هذه حقيقة، بعض الناس يذهبون إلى الدجالين، وبعضهم من أصحاب الشهادات الجامعية كما أفادت بذلك بعض الأبحاث، وبعض النساء يترددن على الدجالين لأسباب: تريد أن يعمل لها شيئاً حتى يحبها الرجل، أو يعمل لها عملاً لكيلا يتزوج عليها، أو لكي تنجب ذكوراً، أو يعمل لها عملاً لحل العقم: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:49 - 50] ما دخل الدجال والذهاب إليه أصلاً حرام؟ تصور 50% من الذاهبين إلى الدجالين في بعض البلدان العربية من المثقفين أصحاب الشهادات!(180/40)
والدي يصلي ولا يهتم بالوضوء
السؤال
والدي يصلي ولكنه لا يهتم بالوضوء، علمته الوضوء ولم يهتم وهو فوق سبعين سنة الآن؟
الجواب
جاهد في تعليمه، فإذا رفض فقد أديت ما عليك، الإنسان أحياناً يحس أن ضميره مرتاح داخلياً لأنه قام بما عليه، علم ونصح واجتهد ثم أعرض الطرف الآخر فهذا -إن شاء الله- لا يأثم.(180/41)
التناقض بين الأب والأم أمام الأبناء
السؤال
بعض الأسر تعيش في تناقض: تأمر الأم فينهى الأب، ويريد الأب شيئاً والأم لا تريده.
الجواب
ينبغي التنسيق بين الزوجين وألا يكسر أحدهما كلام الآخر أمام الأولاد؛ لأن في هذا ضرراً بالغاً في نفسية الأولاد، فلا بد أن يكون الأب حكيماً والأم حكيمة، ولا بد أن يؤكد الأب دائماً على احترام الأم، وتؤكد الأم على احترام الأب، وهذه قضية خطيرة، بعض الأولاد لا يحترمون أمهاتهم، لأن الأب دائماً ينزل عليها أمام الأولاد، يشتمها أمام الأولاد، يعنفها أمام الأولاد.
تقول إحدى الأمهات: أنا في المطبخ مع الأولاد، فتحنا إذاعة القرآن الكريم فأخذ الشيخ يتكلم قال: "والزوجة العاصية الناشز " والأطفال الصغار كلهم ينظرون إليها، كل الأولاد التفتوا على أمهم، معناها أن عندهم شعوراً من خلال التعامل في البيت أن هذه هي المقصودة بالحديث، معناها سلوك الأب أدى إلى أن الأولاد لما سمعوا الزوجة الناشزة العاصية أول شيء استداروا كلهم واستدارت وجوههم إلى أمهم.
فإذاً: يا إخوان! لابد أن يكون هناك حكمة، وإذا كان هناك خلاف بين الأبوين ولابد؛ فإنه لا يكون أمام الأولاد.
نكتفي بهذا القدر ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا سبلنا، وأن يقينا شر أنفسنا، إنه سميع مجيب جواد كريم، وهناك دعوة للإنفاق في سبيل الله والصدقة لدعم نشاطات تحفيظ القرآن الكريم، فلا تبخلوا رحمكم الله وتذكروا أن الإنسان في ظل صدقته يوم القيامة.
وفقني الله وإياكم لما يرضيه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.(180/42)
حاجتنا إلى التربية الإسلامية
الوصول إلى المجتمع الإسلامي غاية كل مسلم، وطريق ذلك هي التربية الإسلامية التي نحتاج إليها اليوم وكل يوم.
لماذا نحتاج إلى التربية؟ ما هي فوائد التربية؟ ما هي الجوانب التي نحتاج فيها إلى التربية؟ هذه المحاضرة محاولة جادة للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، حيث ورد فيها ما يزيد عن العشرين من جوانب أهمية التربية الإسلامية.(181/1)
التربية طريقنا إلى المجتمع الإسلامي
الحمد لله الذي علَّم الإنسان ما لم يعلم، الحمد لله الذي أنعم علينا بهذه النعمة وهذا الدين العظيم دين الإسلام، والحمد لله الذي أرسل إلينا هذا النبي الكريم، وهو خير الأنبياء وخاتم الرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فكان أعظم الأنبياء، وسيد الرسل، وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، ابتعثه الله لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فربَّى صلى الله عليه وسلم أصحابه على هذا المنهاج، وعلى هذا الكتاب، وعلى هذه الشريعة، فكانت تلكم الصفوة المختارة من صحابته صلى الله عليه وسلم أفضل الأمة، وأبرها قلوباً، وأطهرها نفوساً، وأزكاها عقولاً، نشروا الأمانة، وبلغوا الدعوة في أصقاع الأرض، وكانوا بعد رسولهم صلى الله عليه وسلم دعاة خير وهدى، ومعه وزراء ومساعدون ومجاهدون في سبيل الله، أيدوا دعوته، ونصروا شريعته، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
أيها الإخوة: موضوعنا في هذه الليلة بعنوان: (حاجتنا إلى التربية الإسلامية).
هذه الحاجة العظيمة الماسة التي افتقدها الكثيرون في هذا الزمان فوقعوا في تخبطٍ وحيرة واضطراب، إذ لم يعرفوا المنهج والطريق الذي يجب عليهم أن يسلكوه.
إن الوصول إلى المجتمع الإسلامي غاية كل مسلم، وأمل منشود ومرتقب يسعى إليه المخلصون من أبناء هذا الدين، ولكن منهم من عرف الطريق؛ طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، فسار على نفس الهدي والمنهج، ومنهم من صار يتخبط حيراناً في الأرض لا يدري كيف يعمل، فيذهب يميناً وشمالاً، ويأخذ حلولاً مستعجلةً وضعية، أو يتشبه بالكفرة في استيراد بعض الحلول، هؤلاء لم يصلوا إلى الهدف مطلقاً؛ لأنهم جانبوا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنتكلم -إن شاء الله- عن الأسباب التي من أجلها نحتاج إلى هذه التربية.
لماذا يجب علينا أن نسلك سبيل التربية؟ ما هي فوائد التربية؟ ما هي ثمراتها؟(181/2)
التربية الإسلامية طريقة الأولين
أولاً: إن التربية الإسلامية هي الطريقة التي ربى الله بها أوائل هذه الأمة بإنزال الكتاب عليهم، وكانت آيات هذا الكتاب العزيز تتنزل تترى منجمة، في مواسم متفرقة، ومناسبات مختلفة، تربي هذه الأمة، في معركة بدر أنزل الله آيات تربي المسلمين أن النصر من عند الله، وأن الذين رموا لم يكن رميهم بأنفسهم فقط {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، ولما حصل بينهم فشلٌ وتنازعٌ ومعصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وانشغالهم في الدنيا وهزموا في غزوة أحد، ودفعوا الثمن غالياً دماءً وأشلاءً سبعين من المجاهدين المخلصين، نزلت الآيات في سورة آل عمران تربي الأمة على أسباب الهزيمة التي يجب عليهم أن يتقوها، وبينت لهم الآيات كيف أن الانصراف عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والانشغال بالدنيا من أعظم أسباب الهزيمة، وماذا كان يجب عليهم أن يعملوا؟ وما هي التضحيات؟ وما مدى الثبات الذي كان يجب عليهم أن يسلكوا طريقه؟ وفي معركة الخندق لما عمل المنافقون عملهم، نزلت الآيات في هتك أستار المنافقين، وتثبيت المؤمنين، وكشف دور اليهود وهكذا.
وبعض المؤمنين عندما انفضوا من حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الجمعة من أجل قافلةٍ من التجارة قدمت، نزلت الآيات تربي أولئك القوم أنه لا يجوز لهم أن يفعلوا ذلك: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة:11].
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رسول الله كان يتلقى من الآيات ما يتربى عليه صلى الله عليه وسلم، فلما عبس في وجه ابن أم مكتوم الأعمى نزلت الآيات عليه تربية له وتذكيراً وتعليماً.
ولما حصل ما حصل في نفسه بشأن زيد بن حارثة وزواجه، قال الله له: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] حتى قالت عائشة: [لو أن محمداً صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتم شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية].
ولما تنازع بعض المسلمين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت الآيات موبخةً ومقرعةً على هذا التصرف الذي لا يليق.
ولما حصل من بعض المنافقين تناجٍ، نزلت آيات في فضحهم وتعليم المؤمنين ألا يتناجوا إلا بالبر والتقوى، ولا يتناجوا بالإثم والعدوان.
وهكذا وهكذا من الأمثلة الكثيرة والآيات العديدة الدالة على أن طريقة القرآن هي التربية، وأن الثلة والنفر من المسلمين المخلصين الأوائل إنما كانت تربيتهم في هذا القرآن، فإذا كنا مسلمين حقاً، ونريد أن ننهج نهج القرآن، فلا بد أن نسلك مسلك التربية.(181/3)
التربية هي منهج الأنبياء عليهم السلام
ثانياً: إن التربية هي طريقة الأنبياء رضوان الله عليهم، فهذا موسى عليه السلام يختار من قومه سبعين رجلاً يختصهم بمزيدٍ من العناية.
وهذا عيسى عليه السلام له حواريون يعلمهم ويختصهم بمزيدٍ من القرب والإدناء.
وهذا محمدٌ صلى الله عليه وسلم أسلم معه أناسٌ كثيرون جداً، ولكن كانت معه طائفةٌ من المؤمنين تتلقى وتتربى دائماً، والتربية للجميع، فالمقل والمستكثر، ومنهم مقبلٌ ناهلٌ من هذا المعين الذي لا ينضب، ومنهم منشغلٌ في أمورٍ، أو بعيدٌ في قبيلة أو بلدٍ لا يستطيع أن يكون معه صلى الله عليه وسلم دائماً، ولكنه عليه الصلاة والسلام كان ينتهز كل طريقة في تربية أصحابه.
إننا نعلم أن عدد الصحابة رضوان الله عليهم يقارب مائة وأربعة وعشرين ألف صحابي -كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه الإصابة - من الذين حجوا معه صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، ولكن كان من هذا العدد الكبير طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تتلقى التربية أولاً بأول، كانوا معه من القديم عندما كان في مكة، وهاجروا معه، والتف معه الأنصار، وكان منهم من خرج معه في غزواته وشهد المشاهد كلها أو بعضها، واشتركوا في الجهود العظيمة في الدفاع عن الإسلام، ونشر الدعوة، وكان منهم العلماء، والقادة العسكريين، وأولو الحل والعقد والرأي في أول هذه الأمة.
وكان صلى الله عليه وسلم ينتهز المناسبات، فإذا جاء رجلٌ يسأله عن أحب الأعمال، يقول تارة لشخصٍ: (الإيمان بالله)، ويقول تارة لآخر: (بر الوالدين)، ويقول تارة لثالث: (الصلاة على وقتها)، وهكذا وهكذا، يعطي كل شخصٍ بحسبه، ويربي كل إنسان بما يحتاج إليه، وهذا يقول له: أوصني، فيقول: (لا تغضب)، وهذا يقول: الوصية، فيقول: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)، وهكذا يتعاهد كل واحدٍ من أصحابه بما يحتاج، وينتهز المناسبات والأحداث، فيمر على جدي أسك قد تركه أهله مما أصابه من الموت والعفن، فيعلمهم فيه مفهوماً مهماً، ويمثل لهم تمثيلاً بليغاً صلى الله عليه وسلم.
ولما وزع الغنائم في غزوة حنين، فنال مسلمة الفتح ما نالوه من الغنائم العظيمة مائةً مائةً من الإبل، وهؤلاء الأنصار لم تجف سيوفهم بعد من دماء الكفار لما فتحوا مكة، ولما قاتلوا في حنين، فلم يأخذوا شيئاً، فينتهز عليه الصلاة والسلام هذا التأثر الذي حصل من بعضهم ليجمعهم ويلقي فيهم موعظةً بليغة، يعلمهم ويذكرهم وينصحهم ويعظهم، حتى بكوا من التأثر، ورجعوا معه قائلين: رضينا برسول حظاً وقسماً.
وهكذا كان مع أصحابه؛ يعلم جاهلهم، ويرشد من يحتاج إلى إرشاد، ويثبت من يحتاج إلى تثبيت، يأتيه خباب وهو مستظلٌ بظل الكعبة، فيقول: [ألا تدعو لنا، ألا تستنصر لنا]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عليه من أخبار السابقين، وما ينبغي أن يكون عليه هؤلاء الناس من الثبات والصلابة في المواقف، فكانت تربيته عليه الصلاة والسلام مثالاً يحتذى لكل أحدٍ من الناس يريد أن يسلك النهج النبوي في التربية الإسلامية.(181/4)
التربية الإسلامية هي نهج الصحابة رضي الله عنهم
ثالثاً: إن هذه التربية الإسلامية هي نهج الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين ومن تبعهم بإحسان في سائر طبقات هذه الأمة، فقد كانوا يتعاهدون أصحابهم بمزيدٍ من التربية والعناية لأهدافٍ إسلامية يعلمونها علم اليقين، ويعلمون أن الأمة تحتاج إلى هؤلاء الذين تربوا على هذا المنهاج السديد.
لقد كان لكل صحابي طائفةٌ من تلامذته يختصهم بمزيدٍ من العناية، ولقد انتهى الدين والفقه والعلم في الأمة إلى أربعة أشخاص: عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه في العراق، وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما في المدينة، وعبد الله بن عباس في مكة، كان لكل واحدٍ من هؤلاء الأربعة تلامذةٌ يختصهم بعلمٍ وتربية زائدة عما يعطيه لسائر الناس، ولذلك ترى من تلامذة ابن مسعود مثلاً: علقمة، والأسود، ومسروق، والربيع بن خثيم وهكذا.
وترى من تلامذة عبد الله بن عمر: ثابت البناني، وجبير بن نفير، وخالد بن كيسان وغيرهم.
وترى من تلامذة زيد بن ثابت: قبيصة بن ذؤيب، وأبان بن عثمان، والقاسم بن محمد وغيرهم.
وترى من تلامذة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: كريب، وعروة بن الزبير، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبو العالية، وأبو صالح باذام، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، والضحاك، وابن أبي مليكة وغيرهم، فقد كانت هذه هي طريقتهم رضوان الله تعالى عليهم في انتقاء هؤلاء الطلبة الأفذاذ النجباء وتخصيصهم بمزيدٍ من العلم والتفقيه والتربية.
وكان التلميذ يعيش مع شيخه فيقتبس من حسن أخلاقه، وشدة عبادته وكثرتها لله تعالى، وإحسانه في التعليم، ويقتبس من علمه أشياء كثيرة جداً، وهكذا علموها لمن بعدهم، ومن بعدهم كان لهم تلامذة وأتباع وهكذا كان للإمام أحمد وغيره، وشيخ الإسلام ابن تيمية كان له جماعة من أصحابه يأمر معهم بالمعروف، وينهى معهم المنكر، وهذا تلميذه وخاصته من بينهم شيخ الإسلام الثاني ابن القيم رحمه الله كان يسير على نهج شيخه، فترى هذه الثمرة من تلك البذرة التي تعاهدها ذلك المربي، فسقاها بماء الشرع، وحاطها بعناية إسلامية فائقة، فهذه الغرسة نبتت وآتت أكلها وثمارها كل حينٍ بإذن ربها.
وهذا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في هذا العصر كان له أتباعٌ وجندٌ مؤمنون نصر بهم الحق، وأخرج الناس بهم من عبادة الأوثان والجاهلية الأخرى التي طبقت الجزيرة في وقته إلى أنوار التوحيد.(181/5)
حاجة الإسلام إلى شخصيات عظيمة
رابعاً: الإسلام دين عظيم يحتاج إلى شخصيات عظيمة لحمله ونشره؛ شخصيات تملك فقهاً في الدين، وثقافات حتى في أمور الجاهليات الأخرى؛ لأن من لا يعرف الجاهلية لا يمكن أن يسير في الإسلام سيراً حسناً، لا بد أن يكون هناك أشخاصٌ يحملون هذا الدين، وهذا الدين متين، لكنهم يحملونه بفقههم، وما آتاهم الله من قوة يسخرونها من أجل الاستمساك بهذا الدين فقه للواقع، وحاضر العالم الإسلامي، والتيارات المنحرفة المؤثرة وغيرها، يتمتعون بصبرٍ واحتمال، وطاعةٍ لله، وتجرد وثباتٍ على المنهج، وثقةٍ به، وتضحية من أجله يتمتعون بقدرة على الإدارة والتخطيط والتنسيق والانتقاء، ومعرفة الطاقات وتشخيص أمراض الأمة والقدرة على علاجها، هؤلاء الذين لهم علمٌ بطبائع الناس وكيفية جذبهم إلى طريق الحق، هؤلاء الناس لا يمكن إعدادهم إلا بتربية من أجل هذا الدين، ومن أجل أنه متين وعظيم لا بد من عظماء يحملونه، فلا يحمله السفهاء، ولا يحمله الدهماء، ولا العامة، وإنما يحمله قلةٌ تنقذ الموقف.(181/6)
أهمية التربية في اكتساب التصورات الواجب حملها
خامساً: إن التربية مهمة في اكتساب التصورات التي يجب على الفرد المسلم أن يحملها؛ مفهوم لا إله إلا الله، وأهمية التوحيد وأنواعه، والولاء والبراء، ومفهوم العبادة، والتغيير لا الترقيع، وتميز المسلم، والالتزام بالسنة، والاستعلاء والاعتزاز بهذا الدين، والعلم الشرعي وكيفية التفقه فيه، وجنسية المسلم وعقيدته، ومنهج التفقه، وتعظيم النصوص، وعدم التعصب، والعمل لهذا الدين، والتقديم والتضحية، وعالمية المنهج، والموقف من الخلاف، والأخوة الإسلامية، والجدية في الالتزام، والتلقي للتنفيذ، ومفهوم القضاء والقدر، ومفهوم الدنيا والآخرة، ومفهوم الحضارة وعمارة الأرض.
هذه طائفة من المفاهيم الكثيرة، جزءٌ منها مما يجب على المسلم أن يحمله، كيف يحمله إذا لم يكن قد تربى؟ وكيف يتشرب هذه التصورات إذا لم يكن له طريقٌ يسلكه ويتربى من خلاله؟ إن الذين يظنون أن بإمكان الفرد أن يتلقى كل شيء من تلقاء نفسه، أناسٌ جازفوا في الأمور، ولم يزنوها حق وزنها، ولنا وقفة -إن شاء الله- في أنواع التربية وأهدافها ووسائلها، في محاضرةٍ قادمة لبيان خطأ هذا الفكر الذي يسيطر على بعض الناس ممن يظنون أن الفردية تفلح في مثل هذا الزمن.(181/7)
أهمية التربية في توجيه طاقات المسلم
سادساً: من الأمور التي تدفعنا إلى سلوك طريق التربية، وأهمية التربية، وحاجتنا إلى التربية: أن التربية توجه طاقات الشخص لتستغله في نصرة الدين تستغل الطاقات والمواهب في نصرة الدين بدلاً من التوافه والمحرمات؛ فهذا شخصٌ يجيد الخطابة فليخطب في نشر الدين، وهذا شخص يجيد الكتابة فليكتب في نصرة الدين، وهذا شخص يقول شعراً فليقل الشعر ينافح عن الإسلام وأهله، وهذا يخط فلتخط يمينه.
إذاً: كلمات إذا رآها الرجل العاقل تأثر منها، وهذا له قوةٌ بدنية فلينصر بها المظلوم، ولينصر بها الحق، وهذا له خبرة قتالية فليسخرها في تجييش الجيوش وقيادتها وحملها على الأعداء، وهذا له قدرةٌ بتعلم اللغات فليشتغل بنشر الدعوة إلى الله في الأقوام الذين يتكلمون بهذه الألسنة التي يجيد الكلام بها.
إن التربية تصنع من الشخص الجاهلي الهامشي التافه شخصاً إسلامياً قوياً مؤثراً، ومن أجل ذلك لا بد من سلوك طريق التربية.(181/8)
أهمية التربية في إزالة الأخلاق الرديئة
سابعاً: إن هذه التربية مهمة لإزالة الأخلاق الرديئة، فيحل مكان الجبن الشجاعة، ومكان التهور الاتزان، ومكان البخل الكرم، ومكان الفحش الأدب والحياء وغير ذلك على نحو ما فصلناه في محاضرةٍ ماضية بعنوان: (اكتسب حسنة من الأخلاق الحسنة).(181/9)
أهمية التربية في التخلص من رواسب الماضي
ثامناً: إن التربية مهمة للتخلص من رواسب الماضي، فإن الإنسان مهما سار في الطريق فلا بد أنه يبقى في نفسه علائق مما مضى من حياته السابقة من جاهليته الماضية ترسبت في نفسه، قد استقرت باللاشعور عنده في تصوراته وخلفياته السابقة، فهي تظهر من حين لآخر، تظهر كأجواء، وتظهر كأهواء وهكذا، وهذه التربية تشذبها وتنقي النفس من الرواسب، لقد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف بالآباء، كان على عهده من حلف بالأمانة، كان على عهده من حلف باللات والعزى، من أي شيء حصل؟ من رواسب ماضية وسابقة، وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع شيئاً من المنكر أنكره، بعضهم كان يحلف باللات والعزى خطئاً من كثرة ما جرى على لسانه من أيام الجاهلية من هذا الحلف، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله) يكفر بها هذا الفعل، ويربي نفسه ويعودها على عدم العودة لمثل هذا القسم.
حصل في مناسبةٍ من المناسبات خصامٌ بين مهاجري وأنصاري، فقال المهاجري: يا للمهاجرين! وقال الأنصاري: يا للأنصار! فتحزبت كل فرقةٍ لصاحبهم، حتى كادت تحصل بينهم مقتلة، وهم من هم؟ الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
من أي شيء جاء؟ ومن أين أتى؟ إنه جاء من رواسب ماضية في الجاهلية، كان الثأر يلعب دوره، وكانت العصبية تلعب دورها، ولذلك نزغ الشيطان نزغة، كاد أن يحصل من ورائها شرٌ عظيم، فقام المربي صلى الله عليه وسلم يخطب فيهم، ويقول: (دعوها فإنها منتنة) ويهدئهم حتى كشف الله خطة المنافق، وأفشل كيده، ورده في نحره، فرجع الصحابة رضوان الله عليهم إلى الحق مرةً أخرى.
حصل أن واحداً منهم قال لأخيه: يا بن السوداء! فماذا فعل عليه الصلاة والسلام؟ بين، وقال له: (إنك امرؤ فيك جاهلية).
إن من الرواسب: الفخر بالجاهلية، والاستهزاء بعباد الله؛ لأنه أسود، أو لأنه ليس من قبيلة ونحو ذلك من الأمور، ونحن اليوم كم فينا من الرواسب؟ وكم فينا من المخلفات والموروثات الجاهلية؟ شيء كثيرٌ جداً، فما هو الطريق إلى تنقيته، وتهذيب النفس منه، وإخراج هذه الموروثات ليكون محلها مفهومات إسلامية، وتصورات صافية، تسد هذه الثغرات حتى لا يخرج الشر منها مرة أخرى؟ لا يكون ذلك إلا بتربية.(181/10)
أهمية التربية في مواجهة الشبهات
تاسعاً: إن التربية مهمةً لمواجهة الشبهات، كثيرٌ من المسلمين تخطر في بالهم شبهات، ويلقي الشيطان في أنفسهم نزغاتٍ فيها شيء من الزيغ، فإذا لم تكن هناك تربية تربي هذا الشخص لتنقذه من الشبهات هلك.
فمنهم من تأتيه شبهات في وجود الله، وشبهات في صحة القرآن، أو صحة النبوة والرسالة والوحي، أو حتى مما يلقي إليهم شياطين الإنس من بعض الشبهات في بعض الأحكام الشرعية؛ كالرق، وتعدد الزوجات، ونحو ذلك، وشبهات تعرض حتى لبعض الدعاة إلى الله، فقد يقول بعضهم: أنا أقع في منكرات فلا يجوز أن أدعو، كيف آمر بالمعروف ولا أفعله؟ وكيف أنهى عن المنكر وأقع فيه؟ إذاً: الحل ألا آمر ولا أنهى، فيقع في الخطأ العظيم بسبب هذه الشبهة.
ومنهم أناسٌ وفقهم الله لوسطٍ صالحٍ يعيشون فيه، فوقعت منهم بعض المنكرات، فقالوا في أنفسهم: ما بالنا نخطئ ونقع في هذه الآثام ونحن في جوٍ نظيف ووسطٍ طيب، إننا لا نستحق مثل هذا الوسط، فلابد أن نخرج عنه حتى لا نكون سبباً في فشله وتمزقه وعدم توفيق الله له وهكذا يخرجون من الأوساط الطيبة بمثل هذه الشبهة وهكذا.
ومنهم من يظن -مثلاً- أن الطريق لتقوية إيمانه أن يعتزل إخوانه، ويذهب في مغارةٍ، أو كهفٍ، أو مكان منعزلٍ لكي يقوي إيمانه، فيقع في هذه الحيلة الشيطانية في براثن الشيطان، فيستولي عليه، ويؤخره مدةً طويلة إلى الوراء بهذه الشبهة التي قامت في نفسه، فكيف يكون الطريق لاقتلاع جذور هذه الشبهات؟ وكيف يكون الطريق للرد عليها من النفس على النفس؟ لا يكون ذلك إلا بتربية تتعهد إلا بمنهجٍ يسعف إلا بأخوة ينصحون، لا يكون ذلك أبداً إلا بسلوك هذه الطريقة النبوية المحمدية؛ طريق التربية الإسلامية.(181/11)
أهمية التربية في توجيه المشاعر والأحاسيس إلى طريقها الصحيح
عاشراً: إن هذه التربية مهمة، بل في غاية الأهمية؛ لأنها توجه المشاعر والأحاسيس إلى طريقها الصحيح، فإن في كل نفس خطوطاً متقابلة، وأشياء متشابهة، مشاعر وأحاسيس، ومن ذلك مثلاً: الكره من الذي لا يكره؟ لا بد أن يكره كل أحد، فالكره موجود في النفس، والبغض موجود فيها، ولكن الإسلام يوجه هذا الكره ليكون كرهاً شرعياً، لا كرهاً مدمراً لا كرهاً سيئاً لا كرهاً مخالفاً للدين، فمثلاً: يوجه المسلم لأن يكره الشيطان وأتباعه، والكفر والكفرة، وكره ما كرهه الشرع وهكذا، (وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) يكره ما كرهه الله لنا، ومما كرهه: (قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) فيفرغ الإسلام طاقة الكره عند المسلم في المسلك الصحيح، فلا يتحول الكره إلى طاقة سامة مبعثرة، وخذ مثلاً: الحب، من الذي لا يحب؟ لا أحد، كل إنسان فيه طاقة للمحبة، ولكن الإسلام بالتربية يوجه هذا الخلق والطبع توجيهاً حسناً، فحب الله، وحب الخير، وحب الإيمان وأهله، وحب الرسل وأتباعهم، وحب شعب الإيمان، وما يحبه الله من الأقوال والأعمال، وعندما يسمع المؤمن في الأحاديث الصحيحة أن الله يحب الرفق، وأن الله يحب الجود، وأن الله يحب الكرماء، وأن الله يحب الإحسان، وأن الله يحب الوتر، وأن الله يحب إتقان العمل، وأن الله يحب العبد التقي الخفي النقي، وأن الله يحب الرجل سمح البيع سمح الشراء، وأن الله يحب هذه الخصال، فتنصرف نفسه لمحبتها؛ لأن الإسلام يدفعه بالتربية إلى صرف المحبة لمثل هذه الأشياء، يحب التيامن؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن، ولا يحب العقوق، ولا الفاحش، ولا الفحش، ولا المتفحشين، وهكذا (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله إلخ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يحب الأنصار رجلٌ حتى يلقى الله إلا لقي الله وهو يحبه، ولا يبغض الأنصار رجلٌ حتى يلقى الله إلا لقي الله وهو يبغضه) فتباً لهؤلاء المبتدعة الذين كفروا الأنصار والصحابة والمهاجرين، ما أبغضهم إلى الله عز وجل! وهذه التربية التي توجه المحبة إلى الطرق الصحيحة والمسالك الشرعية، فإنها تجنب المسلم طاقاتٍ مدمرة، فقد يحب الإنسان نفسه وذاته فيكون أنانياً، أو يتحول إلى حب معشوقاتٍ صغيرة في عالم الحس من المطعومات والمشروبات واللذائذ، فيعكف عليها ولا يتعداها فيهلك، ومنهم من يقع حبه في عشق الصور من النساء والمردان، فطالما يتذكره في مخيلته، وطالما يراه في منامه، ويكون ذكره له أحب إليه من ذكر الله عز وجل، ويكون لقاؤه به أحب إليه من لقاء أعلم العلماء، وأزهد الزهاد، وأعبد العباد وهكذا.
فتأمل! أن هذه التربية تنقي النفس فعلاً من هذه الأمور، وتسلك بالمحبة مسلكاً شرعياً يهذب النفس ويجنبها الويلات.
وتأمل في هذا الحديث الصحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه في قصته كيف كان يكره قبل الإسلام، وماذا صار يحب بعد الإسلام تأمل كيف رباه الإسلام تربيةً جعل حاسته في الكره والمحبة تنتقل انتقالاً بشكلٍ شرعي إلى ما يجب أن يحب! عن أبي شماسة قال: حضرنا عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو في سياق الموت، فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إني قد كنت على أطباقٍ ثلاث: لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحب إليَّ من أن أكون قد استمكنت منه فقتلته -في الجاهلية- فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي -وذكر قصة، إلى أن قال عمرو بن العاص رضي الله عنه، بعد الإسلام ماذا حصل؟ بعدما رأى وما رأى؟ - وما كان أحدٌ أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه، ما أطقت؛ لأني لم أكن أملئ عيني منه، لو مت على تلك الحال رجوت أن أكون من أهل الجنة.
فهذا الرجل الذي فعلت فيه التربية هذا المفعول، والذي حوَّلت كرهه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كاد أن يقتله إلى محبةٍ لا يستطيع أن يثبت بصره على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتأمل هذا الحديث: ما فعله في النفس وفي توجيه المشاعر؟ إن من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله، وإن من الخيلاء ما يحب الله ومنه ما يبغض الله؛ فأما الغيرة التي يحبها الله، فالغيرة في الريبة؛ إذا صارت القرائن موجودة في الريبة فلا بد من الغيرة، وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير الريبة، وأما الخيلاء التي يحبها الله فاختيال الرجل في القتال، وأما الخيلاء التي يبغضها الله فاختيال الرجل في البغي والفخر.
إذاً: هذه التربية الإسلامية هي التي تحول مشاعر الفخر والخيلاء تحول مشاعر الغيرة لتسلك الطريق الشرعي الصحيح.(181/12)
التربية منهج لإعداد الشخصيات المدافعة عن الإسلام
حادي عشر: التربية الإسلامية مهمة؛ لأنها تهيئ لنا هذه الشخصيات التي تندفع بعزة الإسلام لتكون نماذج تواجه الكفر وأهل الكفر.
التربية -أيها الإخوة- مهمة في هذا الزمن جداً وفي غيره من الأزمان؛ لأننا نواجه عتاةً وفجرة، وطغاة وبغاةً نواجه أعداءً أشداء لا يمكن أن نلقاهم بشخصياتٍ هزيلة وضعيفة، ولا تقوى هذه الشخصيات ولا تشتد ولا تصبح على مستوى المواجهة إلا بالتربية الإسلامية.
ألم يأتك نبأ الثلاثة من المسلمين الذين واجهوا قائد الفرس رستم كيف واجهوه؟ ما هي التربية التي كانت في أنفسهم عندما صاروا على مستوى المواجهة؟(181/13)
التربية الصادقة عند ربعي بن عامر في مواجهة رستم
خرج ربعي ليدخل على رستم، فاحتجزه الذين على القنطرة، وأرسلوا إلى رستم بمجيئه، فاستشار عظماء قومه: ما ترون أنباهي أو نتهاون؟ فأجمعوا على التباهي، فأظهروا الزبرجد، وبسطوا البسط والنمارق ولم يتركوا شيئاً، ووضع لـ رستم سريره من الذهب، ولبس زينته، ووضعت الأنماط والوسائج المنسوجة بالذهب، وأقبل ربعي على فرس ومعه سيف مصقول، وغمده لفافة ثوبٍ بالٍ، ورمحه تسلم حده بسيرٍ من جلدٍ غير مدبوغ، ومعه جحفة ترس من جلود البقر ليس فيه خشب ولا عقبٌ، على وجهها أديم أحمر مستدير مثل الرغيف، ومعه قوسه ونبله، هذه العدة ظاهرياً مهلهلة، فلما انتهى إلى رستم ووصل إلى أول البسط، قيل له: انزل، فتجاهل ذلك، وحمل فرسه على البساط، فلما وقفت عليه نزل، وربطها بوسادتين فشقهما، ثم أدخل الحبل فيهما، فلم يستطيعوا أن ينهوه، وإنما أروه التهاون، وأدرك ربعي ما أرادوا، فأراد استحراجهم، وكان على ربعي درع كأنها إضاءة، وردائه عباءة بعيره قد شقها وتدرع بها، فشدها على وسطه بشيء مما غنمه من الفرس في معاركه السابقة، وشد رأسه بعمامته، وكان أكثر العرب شعراً، وعمامته نسعة بعيره، ولرأسه أربع ظفائر قمن قياماً كأنهن قرون الوعل، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال ربعي: إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم، أنتم دعوتموني فإن أبيتم أن آتيكم إلا كما أريد وإلا رجعت، فأخبروا رستم، فقال رستم: آذنوا له هل هو إلا رجل واحد؟ وأقبل ربعي يتوكأ على رمحه يقارب الخطو ويزج النمارق والبسط بزج رمحه، فما ترك لهم نمرقة ولا بساطاً إلا أفسده، وتركه منتهكاً مخرقاً، فلما دنا من رستم، تعلق به الحرس، فجلس على الأرض وركز رمحه بالبسط، قالوا: ما حملك على هذا؟ قال: إنا لا نستحب القعود على زينتكم هذه، فقال رستم: ما جاء بكم؟ قال ربعي: الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه، ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله، قال رستم: وما موعود الله؟ قال ربعي: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي، قال رستم: قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال ربعي: نعم، كم أحب إليكم أيوماً أم يومين؟ فقال رستم: لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا، وأراد مقاربته ومدافعته يطول الوقت، قال ربعي: إن مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به أئمتنا ألا نمكن العدو ولا نؤجلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثاً، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاثٍ بعد الأجل: اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء -الجزية- فنقبل ونكف عنك، وإن كنت عن نصرنا غنياً تركناك منه وإن كنت إليه محتاجاً منعناك، أو المنابذة في اليوم الرابع، ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا، أنا كفيل لك بذلك على أصحابي وعلى جميع من ترى، فقال رستم: أسيدهم أنت؟ قال ربعي: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد، بعضهم من بعض يجير أدناهم أعلاهم، فانفرد رستم برؤساء أهل فارس وتشاور معهم في شأن هذا الأعرابي العجيب، فأقبلوا إليه يتناولون سلاحه ويعاينونه ويزهدونه فيه، فقال ربعي: هل لكم إلى أن تروني وأريكم، فأخرج سيفه من خرقة كأنه شعلة نار، مع عزم السحب كأنه انقدح منه النار، فقالوا له: أغمده فغمده، ثم وضعوا له ترساً ووضع لهم حجفته فرمى ترسهم بسهمٍ فخرقه، ورموا حجفته بسهمٍ فسلمت، فقال ربعي: يأهل فارس! إنكم عظمتم الطعام واللباس والشراب وإنا صغرناهن، ثم تركهم ورجع إلى معسكره إلى أن ينظروا إلى الأجل الذي منحه لهم ثلاثة أيام.
هذا رجل -أيها الإخوة- من أين أتى؟ ومن أين ظهر؟ وكيف حصل منه هذا الموقف؟ هل ظهر من فراغ؟ هل قال ما قال دون أن يكون هناك أساسٌ في نفسه لما يقول؟ وكيف صارت عنده هذه العزة والقوة والجرأة والشجاعة؟ لا يمكن، لا بد أن يكون هناك أوصاف وقدوات يتربى فيها أمثال ربعي بن عامر ليخرج بذلك الحق الجلي الذي يوضحه.(181/14)
موقف حذيفة بن محصن مع رستم
بعث الفرس يقولون لـ سعد: ابعث لنا ذلك الرجل نتفاهم معه، فبعث سعد إليهم حذيفة بن محصن وهو من الأزد، فأقبل حذيفة على رستم في زي يشبه زي ربعي الذي ذهب إليه بالأمس، حتى إذا كان على أدنى البساط، قالوا له: انزل، قال: ذلك لو جئتكم في حاجتي، فقولوا لملككم: أله حاجة إليَّ أم لا؟ فإن قال: إن الحاجة لي كذب ورجعت وتركتكم، وإن قال: إن الحاجة له لم آتكم إلا على ما أحب، فقال رستم: دعوه، فدخل حذيفة بفرسه حتى بلغ رستم وهو على سريره، كل هذه المسافة يوطئ عليها بالفرس، قال رستم: أنزل، قال حذيفة: لا أفعل وأبى، -سبحان الله! أين عزة الإسلام المأخوذة في هذا الزمان؟ - قال رستم: ما بالك جئت ولم يجئ صاحبنا بالأمس؟ قال حذيفة: إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء فهذه نوبتي.
قال رستم: ما جاء بكم؟ قال حذيفة: إن الله عز وجل منَّ علينا بدينه، وأرانا آياته حتى عرفناه وكنا له منكرين من قبل -في الجاهلية، ثم أمرنا بدعاء الناس إلى واحدةٍ من ثلاث، فأيها أجابوا إليها قبلناها: الإسلام وننصرف عنكم، أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك، أو المنابذة إلى يومٍ ما، قال حذيفة: نعم، ثلاثاً من الأمس، تبدأ من الأمس، من يوم قال لك أخي ربعي بدأت بدأت.(181/15)
موقف المغيرة مع رستم
فلما كان الغد أرسل رستم إلى سعد أن يبعث إليه رجلاً، فبعث إليه المغيرة بن شعبة، انظر القضية ليست متوقفة على شخص واحد، لا يتوقف عامل المسلمين على شخص واحد، ومهما أراد الأعداء نقدم ونري محاسن هذا الدين، ومحاسن هذا الدين لا ترى إلا بالشخصيات التي تتربى على هذا الدين، كيف نقدم نماذج تفحمهم؟ كيف نقدم للكفرة نماذج ترعبهم؟ كيف نقدم للكفرة نماذج يعلمون منها ما هي طبيعة هذا الدين؟ إلا بشخصيات تربت على هذا الدين، وجاء المغيرة إلى القنطرة، فأجازه زهرة إلى جالينوس فأبلغه إلى رستم، فحجزوه حتى استأذنوا له ولم يغيروا شيئاً من شاراتهم وزيهم الذي كانوا عليه وعليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب، ودعا رستم ترجمانه وكان عربياً من أهل الحيرة اسمه عبود، وأقبل المغيرة يمشي وله أربع ظفائر، وفرق رأسه أربع فرق من بين يديه إلى قفاه، وفرق ما بين أذنيه، وجاء حتى جلس مع رستم على سريره ووسادته، فنخر أخو رستم كيف يجلس على سرير الملك؟ إنها لإحدى الكبر أن يجلس على سرير الملك، ووثب الفرس فترتروه، أي: زعزعوه وحركوه وأنزلوه، ومغثوه، أي: ضربوه ضرباً خفيفاً، قال المغيرة لأخي رستم: لا تنخر فما زادني هذا شرفاً، ولا نقص أخاك!! كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوماً أسفه منكم، إنا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضاً إلا أن يكون محاربا ًلصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم، ولم آتكم ولكن دعوتموني؛ اليوم علمت أن أمركم مضمحل، وأنكم مغلوبون، وأن ملكاً لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول.
فهذه ثلاثة نماذج في موقعة واحدة من المواقع التي حارب فيها الإسلام، دالة على أن الشخصيات عندما تتلقى التربية في أجواء القدوة الحسنة والعلم الشرعي وأجواء الجهاد والتضحية والبذل ترتقي إلى مراتب عليا تصلح أن تكون سفارات، ترسل إلى الكفرة فيرون فيها عظمة الدين من تصرفات هذه الشخصيات.(181/16)
أهمية التربية الإسلامية في تهذيب الغرائز
ثاني عشر: من الأسباب التي تدعونا إلى سلوك طريق التربية: أن التربية تهذب الغرائز، وتصرف الشهوات في طرقها المباحة، لا يوجد إنسان إلا وتوجد فيه غرائز، ولا يوجد إنسان إلا وعنده شهوات، ولكن هذه التربية الإسلامية تجعل الشهوة تنصب في الموضع المباح، وتهذب هذه الغريزة لتكون منضبطة بضوابط الشريعة.
أيها الإخوة: لم تتفش في البشرية شهواتٌ مثلما تفشت في هذا العصر قط، وأنواع الإغراءات والإغواءات لا تكاد تنتهي أبداً، وفي كل يوم يخترع لنا اليهود وأذنابهم من طرق إثارة الشهوات البهيمية ما لا ينتهي حصراً وعداً، كل يوم طرق جديدة كل يوم مجلات جديدة كل يوم صور جديدة، وأفلام جديدة، ومسلسلات وأمور لهدم الأخلاق، وإثارة الشهوات، لتنطلق النفس انطلاقاً بهيمياً، فمتى يستطيع الإنسان المسلم أن يضع الحد أمام هذه الأمور وهذه الشهوات التي تنكب عليه انكباباً، وتنحدر إليه انحدار السيل في الوادي.
حدثني رجل قال: ذهبت إلى بلدٍ مجاورٍ لعملٍ من الأعمال، فنزلت في فندق، فبعد فترة رنَّ الهاتف، فرفعت السماعة، فإذا على الخط الآخر امرأة تقول: مساء الخير، كيف حالك يا فلان -باسمي طبعاً- بالتعاون مع استعلامات الفندق، لتوزيع الأسماء المنتخبة على البغايا.
كيف حالك يا فلان؟ بخير.
صاحٍ أم نائم؟ هل عندك أحد؟ لا.
أريد أن أزورك الآن.
سبحان الله العظيم! امرأة تتصل وتقول: أريد أن أزورك الآن، وفي غرفة في الفندق، في هذا الوقت من الليل، وتتأكد أن ما عنده أحد، فالرجل يعتذر عن الموعد، فيقول: لا، والمرأة تقول: لا، أنا صفتي كذا وكذا، وجسمي كذا وكذا، وتصف محاسنها، فيقول: أنا سوف أسافر الآن، فتقول: أبداً خمس دقائق وأكون عندك وسأرى كيف ستعدل عن السفر وفعلاً الرجل هرب من الحجرة؛ لأن الواقع جحيم حوله، سيئ جداً، الفندق يعج بالمنكرات، وفي هروبه شاهد المرأة المعنية التي وصفت نفسها تصعد، فحمد الله أنه سلم وهرب بجلده.
أقول أيها الإخوة: اليوم عندما ينزل بعض المسلمين من شبابنا وغيرهم في الفنادق في بعض الأماكن، وتطرق عليه ويفتح، فإذا بالفتاة أمامه، بالبغي أمامه، بالزانية تدعوه إلى نفسها، ما الذي سوف يمنعه من الوقوع في هذه الفاحشة؟! امرأة تطرق الباب وتدخل عليه، بموعد أو بغير موعد، ويحصل هذا في الفنادق في أنحاء العالم، ما الذي يعصم الشخص الآن من هذا الأمر؟ نقول: الله سبحانه وتعالى، يعصمه بأي شيء؟ ما هي الوسيلة؟ إذا لم تكن هناك تربية يربي بها الشخص نفسه ويتربى مع إخوانه يعيش مع السلف يقرأ كتاب الله ويتأثر لقصة يوسف عليه السلام، وبالرجل من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فإنه سيقع ولا بد، إذا لم يحصل له هذا وتدركه رحمة الله عز وجل.
فنحن الآن نعيش في هذا العصر الذي بلغ في السوء منتهاه، فلا يمكن أن نجابه الشهوات التي تأتي إلى أبوابنا وتطرق علينا، لا نذهب نحن إليها بل هي تأتي إلينا، ولو كنت لا تريد يأتوك ويؤذوك بالقوة لا بد تفعل، لكن فما الذي يقوي هذه النفس حتى تصمد؟ إغراء كامل أمامك، فما الذي ينفع إذاً في مثل هذا الأمر؟ عند ذلك نعلم -أيها الإخوة- أنه لا بد من وجود منهج التربية، ولا بد من وجود جو التربية، ولا بد من وجود طريق يسلكه الإنسان في التربية.(181/17)
التربية طريق إلى تكامل الشخصية
ثالث عشر: نحن نحتاج إلى التربية للوصول إلى الشخصية الإسلامية المتكاملة.
بعد التربية بأنواعها التي سنتحدث عنها إن شاء الله في مناسبة قادمة، وبعد الفترة التي يأخذها الإنسان في مشوار التربية، ما هو الغرض؟ الوصول إلى أي شيء؟ التربية تحقق لنا الوصول إلى الكمال البشري بحسب درجاته بالنسبة للأشخاص، أي صورة للناس تلك التي ستطالعنا بعد بذل الجهد في التربية لشخصٍ ما؟ أي إنسان هذا الذي تربى إيمانياً وعلمياً وعقلياً وجسدياً؟ إنه الإنسان الصالح، اللبنة من القاعدة من الأساس، إذ هو جزء لا يتجزأ ما هي صفاته؟ تكامل في صفاته البشرية، ملامح التقوى والخشوع بادية عليه {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] ولكن هدوءه وحياءه لا يخدعانه فيظن الظان أنه ضعيف، كلا، فهو لا تنحني هامته إلا لله، وما عدا ذلك فهو قوي صلب العود، شديد المراس، فإذا ما حاول أحدٌ النيل من دينه {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:29] ولكن هذه الشدة لا تمنع الرحمة بينه وبين إخوانه {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] في اللين والشدة مناسبات ومواقف، اللين للإخوة، والشدة على أعداء الله {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] ولكن هذه الغلظة ليست فظاظة ولا فحشاً، ولا تفحشاً فهو حسن الأخلاق يألف ويؤلف، إنسان اجتماعي {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] وهو إنسان بعد التربية مستعلٍ بإيمانه {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] لكنه ليس متكبراً ولا مغروراً ولا مختالاً {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18] وهو عفيف عما في أيدي الناس، صقلته التربية فلا يهوي في الشهوات {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:131] صامد في وجه الشهوات، ولو أحس بلذعها في أعصابه، لأنه تربى على قول الله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يفعل الخير متزنٌ معتدل في سلوكه وفكره وشعوره، لا يطغي جانب على جانب عقله يرده عن النزعات الطارئة والاندفاعات المفاجئة، يعيش واقعه، فلا يهيم في برجٍ عاجٍ من الأفكار والأحلام، متزنٌ في نظرته للدنيا والآخرة ومتوازن {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] ليس سلبياً لكنه عملي، قوة فاعلة في الأرض، يريد تحقيق هدفه والإنشاء والتعمير في هذه الأرض حسب المنهج الرباني، يشعر بمسئوليته المؤدية إلى انطلاق في العمل، تصوراته سليمة عن الله وأسمائه وصفاته عن الدين والحياة والشريعة والناس، ليس بينه وبين الناس حواجز، لا يختار العزلة في وقت العمل والبذل والتقديم.
فإذاً سنصل في النهاية بعد التربية إلى هذه الشخصية المتكاملة، هذا هو المفترض إذا سلكنا الطريق، وهذه الشخصيات المتكاملة هي التي تتكون منها القاعدة الصلبة التي سيقوم عليها المجتمع المسلم.(181/18)
أهمية التربية في حفظ رأس المال البشري
رابع عشر: التربية مهمة في حفظ رأس المال، فبعض الناس هداهم الله إلى الإسلام، كانوا كفاراً فأسلموا، وبعض الناس كانوا ضلالاً فاهتدوا، هؤلاء الكفار الذين أسلموا والضلال الذين اهتدوا هل انتهت المهمة عند هدايتهم، أم أننا نحتاج إلى تربية لإكمال المشوار معهم؟ ما هو سبب ردة بعض الكفار الذين كانوا أسلموا ثم رجعوا إلى الكفر مرةً أخرى؟ وما هو سبب انتكاس بعض الناس الذين هداهم الله إلى أجواء الشهوات مرة أخرى؟ وتركوا الدين وانحلوا وقد كانوا يوماً من الأيام أسرجةً وهاجةً وكانوا منارات وشعلات يعملون للإسلام ويضحون في سبيل الله، ثم انطفأ هذا الوهج وهذا النور وعادوا فحماً أو سود من الجاهلية التي كانوا فيها؟ ما هو السبب أيها الإخوة؟
الجواب
في الغالب عدم وجود قنوات تربوية تستوعب هذه الشخصيات لإكمال المشوار.
بعض الناس يقول: سوف أركز جهودي على هؤلاء الكفار، وأدعوهم إلى الإسلام، وأعطيهم مصحفاً مترجماً، وأكلمهم عن الدين ومحاسن الإسلام، رجل تأثر في لحظة من اللحظات وأسلم وغيَّر اسمه وأخذ الشهادة من المحكمة إلخ وبعد ذلك، عملت مع جاري ودعوته وكلمته ونصحته بالأسلوب وبالشريط وبالكتاب وبالمؤثرات، فتأثر الرجل فترة من الفترات، وتسلطت عليه أنوار الإيمان واهتدى، وترك المعازف والأغاني والمجلات والمسلسلات وقرناء السوء وعمل المنكرات والتزم وصار يصلي في المسجد، وبعد ذلك أتى لسؤال الكبير والكبير جداً، وبعد ذلك هل انتهت المسألة عند هذا الحد؟ بعض الناس يظنون أن القضية هي أنك تهدي الكافر إلى الإسلام، والضال إلى طريق الهداية فقط، وتذهب لتبحث عن غيره، المهم أن تزيد العدد، هات كفاراً جدداً يسلموا، هات ضلالاً جدداً يهتدوا ماذا فعلت بالكفار الذين أسلموا؟ ماذا فعلت بالضلال الذين اهتدوا؟ بماذا أكملت لهم؟ وبماذا ساعدتهم وارتقيت بهم؟ أيها الإخوة: حفظ رأس المال مقدم على الأرباح.
والتربية مهمة لاستثمار نتائج الجهود الدعوية، ولإكمال المخطط الإيماني، لم تنتهِ المسألة، ما زلنا في أول خطوة، نحن صعدنا به أول درجة من السلم، فما الذي يرتقي به بقية السلم؟ هذه هي طريقة التربية.
إذاً: كانت الدعوة هي المرحلة السابقة للتربية، فالتربية مرحلةٌ لا بد منها بعد الدعوة لكي يحافظ على المكاسب التي جنيناها من وراء الدعوة، والذين يظنون أن وظيفتهم هي الدعوة إلى الله فقط، ثم لا يكون المشوار مع من دعوهم إلى الله، ومن اهتدوا إلى الإسلام، ومن رجعوا إلى الإيمان بعد الضلال، فهؤلاء الناس ما فقهوا منهج الأنبياء.
ولذلك الدعوة مهمة جداً لإكمال المشوار لهؤلاء، وظني أن الذي يكمل المشوار بشخصٍ أسلم ويرتقي به ويعلمه ويوجهه ويمضي معه الطريق فترة حتى يثبت عوده ويقول له: الآن انطلق أنت صاحب رسالة، أنت الآن ادع إلى الإسلام، هذا المنهج معك، خذ كتابك بيمينك وامض، ظني به أنه لا يقل أجراً أبداً عن الشخص الذي أدخله في الإسلام أول مرة إن لم يكن أكثر، لأن الشطارة الآن، ولا نقصد بهذه الكلمة معناها اللغوي السيئ، نقول: ليس الجهد والاعتناء والهدف فقط هو إدخال الناس، وبعد إدخالهم ماذا سيحدث؟ السؤال الذي يطرح نفسه، السؤال الكبير، وكثيرٌ من الناس عندهم استعداد لأن يؤثروا على أشخاص بالالتزام بالإسلام لكن قلة من الناس الذين عندهم استعداد أن يأخذوا بأيدي هؤلاء الأشخاص مرتبةً مرتبة، ودرجةً درجة، لتنقية شخصياتهم من رواسب الجاهلية، وملء نفوسهم بالتصورات الإسلامية، وإعداد هذه الشخصيات لتكون في المستقبل دعاةً إلى الله عز وجل.
إذاً: الوقاية والحماية والتعليم لا بد من إعطائه وبذله بطريق التربية إلى هؤلاء القادمين الجدد.(181/19)
أهمية التربية في توافق الوسط الإسلامي وانسجامه
خامس عشر: إن التربية مهمة لإيجاد التوافق والانسجام داخل الوسط الإسلامي المجتمع شخصيات مختلفة، وطباع متباينة، في كثيرٍ منها تناقض، ما الذي يوحد بينهم، ويشذب هذه الأمور التي شذت في نفوسهم، والتي تسبب الفرقة والاختلاف، وعدم التلاقي والارتقاء النفسي؟ إن الذين تصهرهم بوتقة التربية فيصبحون جسداً واحداً هم الذين يحصل بينهم هذا التلاحم، وتأمل معي المحبة التي حصلت في نفوس الصحابة بفعل تلك التربية النبوية التي صهرت شخصياتهم حتى صاروا جسداً واحداً، قصة وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه: لما أصيب سعد يوم الخندق وحكم في بني قريظة قال: اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريشٍ شيئاً فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك، وكان قد أصيب في معركة الخندق بجرحٍ في أكحله، رماه ابن العرقة المشرك بسهمٍ فقطع هذا العرق في الذراع فنزف الدم منه، ثم كاد الجرح أن يندمل ولم يرد سعد أن يفوته أجر الشهادة في سبيل الله؛ لأن الذي يموت من أثر الجراحة شهيد، فقال هذا الدعاء، والذي حصل أن الله قد قدَّر أنه لم تهجم قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الخندق أبداً (الآن نغزوهم ولا يغزونا) قالت عائشة -وراوية القصة في مسند الإمام أحمد وهو حديث حسن وبعضه عند البخاري - قالت (فانفجر كلمه -جرحه- وكان قد برأ، حتى ما يرى منه إلا مثل الخرص، ورجع إلى قبته التي ضربها له رسول الله صلى الله عليه وسلم) الانتقال من سياق أحمد إلى سياق البخاري الآن: (فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمةً في المسجد ليعوده من قريب، وفي المسجد خيمة من بني غفار فلم يرعهم، إلا والدم يسيل إليهم، فقالوا: يأهل الخيمة! ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ إذاً: كان جرح سعد يثغب جرحه دماً فمات فيها).
عودة إلى سياق الإمام أحمد: قالت عائشة: (فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر عند وفاته، قالت: فوالذي نفس محمدٍ بيده إني لأعرف-أميز- بكاء عمر من بكاء أبي بكر وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله عز وجل: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] قال علقمة: قلت: أي أمه، فكيف كان رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ قالت: كانت عينيه لا تدمع، ولكن كان إذا وجد، فإنما هو آخذ بلحيته صلى الله عليه وسلم).
فإذاً الذي جعل عمر؛ وهو من أشد الناس في دين الله، وأقواهم شخصيةً تقريباً، جعله يبكي كالطفل على وفاة أخيه سعد، هي هذه الأخوة، وهذا هو الترابط الذي حصل في صفوف ذلك المجتمع، وكانوا كما أمر الله: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] فقل لي بربك: ما هو الذي أنتج هذا الأمر؟ هل هو المسلكيات الفردية ليذهب كل إنسان فيفعل بنفسه ما يشاء، ثم يقول: لقد تربيت وارتقيت وعملت ووصلت؟ أم هي تربية جماعية نبوية فيها القدوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها المنهج كتاب الله وسنة نبيه؟!(181/20)
الحاجة إلى التربية لأحداث التنويع في الكفاءات
سادس عشر: إننا نحتاج إلى التربية اليوم وفي غير اليوم لإحداث التنويع في الكفاءات في المجتمع الواحد.
فإن المجتمع فيه طاقات، والتربية توجه كل إنسان فيما يحسنه وفيما يبدع فيه، وتوجيه الأفراد إلى مواقع الإبداع هذا لا شك أنه من الأهداف التربوية، تأمل هذا الحديث الحسن: (أرأف أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقضاهم علي، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمةٍ أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح) فتجد في هذا الحديث إعداداً للمواهب والصفات والطاقات التي اتصف بها هؤلاء الصحابة.
تأمل كيف أن التربية وجهت هذا الذي أبدع في الفقه إلى الفقه، وهذا الذي يبدع في الفرائض إلى الفرائض، وهذا الذي يبدع في القراءة إلى القراءة، وهذا الذي يبدع في القضاء إلى القضاء، وكان هذا متصفاً بالرأفة فنمت الرأفة في جو التربية، وهذا متصف بالشدة فتوجهت الشدة لنصرة دين الله في جو التربية، وهذا حياؤه موجودٌ معه، وهذا أمانته تحيطه وتحميه.(181/21)
البون الشاسع بين من تلقى التربية وغيره
سابع عشر: من النقاط التي تدعونا للاهتمام بالتربية، وسلوك سبيل التربية، ومعرفة أهمية التربية: أننا عندما قارنا بين الأجيال التي تلقت التربية والأجيال التي لم تتلق التربية، وجدنا بوناً شاسعاً وفرقاً عظيماً.
فقد وجدنا في الأجيال التي تلقت تربيةً: حكمةً، وانضباطاً، واتزاناً، وتضحية، وثباتاً، وإقداماً وهكذا، ووجدنا في الأجيال التي لم تتلق تربيةً في الغالب: فوضوية، وعدم انضباط، وتسرعاً، وخلخلة، وزيغاً، وتركاً لطريق الثبات على المنهج، فهذه مقارنة تدفعنا إلى الاعتناء بالتربية؛ لأننا نعلم النتيجة التي ستئول إليها الأحوال بعدمها، والنتيجة التي ستئول إليها الأحوال بوجودها.(181/22)
ضرورة التربية لمواجهة المحن والفتن
ثامن عشر: إن التربية ضرورية عند المحن عند حصول التمحيص عند نزول الفتنة التربية ضرورية للتخلص من الاستعجال وكبح جماحه، وضبط الحماس الزائد التربية ضرورية في معترك الأحداث الراهنة.
بعض الناس يقول عندما يرى المد العامي الهادر: جاء نصر الله، وعندما يرى هذه الجموع يقول: إن الإسلام قد انتصر في المعركة، ولكن حقيقة هذه الجموع التي تجمعهم كلمة ويفرقهم جندي، لا تغتر بها إذا وقعت المحنة، ونزلت الفتنة، هذه الدعوات التي كان لها أتباع بالملايين لما نزلت المحنة من الذي بقي ومن الذي صمد؟ كثيرٌ من هؤلاء المستعجلين يقولون: ادفعنا إلى المواجهة فنحن على استعداد، ونحن نذكر لهم في هذه المناسبة قصة طالوت ومن معه من بني إسرائيل:
الجواب
=6000252> أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} [البقرة:246 - 247] جاءت المنازعات {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَال} [البقرة:247] وبعد الرد والمناقشات والإقناع هدئت الأمور، قال لهم طالوت بعد أن جيَّش الجيش وسلحه إلى المواجهة، نحن على استعداد، نريد أن نقاتل، قال لهم: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249] لما جاء التمحيص شربوا منه إلا قليلاً منهم، سبحان الله!! هذه الجموع الغفيرة وهذه الكثرة الكاثرة لما جاءوا على النهر، ولم يبتدئ القتال، ما فيها سيوف ولا دماء ولا أشلاء ولا جراح ولا شيء، هذا النهر فقط {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:247] ما الذي حصل؟
الجواب
=6000253> فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ} [البقرة:247] وبعدما جاوزوا النهر ورأوا الجيوش {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:247] هؤلاء الذين صمدوا في فتنة النهر {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249] فانظر كم مرحلة من مراحل النخل والتمحيص مرت بهذا الجيش من بني إسرائيل، وكم صمد في النهاية، لكن الذين صمدوا هم الذين كتب الله على أيديهم النصر والتمكين {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} [البقرة:251].
فإذاً: عندما نتذكر معركة حنين {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25] من الذي رجع وقاتل مع الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هم الذين ناداهم وقال: يا أصحاب بيعة الشجرة! يا أصحاب بيعة الرضوان! فجاء هؤلاء الأنصار والمهاجرون ورجعوا، أما الناس الذين التحقوا بالجيش وهو يمشي مع الكثرة الكاثرة فقد شردوا ولم يرجعوا إلا لاقتسام الغنائم.
إذاً: هذه التربية المهمة جداً، للإعداد للمواجهة إعداد للمحنة إعداد للفتنة إذا نزلت، نسأل الله ألا يفتننا.(181/23)
من دواعي التربية: شدة الأعداء علينا
تاسع عشر: إن من الأشياء التي تدعونا إلى سلوك طريق التربية والاعتناء بها: شدة أعداء الإسلام علينا، فما وجد عصر من العصور اجتمع فيه كيد الأعداء علينا مثلما اجتمعوا الآن، إغراق المسلمين بالمناهج الكفرية والسلوكيات؛ الفرد المسلم -الآن- يتعرض إلى عملية تذويب كاملة، سيطرة عقلية ومادية من الكفرة المناهج الدراسية، المسرحيات، الأفلام، الكتب، القصص، القهر، الاستبداد، التسلط، الغزو الفكري والثقافي والأخلاقي والاقتصادي، والشخصيات الكفرية، والأفكار التي تلمع، وطريقة الحياة الغربية، وعادات وتقاليد الكفار، ولغتهم، والأغاني، والرقص خمور، نساء، تشبه، تشويه للتاريخ، ملابس، ميوعة، فسق، فجور، مخدرات، موضات، ألعاب، اختلاط، تبرج، كره الدين إلخ.
هذه العمليات التي تسلط اليوم على أدمغة المسلمين وعلى رءوسهم، فقل لي بربك مع شدة التيار الكفري وهذا الاضطهاد الذي نعانيه: ما هو الذي سيجعل هذه الجموع تصمد؟ هذا الكيد كله من الذي سيصمد في وجهه؟ هل هم أناس جاءوا هكذا من الشارع، وقالوا: نحن مسلمون نحب الإسلام، صلوا على النبي: اللهم صلِّ على محمد، اذكروا الله: لا إله إلا الله!! هذا الجمع، لا، إن هذه الأمور لا تكفي، إن هذه المسابح وغيرها من الأشياء ليست هي الطريقة.
إن الطريقة طريقة إعداد ما يمكن أن يصمد أمام هذه الهجمات على ديار الإسلام هو شخصيات تربت على الإسلام، بدون تربية لا يوجد صمود، وأنت ترى يومياً من أجيال المسلمين كم فرد يضيع! كم فرد ينحل! كم فرد يضل! كم فرد ينهار! كم فرد يغرق في بحار الشهوات والشبهات! لا يعلم عددهم إلا الله أبناء المسلمين أمانة في أعناق دعاة الإسلام، من المسئول؟ ما هي الطريقة للإنقاذ؟ الطريقة هي تربية هؤلاء الناس، أما أن تلقي موعظة وتذهب، فتؤثر وقتاً ما لكن بعد ذلك يذهب أثر الموعظة ويرجع الحال إلى ما كانت عليه الأمور، وأنت ترى الناس يخرجون بعد صلاة الجمعة أحياناً متأثرين جداً، بل قد يبكون في الخطبة، فماذا يفعلون بين الجمعتين من المعاصي؟ وأين ذهب أثر الخطبة عليهم؟ فتعلم عند ذلك أن مسألة إلقاء موعظة فقط ليست هي الطريقة الوحيدة.(181/24)
أهمية التربية في التعامل مع الجاهلية
عشرون: إن التربية مهمة في التعامل مع الجاهلية، قال الشيخ محمد قطب حفظه الله: كان الامتحان الأكبر في العهد المكي هو تحمل الأذى في سبيل الله، من أجل الدعوة الناشئة المضطهدة المطاردة، دون ردٍ على العدوان ودون أخذ بالثأر، لقد كان في وسع المسلمين الأوائل أن يثيروها حرباً قبليةً أو حرباً شخصية، كل إنسان يأخذ بثأره وينتهي الأمر ولو بقتل المسلمين جميعاً، ولكن ذلك لم يكن يصبح انتصاراً للدعوة ولا انتصاراً للدين الجديد، والتربية هي التي منعتهم من الأخذ بالثأر التربية هي التي وجهتهم إلى الصبر واحتمال الأذى والعدوان دون رد، هذه التربية هي التي أنشأت النفوس الجديدة المعتزة بالله؛ نفوس مستعلية بالإيمان، مستعلية على ذواتها وعلى شهواتها وعلى أهوائها.(181/25)
أهمية التربية في إعداد الكوادر الإدارية والقيادية
حادي وعشرون: إن التربية مهمة في إعداد الكوادر التي ستدير المجتمع وتستلم زمام الأمور وتقود الناس، كان الصحابة في مكة مضطهدين، في حصار الشعب يأكلون ورق الشجر، يجد أحدهم وهو يتبول شيئاً جامداً ارتد عليه رشاش البول، يأخذ قطعة من جلد بعير ملقاة يغسلها ويغليها ويشرب الماء، لا يوجد غير هذا، تقرحت أشداقهم بأوراق الشجر، مات مصعب بن عمير فلم يجدوا ما يغطوا به جسده، فغطوا وجهه وجسده وجعلوا على قدميه شيئاً من الإذخر، يقول الصحابي: [الآن وما منا إلا أمير على مصرٍ من الأمصار] الأمراء على الأمصار؛ سعيد بن عامر الجمحي على الشام، وفلان على الكوفة، وفلان على مصر، وفلان على ويقول أبو هريرة: [طرقوا للأمير]، الأمراء الذين على الأمصار، الناس الذين استلموا الدواوين ديوان الجند، وديوان وديوان، زيد بن ثابت هو الذي تولى قسمة الغنائم بعد معركة اليرموك، هذه الشخصيات التي صارت تدير الأمور واستلمت زمام الأمور من أين جاءت؟ هؤلاء الناس الذين تفرقوا في الأمصار كل واحد أمة يعلم الناس هؤلاء الصحابة، الصحابة هؤلاء الذين تفرقوا جمعتهم منطقة التربية المحمدية فصقلت شخصياتهم حتى صارت قوية، الآن صاروا قدوات انتشروا في الأرض، وصار كل واحد قدوة لبلدٍ من البلدان، هؤلاء من الذي أتى بهم؟(181/26)
أهمية التربية في إنشاء المجتمع الإسلامي
ثاني وعشرون: إن التربية مهمة جداً؛ لأنها هي الطريق الوحيد للوصول إلى إنشاء المجتمع الإسلامي.
الحل الوحيد لانتشال الأمة: إيجاد النموذج، وتوسيع القاعدة، الآن العصر الذي نعيش فيه لا تعطي فيه الفردية ثمرة تذكر.
النفوس بطيئة الفساد إذا كانت صالحة بطيئة الصلاح إذا كانت فاسدة، قلة وندرة من البشر يهتدون من كلمة واحدة، وأما الأكثرية فلا بد من تأنٍ، الفطرة موجودة في نفوسهم، وإن الله لينزع بالسلطان مالا ينزع بالقرآن.
إذا لم يكن هناك مجال لأن تنزع بالسلطان الآن فلا يوجد طريق إلا أن تنزع بالقرآن، فلذلك الآن التربية الآن هي الطريقة الوحيدة للوصول إلى تكوين كيان المجتمع الإسلامي، سنستبطئ الطريق، نعم تتغير الأجيال وربما لا يأتي النصر.(181/27)
منكرات الحل السياسي للوصول إلى المجتمع الإسلامي
بعض الناس يظن أن الحل هو استخدام القوة، وبعضهم يظن أنه لا يمكن إنشاء المجتمع الإسلامي إلا بالحل السياسي وتفريغ الجهود من أجله، ثم تعال قارن الآن في القضية ما الذي أدى إليه الحل الثاني في كثيرٍ من القطاعات الموجودة في العالم الإسلامي؟ سلبيات الله بها عليم، لأن هذا العمل الذي يعمله كثيرٌ منهم لا يقوم على السياسية الشرعية، فانحرف وسار بغير ضوابط إلا من رحم الله، فانظر ماذا حصل من المنكرات:- 1 - صلة مباشرة بالطواغيت، وموت القلب، وتقديم تنازلات.
2 - نسبة التقصير للإسلام في عيون العامة.
3 - الوقوع في شرك الديمقراطيات الوهمية التي نصبها أعداء الإسلام لدعاة الإسلام.
4 - اشتراك في مجالس لا تعلن سيادة الشريعة بل تعلن سيادة القانون الوضعي.
5 - المساهمة في خروج قانون جاهلي ضمنياً باسم بعض دعاة الإسلام.
6 - القسم المحرم الذي يقوم به بعضهم.
7 - حصر العمل الإسلامي كله في هذه الزاوية، وانحصار التربية والانشغال عنها وعن الدعوة.
8 - السكوت على كثير من المنكرات والأباطيل.
9 - وقوع بعض المشاركين من المسلمين في استغلال النفوذ للإضرار بمسلمين آخرين.(181/28)
مزالق العنف تجاه المنكرات
انظر إلى ما أدى إليه طريق العنف واستخدام القوة، هذه نفوس لا بد من البطء في تربيتها والسير بها، هذه جاهلية عتت على المجتمعات الإسلامية سنين طويلة، وتريد الآن في لمحة عين أن تعمل بالقوة شيئاً، وتقول: هذا هو الطريق وأقمنا المجتمع، هذا مستحيل لا يمكن، إن الله جعل في الدنيا قوانين وأسباب ومسببات، وهذه الأعمال في غير وقتها الصحيح استخدام القوة بدون ضوابط شرعية أدت إلى التورط في إزهاق أرواحٍ معصومة، أو القتال تحت راية عصبية وجاهلية، وليست العمليات الجهادية الإسلامية عمليات انتحارية فقط، بل لا بد من وجود مصلحة شرعية، مثلاً: توقع النصر، توقع قبول الأمة لهذه الحركة الجهادية، تأمين الذرية، اختيار التوقيت، ثم خصوم الإسلام متعددون وليس من المصلحة فتح الجبهات على الجميع وهكذا.
إذاً: الذين يظنون أن المسألة -مثلاً- مسألة إنكار منكر دروس عامة أيضاً هم أناسٌ مخطئون؛ لأن الطريق هو طريق التربية، وهذه الروافد التي ستدعم أي جهدٍ يقوم هي روافد التربية، وبدونها يكون الجهد معلقاً في الهواء ليس له أساسٌ في الأرض أبداً، وذلك فإنه ينهار عما قريب.(181/29)
الحاجة المطلقة إلى التربية الإسلامية
هذه التربية لا يستغني عنها شخصٌ مهما بلغ من العمر، والنوازع موجودة في النفس، والإنسان مهما وصل إلى مرتبة فلا زال عنده أشياء من الشهوات {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14].
إذاً: لا يوجد وقت تقول فيه: أنا الآن لا أحتاج إلى تربية، لأن شخصيتي قد اكتملت، هؤلاء الصحابة لا يزال يتربى بعضهم على بعضٍ حتى ماتوا رضي الله عنهم، فلا تزال نفوسنا تحتاج إلى توجيه وتذكير وتزكية وضبط، ونحن لم نبلغ رتبة الصحابة، إذا كان هؤلاء لا يزال بعضهم يتربى من بعض فنحن أحق وأحوج إلى ذلك منهم، لأننا لم نبلغ ما بلغوا.
فهذه -أيها الإخوة- لمحة عن الأشياء التي تجعلنا نحتاج إلى التربية، ونوقن بأن التربية هي الطريق، وكل طريقٍ غيره لا يوصل، وإذا أوصل يوصل إلى نتائج تكون في كثيرٍ من الأحيان نتائج خاطئة وليست هي المطلوب، وإنما هي عبارة عن صور مشوهة لما يظن أنه مجتمع إسلامي وليس كذلك.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأن يهدينا سبل السلام، وأن يخرجنا من الظلمات إلى النور، وأن يسلك بنا سبيل التربية الإسلامية، وصلى الله على نبينا محمد.(181/30)
حديث السبعين ألفا
إن هذا الحديث قد ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن سبعين ألفاً من أمته يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وذكر أنهم لا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون، فهذه الصفات هي التي جعلتهم يحوزون هذه المنزلة العظيمة هذا هو ما تحدث عنه الشيخ حفظه الله، فقد ذكر هذه الصفات بشيء من التفصيل، مع ذكر بعض التراجم للرواة، ثم ذكر بعض الفوائد المستفادة من هذا الحديث العظيم.(182/1)
حديث السبعين ألفاً شرح وتعليق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: لقد روى حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت.
قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت.
قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي.
قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: (لا رقية إلا من عين أو حمة).
قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.
ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال: هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون.
فقام عكاشة بن محصن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم.
فقال: أنت منهم.
ثم قال رجل آخر: ادع الله أن يجعلني منهم.
فقال: سبقك بها عكاشة).(182/2)
مشابهة هذا الحديث لحادثة الإسراء والمعراج
هذا الحديث العظيم من أحاديث الرقاق التي فيها إحياء للقلوب، يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الأمم قد عرضت عليه، وهذا أمر شبيه بما حصل في الإسراء والمعراج، ولكن هناك بعض أوجه المخالفة، فالإسراء والمعراج الذي وقع بـ مكة كان فيه تفتيح لأبواب السماوات باباً باباً، ولقاء بالأنبياء كل واحد في سماء، ومراجعة بينه وبين موسى عليه السلام فيما يتعلق بفرض الصلوات وطلب تخفيفها، وهذا الحديث حصل بـ المدينة، إذاً: هذه الرؤيا حصلت في المدينة، والإسراء والمعراج حصل في مكة، ولكن هنا تشابه بين ما هو موجود في مطلع هذا الحديث المرفوع وبين ما حصل في الإسراء والمعراج، وما حصل في المدينة بعد الهجرة معظمها في المنام.(182/3)
حرص السلف على الابتعاد عن الرياء والسمعة
هذه القصة يرويها حصين بن عبد الرحمن رحمه الله، وهو حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي الثقة، الذي توفى سنة ست وثلاثين ومائة للهجرة، وكان عمره ثلاث وتسعون سنة، يقول: كنت عند سعيد بن جبير وهو الإمام الفقيه، من أجلاء أصحاب ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وهو كوفي مولى لبني أسد، قتل بين يدي الحجاج ظلماً وعدواناً، وذهب إلى الله شهيداً فيما نحسب سنة خمس وتسعين للهجرة ولم يكمل الخمسين عاماً، ومع ذلك فقد روى سعيد بن جبير علماً غزيراً نافعاً، ملأ كتب التفسير والحديث.
يقول حصين بن عبد الرحمن: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ كوكب سقط، وانقضاض الكوكب يرى إذا كانت السماء صافية، والبارحة ما بعد الزوال، وقبل الزوال تقول: الليلة، إذا أردت أن تتحدث عن شيء مضى قبل الزوال تقول: الليلة، وإذا أردت أن تتحدث عن شيء مضى بعد الزوال تقول: البارحة، وبعض الناس يقولون: البارحة من طلوع الشمس إلى الغروب، ومن الغروب إلى طلوعها يقولون: الليلة، حصل الليلة كذا وكذا، من غروب الشمس إلى طلوع الشمس أو الفجر.
قال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قال حصين: فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة هذا الرجل وهو حصين -رحمه الله- رأى النجم وهو ينقض، لكن يقول للحاضرين: أنا لم أكن قائماً في الليل لأنني كنت أصلي، إنما كنت قائماً لسبب آخر، قال: ولكني لدغت.
لم تمنعه الصلاة من النوم لكن منعه الألم من اللدغ، وهذا فيه فائدة بليغة في قضية الابتعاد عن الرياء؛ لئلا يحسب من الذين يحمدون بما لم يفعلوا، لأن الله تعالى ذم الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فهذا حصين من أعداء الرياء، وهكذا كان السلف رحمهم الله في إخلاصهم قال حصين: أما إني أما: أداة استفتاح، وقيل: هي بمعنى حقاً أما إني لم أكن في صلاة، الحقيقة أني لم أكن في صلاة؛ لئلا يظن السامعون أنه قائم يصلي، فيكون كأنه قد راءى بشيء لم يفعله، أو سمَّع بشيء لم يفعله، وهذا الأمر من نقص التوحيد؛ إذا راءى الإنسان وسمع بأعماله، فهو حتى يبرئ نفسه من هذا وضحها وقال: إني كنت مستيقظاً لأجل لدغ لا لأجل الصلاة، ولكني لدغت، واللدغة للعقرب، والظاهر أنها كانت شديدة، ولذلك لم ينم منها طيلة الليل.(182/4)
مشروعية الرقية
قال سعيد: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت.
أي: طلبت الرقية لأجل اللدغة، قال: فما حملك على ذلك؟ أي: ما السبب أنك استرقيت وطلبت الرقية؟ والألف والسين والتاء تفيد الطلب، مثل: استغفر طلب المغفرة، استرقى طلب الرقية قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت -أي: طلب الرقية- قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي إذاً: كان عند السلف محاورة للوصول إلى الحقيقة ومعرفة الحق، فـ سعيد بن جبير -رحمه الله- لم يقصد الانتقاد لهذا الرجل، بل قصد أن يستفهم منه ويعرف مستنده في طلب الرقية، لماذا طلب الرقية؟ وهذا فيه فائدة وهي طلب الحجة في المذهب، فإذا رأيت رأياً فإنك تطلب الحجة، إذا رأى شخص رأياً وتناقشت معه لك الحق أن تطلب الحجة على ما ذهب إليه، والآن سيأتي حصين بالدليل، قال: حديث حدثناه الشعبي والشعبي هو عامر بن شرحبيل الهمداني، المولود في خلافة عمر، وهو من ثقاة التابعين وحفاظهم وفقهائهم، مات سنة مائة وثلاث للهجرة، وهو شيخ حصين.
قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي، وهو صحابي مشهور، مات سنة ثلاث وستين عن بريدة بن الحصيب أنه قال: (لا رقية إلا من عين أو حمة).
والرقية: هي القراءة على المريض أو المصاب وهي معروفة.
وظاهر هذا النص أن الحديث موقوف على الصحابي الذي هو بريدة، لكن الحديث قد جاء من رواية أحمد وأبي داود والترمذي عن عمران بن حصين به مرفوعاً، وقال الهيثمي: رجال أحمد ثقات: (لا رقية إلا من عين أو حمة)، العين معروفة، وهي إصابة العائن لغيرة، والعائن حاسد، والحمة: سم العقرب، فمعنى هذا الحديث: لا رقية أولى من رقية العين والحمة، فـ حصين استند في طلب الرقية إلى هذا الحديث، وهو يدل على أن الرقية من العين أو الحمة مفيدة؛ فإن الرقى تنفع -بإذن الله- من العين ومن الحمة أيضاً، إذاً: أنفع ما تنفع الرقية في مسألة العين، وتنفع في اللدغة والشفاء من السم، وكثير من الناس يقرأ على الملدوغ فيبرأ حالاً.(182/5)
قصة أبي سعيد في رقية الملدوغ
وقد وقعت القصة المشهورة للصحابي الجليل أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، فاستضافوا قوماً فلم يضيفوهم، فلدغ سيد القوم، لدغته حية، فقالوا: من يرقي؟ كانوا لؤماً، ما أكرموا الضيوف وهم الصحابة، فلدغ سيدهم الكافر سيد القبيلة، فجاءوا يقولون: من يرقي؟ ثم قالوا: لعل هؤلاء الركب عندهم راقٍ، لعل هؤلاء الركب المسلمين الذي نزلوا بجانبنا وما أضفناهم لعل عندهم راقي فجاءوا إلى السرية فقالوا: هل فيكم من راق؟ فقالوا: نعم، ولكن لا نرقي لكم إلا بشيء من الغنم، اشترطوا شرطاً على هؤلاء البخلاء، قالوا: ما نرقي سيدكم ورئيس قبيلتكم إلا مقابل قطيع من الغنم، فقالوا: نعطيكم فاقتطعوا لهم من الغنم وعينوها ثم ذهب أحدهم وهو الراوي أبو سعيد رضي الله عنه ذهب يقرأ عليه الفاتحة، فقرأها ثلاثاً أو سبعاً، وقام هذا اللديغ كأنما نشط من عقال، يمشي ما به بأس ولا كأن شيئاً لدغه، فانتفع اللديغ بقراءة الفاتحة، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي سعيد بعدما رجعوا إليه يستفتونه عن الغنم الذي أخذوه، فأباحه لهم وأخبر أنه حلال لهم، قال لـ أبي سعيد: (وما يدريك أنها رقية) كيف عرفت أنها رقية؟ من الذي أخبرك؟! تعجب من علم هذا الصحابي وأقره على أن الفاتحة يرقى بها.(182/6)