المزيد من المنهجية في طلب العلم
لقد وجدت العشوائية وعدم الثبات والاضطراب والتذبذب وعدم الاستمرار لدى الكثير من طالبي العلم الشرعي؛ فحدث الخلل، وما حدث ذاك إلا عند غياب المنهجية السليمة لطلب العلم.
فلابد من تلافي الخلل ورسم الطريق الصحيح لمنهجية رائدة في طلب العلم، فلابد من التدرج في التعليم والصعود المتأني في سلم العلم.
ولقد أجاد بعض الأفذاذ في السير على المنهجية الصحيحة فاستوى على سوقه فكان الرسوخ، وأخطأ بعض السذج فليس معهم إلا نتف من هنا وهناك.(120/1)
الحث على الجدية في طلب العلم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزدنا علماً إنك أنت العليم الحكيم.
أيها الأخوة: أحييكم في هذه الليلة وأقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإننا في هذه الليلة، سنكمل -إن شاء الله- ما بدأناه في ليلة الخميس الماضي، عندما شرعنا في الكلام على موضوع (طالب العلم والمنهج).
وبعد المحاضرة الماضية كان هناك عدد من الأسئلة، وهذه الأسئلة تضمنت ردود فعل مختلفة من عدد من الإخوان؛ لسماعهم المحاضرة الماضية.
فبعضهم رأى أن فيها حَثَّاً على الجدية في الطلب، واستثمار الأوقات، لكي يكون طالبُ العلم طالبَ علم حقيقي فعلاً.
وبعضهم رأى في العرض السابق تثبيطاً وشعر بالإحباط في نفسه؛ لأنه لما قارن ما هو عليه بالمنهج الذي ينبغي أن يسير عليه طالب العلم، رأى أنَّ بين هذا وذاك بوناًَ شاسعاًَ.
وبعضهم من أصحاب التخصصات العلمية والوظائف قالوا: إن معنى الكلام أنه ليس لنا موقعاً في طلب العلم، وأننا لا بد أن نتجه لقراءة كتيبات، ونترك العلم لأهل العلم.
وبعضهم قال مازحاً: نريد أن نبيع الكتب الكبيرة التي اشتريناها من معارض الكتاب، فما فائدة وجود كتاب مثل: كتاب (المغني) لدينا.(120/2)
المقصود من طالب العلم والمنهج
وحرصاً على إيصال الفكرة الصحيحة المُرادة، ونفي الخواطر غير الصحيحة المتَوَّهَمَة، أذكر ما يلي في نقاط سريعة: كانت المحاضرة الماضية هزة للذين يخادعون أنفسهم بأنهم طلبة علم وليس عندهم من العلم إلا النزر اليسير.
وكانت المحاضرة الماضية تنبيهاً بأن طلب العلم مسألة شاقة وعسيرة، وأنها تحتاج إلى مجاهدة ومجالدة، وأنها تحتاج إلى صرف الأوقات والأعمار، وأن العلم غزير وكثير، إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه.
وهذا كان مقصد من المقاصد الأساسية في المحاضرة وهو: الحث على الجدية، واستثمار الأوقات، وأن طلب العلم ليس شيئاً سهلاً يناله كل أحد، وأن من قرأ كتاباً أو كتابين أو حضر درساً أو درسين أصبح طالب علم.
وكانت المحاضرة تنبيهاً قوياً إلى بعض أصحاب الدراسات الدنيوية من أصحاب الشهادات العليا في العلوم الدنيوية- المتسلطين على العلم الشرعي بأهوائهم، والمتحكمين في أقوال العلماء بعقولهم القاصرة، التي لم تتشكل بالعلم الشرعي، وإنما غرور الشهادة الدنيوية جعلتهم يظنون أنهم يفهمون كل شيء، حتى الفتاوى والأحكام الشرعية.
فهؤلاء لا بد أن يعرفوا حدودهم، ويعرفوا ما هو المنهج الصحيح في الطلب، وما هو موقعه بالنسبة للطلب، وبالنسبة لأهل العلم، ومَن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب.
ومن المقاصد في عرض الموضوع: الحث على تلقي العلم الشرعي عن أهله المختصين ما أمكن ذلك إن وجدوا.
وتلقي باقي التصورات الإسلامية عمَّن يجيدها أيضاً.
وتلقي الأدب عمَّن هو مشتهر به ومعروف وهكذا.
وإن اجتمعت في شخص واحد فهذه النعمة، وإذا لم يوجد من أهل العلم المتخصصين مَن يمكن الوصول إليه والتتلمذ على يديه فلا بد من التعاون على دراسة الموضوعات الشرعية المختلفة، مع الأمثل فالأمثل.
وقد تقدم أن المذاكرة الجماعية تقي الفرد كثيراً من الانحرافات في التلقي والخطأ في الفهم.(120/3)
تنبيهات لأصحاب التخصصات
كذلك لا بد أن يوقن أصحاب التخصصات غير الشرعية بعِظَم المهمة التي يضطلعون بها، وحجم الثغرة التي يقومون بسدها، وكثافة المسئوليات الملقاة على عواتقهم، وأن المجتمع يحتاج إلى الأطباء المتدينين الملتزمين بالدين، والمهندسين الملتزمين بالدين، والإداريين الملتزمين بالدين، والعسكريين الملتزمين بالدين وهكذا.
فالذي يظن أن الإسلام لا يُخدَم إلا بطلاب العلم الشرعي المتخصصين، فنظرته قاصرة، وفي تفكيره خلل.
فالمسئوليات الدينية كبيرة ينبغي القيام بها، كالتربية، والدعوة، وإنكار المنكر، وسائر فروض الكفايات.
وتنبيه آخر لأصحاب التخصصات الشرعية لا بد من ذكره، وهو: أن الذين يظنون أن الجامعات الشرعية تُخَرِّج طلاب علم أقوياء إذا نجح الطالب في المقرارت فهم أناس مخطئون، فإن كثيراً من هؤلاء الطلاب يذاكرون للشهادة والنجاح، ولا يطلبون العلم حقيقة، وما الكليات الشرعية إلا مفتاح للبدء في الدراسة الجادة، وتأهيلاً للطلب، وليس هي نهاية الطلب، والمتخرج من الكلية الشرعية لم يُنْهِ علوم الشريعة، وإنما لا بد من التركيز والمواصلة، خصوصاً وأن كثيراً من الكليات الشرعية في العالم الإسلامي تعرضت إلى مؤامرات تحجيم وإزالة مقررات، وقد سمعتُ بنفسي مَن أخبرني من الذين درسوا في بعضها أن الجيد بخمسة جنيهات والجيد جداً بعشرة جنيهات! وكذلك فهناك اختلال في توجه أصحاب الطاقات العقلية لا يتناسب مع شرف العلم الشرعي بالمقارنة مع غيره، فبينما تجد كثيراً من النابهين يتجهون لدراسة العلوم الدنيوية، ترى في المقابل كثيراً من أصحاب الطاقات المحدودة والمستويات المنخفضة يتجهون للدراسات الشرعية.
وفي بعض بلدان العالم الإسلامي توضَع المجاميع العالية للطب والهندسة والمجاميع المنخفضة للشريعة والآداب، في خطة تهدف إلى صرف الناس عن دراسة دين الله والإجادة فيه.
ثم إن هؤلاء المتخرجين من الحقول الشرعية هم الذين يتولَّون المناصب الدينية؛ من الإمامة، والخطابة، والتدريس، والقضاء، والإفتاء، فتحدث الكارثة، وتعم المصيبة، وينعكس هذا سلباً بالطبع على تقبل الناس للدين وأهله.
ولا بد بعد هذا من تسجيل حسنة عظيمة في حق بعض المتفوقين الذين آثروا دراسة دين الله، والمواصلة فيه، على دراسة علوم الدنيا، رغم كثرة الإغراءات الدنيوية والضغوط الاجتماعية.
ومِن ثَمَّ فإن مَن آنسَ في نفسه قدرة على طلب العلم الشرعي والحفظ والفطنة، فإن عليه أن يتجه لهذه للدارسة منذ مرحلة مبكرة، فيتجه بعد دراسة الثانوية مباشرة مثلاً للعلم الشرعي والكليات الشرعية؛ لأن كثيراً من الطلاب بعد أن يقطع مشواراً في علم من العلوم الدنيوية يريد أن يغير تخصصه، فيضيِّع على نفسه سنين، ويحصل عنده شيء من عدم الاستقرار، ولذلك فإن هذا التخطيط ينبغي أن يكون من مرحلة مبكرة.(120/4)
أمور يجب ملاحظتها على خريجي الثانوية
كما أن هؤلاء المتخرجين من المدارس الثانوية، ينبغي عليهم أن يلاحظوا أموراً، منها: أن هناك مصالح شرعية عظيمة، كأمور تتعلق بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وتربية الناس، قد يكون الإنسان مجيداً فيها، وقد يرى من المصلحة أن يدخل في هذه المجالات ويخدم فيها، ويتأخر معه التركيز الشرعي العلمي إلى مرحلة تالية، ربما تكون بعد تخرجه من هذه الكلية غير الشرعية التي يدرس فيها، وذلك من أجل تحصيل المصالح الأخرى.
فالمسألة إذاً دراسة ومشاورة، وتفكُّر واستخارة، وليست القضية خبط عشواء.
وليس المقصود من عرض منهج طلب العلم إحداث الخلخلة في الأوساط التربوية واحتقار ما فيها والانسحاب منها، بحجة افتقارها إلى الجودة العلمية، وإنما المقصود: إثراء هذه الأوساط وتقويتها، ونشر العلم فيها، ودعمها بالبرامج العلمية الشرعية الجادة، فلا خير في تربية ودعوة بلا علم شرعي، ولا خير في طلب علم لا يرافقه تربية ولا تأديب ولا اشتغال بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
وليس المقصود من عرض صفة طالب العلم إحداث التمرد والمشاغبة على كل مُرَبٍّ وقدوة، بحجة أن عنده شيئاً من النقص في طلب العلم؛ لأن كثيراً من هؤلاء تشغلهم طاعة أخرى عن التفرغ للطلب، وهناك فروض كفايات لا بد أن يقوم بها بعض أفراد الأمة، وإلا أثمت الأمة.
والمقصود أن يتجه الشاب إلى الطلب الجاد مع استمراره في التربية والتلقي في التصورات والمفاهيم الإسلامية، وصقل شخصيته من خلال التقائه بالقدوات، خصوصاً وأن بعض هؤلاء قد لا يكونون متركزين إلا في بعض الجامعات غير الشرعية تركزاً كبيراً يساعد على صقل الشخصية واستمرارية التربية.(120/5)
التخصصات التجريبية
لا يمكن أن يكون المقصود من العرض السابق: إخراج أصحاب التخصصات الدنيوية من دائرة العلم الشرعي، فالعلم الشرعي مراتب، وما لا يدرك كله لا يترك بعضه، ولا شك أن كثيراً من أصحاب هذه التخصصات الدنيوية يتميزون بعقليات جيدة يستوعبون بها كثيراً من العلم، وإنما كان المقصود: أن تحصيل العلم وطلبه يحتاج إلى تفرغ لا يتأتى مع انشغال أصحاب هذه التخصصات بتخصصاتهم، ولكن لا بد من الإعداد العلمي قدر المستطاع، إذ هلْ نترك هؤلاء الطلاب جهالاً؟ أو يقال لهم: استمروا على قراءة الطب، وكتب الهندسة، واتركوا العلم الشرعي بالكلية، ولا تتفقهوا في دين الله! إن الذي يقول هذا لا شك أنه مخطئ، فكيف ندعو الناس إلى ترك العلم الشرعي بالكلية بحجة أنهم في تخصصات دنيوية.
ولعل الفرصة تتاح لهؤلاء لمزيد من التركيز بعد تخرجهم من هذه التخصصات، حيث ينطلقون إلى شيء من التفرغ الذي يتيح له التأسيس مع وجود بعض الحلق العلمية في البلد، وفي بعض الأماكن.
فإذا تخرج وعنده خلفية، وقراءة واطلاع سابق في العلم الشرعي، فإنه يجد نفسه عنده من الحصيلة ما يساعده على الاتجاه المؤسَّس القوي في المستقبل، بخلاف ما لو أهمل ما يستطيعه من الطلب الشرعي أثناء الدراسة الدنيوية، فإنه سيجد نفسه لو أراد التأسيس فيما بعد غريباً كل الغرابة عن مجال العلم الشرعي، والطالب الجامعي الذكي قد يحصّل في الصيف، واستثمار الأوقات أثناء العام، أكثر مما يحصل طالب في كلية شرعية، أقل منه ذكاء وتوقداً.
وإننا نقول للمهندس الذي يتخرج مثلاً ثم يعمل دواماً حكومياً إلى الساعة الثانية والنصف، ويخرج بعد ذلك متحرراً من ربقة الدوام: إنك تستطيع أن تكون طالب علم جيد ولا شك، وقل مثل ذلك وأسهل بالنسبة للمدرس الذي هو أقل دواماً وأكثر إجازات.
لكننا نقول: إن أخذ الأمور بواقعية مهم، وإن الجمع بين نوعين من الدراسة الشرعية وغير الشرعية فيه صعوبة كبيرة، هذا الذي نريد أن نقرره، ونلفت النظر إليه.
ويوجد نوادر تستطيع الجمع بين الأمرين، وكذلك فإن كثيراً من هؤلاء الطلاب في المجالات الدنيوية يستطيعون خلال العُطَل والإجازات عمل شيء كثير لو أحسنوا استغلال أوقاتهم.
ثم إنك تجد في الواقع أن كثيراً من هؤلاء الشباب لا يتجهون اتجاهاً دينياً واضحاً يؤدي في النهاية إلى الاهتمام بالعلم الشرعي؛ إلا في مراحل من الدراسات الجامعية غير الشرعية، فمتى كانت هدايته لدين الله والالتزام بالإسلام إلا في هذه الجامعة! وبعد ذلك سيحس بأهمية العلم الشرعي، ويُقْبِل على طلبه، فيجد صعوبة في الجمع بين الأمرين، فماذا يفعل وقد قطع مشواراً في هذه الكلية؟! هل نقول لهؤلاء: ما دمتم قد اهتديتم في هذه الكليات الدنيوية آخرجوا بعد سنة أو سنتين أو ثلاث، وانطلقوا إلى الكليات الشرعية، واتركوا ما بدأتموه ولم يبقَ على إتمامه إلا شيء قليل؟ لا شك أن ذلك لا يكون من الحكمة في كثيرٍ من الأحيان.(120/6)
نبوغ أصحاب التخصصات
تكلمنا أيضاً أنه قد يوجد من الندرة، ندرة من الناس تستطيع الجمع بين الأمرين، ورغم قلة هؤلاء إلا أنهم أثبتوا أن هذا شيء عملي يمكن أن يقع إثباتاً يمنع اليأس من المحاولة.
ثم إن كثيراً من هؤلاء الطلاب الذين يدرسون في الجامعات غير الشرعية عندما أقبلوا على التعلم وأحبوا دين الله كانوا سبباً لتنشيط العلماء والشيوخ ودفعهم إلى التدريس، بل إن لهؤلاء أثراًَ بارزاً في إبراز دور الشيوخ والعلماء وتسليط الأضواء عليهم، لدرجة أن بعض الشيوخ والعلماء إذا سمعوا أسئلة هؤلاء ومناقشاتهم لا يخطر ببالهم مطلقاً أنهم ليسوا أصحاب تخصصات شرعية، بل لقد علق بعض الأكابر من العلماء على هؤلاء مستغربين؛ لأن كلياتهم ليست كليات طب وهندسة، وإنما هي كليات شريعة ودعوة، بل ربما نصحوا بعض هذه النوعيات بالإتجاه إلى الكليات الشرعية للتخصص.
وإنني أقول: إن وجود هذه الندرة ممن تستطيع الجمع بين الأمرين في الكليات غير الشرعية، وجودهم فيها أمر في غاية الأهمية؛ لأن وجودهم يساعد في ضبط المنهج، والوقاية من الانحراف، والإجابة على الأسئلة والاستفتاءات.
فمن العيب الكبير أن توجد كلية طب أو كلية هندسة مثلاً فيها طلاب مسلمون كثيرون، لا يوجد واحد منهم يجيبهم على سؤال يتعلق بصلاة كسوف، أو خسوف، أو يجيبهم على سؤال يتعلق بأمرٍ من الأمور التي تواجههم في حياتهم، على الأقل يوجد من يحفظ فتاوى العلماء لينقلها إليهم وهذا بحد ذاته نوع من التحصيل للعلم.(120/7)
الجمع بين العلوم الشرعية والدنيوية
إذاً: المحاضرة السابقة كانت مكاشَفة ومصارَحة، وليست تأييساً ولا إحباطاً للمعنويات، علماً أنني وجدت من خلال الأسئلة والتعليقات أن تلك المحاضرة السابقة وافقت هوى في بعض نفوس الكسالى والجهال، وقالوا: ما دام ليس لنا أمل في طلب العلم الشرعي ونحن أصحاب تخصصات غير شرعية، فلنركز على دراساتنا الدنيوية إذاً؛ لنخرج بأحد الأمرين على الأقل، وقالوا: لا يصلح أن نتجه لدراسة شيء من العلم الشرعي، فإن المفهوم أنه ينبغي علينا أن نتخصص ونركز ونتقن هذا التخصص الدنيوي، ونترك طلب العلم الشرعي بالكلية، ولا شك أن هذا من الغلو، ومن الانحراف في الفهم.
وكثير من ضوابط المنهج التي ذكرناها في المحاضرة الماضية تنفع لغير المتفرغ.
فلا بد أن ندرك أن طلب العلم الشرعي ليس مقيداً بالتخصص، وإن كنا نعرف أن طالب العلم غير الشرعي قد لا يستطيع أن يكون طالب علم شرعي قوي ويجمع بين الأمرين، مع صعوبة دراسته وكثافتها؛ لكننا نؤكد على الحقيقة، ونقول مرة أخرى: إن المطلوب منك يا أيها الدارس في الكلية غير الشرعية، أمر يحتاج إلى تصميم ومجاهدة لأن فيه صعوبة بالغة؛ لأنك تحتاج أن تجمع بين أمرين لا يتيسر الجمع بينهما بسهولة.
ولا شك أن مما يميز الدعوة الصحيحة: اقترانها بطلب العلم الشرعي على قدر المستطاع، فلا بد من حضور الدروس والحلق الممكن حضورها، والقراءة في كتب العلماء، وإنما نقول: إن طالب علم الشريعة المتخصص في كليته الشرعية عنده فرصة أكبر وأمره أسهل، وفرصة طالب العلم الدنيوي في طلب العلم الشرعي أقل بالنسبة لطالب الكلية الشرعية، ولا يعني هذا أن طالب الشريعة سيكون طالب علم بتخصصه بالضرورة، ولا يعني أن طالب العلم الدنيوي لا يمكن أن يكون طالب علم شرعي بحالٍ من الأحوال.
وطالب العلم الدنيوي إذا طلب العلم الشرعي فإنه يحتاج إلى جهد أكبر، لأنه يعاني من ازدواجية، لكنه مطالَب بتخصص ينفع به المسلمين أو يبر فيه والديه، ومطالب كذلك بتعلُّم دين الله.(120/8)
المنهج السويّ لطلب العلم
ننتقل الآن لإكمال ما تبقى من الضوابط المتعلقة بالمنهج والإرشادات والنصائح في طلب العلم، وقد ذكرنا في المرة الماضية أموراً تتعلق بالتدرج والأولويات:- ونضيف إلى ذلك: أن أصل العلوم النقلية هي: الشرعيات من الكتاب والسنة التي شرعها الله ورسوله.
ثم يستتبع ذلك علوم اللسان العربي الذي هو لسان الملة، وبه نزل القرآن.(120/9)
أصناف العلوم النقلية
أصناف العلوم النقلية كثيرة؛ لأن المكلف يجب عليه أن يعرف أحكام الله تعالى المفروضة عليه، وهي مفروضة من الكتاب والسنة؛ بالنص، أو بالإجماع، أو بالإلحاق.
فلا بد من النظر في الكتاب ببيان ألفاظه أولاً.
ما هو الكتاب؟ القرآن الكريم.
وهذا هو: علم التفسير.
ثم بإسناد نقلته وروايته إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء به من عند الله، واختلاف روايات القراء في قراءته، وهذا هو: علم القراءات.
ثم بإسناد السنة إلى صاحبها، والكلام في الرواة الناقلين لها، ومعرفة أحوالهم وعدالتهم؛ ليقع الوثوق بأخبارهم، بعلم ما يجب العمل بمقتضاه من ذلك، وهذا هو: علوم الحديث.
ثم لا بد في استنباط هذه الأحكام من أصولها من وجه قانوني يفيد العلم بكيفية هذا الاستنباط، وهذا هو: أصول الفقه.
وبعد هذا تحصلُ الثمرة بمعرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين، وهذا هو الفقه.
فإذاً: القرآن، والحديث، والفقه.
وهناك علوم آله، ذكرناها أيضاً، مثل: أصول الفقه، والمصطلح، واللغة.
قال ابن خلدون رحمه الله: ثم النظر في القرآن والحديث لا بد أن تتقدمه العلوم اللسانية؛ لأنه متوقف عليها، وهي أصناف، فمنها: 1 - علم اللغة.
2 - وعلم النحو.
3 - وعلم البيان.
4 - وعلم الأدب.(120/10)
كيف تتدرج في دراسة فن؟
ذكرنا في موضوع التدرج أموراً، ونضيف إليها كذلك: تلقي مسائل كل باب من أبواب الفن أولاً:- فإذا أراد الإنسان أن يدرس فنّاً من الفنون، فكيف يتدرج في دراسته؟ أولاً: يتلقى مسائله الأصلية -أصول الفن- ويقرأ شرحها ويَسْمعه من الشيخ على سبيل الإجمال، ويراعي في ذلك استعداداته وعقليته حتى يُنهِي الفن بشكل مُيَسَّر مبسَّط شامل في البداية، فيتهيأ لفهم الفن وتحصيل مسائله بعدما أخذ فكرة إجمالية عنه.
ثم يرجع إليه مرة ثانية بمرحلة أعلى من الأولى فيها رتبة أعلى، فيستوفي الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، وتُذْكَر له أوجه الخلاف إلى أن يتمه مرة أخرى.
ثم يرجع ثالثة وقد اشتد فلا يترك عويصاً ولا مغلقاً إلا فتح مُقْفَله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته وحصل له بذلك نفع كبير.
فإذاً هذا التدرج وهو في الغالب يأتي على ثلاث مراحل.
كما ذلك ذكر بعض أهل العلم، هذا أمر مهم؛ لأن بعض الطلاب إذا أراد أن يدرس فناً، فإنه يريد أن يأتي من أوله على دقائقه، وتفصيلاته، ومسائله، وتعقيداته، وعُمقه، وهذا خطأ، فلا بد أن يأخذ ما يلي: أولاً: فكرة إجمالية عبر متن مبسَّط سهل في شرح عام من دون الغوص في التفاصيل، ثم بعد ذلك المرحلة الثانية: يعرف الخلافات، ثم المرحلة الثالثة: يغوص في دقائقه ومصاعبه.
لأن المتعلم إذا حصَّل مَلََكة في علمٍ من العلوم استعدَّ بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد، أما إذا غاص من البداية في عمقه فإنه يعجز عن الفهم، ويحصل له يأس من التحصيل.
وتكلمنا كذلك على مسألة البدء بصغار العلم قبل كباره، وهذه تتبع التدرج، وقال الله عز وجل: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] والرباني هو: الذي يبدأ بصغار العلم قبل كباره، ويعلم الناس صغار العلم قبل كباره.
وقد قال بعض العلماء وهو علي بن المديني -رحمه الله- معلقاً على هذه المسألة في قضية طلب الحديث؛ لأن طلاب الحديث كانوا يكتبون الحديث في البداية يكتبون الحديث البسيط الذي له طرق بسيطة، ثم يبدءون يكتبون الحديث الذي له طرق أكثر وهكذا يتدرجون.
فقال ابن المديني ضارباً المثل على هذا المفهوم: إذا رأيت الحَدَث أول ما يكتب الحديث يجمع حديث الغُسْل وحديث مَن كذب، فاكتب على قفاه: لا يفلح؛ لأن حديث الغسل وحديث مَن كذب هذه أحاديث أطرافها واسعة، وطرقها كثيرة جداً، فإذا بدأ بها بدأ معناها بالمقلوب بدأ بالواسع بدأ بالكثير ولم يبدأ بالسلم من بدايته.
وقال ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- فيما ينبغي على طالب العلم أن يجمع: ينبغي عليه أن يتدرج، فيأخذ المبسط، ثم بعد ذلك يضيف إليه ما اجتنى من الثمرات، ويقتنص الفوائد.(120/11)
من أسباب القصور في تحصيل الفقه
اعلم رحمك الله تعالى -أيها الأخ المسلم- أن الذين يبدءون بطلب العلم في الفقه مثلاً، فيبدءون في العبادات مثلاً بالطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، فتقصر هِمَمُهم ويتوقفون ولا يدخلون في المعاملات بعد ذلك، فلا يعرف البيع، والنكاح، والإجارة، وغير ذلك من أنواع الفقه.
ولعل السبب في هذا أمور، فمنها: 1 - عدم التوجيه.
2 - أو البدء بكتاب صعب.
3 - أو الدخول في حلقة متقدمة جداً.
4 - أن يأخذ الفقه في دروس متباعدة، كأن يقتصر على الإجازات فقط في كل سنة، فلا ينتهي من الصلاة ولا من الزكاة إلا بعد فترة طويلة جداً يفتر فيها حماسه.
فلا بد إذاً أن تكون الدروس متقاربة قدر الإمكان، خصوصاً في العلوم التي تحتاج إلى فترة في التحصيل لأنها طويلة، مثل: التفسير، والحديث، والفقه.(120/12)
طرق التحصيل لكل فن
لا بد أن نعرف أن طرق التحصيل لكل فن يتلخص فيما يلي: أولاً: حفظ مختصر فيه.
ثانياً: ضبطه على شيخ متقِن.
ثالثا: عدم الاشتغال بالمطولات والتفاريع قبل ضبط الأصل وإتقانه.
رابعاً: عدم الانتقال من مختصر إلى آخر دون سبب وجيه.
يتم الضبط بالقراءة على شيخ، أو بالرجوع إلى معاجم اللغة، وكذلك كتب الضبط التي كتبها العلماء، اصطلاحات العلماء، أو التأمل في العبارة، والقاعدة تقول: (إنما يُشْكَّل ما يُشْكِل) ما الذي يُشْكَّل بالضمة والفتحة والكسرة والسكون؟ هو الذي يُشْكِل، كما أن الدابة تُضْبَط بالشِّكال فتُقَيَّد.
إذاً: العبارة التي تُضْبَط تقيد بالضبط حتى لا يحدث التباس في إعرابها, ومما قالوه في هذه المسألة: أولى الأشياء بالضبط: أسماء الناس؛ لأنه شيء لا يدخله القياس، ولا قَبْله شيء يدل عليه، ولا بعده شيء يدل عليه، أسماء الرواة مثلاً.(120/13)
التصرف مع المتون الصعبة
كذلك من الأمور والمصاعب التي تواجه طالب العلم: أنه يقع على متن من المتون الصعبة، وهذه المتون الصعبة بعض العلماء أراد أن يختصر العلم الكثير في مقطوعة قصيرة، أو في منظومة قليلة الأبيات للتيسير، فالذي حصل مع هؤلاء أنهم صعَّبوا الأمور وعقدوها؛ لأنهم يريدون أن يجعلوا المعاني الكثيرة في ألفاظٍ قليلة، فيأتي الطالب المبتدئ فيجد المتن أمامه صعباً لا يستطيع أن يحل رموزه.
ولذلك لا بد أن ينتقي متناً سهلاً يدرسه على شيخ قدر الاستطاعة، أو يأخذ لهذا المتن شرحاً يفك إشكالاته، فإذا كان الأصل فيه بساطة فكذلك الشرح سيكون متيسراً بطبيعة الحال.(120/14)
المواصلة والاستمرارية
ومن الأمور المهمة: المواصلة والمواظبة والاستمرارية، وهذا الأمر قد أشرنا إليه في السابق، ونزيد عليه بأن بعض الطلاب الذين يعتريهم الفتور ينبغي أن يكون الحماس متولداً، وينبغي أن يكون هناك في الوسط مَن يحمِّس ويشعل الحماس مرة أخرى، وينبغي إذا غابت الدروس فترة في الامتحانات أن تعود للظهور مرة أخرى، حتى تحصل العودة.
ولا شك أن من ضعف الحماس أن يوجه الإنسان فترات مثل فترات الامتحانات والاختبارات، ولكن يجب أن يبدأ بعدها بانطلاقة كبيرة؛ لأنه من المفترض أن يكون متشوقاً متلهفاً لإكمال المشوار.
كان رجل يطلب العلم فلا يقدر عليه، فعزم على تركه، فمر بماء ينحدر من رأس جبل على صخرة قد أثَّر فيها، فقال الرجل: الماء على لطافته قد أثَّر في صخرة على كثافتها! والله لأطلبن، فطلب، فأدرك.
ولذلك فإن المسألة تحتاج إلى مواصلة ومتابعة، وبالتدرج وبمرور الوقت يحصِّل الإنسان أشياء كثيرة.(120/15)
استعجال النتيجة
ومن أسباب ترك المنهجية في الطلب: استعجال النتيجة، فبعض الناس يتصورون أنه لا بد أن يحصل المسائل ويجمع الأشياء في مدة قليلة، وأنه يستطيع أن يفعل ذلك، وخصوصاً إذا بدأ طالب العلم بدراسة علوم الآلة، ودراسة علوم الآلة لا تُشْعِر الدارس أنه قد حصَّل علماً كثيراً؛ لأنه يدرس أشياء في المصطلح والأصول والنحو، لا يحس أنه قد جمع وحفظ ووعى مسائل، ويحس أن دائرة معلوماته قليلة، وفي الجانب المقابل ينظر إلى الفوضوي الذي لا يدرس على أصول، ولا على منهج، ولا يدرس مثلاً علوم الآلة إنما يفتح الكتب فقط ويقرأ، ويجمع من هنا ومن هنا، فتحدث في خلال النقاشات أشياء تُشْعِر الشخص الدارس على منهج والذي يبدأ بدراسة علوم الآلة أن الشخص الفوضوي الآخر أحسن منه، وأنه جمع ما لم يجمع، وحصَّل ما لم يحصِّل، فيتأسف ويقول: لا فائدة إذاً من هذا المنهج الذي لم يزِدْني شيئاً؛ لكن ليعلم أنه بعد سنوات عندما يقارن نفسه وقد أسَّس نفسه بالآخر الفوضوي الذي يقرأ مما هبَّ ودبَّ أنه يكون أحسن وأوعى وأحفظ وأضبط، وأكثر جمعاً للمسائل في النهاية، وقد تشابكت عنده أطراف العلم، وتشابكت عنده الخطوط وتقاطعت، فترسخت هذه الأمور في نفسه.
ولا يصلح أن تشعرك النقاشات مع بعض الفوضويين وتحس أن عندهم أشياء وأطراف بحيث ينبغي عليك أن تترك المنهج؛ لأنه لم يفِد ولم يؤدِّ إلى تحصيل أشياء كثيرة في وقت قليل، وأصحاب التجميعات هؤلاء ما عندهم أسس ولا قواعد، ولذلك يصعب النقاش معهم، وكثير من الشباب يتركون المنهجية من أجل القفز، والعجلة من الشيطان، من أجل القفز، يقولون: إذن نحصل العلم بسرعة، ونأخذ ونقرأ الكتب الطويلة، وهم ما بدءوا بالكتب الأساسية، والعلم لا يأتي بسنة ولا بإتمام منهج (البكالوريوس) في العلوم الشرعية، وإنما لا بد أن يصبر الإنسان حتى يحصِّل، ومن صبر ظفر.(120/16)
إفناء العمر في علوم الآلة
من الأخطاء التي يقع فيها البعض في المقابل: إفناء العمر في علوم الآلة، فيتبحر في النحو، أو في الأصول، أو في المصطلح، ويترك معاني القرآن والسنَّة، مع أنك تدرس علوم الآلة لغرض فهم معاني القرآن والسنة، فهل تتبحر فيها تاركاً علوم معاني القرآن والسنة؟ هذا خطأ.
فإذاً علوم الآلة ليست مقصودة لذاتها، وإنما تراد لغيرها، وهي مرقاة للوصول إلى فهم الكتاب والسنة، فلا يصح إفناء العمر فيها.(120/17)
تقييد العلم بالكتابة
ومن الأمور المهمة أيضاً في طريق طلب العلم: تقييد العلم وخصوصاً الفوائد، والشوارد، واستعمال هوامش الكتب، وبعض الشباب إذا اشترى كتاباً فوجد فيه صفحة بيضاء من أوله وصفحتين في آخره، قال: ما بال هؤلاء الأغبياء يضيعون الأوراق! مع أنه ما عرف أن لهذه الأوراق البيضاء فوائد كثيرة في كتابة اللطائف والشوارد والأشياء التي قد لا تكون موجودة في محل يسهل الوصول إليه، فيقيدها في أول الكتاب أو في آخره، أو كتابة بعض التحقيقات، أو الإضافات، وكذلك ترتيب الهوامش والجوانب في كل صفحة؛ لأنك إذا أردت أن تكتب شرحاً على متن مثلاً فتحتاج أن تجعل الشرح أمام العبارة؛ لأن بعضهم لا يحسن الحساب، فيبدأ يكتب بخط طويل أو بخط كبير من أوله، فلا يجد نفسه إلا وقد أتى في شرح العبارة الأولى إلى موضع العبارة الخامسة، فلم يرتب الصفحة، ولم يحسب الحساب، وهذا فن بحد ذاته، وهو قضية إعداد الهوامش وإعداد الجوانب وترقيمها، ووضع أرقام في كلا الجانبين في الأصل وفي الشرح وفي الحاشية، حتى تعرف أن هذا الشرح لهذه العبارة وهكذا، وحسن تنظيمها وترتيبها يساعدك على استذكارها واستعادتها مرة أخرى.
وأما تقييد العلم فقد جاء فيه أحاديث، ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (قيدوا العلم بالكتاب).
وكان لـ علي صحيفة كَتَب فيها أحاديث.
ولـ عبد الله بن عمرو بن العاص صحيفة يقال لها: الصادقة.
وقال الشعبي: لا تدع من العلم شيئاً إلا كتبته.
وقالوا: الحِبْر عِطْر الحَبْر.
مَن هو الحَبْر؟ العالِم.
والِحبْر؟ حِبْر المحبرة، المداد.
قالوا: الحِبْر عِطْر الحَبْر، الناس الآن يضعون (كالونيات) وأشياء وعطورات، والعالِم عِطْره حِبْر قلمه.
العلم صيدٌ والكتابة قيده قيد صيودك بالحبال الموثقة
فمن الحماقة أن تصيد غزالة ثم تدعها في البراري مطلقة(120/18)
الانشغال بالكتابة عن الحفظ والتدبر
وفي المقابل من الأشياء المهمة: الحذر أن تشغلك الكتابة عن الحفظ والتدبر، قال ابن الجوزي رحمه الله: تأملت حالة تدخل على طلاب العلم توجب الغفلة عن المقصود، وهو: حرصهم على الكتابة خصوصاً المحدِّثين، فيستغرق ذلك زمانهم عن أن يحفظوا أو يفهموا، فيذهب العمر وقد عرُوا عن العلم إلا اليسير، فمن وُفِّق جعل معظم الزمان مصروفاً في الإعادة والحفظ، وجعل وقت التعب من التكرار للنسخ فيحصل له المراد.
وهذه مسألة مهمة.
العلم الأساس، ما هو العلم؟ هو المحفوظ في الصدور، فإذا صرف الإنسان وقته للكتابة، هناك بعض الشباب مثلاً يجيدون كتابة الأبحاث، فيكتبون أبحاثاً وأشياء كثيرة وتحقيقات؛ لكنهم لا يصرفون وقتاً في الإعادة والتكرار والحفظ، مع أن هذا هو العلم في الأصل، أصل العلم هو: ما وقر في النفس.
فهؤلاء عندهم أبحاث كثيرة جداً؛ لكنك لو جئت سألته عن مسألة؟ يقول: لحظة أبحث على أوراقي الأوراق غير موجودة أوراقي ليست مفهرسة ضاعت أوراقي، وإن سألته في الشارع أو في مكان ليس عنده أوراقه فيقف أمامك مبهوتاً مفلساً، ليس عنده شيء.
ولذلك لا بد أن يكون أكثر الوقت للحفظ والتكرار، ووقت آخر لتقييد الفوائد والشوارد، وكتابة الشروح؛ لأنك إذا لم تكتبها ربما تضيع منك فما هو الحل؟ أن تكتبها، وكذلك لو قلنا لك: اكتب دائماً، اعمل بحوثاً، واكتب حواشٍ، وما قرأت هذه الحواشي، ولا قرأت المتن ولا شرحه ولا الأصل ولا التعليق عليه، فكيف يكون هذا طلب علم؟! لا يكون طلباً.
وقال ابن الجوزي رحمه الله: ولما كانت القوة تَمَل فتحتاج إلى تجديد، وكان النسخ والمطالعة والتصنيف لا بد منه، مع أن المهم الحفظ، وجب تقسيم الزمان على الأمرين، فيكون الحفظ في طرفي النهار وطرفي الليل، ويوزع الباقي بين عمل النسخ والمطالعة، وبين راحة البدن وأخذ لَحْظة، ولا ينبغي أن يقع الغبن بين الشركاء.
قال: والنفس تهرب إلى النسخ والمطالعة والتصنيف عن الإعادة والتكرار؛ لأن ذلك أشهى وأخفَ عليها، فلو سألتكم سؤالاً، فقلت: هل الأصعب على النفس التكرار والحفظ أو الكتابة والتدوين؟
الجواب
التكرار والحفظ؛ لأنه يحتاج إلى مجهود أكبر، ولأنه يحصل فيه ملل، أما الكتابة فأنت تنتقل من شيء إلى شيء، ومن مسألة إلى أخرى، وتدوِّن، وكذا الحفظ فأنت تحتاج أن تقرأ العبارة عشر أو عشرين مرة حتى تحفظها، وهذا يوجِد مللاًَ، ولذلك يجب على الإنسان أن يقاوم نفسه، ولا ينجرف معها فيما تتجه إليه.
وقال أيضاً رحمه الله: ما رأيت أصعب على النفس من الحفظ للعلم والتكرار، وخصوصاً تكرار ما ليس له نفس في تكراره وحفظه، وكذلك حفظ مسائل الفقه بخلاف الشعر والسجع، فإن للنفس لذة في إعادته.
لكن ينبغي للعاقل أن يجعل جُلَّ زمانه للإعادة، خصوصاً الصبي والشاب، فإنه يستقر المحفوظ عندهم استقراراً لا يزول، وسيندم من لم يحفظ وقت الحاجة إلى النظر والفتوى، وينبغي أن يُحْكِم الحفظ، ويكثر التكرار ليثبت قاعدة الحفظ.
إذاً: صرف الوقت الأكثر للحفظ، وحفظ بعض الأشعار والأدبيات جيدة من باب الترويح على النفس؛ لكن لا تصبح هي المقصود وهي الهم الأكبر.(120/19)
تأجيل علم لم يُفهم في الحال
ومن القواعد كذلك في الطلب أنه إذا استغلق عليك فهم علم، أجِّله حتى تتهيأ لك فرصة أخرى للفهم، فبعض الشباب مثلاً يريد أن يدرس النحو، فيبدأ بكتاب ويقرأ في شرحه، فيجد أنه لا يفهم في النحو ولا يجيده، ولم يفقه فيه، ما زال عنده التباس بين الفاعل والمفعول، وبين الحال والتمييز وهكذا من أنواع الأشياء وأقسامها.
فإذا ما وجد انطلاقة في البداية فإنه في هذه الحالة يؤجل دراسة هذا العلم فترة من الزمن لعله أن يلاقي أو يصادف انفراجاً في نفسه، وفرصة للإتيان عليه، كما يُحكى عن الخليل فيما ذكر الأصمعي أنه اجتمع بـ الخليل بن أحمد -رحمهما الله- وحرص على فهم علم العَروض من الخليل فأعياه ذلك، حاول وحاول، فما وجد فائدة، فقال له الخليل يوماً: قطِّع لي هذا البيت:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيعُ
لم يكن مقصود الخليل أن يقطِّع الطالب هذا البيت، لكن كان مقصوده هو المعنى الذي انطوى عليه البيت: وقد حصلت مثل هذه القصة مع العلامة محمد بن الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى- فإنه كان يدرس عليه بعض الطلاب علم النحو، وكان أحد هؤلاء الطلاب يدرس عليه النحو، ويحاول أن يفهم مع الشيخ لكن دون فائدة، فقال له الشيخ محمد الأمين -رحمه الله- أعرب هذا البيت:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيعُ
والفرق أنَّ الأصمعي فهم المقصود والطالب لم يفهم المقصود، فجلس يُعرب، ويحاول أن يُعرب، لكنه لم يفهم المقصود.(120/20)
استقبال العلم بالتفكير والإبداع السوي
كذلك من الأمور المهمة في طلب العلم: الإقبال على العلم بالتفكير الطبيعي والعقل السوي، فالفهم العادي السوي مهم جداً، والتفكير الفطري الخالص عن التعقيدات والشذوذات والأغلوطات والشبهات اترك المداخلات جانباً، أقبل على العلم بنفسية طبيعية، وتفكير عادي، واترك قضية الشبهات، لا تثير على الشيخ وأنت في البداية الشبهات، تقول: وإن كان كذا، وإن كان كذا، حسناً يمكن المقصود كذا، دع التعقيدات، والأغلوطات جانباً، ودع الشذوذات؛ لأن بعض الناس من كثرة مقاطعاتهم عقولهم قد لا تستقيم وتفهم العلم بشكل طبيعي، وإنما يحاولون الإتيان بالغرائب والعجائب، وأن يأخذ المسألة من بابٍ غير اعتيادي، والنتيجة تتعقد عليه الأمور ولا يفهم، اترك الجدال في البداية، وفرِّغ بالك للتعلم بالطريقة الطبيعية، وهذه مسألة في غاية الأهمية.
أما بالنسبة لقضية المطولات، وجرد المطولات، وقراءة المطولات، مثلاً: جامع الأصول، والبداية والنهاية، ودرء تعارض العقل والنقل، وتاريخ بغداد، وما شابه ذلك من الكتب الطويلة، فهذه ليس موقعها في البداية، ولا في الوسط، وإنما تكون في مراحل متأخرة، وقد يفعل هذا من يريد جمع فوائد، أو تحضير محاضرة أو درس، لكن ليس لمن يريد أن يؤصل نفسه تأصيلاً علمياً قوياً، وهذا يشغل عن التأسيس أن تقول: يكفي أن أقرأ البداية والنهاية، وأقرأ جامع الأصول وأقرأ وأنت لم تبدأ بعد بـ الأربعين النووية في شيء مبسَّط، ولا في كتاب في الفقه مبسّط، أو في كتاب في السيرة مبسّط، تريد أن تقرأ هذه المطولات من البداية؟! كلا! هذه ليس محلها البداية.
وهناك نظرية بدأت تنتشر عند بعضهم وهي مُوْضَة هذه الأيام، بعض الذين يريدون طلب العلم اعتقاداً أنهم إذا قرءوا المطولات على بعض المشايخ فإنهم يكونون قد حصلوا العلم، فيقولون: يا شيخ، نريد أن نقرأ عليك زاد المعاد من أوله إلى آخره، نتفرغ أسبوعين ثلاثة شهر، ننهي عليك زاد المعاد والبداية والنهاية، وجامع الأصول وننهي عليك، هذه العملية بهذه الطريقة ليست طلب علم بطريقة منهجية صحيحة، لا يتسنى للشيخ أن يعلِّق، ولا ليشرح، وقُصارى ما يحدث أن يقول هذا الطالب: ختمت الكتاب على الشيخ الفلاني، ليس المقصود أن تختم خمسة مجلدات أو عشرة، المقصود أن تدخل من باب التأسيس، ولذلك كان العلماء يجعلون لهم كتباً مثل: درء تعارض العقل والنقل واقتضاء الصراط المستقيم، وزاد المعاد ونحو ذلك في أوقات ليست أوقات طلب أساسية، مثلاً: بعد الظهر أحياناً، وكذلك كثير من الكتب لم تكن توضع في الفترات الأساسية للطلبة، إذا كانت عندك الأشياء الأساسية في الأوقات المحددة فلا مانع أن تأخذ مثل كتاب غذاء الألباب أو الآداب الشرعية، أو إغاثة اللهفان، في غير أوقات الطلب الأساسية.
وكذلك بعضهم يفكر في قراءة كتب السنن، من أول ما يطلب يقول: نريد أن نقرأها ونأتي عليها وعلى مجملها، فنقول: تمهل رويدك، فليست القضية الآن جرد السنن والنصوص، وإنما المسالة مسألة تجرد.(120/21)
عقد قران بين الأثر والنظر
ومن أساسيات المنهج في الطلب وخصوصاً التفقه في الدين: الجمع بين الأثر والنظر، وقد قامت عداوة مفتعلة بين أهل الفقه وأهل الحديث، وطار بعض شررها، وتأثر منه كثير من الناس، ولكن العاقل الذي ينظر إلى العلماء المحققين ماذا قالوا في المسألة في قضية أهل الحديث وأهل الفقه، أو أهل النظر وأهل الأثر أو أهل الرأي وأهل الحديث؟ قيل: إن في الحجاز اشتهر مذهب أهل الحديث، لكثرة مذهب أهل الحديث؛ لأن الأحاديث كثيرة، والنصوص متوافرة، والعلماء موجودون، الذين سمعوا هذه النصوص ودرَّسوها، بينما كانت في العراق مثلاً: تشتهر مدرسة أهل الرأي؛ لأن الحديث فيها قليل، وطلاب الحديث فيها قليل، هذا مر في فترة من الفترات، كان هكذا.
فالآن بالنسبة للاتجاه في الحديث والفقه، أو قضية التفقه كيف تكون؟! الصواب: أن تكون جمعاً بين الأثر والنظر، قال الخطابي -رحمه الله- في كلام عظيم متين في مقدمة كتابه معالم السنن شرح سنن أبي داود، قال: رأيت أهل العلم في زماننا قد صاروا حزبين وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر.
وأصحاب فقه ونظر.
وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البنية والإرادة، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخَرَاب.
ووجدنا هذين الفريقين -على ما بينهما من التداني في المحلين، والتقارب في المنزلتين، وعموم الحاجة من بعضهما إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهما إلى صاحبة- إخواناً متهاجرين، وعلى سبيل الحق في لزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين.
فأما هذه الطبقة الذين هم أهل الأثر والحديث: فإن الأكثرين منهم إنما وَكْدُهم الروايات وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مكذوب، لا يراعون المتون ولا يفهمون المعاني.
وربما عابوا الفقهاء، وتناولوهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أتوه من العلم قاصرون، وبسوء القول فيهم آثمون.
-وفي الجانب المقابل، الذين يقولون: يزيد فقهاً فقط ولا يزيد نصوصاً وأدلة، وإنما ننظر ونرى في الأمر، قال: وأما أهل الطبقة الأخرى وهم أهل الفقه والنظر: فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئة، ولا يعبئون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها، ووافق آراءهم التي يعتقدونها، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف، والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتُهر عندهم وتعاورته الألسن فيما بينهم -يقولون: هذا حديث مشهور في كتبنا، في كتب الفقهاء، حسناً: انظر، قد يكون ضعيفاً لا يصح الاحتجاج به- من غير ثبت فيه، أو يقين علم به، فكان ذلك ضِلَّة من الرأي، وغبناً فيه.
ثم قال: وهؤلاء لا يقبلون من أقوال الأئمة أبي حنيفة إلا من طريق أبي يوسف ومحمد بن الحسن، ولا يقبلون قول مالك إلا من طريق ابن القاسم والأشهل، ولا يقبلون قول الشافعي إلا من طريق المزني والربيع.
حسناً: إذا كنتم لا تقبلون كلام أئمتكم إلا من خلال التلاميذ الموثوقين، فالأحرى ألا تقبلوا الكلام الذي ينسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام إلا من طريق الثقات المعروفين.
فهذا خلاصة الجمع بين الأثر والنظر بين الفقه والحديث، الفقه يجب أن يكون مختلطاً بالحديث.
قال الترمذي: سمعت أبا عبد الله يقول: إذا كان يعرف الحديث ويكون معه فقه أحب إلي من حفظ الحديث لا يكون معه فقه.
وقال سفيان بن عيينة: "يا أصحاب الحديث! تعلموا معاني الحديث، فإني تعلمت معاني الحديث ثلاثين سنة.
وهؤلاء الذين يعتمدون على الأحاديث دون الفقه، ويجمعون الطرق ويُضرِبُون عن معرفة الواجبات، حتى أن أحدهم يشتغل عن أركان الصلاة، فلا يدري ما هي؟ وقد يستحيي من رد الفتوى، يجمِّع أحاديث ويحفظ دون فقه، فيفتي بما لا يحسن ذكره.
حتى أن امرأة سألت أحد هؤلاء الذين يجمعون الحديث فقط دون الفقه وهو في مجلس مع أناس كثيرين، قالت: إني حلفتُ بصدقة إزاري فماذا أفعل؟ فقال: بكم اشتريتيه؟ قالت: باثنين وعشرين درهماً، فقال: صومي اثنين وعشرين يوماً، فلما ذهبت جعل يقول: آه! غلطنا والله، أمرناها بكفارة الظهار، وكفارة الظهار صيام كم يوم؟ ستين يوماً وهذا أول ما قال: بكم اشتريتيه؟ قالت: باثنين وعشرين درهماً، قال: الحل بدل كفارة الحلف هذا: صومي اثنين وعشرين يوماً، ثم قال: آه! غلطنا، أعطيناها كفارة الظهار.
إذاً: مثل هذا كيف يصلح أن يعلِّم الناس؟! الاشتغال بالنصوص فقط من غير معرفة المعاني خطأ، ولذلك قلنا: إن بعض الشباب يخطئون عندما يتفقهون بـ صحيح الجامع، ويكون علمهم من كتاب، مثل صحيح الجامع كتاب أحاديث، صحيح أنها أحاديث مخدومة ومخرجة، لكن هل موجود فيها الشروح، قد يكون الحديث منسوخاً، قد يكون مخصوصاً، فإذاً هذه الطريقة لا تصلح، والانشغال فقط بالنسخ ومعرفة الصحيح من الضعيف، والجرح والتعديل، واتصال السند، وجمع الطرق، ثم لا تعرف معنى الحديث، هذا عيب كبير.
زوامل الأخبار لا علم عندهم بمُثقلها إلا كعلم الأباعدِ
لعَمْرُك ما يدري البعير إذا غدا بأوساقه أو راح في الغرائر(120/22)
الفقه عمدة العلوم
ثم ننتقل إلى قضية تعلم الفقه وأهمية القفه: قال ابن الجوزي رحمه الله: إن الفقه عليه مدار العلوم، فإن اتسع الزمان للتزود من العلم فليكن من الفقه فإنه الأنفع.
وقال الشافعي لـ يونس بن عبد الأعلى: عليك بالفقه، فإنه كالتفاح الشامي، يحمل من عامه.
وقال ابن الجوزي: الفقه عمدة العلوم.
وقال محمد بن الحسن: كان أبو حنيفة يحثنا على الفقه وينهانا عن الكلام، وكان يقول: لعن الله عمرو بن عبيد، لقد فتح للناس الطريق إلى الكلام فيما لا يعنيهم.
وقال بعض العلماء: أفضل العلوم بعد علم التوحيد معرفة الفقه والأحكام الفاصلة بين الحلال والحرام.
فلا شك أن علم التوحيد أشرف العلوم العلم بالله، وأسمائه، وصفاته، وربوبيته، وألوهيته، هذا أشرف العلوم ليس هناك شك، وبعده يكون الفقه، وكل ذلك خاضع الكتاب والسنة، ليس هناك شك، والاعتناء بالدليل، وصحة الدليل كيف تعتقد شيئاً لم يصح؟! وكيف تعمل بشيء في الحلال والحرام لم يصح؟! وقال كذلك: أعظم دليل على فضيلة الشيء النظر إلى ثمرته، ومن تأمل ثمرة الفقه عرف أنه أفضل العلوم، واعتبر هذا بأهل زماننا، فإنك ترى الشاب يعرف مسائل الخلاف الظاهرة فيستغني، وكم رأينا مبرزاً في علم القرآن، أو في الحديث، أو في التفسير، أو في اللغة، لا يعرف مع الشيخوخة معظم أحكام الشرع، وربما جهل علم ما ينويه في صلاته.
على أنه ينبغي للفقيه ألا يكون أجنبياً عن باقي العلوم، فإنه لا يكون فقيهاً، بل يأخذ من كل علم بحظ، ثم يتوفر على الفقه، فإنه عِزٌّ الدنيا والآخرة.
فإن سألت عن منهج دراسة الفقه وكيف ندرس الفقه؟ فالجواب باختصار في ابتداء دراسة الفقه: أن تجمع بين متن فقهي ميسر يُشرح على شيخ ثقة، ومتن حديثي يُطعِّم الفقه بأحاديث الأحكام.
وإذا أردت أن تدرس متناً خالياً من الأدلة فلتدرسه على شيخ يبين لك الراجح بالأدلة.
وإذا وجدت الشيخ لا يهتم كثيراً بالأدلة، فاختر كتاباً فيه أدلة، فمثلاً: تُقدّم منار السبيل على زاد المستقنع؛ لأن منار السبيل أكثر أدلة، أما إذا وجدت الشيخ مبيناً الأدلة فلا بأس أن تدرس عليه متناً في الفقه، لا تكثر فيه أو تندر فيه الأدلة؛ لأنه سيبين الأدلة من خلال الشرح.
إذاً: لا بأس بقراءة كتاب من كتب المذهب -مثلاً- على شيخ أو طالب علم يذكر فيه الراجح بالدليل، فيؤصِّل للمسائل من خلال الشرح.
أما الكتاب بمجرده فقد لا يعطي لك شيئاً كثيراً في الغالب، ودراسة الفقه من غير نصوص تورث أخذ الأقوال بلا أدلة، والتقليد مذموم، والمُتَعَصِّبَة يدرسون الفقه دون حديث، وبعض السطحيين في المقابل يدرسون الحديث دون فقه، فلو جمعتَ بين كتاب في كل جهة منهما لكن ذلك جيداً، فلو درستَ العمدتين، عمدة الفقه لـ ابن قدامة، وعمدة الأحكام لـ عبد الغني -رحمهما الله- لكان هذا الجمع جيداً جداً، أو أخذتَ مثلاً زاد المستقنع مثلاً مع كتاب بلوغ المرام تجمع بين المتن الفقهي وبين المتن الحديثي فإن ذلك خير عظيم.
ثم بعد ذلك تتدرج في الفقه، تأخذ كتاباً واحداً ليس فيه إلا قول واحد حتى لا تتشتت، القول موجود مع الدليل، ثم بعد ذلك تنتقل إلى معرفة القولين أو الخلاف في المسألة ونحو ذلك، أو ما يوجد في المذاهب الأخرى، وتأمل ابن قدامة -رحمه الله- كيف رتب المنهج، فإنه أولاً جعل عمدة الفقه قولاً واحداً، ثم المقنع قولين، ثم الكافي فيه تفصيل أكثر، ثم المغني فيه فقه مقارن.
فالذي يريد أن يدرس المسائل من المغني مباشرة من أولها، وهو لم يُجِدْ على الأقل قولاً في المسالة بدليلٍ يعرفه، فهذا يُضيّع كثيراً، ولو ذهبت إلى بلد في المغرب لوجدت أنهم يدرسون متناً في الفقه المالكي أو في بلد آخر يدرسون متناً في الفقه الشافعي أو الحنفي ونحو ذلك، أو قد يدرس متناً ليس على مذهب معين، كـ الدرر البهية للشوكاني مثلاً.
فالشاهد: أن تجمع بين متن فقهي مع متن آخر فيه أدلة.
وحتى متون الأحاديث أحاديث الأحكام فيها تدرج، فمثلاً: إذا بدأت بـ عمدة الأحكام، ثم بلوغ المرام، ثم منتقى الأخبار، هذه متون فيها ابتداء وتوسط وتوسع.(120/23)
أمور يجب على دارس الفقه مراعاتها
لا بد للقارئ في كتب الفقه أن ينتبه إلى أمورٍ، منها: أولاً: ما يكون في بعضها من المخالفة للنصوص الثابتة في الكتاب والسنة ومتابعة للمذهب فقط، وتأييد للرأي المَحض على النص.
كما يذكر مثلاً في بعض كتب المذاهب: أن الإمام يقوم في صلاة الجنازة عند صدر الرجل والمرأة.
لماذا؟ قال: لأن الصدر فيه القلب، والقلب هو مستقر الإيمان، فإذاً نقوم عند الرجل والمرأة في صلاة الجنازة عند الصدر في كليهما، مع أن السنة قد جاءت بأن يقف الإمام عند رأس الرجل ووسط المرأة.
أو مثلاً ما يوجد في بعض الكتب من أن حضور النساء للجماعات متروك بإجماع المتأخرين حسناً: هذا تحكيمٌ للعقل تحكيمٌ للرأي في النص، وماذا أفادنا إجماع المتأخرين إذا كان خالف الكتاب والسنة؟! ثانياً: الحذر من الأحاديث الضعيفة والموضوعة أو الاحتجاج بها واستنباط الأحكام منها، فتجد مثلاً في بعض كتب الفقه: وضع اليدين تحت السرة، مع أن أحاديث وضع اليدين حتى السرة في الصلاة، أو مثلاً دفن الشعر والأظفار، أو عدم استقبال الشمس والقمر أثناء قضاء الحاجة، أو إعادة الوضوء من القهقهة، هذه الأحاديث كلها ضعيفة، لا يصح الاحتجاج بها، ولا الاعتماد عليها، فلا بد من الحذر أثناء القراءة في كتب الفقه من هذا الأمر.
ثالثاً: الحذر من تقديم أقوال العلماء المتأخرين على أقوال الأئمة المتقدمين.
رابعاً: عدم انحباس طالب العلم المتقدم في مذهب واحد ويترك الاستفادة من علوم المذاهب الأخرى.
ومن أمثلة ما تقدم في اعتماد أقوال العلماء المتأخرين وترك أقوال المتقدمين، أن بعضهم قال مثلاً: لا يجوز للشافعي أن يقتدي بإمامٍ حنفي، وبعضهم قال: لا يجوز للحنفي أن يقتدي بإمامٍ شافعي، مع أن الأئمة كانوا يصلون وراء بعضهم البعض، والاختلافات التي بينهم لا تمنع اقتداء بعضهم ببعض في الصلاة، فيقولون قول المتأخرين: لا يقتدي الشافعي بالحنفي، أو الحنفي بالشافعي، ولذلك وُجِدَت أربعة محاريب في المساجد، كل جماعة تصلي لوحدها الأحناف لوحدهم، والمالكية لوحدهم، والشافعية لوحدهم، والحنابلة لوحدهم؛ لأن المتأخرين عندهم أن الشافعي لا يقتدي بالحنفي وهكذا، مع أنه في عصر أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد كان يصلي بعضهم وراء بعض، أحمد يصلي وراء الشافعي، ولا يقول: هذا يُخالفني في فروع، فأنا لا أصلي وراءه، فترك أخذ كلام بعض المتأخرين الْمُخالف للمتقدمين مشكلة! خامساً: الانحباس على أقوال مذهب معين، وعدم أخذ الاستفادة من أقوال المذاهب الأخرى، هذا أيضاً فيه تضييق وفيه فوات فوائد كثيرة، بل إن التعصب وصل عند بعضهم أنه قال: كتب المذهب الفلاني مثل أحاديث أهل الكتاب لا تصدق ولا تكذب، بل نتوقف فيها.
سادساً: الحذر من خلو كثير من الكتب المذهبية من الأدلة الشرعية، بحيث صارت المتون الفقهية هي المرجع الأول والأخير، وهذا خطأ.
سابعاً: في بعض الكتب الفقهية تجد الخوض في مسائل خيالية، وافتراضات سخيفة، وأحياناً تكون المسائل الخلافية هي هذه، والمسائل الخيالية هذه تكون نتيجة اعتقادات صوفية باطلة، لأن بعض الاعتقادات الصوفية الباطلة تسربت إلى بعض كتب الفقه.
فمثلاً: تجد في بعض هذه الكتب بحثاً في (الصلاة إلى أرض الكعبة)، إذا خرجت الكعبة)، وأين خرجت الكعبة؟ قالوا: لزيارة الأولياء، إذا ذهبت الكعبة لزيارة الأولياء وبقيت أرضها فارغة ماذا نفعل؟ كيف نصلي في الحرم؟
الجواب
اتفقوا على أنه يصلي إلى الأرض الفراغ إلى فراغ أرض الكعبة.
كما قالوا: لو دخل رجل في فرج امرأة لوجب عليه الغسل؛ لأنه بطبيعة الحال قد غيب الحشفة، هل هذا كلام يعقل؟! وهناك أمثلة أخرى كثيرة في هذا؛ لكن يعف اللسان عن ذكرها.
ثامناً: فتح باب الحيل المحرمة، فهذا يُنْتَبَه منه.
تاسعاً: مخالفة الفروع للأصول.
عاشراً: التعقيد في أسلوب بعض المتون، وسبق أن ذكر بعض العلماء، قالوا: ليس العالم الذي يحفظ متناً من المتون فيصبح عالماً، ليس العالم الذي يحفظ مختصر خليل في فقه المالكية، أو مراقي الفلاح والكنز في فقه الحنفية، أو الغاية والتقريب في فقه الشافعية أو زاد المستقنع عند الحنابلة، إذا حفظ متن كفى! من حفظ الزاد حكم بين العباد! لا، المسألة تحتاج إلى فهم في المتن وأدلة، ولا يصح قطع الطالب عن الكتاب والسنة.(120/24)
أمور لابد أن تراعى لطالب الحديث
في طلب الحديث هناك تدرج، وكيف يبدأ الإنسان؟ مثلاً: إذا بدأ يبدأ بـ الأربعين النووية، ثم ينتقل إلى كتاب أوسع مثل عمدة الأحكام وهكذا، ويجعل العلل آخر ما يدرس في الحديث؛ لأن أصعب شيء في علم الحديث هو علم العلل.
وكذلك ينتبه دارس الحديث إلى جمع الطرق، لأن جمع الطرق تتبين فيه أشياء كثيرة، كما قال الإمام أحمد -رحمه الله-: إذا لم يجمع طرق الحديث لم يفهم، والحديث يفسر بعضُه بعضاً، أي: الطرق تجد زيادة في الحديث تفسر لك الحديث الآخر، وهكذا.
وكذلك أن يعلم صحيحه من سقيمه، هذا من الأشياء المهمة جداً في علم الحديث.
ومن هنا نعلم أن الذين يدرسون المصطلح ثم يغوصون في الأسانيد والرجال، وهذه قضية لها لذة، لا شك أن دراسة المصطلح والأسانيد والرجال لها لذة، وتعلمها سهل، والنتائج سريعة، وكثير من هؤلاء يصدرون المؤلفات، حققه فلان وخرجه فلان، وعلق عليه فلان، يجب أن نعلم أن هؤلاء القاصرين المقتصرين على المصطلح والجرح والتعديل، ليسوا طلبة علم حقيقيين، نعم قد تفيد مجهوداتهم في أشياء، قد يسهِّلِون لطالب العلم المبتدئ الذي يريد أن يؤصل نفسه إذا قرأ في كتب العلم أن يعرف الصحيح من الضعيف، لكنَّ هؤلاء المخرجين والمحققين كثير منهم ليسوا بأهل علم، لكن الآن أصحاب دور النشر الكتب الرائجة في السوق الكتب المخرجة والمحققة، تريد أن تشتغل، تريد أن تؤلف؟ ألِّف في التخريج والتحقيق، فهم إذاًَ يتجهون لهذا من باب التكسب والمتاجرة لا لطلب العلم، وقد لا يبتغون فيها وجه الله، وتجد الواحد منهم يعارض أقوال فحول العلماء لمجرد أنه عرف كيف يخرج رجالاً من كتب، ويتكلم في إسناد، فهؤلاء ليس لهم في طلب العلم المؤسَّس نصيب وافر ولا طريقة صحيحة.
وينبغي على من يشتغل في التخريج أن ينقل كلام العلماء المتقدمين في التصحيح والتضعيف، وألا يحكم هو بنفسه في البداية، لأن الحكم يحتاج إلى تعمق وخبرة، وهذا له سنوات معدودة يشتغل في هذا، ثم يخالف كلام العلماء الكبار، فينبغي على طالب العلم ألا يأبه بقول هؤلاء إذا خالفوا الراسخين.(120/25)
الحذر من إهمال التفسير والقرآن
ننتقل إلى مسألة مهمة جداً وهي: الحذر من إهمال التفسير، وإهمال كتاب الله سبحانه وتعالى، ومع الأسف فإنه في هذا الزمان التفسير لا يكاد يوجد له طالب، وهذا من كيد الشيطان، فتجد الطلاب يتجهون إلى الأصول والمصطلح والنحو ويتركون أصل الأصول وهو تفسير القرآن، لا يعرفون حتى تفسيراً مبسطاً للقرآن أو متوسطاً، مع أن التفسير المسند بالآثار المنقولة عن السلف ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، ومقاصد الآيات لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين.
ولذلك ينبغي الاهتمام بتفاسير القرآن التي تبنى على الأثر كتفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة، وتفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين، وكلام أهل العلم.
وينبغي على الإنسان أن يدرس في التفسير تفسيراً مبسطاً، مثل: تفسير العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، فإذا انتقل بعد ذلك إلى تفسير ابن كثير يكون عنده فكرة مجملة عن تفسير القرآن، فإذا أراد أن يدرس التفسير المفصل ويبتدئ بالمفصل يحفظه ويدرس تفسيره.
فيبدأ بالتفسير المبسط حتى يتعود على الأسلوب وعلى المنهج، ثم بعد ذلك يأخذ ما بعده، أما أنه يبدأ من البداية فيحضر السورة من تفاسير كثيرة، فهذا لم يسلك السبيل الطبيعي الذي فيه التدرج.(120/26)
أهمية دراسة علم النحو
ومن العلوم المهمة التي ينبغي تحصيلها لارتباطها بفهم الكتاب والسنة: دراسة علم النحو، قال أهل العلم: من العلوم التي تلزم صاحب الحديث معرفتها: معرفة النحو، لئلا يلحن، ولكي يورد الحديث على الوجه الصحيح، ويعرف أصل الكلمة واشتقاقها ومعناها، وهل هي مصدر أو فعل.
وكان ابن عمر يضرب ولده على اللحن، رواه ابن أبي شيبة بإسنادٍ جيد، أي: من الصغر يربون أولادهم على اللسان الفصيح.
وقال شعبة: مثل الذي يتعلم الحديث ولا يتعلم النحو مثل البرُنس لا رأس له.
وقال بعض العلماء: اللحن في الكلام أقبح من آثار الجدري في الوجه.
وينبغي أن يصحح النطق، ويعرف الإنسان اللغة لكي يفهم الكتاب والسنة كما كان يفهمها العرب الأُوّل، كانوا لا يحتاجون إلى تفاسير لأن لغتهم صحيحة، فلما خاطبهم القرآن والسنة وقعا في قلوبهم موقعاً.
وكذلك مما ينبغي أن ينتبه إليه عدم خلط كلام العلماء المتقدم أو الألفاظ الشرعية بالمصطلحات المستحدَثة الجديدة التي حدثت بعد ذلك، افترض أن إنساناً مثلاً قال: الواجب: ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، والمكروه مثلاً: ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، ثم قرأ قول الله عز وجل في الزنا والقتل وأكل مال اليتيم وفي آخر الآية: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء:38] فماذا يقول؟ هذا مكروه، هذا يعني: لا يعاقَب فاعله، قال: مادام أنه مكروه.
إذاً: معرفة التفاصيل مهمة، وفهم القرآن والسنة ينبغي أن يُفهم مع الأخذ بعين الاعتبار إلى المصطلحات المتأخرة، وأنها قد لا تدخل في هذا الفهم فيخطئ الإنسان.
وكذلك فإن تعلم اللغة مهم، كما قال الحسن رحمه الله لما سئل: أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويقيم بها منطقه؟ قال: نعم فليتعلمها، فإن الرجل يقرأ بالآية فيعياه توجيهها فيَهلِك، وقال الشاعر:
اللحن يُصلح مِن لسان الألكن والمرء تُعْظِمُه إذا لم يلحنِ
لحن الشريف محطة من قدره فتراه يسقط من لحان الأعينِ
وترى الدنِيَّ إذا تكلم معرباً حاز النهاية باللسان المعلِنِ
وإذا طلبتَ من العلوم أجلَّها فأجلُّها منها مقيمُ الألسُنِ
قال ابن عبد البر -رحمه الله- معقباً: لو كان مهتدياً هذا الشاعر لقال:
وإذا طلبتَ من العلوم أجلَّها فأجلُّها منها مقيمُ الأدين
والعلم بالنحو يسدد الفهم، فيعلم الضميرَ على أي شيء يعود؟ وأنه قد لا يُشترط أن يعود على أقرب مذكور مثلاً.
وكذلك يعلم اشتقاق الكلمة فإنه مهم، ألم يأتِك خبر الذي لَمَّا جاء على تفسير قول الله عز وجل: {رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران:117] قال: الصِرُّ: الصراصير، ريحٌ فيها صراصير الليل.
ومن العجائب كذلك: أن بعض هؤلاء إذا قرأ نصاً يستغرب، مع أنه لو عنده شيء من الفهم الصحيح لما استغرب.
وإذا تعلَّم الضمائر علم أن المسألة ليست هكذا، كما حدث لبعض الشباب قرأ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِي بصبي، فوضعه في حجره، فبال عليه) انظر إلى فهم هذا الشاب، يقول: كيف النبي صلى الله عليه وسلم يبول على الصبي؟! فهمني هذه! فهذا عليه أن يتقي الله، ويستغفر الله، هل النبي عليه الصلاة والسلام يفعل هذا؟! كيف يتبادر هذا الفهم إلى الذهن؟! وقد حصل مثل ذلك أيضاً، أن أحدهم جزم أن حديث أبي هريرة في النزول على اليدين قبل الركبتين مقلوب، قال: قال الحاكم: إنه مقلوب، فقال له شخص: كيف تقول: إنه قال: مقلوباً، قال: أنا آتي لك بكلام الحاكم، ففتح المستدرك وأتى على كلام الحاكم بعد هذا الحديث، ولمّا أورد الحاكم هذا قال: والقلب إلى هذا أمْيَل، يقصد بالقلب، فهمه أو فقهه في قلبه، أنه إلى حديث أبي هريرة أمْيَل، قال: لا، القلب أي: أنه مقلوب.
وكما ظن بعضهم أن الحَلْق لا يجوز قبل صلاة الجمعة، لحديث: (نهى عن الحِلَق قبل الجمعة) مع أن الحديث نهى عن الحِلَق قبل الجمعة، أي: عن التَّحَلُّق.
وهكذا الأخطاء الكثيرة التي تقع في الفهم نتيجة عدم معرفة النحو واشتقاق الكلمات ومن أين جاءت وهكذا، ولا بد للإنسان أن يضبط، والكتاب لا يضيء إلا إذا أظلم، أي: بالتعليقات والضبط والحواشي.(120/27)
أمور يجب الانتباه إليها عند القراءة
ومما ينبغي أيضاً أن يُنْتَبَه إليه في القراءة عدم الجمود الشديد بدون ضابط، وهذه حادثة حصلت: أن بعض الشباب عندما اتجه إلى القراءة في كتاب المحلى لـ ابن حزم من وقت مبكر، أول ما ابتدأ يقرأ، حصلت عنده ظاهرية مفْرِطة، وابن حزم نفسه لما ألف الكتاب ألفه بعد أن قطع مشواراً في الطلب، ثم هذا يريد أن يقرأ، يقول: أسلوب ابن حزم أسلوب ممتاز، فأورثه ذلك جمود ابن حزم ليس عنده قواعد ابن حزم، فكيف تتوقع أن تكون النتيجة في النهاية؟ ومن الأمور المهمة كذلك في طلب العلم ترقيق القلوب، وليس فقط الجمع؛ لأن كثرة الحفظ والجمع قد تقسِّي القلب، فلا بد من التطعيم بالمرققات، وتلذيع النفس بأسباب المرققات تلذيعاً لا يقدح في كمال التشاغل بالعلم، وإلا فإن الانشغال فقط بالتحصيل والحفظ وعلوم الآلات ونحوها قد يقسِّي القلب، فإذا لم تجعل لك نصيباً من العبادة والقراءة في كتب الوعظ والزهديات والرقائق تأسن النفس، ولذلك فإن القراءة مثلاً في ذكر الموت، وزيارة المقابر، وأخبار المحتضرين، وحسن الخاتمة، وسوء الخاتمة، هذا أمر لا بد منه، وإلا فقد يقسو قلب طالب العلم من حيث لا يشعر.(120/28)
منهج مختصر لطالب العلم
إن معرفة منهج يسير عليه الإنسان في طلب العلم لابد منه في البداية، سواءً الذي عنده استعدادات أو الذي ليس عنده استعدادات، لا بد أن يكون للجميع برنامج؛ لكن في المرحلة الأولى منه يشتركون فيها، ولا يشترط أن يتنقل الجميع للمرحلة الثانية أوالثالثة وهكذا.
فإذا أخذت مثلاً في التفسير: الحفظ المفصل مع معرفة معانيه، من تفسير ابن كثير مثلاً، فهذا شيء جيد.
وفي الحديث: الأربعين النووية، ثم رياض الصالحين، أو أبواب منتقاة من صحيح البخاري مع شرح كل ذلك فهذا أمر مهم.
في العقيدة مثلاً: لو أخذت مثلاً أعلام السنة المنشورة، والعقيدة الواسطية وفتح المجيد، فهذا خير كبير.
وفي الفقه: تأخذ مثلاً كتاباً في العبادات على أحد الكتب الفقهية المعتمدة، وتجمع بينه وبين معرفة الأدلة، مع قراءة فتاوى العلماء المعاصرين فيكون هذا برنامجاً جيداً في طلب الفقه.
وبعد ذلك تأتي أشياء أخرى، مثل: السيرة، والفكر الإسلامي، والأخلاق، والسلوك، والآداب، والرقائق، والدعوة ونحو ذلك، فهذه أشياء أيضاً ينبغي أن يكون لك فيها سهم.
فالمقصود أن هذا برنامج مبسط يشير إلى بعض الأشياء التي لا بد أن يكون الطلب فيها.
ونعود ونقول فيما بدأنا في البداية: إن الإنسان لا بد أن يطلب العلم، ولا يقول: أنا تخصصي غير شرعي، وأنا موظف، وأنا إنسان مشغول، وعندي مناوبات، لست معذوراً في ترك تعلم دين الله، ولا يصلح أن يبقى الإنسان جاهلاً، ينبغي أن يحرص على كل فرصة تسمح له بالتعلُّم، لا بد أن نحسِّن أوضاعنا، أما أن نبقى على هذا الجهل فهذا غير صحيح، وهذا خطأ كبير جداً أن نستمر على جهلنا، وقد تواجهك أشياء في ظروف لا تجد فيها عالماً تسأله، فماذا تفعل وليس عندك علم عن المسألة؟! على الأقل تحفظ فتاوى العلماء، لأن حفظ فتاوى العلماء فيها خير عظيم، إذا لم تستطع أن تسلك سبيل التفقه على أصوله، على الأقل احفظ فتاوى العلماء فلستَ معذوراً في ترك الطلب، ولا بد أن تستمر في الطلب.
ومن أساسيات المنهج الصحيح: طلب العلم: من الأشياء التي تميزنا عن الصوفية وسائر المبتدعة هو طلب العلم.
أما ترك الطلب، ويقال: للعلم أهله، ونحن ما لنا؟ فهذا انحراف لا شك في ذلك.
هذا ما تيسر جمعه وذكره من بعض الأشياء التي تتعلق بالمنهج في طلب العلم.(120/29)
الأسئلة(120/30)
أخذ العلم عن الثقات
السؤال
هل من مانع أن أدرس العلم عن شيخ عنده أخطاء في المنهج بحيث آخذ منه العلم وأترك الأخطاء؟
الجواب
لا يصلح للمبتدئ في طلب العلم أن يأخذ العلم عن شيخ عنده أخطاء وانحرافات، والسبب أنه إذا كان مبتدعاً فقد يدس لك البدعة في أمثلة النحو والأصول، وإذا كان الشيخ قاصراً وقد ذَكَرْنا لهذا مثالاً، قلنا: بعض العلماء عندما كانوا يجمعون الحديث من أين كانوا يجمعونه: من أهل السنة أم من أهل البدعة؟ من أهل السنة أولاً، ثم إذا تقدموا وعرفوا وجمعوا أشياءً وكانوا متمكنين ربما يذهب إلى إنسان ليختبره، ليرى ماذا يحدِّث؟ ماذا عنده من الأشياء؟ لكن هذا لا يفعله الشخص المبتدئ، كما وقع لأهل العلم لما زار أحد المُغالين في التشيُّع ليأخذ عنه، فكان هذا المتشيِّع يختبر الطلاب الذين يأتون عنده، فلما جاءه الرجل وجد عنده سيفاً معلقاً، قال: ما هذا وأنت ضرير، قال: أقاتل به مع المهدي إذا ظهر، فقال هذا الشيخ المبتدع للطالب: من الذي حفر البحر؟ قال: الله عز وجل، قال: أدري، ولكن من حفره؟ قال: الله الذي خلق البحر، قال: أدري ولكن من حفره؟ قال: يخبرني الشيخ، قال: حفره علي بن أبي طالب، ثم قال له: من أجرى البحر؟ قلت: الله أجرى البحر، قال أدري، لكن من الذي أجراه؟ قلت: يقول الشيخ، قال: أجراه الحسن بن علي، قال: فلما سمعتُ ما أريد سماعه منه من الأشياء التي عنده جئته في النهاية في آخر يوم مودعاً، فقال: من الذي حفر البحر؟ من الذي أجرى البحر؟ قلت: الذي حفره معاوية، والذي أجراه عمرو بن العاص، فقال: خذوا الكافر، خذوا الكافر.
فالطالب المبتدئ لا يأتي إلى مبتدع يأخذ عنه؛ لأنه قد تختلط عليه الأشياء فيضله، إما إذا كان الشيخ مجيداً في فن وليس عنده جودة في غيره، قد يكون مجيداً في الفقه مثلاً، واستنباط الأصول، لكن ليس عنده إتقان في الحديث ومعرفة الصحيح من الضعيف، فيأخذ عنه ما هو مجيد فيه.
نعيد ونقول وننبه ونؤكد: أنه ربما يكون طالب علم قريب منك، متفرغ لك، أفضل في جانب معين من عالم قد لا يكون عنده اشتغال هذا الطالب بفن من الفنون، فقد يوجد طالب مثلاً مشتغلاً بفن الحديث، وعالم مشتغلاً بالفقه، وهذا الطالب قد يعطيك في هذا أكثر مما يعطيك ذلك العالم، فلا بد أن ينتبه إلى هذا.(120/31)
الجمع بين علوم الدنيا والدين
السؤال
ألا ترى أن بعض القواعد المذكورة لا سيما لغير المتفرغ ليست بإطلاق، بل تختلف باختلاف الأشخاص والمواهب؟
الجواب
لا شك في ذلك وقد ذكرناه هذا وقلنا: إن هذا يختلف باختلاف الطاقات والمواهب.
السؤال: أرغب وأميل إلى دراسة علوم الإدارة والاقتصاد والسياسة، وأجيد في هذا الجانب، ويعتب عليّ زملائي بقولهم: اطلب العلم أفضل لك، مع أنه قد لا تتوفر لدي من القدرات والميل إلى طلب العلم، مع الحرص على معرفة ما لا بد من معرفته من أمور ديني؟ الجواب: إذا كان العلم الذي تدرسه يحتاج إليه المسلمون من العلوم الدنيوية، فإن تخصصك فيه ينفع المسلمين، وإجادتك فيه تنفع المسلمين، وبروزك فيه ينفع المسلمين، مع الحرص على أن تطلب من العلم ما لا بد لك من معرفته، ما تصحح به عباداتك مثلاً، أقول: هذا اتجاه جيد، مادام أن عندك استعداداً له، وليس عندك استعداد للتعمق في طلب العلم، لكن لا بد أن تحرص على حِلَق العلم تحرص على دروس تستمر فيها لكي تتعلم، وإلا تتخرج وتُبْتَعَث لتدرس في الخارج وترجع وأنت ليس عندك شيء من دين الله.
السؤال: أقوم من حين لآخر بوعظ الناس في أحد المساجد حسب ما ييسر الله لي، رغم أني لم أدرس الشريعة، ولكن درست الهندسة، فهل هذا فيه تعدٍّ وتنافٍِ مع المنهج؟ الجواب: كلا والله، بل هو من صميم الدين، أنت تعظ الناس وتذكرهم بالله، خصوصاً الوعظ لا يحتاج إلى علم عميق، إذا أنت عرفت أن هذه الأحاديث التي تعظهم بها صحيحة، ومعاني الآيات التي تذكرها صحيحة، فيجب عليك أن تعظ، والناس يحتاجون إلى الوعظ.(120/32)
القراءة المتميزة
السؤال
إن الله قد منَّ عليّ بحب القراءة والشغف فيها، وأقرأ أشياء كثيرة، لكن قد تُطرح مسألة فيما سبق قراءته فلا أستطيع تذكرها مما يؤلمني؟!
الجواب
لا بد من تفريغ وقت للحفظ والترداد، وهذه المسائل التي جمعتها إذا ما عدت إليها وقرأتها مرات فإنها تنسى، والكتاب الذي أنهيتَه، لا تقول: هذا الكتاب أنهيتُه كفى وآخذ كتاباً آخر بل تعود إليه بعد فترة، لتتذكر ما سبق أن قرأته.
السؤال: ما رأيك في شاب مجتهد محب للخير أراد أن ينفع الناس ويدعوهم إلى الله، فأخذ يشرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب في أحد المساجد لعوام الناس، وقد سبق أن درس كتاب التوحيد على أحد الشيوخ، فهل تحث هذا الشاب على المتابعة أم على التوقف؟ الجواب: لا والله، أحثه على المتابعة، ونفع المسلمين، وبالمناسبة، سألت الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله- عن مسألة: هل يصح للشخص الذي لم يدرس علوم الآلة أن يقرأ في كتب العلماء الكبار كـ المغني مثلاً وغيره، وفتح الباري أم أنه لا يصح أن يقرأ في هذا أبداً؟ فقال الشيخ ما مُلَخَّصُه: إذا كان صاحب عقل سليم يقرأ لنفسه فلا بأس بذلك ولا يمكن منعه من هذا، وهذا لا يقرأ لغيره، يقرأ من المغني ليعلم الناس ويشرح لهم، ليس عنده قدره، لكن أن تقول: لا تمدن عينيك إلى كتب العلماء الكبار مطلقاً، ولا في حال من الأحوال، فهذا ليس بصحيح، لا بأس أن يقرأ ويطلع ويبحث إذا كان عنده عقل سليم يستفيد ويفهم كلام العلماء، لكن الحرص على التدرج وعلى المنهجية أيضاً، وإلا لو جاءت له مسألة فقهية، فما وجد بغيته في منار السبيل؟! نقول: ينتقل إلى كتاب آخر ليرى ماذا فيه، يتوسع عند الحاجة، هنا في حاجة، ما وجد بغيته في كتاب مختصر، فيدرس كتاباً مختصراً، عرضت له مسألة، يقول: أنا أسير على منهجية، أي: أقرأ كتاباً مختصراً أولاً، ولا يمكن أن أمد عيني إلى غيره، هذا خطأ، يتوسع ويدرس ويقرأ في غيره، صحيح أنه لا يجعله منهجاً بحيث يحوِّل كل الأشياء إلى أبحاث، من أربعة، وخمسة، أو عشرة كتب، تمثل المذاهب المختلفة، لكن عند الحاجة يتوسع، ولو كان في البداية ما المانع؟! هل من الأفضل للأمة أن كل فرد فيها يتعلم العلم الشرعي، وإذا كان هذا صحيح هل تستطيع الأمة المنافسة والتحدي مع الأمم الأخرى بدون العلوم التجريبية؟ الجواب واضح من السؤال، لا تستطيع الأمة أن تتبحر على أن تتحدى وتصل وتنافس إلا إذا كان فيها من يدخل الصناعات، كيف استعْمَرَنا الغرب؟ لما أدخلوا الصناعة والزراعة والإدارة، وركزوا عليها، فسادوا العالم، لا بد أن يكون من المسلمين من يقوم بهذه الأشياء.(120/33)
التسديد والمقاربة وفهم الأولويات
السؤال
أنا طالب في كلية الهندسة سمعت عن درس في الفقه والحديث، فهل أحضر فيه أم لا؟
الجواب
لماذا لا تحضر فيه؟! هل وجودك في كلية الهندسة يحرم عليك حضور الدرس العلمي؟! السؤال: ما هي الطريقة التي من الممكن انتهاجها لحفظ القرآن الكريم؟ الجواب: هذا تكلم عليه بعض أهل العلم في الكتب، مثلاً: التكرار الذي هو الأصل، وقراءته في الصلوات، والحفظ من طبعة واحدة، ومعرفة التفسير والمعنى، فذلك يساعد على ثبات الحفظ.
السؤال: أنا مهندس أعمل يومياً من الساعة السابعة صباحاً إلى الساعة الرابعة مساءً، كيف أوفق بين مطالب الحياة، ومسئولية البيت، والأطفال، وطلب العلم، والزيارة؟ الجواب: لا شك أن الحياة التي نعيشها الآن معقدة، ليست مثل حياة الأولين فيها بساطة، ويكفيك ساعات لطلب الرزق، والحمد لله ليس هناك أحد يموت من الجوع، والناس في خير واستكفاء.
الآن تحتاج أنت بسبب الظلم الموجود بسبب الانحرافات الموجودة، الإنسان يحتاج أن يكدح ويعمل، والتضييق الموجود، والربا الذي جعل طبقات غنية مترفة وجعل طبقات فقيرة مدقعة في الفقر، هذا كله أوجد لنا أشياءً من الأوضاع الاجتماعية المعقدة، ومع ذلك التكاليف كثيرة، الناس في جهل الناس يحتاجون إلى دعوة هناك انحرافات أولادك يحتاجون إلى التربية وزوجتك لها حقوق، إخوانك لهم زيارات، وطلب علم، فلا بد إذاً عندك حديث سلمان وأبي الدرداء، أقول: حديث سلمان وأبي الدرداء مهم جداً في قضية توزيع الأوقات ومعرفة الأولويات.(120/34)
الشعر الحسن والشعر القبيح
السؤال
أنا شاب أعطاني الله موهبة في الشعر، وقد توجهت إلى الطريق الصحيح، فسؤالي ما حكم الشعر؟ وهل هناك طريق أستطيع بواسطته إخراج الشعر بدون حرج؟
الجواب
القاعدة في الشعر كما قال العلماء: أن حسنه حسن وقبيحه قبيح، فإذا كتبته في نصرة دين الله، والحث على الفضيلة، والدعوة إلى الله، فهذا شيء حسن جداً.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص، والاستقامة، والفقه في دينه، والفوز بجنات النعيم.
والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(120/35)
المساجد آداب وأحكام
للمسجد أثره العظيم في الإسلام، وقد حث الله على عمارة المساجد بالبناء والذكر، ورتب على ذلك عظيم الأجر.
والمسلمون حين يعمرون المساجد حساً أو معنى قد يقع منهم أخطاء ومنكرات، وقد ينزلقون في بدع محدثة، وفي هذه المادة تجد طائفة من هذه المنكرات لتحذر منها وتحذر غيرك، كما تجد بعض آداب المساجد لترشد نفسك ومن تحب.(121/1)
فضل بناء المساجد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
إخواني: إن الله سبحانه وتعالى قد أمر بإقامة المساجد ليعبد فيها ويذكر اسمه سبحانه وتعالى، أمر ببناء المساجد لأسباب وأهداف، وجاء الحث على بناء المساجد في الإسلام، وقال أهل العلم: يجب بناء المساجد في الأمصار والقرى بحسب الحاجة، وهي من فروض الكفاية، وقال صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله، يذكر الله فيه ولو كمفحص قطاةٍ لبيضها، أو أصغر، بنى له الله بيتاً مثله في الجنة) هذا مجموع روايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوضح فيها عليه الصلاة والسلام الشروط التي إذا توفرت في باني المسجد، فإنه يبنى له بيت مثله في الجنة: أن يبتغي به وجه الله، وأن يبنيه ليذكر الله فيه.(121/2)
وجوب الإخلاص في بناء المساجد
وقوله صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً) لفظة (لله) تعني أنه ليس لباني المسجد فيه شيء، ولذا قال بعض أهل العلم: من كتب اسمه على مسجد بناه فهو بعيدٌ عن الإخلاص، وينبغي أن يكون المال الذي يبنى منه حلالاً ليتقرب به إلى الله عز وجل، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً نشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته).(121/3)
النهي عن تشييد المساجد وزخرفتها
وأما النهي عن زخرفة المساجد وتزيينها، وكثرة الإنفاق عليها وتضخيمها، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (ما أمرت بتشييد المساجد) والفرق بين التشييد والبناء كبير: فإن التشييد: هو رفع المبنى ليجعل ذلك ذريعة إلى الزخرفة والتزيين الذي هو من صفات أهل الكتاب في كنائسهم وبيعهم، وفي الحديث نوع توبيخ وتأنيب، قال البغوي رحمه الله: التشييد: رفع البناء وتطويله، وإنما زخرفت اليهود والنصارى معابدها حين حرفوا كتبهم، وقال ابن بطال رحمه الله: فيه دلالة على أن السنة في بنيان المساجد القصد وترك الغلو في تحسينه، وقد كان عمر مع كثرة الفتوح في أيامه وسعة المال عنده لم يغير المسجد.
وأول من زخرف المساجد الوليد، وسكت عنه بعض أهل العلم خوف الفتنة، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: (إذا زخرفتم مساجدكم، وحليتم مصاحفكم، فالدمار عليكم) يعني: إذا حسنتموها بالنقش والتزويق والزخرفة، ولو بكتابة الآيات، لأنها تشغل المصلي وتلهيه عن الخشوع والتدبر والحضور مع الله عز وجل، قال بعض أهل العلم: إن تزويق المسجد ولو الكعبة بذهب أو فضة حرام مطلقاً، وروى البخاري أن عمر رضي الله عنه وأرضاه أمر ببناء المسجد وقال: [أكِنَّ الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر].
وقال عليه الصلاة والسلام: (من أشراط الساعة، وفي رواية: لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد) يعني: يتفاخرون بتشييدها، ويراءون بتزيينها، كما فعل أهل الكتاب.
ولقد كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنياً من لبن وسقفه الجريد، وعمده جذوع النخل، ونهى عليه السلام في الحديث الصحيح أن يتباهى الناس في المساجد، يعني: أن يتفاخروا بها بأن يقول الرجل: مسجدي أحسن، ويقول الآخر: مسجدي.(121/4)
بعض سنن المساجد وآداب دخولها
وعند بنائه يسن أن يترك باباً خاصاً بالنساء لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لو تركنا هذا الباب للنساء حتى لا يحدث الاختلاط).
وعلى المسلم الاجتهاد في الصلاة في المسجد الخالي من البدع، المعمول فيه بالسنة، فإن لم يجد، فليبحث عن أبعدها عن البدع فليصلِّ فيه، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من أتى المسجد لشيء، فهو حظه) يعني: من قصده لشيء، فهذا القصد هو نصيبه، فإذا أتاه لصلاة حصل له أجرها مثلاً، أو لزيارة بيت الله حصلا له معاً، ومن أتاه لهما مع تعلم علم أو إرشاد جاهل حصل له ما أتى لأجله، أو أتاه للتفرج أو إنشاد الضالة فهذا حظه من إتيان المساجد.(121/5)
دعاء دخول المسجد
وإذا دخل المسجد، فيقدم رجله اليمنى عند الدخول، وعند الخروج يقدم اليسرى، ويقول وهو داخل كما أخبر عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم -وفي رواية: فليصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم- وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك) وفي رواية صحيحة: (إذا دخل المسجد، فليقل: اللهم صلِّ على محمد وأزواج محمد، وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وليقل: اللهم إني أسألك من فضلك، اللهم اعصمني من الشيطان) وكذلك ورد في الحديث الصحيح أنه كان إذا دخل المسجد، قال: (أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، وقال عليه السلام: إذا قال ذلك -يعني: المسلم الداخل- حفظ من الشيطان سائر اليوم).(121/6)
الصلاة في المسجد لمن دخله
وإذا دخل فيه، فإنه ينبغي عليه أن يصلي ركعتين لحديثه عليه السلام: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من أشراط الساعة أن يمر الرجل بالمسجد لا يصلي فيه ركعتين، وألا يسلم الرجل إلا على من يعرف) يصبح السلام للمعرفة، وأما من لا يعرفه فلا يسلم عليه، هذا من أشراط الساعة المذمومة، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا أذن المؤذن فلا يخرج أحد حتى يصلي) ولما رأى أبو هريرة رجلاً خرج من المسجد بعد الأذان لغير حاجة، فقال: [أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم] وأما الخروج للحاجة وللمصلحة الراجحة، فلا بأس به.(121/7)
النهي عن تشبيك الأصابع
وقال عليه السلام: (إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامداً إلى المسجد، فلا يشبكن بين يديه فإنه في صلاة) وقال في الحديث الصحيح الآخر: (إذا توضأ أحدكم في بيته، ثم أتى المسجد، كان في صلاة حتى يرجع لا يقل هكذا، وشبك بين أصابعه) ولعل النهي عن التشبيك بين الأصابع لما فيه من إيماء إلى ملابسة الخصومات والخوض فيها، أو دلالة على تشبك الأحوال وتعسيرها وهو ينافي الفأل الحسن، ولا يدخل في هذا النهي التشبيك بقصد التمثيل وتصوير المعنى كما وقع له عليه الصلاة والسلام، وفي هذا الحديث أيضاً: كراهة تشبيك الأصابع لمن خرج إلى المسجد للصلاة سواءً كان في الطريق، أو في المسجد، أو في الصلاة، وأما تشبيكه بيد صاحبه لنحو مودة أو ألفة فإنه لا يكره.(121/8)
أخطاء أخرى يقع فيها المصلون
ومن الأخطاء التي تقع من بعض أهل المساجد: أنهم يحافظون على مكان معين في المسجد لا يغيرونه، وقد نهى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن يوطن الرجل في المكان بالمسجد كما يوطن البعير، يعني: يألف مكاناً معلوماً مخصوصاً به يصلي فيه لا يغيره.
ومن الآداب أيضاً: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك! وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالةً، فقولوا: لا رد الله عليك ضالتك!) زاد مسلم رحمه الله: (فإن المساجد لم تبن لهذا) ونهى عليه السلام في الحديث الحسن عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه ضالة، وأن ينشد فيه الشعر، ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة؛ وأما إنشاد الشعر، فإن المقصود به الشعر المذموم جمعاً بين النصوص، والنهي عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة لعللٍ: منها: عدم قطع الصفوف، لأن الناس قد أمروا بالتبكير والتراص فيها.
وقيل: حتى لا تذهب هيئة الخطبة إذا اشتغل الناس في هذه الحلق بالحديث.(121/9)
الجلوس لحديث الدنيا مخالفة لأدب المسجد
ومما يخالف أدب المسجد: جلوس الناس فيه للحديث في أمر الدنيا لحديث أنس مرفوعاً وابن مسعود كذلك: (يأتي على الناس زمانٌ يحلقون في مساجدهم، وليس همهم إلا الدنيا، وليس لله فيهم حاجة، فلا تجالسوهم) وفي لفظ آخر: (سيكون في آخر الزمان قومٌ يجلسون في المساجد حلقاً حلقاً، أمامهم الدنيا فلا تجالسوهم، فإنه ليس لله فيهم حاجة) وهذه الأحاديث حسنة بمجموع طرقها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما الكلام الذي يحبه الله ورسوله في المسجد فحسن، وأما المحرم فهو في المسجد أشد تحريماً.
ومما يقع من المنكرات في المساجد: إعراض بعض الناس عن حلق العلم للكلام في أمور الدنيا، والحديث يقول: (وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه) وبعضهم يعرض عن سماع خطبة العيد بحجة أنها ليست واجبة.(121/10)
من الآداب عدم إزعاج المصلين
ومن آداب المسجد: ألا ترفع فيه الأصوات إلا في المواضع التي جاء رفع الصوت فيها مثل: رفع الإمام صوته لإعلام المأمومين بالقراءة والتكبير، ومثل الجهر بالذكر عقيب المكتوبة دون صياح كما ورد في صحيح البخاري.
ولا يجهر المصلون بعضهم على بعض بقراءة القرآن، وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يصلون ويجهرون بالقراءة، فقال: (أيها الناس! كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض) قال الإمام مالك رحمه الله: ويخرج من المسجد من يفعل ذلك.
وسئل شيخ الإسلام عن مسجد يقرأ فيه القرآن بكرة وعشياً، ثم على باب المسجد شهودٌ يكثرون الكلام، ويقع التشويش على القراء، فهل يجوز ذلك؟ فأجاب: الحمد لله، ليس لأحدٍ أن يؤذي أهل المسجد؛ أهل الصلاة، أو القراءة، أو الذكر، أو الدعاء ونحو ذلك مما بنيت المساجد له، فليس لأحد أن يفعل في المسجد، ولا على باب المسجد، ولا قريباً منه ما يشوش على هؤلاء، فإذا كان عليه السلام نهى المصلي أن يجهر على المصلي، فكيف بغيره، ومن فعل ما يشوش به على أهل المسجد، أو فعل ما يفضي إلى ذلك منع من ذلك.
والله أعلم.
تعليقٌ: وعلى أرباب الأعمال من المقاولين وغيرهم لمن كانت لهم أعمال بجانب المسجد الانتباه إلى إيقاف الآلات والعمال وآلات الحفر عند إقامة الصلاة على الأقل؛ لعدم التشويش على المصلين، وكذلك لا ترش المبيدات الحشرية أثناء الصلاة لما فيها من إيذاء للمصلين، قال شيخ الإسلام رحمه الله: يصان المسجد عما يؤذيه ويؤذي المصلين، حتى رفع الصبيان أصواتهم فيه، وكذلك توسيخهم لحصره ونحو ذلك، لا سيما إن كان وقت الصلاة، فهذا من عظيم المنكرات.(121/11)
آداب أخرى تراعى في المسجد
.(121/12)
ما يفعله من نعس في المسجد
وقال عليه الصلاة والسلام مرشداً وموجهاً: (إذا نعس أحدكم وهو في المسجد، فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره) وهذا الأمر للندب؛ لأن الحركة تذهب الفتور الذي يؤدي إلى النوم، فإن لم يكن في الصف مكان يتحول له، فإنه يقوم ويجلس ليأتي ببعض الحركة التي تذهب النوم، قال الشافعي رحمه الله في الأم: ولو ثبت في مجلسه، وتحفظ من النعاس وقاومه، لم أكرهه.(121/13)
استحباب التجمل للصلاة وتنظيف المساجد
وقال الله عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] قال المفسرون: ولهذه الآية يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم العيد ويوم الجمعة، ومن ذلك الغسل، والطيب، والسواك، ولبس الثياب الحسنة، وخصوصاً الثياب البيضاء للحث الوارد فيه: (البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم) قال ابن كثير: إسناده جيد.
وقال عليه الصلاة والسلام حاثاً الأمة على تنظيف المساجد وإبعاد الأوساخ عنها: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء، إنما هي لقراءة القرآن وذكر الله والصلاة) حديث صحيح.
ويستحب تنظيفها وتطييبها خصوصاً يوم الجمعة، وأن تصان عن كل وسخ، وقذر، ومخاط، وتقليم أظفار، وشعر، ورائحة كريهة، وتجب إزالة الزخرفة والنقوش والكتابة وكل ما يلهي المصلي.(121/14)
كراهة دخول المسجد بالروائح الكريهة
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من أكل من هذه البقلة -الثوم والبصل والكراث- فلا يقربن مساجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئاًَ، فلا يقربن المسجد، وفي رواية: حتى يذهب ريحها) (يا أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله، ولكنها شجرةٌ أكره ريحها) وقال عليه الصلاة والسلام: (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا، وليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته) والمقصود: الثوم والبصل أو الكراث النيئ، وأما إذا أميتت طبخاً بحيث ذهبت رائحتها فلا حرج.
ويدخل في ذلك كل ما يؤذي الناس من روائح العرق والوخم ونحوها، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن إتيان المسجد لآكل الثوم أو البصل، والثوم والبصل حلالٌ، فكيف بشارب الدخان والدخان محرم؟!(121/15)
مخالفة النخامة والبصاق لآداب المسجد
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (تبعث النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجه صاحبها) والنخامة هي ما يكون مثل البلغم الذي يلفظه الإنسان من حلقه، وقال عليه الصلاة والسلام: (من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة تفله بين عينيه) وقال عليه السلام في الحديث الصحيح الآخر: (ما بال أحدكم يكون مستقبل ربه فيتنخع أمامه، أيحب أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟ فإن تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره، فإن لم يجد فليفعل هكذا، يعني في ثوبه إذا ما وجد) وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (عرضت عليَّ أمتي بأعمالها حسنها وسيئها، فرأيت في محاسن أعمالها إماطة الأذى عن الطريق، ورأيت في سيئ أعمالها النخاعة في المسجد لم تدفن) والنخاعة مثل النخامة، وقال بعضهم: المقصود به البصاق، قال النووي رحمه الله: وظاهر هذا الحديث أن الذم لا يختص بصاحب النخامة الذي تنخمها فقط، بل يدخل فيه كل من رآها ولم يزلها، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها) هذا في المساجد التي أرضها ترابٌ أو رملٌ كفارتها أن تدفن، ومعنى تدفن: تدخل في باطن الأرض، فلا يكفي تغطيتها؛ لأنه قد يقعد عليها من تؤذيه، وأما المساجد المبلطة، أو المفروشة، فإنه لا يصلح فيها التفل ولا التنخم نهائياً، وبعض الناس يتفل ويتنخم، ثم يمسح النخامة على البلاط بحذائه أو برجله، فيزيدها انتشاراً، فيزداد تقذر المسجد وتوسخه.(121/16)
عدم اتخاذ المساجد طرقاً أو حجز الأماكن فيها
ومن الآداب كذلك: ما ورد في الحديث الحسن: (لا تتخذوا المساجد طرقاً إلا لذكر أو صلاة) قال شيخ الإسلام رحمه الله: ليس للمسلم أن يتخذ المسجد طريقاً يعبر منه، فكيف إذا اتخذه الكافر طريقاً، فإن هذا يمنع بلا ريب، وخصص بعض العلماء منه الحاجة مثل: المشقة عليه في طول المسافة جداً.
وأما بالنسبة لحجز الأماكن في المسجد، فقال شيخ الإسلام رحمه الله: ليس لأحدٍ أن يتحجر من المسجد شيئاً، لا سجادة يفرشها قبل حضوره ولا بساطاً ولا غير ذلك -كما يقع لبعض الجهال في الحرم- وليس لغيره أن يصلي عليها بغير إذنه، ولكن يرفعها ويصلي مكانها في أصح قولي العلماء، وقال: ومن المنكرات وضع السجاجيد في المساجد لحجز الأمكنة، ويأتي أصحابها يتخطون رقاب الناس، وكذلك ما يقع من البعض ممن اشتروا الضلالة بالهدى أن يجلس فيحجز المكان حتى إذا جاء أحد الأثرياء يتنازل له عن المكان في الصف الأول مقابل مبلغٍ من المال، وهذا حادثٌ مع الأسف في أطهر بقاع الله.
ومن البدع كذلك: تخصيص أناس لحفظ النعال يدفع إليهم الأجرة لا يحضرون الصلاة مع الجماعة.(121/17)
حكم النوم في المسجد أو دخوله بالنعال أو بالسلاح
وأما النوم في المسجد: فإن كان لمحتاج كالغريب الذي لا أهل له، أو الفقير الذي لا بيت له كما ورد أن ابن عمر لما كان أعزب، كان يبيت في المسجد لأنه لم يكن له بيت، فلما تزوج وصار له بيت لم يعد إلى ذلك، ويبيت فيه بقدر الحاجة ثم ينتقل.
وأما اتخاذ المسجد مبيتاً ومقيلاً، فلا يجوز ذلك كما قال شيخ الإسلام، وقال في موضع آخر: ويجوز النوم في المسجد للحاجة كما وقع لأهل الصفة، ومثل المسكينة التي كانت تأوي إلى المسجد وكانت تقمه، يعني: تنظفه، قال رحمه الله: فيجب التفريق بين الأمر اليسير وذوي الحاجات، وبين ما يصير عادةً، وما يكون لغير ذوي الحاجات، وأما اتخاذ المساجد للسكنى والمبيت وحفظ القماش والمتاع، فما علمت مسلماً ترخص في ذلك، فإن هذا يجعل المسجد بمنزلة الفنادق التي فيها مساكن محجرة، والمسجد لا بد أن يكون مشتركاً بين المسلمين، فمن سبق إلى مكان لذكر، أو قراءة، أو صلاة، أو اعتكاف، فهو أحق به حتى يقضي ذلك العمل، فإذا قضى العمل، زال حقه عن ذلك المكان.
ومن الأمور المكروهة المنهي عنها: رفع الصوت لغير حاجة كما يكره لمن يبلغ خلف الإمام بغير حاجة، كما ذكر بعض أهل العلم أن ذلك بدعة منكرة، وأما سؤال الناس كما يفعل الشحاذون في المساجد، فقد سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن ذلك، فقال: الحمد لله، أصل السؤال محرمٌ في المسجد وخارج المسجد إلا لضرورة، فإن كان به ضرورة وسأل في المسجد ولم يؤذ أحداً بتخطيه رقاب الناس ولا بغير تخطيه، ولم يكذب فيما يرويه، ويذكر عن حاله -كما يقع من الكثيرين- ولم يجهر جهراً يضر بالناس -كما يفعله أكثر الشحاذين- جاز والله أعلم بهذه الشروط.
وأما المشي بالنعال في المسجد فهو جائزٌ إذا كانت النعال نظيفة، والصلاة في النعال من سنن النبيين مخالفة لأهل الكتاب.
أما الآن عند فرش المساجد، فلا يدخل إنسان بحذائه نهائياً إلا إذا كان نظيفاً جداً، لأن في دخوله بحذائه الذي يمشي به في الشارع توسيخ للسجاد الذي يصلي عليه المصلون.
وإذا اضطر إنسان للدخول إلى المسجد بالسلاح كما يقع لبعض رجال الأمن، فإنه ينبغي أن يكون السلاح مغمداً، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا مر أحدكم في مسجدنا، أو في سوقنا ومعه نبل، فليمسك على نصالها بكفه حتى لا يعقر مسلماً) فيجوز عند الحاجة مع كونه مغمداً حتى لا يحصل الأذى.
ويجوز لمن به عذرٌ دائمٌ كسلس البول المكث في المسجد إذا أمن تلويث المسجد.
ويسن الإذن للنساء إلى المساجد على ألا تمس طيباً، وإن كان بها فلتغتسل منه.
هذه أيها الإخوة طائفةٌ من الأحكام المتعلقة بالمساجد التي يخالفها كثيرٌ من المصلين.
وفقنا الله وإياكم لأن نحل حلاله وأن نحرم حرامه، وأن نعمل بآداب الإسلام، وصلى الله على نبينا محمد.(121/18)
بعض البدع والمنكرات التي تقع في المساجد
الحمد لله رب العالمين، أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن من المنكرات أيضاً أيها الإخوة: تخطي رقاب الناس وإيذاؤهم.(121/19)
دخول الكافر إلى المسجد
وإن سأل سائل عن مسألة: هل يجوز للكافر دخول المسجد؟ فنقول: إذا ترتب على ذلك مصلحة شرعية، مثل أن يرى المصلين، فيتأثر بهم فيعجب بالإسلام فيكون سبباً لدخوله فيه، فإن ذلك جائز كما ورد في حديث ربط ثمامة المشرك في المسجد، فكانت رؤيته لواقع المسلمين سبباً في إسلامه، بشرط ألا يؤذي المسلمين، أو يوسخ المسجد، أما دخول الكفار لتصوير المساجد، أو الفرجة بالملابس السياحية فمن أكبر المنكرات.(121/20)
بناء المساجد على القبور
ومن أشنع البدع على الإطلاق بناء المساجد على القبور، وأسوؤها ما يجعل في جهة القبلة حتى يضطر المصلي لاستقباله، وقد ورد النهي عن الصلاة في المساجد المبنية على القبور، والحكم فيها: أنه إذا كان القبر سابقاً على المسجد وبني المسجد على القبر، يهدم المسجد، وأما إذا كان المسجد أولاً وكان القبر بعد ذلك، فينبش القبر وتنقل الرفات إلى مكان آخر، وإن أمكن عزله عن المسجد وفصله بجدار أو بشارع، فلا بأس بذلك.
ومن البدع: وضع أغطية للرأس عند باب المسجد ليلبسها كل داخل لتغطية رأسه.(121/21)
أخذ الكتب الموقوفة من المساجد
وكذلك من المنكرات: استعارة الكتب الموقوفة من بعض المساجد وعدم إرجاعها، أو ما يفعله بعض الطلاب السفهاء من أخذ المصاحف من المساجد وعدم إرجاعها، أو حجزها فترةً طويلة ليوفروا على أنفسهم ثمن الشراء كما يزعمون.
ومن البدع: زيادة إنارتها في المناسبات كرمضان ورجب، أو ضحى يوم العيد.(121/22)
بناء المقاصير للخاصة والضرب بالدفوف
وكذلك من البدع: إعداد أمكنة مرتفعة عن أرض المسجد للخاصة من الناس تسمى بالمقاصير، تقطع الصفوف وتفرق المسلمين إلى طبقات، أو كما يقع في بعض المساجد في البلدان الأخرى من وضع كرسي خاص يقرأ عليه القارئ قبل صلاة الجمعة وغيرها.
ورقص الصوفية في المساجد وما قد يصحبه من آلات الطرب وتلحين القصائد والمدائح، أو قراءة المولد النبوي.
كذلك من البدع المنكرة: اتخاذ التكايا أو الزوايا لـ أهل التصوف كما يقع في بعض البلدان، وأنا أذكر هذا أيها الإخوة، وإن كنتم لا ترونه الآن في واقعكم، فإن بعض الحاضرين من أهل تلك البلاد يهمهم هذا الأمر.
وكذلك فإن كثيراً من المسلمين يسافر، فيدخل تلك المساجد فيهمه أن يعرف ما هو المنكر وما هو المعروف.
ومن المنكرات: قيام بعض القصاص والمذكرين بتذكير الناس بأحاديث مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتوسل بالمخلوقين.
وبعض الناس يحتجون بواقع معين على صحة هذه المنكرات، قال العلامة القاسمي رحمه الله في إصلاح المساجد من البدع والعوائد: يحتج بعض الناس في دمشق على جواز هذه البدع واستحسانها بكونها موجودة في جامع بني أمية وهو شيخ الجوامع في الشام، وبكون مدرسيه الماضين سكتوا عليها، وهذه حجة فاشية في كثير من الأمور التي تساهل بها أهل النفوذ الماضون، فترى العامي إذا ليم على بدعة وأرشد إلى الصواب فيها، يستدل بفعل شيخه، أو العالم الفلاني، أو المكان الفلاني، أو البلدة الفلانية، ويزعم أنها مشروعة أو حسنة بسبب ذلك، وكل ذلك غرور، فإن فعل الناس ليس بحجة، إلا الكتاب والسنة هي الحجة ولو خالف الجميع.(121/23)
بدع الحجز في المسجد ومنكراته
وفي بعض المساجد أيها الإخوة جماعة يلازمون من الأمكنة ما كان وراء الإمام قبالة المحراب، وما يسميه بعض العامة بالروضة، فيأتي هؤلاء للمسجد قبل الصلاة، ويأخذون أمكنتهم المعينة، وإذا خصصوا هذه الأمكنة، لم يتراجعوا عنها، فقد يدخل ذلك في النهي عن التوطين كتوطين البعير، ولكن المصيبة أن بعض هؤلاء يرى أن ذلك المكان خاصٌ به ولو جاء متأخراً، وإذا رأى أحداً من الغرباء ونحوهم، فإنه لا يتورع أن يبعده من مجلسه، ويبلغ الجهل ببعضهم أنه إذا رأى أحداً في مكانه الذي اعتاد أن يجلس فيه، فإنه يحرج ويذهب إلى آخر الصف وهو ممتلئ غيظاً، فيجلس فيه ويظل يرمق ذلك الرجل الجالس في مكانه المعتاد على حد زعمه، وبعضهم إذا كان جالساً في ذلك المكان، وكان هناك فرجة، ورأى رجلاً غريباً عن هذا المكان يريد أن يجلس فيه، جلس متربعاً حتى يحجز المكان ليطرد ذلك، فإذا جاء صاحبه ليجلس أفسح له، صارت الأمكنة في المساجد بالواسطة عند بعض الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله! كذلك قد يجهل بعضهم، فإذا رأى واحداً جالساً في مكانه الذي اعتاد أن يجلس فيه من قبل، قال: يا فلان أتظننا أولاد البارحة أو اليوم في هذا الجامع، نحن من أربعين سنة نصلي في هذا المكان، فأين الذوق؟ ونحن نقول له: ذوقك أنت؟ إن من سبق إلى مباح فهو أحق به.(121/24)
بعض ما يباح في المسجد
وتجوز المناظرة في مسائل العلم دون المراء والجدل العقيم، ويباح عقد النكاح في المسجد، والقضاء والحكم، ويباح قتل البراغيث والقمل وكل ما هو مؤذٍ على أن يلقى خارج المسجد، ويباح الاستلقاء في المسجد لمن أمن انكشاف عورته.
هذه طائفة من الآداب والأحكام، أو المنكرات الموجودة في المساجد.
والأهم من هذا الكلام كله: لماذا بني المسجد؟ وما هي وظيفته في الإسلام؟ وكيف أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد؟ وما هو الفرق بين مساجد الضرار والمساجد التي بنيت على تقوى من الله ورضوان؟ وما هو الأثر الإسلامي والاجتماعي الشرعي من وجود المسجد؟ ما هي الفائدة منه؟ لعل الفرصة تتاح للكلام عن هذا الموضوع المهم في خطبة قادمة إن شاء الله.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا وإياكم الفتن والهوى، وأن يجنبنا وإياكم الزيغ والبدع والضلال والمنكرات، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(121/25)
المشابهة بين أطباع بني آدم والحيوانات
يختلف بنو آدم في الظاهر عن الحيوانات اختلافاً كلياً، ولكن هناك أمور في الباطن تتشابه فيها طبائع بني آدم مع بعض طبائع الحيوان.
فانظر إلى الكلب والخنزير، فالكلب همه أن يشبع بطنه من أي جيفة كانت، وبعض الناس لا يبالي ماذا يأكل حلالاً أم حراماً، والخنزير لا يقع إلا على الخبائث، وبعض الناس لا يرى منك إلا السيئ.
وكذلك توجد مشابهة مع الطاوس والجمل والخيل والغنم، وكذلك العقرب والحمار والفأر والنحلة والنملة والحمام.(122/1)
مقارنة بين الحيوانات ومماثلة الإنسان لها
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
الجواب
=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
الجواب
=6000493> يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
الجواب
=6003602> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة! إن موضوعنا الذي سنتحدث عنه في هذا اليوم إن شاء الله موضوع يُرينا كيف كان السلف رحمهم الله تعالى يستنبطون الأمور في التفسير، وهو موضوع يجمع بين حدة الذهن، وجودة الاستنباط واللطافة، وهو تعليق على آية من كتاب الله سبحانه وتعالى، هذه الآية التي نمر بها ولكننا قد لا ندري عن بعض ما تحتويه من الحكم واللطائف، يقول الله عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38].
وأنت إذا سمعت -يا أخي المسلم- قول الله عز وجل: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38] فإنك ستندهش وتتعجب كيف صارت هذه الحيوانات أمماً أمثالنا؟ وما هو وجه المشابهة بين بني آدم وبين الحيوانات؟ وما هو وجه المثلية الذي ذكره الله عز وجل في الآية؟(122/2)
معنى قوله تعالى: (أمم أمثالكم)
من المفسرين من يقول: إن الحيوانات والدواب والطيور أمم، كما أن البشر أمم.
ومنهم من قال: إن لها أسماء كما أن للبشر أسماءً.
ومنهم من قال: إنها تسبح الله كما يسبح المؤمنون الله.
ومنهم من قال: إنها تحشر كما أن البشر يحشرون، وحشر الدواب ثابت بنص القرآن والسنة، وهنا قول الله عز وجل: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38] وفي السنة أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الحيوانات تحشر ثم يقتص لبعضها من بعض).
وللأوجه المثلية -أيضاً- أنها تطلب الغذاء، وتبتغي الرزق، وتتوقى المهالك، كما يفعل ذلك البشر، ولما طلب الله سبحانه وتعالى من العباد التدبر في مخلوقاته؛ فإن السلف رحمهم الله عز وجل، ما زال أمرهم في تدبر القرآن، حتى بلغ شأناً عظيماً.(122/3)
وجه المثلية
ولما تدبر بعض السلف هذه الآية ومنهم سفيان بن عيينة قال لما سمع قول الله عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38] قال رحمه الله: ما في الأرض آدمي، إلا وفيه شبه من البهائم، فمنهم من ينتصر انتصار الأسد، ومنهم من يعدو عدوَ الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلاب، ومنهم من يتقوس كفعل الطاوس.
وقال الخطابي رحمه الله معلقاً: ما أحسن ما تأول سفيان من هذه الآية، واستنبط منها هذه الحكمة، وذلك أن الكلام إذا لم يكن حكمه مطاوعاً لظاهره وجب المصير إلى باطنه، فنحن نعلم بأن الحيوانات ليست مثل بني آدم، لأن بني آدم في الظاهر يختلفون عن الحيوانات اختلافاً كلياً.
فإذاً: هناك أمور في الباطن تتشابه فيها طبائع الآدميين مع بعض طبائع الحيوانات، وهذا من إعمال الفكر، والتدبر في مخلوقات الله عز وجل.
ولذلك -أيها الإخوة- نجد الله تعالى قد ضرب لبعض بني آدم أمثلة شبههم بها بالحيوانات، فقال الله سبحانه عن نفر من الناس: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] وشبه أناساً آخرين بأنهم مثل الحمار يحمل أسفاراً، ولذلك سنسوق لكم هذه الأمثلة التي تبين كيف يفكر علماؤنا في الآيات، وكيف يربطونها بالواقع، وما سيأتي من الكلام مختصر من كلام ابن القيم رحمه الله في مواضع متعددة من كتبه.
قال رحمه الله تعالى: ومن الناس نفوسهم نفوس حيوانية، وذلك مثل الجهال بالشريعة، الذين لا فرق بينهم وبين سائر الحيوانات إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان -هذا هو الفرق الوحيد وإلا فإنهم يشبهون الحيوانات- ليس همهم إلا نيل الشهوة بأي طريق أتت.(122/4)
وجه المماثلة مع الكلب والخنزير
ومن الناس نفوسهم نفوس كلبية، فلو صادف جيفة تشبع ألف كلب لوقع عليها، وحماها من سائر الكلاب ونبح في وجه كل من يدنو منها، وهمه شبع بطنه من أي طعام اتفق ميتةً أو مذكاة -بعض الناس لا يبالي ماذا يأكل حلالاً أو حراماً، طيباً أو خبيثاً مثل الكلب يقع على أي شيء- ولا يستحي من قبيح، فإن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، إن أطعمته بصبص بذنبه ودار حولك، وإن منعته هرك ونبحك.
ومن النفوس البشرية طبعها طبع الخنازير، يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيع قمه، وهكذا كثير من الناس؛ الخنزير لا يبالي بالطيبات، ولا يقع إلا على الخبائث والنجاسات والنتن، وبعض الناس يشبهون الخنزير في هذه الطبيعة، كيف يكون ذلك؟ إذا رأى منك إحساناً أو معروفاً، أو خلقاً طيباً، أو شمائل حسنة؛ فإنه يهملها بالكلية، ولا يذكرها ألبتة، بل يعرض عنها، وإذا رأى منك عيباً واحداً، أو تصرفاً خاطئاً، فإنه يقف عنده، ويظل يذكره ويجلس عليه طيلة دهره، ولو سمع منك خمسين حكمة ما حفظ منها حكمة واحدة، ولكن لو وقع على خطأ عندك فإنه لا يزال يدور حول هذا الخطأ ولا يذكر غيره، فهؤلاء طبعهم طبع الخنازير؛ فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء وجد بغيته، فجعلها فاكهته ونقله وشغله الشاغل.(122/5)
وجه المماثلة مع الطاوس
ومن الناس من طبيعتهم طبيعة الطاووس؛ يختالون ويتفاخرون ويتكبرون على عباد الله، فكل تصرفاتهم تنبئ عن الاختيال كما يختال الطاووس، أو قل: إنهم يتزينون بالريش في الظاهر وينتفخون وينتفشون، ولكنهم في الباطن ليس عندهم مضامين طيبة ولا محتويات حسنة، ولم تمتلئ قلوبهم بالإيمان، وتعمر به، ولذلك فقد بلغ الكبر بهم كل مبلغ، فيتكبرون على عباد الله، ويحتقرون خلق الله، وتجد بعض هؤلاء يمشون أمام الناس مختالين كما يمشي الطاووس.(122/6)
وجه المماثلة مع الجمل
ومن الناس من انطوت قلوبهم على حقد عظيم، فهم يشابهون الجمل، فهو من ناحية الحقد أحقد الحيوانات وأغلظها كبداً، فهؤلاء لا ينسون الأحقاد، فيظلون يتذكرونها، ولكن من الحيوانات ما هو أليف، ينسى الإساءة إذا أسيء إليه، وكذلك بعض البشر فإنهم يتسامحون في الأخطاء وينسونها بسرعة.(122/7)
وجه المماثلة مع الخيل والغنم
ومن أحمد الطبائع: طبائع الخيل التي هي أشرف الحيوانات نفوساً، وأكرمها طبعاً، وكذلك الغنم، ولذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السكينة والوقار في أهل الغنم؛ لأنهم بمعاشرتهم لها قد اكتسبوا شيئاً من صفاتها، وهذا شيء تستغربه بعض العقول، ولكن الواقع يؤكده، وكما يصف عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: بأن الخيلاء والفخر في أهل الإبل، فإنهم لا يزال الفخر طبيعتهم ولا تزال الكبرياء من سجاياهم.(122/8)
وجه المماثلة مع العقرب
ومن الناس من نفوسهم نفوس سامة من ذوات الحمات، وهذه السموم الموجودة تثير في النفوس حرارة تدفعها إلى اللدغ بحيث تجد الراحة في إلقاء السم في أجساد الآخرين، وبعض الناس نفوسهم مثل نفوس العقارب قد اشتملت على السم الزعاف، ولا تستريح حتى تلقي سمها في أجساد الناس.
مثل ذلك -أيها الإخوة- مثل الحاسد الذي تعتريه حرارة الحسد، فلا يستريح إلا بعد أن يصيب بسمية عينه إنساناً ذا نعمة؛ فيصيبه بالعين حتى تزول النعمة عنه، والعين حق كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتأمل المشابهة بين الحاسد الذي يصيب بالعين، وبين العقرب التي تحتوي على ذلك السم، وهذا الحاسد العائل يشعر بحرارة في جسده إذا رأى صاحب النعمة، ولا يرتاح حتى يصيبه بعينه فتسكن نفسه.(122/9)
وجه المماثلة مع الحمار
ومن الناس من نفوسهم نفوس حمارية لم تخلق إلا للكد والعلف، كلما زيد في علفه زيد في كده.
أبكم الحيوان وأقله بصيرة هذا الحمار، ولذلك جعله الله سبحانه وتعالى مثلاً للعالم الذي يعلم العلم ولا يعمل به ولا يفقهه، وإنما يحمله حملاً بغير تدبر ولا عمل، هذا مثل عالم السوء الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها.
ومن الناس من نفوسهم نفوس سبعية غرضية، هِمَتُهُم العدوان على الناس، كما تجد السباع همها العدوان على الناس، وافتراس الفرائس، وبعض الناس هكذا يتوثبون الانقضاض على الآخرين، ويقهرونهم بكل ما وصلت إليه قدرتهم وقوتهم؛ فتصير طبيعتهم مثل طبيعة السبع.(122/10)
وجه المماثلة مع الفأر
ومن الناس من نفوسهم نفوس فأرية، والفأر معروف بأنه مفسد لما جاوره؛ فيفسد الطعام ويقع فيه، حتى لا يستمتع به صاحبه، ولذلك فإن بعض الناس تشبه نفسياتهم نفسية الفأر يحبون الفساد والإفساد، لسانهم يسبح كأنه يقول: (سبحان من خلقه للفساد).(122/11)
وجه المماثلة مع النحلة
وإذا تأملت في بعض المجتمعات الحيوانية، لوجدت أن بعض المجتمعات الإنسانية فيها شبه من تلك المجتمعات الحيوانية، فأنت إذا أخذت النحلة، فإن مجتمع النحل مجتمع عجيب، وذلك أن لها أميراً ومدبراً وهو اليعسوب، وهو أكبر النحل جسماً، وأحسنها لوناً وشكلاً، وتجمع الإناث فراخها عند الملك فيخرج بها إلى المرعى من المروج والبساتين والمواقع، في أقصر الطرق وأقربها، فتجتني منها كفايتها، فيرجع بها الملك، فإذا انتهوا إلى الخلايا وقف عند بابها ولم يدع نحلة غريبة تدخلها.
فإذا تكامل دخولها، دخل بعدها وتواجدت النحل في مقاعدها وأماكنها؛ فيبتدئ الملك العمل كأنه يعلمها إياه، فيأخذ النحل في العمل ويتسارع إليه، ويترك الملك العمل ويجلس في ناحية يشاهد النحل كيف تعمل ويراقبها في عملها، فيأخذ النحل في إيجاد الشمع من لزوجات الأوراق، ثم تنقسم النحل فرقاً، فمنها فرقة تلزم الملك لا تفارقه، ومنها فرقة تهيئ الشمع وتصفيه، ومنها فرقة تبني البيوت، وفرقة تسقي الماء، وفرقة تحمل على متونها، وفرقة تكنس الخلايا وتنظفها من الأوساخ.
وكذلك أيها الإخوة! من عجيب أمر النحل أنها تقتل الملوك الظلمة المفسدة، لا تدين لطاعتها، وتقتل النحل الكسلان، حتى لا يعديها بطبعه، وهكذا بعض المجتمعات البشرية قد أوجدها الله سبحانه وتعالى وهيأها، لتسير خلف قائد ومربٍ تتعلم منه، وهو يراقب الأفراد ويعتني بهم، ويكفلهم ويرعاهم، وكذلك يقسمون العمل فيما بينهم حتى يعمل كلٌ منهم فيما يجيد فيه من العمل، مجتمع دءوب مثل مجتمع النحل، مجتمع منظم مثل مجتمع النحل، مجتمع يرفض الكسل ويعمل بدون توانٍ، يخطط وينظم في هندسة جيدة، كما أوجد الله ذلك في النحل، فيكون نتاج هؤلاء الناس عسلاً مصفى من وحي التربية القرآنية، والتربية المحمدية التي هي تطبيق للقرآن، كما خرج نتيجة العمل من ذلك النحل ذلك الشراب المصفى الذي فيه شفاء للناس، ولكن النتاج الذي يكون فيه شفاء القلوب أفضل وأعلى من النتاج الذي يكون فيه شفاء الأبدان.(122/12)
وجه المماثلة مع النمل
وتأمل في هداية الله للنمل، وما حكاه الله في القرآن عن النملة التي سمع سليمان كلامها وخطابها لأصحابها بقولها: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18] فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه من خاطبته، ثم أمرتهم بأن يدخلوا مساكنهم، ويتحصنوا بها من العسكر، ثم أخبرتهم عن سبب هذا الدخول وهو خشية أن تصيبهم مضرة الجيش فيحطمهم سليمان وجنوده، ثم اعتذرت عن نبي الله سليمان وعن جنوده باعتذار حسن، اعتذرت عنهم بحسن الظن بهم، وأخبرت بأنهم لا يشعرون، أي: ولو شعروا لما مروا فأهلكوا النمل من تحتهم، ولذلك تبسم نبي الله سليمان من حسن قولها وجودة منطقها، وما نتج عنها من الكلام الحسن الذي ينم عن جودة في التفكير والأسلوب.
ولقد نهى صلى الله عليه وسلم عن قتل أنواع من الحيوانات، مثل ما ثبت عنه أنه نهى عن قتل النمل والنحل والهدهد والصرد، وهو نوع من أنواع الطيور، وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: (نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة فقرصته نملة، فأمر بجهازه فأخرج، وأمر بقرية النمل فأحرقت جزاءً لتلك القرصة، فأوحى الله إليه أمن أجل أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح، فهلا نملة واحدة!) فالعدل مكانه في كل شيء، أمن أجل أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح لله فهلا قتلت نملة واحدة؟ وتأمل لتلك المخلوقة الضعيفة كيف تدرك بالشم ما يدرك غيرها بالبصر، وتحمل من الطعام ما هو أكبر من حجمها، ومثل ذلك مثل بعض الناس الذين هيأهم الله لحمل الأثقال التي تنوء بحملها الجبال، إنها المسئوليات العظيمة في نصرة هذا الدين.
وتأمل النملة عندما تعجز عن حمل شيء من الطعام؛ فإنها تذهب وتجيء بمجموعة في صف طويل، حتى تتعاون تلك الفصيلة من النمل في حمل هذا الشيء، وكذلك المشكلات العويصة التي إذا حلت بالمجتمع المسلم لا يستطيع أن يحلها رجل واحد، بل لا بد من تكاتف الجهود واجتماع الناس، وأن يتنادى بعضهم بعضاً، وأن ينتدب بعضهم بعضاً لهذه المهمات الشاقة، فيأتون في صف كالبنيان المرصوص، يحملون تلك التبعات ويجاهدون في الله حق جهاده.
وتأمل كيف تجتهد النملة في صلاح العامة منها، غير مختلسة من الحب شيئاً لنفسها، لا توجد نملة في مجتمع النمل تأخذ هذا الطعام لوحدها؛ فتأكله وتعتزل به جانباً، وإنما تجره إلى جحرها حتى يتشارك الجميع في أكله، إن ذلك هو التعاون بعينه الذي يوجد في بعض مجتمعات البشر الذين حباهم الله بتلك النعم.(122/13)
وجه المماثلة مع الحمام
وأخيراً: من أمثلة المجتمعات الحيوانية التي فيها انطباق ومشابهة كبيرة في حياة الناس: مجتمع الحمام، وهو من أعجب الحيوانات حتى قال الإمام الشافعي رحمه الله: الحمام أألف الحيوانات وأعقلها، أما أنه أعقل الطير فلأنه يحمل الرسائل والكتب، وربما زاد قيمة الطير منه على قيمة العبد والمملوك؛ لأنه يفعل في بعض الأحيان ما لا يفعله العبد والمملوك، فإنه يذهب ويرجع إلى مكانه من مسيرة ألف فرسخ فما دونها، وتنهي الأخبار والأغراض والمقاصد التي تتعلق بها مهمات الملوك والدول عن طريق هذا النوع من الحمام، ولهم قيمون عليها يعتنون بأنسابها اعتناءً عظيماً، فيفرقون بين ذكورها وإناثها وتنقل الذكور عن الإناث، والإناث عن الذكور، يخافون من فساد أنسابها؛ لأنه لا بد أن تكون أصيلة حتى تستطيع أن تؤدي المهمات.
وقال ابن القيم رحمه الله في تعليق لطيف في هذا الموضع: والقيمون -الموظفون الذين يقومون برعي هذا الحمام- يحفظون الذكور عن الإناث، حتى لا تختلط أنساب الحمام، ويحفظون أرحام حمامهم ويحتاطون عليها، ولا حول ولا قوة إلا بالله! والحمام موصوف باليمن والألف للناس، وهكذا بعض الناس تجده أليفاً، يحبه الآخرون، ولكن أناساً آخرين فيهم الفصائل الوحشية والنفور، لا يألفهم أحد؛ فهكذا الحيوانات على قسمين: قسم أليف يعيش مع الغير.
وقسم وحشي ينفر من الجميع.
هذا الحمام يألف المكان، ويثبت على العهد والوفاء لصاحبه، وإن أساء إليه، ويعود إليه من مسافات بعيدة، وربما صُدَّ عن الرجوع فترك وطنه عشر سنين وهو ثابت على الوفاء، حتى إذا استطاع العودة عاد إلى موطنه ذلك، وكذلك البشر منهم من يحفظ لك الوفاء والعهد، ولو أسأت إليه مرة فإنه يرجع إليك ويفيء؛ لأن عنده من تلك الطباع الأليفة ما يجعله يحتمل منك ذلك الخطأ في سبيل ذلك المعروف العظيم الذي أسديته إليه، كما أسدى صاحب الحمام إليها الطعام والمسكن، وهيأ لها وسائل المعيشة، فهي تحبه وترجع إلى المسكن وتألفه؛ ولذلك فإن الوصية كل الوصية لمن كان في ذلك المجتمع المسلم، فحصل له خير عظيم اقتبسه وتعلمه؛ أنه إذا أسيء إليه مرة أو أخطئ عليه أخرى أن يتناسى ذلك الخطأ، وأن يعود ويفيء إلى محضنه التربوي حتى يقتبس منه وينهل ويكتمل.
وأسأل الله لي ولكم السداد، وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا هو ولي الصالحين والمتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيله ومنهجه القويم.
وإذا تأملتم أيها الإخوة! في الواقع الاجتماعي للناس، وموقف الذكور والإناث من بعضهم، فإنكم تجدون بعد البحث والمقارنة مشابهة عجيبة لبعض طباع الحيوانات في ذكورها وإناثها، فإن الحمام كما يقول ابن القيم رحمه الله: مُشاكل للناس في أكثر طباعه ومذاهبه، فإن من إناثه من لا تريد إلا زوجها -هذا في الحمام- ومنها من لا ترد يد لامس، وأخرى لا تنال إلا بعد طلب حثيث، وأخرى لها ذكر معروف بها ولكن إذا غاب زوجها تخونه في ذكر آخر، ثم تأمل انطباق ذلك في حياة الناس اليوم تجد العجب العجاب، ونسأل الله أن يحصن فروجنا، وأن يجعلنا من الذين لا يخونون، ويحفظون الأمانات.
ومن الحمام من إذا باضت بيضة وهي لا تبيض في العادة أفسدت البيض، وتجد كذلك عند بعض الإناث الذين يجهضون ما في أرحامهن من الجنين الذي خلقه الله فيها؛ لأنها لا تريد المسئولية بزعمها، كما أن ذلك النوع من الحمام يفسد بيضه؛ لأنه لا يريد المسئولية.
وفي الحمام كذلك طبيعة أن ذكوره وإناثه يتقاسمون المهمات، فتقوم الأنثى بالحمل والوضع ورعاية الفراخ، ويقوم الذكر بالبحث عن الرزق وجلبه إلى العش.
والله سبحانه قد جعل بعض الدواب كسوباً محتالاً، وبعضها متوكلاً غير محتال، وكذلك البشر.(122/14)
استعراض لبعض طباع بني آدم
وبعض الحشرات يدخر لنفسه قوت سنة، وبعضهم يتكل على الله ثقة به مثل الطيور، وكذلك البشر بعضهم يدخرون لسنوات طويلة، وبعضهم إذا كسبوا أنفقوا على أنفسهم بالمعروف، وتصدقوا وعلموا أن الله سيرزقهم في الغد، وهو يرزقهم فعلاً لما صدقوا الله من التوكل.
ومن الحيوانات من يعول ولده، وبعضهم لا يعرف ولده، بل يلده ويذهب عنه، وبعض الإناث تكفل ولدها لا تعدوه، وبعضها تضع ولدها وتكفل ولد غيرها، وبعضها لا تعرف ولدها إذا استغنى عنها، وبعضها لا تزال تعرفه وتعطف عليه، وبعض الحيوانات يعرف الإحسان ويشكره، وبعضها لا يعرف الإحسان ولا يشكره، وبعضها يؤثر على نفسه، وبعضها إذا ظفر بما يكفي أمة من جنسه لم يدع أحداً يدنو منه.
وبعضها لا يأكل إلا الطيب، وبعض الحيوانات يأكل الطيب والخبيث.
بعض الحيوانات يأكل الطيب فقط، وبعض الحيوانات يأكل الخبيث فقط مثل الخنزير، وكذلك الناس في معايشهم اليوم، من وفقه الله لكسب الحلال لا يأكل إلا طيباً، ومن أغواه الشيطان فولغ في الحرام فكل نفقته حرام في حرام، يضعون نقودهم في البنوك الربوية في الخارج، ويتقاضون من روائها الفوائد الربوية، منها يعيشون، وعليها يتقوتون، ومنها يغذون أطفالهم وأولادهم: (وكل لحم نبت من سحت فالنار أولى به).
وبعض الحيوانات لا يؤذي إلا من آذاه، وبعضها يؤذي من لا يؤذيه وهكذا البشر، وبعضهم حقود لا ينسى الإساءة، وبعضهم يستقبح القبيح وينفر منه، وبعضهم لا يستقبح القبيح ولا يعرف الحسن، وبعض الحيوانات تتعلم بسرعة، وبعضها تتعلم ببطء، ولذلك فإن الذي يعاشر هذه الأصناف من الحيوانات فإنه يتأثر بها ولا بد.
وبعض الحيوانات يخدع بسهولة، وبعضها لا يخدع بسهولة، كذلك البشر منهم فطن ينتبه، ومنهم من لا ينتبه ويقع في أول فخ ينصب له، قال بعض الصيادين: ربما رأيت العصفور على الحائط فأومئ بيدي كأني أرميه فلا يطير، أتظاهر بأني أرميه وليس في يدي شيء فلا يطير، وربما أهويت إلى الأرض كأني أتناول شيئاً ولكن لا أتناول شيئاً فلا يتحرك، فإن مسست بيدي أدنى حصاة أو حجر أو نواة طار قبل أن تتمكن منها يدك، وهذا مشاهد في من عرف طبيعة الطيور.
وكذلك أيها الإخوة! ينبغي للإنسان المسلم أن لا يكون خبّاً، وأن لا يخدعه الخبّ فلا يكون لئيماً ماكراً، ولكن لا يدع الماكرين الخبثاء ينالون منه في شيء، وهذا باب واسع جداً، ولو ظللنا نسرد ما فيه لطال بنا الوقت، ولكن تأمل -يا أخي- في النهاية إلى تدبر السلف لهذه الآية: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38] الطباع تتشابه: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38].
اللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السماوات والأرض، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لم اختلف فيه من الحق بإذنك.
اللهم حسّن أخلاقنا، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح ذات بيننا، واجعل بلدنا رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(122/15)
المشي كيف وإلى أين؟
الإسلام دين شامل يتناول مظاهر الحياة كلها؛ والمشي نشاط إنساني ومظهر من مظاهر تحرك الإنسان على الأرض لعمارتها، وتنظيم علاقات الجنس البشري فيها، ولذلك لم تغفله النصوص الشرعية؛ فقد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية لتبين آدابه، ولترشد المسلم إلى غايات ينبغي أن يسعى إليها، وتحذره من السعي الذي يبغضه الله ولا يرضاه.(123/1)
آداب المشي في القرآن الكريم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: انتهينا -أيها الإخوة- من الكلام عن آداب تلاوة القرآن الكريم، نتحدث اليوم -إن شاء الله- عن أدب إسلامي آخر وهو المشي، وربما يستغرب الإنسان ويقول: ماذا يمكن أن يوجد على المشي في هذه الشريعة؟! والحقيقة أن هناك كلاماً كثيراً في هذه الشريعة ورد في النصوص الشرعية يتعلق بالمشي، فلعلنا نذكر بعضه إن شاء الله في هذا الموضع.
أولاً: بالنسبة للقرآن الكريم، فإنه قد جاء ذكر آداب المشي في القرآن الكريم في عددٍ من السور مثل سورة لقمان وسورة الفرقان، قال الله سبحانه وتعالى عن وصية لقمان لولده: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:18 - 19].
ومعنى قول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} [الإسراء:37] أي: لا تمش مشية الخيلاء متكبراً جباراً عنيداً؛ فإن فعلت ذلك أبغضك الله، ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18] والمختال: المعجب في نفسه، والفخور: أي على غيره.
وأوصى ولده بقوله: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي: امشِ مقتصداً ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريع المفرط، بل عدلاً وسطاً بين بين، هذا ما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله، وقال العلامة الألوسي رحمه الله تعالى في تفسيره روح المعاني قال: (ولا تمش في الأرض) التي هي أحط الأماكن منزلةً (مرحاً) أي: فرحاً وبطراً {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18] هذا هو التعليل للنهي، والمختال من الخيلاء، وهي التبختر في المشي كبراً، ولذلك قيل: إن اشتقاق اسم الخيل من الخيلاء، لأنه ما ركبها أحدٌ إلا وجد في نفسه خيلاء، فسميت الخيل خيلاً من هذا.
وقوله تعالى: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) قال رحمه الله: بعد اجتناب المرح فيه، توسط فيه بين الدبيب والإسراع، من القصد وهو الاعتدال، وقال ابن مسعود: [كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى، ولكن مشياً بين ذلك].
وفي البداية والنهاية أن عائشة نظرت إلى رجلٍ كان يتماوت في مشيته فقالت: ما لهذا؟ فقيل: إنه من القراء، فقالت: [كان عمر رضي الله عنه سيد القراء وكان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع] فالمراد إذاً بالإسراع فيه ما فوق دبيب التماوت، وعلق في الحاشية بقوله: ورأى عمر رضي الله عنه رجلاً متماوتاً فقال: [لا تمت علينا ديننا أماتك الله تعالى] ورأى رجلاً مطأطئاً رأسه فقال: [ارفع رأسك إن الإسلام ليس بمريض].
فيكره مشي التماوت الذي يخفى فيه الصوت وتقل الحركات ويتزيا صاحبه بزي العباد كأنه يتكلف في صفاته بما يقربه من صفات الأموات، ليُوهم أنه ضعف من كثرة العبادة، وكأن هذا الذي يمشي مشية التماوت يريد أن يقول للناس: من كثرة عبادتي وصيامي أنني متعب في المشي، وهذا من أنواع الرياء، لأن المسلم مطالب بإخفاء عمله، والسلف رحمهم الله كان بعضهم من كثرة الصيام يصفر لونه، فكانوا يدَّهنون حتى لا يظهر جفاف الشفاه ولصوق الجلد من كثرة الصيام، وكانوا يدهنون في نهار اليوم الذي يصومون فيه، حتى لا يظهر أثر العبادة وأثر الصيام؛ فيكون خفياً، فهو أقرب إلى الله عز وجل.
فمشية التماوت التي يظهر صاحبها أنه عنده تعبٌ شديدٌ من العبادة هي أمرٌ مذموم، وورد في صفته صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وقال تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان:19] وكونه عليه الصلاة والسلام كأنه ينحط من صبب لا يتنافى مع قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] لأن بعض الناس إذا علم أن مشية النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث كأنه ينحط من صبب، وأنه يسير بشيءٍ من الإسراع، وأنه يتقلع تقلعاً: (كان إذا مشى يتقلع) -كما سيأتي معنا بعد قليل- ظن أن هناك تعارضاً بين هذا وبين قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] فيظن أن الهون في المشي يتنافى مع كونه أنه ينحط من صبب -كأنه ينحط من مكان مرتفع- وأنه يتقلع تقلعاً.
فقال الألوسي رحمه الله: إذ ليس الهون فيه المشي كدبيب النمل، وذكر بعض الأفاضل أن المذموم اعتياد الإسراع بالإفراط فيه، وقال السخاوي: محل ذم الإسراع ما لم يخش من بطء السير تفويت أمرٍ ديني، لكن أنت تعلم أن الإسراع المذهب للخشوع لإدراك الركعة مع الإمام مما لا ينبغي.
وعن مجاهد أن القصد في المشي التواضع فيه، وقيل: جعل البصر موضع القدم، فإن من عيوب الإنسان أن يتلفت وهو يمشي يميناً وشمالاً يتفرج، وربما وقعت عيناه على امرأة ونحو ذلك، وقد ذكروا -في مسألة غض البصر- أن رجلاً كان يمشي وينظر إلى امرأة في جانب الطريق فارتطم بعمودٍ فسال دمه من هذه الصدمة؛ فالالتفات يميناً وشمالاً لا إلى الأمام لا شك أنه من عيوب المشي.
قال: وقيل جعل البصر موضع القدم، هذا بالنسبة لما ذكره في هذا الموضع.
وقال: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) من أَقْصَدَ الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية ووجهه إليها ليصيبها، أي: سدد في مشيك، والمراد: امش مشياً حسناً، وكأنه أُريد التوسط به بين المشيين السريع والبطيء، هذا بالنسبة لما ذكره في هذا الموضع.
وذكر الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان في تفسير سورة الإسراء عند قوله تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء:37]: نهى الله جل وعلا الناس في هذه الآية الكريمة عن التجبر والتبختر في المشية، (وقُرئ مرَحاً ومرِحاً) إذا قرأنا: (ولا تمش في الأرض مَرِحاً) أي لا تمش في الأرض في حال كونك متبختراً متمايلاً مشي الجبارين، قال: وأصل المرح في اللغة شدة الفرح والنشاط، وأطلق على مشي الإنسان متبختراً لأن ذلك من لوازم شدة الفرح والنشاط عادةً.
ولا شك أن الذي يمشي مشية الخيلاء متبختراً متفاخراً عُرضة لعذاب الله، والدليل على ذلك ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره عن مسلم بن جحاشن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: يا بن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذا، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد -وهذا مشي الجبارين المتغطرسين- فجمعت ومنعت -جمعت الأموال ومنعت الفقراء- حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق، وأنّى أوان الصدقة)؛ لأنه إذا بلغت الروح التراقي فلا توبة ولا تنفع التصرفات المالية، أو لا تنفذ التصرفات المالية في تلك اللحظة.
وكذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الرجل الذي كان يمشي متبختراً فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، فهناك عقوبة للمتجبرين في مشيتهم، فالذي يمشي مشية الخيلاء متغطرساً مهدد بعقوبة من الله، ويوم القيامة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر المتكبرون كأمثال الذر على صور الرجال يطؤهم الناس بأقدامهم).
انتبهوا يا أيها الإخوة! قضية المشي هذه قضية مهمة ورد ذكرها في القرآن في هذه السور الثلاث في لقمان والفرقان والإسراء، فالمسألة مهمة.
يقول الله تعالى في سورة الفرقان: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] أول صفة لعباد الرحمن ذكرها أنهم يمشون على الأرض هوناً قال ابن كثير رحمه الله: هوناً أي بسكينةٍ ووقار من غير جبرية -أي بدون تجبر ولا استكبار- كما قال الله تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء:37].
فأما هؤلاء -أي: المؤمنون عباد الله- فإنهم يمشون من غير استكبارٍ ولا مرح ولا أشرٍ ولابطر، وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعاً ورياءً -يمثلون تمثيلاً ويتظاهرون تظاهراً ويتماوتون تماوتاً- فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب، هذا في قوة مشيته وسرعته عليه الصلاة والسلام، فلا تفهم من قوله تعالى: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] أن تلك مشية المتماوت البطيء المتثاقل في الحركة؛ بل لا تبختر ولا تماوت، وامش بين بين، وكأنما الأرض تطوى له، وقد كره بعض السلف المشي بتضعفٍ وتصنع، حتى روي عن عمر أنه رأى شاباً يمشي رويداً فقال: ما بالك أأنت مريض؟! قال: لا يا أمير المؤمنين، فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي بقوة، وإنما المراد بالهون هاهنا السكينة والوقار كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون -ركضاً وهرولةً وإسراعاً مفرطاً مبالغاً فيه- وائتوها وعليكم السكينة والوقار -والسكينة والوقار ليس معناها أن نسحب أرجلنا سحباً على الطريق- فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) هذا بالنسبة لما ذكره رحمه الله في سورة الفرقان.(123/2)
آداب المشي في السنة النبوية
لنشرع الآن في ذكر بعض الأحاديث التي وردت في صفة مشي النبي صلى الله عليه وسلم، ورد في الصحيح -والصحيح من الأحاديث إما أن يكون في البخاري أو في مسلم أو في كليهما أو ما ورد مستكملاً لشرط الحديث الصحيح- ففي الصحيح -أي في البخاري ومسلم - من حديث أنس رضي الله عنه وهذا اللفظ لفظ مسلم: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ إذا مشى تكفأ).
وكان صلى الله عليه وسلم أيضاً: (إذا مشى لم يتلفت) رواه الحاكم رحمه الله تعالى وهو حديثٌ صحيح، صححه الألباني في صحيح الجامع، وقال المناوي في شرح الحديث: لم يلتفت لأنه كان يواصل السير ويترك التواني والتوقف.
والالتفات للحاجة لا بأس به، الإنسان يحتاج للالتفات إذا مشى من سيارةٍ أتت ونحو ذلك أو ليرى شيئاً؛ لكن ليس تلفت المتفرجين الذي يحصل من الناس اليوم وهم يسيرون في الشوارع وتقع أعينهم على ما لا يرضي الله، وكذلك التلفت يبطئ السير، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى لحاجة مشى ومضى وعزم؛ ولم يكن يتباطأ في مشيته ولم يلتفت؛ لأنه كان يواصل السير ويترك التواني والتوقف، والتلفت في المشي يسبب التواني والتوقف والتلكؤ في المشي، فإذا لم تكن حاجة للتلفت فمن الأدب ألا يتلفت الإنسان في مشيته وهو يمشي: (وكان صلى الله عليه وسلم إذا مشى مشى أصحابه أمامه وترك ظهره للملائكة) والملائكة كانوا يحرسونه من أعدائه، والله سبحانه وتعالى حسبه.
(وكان صلى الله عليه وسلم إذا مشى أسرع) وهذا الحديث قد جاء مرسلاً فهو حديث ضعيف، وكذلك مما ورد مما لم يصح وهو مشهور عند الناس حديث الترمذي: (ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه، ولا رأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تُطوى له، إنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث) هذا جاء في الترمذي عن أبي هريرة وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف، لكن معناه موجود، أنه عليه الصلاة والسلام: (كان إذا مشى أقلع) وصححه في صحيح الجامع ومعنى أقلع: مشى بقوة، كأنه يرفع رجليه من الأرض رفعاً قوياً، أقلع: يتقلع في المشي، لا كمن يمشي على طريقة النساء، وجاء في الحديث الصحيح أيضاً: (كان صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنه يتوكأ) فهو إذا مشى صلى الله عليه وسلم كانت خطواته جادة، كأنما ينحدر من صبب.
وجاء عند ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي مشياً يُعرف فيه أنه ليس بعاجزٍ ولا كسلان) حديث صحيح.
وكان أشبه الناس بمشية النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة؛ فقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم أيضاً عن عائشة قالت: (كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده لم يغادر منهن واحدة، فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً) فكان أشبه الناس مشياً بمشية النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة عليها رضوان الله.(123/3)
مشية النساء
ومشية النساء في الشارع تختلف عن مشية الرجال، فلابد أن تمشي المرأة على جانب الطريق والرجال في الوسط، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن المرأة إذا جاءت إلى رجل أجنبي للحاجة تكون مشيتها ما أخبر الله تعالى به في كتابه في سورة القصص عن بنت الرجل الصالح لما جاءت إلى موسى عليه السلام، لأن أباها لا يستطيع أن يأتيه بنفسه، قال الله: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25] ليست بسلفع خراجة ولاجة، بل تمشي على استحياء، ما جاءت إليه جريئة سليطة، لأن مخاطبة المرأة لرجل أجنبي صعبة على العفيفة، أما الآن فصارت أسهل عندهن من شرب الماء من كثرة المكالمات الهاتفية والاختلاط في العمل، وكثير من الأماكن صار كلام المرأة مع الرجل الأجنبي عادياً جداً، فأصبحت المرأة تأتي الرجل الأجنبي بكل ثقة وجرأة ولم تعد تمشي على استحياء كما يقتضي الأدب الإسلامي في مشية المرأة المسلمة.(123/4)
ابن القيم يصف مشية الرسول صلى الله عليه وسلم
وقد وصف ابن القيم رحمه الله مشية النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه زاد المعاد فقال رحمه الله: كان إذا مشى تكفأ تكفؤاً، وكان أسرع الناس مشيةً وأحسنها وأسكنها، قال أبو هريرة: (ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه) وذكر حديث الترمذي الذي تقدم ذكر ضعفه، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفؤاً كأنما ينحط من صبب) وقال مرةً: (إذا مشى تقلع) قلت: والكلام لـ ابن القيم رحمه الله، والتقلع الارتفاع من الأرض بجملته.
فلا يسحب رجليه سحباً كما يفعل بعض الناس، بل كان صلى الله عليه وسلم يرفعها رفعاً ويضعها وضعاً.
فإذاً كان يرتفع من الأرض بجملته كحال المنحط من صبب، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة، وهي أعدل المشيات وأروحها للأعضاء، وأبعدها من مشية الهوج والمهانة والتماوت، فإن الماشي إما أن يتماوت في مشيه ويمشي قطعة ًواحدة كأنه خشبةٌ محمولة، وهي مشيةٌ مذمومةٌ قبيحة، وإما أن يمشي بانزعاج واضطراب كمشي الجمل الأهوج وهي مشيةٌ مذمومة أيضاً، تجد أن كل شيء يتحرك فيه وهو يمشي، فهذه مشية الأهوج، وهي دالةٌ على خفة عقل صاحبها، أي إذا رأيت من يمشي مشي الأهوج في الشارع، وكل شيء يتحرك فيه، فاعلم أن في عقله خفة، وليس من اللازم أن يكون مجنوناً، لكن في عقله خفة، ولا سيما إذا كان يكثر الالتفات حال مشيه يميناً وشمالاً.
وإما هذا الاحتمال الآخر: أن يمشي هوناً، وهي مشية عباد الرحمن كما وصفهم بها في كتابه فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] قال غير واحد من السلف: بسكينة ووقار من غير تكبرٍ ولا تماوت، وهي مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه مع هذه المشية كان كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له، حتى كان الماشي معه يجهد نفسه ورسول الله صلى الله عليه وسلم غير مكترث، وهذا يدل على أمرين، أن مشيته لم تكن بتماوت ولا بمهانة، بل كانت أعدل المشيات.(123/5)
أنواع المشيات
ثم قال رحمه الله: والمشيات عشرة أنواع: منها: هذه الثلاثة التي مضت، وهي: التماوت، والهوجاء، والهون.
الرابعة: السعي.
الخامسة: الرمل؛ والرمل أسرع من السعي، وهو إسراع المشي مع تقارب الخطى، ويسمى الخبب أيضاً، وفي الصحيح من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خب في طوافه ثلاثاً ومشى أربعاً).
السادسة: النسلان، والنسلان هو العدو الخفيف الذي لا يزعج الماشي ولا يكرثه، ولا يسبب الإجهاد الكثير، الهرولة اليسيرة، وفي بعض المسانيد أن المشاة شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشي في حجة الوداع -أي: من عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى - شكوا إليه تعب المشي فأوصاهم عليه الصلاة والسلام بوصية فيها تخفيف عليهم، تتعلق بسرعة المشي، قال: (استعينوا بالنسلان) وهذا الحديث صحيح، رواه الحاكم وصححه الذهبي، فإذا كنت تمشي مسافة طويلة وأردت أن تستعين بشيءٍ يخفف عنك المشي الطويل فعليك بالنسلان، وهو الهرولة الخفيفة، فعند ذلك ستجد أنك قطعت مسافة أكثر براحة أكثر.
السابعة: الخوزلة: وهي مشية التمايل وهي مشيةٌ يقال: إن فيها تكسراً وتخنثاً.
الثامنة: القهقرى: وهي المشي إلى الوراء، وسيأتي حديث يتعلق بها.
التاسع: الجمزى: وهي مشيةٌ يثب فيها الماشي وثباً، ويقفز قفزاً.
العاشر: التبختر، وهي مشية أولي العجب والتكبر، وهي التي خسف الله سبحانه بصاحبها لما نظر في عطفيه وأعجبته نفسه فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة، قيل: إنه قارون.
وأعدل هذه المشيات مشية الهون والتكفؤ، أما مشيه مع أصحابه فكانوا يمشون بين يديه وهو خلفهم، ويقول: دعوا ظهري للملائكة ولهذا جاء في الحديث: (وكان يسوق أصحابه) ومعنى (يسوق أصحابه) أنهم يمشون أمامه ويمشي وراءهم، وكان يمشي حافياً ومنتعلاً.
ومما يتعلق بآداب المشي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يحتفوا أحياناً لأجل أن يتعود الإنسان على الخشونة -يخشوشن- كما قال: (تمعددوا) انتسبوا إلى معد بن عدنان يعني في هيئته وشمائله، (واخشوشنوا) وفي رواية: (واخشوشبوا).
إذاً: اعتادوا الخشونة، لأن الإنسان تتعاوره الظروف؛ فلن يكون دائماً في أماكن الترف والأماكن المهيأة، قد يضطر أن ينام أحياناً على الحجارة، وأن يمشي بدون نعال، فإذا كان هذا الإنسان مرفهاً مترفاً فلن يستطيع أن يتحمل، ولذلك تجد أصحاب الترف والميوعة لا يكادون يطيقون الحج، ويقولون: تعبنا وجهدنا ونحو ذلك، لأنه ليس متعوداً على المشقة، وأول ما يقع في شيء من المشقة في الطواف من زحام أو نحو ذلك يتأفف تأففاً عظيماً، وربما قال: ليتني ما حججت، وهذه عبارة سمعناها من بعضهم، قال: لو أدري أن الحج هكذا ما جئت.
وكان صلى الله عليه وسلم يماشي أصحابه فرادى وجماعات، وكان في السفر ساقة أصحابه؛ أي: يمشي وراءهم: (يزجي الضعيف ويردفه ويدعو له) وهذا الحديث رواه أبو داود وهو حديثٌ صحيح.
وقد ذكر العلامة السفاريني رحمه الله في غذاء الألباب شرح منظومة الآداب بعنوان المشيات عشرة أنواع، ونقل كلام ابن القيم رحمه الله، وأضاف إليه بعض الإضافات، فمن الإضافات التي أضافها السفاريني على كلام ابن القيم، لما عرض أحاديث مشية النبي صلى الله عليه وسلم وأنه إذا مشى كأنه ينحدر من صبب وأنه يمشي بنشاط وقوة، قال: فدلت هذه الأحاديث وأمثالها مما لم نذكر أن مشيته صلى الله عليه وسلم لم تكن بمماتةً ولا مهانة، والصبب الموضع المنحدر من الأرض، وذلك دليلٌ على سرعة مشيه، لأن المنحدر لا يكاد يثبت في مشيه، والتقطع الانحدار من الصبب، والتقطع من الأرض قريب لبعضه من بعض، وأراد به قوة المشي وأنه يرفع رجليه من الأرض رفعاً قوياً لا كمن يمشي اختيالاً يقارب خطوه، فإن ذلك من مشي النساء.
لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء؛ أن يمشي الرجل مشية المرأة.
ثم قال متعقباً في قضية المشي إلى الصلاة ومستدركاً: نعم.
ينبغي للإنسان أن يقارب خطاه إذا كان ذاهباً إلى المسجد لأجل الصلاة، لأن كل خطوة تكتب حسنة وتمحو سيئة وترفع درجة، فمن أجل هذا استحب بعض العلماء تكثير الخطى بتقاربها حتى تكون أكثر.(123/6)
آداب المشي مع الغير
وقال رحمه الله مضيفاً مطلباً وهو حكم المشي مع الغير: قال الإمام ابن عقيل: من مشى مع إنسانٍ فإن كان أكبر منه وأعلم فعن يمينه، يقيمه مقام الإمام في الصلاة، فهو قد قاس موضعه في المشي على موضع الإمام في الصلاة، وإذا كانا سواءً استحب له أن يُخلي له يساره حتى لا يضيق عليه جهة البصاق والامتخاط فإذا أراد الآخر أن يمتخط ويبصق فلا يكون هو عن يساره.
ومقتضى كلامه استحباب مشي الجماعة خلف الكبير، وإن مشوا على جانبيه فلا بأس كالإمام في الصلاة، يعني يكتنفونه وفي صحيح مسلم في حديث يحيى بن يَعْمُر أنه هو وحميد بن عبد الرحمن مشيا عن جانبي ابن عمر رضي الله عنهما؛ فإذا جاء اثنان إلى عالم اكتنفاه عن يمينه وشماله، وهذا من الأدب معه.
وإذا لم يكن له حاجة بكلام معه فتقديمه من الأدب، لكن عليه أن يحذر من أن يصيبه كبر، فإن ابن مسعود لما خرج أصحابه يمشون وراءه قال: [ارجعوا فإنها ذلةٌ للتابع وفتنةٌ للمتبوع] ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتواضع ويمشي وراء أصحابه.
وقال عبد القادر رحمه الله تعالى: وإن كان دونه في المنزلة يجعله عن يمينه ويمشي عن يساره وقد قيل: المستحب عن اليمين في الجملة، لتخلى اليسار للبصاق وغيره، وقال مالك بن معوذ: كنتُ أمشي مع طلحة بن مصرف، فصرنا إلى مضيق فتقدمني، ثم قال: لو كنتُ أعلم أنك أكبر مني بيومٍ ما تقدمتك، هذا بعض ما يتعلق بمشي النبي صلى الله عليه وسلم وأدبه.(123/7)
مقاصد المشي بين الطاعة والمعصية
أما بالنسبة للمشي فإن المشي لابد أن يكون في طاعة الله تعالى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة: (والرِّجلان يزنيان فزناهما المشي) أي: المشي إلى ما حرم الله.
وقال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين في عبوديات الجوارح: وأما المشي الواجب فالمشي للجُمعات والجماعات -فهناك مشي واجب ومكروه وجائز ومحرم ومستحب، المشي الواجب هو المشي إلى الجُمعات والجماعات، والمشي حول البيت للطواف الواجب مثل العمرة الواجبة والحج الواجب سواء كان فرضاً أو كان نذراً- والمشي بين الصفا والمروة بنفسه أو بمركوبه، والمشي إلى حكم الله ورسوله إذا دعي إليه -إذا قيل له: تعال إلى القاضي فقد دعي إلى حكم الله ورسوله فلابد أن يجيب- والمشي إلى صلة رحمه وبر والديه، والمشي إلى مجالس العلم الواجب طلبه وتعلمه، والمشي إلى الحج إذا قربت المسافة ولم يكن عليه فيه ضرر لما استحبه بعضهم من حج الماشي، لكن بدون أن يكون من مسافاتٍ بعيدة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ركب.
والمشي الحرام: المشي إلى معصية الله، والماشي إلى المعصية من رَجْل الشيطان، ما هو الدليل؟ الدليل: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء:64] قال مقاتل: استعن عليهم بركبان جندك ومشاتهم، فكل راكبٍ وماشٍ في معصية الله فهو من جند إبليس.(123/8)
من أحكام المشي
وأما بالنسبة لبعض ما يتعلق بالمشي من أبواب الفقه والأدب وغيرها، فمما يتعلق بالطهارة مشي المرأة إذا كانت تمشي فمرت بموضعٍ فيه قذر، وقد رخص لها بأن ترخي جلبابها شبراً أو ذراعاً؛ لأجل ألا تنكشف قدماها إذا هبت ريحٌ ونحو ذلك، ولا شك أن ارتخاء الجلباب أمر مستحب، لكنه صار شيئاً غير موجود في هذه الأيام تقريباً، فلا توجد الآن امرأة تسحب عباءتها شبراً أو ذراعاً بخلاف نساء العهد القريب، ربما بعض الناس إذا دقق في عباءة جدته رأى أنها تسحب وراءها شبراً أو شبرين، حتى إذا هبت الريح لا تنكشف قدماها، أما الآن فقد قصرت العباءات وظهرت الأقدام وأطراف السيقان وغيرها، وظهرت أشياء كثيرة، ليست فقط الأقدام أو الأصابع.
ولو أنها مشت في مكانٍ قذر، فما هو الحكم بالنسبة لهذا؟ جاء في النسائي وغيره عن محمد بن إبراهيم عن أم ولدٍ لـ إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر، فقالت أم سلمة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطهره ما بعده) الحديث بهذا السند ضعيف، لأن فيه جهالة أم ولد لـ إبراهيم بن عبد الرحمن.
وجاء عند أبي داود بإسنادٍ صحيح: (عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: قلتُ: يا رسول الله إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة فكيف نفعل إذا مطرنا؟ فقال: أليس بعدها طريقٌ هي أطيبٌ منها، قلتُ: بلى، قال: فهذه بهذه) رواه أبو داود، وصححه في المشكاة.
فإذا كان بعده طاهر طهره، لأن التراب مطهر للنجاسة العالقة بالثياب، فهذا حكم فقهي.(123/9)
استحباب المشي لصلاة الجمعة
كذلك مما يتعلق بالمشي استحباب المشي إلى صلاة الجمعة، فهو أفضل من الركوب، لقوله صلى الله عليه وسلم كما ورد في الصحيح: (من اغتسل يوم الجمعة وغسل -وفي رواية: غسل واغتسل- وغدا وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، وأنصت ولم يلغُ، كان له بكل خطوةٍ عمل سنة).
إذاً: المشي إلى صلاة الجمعة وإلى العيدين أفضل، فإن كانت المسافة بعيدة جداً ركب إلى الموضع الذي لا يشق عليه المشي منه وأكمل الباقي مشياً، وفي صلاة العيدين إذا ذهب ماشياً من طريق يرجع من طريقٍ آخر.
وأيضاً فإن المشي للصلاة من العبادات العظيمة، فقد جاء في الصحيح عن يزيد بن أبي مريم قال: لحقني عباية بن رافع وأنا ماشٍ إلى الجمعة، فقال: أبشر فإن خطاك هذه في سبيل الله، سمعت أبا عبس يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اغبرت قدماه في سبيل الله فهو حرامٌ على النار) فالمشي إلى صلاة الجمعة من سبيل الله، فإذا اغبرت القدمان حرمهم الله على النار.(123/10)
الوضوء يكفر سيئات المشي المحرم
وكذلك فإن الوضوء مما يزيل آثار المعصية التي حدثت في الرجلين، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئةٍ نظر إليه بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء) وقال في آخره: (فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئةٍ مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب).
إذاً: الاهتمام بالوضوء أمرٌ مطلوب؛ ذلك لأن الوضوء المسبغ على السنة من الأسباب التي تكفر سيئات المشي المحرم الذي مشاه الإنسان برجليه، وكذلك فإن المشي إلى الصلاة من مكفرات الذنوب، كما جاء في عددٍ من الأحاديث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة) أي: بعد خروجه من خطاياه بالوضوء الكامل المسبغ يكون مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة.(123/11)
المجيء إلى المسجد بسكينه ووقار
وكذلك من الآداب ما تقدم أن الإنسان إذا مشى إلى الصلاة فإنه يمشي وعليه السكينة والوقار، ولا يهرول هرولة ويجري جرياً كما يفعل كثير من الناس إذا سمع الإقامة جاء يجري، يدخل في الصلاة وهو لاهث مضطرب الأنفاس، يضيق صدره ويعلو وينخفض من شدة جريه وسعيه، على أنه قد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواضع أنه لا بأس أن يسرع أكثر من المعتاد لأجل اللحوق بالركعة، خصوصاً إذا كانت في هذه الركعة إذا فاتت فاتت الصلاة، كما لو جاء قبيل الركوع من الركعة الثانية من صلاة الجمعة، لو فاتته فاتته الجمعة، قال: فلو أنه اشتد لأجل هذه المصلحة الأعلى فإنه لا بأس بذلك.
لكن الناس الآن يجرون بكل حال على ركوع الركعة الأولى أو الثانية، وخصوصاً إذا صار المسجد عريض الصف يركضون ويجرون جرياً حتى يشوشوا على الناس وعلى الإمام في الصلاة.
وينهى عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فلا تأتوها وأنتم تسعون وائتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة) كما جاء في الصحيح.
أما بالنسبة لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] ففسر مجاهد آثارهم بالخطوات والمشي إلى الجمعة والجماعات والصلوات، وكل هذا يكتب عند الله، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في الصحيح: (إن أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم، والذي ينتظر الصلاة حتى يصلي مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصليها ثم ينام).
فكلما كان بيتك أبعد كان أجرك أعظم، ولذلك لما أراد بنو سلمة أن ينتقلوا من موضعهم إلى قرب المسجد نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: (بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم) أي: الزموا دياركم تكتب آثاركم.
وكذلك من الآداب المتعلقة بالمشي أن الإنسان إذا كان مريضاً فأتى الجماعة وهو يحتسب هذه الخطوات فإن أجره عظيم عند الله، قال عبد الله بن مسعود كما في صحيح مسلم: (لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة -صلاة الجماعة- إلا منافقٌ قد علم نفاقه؛ إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة) يمشي وهو مريض حتى يأتي إلى الصلاة.
وكذلك فإن من الأحكام والآداب أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيتٍ من بيوت الله ليقضي فريضةً من فرائض الله، كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة) ولذلك يقول أبي بن كعب: كان رجلٌ لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاةٌ قال: فقلت له: لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد جمع لك الله ذلك كله) رواه مسلم.
فإذاً في المشي إلى الصلاة أجرٌ ليس فقط في الذهاب بل حتى العودة.(123/12)
فضل المشي إلى عيادة المريض
وعيادة المريض أيضاً مما يمشى فيه في طاعة الله، فإنه قد جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أخا الأنصار كيف أخي سعد بن عبادة؟ فقال: صالح -أي: مريض، لكنهم يقولون ذلك تفاؤلاً- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يعوده منكم؟ فقام وقمنا معه ونحن بضعة عشر، ما علينا نعالٌ ولا خفافٌ ولا قلانس ولا قمصٌ نمشي في تلك السباخ حتى جئناه الحديث).
إذاً هؤلاء مشوا لزيارة المريض ما كان عندهم نعال، مشوا في السباخ والأراضي السبخة يكون المشي فيها صعباً- كل ذلك لأجل الأجر، فليحتسب الإنسان المسلم مشيه لعيادة أخيه المسلم.(123/13)
الجمع بين الصلاتين في المطر
من أحكام المشي أن الصلاة في المطر تُجمع لأجل عدم إرهاق الناس بالمشي في الوحل والطين، ولذلك جاء في الصحيح أن ابن عباس أمر المؤذن في يومٍ مطير، قال: (إذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم، قال: فكأن الناس استنكروا ذاك، فقال: أتعجبون من ذا؟! قد فعل هذا من هو خيرٌ مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أحرجكم، فتمشوا في الطين والدحض).
فإذا وجد الطين والزلق حتى لو لم يكن هناك مطر فهذا مسوغ لجمع الصلاتين، فإذا نزل المطر فمن باب أولى.(123/14)
جواز المشي اليسير أثناء الصلاة لحاجة
من أحكام المشي أيضاً مشي المصلي أثناء الصلاة، وهذا قد يكون لسد فرجة، وإذا مشى الإنسان منا مشية فينبغي له أن يحتسبها، والمشي لسد فرجة في الصف هي خطوات أجرها عظيم عند الله كما ورد في الحديث، وإذا كان أمامه صف فيه فرجة أو انكشفت فرجة، فمشى من صفه الخلفي إلى الإمام لسدها فهذه خطوة عظيمة، ومشي المصلي خطوات يسيرة لفتح بابٍ ونحوه أيضاً مما يجوز، فقد بوب النسائي رحمه الله في كتابه السنن: باب المشي أمام القبلة خطى يسيرة، أي: بدون أن ينحرف عن القبلة ويتغير اتجاهه، ثم جاء بحديث عائشة قالت: (استفتحت الباب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تطوعاً والباب على القبلة -أي: الباب في جهة القبلة- فمشى عن يمينه أو عن يساره، ففتح الباب ثم رجع إلى مصلاه) المشي كان عن يمينه أو عن شماله لأجل فتح الباب الذي على القبلة حسنه الألباني في صحيح سنن النسائي.(123/15)
من أحكام المشي في الحج
وأما بالنسبة للمشي في الحج فمن أحكامه ما تقدم أن المشي يكون في الأشواط الأربعة الأخيرة، والثلاثة الأشواط الأولى يرمل فيها الطائف رملاً، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا ثلاثة أشواط لأجل أن يروا المشركين جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا؛ كما جاء في الحديث الصحيح.
هل انتهت السنة هذه بفتح مكة وانتهاء الشرك من مكة؟
الجواب
لا.
بقيت سنة كل طواف قدوم، فالسنة فيه أنك ترمل في الأشواط الثلاثة الأولى وتمشي في الأربعة الباقية، جاء أيضاً في الحديث لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً.
وكذلك فإن المشي في السعي من المشي في طاعة الله، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل من الصفا مشى، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي، والعلم الأخضر الموجود الآن بداية الوادي، هذا الوادي كان موجوداً، والآن بعد أعمال التوسعة انتهى فصار المسعى كله علىمستوى واحدٍ لكن العلم الأخضر الأول ينبئك عن بداية الوادي، والعلم الأخضر الثاني ينبئك عن نهاية الوادي، فجاء في سنن النسائي وهو حديثٌ صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل من الصفا مشى حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى يخرج منه) وفي روايةٍ له: (حتى إذا صعدت قدماه مشى حتى أتى المروة).
حتى كان مئزره عليه الصلاة والسلام يدور من شدة السعي، وبالنسبة لمرمي الجمار فقد جاء في الحديث الصحيح عند الترمذي: (كان صلى الله عليه وسلم إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهباً وراجعاً) فالسنة إذاً المشي إلى الجمار ذاهباً وراجعاً.(123/16)
المشي إلى مسجد قباء
وكذلك فإن من الأحكام المتعلقة بالمشي المشي إلى مسجد قباء، فقد جاء في الصحيح عن ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قباء راكباً وماشياً) وإذا كان ذلك يوم السبت فهو أفضل، فالذهاب إليه مشياً أو الذهاب إليه راكباً كله ورد في السنة.(123/17)
تشييع الجنازة وآدابه
أما بالنسبة للجنازة والمشي فيها فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريباً منها) رواه الإمام أحمد وأبو داود.
إذاً المشيع للجنازة يمشي في أي مكان قريباً منها، والراكب لابد أن يكون خلفها، وقال عليه الصلاة والسلام: (الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها) حديثٌ صحيح.
أما المشي بالجنازة فلابد أن يكون إسراعاً، وقد جاء عند النسائي وهو حديثٌ صحيح عن عيينة بن عبد الرحمن بن يونس قال: حدثني أبي قال: (شهدت جنازة عبد الرحمن بن سمرة، وخرج زياد يمشي بين يدي السرير -أي: سرير الجنازة- فجعل رجالٌ من أهل عبد الرحمن ومواليهم يستقبلون السرير ويمشون على أعقابهم، ويقولون: رويداً رويداً بارك الله فيكم -يريدون أن تمشي الجنازة ببطء- فكانوا يدبون دبيباً حتى إذا كنا ببعض طريق المربد، لحقنا أبو بكرة على بغلة، فلما رأى الذي يصنعون من التباطؤ في المشي حمل عليهم ببلغته وأهوى إليهم بالسوط وقال: خلوا فوالذي أكرم وجه أبي القاسم صلى الله عليه وسلم لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنا لنكاد نرمل بها رملاً، فانبسط القوم).
فقد قال: نكاد نرمل بها رملاً، فهذه هي السنة في الجنازة، لا شك أن المشي أيضاً في الجنازة فيه أجرٌ عظيم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من مشى مع الجنازة حتى تدفن كان له من الأجر قيراطان، والقيراط مثل الجبل العظيم).(123/18)
النهي عن المشي بالنعال بين القبور
ومن أحكام المشي أيضاً: عدم جواز المشي بين القبور بالنعال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يمشي بين القبور في نعليه فقال: (يا صاحب السبتيتين ألقهما) والسبتية: نوع معين من النعال.
وقد أغرب من زعم أن النهي مختص بالنعال السبتية، والصحيح أن النهي عامٌ في كل نعل، لا يجوز المشي به بين القبور، هناك طرقات عريضة في المقبرة واسعة غير القبور، طرقات رئيسية لا بأس بالمشي فيها بالنعال، لكن إذا دخلت في مكان القبور في هذه المربعات أو في هذه الأماكن التي فيها القبور لا يجوز أن تمشي بين القبور بالنعال، ونعني القبور المقبور فيها الناس، أما القبور الفارغة فلا نعنيها.
فكثير من الناس وحتى بعض الشباب المتدينين إذا نظرت إليه في المقبرة عند دفن الجنازة تراه يطأ القبر بنعليه ويمشي بين القبور بنعليه، ووطؤه أشد ولا شك.(123/19)
اغتنام المشي مع الصالحين وأهل العلم
وكذلك فإن السنة المشي مع الصالحين وأهل العلم، لأن المشي معهم مكسب عظيم، فإن الإنسان يكسب علماً وأدباً وفائدة، وقد جاء في الصحيح عن أبي ذر قال: (خرجت ليلةً من الليالي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده ليس معه إنسان، قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد، قال: فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني فقال: من هذا؟ فقلتُ: أبو ذر، جعلني الله فداءك، قال: يا أبا ذر تعال، قال: فمشيتُ معه ساعة، فقال: إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلى أن قال: فمشيتُ معه ساعة، قال: أجلس هاهنا فأجلسني في قاعٍ حوله حجارة) إلى آخر الحديث الذي فيه (رغم أنف أبي ذر) وفي الحديث فضيلة المشي مع أهل العلم والصلاح، وأشار إلى ذلك العلماء.(123/20)
المشي مع الضعفاء وأصحاب الحاجات
وكذلك فإن من آداب المشي أن يمشي الإنسان مع الضعفاء، فقد جاء في الحديث الصحيح: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الذكر ويقل اللغو ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة ولا يأنف -أي لا يستكبر- أن يمشي مع الأرملة والمسكين، فيقضي له الحاجة).
وكذلك جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله سرورٌ تدخله على مسلم، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في المسجد شهراً) وهذا حديث حسن رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج.
والمشي في حاجة أخيك المسلم حتى تثبتها له أجرها أعظم، ولذلك قال: (ومن مشى مع أخيه المسلم حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام) لأن الناس يمشون على الصراط، وهناك من يسقطون في النار، ومن يسرعون مثل البرق، ومثل الريح المرسلة، ومثل أجاويد الخيل.
فإذاً المشي مع أهل الحاجات ولو لم تنقض الحاجة أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتكاف في المسجد شهراً، أما إذا انقضت فيثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام.(123/21)
حكم الحج ماشياً
ومن أحكام المشي أيضاً: أن الإنسان إذا نذر أن يمشي إلى بيت الله لا يلزمه النذر، فقد جاء في الصحيح عن عقبة بن عامر أنه قال: (نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فقال لي: لا تمش ولتركب) لأن المشي إلى الحج حافياً ليس عبادة وقربة في ذاته، فنذره لا يكون نذر طاعة ولا نذر عبادة.
ولذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم شيخاً يهادى بين ابنيه، قال: ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي، قال: (إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني) وأمره أن يركب، وقال: اركب أيها الشيخ فإن الله غنيٌ عنك وعن نذرك.(123/22)
إماطة الأذى عن الطريق
ومن آداب المشي أن الإنسان إذا كان ماشياً فرأى في الطريق عظماً أو حجراً يؤذي الناس فإنه يميطه وله أجرٌ عظيم، فقد جاء عن أبي هريرة في الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يمشي بطريقٍ إذ وجد غصن شوكٍ على الطريق فأخره، فشكر الله له فغفر له).(123/23)
كراهة المشي بنعل واحدة
وكذلك فإن من الأشياء المتعلقة بالمشي أن الإنسان إذا فقد إحدى نعليه أو انقطعت فإنه لا يمشي في نعلٍ واحدة، فقد جاء في البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمش أحدكم في نعلٍ واحدة، لينعلهما جميعاً أو ليخلعهما جميعاً) وهذا يمكن أن يدخل في آداب الانتعال الذي سيأتي معنا إن شاء الله تعالى.(123/24)
أحكام سلام الماشي والراكب
وكذلك من الآداب المتعلقة بالموضوع قوله عليه الصلاة والسلام: (يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير) فالراكب يسلم على الماشي لأنه أقل منزلة منه، فيبدأ هو بالسلام تواضعاً له، الماشي أرفع منزلة من القاعد، إذاً يسلم الماشي على القاعد، هذا أيضاً من التواضع.(123/25)
السلام على الصبيان
وكذلك من الآداب أن الإنسان إذا كان يمشي فمر بصبيان أن يسلم عليهم تواضعاً، فقد قال ثابت: (كنت أمشي مع أنس فمر بصبيانٍ فسلم عليهم، وحدّث أنس أنه كان يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بصبيانٍ فسلم عليهم).(123/26)
الاعتبار بمشي يوم القيامة
وينبغي أيضاً أن نعتبر بما يحدث في يوم القيامة من خروج الناس من قبورهم على الهيئة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم ملاقو الله مشاةً حفاةً عراةً غرلاً) فلا يمش إلا إلى ما يرضي الله، فكذلك يكون العباد يوم القيامة ثم يكسون، وأول من يكسى من الخلائق إبراهيم عليه السلام.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك أناساً يحشرون على وجوههم فاستغرب بعض الصحابة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة).(123/27)
جواز مماشاة الجنب للناس
وكذلك فإن مما يتعلق بالمشي أن الجنب يجوز له أن يماشي الناس، لذلك قال البخاري: باب الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره، وقال عطاء: يحتجم الجنب ويقلم أظفاره ويحلق رأسه وإن لم يتوضأ.(123/28)
احتساب الأجر فيما يصيب الماشي من أذى
وكذلك فإن الإنسان إذا كان ماشياً فجرحت قدمه فقد يتعرض لهذا فإنه يحتسب ذلك، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي إذ أصابه حجرٌ فعثر فدميت أصبعه فقال: (هل أنتِ إلا أصبعٌ دميت وفي سبيل الله ما لقيت).(123/29)
جواز الإسراع في المشي لحاجة
وفي البخاري كتاب الاستئذان عنون البخاري رحمه الله بعنوان فقال: باب من أسرع في مشيه لحاجةٍ أو لقصد، ثم ذكر حديث عقبة بن الحارث قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر فأسرع ثم دخل البيت) فإذا أسرع الإنسان في المشي لحاجة فلا بأس في ذلك، فهذا لا ينافي ما تقدم من صفة المشي.
وهذا آخر الكلام عن موضوع المشي، وما يتعلق به من الآداب والأحكام التي تيسر جمعها، هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(123/30)
النذير الأخير
الموت هو المصير الذي سيناله كل من وطئ هذه البسيطة، فهو حتمي لا شك فيه؛ فعلينا بالإكثار من ذكره، وعدم الغفلة عنه وعن فجأته.
وفي هذه المادة يتحدث الشيخ حول هذا الأمر موضحاً هذه الحقيقة بقصص من حياة السلف الصالح رضي الله عنهم.(124/1)
الاستعداد للموت
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
الجواب
=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
عباد الله: إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
إخواني: لقد ألهتنا هذه الدنيا عن الله عز وجل، لقد ألهانا ما في هذه الدنيا عن الاستعداد للدار الآخرة.
إن هذا البهرج، والزينة، وهذه الألوان والسلع، وهذه التسالي والألعاب، وهذه الأفلام والمسلسلات، وهذه الأسفار والسياحات، وهذه الملابس والصناعات قد ألهتنا عن الله تعالى، وعن الاستعداد للدار الآخرة، ولا يزال أهل الدنيا في غفلة حتى يأتيهم الموت، فإذا ماتوا انتبهوا.
عباد الله: الموت الذي حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على تذكره، وأمرنا بذلك، فقال: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) وامتثالاً لأمره صلى الله عليه وسلم تعالوا بنا نتذكر شيئاً من الأمر الذي أمرنا به صلى الله عليه وسلم وهو تذكر الموت؛ لعل الله تعالى أن ينعش قلوبنا بذكره، وأن يزيل الغفلة عن القلوب الصادئة، وأن يعود من انحراف عن الجادة، وأن يزداد الذي سلك الجادة عبادة.
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8] نَفرُّ من الحوادث، ونفرُّ من الأمراض إلى الأطباء والمستشفيات نفرُّ من الموت والموت ملاقينا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] إنه مجيء أكيد ولا بد، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام:93].
إن هذا الموت -يا عباد الله- آتٍ لا محالة، فكيف بأمر إذا نزل قطَّع الأوصال؟! أمر يقطع أوصالك، ويفرق أعضاءك، ويهدم أركانك إنه -حقاً- أمرٌ عظيمٌ، وخطبٌ جسيمٌ، وإن يومه لهو اليوم العظيم.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: [ليس للمؤمن راحة دون لقاء الله]، وهذا الأمر قد نسيناه، دهانا مجرد ذكر الموت والحديث فيه، والكثير يغضب إذا ذكر الموت، ويقول: تنغص علينا حياتنا وعيشتنا تنغص علينا أكلنا ومعيشتنا، وذكر الموت ليس لتكدير حياة الناس وإفساد مجالسهم، ونزع السعادة منهم، وإنما هو لإصلاح حالهم، وتنوير قلوبهم، وجعلهم مستعدين للقاء الله والقدوم عليه.
قيل للحسن رحمه الله: [يا أبا سعيد! كيف نصنع؟ نجالس أقواماً يخوفونا حتى تكاد قلوبنا تطير، فقال: والله إن تخالط أقواماً يخوفونك حتى يدركك أمن خيرٌ من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى يدركك الخوف]، وقال رحمه الله: [كان من كان قبلكم يقربون هذا الأمر كان أحدهم يأخذ ماءً لوضوئه، ثم يتنحى لحاجته مخافة أن يأتيه أمر الله وهو على غير طهارة، فإذا فرغ من حاجته توضأ].(124/2)
الموت وفجأته
يا عبد الله: إن ملك الموت إذا جاء لم يمنعه منك ثروة مالك، ولا كثرة احتشادك، أما علمت أن ساعة الموت ذات كرب شديد، وغصص وندامة على تفريط؟! رحم الله عبداً عمل لساعة الموت، وما نراه في المقابر أعظم عظةٍ وأكبر معتبر.
أيها الإخوة: تمر بنا الأيام وتتابع علينا أخبار الوفيات، والجنازات هذا صديق، وهذا قريب، وهذا جار، قد اختطفهم الموت بأمر الله تعالى، فحامل الجنازة اليوم محمول غداً، ومن يرجع من المقبرة إلى بيته اليوم سيرجع عنه غداً، ويترك وحيداً فريداً، مرتهناً بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
يا أيها الشاب: لا تغرنك الصحة والقوة والعافية، ولا يغرنك الشباب وكلام الأصحاب لا يغرنك عشاءٌ ساكنٌ قد يوافي بالمنيات السحر قد يأخذك على حين غفلة، وأنت لا ترى أن الموت يصل إليك، بل تراه بعيداً.(124/3)
نذير الشيب يحض على الاستعداد للموت
أيها المسلمون أيها الإخوان يا عباد الله! هذه ذكرى للشاب، أما وخطه الشيب، وأمد الله في عمره، وتخطاه الموت في سن الشباب، فإن شيبه نذير الموت.
تقول النفس غير لون هذا عساك تطيب في عمرٍ يسيرِ
فقلت لها المشيب نذير عمري ولست مسوداً وجه النذيرِ
قال صلى الله عليه وسلم: (من شاب شيبةً في الإسلام، كانت له نوراً يوم القيامة).
إذا جاءنا هذا الأمر من الله، فهل إلى الطبيب من سبيل فيدعى الأطباء؟ أو إلى الشفاء من طريق فيرجى الشفاء؟ ما يقال إلا فلانٌ أوصى، وماله أحصى، قد ثقل لسانه، فلا يكلم إخوانه، ولا يعرف جيرانه، قد عَرِقَ الجبين، وتتابع الأنين، وثبت اليقين، وصدقت الظنون، وتلجلجت اللسان، وبكى الإخوان، هذا ابنك فلان، وهذا أخوك فلان، قد منعت من الكلام فلا تنطق، وختم على لسانك فلا ينطق، ثم حل بك القضاء، وانتزعت النفس من الأعضاء، ثم عرج بها إلى السماء، فاجتمع عند ذلك إخوانك، وأحضرت أكفانك، فغسلوك وكفنوك، فانقطع عُوادك، واستراح حُسَّادك، وانصرف أهلك إلى مالك، وبقيت مرتهناً بأعمالك.
قال سفيان الثوري -رحمه الله- مبيناً حال شيخ كبير في استعداده للموت: رأيت شيخاً في مسجد الكوفة يقول: أنا في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة، أنتظر الموت أن ينزل بي لو أتاني، ما أمرته بشيء، ولا نهيته عن شيء، ولا لي على أحد شيء، ولا لأحد عندي شيء، أنتظر الموت، أنتظر أمر الله على عبادة وطاعة.
أما نحن فلو أتانا الموت فقرع بابنا، واستأذن للولوج -ولن يستأذن- لاحتجنا إلى سنوات طويلة نرتب أمورنا، ونسدد حقوقنا، ولكن السلف كانوا على استعداد دائم.
انظر -يا أخي- في غدك، ودنو أجلك، وقلة عملك، فقد كتب بعض أهل الحكمة إلى رجل من إخوانه: يا أخي! احذر الموت في هذه الدار قبل أن تصير إلى دار تتمنى الموت فيها فلا تجده، يتمنى الموت في ذلك اليوم: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] فلنحذر في هذه الدار قبل أن نصير إلى دار يتمنى فيه الموت فلا يحصل.
قال يحيى بن معاذ رحمه الله: مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلهما للعبد في ماله عند الموت، قيل: وما هما؟ قال: يؤخذ منه كله، ويسأل عنه كله.
فأي مصيبة في المال أعظم من هذه؟ لو احترق، أو ذهب في الدنيا، فسيأتي البديل، لكن عند الموت يؤخذ منه كله، ولا يأتي البديل، ويسأل عن كل درهم من أين اكتسبه وفيم أنفقه.(124/4)
حال السلف عند سكرات الموت
قيل لـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: [توفي فلان الأنصاري، فقال: رحمه الله، قالوا: ترك مائة ألف، قال: لكن هي لم تتركه وكيف تتركه وهنالك كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها؟](124/5)
صور من مواقف السلف عند الموت
إن للموت لشكرات، قالها النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدخل يديه في ركوة ماء، ويمسح بها وجهه الشريف وهو يحتضر يقول: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات)، ولما رأت فاطمة -رضي الله عنها- ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه، قالت: (واكرب أباه! فقال لها: ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم).
ولما احتضر أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، تمثلت عائشة ببيت من الشعر:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدرُ
فقال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: [ليس كذلك يا بنية، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، ثم قال: امضروا ثوبي هذين فاغسلوهما، ثم كفنوني فيهما، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت].
وهذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه لما كان في مرضه الذي مات فيه، قال: أجلسوني، فأجلسوه، ثم قال: [أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله!] ثم رفع رأسه وأحدّ النظر.
وقال معاذ بن جبل عند موته: هل أصبحنا؟ ثم قال: [أعوذ بالله من ليلة صبيحتها إلى النار، مرحباً بالموت زائرٌ مغيبٌ، وحبيبٌ جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لطول ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر] فكانوا ثابتين عند الموت لما كانوا ثابتين في الحياة؛ فإن الطاعة في الحياة تثمر ثباتاًَ عند الموت، والمعصية في الحياة تثمر الجلجة، والحشرجة، وعدم التوبة، وقلة الثبات عند الموت، ولذلك كان السلف -رحمهم الله- أثبت ما يكونون في تلك الساعة، وهي أحوج ما يكون فيها الإنسان إلى الإيمان، وإلى سلامة العقيدة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن ثبتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم هون علينا سكرات الموت، وارزقنا الثبات عند الممات، اللهم إنا نسألك المغفرة والرحمة والعتق من النار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(124/6)
صور أخرى تبين إشفاق السلف عند الموت
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم، لا إله إلا هو يحيي ويميت وهو حيٌ لا يموت والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله! بكى أبو هريرة في مرضه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: [أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي على بعد سفري، وقلة زادي، وأنا أصبحت في صعود مهبطٍ على جنة ونار، ولا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي].
وهذا عمر رضي الله عنه وأرضاه لما حضره ابن عباس، فقال له: [أبشر يا أمير المؤمنين! أسلمت مع رسول الله حين كفر الناس، وقاتلت مع رسول الله حين خذله الناس، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك رجلان، فقال عمر: أعد؟ فأعاد، فقال عمر: المغرور من غررتموه، لو أن لي ما على ظهرها من بيضاء وصفراء من الذهب والفضة، لافتديت به من هول المطلع].
ولما حضرت سلمان الفارسي الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: [ما أبكي جزعاً على الدنيا، ولكن عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون بلغة أحدنا من الدنيا كزاد الراكب] فلما مات سلمان نُظر في جميع ما ترك، فإذا قيمته بضعة عشر درهماً، خاف من بضعة عشر درهماً أن يكون خالف فيها وصية النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكَّر عمر بن عبد العزيز من حوله، فقال: ألا ترون أنكم تجهزون كل يوم غادياً أو رائحاً إلى الله عز وجل، وتضعونه في صدع من الأرض، قد توسد التراب، وخلف الأحباب، وقطع الأسباب؟!
سفري بعيدٌ وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني
ولي بقايا ذنوبٍ لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلنِ
نظر عمر بن عبد العزيز وهو في جنازة إلى قوم قد تلثموا من الغبار والشمس، وانحازوا إلى الظل، فبكى وقال:
من كان حين تصيبُ الشمس جبهتهُ أو الغبار يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشتهُ فسوف يسكن يوماً راغماً جدثاً
في قعر مظلمةٍ غبراء موحشةٍ يطيل في قعرها تحت الثرى اللبثا
تجهزي بجهاز تبلغين به يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
هانحن نمر في الجنائز ونمشي فيها ونحملها، ولا تدمع العيون، ولا تتحرك القلوب، ولا تُرى على الوجوه آثار الخشية من هذا المصير، والله إنها غفلة، وإلا فمن لا يعتبر بميت محمول إلى حفرة ضيقة.
قال الأعمش: كنا نشهد الجنازة، ولا ندري من المعزَّى فيها لكثرة الباكين.
ليس أهل الميت فقط هم الذين يبكون؛ بل كل الناس يبكون فيها، وإنما كان بكاؤهم على أنفسهم لا على الميت.
وقال ثابت البناني: كنا نشهد الجنازة، فلا نرى إلا باكياً.
وقال إبراهيم النخعي: كانوا يشهدون الجنازة فيرى فيهم ذلك أياماً.
وقال أسيد بن حضير: [ما شهدت جنازة وحدثت نفسي بشيء سوى ما يفعل بالميت، وما هو صائرٌ إليه].
وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: كنا إذا حضرنا الجنازة أو سمعنا بميت، عرف فينا أياماً، لأنا قد عرفنا أنه قد نزل به أمرٌ صيره إلى الجنة أو إلى النار، وإنكم في جنازتكم تتحدثون في أمور الدنيا.
إنه ليرى في الجنازة من يضحك، ويُرى في المقبرة من يضحك، ويُرون خارجين من المقابر وبأيديهم السجائر يدخنون، ضحك وتدخين في أعظم مكان يمكن أن يتذكر فيه الإنسان في المقبرة غاية الغفلة، فإذا كانت الغفلة في المقبرة، فماذا نتوقع خارج المقبرة؟ ولذلك لا عجب إذاً أن يقعوا في المعاصي المتواليات، ويسهروا الليالي من أجل المعاصي.(124/7)
تحذير من السفر إلى بلاد الكفار
من الناس اليوم وفي هذا الشهر -شهر الحر- من يريد السفر بأي طريقة إلى بلاد الكفر والمعصية، وهؤلاء بائعو السياحة يتفننون في إغراء المسلمين في قضاء إجازاتهم في بلاد الكفر التي غابت عنها شمس الدين والفضيلة، وهي محاولات للسطو على أماناتنا الأموال والأولاد، لأن الله قال: {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:27 - 28] وهذا وليٌ لا يحفظ ولده، وهذا صاحب مالٍ لا يحفظ ماله.
عباد الله: إنهم يقترضون من البنوك للسفر إلى الخارج، وتقول المرأة للأخرى: لماذا لا تسافرون؟ ما عندكم مال؟ اتجهوا إلى البنك يقرضكم، فيقترضون المال بالحرام بالربا؛ لأجل سفر الحرام، والمسألة حرام في حرام، وبعد ذلك يسددون الفواتير، وهناك عوائل تقتر على أنفسها طيلة السنة لكي يجمعوا المال للسفر إلى الخارج، حتى إذا عادوا قالوا لمن حولهم: لماذا ما رأيناكم في لندن ما رأيناكم في باريس ما رأيناكم في كذا هذه أمنيتهم، وهذا غاية ما يتمنونه؛ أن يقولوا: كنا في مكان كذا، ويروا في مكان كذا.
أين هؤلاء من الموت؟ أين هؤلاء من القبر؟ أين هؤلاء من الآخرة؟ أقسام الجوازات تعمل ليلاً نهاراً، والناس في غاية الاندفاع إلى السفر إلى بلاد الكفار جاء شهر الحر {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81] لو كانوا يعملون! لو كانوا يبصرون! لكن ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة فلا يرون الحق، ولا يرون الدين، والتقى، وإنما يرون المعاصي والآثام والفجور.
هذه المظاهر الاجتماعية السيئة إلى متى ستستمر؟ قالوا: نقصت أموال الناس! فإذا هم يزدادون في السفر، وعوضوا بدلاً من بعض بلاد الكفر الأغلى بلاداً أرخص، وهذه المتع المحرمة التي يسافرون إليها وتضيع فيها الأموال ثلاثة مليون سائح في عشرة أيام، في معدل إنفاق خمسمائة إلى ستمائة ريال، هذا من أدنى المستويات، النتيجة ستكون: مليار وستمائة مليون تصب في جيوب الكفار من أموال المسلمين، والناس في بلاد المسلمين الأخرى يموتون من الجوع، ويبحثون عن حبة طعام تركها بعض موظفي الإغاثة بين التراب ليأكلوها، وهؤلاء يبعثرون أموالهم، ويقترون على أنفسهم، ويستدينون من البنوك، ويسافرون بالأقساط!!! هل تظنون أن الله سيغفل عن هؤلاء أو يتركهم وقد فعلوا ما فعلوا؟! اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم ردنا إلى الحق رداً جميلاً يا رب العالمين.
اللهم بصرنا بعيوبنا، اللهم قوِّ إيماننا في قلوبنا، اللهم ارزقنا الغلبة على فتنة النساء والأولاد، اللهم ارزقنا الصمود أمام هذه الفتن يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا من القائمين بأمرك في أسرنا وبيوتنا، وفي أولادنا ونسائنا يا رب العالمين.
اللهم ارزق المجاهدين نصراً قريباً، اللهم عجل فرجهم يا رب العالمين، اللهم إن لنا إخواناً مستضعفين في الأرض يسامون سوء العذاب، وأنت الحي القوي، وأنت على كل شيء قدير، اللهم ارحم قتلاهم، واشف جرحاهم، اللهم أطعم جائعهم، واكس عاريهم، واحمل حافيهم، اللهم عجل بنصرهم، وعجل بفرجهم، وردهم إلى الإيمان والتوحيد يا أرحم الراحمين.
اللهم دمر أعداءنا، اللهم أهلك عدونا، اللهم اجعل الفرقة بينهم، وأفشل خططهم، واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم اللهم خالف بين قلوبهم، وألق فيها الرعب يا رب العالمين، اللهم اضرب بعضهم ببعض، اللهم خيب رميتهم، واجعل دائرة السوء عليهم.
اللهم إنك على كل شيء قدير، فارحم إخواننا، واكبت أعداءنا.
اللهم اقض ديوننا، واستر عيوبنا، وارحم ميتنا، اللهم إذا وضعنا في قبورنا، فليس لنا إلا رحمتك، اللهم ثبتنا عند السؤال، وباعد بيننا وبين سوء المآل يا رب العالمين، اللهم أحسن وقوفنا بين يديك، ولا تخزنا يوم العرض عليك وأنت الرحمن الرحيم، ونحن عبادك ليس لنا إلا رحمتك، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(124/8)
أنوار الاستغفار
إن الاستغفار عبادة جليلة مرتبطة بالتوحيد، ويجدر بكل مسلم أن يتعرف عليها، وعلى أهميتها، وكيفيتها، وصيغتها، ومناسباتها، وثمارها، وأجرها في الدنيا والآخرة هذا ما تحتويه طيات هذه المادة.(125/1)
أهمية الاستغفار
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله وخير خلقه ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه.
أيها الإخوة: درسنا بعنوان" أنوار الاستغفار" وهذه العبادة العظيمة في غاية الأهمية، ويجدر بكل مسلم أن يتعرف عليها، وعلى أهميتها، وعلى كيفيتها، وعلى مناسباتها، وعلى أجرها وثوابها، وعلى ما قال العلماء فيها، وعلى علاقتها بالتوحيد.
أما الاستغفار فإنه طلب المغفرة بالمقال والفعال، وسؤال المغفرة التي هي في الأصل الستر، فغفر أي: ستر.
والمراد بها عندما يطلبها العبد من ربه التجاوز عن الذنب وعدم المؤاخذة به، وستره وعدم العقوبة عليه، وعدم الفضيحة به، وعدم التوبيخ.
إن الاستغفار عبادة جليلة مرتبطة أشد الارتباط بالتوحيد، وقد كثر في القرآن ذكر الاستغفار، فتارة بصيغة الأمر به كقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] وقوله: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود:3] وتارةً بمدح أهله كقوله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17] وقوله: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18] وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] وتارةً يذكر أنه يغفر لمن استغفره كقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:110].
وكثيراً ما يقرن الاستغفار بذكر التوبة، فيكون الاستغفار طلب المغفرة باللسان، والتوبة هي الإقلاع عن الذنوب بالقلب والجوارح، وتارةً يفرد الاستغفار ويرتب عليه المغفرة كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك) فهذا الاستغفار الذي وعد الله به من استغفره ولم يصر على المعصية، وعندما يقول العبد: اللهم اغفر لي، فإنه يطلب من الله المغفرة، ويدعو بها، ولا سيما إذا صادف قلباً منكسراً، وساعة إجابة، واعترافاً من العبد، فإنه حريٌ أن يجاب صاحبه.
قال الحسن رحمه الله: [أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم وأسواقكم، وفي مجالسكم أينما كنتم، فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة].
وقال بعض الصالحين لولده موصياً: "يا بني عود لسانك: اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً" وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن عبداً أذنب ذنباً، فقال: ربِّ أذنبت ذنباً، فاغفر لي، فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنباً آخر، فاستغفر، وقال مثلما قال في الأولى، فقال الله سبحانه وتعالى: قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء) لأنه كلما عمل معصية، استغفر منها استغفاراً صحيحاً، وتاب بشروط التوبة الصحيحة، ولذلك فإن الاستغفار المقرون بعدم الإصرار يقبله الله سبحانه وتعالى، وما أصر من استغفر، وأما استغفار اللسان مع إصرار القلب على الذنب، فهو دعاء مجرد إن شاء الله أجابه وإن شاء رده، وربما يكون الإصرار مانعاً من الإجابة، ولذلك قال بعض السلف: إن المستغفر من الذنب وهو مقيمٌ مصرٌ عليه كالمستهزئ بربه.
فما معنى أن يستغفر بلسانه وهو مقيم بحاله على الذنب؟!! فالاستغفار التام ينبغي ألا يرافقه إصرار على المعصية، حينئذٍ تكون توبةً نصوحاً، وحينئذٍ يكون المستغفر مقلعاً عن الذنب، أما من قال: اللهم اغفر لي وهو مقيم على المعصية، فإنها تسمى توبة الكاذبين، لأن التوبة الصحيحة لا تكون مع الإصرار، فإذا قال العبد أستغفر الله وأتوب إليه، فله حالتان: أن يكون مصراً بقلبه على ذنبه، فهذا كاذب في قوله: وأتوب إليك، لأنه غير تائب، لأن كلمة (أتوب) تقتضي الإقلاع، وهذا غير مقلع وليس بتائب.
وكذلك من يعاهد ربه على الإقلاع عن المعصية، ثم هو يصر عليها، أما من أقلع فإنه حريٌ أن يقبل الله توبته.
وقد استحب جماعة من السلف أن يقول: أستغفر الله وأتوب إليه، لأنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها كما روى أحمد والبخاري ومسلم أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل موته: سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله وأتوب إليه، قالت: فقلت يا رسول الله أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده، فقال: أخبرني ربي أني سأرى علامةً في أمتي، فإذا رأيتها، أكثرت من قول سبحان الله وبحمده؛ أستغفر الله وأتوب إليه، وقد رأيتها، وتلا قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجا * {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3]).(125/2)
صيغ الاستغفار
وصيغ الاستغفار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة، منها: "أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه".
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (أستغفر الله) كلمة بمفردها.
وكذلك فإن من قال: "سبحانك اللهم وبحمدك، عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم".
فإن هذه من صيغ الاستغفار أيضاً.
وإذا قال: "اللهم اغفر لي وارحمني وتب علي إنك أنت التواب الرحيم" فهذه صيغة للاستغفار أيضاً.
وقد جاء في السنن الأربع عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة قول: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم) وجاء في صحيح مسلم قوله عليه الصلاة والسلام في الدعاء يبن التشهد والتسليم: (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت).
وكان عليه الصلاة والسلام ينوع في طلب المغفرة، ويعدد الذنوب بأنواعها، فيقول: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطأي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير).
وهناك دعاء إذا قاله العبد موقناً به فمات من يومه قبل أن يمسي كان من أهل الجنة، وإذا قاله في الليل حين يمسي موقناً به، فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة، ما هو هذا الدعاء؟ إنه سيد الاستغفار، ولقب بسيد الاستغفار لأنه أفضل الصيغ التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبو بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) هذه رأس الصيغ، وأفضل صيغ الاستغفار.(125/3)
فضل الاستمرار على الاستغفار
لا شك أن الاستغفار مأمور به لقول الله: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [البقرة:199] ولا يلزم أن يكون من معصية، فقد يستغفر الإنسان عن أشياء فعلها قديماً، ثم إن الإنسان قد يخطئ وهو غير منتبه أنه قد أخطأ، وقد يذنب وهو غير منتبه أنه أذنب، ولا بد لكل واحد أن يقع في المعصية، لأن الإنسان ظلوم جهول، ومن طبعه العصيان والخطأ، كل بني آدم خطاء، فلماذا إذاً يترك الاستغفار؟ فإذاً: الاستغفار عبادة طيبة تفعل دائماً وباستمرار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك لما دخل عليها، قال: (يا عائشة! إن كنت ألممت بذنبٍ فاستغفري الله، فإن التوبة من الذنب الندم والاستغفار) فإذا فعل الإنسان معصية استغفر، ويستغفر عموماً ولو لم يقترف معصية، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر دائماً، وقد روى الإمام أحمد بسند رجاله ثقات أن حذيفة رضي الله عنه وأرضاه قال: (يا رسول الله! إني ذرب اللسان، وإن عامة ذلك على أهلي -لساني فيه سلاطة وإيذاء، وعامة هذا يقع منصباً على أهلي، يعني: فماذا أفعل؟ - فقال صلى الله عليه وسلم: أين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالعبد دائماً بين نعمة من الله يحتاج فيها إلى شكر، وذنبٍ منه يحتاج فيه إلى استغفار" ولا يوجد حالة تخرج بها عن هذين الحالين، العبد دائماً بين نعمة من الله يحتاج فيها إلى شكر، وذنبٍ منه يحتاج فيه إلى الاستغفار، وهذان من الأمور اللازمة للعبد دائماً، فإنه لا يزال يتقلب في نعم الله وآلائه، ولا يزال محتاجاً إلى التوبة والاستغفار، والتوبة من التقصير في شكر النعمة لا بد منه، فكيف إذا أضيف إلى ذلك ذنب؟ ولذلك يحتاج العبد إلى الاستغفار دائماً حتى في الأعمال الصالحة؛ حتى لا يكون العجب بنفسه، وكلنا ذو تقصير، فمن الذي لا يقصر في صلاته، ولا يقصر في صيامه، ولا يقصر في حجه؟ ولذلك كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التحفة العراقية، قال: "ولهذا شرع الاستغفار في خواتيم الأعمال، قال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17] " يعني: بعد قيام الليل، وقت الفجر، في وقت السحر، قبيل الفجر يستغفر مع أنه يوجد قيام ليل.
قال بعضهم: أحيوا الليل بالصلاة، فلما كان وقت السحر أمروا بالاستغفار.
وفي الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته، استغفر ثلاثاً، وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) وهو منصرف من صلاة وليس منصرفاً من معصية أو من ذنب، ولذلك يقال بعد السلام مباشرة: أستغفر ثلاثاً، أستغفر الله من التقصير في الصلاة، أستغفر الله من العجب، أستغفر الله من الرياء، أستغفر الله، من كل تقصير، ومن كل عيب ومن كل شيء يدخل علي.
وقال تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] إلى أن قال: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] هذا في الحج بعد عرفة مطلوب من الحاج، فلا مجال للعجب بالعمل، ولا ليرى الإنسان أنه في حجه قد عمل شيئاً عظيماً وكفر به سيئاته، وقد ضمن به الجنة، بل إن عليه أن يستغفر ليشعر العبد نفسه أنه لا زال يحتاج إلى رحمة ربه ومغفرته، وبالرغم من عبادته أنه لا زال في تقصير، فهل أدى شكر نعمة البصر بهذا الحج؟ وهل أدى شكر نعمة السمع بهذه الصلاة؟ وهل أدى شكر نعمة اليد بهذا الصيام؟ وقد أمر الله نبيه بعد أن بلغ الرسالة وجاهد في الله حق جهاده، بعد هذا العمر الطويل، والحياة المباركة من النبي عليه الصلاة والسلام في الدعوة والتعليم والجهاد وإقامة الدين، وبعد العبادات، وبعد التربية التي قام بها الناس يقول له: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3] فقد أتى صلى الله عليه وسلم بما أمره الله تعالى به مما لم يصل إليه أحد غيره، ولا يستطيع أحد أن يفعل مثلما فعل النبي عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك قال له: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3].(125/4)
ملازمة التوحيد للاستغفار
إن قوام الدين بالتوحيد والاستغفار، وتأمل التلازم بين هذين الأمرين في الآيات كما قال الله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود:1 - 2] هذه الآيات عن ماذا تتكلم؟ عن التوحيد، قال بعدها: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً} [هود:3] وقال تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6] وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].
فلا بد للإنسان من ملازمة الاستغفار، وأن يجتهد فيه، ومن لازم الاستغفار واجتهد فيه واستعان بالله تعالى؛ فلا بد أن يأتيه الله من فضله ما لم يخطر ببال.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإذا رأى العبد أنه لا ينشرح صدره، ولا يحصل له حلاوة في الإيمان، ونور في الهداية، فليكثر التوبة والاستغفار، ويلازم الاجتهاد -يعني: بالعمل الصالح- قدر الإمكان، فإن الله قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] ".
وكذلك فإن الله تعالى قد أمر بالاستغفار مع الصبر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) وقال: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة).(125/5)
مناسبات الاستغفار
إذاً أيها الإخوة: هذا الاستغفار من النبي عليه الصلاة والسلام وهو الذي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يحصل في اليوم أكثر من سبعين مرة، فما بالنا نحن؟ والله قد أمره بذلك, وقال له: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] مع أنه قد غفر له ذنبه، ليعلمنا نحن من باب أولى.
والشريعة قد جاءت بمناسبات كثيرة يكون فيها الاستغفار، والله تعالى غفور ورحيم وعفو وتواب، وإذا تاب العبد إليه، فإن الله سبحانه وتعالى يقبل منه توبته، ولا يجوز لإنسان أن يقنط من رحمة الله، ولا أن يقنط الناس من رحمة الله، وكذلك فإننا لو نظرنا في هذه المناسبات التي جاءت فيها الشريعة بالاستغفار، لعلمنا أن العبد لا يخلو من الاستغفار في أحوال كثيرة، فمنها:(125/6)
عقب الخروج من الخلاء
الاستغفار عقب الخروج من الخلاء، كما جاء في جامع الترمذي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء، قال: غفرانك).
ما هي العلاقة بين الاستغفار وبين الخروج من الخلاء؟ قال ابن العربي رحمه الله: العجز عن شكر نعمة تيسير الغذاء، وإيصال منفعته، وإخراج فضلته.
فالآن أنت أكلت ودخلت الخلاء، ويسر لك إخراج فضلة هذه النعم، والعجز عن شكرها حاصل، فكان الاستغفار بعد الخروج من أسباب ذلك.(125/7)
بعد الوضوء
كذلك أيضاً الاستغفار بعد الوضوء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رَقٍّ -أي: كتاب- ثم جعل له طابع يختم عليه، فلا يكسر إلا يوم القيامة) حديث رواته رواة الصحيح.
يبين أن هذا الكلام يبقى ذخراً لصاحبه ليجازى عليه يوم القيامة، ويذكر هذا الفقهاء في سنن الوضوء.(125/8)
عند دخول المسجد والخروج منه
الاستغفار عند دخول المسجد والخروج منه، لما جاء في حديث فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد، صلى على محمد وسلم، وقال: رب اغفر لي ذنوبي وافتح أبواب رحمتك، وإذا خرج، صلى على محمد وسلم، وقال: رب اغفر لي وافتح لي أبواب فضلك) وهذا الحديث قد رواه الترمذي وحسنه لكثرة طرقه.(125/9)
عند افتتاح الصلاة
وكذلك الاستغفار في افتتاح الصلاة فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت التواب الرحيم) وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق أن يقول: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت التواب الرحيم) وقد جاء عن بعض أهل العلم أنه يُجعل في ختام الصلاة قبل السلام.
وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتأول القرآن في ركوعه وسجوده، يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي) ويقول بين السجدتين: (اللهم اغفر لي) وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر ثلاثاً بعد الصلاة، وكذلك في الاستسقاء علمنا الاستغفار، ونوح قد قالها لقومه من قبل: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح:10 - 11].
وعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء أن نفزع إلى دعاء الله تعالى واستغفاره.(125/10)
الاستغفار للأموات
ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفن رجلاً، وقف على قبره، وقال لأصحابه: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل) حديث صحيح رواه أبو داود رحمه الله تعالى، وإذا زار الإنسان قبراً، أو مقبرةً، يستغفر للأموات، وأما الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات عموماً، فإنه قد ذكره الله سبحانه وتعالى عن أنبيائه مثل: نوح عليه السلام الذي قال في دعائه: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] فبدأ بنفسه، وهذه هي السنة، فإذا دعا الإنسان يبدأ بنفسه: {رَبِّ اغْفِرْ لي} [نوح:28] ثم بأقرب الناس إليه وأعظمهم حقاً عليه وهما والداه: {وَلِوَالِدَيَّ} [نوح:28] ثم لإخوانه في الدين، والمؤمنين، وأصحابه وخاصتهم الذين يدخلون بيته: {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً} [نوح:28] ثم لعموم إخوانه المؤمنين والمؤمنات في العالم، السابقين واللاحقين، قال: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من استغفر للمؤمنين والمؤمنات؛ غفر الله له بعددهم.(125/11)
الاستغفار في كل حين
لا شك أن الاستغفار بالأسحار من المواطن التي يكون الاستغفار فيها عظيم الأثر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن الله ينزل إلى الدنيا في ثلث الليل الآخر، فيقول: من يستغفرني فأغفر له، والمجالس تختم بالاستغفار كالذكر الوارد بعد الوضوء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أراد أن يقوم من المجلس: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك) هذا يكون كفارة لجميع ما مضى في المجلس، وكذلك فإن الإنسان يشرع له الاستغفار بعد كل ذنب، وقد ذكر الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135].
وعند التقلب في الفراش ليلاً يسن للإنسان الاستغفار أيضاً كما جاء في البخاري عنه صلى الله عليه وسلم قال: (من تعار من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا يستجاب له فإن توضأ وصلى، قبلت صلاته).
وعند القيام في الليل للتهجد فإن الإنسان يقول أيضاً دعاءً قد ورد فيه الاستغفار: (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت)، هذا الدعاء المألوف لقوله الصلاة والسلام: (اللهم لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن) وهكذا.
الاستغفار عموماً في كل وقت في الليل أو النهار، والله عز وجل يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل، وهذا الاستغفار لا شك أنه يغسل الذنوب، والإنسان إذا كان ثوبه متسخاً يضع عليه الطيب أولاً، أم يغسله؟ يغسله أولاً، فالاستغفار هو بمثابة غسل الثوب، ولذلك إذا أذنب فعليه أن يستغفر قبل أن يقول أي ذكر آخر، فلو قال أحدهم: أقول: أستغفر الله وأقول أذكاراً أخرى، فأقول: الثوب الوسخ يحتاج إلى غسيل قبل أن يطيب، ولذلك فالاستغفار أولاً.
وهناك أعمال تحصل بها المغفرة بالإضافة إلى الأقوال مثل: موافقة الملائكة في التأمين، والصدقة تكفر الذنب، وصيام عرفة، وصيام عاشوراء، والحج والعمرة، والأذكار، وشهود مجالس الذكر، وسائر الأعمال الصالحة، وأنواع الابتلاءات والمصائب … وهكذا، ولذلك فإن الإنسان لا بد إذا استغفر أن يلح، ولا يقول اللهم اغفر لي إن شئت، وإنما يعزم في المسألة كما جاء في الحديث الصحيح: (لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت ولكن ليعزم المسألة، فإن الله لا مستكره له).
هل هناك موانع تمنع المغفرة؟ نعم.
هناك موانع وعلى رأسها الشرك: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48].
وكذلك فإن الشحناء بين المسلمين من أسباب تأخير المغفرة عن المستغفر: (تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا).
رواه مسلم رحمه الله تعالى.(125/12)
ثمار الاستغفار
الاستغفار يفيد في تكفير السيئات ورفع الدرجات قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:110] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم:8] (هل من مستغفر فأغفر له) كما جاء في الحديث.(125/13)
سعة الرزق
الاستغفار يسبب سعة الرزق: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10 - 12] {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3].(125/14)
قوة البدن
كذلك يقوي البدن: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود:52] فمن فوائده تقوية البدن.(125/15)
دفع للعذاب
كذلك فإن الاستغفار سبب في دفع العذاب قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33].
كذلك فإنه سبب للنجاة عند الورطات، والورطة هي النازلة التي لا مخرج منها، وكان عبد الله يونس عليه السلام يسبح ربه وينادي في الظلمات {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].
من أساسيات الاستغفار اعتراف العبد بالذنب، سيد الاستغفار من أسباب سيادته على بقية الأذكار أن فيه اعترافاً من العبد بالذنب، فإن العبد يقول: "أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي"، فيعترف بالنعمة، ويعترف بالذنب، وذلك هو سيد الاستغفار، فاعتراف العبد بذنبه مهم في الاستغفار.(125/16)
جلو القلب
إن الاستغفار أيها الإخوة: يجلو القلب ويزيل عنه الران، يزيل سواده وغباره وقترته، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن إذا أذنب، نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر، صقل قلبه -يرجع القلب إلى حاله الأولى- وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه وذاك الرين الذي ذكر الله عز وجل في القرآن ((كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) [المطففين:14]) ولذلك فإن الذي يستغفر ربه، يجلو قلبه وهذا معنى حديث: (وإنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة).
إذاً يغان على القلب، ويرين عليه ما يرين ويصبح عليه غشاوة، فالاستغفار يجلو ذلك كله، يجلو سحائب المعاصي وغبارها، ولا شك أن وقت الاستغفار مفتوح في كل حين، ولكن هناك بعض الأوقات التي يستحب فيها ويتأكد أكثر من أوقات أخرى كما مر معنا.(125/17)
الاستغفار للكافر
هل يجوز الاستغفار للكافر؟ بطبيعة الحال لا.
لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى لا يغفر للكفار، فأنت تطلب شيئاً حكم الله أنه لن يحصل: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114] لما مات أبوه على الكفر، انتهى، وكذلك: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] إذاً: من استغفر لكافر -ولو كان من أقرب الناس إليه- فهو عاص، لأنه لا يغفر للكافر، قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] فلا يجوز الاستغفار للكافر، والاستغفار للكافر ذنب بحد ذاته.(125/18)
طلب الاستغفار من الغير
هل يجوز للإنسان أن يطلب من شخص آخر يظن فيه الصلاح أن يستغفر له؟ ذكر ابن تيمية رحمه الله في كلام له ما يفيد ترك هذا من باب عدم اللجوء إلى المخلوقين، وأن الإنسان لا يلجأ إلى المخلوق ويقول له: ادع لي، ويطلب منه الاستغفار والدعاء، ووجّه بعض ما ورد في ذلك من الأدلة توجيهات خاصة، وأن ما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من الأمة أن يدعوا له، فلأجل منفعة الأمة ومصلحتهم، لا لأجل حاجته إليهم، وأن كل ما ورد من هذا ففيه مصلحة للمطلوب منه، وليس لمصلحة للطالب.
وهناك من أهل العلم من ذهب إلى أنه لا حرج في طلب الاستغفار من الرجل الصالح، واستدلوا على ذلك بأدلة، فمنها قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:64].
وقد يقال إن هذا خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام، لأن دعوته واجبة، وليس اللجوء إليه كاللجوء إلى شخص آخر، واستدل المجيزون أيضاً بحديث أويس القرني أن عمر رضي الله عنه وأرضاه قد كان يسأل عن القرنيين، ومنهم رجل اسمه أويس حتى استدل عليه، فأخبره بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً يأتيكم مع أمداد أهل اليمن) الذين جاءوا بطلب من عمر كمدد من المسلمين ليوافوا جيوش المسلمين في الشام والعراق، فكان من أعظم الناس نجدة أهل اليمن، خرجوا للجهاد في الشام والعراق، وكثير من ديار الشام والعراق فتحت وأكثر جيوش الفتح من اليمن، (وكان في أهل اليمن رجلٌ من قرن يقال له أويس له أم هو برٌ بها، وقد كان به بياض، فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضع الدرهم، فمن لقيه منكم، فليستغفر لكم) وفي رواية في صحيح مسلم: (إن خير التابعين رجل يقال له أويس، وكان به بياض، فمروه فليستغفر لكم، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن، سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس، فقال: أأنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مرادٍ، ثم من قرنٍ؟ قال: نعم، قال: فكان بك برصٌ فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم -وجاء في رواية أن هذا الموضع في السرة، يذكر مرضه ونعمة ربه، وفي نفس الوقت لا يشوهه في أعين الناس- قال: لك والدة؟ قال: نعم -فلما استوفيت الشروط والمعلومات- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مرادٍ، ثم من قرنٍ، كان به برص، فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بها برٌ -هذا من أسباب رفع منزلة هذا الرجل- لو أقسم على الله لأبره 0لو حلف على الله أن يحدث شيء، أو لا يحدث شيء، لحدث الذي يريد، ولم يحدث الذي لا يريد- فإن استطعت أن يستغفر لك، فافعل) فاستغفر لي، فاستغفر له.
فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي.
فلما كان من العام المقبل، حج رجلٌ من أشرافهم، فوافق عمر في الحج، فسأله عمر عن أويس، قال: تركته رث البيت، قليل المتاع، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مرادٍ، ثم من قرنٍ، كان به برص، فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بها برٌ، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك، فافعل) الكلام هذا سمعه رجل من عمر، ذهب مباشرة إلى أويس.
فأتى أويساً، فقال: استغفر لي، قال أويس: أنت أحدث عهد بسفر صالح، فاستغفر لي، أي: أنت آتٍ من الحج، فأولى أن تستغفر لي، ثم انتبه أويس، قال: لقيت عمر؟ قال: نعم، فعرف المسألة، فاستغفر له، ففطن له الناس، وجعل الناس يأتون إلى أويس يقولون: استغفر لنا، فانطلق على وجهه، فلم يُعلم أين ذهب.
أيضاً استدلوا بقول إخوة يوسف لأبيهم: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف:97] وفي صحيح مسلم أن أم الدرداء قالت لـ صفوان بن عبد الله: أتريد الحج هذا العام؟ فقال صفوان: نعم، قالت: فادع الله لنا بخير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملكٌ موكل، كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل) وابن تيمية رحمه الله كان يوجه كل هذا، ويدور على معنى أن الإنسان لا يطلب من الآخر دعاء، وإنما يطلب من الله مباشرةً، ولو كان الطلب جائزاً، لكن الأفضل تركه، لأن فيه نوع لجوء إلى المخلوق.
يعني: لا يكون الدعاء من أشخاص، بل يطلب من الله مباشرة، مع أن طلب الدعاء المباح جائز، لكن يقول: لأن فيه لجوء للمخلوق، والأحسن والأفضل أن يترك، ويسأل الله مباشرةً.(125/19)
الاستغفار للوالدين
طلب النبي صلى الله عليه وسلم حاول أن يطلب المغفرة من الله لأمه، لكن لم يقبل منه وقد حدث ذلك في القصة التي رواها مسلم وأحمد عن بريدة رضي الله عنه وأرضاه، قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل بنا، ونحن معه قريب من ألف راكب، فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان، فقام إليه عمر بن الخطاب ففداه بالأب والأم، يقول: يا رسول الله! ما لك؟ قال: إني سألت الله عز وجل في الاستغفار لأمي، فلم يأذن لي، فدمعت عيناي رحمةً لها من النار) حديث صحيح.
وهذا يدل على أن وشيجة العقيدة هي المقدمة، وأنها إذا انقطعت انقطعت معها باقي الوشائج، وأن ما بقي بعد ذلك فإنما هو إحسانٌ بالمعروف، قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] ولكن لا يجوز مجاوزة الحد الشرعي.
نعيد التذكير بقصة إبراهيم الخليل لما قال: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:86] {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47] وبين الله عز وجل الأمر بعد ذلك: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4].
هذا كان قبل أن يعلم أنه عدوٌ لله، فلما تبين له أنه عدوٌ لله تبرأ منه، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إني سألت الله عز وجل في الاستغفار لأمي، فلم يأذن لي) لأنها ماتت على الشرك، وهذا يبين بطلان الحديث الذي ادعى بعضهم فيه أن الله أحيا أبوي النبي عليه الصلاة والسلام له، فآمنا به ثم ماتا، فهذا كذب باطل موضوع، وأن من مات على الشرك دخل النار، ولو كان ولد نوح، ولو كان أبا إبراهيم، ولو كانت أم النبي عليه الصلاة والسلام، إذا لم يوجد توحيد فلا أمل في المغفرة، ليس هناك مجاملات على حساب التوحيد.
لكن إذا كان الأب والأم مسلمين، فإن استغفار الولد لهما ينفعهما، كما جاء في الحديث الحسن عند الإمام أحمد رحمه الله، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا ربي أنى لي هذه؟! فيقول: باستغفار ولدك لك).
إذاً هناك أناس يرفعون في الجنة، ليس بأعمال عملوها هم؛ لكن باستغفار أولادهم لهم، ومن هنا كان الاستغفار للأبوين أمراً في غاية الأهمية، والله يقيض من ولدك من يستغفر لك، واعلم إنك إذا استغفرت لأبويك، فإن الملك يقول ولك بمثله، ولك بمثله، قال تعالى عن نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً} [نوح:28].
وأيضاً يدعو الله عز وجل أن يرحمهما كما ربياه صغيراً، فهذا بالنسبة لاستغفار الولد لأبويه المسلمين.(125/20)
أهمية الاستغفار في حق النساء
نذكر النساء بأهمية الاستغفار في حقهن، وتأكده، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما جاء النساء، قال: (يا معشر النساء! تصدقن، وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار! قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير) رواه مسلم.
فكثرة اللعن، وجحد حق الزوج، والتمرد عليه، وفي رواية: (وتكثرن الشكاة) فكثرة الشكاية من أسباب دخول النساء النار، فأوصى النبي عليه الصلاة والسلام النساء في المقابل بكثرة الاستغفار، قال: (يا معشر النساء! تصدقن، وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار) وبعض العلماء يرى أن التوبة من الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته، جاء ذلك في حديث ضعيف، لكن قالوا: لعل الشخص إذا اغتبته، ولا تستطيع أن تتحلل منه، إما لأنه مات، أو لأنه ذهب وسافر ولا تدري أين مكانه، أو لأنك إذا أخبرته يغضب، أو يزداد عليك حنقاً، وإن كان صدره سليماً يصير صدره مليئاً عليك، لو أنك قلت: أنا اغتبتك، أنا قلت فيك كذا وكذا، فحللني وسامحني، يمكن أن توغر صدره فما هو الحل؟ ذكروا حلولاً منها: أن تنفي كلامك الذي تكلمت به عنه، وأن تدافع عنه في غيبته، وأن تذكره بالحسنى في المجالس التي اغتبته فيها، وأن تستغفر له، قالوا: لعل هذا الشخص يوم القيامة -وهو صاحب حق سيأخذ من حسناتك- إذا رأى في صحيفته نتائج استغفار له، أن يتنازل عن حقه ويسامح حين رأى في صحيفته استغفاراً من قبلك يا من اغتبته، فعند ذلك يتنازل، فقالوا: إن من كفارة الغيبة الاستغفار للذي اغتبته.
أخيراً أيها الإخوة: فإن الاستغفار هو أحد الأشياء التي تُكفَر بها الذنوب، وليس هو كل شيء، فليس كل التكفير بسببه، فإن هناك أموراً يغفر الله سبحانه وتعالى بسببها، فمن الأشياء التي يغفر الله سبحانه وتعالى بسببها: التوبة، والاستغفار، ودعاء المؤمنين، ودعاء الملائكة، والمصائب، وفتنة القبر، وما يحصل في المحشر من الأهوال، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وشفاعة الملائكة، وشفاعة المؤمنين، وفي النهاية أرحم الراحمين، بعد أن يشفع الملائكة، والنبيون، والصالحون، يبقي أرحم الراحمين، لم تمح الذنوب، ولا زالت السيئات أكثر، فإنه لا بد من تطهيرٍ بالنار والعياذ بالله.
إذاً: فليبدأ الإنسان من البداية ويستغفر من الآن؛ بدلاً من أن يترك المسألة لفتنة القبر، وأهوال المحشر، والصراط، ولفحات جهنم، من الآن يستغفر الله عز وجل ويتوب إليه، ويكثر من قول: أستغفر الله (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً) وتذكر هذه الوصية من النبي عليه الصلاة والسلام: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً).
هذا ما تيسر ذكره فيما يتعلق في هذا الموضوع.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وأن يتوب علينا إنه هو الغفور الرحيم.(125/21)
الأسئلة
.(125/22)
الأكل وقت أذان الفجر في رمضان
السؤال
ماذا يجب على من أكل وشرب وقت أذان الفجر في رمضان؟
الجواب
لو كان المؤذن يؤذن وقت طلوع الفجر الحقيقي، فلا يجوز الأكل أو الشرب وبمجرد قول (الله أكبر) تمتنع عن الطعام والشراب، ولا يجوز لك، لكن لو كان على التقويم الظني، فإنني أقول: الأحوط له أن يمسك، لأنه لا شيء يمكن أن يعتمد عليه الآن إلا التقويم، فليمسك، ومن أكل أثناء الأذان، فلا إعادة عليه إن شاء الله، ولكنه لا يعود إلى ذلك.(125/23)
سجدة التلاوة
السؤال
رجل في أثناء عمله في المكتب يقرأ القرآن، فإذا قرأ سجدة في المكتب، هل يجب عليه أن يسجد؟
الجواب
سجود التلاوة عند جمهور العلماء سنة مستحبة، وليس بواجب كما جاء في حديث عمر رضي الله عنه وأرضاه لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم السجدة، وكان لا يريد أن يسجد، لكن رأى الناس تهيئوا للسجود، فسجد، فأخبرهم بأن السجود ليس بواجب، وذكر في الكلام أنه يفيد أنه مستحب، وهذا لو تهيأ له السجود، فإنه يسجد، والحمد لله، فإن الشيطان إذا سجد ابن آدم اعتزل يبكي ويقول: أمرت بالسجود فعصيت، وأمر ابن آدم بالسجود، فسجد.(125/24)
حكم قراءة الفاتحة للمأموم
السؤال
إذا لم يترك الإمام للمأموم وقتاً للفاتحة فماذا يفعل؟
الجواب
اختيار مالك رحمه الله، وشيخ الإسلام ابن تيمية وكثيرٌ من أهل العلم أن المأموم ينصت للإمام ولا يقرأ.(125/25)
الفارق بين الحيض والاستحاضة
السؤال
ما الفرق بين لون الحيض البني، أو المائل للأصفر أو الأحمر؟
الجواب
لون دم الحيض أحمر ضارب إلى سواد، أما دم الاستحاضة، فهو أحمر مشرق.
ودم الحيض رائحته منتنة، ودم الاستحاضة دم عادي.
دم الحيض يكون مصحوباً غالباً بأوجاع في البطن والظهر في العادة الشهرية، ولا يكون ذلك مع دم الاستحاضة.
إذاً: فالحيض له علامات في الوقت الذي يأتي فيه، والمدة التي يمكثها، واللون، والرائحة، والأوجاع المصاحبة علامات تتميز بها المرأة عادةً.
الكدرة والصفرة مثل: غسيل اللحم، أو ما كان فيه لون بني، أو أصفر، مثل نقاعة الحناء، أو غسيل اللحم، فإذا كان متصلاً بدم الحيض من أوله أو من آخره فهو من الحيض، وأما إذا نزل الطهر بعد الحيض، وبعد الطهر نزل دم، فهذا الدم دم استحاضة لحديث أم عطية رضي الله عنها: [كنا لا نعد الكدرة، أو الصفرة بعد الطهر شيئاً].(125/26)
الدعوة للوالدين
السؤال
هل أدعو لوالدي بالصلاح والهداية، أم بالمغفرة؟
الجواب
بكليهما؛ لأنهما يحتاجان لها.(125/27)
الجهر في قيام الليل
السؤال
صلاة الليل في غير رمضان هل يجهر بها؟
الجواب
نعم يجهر بها جهراً لا يزعج النائمين، ولا يصيح، لكن يسمع نفسه.(125/28)
حكم من لا يحفظ الفاتحة
السؤال
الذي لا يحفظ القرآن هل يقرأ الفاتحة، أو يحمل القرآن ويقرأ منه؟
الجواب
لا بأس بهذا وبهذا، فقد جاء عند أبي داود في كتاب المصاحف عن مولى عائشة [أنه كان يؤمها من صحف في يده] وإسناده صحيح، فهذا يدل على جواز إمساك مصحف أثناء الصلاة بالنسبة للقارئ، أما السامع فلا يشرع له إمساك المصحف، وفي إمساكه للمصحف تفويت أشياء، منها: النظر إلى موضع السجود، ومنها: وضع اليدين على الصدر، والانشغال بمتابعة الحروف، وكثرة الحركة بغلق المصحف وفتحه، ورفعه ووضعه، وإدخاله وإخراجه، ولذلك لا يحمل المصحف إلا الإمام، أما المأموم فينصت، ولا يشرع للمأموم مسك المصحف.(125/29)
كيفية الاستغفار بتحريك الشفتين
السؤال
التسبيح والاستغفار بتحريك الشفتين؟
الجواب
يكون الذكر بالشفتين واللسان وليس إمراراً على الذهن، أو العقل، أو القلب، فهو ليس شيئاً قلبياً، وإنما هو ذكرٌ لسانيٌ يواطئ القلب.(125/30)
المرات التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم أو اعتمر
السؤال
كم حج النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أي عام، وكم عدد العُمَر التي اعتمرها؟
الجواب
حج عليه الصلاة والسلام حجة واحدة، في العام العاشر الهجري، وودع فيه الناس، وسميت حجة الوداع، وأما العمر فقد اعتمر أربع مرات عليه الصلاة والسلام، كلهن في ذي القعدة.(125/31)
زكاة الأراضي
السؤال
عندي أرض منحة وأرض اشتريتها، فعلى أي أرض أزكي؟
الجواب
على التي نويت بيعها، فإذا لم تنو بيعها، ونويت عمارة بيت، أو بناء عمارة للتأجير، أو أن تعمل بها مشروع مخصص، أو أن تزرعها، فليس فيها زكاة، فالزكاة في الغلة وفيما أعد للتجارة إذا حال الحول على الغلة، فمن بنا عمارة وأجرها، فالزكاة على الإيجار إذا بلغ النصاب وحال عليه الحول.(125/32)
أين ذهبت الغيرة؟
الديوث: هو الإنسان الذي انعدمت فيه الغيرة على أهله، وقد كان عند العرب غيرة شديدة على أعراضهم، وجاء الإسلام فنمى هذه الغيرة وضبطها بضوابط شرعية حتى لا تكون الأمور فوضى.
وقد ضرب الشيخ أمثلة من غيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيرة أصحابه رضوان الله عليهم مثل: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب.
كما تعرض الشيخ لأولئك الذين يدسون السم في العسل، وهم العلمانيون الذي يشجبون ويكتبون في الصحف عن جرائم الشرف، وهي كلمات حق يراد بها باطل.
وقد ذكر الشيخ أنواع الغيرة، ومنها: الغيرة على توحيد الله، والغيرة على حرمات الله وفي هذا ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.(126/1)
مفهوم الغيرة وأهميتها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن الغيرة من الغرائز البشرية التي أودعها الله في الإنسان، وهي مشتقةٌ من تغير القلب وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وهي الحمية وكره شركة الغير في حق الإنسان، وهذه الغيرة شرعت لحفظ الأنساب، وهي مقصد من مقاصد الشريعة، ولو تسامح الناس بذلك لاختلطت الأنساب؛ ولذا قيل: كل أمة وضعت الغيرة في رجالها، وضعت الصيانة في نسائها.
لقد اعتبر الشارع من قتل في سبيل الدفاع عن عرضه شهيداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون أهله فهو شهيد).
ومن لا يغار على أهله ولا محارمه يسمى ديوثاً، والدياثة من الرذائل التي ورد فيها وعيد شديد، وهي من الكبائر عند العلماء، كما دل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ لا ينظر الله عزَّ وجلَّ إليهم يوم القيامة وذكر منهم: الديوث) وهو الذي يقر الخبث في أهله.(126/2)
الغيرة صفة من صفات الله
والله عزَّ وجلَّ غيور، والله سبحانه وتعالى يغار، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، ولما قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: [لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غَير مُصْفِحٍ] فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أتعجبون من غيرة سعد! والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) متفق عليه.
وفي الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه).
وفي الصحيحين في خطبته صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف أنه قال: (يا أمة محمد! والله إنه لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته.
يا أمة محمد! لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً.
ثم رفع يديه، فقال: اللهم هل بلغت؟) وفي ذكر هذه الكبيرة بخصوصها عقيب صلاة الكسوف سرٌ بديع لمن تأمله، فظهور الزنا من أمارات خراب العالم، وهو من أشراط الساعة كما أخبر عليه الصلاة والسلام بقوله في أشراطها: (ويظهر الزنا)، وقد جرت سنة الله سبحانه في خلقه، أنه عند ظهور الزنا يغضب الله سبحانه وتعالى ويشتد غضبه، فلا بد أن يؤثر غضبه في الأرض عقوبةً؛ كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: [ما ظهر الربا والزنا في قريةٍ إلا أذن الله بهلاكها].
وغيرة الله صفة من صفاته سبحانه وتعالى، نثبتها له كما يليق بجلاله وعظمته، والمؤمن يستفيد من أسماء الرب وصفاته، ويتخلق بما يناسب ذلك منها في حق المخلوق وبما يليق، فإذا كان الله يغار والغيرة تناسب المخلوق؛ فإن المخلوق يغار أيضاً، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن المؤمن يغار.(126/3)
الغيرة قبل الإسلام وبعده
كان عند العرب غيرة شديدة على نسائهم، حتى كان لا يجرؤ أحدٌ أن يتزوج امرأة رئيس القبيلة بعد طلاقها أو بعد موته ونحو ذلك، وجاءت الشريعة فضبطت الغيرة، ولم تبقها فوضى يغار كل إنسان كما يشاء، وإنما جعلت الغيرة على الحرمات على المحارم وعلى كل محمود.
وإذا تأملت كلام السلف في حفظ النساء، وجدته نابعاً من غيرتهم؛ قال عبد الله عن قرار النساء في البيوت: [فإن النساء عورة، وإن المرأة إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وقال لها: إنك لا تمرين بأحدٍ إلا أُعجب بك] وفي كلام بعض السلف الاستعانة على حفظ النساء في البيوت، وعدم الإكثار من ثيابهن وزينتهن؛ لأنها إذا كثرت ثيابها وحسنت زينتها أعجبها الخروج.
وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: [كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها].(126/4)
غيرة رسول الله على أهله
ما من امرئ لا يغار إلا منكوس القلب، والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى في بعض غير أولي الإربة وصفاً للنساء منعهم من الدخول، كما جاء ذلك في أقوال المفسرين في قوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ} [النور:31] وهم الذين ليس لهم شأن في النساء، إما لعدم وجود آلة كالمجبوب، وإما لأن الآلة لا أثر لها كالعنين، وكذلك المخنث الذي ليس بذكر خالصٍ، ولا أنثى خالصة، قد لا يكون له ميلٌ إلى النساء، وكان هناك واحدٌ من هؤلاء يدخل على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ذات مرةٍ لأخي أم سلمة: يا عبد الله! إن فتح الله عليكم الطائف غداً، فإني أدلك على بادنة بنت غيلان فإنها تقبل بأربعٍ وتدبر بثمان، مع ثغر كأنه كالأقحوان، إن جلست تبنت، وإن قامت تفنت، وإن تكلمت تغنت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أرى هذا يعرف ما هاهنا، لا يدخل عليكن) فحجبه صلى الله عليه وسلم، مع أنه ليس من أولي الإربة، ولكن لأنه يصف النساء، فغار على زوجاته، وخشي أن يصفهن في المجالس فحجبه، مع أن الأصل حسب الآية عدم الوجوب، ولكن الغيرة الشرعية حملت النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.(126/5)
عمر بن الخطاب وغيرته
إن عمر -رضي الله تعالى عنه- كان يغار غيرة عظيمة، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبره أنه رأى له قصراً في الجنة، وعنده جاريةٌ له، فلم يدخله مما عرف من غيرته، هذا الأمير للمؤمنين، وهذا الصاحب العظيم، غار من أجل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول آية الحجاب، وكان يريد أن تنزل بأي طريقة، وقال لـ عائشة: [لو أُطاعُ فيكن ما رأتكن عين] فنزل الحجاب.
وكذلك كانت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن بالليل إلى المناصع يتبرزن فيه وهو صعيد أفيح، فكان عمر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: [احجب نساءك] فلم يكن يفعل؛ لأن الوجوب لم ينزل بذلك، فخرجت سودة ليلةً من الليالي، وكانت امرأة طويلةً رضي الله عنها وهي أم المؤمنين، فناداها عمر: قد عرفناك يا سودة.
حرصاً على أن ينزل الحجاب، قالت عائشة: [فأنزل الحجاب].
وقال للنبي عليه الصلاة والسلام: [إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر -الضيوف عندك كثر الأعراب وزعماء القبائل والناس يأتون إليك يا رسول الله- فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب].
أيها الإخوة: إن غيرة عمر رضي الله تعالى عنه لو رأى بها ما أحدث الناس في هذا الزمان لكان له شأن آخر.(126/6)
غيرة علي بن أبي طالب وغيره من السلف
وعن علي رضي الله عنه قال: [بلغني أن نساءكم ليزاحمن العلوج في الأسواق، أما تغارون؟! إنه لا خير فيمن لا يغار].
وقال محمد بن علي بن الحسين: [وما من امرئ لا يغار إلا منكوس القلب].
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: فيمن طلع إلى بيته فوجد عند امرأته رجلاً أجنبياً، فوفاها حقها وطلقها، ثم رجع وصالحها، وسمع أنها وجدت بجنب أجنبي مرةً أخرى؟ فأجاب رحمه الله: في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (أن الله سبحانه وتعالى لما خلق الجنة قال: وعزتي وجلالي لا يدخلكِ بخيل ولا كذابٌ ولا ديوث) والديوث: الذي لا غيرة له، وفي الصحيح، وذكر حديث: (إن المؤمن يغار وإن الله يغار) وقد قال تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً الآية)) [النور:3] ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء: أن الزانية لا يجوز تزوجها إلا بعد التوبة، وكذلك إذا كانت المرأة تزني لم يكن له أن يمسكها على تلك الحال؛ بل يفارقها وإلا كان ديوثاً.
وقد ذكر العلماء في اشتراط المحرم للمرأة في سفر الحج والعمرة -فما بالك بالأسفار الأخرى- أنه إذا كان المحرم قليل الحمية لا يغار عليها، فإنه لا يكتفى به في السفر، وأما إذا كان يغار ولو كان فاسقاً في نفسه جاز أن يكون محرماً؛ لأن بعض الناس قد يكون فاسقاً لكن له غيرة على محارمه لا يرضى لهن مواضع الريبة، والنساء من طبعهن التبرج والتبهرج، والتبهرج: هو لبس أفخر الثياب والتجمل والتحسن عند إرادة الخروج، وهذه لو سلمت لم يسلم الناس منها، ولذلك كان لا بد للأزواج وللآباء وللإخوان -بل حتى للأولاد- أن يغاروا على نسائهم من زوجاتٍ وبناتٍ وأخواتٍ وأمهات، وأن تفهم المرأة أنها ما التمست وجه الله بمثل أن تقعد في بيتها، وتعبد ربها، وتطيع بعلها.
وقال علي رضي الله تعالى عنه لزوجته فاطمة: [ما خيرٌ للمرأة؟ قالت: ألاَّ ترى الرجال ولا يروها]، وكان علي رضي الله عنه يقول: [ألا تستحون؟! ألا تغارون؟! يترك أحدكم امرأته تخرج بين الرجال تنظر إليهم وينظرون إليها] ولذلك كان ينبغي على المرأة أن تغض طرفها حتى هي عن الرجال؛ اتقاء الفتنة، وإذا اضطرت للخروج لزيارة والدٍ أو غيره خرجت بإذن زوجها غير متبهرجةٍ، وتغض طرفها في مشيتها، ولا تنظر يميناً ولا شمالاً، كما ذكر العلماء في آداب خروج المرأة من بيتها.
عباد الله: إن الزوج الشهم العظيم الحسن الخلق الذي يخاف الله تعالى ويغار على زوجته أن يرى أجنبيٌ شيئاً من جسدها، إنه لا يخرج بها كاشفةً وجهها ولا مقدم شعرها، لا في سيارةٍ ينظر إليها الغادي والرائح عند إشارات المرور، ولا في الأسواق يمشي بجانبها قد أشهد العالمين على دياثته في رضاه بتبرجها، وإنه يغار عليها أن ينفرد بها أجنبيٌ في سيارةٍ أو غيرها، ويغار عليها أن يسترسل معها أجنبيٌ بحديث في محلٍ أو غيره، ويغار عليها أن تختلط بالرجال في أماكن العمل وهكذا تحفظ المرأة إذا كان الرجل صاحب غيرة.
أما إذا لم يكن فالشكوى لله، ولا شك أن من أسباب الفساد في هذا الزمان: فسق النساء، ودياثة الرجال، ولا حول ولا قوة إلا بالله!(126/7)
وقفة مع ما يسمى (جرائم الشرف)
أيها المسلمون: إن الغيرة المحمودة على الحرمات، والتي تكون في مواضع الريبة، فعند ذلك يغار الرجل، وليس الموسوس الذي يغار دون سبب، ويضيق على زوجته العفيفة، ويتهمها في شرفها وهي بريئة، ويظن أن كل أحدٍ ينظر إليها ولو لم يتقصد ليس هذا هو المطلوب، وإنما المطلوب الغيرة الواقفة عند حدود الشريعة، والغيرة على حرمات الله.
وإذا قال قائل: ما هو الرأي فيما يسمى بـ (جرائم الشرف) التي تتحدث عنها بعض الصحف، ويثيرون هذه القضية فيمن يقتل ابنته أو أخته أو زوجته إذا رآها مع رجل؟ ف
الجواب
أن حدود الله معلومة معروفة، ولا يجوز لإنسان إذا رأى ابنته أو أخته أن يقتلها في مثل هذه الحال إذا لم يكن الحد الشرعي هو القتل، كأن تكون غير متزوجة، فإن الشارع لم يقل بقتلها حتى لو زنت، وكذلك فإنها تعطى الفرصة لتتوب، وقتلها يفوت الفرصة، ثم هو اعتداء، ثم إن إقامة الحدود مناطة بالحاكم الشرعي وحكم القاضي العدل وليس إلى أهواء الناس.
ولكنني أنبه -أيها الأخوة- إلى أن بعض هؤلاء الكتاب الذين يتناولون قضية (جرائم الشرف) ويهولون في الأمر ويعظمونه، لا يريدون من وراء ذلك إظهار حكم الشريعة، ولا أن ينهوا عن الاعتداء الذي حرمه الله كما تبين لكم، وإنما يريدون انهيار الحدود، وتدمير الأخلاق، وشيوع الفاحشة؛ فينتهزون فرصة تعدي بعض الناس فيما يسمى بـ (جرائم الشرف) ليصلوا من وراء ذلك إلى ترك الأخوات والبنات في غاية الحرية يفعلن ما يشأن.
إذاً: يريدون من وراء تناول قضايا (جرائم الشرف) -من منظورهم- إعطاء البنت والأخت الحرية لتفعل ما تشاء ولو بالحرام، ويدسون في كلامهم من أجل الوصول إلى هذه الغاية الخبيثة، والمسلم نبيه فطن لا تروج عليه مثل هذه الكتابات الفاسدة.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يغار على حرماته.
اللهم إنا نسألك الغيرة الشرعية، وأن تجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنك سميع مجيب قريب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(126/8)
أنواع الغيرة
الحمد لله الواحد القهار، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه والآل صلى الله عليه بما علمنا وهدانا وأرشدنا، وهو البشير النذير والسراج المنير.
عباد الله: إن الغيرة أنواع، وإنها بحسب ما يغار عليه في الأحكام، وإن الغيرة على شريعة الله ودينه عبادة واجبة يتقرب بها إلى الله، وقد ضيعها اليوم كثيرٌ من المسلمين، فترى دين الله ينتهك في المجالس، وآياته يكفر بها ويستهزأ بها، ولا تجد في المجلس من يغار لله فيرد ويدافع عن شريعته، ويغضب لله عزَّ وجلَّ فيقوم بالواجب في إنكار المنكر.(126/9)
الغيرة على التوحيد
إن على رأس الغيرة على الشريعة: الغيرة على التوحيد، وهذا مثالٌ من كلام واحد من العلماء يبين ذلك: قال العلامة الشوكاني رحمه الله في شرح حديث سفيان التمار: (أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً) رواه البخاري.
قال: كم قد سرى في تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، منها: اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك فظنوا أنها قادرةٌ على جلب النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصداً لطلب قضاء الحوائج، وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها واستغاثوا.
وبالجملة: إنهم لم يدعوا شيئاً مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ومع هذا المنكر الشنيع، والكفر الفضيع، لا تجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف؛ لا عالماً ولا متعلماً ولا أميراً ولا وزيراً، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيراً من هؤلاء المقبورين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجراً، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني، تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق، وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة!! فيا علماء الدين! أي رزءٍ للإسلام أشد من الكفر؟! وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله؟! وأي مصيبةٍ يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة؟! وأي منكرٍ يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجباً؟!
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد
هذا كلامه -رحمه الله- عن بعض ما شاهده في بلاد اليمن التي كان فيها، وهو من علماء القرون المتأخرة رحمه الله.(126/10)
الغيرة على محارم الله
كذلك فإن من الغيرة الشرعية: الغيرة إذا هتكت حرمات الله تعالى، إذا انتهكت الحرمات أياً كانت، وليست فقط الزنا ولا الخنا، أي حرمة من الحرمات يجب أن يغار عليها إذا انتهكت، والمؤمنون مأمورون بإنكار المنكر، فما هو الدافع لتطبيق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) إن الدافع هو الغيرة يا عباد الله.
إن الغيرة هي التي تدفع لإنكار المنكر، وقالت عائشة رضي الله عنها: [ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها] غيرة لله، وغيرة على دينه.(126/11)
أنواع متفرقة من الغيرة
كذلك فإن من الغيرة المحمودة أن يغار العبد على المحبة، فلا يصرفها إلا لله، ويغار أن يصرفها لغيره.
وإن من الغيرة أن يغار في الإخلاص؛ فيغار العبد أن يكون لغير الله في عمله نصيب، ولا يرضى أن يشوب عمله رياء ولا إعجاب ولا استشراف لمدح الخلق وثنائهم غيرةً على عمله أن يفسد ويحبط.
وكذلك فإن المسلم يغار على أوقاته أن تذهب سدى في غير رضا محبوبه وهو الله عزَّ وجلَّ.
والغيرة على حقوق الآدميين مطلوبة الحقوق التي أقرها الشرع وجاء باحترامها وصيانتها، ومنها: أموال المسلمين وأعراضهم، فلو رأيت مالاً لمسلمٍ ينتهك، ورأيت عرضه ينتهك؛ فعليك بالغيرة عليه والدفاع عنه؛ تغار لأن حرمات المسلمين قد انتهكت، وحرمات المسلمين في المسجد الأقصى منتهكة، فأين غيرة المسلمين لله ضد هؤلاء اليهود الخونة الآثمين الفجرة العابثين في مقدساتنا؟! عباد الله: إن غيرة الزوجة من الأمور الفطرية الموجودة عندها في غريزتها، ولذلك كان لابد للزوج أن يتحمل غيرة زوجته التي قد تطغى فتتجاوز الحد، وأن يعذرها لأجل ما ركب فيها من هذا الطبع، وقد تحمل النبي صلى الله عليه وسلم من غيرة نسائه ما تحمل.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا بدينه مستمسكين، وأن يجعلنا ممن يغار على حرماته إنه سميعٌ مجيب.
اللهم إنا نسألك أن تصلح شأننا، وترفع قدرنا، وتستر عيوبنا، وتحسن أخلاقنا يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(126/12)
تصرف المسلم وقت الحرب
الإنسان مطالب أيام الفتن والمحن والخوف أن يحقق مفهوم العبودية لله سبحانه وتعالى، كما هو مطالب أن يكون عبداً لله في أوقات الرخاء أيضاً، وهو أيضاً مطالب بإحسان العبادة لله سبحانه وتعالى، كما يجدر التنبيه إلى أن هناك أموراً مستفادة من الأحداث يجب التنبه لها، منها: الأخذ بالأسباب والاعتراف بحقيقة الموت.(127/1)
فضل العبادة في الهرج
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة: لا يخفى عليكم ما نتعرض له في هذه الأيام من المحن والخوف والفتنة، التي تتطلب منا اليوم وقفةً جيدةً أكثر من أي وقتٍ مضى، والمسلم مطالبٌ بأن يحقق مفهوم العبودية لله سبحانه وتعالى في جميع المواقف، والمسلم مطالبٌ أن يكون عبداً لله في أوقات الرخاء وفي أوقات الشدة، والمسلم مطالبٌ بأن يحسن عبادة ربه سبحانه وتعالى كما ورد في الحديث: (عبادة في الهرج كهجرةٍ إليَّ) العبادة في وقت المحنة ووقت القتل، أو وقت الحروب ووقت الفتن مثل الهجرة في فضلها، مثل الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهذا يدل على أن المسلم يؤجر في عبادته لله أكثر عندما يكون في أوقات المحنة والشدة، فإنه يؤجر أكثر من عبادته في وقت الرخاء إذا استوت العبادتان؛ لأنه الآن قد أحسن التوجه إلى الله وعبادته عز وجل، فيؤجر على ذلك أجراً إضافياً.(127/2)
الدروس التي تستفاد من الأحداث
أيها الإخوة: إن هذه الأحداث، وهذه المواقف لنا فيها دروسٌ كثيرة، وفيها عبرٌ عظيمة، فمن ذلك:(127/3)
الإيمان بالقضاء والقدر
الإيمان بالقضاء والقدر، والإيمان بقوله عليه الصلاة والسلام: (وأن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك) وإذا لم تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فلست على ملة الإسلام كما ورد في الحديث الصحيح.(127/4)
الموت
ثانياً الموت: ولا بد منه لكل حي، قال الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35] وقال سبحانه وتعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] ولو كنت لابساً جميع أنواع الأقنعة والكمامات والألبسة، وتسكن في عاشر أدوار تحت الأرض يدركك الموت لو شاء الله سبحانه وتعالى، فينزل فيقبض ملك الموت روحك، لأن الله أراد ذلك: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].(127/5)
لا ينفع الهروب من الموت
ثالثاً: إن هذا المعنى يؤكده -أيها الإخوة- وهو نفس المسألة السابقة قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} [البقرة:243] فما أغناهم خروجهم من بيوتهم، ما أغناهم شيئاً أمام الموت، ولما قدر الله عليهم الموت ماتوا، فقال الله لهم: {موتوا} [البقرة:243] ليدلل لهم على أن خروجهم من بيوتهم لا يقيهم الموت ولا يبعده عنهم.(127/6)
الأخذ بالأسباب
رابعاً: لابد للمسلم من الأخذ بالأسباب، ولا تعني النقطة السابقة أنك ترى الحِمام أمامك، وترى مواقع القتل أمامك فتدخل فيها، فليس ذلك من معاني دين الإسلام ولا من أوامره، بل إذا لقيت شراً فانأ عنه وادرأ بنفسك عنه ما استطعت، إذا كان نأيك عنه مشروعاً، واتخاذ الأسباب المشروعة في الوقاية من الهلاك أمرٌ مشروع، فوضع مكان آمنٍ في البيت، أو هذه الملصقات على الزجاج حتى لو طار طيارٌ على مستوىً منخفضٍ بأسرع من سرعة الصوت مثلاً لا يتهشم الزجاج ولا يتناثر فهذا أمرٌ مشروع ولا بأس به، وسد المنافذ حتى لا يدخل غازٌ لو حصل أن جاء -ونسأل الله أن لا يأتي- أمرٌ لا بأس به، ووضع بعض الأطعمة في البيت حتى إذا غلقت الأسواق ولم تجد مكاناً تشتري منه أمرٌ لا بأس به، ووضع مصدر للإنارة في البيت حتى إذا قطعت الكهرباء يكون عندك مصدرٌ آخر، أمرٌ لا بأس به، وهو أمرٌ مشروع، فإذاً اتخاذ الأسباب المشروعة لوقاية النفس من الأخطار، والتي هي من عين الحكمة، ومن عين العقل أن تتخذها.(127/7)
زيادة الهلع ينقلب إلى الضد
خامساً: إذا زاد الشيء عن حده انقلب إلى ضده، فمثلاً: لما يقع الهلع من الناس فيشترون كل شيء أكثر مما يحتاجون، وتفرغ الأسواق من سلعٍ معينةٍ -مثلاً- بدون حاجةٍ إلى هذا الاندفاع الكبير لشراء هذه الكميات الكبيرة، فهذا أمرٌ منافٍ للتعقل، ثم شراء الأشياء التي قد لا يحصل منها نفعٌ وليست أسباباً واضحة ينتفع بها هو أيضاً دليلٌ على عدم التعقل.
مثال: أقدم كثيرٌ من الناس على شراء الفوانيس على هذا الكاز، كان الفانوس بخمسة أو ستة ريالات لا أحد يشتريه، فقفز سعره إلى ستين وسبعين وثمانين ومائة، واشترى الناس الفوانيس، وصرف بعض الناس بضاعةً كانت عندهم، والله هو الرزاق سبحانه وتعالى ساقَ إليهم رزقهم عبر هذا الهلع أو بعض التصرف من بعض الناس، فلما قيل لهم: إن الفوانيس لا تصلح في مثل هذه الأوضاع، عليكم بالأشياء الكهربائية ذهب الناس إلى البطاريات وألقيت الفوانيس جانباً.
مثالٌ آخر: مراوح يدوية، هل تصدقون أن بعض الناس قد اشتروا مراوح يدوية في فصل الشتاء، فهذا تصرفٌ دالٌ على عدم التعقل أيضاً، وهكذا.
مثالٌ آخر: اتصل بي بعض الناس يقول: في وقت حدوث أو انطلاق صفارة الإنذار دخل الناس إلى هذه الملاجئ ولا ملجأ من الله إلا إليه سبحانه وتعالى، ولا يقي من الشرور إلا هو سبحانه وتعالى، وصار بعضهم يتصل على بعض، ادخل الغرفة فوراً والبس الأقنعة، اعمل اعمل، وليس هناك ما يدعو إلى لبس الأقنعة داخل البيوت محكمة الإغلاق مثلاً، وربما حصل بسبب إساءة استعمالها أضرار على الأطفال، فإنه قد بلغني أن بعضهم قد مات اختناقاً من وضع هذا الكمام عليه بالطريقة بالخطأ.
فصار الشيء الذي أخذ سبباً للحياة سبباً للوفاة، ثم قال هؤلاء السائلون: كيف نتوضأ؟ يا أخي توضأ بالماء، قال: لكن نحن الآن متكممون في الغرفة ولا نستطيع أن نتوضأ وقد دخل وقت الصلاة، قلت: يا أخي اخرج إلى الحمام وتوضأ فهي خطوات، قال: أنا لا أستطيع أن أخرج من الملجأ، سبحان الله! وأنتم ترون من الواقع أنه ليس هناك داعٍ لحصر النفس بالغرفة دون خروجه إلى الحمام، فلو أراد أن يقضي حاجته، ماذا يفعل؟ لو انحصر فأراد الذهاب إلى الحمام، ماذا يفعل؟ فكان هذا التصرف بعدم الذهاب إلى الحمام للوضوء لأجل الصلاة شيئاً عجيباً، لكن الناس -فعلاً- كثيرٌ منهم ليس عندهم القدرة على التصرف الصحيح في أوقات الأزمة، ولذلك من الأدعية التي يدعو بها المسلم: (اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا) فليس هناك غاز، وليس هناك خطر، وليس هناك أشياء متسربة، فما المانع أن تذهب إلى الحمام للوضوء؟!(127/8)
أحكام العبادة في أيام الفتن
سادساً: بالنسبة للعبادة -أيها الإخوة- العبادة لابد من إحكامها، وقدمنا أن الإحسان في العبادة يضاعف الله به مزيداً من الحسنات، ولذلك فإن الوضوء ينبغي أن يكون سابغاً تاماً، والصلاة تؤدى في وقتها ولا نؤخر الصلوات، وإذا لم يكن هناك خطرٌ داهم يأتي الرجال إلى المسجد للصلاة فيه، وتمشي الأمور بشكلٍ طبيعي تماماً، ونأتي لصلاة الجمعة، والأمر طبيعي تماماً، لكن لو حصل وقدر الله أن يكون هناك قذائف تنزل أو أخطارٌ متحققة، أو صفارة الإنذار على شيءٍ من الإطلاقات أو الغارات لا سمح الله، فهنا لا نكلف الناس أن يأتوا إلى المساجد لأداء صلاة الجماعة، بل إنهم يعذرون بما هو أدنى من ذلك، كالجمع في المطر في المسجد، ويعذرون كذلك عند البرد الشديد والريح الشديد، وفي الخوف، هناك صلاة اسمها: صلاة الخوف، فإذاً لا نكلف الناس بأن يأتوا إلى المسجد، فلو صار خطرٌ حقيقيٌ داهمٌ أشارت الإشارات إليه، وليس هو من اختلاق بنات الأفكار كما يقولون، ولا نتيجة أوهام، بل أشياء محققة فيها إشارات تدل على وقوعها، فنصلي في البيوت ولا حرج، نصلي الصلاة كاملةً في البيت، كل صلاةٍ في وقتها، ولو -لا سمح الله- صارت أشياء لا نستطيع أن نأتي لصلاة الجمعة، فنصلي في البيت ظهراً، هذا دينكم دين يسرٍ، وهذا من معاني أن الدين يسر، هذا من المعاني الصحيحة ليسر الدين، والشريعة هذه لم تأت بحرجٍ أبداً، بل جاءت لرفع الحرج أيها الإخوة.
ومن الأمور المتصلة في ذلك أيضاً: مسألة الأقنعة، عمد كثيرٌ من الناس -هداهم الله، ولا أقول كثير، لا أدري، ولم أعمل إحصائية ولا استبياناً، وأرجو أن يكونوا قلةً أو ندرة- إلى حلق لحاهم -والعياذ بالله- قالوا: لا يمكن للأقنعة أن تركب على اللحية وأن تتسرب غازات وأشياء، ولذلك لابد أن نحلق اللحية، يا أخي: اللحية أمرٌ واجبٌ شرعاً، فقد أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم فيها خمسة أوامر إلى الأمة: (أرخوا اللحى) (أرجوا اللحى) (وفروا اللحى) (أعفوا اللحى) أوامر إلى الأمة بإعفاء اللحية تدل على الوجوب، فليس هناك فيها عذر.
إذاًَ: فمتى تحلق اللحية؟ يجوز ذلك عند الضرورة، عند خوف القتل يمكن للإنسان أن يحلق لحيته خوف القتل المحقق، فقد صارت المسألة ضرورة، فيقولون لك: إن هذه الغازات تتسرب، نقول: يا أخي أين تعيش أنت؟! ألست في البيت! فأين الخطر المحقق لنفاذ الغاز إليكَ أو هذه الكيماويات أو الأشياء المستنشقة إليك في غرفتك، فعلام تحلق لحيتك؟! طبعاً هناك أنواع من هذه الأقنعة فيها طولٌ في تصميمها بحيث أنه لا يضر، لكن قد لا تكون متوفرة، فماذا يفعل الإنسان؟ أقول لكم ماذا قالوا في الصحافة عن اليهود؟ حاخامات اليهود لحاهم طويلة -مع الأسف طبعاً مقارنة بالمسلمين- فماذا يفعل حاخامات اليهود؟ قالوا: يحملون مقصاتٍ في جيوبهم، فإذا صار الخطر قصوا لحاهم ولبسوا القناع، هل تريدون أن يكون اليهود أحسن منا؟! اليهود يحتاطون على لحاهم ولا يحلقونها إلا عند نزول الخطر، فهل هم أحسن منا؟ معاذ الله، فإذاً هذا أمرٌ لا يجوز فعله إلا وقت الضرورة القصوى المحققة، لكن هؤلاء الذين حلقوا لحاهم، أين الضرورة التي حصلت في هذه الفترة الزمنية الماضية، حتى نقول لهم: إن ما فعلتموه صحيح.
أمرٌ آخر -أيها الإخوة- نحن مسلمون، ومما يميزنا عن الكفار إيماننا بالله سبحانه وتعالى، فنحنُ في هذه الأوقات يجب علينا أشياء، منها: إحسان الظن بالله عز وجل، وإذا أحسنت الظن بالله كفاك الله الشرور قال الله تعالى: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي عبدي ما شاء).
فينبغي أن نحسن الظن بالله، وأن نوقن في أنفسنا أن الله سيحفظنا، وأن الله سيكفينا، وأن الله سيدرأ عنا، وأن الله سيحول بين هذه الشرور والوصول إلينا، فإذا اشتد ظنك بالله حسناً كانت كفاية الله لك أكثر وأعظم، فأحسنوا الظن بالله، لا تيئس من روح الله، لا تقنط من رحمة الله أبداً {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] ولا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون، فأحسن الظن بالله أن الله سيكفيك همك، وأن الله سيحفظك من كل سوء، ولكن بعض الناس عندما يسمع انفجاراً أو صفارة إنذار، أو شيئاً من الأشياء الخطيرة يسقط في يده، وينسى الله تماماً، وهذا من أعظم المصائب.
ففي لحظات الشدة يجب أن نذكر الله أكثر من أي شيءٍ مضى، ولذلك ما معنى الحديث: (كان إذا حزبه أمرٌ صلّى) كان إذا حصل أمرٌ فزع إلى الصلاة، إذا نزلت مصيبة فزع إلى الصلاة، يطبق قول الله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153].
وكان ابن عباس لما كان مسافراً في الطريق، فبلغه موت أخيه، ترجل عن راحلته وتنحى جانباً، فصلى ركعتين ثم قال: قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] هذا الكلام نقوله لأننا وجدنا بعض الناس لما صارت الأخطار وهذه الصفارات عمدوا إلى محطات التلفزيون والإذاعات ينظرون ويستمعون إليها بكل إنصات، ساعاتٍ طويلة، ولا يلهج أحدهم بذكر الله أبداً.
وهذا خطأ -يا جماعة- هذه مواقف وستسجل علينا يوم القيامة، ونحنُ بإمكاننا أن نتخذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح، القرار الصحيح وقت الأزمة أن تلجأ إلى الله، ليس هناك مانع أن تسمع الأخبار، لكن أن تتسمر أمام الأجهزة طيلة الوقت بإنصاتٍ شديد، ولا تذكر الله أبداً هذا ليس من صفات المسلمين.
كان عليه الصلاة والسلام إذا كربه أمرٌ قال: (الله الله ربي لا أشرك به شيئاً) وقال: (يا حي يا قيوم برحمتك استغيث) هذه أدعية الكرب وأذكار الهم، لابد أن نذكرها وأن تكون على ألسنتنا.
(اللهم إني عبدك وابن عبدك ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي) فإذاً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وذهاب همومنا وغمومنا، وجلاء أحزاننا وكربنا، اللهم آمين، اللهم آمين، اللهم استجب لنا أجمعين.
وقبل أن يفوتني تنبيهٌ على مسألة قد يسأل عنها بعض الإخوة العسكريين، عند لبس هذا الكمام، أو هذا القناع كيف يفعل بالوضوء والسجود؟ طبعاً الإنسان إذا لم يستطع أن يمسح على جزءٍ من جسده تيمم عنه، فإذا كان محكماً على الرأس مثلاً، يعامل مثل العمامة، فيمسح عليه، فإذا لم يستطع فإنه يتيمم عنه، هناك الآن مخارج شرعية يسأل عنها العلماء، ويفتي بها أهل العلم، فإذا حدثت أشياء مثل هذه هناك أحكام في الشريعة، أحكام الاضطرار، أحكام الضرورة، تسأل عنها العلماء، وأما بالنسبة للسجود، فلو اضطر للبس القناع وهو يصلي، فيسجد على حسب حاله، ويلامس من الأرض ما يستطيع أن يلامسه بهذا القناع الموجود على وجهه، ولا حرج في الشريعة، وهذا معنى أن الدين يسر، هذا مثال صحيح، والحمد لله رب العالمين.(127/9)
تخويف الله لعباده
أيها الإخوة: إن هذه الأحداث التي تمر بنا الآن مدرسةٌ فعلاً، والسعيد من تعلم بها وفيها ومنها وأخذ العبر.
أيها المسلمون: إن الله سبحانه وتعالى يقول -ونعوذ بالله أن نكون من المقصودين بهذه الآية-: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء:60].
فإذا خوفنا الله بهذه الأحداث، فما المفروض أن يحدث لدينا؟ إن المفروض علينا اللجوء إلى الله، الدعاء، الصلاة، الذكر، قراءة القرآن، الإقبال عليه، التوكل عليه، صدق اللجوء إليه، ونقول من قلوبنا في قنوتنا: واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، هذا أوان التعلم بالأحداث -أيها الإخوة- كم مرت علينا فترات رخاء، فترات ليس فيها خوف، ولا فزع، ولا اضطراب، ولا جوع، ولا فقر، والآن يبلونا الله في هذه الأيام بأشياء من الخوف، يبلونا بها، فما هو موقفكم؟ وما هو موقفنا جميعاً؟ كونوا كما أمركم الله عباداً له في جميع الحالات والأوضاع والظروف، قوموا بحق العبودية.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(127/10)
قوة الله
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً رسول الله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
ألا إن القوة لله جميعاً، ومهما ملك البشر، فلا يملكون إلا أشياء بسيطة لا تقارن أبداً بقوة الله، تأمل قوله عز وجل: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:1 - 5] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2].
فهذا لو قارنته بأكبر انفجار في الأرض يحدثه العباد بقنابلهم وصواريخهم؛ فماذا يعد؟ لا شيء أبداً {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج:1 - 2].
ونحن مع الأسف في مثل هذه الأوقات قد ننسى قوة الله عز وجل، بمعنى أننا لا نقدر قوة الله قدرها، ولا نعرف ما أمرنا الله به بقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً) جميعاً تأملوا -يا جماعة- تأملوا هذه: كل الأرض والبلاد والعباد، والصواريخ والأسلحة، والأشجار، والأنهار والبحار، والحيوانات كلها: (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ) السماوات: التي ما وصلوا إليها حتى الآن ولا لمسوها بمخترعاتهم (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى).
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] بكل مساعيهم وأسلحتهم وعتادهم كل من عليها فان، ومنشآتهم وبيوتهم وعماراتهم {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27].
فينبغي ألا تغيب عن أذهاننا -ونحن نسمع الأخبار- قوة الله عز وجل أبداً، من فوق؟ الله فوق الجميع سبحانه وتعالى، له علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القهر والغلبة على خلقه أجمعين: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:5 - 6].(127/11)
اللجوء إلى الله أيام الفتن
أيها الإخوة: في الفتن نلجأ إلى الله، نعتصم بحبل الله، لا نغفل عن ربنا ولا عن ذكره، ولا عن مراقبته سبحانه وتعالى، ونذكره ولا نجعل ألسنتنا تلهج بذكر الأخبار فقط، وننسى ذكر ربنا، انتبهوا -يا إخواني- ويسألونك يقولون: ما حكم الخروج من المنطقة أو من البلد، فلقد قلنا عدة مرات، وأنقل الفتوى عن علمائنا وأكابر علمائنا: لا حرج لمن أراد أن يخرج ولم يكن لديه شيءٌ يوجب البقاء أن يخرج، فالإنسان الذي ليس رجل أمن مكلف بالبقاء ولا عنده شيء يجب أن يبقى من أجله، لو أخرج أهله إلى منطقةٍ أخرى فلا بأس، وليس هناك حرج شرعي، ولو أني فعلتُ ذلك مثلاً وذهبت بأهلي، وقد يذهب الإنسان أحياناً إرضاءً لوالديه، ما عنده سبب معين في البقاء، فتقول له أمه: تعال إلينا مثلاً، فيذهب إليهم فلا حرج شرعاً في ذلك، لا هو فرار من قضاء الله واعتقاد أنك لو هربت فأنت تهرب من قضاء الله، لا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} [البقرة:243] ممكن تلقاك المنية في الطريق، وكذلك ليس فراراً من الزحف، لأنك لم تحضر صف المعركة بين المسلمين والكفار وأنت تجاهد بسلاحك، وإنما أنت رجلٌ من عامة الناس (مدني) فلك الخيار إذا أردت أن تذهبَ أن تذهب، ولو كانت مصلحتك في البقاء، وعندك أعمال، وعندك وظيفة، وعندك عمال ترعاهم، عندك شيء، فإنك إذا جلست فلا بأس بذلك، فإذا صار الخطر محققاً، وهناك أمورٌ تنزل عليك فيها تدمير، فيمكن لك أن تخرج في تلك الحالة وجوباً فراراً من القتل، أو فراراً من الأخطار المحدقة مثلاً.
وكذلك -أيها الإخوة- فلابد أن يكون عندنا اهتمام بأذكار الصباح والمساء (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ثلاثاً في الصباح والمساء، وتأمل: (من شر ما خلق) وهذه تشمل الآدميين، وتشمل الأسلحة، وتشمل نفسك وتشمل كل شيء، من الدواب والعقارب والثعابين والنحل وكل شيءٍ يؤذي، فأنت تستعين بالله من شره، أعوذ بأي شيء؟ بشيء عظيم، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً، لا مبدل لكلماته سبحانه وتعالى، فأنت تستعيذ بكلماته عز وجل من شر ما خلق، وتقول: (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم).
ومن المشروع الآن القنوت في الصلوات بعد الركوع من الركعة الأخيرة من جميع الصلوات سواءً قنت في الفجر والمغرب والعشاء، أو الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، فلا حرج في ذلك، كلها صلواتٌ قنت فيها عليه الصلاة والسلام، وثبت كما في الصحيحين ومسند أحمد، قنتَ عليه الصلاة والسلام للنوازل، وهذه من النوازل، وتدعو بالأدعية المناسبة، ويدعو الإمام بهم، فيدعو الله أن ينصر الإسلام، وينصر المسلمين، ويحفظ المسلمين وبلاد المسلمين، وأن يقمع الشرك والمشركين والكافرين، وأن يحفظ العباد والبلاد، والأهل والأنفس والأموال، وأن يقينا شرور النفس، وأن يمتع بالأسماع والأبصار.
يدعو الله سبحانه وتعالى في القنوت بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من الأدعية، وغيرها من الأدعية المشروعة الطيبة.
ثم -أيها الإخوة- إذا حصل أن سافر الإنسان، فلينو -فعلاً- أن يعمل هذا السفر طاعة، لأن بعض الناس قد يعمل السفر سفر هرب، وينسى أن ينوي السفر في طاعة، ولذلك ليس أجر الذي ذهب للعمرة طائعاً مختاراً مثل الذي ذهب للعمرة رغماً عنه، هناك أناس ذهبوا للعمرة رغماً عنهم، وأناس ذهبوا لصلة الرحم رغماً عنهم، لكن اجعل النية لله في هذا السفر لا هروباً فقط لو حصل، وإنما هو فعل الأمور من الطاعات الأخرى، وكذلك أنبه على مسألة الإيثار، الآن يوجد ناس فقراء، يوجد ناس مقطوعون، قد يتعذر عليهم شراء الأشياء من الأسواق، تفقد جيرانك، تفقد من حولك، إذا كان هناك ناس يحتاجون إلى مساعدة، هناك ناس عندهم نقص فيما يحتاجونه في البيت، وأنت عندك منها فأعطهم منها، قد تكون أشياء نفدت من السوق مثلاً، وعندك ما يزيد عن حاجتك، فاهدها إليهم، أو تصدق بها عليهم، هذا أوانٌ يظهر فيه هذا الخلق العظيم من أخلاق الإسلام، وهو الإيثار، فآثر وأعط وقدم وضحّ، وتصدق لله سبحانه وتعالى، فإن الصدقة في أوقات الشدة ليست كالصدقة في أوقات الرخاء، ولا تنسوا الصلاة على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم العظيم يوم الجمعة، ولا تنسوا أن من صلى على النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فله بكل صلاةٍ يصليها عليه من الله عشراً.(127/12)
جدية الالتزام بالإسلام [1، 2]
مع انتشار الصحوة الإسلامية بدأ يتسرب إليها أنواع من الضعف الوهن، فبدأ المعيار يشير إلى تقلص الالتزام بدين الله، ولذلك يكتسب الحديث عن جدية الالتزام والعمل أهمية خاصة.
وفي بداية هذه المادة إشارة إلى تعريف الملتزم، وإلى النصوص الدالة على ضرورة الجدية في الالتزام.
أما الجوانب التي فقدت فيها الجدية في حياتنا وواقعنا، فهي لب هذه المحاضرة، وموضوعها الأساس، فقد أورد المحاضر ما يزيد عن عشرة جوانب فقدت فيها الجدية أو كادت.
كما تضمنت فقرة الأسئلة بعض الفوائد في مواضيع: الإيمان الرياء آداب طلب العلم وكيفية القراءة المفيدة وغير ذلك.(128/1)
ما يلزم من جدية الالتزام
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخواني أعضاء هذا المركز وضيوف هذا المركز، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فهذه- والله- فرصةٌ طيبة أن نلتقي معاً في هذه الأمسية وهذا المجلس الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون من مجالس الخير والذكر، وأن يكتبنا وإياكم في عليين (سجل أهل الجنة)، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
هذا الموضوع الذي سنتحدث عنه الليلة أيها الأخوة موضوعٌ مهم، والموضوع كما ذكر الأخ الذي قدم بعنوان: (جدية الالتزام بالإسلام) وأهمية هذا الموضوع أيها الإخوة تكمن في أنه مع انتشار الصحوة الإسلامية المباركة التي بدأت تؤتي ثمارها وأكلها بإذن ربها، فإننا لنلحظ في خضم هذه الثمار وهذه العطاءات أن الكثرة بدأ يتسرب إليها أنواع من الضعف والوهن، وبدأ معيار الالتزام بدين الله تعالى يخف ويتقلص ذلك المفهوم الواسع للالتزام بدين الله، وبدأت بعض التصرفات المخالفة لشريعة الله عز وجل تظهر بين الكثيرين ممن ظاهرهم الالتزام بهذا الدين، ولهذا الظهور سلبياتٌ كثيرة منها: أن الناس سيأخذون صورة عن الدين من خلال هذه المناظر أو الأمثلة التي يرونها أمامهم، لأن كثيراً من الناس يعرفون الدين برجاله، كثيرٌ من الناس لم يستقر في أذهانهم أن الحق لا يعرف بالرجال، هذه الحقيقة أن الرجال ليسوا مقياساً، ليسوا هم الدين، ليسوا هم الإسلام؛ ولذلك فإنهم لن يغتفروا لهؤلاء أخطاءهم، وقد لا يكون عندهم الوعي الكافي حتى يتصورون بأن هذه التصرفات التي تصدر من بعض من ظاهره الالتزام بدين الله لا علاقة للإسلام بها، ولأن علينا مسئوليةً كبيرة تقع على عواتقنا من جراء أخذ الناس للتصور عن الدين من واقع الملتزمين به، فإن هذا يفرض علينا واجباً ثقيلاً في المحافظة على معنى الالتزام بالإسلام وكيفية التمسك به، كيف نقدم إلى الناس هذا الدين؟ ما هي الأطر، وما هي الاطروحات التي نطرحها على الناس؟ كيف نظهر أمامهم؟ وقبل ذلك كيف نظهر بيننا وبين الله عز وجل الذي لا تخفى عليه خافية؟(128/2)
من هو الملتزم
وإذا أردنا في البداية أن نعرف الالتزام بالدين، فماذا تعني هذه اللفظة وما يحوم حولها من الألفاظ؟ هذه اللفظة لم تلق عناية كافية في تمريرها إلى أذهان الناس، ولذلك فقد اضطربت التعريفات وتحير الناس في من هو الملتزم؟ وما معنى الالتزام؟ ونحن إذا أردنا أن نرجع إلى مفهومٍ سلفيٍ أصيلٍ عن الالتزام بدين الله، فإننا لا بد أن نأخذ ذلك من أقاويل العلماء الثقات الذين فسروا كتاب الله تعالى وشرحوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا جئت مثلاً إلى قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] ما معنى السلم؟ السلم هو: الإسلام، كما ذكر ذلك أهل العلم بالتفسير، هذه الكلمة كلمة (كافة) قد تعني معنيان: المعنى الأول: يعني: ادخلوا أنتم في الإسلام كافةً، يعني: في جميع شعب الدين، وكافة فروع الإسلام.
والمعنى الثاني هو الذي رجحه العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية، وليس يبعد أن يراد المعنيان جميعاً في قول الله عز وجل: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]: يجب أن ندخل جميعاً في جميع فروع الدين، أن نأخذ بجميع شعب الإيمان، لكن على قدر استطاعتنا، لأننا لو حاولنا أن نلم بجميع أطراف الدين وشعبه وأركانه، أو نلم بجميع درجاته وشعائره، فإننا لن نطيق ذلك، ولذلك: (اكلفوا من العمل ما تطيقون) ولذلك {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ولذلك (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق) ونحن الآن في هذا المقام لا نعتب على الذي لم يستطع أن يأخذ أموراً من الدين لعجزه عن القيام بها، ولكننا في مجال محاسبة أنفسنا عن الأشياء التي كان باستطاعتنا والتي باستطاعتنا الآن أن نقوم بها ولكننا من القاعدين.(128/3)
أدلة مفهوم الجدية في الالتزام
ولهذا المفهوم (الجدية في الالتزام بالإسلام) أدلة منها: الأول: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208].
الثاني: قول الله عز وجل: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63] هذا الدين متين، هذا الدين عظيم لا يوجد له مثيلٌ في الأديان التشريعات عميقة جذورها قوية التكليفات ثقيلة المهمات صعبة؛ ولذلك كان لابد من القوة بأخذ الدين {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63] وهذه القوة تنافي الميوعة، وتنافي التساهل، وتنافي الانخذال والترك والإهمال لأشياء من الدين {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63] قوة تناسب عظم هذا الدين، يجب أن يكون عندنا في عملية الأخذ قوة نشعر من خلالها بأن الأمر جد.
الثالث: قول الله عز وجل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13 - 14] فصل بين الحق والباطل، صار من شدة فصله بين الحق والباطل ومن الوضوح في الفصل أنه هو نفسه -هذا القرآن- صار ًفيصلاً يفصل بين الحق والباطل {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:14] الإسلام أيها الإخوة ليس ثوباً جميلاً نلبسه، أو عملية نتفاخر بها ونتباهى على الناس ونحن نخلو من هذه المضامين العظيمة التي تضمنتها شرائع الدين، لا يكفي أن نقول: هؤلاء نصارى ونحن مسلمون، هؤلاء يهود ونحن مسلمون، انظر إلى أولئك يعبدون البقر، نحن مسلمون، انظر إلى أولئك يعبدون الكواكب، نحن مسلمون!! ماذا نقصد بمسلمين؟ ما هو الإسلام؟ ما هي الجدية التي نبرهن لأنفسنا بها أننا فعلاً نمثل هذا الدين؟ الرابع: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:43 - 44] ومن القواعد عند العلماء أن الزيادة في المبنى تفيد الزيادة في المعنى، وكتاب الله ليس فيه عبث ولا إضافات لا داعي لها، كل حرف إضافته تعني معاني.
" فاستمسك" تعبير فيه من القوة والجدية والمحافظة والعض بالنواجذ على تعاليم الدين أعلى من كلمة أمسك، هذه الزيادة: (الألف والسين والتاء) تفيد أن أناساً يسحبونه منك وأنت متمسك به وتستمسك به وتحاول ألا تتراجع، ولا يجذبوك إلى صفهم، استمسك به {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63].
الخامس: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [الأعراف:170] قال القرطبي رحمه الله: وفي هذا التشديد -يعني: (السين الزائدة في يمسّكون) فيه معنى التكبير والتكثير للتمسك.
ما هو الفرق بين يمسكون ويمسّكون؟ فيمسّكون فيها معنى: التكبير والتكثير للتمسك، ولذلك لعن الله أناسا ًوذمهم، لأنهم يريدون أن يتخذوا سبيلاً بين الحق والباطل، يريدون أن يضيعوا قضايا الإسلام، ويقولون: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [النساء:150] هؤلاء الذين لعنهم الله، وهذا هو حال كثيرٍ من المسلمين اليوم؛ يريدون أن يأخذوا ببعض الدين، ولكنهم ليسوا على استعداد لأخذ البعض الباقي، يريدون أن يتخذوا سبيلاً بين الحق الالتزام الكامل وبين التفلت الكامل، ثم يقولون: نحن نمثل الوسطية! يأتي من يقول: أنا لا أريد أن أكون منحرفاً وأن أمارس الفواحش الكبيرة وأن أكفر بالله وأستهزئ، ولكني في نفس الوقت لا أريد أن أحجر على نفسي وأن أثقل عليها بالتكاليف وأن ألزم نفسي بهذه الأشياء التي يلزم بها هؤلاء الناس الذين يسمون بالمطاوعة أو المتدينين، أنا وسط لا أريد التعقيد ولا أريد التفلت، فيأخذ من الدين ما يعجبه وما يوافق هواه، ويترك الأشياء التي فيها صعوبة وثقل على النفس، يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً؛ بين الكفر والإيمان، ودين الله عز وجل أغلى وأثمن وأعلى من أن تناله هذه المفاهيم الخاطئة للوسطية.(128/4)
خطأ الناس في تعريف الوسطية
إن الناس -أيها الإخوة- في هذه الأيام يصطلحون على بعض المصطلحات التي قد تكون في الحقيقة يمكن أن يعبر بها عن أشياء من الحق، ولكنهم يفرغونها من مضامينها الصحيحة فتعريف الوسطية عندهم يختلف عن تعريف القرآن والسنة، الوسط في القرآن والسنة: أن تستمسك بالذي أوحي إليك، جاء إليك في القرآن وجاء على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، إذا زدت عن هذا، فتوضأت أربع مرات، أو تركت أكل اللحم والزواج تقرباً إلى الله، فإنك غالٍ مغالٍ متشدد متنطع، هذه أمثلة صحيحة، لكن أن آتي وأقول لشخص تمسك بالدين، أقول: إن صلاة الفجر في المسجد تزمت وتنطع.
أقول: إن تقصير الثوب وجعله فوق الكعبين تزمتاً وتنطعاً.
أقول: إن إطلاق اللحية بهذا الطول يعتبر تزمت وتنطع.
أقول: إن قيام الليل تزمت وتنطع.
في هذه الحال نعرف ماذا يرمي إليه أولئك أهل الباطل الذين يحرصون دائماً على انتزاع المسميات الصحيحة ليلصقوها بهم ليقولوا للآخرين: نحن الوسط وأولئك أهل غلو، إنهم حريصون على هذا العمل، ولذلك يدندنون حوله كثيراً، وتراهم وتعرف هذا منهم في لحن القول.(128/5)
علامات يعرف بها المنافقون
المنافقون لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم، انقطع السبيل الذي نستطيع أن نحكم به عليهم حكماً كاملاً صحيحاً، ذهب الوحي، ماذا بقي لنا نحن؟ كيف نعرف المنافقين؟ الله عز وجل من رحمته ما تركنا نحن وهؤلاء المنافقون يعيثون فساداً، لا، أعطانا علامات وبيَّن لنا في القرآن دلائل وأدلة ندينهم بها كثيرة، منها: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] يعني: في فلتات لسانه، ترى أحدهم مثلاً يحاذر في كلامه ويتكلم باسم الدين، ولكنه فجأة في إحدى المناسبات يزل، فينكشف لك ما في داخل قلبه من معاني الكفر والضلال والنفاق التي أخفاها.
فإذاً: نقول: إنهم يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً، يريدون أن يُفصِّلوا من الإسلام ثياباً تناسب أهواءهم وشهواتهم، ولكن لتعرفنهم في لحن القول؛ ولأجل هذا أيها الإخوة! يرينا الله عز وجل في القرآن مفاهيم شاملة ترد على أولئك الناس، وترد على هذا الخطأ والضلال، وهو أخذ بعض الدين وترك البعض الآخر حتى في العبادات، حتى لا يفهم الناس أن الصلاة تكفي والصيام يكفي والحج يكفي، وشهادة أن لا إله إلا الله قولاً تكفي، حتى لا يفهم الناس هذا المفهوم الخاطئ؛ جاءت آيات في القرآن لكي تنير السبيل للمؤمنين وتوضح القضية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:177] كونك تولي جهة المشرق أو المغرب أو الشمال أو الجنوب ليس في تلك الجهة تفضيلاً معيناً إلا عندما يأتي في القرآن والسنة تخصيصٌ لها، فتصبح جهة الكعبة مفضلة، نستقبل الكعبة في صلاتنا، الجهات أصلاً ليس مفضل واحد عن آخر، ليست القضية مشرقاً ومغرباً، القضية أن الله أمرنا أن نتوجه إلى تلك الجهة، ولذلك الناس في أنحاء العالم يتوجهون إلى الجهات الأربعة وما بينها حتى يصلوا إلى الكعبة، ليست القضية في جهةٍ معينة {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} [البقرة:177] هذا هو مفهوم الشمولية، هذه هي الجوانب التي تميز الصادق من الكاذب، والتي تبين لك وتبرهن هل أنت صادق في التزامك بالإسلام أم لا؟(128/6)
ضرورة تحمل المشاق
فالمسألة أيها الإخوة عميقة، المسألة صعبة، الأشياء عظيمة، التكاليف شاقة، ولكن يوفق الله تعالى من أخلص النية أن يأخذ من هذا الدين بما يطيق.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] لا توجد ريبة ولا شك {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15].
ولما أتى بشير بن الخصاصية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبايعه على شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان والجهاد والصدقة، قال: يا رسول الله! أبايعك على هؤلاء إلا الجهاد والصدقة، يعني: فأنا ليس لي طاقة بالجهاد والصدقة، فروي أنه عليه السلام قال: (لا جهاد ولا صدقة، فبم تدخل الجنة إذاً؟!) ومع أن في إسناد هذا الحديث راوياً لم يسمَّ، ولذلك فهو ضعيف عند المحدثين، لكنه يصلح شاهداً للمعنى الذي نتكلم حوله الآن؛ بلا جهاد وبلا صدقة، ما هذا الإسلام الذي لا جهاد فيه ولا صدقة؟ ما هذا الالتزام الذي لا جهاد فيه ولا صدقة؟(128/7)
جوانب فقدت فيها الجدية
ودعونا الآن نتجول معكم في بعض الجوانب التي ينتشر بين الناس تركها إهمالها التقصير فيها.
مثلاً: بعض الناس يقولون: أنا التزم بالإسلام، ومستعد أن التزم معك بالإسلام لكن إلى حدٍ معين، وبعد هذا الحد أنا أتوقف لا طاقة لي لا أستطيع، يعني: ترى رجلاً يعجبك مظهره، وتعتقد بأنه من الملتزمين بالإسلام الذين يعملون للدين، فإذا جئت معه مثلاً إلى جانب من جوانب التضحية، إذا جئت تقول له: يا أخي إن الدين يحتاج إلى من ينصره ولا بد أن تدعو لهذا الدين وتعمل لهذا الدين، قال لك: لا.
هنا أقف، ليس عندي استعداد لأن أقضي وقتاً طويلاً للعمل في الدين، ورائي دراسة، ورائي تجارة، ورائي أعمال كثيرة أؤديها، فيقول: ليس عندي استعداد لأن أعمل للدين، ما عندي وقت أقضيه، ما عندي، يكفي والآن أقف هنا!! أي نوعٍ من أنوع الالتزام هذا الالتزام؟ وآخر يلتزم بالعبادات، لكن غير مستعد أن يعمل للدين، يقول لك: أما قضية الدعوة إلى الله فما عندي استعداد لأن أضحي بوقتي، وإذا احتاجت الدعوة إلى لله إلى الجهاد في سبيل الله وإلى مالٍ، تجد هذا الشخص يقول: أنا أعطيك كل شيء لكن جيبي لا، لا أخرج منه شيئاً، إنفاق ما أنفاق، أموال ما أموال، لا، فأي نوعٍ من أنواع الالتزام هذا الذي يريدون أن يتمسكوا به أو يسيروا عليه؟ الإسلام يطلب منك أيها المسلم أن تعمل للإسلام، أن تقوم وتمشي في سبيل نصرة الإسلام، أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أن تتعلم العلم الشرعي، أن تبلغ التصورات الإسلامية إلى الناس، أن تربي نفسك على الدين، وتربي إخوانك من حولك وتتربى معهم على هذا الدين، أن تدعو إلى الدين بكل وسيلة، أن تبذل في الدين نفسك ووقتك وجهدك ومالك وإمكانياتك وتفكيرك، وإشغال ذهنك بما يعود بالمصلحة والرفعة لهذا الدين، لكن كثيراً من الناس اليوم التزامهم بارد، لا حرارة فيه، مهما تشحن فيه وتبث فيه من الشحنات الإيمانية لا يتحرك مطلقاً، مهما أعطيته من الاشتراكات هذه لا يتحرك، لأن الخراب أساساً في الداخل، في المحرك، ليس في شيء ثان مثل البطارية، الخراب في المحرك، فإذاً التصورات فيها خلل، ولذلك تجده يرفض عندما يأتي إلى جانب من الجوانب التي تحتاج إلى بذل.
يقول لك: هنا أقف، مكانك سر، ما تقدم، هذا أقصى ما يمكنني أن أقدمه، وقد يستدل بعضهم بأشياء من القرآن أو السنة لكي يبرروا لأنفسهم -قبل أن يبرروا- للناس مواقفهم الذليلة، فيقول لك أحدهم: يا أخي إنني أحتاج إلى المال، يا أخي! إني أحتاج إلى الوقت، أولادي: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) يأخذون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ويستدلون بأدلة يريدون منها أن يسكتوك لأنك تحاول إقناعهم وتحاول دفعهم من أجل العمل لهذا الدين، فمهما أوردت عليهم النصوص التي تفيد الحركة من أجل الدين فلا قناعة يقول: أنا هنا، حدي هنا لا أتحرك.(128/8)
فقدان الجدية عند من يلتزم فقط بالأشياء التي لا شهوة فيها
جانب آخر من الجوانب: بعض الناس مستعد أن يلتزم بالأشياء التي لا شهوات فيها، فيقول: أنا مثلاً مظهري إسلامي، أنا أطلقت لحيتي، وقصرت ثوبي، لكن ليس عندي استعداد أن اترك النظر إلى المرأة الأجنبية، لماذا؟ يقول: يعني: ليس هناك مقاومة للشهوة في النفس أن أقصر الثوب، أو أطلق لحيتي، لكنك تقول لي: لا تنظر إلى المرأة الأجنبية، لا.
هذا شيء في نفسي لا أستطيع أن أتحرر منه، ولذلك تراهم يصبرون على الطاعات لكن لا يصبرون عن المعصية، والصبر أنواع لا بد من العمل بها كلها: صبر على طاعة الله.
وصبر عن معصية الله.
وصبر على أقدار الله.
فترى بعض الناس يصبر على بعض الطاعات ويصبر على أقدار الله، لكن لا يصبر عن المعاصي، لا يصبر عن الأشياء التي فيها شهوات، ولا يستطيع أن يقاوم شهواته، فأي التزام هذا الذي يزعمه ذلك الشخص؟(128/9)
فقدان الجدية في الالتزام بالأخلاق
إذا أتيت مثلاً إلى جانب الأخلاق تجد طائفة في ظاهرها التمسك بالدين، وقد يدعو إلى الله عز وجل، لكن أخلاقه في غاية السوء، أخلاق سوقية، فيعامل إخوانه بشراسة وضيق نَفَس، ويتمثل العناد والأنانية في تصرفاته، بل إنك إذا أتيت لكي تقربه منك في الصلاة وتجذبه قليلاً، قال بيده هكذا، لأنه لا يريد أحداً، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ولينوا بأيدي إخوانكم) هذا لا يرضى أنك تسحبه في الصف، عنده من العنجهية والعناد والكبر ما يرفض معه أن ينقاد إلى معروفٍ مثل هذا المعروف، وقد تكون علاقته بإخوانه حسنة، لكنه إذا انقلب إلى أهله أذاقهم الويل والثبور وعظائم الأمور في تعامله وسلوكياته مع أبيه وأمه وإخوانه وربما الزوجة والأولاد، كيف ترضى أن تكون ملتزماً في ظاهرك داعياً إلى الله وتطلب العلم وبعد ذلك تأتي في قضية الأخلاق والتصرفات، فتكون أخلاقك في غاية السوء؟ يعني: كيف يسمى هذا التزاماً؟! ومن أجل هذا يأخذ الآخذون علينا، ويقول السفهاء من الناس: هذا فلان الديَّن الملتزم كما أنتم تريدوننا أن نكون انظر كيف يعامل زوجته، وهذه الزوجة، أو الأولاد، أو الأقارب إذا نقلوا شكواهم إلى من يحيطون بهم وتسربت الأخبار الدقيقة عن حال هذا الشخص في بيته كيف يعامل أباه وأمه وإخوانه وجيرانه وأرحامه، ماذا يقول الناس؟ هذا هو الدين؟ هؤلاء هم الناس الذين تريدونا أن نصبح مثلهم؟ من السبب في إعطائهم الصورة المشوهة؟ نحن الذين لم نحسن التخلق بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولذلك بعض الناس قد لا يبعدون عندما يقولون: يا أخي هذا الرجل صحيح أنه غير ملتزم بالدين في ظاهره، لكن يا أخي أخلاقه طيبة، تعامله ممتاز، يا أخي هذا أحسن من ستين واحد من هؤلاء، لماذا يقولون هذا الكلام؟ لأنهم فقدوا جانباً عظيماً من جوانب الإسلام في شخصياتنا، وهو جانب التعامل والسلوك والأخلاق، وأنا عندما أتكلم بالجميع فأنا منكم، وعندما أقول هذا الكلام فهو من باب التواصي بالحق والصبر.
وقضية الأخلاق والسلوك من الأشياء التي يتأثر بها الناس جداً، الناس يتأثرون بأخلاقك وسلوكك أحياناً أكثر مما يتأثرون بتصوراتك أو مظهرك، أحياناً ما عندهم موازين من يقولون: لا إله إلا الله ما هي هذه التصورات الممتازة؟ ما هي هذه الأفكار الجيدة؟ ما هذا السمت النبوي؟ قد لا يقولون هذا، لكنهم يقولون: ما هذا التعامل الجيد؟! ما هذه الأخلاق العظيمة؟! يتأثرون بهذا الجانب أكثر مما يتأثرون بتلك الجوانب، مع أن الأخلاق قد تكون أهم جانب، لكن الناس ما عندهم هذا التمييز، ما عندهم القدرة على أن يميزوا الأهميات والأولويات، فلذلك الذي يرونه من التعامل هو الذي يحكمون به عليك، ولذلك ترى الآن أهل الباطل زينوا باطلهم بأسلوبهم الحسن من أمثال المنصرين والمبشرين بالنار، زينوه لبعض الناس حتى رأوه حقاً، ونحن أو بعضنا بتعامله والخطأ في تقديم الأفكار الصحيحة للناس يرونه باطلاً، مع أنه يقدم لهم الحق، لماذا يحصل هذا؟ للتعامل السيئ والأسلوب الفظ والغليظ في عرض الإسلام عليهم، دعوتهم كأنك ترغمهم بالقوة، كأنك تغصبهم، قد يقدم الكلام للبعض العاملين للإسلام من موقع الأستاذية، فيفرضه على الناس فرضاً، يقدمه لهم بأسلوب جاف وغليظ، ولذلك لا يطيعونه ولا يتابعونه في أفكار دعوته، هو الذي أساء إلى دعوته، لأنه أساء عرضها، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يهتم بالأسلوب كما كان يهتم بالمضمون، كان يهتم بالجوهر وأيضاً يهتم بالقالب الذي تقدم فيه هذه الأفكار للناس: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] هذا أسلوب {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
وهذه المسألة الأخيرة هي التي تفقد وتعدم القدوات بين الناس، لأن الناس لا يرون القدوة الصحيحة التي يقتدون بها، ويعتبرون هذا النوع من الدين كما يسمونه مرفوضاً، بسبب عدم قناعتهم بالشخصيات التي تعرض الحق، هذه مسألة مهمة، عدم قناعة الناس بالشخصيات التي تعرض عليهم الدعوة إلى الله، عدم قناعتهم بالشخصيات التي تعلمهم، هذا من أسباب رفض الحق.(128/10)
فقدان الجدية في طلب العلم
الجدية مفقودة في جوانب كثيرة أيضاً مثلاً: الجدية في طلب العلم: تجد بعض الشباب مثلاً ما عنده نَفَس في القراءة، ولا عنده صبر في الجلوس في حلق الذكر والعلم.
يعني: لا يقرأ، لو أن أحداً ممن يدعوهم إلى الإسلام قال له: ما هو الدليل على حرمة سماع الأغاني؟ قد لا يستطيع أن يأتي بدليلٍ صحيح، لو أن امرأة سألته ما هو الدليل على وجوب ستر الوجه وتغطيه الوجه؟ قد لا يأتي بهذا الدليل، ربما لو سئل ما هو الدليل لوجوب الصلاة في الجماعة في المسجد؟ قد لا يستطيع أن يقدم الدليل.
وقضية حفظ الأدلة قد تكون ناقصة جداً، فتراه يقول: ورد في آية أو جاء في حديث أو كما قال أو فيما معناه، ليس هناك اهتمام بحفظ العلم والنصوص، وترى هؤلاء الأقوام يشتغلون بأشياء يملئون بها فراغهم، لكنها لا تدر عليهم مردوداً جيداً، مثلاً يغرقون في سماع الأناشيد أو التمثيلات مثلاً، هذه أشياء طيبة لا ننكر أن لها تأثيراً جيداً، لكن أن أذهب إلى سيارة أحد الشباب وأستعرض الأشرطة الموجودة، أجد أنها كلها أشرطة أناشيد وأشرطة حفلات وأشياء من هذا القبيل، ولا أجد شريطاً واحداً في تفسير آيات أو فيه شرح متن فقهي، بل إنهم يحفظون أبيات هذه الأناشيد حفظاً يفوق حفظ الآيات والأحاديث، لو قلت له أكمل هذه الآية، أو أكمل هذا الحديث ربما لا يستطيع! لكن لو أعطيته أول النشيد سرده حتى النهاية! وأيضاً مع أنهم يشغلون أنفسهم بهذا، فإنهم يذهبون مع اللحن، فتجد أحدهم يطرب ويترنم وهو يقود السيارة، أو وهو جالس في البيت يترنم بالألحان، ولو أنك أيقظته على معنى من المعاني ربما قال: هذه أول مرة أفكر في هذا، مع أن بعض هذه الأشعار تحتوي على معانٍ جميلة ومعانٍ قوية ومهمة، لكنهم في إغراقهم في هذه القضايا لا يتذكرون حتى معاني الأشياء التي يرددونها.
هل يفكرون مثلاً في قول الشاعر:
إخوانكم لا شيء أغلى منهم لا شيء يعدلهم من الأشياء
لا تتركوهم للضياع فريسة ترك الشباب أساس كل الداء
وغيرها كثير، أم أنه يشغلهم اللحن عن التفكر في هذه الأشياء، وتشغلهم هذه الأشياء بعمومها عن طلب العلم، يغرقون فيها، أنا لست ضد الاستفادة من هذه الأناشيد والجيد منها الذي كلماته طيبة، وليس فيه مشابهة لألحان الفساق والأغاني الماجنة كما يحلو للبعض أن يفعل في تلحين الأناشيد، لست ضد هذه الفكرة والاستفادة منها وبالذات فيمن يترك الآن تدريجياً الأغاني، فقد تكون بديلاً، لكن ليس من المعقول أن رجلاً قد درج في طريق الالتزام سنوات وهو لا يزال الوقت الأكبر من حياته يقضيه في سماع هذه الأشرطة، فقليلاً من الجدية في الالتفاف إلى العلم الشرعي إلى التعلم، والعلم -أيها الإخوة- سلاح المؤمن، وهؤلاء العلماء الكبار -نسأل الله أن يحفظهم- كم أعمارهم الآن؟ أليسوا في الستين والسبعين والثمانين، فإذا ذهبوا إلى ربهم فمن يبقى ليعلم الأمة، لا تحتقر نفسك، لا تقل أنا لا أستطيع أن أفعل، وكيف أصل إلى ذلك المستوى، وأنى لي؟ لا، ليس المطلوب أن تصل إلى ذلك المستوى؟ ليس المطلوب أن نكون كلنا من أمثال المشايخ المعروفين، لكن يا أخي على الأقل بعض الدرجات في هذا السلم، وما لا يدرك كله لا يترك جله، لكن بعض الشباب قد يحتقر نفسه، قد يقول: أنا ماذا أفعل؟ حتى في باب الدعوة إلى الله يقول: أنا لست صاحب سلطة في البيت، ولا أنا الذي أصرف عليهم فيسمعون كلامي من باب الضغط المادي، ولا أن سني كبير فيحترموني، فأنا ماذا أقدم؟ لا، لا تقل هذا فإن في الأمثلة الواقعية ما يرد هذه المزاعم، وقد وجد ولله الحمد من صغار هؤلاء سناً من أثَّر في أهله، فالتزم إخوانه بالدين وتحجبت الأخت والأم، وامتنعت عن الخروج مع السائق بدون محرم، والأب كان لا يصلي وصار يصلي، وبعضهم يؤثر في أهل الحي والجماعة في المسجد.
فإذاً من كان داوود عليه السلام قبل أن يقتل جالوت كان غير معروف، صغير السن في مقتبل العمر {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:251].
فإذاً: لا يحتقر الإنسان نفسه، وهذا مدخل شيطاني ليحطم به معنويات المؤمنين ويردهم عن الاشتغال بالدين والدعوة إليه يقول: ماذا أستطيع أن أفعل وأنا ذاكرتي ليست كذاكرة الشيخ الفلاني، كيف تريدني أن أطلب العلم؟ صحيح أن الله عز وجل فضل بعضنا على بعض درجات، ورفع بعضنا فوق بعضٍ درجات في الذاكرة، في الذكاء، وفي المال، وفي كل الأشياء، وفي القوة الجسدية، لكن كل واحد يعمل بحسب استطاعته، أنت تعمل بحسب استطاعتك، وأنا أعمل حسب استطاعتي، والأخ يعمل بحسب استطاعته تكاتفت الجهود وظهرت النتائج.(128/11)
الإغراق في المزاح والضحك
ومن مظاهر عدم الجدية في الدين كذلك: الإغراق في المزاح والضحك، وتضييع الأوقات في النكت أو القصص والطرائف، وهذه طبعاً مشكلة كبيرة، وهذه نتيجة عدم الإحساس بالمسئولية، الواحد الذي لا يحس بخطورة الوضع وأن الإسلام يحتاج إلى جهد وإلى عمل، فلذلك يضيع الوقت منه بسهولة، لأنه لا يستشعر المسئولية، واستشعار المسئولية يحتاج إلى وعي، ويحتاج إلى تفتيح ذهن، ويحتاج إلى تفكير في الواقع، وتأمل واستغراقٌ عميق في تصور مشاكل المسلمين، وماذا يحتاج إليه الإسلام؟ وما هو حجم التكليفات التي كلفنا بها؟ ولذلك لا نريد أن نكون يقال لنا: والله هذا مسكين، يعني: ما عنده خلفية، وعنده بلادة في ذهنه، وهو سطحيٌ بنظره إلى الأمور، ولذلك ينبغي أن يكون المسلم واعياً.(128/12)
فقدان الجدية في المجالس
ومن مظاهر عدم الجدية كذلك: واقع مجالسنا اليوم، ما هي الأشياء التي تثار اليوم في مجالسنا؟ ما هي القضايا التي تطرح الآن؟ إذا جلس مجموعة من الناس مع بعضهم ما هي القضايا التي تناقش وتطرح في هذه المجالس؟ هل يتناقشون في مسألة في كتاب الله، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ مسألة في الفقه؟ أو يناقشون بعض أحوال المسلمين؟ أو يناقشون أوضاع إخوانهم المسلمين، ويفكرون في حلول مشكلات المجتمع، ويتداولون الخبرات فيما بينهم مثلاً؟ أو القصص المفيدة التي يكون فيها تعليقات جيدة؟ أو مثلاً حال الناس الآن من قطيعة الرحم، هل هذا الذي يناقش، أو ما الذي يطرح في مجالسنا؟ وقد سمعت أن بعض الشباب العزاب جلسوا مرة من المرات إلى الساعة الثانية والنصف ليلاً، يتناقشون في كيفية دخول الرجل بزوجته ليلة الزفاف، هم طلبة صغار، ما هذه التفاهة؟! وكيف نرضى أن تمضي أوقاتنا بهذه السهولة في هذه المواضيع العجيبة؟! ثم تضيع صلاة الفجر طبعاً هذه نتيجة طبيعية؛ فنظرة تلقيحية إلى واقع المجالس، نخشى أن تكون هذه المجالس فيها من المحرمات أشياء كثيرة وخصوصاً أنه لو جلس خمسة أشخاص لمدة ساعة كم ضاع من وقت المسلمين؟ خمس ساعات؛ لأن كل واحد ضيع ساعة فضيع الجميع خمس ساعات من وقت المسلمين، خمس ساعات في الصباح، وخمس ساعات في الليل ومثلها يومياً واضرب في ثلاثين شهرياً في اثني عشر سنوياً حتى تعرف كم يضيع من أوقات المسلمين، التي من المفترض أن المسلمين يحتاجون إليها بشدة، والتي من المفترض أن تنفق في سبيل الله.(128/13)
تمييع مفهوم الأخوة الإسلامية
من مظاهر عدم الجدية كذلك: تمييع مفهوم الأخوة الإسلامية، وهو فريضة عظيمة، ما هي الأخوة عند كثيرٍ من الناس؟ هي عبارة عن استئناسات وترويحات وتبادل الكلام والارتياحات التي لا معنى لها، وكثيراً ما تؤدي هذه الخلطة الزائدة إلى أضرار سلبية تدمر الأوساط الأخوية، ويتزين بعضهم لبعض، ويثني بعضهم على بعض، ويجتمعون على غير ذكر الله، وصارت الأخوة في الله مجرد شعارات ترفع لا حقائق يعمل بها، فهذا التفريغ لمضمون الأخوة في الله الذي نعاني منه اليوم في أوساط كثيرٍ من الشباب هو مظهر من مظاهر عدم الجدية، أنا لا أجلس الآن مع فلان لأنه يفيدني ولأنه أعلم منى ولأنه ينصحني، لا، أجلس مع فلان لأنني أرتاح إليه ويرتاح إلي، أجلس مع فلان لأن عندي توافق نفسي معه فقط، هذا هو الذي يجمعني معه.
هذه مشكلة واقعية، الآن لو جئت تقول لفلان: من الذي تجلس معه؟ من هو أقرب صديق لك؟ يقول: فلان، لماذا؟ يقول: أنا ارتاح له، فذهب ارتياحك بالفائدة العظيمة التي قد تأتي إليك عندما تبحث عمن هو أفضل منه وأعلم منه، لكن القضية استرسال مع الهوى.
والتعامل بالعواطف لا بالعقل، ولذلك إذا نقحت الجمل التي ينطلق بها هؤلاء لا تكاد تجد فيها كلمة واحدة مفيدة، وإنما هي عبارة عن استرسالات وعواطف وكلام وشجون وأشياء تنطلق وتبث عبر الهواء مباشرةً، يعني: بغير ضبط وبغير تنقيح وبغير نظر في عواقبها وما مدى جديتها.(128/14)
فقدان الجدية عند المتهاونين بالسنن
كذلك من مظاهر عدم الجدية في الالتزام بالإسلام: التهاون بالسنن، لأن الناس يقولون: نحن نطبق الفرائض، ما لنا وللسنن، لست بآثم لو لم أقم بها، لكن أقول: ألم يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أن الرجل يوم القيامة يؤتى به فينظر في صلوات الفرائض التي قام بها، فإذا وجد فيها خلل فينظر إلى السنن والنوافل، فيجبر بها ذلك النقص الذي حصل) وصيام، لو واحد أنه مثلاً: صار عنده رفث وفسوق مثلاً في صيامه أو جدال في حجه ما الذي يجبر هذا النقص الحاصل فيها؟ أليست في السنن والنوافل من أنواع هذه العبادات التي تؤدى؟ ألست الفريضة أعلى عند الله عندما تكون مكتملة السنن من الفريضة تؤدى بمجرد الواجبات، تقول: أنا أقول سبحان ربي العظيم مرة، سبحان ربي الأعلى مرة، رب اغفر لي مرة، لماذا أقولها ثلاث مرات؟ لماذا أحرك الإصبع؟ لماذا أضع اليدين على الصدر؟ وكذلك قضية فروض الكفاية لماذا أصلي الاستسقاء؟ لماذا أصلي كذا؟ هذه فروض كفاية، وهناك مسلمون كثيرون يقومون بهذه الأشياء والحمد لله، لماذا أقوم بفروض الكفاية؟ أتركها لغيري هو الذي يقوم بها، هذا التهاون الدال على الاستخفاف بهذه القضايا من مظاهر عدم الجدية في الالتزام بالإسلام.(128/15)
البحث عن الأعذار والحيل لمجابهة المرشدين
كذلك -أيها الإخوة- إيجاد الأعذار والحيل التي يجابه بها كثيرٌ من الناس من ينصح لهم ومن يعلمهم ويرشدهم، كأنَّ همه هو عدم التطبيق، هو ألا يرضخ للنصيحة بأي سبب وبأي شكل وبأي وسيلة، ونفعل مثل ما فعل بنو إسرائيل مع موسى، فقد أتاهم موسى برسالة من ربهم {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] كيف استقبلوا هذه الرسالة، وهذا التكليف، وهذا الأمر؟ كيف استقبلوه؟ المفروض أنهم يبادرون إلى التنفيذ، لكن استقبلوه بأن قالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة:67] أنت الآن تستهزئ بنا نذبح بقرة؟! عجيب! وحي من عند الله ونبي جاد في كلامه يستقبلونه بالاستهزاء كما يستقبل اليوم كثيرٌ من المسلمين الأشياء التي تنصحهم وتحثهم عليها وتبينها لهم، يقول لك: ما هذا يا شيخ؟ لماذا تستهزئ بعقلي؟ هذا من الدين؟ هذا دين الإسلام لا يأمر بهذا وهذا ليس من الدين أصلاً، كما ذكر كثيرٌ منهم في مجالس تسمع هذه الكلمات، يقول: هذا ليس من الدين وأنت أتيت بدين جديد، من أين جئت بهذه الأشياء؟ أنتم الآن جالسون تعلمونا الدين وهذا الكلام، كل ما رأينا عليه آبائنا وأجدادنا غلط؟ لأن هذه أصلاً حجة الكفار: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] سهل أن نغير إلى المحرمات ونقع فيها، لكن صعب أنت نغير إلى الواقع الذي يرضاه الله عز وجل.
فلما جزم لهم موسى عليه السلام أنه غير مستهزئ بهم وأنه جاد، قال: أعوذ بالله من هذا الكلام {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] وفيه إشارة إلى أنكم أنتم الجاهلون، وهل ذبحوا البقرة لما أكد عليهم هذا الأمر؟ لا.
ماذا قالوا؟ بين لنا ما هي، ما أعطيتنا الأوصاف، والله أمرهم ببقرة، اذبحوا أي بقرة، لو ذبحوا أي بقرة لكفتهم.
وموسى عليه السلام يذهب إلى ربه يسأل ربه، ويأتيه الجواب {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68] لا صغيرة ولا كبيرة هرمة إنها بقرة فتية {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] هذه أوصاف هذه البقرة، ذبحوها؟ لا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة:69] أي شيء، المهم تأخير التنفيذ بأي عذر، أي سؤال، أي استفسار، أي تأخير، المهم ألا ننفذ.
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] ذبحوها؟ لا {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة:70] بقر كثير وما زالت هذه الأوصاف غير كافية {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70] بعض المفسرين قالوا: إنهم استثنوا أخيراً، ولولا أنهم استثنوا بالمشيئة، لكانوا حرموا من الخير كله، وبعضهم قالوا: أن احتجاجهم بالمشيئة هنا مذموم، يعني: مثل احتجاج الناس تقول: يا أخي صل صل، يقول: إن شاء الله {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:70 - 71] انتهت الأسئلة، ماذا يسألون بعد هذا؟ {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:71] الآن ذلك الكلام الذي ذهب كله ما هو؟ كان باطلاً، الآن جئت بالحق، ومع ذلك مع هذا الاعتراف {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] يعني: كادوا ألا يفعلوا، وما ذبحوها إلا بزهق النفس وما كادوا يفعلون.
وفرق أيها الإخوة بين من ينفذ أمر الله عن حبٍ لله وطواعية نفسٍ منه، وبين من ينفذه من وراء أنفه كأنك تأخذه منه، إذا نفذ هذا الذي تقول له كأنك تسلب منه ملكاً عزيزاً على نفسه، هذه المعاذير والأشياء التي يتعذر بها كثيرٌ من الناس تدل على أنهم المتلاعبين، أين الجدية؟ لو كان عندهم جدية، لكانوا نفذوا لأول وهلة وما جلسوا يعتذرون بالمعاذير والكلام الفارغ.(128/16)
فقدان الجدية عند من يطلق لسانه في أعراض المسلمين
كذلك من مظاهر عدم الجدية: التساهل في إطلاق اللسان في أعراض المسلمين، فتجد بعضهم يكيل ألفاظ الشتيمة والسباب للبعض الآخر، ويقعون في الغيبة وهي: ذكرك أخاك بما يكره، والإفك وهو: أن تقول في أخيك ما بلغك عنه، فيجتمع النميمة وسوء الظن، والبهتان وهي أن تقول في أخيك ما ليس فيه، وكل هذه الأشياء ذكرت في القرآن الغيبة والإفك والبهتان، فأين الجدية في التزام هؤلاء؟ لو أنهم كانوا جادين لأمسكوا ألسنتهم عن الانطلاق في سب إخوانهم المسلمين، وأنت عندما تنقد واحداً فإنك تنقد الفكرة ولا تنقد الشخصية، هذا هو الموقف الذي ينبغي أن يكون، عندك ملاحظة تنقد فكرة، تبين خطأ الفكرة، لا تعب شخصه ولا تجرحه.(128/17)
فقدان الجدية في الحماس للأعمال الصالحة
من مظاهر عدم الجدية في الالتزام بالإسلام كذلك: الحماس بغير أساس، لو أنك كلمت نفراً أو طائفة من شباب اليوم، فتكلمت عن أهمية طلب العلم، وفضل طلب العمل، وذم والجهل، وخطورة الجهل، يتحمس بعد الكلام ويأتي إليك يقول: أرجوك أنا أريد أن أتعلم، دلني، اعمل لي جدولاً، وهات تفاصيل.
فتعطيه تفاصيل، وتكتب وتتعب نفسك، وتجدول له أشياء، وتقول: اقرأ هذا الكتاب وبعده الكتاب الفلاني والثالث، وتسمع هذه المجموعة من الأشرطة، وبعد هذا التعب وبعد شهر عندما تراجع وتحاسب وتنظر فيما أتعبت نفسك فيه، تجد أن الأعذار تنطلق: أنا نسيت، أنا قرأت أول صفحة ثم مللت، أنا انشغلت وكانت عندي ظروف، وهذه كلمة (ظروف) كلمة عجيبة اليوم وإذا دققت في هذه الظروف، فالحماس هذا ما هو سبب ذهابه؟ سبب ذهابه أنه كان غير مؤسس على تقوى من الله ورضوان، وغير مؤسس على صدق وإخلاص وعزيمة في العمل، وإنما هو مجرد أن الواحد تحركت أحاسيسه وتحمس في لحظة من اللحظات وبعد ذلك انطفأت.
لذلك نبي بني إسرائيل في قصة طالوت لما قالوا له متحمسين في حال الهزيمة: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246]، ماذا قال لهم؟ قال لهم: غداً نأتي لكم بملك، انتهينا نأتي لكم بقائد تقاتلون وراءه، هو خبير، أنبياء بني إسرائيل عانوا الويلات من بني إسرائيل، قال لهم: لحظة قفوا {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة:246] عسى أن يفرض عليكم القتال غداً، أو يأتي لكم قائد يملك عليكم وبعد ذلك لا تقاتلوا، انطلقت الحماسة {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246] هذا الكلام الآن، لكن حين تأتي إلى الجد {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ} [البقرة:246].
فإذاً قضية الحماس يرتفع فيها الكلام ثم بعد ذلك ينطفئ لأنه غير مؤسس، وكيف يأتي الأساس أيها الإخوة؟ لا يأتي الأساس من الهواء، إنما يأتي من التربية الإسلامية التي يتلقاها ويتربى عليها الشاب المسلم في وسط إخوانه على منهاج كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، تلك التربية الإيمانية التي تأخذ بما يحيي القلب، العلمية القائمة على الدليل من الكتاب والسنة، الواعية التي تحيط بالواقع علماً، المتدرجة التي تنتقل بالإنسان من حال إلى حال إلى كماله الخاص به من غير قفزاتٍ محطمة.
فإذاً: ينبغي إذا أردنا أن نكون جادين، أن نتعرض لنفحات التربية الإيمانية الإسلامية التي تصقل نفوسنا وتهذبها، أن ننظر إلى إخواننا ممن سبقونا بالإيمان وممن هم أعلى منا شأناً في العلم وفي الفهم، فنقتدي بهم ونتأسى بهم، وقد يقول قائل: عندنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة، ما حاجتنا إلى قدوات أخرى؟ وحديث الوفد الذين جاءوا مجتابي النمار، فقراء عالة، حفاة، الرسول صلى الله عليه وسلم تأسف لهم وأسف عليهم، وحث الناس- الآن الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة- على التبرع والتصدق لكن الناس لم يتحركوا إلا حين جاء واحد منهم فعلاً بصرة كادت كفه أن تعجز عن حملها، فتصدق فتتابع الناس وراءه، مع وجود الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة العظيم أعظم قدوة، كان وجود القدوات الأخرى ممن هو أقل شأناً مهماً في عملية تربيتهم على الإنفاق، ولذلك لا بد من القدوات الحية بالإضافة للتأسي والاقتداء بمن سلف من عباد الله الصالحين.(128/18)
خجل الملتزم ينافي الجدية
كذلك من عدم مظاهر الجدية في الالتزام: أن يخجل الإنسان في مواجهة الناس بالتزامه، فتجد واحداً مثلاً ممن هداهم الله عز وجل والتزموا بالإسلام ومظهرهم إسلامي، عندما تلاحقهم أعين السفهاء من الناس، وينظرون إليه ويتتبعونه ويغمزونه تجد أنه يمشي على خجل ويريد أن يتوارى من القوم من سوء نظراتهم، والإسلام يوجد في المسلم قضية العزة الإسلامية التي تحتم عليه أن يظهر أمام أهل الباطل فارضاً شخصيته وتصوراته عليهم، ليس بالقوة لكن بمفهوم العزة الإسلامية، أن يصبح عزيزاً، لا ذليلاً يلاحقونه بنظراتهم وهو يحاول أن يهرب ويجد له شيئاً يتوارى خلفه، لماذا يا أخي والله عز وجل أعزك بالإسلام ورفع رأسك به، وأنت تطأطئ رأسك وتمشي هكذا، كأنك مجرم، وهم مجرمون في الحقيقة، تمشي كأنك مذنب، وعينك منكسرة في الأرض، تخشى وتحاول أن تندس من هنا وهناك، لو رفعت عينك إليهم فواجهتهم، وقلت لهم: مالكم تنظرون إلي؟ وما الذي تستغربون من شأني؟ وما الذي فعلته من الخطأ الذي يستنكر علي؟ ثم بدأت تذكر لهم أخطاءهم لما وقعت في هذا المأزق، لكن المشكلة أحياناً ضعف القلوب وضعف الشخصيات، وانحصار مفهوم العزة الإسلامية في النفس يؤدي إلى هذه الأشياء.(128/19)
عدم التفاعل مع قضايا المسلمين
عدم التفاعل مع قضايا المسلمين من مظاهر عدم الجدية: يسمع الإنسان نكبات تحل بإخوانه في أصقاع الأرض؛ أناسٌ يشردون، أناسٌ يقتلون، أناسٌ يسجنون، أناسٌ يعذبون، أناسٌ تستحل أموالهم ودماؤهم بغير حق، السبب أنهم قالوا: ربنا الله، فتحل النكبات والكوارث بهم، ويأتي هذا الأخ يقرأ الأخبار ويسمع وهو متبلد الإحساس تماماً كأن الأمر لا يعنيه، يقول: الحمد لله هذا ليس في ديارنا، الحمد لله هذا بعيد، الحمد لله دعهم، الحمد لله، أين الارتباط؟ أين الأخوة في الله؟ (المسلمون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) فهذا البرود وعدم تقديم شيء حتى في دعاء السجود أو دعاء في ظهر الغيب لا تقدم، أي تجمدٍ في مشاعرك هذا الذي يحل بك حين تسمع ما يحل بإخوانك المسلمين في العالم وأنت تجلس على أريكتك متكئاً وتقول: الحمد لله هذا ليس عندنا؟!(128/20)
أشياء تنافي كمال الالتزام
وقبل أن أنهي كلامي، هناك أشياء تنافي كمال الالتزام مثل: قضايا التخلي عن الزهد، فتجد الواحد مثلاً يلبس أحسن أطقم الأزر ويشتري أحسن الأقلام، وبيته مزخرف، لو أنه اشترى أقل منها بنصف الثمن ربما أدت الغرض نفسه، لكن الناس عندهم عقدة التزين والاهتمام بالمظاهر بحيث إنها في بعض الأحيان عند بعض هؤلاء ينفقون أموالاً بما يشبه الإسراف أو ربما التبذير، وهذا أيضاً دال على عدم استشعارهم لحاجة إخوانهم المسلمين لهذه الأشياء الزائدة، على الأقل يا أخي احتفظ بها ربما في المستقبل تتزوج وتحتاج إليها في زواج أو في بناء بيت، ولكن لا يوجد تأصيل، أو لا يوجد انتباه إلى هذه الأشياء.
وأختم كلامي بأنه لا يفهم من هذا الكلام -قضية الجدية- أن الجاد لا يضحك مطلقاً ولا يتبسم، وإنما يمشي بين الناس وهو مقطب الجبين، مشيةً عسكرية لا يلتفت يميناً ولا يساراً، كلامه مقتضب وقليل جداً، ولا يعرض عن أي شيء، هذا ما نقول عنه هذا جاد، نقول هذا: مسرفٌ في تشدده وشدته على إخوانه، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وتبسمك في وجه أخيك صدقة) والرسول صلى الله عليه وسلم كان يمازحهم، وكان يأتي أحدهم من خلفه مثلاً، فيغمض عينيه، وكان يمزح حتى مع النساء كبيرات السن كما هو معروف في الشواهد، وكان صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم يتبادحون بقشر البطيخ، فإذا جاءت الحرب كانوا هم الرجال، فلا بأس بالترويح واللعب البريء، ولا بأس ببعض الفكاهات بعد عناء أو طول تلق للعلم أو طول مكثٍ في مجلس ذكرٍ بما يناسب المقام وبما لا يتعارض مع الشريعة، لكن طبعاً لا تتعدى مثل بعض الإخوان الذي يتبادحون بقشر البطيخ فصاروا يتبادحون بالبطيخ نفسه، ويقول بعضهم: يا أخي هؤلاء أوجعونا بالبرتقال.
فالمهم نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يرزقنا وإياكم الإخلاص والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيد المرسلين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(128/21)
الأسئلة(128/22)
الجدية لا تعني التجرد من جميع الشهوات
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: ما رأيك فيمن يعتقد أن الجدية في الالتزام هي التجرد من جميع الشهوات؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما التجرد من جميع الشهوات، فهذا يعني أن يتحول الإنسان إلى ملك، لأن الخلق الذين ليس عندهم شهوات هم الملائكة، وهذا مستحيل أن يصبح الإنسان ملكاً، كيف يريد الإنسان أن يصبح ملكاً؟ ولذلك حتى في المجتمع القدوة مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم حدثت هناك بعض الأخطاء الناتجة عن شهوات، مثلاً من الصحابة من وقع في الزنا، من الصحابة من قبل امرأة في طرف المدينة ثم جاء تائباً، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فقال الرجل للرسول صلى الله عليه وسلم فرحاً هذا لي يا رسول الله وحدي؟ فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا للأمة كلها، وهذا حديث صحيح، فإذاً ليس المطلوب هو إلغاء الشهوات بالكلية، لأن من الشهوة ما يكون مفيداً مثل: إتيان الرجل لزوجته من أجل النسل والذرية، لو لم يكن هناك شهوة عندهما لما حصل الإنجاب ولما حصلت الذرية.
فالله عز وجل جعل هذه الأشياء لحكم فيها مصالح للعباد، فلذلك إلغاءها بالكلية أمر مستحيل أصلاً، لا نفكر في إلغائها بالكلية، ولكن المطلوب هو توجيه هذه الأشياء وجهةً سليمة؛ وهذا لا يتم إلا بالتربية، الإنسان لوحده مهما عمل لنفسه قد لا يستطيع أن يصل إلى كماله إلا إذا كان بين إخوانه.
ولذلك الرجل لما قال للرسول صلى الله عليه وسلم: ائذن لي أن أجلس في عين الماء هذه -يعني: هنا آكل وأشرب وأنا مستريح- رفض الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأن الدين الإسلامي دين جماعي، ليس ديناً فردياً، وهناك أشياء في الدين لا يمكن تحقيقها على النطاق الفردي كالجهاد في سبيل الله وصلاة الجماعة وصلاة الجمعة، ولذلك لا يوجد خطاب في القرآن يا أيها المسلم يا أيها المؤمن، كل الخطابات" يا أيها الذين آمنوا" وهكذا، ليس المطلوب إلغاء الشهوات أو الغرائز، ولكن التربية هي التي تساعدك في تهذيبها وتوجيهها الوجهة السليمة.(128/23)
ضوابط في الرياء
السؤال
فضيلة الشيخ: بعض الشباب يأتي إليه الشيطان ويقول له: أنت منافق، فأنت تقول غير ما تفعل، فمثلاً تفعل في المخيم غير ما تفعل في البيت، إذا ذهبت إلى البيت لا تعمل ربع ما تعمله في هذا المخيم.
الجواب
أما كون الإنسان يرتقي بإيمانه إلى مرتبة عليا، ثم ينخفض هذا الإيمان مرة أخرى هذا شيء طبيعي، وهذا من أدلة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص، يعني: هذا دليل محسوس يجده كل واحد؛ أنه يجلس في مجلسٍ من مجالس الذكر فيرتفع مستواه الإيماني ويحس بأنه قد أصبح قريباً من الله جداً، وأنه في حالة من الخشوع عظيمة، ثم بعد ذلك إذا هو ترك هذا المجلس وفارقه أو ذهب إلى بيته ورأى الناس العاديين، وترك هذا المخيم، وترك إخوانه، وذهب إلى المجتمع العادي الذي يعيش فيه، فلا يمكن أن نتصور أنه سيحافظ على نفس المستوى الإيماني، لا بد أن يتأثر ولا بد أن ينخفض هذا المستوى، لأن الإيمان يزيد وينقص بحسب الظروف والأحوال والحالات التي يمر بها الإنسان، لكن إذا كان الشيء طبيعياً فما هو الشيء غير الطبيعي والشيء الخطر؟ يوضح هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي يقول فيه: (لكل عملٍ شرة، ولكل شرةٍ فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) كل عمل له نهاية عظمى (قمة) وله نهاية صغرى (قاع)، لكل عملٍ شرة (قمة) ولكل شرة يقابلها ماذا؟ فترة فتور (قاع) (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) فإذاً من الطبيعي وجود القمة والقاع وزيادة الإيمان ونقصه، لكن إذا كنت في حالة فتورك وانخفاض إيمانك موافقاً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم لا ترتكب المنكرات، فأنت بخير (فمن كانت فترته إلى سنتي) إذا كنت في حالة فتورك وضعفك وهذا الانحدار أو النزول في مستوى الإيمان الانخفاض في مستوى الإيمان، إذا كنت وأنت في هذه النقطة موافقاً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد اهتديت.
لكن إذا كنا نغادر المخيم ونفارق إخواننا، فإذا رجعنا إلى بيوتنا قارفنا المنكرات ووقعنا في المعاصي وارتكبنا الآثام، فعند ذلك يجب أن نخشى على أنفسنا، فهنا لا بد أن تنظر لماذا وقعت؟ وما هو العلاج؟ وتلجأ إلى إخوانك في الله، لتستمد منهم النصيحة والعون على مواجهة هذه الأمور، هذا هو التفصيل المختصر لهذه القضية، وطبعاً حديث حنظلة أنتم تعرفونه إن شاء الله جميعاً أخبر عن شيء طبيعي يقع له ووقع لـ أبي بكر وغيره، والرسول صلى الله عليه وسلم نبه على هذا لو كانوا كلهم مثل ما عند الرسول في جميع الأوقات لصافحتهم الملائكة، ولكن هذا القلب ساعة وساعة مرة، يرتفع الإيمان ومرة ينخفض.(128/24)
صور من ضعف الإيمان والرياء
السؤال
شاب نشأ في طاعة الله يصلي ويصوم، ولكن إيمانه ضعيف يريد أن يقوم الليل فلا يستطيع، ولا يخشع في الصلاة، وإذا عمل عملاً أحس أنه يرائي وينافق، وأنه يعمل لغير وجه الله، وإذا أصابته مصيبة لا يستطيع الصبر، فماذا يفعل أثابكم الله؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين؛ يمكن هذا المدخل مبني على شيء فاسد أو لعدم وجود التصور الصحيح، والتصور الصحيح أنك دائماً تكون بين قاعدتين: العمل لأجل الناس رياء، هذه القاعدة المعروفة عند الناس، وإذا صارت كل الأعمال رياء، صارت شركاً أكبر مخرجاً عن الملة، لأنه كأنه لا صلى ولا زكى ولا حج، وإذا وقع العمل رياءً من بدايته، فهو فاسد يجب إعادته خصوصاً الصلاة، أما إذا طرأ عليك أثناء العمل، فتجاهد نفسك وتستغفر الله عز وجل.
ولكن القاعدة الأخرى التي قد لا تخطر في بال بعض الناس: أن ترك العمل من أجل الناس رياء، يعني: كما أن فعل العمل من أجل الناس شرك، فكذلك ترك العمل من أجل الناس هو رياء، من ترك العمل من أجل الناس فقد وقع في الرياء، لماذا؟ لأنه ما الذي دفعه إلى ترك العمل؟ الناس وليست مراقبة الله التي دفعته إلى ترك العمل، ليس عملاً سيئاً راقب الله فتركه، وإنما الذي حمله على ترك العمل هم الناس، فإذاً أصبح الناس هم القضية عنده يترك من أجلهم، كما أن ذلك الشخص النوع الآخر في الجانب الآخر يفعل من أجل الناس، فكون ذاك يفعل من الناس، فهو مراءٍ، وكون هذا يترك من أجل الناس فهو أيضاً مراءٍ، فلذلك ينبغي أن نكون بين الأمرين، وكما أنك تضع أمام ناظريك أن فعل العمل من أجل الناس رياء، كذلك ضع أمامك أيضاً نصب عينك أن ترك العمل من أجل الناس أيضاً رياء، وهما نفس البلاء.
إذا طرأ عليك خاطر أن الناس الآن يرونك، وأنك إذا فعلت هذا العمل فسيحمدك الناس، فتعوذ بالله من الشيطان، وأقدم عليه صدقاً مع الله وإرغاماً للشيطان، لو جاءك شيطان وقال: أنت لو أنك قمت تصلي السنة الآن والناس ينظرون إليك فقد وقعت في الرياء، فأخر السنة، لكن ربما تفوت السنة، عندك احتمال أن يدخل وقت الصلاة الأخرى وتفوت عليك السنة، فماذا تفعل؟ تتعوذ بالله من الشيطان وتصلي السنة، صحيح أن إخفاء العمل من منهج السلف، يعني: أن يحرص الإنسان على إخفاء عمله، والسلف حالهم في هذا عجيب.
ففي سيرة البخاري رحمه الله قال: كان أبو عبد الله في المجلس، يعني: محمد بن إسماعيل البخاري، فأخذ رجلٌ من الناس شيئاً من لحيته فألقاه في الأرض (في المسجد) فرأيت أبا عبد الله رمقه بعينه، ونظر إلى تلك الحاجة التي سقطت، ولكنه تابع كأنه لم يحصل شيء، فلما انتهى الدرس وقام الناس رأيت أبا عبد الله ينظر حوله، فلما رأى الناس قد انفضوا تناولها من الأرض فدسها في كمه وانصرف وألقاها خارج المسجد.
فـ السلف كانوا يحرصون على إخفاء الأعمال وهذا هو المطلوب، لكن هناك أعمال لا يمكن تخفى مثل الإمامة، فلو قال رجل: أنا سأترك الإمامة لأني أخاف من الرياء، فهذا إذا ترك من أجل الناس، فقد وقع في رياء فعلاً، هذا قسم من الأعمال لا يمكن إخفاؤه، وهناك قسم من الأعمال إظهاره فيه مصلحة، مثل الرجل الذي أظهر الصرة فاقتدى به الناس، فإذا استيقن أنه لن يدخل في نفسه شيء، وسيجاهد نفسه ويتغلب فيظهر العمل ليقتدي الناس ويتأسون به.
وطبعاً النوع الثالث من العمل الذي إظهاره فيه مفسدة في الدين، فهذا طبعاً لا يجوز أن يظهره الإنسان، فلعل في هذا التفصيل نوعاً من الإجابة على التساؤل الذي طرحه الأخ، لكن الحذر الحذر من أن تترك العمل من أجل الناس، جاهد نفسك ولا تترك العمل من أجل الناس.(128/25)
كيف يبتعد الملتزم عن الزلل والزيغ
السؤال
كيف تكون النية خالصة؟ من المعلوم أن الشباب الملتزم تحت المجهر (أي مراقب) فكيف يكون بعيداً عن الزلل والزيغ؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، لعل الأخ يقصد أن الناس الآن أعينهم على الملتزمين، خصوصاً بعض هؤلاء الناس من سيئي النية يترصدون أخطاءهم حتى يقولوا: هذا هو الإسلام الذي تدعون إليه هذا هو كذا، فمن أخطأ من أهل الخير فإن الناس لا يرحمونه، وأخباره تنتشر في المجالس، لكن الذي يخطئ من أهل الشر أخطاءً أعظم من أخطاء هذا بكثير جداً لا يكترثون بها ولا ينكرون عليه في المجالس، فنعم أنت تحت المجهر، لأن الناس ينظرون إليك، يعني: أنت الذي تمثل الإسلام في نظرهم، فهم يلتقطون أخطاءك، ويراقبونك هل ستقع؟ وكيف ستقع؟ وينشرون هذا الخبر، فلذلك صارت المسئولية كبيرة.
الناس يقولون: غلطة الشاطر بعشرة، هو من جهة صحيح، يعني: من هذه الناحية أن خطأ الملتزم بدينه أعظم من خطأ الإنسان العادي في نظر الناس طبعاً، ولذلك من هنا تنبع المسئولية، من هنا يشعر الإنسان بمسئولية أنه يجب ألا يخطئ أولاً.
أولاً: لأن الخطأ فيه إثم وسيئات.
وثانياً: حتى لا يؤدي هذا الخطأ منه إلى تشويه صورة الإسلام وصورة الدين في أعين الناس، فقد يكون من الذين يضلون عن سبيل الله أو يصدون عن سبيل الله، ولولا هذا الخطأ لكان الناس دخلوا في الدين، لكن لما رأوك قد أخطأت وزللت، قالوا: إذا كان هذا هو الدين فنحن بخير، فكيف يكون بعيداً عن الزلل والزيغ؟ إذا استشعر المسئولية، وأخلص النية لله.
بعض الناس الآن إذا ما حصل منه فعل المنكر، يقول: مادمت لست في موقع الاقتداء فلا بأس.
فيتساهل، الواحد أمام الناس لا ينظر مثلاً إلى المسلسلات أو الأشياء المحرمة، لكن إذا أصبح بعيداً عن الناس يمكن لوحده قد يفتح هذا البلاء وينظر فيه، يقول: لا أحد الآن ينظر إلي! صحيح أنك حاولت أن تبقى بعيداً عن أعين الناس، لكن أين تذهب من عين الله عز وجل السميع البصير؟ فإذاً لا يعني هذا الكلام أن نظهر أمام الناس ممتازين بأحسن صورة، فإذا اختلى الواحد بنفسه فعل المنكرات وقال: الحمد لله الناس لن يتأثروا، فأين ذهبت علاقتك مع الله عز وجل؟(128/26)
ضرورة الالتزام بالدين كاملاً
السؤال
كثيرٌ من الناس يقول: يكفي أن أصوم وأصلي وأتصدق، أما أن أطلق لحيتي وأقصر ثوبي فلن أفعل حتى لا أتهم بالنفاق كما نشاهد من الشباب من سوء معاملتهم مع الناس ومع أهلهم؟
الجواب
نفس القضية ترك العمل من أجل الناس رياء، هذا ترك العمل من أجل الناس، فقد وقع في الرياء، وهذا ضابط قوي يضبط تصرفات الفرد.
أحياناً تأتي مداخل شيطانية، لكن يضع هذا الضابط ترك العمل من أجل الناس رياء فلا يستطيع أن يذهب يميناً أو شمالاً؛ لا بد أن يسلك الطريق المستقيم، ثم إن قضية ألا أتمسك بالدين لكي لا أعطي صورة سيئة، فأنت تريد أن تتقي بجانب وتخرق جانباً آخر، صحيح أنك قد تترك هذا العمل لكيلا تعطي صورة سيئة، لكنك في الجانب الآخر ارتكبت معاصي، وهي ترك المظهر الإسلامي، والمظهر بعض الناس يهونون من شأنه يقولون: المهم القلب، المهم الباطن، هذا المظهر غير مهم، لكن شيخ الإسلام رحمه الله له كلام جيد في اقتضاء الصراط المستقيم، يقول: لو أن إنساناً -يعني: رجلاً عادياً- لبس ملابس الجند؛ أي: أخذ بدلة عسكرية ولبسها مشى، كيف تتوقعون أن تصبح مشيته؟ يمشي ثابت الخطى جاد، لأنه الآن يلبس بدلة عسكرية جاد التصرفات خطوات متساوية، ماذا حصل عليه ما الذي زاد فيه؟ لباس.
لكن هذا المظهر له تأثير على المخبر وعلى الباطن وعلى الداخل، هذا غيَّر بدلته فقط، وكذلك بقية الأشياء التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، الناس يقولون: هذه توافه الأمور، يقولون: هذه قشور، ولو كانت هذه قشور فلماذا أنفق الرسول صلى الله عليه وسلم من عمره ومن وقته أشياء يعلمها الأمة لو كانت غير مهمة؟ ولماذا تأتي في بعض الأشياء ألفاظ دالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم طرح القضية في مجالس كثيرة (اعفوا اللحى) (وفروا اللحى) (أرخوا اللحى).
فإذاً: القضية مرتبطة بالعقيدة، ليست مسألة فرعية ولا جزئية لا تستحق أن يدعى إليها، وشهد شاهدٌ من أهلها، ذلك الرجل الذي جاء قال: ما ترك نبيكم- صلى الله عليه وسلم- شيئاً إلا علمكم إياه، يعني: حتى الخراءة؛ كيف يقضي الإنسان حاجته، فهاهم شهدوا بهذا، وهذا يبين عظمة الدين وكمال الدين وأنه لا توجد فيه ثغرة ولا شيء من الأمور إلا وتجده، موجود فيه آداب السنة في الإسلام موجود فيه أشياء مثل: نهى أن يمشي الرجل في نعل واحدة، سبحان الله! حتى المشي في النعل الواحدة، نهى أن يجلس الرجل بين الشمس والظل حتى الجلوس بين الشمس والظل، وطريقة الشرب، وطريقة الأكل، والدخول وتقديم اليمنى، يعني: أشياء تحكم المسلم، حتى تصبح الأعمال العادية موافقة لما جاء به الدين، هذا جانب من جوانب يظهر عظمة الدين ويعطيك تفصيلاً في كل الأمور.(128/27)
كيف نستفيد من القراءة
السؤال
يا شيخ: إني أقرأ كثيراً، وقد قرأت في اليوم الواحد أكثر من ثلاث ساعات، ولكني لا أخرج بفائدة!
الجواب
هذا الأخ يقول: إنه يقرأ ثلاث ساعات، لكن لا يخرج بفائدة، أنا لا أتصور أن يقرأ ثلاث ساعات ولا يخرج بفائدة، يعني: لو ما حصل على فائدة إلا الصبر على هذه الساعات وتعويد النفس فهذا حسن، لكن طبعاً هذا لا يكفي، فربما لا تخرج بفائدة؛ لأن طريقتك في القراءة ليست صحيحة، هناك أناس يمسك الواحد منهم الكتاب ويستعرض استعراضاً وتصفحاً ولا يستغرق هذا إلا فتح الصفحة التي بعدها وفتح الصفحة التي بعدها، وأنا أنهيت زاد المعاد في كذا يوم، وأنا أنهيت كذا، وهذه المجلدات، معناها الخلل في طريقة القراءة، كيف تقرأ؟ وبعد ذلك هناك طرق لكي تخرج بأشياء، فمثلاً: استخدام القلم، الآن في علم النفس كلما استخدمت عدداً أكبر من الحواس، كلما كان انتفاعك أكثر، لو قرأت بعينيك فقط فهذا ليس كقرائتك بعينيك ولسانك، فيشترك اللسان والسمع والعين، وهذا ليس كقرائتك مع استخدام القلم، فإذاً يمكن أن يزيد الانتفاع من القراءة باستخدام حواس أكثر وأشياء أخرى مثلاً: هل تقرأ أكثر من مرة أم تقرأ مرة واحدة.
سئل البخاري رحمه الله تعالى عن سبب حفظه، يعني: كيف حفظت هذه الأشياء؟ قال: لم أجد أنفع من مداومة النظر والقراءة.
فليست القضية أن البخاري حافظته قوية جداً، فاعتمد على حافظته فقط، لا طبعاً، لم أجد أنفع من مداومة النظر والقراءة.
فأولاً: هل تقرأ الموضوع مرة أو أكثر من مرة؟ هل إذا قرأت موضوعاً تحاول أن تلقيه على الناس وتقدمه في المجالس؟ فهذا شيء مهم، لو أن كل واحد يلقي في المجالس ما يقرأه ويقول: أنا قرأت كذا وسمعت كذا و (تداول العلم).
كان بعض السلف إذا ما وجد طلبة علم يقرءون عليه يحضر بعض صبيان الكتاب يجلسهم ويقرأ عليهم الحديث، وبعضهم كان عنده طلاب نهمين بطلب العلم، كان يقول: يرحمك الله كم من حديث أحييته في صدري بسبب كثرة النقاش والسؤال وإعادة السؤال عدة مرات، لذلك تجد العالم الذي عنده طلبة كثيرون ويسأل دائماً تجد أن علمه حياً، لكن العالم الذي لا أحد عنده ولا يسأله أحد تجد علمه يتقلص، لأن الذي يسأل العالم يضطره إلى المراجعة، أو يضطره إلى إعادة الإجابة عدة مرات، فترسخ القضية في ذهنه، لو يجد بعض الناس يقول: وقد ورد عن رسول الله في مسند كذا أن من حديث فلان فهذا الكلام قد لا يأتي من أول مرة بل لأن هذا الرجل يتكلم بهذا الحديث عدة مرات في أكثر من مجلس، فحفظه.
فإذاً كيف تقرأ؟ ما هي سرعتك في القراءة؟ هل تشرك أكثر من حاسة في القراءة؟ هل تعيد ما قرأته وتذكره وتشيع العلم هذا الذي تعلمته؟ هل تطبق العلم؟ ورد عن الإمام أحمد أنه قال: ما من حديثٍ صح إلا وعملت به حتى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنه احتجم وأعطى أبا محذور - يعني الحجام- ديناراً، فاحتجمت وأعطيت الحجام ديناراً.
فإذاً هل تطبق العلم؟ ثم قضية استخدام القلم مثلاً؟ هل تحرص على تلخيص كل مقطع بجملة بسيطة؟ هل تحرص على وضع خطوط بقلم الرصاص بشكل نظيف على الأشياء المهمة؟ هل تحرص على ترقيم الفقرات المبعثرة؟ فإذاً: السبب أن طريقتك في القراءة فيها خلل يحتاج أن تراجع، وهناك كتب للغربيين وضعوا أشياء عجيبة في هذا، والحكمة ضالة المؤمن، كتب في كيفية القراءة وكيفية الحصول على أكبر قدر من المعلومات وأكبر نسبة مئوية مما تقرأ.(128/28)
نصائح في موضوع طلب العلم
السؤال
كثيراً ما تطرح الأسئلة حول كيفية طلب العلم، والأولويات فيه، وما يقدم فيه وما يؤخر، ولكن غالباً الإجابات تكون خالية عن الواقعية ويتضح هذا بالتطبيق، ما هي الوسيلة المثلى لطلب العلم في عصرنا الحاضر مع الأخذ بعين الاعتبار الوسائل الحديثة كالأشرطة وقلة العلماء مع التوفيق بين الطلب والدعوة؟
الجواب
الحمد لله، تزاحم الواجبات يضيق الأوقات لكل منها، لو أنا الآن نعيش في عصر السلف لما وجدنا هذه الظروف النفسية، وهذه المشاكل من الناس التي تستغرق نشاطنا الذهني وتفكيرنا وإشغال الذهن بإيجاد حلول للمشاكل، ما كان عندهم المشاكل الموجودة الآن، والتعقيدات العصرية الحالية، الآن الذهن منشغل بآلاف المخترعات كلها حفظناها الملعقة والشوكة والسكينة وغسالة الأواني، من أول حتى هذه الأشياء في الحياة كانت بسيطة، لم تكن هناك مشاكل نفسية ومشاكل أسرية، كان يوجد صفاء، كان هناك عوامل الآن نفتقدها في حياتنا، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية حاجة الإسلام لأشياء كثيرة تجعل طالب العلم ليس عنده متسع من الوقت ليتفرغ بالكلية للعلم مثلما كان يتفرغ السلف رحمهم الله، لأن الإسلام في ضيق والمسلمين في حالة يرثى لها، والوضع يتطلب أن تبذل في أشياء كثيرة والوقت محدود والبركة في الزمان قلت، ابن حجر رحمه الله كان مرة يتكلم عن بركة الوقت وعن الأقدمين وكيف كان هذا، يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن البركة من الوقت ستقل وتقل، فلعل وقتنا هذا هو الذي قصده عليه السلام، هذا ابن حجر مئات المؤلفات يقول: لعل الوقت المقصود هو الذي نعيشه الآن (يقصد في عصره)، فكيف لو أن ابن حجر وجد في هذا العصر، ماذا كان سيقول؟ فإذاً: تزاحم الواجبات مشكلة وخطأ أن الواحد يعتكف، ويقول: أنا أريد أن أطلب العلم فقط، أنا ليس عندي وقت لكي أدعو، هذه طبعاً مخالفة للشمولية، والإنسان عندما يعمل يرى ما هو الأحوج للناس ليبذل فيه أكثر، فإذا رأى أن عنده ذاكرة قوية فعليه أن يركز في العلم أكثر من أي شيء آخر لأنه ربما أفاد، فهذا الأفضل له أن يركز في العلم أكثر، لكن ليس هناك شيء اسمه: لا أدعو ولا أطلب علم، ولو أن إنساناً يجيد الوعظ ويجيد التذكير ويجيد تحريك القلوب مثلاً، ولكن ليست عنده تلك الذاكرة القوية وذلك الفهم الكبير يتوجه إلى وعظ الناس أكثر، لكن لا يوجد شيء اسمه أعظ الناس وأدعوهم ولا أطلب العلم، لكن يؤخذ بعين الاعتبار طاقة الإنسان، كل واحد يعرف نفسه، والذي لا يعرف نفسه ربما يجد له أخاً يعرف عنه أكثر مما يعرف هو عن نفسه.
فإذاً: هذه أشياء يجب أن توضع بعين الاعتبار، لماذا توضع بعين الاعتبار؟ حتى لا يقرأ الإنسان سير العلماء الأقدمين وبعد ذلك ينظر في حاله، فيكتب: يا شيخ وصولنا مستحيل وكيف نصل؟! صحيح هذا قد يكون مستحيلاً، لكن الآن لا نجد أمثال الشافعي وأحمد ومالك، لماذا؟ لهذه الأشياء، لكنّ في أمة محمد صلى الله عليه وسلم خيراً موجوداً ولن يخلو الزمان من طائفة قائمة بالحق، ولن يخلو الوقت من قائم لله بحجة، لا يمكن أن يخفى الحق في زمن من الأزمان على كل الناس، يجب أن يكون هناك أناس يعلمون الحق؛ الطائفة المنصورة والفرقة الناجية أهل السنة والجماعة.
أما كيف تطلب العلم؟ فهذا بسطه يطول وقد لا أفيدكم فيه مثل ما قد يفيده غيري ممن هم من أهل العلم، لكن الأخ ذكر نقطة مهمة، قال: بعض الناس يذكرون أشياء غير واقعية مثلاً يقول: تبدأ بحفظ المتون والشروحات وتبدأ بكذا وكذا، وهذا الشخص نضجه العقلي ضعيف فكيف يقرأ المتون ويحفظها؟ يذكر لنا أحد أهل العلم يقول: أول ما ذهبت أطلب العلم جلست إلى الشيخ فقرأت جزءاً من الفرائض، لما انتهى قال: قسم رجلٌ توفي عن كذا وكذا، قال: يا شيخ أنا الآن ما فهمت المتن كيف تريد مني أن أقسم؟! فصحيح أن هناك أناساً يطلبون أشياء غير معقولة، وفي نفس الوقت بعض الشباب ينتهجون مسلكاً لا يؤدي إلى تحصيل العلم مثل: الاعتماد على الكتيبات، تجد أن هذا الشاب ما عنده إلا الكتيبات، والكثير من الكتيبات الحديثة خالية ليس فيها شيء، تتصفح من أول كتاب لآخره لا تخرج إلا بمجموعة من العناوين، وإذا كان العلماء من قبلنا قالوا: مؤلفات الأولين قليلةٌ كثيرة البركة، ومؤلفات المتأخرين كثيرة قليلة البركة، يعني: فماذا نقول اليوم أمام هذا الغثاء الذي تدفع به المطابع يومياً، والناس الذين عندهم إسهال فكري، والكتب التي يخرجونها كل حين مكررة معادة وأشياء عامة، وأشياء ليس فيها أصول، المفروض أن يقرأ الإنسان عن أصول أهل السنة والجماعة، أما أنه يقرأ قصص وأشياء متفرقة وطرائف وبعض الكتب هكذا، طرائف من هنا ونوادر من هنا وقصص من هنا، لكن لا يوجد فيها علم، ولذلك ترى بعض الناس يقرءون المختصرات ويحرصون عليها، بدلاً من أن يقرأ مثلاً تفسير ابن كثير يأخذ المختصر، أو في القرآن معاني المفردات معاني المفردات هذه الكلمة معناها كذا ومعناها كذا ومعناها وما يستفاد ويأتي بهذه الكتب.
فأقول: على الشخص أن يحرص على الأصول، إذا كان يستطيع أن يفهم يقرأ في الأصول يعني: أمهات الكتب، ويسأل أهل العلم عما أشكل عليه، ربما أقول: أهل العلم قلة، مشغولون، وأين أجدهم؟ وهذا صحيح لكن أنتم الآن في هذا المكان حباكم الله بنعمة وهي وجود عدد من أهل العلم قد لا يوجدون في منطقة أخرى، وشكر النعمة يقتضي أنك تستفيد منهم، وأنك لا تضيع هذه النعمة، لأن هناك إخواناً لك في مناطق أخرى ليس عندهم شيء اسمه مشايخ ولا شيء اسمه أهل العلم، كل الذي يعتمدون عليه بعض الكتب وعلى ما يؤتيهم الله من فهم في أشياء واتصال من بعيد قد لا يتوفر، فإذاً هذه من علامات الساعة، فإذاً اهتم يا أخي بالعلماء الموجودين عندك في المنطقة التي أنت فيها، وتسأل لو بالهاتف، وتسمع دروس المشايخ، لأن الدروس كأنك موجود، ولو صار عليك إشكال في شيء اتصل بالهاتف، طبعاً الهمة مهمة لأن الذي ليس عنده مهمة ستهبط عزيمته ويقلع عن كل شيء، وأنا لا أرى أن الوقت متسع لأن نبسط هذه القضية، ويمكن أن ترجعوا إلى من هم أقدر مني على توضيح كيفية طلب العلم وما هو المنهج الذي يبدأ به المتعلم ويسير عليه، والله أعلم.(128/29)
ضوابط في صلة الرحم
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: ما هو التصرف الحكيم لمقابلة الأقارب وخاصة ممن هم غير ملتزمين؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، مسألة صلة الرحم من الفرائض المهمة التي أوصى الله تعالى بها ومشكلة كثير من الشباب اليوم أنهم يهملون في صلة أرحامهم، لأسباب منها مثلاً: أنهم يعتقدون أنهم منشغلون بأشياء من الدين أهم، فيقول: أنا مشغول بطلب العلم وأريد أن أدعوا إلى الله وأربي نفسي مع إخواني، فأين الوقت الذي أزور فيه أرحامي؟ فيترك.
هذا غير صحيح يجب أن توازن، اتقوا الله ما استطعتم، وليس من المعقول ألا تجد وقتاً للقراءة، ولو أنك ضغطت نفسك، أو استفدت من أوقات الفراغ التي عندك لوصلت أرحامك، ولكن بعض الناس يتعذرون بأشياء، يقول هذه أهم، والدعوة إلى الله، وطلب العلم، التربية، فلا يصل رحمه! فيقع في جريمة عظيمة (قطع الرحم)، وعموماً والتعامل مع الأقرباء مشكلة لأن فيهم كثيراً من الفجرة والفسقة، وقد تجلس في مجلس فيدخن، تجلس في مجلس فيشغل الملاهي والأغاني، وتجلس في مجلس فتأتي زوجة عمك متكشفة متبرجة، فماذا تفعل؟ في هذا درس تم في المنطقة عندنا عن صلة الرحم وهو مسجل في شريطين، لعل فيه علاج لكثيرٍ من الجوانب التي تتعلق بصلة الرحم، خصوصاً إلقاء الضوء على ما يتصل بالشباب من هذه المسألة، ولا أعرف بماذا أتكلم الآن في هذه العجالة، ولكن أقول: إن صلة الرحم تتم بعدة أشياء: فإن كان دخولك لبعض أرحامك يسبب وقوعك في منكر شرعي، فإنك تصلهم بالرسائل، تصلهم بأن ترسل لهم سلامك مع بعض الناس، لو كان يدخن ولابد، فتزوره في نهار رمضان، لو كان مثلاً في البيت يشغل أشياء، زره في المكتب، إذا حضر المنكر عندك أنكر المنكر، فإذا ما أنكر المنكر، فامش، ولو حدثت مفسدة عظيمة من تركك للمكان كأن يترتب على ذلك طلاق زوجة أو مفسدة أخرى، فيمكن أن تطرق في الأرض مثلاً، لكن إذا لم يكن هذا حاصلاً، فلا يصح لك بعد أن تنبههم وتنصحهم أن تجلس، فإذاً أنت تذهب وتجلس، فإذا حصل المنكر فانْه عنه أو فارق المكان مثلاً إلى غرفة ليس فيها منكر، وتجلس فيها، المهم أنك تحاول أن تجد لك طريقاً، تدعوهم تزورهم بالهدايا، أخي أرسل هدايا فهذه لها تأثير عظيم، أرسل سلامك فله تأثير عظيم، اتصل بالهاتف هم بينهم وبين بعض لا يتصلون بالهاتف ولا يسأل بعضهم عن بعض، فأنت حين تبادر وتتصل، فهذه لها أثر عظيم.
وأسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم الرشاد، وأن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، وأن يكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن يجعلنا وإياكم من الراشدين، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.(128/30)
جهاد الحجة والبيان
إن جهاد الحجة والبيان من أنواع الجهاد المشروع، فبه ننافح عن ديننا الذي يتعرض للأخطار من قبل المشركين والمبتدعين، وإن حماية العقيدة وكف العدوان والمعتدين من أعظم مهمات أهل العلم والإيمان وأشرفها، فإن لهم في ذلك القدح المعلى والحظ الأوفى، وفي هذا الدرس نبذة من سيرهم في مناظراتهم ومنافحاتهم عن دين الإسلام، وقد ذيلها الشيخ بذكر قواعد المناظرة وآدابها.(129/1)
العقيدة وأهمية الدفاع عنها
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فالحمد لله الذي جمعنا في هذا البيت من بيوته، ونسأله عز وجل أن يجمعنا في جنات النعيم، وأن نكون إخواناً على سرر متقابلين، وفي الغرفات من الآمنين.
حديثنا عن العقيدة؛ هذه العقيدة التي أنزل الله بها كتابه وعلمنا إياها نبيه صلى الله عليه وسلم، هذه العقيدة التي تصوغ شخصية المسلم لتجعله خلقاً آخر، فقد كان يرجو ويرهب الدنيا، وأهل الدنيا وأصبح لا يرجو إلا الله ولا يخاف إلا الله.
إنها عقيدةٌ أيها الإخوة تجعل الإنسان يستمد من أسماء ربه وصفاته ما يتعامل به مع سائر الناس من حوله، فهو يطلب المغفرة من الله إذا أذنب، لأنه يعلم أن ربه غفورٌ رحيم تواب، وهو يطلب العفو من الله، لأنه عفوٌ كريم يتجاوز، وهذا من شأن الكريم، والمؤمن كذلك بعقيدته يسأل الله الرزق ولا يسأله غير الله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17] فهو الذي يرزق، فلا يخشى هذا المسلم أن يقطع رزقه أحد، وهؤلاء الناس أسباب قد يأتي الرزق عن طريقهم، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فالذي ينفع هو الله، ولئن اجتمع الإنس والجن على أن يضروا إنساناً لم يكتب الله الضرر عليه ما استطاعوا.
فهذه العقيدة تصوغ شخصية المسلم، تجعله سلماً لأولياء الله، حرباً على أعداء الله، موالياً لأولياء الله، معادياً لأعداء الله، وهكذا تتميز فيه هذه العقيدة بمظهر الولاء والبراء من خلال هذا الكتاب العزيز وهذه السنة النبوية.
أيها الإخوة: هذه العقيدة التي تشتمل على العلاقة بالله والإيمان به: بربوبيته، بألوهيته، بأسمائه وصفاته، بقضائه وقدره، بأنبيائه وكتبه ورسله وباليوم الآخر الذي يحاسبنا فيه، هذه العقيدة المشتملة على أبواب الإيمان: قولٌ وعمل، وعلى الموقف من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى غير ذلك من أمور؛ تحتاج إلى صيانة، وتحتاج إلى حفاظ عليها.
فمن أنواع الجهاد المهم جهاد الحجة والبيان، نكافح فيه عن عقيدتنا التي تتعرض لأخطار من قبل المشركين ومن قبل المبتدعين ومن قبل الغلاة ومن قبل المرجئة.
واليوم هناك أعداء كثر ومنحرفون ومبتدعة يشنون الغارات على العقيدة، ويشككون الناس فيها، ويدعون الناس إلى عقيدة غير العقيدة الصحيحة، ويهاجمون العقيدة الصحيحة، ويهاجمون الناس حتى في مصادر التلقي، ويجعلون لهم مصادر تلقٍّ غير المصادر الشرعية، غير الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ويريدون أن ينسفوا ثوابت هذه العقيدة، وأن يجعلوا مكانها أسساً مبتدعة من عندهم.
العقيدة تتعرض لأخطار كثيرة، وواجبنا هو الدفاع والمنابذة والجهاد بالحجة والبيان، كما أن الجهاد يكون بالسيف والسنان أيضاً.(129/2)
العلماء هم حراس العقيدة
فحماية هذه العقيدة من العاديات؛ وكف العدوان والمعتدين من أعظم وأخطر مهمات أهل العلم والإيمان وأشرفها، ولهم في ذلك القدح المعلى والحظ الأوفى، وسيرهم مملوءة بالعبر التي كثرت فيها مصارع أهل البدعة والزندقة والكفر على أيديهم، أي: أيدي أهل العقيدة وعلمائها، حتى حصحص الحق وزهق الباطل، فلا أقوى من سلطان الحجة، ولا أسطع من نور الدليل والبرهان، وهذا من أعظم ما يمتاز به دين الله الحق، إذ هو حجة وبينة ودليل وآية وبرهان ونور وشفاء لما في الصدور، وقد تهزم العساكر الكبار، والحجة الصحيحة لا تغلب أبداً، فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمة، لأن السيف مرة لنا ومرة علينا، وليس كذلك البرهان، بل هو لنا أبداً ودامغٌ لقول مخالفينا ومزهقٌ لهم أبداً، وربَّ قوةٍ باليد قد دمغت بالباطل حقاً كثيراً فأزهقته، وقد قتل أنبياء كثر وما غلبت حجتهم قط.
قال أحد الخلفاء وعنده السيف والسلطان: غلبة الحجة أحب إلي من غلبة القدرة؛ لأن غلبة القدرة تزول بزوالها، وغلبة الحجة لا يزيلها شيء.
ولذلك لو قيل: المسلمون اليوم في هزائم، لقلنا: نعم، لكن أهل التوحيد منهم في علو شأن بالحجة، لا يمكن أن يهزم الموحد المسلم صاحب العقيدة الصحيحة أحد، بل إن العامي من الموحدين يمكن أن يهزم ألفاً من علماء المشركين.
قال لنا أحد الأفاضل: إن طفلاً سمع آية من كتاب الله تتلى عن اليهود: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] والطفل عمره خمس سنوات، فلما سمع الآية قال: فمن أغناهم؟! واليهود يقولون: (يد الله مغلولة) ويقول أحدهم وهو عوفادا يوسف الحاخام الأكبر لليهود الآن: إن الله ندم على خلق الفلسطينيين، يسبون الله والرب، يسبون الإله عز وجل.
لكن لا يمكن أن يأتي منهم أو من أهل العقائد الزائفة المنحرفة وأهل البدع ويغلب موحداً صاحب عقيدة صحيحة، فالغلبة دائماً لـ أهل السنة بالحجة والبيان، دائماً على مر العصور وتوالي الدهور الغلبة لـ أهل السنة.
لقد قام أهل السنة بالصدع بالحق والرد على أهل البدعة من قديم، وأهل الباطل من كفار قريش قالوا: لو شاء الله ما أشركنا، وجلسوا يجادلون في قضية المشيئة، فغلبتهم حجة أهل الإيمان، وعبد الله بن سبأ وأذنابه من اليهود الذين جاءوا بعقائد البداء والإمامة والرجعة وغير ذلك والقدرية والجبرية والمعطلة والمشبهة والجهمية أصولهم ترجع إلى اليهود فهم الذين أثاروا الفتن بين المسلمين، وهؤلاء النصارى يثيرون الشبه، وبعضهم وضع كتباً بعنوان: كيف تناقش مسلماً، والاختلاط بالأمم الأعجمية سبب إثارة شبهات، وشيوع العجمة كذلك سبب أشياء كثيرة، وكذلك ظهور علم الكلام والفلسفة من خزائن من الكتب التي كانت عند الكفار؛ فكتب المأمون إليهم لما وجد الترف، وقال: أرسلوا لنا ما عندكم من الخزائن، فامتنع ملك الكفار عن إرسالها في البداية حتى قال له واحد عنده: يا أيها الملك إن أجدادنا وقعت بينهم مقتلة عظيمة بسبب هذه الكتب ثم دفنوها وحفظوها في الخزائن، وأقفلوا عليها بالمفاتيح، فإذا أردت أن تثير على هؤلاء المسلمين شراً وتنتقم منهم فأرسل لهم خزائن كتب علم الكلام والفلسفة.
ثم قام المأمون بحركة ترجمة واسعة لهذه الكتب، وكان يعطي على الكتاب وزنه ذهباً، وانتشرت جدليات وبدع جديدة.
تصوروا أن نصير الشرك الطوسي الذي يسمى: بـ نصير الدين الطوسي -وهو بريء من اسمه واسمه منه بريء- بنى داراً تسمى دار الحكمة تدرس فيها الفلسفة وعلم الكلام؛ التي يجيد أهلها الشبهات والشكوك، وجعل للطالب في هذه المدرسة ثلاثة دراهم في اليوم، بينما صرف لأهل الحديث لكل محدث -لا كل طالب- نصف درهم.
عُربت الكتب اليونانية في حدود المائة الثانية كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، ودخل على المسلمين بسببها شرٌ كبير؛ ظهرت الفرق، وظهرت البدع في أوائل هذه الأمة، الشيطان يثير وساوس وشبهاً، كل ذلك كان مدعاةً لظهور مواجهات وفتح جبهات على المسلمين قاموا بالتصدي لها.(129/3)
عصر الشيخين وخلوه من البدع
في عهد الصديق والفاروق ما كان أحد يتجرأ أن يتلفظ ببدعة، لأن اليد الحديدية كانت تضربه وتقمعه، كذلك كان عمر رضي الله تعالى عنه لما بلغه أن صبيغ بن عسل يجلس في المجالس ويثير الشبهات ويسأل عن متشابه القرآن، والقرآن فيه آيات قد تخفى معانيها على العامة؛ فهناك آيات تتحدث أن الكفار يوم القيامة لا ينطقون، وهناك آيات تدل أنهم يتكلمون، فيأتي يقول: هذه تقول كذا وهذه تقول كذا فكيف؟! وما هي النازعات؟ وما هي العاديات؟ ويوم القيامة يوم طويل فهو خمسون ألف سنة، في وقت يتكلم فيه الكفار، ووقت يختم على أفواههم فلا يتكلمون، وهكذا تنزل مثل هذه الآيات على حالٍ دون حال.
أول ما سمع عمر رضي الله عنه بهذا الرجل، استدعاه وقد أعد له عمر عراجين النخل، قال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، قال: وأنا عبد الله عمر، ثم أخذ العراجين، وأخذ يضرب بها على رأس صبيغ ضرباً متوالياً شديداً مبرحاً حتى سال الدم على وجهه ورأسه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فوالله لقد ذهب الذي كنت أجد في رأسي؛ كل الشبهات تبخرت مع هذه العقوبة وهذا الضرب، ولم يكتف بذلك بل نفاه ومنع المسلمين أن يكلموه في المنفى حتى مرض الرجل نفسياً وتأزم، وكتب إلى عمر خطاب استرحام فأذن عمر للناس أن يكلموه ويكلمهم، من كان إذاً يتجرأ أن يرفع رأسه ببدعة في عهد عمر رضي الله تعالى عنه؟ ولما دخل الضعف على المسلمين بدأت بدع القدرية وبدع الخوارج، هذه العوامل أدت إلى ظهور مناقشات ومناظرات، وقام أهل الحق يردون على أهل الباطل، وألفت الكتب وعقدت المجالس، فنريد أن نعرف كيف ندافع عن عقيدتنا، خصوصاً الآن، إذ يوجد -كما قلت لكم- أناس يريدون اللعب بثوابت الأمة ومصادر تلقي الأمة، يريدوننا أن نتحاكم إلى العقل ونترك النص، والنص إذا لم يجئ على مزاجهم نسفوه، ولو كان في صحيح البخاري، ويقومون بليِّ أعناق النصوص لتوافق ما عند الغربيين، ويضعفون أشياء صحيحة، ويصححون أشياء ضعيفة، وربما لم يأخذوا بالحديث أصلاً، وهكذا قام من يشكك بأحكام ثابتة في الشرع كالربا والحجاب وتعدد الزوجات، ويثيرون الشبهات على المسلمين، نريد أن نعرف كيف ندافع، فما هو وضع المنهج؟ وما هي الأصول؟ ما هي الآداب في المناظرة؟ وما هي الأحوال التي يمكن أن تقع فيها؟ ما هي طرق المناظرة؟ فالجهاد بالحجة والبيان قضية في غاية الأهمية، خصوصاً في هذا العصر الذي كثر فيه الرماة على العقيدة والدين وعلى المسلمين، مقالات تكتب، وأشياء تقال في الهواء والفضائيات، وأمور تثير الشبهات، ونحن لا يصح أن نسكت إطلاقاً، بل يجب أن نقوم لله بالواجب، وأن نرد، وأن نعرف كيف نرد، وأن نكون أصحاب علم وحجة وبيان وبلاغة، ويتكلم منا القادر بعلمه وبيانه، فيسكت أهل الباطل ويقمعهم، وسنعرف أمثلة كثيرة لهذا إن شاء الله من خلال هذا الدرس.(129/4)
المجادلة وورودها في القرآن الكريم
ذكرت مسألة المجادلة والمناظرة في قول الله سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] يوجد جهاد لكن بالتي هي أحسن، قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] الرسل من وظيفتهم محاجة الكفار، قال تعالى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:32] قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258].
وهكذا قام الأنبياء بواجب المجادلة بالحسنى والدفاع عن العقيدة، هذا إبراهيم يدافع عن عقيدته في الله وأنه يحيي ويميت، ويرغم أنف النمرود ويسكته، وينتقل من موضوع إلى موضوع إفحاماً له.(129/5)
نقاش منكري البعث
الله عز وجل علمنا في القرآن كيف نناقش، وضرب لنا أمثلة في نقاش منكري البعث فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} [يس:77 - 78] أخذ عظمة ففتتها، وقال: أيستطيع ربك أن يحيي هذا؟ {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] لما خلقناه من العدم، ما هو الأصعب: الخلق من العدم أو الإحياء بعد الموت؟ الخلق من العدم هو الأصعب، ولكن الله عز وجل لا يصعب عليه هذا ولا هذا، وإذا كان قادراً على الإيجاد من العدم، فهو من باب أولى -عز وجل- يحيى العظام وهي رميم، قال تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79].
وضرب مثلاً آخر في نقاش منكري البعث فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:80 - 83].(129/6)
ادعاءات اليهود والنصارى حول ديانة إبراهيم والرد عليهم
وذكر لنا نقاشات لأهل الكتاب كان اليهود يقولون: إبراهيم يهودي، وكانت النصارى تقول: إبراهيم نصراني، فقال الله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:65] ولما كل فريق يدعيه لنفسه، انظر الحجة الدامغة: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:65] فما كان هناك يهودية ويهود وتوراة إلا بعد إبراهيم، والإنجيل كذلك بعد إبراهيم.
انظر الحجة بالتاريخ، جادلهم بالتاريخ {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} كيف تدَّعون أن إبراهيم لكم؟ كيف يصير إبراهيم يهودياً أو نصرانياً والتوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده؟ واليهودية والنصرانية ما ظهرت إلا من بعده؟!! {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:67 - 68].(129/7)
تقول المشركين حول مصدرية القرآن والرد عليهم
لما قال المشركون بـ مكة: لقد عرفنا من أين أتى محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن، إنما يعلمه بشر، رأيناه يذهب إلى نجار رومي بـ مكة، فهذا النصراني هو الذي يعلمه ويلقنه، فالله دمغهم بالحجة وقال في كتابه: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] النجار النصراني الرومي الذي لا يحسن العربية يعلم محمداً صلى الله عليه وسلم قرآناً عربياً فصيحاً بليغاً في منتهى البلاغة؟! كيف؟! فدمغهم بالحجة.(129/8)
الرد على الذين حرموا ما رزقهم الله من الأنعام
وكذلك فإنه سبحانه وتعالى أخبر مثلاً في مناقشة المشركين الذين ابتدعوا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، أول مولود للناقة لا نأكله ولا نذبحه ولا نشرب من لبنه ولا نركب ظهره ولا نستعمله، فهو محرم، قال وهو سبحانه وتعالى يدمغهم بالحجة: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الأنعام:143] نحن نعرف أن الضأن اثنان والماعز اثنان، والبقر اثنان والإبل اثنان، كل واحد من الأصناف الأربعة فيه ذكر وأنثى، فيكون المجموع من الأزواج ثمانية سبحان الله! انظروا إلى الحجة البالغة، فلله الحجة البالغة، وهذا ليس كلام بشر يناقش المشركين، هذا كلام الله، كيف يقيم ربنا سبحانه وتعالى الحجة على المشركين؟ لما حرموا هذه الأشياء على غير دليل ولا برهان، قال: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الْأِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ} [الأنعام:143 - 144] هذا الاحتمال الثالث: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:144].
هذه طريقة السبر والتقسيم كما يسميها العلماء، فالله عز وجل خلق من كل زوجٍ ذكراً وأنثى، فلم حرمتم يا أيها العرب ويا كفار الجاهلية هذا المولود المعين؟! لماذا حرمتوه؟! ألأنه ذكر أم لأنه أنثى أم لأنه ذكر وأنثى؟! أنت تقول يا أيها المشرك العربي: إن أول بطن للناقة لا نستعمله إطلاقا، ً فلماذا؟ ألأنه ذكر أم لأنه أنثى أم لأن في بطن الناقة ذكراً وأنثى أم أن لديك دليلاً من رب العالمين على التحريم؟! {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} [الأنعام:144] إذا كانت العلة في التحريم عندكم هي الذكورية، فحرموا كل الذكور، لماذا تحرمون أول نتاج فقط؟! وإذا كانت العلة هي الأنوثة، فحرموا كل الإناث، وإذا كانت العلة أنهما جميعاً، فحرموا الزوجين كليهما، وإذا كان عندكم من الله دليل على التحريم فهاتوه: ((أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} [الأنعام:144] فماذا يملكون إلا الاستسلام أمام الحجج الدامغة!(129/9)
الرد على اليهود في مسألة القربان
يبين لنا سبحانه وتعالى في كتابه العزيز تناقض هؤلاء، مثل نقاش اليهود الذي قالوا: {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} [آل عمران:83] لماذا يا يهود المدينة لا تؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: ما جاء بقربان تأكله النار، ونحن عندنا في كتابنا المقدس أن النبي يأتي بقربان فتنزل نار من السماء تأكله فنعرف أنه نبي، وهو لم يأت بذلك، فما هو الرد؟ قال الله عز وجل: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} [آل عمران:183] جاءت نار وأكلت القرابين {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:183] هناك أنبياء من قبلي جاءوا بالذي تقولون وتصفون وتشترطون، لكنكم قتلتموهم: {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:183] هذا يدل على أنكم لا تريدون الإيمان، وأن الحجة التي أتيتم بها حجة تافهة، فقد قتلتم من جاء بهذا الوصف الذي ذكرتموه.(129/10)
الرد على الدهرية الذين ينكرون الخالق
وانظر إلى نقاش القرآن للمنحرفين عن العقيدة، الزائغين الظالمين المشركين الذين ينكرون الخالق، وانظر كيف يحاصرهم بأسلوب عجيب: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور:35 - 43] أنت يا أيها المنكر لله كيف وجدت؟ خلقت نفسك؟! جئت من العدم هكذا من غير أي موجد؟! {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35] أم أنت الذي خلقت نفسك؟! فما بال السماوات والأرض أأنت خلقتها أيضاً؟! يحاصر الملحد فعلاً فلا يستطيع أن يجيب، إذ ليس عنده حجة، فيستسلم رغم أنفه.
وكان من حكمة النبي عليه الصلاة والسلام في الدعوة أنه حبس أسرى بدر بقرب المسجد يستمعون القرآن، فلما سمع جبير بن مطعم هذه الآيات: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور:35 - 37] فلما سمع سورة الطور بجمال صوت النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (كاد قلبي أن يطير) رواه البخاري.(129/11)
محاجة المشركين
قال تعالى محاجاً من يشركون به: {أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:21 - 23].
لو كان هناك أكثر من إله في العالم مثلما يقول الآن المجوس وغيرهم -عندهم عدة آلهة- فماذا كان سيحدث في السماوات والأرض؟ ستفسد وتضطرب، هذا يقول: أنا أحرك الساكن، وهذا يقول: أنا أسكن المتحرك، وهذا يقول: أنزلوا المطر هنا، وهذا يقول: لا بل أنزلوه هنا، وهكذا ستفسد السماوات والأرض.
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91] وصارت حروب بينهم ومنافسات عظيمة: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:91 - 92] فلو فرض وجود صانعين متكافئين لفسد العالم، ولو كان واحد أقوى من غيره، فهو الرب والبقية ليست آلهة: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء:42 - 43] فلو كان يوجد آلهة أخرى، لكانت لجأت إليهم {إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء:42] وهذا من طرق المناظرة، يقول: لنفرض أن كذا وكذا قد تحقق فماذا كان سيحدث؟ سيحدث كذا وكذا، فيظل الشرك ممتنعاً.
وكذلك فإنه سبحانه وتعالى قرر المشركين بتوحيد الألوهية عن طريق توحيد الربوبية: {قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:84 - 89].
تعبدون اللات والعزى وهبل ومناة، تعبدون الأصنام والأحجار والأشجار، وربكم خالق السماوات والأرض؟! بالربوبية يستدل على الألوهية ويفرضها عليهم ويلزمهم بها: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام:101 - 102] لماذا تشركون به؟(129/12)
الرد على اليهود في زعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه
هناك تحد عجيب في القرآن لليهود على قضية أفحموا منها إفحاماً عجيباً، ماذا قال اليهود؟ قالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ؛ وإذا متنا فسيدخلنا الله الجنة، هذا زعم اليهود، يقولون: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُه، والجنة لنا وأنتم في النار، والذين يدخلون الجنة هم اليهود فقط، فقال تعالى رداً عليهم: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:94] يا يهود تمنوا الموت إن كنتم صادقين.
ثم أخبر الله عنهم بقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:95] فهم ظلمة كفرة فجرة فسقة، كيف يتمنون الموت والحياة كل همهم وكل أملهم، وهم يعرفون أنهم بعد الموت سينتقلون إلى عذاب النار؟! وقال عنهم في سورة الجمعة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة:6] ثم قال الله: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة:7] ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: [لو تمنى يهود الموت لماتوا] كما جاء في الحديث الصحيح عنه رضي الله عنه، قال: لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، لكنهم لا يتمنونه أبداً، وإلى الآن يزعمون أنهم أحباب الله، ولا يمكن أن يتمنوا الموت إطلاقاً.
وقال الله عنهم: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة:111] أماني كاذبة {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].
وهكذا استمرت الآيات في جدال هؤلاء وإفحامهم ودمغهم بالحجج البينات والرد عليهم، وفي ادعائهم أن لله ولداً وأن له صاحبة، وقام أنبياء الله يجادلون الكفار.
فهذا موسى يجادل فرعون قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:104] فماذا كان رد فرعون؟ {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف:106 - 108].
وكان المفترض في فرعون أن يستسلم، ويقول: إني اقتنعت لأني رأيت أشياء ما يقدر عليها البشر، فهي آيات من رب العالمين، لكنه ظل يجادل في الله {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49] أعاده موسى إلى حلبة الصراع {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] لماذا لم يقل موسى: ربنا الله؟ بل قال: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى؛ أي: يا فرعون أنت لا تخلق ولا تهدي المخلوقات، والله يخلق وأنت لا تخلق فكيف تكون إلهاً؟ وفرعون مرة ثانية يحول الموجة ويريد أن يخرج من المأزق، يقول: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه:51] فما دخل القرون الأولى، نحن نناقشك حول ادعائك للألوهية أنت تقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] وتقول: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] وتقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] فنقاشنا معك في هذه القضية فلماذا تزوغ وتروغ، وتقول: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى؟! أعاده موسى إلى الحلبة مرة أخرى، انظر سبحان الله! كيف يكون استخدام الحجج؛ الأنبياء مؤيدون من الله، فلا تضييع وقت ولا لف ولا دوران، مرة ثانية بقوة يقول موسى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:52] يقول له: أنت يا فرعون لا تعرف لكن الرب الإله يعرف من خلق ويعرف الأول والآخر والمتقدم والمتأخر كما قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} [الحجر:24] كلهم علمهم في كتابٍ لا يضل ربي ولا ينسى.
هكذا أفحمه ودمغه، وجحد فرعون ولم يذعن وهو مستيقن بالحق، قال تعالى حاكياً لنا ذلك عن موسى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102] في البداية كان الكلام ليناً كما أمره الله هو وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] لكن بعد ذلك لما تولى فرعون قال له موسى: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102] أي: هالكاً، وهدده بعذاب الله عز وجل.
وحكى الله لنا كيف يحيد فرعون عن النقاش: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء:18] ما دخل هذا في النقاش؟ النقاش الآن في الربوبية، وفرعون يعدد صنائعه مع موسى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:18 - 19] وعملت لك جريمة وقتلت وهربت.
فرد موسى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20] قبل أن يهديني ربي فعلتها، تلومني على شيء قبل الهداية، ثم تقول: أعطيناك ملابس وتمراً وأعطيناك أكلاً وشرباً وأعطيناك: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:22] يعني: تمنُّ علي لأنك أطعمت واحداً وكسوته، وشربت واحداً، وأذللت أمةً بأسرها؛ تقتل أبناءهم وتستحيي نساءهم وتجعلهم عبيداً وتذلهم، وتمنُّ على واحد، فهل هذه نعمة تمنها علي أن عبدت قومي كلهم وأذللتهم، أهذه مِنَّة يا فرعون؟! وهكذا لم يجد عدو الله مهرباً، والمغلوب ماله إلا استعمال البطش، وتلك حيلة العاجز، فهزم فرعون هزيمة شنيعة في المناظرة.(129/13)
خيار الأمة يسيرون على منهج الأنبياء
سار أنبياء الله على هذا المنهج، قوة في الطرح والكلام والنقاش وردود وبراهين مفحمة، وهكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام مع الكفار، والصحابة واجهوا هكذا، واستمر مسلسل المواجهة مع الزائغين عن العقيدة.(129/14)
ابن عباس ومحاجته الشهيرة للخوارج
هذا ابن عباس يناقش الخوارج: لما خرجت الحرورية على علي، جعل يأتيه الرجل، فيقول: يا أمير المؤمنين! القوم خارجون عليك، قال: دعوهم حتى يخرجوا، لما يتبين ذنبهم للناس يكون هناك مبرر واضح للقتال وسفك الدماء، قال: دعوهم حتى يخرجوا.
يقول ابن عباس: قلت: يا أمير المؤمنين! أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم، ثم لبس أحسن ثيابه، ودخل على الخوارج وهم في القيلولة، فإذا هم مسهمة وجوههم من السهر، متغيرة من كثرة قيام الليل وصيام النهار، الرسول عليه الصلاة والسلام قال للصحابة: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم) والخوارج لهم عمل عظيم كثير، لكن على أساس باطل، ما فائدة العبادات إذا كانت العقيدة زائغة؟! وبعض الصوفية يمكن أن يعبد الله الساعات الطويلة جداً جداً، وهو على منهج شركي، ما هي الفائدة من قيامه بالليل وصيامه بالنهار وهو مشرك بربه؛ يصرف أنواع العبادة للولي المقبور؟! ما الفائدة؟ {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] هؤلاء الخوارج.
فرأى ابن عباس وجوههم مسهمة من السهر، قد أثَّر السجود في جباههم، كأن أيديهم ثفنات الإبل -خشنة من كثرة السجود- عليهم قمصٌ مرحضة مغسولة، قالوا: ما جاء بك يا بن عباس؟ وما هذه الحلة عليك؟ انظر إلى ابن عباس فقد تعمد لبس الحلة، وهو زاهد في الدنيا، لكن النقاش مع الخوارج له عدة، لبس أحسن الثياب وجاء، قال: ما تعيبون مني، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أحسن ما يكون من الثياب اليمانية؟! لماذا تحرمون الطيبات؟! هذه واحدة انبخعوا فيها، ثم قرأ هذه الآية: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32].
قالوا: ما جاء بك؟ فقال: جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أعلم بالقرآن وأبلغ.
فقال بعضهم: لا تخاصموا هذا فإنه من قريش والله قال فيهم: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58] وقال بعضهم: فلنكلمنه ونسمع ما عنده.
قال ابن عباس: فكلمني منهم رجلان أو ثلاثة، قلت: ماذا نقمتم عليه؟ -تريدون الخروج على علي، ماذا نقمتم عليه؟ - قالوا: ثلاثاً، قلت: وما هن؟ قالوا: حكم الرجال في أمر الله ورضي بكلامهم والله يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] قلت: هذه واحدة.
وهذه اسمها عملية استفراغ ما عند الخصم من الشبه، تسمع كل حجج الخصم، ثم ترد عليها واحدة واحدة، قالوا: فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم؛ قاتل وحضر موقعة الجمل، ومن قاتله من المسلمين ما سبى نساءهم ولا أخذ أموالهم غنائم، فلئن كانوا مؤمنين فلا يحل قتالهم، وإن كانوا كافرين فلقد حل قتالهم وسبيهم، قال: وماذا أيضاً؟ قالوا: ومحا عن نفسه صفة أمير المؤمنين في الكتاب الذي كتبه مع معاوية، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين، انظر منطق الخوارج الأعوج! فقال ابن عباس: أرأيتكم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما ينقض قولكم هذا أترجعون؟ قالوا: ومالنا لا نرجع؟! فقال: أما أنه حكم الرجال في أمر الله، فإن الله قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] وقال في المرأة وزوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] فقد رضي الله بالتحكيم في الخصومة الزوجية وفي جزاء الصيد، فصير الله ذلك إلى حكم الرجال، فنشدتكم الله أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وإصلاح ذات بينهم أفضل أو في حكم أرنب ثمنها ربع درهم صادها رجل محرم جاء يسأل ويقول: ما علي من الجزاء؟ قالوا: نعم.
قال: فأما قولكم قاتل فلم يسب ولم يغنم، أفتسبون أمكم عائشة؟! لأن عائشة كانت في الجيش المقابل فإن قلتم: نستبيح منها، فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمنا فقد كفرتم، فأنتم تتردون بين ضلالتين، أخرجتم من هذه؟ قالوا: بلى.
وأما قولكم: محا نفسه من إمرة المؤمنين، فإني آتيكم بمن ترضون، إن نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو، قال: اكتب يا علي هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، قال: اللهم إنك تعلم أني رسولك، امح يا علي، واكتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله.
ونتيجة للنقاش والرد المفحم من ابن عباس رجع منهم أكثر من النصف وبقي بقيتهم، فخرجوا على علي رضي الله عنه فقاتلهم فقتلهم، وهكذا كان ذلك النقاش العظيم.(129/15)
أبو حنيفة ومحاجته للدهرية المنكرين للخالق
وهكذا قام علماء الإسلام من بعد الصحابة يناظرون أيضاً الكفار والمرتدين وكذلك الزائغين والذين خرجوا عن هذه العقيدة، واتخذوا لهم مناهج ضالة حاربوا فيها هذا المعتقد الصحيح.
ووجد الدهرية الذين يقولون: ما يهلكنا إلا الدهر، وليس هناك بعث ولا خالق.
فقام أبو حنيفة رحمه الله يقول لبعضهم: أخبروني عن سفينةٍ في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها وتعود بنفسها فترسي بنفسها وتفرغ وترجع كل ذلك من غير أن يدبرها أحد، سفينة تحمل وتسير وتفرغ وترجع بدون ربان ولا قبطان ولا عمال.
فقالوا: هذا محال لا يمكن أبداً!! فقال أبو حنيفة: إذا كان هذا محالاً في سفينة، فكيف بهذا العالم كله علويه وسفليه؟ فبهتوا لما قال لهم: أنتم ما قبلتم هذا في سفينة كيف تقبلون العالم بغير مدبر؟!(129/16)
أبو العباس السفاح يجادل مجوسياً
من عجائب أبي العباس السفاح -مع أنه كان غير مشهور بالعلم- أنه دخل في مناظرة مرة مع مجوسي وأتى فيها بعجب، قال للمجوسي: ما تعبد؟ قال: إلهين، قال: ما هما؟ قال: إله الخير وإله الشر -والمجوس عندهم إلهان إله الخير وإله الشر- قال: فأخبرني هل يستطيع إله الخير أن يخلق شراً؟! قال: لا يستطيع، قال: هل يستطيع إله الشر أن يخلق خيراً؟! قال: لا يستطيع، قال: أتعبد إلهين عاجزين، فانبخع وسكت وعجز.(129/17)
مناظرة لأحد العلماء مع زعيم شيوعي
كذلك قريب من هذا مناظرة للشيوعيين في هذا العصر في عهد لينين نشرت في الجرائد: في طشقند سيعقد مجلس مناظرة في إثبات وجود الله، قام أبو عبد الكريم المعصومي رحمه الله ركب القطار واجتمع جمعٌ عظيم من المسلمين والنصارى والشيوعيين الدهريين وأكثر من عشرة آلاف نفس، وقام زعيم الشيوعين يتكلم وقال: إن الناس يقولون: إن الله موجود وهذا غير صحيح، فإن عندنا آلات رصد وعندنا ميكروسكوبات وعندنا تلسكوبات وآلات مقربة ومكبرة ودققنا ونظرنا وما وجدنا شيئاً.
فقام أبو عبد الكريم المعصومي بعدما انتهى ذاك، فحمد الله على المنبر وأثنى عليه، وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وذكر الأدلة على وجود الله من خلقه، ثم قال: أنا أسأل هذا الشيوعي المتكلم هل له روحٌ في جسده أو عقل في مخه أم لا؟ فإن قال: نعم، فنقول: روحك هل لمستها؟ هل رأيتها؟ هل شممتها؟ فهي غير موجودة على مذهبك يا جاهل، فانبخع وكبر المسلمون وسبحوا واستبشروا، وخجل الضالون الشيوعيون، وما كانت الحجة؟ قالوا: إن لنا أستاذاً بـ موسكو يستطيع أن يجيب عليك، وهذه دائماً حجتهم.(129/18)
حوار مع نصراني
تكلمت مع قبطي، وقلت له: أنتم تقولون إن عيسى جاء لكي يطهر البشرية من الآثام التي علقت بها من جراء خطيئة آدم، فصلب المسيح على كلامكم فداءً للبشرية، فمن آمن به تخلص من الإثم، فما حال من كانوا قبل عيسى وما سمعوا عن عيسى، وما آمنوا بعيسى تحديداً ولا بصلب عيسى، لأنهم لا يعرفون أنه سيوجد عيسى ويصلب على زعمكم، فما حكم هؤلاء الذين بين آدم وبين عيسى الذين ما عرفوا عن عيسى ولا سمعوا به، أليس فيهم مذنبون؟ ما موقفهم من الصلب؟ وقلت له: لا زلتم تعيرون أباكم آدم في قضية الخطيئة، وقد تاب الله عليه، وأنتم إلى الآن تقولون: إن عيسى صلب من أجل خطيئة آدم، والبشر أخذوا خطيئة آدم وصاروا ملوثين، ولا بد من الصلب.
وقلت له: ألا يمكن أن يغفر الله لعباده بطريقة أخرى غير هذه الطريقة، وكيف يرضى الله أن يكون ولده -حسب زعمكم- مغلوباً مصلوباً يبصق عليه اليهود ويجرونه على الشوك ويربطونه ويقتلونه والله ينظر إليه وما منعهم، ألا توجد طريقة ثانية أسهل عند الله لمغفرة الذنوب من هذه الطريقة الشنيعة في قتل ولده -حسب زعمكم- لكي يغفر ذنوب البشرية؟!(129/19)
موقف أهل السنة من فتنة القول بخلق القرآن
أيضاً من النقاشات العظيمة والجدالات ما وقع في قضية خلق القرآن: فقد خرج أحمد بن أبي دؤاد وتقرب إلى السلطان، والمبتدعة سلكوا مسلكاً خطيراً جداً لما رأوا أن بضاعتهم لا تروج، وأهل السنة يردون عليهم وعلماء المسلمين يردون عليهم، عرفوا أنه لا قيامة لهم، فقالوا: نتزلف للسلاطين ونقنع السلطان بالبدعة ونستخدم قوة السلطان في حمل الناس على البدع، فهكذا تسلل ابن أبي دؤاد إلى المأمون، وصار وزيراً عنده وأقنعه بالبدعة، واضطهد المأمون الناس على خلق القرآن، استمر مسلسل الاضطهاد في عهد المأمون ومن بعده ومن بعده، والإمام أحمد رحمه الله ثابت ثبات الجبال، والأمة تقتدي به وتعرف شيخها وإمامها وقدوتها، وتنتظر ماذا يقول أحمد ليكتب.
واستمر مسلسل المحنة، وكان الإمام أحمد رحمه الله معذباً مضيقاً عليه، لا يؤذن له بحضور صلاة الجمعة، حتى مات المأمون، وتولى بعده المعتصم ومات، وتولى بعده الواثق، وفي آخر أيام الواثق حدثت حادثة سببت تغيراً في منهج الواثق تجاه هذه البدعة؛ وذلك أن رجلاً قد أتي به مقيداً بالأصفاد يرفض القول بخلق القرآن، وهو شيخ جليل مهيب في القيود دخل فسلم فما رد عليه، قال: يا أمير المؤمنين! ما استعملت معي أدب الله عز وجل ولا أدب رسوله، قال الله عز وجل: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] فقال: وعليك السلام، مُر بقيودي تحل أنا محبوس مقيد، أصلي في الحبس بتيمم فقد منعت من الماء، فحلوا قيوده.
وبعد أن صلى أقبل على ابن أبي دؤاد يسأله، ويقول له: خبرني عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه، أشيءٌ دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة دعوا إلى القول بخلق القرآن؛ ابن أبي دؤاد لا يمكن أن يكذب فيها، لأنه لو قال: دعا، فسيقال له: هات الحديث الذي يدل على أنهم دعوا فيه إلى القول بخلق القرآن، قال: لا -اضطر أن يقول: لا- قال: أعلمه أم جهله؟ لو قال: علمه، لكانت مشكلة، ولو قال: جهله، فذاك أشد إشكالاً، فسكت.
فقال: شيء لم يدع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، وأنت تدعو الناس إليه وتحملهم عليه بالقوة؟ إذا لم يكن علمه رسول الله وعلمته أنت، فهذه مصيبة، فهل أنت أعلم بأمر الدين من النبي عليه الصلاة والسلام، لأنك تقول يا بن أبي دؤاد: إن خلق القرآن مسألة دينية، فمعناها أن هناك شيئاً من الدين ما علمه رسول الله، وإذا قلت لي: علمه فكيف علمه وسكت عن تبليغه، والله أخذ العهد على نبيه أن يبين للناس، فمعنى ذلك أنك تتهم نبيك أنه ما بلغ وكتم الوحي.
وبعد ذلك النقاش اهتزت ثقة الواثق بتلك العقيدة، وجعل يردد: لا خير في شيء ما دعا الناس إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وخفت المحنة في آخر زمن الواثق حتى جاء المتوكل وأزال هذه الفتنة.(129/20)
الرد على سفسطة فرقة الحسبانية بسلاحهم
هناك طائفة اسمها الحسبانية وهؤلاء فرقة صوفية يقولون: كل الذي في الدنيا أوهام، أنت متوهم أنك موجود،، وأنا متوهم أنني موجود، أنت متوهم أنه توجد طاولة هنا، أنت متوهم أن يوجد سقف وجدار، الصحيح أنه لا يوجد شيء أبداً، وكل الأشياء التي في هذه الدنيا وهم في وهم، وما لها حقيقة، يقولون: (ليس إلا الله والكثرة وهم) الرب واحد، والعبد واحد، والعبد رب، والرب عبد، فتقول لهم: وهذه الأشياء المتعددة؟ قالوا: هذه أوهام وليست حقائق، أنت تتوهم أنك موجود، والحقيقة أنك غير موجود وأنا غير موجود، والناس هؤلاء تتوهم أنه يوجد مئات هنا، لكن كل هؤلاء غير موجودين.
فكان أحد هؤلاء في مجلس أحد الخلفاء، فقام ثمامة بن أشرس رحمه الله إليه فلطمه لطمةً سودت وجهه، فقال هذا الرجل: يا أمير المؤمنين! يفعل بي هذا في مجلسك؟! فقال ثمامة: وما فعلت بك؟ قال: لطمتني، قال: لعلي إنما دهنتك البان! والبان شجر معروف شديد الخضرة يستخرج منه دهن البان، قال: أنت متوهم ما ضربتك، وأنما دهنتك بالبان، ثم جعل يقول:
ولعل آدم أمنا والأب حوا في الحساب
ولعل ما أبصرت من بيض الطيور هو الغراب
وعساك حين قعدت قمت وحين جئت هو الذهاب
وعسى البنفسج زنبقاً وعسى البهار هو الشذاب
وعساك تأكل من قفاك وأنت تحسبه الخضاب(129/21)
شبهة نصراني حول طبيعة المسيح والرد عليها
حضر نصراني في مجلس هارون الرشيد، قال له هارون: ما يمنعك من الإسلام؟ قال: آية في كتابكم، قال: ما هي؟ قال: إن الله قال عن عيسى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] وهذا يعني أنه جزء من الله، ونحن نقول: ابن الله، فلماذا أغير عقيدتي، وقرآنكم يقول هذا؟! فقال العلماء في مجلس هارون الرشيد: يا أمير المؤمنين إن الله يعلم أن هذا سيقول هذا الكلام ويحتج بهذه الآية، فأنزل في كتابه رداً عليه، قال: وما هو؟ قال: يقول الله عز وجل: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:13] الهاء تعود على الله عز وجل، فهل السماوات والأرض هذه جزء منه؟ هل (مِن) لا تفيد إلا التبعيض، أو لها وظائف أخرى في اللغة غير التبعيض؟ إذا قلت: جئت من المدرسة هل يعني ذلك أنني جزء من المدرسة وبعض من كل؟ لا، وهكذا، فقال: هذا عيسى من الله، أي: هو الذي خلقه، مصدر خلق عيسى من الله، فعيسى روحٌ منه وليس من العدم ولم يخلقه غير الله، إنه من الله عز وجل.(129/22)
الباقلاني يناظر النصارى في بساط ملك الروم
وكذلك من المناظرات الظريفة التي حصلت مع النصارى: أن الباقلاني -وهو من أذكياء المسلمين- أرسل إلى ملك الروم، فانتهز الفرصة يدعوه، فدخل على المجلس والمجلس فيه بطارقة الروم وفيه رهبانهم وكبراؤهم، فـ الباقلاني ذهب إلى أكبر راهب في المجلس -البابا- وقال له الباقلاني: كيف حالك؟ وكيف حال أولادك وزوجتك؟ وهذا جعل النصارى يثورون، وقالوا: وقر كبيرنا، كيف تقول له ذلك؟ وذلك لأن الرهبان لا يتزوجون ولا لهم أولاد، لأن الزواج عليهم حرام، ولا يتلاءم مع مكانتهم ولا يليق بهم، فقالوا: وقر كبيرنا، أما علمت أننا ننزه هذا عن الأهل والأولاد.
قال أبو بكر الباقلاني رحمه الله: فأنتم تنزهون هذا المخلوق عن الزوجة والولد وتعتبرون ذلك عيباً في حقه ولا تنزهون خالقكم وربكم عن الزوجة والولد فانبخعوا.(129/23)
مناظرات أهل السنة للمبتدعة في الأسماء والصفات(129/24)
ابن مهدي يرد على المشبهة
وهكذا في أبواب الأسماء والصفات قام أهل السنة يردون ويناقشون، أحد علماء المسلمين وهو محدث مشهور اسمه عبد الرحمن بن مهدي سمع أن ولداً لأحد الكبراء يقول بعقيدة التجسيم والتشبيه، وأن الله يشبه المخلوقات- تعالى الله عن قولهم- فذهب وصلى معه، ثم ناداه بعدما تفرق الناس وخلا به، قال: يا بني هذه البلدة فيها أهواء وفيها اختلافات، وقد بلغني عنك أمرٌ، والأمر لا يزال هيناً ما لم يصل إليكم، فإذا وصل إليكم -أنتم أهل السلطان- فسوف تحملون الناس عليه بالقوة.
قال: وما ذاك يا أبا سعيد؟ قال: بلغني أنك تتكلم في الرب عز وجل وتصفه وتشبهه؛ تقول: يد الله مثل يد المخلوقين، ووجه الله مثل وجه المخلوقين.
قال: نعم.
قال: ولم؟ قال: لأننا نظرنا في المخلوقين فما وجدنا مخلوقاً أجمل ولا أحسن ولا أزكى من الإنسان، فقلنا: هو يشبه الإنسان.
قال: رويدك يا بني حتى نتكلم في المخلوق قبل أن نتكلم في الخالق، اجعلنا نتكلم في المخلوق، أخبرني عن حديثٍ حدثنيه شعبة عن الشيباني، قال: سمعت زراً قال: قال عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18] قال: رأى جبريل له ستمائة جناح -والحديث في صحيح البخاري - قال عبد الرحمن بن مهدي: يا بني صف لي خلقاً له ستمائة جناح حتى نشبه جبريل عليه! فكر وفكر فما وجد مثله، فما تكلم.
قال: يا بني إني أهون عليك الأمر وأضع عنك خمسمائة وسبعة وتسعين جناح، فأخبرني عن مخلوق له ثلاثة أجنحة، وقل لي: أين يركب الجناح الثالث؟ فسكت وقال: يا أبا سعيد نحن قد عجزنا عن صفة المخلوق ونحن عن صفة الخالق أعجز وأعجز، أشهدك أني رجعت وأستغفر الله.
فانظر كيف تقام الحجة وكيف يكون البيان، وهكذا حصل النقاش بين أهل السنة والجهمية والأشاعرة الذين اقتبسوا من المعتزلة قضية نفي علو الله على خلقه.(129/25)
مناظرة الهمداني والجويني في قضية العلو
قام أبو المعالي يتبنى عقيدة نفي العلو وسئل عن: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وبدأ يتخبط في الكلام وينفي الاستواء وينفي علو الله على الخلق، ويقولون: الله في كل مكان مع أن الله في السماء في العلو، واستوى على العرش، والعرش فوق العالم وفوق السماوات، والله فوق العرش لحديث الجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء قال: إنها مؤمنة).
فهذا الرجل بدأ يتخبط في الكلام أمام الناس، فقام له رجل من أتباع عقيدة السلف يقال له: أبو جعفر بن أبي علي الهمداني، قال: يا إمام رويدك، الآن عندي شيء أريد أن تجيبني عنه: ما ضرورةٌ يجدها الواحد منا في نفسه إذا رفع يديه يقول: يا رب، أن يتجه بنفسه إلى العلو؟ لماذا الواحد لا يضع الكفينعلى اليمين، أو على اليسار ويقول: يا رب؟ لماذا الناس ترفع أكفها وتقول: يا رب، ونفس الداعي والمصلي والطفل والمرأة والكبير والصغير والعالم وغيره كلهم إذا دعوا الله بالاضطرار يرفعون إليه أيديهم، نبئنا نتخلص من الفوق والتحت.
فضرب الأستاذ بكمه على السرير وصاح: نجلس نجلس الكرسي، وقال: يا للحيرة، خرت الأوراق وقامت القيامة في المسجد ونزل ولم يجبني، وقال: الحيرة الحيرة الدهشة الدهشة.
بعد ذلك قال: حيرني الهمداني، لأن الاتجاه إلى الله من جهة العلو بالفطرة، ماذا نجيب عن هذا؟ شيء فطري في نفوس الناس حتى الكفار، وهذا فرعون لما جاء يزعم أنه إله، ما قال لهامان: احفر لي نفقاً، إنما قال: ابن لي سلماً {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر:36 - 37] حتى فرعون لما ذهب يبحث عن الله بزعمه اتجه إلى جهة العلو.(129/26)
مناظرة سحنون لأحد المعتزلة
وهكذا قام أئمة الإسلام ينافحون عن القرآن وأنه كلام الله، وقام واحد من المعتزلة الذين يقولون: القرآن مخلوق، فقام له سحنون المالكي رحمه الله، قال: ما تقول في القرآن؟ قال المعتزلي: مخلوق، قال: أليس كل مخلوق يذل لخالقه؟ فسكت وما استطاع أن يجيب وأطرق، قال: كم عمرك؟ قال: ثمانون سنة، فلما انتهى المجلس قالوا لـ سحنون: لماذا ما استطاع أن يجيب؟ قال: لأنه لو قال: إن القرآن ذليل، فقد كفر لأن الله قال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:41].(129/27)
الرد على المعتزلة في مسألة خلق القرآن وفي إثبات رؤية الله
وهناك مناقشة مشابهة جرت بين أبي الهذيل العلاف المعتزلي البصري الذي يقول بخلق القرآن، وقام له واحد من أهل السنة، قال له: ماذا تقول في القرآن؟ قال: مخلوق، قال: كل مخلوق فان، فهل يموت القرآن؟ قال: نعم، قال: ومتى يموت القرآن؟ قال: إذا مات من يتلوه، انظر اللف والدوران، قال: حسناً أخبرني إذا قبض الله الخلق وقامت الساعة وفني الخلائق كلهم، ونادى الله في السماوات مثلما جاء في الحديث الصحيح: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد فيجيب نفسه بنفسه قائلاً عز وجل: لله الواحد القهار؛ وهذا قرآن: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]؟ لماذا لم يمت هذا القرآن والخلائق كلهم ماتوا وفنوا؟ فانبخع وسكت وأفحم، وهكذا أيها الإخوة تتوالى ردود أهل السنة على هؤلاء المبتدعة.
وعن الذين ينكرون رؤية الله في الآخرة قال الشافعي: فلما أن حجب هؤلاء في السخط كان في ذلك دليلٌ على أنه يرى في الرضا، فإنه تعالى يقول: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ما هي ميزة المؤمنين إذاً إذا كانوا يحجبون أيضا؟! لا بد لهم من ميزة، ولما علمنا أن الكفار محجوبون عرفنا أن المؤمنين غير محجوبين، وأنهم ينظرون إلى الله عز وجل في الجنة، وهم على الأرائك وعلى السرر.(129/28)
مناظرات مع أهل الكتاب(129/29)
مناظرة مع يهودي
من المناظرات بين اليهود والمسلمين: جاء يهودي إلى أحد المسلمين وقال له: بما أننا نتفق على موسى لماذا لا تتبعه؟ فنحن نختلف في محمد صلى الله عليه وسلم، لكننا لا نختلف في موسى، فقال له: أي موسى تقصد؟ إذا كانت تقصد موسى الذي بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم فأنا معك نتبع موسى، وإذا كان موسى الذي لم يبشر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فليس موسى الذي نؤمن به هذا موسى آخر.
ولذلك قال نصراني لمسلم يسأله: ما تقول في عيسى؟ فالمسلم فطن قال: أتقصد عيسى الذي بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
قال: هو رسول الله نعرفه ونؤمن به، فسكت.(129/30)
شاعر يرد على النصارى
وحصل أيضاً في مناقشة النصارى أن بعض عقلاء الشعراء يقول في إفحام هؤلاء النصارى مناظراً لهم:
عجبي للمسيح بين النصارى وإلى أي والدٍ نسبوه
أسلموه إلى اليهود وقالوا إنهم بعد قتله صلبوه
النصارى تقول عن اليهود: إنهم قتلوا عيسى.
فإذا كان ما تقولون حقاً وصحيحاً فأين كان أبوه
ينظر إليهم وهم يذبحون ولده وما يفعل شيئاً، ما هذا الأب الذي ما فيه رحمة، قلبه قاسٍ، ولا يغير ساكناً ولا يمنعهم.
حين حل ابنه رهين الأعادي أتراهم أرضوه أم أغضبوه
يقول: هل اليهود لما صلبوا ولده أرضوه أم أغضبوه؟
فلئن كان راضياً بأذاهم فاحمدوهم لأنهم عذبوه
يا نصارى قوموا قبلوا رءوس اليهود، لأنهم فعلوا شيئاً يرضي إلهكم.
وإذا كان ساخطاً فاتركوه واعبدوهم لأنهم غلبوه
وإذا كان ساخطاً على قتل الولد، فاعبدوا اليهود لأنهم غلبوا الأب حسب زعمكم.(129/31)
المناظرات مع الملاحدة والعلمانيين
وهكذا أيها الإخوة يستمر هذا المسلسل من الحجج والبراهين في القديم والحديث.
قام أحد الدكاترة ممن تخرج من بلاد الغرب يتكلم أمام الطلاب المسلمين، وقال: إلى متى تبقى هذه الخيمة وهذا الحجاب وهذه التقاليد البالية، متى تخلع وترمى وتطلع المرأة للنوادي وتعمل ما تشاء أمام الناس كما تقتضي الحضارة؟ فوقف أحد الطلاب موقفاً عظيماً والله، وقال له: يا دكتور، قال: نعم، قال: أنا عندي سؤال، قال: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140]؟ وهذا السؤال جزء من آية، ما استطاع الدكتور أن يقول: أنا أعلم، لأنه لو قالها لضرب بالنعال، قال: الله أعلم مني، فقال له: لقد قال الله الأعلم: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] وقال الله عز وجل: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] وهو الأعلم نسمع كلامه أو نسمع كلامك؟! فبهت الذي كفر.
أقول: نحن في عصر كثر فيه العدوان على العقيدة والدين والأحكام الشرعية، وما أنزله الله، فوجب علينا أن نقوم ونرد ونحاج وندمغ الباطل بالحق، فإننا بالعلم الشرعي وبالحجة وبالقوة والجرأة نسكت هؤلاء الأعادي وهؤلاء المنافقين الذين يريدون أن يحرفوا الدين وأن يقصقصوه، وأن يجعلوه شيئاً مشوهاً لا علاقة له بالشريعة التي أنزلها رب العالمين، لا ينبغي لك أن تقرأ أو تسمع باطلاً وتسكت، وخصوصاً في المجالس، والعتب الشديد واللوم العميق على بعض الناس، ممن يكون في مجلس يهاجم فيه الدين ويهاجم حكم شرعي، وهو ساكت لا يرد شيئاً.
والقصد من هذا الموضوع إيقاظ الحمية للدفاع عن العقيدة والأحكام الشرعية في نفوس المسلمين، وأن يكون عندهم جرأة وقوة وعندهم علم وعندهم أسلوب.
جاءني واحد قال: أنا أشتغل في شركة مع النصارى، وهم يثيرون الشبهات، وأنا لغتي الإنجليزية ضعيفة، وهم يتكلمون ويتكلموا وأنا لا أعرف إلا كلمتين، فقلت: يا أخي لا يصلح أن تناقشهم إطلاقاً، إذا لم يكن عندك لغة فكيف تناقش؟ لو جئت تناقش فسيغلبونك بالصوت وباللغة، ولذلك امتنع عن النقاش وائت بغيرك ممن يعلم لسان القوم ليفحمهم، لا يصلح لواحد أن يدخل في معركة وليس معه سلاح يقاتل به.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا هداة مهتدين ومن الذين قضوا بالحق وبه يعدلون، وأن يرزقنا الحجة والغلبة على أعداء الدين.(129/32)
قواعد المناظرة
نشرع في ختام هذا الدرس بذكر قواعد المناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن وآداب ذلك.
وأما بالنسبة للقواعد فهي كثيرة فمنها: أولاً: إذا كنت مدعياً فهات الدليل لأن الله قال: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [النمل:64].
ثانياً: أثبت صحة ما تنقل: لأن بعض الناس قد يأتون بأدلة لكنها غير صحيحة.
ثالثاً: لا تبتر الدليل وائت به كاملاً: هذه قواعد يلتزم بها كل الأطراف في المناقشة والمناظرة؛ لا يجوز أن تقول: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] وتقف أو تقول: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء:43] وتقف، بل ائت بالدليل كاملاً، ولذلك غيلان الدمشقي الضال لما جاء عند عمر بن عبد العزيز يحتج عليه بآية: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] في قضية القدر، قال له عمر بن عبد العزيز: اقرأ آخر السورة ففيها إثبات المشيئة للعبد مع مشيئة الرب، قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] إذن للعبد مشيئة: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإنسان:30 - 31].
رابعاً: الحق لا يعرف بالرجال: اعرف الحق تعرف أهله، بعض الناس يقولون: هذا الكلام صحيح، لأن فلاناً قاله، ودليلهم أنه قال.
خامساً: الحق واحدٌ لا يختلف: من عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى الآن الحق في المسائل واحد لا يختلف إلى أن تقوم الساعة.
سادساً: وجوب عرض أقوال الناس على الشرع؛ هذا يقول وأنت تقول وأنا أقول، لكن في النهاية نعرف صحة الأقوال من عرضها على الشرع.
سابعاً: السكوت عما سكت الله عنه ورسوله؛ مثلما تقدم في قضية المحاجة في مسألة القرآن.
ثامناً: الباطل لا يرد بالباطل؛ القدرية قالوا: العبد يخلق فعل نفسه، فجاءت الجبرية وقالت لهم: العبد ليس له مشيئة أصلاً مجبور ضلال بضلال.
جاء أهل الرفض سبوا الصحابة وألهوا آل البيت، فجاء الناصبة وسبوا أهل البيت بالمقابل، فردوا بدعة ببدعة، كقول القائلين: سبوا أئمتهم كما سبوا أئمتكم، ويمكن أن تكون أئمتهم أئمة لنا أهل السنة، فلا يجوز رد البدعة بالبدعة ولا رد الباطل بالباطل.
تاسعاً: عدم العلم بالدليل لا يعني عدم وجود الدليل: فأثناء النقاش يأتي أحدهم ويقول: لا يوجد هذا الكلام، ولم أسمعه، فيقال له: لم تسمعه لكنه موجود فكونك لم تعرفه لا يعني أنه غير موجود.
عاشراً: الاستدلال على المسألة المختلف فيها إنما يكون بالدليل المتفق عليه: ولذلك لو بدأت مع يهودي أو مع نصراني أو مع ملحد أو مع مبتدع في نقاش فلابد أن تأتي بدليل متفق عليه أولاً، قل: أليس أنا وأنت نتفق على هذا الشيء، ثم تتوصل من هذا الاتفاق إلى إثبات الأشياء التي يختلف معك فيها.
الحادي عشر: الحجة الصحيحة لا يقدح فيها عجز صاحبها عن تقريرها: الحجة الصحيحة لا يقدح في صحتها أن صحابها عاجز عن التعبير، ولذلك بعض الناس يستغل أن صاحب الحق ما عنده لسان مضبوط، ويقول: أنت مهزوم وأنت ضعيف، مع أن هذا فقط عسرٌ في اللسان، وإلا فحجته صحيحة، فيجب أن يكون عند الإنسان تجرد وعدم اتباع للهوى.(129/33)
آداب المناظرة
أما بالنسبة لآداب المناظرة والمناقشة، ونحن -كما قلنا يا إخوان- نتعرض لهذا في المجالس وفي الفصول الدراسية ويمكن أن يسافر بعضنا إلى الخارج ويلتقي بمن يثيرون الشبهات، وقد يفتح أحدنا موقع إنترنت فيجد فيها شبهات وهجوماً على الإسلام وأهل الإسلام، وتريد أن ترد، فيجب أن نعرف آداب المناظرة، فمن آدابها ما يلي: أولاً: الإخلاص لله تعالى: وهذا أصل الأصول؛ وعند الله لا يبقى إلا ما أريد به وجهه.
ثانياً: البدء بذكر الله والثناء عليه.
ثالثاً: التأدب في الجلوس.
رابعاً: اجتناب الهوى: قال الشافعي: ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ؛ سبحان الله! تجرد عن الهوى.
خامساً: الرجوع إلى الحق إذا تبين: ذكر علي رضي الله عنه في مسألة من المسائل جواباً، فقام رجلٌ ورد عليه بالدليل، فقال علي: [أصبتَ وأخطأتُ وفوق كل ذي علم عليم، أرجع إلى الحق صاغراً] اعتراف كامل وصريح وواضح، وما وجد أن الاعتراف سينقص من قدره، بالعكس كبر علي رضي الله عنه في أعيننا لما نقلت القصة أكثر وارتفع شأنه أكثر بهذا.
سادساً: التحلي بالحلم والصبر.
سابعاً: التريث: فقد يتراجع المجادل أو ينتقل إلى دليل آخر ويترك هذا، لأنه تبين له فساد الاستدلال به، أو يخطر أنت ببالك دليل آخر أو تكتشف خللاً فيما كنت تريد أن تقوله.
ثامناً: التزام الصدق: فلا نكذب، وهناك من يقول: في الكتاب الفلاني، وهو ليس موجوداً في الكتاب الفلاني، لماذا الكذب؟ تاسعاً: الترفق بالخصم: لأن المقصود إقناعه وهدايته، وليس فقط تحطيمه، فبعض الناس يحرص على كسب الموقف، والأهم من هذا كسب الرجل نفسه، كسب الرجل الآخر أهم من أنك تكسب الموقف وتظهره في مظهر العاجز، هذا يكون مع المعاندين الرافضين للحق تماماً فهذا يفحم أمام الناس حتى لا يغتروا به، لكن ابتداءً عندما نناقش من يخالفنا في شيء فينبغي أن نكسبه إلينا ولا نحطم رأسه أو نذله.
وعاشراً: حسن الاستماع لكلام الخصم، وأن تمهله حتى يفضي إليك بحديثه.
الحادي عشر: الإنصاف: شيخ الإسلام ابن تيمية عندما تكلم في بعض الأشخاص مثل: الجويني والباقلاني والمتكلمين قال: ثم ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعٍ مشكورة وحسنات مبرورة، ولهم في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم وتكلم فيهم بعلمٍ وصدقٍ وعدلٍ وإنصاف، فهو رحمه الله ينصف المخالفين.
فإذا كان عند المخالفين مواقف مشكورة، نقول: عندهم أعمال مشكورة، أو كان لهم مواقف مبرورة، نقول: عندهم مواقف مبرورة، نقول عن أحدهم مثلاً: عنده أخطاء مثلاً في الصفات فهو مؤول، لكن عنده ردود جيدة على النصارى والملاحدة مثلاً، الإنصاف مهم، الإنصاف هو الذي يجعل الخصم يتبعك، وأتباع الخصم يسلمون لك، لكن عندما يرونك تتهجم على شيخهم بدون أدب، وتخطئه في كل ما يقول، لا يقبلون قولك.
الثاني عشر: إصلاح المنطق: أقصد بالمنطق الألفاظ والكلام والأسلوب والبيان والبلاغة، وهناك علم مهم جداً اسمه علم البيان، يعلمك كيف تعبر عن المعنى التي في نفسك بعبارة صحيحة، وهناك كتب له، وهو من علوم الآلة المهمة وبه ترى أشياء كثيرة من عظمة كتاب الله تعالى وإعجاز هذا الكلام الذي تكلم به سبحانه وتعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} [القصص:34].
والجواب في الأسد لا في الأشد، بعض الناس يظنون أن رفع الصوت هو الذي يفحم، والذي يفحم هو العبارة القوية الصحيحة المتينة في مكانها المناسب، الجواب في الأسد لا في الأشد.
الثالث عشر: تجنب المماراة وهذه لها منزلة في الجنة.
الرابع عشر: أن اختلاف الرأي لا يوجب فساد الود بين الإخوان، نحن الآن نتناقش في مسألة فقهية ليس فقط في مسائل عقيدة مع الضالين، حتى مع إخواننا في الله نتناقش في مسائل فقهية؛ قراءة الفاتحة للمأموم خلف الإمام في الصلاة الجهرية هل تشرع أو لا تشرع، الزكاة في ذهب الحلي هل هي واجبة أو غير واجبة، مسائل خلافية كثيرة ومناقشات، ينبغي أن تكون مناقشتنا العلمية بأسلوب مؤدب ولا تفسد ما بيننا من العلاقات، ولذلك يقول يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في المسألة؟! وكذلك يقول العباس العنبري: كنت عند أحمد بن حنبل وجاء علي بن المديني وهو على دابة، فتناظرا في مسألة وارتفعت الأصوات حتى خفت أن يقع بينها جفاء، فلما أراد علي الانصراف قام أحمد فأخذ بركابه؛ أخذ بركاب الدابة وكرمه وعززه وهو ينصرف، الاختلاف الفقهي ليس معناه فساد العلاقة الأخوية، يبقى الأدب والاحترام والحشمة للأخ المسلم وإن اختلفنا معه في مسائل فقهية علمية.
وهذا من أدب السلف المفقود بين كثيرٍ من الذين يعيشون من الخلف.
السادس عشر: تجنب ما يشوش الفكر أثناء النقاش: ألا يكون مثلاً محصوراً، أو فيه جوع، أو فيه تخمة.
السابع عشر: نصب حكم يحكم بينكما: لأن بعض الأطراف قد تنكر ما تقول، يقول أحدهم: ما قلت هذا القول وأنت تقولت علي، تقول له: قبل قليل قلت، والآن تراجعت، يقول: أنا ما قلت أصلاً، إذاً ضع مسجلة، أو من يكتب.
الثامن عشر: لا بأس باستعمال الأمثال: خصوصاً عندما تناقش بعض المبتدعة تقول في النهاية إذا انقطع: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81] {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء:18] يأتي لك بحجة ضعيفة متهافتة تقول له: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:41] وحجتك مثل بيت العنكبوت وكسراب بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً، فلا بأس باستعمال الأمثال من القرآن والسنة وكلام العرب.
والتاسع عشر: تجنب مناظرة السفيه والجاهل، لأنه لا توجد فائدة من مناظرة السفهاء.
العشرون: ملخص لهذه الآداب أسوقها إليكم من نونية الشيخ/ أبي محمد عبد الله بن محمد الأندلسي القحطاني، النونية معروفة بـ نونية القحطاني من أحلى وأعذب ما قيل:
لا تفن عمرك في الجدال مخاصماً إن الجدال يخل بالأديان
واحذر مجادلة الرجال فإنها تدعو إلى الشحناء والشنآن
وإذا اضطررت إلى الجدال ولم تجد لك مهرباً وتلاقت الصفان
فاجعل كتاب الله درعاً سابغاً والشرع سيفك وابد في الميدان
والسنة البيضاء دونك جنةً واركب جواد العزم في الجولان
واثبت بصبرك تحت ألوية الهدى فالصبر أوثق عدة الإنسان
واطعن برمح الحق كل معاندٍ لله در الفارس الطعان
واحمل بسيف الصدق حملة مخلصٍ متجردٍ لله غير جبان
واحذر بجهدك مكر خصمك إنه كالثعلب البري في الروغان
أصل الجدال من السؤال وفرعه حسن الجواب بأحسن التبيان
أحياناً تبدأ النقاش فتوجه إلى الخصم سؤالاً.
لا تلتفت عند السؤال ولا تعد لفظ السؤال كلاهما عيبان
وإذا غلبت الخصم لا تهزأ به فالعجب يخمد جمرة الإحسان
فلربما انهزم المحارب عامداً ثم انثنى قصداً على الفرسان
واسكت إذا وقع الخصوم وقعقعوا فلربما ألقوك في بحران
ولربما ضحك الخصوم لدهشة فاثبت ولا تنكل عن البرهان
فإذا أطالوا في الكلام فقل لهم إن البلاغة لجمت ببيان
لا تغضبن إذا سئلت ولا تصح فكلاهما خلقان مذمومان
واحذر مناظرة بمجلس خيفةٍ حتى تبدل خيفةً بأمان
ناظر أديباً منصفاً لك عاقلاً وانصفه أنت بحسب ما تريان
ويكون بينكما حكيمٌ حاكماً عدلاً إذا جئتاه تحتكمان(129/34)
المباهلة
أحياناً يا إخوان في المناظرة والمجادلة قد تصل القضية إلى المباهلة، والمباهلة أن يدعو الخصمان كل واحدٍ منهما على نفسه باللعنة إن كان على الباطل وكان خصمه على الحق، مثلما قال الله عز وجل في كتابه العزيز عن مباهلة النصارى في سورة آل عمران؛ إذ أنه لما جاء وفد نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم ناظرهم النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليهم، ثم هددهم بالمباهلة كما أمره ربه: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] فأبى النصارى المباهلة وخافوا.
في صحيح البخاري عن حذيفة قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، فقال أحدهما لصحابه: لا تفعل فوالله لئن كان نبياً فلاعناه، فلن نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، والنبي عليه الصلاة والسلام خرج مع الحسن والحسين وفاطمة كما أمر الله: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران:61] فما استطاعوا أن يباهلوه.(129/35)
حديث الشفاعة المقام المحمود
لقد قص الله علينا في كتابه وعلى لسان أنبيائه ما يكون في اليوم الآخر؛ ليعتبر ويتعظ من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وفي هذا الدرس وقفات مع حديث الشفاعة، وكيف يشفع النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، مع ذكر أنواع الشفاعة، وعرض صور من يوم المحشر، وقد تعرض الشيخ لبعض صفات الصراط، وحال الناس عند عبور الصراط، وكذلك ما يحدث بعد عبور الصراط من المقاصة بين الناس، ودخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار(130/1)
نص حديث الشفاعة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد قص علينا في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما يكون في اليوم الآخر من التفاصيل الكثيرة التي تكون للمؤمنين واعظاً، فيعلمون منها ما أعد الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم من الأهوال، وإذا كان الواحد يعيش في الدنيا سبعين سنة، فإن يوم القيامة طوله خمسون ألف سنة، أي: أن طول يوم القيامة أضعاف أضعاف ما يكون من عمر الإنسان في الدنيا، ويوم القيامة يبدأ من النفخ في الصور وينتهي بدخول أهل الجنة الجنة ودخول أهل النار النار.
فهذه الخمسون ألف سنة يكون الناس واقفين فيها قياماً على أرجلهم كما قال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، فليس فيها متكأ ولا مكان للراحة، ولكنه يمر على المؤمنين مروراً طيباً سهلا، ً يسهله الله عليهم بأعمالهم، وقد روى أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم حدثاً من أحداث ذلك اليوم فقال: (يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا، فيأتون آدم فيقولون: أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا عند ربنا، فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته ويقول: ائتوا نوحاً أول رسول بعثه الله، فيأتونه فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته، ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلاً، فيأتونه فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته، ائتوا موسى الذي كلمه الله، فيأتونه فيقول: لست هناكم فيذكر خطيئته، ائتوا عيسى، فيأتونه فيقول: لست هناكم ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني فأستأذن على ربي فإذا رأيته وقعت له ساجداً فيدعني ما شاء الله ثم يقال لي: ارفع رأسك، وسل تعطَ، وقل يسمع، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمني، ثم أشفع فيحد لي حداً، ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود فأقع ساجداً مثله في الثالثة أو الرابعة حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن، وكان قتادة يقول عند هذا أي: وجب عليه الخلود).(130/2)
صور من الحشر
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:) يجمع الله الناس يوم القيامة) وفي رواية: (إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض) وقضية الاختلاط والتداخل بعضهم في بعض، أو أن يموجوا فيدخل بعضهم في بعض هو من الأهوال التي تكون في ذلك الموقف.
يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد من آدم إلى راعٍ من مزينة وهو آخر واحد يموت ويحشر، من آدم إلى رجل من مزينة، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر.(130/3)
مصادر الحَرَّ يوم القيامة
وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب مالا يطيقون ولا يحتملون، وفي رواية: (وتدنو الشمس من رءوسهم فيشتد عليهم حرها ويشق عليهم دنوها، فينطلقون -من الضجر والجزع مما هم فيه- يبحثون عن مخرج الناس يوم القيامة) يبحثون عن حل لهذا الكرب العظيم الذي أصابهم؛ لأن الحر يوم القيامة له ثلاثة مصادر: أولاً: الشمس التي تدنو من رءوس الخلائق.
ثانياً: التزاحم والتلاصق بالأجساد وحرارة الأنفاس.
ثالثاً: جهنم؛ لأنه يؤتى بها إلى أرض المحشر تجر لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، ولها زفير وشهيق يرى من بعيد، فيجتمع على الناس الحر من ثلاث جهات: دنو الشمس من فوق الرءوس، وتقريب جهنم، وتلاصق الأجساد وطلاقة الأنفاس، وهذه مسألة الأنفاس معروفة، لو أننا وضعنا أشخاصاً وملأنا غرفة بهم سيصابون بحر نتيجة الاختناق من الأنفاس وحرارة الأجساد، كل واحد من هذه الأسباب كافٍ بأن الناس يصابون بكرب عظيم، فكيف إذا اجتمعت كل الثلاثة مع بعض؟ ولذلك قال: (فيبلغ الناس من الغم والكرب مالا يطيقون ولا يحتملون -فليس الحر هنا يطاق ويحتمل بل فوق التحمل، ولذلك يموج بعضهم في بعض ويدخل بعضهم في بعض- ويبحثون عن مخرج ويشق عليهم دنوها فينطلقون من الضجر والجزع مما هم فيها) فإذاً حر وضجر وجزع وفي رواية: (فيفظع الناس لذلك والعرق كاد يلجمهم) العرق يرتفع مستواه عند بعضهم حتى يلجمهم كاللجام على الفرس فيغطي الفم.(130/4)
الحبس يوم القيامة
في رواية: (يلبثون ما شاء الله من الحبس) إذاً الناس في هذا الصعيد محبوسون، كأنهم في سجن؛ لأن الملائكة تنزل صفوفاً من كل سماء وتحيط بالناس في أرض المحشر، وهكذا السماء الثانية طوق والثالثة والرابعة وهذا معنى قول الله عز وجل: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا} [الرحمن:33] لأن الملائكة محيطة بهم من جميع الجهات سبعة أطواق من الملائكة فهذا حبس، ولذلك قال هنا في هذه الرواية: (يلبثون ما شاء الله من الحبس) وفي سورة الرحمن: {إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا} [الرحمن:33] وكيف ينفذون وهم في حبس والملائكة محيطة بهم لا مخرج، مالنا من محيص.
قال في الحديث: (تدنو الشمس حتى تصير من الناس على قدر ميل، ويتفاوت الناس في العرق على قدر أعمالهم) وفي رواية سلمان: (تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين) فليست شمساً عادية وإنما تعطى حر عشر سنين، يعني: الشمس الموجودة الآن إذا اصطلينا بحرها في الصيف، بحر هذا اليوم الذي طلعت فيه الشمس نقول: هذا اليوم حر شديد! يوم القيامة تعطى الشمس حر عشر سنين، ثم تدنو من جماجم الناس فهي قريبة من الرءوس، فيعرقون حتى يرشح العرق في الأرض قامة، فالآن العرق ليس على سطح الأرض فقط وإنما داخل الأرض، ينزل العرق فيدخل في الأرض فتتشربه ثم يطفح؛ لأن التشرب قد انتهى حده، فيطفح إلى أعلى الأرض قامة -يعني: على قامة الرجل- ثم يرتفع حتى يقول الرجل: عق عق، يعني: من العرق، الإنسان إذا صار في الماء وألجمه الماء ليس هناك متنفس فقال: عق عق وهو صوت الغرق.
قال في رواية: (لغم ما هم فيه والخلق ملجمون بالعرق -فالعرق يكون مثل اللجام- قال: وإن معي لواء الحمد) وهذا لواء حقيقي مع النبي عليه الصلاة والسلام يرفعه بيده وهو لواء الحمد، ومكانه معروف واضح.(130/5)
محاولة استشفاع الناس بالأنبياء
الناس في هذا الغم والكرب يوم القيامة يريدون حلاً، ويتمنى الكافر الفرج ولو إلى النار، فيتكلم الناس ويتبادلون الآراء في أرض المحشر، يتكلمون مع بعض يريدون رأياً، مثل الناس لو وضعوا في أزمة يبدءون يتحدثون في نقاش، ما هو السبيل إلى الخروج؟ {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11].
في يوم المحشر يصدر عن بعض الناس رأياً يقولون: لو استشفعنا، يلهمون ذلك من الله كما جاء في رواية مسلم: (فيلهمون الذهاب إلى الأنبياء) يريدون مخرجاً، فيقولون: لو نذهب إلى الأنبياء (فيهتمون بذلك -يصيبهم الهم- لو استشفعنا على ربنا) يعني: نطلب شفاعة أحد عند الله نستعين به على الكرب.(130/6)
الاستشفاع بآدم عليه السلام
يأتي الناس آدم -الآن المؤمنون يريدون الذهاب منه إلى الجنة والكفار يريدون الفكاك ولو إلى النار من الكرب- فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم، فيقولون: ألا تشفع لنا عند ربك حتى يريحنا؟ يقول بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر فليشفع لنا إلى ربنا فليقض بيننا -أول ما ينصرفون إلى آدم يقولون: هذا آدم أبو البشر أبونا لعله يرحم حالنا ويشفع لنا عند الله- فيقولون: يا أبانا! استفتح لنا الجنة -هؤلاء المؤمنون- والناس يقولون: استشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا فليقض بيننا، فنريد الفكاك ونريد القضاء، الآن يطالبون بأن يبدأ الحساب، فالآن كل الطلب الذي يطلبونه أن يبدأ الحساب حتى ينتهي وتنفك الأزمة، يا آدم أنت أبو البشر أنت أبونا، يا أبانا، ويذكرون مناقبه لأنهم يطلبون منه طلباً يقولون: لك مكانة عند الله، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه وفي رواية: وأسكنك جنته، وعلمك أسماء كل شيء، أنت أبو البشر، وأنت اصطفاك الله، فاشفع لنا عند ربك، قال آدم: لست هناكم يقول: منزلتي دون المستوى المطلوب، أنا لا أستطيع أشفع، منزلتي دون مستوى الشفاعة، لست هناكم.
فيريد أن يحولهم على غيره، لماذا لست هناكم؟ من باب التواضع يذكر خطيئته، مع أن الله غفر له لكن يذكر خطيئته التي أصاب وأنه أكل من الشجرة، ويذكر ذنبه فيستحيي ويقول: (إني أذنبت ذنباً فأهبطت به إلى الأرض، ويقول: هل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم؟ ويقول: إني أخطأت وأنا في الفردوس فإن يغفر لي اليوم حسبي) ويقول: (إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، ائتوا نوحاً).(130/7)
طلب الناس من نوح أن يشفع لهم
الناس يأتون نوحاً بعد آدم، فما هي مواصفات نوح؟ أول رسول بعثه الله إلى هذه الأرض، فيأتون نوحاً أبو البشرية الثاني فلا يوجد واحد بعد نوح إلا ونسبه ينتهي إلى نوح لماذا؟ لأن الله لما أهلك قوم نوح وهم البشرية في ذلك الوقت، هلكوا كلهم والطوفان عم الأرض كلها، نوح والذين آمنوا معه أنجاهم الله من الطوفان، الذين آمنوا معه ما كان لهم ذرية؛ لأن الله قال عن نوح: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ} [الصافات:77]، فإذاً نوح أبونا بعد أبينا الأول آدم، يعني: كل واحد من البشرية الذين جاءوا بعد نوح لابد أن يكون نسبه يرجع إلى نوح، ولذلك إذا نسبنا إبراهيم عليه السلام أو محمد عليه السلام فلابد أن نمر بنوح إلى آدم، أول رسول بعثه الله إلى هذه الأرض.
(ائتوا عبداً شاكراً) الله سماه شاكراً فيأتون نوحاً، فيقولون: يا نوح! أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك الله عبداً شكوراً، يا نوح! اشفع لنا عند ربك، فإن الله اصطفاك واستجاب لك في دعائك، ولم يدع على الأرض من الكافرين دياراً، فهذا الذي يقوله أهل الموقف لنوح.
الآن نوح هل هو رسول أم نبي؟ الجواب أنه رسول، بعثه إلى أهل الأرض بعدما وقع فيهم الشرك، آدم كان نبياً، ونوح كان رسولاً إلى قوم وقع فيهم الشرك، لما يذهبوا إلى نوح يقولون هذا الكلام فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، فيستحيي من ربه منها، ماذا يذكر نوح؟! يذكر سؤال ربه ما ليس له به علم لما قال بعدما غرق ولده، قال: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45]، كأنه يقول: أنت وعدتني أن تنجي أهلي وابني من أهلي فلماذا لم ينجُ؟ وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين، قال: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود:46]، فيذكر هذا الموقف يقول: هذا أنا سألت الله ما ليس لي به علم وفي رواية: (إني دعوت بدعوة أغرقت أهل الأرض) فكأنه يقول: أنا أخطأت بسؤال الله ما ليس لي به علم، وثانياً: الدعوة الآن التي دعوت بها واستجيبت أخشى الآن أن ليس لي دعوة تستجاب لأن الدعوة التي تستجاب استنفذت لما دعوت على أهل الأرض أن يغرقهم الله وأغرقهم، فأخشى الآن أن أدعو فلا أجاب، ما هي الخطوة التي تليها؟(130/8)
طلب الناس من إبراهيم الشفاعة لهم
يقول موسى عليه السلام: (ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا -خليل الله- فيأتون إبراهيم ويقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله، وخليله من أهل الأرض، قم اشفع لنا إلى ربك، فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي من ربه منها، ليس ذاكم عندي، إني كنت قد كذبت ثلاث كذبات - قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله لامرأته: أخبريهم أني أخوك، ما منها كذبة إلا أنه يجادل عن دين الله وما قصد الكذب لأجل الكذب، وإنما أشياء قالها لينافح بها عن دين الله، يعني: كذب في سبيل الله وفي ذات الله، فيتواضع إبراهيم عليه السلام ويقول:- إنما كنت خليلاً من وراء وراء).
فكأنه يقول: لست على منزلة الخليل الذي هو النبي صلى الله عليه وسلم، تواضع وقال: كنت خليلاً من وراء وراء وكأنه يقول: أنا أعطيت الوحي بواسطة جبريل، يحولهم على واحد آخر موسى، لماذا؟ يقول: كلمه الله بلا واسطة، أنا خليل من وراء وراء، أنا مكلم من وراء جبريل بواسطة موسى بدون واسطة اذهبوا إلى موسى.
طبعاً الكلمات التي كذب بها إبراهيم عليه السلام كانت من المعاريض، لأنه لما قال: إني سقيم، يحتمل السقم الذي هو مرض، ويحتمل مرض البدن ويحتمل مرض النفس، مريض من كفركم وشرككم، شرككم سبب لي مرض النفس.
ولما قال: بل فعله كبيرهم هذا هل هو أشار إلى إصبعه تورية، أو أنه أراد أن يسألوا هذا الصنم ويكون ذلك توبيخاً لهم عندما يرجعون إلى أنفسهم ويعلمون أن هذا الصنم لا يتكلم، كيف يسألونه؟ والملك الكافر لما أراد أن يأخذ زوجة إبراهيم، ولو أخبرتهم أنها زوجة إبراهيم يعلم أنه لا سبيل لأخذها إلا بقتل إبراهيم فيقتل إبراهيم، لكن إذا قالت: أخته قد يبقي على إبراهيم حياً ويخطبها منه، ولذلك قال: إذا سألك فقولي له إنك أختي، وهذه لها تأويل أنها أخته في الإسلام.
فالثلاثة هذه من معاريض الكلام، لكن لما كانت صورتها صورة الكذب؛ لأن التورية الآن صورتها صورة كذب، لكنها في الحقيقة ليست بكذب، لكن الصورة صورة كذب، فلأن هذه الثالثة صورتها صورة كذب أشفق منها استصغاراً لنفسه عن الشفاعة، وخشي منها مع أنها توريات وليست كذبات.
وتواضع إبراهيم عليه السلام وقال: أنما كنت خليلاً من وراء وراء، اذهبوا إلى واحد ليس من وراء وراء، موسى كلمه الله وأعطاه التوراة، كليم الله وكلمه تكليماً وقربه نجياً.(130/9)
ذهاب الناس إلى موسى ليشفع لهم
بعد رفض آدم لطلب الناس بالاعتذار لهم، يأتون إلى موسى فيقولون: (يا موسى! أنت رسول الله فضلك الله برسالته وكلامه على الناس اشفع لنا، فذكر مثل آدم قولاً وجواباً) لكنه قال: (إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها) يتذكر الكلام الذي صار، مع أن هذا قبل أن يكون نبياً، والذي قتله كافر قبطي من قوم فرعون ومع ذلك قال: إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب وهي قتل النفس فيستحيي ربه منها ويقول: (حسبي أن يغفر لي اليوم، حسبي، ائتوا عيسى روح الله وكلمته وفي رواية: عبد الله ورسوله وكلمته وروحه فإنه كان يبرأ الأكمة والأبرص ويحيي الموتى).(130/10)
عيسى يدل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم
موسى يخبر الناس بأنه قد قتل نفساً، ولا يريد من الله إلا أن يغفر له، ولا يستطيع أن يشفع للناس في بدء الحساب ويدلهم على عيسى عليه السلام فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم، يقولون: يا عيسى! أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم ورح منه، وكلم الناس في المهد صبياً، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، فيذكر مثل آدم قولاً وجواباً: لست هناكم لكن لم يذكر ذنباً.
عيسى ما ذكر ذنباً لكن يقول: أنا لست على مستوى طلب الشفاعة لست بهذا المقام، لست هناكم، ويقول في رواية: (إني عُبِدت من دون الله، إني اتُخِذت إلهاً من دون الله) مع أنه ليس ذنباً منه ولا قصد ولا أراد ولا رضي، لكن يقول ذلك تواضعاً.
الآن هؤلاء الأنبياء يقولون اليوم: إذا غفر لنا يكفينا، فما بال بقية الناس؟ ثم يقول عيسى عليه السلام: (ائتوا محمد صلى الله عليه وسلم فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، انطلقوا إلى من جاء اليوم مغفوراً له وليس عليه ذنب وخاتم النبيين، أرأيتم لو كان هناك متاع في وعاء وقد ختم عليه، أكان يقدر على ما في الوعاء حتى يفض الخاتم؟) هل تستطيع أن تأخذ شيئاً من الوعاء من غير فض الخاتم، فيرجعون إلى هذا الذي قيل لهم أول من تنشق عنه الأرض، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وعندما يأتون إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما جاء في رواية: (إني لقائم انتظر أمتي يعبرون الصراط إذ جاء عيسى فقال: يا محمد! هذه الأنبياء قد جاءتك يسألون لتدعو الله أن يفرق جمع الأمم إلى حيث يشاء لغم ما هم فيه) فأين يكون النبي عليه الصلاة والسلام؟ عند الصراط ومعه لواء الحمد، بعدما تلف القضية على الأنبياء واحداً واحداً، عيسى مع الناس مع الأنبياء كلهم يتوجهون إلى الصراط، والنبي عليه الصلاة والسلام قائم ينتظر عند الصراط، فيطلب عيسى والأنبياء معه والناس جميعهم من النبي عليه الصلاة والسلام ويخاطبونه حتى أبوه إبراهيم، كما جاء في رواية (وأخرت الثالثة -يعني: دعوة النبي عليه الصلاة والسلام- ليوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم عليه السلام).(130/11)
المقام المحمود للنبي صلى الله عليه وسلم
كل الناس يذهبون إلى محمد عليه الصلاة والسلام ويطلبون منه طلباً واحداً؛ هذه هي مكانة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا هو المقام المحمود، يوم تتطلع أنظار الخلائق وأنفسهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام يريدون منه أن يشفع عند الله، حتى إبراهيم الخليل فيأتوني، فيقول: (أنا لها أنا لها) لا يقول: لست هناكم يقول: أنا لها أنا صاحبها وأنا الجدير بها، الله سبحانه وتعالى أذن لي بها، وأعطيت لي أنا، فأشفع حتى يكون الفرج بسببي وبطلبي وبدعائي لربي.
فهذا المقام المحمود؛ لأن كل الناس يريدون الفرج، فكل الناس سيمدحون النبي عليه الصلاة والسلام على هذا الموقف، ويحمدونه على أنه كان السبب في تفريج كربتهم، فيحمده كل الخلائق عليه فهذا هو المقام المحمود، فالحمد لله الذي جعلنا من أمته، وهو أفضل نبي وهو الذي سيشفع.
فيقولون: (يا نبي الله! أنت الذي فتح الله بك وختم وغفر لك ما تقدم وما تأخر وجئت في هذا اليوم آمناً وترى ما نحن فيه فقم فاشفع لنا إلى ربنا) وفي رواية عند ابن المبارك: (فيأذن الله لي فأقوم فيثور من مجلسي أطيب ريح شمها أحد، يقولون: قم فاشفع لنا إلى ربنا فيقول: أنا صاحبكم فيجوش الناس -النبي عليه الصلاة والسلام ماذا يفعل؟ يستأذن على ربه- قال: فأستأذن على ربي) وفي رواية: (في داره وهو على العرش سبحانه وتعالى أو الكرسي فيؤذن لي في الشفاعة) وقيل في داره يعني: الجنة دار كرامته وهي الجنة فيستأذن، قيل: أنه يستأذن أولاً في دخول الدار وهي الجنة، والله يدعو إلى دار السلام، وينتقل عليه الصلاة والسلام من مكانه في أرض المحشر في أرض الموقف إلى مكان آخر، ويتقدم ليسجد تحت العرش، فيدعو في مكان شريف ليس في موقف إشفاق وخوف والشمس والحر، يدعو في مكان شريف تحت العرش كما أن الدعاء في الأماكن المباركة من أسباب الإجابة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يأخذ حلقة باب الجنة فيقعقعها فيقال: (من هذا، فأقول: محمد فيفتحون) وفي رواية: (فيقول الخازن: من؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك فيفتحون لي ويرحبون).
يقف بين يدي الله فيستأذن في السجود فيؤذن له فيخر ساجداً، وفي رواية: (أن جبريل يخرج إليه والله يقول لجبريل: ائذن له -ائذن لمحمد عليه الصلاة والسلام فيدخل- قال: فإذا رأيته وقعت له ساجداً) وفي رواية: (فيتجلى له الرب ولا يتجلى لشيء قبله) أول واحد يرى الله عز وجل عليه الصلاة والسلام، وفي رواية: (يعرفني الله نفسه ويتجلى لنبيه فأسجد له سجدة يرضى بها عني، ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني).
فإذاً يستأذن ويؤذن له، ويذهب إليه، ويتجلى له الرب فيراه فيخر ساجداً ويبدأ المدح والثناء على الله، وهذه السجدة كم طولها؟ الله أعلم، لكن لها مدة لأنه قال في الرواية: (فيدعني ما شاء الله ساجداً شاكراً له أمتدحه) وفي رواية: (فأقوم بين يديه فيلهمني محامد لا أقدر عليها الآن)، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم لما حدثهم الحديث يقول: المحامد تلك لا أعرفها ولا أقدر عليها لكن في ذلك الوقت سيفتح علي ويعلمني ماذا أقول، فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً، وفي رواية: (فينطلق إليه جبريل فيخر ساجداً قدر جمعة).
النبي عليه الصلاة والسلام إذا سجد وفتح الله عليه بمحامد يقال له بعد مدة: (يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، وقل يسمع، واشفع تشفع) فيرفع رأسه صلى الله عليه وسلم، قال: (فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه) وفي رواية: (بمحامد لم يحمده بها أحد قبلي ولا يحمده بها أحد بعدي) وفي رواية: (فيفتح الله له من الثناء والتحميد والتمجيد ما لم يفتحه لأحد من الخلائق) يعني: الآن نحن نعرف بعض الألفاظ التي فيها تحميد وتمجيد لله عز وجل مثل: سبحان الله والحمد لله، والله أكبر إلخ.
هذه أشياء ما سبق أن أحداً قد دعا بها، أذكار جديدة وألفاظ جديدة، ما يفتح بها إلا على النبي صلى الله عليه وسلم، وطبعاً في أسماء الله سبحانه وتعالى لا نعرفها نحن نعرف: الفتاح، العليم، الرزاق، الكبير، المتعال، القدوس، السلام، في أسماء اختص الله بها نفسه لا أحد يعرفها، فماذا يحصل؟ الله يعلم رسوله أشياء، قد يكون منها أسماء الله تفرد بعلمها، وما نزلت في كتاب ولا على رسول، فإذاً الكلام سيكون في السجود وبعد السجود في محامد، في السجود يخر له ساجداً يمدحه ويثني عليه، وإذا رفع أتى بمحامد جديدة أخرى.
ففي أشياء في السجود وأشياء بعد الرفع من السجود، فيقال: (يا محمد! فأقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، والمهدي من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، تباركت وتعاليت، سبحانك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، سبحانك رب البيت، ثم أشفع -فأول محامد قبل الطلب، ثم يأتي الطلب- فأقول: رب! أمتي، أمتي، أمتي، فيحد لي حداً لا أتعداه).
مثلاً: شفعتك فيمن أخل بصلاة الجماعة فيشفع فيهم ثم يقال: شفعتك فيمن أخل بالفرض الفلاني أو الواجب الفلاني، أو شفعتك فيمن ارتكب المحرم الفلاني، يقول: أقبل شفاعتك في هؤلاء ويحد لي حداً، وعلى هذا الأسلوب، هكذا يشفع النبي عليه الصلاة والسلام لأناس يخرجهم من النار فيدخلهم الجنة، فيقال: (أخرج من في قلبه مثقال شعيرة وبعد ذلك مثقال ذرة، ومثقال حبة من خردل، ولا أزال أتردد على ربي لا أقوم منه مقاماً إلا شفعت، فيشفع في كل من كان في قلبه مثقال حبة من حنطة، ثم شعيرة ثم حبة من خردل، فذلك المقام المحمود، ثم أخرجهم من النار).(130/12)
وقفة مع شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة
الشفاعة في الإخراج من النار متى تكون؟ تكون بعد التحول عن الموقف والمرور على الصراط وسقوط من يسقط في النار، ثم تأتي هذه الشفاعة، فالآن هناك شفاعة في انفضاض الموقف للحساب، وشفاعة للنبي عليه الصلاة والسلام لإخراج من دخل النار من أمته، هذه الشفاعة الثانية تكون بعد الأولى، فالثانية تكون بعد الصراط، الناس يتجهون إلى الصراط يسلكون عليه وينطلقون عليه ويسقط من يسقط، أناس دخلوا النار وهم من الموحدين تحصل هذه الشفاعة، وترسل الأمانة والرحم لعظمهما، الأمانة والرحم، على جنبتي الصراط يميناً وشمالاً (فيمر أولكم كالبرق) إلى آخره.
فإذاً عندنا شفاعتان: شفاعة الإراحة من الموقف وينصرف الناس للحساب، ثم يمرون على الصراط ثم يسقط ويهوي من يهوي في النار، ثم يكمل من يكمل إلى الجنة، فتأتي بعد ذلك الشفاعة الثانية: وهي شفاعة الإخراج، وقد جاء في رواية: (ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني ثم يؤذن لي بالكلام، ثم تمر أمتي على الصراط وهو منصوب بين ظهراني جهنم) وفي رواية: (يقول ربي عز جل: يا محمد! ما تريد أن أصنع في أمتك، فأقول: يا ربي عجل حسابهم) وفي رواية: (فأقول: أنا لها حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى، فإذا أراد الله أن يفرغ من خلقه، نادى مناد أين محمد وأمته فيتبعوه) وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يقول: (يا رب! أمتي أمتي، يقال: أدخل من أمتك من الباب الأيمن من أبواب الجنة من لا حساب عليه ولا عذاب وهم شركاء في بقية الأبواب).
يا رب! وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة، فهذه شفاعة ثالثة، وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة لكي يدخلون الجنة فيقول الله: (فقد شفعتك فيهم وأذنت لهم في دخول الجنة).
فإذاً لا ينصرف الناس من الموقف للحساب إلا بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل أحد الجنة إلا بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يخرج أحد من الموحدين من النار من أمة محمد عليه الصلاة والسلام إلا بشفاعته عليه الصلاة والسلام، فيما سبق إشعار بأن العرض والميزان وتطاير الصحف يقع في هذا الموطن.
ينادي المنادي لتتبع كل أمة من كانت تعبد، فيسقط الكفار في النار، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق، ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليه فيطفأ نور المنافقين فيسقطون في النار أيضا، ً ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة فمن العصاة من يسقط ويوقف بعض من نجي عند القنطرة للمقاصصة بينهم ثم يدخلون الجنة.
فهذا الترتيب ذكره ابن حجر رحمه الله استخلاصاً من الأحاديث وهو ترتيب مهم، هذا الترتيب يفهم كيف ستكون الأمور يوم القيامة، فنعيده: يقول بعد الرواية الأخيرة: وفيه إشعار بأن العرض يعني: يعرضون على الله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] هناك عرض على الله تعرض فيه البشرية كلها، كل واحد هو وذنوبه وأعماله وكل شيء مكشوف، على صفحة مفتوحة {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، هذا العرض على الله، ثم يؤتى بالميزان وينصب وتوزن أعمال العباد: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28] ولا حسابكم أيضاً، في نفس الوقت يعني الله لا يعجزه شيء يحاسب الخلق كلهم كأنه يحاسب واحداً، ويقضي بينهم كلهم كأنه يقضي بين شخص وشخص، والميزان والوزن كل شيء يوضع.(130/13)
ماذا بعد العرض والميزان وتطاير الصحف؟
فإذاً بعد العرض والميزان ماذا يحدث للصحف؟ تتطاير، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله، بعد هذا يقال: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فعباد الصليب يتبعون الصليب، واليهود يتبعون معبوداتهم، والوثنيون: من يعبد الشمس، ومن يعبد القمر، ومن يعبد الأشجار، ومن يعبد هبل، إلخ فكل واحد يتبع ما كان يعبد، وكل أمة تتبع ما كانت تعبد، هم والمعبودات في النار فإن كانت المعبودات ليست براضية، مثل: عيسى وعزير، عيسى عُبِدَ من دون الله وهو ليس معهم وإنما يتبرأ منهم يوم القيامة: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} [المائدة:117] أما من عُبِدَ من دون الله وهو راض فيكون معه في جهنم أول واحد، طيب الجمادات الشمس والقمر في النار ما وجه إدخالها في النار؟ لتكون عذاباً على عابديها وتكون مما يسعر به النار فيزداد العذاب، ثم تبكيت وخزي للعابدين عندما يرون إلههم الذي كانوا يعبدونه في الدنيا صار معهم في جهنم.
فإذاً العرض الميزان تطاير الصحف ثم ينادي المنادي في الموقف: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فيذهب كل كافر وكل مشرك إلى النار ويقعون فيها مباشرة، يسحبون إليها ويقعون فيها، من يبقى؟ يبقى الموحدون والمنافقون، المنافق -نفاقاً أكبر- مع أنه كافر فلا يذهب مع المشركين إلى النار في الدفعة الأولى، بل يبقى مع المؤمنين؛ لأن صورتهم كانت في الدنيا أنهم مع المؤمنين يتظاهرون بالإيمان، فيقال للبقية الموحدين: اذهبوا إلى الصراط ومعهم المنافقون.(130/14)
الصراط ينصب على متن جهنم
ينصب الصراط على متن جهنم يحطم بعضها بعضا، ويأمر الناس بالمرور عليها، ولا يوجد حل إلا المرور لا مخرج ولا مهرب ولا احتمال إلا المرور، فيمرون على الصراط.
الصراط مظلم مدحضة مزلة فيه كلاليب وخطاطيف، أحدُّ من السيف، وأدق من الشعرة، المرور عليه يحتاج إلى نور حتى لا يسقط أحد، المنافقون يتبعون المؤمنين، والمؤمنون معهم أنوار فيظنون أنهم سوف يستفيدون من ضوئهم، فيضرب بسور بينهم وبين المنافقين فتحدث الظلمة على المنافقين، فلابد أن يسقطوا في النار، فيسقطون في النار، انتهى المنافقون، ألحقوا بالمشركين، تأخروا عن دخول النار عن المشركين لكن إذا دخلوا يذهبون إلى الدرك الأسفل من النار.
فيبقى الموحدون عصاتهم ومتقوهم، فالعصاة والمتقون كلهم يعبرون الصراط واحد كالبرق، وآخر كالريح المرسلة، وبعضهم كأجاويد الخيل والركاب، والبعض يعدو عدواً، وفيهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً ويقوم ويقع ويقوم ويقع، وأناس يسقطون في جهنم، فناج مسلم، وناجٍ مخدوش، ومكردس في نار جهنم، فالناس الذي على الصراط ثلاثة أنواع: ناجٍ مسلَّم لا يصيبه شيء، أولياء الله والمتقون والطائعون وأهل الطاعة والدين لا يصيبهم شيء.
وناجٍ مخدوش، الكلاليب والخطاطيف تخدشه على بعض أعماله ومعاصيه.
ومكردس في نار جهنم، هذا النوع الثالث يسقطون في جهنم، يعذبون وتشملهم شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام بعد حين، يعذب في جهنم إلى ما شاء الله فتدركهم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة المؤمنين وشفاعة الملائكة وشفاعة رب العالمين في النهاية فيخرجون، آخر واحد يخرج الذي يعطى بعد ذلك في الجنة عشرة أمثال أعظم ملك من ملوك الدنيا.
الذين نجوا من الصراط عندما يعدون إلى الطرف الثاني لا يدخلون الجنة مباشرة، هناك قنطرة بين الجنة والنار يحبسون على الجسر، لأن بعضهم بينهم مظالم، صحيح أنهم نجوا لكن هناك من سيأخذ من حسنات الآخر، هناك مظالم ومقاصة، وهذه الحسنات سيستفيد منها الذي سيدخل وترفع درجته، هذا يكون أقل وهذا يكون أكثر، يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار للمقاصاة، وهؤلاء هم الناجون، لكن الذي أخذ من سيئاتهم فطرحت عليهم ثم طرح في النار هذا أمره انتهى قبل هذا وسقط في النار، الآن أناس عبروا الصراط إلى الجنة يحبسون للمقاصصة بينهم، ثم يدخلون الجنة بعد ذلك.(130/15)
دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وأحداث أخرى
إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فعند ذلك يذبح الموت بين الجنة والنار، والله عز وجل يضع قدمه في النار فينزوي بعضها على بعض ويزداد عذاباً على أهلها، والموحدون في النار قد احترقوا وماتوا، فيخرجون منها وهي الدفعة الأخيرة، يلقون في نهر بباب الجنة فيحيون ويدخلون الجنة على الصورة الحسنة.
ويبقى أماكن في الجنة بعد دخول أهل الجنة الجنة ليس لها أصحاب، شاغرة! فيخلق الله أقواماً لم يعملوا شيئاً قط فيدخلهم الجنة من فضله ورحمته، أعني: يا ليتنا كنا منهم لكن جرى قدر الله ونحن في عالم التكليف الآن، فالأماكن التي نتجت عن خروج أناس من النار من الموحدين لا يستفيد منها أهل النار توسعة، لا.
وإنما يضع الجبار قدمه فهذه الأماكن تفنى والنار تنزوي على المخلدين وتضيق عليهم زيادة ويزداد العذاب، والجنة بعد دخول آخر واحد يبقى فيها أماكن فالله يخلق أقواماً يدخلهم الجنة بفضله ومنته وكرمه.
فهذا هو حديث الشفاعة الطويل وقوله في آخر الحديث: (لا يبقى إلا من حبسه القرآن) يعني: وجب عليه الخلود في النار؛ لأن الله قال: {فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:14] وأنه أخبر عن المشركين والكفار أنهم لا يخرجون منها فقال: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48] هذا الذي حبسهم القرآن وقال تعالى: {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الجن:23].(130/16)
فوائد من حديث الشفاعة
في حديث الشفاعة المذكور والمشروح آنفاً فوائد كثيرة ومتعددة منها: أن الله سبحانه وتعالى يغضب، وأن ذلك من صفاته سبحانه، وفيه تفضيل للنبي صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق؛ لأن الرسل والأنبياء والملائكة كلهم لا يستطيعون أن يقوموا هذا المقام إلا النبي عليه الصلاة والسلام فهو أفضل من كل الملائكة، وكل النبيين، وكل الخلق، محمد عليه الصلاة والسلام.
في هذا الحديث أن السائل ينبغي أن يقدم بين يدي المسئول ثناءً حتى يجيبه، فإذا أراد الإنسان أن يسأل ربه يثني على ربه أولاً ولا يعجل يقول: أعطني مباشرة.
يثني على الله سبحانه وتعالى أولاً ثم يسأل، يتحرى الزمان الفاضل والمكان الفاضل والأسلوب الحسن ثم يسأل.
في هذا الحديث استشارة الناس بعضهم بعضاً يوم القيامة في الحل الذي سيكون من الكرب الذي هم فيه.
وكذلك في هذا الحديث أن الناس في الآخرة لا يستحضرون كل المعلومات التي كانوا يعرفونها في الدنيا، مثلا: ً نحن نعرف أنها ستئول إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فهل يستطيع أحد بهذه المعلومة أن يذهب مباشرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لا.
ولذلك قالوا: إن الناس يغطى عنهم بعض ما علموه في الدنيا، ولو كانوا مستحضرين في الآخرة أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يبدأ منه الفرج والطلب كان ذهبوا إليه مباشرة، فإذاً بعض المعلومات التي نعرفها الآن لن تكون في الذهن يوم القيامة أو سنذهل عنها وستغيب عن البال، لأن الله ينسيهم إياها وذلك لإظهار فضل النبي عليه الصلاة والسلام.
هذا من فوائد هذا الحديث العظيم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام وأن يجعلنا ممن تبعه واقتفى أثره.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(130/17)
خصال مطلوبة في المرأة المسلمة [1، 2]
المرأة تشكل نصف المجتمع وأكثر، وإهمال هذا الكم بغير توجيه وإرشاد أقرب إلى القصور والإفساد، وقد وقع هذا الإهمال فتأثر الكثير من بناتنا بثقافات الفتنة، ودعاة الدجال، فصارت بعضهن تجادل في المسلَّمات، ونتيجة لذلك قام الشيخ بهذه المحاضرة مذكراً بصفات المرأة المسلمة، ضارباً الأمثلة ومورداً الأدلة؛ لعل مستمعاً ينتفع، فاسمع تستفد(131/1)
إهمال المرأة وأثره السيئ في المجتمع
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نشكر لله الذي جمعنا وإياكم في هذا المكان، ونسأله سبحانه وتعالى أن نكون وإياكم ممن يتواصون بالحق ويتواصون بالصبر.
الحقيقة أن موضوع المرأة موضوع مهم، ويكفي أن نقول في خطورة هذا الموضوع: إن أعداء الإسلام يهتمون بالمرأة أكثر من دعاة الإسلام، وأظن هذه الجملة كافية في توضيح الحال التي وصلت إليها المرأة في هذا العصر.
إن المرأة المسلمة حتى تواجه هذه التحديات وحتى تحيا الحياة الكريمة الصحيحة على منهج كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تحتاج إلى توعية وتذكير وتعليم وتفقيه ومتابعة وتربية إسلامية.(131/2)
مدى اهتمام الإسلام بالمرأة
الموضوع الذي سنتحدث عنه هو مجموعة من الصفات، أو مجموعة من الخصال المهم تواجدها في المرأة المسلمة، ولا بد أن نعلم أن المرأة قسيمة الرجل، وشقيقته في الشريعة، وهذا الدين نزل للمسلمين رجالاً ونساء، يقول الله عز وجل مبيناً مشاركة المرأة للرجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35] فانظر ماذا بقي من أبواب الخير لم تشارك المرأة فيه الرجل؟ هم يقولون: المرأة نصف المجتمع، ومع قربنا من قيام الساعة فقد صرن أكثر من الرجال عدداً في المجتمع، والغريب أن يكون هناك قطاعٌ في المجتمع أكثر عدداً من الرجال ولا يهتم به مثل الاهتمام بالرجال، ولذلك لن نستغرب في ظل هذا الإهمال الحاصل لواقع المرأة أن تنشأ تيارات غريبة عن الدين غريبة عن المجتمع في واقعنا، وأن نجد أفكاراً منحرفة تتسرب إلى أذهان بعض النساء، وأن نجد بعض النساء بدأن المشاركة في أندية مشبوهة، أو تجمعات لأعداء الإسلام يراد من ورائها هدم الدين، وهدم الفضيلة والأخلاق، وهدم المجتمع المسلم، هناك أفكار بدأت تتسرب إلى عقول النساء، وبدأ التشكيك في أساسيات من الدين عند الكثيرات، وبدأت المناقشة فيها، يعني: التسليم لأوامر الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يجوز للمسلم مطلقاً أن يناقش في أشياء في الدين من المسلمات، ولكن عندما يصل الغزو إلى مرحلة معينة تبدأ الأمور تتغير، وتبدأ المناقشات في قضايا مسلمة لم يكن أحد يتجرأ أن يناقش فيها، فمثلاً: قضية الحجاب من الأشياء المسلمة في الدين ولا يمكن أن يتكلم فيها، لكن صرنا الآن نسمع كلاماً عجيباً، ونقاشات غريبة حتى عند بعض فتيات الأسر الطيبة المعروفة بالعراقة في المجتمع، وتجد للكلام اتجاهات بعيدة عن الدين، حتى عادت مسألة الحجاب قضية يمكن أن يؤخذ فيها ويرد، وأن تطرح للمناقشة، وتخضع لرأي فلان وفلانة، وتسأل عنها الندوة الفلانية وتطرح على الصحف والمجلات؛ مع أنها قضية لا مجال فيها للرأي مطلقاً، لأن المسلم لا يمكن أن يكون له رأي في أحكام الله عز وجل، فلا يمكن أن يقول: أنا أرى كذا، ولا أرى كذا، وأنا أؤيد ولا أؤيد، فالقضية ليس فيها مجال للتأييد وعدم التأييد، ولكن البعد عن الله عز وجل وعدم الفقه في الدين صار يفتح الباب لمثل هذه الأشياء، فالمرأة هي نصف المجتمع وتلد لنا النصف الآخر؛ فهي أمة بأسرها.(131/3)
جوانب في حياة المرأة تحتاج إلى دراسة
في نظري أن الاهتمام بالمرأة يجب أن ينصب على جهات متعددة، مثل: واقع المرأة والتعليم، المرأة والعمل، المرأة والحقوق الزوجية، المرأة والاختلاط، المرأة والحجاب، المرأة ودعاة التحرر، المرأة والعبادة، المرأة وتربية الطفل، المرأة وطلب العلم الشرعي، المرأة والزواج، المرأة والطلاق، المرأة الداعية إلى الله هذه بعض المواضيع التي لابد أن تطرح، ولا بد أن تفرد في مؤلفات، وتقام لها ندوات، وتفرد في بحوث، حتى يكون للمخلصات الواعيات، وللأزواج والآباء، وللإخوان المخلصين؛ يكون لهم منهج يستطيعون أن يؤدوه إلى بناتهم وأزواجهم وإخوانهم وأخواتهم، فالمسألة تحتاج إلى جهود مكثفة -وليست جهوداً فردية- تبذل من هنا وهناك.
لابد للمرأة المسلمة أن تدرس الشخصيات النسائية المعروضة في القرآن والسنة، لابد أن تدرس مثلاً شخصية مريم، خديجة وآسية وفاطمة، وبنتا الرجل الصالح الذي زوج إحداهما لموسى، لا بد أن تدرس شخصية أم موسى، وبلقيس مع سليمان، وصحابيات مثل: أسماء أم أنس، خولة بنت ثعلبة، أم عمارة لابد أن تدرس قصة الإفك، بل حتى الشخصيات الكافرة، مثل: شخصية امرأة نوح، وامرأة لوط، أو التي حصل منهن فسق كامرأة العزيز.
ولابد أن يركز على دور المرأة المسلمة في المجتمع، وأن يبرز لها أشياء: المرأة المعلمة المرأة كزوجة المرأة طبيبة المرأة أم المرأة خادمة لابد أن يبحث في هذه الأشياء.(131/4)
خصال ينبغي أن تفهمها المرأة وتتصف بها(131/5)
القدوة وأهميتها للمرأة
إن موضوع القدوة من الأمور المهمة للمرأة المسلمة، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام).
المرأة المسلمة لها صفات ذاتية، ولها خصال شخصية يعبر لنا عن هذه الصفات وهذه الخصال كلام عائشة رضي الله عنها في الصحيح، قالت: [ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب] هذه عائشة تقول مع أنها كانت ضرة لـ زينب -وسميت الضرة ضرة؛ لأنها تضر بمكانة الزوجة الأخرى- وكان بينهما منافسة؛ إلا أن هذه المنافسة لم تمنع عائشة رضي الله عنها من العدل في القول: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152]، فتقول عائشة رضي الله عنها: [ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى لله وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدق به، وتقرب به إلى الله؛ كانت تعمل بيدها لتتقرب إلى الله بهذا العمل، ما عدا ثورة من حدة كانت تسرع في الفيئة منها] فالتقوى إذاً من صفات المرأة المسلمة، وصدق الحديث، وصلة الرحم، والصدقة، وعمل اليد والتصدق منه، وإن كان فيها خصال غير حميدة مثل الحدة، فإن الرجوع منها يكون سريعاً.
فهذه صفات عامة ذكرتها عائشة أم المؤمنين لنساء المسلمين، حتى يكون هناك وضوح، فهاهي عائشة رضي الله عنها تهدي لنا الخصال المهمة التي ينبغي أن تتوافر في المرأة المسلمة؛ لأن المرأة المسلمة إذا جهلت وظيفتها، وجهلت حدودها وما يجب عليها، وجهلت مكانتها في المجتمع حصل الخبط والخروج عن شرع الله عز وجل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئتِ) حديث صحيح رواه ابن حبان عن أبي هريرة.
إذاً: فمجالات المرأة تختلف عن مجالات الرجل؛ الرجل قد لا يستطيع أن يدخل الجنة إلا بتحقيق صفات كثيرة، فإذا دعا داعي الجهاد فلابد أن يجاهد في سبيل الله، وعليه تحصيل النفقة لأسرته، وعليه أشياء كثيرة بل حتى في الدعوة إلى الله وإنكار المنكر يختلف مجال الرجل عن مجال المرأة؛ صحيح أن كليهما مخاطب بهذه الأمور، لكن طريقة الرجل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة تختلف عن النساء، فلو أن مجموعة من الرجال ذهبوا في رحلة أو في عمرة أو في أي مجال من المجالات، يستطيعون أن يمارسوا فيه حياة إسلامية قد لا تستطيع المرأة أن تعمل هذا العمل، الرجل يستطيع أن ينكر المنكر، ويذهب إلى الرجال في مكاتبهم، ويدخل عليهم، ويتكلم ويرفع السماعة ليخاطب فلاناً بالهاتف أياً كان من الناس؛ لكن المرأة لا تستطيع أن تذهب إلى الرجال في مكاتبهم لتنكر المنكر، أو أن ترفع الهاتف وتكلم من تشاء من المحررين مثلاً، أو أي شخصية تمارس سلوكاً منحرفاً وتنكر عليهم بهذا الانفتاح؛ فهناك إذاً حدود إذا جُهِلت حدثت تجاوزات غريبة وقد نسمع عنها في هذه الأيام!!(131/6)
القرب من الله بالعبادة خصلة شريفة للمرأة
من صفات المرأة المسلمة: تقوى الله عز وجل، والقرب من الله سبحانه وتعالى؛ فإن كثيراً من النساء يحصل عندهن تضايق من فترة الحيض والنفاس، وتشعر المرأة بأنها قد انقطعت عن عبادات عظيمة، فلا تستطيع أن تصلي ولا تصوم، والذي يكون قريباً من النساء، مثل: الأب من بناته، أو الأخ من أخواته، أو الزوج من زوجته يلمس تضايق المرأة عندما تأتيها العادة الشهرية، تتضايق لأنها انقطعت عن عبادات تريد أن تؤديها قد منعها من القيام بها الحيض أو النفاس الذي أتاها، ولذلك النفسيات الحساسة في النساء تجدها عندما تكون في فترة الطهر تشتد في العبادة، وتكثر من قراءة القرآن، وتكثر من صلاة النوافل، وتزداد في قضاء ما عليها من أيام الصيام الماضية، وصيام أيام أخرى نافلة استغلالاً للوقت، حتى إذا جاءت أيام العادة فإنها تكون قد صار عندها رصيد من الأعمال الصالحة التي لا تستطيع أن تؤديها في فترة الحيض والنفاس، وهذه الإحساسات مهمة عند المرأة، فلا تضيع الأوقات التي تستطيع فيها الصلاة والأوقات التي لا تستطيع فيها الصلاة، والحمد لله أن رخص بذكره تعالى على كل حال.(131/7)
أهمية التقوى للمرأة المسلمة
إن التقوى مهمة للمرأة في كل المجالات في معرفة حقوق الزوج، وتربية الأولاد، وفي الإخلاص في العمل، تقوى الله عز وجل ينبغي أن تكون هيئة راسخة في نفس المرأة، فعن عائشة رضي الله عنها: (أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب ولم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية، فقالت عائشة: يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله فماذا أذنبت؟) لاحظ حساسية المرأة المسلمة عندما تحس أن هناك خطأ قد حصل، فهي تبادر مباشرة إلى التغيير، تقول: (يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله فماذا أذنبت؟) فتسأل مباشرة عما أذنبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بال هذه النمرقة؟ فقالت: اشتريتها لك تقعد عليها وتوسدها) أي: اشتريتها لراحتك، ولاحظ أنها اشترت شيئاً لزوجها ليرتاح، هذه الدرجة عالية، فالعادة أن الرجال يشترون للنساء أشياء توفر أسباب الراحة لهن، لكن أن تشتري المرأة أغراضاً لزوجها لكي تريحه فهذا أمر عجيب لا تفعله كل النساء، فقد يكون عند المرأة مال، وقد تنزل إلى السوق في بعض حاجياتها، فيكون من الإحساس الطيب أن تشتري لزوجها في طريقها لذلك السوق وفي أثناء تجوالها شيئاً يفيده أو يحتاجه، وهذه من الأشياء التي تقرب بين الزوج وزوجته، وهناك علاقات كثيرة متفككة بين الرجال والنساء تمحو آثارها السيئة مثل هذه التصرفات؛ كهدية الزوجة لزوجها، أو أن تشتري له حاجة تريحه في البيت.
قالت عائشة: (اشتريتها لك تقعد عليها وتوسدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يعذبون، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم، ثم قال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة) إن حرص الرجل على إخراج المنكرات في البيت هذا الحرص مفتقد في كثير من البيوت اليوم؛ الرسول صلى الله عليه وسلم وقف على الباب، وما رضي أن يدخل حتى يزول المنكر من البيت، هذه المفاصلة المبنية على سلامة العقيدة وعمقها في النفس، ولما دخل بعض الرجال أول مرة، وقالوا: نزيله تدريجياً، ورفضوا المفاصلة من البداية؛ رضوا بالمنكر غصباً عنهم، قال: (أزيلي هذا) والمرأة المسلمة الطائعة التي تعرف حق الله تبادر إلى إزالة المنكر فوراً من البيت، والآن تجد منكرات كثيرة في البيوت والمرأة تتفرج عليها، وتستمتع بها وتتلهى، ولو أراد زوجها أن يزيلها لقلبت حياة زوجها شقاءً ونكداً؛ لأنها تريد هذه المنكرات في البيت، تقول: أنت تذهب وتدخل وتخرج، ويحصل لك عزائم وولائم، وأنا بماذا أتسلى، فاجعل لي هذه الأفلام موجودة في البيت، اشتر لي مجلات وضعها في البيت؟! فهذه ليست من أخلاقيات المرأة المسلمة.
فأخذته عائشة فشقته مرفقين، فكان يرتفق بهما في البيت.
المرأة المسلمة تسارع أيضاً إلى جعل الأشياء المحرمة أشياء مفيدة، تحاول أن تستفيد منها في حدود المباح، أخذت هذه النمرقة فشقتها وعملت منها مرفقاً يرتفق به.
وحسن التصرف داخل البيت من الأمور المهمة للمرأة المسلمة.
والورع والتقوى أيضاً مهم جداً في جوانب أخرى، منها مثلاً: مواجهة قضية الغيرة التي تحدث بين النساء، لو أن رجلاً تزوج بأكثر من واحدة فإن الغالب أن يكون بين زوجاته أو زوجتيه خصام ونكد، وخصام طويل، واتهامات متبادلة، وكلام من كل منهما في عرض الأخرى، ومحاولة جذب الرجل إلى جانبها، وإبعاد الزوج عن الزوجة الأخرى، كل واحدة تفعل هذا الفعل، لكن عندما يكون هناك تقوى لله عز وجل تختفي هذه التصرفات أو تخف جداً، ولذلك قالت أسماء رضي الله عنها في الصحيح: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن لي ضرة، فهل علي جناح أن أتشبع من مال زوجي بما لم يعطني؟) أي: أنا لي ضرة؛ فهل يجوز أن أقول للزوجة الأخرى: زوجي اشترى لي، زوجي أعطاني، زوجي أهداني، وَهَب لي زوجي، وكله كذب لكن تتفاخر بذلك، وهذا شيء يقع بين النساء، فالضرة تسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن حكم هذا العمل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) أي: لو أن إنساناً تباهى أو تفاخر أو تظاهر أمام الناس بأشياء ليست فيه ولا يملكها ولا حصلت له؛ فإنه عند الله كلابس ثوبي زور، وليس ثوباً واحداً.
والذي دفع المرأة لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم هو التقوى، لو لم تكن عندها تقوى لتباهت وتفاخرت، لكنها جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لتسأل تقول: ما هو الحكم في هذا الأمر الذي يقع كثيراً في أوساط النساء؟ التقوى مهمة في عدم تبذير مال الزوج، أو عدم أكل المال الحرام، أو عدم السرقة من أموال الزوج، وعدم أكل حقوق الآخرين.
ذكر ابن الجوزي رحمه الله: أن امرأة من الصالحات كانت تعجن عجيناً، فبلغها وهي تعجن موت زوجها فرفعت يدها عنه، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء، أي: أنه قد صار للورثة فيه حق.
فإذاً: هذه الحساسية التي تجعل المرأة تفكر في أشياء دقيقة من الأمور؛ عن الحل والحرمة وعن الشبهة ناتجة عن واعظ الله في قلبها، وكلما قوي واعظ الله كلما ابتعدت عن الحرام وكانت أخشى لله عز وجل.
تقوى الله عز وجل تدفع المرأة المسلمة إلى الاجتهاد في العبادة؛ والاجتهاد في العبادة كان من ديدن نساء الصحابة رضوان الله على الجميع، ولقد كانت إحدى أمهات المؤمنين تقف الساعات الطويلة في قيام الليل، وكانت زينب رضي الله عنها تجلس الساعات الطويلة بعد صلاة الفجر تذكر الله عز وجل، وحال النساء المسلمات الأوائل في عبادة الله عز وجل أمر مشهور لا يخفى على من كان له اطلاعٌ على حال الأولين.
وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن، قالت: فرجعت إلى عبد الله فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة، فائته فاسأله، فإن كان ذلك يجزي عني وإلا صرفتها إلى غيركم، قالت: فقال لي عبد الله -زوجها-: بل ائتيه أنتِ) أي: أنا استحي أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل يجوز لزوجتي أن تتصدق علي أم لا؟ قالت: (فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بدار رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتي حاجتها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة، فخرج علينا بلال فقلنا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين في الباب تسألانك: أتجزئ الصدقة عنهما إلى أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما، ولا تخبره من نحن، فدخل بلال على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هما؟ قال: امرأة من الأنصار وزينب) يعني: كلام غير معين، والرسول صلى الله عليه وسلم احتاج يعرف ما هو الواقع؛ لأن المفتي لا بد أن يعرف حال السائل حتى يفتي فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الزيانب؟ فلم يجد بلال مناصاً، فقال: امرأة عبد الله بن مسعود، فقال له رسول صلى الله عليه وسلم: لهما أجران؛ أجر القرابة وأجر الصدقة) فقد تكون المرأة موظفة، أو قد يكون عندها مال من إرث ورثته، وقد يكون زوجها خفيف ذات اليد، بعض النساء تقول: أتبرع لـ أفغانستان، أتبرع لـ أفريقيا، أتبرع إلى كذا، وزوجي لا داعي أن أتبرع له لأنه لا أجر لي في ذلك، فتغفل بعض النساء عن هذا الأمر مع أن الزوج محتاج، أو عنده ما يكفيه لكنه مثلاً يحتاج إلى سيارة يتنقل بها، والسيارة ضرورية في هذا المجتمع، فإذاً يمكن أن تعطيه من عندها مالاً ولها أجران؛ أجر الصدقة، وأجر أنه زوجها وأقرب الناس إليها، فإن الزوج من زوجته أقرب إليها من أبيها وأمها، ولذلك فطاعة الزوج مقدمة على طاعة الأم والأب.(131/8)
الصبر خصلة مهمة للمرأة المسلمة
من الصفات المهمة في المرأة المسلمة: الصبر؛ فبعض النساء قد لا يكون عندها صبر على زوجها، قد يكون زوجها، لا يستطيع أن يشتري لها الملابس التي تريدها، ويوفر لها الأثاث المنزلي الذي تريده، وقد تطالبه أن ينتقل بها إلى شقة أوسع أو بيت أكبر وهو لا يستطيع، فتتضايق وتتضايق حتى يصل الأمر بها إلى طلب الطلاق، وتقول: أنا غير مستعدة أن أعيش في هذا الجو، بنت عمي -مثلاً- عندها كذا، وبنت خالي أهدي لها كذا، وأختي زوجها أعطاها كذا، وأمي مصروفها من أبي كذا وكذا وأنت ما عندك، فإما أن تعطيني أو تطلقني، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة)، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (المختلعات هن المنافقات) أي: التي تريد أن تخالع زوجها بغير سبب، أما إن كان هناك سبب، كأن يكون الرجل سيئ الدين يضربها ضرباً مبرحاً فعند ذلك لا بأس عليها أن تطلب الطلاق؛ لأنها لا تستطيع أن تعيش في هذا الجو، ولو كان مسلماً فصبرها عليه ربما يكون خيراً لها، وخصوصاً إذا كان لها منه أولاد، فالصبر مهم جداً للمرأة.
والصبر ثلاثة أنواع كما ذكر العلماء: 1 - صبر على طاعة الله.
2 - صبر عن معصية الله.
3 - صبر على أقدار الله.(131/9)
صبر المرأة على الطاعة
صبر المرأة على طاعة الله وعلى العبادات أمر مهم، وكذا صبرها على طلب العلم، وكان نساء الأنصار خير النساء لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين، وكذلك صبرها على المحرمات الكثيرة عن طريق الوسائل المنتشرة، فالمرأة عندما تخرج هذه الوسائل من بيتها، وتصبر على العيش في البيت بعيدة عن الناس إلى حد ما، وكثيراًَ ما تختلي بنفسها، وقد تخاف المرأة من الانفراد في كثير من الأحيان فتصبر، فصبرها على هذه الحالة فيه أجر عظيم صبرها على أذى زوجها فيه أجر عظيم صبرها على تربية الأولاد فيه أجر عظيم وصبرها على شقاوة الأولاد فيه أجر عظيم.
الزوجة يقول لها زوجها: أنا تعبان؛ خذي الولد واخرجي من الغرفة أريد أن أنام، فتأخذ الولد وتخرج، أليس في ذلك مشقة على نفسها؟ بلى.
فيه مشقة على نفسها، ولكن فيه أجر عظيم.
الأولاد يتنازعوها من شتى الجهات، هذا يقول: أعطيني، وهذا يصرخ، وهذا يضرب الآخر، وهذا يريد من هنا وهذا يريد من هناك، وهذا يخرج، وهذا يمسك زر الكهرباء، وهذا يمسك السكين، وهذا يمسك المقص، وهذا يصعد فوق الكرسي وربما رمى نفسه، وهي تريد أن تلاحق هؤلاء كلهم، هذا الصبر على شقاوة الأطفال فيه أجر عظيم، إذاً فالصبر صفة مهمة للمرأة المسلمة تحتاج إليها في كثير من الأحيان.
الصبر على سلبيات الزوج؛ قد يكون الزوج بخيلاً، قد يفتعل المشاكل في البيت لأتفه الأسباب أو بدون سبب، قد يكون الزوج ديكتاتورياً في البيت لا يسمح بالمناقشة، ويريد أن يفرض رأيه على زوجته بكل وسيلة، ولا يسمح لها بأي خيار من الخيارات المباحة، ويفاجئها بقرارات بين يوم وليلة، وقد يسبها ويشتمها ويرميها بألفاظ شنيعة، وقد لا يحسن عشرتها، يدخل من باب البيت ثم الحمام، ثم يغير ملابسه، ثم يذهب ليأكل، يأكل وربما أكل لوحده ولا يرضى أن يأكل معها، ويذهب إلى غرفة النوم وينام ولا يسأل عنها مطلقاً، ثم يخرج إلى أصحابه فيعاشرهم ويذهب معهم ويأتي، ليرجع آخر الليل إلى البيت وهي قلقة عليه لتأخره عنها دون أن يشعرها، وربما سافر دون علمها، بعض الأزواج عندهم هذه الصفات، فالصبر على سلبيات الزوج صفة لا ينبغي للمرأة أن تستهين بها؛ لأن فيها أجراً عظيماً لا يضيع عند الله عز وجل.
كانت بعض نساء الصحابة تصبر على عدم الزواج بعد زوجها وفاءً له وإخلاصاً، لما مات أبو الدرداء خطب معاوية رضي الله عنه زوجته أم الدرداء، فامتنعت، فسأل عن السبب، فقالت: لأنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (المرأة لآخر أزواجها في الجنة) حديث صحيح، والحديث الآخر: (أنه إذا تزوج المرأة أكثر من زوج فإنها تكون في الجنة مع أحسنهم خلقاً) حديث ضعيف، فالحديث الصحيح إذاً: (أن المرأة لآخر أزواجها في الجنة) فلو تزوجت ثلاثة في الدنيا فهي في الجنة مع الثالث، ولو تزوجت أربعة في الدنيا فهي في الجنة مع الرابع، فـ أم الدرداء من محبتها لزوجها وإخلاصها له بعد موته صبرت عن الزواج مع تقدم الخطاب لها ومنهم الخليفة معاوية رضي الله عنه، لكنها رفضته وعنده من النعيم والملك شيء عظيم، وما ذكر ليس واجباً على المرأة إذا مات زوجها، بل يجوز لها أن تتزوج وخصوصاً إذا خشيت على نفسها، أو كانت شابة، أو كان عندها متسع من الجهد والإمكانيات، وربما يكون زواجها خيراً لها من بقائها لوحدها.(131/10)
صبر المرأة عن المعاصي
المرأة قد يكون زوجها فاسقاً، يدخل عليها في البيت آلات اللهو، وآلات الطرب، والأفلام المحرمة، والمجلات الخليعة، وقد يأتي بأصحاب فساق، وقد يطلب منها أن تقدم لهم الضيافة، وأن تخرج إليهم، وقد يقاومها في الحجاب، وقد يشد حجابها عن رأسها، وقد يشتمها في الشارع ويعيرها؛ لأنها متحجبة أمام الناس نكاية بها وبحجابها، وقد يشرب الخمر، وإذا سكر قام بتصرفات مشينة.
فالمجتمع فيه آفات، والشر انتشر فيه إلى درجة أن البيوت صار فيها من كثرة المشاكل ما الله به عليم، تقول بعض النساء: والله لا أريده، وما بقائي معه إلا من أجل أولادي فقط، أخاف إن انفصلت عنه أن يضيع الأولاد، ربما أخذ البنات ورباهن تربية سيئة ليخرجن فاسقات مثله، أنا لا آمن على البنات، لأنه ربما ضيعهن.
والصبر مهم للمرأة أيضاً في طلب العلم، فالمرأة تحتاج إلى أن تتفقه في الدين، وأن تعرف أحكام الطهارة، وأحكام الحيض والنفاس، والمسائل المتعلقة بحجاب المرأة في الصلاة، وسجود التلاوة وأشياء كثيرة.
المرأة الآن عندها مهمات الزوج والأولاد كلٌ من جهة، والطبخ في البيت، وغسل الملابس، وتنظيف الفرش والحائط وغير ذلك، فكيف تطلب العلم؟ كيف تفتح نفسها لطلب العلم؟ هذه مشكلة تحتاج إلى صبر حقيقة.(131/11)
صبر المرأة على أقدار الله
المرأة قد تبتلى بزوجٍ يعتبر بلاء من الله، وقد تقع مصيبة كأن يموت زوجها وهي تحبه جداً، قد يموت ولدها وقد تكون متعلقة به جداً.
عن أنس رضي الله عنه قال: [مات ابن لـ أبي طلحة من أم سليم] تأمل معي في كيفية التصرف وكيف عالجت الأمور؟ [فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه] أي: سأخبره بطريقتي الخاصة، قال: [فجاء ولا يدري عن الولد شيئاً، فقربت إليه عشاءً، فأكل وشرب، قال: ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك؛ فوقع بها] السؤال الآن: كيف يطيب للمرأة أن تتصنع وتتزين، وتدع المجال لزوجها ليقع عليها وعندها ولد ميت؟! هذا الفرق بين نساء الصحابة ونساء اليوم [فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيتٍ ثم قالوا: ردوا علينا عاريتنا التي أعطيناكم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا.
قالت: فاحتسب ابنك] فانظر كيف دخلت عليه، أما اليوم فيعرف الرجال أن الولد قد مات من صراخ المرأة، بل بعضهن تنوح إذا جرح الولد وتصيح كأنه قد مات ثلاثة.
فيا معشر النساء! انظرن الآن ودققن في تصرف أم سليم! فغضب أبو طلحة، فقال: تركتني حتى إذا تلطخت ثم أخبرتني بابني؟ فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بارك الله لكما في غابر ليلتكما) يعني: بما حدث، قال: فحملت أم سليم من تلك الليلة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهي معه، فلما عادوا إلى المدينة وقبل أن يصلوها ضربها المخاض فاحتبس معها أبو طلحة، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يقول أبو طلحة: إنك لتعلم يا رب أنه يعجبني أن أخرج مع رسولك إذا خرج، وأدخل معه إذا دخل -وذلك من شدة محبة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يكون ملتصقاً به- وقد احتبست بما ترى يا رب، تقول أم سليم بعد الدعاء مباشرة: يا أبا طلحة، لا أجد الذي كنت أجد فانطلق بنا فانطلقنا، ولما قدم المدينة رجع المخاض فولد غلاماً، قال أنس: فقالت لي أمي: يا أنس! لا يرضعه أحد حتى تغدو به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح احتملته فانطلقت به إلى رسول الله، قال: فصادفته ومعه ميسم، فلما رآني قال: لعل أم سليم ولدت؟ قلت: نعم، قال: فوضع الميسم، وجئت به فوضعته في حجره ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرة فلاكها حتى ذابت ثم قذفها في فيِّ الصبي، لذلك أن من السنة أن يحنك المولود بالتمر عند ولادته يأخذ أبوه قطعة من التمر فيمضغها أو يعجنها حتى تذوب تقريباً ثم يضعها في فم المولود ويمررها على حنكه من الداخل فجعل الصبي يتلمظها، قال: فقال رسول الله: (انظروا إلى حب الأنصار التمر) أي: على الفطرة! خرج من بطن أمه وهو يحب التمر، قال: فمسح وجهه وسماه عبد الله.
مهم للمرأة أيضاً أن تصبر على ما يصيبها من الأذى في سبيل الله، قد تضطر لأن تُخرج من بلدها، قد تفصل من مكان دراستها ظلماً وعدواناً، أو يحصل لها اضطهاد فيطردها زوجها من البيت، فتخرج من المكان الذي ألفته صابرة محتسبة.
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: [بلغنا مخرج رسول الله ونحن بـ اليمن، فخرجنا مهاجرين إليه] وكانت معهم أسماء بنت عميس، وذلك أنهم ذهبوا إلى الحبشة مع المسلمين الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة حيث التقوا بهم، فقال لهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: [أنتم خرجتم إلى رسول الله، ونحن أرسلنا رسول الله إلى الحبشة أقيموا معنا] حتى قدموا جميعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة سنة سبع للهجرة، وسمع عمر أن أسماء بنت عميس قالت كلاماً بعدما جاءوا من الحبشة إلى المدينة، فقال: [من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر رضي الله عنه: ألحبشية؟ أو قال: ألبحرية هذه؟] يعني: أتت عن طريق البحر، فقالت أسماء: نعم.
فقال عمر: سبقناكم في الهجرة، فنحن أحق برسول الله منكم، فغضبت أسماء وقالت كلمة: قالت: كذبت يا عمر! كلا.
لقد كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في دار أو في أرض البعداء والبغضاء؛ في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، وأيم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن النجاشي تعرض لمحاولات عزله عن ملكه بعد أن أجار المسلمين، وانقسمت الحبشة على نفسها، وكان الصحابة يخافون؛ لأنه لو غُلِب النجاشي فلا أحد يحميهم؟ والقصة ذكرها الذهبي في السير، لكن ما أقوله هنا هو حديث في الصحيح، وعندما نقول: في الصحيح، فإما أن نعني البخاري ومسلم، أو أحدهما، أو أنه على شرط الحديث الصحيح، وإن لم يرد في البخاري ومسلم.
قالت أسماء: وسأذكر ذلك لرسول الله وأسأله، ووالله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك.
تأمل أمانة المرأة المسلمة، ودقتها في النقل، مع أن النساء تجمح بهن العاطفة والمبالغة والتهويل، فينقلن الخبر أكثر مما كان عليه، كما قال المحدث عن أهل الكوفة: يأتي إليهم الحديث شبراً فيخرج من عندهم ذراعاً.
أو أنهن يهولن القصة ويعظمن الحدث حتى يظن السامع أن الدنيا قد قامت ولم تقعد، وهذا من طبع النساء، لكن المرأة المسلمة دقيقة في نقل الأخبار لا تزيد عليها، ولا تتسرع في استنتاجاتها الخاصة، فتقول: حصل كذا، ولا تهول الموضوع، بل تنقله بدقة.
تقول أسماء: ووالله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك، قال: فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: يا نبي الله! إن عمر قال: كذا وكذا، فقال رسول الله: (ليس أحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أهل السفينة هجرتان) من اليمن إلى الحبشة، ومن الحبشة إلى المدينة، قالت: [فلقد رأيت أبا موسى -وهو من أصحاب الهجرتين وأصحاب السفينة- يأتوني أرسالاً يسألونني عن هذا الحديث ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله] قال أبو بردة: قالت أسماء: [ولقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني] أي: يقول: أعيدي علي أعيدي علي؛ لأن فيه: إنكم أصحاب السفينة لكم هجرتان.(131/12)
التضحية من صفات المرأة المسلمة
من صفات المرأة المسلمة كذلك: التضحية، فالمرأة المسلمة قد تضحي بنومها من أجل أولادها قد تضحي براحتها من أجل زوجها قد تضحي بشيء من نفقتها المستحقة لها على زوجها المرأة المسلمة تراعي زوجها إذا كان قليل المال فلا تطلب منه أشياء لا يستطيعها، قد يجمع مالاً لشراء سيارة، لا تقول له: عندك مال اشتر لي ثياباً، رأيت فستاناً في محل كذا أريد أن أشتريه، وأدوات الزينة والتجميل.
المرأة المسلمة تراعي زوجها فتضحي بشيء من حقها، وتضحي بمالها على زوجها، وتضحي براحتها وتضحي ببدنها ووقتها من أجل زوجها.
كثير من الزوجات اللاتي منَّ الله عليهن بالهداية وتزوجن من رجال مستقيمين، الرجل المستقيم له متطلبات كثيرة إذا كان داعية إلى الله أو طالب علم، عليه مسئوليات كثيرة متعددة، دعوته إلى الله ستجعله يبذل من وقته وماله كثيراً، لا بد أن يذهب هنا وهناك، ويحضر جلسات وحلقات علم، ويعلم غيره ويخرج مع غيره.
وهو إذا كان طالب علم قد يدخل مكتبته الخاصة ويقفل عليه الباب ويجلس يقرأ بعيداً عن ضجة الأولاد، وبعيداً عن المؤثرات.
وقد يكون رجلاً يستغل الكرم في الدعوة إلى الله، فيدعو الناس ويدعو أصحابه وزملاءه على ولائم وعلى غداء وعلى عشاء، وهذا كله فوق رأس من؟ المرأة هي التي ستطبخ لهم، وتلحق العزيمة وراء العزيمة، وزوجها يرجع متأخراً في الليل تعبان وقد لا يكلمها وينام مباشرة، ماله قد ينفق في أشياء أخرى من الطاعات غير النفقة على الزوجة، أو التوسيع على الزوجة.
إذا جلس في البيت قد ينشغل بقراءته الخاصة، أو بأبحاثه، ويدخل إلى البيت متعباً ينام قليلاً يطلب الغداء، وبعد العصر مثلاً قد يذهب إلى مشوار، وبعد المغرب يأتي إلى هناك، وبعد العشاء يكون عنده عمل إلخ.
أيها الإخوة: المشكلة أن العصر الذي نعيش فيه عصر بعد عنِ الله، وعصر البعد عن الله يطلب من المسلمين مضاعفة الطاقات والجهود، ولا شك أن الرجل في أيام السلف كان عنده وقت لأهله أكثر من الرجل في هذا العصر، لماذا؟ لأن المنكرات كانت في الأول قليلة، والطيبون كثر، والمجتمع الإسلامي نظيف، وليست هناك هذه الثغرات الكثيرة الموجودة الآن التي تتطلب السد المرأة إذا لم يكن عندها تضحية ستتضايق من زوجها حتى ولو كان زوجها مستقيماً.
تقول: إنما تزوجتك لتقعد معي أريدك أن تخرج بي أريدك أن تأخذنا في جولة أنا والأولاد أريدك أن تذهب بنا مثلاً إلى منتزه فلان وإلى البر وإلى كذا أريد منك أن توصلني إلى أهلي كل يوم كذا أريد منك أن توصلني إلى صويحباتي وصديقاتي أريد أن أزورهم، وأنت مشغول عني لا تجلس معي ولا تكلمني تأتي متعباً وتنام مباشرة، وما عندك وقت أن تذهب بي في زيارات، وتفاجئني بالولائم والعزائم رن التلفون استعدي خمسة أنفار استعدي عشرين نفراً، وهي قد تتضايق وما عندها الحاجيات الكافية، وهو يقول: عجلي بسرعة الضيوف وصلوا، وهو لم يأتِ بالمصاريف، وهذه الحياة المعروفة فلا يخفى عليكم.
فالمرأة لا بد أن تكون صاحبة تضحية، بعض النساء الحقيقة الله يجزيهن الخير على صبرهن، فعلاً هي في تضحية ليست سهلة، هي الآن تعبت وشقيت ووضعت الطعام، يأتي وبسرعة افتحي الباب ويأخذ الباب ويمشي ولا يكلمها كلمة شكر واحدة، والمرأة تتأثر هو الآن فاجأها، أو بدون اتصال، جاء ودخل البيت وعندي الآن أناس، وتشتغل وتعمل ثم يأخذ الأكل وفي الأخير يتكلم مع الناس ويمكن يذهب معهم، ويقول: اجمعي السفرة، أو يدخل لها السفرة على البيت بقضها وقضيضها وأحياناً لا يقول: جزاكم الله خيراً، وأحسن الله إليكم، وأنت اليوم بيضت وجهي عند الضيوف، المفروض أن نقولها، وهي كلمة لطيفة ملاطفة مكافأة لزوجته، اذهب بها وروح عنها عند أهلها أو عند إحدى صديقاتها.
أحياناً من الأخطاء: يضع الإنسان زوجته عند عائلة ويذهب مشواراً ويرجع الساعة الحادية عشرة ونصف في الليل أو الثانية عشرة في الليل، والزوجة محرجة من أصحاب البيت، والزوج تأخر.
التصرفات مثل هذه كثيرة جداً ولكن المرأة المسلمة التي تضحي في ذات الله وفي سبيل الله مأجورة أجراً عظيماً، والغربيون يقولون: الجندي المجهول، والمرأة في كثير من الأحيان لا نقول: الجندي المجهول، إنما نقول: (إن الله يحب العبد التقي النقي الخفي، إذا غابوا لم يفتقدوا) (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع).
بعض النساء في بعض البيوت مع بعض الرجال حالهم مثل هذا الحال، نسأل الله أن يأجرهن أجراً مضاعفاً.
والمرأة تقول أحياناً للرجل: أنت تعلم غيرك، وأنت تنصح غيرك يا زوجي انصحني أنا، علمني أنا ولو كلمة واحدة من هذه الأشياء التي قرأتها، أنت تسمع الآن أعطنا ما نسمعه، وهو قد يهمل في هذا الجانب، وهو شيء موجود عند الرجال مع الأسف.
فالمرأة عندما تصبر على هذا وهي ستقرأ وستسمع بنفسها، وأحياناً زوجها يقرأ وهي سألته سؤالاً أخري عني لا تقطعي حبل أفكاري، فمثلما أنك تعلم غيرك علم زوجتك، فعندما تصبر الزوجة على هذا الصدود من زوجها لم يضع هذا الأجر والعمل عند الله إن شاء الله.(131/13)
احتساب المرأة المسلمة
الاحتساب: هو أن تحتسب المرأة المسلمة كل الأشياء التي تفعلها عند الله عز وجل، أن تطلب الأجر من الله وحده، إخلاصها لله سيدفعها إلى أن تحتسب هذه الأمور، والشعور بعظم الأجر وفضل الاحتساب، وما لها عند الله لو صبرت هذا سيدفعها إلى عدم التذمر وعدم التضايق ممن كان هذا حاله مما وصفنا قبل قليل.
وأذكر الآن حديثاً صحيحاً أيضاً يبين لنا بجلاء كيف كن نساء الصحابة رضوان الله عليهن يتحملن المشاق في الصبر على الشدائد، ومساعدة الزوج، والوقوف بجانبه، وألفاظ الحديث كافية في التعبير بدون زيادة.
في الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء، غير ناضح -الجمل الذي يسقى عليه الماء- وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء وأخرج به غربه -والغرب هو الدلو الذي يصنع من جلد الثور- وأعلف -تصور الآن تعلف الفرس وتسقي الماء وتخرز الدلو- وتعجن -كل هذه الأشياء وهي تتطلب جهداً كبيراً جداً- ولم أكن أحسن الخبز وكان يخبز جارات لي من الأنصار وكن نسوة صدق وكنت أنقل النوى من أرض الزبير الذي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي -تنقل النوى على رأسها- وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يوماً والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ثم قال: إخ إخ -وهي الكلمة التي تقال للبعير- حتى نزل ليحملني، فاستحييت أن أسير مع الرجال وذكرت الزبير وغيرته، وكان أغير الناس، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لي أركب فاستحييت منه وعرفت غيرتك، فقال الزبير: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه -يعني كلمة ملاطفة صحيح أنه شيء شاق- قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر -أي: لا زالت على هذه الحال- حتى أرسل إلي أبو بكر بخادم يكفيني سياسة الفرس فكأنما أعتقني).
فانظر إلى هذه المرأة التي تعمل كل هذه الأعمال وتتعب كل هذا التعب خدمة لزوجها، هذا من الذي يعمله، لو قلنا لرجل يعمله والله لا يعمله، لا يقوى عليه رجل تعمله هذه المرأة، ثم انظروا رحمكم الله إلى هذا التعاون بين النساء، تقول أسماء رضي الله عنها: (ما كنت أعرف أخبز فكن نساء الأنصار يخبزن لي، وكن نسوة صدق) وهذا مهم جداً أن يوجد هذا المجتمع النسائي، تعاون على طلب العلم، ومن أجمل الأمثلة التي نسمعها أحياناً عن بعض النساء اللاتي يطلبن العلم كل واحدة معها أطفال، والأطفال إذا صرخوا لا تسمع ولا واحدة من النساء شيء في حلقة العلم، فيتعاونَّ فيوم تمسك الأولاد فلانة، ويوم آخر فلانة، والحلقة التي بعدها تمسك الأولاد فلانة، واحدة تضحي والباقيات يستمعن وينصتن ويتعلمن، ويأتيها الدور وهكذا تعاون.
وواحدة من الأمثلة الجميلة: جارات مثلاً سمعن أن فلانة عندها اليوم وليمة كبيرة، فذهبن مباشرة، هذه تطبخ لها في بيتها صنفاً وتأتي به، وتلك تساعدها في بيتها، هذه تفعل وهذه تضع، وهذه تصب، ببساطة توزع العمل، وكل واحدة من النساء زوجها عنده وليمة، فهذه مجموعة تساعد بعضهن بعضاً في هذه الأشياء، فإذاً حياة التعاون مهمة، وبعض الرجال يعزلون نساءهم عن النساء الأخريات، حتى إن المسكينة قد لا تجد من يعينها ومن يشد من أزرها ويساعدها، المفروض أن المرأة لها جارات طيبات، أخوات طيبات، زميلات طيبات، إذا احتاجت لا يكلفها الأمر سوى اتصال: عندي كذا، فتأتي المساعدة مباشرة، هذه الحياة لا بد أن تكون هكذا.(131/14)
الهمة العالية
كذلك المرأة المسلمة تحتاج إلى صفة الهمة، لماذا الهمة؟ لأنه مع مشاكل الزوج والبيت والأولاد وأحياناً الحمل والرضاع هذا يأخذ الكثير من الجهد والمشقة، إذا ما كان عندها همة مع هذه الأشياء قد تكثر، وقد يضيع أكثر وقتها في النوم، وهذا ما يحصل عند الكثيرات، أكثر الوقت هو وقت النوم، والراحة والتمدد والاسترخاء، إذا لم تكن عند المرأة همة فلن تستفيد المرأة من وقتها، فلا بد من الهمة.
أيضاً بالنسبة للاحتساب: بعض النساء لا يفكرن في احتساب الأجر على الحمل والرضاع، تقول: والله هذا كتب الله علي، وتصبر على مضض وهذا حتى يأتي الولد، وقد يكون زوجها ممن يحب الأولاد الواحد تلو الآخر، والمرأة تتعب جداً، فإذا احتسبت كل أنة من أنات الولد، وكل رضعة ترضعه إياه، وكل قومة يوقظها في منتصف الليل وهو يصرخ، فلا يضيع عند الله ولا يذهب هباءً منثوراً، لكن ما الذي يجعل الأجر يثبت؟ الاحتساب والنية الصالحة.(131/15)
القناعة بالقليل
وكذلك القناعة من الصفات المهمة: أن تقنع المرأة بما رزقها الله، وبما يجلبه الرجل من الأشياء إلى البيت، وبأثاث البيت، ولا تطالب بالمزيد، فالقناعة كنز فعلاً، والذي عنده امرأة قنوعة فإن عنده كنزاً قد لا يقدر بقيمة، ولن يحس بعظم المرأة التي عنده حتى يذهب إلى زوجة أخرى، إذا فقدها جاءه الويل من غيرها، قال: والله تلك زوجتي كانت فعلاً امرأة قنوعة، هذه تتطلب وتتطلب وتتطلب وتلك ما فتحت فمها بشيء، الذي آتي به إلى البيت تعمله، وإذا عرضت عليها شيئاً لأشتريه لها توافق.
والحديث الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: دخل أبو بكر رضي الله عنه ليستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوساً ببابه، لم يأذن لأحد منهم، قال: فأذن لـ أبي بكر رضي الله عنه فدخل، ثم أقبل عمر رضي الله عنه فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساءه واجماً ساكتاً، قال: فقال لأقولن شيئاً أضحك النبي صلى الله عليه وسلم -الواحد إذا دخل على واحد مغموم لا يزيده غماً، وإنما يحاول أن يبسط أساريره، وأن يروح عن نفسه ما هو فيه، فقال عمر: (يا رسول الله! لو رأيت بنت خارجة -يعني زوجته- سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: هن حولي يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة بنته يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله ما ليس عنده؟ قلن: والله ما نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده).
الزوج أحياناً يحتاج إلى تأييد أقارب الزوجة، هذه من أهم الأشياء على أقارب الزوجة أن يراعوا الرجل، لو رأوا أن ابنتهم تطلب الكثير عليهم أن ينصحوها، يا فلانة، هذا ليس في مصلحتك، هذا الكلام قد يغضب الرجل ويأتي بتصرف لا تحمد عقباه، قد لا يستطيع غداً أن يعيش معك.
وبالذات من النساء مثل كلام الأم مع ابنتها في هذا الموضوع أشد تأثيراً من كلام الرجل مع ابنته المتزوجة، وكلام الأخت لأختها كذلك، فعلى النساء أن ينظرن إلى هذه المسألة بعين الاعتبار.(131/16)
الحنان والشفقة على الزوج والأولاد
من الأمور المهمة والصفات: صفة الحنان والشفقة: المرأة القاسية القلب الفضة الغليظة يمقتها ربها سبحانه وتعالى كما يمقتها البشر أيضاً، وحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً في الصحيح قال: (ودنت مني النار حتى قلت: أي رب! فإذا امرأة تخدشها هرة) -النبي صلى الله عليه وسلم أراه الله النار فيها امرأة تخدشها هرة في وجهها- (قلت: ما شأن هذه؟ قالوا: حبستها حتى ماتت جوعاً، لا أطعمتها ولا أرسلتها تأكل من الخشاش) فإذاً المرأة إذا كانت فضة وغليظة تقسو على الرجل، وتقسو على الأولاد، وعلى الحيوانات والجارات والأخوات، فإن الجميع سينفر منها ويكرهونها، ومن الصفات المهمة وجود الحنان، والحنان صفة المرأة لأنها مجبولة عليه، لا يزول إلا إذا طبع الله على القلب.
ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش؛ أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده) ليس هناك أشد منهن حناناً على الولد في الصغر، ولا أشد رعاية لمال الزوج ولممتلكات الزوج.
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة، وله قصة: أنه عليه الصلاة والسلام خطب أم هانئ فاعتذرت بكبر سنها وأنها أم عيال، فرفقت بالنبي صلى الله عليه وسلم ألا يتأذى بمسنة، قالت: أنا مسنة لا أدع الرسول يتأذى بمسنة، ولا بمخالطة أولادها، لأن الرجل لو أتاه أولاد من امرأة أخرى ليس مثل أولاده مهما كان، صحيح أنهم ليسوا أولاده لكن لا يعني هذا أن يعاملهم بالفضاضة والغلظة، يعني بعض النساء مسكينة عندها أولاد من زوج آخر، ثم تزوجها رجل وضم الأولاد إليه لكن لا يعطف على الأولاد، ولا يعامل أولادها من الزوج الآخر بمثل أولاده، وربما يشتري لأولاده هدايا، وألعاباً، وأشياء ويترك أولادها، يا أخي هؤلاء أيتام، وهؤلاء قد يكون أبوهم طلق المرأة ظلماً، أنت ضمهم إلى أولادك يأجرك الله عز وجل.
والحنان من الأشياء التي فقدها النساء خصوصاً في المجتمع الغربي، وأنا أنقل لكم هذا الكلام من امرأة والفضل ما شهدت به الأعداء، أو قل: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا، هذه مريم كوربي وهي سيدة هولندية وأم لثلاثة أطفال تقول: زوجي يعمل من الثامنة صباحاً وحتى السادسة مساءً، وأنا أعمل من الثامنة صباحاً حتى الواحدة ظهراً، أعتقد أننا في حالة مادية معقولة، ونسكن في شقة جيدة، ويبدو أن هذا لا يكفي، فثمة تشققات هائلة داخل العائلة، لكأننا من عالم غريب مختلف عن عالم أطفالنا، أنا وزوجي نجتر بعض الحنين السابق، وبعض التفاعل السابق، الأمر لأطفالنا مغايرٌ تماماً، قد أكون مخطئة لكنني أشعر بحدس الأم أن أطفالي ملوثون بيأس خاص أعتقد أنه استوطن بقوة في اللاوعي، إنني لا أفهم الدافع لذلك، فهم يتابعون دروسهم في المدرسة، كما أنهم يشاهدون التلفزيون كل مساء، ولقد سألت أحد الأصدقاء وهو أستاذ في علم النفس عن هذه الحالة، فأجاب أن ملاحظتي هذه مجرد خيال، وأن الأطفال في صحة حضارية جيدة -انظر الكلام الفاضي؛ الأطفال في الغرب بهذه النظرة، ما دام عنده مدرسة وبيت ومال وحاجيات، وعنده وسائل اللهو واللعب، فهو لا يحتاج أكثر من ذلك- كلمة حضارية هذه هي التي أفزعتني، فأنا أعتقد أن أولادي ككل الأولاد الآخرين، يعانون حصاراً ما، إنني لا أفهم، كل ما أستطيع أن أقوله هو أن الحنان الذي أقدمه لأطفالي لا يكفيهم على ما يبدو، لا يمكنني أن أقدم أكثر من ذلك، وأعتقد أننا نبني جيلاً يكرهنا بالضرورة.
فعلاً الحنان هو السر، السر في كل الكلام، هذه الجملة الأخيرة التي قالتها: كل ما أستطيع أن أقوله هو أن الحنان الذي أقدمه لأطفالي لا يكفي.
ولذلك فإن خروج المرأة من بيتها دمار، وعملها خارج البيت دمارٌ على دمار، وانشغالها عن بيتها وعن أطفالها مصيبة، والآن مع وجود مشكلة الخادمات هذه صار الطفل يتعلق بالخادمة أكثر من أمه، الأم الآن صارت تقرف أنها تغير لولدها -أعزكم الله- اذهبي يا خادمة غيري له، الرضاعة يرضع من النيدو، وصار الجيل جيل النيدو محروماً من إرضاع الأم، وحنان الأم، فالخادمة هي التي توقظه، وهي التي تلبسه للمدرسة، وهي تستقبله من المدرسة، وهي التي تصنع له طعامه، وهي التي وفي النهاية وصلنا إلى مستوى عجيب.
واحد من إخواني يقول: ذهبت العائلة إلى المطار الأم والأب والولد والأولاد لأن الخادمة تريد أن تسافر، يقول فلما ذهبت الخادمة إلى صالة السفر ودخلت الأطفال بدأوا يبكون بشكل عجيب في صالة المطار، والذي يخلع يده من أمه، والذي يصيح، والذي متأثر جداً؛ لأن الخادمة تريد أن تسافر، والله لو أمه تريد أن تسافر ما سأل عنها، لأن الخادمة كل شيء، ومهما كانت الخادمة لن تعطي الحنان للطفل مثل الأم، فالآن هذه مشكلة اجتماعية خطيرة، صحيح أن الخادمة قد تنظف البيت، وتغسل الصحون، وتعتني بكي الملابس، لكن الأشياء المتعلقة بذات الطفل والزوج ينبغي على الأم أن تشتغل بنفسها في هذا الجانب، كل شيء تصنعه الخادمة، وفي النهاية الأم تقول: مع السلامة، قبلة باردة تطبعها على الوجه ويكفي، من أين له أن يحس بالحنان؟(131/17)
الحياء المطلوب من المرأة المسلمة
كذلك من الصفات المهمة للمرأة: الحياء؛ الحياء صفة مهمة، والرسول صلى الله عليه وسلم وُصِفَ أنه كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، إذاً المرأة بطبيعة الحال تستحي، وينبغي لها أن تستحي لأن هذا خلقها، ولما خرجت من البيت وصارت الحفلات، والذهاب إلى الأسواق وصار التبرج والتهتك ذهب الحياء وهذا شيء طبيعي جداً، ماذا ننتظر بالله؟ تخرج نساؤنا إلى الشوارع، والأسواق، والحفلات، والزينات، والتبرج، والخلوة بالسائق وو ثم بعد ذلك نريد منهن حياءً، لن يحدث هذا، الله جعل لكل شيء سبباً.
أيضاً من ضمن هذه الملاحظات: قضية كلام المرأة مع الرجل الأجنبي، صار الآن شيئاً طبيعياً جداً، وصارت تكلمه بالهاتف، وتستقبله في البيت وقد تتحدث معه، وقد تتحدث مع السائق بكلام طويل، وتتحدث مع ابن عمها بكلام طويل، ومع ابن خالها وهو رجل أجنبي عنها، فإذاً ذهب الحياء، وفي المدرسة أيضاً يحدث أو في الخروج من المدرسة هذا التهتك في الأسواق.
بالنسبة لبعض الأصناف من النساء يعني مثلاً: الطبيبات، إذا لم تنتبه إلى نفسها قد يذهب حياؤها، ولا شك بتجربة المجربين أن الطبيبات في المستشفيات أقل حياءً من باقي الأصناف من النساء؛ لأنها تخالط الرجال، والأطباء والمرضى، وتذهب وتأتي في المستشفى رائحة غادية، ففقدت الحياء، وشيء طيب أن بعض النساء عندما تذهب إلى الطبيب ولا توجد طبيبة نسائية لا ترضى أن تكشف بسهولة هذا شيء مهم جداً، وهذه ظاهرة طيبة، ينبغي أن نبقي هذه الأشياء ولا نزيلها من نفسية المرأة، وأحياناً الأمر في بعض البيئات التي فيها رجال ونساء نجد التضاحك والنكت مع بعض الأجانب وكأنه أخوها.(131/18)
الشجاعة من الصفات المهمة للمرأة المسلمة
من صفات المرأة المسلمة الشجاعة في مواجهة اللحظات الطارئة في مواجهة اللحظات الحرجة، قد يحصل حادث، قد يجرح الولد، قد ينزل منه الدم أنت عندما تحلل المشكلة النفسية لماذا يخاف بعض الأولاد ويصيح لو رأى الدم خرج منه؟ لماذا خاف الطفل من الدم؟ يمكن ألا يخاف، لكن بسبب التربية، لأن الأم إذا جرح الولد وشاهدت الدم فزعت وصاحت وخافت، الولد المسكين يعرف أن الأم كلما نزل الدم فإذاً هي تصيح، إذاً هذه مصيبة، فصار الطفل أيضاً يجزع، فانتقلت المسألة والخوف والفزع من الأم إلى الطفل.
إذاً: التربية مهمة لا بد أن تكون الحركة متماسكة، فإذا جرح يده أو مرض لا تلطم وتندب وتصيح وتفزع فيخاف الولد ويتربى على الجبن، لماذا أطفالنا الآن في حالة سيئة؟ من هذه الأشياء.
ومن الأمثلة على الشجاعة التي وردت في السيرة: ما ورد في صحيح البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ساجداً عند الكعبة فبعض الكفار تواصوا، وقالوا: من يأتي بسلى جزور بني فلان ويطرحه على ظهر النبي عليه الصلاة والسلام، فأتى رجل بسلى الجزور وكرشة البعير المملوءة بهذه البقايا والمخلفات على كراهة رائحتها ووضعها على ظهره وهو ساجد صلى الله عليه وسلم، ثم أقبلوا يتضاحكون -لعنهم الله- حتى مال بعضهم على بعض من الضحك كما في صحيح البخاري، فبقي صلى الله عليه وسلم لا يرفع من السجود، فانطلق منطلق إلى فاطمة وهي جويرية، يعني بنت صغيرة فأقبلت تسعى قال: أبوك وضعوا عليه كذا، فجاءت تركض، فطرحت عن ظهره الأذى، وأقبلت عليهم تسبهم ودعت على من صنع ذلك، وهي بنت صغيرة، ما خافت من صناديد قريش، ولا من كفار قريش.
إذاًَ: الشجاعة في مواقف كثيرة قد تواجهها المرأة، لا بد أن تكون هذه صفة ملازمة.(131/19)
الانقياد وخصوصاً للزوج وموافقته على آرائه
قال عليه الصلاة والسلام: (خير نسائكم الودود الولود -الودود أي: المتحببة إلى زوجها- المواتية -الموافقة لزوجها- المواسية -التي تواسيه لو صار فيه خطب أو حزن- إذا اتقين الله -إذا خفنه وأطعنه- وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات -أي: المعجبات المتكبرات- وهن المنافقات لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم) حديث صحيح في صحيح الجامع رواه البيهقي عن أبي أذينة.
ما هو الغراب الأعصم؟ هو الذي منقاره ورجلاه لونها أحمر، هل رأيتم غراباً أحمر المنقار والرجلين؟! نادر جداً، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الندرة، وأقل ساكنين الجنة النساء، وأكثر أهل النار النساء، النساء الآن أكثر من الرجال، لكن بسبب غلبة النفس الأمارة بالسوء، وكثرة انقياد المرأة إلى مزالق الشيطان، والمرأة من انقيادها أنها تأخذ برأي الرجل الحكيم، قد ينصحها أبوها: هذا الرجل لا يصلح لك، هذا إنسان فاسق، هذا سألنا عنه كذا وكذا، أحياناً البنت تركب رأسها وتقول لأبيها: إني أريده، ولا بد، ولا تكلم أباها، وتقاطعه، وتقلب وجهها، وتتغير ملامحها أمام أهلها، وأمام أمها، وتدخل من الخارج إذا كانت موظفة أو مدرسة وتغلق على نفسها الباب ولا تأكل، ويصيبها المرض، ويذهبون بها إلى المستشفى، كل هذا عناداً لهم، لماذا؟! فإذا كانوا هم غير محقين، قد يكون عندك مبرر تفعلين هذا، لكن أحياناً يكون الأب طيباً حريصاً على مصلحة البنت.
وهذه القصة عن الصحابية فاطمة بنت قيس تبين لنا عاقبة الأخذ بالرأي الحميد فعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن زوجها طلقها ثلاثاً فلم يجعل لها رسول الله سكناً ولا نفقة، قالت: قال لي رسول الله: (إذا حللت فآذنيني) أخبريني إذا انتهت العدة، فآذنته فخطبها معاوية وأبو جهم وأسامة بن زيد، تقدم ثلاثة لخطبة فاطمة بنت قيس، فقال رسول الله: (أما معاوية فرجل ترب -فقير مسكين وقد لا يناسبك- وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء -لا يضع عصاه عن عاتقه كناية عن كثرة ضربه للنساء- ولكن أسامة بن زيد) فقالت بيدها هكذا: أسامة أسامة إشارة للاستغراب! لماذا قالت بيدها هكذا؟ لأن أسامة كان مولى، وكان أيضاً أسود اللون؛ وليس من نفس طبقتها، وكان أبوه زيد بن حارثة أبيض حتى إن بعض الناس شككوا في نسب أسامة من زيد، قالوا: كيف يكون أسود من أبيض؟ فكان الرسول صلى الله عليه وسلم لحبه لهما يتأذى من هذه الأشياء، وثبت في الحديث الصحيح أن رجلاً من الأعراب عنده خبرة بالقافة، من أثر الأرجل يعرف العلاقات، فلما دخل كان أسامة وأبوه نائمين قد تغطيا بشيء فلم يبدُ إلا أقدامهما، فدخل الأعرابي الرجل الخبير فنظر في القدمين، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فالرسول صلى الله عليه وسلم سر جداً بهذا الكلام، لأنه قطع الكلام، وهؤلاء القافة لهم عجب في هذا، أنه قد يخبر من هي؟ وهل هي حامل أو لا؟ وهل هي شابة أو عجوز؟ فقالت بيدها هكذا فقال لها رسول الله: (طاعة الله وطاعة رسوله خير لك، قالت: فتزوجته فاغتبطت) أي: تزوجته فسُرَّت وارتاحت وعاشت معه عيشة سعيدة.(131/20)
الوعي العلمي للمرأة المسلمة
ختاماً: نختم كلامنا بصفة مهمة من صفات المرأة أو لازمة للمرأة المسلمة: وهي صفة الوعي: إن صفة الوعي صفة مهمة، فالمرأة المسلمة تدار حولها المؤامرات، وتنسج لها شباك التحرر والرذيلة حتى تقع فيها، فإذا لم تكن المرأة على مستوى من الوعي، ومطلعة، وتقرأ، وكانت امرأة فاهمة، بل كانت مغفلة وسطحية ولا تستطيع أن تواجه المخطط، ولا أن ترد كيد الأعداء في نحرهم؛ قد تقع بسهولة في أشياء مثل مساجد الضرار، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ومساجد الضرار التي أنشئت لتحتوي المرأة ولتوقعها في الرذيلة، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، وقد تكون من الجمعيات التي لها ارتباطٌ بأعداء الله تخرب المرأة، والمرأة مسكينة تجد أشياء خيرية ثم تذهب فتجد رفيقات السوء وتجد المجتمع السيئ وتذهب وتضيع وتنحل، إذا لم يوجد هناك وعي فإن المرأة تبتلع بسهولة وتسقط في حبائل شياطين الإنس والجن.
فنحن لا نريد أن يكون حال المرأة كما قال الشاعر الأول:
علموهن الغزل والنسج والردن وخلوا كتابة وقراءة
علموهن هذه الأشياء واتركها لا تقرأ ولا تكتب
فصلاة الفتاة بالحمد والإخلاص تُجزئ عن يونس وبراءة
هكذا يدعي، وقال آخر:
ما للنساء والكتابة والعمالة والخطابة
هذا لنا ولهن منا أن يبتن على جنابة
سبحان الله! انظر إلى عقلية الرجل، فقط المرأة وظيفتها أن يعاشرها ويجامعها.
لا يا أخي! هذه امرأة عندها طاقات، لكن المشكلة ما هي الحدود والضوابط الشرعية ماذا تقرأ المرأة؟ ما هي المجالات المناسبة لدراسة المرأة؟ سئل الشيخ عبد العزيز بن باز عن هذا الموضوع، فقال: ما فائدة دراسة المرأة مثلاً لأشياء من الهندسات التي لا فائدة فيها، لكن تدرس مثلاً: العلم الشرعي اللغة العربية الطب أو أي شيء مثل: التمريض في الحدود الشرعية في البيئات الشرعية والأماكن الشرعية بالإشراف الشرعي، فعند ذلك تخرج النوعيات المنتجة في المجتمع، وكذلك يدخل في مسألة الوعي غير إحباط المخططات الهدامة: قضية وعي المرأة عند الزواج، بعض النساء لا تعرف من سذاجتها وقلة وعيها كيف تسأل عن زوجها، وتقدم لها واحد فسألت قالوا: يصلي وفيه خير وأخلاقه جيدة جداً.
واحدة سألت تقول: إني تزوجت رجلاً فقالوا عنه: إنه ذو أخلاق وجيد وملتزم بالسنة وإنسان دين مستقيم، فلما دخل بي وجدت أنه لا يصلي ويستعمل المخدرات، قلت: سبحان الله العظيم! ألا يوجد تمييز أبداً؟! كيف؟! أنت عندما ترى المسألة أنه صالح ومستقيم وداعية إلى الله ودين وخير وملتزم بالسنة، ثم يكون في حقيقة الأمر أنه لا يصلي ويستعمل مخدرات، يعني هناك خلل وهناك شيء غريب في الموضوع، ليس هناك وعي في السؤال عن الزوج ولا عن تقصي الأخبار، يقابله في النوع الآخر غلو.
امرأة تقول: أنا سألت عن زوجي، مديره وأصحابه في العمل، وسألت ولد عمه، وسألت رجالاً، وأجريت اتصالات تقول: أريد أن أتوثق، فهذا كلام لا داعي له، فإذاً لا بد من قنوات اتصال مع أن المرأة تستطيع أن تسأل النساء لكن الوعي يكمن في تحليل الأخبار، وتبين مدى ثقة هذا الخبر من ذاك الخبر، واستبيان مدى ثقة هذا المصدر من ذلك المصدر، واستبيان هل هذا الخبر فيه عاطفة وتهويل، أو فعلاً من جهة موثوقة؟ هنا تكمن قضية الوعي أيضاً.
وأذكر هنا حادثة طريفة في نهاية الكلام: امرأة تورطت مع رجل وسألت عنه فقالوا لها: هذا زوج صالح فعقد عليها، فقبل الدخول قال لها: لماذا لا نذهب نتفسح أو نأخذ جولة على محلات الأثاث أو كذا من هذا النوع؟ فذهبت معه وهذا شيء جائز لأنه زوجها حتى لو لم تكن هناك وليمة، ففي الطريق تقول هذه المرأة: لاحظت أن الرجل هاوٍ، تارة يفتح الراديو وتارة الموسيقى رافعاً الصوت، فتقول: انفجعت وقلت: هذا ليس الرجل ولكن تريد أن تتبين الأمر، فقالت له وكان فيها ذكاء وحنكة: ما رأيك بـ عبد الحليم حافظ الفنان الفلاني؟ فالرجل أبدى الاستغراب، وقال: لا يجوز، الغناء حرام وكيف قالت له: أنا سمعت له كذا وكذا وأعرف قصة يعني عادية، فقال: هاه، وسردت له أشياء كانت تعرفها من جاهليتها السابقة، فبعد ما سردت له قال: الحمد لله، والله أنا كنت أظنك معقدة ومتزمتة ورجعية ومتخلفة وأنا تعبت وأنا أظهر كذا، الحمد لله أنك وفرت علي المشوار، ولن أتكلف بالتظاهر بهذا، الحمد لله الآن أصبحنا أنا وإياك متفاهمين وعلى خط واحد وهذا الشريط نسمع فيه، فلما وصلت إلى البيت طلبت منه فسخ العقد، وقالت: ضحكت علي وأنت كذا.
لكن ليس كل النساء يتهيأ لهن هذه الفرصة في الاختبار، يمكن أن تتورط فعلاً، فالشاهد من الكلام أن مسألة الوعي بهذه الأمور وعدم الاستعجال من المرأة في انتقاء الزوج وإحسان العلاقة معه والعشرة هذا شيء لابد منه.
وهذه آخر نصيحة أوجهها وهي إحسان العشرة والمعاملة الطيبة من كلا الجانبين للآخر، وألا تغتر المرأة وتكره زوجها، قد تقول: هذا قبيح وأنا جميلة، هذا مستواه الاجتماعي منخفض وأنا عالي، أو تقول: أنا ذكية وهو بطيء الفهم، أو أنا أعلم منه، على المرأة هذه أن تتقي الله عز وجل، وأن ترعى حق الله في نفسها وفي زوجها.
وختاماً: أيها الإخوة! أسأل الله لي ولكم الهداية في كل الأمور، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرزقنا وإياكم حسن التصرف في الأمور كلها، والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(131/21)
خطورة عيد الحب/ ألعاب البوكيمون
إن ظاهرة التشبه بالكافرين ظاهرة قد انتشرت وتفشت، ومن أوجه التشبه التي عمت وطمت في الأمة التشبه بأعياد الكافرين، ومنها ما يسمى (بعيد الحب) أو (عيد العشاق).
وفي هذا الدرس قد بين الشيخ خطر هذا العيد وأصله والهدف من نشره بين المسلمين، كما ذكر كلام أهل العلم في حكم التشبه بالكافرين ومشاركتهم أعيادهم.
ثم نبه على خطر آخر يحاك ضد أطفال المسلمين، وذلك من خلال عرض لعبة البوكيمون، فقد وضح خطر هذه اللعبة على عقيدة الأطفال، وذكر قصصاً تبين ذلك، وأشار الشيخ إلى دور المسلم تجاه هذه المؤامرات.(132/1)
التحذير من تقليد الكفار بأعيادهم
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
الحمد لله الذي ميَّز أهل الإسلام على أهل الأوثان والشرك والكفر، وجعل أهل الإسلام كالشامة بين الناس، يعرفون بعقيدتهم ودينهم، وسمتهم وخلقهم: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] فحذرنا عز وجل عن اتباع الملل الأخرى وطرقها، ونهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأمره بالحذر من أن يتبع الكفار في شيء من دينهم: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) فهذه الأديان الموجودة في هذا العصر -سوى دين الإسلام- أديان باطلة لا تزيد متبعها من ربه إلا بعداً.(132/2)
التحذير من اتباع الكافرين
عباد الله: لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر سيقع في الأمة ليس حتى نستسلم له ولكن حتى نحذر منه.
أيها الإخوة: عندما قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب، لدخلتموه، قال الصحابة: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) أي: من غير اليهود والنصارى أعني؟ وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلاً بمثلٍ، حذو النعل بالنعل، حتى لو كان فيهم من نكح أمه علانية، كان في أمتي مثله) أخرجه الحاكم.
وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وانتشر ذلك في الأزمنة المتأخرة، من اتباع كثير من المسلمين لأعداء الله تعالى في عاداتهم وتقاليدهم وسلوكياتهم وقدواتهم، قلدوهم في الشعائر، قلدوهم في الأعياد، وكان ذلك نتيجة لغلبة الكفار، والمغلوب مولع بتقليد الغالب، وكانت المتابعة للنصارى في كثير من الأحيان.(132/3)
عيد الحب أصله والهدف منه
أيها الإخوة: إننا نجد ظاهرة في انتشار التقليد للكفرة بين شباب المسلمين ذكوراً وإناثاً ظاهرة لا تبشر بخير، ومن ذلك ما يقدم عليه الكفرة من الاحتفال بعيد لهم، يسمونه: بعيد الحب.
وهو عيد وثني من عهد الرومان، عيد من الأساطير والخرافات دخل على النصارى من الوثنية، وكذلك قيل: اسم قديس لهم يسمى فلنتايم، اضطهده الرومان قبل دخولهم في النصرانية، وكان وقت مقتله عيداً لهم؛ لأنه يدعو إلى الحب، والتقارب بين الجنسين، وهذا سواء كان وثنياً كما يدل عليه رسم كيوبيد الممثل بطفل له جناحان ومعه سهم وقوس -هذا إله الحب عند الرومان، وهو من الآلهة التي يعبدونها من دون الله- أو سواء كان احتفالاً بإحياء ذكرى ذلك القسيس النصراني، فإن كلا الأمرين خطير جداً أن يحتفل مسلم أو مسلمة بإله يعبد من دون الله من دين الوثنية الرومانية، أو بإحياء ذكرى قسيس من قساوسة النصارى، كلاهما مصيبة عظيمة.
هذا التقليد النصراني الذي كان وراء إفساد كثير من الشباب والشابات حتى أبطلته النصرانية في وقت من الأوقات، ثم رجعوا إليه مرة أخرى، واليوم يقوم أناس من المسلمين بالاحتفال به وكتابة الكلمات الغرامية، وإرسال بطاقات التهنئة مصحوبة بهذه الأشياء العاطفية، هذه الأمور الخطيرة والخطيرة جداً على عقيدتنا وديننا.
هذه المظاهر من البهجة والسرور التي تظهر في الأعياد، وتبادل الورود الحمراء؛ تعبيراً عن الحب الذي كان عند الرومان وثنياً لعبادات من دون الله، أو عند النصارى عشقاً بين الحبيب ومحبوبته، ولذلك سمي بعيد العشاق، وتوزيعاً لبطاقات التهنئة المرسوم عليها صورة الإله الذي يعبد من دون الله، أو تبادل تلك الكلمات من العشق والغرام، شعراً ونثراً، أو معها صور ضاحكة وأقوال هزلية، حتى كتب على البطاقات: كن فلنتينياً، هذا المفهوم النصراني أو الوثني، عندما يتسلل إلى بناتنا وأبنائنا ويدخل عقول المسلمين فيحتفلون به، ماذا يعني ذلك؟ إنه شعار الكفر ورب الكعبة! وتقليد النصارى والكفرة فيما هو مصادم لدين الإسلام تمام المصادمة.(132/4)
نتيجة اهتمام الشباب بعيد الحب
ثم يا عباد الله! تأملوا فيما ينبني على ذلك من شيوع الفاحشة في الذين آمنوا، وحفلات نهارية، وسهرات ليلية، ومناسبات مختلطة راقصة، وورود، وصناديق شكولاتة ترسل إلى الزوجات والصديقات والعشيقات أيضاً، إن هذه القضية عندما تكون في عقل مسلم أنه يحتفل تقليداً للأمة الضالة، وخلطاً بين الشرك والتوحيد، بين العقل والخرافة، وبين الآلة والأسطورة، عندما يقع ذلك -أيها المسلمون- فإننا لا بد أن نعي أن الخطر جسيم، وأن القضية تمثل تهديداً جاداً لإسلامنا وعقيدتنا، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِين} [الزمر:65 - 66] بما أن المسألة لها جذور وثنية شركية، والله قال في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48].
وقال الله عز وجل على لسان عيسى عليه السلام: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] فلا يقل: إنني لا أقصد شركاً ولا أقصد عبادة من دون الله، فهذه جذور القضية، وهذا أصلها: (ومن تشبه بقوم فهو منهم).
ثم ماذا يقصد؟ يقصد إحياء المشاعر والعواطف تجاه من؟ إن قال: تجاه الصديقة والعشيقة، فهذه مصبية عظمية وطامة كبيرة، وإشاعة للفاحشة بين المسلمين، وإن قال: أقصدها مواعدات وغراميات، وحفلات راقصة، فنقول: ألم يقل الله تعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) [النساء:27]؟ إذاً هؤلاء يريدون إثارة الشهوات، وأن يميل الإنسان الضعيف بقلبه إلى المحرمات، فلماذا إذاً يحدث ذلك فيما بيننا؟(132/5)
العيد الإسلامي من شعائر الإسلام
أيها المسلمون: يجب ألا ننسى أن الأعياد في الإسلام هي عبادات تقرب إلى الله تعالى، وهي من الشعائر الدينية التي تقرب إلى الله، ما هي الأعياد الشرعية؟ عيد الفطر، وعيد الأضحى ولا يوجد غيرهما في السنة، وعيد الجمعة الذي نحضره اليوم، هذه عبادات توقيفية، أعيادنا إذاً من صميم ديننا، أعيادنا لها أدلة، أعيادنا ليست اختراعات، أعيادنا ليست عادات، أعيادنا ليست تقاليد، أعيادنا ليست قابلة للتطوير، أعيادنا غير قابلة للزيادة، وغير قابلة للنقصان، فأعيادنا -أيها المسلمون- من يتأمل النصوص الشرعية فيها يجدها أعياداً محددة مؤقتة، حتى تقديمها أو تأخيرها لا يجوز.(132/6)
التشبه بالكافرين ومشاركتهم في أعيادهم
أيها المسلمون: إن مسألة الأعياد مسألة دينية، ثم قل لي: أليس في مشاركة هؤلاء النصارى أو الوثنيين في مثل هذه الأعياد تشبهاً بهم؟ وقد قال الله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] والكاف في قوله: (ولا تكونوا كالذين) للتشبيه.
إن الواجب على المؤمنين أن يكونوا ممن تخشع قلوبهم لذكر الله، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، هؤلاء اليهود والنصارى طال عليهم العهد والزمن والوقت، فغيروا دينهم، حرفوا كتبهم، ابتدعوا ما لم يشرع لهم، وتركوا ما أمرهم الله به، ثم إن نبينا عليه الصلاة والسلام قد قال: (من تشبه بقوم فهو منهم).
قال شيخ الإسلام في هذا الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود: هذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم؛ لأن معنى قوله:) فهو منهم) ظاهره كفر المتشبه بهم، كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].
قال الصنعاني رحمه الله: فإذا تشبه بالكافر في زيٍ واعتقد أنه يكون بذلك مثله كفر، فإن لم يعتقد ففيه خلاف بين الفقهاء، منهم من قال: يكفر وهو ظاهر الحديث، فهو منهم، ومنهم من قال: لا يكفر ولكن يؤدب.
وقد نقل شيخ الإسلام الإجماع على حرمة التشبه بالكفار في أعيادهم في وقت الصحابة رضوان الله عليهم.(132/7)
التشبه بأعياد الكفار أخطر من التشبه بزيهم
والتشبه بالكفار فيما هو من شأنهم، كعيد الحب، أخطر من التشبه بهم في أزيائهم أو ملابسهم وسلوكياتهم؛ لأن دينهم إما مخترع أو محرف، وما لم يحرف منه فهو منسوخ، فكيف إذا كانت القضية احتفالاً بعيد الحب، وتشبهاً بعبادة الأوثان كما كان عند الرومان، وبأهل الكتاب في هذا القديس الذي قيل: إنه شخصية خرافية، وقيل: إنه شخصية حقيقية لكنهم غلو فيه، فالأمران أحلاهما مر.
والمقصود مما تدندن حوله القنوات الفضائية، والاحتفالات التي تكون فيها، والبرامج المخصصة في هذه القنوات وغيرها هو: إشاعة الفاحشة في المؤمنين، إنه مخطط كبير، لكي يقبل الشباب والشابات من أبناء المسلمين على هذه الثورات الشهوانية البهيمية الحيوانية التي يريدون من ورائها تحطيم الأمة.
قل لي يا أيها المسلم: لو وضعت نفسك مكان مخطط يهودي يخشى أن تجتمع طاقات الأمة والشباب فيها على غزو اليهود أو الانتقام من النصارى، فما هي الطرق التي تذيب بها هذه الإرادات للجهاد؟ كيف تحطم أمة تخشى منها؟ كيف تلهي أمة عن الواجب الذي يخشى منه هؤلاء اليهود والنصارى؟
الجواب
بإلهائهم بشتى أنواع الإلهاء، وإثارة الشهوات فيهم، وهكذا يقوم عيد الحب بدوره وإحيائه في هذه القنوات وفي غيرها؛ لأجل تحطيم إرادة الجهاد، وتحطيم النقاء والطهر الموجود في أبناء المسلمين وبناتهم، إن المسألة إذاً خطة والذي قد دخل فيها دون أن يعلم أنها مخطط فهو مغفل مسكين إن إنساق وصار أداة من الأدوات.
والله تعالى لا يرضى لعباده الكفر، والله عز وجل نهانا عن الذين قاتلونا في الدين أن نبرهم ونقسط إليهم، وقال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22].
فما معنى إذاً الترويج للنصرانيات الفاجرات وغيرهن في تعليق شباب المسلمين بتلك الشخصيات؟ قل لي يا عبد الله: إن ظهور مثل أولئك على الشاشات، وهذه الدعايات العظمية التي تقوم لأولئك النصرانيات الفاجرات وغيرهن من أبناء المسلمين المتأثرين بهن، عندما تعرض على الملأ، وعندما يحب هؤلاء المشاهدون ويقلدون تلك الشخصيات التي تروج لمثل عيد الحب وغيره، وتنتهي الورود الحمراء من المحلات، وتدخل داعية مسلمة إلى قاعة في مدرسة، لتلقي على الطالبات في هذا اليوم، فإذا بها تفاجأ بما يحطم المعنويات ويحبط الآمال، فترى كل بنت تقريباً في هذه الصالة إن لم يكن معها وردة حمراء فمعها شال أحمر، أو منديل أحمر، أو شنطة حمراء، أو جورب أحمر، أو معطف أحمر، أو نوع زينة حمراء على الشعر، ونحو ذلك، المهم الاقتباس ولو بشيء يسير من أولئك الكفرة، أي شيء أحمر في ذلك اليوم(132/8)
الواجب علينا أمام أعياد الكفار
عباد الله: إنه لا بد أن يعي المسلمون حجم المخطط ليدركوا المؤامرة، فلا ينساقوا وراءها، لا بد من تفتيح الأذهان والعقول، ولابد من التنبيه على الكوارث الخطيرة التي تحيط بنا، وكيف يجوز أن يجعل هذا العيد الوثني النصراني وسيلة لانتشار الزنا والفواحش؟ مصبية من جميع الأبعاد! وكارثة بجميع المقاسات! أيها الإخوة: إن شتى المقاييس لو وزنا بها الأمر لتبين لنا بأن الخطر المحدق على شبابنا وشاباتنا من رواء ذلك كبير، والواجب علينا الآتي:(132/9)
عدم الاحتفال بها أو إعانة الكفار فيها
أولاً: عدم الاحتفال بهذا أو مشاركة المحتفلين به في احتفالهم أو الحضور معهم؛ لما سبق من الأدلة الدالة على تحريم الاحتفال بأعياد الكفار، قال الحافظ الذهبي رحمه الله: فإذا كان للنصارى عيد ولليهود عيد وكانوا مختصين به، فلا يجوز لمسلم أن يحتفل بهذه الأعياد، كما لا يشاركهم في شرعتهم ولا قبلتهم، كما نبه عليه في كتابه تشبه الخسيس بأهل الخميس.
كذلك عدم إعانة الكفار على احتفالهم به، لا بإهداء شيء لهم بمناسبته، ولا بطبع شعارات وأوراق لهم وبطاقات تهنئة به؛ لأنه ترويج لشعائر الكفر، والإعانة عليه حرام، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].
قال شيخ الإسلام: لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم، لا من طعام، ولا لباس، ولا اغتسال، ولا إيقاد نيران، ولا تبطيل عادة -أي: إقفال الدكاكين وإيقاف الأعمال- من معيشة أو عبادة أو غير ذلك، ولا يحل فعل وليمة، ولا الإهداء ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك، ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار الزينة، وبالجملة ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم، بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام.
وقال ابن التركماني رحمه الله: فيأثم المسلم بمجالسته لهم وبإعانته لهم بذبح وطبخ وإعارة دابة يركبونها لمواسمهم وأعيادهم.(132/10)
عدم إعانة المسلمين للاحتفال بها
عدم إعانة من احتفل به من المسلمين وهذا هو الغالب، بل الواجب الإنكار عليهم؛ لأن احتفال المسلمين بأعياد الكفار منكر يجب إنكاره، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وكما لا نتشبه بهم في الأعياد، فلا يعان المسلم في ذلك، بل ينهى عن ذلك، فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب دعوته، وانتبهوا معي لما يحدث في المجمعات السكنية (الكنفاونس) من اختلاط شبابنا وبناتنا بهؤلاء الكفرة، أو ببعضهم البعض من الفسقة والفاسقات، وحفلات الرقص والديسكو والليزر والديجي وغير ذلك من أنواع الفسق والفجور الذي يبارزون الله به، والذي يدعون إليه بعضهم بعضاً، يدعون إليه علانية، ثم يذهبون فيقيمونه في تلك الصالات.
يقول شيخ الإسلام: ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد، مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديته، خصوصاً إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم كما ذكرنا.
والآن ترسل بطاقات تهنئة إلكترونية في البريد الإلكتروني لإشاعة القضية بزيادة، ولتكون المسألة شعاراً مطبقاً وعنواناً؛ لكي يغرقونا في القضية، والمشكلة -أيها المسلمون- أن أبناءنا وبناتنا هم الذين يوقدون القضية أكثر مما يوقدها الكفار فيما بيننا، ومعنى ذلك: أن المسألة قد تغلغلت إلى درجة أننا لم نعد بحاجة إلى أيدٍ خارجية لممارسة مثل هذا النشر والتسويق لهذا العيد الشركي والكفري المحرم، وأن ما فينا يكفينا.
وبناءً على ما قرره شيخ الإسلام رحمه الله عندما قال: "ولا يبيع المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهة الكفار في أعيادهم، وهذا من الإعانة على المنكر"، فإنه لا يجوز للتجار المسلمين أن يتاجروا بهدايا عيد الحب من لباس أو ورود حمراء أو بطاقات تهنئة أو غير ذلك، وأن مكسبهم على هذا سحت وحرام، لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، كما لا يحل لمن أهديت له هدية أن يقبلها بل يقطعها ويمزقها ويقول لمن أتى بها إليه نصيحة تدل على ولائه للدين، وأنه مسلم، وأنه مستقل بشخصيته ولو هنأه، يرد التهنئة ويقول: اتق الله.(132/11)
حكم التهنئة بشعائر الكفار
قال ابن القيم رحمه الله: وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل: أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، ويقول: تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب بل ذلك أعظم عند الله وأشده مقتاً من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام، ونحو ذلك، وعند الشباب والشابات من الحركات الخفية والكلمات المقصودة ما يجب علينا أن نحاربه يا عباد الله! اللهم إنا نسألك السلامة والعافية، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم سلمنا من الشرور والآثام، والبدع والشرك يا رب العالمين، واجعل مجتمعنا هذا طاهراً نقياً وسائر مجتمعات المسلمين، ورد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً، إنك سميع مجيب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(132/12)
لعبة البوكيمون وخطرها على أطفال المسلمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، عباد الله: إننا نشهد أن لا إله إلا الله فمعنى ذلك أنه: لا نعبد إلا الله، ونشهد أن محمداً رسول الله، ومعنى ذلك أننا: لا نتبع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الدين.
أيها الإخوة: أيها المسلمون! الحديث موصول والشيء بالشيء يذكر، لقد انتشرت بين طلاب المدارس من أبنائنا وبناتنا في هذه الآونة الأخيرة لعبة وثنية أخرى انتشرت انتشار النار في الهشيم، ما يعرف بـ (البوكيمون) التي استحوذت على شريحة كبيرة من الطلاب والطالبات، فأسرت قلوبهم وأصبحت شغلهم الشاغل، ينفقون ما لديهم من نقود في شراء بطاقاتها التي تتراوح من عشرة ريالات إلى ستمائة ريال، وبعضها يصل إلى ألفين وثلاثة للكرت الواحد، يقضون به معظم أوقاتهم في متابعات تطوراتها، والبحث عن جديدها في كل مكان، ولرواجها وشدة الإقبال عليها، حتى وصل الأمر لإقامة مباريات لهذه البطاقات، يتنافس فيها عدد كبير من الطلاب لكسب المزيد منها.
والأدهى من ذلك أن عدداً ليس بالقليل من الآباء والأمهات أصبح مهتماً بتطورات هذه اللعبة، ولا يبخل على أبنائه بتقديم الدعم والمساندة، بل أصبحت هذه الكروت مجالاً للثواب والعقاب للأطفال، فربما أعطوها تشجيعاً وتحفيزاً على شيء يريده الأبوان، أو منعوا منها عقوبة على شيء لا يريده الأبوان، وهكذا.
وهذه القضية قضية خطيرة، والسبب في ذلك -يا عباد الله- أننا يجب ألا نكون مغفلين، وأن نرجع إلى أصول الأشياء، ونعرف ما رواء الأكمة.
وما هو الأصل في القضية؟ شيء خرافي وثني لأحد اليابانيين المهتمين بجمع أنواع الحشرات، لما تخيل فكرة أن العالم سيغزوه عدد هائل من الحشرات والحيوانات الغريبة القادمة من الفضاء، ثم تتطور ودخل في نظرية النشوء والارتقاء والتطور للكافر الهالك حول هذه المسألة، وركب منها ذلك الشكل والصورة في حيوان في رأس واحد، قد يتطور ويصبح له ثلاثة رءوس وقد يخرج يداً أو رجلاً وأيدٍ وأرجل.
ثم في مرحلة من المراحل تتلقف هذه الفكرة شركة عالمية مشهورة جداً في قضية الألعاب وما يسمى بالترفيه، عملاقة من تندو لتتبنى الفكرة وتطورها وتستقطب لها عدداً كبيراً من المصممين والرسامين، ليقوموا برسم نماذج هذه اللعبة وتطوير هذه القضية، وقد فرضوا جواً من التعتم في البداية حتى أخرجوها بحملة إعلانية رهيبة انتشرت في العالم انتشار النار في الهشيم، وحقق أولئك البوذيون من ورائها أرباحاً خيالية، بملايين الدولارات، وأصبح للعبة مطويات ومطبوعات ودوريات وأشرطة فيديو تبثها محطات عالمية، وتستقبلها شبكات الإنترنت وغيرها.(132/13)
فيما يكمن خطر لعبة البوكيمون
هكذا جعلوها لعبة بين اثنين، يستخدم فيها الزهر والأوسمة، ولها طاولة معينة، والقضية خطيرة من عدة جهات: أولاً: شيء يقدح في العقيدة تمام القدح، ويصادمها كل المصادمة، عندما تسوق فكرة مخلوق له قدرات خارقة، لا تكون إلا لله عز وجل من سياق الريح، وإحراق الأشياء بالمساحات الواسعة، وإحياء الموتى، ونحو ذلك من القدرات التي ينطوي عليها هذا المخلوق العجيب والغريب، وهكذا يتصور بعض الأطفال أنها حقيقة، وأنهم يستمدون قوة من هذا المخلوق أو من هذا الشكل، حتى إن مدِّرسة مرت بطالبة وهي تكتب جواباً في الاختبار فأثنت على إجاباتها تشجيعاً لها، فقالت الطالبة: طبعاً لأن معي بوكيمون.
وهكذا صار الأطفال يتصورن بأن بإمكانهم حيازة قدرات كبيرة حتى في الإجابة في الامتحانات من رواء ذلك المصدر، وهو هذه الشخصية التي صارت موجودة يميل إليها الأطفال، إنه غزو في الصميم واستنزاف لأموال الآباء والأمهات.
ثانياً: بعض بطاقاتها النادرة تصل قيمها إلى مبالغ ضخمة جداً، وبعد ذلك خطر القمار والميسر الذي ذكره الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] ولا تجد صعوبة ليعترف لك الأطفال وهم يلعبون بها أنهم يلعبون قماراً، بل قد وجد أحد الدعاة إلى الله أطفالاً عند مدخل أحد المساجد يلعبون بها، فقال: ما هذا؟ فقالوا: نلعب قماراً، هكذا بالصراحة المتناهية، ويأخذ بعضهم بطاقات بعض إذا كسب اللعبة، وصارت المسألة فيها محلات وإقبال على هذه القضية، وفكرة الحظ الموجودة في القمار والميسر موجودة في هذه اللعبة بلا شك.
ثالثاً: أن هذه الكلمة والصورة والكتابة التي هي شعائر لرموز دينية خطر آخر موجود في هذه اللعبة، التي فيها رسمة النجمة السداسية، وأنتم تعلمون رمز من، وكذلك فيها صلبان، ومثلثات وزوايا، وهي رموز لها مدلولات في الحركات الباطنية السرية العالمية، وهكذا رموز من المعتقد الشنتوي، عقيدة اليابان البوذيين.
أيها المسمون: إنها مشكلة أخرى في غمرة لهو الآباء والأمهات وانشغالهم عن تتبع الخطر الذي يدخل على الأولاد وعدم وجود أو قلة البدائل الشرعية -أيضاً- التي تعطى للأطفال، وهذه القلة في البدائل الشرعية التي لم يطور هؤلاء المسلمون أشياء للأطفال تنافس تلك، لكن بدون محذورات شرعية.
رابعاً: أيضاً مما زاد المسألة خطورة وزاد هذه الأشياء انتشاراً، ثم إن لهذه اللعبة دعايات عالمية ضخمة ومنتشرة في مجلات وقنوات وشبكات، بحيث صارت هذه اللعبة فعلاً محط اهتمام أطفال المسلمين ذكوراً وإناثاً.(132/14)
دور المسلم نحو لعبة البوكيمون
أيها الإخوة: إن مثل هذه اللعبة بسرعة تخرج وتختفي، لتظهر قضية أخرى، وثالثة، ورابعة، والمشكلة في اللب، والقضية أن المحور في هذه الأمور المصادمة للعقيدة، والمصادمة للأحكام الشرعية التي تنتشر حتى بين الأطفال من الذكور والإناث.
ما هو دورنا إذاً؟ التوعية والدعوة، تجريد التوحيد، محاربة الشرك وأشكال الوثنية، والدعوة إلى نبذ هذه المقامرات وفكرة القمار والميسر الموجودة في ألعابٍ كثيرة، وبعض الأولاد يلعبون اللعبة المذكورة بالنقود، وهكذا.
إذاً: يجب أن يكون لدينا وعي كاف وإدراك بشأن هذه المخاطر، وأن نربي أولادنا فعلاً على دين مستقيم، وعلى توحيد وعقيدة صحيحة، وأن نحارب كل هذه المحرمات، ولست أعني هذا الاسم فقط، هناك أشياء كثيرة في الألعاب الإلكترونية وغيرها، والمقصود: أين رقابة الآباء والأمهات، على الأولاد؟ أين التربية؟ أين التوجيه؟ أين المتابعة؟ أيها الإخوة: إننا في عصر فتن ولا شك، والقابض على دينه، كالقابض على الجمر.
فاتقوا الله في أولادكم الذين قال الله لكم في شأنهم: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
يا عباد الله: اتقوا الله، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، واتقوا عذاب الله، واعلموا أنكم ملاقوه، وأنه محاسبكم عما عملتم، فاجعلوا أعمالكم في رضاه، واجتنبوا أسباب سخطه، واحذروا معصيته.
اللهم إن نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم ارزقنا إيماناً قويماً نتبع به دينك يا رب العالمين، اللهم ارزقنا الطريق القويم الذي نتبع فيه دنيك يا رب العالمين، اللهم إن نسألك أن تجنبنا المحرمات، والمنكرات والفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم إن نسألك النصر للمجاهدين، والخذلان لليهود وأعداء الدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(132/15)
دروس من فتنة المسيح الدجال [1، 2]
فتنة المسيح الدجال أعظم فتنة على وجه الأرض، وما من نبي إلا وقد حذر أمته من فتنته، وقد وردت في السنة النبوية أحاديث كثيرة تتحدث عن هذه الفتنة وعن صفات المسيح الدجال، وما الذي يجب على المسلمين أن يعملوه لئلا يقعوا فيها.(133/1)
وقفات قبل الشروع في أحاديث الفتن
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: موضوعنا بعنوان: (دروس من فتنة المسيح الدجال)، ولا بد من التقديم بمقدمة قبل الشروع في هذا الدرس؛ لتجلية بعض الأمور التي قد تسبب إشكالات في الأذهان.(133/2)
الإيمان بالغيب
أولاً: نحن مؤمنون، ومعنى ذلك: أننا نسلم بكل ما جاء في القرآن والسنة من الأمور التي ذكرت والتفاصيل التي وضحت، والله قد امتدح المؤمنين بصفة مهمة في أول سورة البقرة، وهي قوله عز وجل: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] ولذلك فإن كثيراً من الناس الذين لديهم نوع من الشك أو الريبة عندما يمرون بالأحاديث والآيات التي تذكر أموراً مستقبلية ستقع؛ فإنهم يشكون في ذلك وبعضهم قد يعترض على ذلك، أو يتجه بسهام التأويل والتحريف لبعض الأشياء المذكورة في القرآن والسنة، وهذا أمر مناف للإيمان، وليس من منهج المؤمن أبداً أنه يعمد إلى هذه التفاصيل الموجودة في القرآن والسنة فيغير فيها بزعمه، أو يكذبها وينفيها مثلاً؛ لأنها تخالف عقله، أو لأنه يراها غير واقعية بزعمه.
ولذلك فإنه لا بد من الإيمان الكامل والجازم بكل ما ثبت لدينا مما ورد من كلام ربنا سبحانه وتعالى، وفي سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.(133/3)
فوائد الابتلاءات
اعلموا رحمكم الله أن الله عز وجل جعل من سنته أن يبتلي الناس ليظهر المؤمن من الكافر، ويتبين المسلم الحق من المرتاب الشاك، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى ينزل بالعباد فتناً ليتميز أهل الجنة من أهل النار، بل حتى يتميز المسلمون في مدى إسلامهم، ويتميز المؤمنون في مدى إيمانهم، ولذلك فإن هناك آيات عظيمة وفتن كثيرة، وهذه الابتلاءات التي ستنزل بالعباد لها فوائد كثيرة وهي: تمحيص الناس وتبيين من هو على الطريقة السوية، ممن يسير على هوى أو يحذو حذو سبل الشيطان.(133/4)
الإنزال على الواقع وأحاديث الفتن
ليس من الصحيح أن يعمد بعض الناس إلى أحاديث الفتن فينظرون إلى الواقع، ثم يفسرون هذه الأحاديث بحسب الواقع، وهذا يحدث كثيراً بين الناس! فإذا رأى حديثاً من أحاديث الفتن، يقول: هذا الحادث الذي وقع الآن وهذه المشكلة الموجودة الآن هي المقصودة بهذه الفتنة، وهي معنى هذه الفتنة، وهو لم يدرس التاريخ الإسلامي، ولم يقرأ أقوال أهل العلم، وربما أن المقصود بهذا الحديث قد وقع وانتهى أصلاً، وربما أن هذا الحديث لما يأتي تأويله بعد، وأن هذا الحديث يُعنى به شيء من الأشياء التي تقع في آخر الزمن، أو شيء من الأشياء التي تقع على أعتاب الساعة، وعند قيام القيامة مثلاً، ولذلك فإن مصدر الحيرة في كثير من التفاسير التي ترد في بعض النصوص من بعض الناس إنما مصدرها: الجهل بكلام أهل العلم، وعدم تنزيل هذه الأحداث منازلها الصحيحة التي بينها أهل العلم بالقرآن والسنة.(133/5)
فائدة دراسة أحاديث الفتن
إن الكلام عن بعض أحاديث الفتن قد يقول بعض الناس: ما هي فائدته؟ ولم ندرس أشياء قد لا تقع في عصرنا؟ ولم نتعرض لتفاصيل بعض الأمور التي لم تحدث في هذا العمر وهذا الزمن الذي نعيش فيه؟ فنقول: إن لهذه الأشياء فوائد، فمن ذلك أولاً: أن الإيمان بالغيب من صفات المسلم، وهذه من أمور الغيب.
ثانياً: افرض أننا مثلاً سنتعرض الآن لحديث الدجال، هب أن إنساناً قال: إنني أكاد أجزم بأن الدجال لن يقوم، ولن يظهر في هذا الزمن، فنقول: إن في ذكر حديث الدجال تعليم هام للأمة، وفي بيان مواقف الناس من الدجال عندما يظهر فيها أسوة لنا، وفيها عبرة لنا نحن، ونحن نعيش في هذا العصر، كيف نواجه الفتن، لأن الفتن كثيرة، منها فتنة الدجال، وفتنة دجاجلة آخرين قد يظهرون في هذا الزمن، صحيح أنهم ليسوا هم الدجال الأكبر، لكن في بيان الموقف من الدجال الأكبر درس لنا في كيفية الموقف الصحيح أمام الدجاجلة الذين يظهرون، ثم كيف ستتعلم الأجيال القادمة التي سيظهر فيها الدجال الموقف الصحيح إذا لم تنقل روايات مثل الدجال عبر جيلنا نحن؟ وكيف ستتربى الأجيال على الثبات أمام الدجال إذا لم نعلم نحن الجيل الذي نعيش فيه والجيل الذي سيلينا، بحيث تنقل هذه المواقف لذاك الجيل الذي سيظهر فيه الدجال مثلاً؟ هذا مع العلم بأننا لا نستطيع أن نجزم (100%) أن الدجال لن يظهر في عصرنا، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن حساسية المؤمن ودقة شعوره وخوفه من الله عز وجل، تجعله ينظر فعلاً برهبة لمثل هذه الأحاديث التي فيها ذكر الدجال وما في معناه، أو ذكر الدجال وما حول الدجال من الفتن الأخرى، ونضرب على ذلك مثالاً: الرسول صلى الله عليه وسلم خرج مرة، فرأى غيماً في السماء، فدخل وخرج فزعاً وهو يقول: (يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب) مثلما حصل لقوم عاد مثلاً، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس، ولكن مع ذلك يدخل ويخرج خوفاً من أن يكون فيه عذاب.
مثلاً الرسول صلى الله عليه وسلم خرج مرة فزعاً يخشى أن تكون الساعة قد قامت، وقد يقول قائل: بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الساعة قرون متطاولة، وأحداث كثيرة وما حصلت بعد! فلماذا فزع؟
الجواب
لأن الفزع من مثل هذه الفتن من صفات المؤمنين والتي تدلل على خوفهم من الله عز وجل فعلاً وعلى قوة إيمانهم.
كما إن دراسة موضوع الدجال -مثلاً- يعطينا طعماً خاصاً في الدعاء الذي ندعو به في آخر صلاتنا قبل السلام، وهو التعوذ من فتنة المسيح الدجال، وإنني أقول لكم بالتأكيد: إن شعور كل واحد منا، وهو يدعو بهذا الدعاء بعد أن يمر باستعراض فتنة الدجال، لا يختلف تماماً عن شعوره وهو يتلو هذا الدعاء قبل أن يتعرف على فتنة الدجال، وذلك لأن الإنسان كلما عاين وتبصر أكثر، كلما تعلم أكثر، وكلما طعم هذه لنصوص أكثر وأكثر، كلما تبين له عظم الخطر، ودائماً الأشياء التي لم تظهر مؤشراتها بعد تكون عند الناس غريبة ومستبعدة، ويقولون لك: هذه مستحيلة، ولا يمكن أن تحصل؛ لأن مؤشراتها لم تقع، ولذلك لو أنك قلت لواحد من الناس الآن: ما هو إحساسك بالموت؟ فإذا لم يكن عنده مثلاً مرض قاتل أو كان مصاباً بحادث يشرف على الموت، أو محكوم عليه بالإعدام، أو سيدخل حرباً من الحروب، فإنه سيقول لك: لا أشعر برهبة الموت؛ لأنه ليس عنده مؤشرات، بخلاف الشخص الذي يكون على أعتاب الموت مثلاً، فإنه من إحساسه بالموت سيكون مختلف، ولذلك فإن المؤمن -الإيمان فعلاً- هو الذي يستشعر أن المسألة قريبة رغم أن مؤشراتها لم تظهر، وهو الذي يشعر أن الموت قريب مع أنه ليس لديه أي مؤشرات تنبئه بالموت.(133/6)
فائدة التحذير من الفتن على فترات
إن مما نحتاجه أيضاً في بيان هذه الأمور أو بيان أمر الدجال: أن نعلم أن التحذير من الدجال كان على فترات، فمثلا: ً حذر الأنبياء أممهم من الدجال، حتى نوح حذر أمته من الدجال، ولم يكن يعلم نوح أن المسيح سيقتل الدجال، مع أن المسيح ظهر بعد نوح، فلم يعلم نوح بظهوره.
فلذلك كان تحذيره لأمته من الدجال أمراً نافعاً وصحيحاً، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكتمل عنده العلم بالدجال في أول الأمر؛ ولذلك كان يظن الدجال هو ابن صياد، ولكن ابن صياد هو دجال من الدجاجلة، وليس هو الدجال الأكبر.
ثم إن العلم بتفاصيل الدجال لم تكتمل حتى عند الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الأمر، فلذلك أخبر الصحابة بأخبار الدجال على مراحل، ولذلك فإن استقبال الصحابة للأمر سيختلف عن استقبالنا نحن الذين نستعرض أحاديث الدجال واحد وراء الآخر، هكذا تباعاً بحيث أن الأمر يبدو لدينا رهيباً، وقد يبدو لبعضنا مسألة مستبعدة، وقد يبدو لبعض الشاكين شيئاً غير معقول ولا يمكن حصوله.
ولذلك كان الصحابة يتلقون نصوص الشريعة على فترات، وكانوا يأخذون الإيمان قبل أن يأخذوا العلم، ولذلك نزل العلم في قلوبهم موقعاً حسناً، بخلاف بعضنا الآن فإنه قد تأتي عليه النصوص الشرعية وليس عنده إيمان قوي، فقد يرفض هذه النصوص، وهذا ما سيتبين لبعضكم من خلال استعراض تفاصيل هذه المحنة العظيمة، وهذه البلية الكبيرة، التي ستنزل ولا شك.
ولا بد أن نقول: إن الفتن تعلم المسلم كيف سيتصرف، وإن هذه الفتنة الكبيرة التي قد لا تحدث لنا، تعلمنا كيف نتصرف في مواقع الفتن الأخرى، وأحاديث الفتن لها فائدة، مثلاً: بعض الصحابة كان قاعداً لا يقاتل في الفتنة التي حدثت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، لكن لما قتلت إحدى الطائفتين عماراً، وكان هناك صحابي يعلم أن عماراً تقتله الفئة الباغية بعلمه بأحاديث الفتنة المتعلق بـ عمار، اتخذ الصحابي موقفه بأن انتقل إلى الفئة الأخرى التي لم تقتل عماراً، لأنه ظهر له الحق.
ولذلك العلم بأحاديث الفتن فيها فوائد كثيرة، أما موضوع الدجال فإن الكلام سيتعرض لبيان أصل هذا الرجل، وهل كان موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ ومتى يخرج؟ وما سبب خروجه؟ ومن أين يخرج؟ وما هي صفته؟ وما الذي يدعيه؟ وماذا سيظهر عند خروجه من الفتن والتي بسببها يكثر أتباعه؟ ومتى يهلك؟ ومن الذي يقتله؟ إلى غير ذلك من الأحداث التي ستتبين إن شاء الله خلال هذا الموضوع.(133/7)
خروج الدجال من علامات الساعة الكبرى
أما المسيح الدجال، فإنه سمي بالمسيح لأنه ممسوح العين، وهذه التسمية مشتقة من اسم المفعول أي الممسوح، بخلاف المسيح بن مريم الذي اشتق اسمه من اسم الفاعل الماسح، لأنه كان يمسح على المريض فيبرأ، أما الدجال فهو مشتق من اسم المفعول، لأنه ممسوح العين، وقيل لأن دجل معناها: غطى وموه، ولذلك يقول: دجل الإناء بالذهب أي: غطاه، وذلك لأن هذا الدجال سيغطي الأرض بكفره، وقيل لأنه سيشمل الأرض ويغطيها برحلته الطويلة التي سيقطعها في زمن قصير، وأما عن الدجال كشرط من أشراط الساعة فإنه واقع ولا بد، وقد أخبر صلى لله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن الساعة لا تقوم حتى تكون عشر آيات: (الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس وثلاثة خسوف) إلى آخر الحديث.
فالدجال إذاً ظهوره من أشراط الساعة، وأشراط الساعة منها كبرى ومنها صغرى، وأشراط الساعة ابتدأت بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن أول أشراط الساعة الصغرى هو وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهناك علامات كبرى عشرة، ومنها الدجال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفس إيمانها إن لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض) فإذا لم يكن الناس في ذاك الزمن مؤمنين ومستعدين لخروجه؛ فإنه لا ينفع إيمانهم إذا خرج ذاك الدجال من الفتن التي تقع منه، وهذا الحديث يشير إلى آية موجودة في كتاب الله وهي قوله عز وجل: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158] فالمقصود بقوله تعالى: {بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} منها: الدجال، وهذا الذي يجاب به عن بعض الناس الذين يقولون: لماذا لم يذكر الدجال في القرآن؟ فنقول: إنه قد ذكر ضمناً وهناك آيات أخرى.
وكذلك حذر الرسول صلى الله عليه سلم الأمة وقال: (بادروا بالأعمال ست، وذكر منها: الدجال) أي: انتهزوا الفرصة في الأعمال الصالحة قبل أن يظهر الدجال، فقد لا تستطيعون عمل أي شيء إذا ظهر.(133/8)
الدجال أكبر فتنة في الأرض
واعلموا -أيها الإخوة- أن الدجال هو أكبر فتنة موجودة على ظهر الأرض على الإطلاق، وقد روى أحاديث الدجال عدد من العلماء، ومن أوسع من روى له الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، والإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده، وكثير من الأحاديث التي وردت في الدجال صحيحة وثابتة، وهذا هو ما سنعتمد عليه إن شاء الله في خلال هذا البحث: (ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال) وفي رواية: (أمر أكبر من الدجال) من خلق آدم إلى قيام الساعة لا توجد فتنة أكبر من الدجال على الإطلاق.
وقد روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال، فقال: إني لأنذركموه، وما من نبي إلا أنذر قومه، ولكني سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه: إنه أعور وإن الله ليس بأعور) وقال عليه الصلاة والسلام: (إني لأنذركموه، وما من نبي إلا أنذره قومه، ولقد أنذره نوح قومه، ولكني سأقول فيه قولاً لم يقله نبي لقومه: تعملون أنه أعور وأن الله ليس بأعور).
وقال عليه الصلاة والسلام: (غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم) معناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتوقع أنه سيخرج وهو فيهم، وإذا خرج الدجال والرسول صلى الله عليه وسلم موجود؛ كان الرسول عليه الصلاة والسلام سيتولى محاجة الدجال وإفحامه، وإقامة الحجة عليه، وتبيين باطله من دون الأمة.
ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه) معناه كل واحد سيتولى المدافعة وإقامة الحجة بنفسه، ودفع شر الدجال عن نفسه بنفسه، وذلك بأن يكذب الدجال، وأن يلقي نفسه في النار التي مع الدجال، كما سيرد في شأن هذا الدجال.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وإن يخرج ولست فيكم، فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم) أي: أن الله سبحانه ولي كل مسلم، وحافظ كل مسلم، ومعين كل مسلم على هذه الفتنة.
ثم قال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (أما فتنة الدجال فإنه لم يكن نبي إلا قد حذر، وسأحذركموه بحديث لم يحذره نبي أمته) فإذاً درس لنا، أن الدعاة إلى الله عز وجل ينبغي أن يحذروا الناس من الفتن، وينبغي أن يصفوا للناس الفتن، وينبغي أن يعلموا الناس كيف يكون موقفهم من الفتن.
فإذاً مهمة الدعاة إلى الله عز وجل، أن يحذروا الناس من الشر، وأن يبينوا لهم ما هو الشر، وكيف يكون الموقف، وكيف يحذر من هذا الشر؟(133/9)
أحداث ما قبل الدجال
أما عن الأحداث التي ستكون قبل خروج الدجال فإنها كثيرة، قال عليه الصلاة والسلام: (تغزون جزيرة العرب، فيفتحها الله، ثم تغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحها الله) أي المكان الذي فيه الدجال، أو القوم الذين معه، وقال صلى الله عليه وسلم: (عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال) هذه أزواج من الأشياء فكل واحد مرتبط بالثاني، لكن يحتمل أن يكون بين كل زوج والزوج الذي بعده فترة زمنية طويلة.
فإذا عُمِّر بيت المقدس بالمال والرجال والعقار واتسع بناؤه وزاد عن الحد المعروف، فإن ذلك سيكون سبباً في خراب يثرب، ومعنى ذلك أن الكفار سيستولون على يثرب ويكون لهم صولة بحيث يحدث خراب فيها.
وإذا حدث عمران بيت المقدس وخراب يثرب؛ فإنه سيكون بعد ذلك خروج الملحمة، وهي الحرب العظيمة التي ستكون بين المسلمين والنصارى، وهي الموقعة التي ستكون بين أهل الشام والروم، كما ذكر شراح الحديث.
وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وسيعقب ذلك فتح القسطنطينية التي هي من مدن الكفار، وسيعقب ذلك خروج الدجال، وكل واحد من هذه الأمور أمارة لما يقع بعده.(133/10)
وقوع فتن الأحلاس والسراء الدهمياء
وقال عليه الصلاة والسلام: (فتنة الأحلاس هرب وحرب) هرب: لأن الناس سيهربون منها من القتل والعداوة، والحَرَبْ: هو نهب الأموال، وقتل الأهل بحيث لا يبقى لأحد مال ولا أهل.
(ثم فتنة السراء دخنها) السراء أي: النعمة والرخاء والصحة والعافية، وهي: المعاصي التي تقع بسبب الصحة والعافية.
(دخنها من تحت قدم من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني، وإنما أوليائي المتقون، ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع) والورك هو: أعلى الفخذ، والضلع معروف والمقصود: أن الناس سيصطلحون على رجل يبايعونه ويملكونه عليهم، ولا يصلح لأن يكون ملكاً؛ لأنه جاهل ولم تستقم له الأمور، ولكن هذا الذي سيحدث.
(كورك على ضلع) يعني: كما أن هذا الورك كبير لا يثبت على الضلع؛ لأن الضلع دقيق، فكذلك لن يثبت أمر هذا الرجل ولن يكون مناسباً نظراً لجهله.
(ثم فتنة الدهيماء) الدهيماء أي: العظيمة الكبيرة.
(لا تدع أحداً من هذه الأمة إلا لطمته لطمة، فإذا قيل انقضت تمادت وزادت، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، حتى يصير الناس إلى فسطاطين، فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه) فيكون نتيجة التدافع بين الحق والباطل، ونتيجة معترك الأمور وقيام الأحداث بين أهل الحق وأهل الباطل؛ أن يتميز أهل الحق عن أهل الباطل، وهذه من فوائد التدافع الذي ذكره الله عز وجل في كتابه: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الحج:40].
(فإذا كان ذاكم) إذا حصل تميز الناس إلى الفسطاطين، فانتظروا الدجال من يومه أو من غده، وهذه فتن تقع قبل الدجال.
ومرة أخرى نقول: لا يصلح لأحد الآن أن يقول: أن ما يقع الآن من الأحداث والأشياء التي وقعت وهذه حرب وهروب الناس ونهب الأموال، هذه هي فتنة الأحلاس، ويفسر الحديث بهواه وجهله، لا يجوز ذلك، وإنما نأخذ من الفتن كيف نواجهها، ونتعلم منها دروساً، وقد يمر بنا بعض هذه الفتن، فنعرف الموقف منها، وقد تمر بنا فتن أصغر من الفتن المذكورة بالأحاديث فنعرف كيف نواجهها.
وهذا الحديث يبين لنا أن الصحة والرخاء قد تقع فيها فتن عظمية، ويبين لنا أهمية تميز أهل الإيمان عن أهل النفاق.(133/11)
وقوع الملحمة بين المسلمين والنصارى
ثم صلى الله عليه وسلم حال المسلمين التي سيكونون فيها عند ظهور الدجال، وهذه الحال ستكون عبارة عن حروب بين المسلمين وبين النصارى، وسيكون فيها النصر في النهاية لأهل الإسلام، ثم يظهر الدجال، فقال عليه الصلاة والسلام: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً، فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم، فتنصرون وتغنمون وتسلمون، ثم ترجعون حتى تنزلوا بـ مرج ذي تلول -موضع معين- فيرفع رجل من أهل النصرانية الصليب فيقول: غلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيدقه -أي: يكسر الصليب- فعند ذلك تغدر الروم، وتجمع للملحمة) وزاد بعضهم: (فيثور المسلمون إلى أسلحتهم، فيقتتلون، فيكرم الله تلك العصابة بالشهادة).
أي أنه في آخر الزمان قبيل الدجال سيحصل هناك صلح آمن، ولكن الروم وهم النصارى سيغدرون، وسيقوم رجل يتحدى المسلمين بالصليب، فيقوم أحد المسلمين فيكسره، فتقع بعد ذلك معركة، يكون المسلمين في أول الأمر قلة، فيكرم الله القلة من المسلمين التي تواجه النصارى بالشهادة، ثم بعد ذلك يستعد الفريقان لمعركة كبيرة وملحمة عظمية، يكون فيها النصر للمسلمين.
وقد جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله تفصيل لهذه الموقعة، (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بـ الأعماق أو بـ دابق) وهذا موضع قرب حلب في بلاد الشام، أي يكون هناك موضع الملحمة (فيخرج لهم جيش من المدينة المنورة -من المسلمين- من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا أمام بعض، قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منها نقاتلهم) معنى ذلك: أن المسلمين في السابق قد أخذوا سبياً من الروم، وأن هؤلاء الروم قد أسلموا وانضموا للمسلمين، وأن الروم الآن يقولون: هاتوا أصحابنا وأقرباءنا من الروم الذين أسلموا معكم: (فيقول المسلمون: لا ولله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فيهزم ثلث -من جيش المسلمين- لا يتوب الله عليهم أبداً) لأنهم لم يتوبوا من الفرار من الزحف (ويقتل ثلث) أي من المسلمين (أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث الأخير البلاد ويغنم ولا يفتنون أبداً، فيفتتحون قسطنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون، إذ صاح فيهم الشيطان إن المسيح -أي الدجال- قد خلفكم في أهليكم، يريد إفزاعهم وتخوفيهم، فيخرجون -المسلمين يخرجون إلى جهة خروج الدجال- وذلك باطل -أي: كلام الشيطان هذا باطل- فإذا جاءوا الشام، خرج المسيح الدجال فعلاً، فبينما هم يعدون للقتال -لقتال الدجال بعد أن كانوا قد قاتلوا الروم، وما استطاعوا أن يقتسموا الغنائم- يسوون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم، فأمهم) إلى آخر الحديث.
ثم إنه قد ورد لهذه الغزوة تفاصيل أخرى، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة، ثم قال بيده هكذا، ونحاها نحو الشام، فقال: عدو يجمعون لأهل الإسلام، ويجمع له أهل الإسلام -يقول الراوي عن ابن مسعود الروم تعن؟ ي قال: نعم- وتكون عند ذاكم القتال ردة شديدة، فيشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل).
ثم ملخص الحديث أن هؤلاء الفدائيون من المسلمين الذين يخرجون من جيش المسلمين يقتلون شهداء، ومرة ثانية وثالثة، لأنهم قلة، ثم بعد ذلك ينهد لهم أهل الإسلام، أي: يجتمع أهل الإسلام من الأماكن المختلفة: (فيجعل الله الدائرة على الكفار فيُقتلون) المسلمين يقتلون من الكفار مقتلة لا يرى مثلها (حتى إن الطائر لا يمر بجنباتهم فما يخلفهم حتى يخر ميتاً) بعض السذج من الناس لما قرأ الحديث، قال: هذه إشارة إلى الأسلحة الكيمائية، وهذا من الضلال الذي قلته قبل قليل، وهي تفسير النصوص الشرعية بأشياء من الواقع، وعلى حسب الهوى، وليس بالرجوع إلى كلام أهل العلم (فيتعادوا بنو الأب كانوا مائة، فلا يجد منه -بقي- إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يفرح، أو أي ميراث يقاسم فبينما هم كذلك، إذ سمعوا ببأس هو أكبر من ذلك، فجاءهم الصريخ إن الدجال قد خلفهم في ذراريهم).
فإذاً يكون خروج الدجال بعد معركة كبيرة جداً تحصل بين المسلمين والنصارى (إن الدجال قد خلفهم في ذراريهم، فيرفضون ما في أيديهم من الغنائم، ويقبلون فيبعثون عشرة فوارس طليعة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -طليعة استكشاف عن هذا الدجال-: إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ، أو من خير الفوارس على ظهر الأرض يومئذ).
هذا هو ما سيحدث قبيل خروج الدجال، وهذا يبين أن المسلمين في ذلك الوقت في حركة مدافعة ضد الكفار، وحركة جهادية مستمرة، وأن العداوة بيننا وبين النصارى باقية إلى ذاك الزمان، وأن النصارى سيصالحون المسلمين ثم ينقضون الصلح، ويغدرون بالمسلمين، وأن المسلمين في ذاك الوقت الخلص لن يكتفوا بهزيمة النصارى، وإنما سيواصلون المشوار، وهذا درس في أن جهاد هذه الأمة مستمر إلى قيام الساعة، وأن جهاد هذه الأمة متتابع، وأن المخلصين من المسلمين لا يقفون عند حدٍ معين، ولا يكتفون بتحقيق هدف معين، وإنما لا بد من إكمال المشوار، لاقتلاع الشرك من الأرض {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193].
هم ما اكتفوا بالقضاء على شوكة النصارى، ولما سمعوا بالدجال اتجهوا نحو الدجال ولم يشتغلوا بتقسيم الغنائم، وهذا درس في عدم الانشغال بالدنيا.(133/12)
ثلاث سنوات شداد
ثم إن من الأشياء الأخرى التي ستحدث قبل الدجال قوله صلى الله عليه وسلم: (إن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد يصيب الناس فيها جوع شديد، يأمر الله السماء في السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها، ويأمر الأرض أن تحسب ثلث نباتها، ثم يأمر السماء في السنة الثانية فتحبس ثلثي مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها، ثم يأمر السماء في السنة الثالثة، فتحبس مطرها كله، فلا تقطر قطرة، ويأمر الأرض فتحبس نباتها كله فلا تنبت خضراء، فلا يبقى ذات ظلف إلا هلكت، إلا ما شاء الله، قيل: يا رسول الله فما يعيش الناس في ذلك الزمان؟ قال: التهليل والتكبير والتحميد ويجزء ذلك عليهم مجزءة الطعام) كرامة من الله للمسلمين في ذلك الوقت أن يعيشوا على ذكر الله فقط، وهذا يثبت أن للأذكار قوة في البدن ويدل عليه حديث علي وفاطمة لما اشتكت فاطمة تريد خادماً، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكما على أمر هو خير لكما من خادم؟ إذا أويتما إلى فراشكما تسبحان الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدان ثلاثاً وثلاثين، وتكبران ثلاثاً وثلاثين) فبين أن هذا الذكر فيه فائدة في تقوية البدن، حتى المرأة المسلمة التي تريد خادمة فعليها بالإكثار من ذكر الله عز وجل، ولذلك دل الرسول الله صلى الله عليه وسلم بنته فاطمة على الإكثار من الذكر، وأخبر أن فيه قوة للبدن.(133/13)
صفات الدجال
أما عن صفات الدجال فإن له صفات عامة، فيقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إني حدثتكم عن الدجال حتى خشيت ألا تعقلوا) أي حدثتكم كثيراً عن الدجال حتى خشيت أن ينسي حديثي بعضه بعضاً، أو أنه مع اشتباك الأحداث في أمور الدجال، تلتبس عليكم الأمور فلا تفهموه (فاعقلوا الحديث، وتبصروا فيه) يعني لا يفوتكم فهمه (إن المسيح الدجال رجل قصير) هذه أول صفة.
(أفحج) يعني يمشي مشية معيبة، فيه عرج بسبب تباعد ما بين ساقيه، مثل الرجل الذي بين ساقيه مرض، فهو يسير بهذه المشية المتعرجة.
(جعد) أي أن شعره ليس سبطاً وأملساً وإنما أجعد الشعر.
(مطموس العين، ليست بناتئة لا ظاهرة ولا حجراء -وفي رواية- جحراء -ليست داخلة للداخل وإنما هي مسطحة مع سطح والوجه، لا بارزة ولا داخلة، وهذا لا ينافي أنها ممسوحة كما سيرد- فإن ألبس عليكم -لو ألتبس الأمر عليكم في الدجال- فاعلموا أن ربكم ليس بأعور، وأنكم لن تروا ربكم) يعني سيظهر الدجال ويقول: أنا ربكم ونحن نعلم أننا لن نرى الله في الدنيا فإذاً لو طلع الدجال وقال: أنا ربكم، لا يلتبس عليكم الأمر أيها الناس، فأول شيء أن الله ليس بأعور، وثاني شيء أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا.
فإذاً إذا قال في الدنيا: أنا ربكم فلن تروه لأنكم لم تروا الله حقيقة في الدنيا، فإذاًَ هذا الذي يزعم أنه رب دجال.
ثم قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: (الدجال أعور هجان -أي أبيض- أزهر) وفي رواية (أقمر) أي أبيض أيضاً (كأن رأسه أصل) أي مثل الحية العظيمة، (أشبه الناس بـ عبد العزى بن قطن) وهذا رجل من خزاعة كان في الجاهلية، مات كافراً فشبه لهم الرسول الدجال بـ عبد العزى بن قطن (فإما هلك الهلك) أي إذا هلك الناس الذين سيرونه، فإن ربكم ليس بأعور، ثم قال: (ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية، وأُراني الليلة عند الكعبة في المنام) أُراني أي: أنه رآه في المنام، وكذلك قال: (أما مسيح الضلالة -عكس مسيح الهداية الذي هو المسيح عيسى ابن مريم- فإنه أعور العين، أجلى الجبهة -أي واسع الجبهة شعره منحسر، جبهته عريضة- عريض النحر -مكان الرقبة عريض- فيه دفء أي فيه انحناء).
وقال: (الدجال أعور العين اليسرى، جُفال الشعر) أي شعره أجعد كثيف فليس بالقليل وإنما كثير، وكذلك أخبر عن العلامة المهمة جداً في الدجال وهي العور، فإحدى عينيه ممسوحة تماماً، والعين الأخرى فيها علة يشبهها كأنها (نخاعة في حائط مجصص) (وكأنها عنبة طافية)، كيف تكون العنبة بارزة بين حبات العنب الأخرى، أو كيف تكون العنبة إذا راح ماؤها، كما أن لها لون أخضر كما قال: (كالزجاجة الخضراء) وكذلك فإن على هذه العين لحمة تنبت عليها ظفرة، والظفرة لحمة تنبت من جهة المآقي، من طرف العين الذي من جهة الأنف حتى تغطي جزءاً من عينه.
يريد عليه الصلاة والسلام بهذا الوصف الدقيق ألا تضل الأمة، وأن تعرف الأمة صفة المسيح الدجال، بالإضافة إلى ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (وإن بين عينيه مكتوب كافر، يقرأه كل مؤمن) يقرأ هذا، وفي رواية أخرى: (يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب) أي سواء كان يعرف القراءة والكتابة أو كان أمياً فإن كل المؤمنين يستطيعون أن يقرءوا هذه الحروف التي بين عيني الدجال (ك ف ر) -الألف كانوا في الماضي لا يكتبونها في الخط، ولكن تنطق مثل داود- والكفار يحجبهم الله عنها بحوله وقوته سبحانه وتعالى.(133/14)
مكان خروج الدجال
وأما المكان الذي يخرج منه الدجال، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الدجال يخرج من أرض بالشرق أو بالمشرق، يقال لها خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرّقة، أو المطرقة) فهو جزماً سيخرج من جهة المشرق، ثم ورد تحديد آخر: (إنه خارج خلة بين الشام والعراق -موضع بين الشام والعراق - فعاث يميناً، وعاث شمالاً، يا عباد الله فاثبتوا) ثم ورد أيضاً تحديد آخر: (إن الدجال يخرج من قبل المشرق، من مدينة يقال لها خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوهم المجان المطرّقة).
وقال أيضاً: (يخرج الدجال من يهودية أصبهان، معه سبعون ألفاً من اليهود) قال بعض المؤرخين مثل ياقوت الحموي وغيره: إن هذه المدينة مدينة أصبهان، فيها جزء بناه أصلاً بختنصر لما سبى اليهود وقتلهم ونفى منهم ووضعهم في أصبهان، وبنوا مكاناً لهم يعرف بحارة اليهود، أو حلة اليهود، وهذا الجزء من المدينة في مدينة أصبهان في قطاع خراسان في جهة المشرق، سيخرج منه المسيح الدجال، وهذا فيه تأكيد على ما ذكره عليه الصلاة والسلام أن الفتن ستكون من وجهة المشرق، وجهة المشرق هي جهة العراق وإيران وما وراءهما، فالفتن العظمية ستكون من هذه الجهة.
لذلك أنت لو نظرت إلى فتنة الرافضة وفتنة الخوارج، وما حصل من قدوم التتار من جهة المشرق، وما حصل من الحروب حتى في العصر الحاضر في هذه الجهة، لوجدت أن هذه الجهة بؤرة فتن فعلاً، وأن سكان هذه الجهة يتميزون بحب العنف والدم والثورة والحروب، فلا تزال المشاكل موجودة فيها.
لو تتبعت التاريخ الإسلامي لوجدت أن منطقة خراسان مليئة بالفتن والحروب والمشاكل، وحتى الآن نحن نرى بأعيننا ونسمع مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: (الفتن من جهة المشرق) وسيخرج المسيح الدجال من ذلك المكان.(133/15)
كيفية خروج الدجال
وأما كيف يخرج؟ فإن المسيح الدجال، كما في حديث تميم الداري الذي ورد في صحيح الإمام مسلم أنه محبوس إلى الآن في جزيرة من جزر البحر! وأنه كان حياً على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه رجل عظيم الخلقة رآه تميم الداري ومعه ثلاثون رجلاً وحدثوا الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن سفينتهم قد لعب بها الموج وتعرضت لحادث وألجأهم الموج إلى جزيرة، ولما نزلوا الجزيرة رأوا الجساسة وهي دابة كثيرة الشعر فخاطبتهم وقادتهم إلى الرجل العظيم الموثق بالسلاسل داخل كهف، فدخلوا، فرأوه رجلاً عظيماً موثقاً بالسلال، وصارت هناك محاورة بينه وبينهم، وأخبرهم أنه الدجال وأنه سيخرج من غضبة يغضبها، فتتحطم السلاسل، ويخرج يعيث فساداً في الأرض، ويخرج من جهة المشرق.
وهنا أقول قضية مهمة جداً: بعض ضعاف الإيمان سيقولون: إن الأقمار ما تركت مكاناً في الأرض إلا ومسحته بهذه الأجهزة المعقدة والدقيقة جداً، وأنه لا يمكن أن يوجد دجال وهذا كلام فراغ وكله خرافات، وأنه لو كان موجوداً؛ كان ظهر بالأقمار الصناعية ونحو ذلك.
أقول: إن هؤلاء المساكين المفتونين بالتقدم العلمي ضعاف الإيمان فعلاً، بحيث إنهم جعلوه صنماً، هل فعلاً الآن الحضارة الغربية قد كشفت كل شيء، وكل شبر في الأرض؟ ألا يزال هناك أماكن في اليابسة ما وطئتها قدم حتى الآن؟ أليس هناك مغارات وكهوف لا يدرى ما فيها حتى الآن، أليس هناك أشياء في قاع المحيطات لا يدرى ما هي حتى الآن؟ فلماذا إذاً تقديس وتعظيم التقدم العلمي أو التكنولوجي، لدرجة أن ننسف أحاديث الدجال كما يفعل بعض الناس فعلاً، قالوا: لا موثق ولا موجود، وهذا كلام فارغ، لو كان موجوداً كان ظهر في الأجهزة وعلى الشاشات وفي الرادارات.
وإن هؤلاء الناس مفتونين فعلاً، فيكذبون النصوص الشرعية، والبحث في الأرض ما انتهى، والعلماء لا زالوا يبحثون ويكتشفون أشياء على ظهر الأرض إلى الآن، فالقضية ما انتهت، ثم إن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يعمي عليهم -بأقمار صناعية وغيره- وجود الدجال في جزيرة من جزر البحر وهم ما اكتشفوا كل الجزر ومسحوها.
(فيقول للناس: أنا ربكم) يدعي الربوبية، وهنا فإن المؤمنين يعلمون أن ربهم ليس بأعور، وأن هذا الدجال لو كان رباً لعالج نفسه، ولأذهب العور عن نفسه، ومن المحال أن تقع هذه العيوب ولا يقدر على إزالتها وهو رب.(133/16)
خوارق الدجال وفتنته للناس
إن الله جعل لهذا الدجال إمكانات كثيرة وبسببها تحصل الفتنة ومنها: أنه كما سئل صلى الله عليه وسلم عن إسراع الدجال في الأرض، فقال: (كالغيث استدبرته الريح) هل رأيت غيماً وريحاً تدفعها من الخلف، كيف تكون سرعتها، كذلك تكون سرعة الدجال، ولذلك سيتجول في أقطار الأرض كلها، وقال صلى الله عليه وسلم ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، وقال: (وإنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه، إلا مكة والمدينة) ومن فتنة الدجال: قوله صلى الله عليه وسلم: (معه جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار) وقال: (إن معه ماء وناراً، فناره ماء بارد، وماؤه نار) وقال: (لأنا بما مع الدجال أعلم منه، معه نهران يجريان أحدهما رأي العين، ماء أبيض، والآخر رأي العين نار تأجج، فإما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه ناراً) المسلم لو رأى هذا المشهد ماذا يفعل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فليأت النهر الذي يراه ناراً وليُغمِّض ثم ليطأطئ رأسه -في النار هذه- فيشرب منه، فإنه ماء بارد) لكن من الذي سيفعل؟! (إنه أعور وإنه يجئ معه تمثال الجنة والنار، فالتي يقول إنها الجنة، هي: النار) وقال صلى الله عليه وسلم: (فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق، وأما الذي يراه الناس ناراً فماء بارد عذب، فمن أدرك ذلك منكم، فليقع في الذي يراه ناراً؛ فإنه ماء عذب طيب) ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (يخرج الدجال ومعه نهر ونار، فمن دخل نهره؛ وجب وزره وحط أجره -ضاع الأجر- ومن دخل ناره؛ وجب أجره وحط وزره، ثم إنما هي قيام الساعة).
وكذلك ورد أن معه جبل من خبز وطعام، وأن الدنيا فيها مجاعة وأن الناس سيتبعونه من المجاعة لكي يحصلوا على هذا الطعام الذي عنده، وأن هذه الفتنة لن تضر المؤمنين بإذن الله، وكذلك أخبر أن الجمادات والحيوانات ستستجيب له، قال عليه الصلاة والسلام: (فيأتي على القوم فيدعوهم، فيؤمنون به -أنه هو الله- ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر -بإذن الله طبعاً- والأرض فتنبت -فتخرج الكلأ- فتروح عليهم سارحتهم -ماشيتهم على هؤلاء الناس الذين آمنوا بالدجال- أطول ما كانت ذُراً -قامة وارتفاعاً- وأسبغه ضروعاً -ممتلئة بالحليب- وأمده خواصر -من السمن- ثم يأتي القوم فيدعوهم، فيردون عليه قوله -أي يكفرون به- فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين -قحط- ليس بأيديهم شيء من أموالهم، كله فتنة ليرى من الذي يصبر ويصدق ويؤمن بالله، ومن الذي يكفر ويضل ويفتن- ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل- وراء الدجال- وإن من فتنته، أن يقول -هذا الدجال يستعين بالشياطين- للأعرابي: أريت إن بعثت لك أباك وأمك- أحييت لك أباك وأمك- أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم.
فيتمثل له شيطان في صورة أبيه وأمه لهذا الأعرابي يقول: يا بني اتبعه فإنه ربك).
المشكلة في عوام الناس أنهم سيتابعوه بسبب أن ما عندهم بصيرة وعلم، واحد يحيي له أباه وأمه ويخرجهم، ثم يقولان له: يا بني اتبعه فإنه ربك، العاطفة سوف تأخذه ويتبع الدجال.
وإن من فتنته أيضاً أن يسلط على نفس واحدة (فيقتلها فينشرها بالمنشار حتى تلقى شقين، ثم يقول الدجال للناس: انظروا إلى عبدي هذا، فإني أبعثه ثم يزعم أن له رباً غيري) هذا مسلم مؤمن كما سيمر معنا، فيبعثه الله وليس الدجال، لكن الدجال يري الناس أنه بعثه، وفعلاً يلتئم الشقان: (فيقول الخبيث: من ربك؟ فيقول: ربي الله -لأن هذا مسلم- وأنت عدو الله أنت الدجال) وهنا نأخذ درساً: أن الدجال إذا كان يتعاون مع الشياطين في ذلك الوقت في إضلال الناس، أفلا يكون حري بالدعاة إلى الله عز وجل أن يتعاونوا مع بعضهم لهداية الناس، إذا كان الدجال والشياطين يسخرون قدراتهم وإمكاناتهم مجتمعة، لكي يضلوا الناس، أفلا يكون حري بنا معشر الدعاة إلى الله أن نتعاون معاً وأن نتكاتف معاً وتتعاضد جهودنا معاً لتصب في مصبٍ واحد وهو: هداية الناس إلى الله عز وجل وإلى الطريق المستقيم، يجب أن نتعظ فعلاً، إذا كان هؤلاء الدجاجلة يفعلون هذا، فلماذا نحن لا نسرع للاتحاد والانسجام والتوافق حتى يحدث ذلك؟!(133/17)
أتباع الدجال
أما أتباع الدجال، فإنهم أصناف، قال عليه الصلاة والسلام: (أكثر أتباع الدجال اليهود والنساء) وقال: (ينزل الدجال في هذه السَّبِخة بمر القناة -وادي قرب المدينة - فيكون أكثر من يخرج إليه النساء، حتى إن الرجل ليرجع إلى حميمه وإلى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقها رباطاً مخافة أن تخرج إليه) أي: الرجل العاقل المسلم يذهب إلى نساء أهل بيته يربطهم؛ مخافة أن يخرجن النساء للدجال فيؤمنون به، يقعون في فتنته.
وقال صلى الله عليه وسلم: (يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة) نوع من اللباس على الكتف يجلل البدن كله، إذاً: الدجال يتبعه يهود ويتبعه رجال ونساء لكن النساء أكثر.
ويتبعه كذلك من العجم أقوام كثيرون ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرّقة) المجان: جمع مجن، والمجن: هو الترس، والمطرقة أو المطرّقة هي: صفة لهذه التروس، يعني كأن وجوه الناس الذين يتبعون الدجال عريضة وأنها مكتنزة لحماً، شبهها بهذه التروس، وهؤلاء منهم عجم ومنهم ترك، ولكن منهم من العرب من يفتن ويتبع الدجال.
وهنا -أيها الإخوة- نلاحظ أمراً وهو تواطئ اليهود مع الدجال، الذي جاء على أنه يهودي أيضاً، وهذا يبين أن دور اليهود لا ينتهي إلى قيام الساعة، وأنهم يريدون أن يهيمنوا على العالم ويسيطرون عليه، ولذلك اليهود في عقيدتهم أن الدجال اسمه المسيح بن داود، وأنه يخرج في آخر الزمان، وأنه يرد إليهم الملك.
فينبغي أن نحذر من اليهود في كل عصر ووقت، وأن نعلم أن اليهود هم أعداؤنا دائماً وأبداً، وأن اليهود مثلما وضعوا السم للرسول صلى الله عليه وسلم فمات مسموماً في ذراع الشاة التي قدمها اليهود له؛ فإنه مؤامرتهم على الإسلام لا تنتهي، وأنه سيكون من أواخر مؤامراتهم أنه يخرج منهم فقط سبعون ألفاً يتبعون الدجال، ويقاتلون مع الدجال وهذا شأنهم؛ لأنهم أعداء الله عز وجل، الذين أعرضوا عن دين الله فأضلهم الله سبحانه وتعالى.
وأما من يتبع الدجال فهم الأعراب، وهم عوام الناس، وجهلة الناس، ويدل عليه حديث الأعرابي الذي ذكرنا في إحياء الدجال لأبيه وأمه بقدرة الله عز وجل، وهنا نقف وقفات، فنقول: أولاً: إن النساء لا بد أن يكون لهن نصيب عظيم من الاهتمام بالتربية والتعليم، وأنه نتيجة فشو الجهل في النساء، وغلبة العاطفة عليهن؛ فإنه يحدث منهن انجرافات وانحرافات كثيرة، ولذلك على المرأة المسلمة أن تتقي الله عز وجل، وأن تحرص على تعليم وتربية نفسها على الإسلام، ونحن علينا أن نحرص على نسائنا من أخوات وأمهات وعمات وخالات وجدات إلى آخره من القريبات فنربيهن؛ لأنه بسبب عدم تربية النساء تحصل شرور كثيرة.
ومنها على سبيل المثال: أن تعيش في جهل وغفلة، ولذلك تفتن به، فأول ما يأتي تتابعه، ولكن لا شك أنه سيصمد من النساء كثيرات، وكذلك فإننا نعلم درساً عظيماً من هذه القصة، وهي أن عوام الناس الذين يغلب عليهم الجهل، ويغلب عليهم الغفلة يسهل خداعهم بشكل كبير ولذلك لاحظ الآن أي فتنة تثور وأي واحد يقول: يا أيها الناس هلموا إلي، ويعرض أشياء يضل بها الناس، كثير من العوام يتابعونه، لأن العوام مشكلتهم أنهم لم يتربوا على الإسلام، ولذلك أي فتنة تكون من أكبر أسبابها قيام العوام، ولذلك ينبغي أن يكون للدعاة إلى الله عز وجل تركيز وتوجيه كثيفين نحو العوام؛ لأن العوام إذا لم يضبطوا يحصل بسببهم فتن كثيرة، لاحظ الآن لما حصلت هذه المشكلة الأخيرة، العوام ما هو موقفهم، خوف ذعر، نشر أخبار، وبلبلة وهروب، وتصرفات عشوائية من تحويل العملة وو، فإذاً هذه مشكلة العوام في كل بلد وفي كل زمان، ولذلك يحصل بسبب ثورانهم فتن وقتل وأمور كثيرة من التهاويل، ولذلك لا بد أن يقوم العلماء بواجب الدعوة ليلتف العوام حولهم، ولا بد أن يقوم طلبة العلم والخطباء وأئمة المساجد، والناس الأخيار وأهل الدين والدعاة والمربون والقدوات، ولا بد أن يظهروا بين الناس.
ولكي نضبط العوام لا بد أن يكون هناك قدوات تلتف حولها العوام، ثم لا بد أن يكون هناك تركيز إعلامي إسلامي لتوجيه العوام؛ وضبط العوام، لأن العوام أكثرهم مغفلين فعلاً، ولذلك لا بد من وضع خطط إسلامية لاحتواء العوام وتوجيههم، وتوضيح القدوات للعوام، وتربية العوام على الإسلام، وكلما تربى الشعب أكثر؛ كلما حصل الهدوء والطمأنينة في البلد أكثر.(133/18)
حماية مكة والمدينة من المسيح الدجال
ومن الأمور أن الدجال لن يسمح له بدخول مكة والمدينة، قال صلى الله عليه وسلم: (على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال).
وقال: (لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذٍ سبعة أبواب على كل باب ملكان) وقال: (وإنه يمكث في الأرض ولا يقرب أربعة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، ومسجد الطور).
هناك مدينتان لا يدخلهما: المدينة ومكة، وهناك أربعة مساجد لا يقترب منها الدجال: مسجد مكة أي: الكعبة، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، ومسجد الطور.
وقال عليه الصلاة والسلام: (يأتي المسيح من قبل المشرق، وهمته المدينة، حتى إذا جاء دبر أحد) يعني: خلف جبل أحد وفي رواية -أنه يصعد أحد ويرى من بعيد يقول لمن حوله: أترون القصر الأبيض- يقصد مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم: (حتى إذا جاء دبر أحد تلقته الملائكة فضرب وجهه قبل الشام هناك يهلك -يعني: في الشام -) مرتين قالها صلى الله عليه وسلم.
وقال: (ليس من بلد إلا سيطأه الدجال، إلا مكة والمدينة، وليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة حافين -محيطين- تحرسها، فينزل بـ السبخة) وفي رواية: (فيأتي سبخة الجرف فيضرب رواقه) أي: ينزل ويعسكر هناك مع من معه.
وفي رواية: (حتى ينزل عند الضريب الأحمر -موقع قرب المدينة - عند منقطع السبخة -وهي: الأرض المالحة التي لا تنبت نباتاً- فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، يخرج إليه منها -إلى الدجال- كل كافر ومنافق) أي: المدينة ومكة فيها كفرة وملحدين وتاركين للصلاة ومستهزئين بالدين، والآن مكة والمدينة فيها تراك صلاة بالكلية، وفيها أناس يسبون الدين، وفيها ملاحدة، فإذاً لما يأتي الدجال صح أنه لا يدخل مكة والمدينة، لكن المنافقين والكفار في مكة والمدينة ترجف بهم الأرض فيخرجون إلى الدجال، ولا بد أن يفتنوا؛ لأنهم كفار ومنافقون، ويبقى صلحاء الناس في المدينة ومكة، وهي كالحصن الحصين لا يستطيع الدجال أن يدخلها.
ولذلك جاء في حديث تميم الداري لما وجدوا الدجال موثقاً وحدثوه وحدثهم، قال لهم: (وإني يوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج، فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة، فهما محرمتان علي كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتاً، ممدوداً يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونه) وهذا يعتبر من فضائل مكة والمدينة.
وهذا يقودنا إلى درس مهم، وهو أهمية الأماكن المقدسة في صد أعداء الإسلام، الرسول صلى الله عليه وسلم وضح أن لـ مكة والمدينة مناقب، وأن لها أدوار في صد أعداء الإسلام، ولذلك لا بد من العناية بالأماكن المقدسة وحمايتها وصيانتها عن كل كافر وباغ وعدوٍ وعن كل شر وفتنة، وعن كل شيء مخالف للدين؛ لأن هذه الأماكن المقدسة تلعب أدواراً عظيمة في صد أعداء الله، وإن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها، وإن الإيمان يتردد بين المدينتين بين مكة والمدينة، وإن الحجاز أرض مباركة، بارك الله فيها وجعل الإيمان يأوي إليها، ولذلك فإن الإجرام في مكة والمدينة، ليس كالإجرام في غيرهما من البلدان.(133/19)
مدة مكوث المسيح الدجال في الأرض
أما عن مدة مكوث المسيح الدجال فإنها أربعين يوماً، قال الرسول صلى الله عليه وسلم، لما سئل: ما لبثه في الأرض؟ قال: (أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم).
فإذاً عندنا أول يوم يمر كالسنة، وثاني يوم يمر كالشهر، وثالث يوم يمر كالأسبوع، والأيام الباقية وهي سبعة وثلاثين يوماً مثل أيامنا هذه أربع وعشرين ساعة، كما نحس بها.
أما معنى اليوم كالسنة: أي نحن نمكث في السنة ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، نمكث فترة معينة نحس بها، فذلك اليوم الأول من الأربعين من طلوع الشمس إلى غروبها أو انقضاء اليوم كله يمر مثل السنة في الطول، يعني: يمر بطيء جداً، كمرور السنة.
وهنا انتبه الصحابة إلى مسألة مهمة، وقد كانوا أتقياء يهتمون بأمور العبادات وتصحيح العبادات (قالوا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟) يعني هذا اليوم الطويل جداً جداً، مثل السنة يكفي أن نصلي فيه خمس فروض فقط؟ يعني يصلي الفجر ثم نجلس حتى تعتدل الشمس وسط النهار، أي: نجلس مائة يوم حتى تعتدل، ثم نصلي الظهر، يعني خمسة فروض تكفي، قال صلى الله عليه وسلم: (لا ولكن اقدروا له قدره) أي: انظروا كم بين الفجر والظهر في الأيام العادية، وهذه نقربها لتوضيح المقصود بالحديث، مثلاً: بين الفجر والظهر سبع ساعات مثلاً، إذاً: إذا جاء الفجر، وطلع اليوم الذي ظهر فيه المسيح الدجال، أول يوم الذي هو من الأربعين، اقدروا له قدره، يعني: اجلس بعد الفجر مثلاً سبع ساعات، ثم صلي الظهر، وإن كانت الشمس ما زالت تطلع لأن اليوم طويل جداً مثل السنة، ثم مثلاً بين الظهر والعصر ثلاث ساعات، تجلس ثلاث ساعات وتصلي العصر، وإن كان قرص الشمس ما طلع وهكذا تقدر بين العصر والمغرب، وبين المغرب والعشاء، ويبن العشاء هذا والفجر الذي بعده، ويصلي المسلمون الصلوات بالتقدير في ذلك اليوم الذي يمر في بطئه كالسنة حقيقة لا مجازاً، فالشمس تجري فيه ببطء شديد جداً، انظر نصوص الشريعة في تكاملها عندما نقول: الشريعة تصلح لكل زمان.
استفاد العلماء من هذا الحديث في القطب الشمالي والقطب الجنوبي، مثلاً القطب الشمالي يكون فيه النهار ستة أشهر، والصيف ستة أشهر مثلاً والليل ستة أشهر، افرض أن مسلماً وصل إلى هناك وعاش هناك، أو أسلم أناس في ذلك المكان، كيف يصلي المسلمون في ذلك المكان، وعندهم ستة أشهر نهار وستة أشهر ليل؟ وليس عندهم غروب الشمس وزوال الشمس حتى يعرفون أوقات الصلوات، فكيف يصلي المسلم الذي يعيش في القطب الشمالي؟ لقد أفادنا حديث الدجال كيف نصلي، وذلك بالتقدير، يصلي الفجر أول ما تشرق الشمس، بعدها يصلي الظهر، بعدها يصلي العصر مع أن الشمس ما زالت، ثم يصلي المغرب والعشاء والشمس ما زالت موجودة، فأي واحد في القطب الشمالي يصلي بهذه الطريقة، بأخذ الحكم الشرعي من حديث الدجال، إذاً حديث الدجال أفادنا، فلا يقول أحد: ما لنا وهذه الأحاديث وما لنا علاقة فيها، كلا.
وهنا يظهر -أيها الإخوة- حرص الصحابة على السؤال عن العبادة وتصحيحها، وهو أمر يفوت أكثر الناس الآن، فهل يسأل عن صحة العبادة، وما هي شروطها؟ هل هي صحيحة؟ كيف تصح؟ هذا أمر ينبغي أن نتعلمه نحن.(133/20)
طريق النجاة من الدجال
نأتي بعد ذلك إلى طريق النجاة من الدجال، ما هي طريقة النجاة من الدجال وهو يطلع بهذه الفتن العظيمة.
أول شيء ما هو موقف الناس من الدجال إذا ظهر؟ أولاً: إعداد العدة لحربه كما سيفعل المسلمون في ذلك الزمان.
ثانياً: أن الناس سيتفاوتون، فمنهم من يستطيع الوقوف أمام الدجال ومنهم من لا يستطيع، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (من سمع بالدجال فلينأ عنه -فليبتعد عنه- فو الله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث فيه من الشبهات) أي يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: إذا سمع واحد بالدجال فليهرب منه، يقول: إن الرجل يأتيه ويظن أنه مؤمن، وأنه لا يمكن أن يفتن بالدجال، وأنه يعلم أنه دجال، ولكن من كثرة ما يرى منه من الأشياء يفتن به ويتبعه، وهذا الفرار موجه للناس الذين يعلمون من أنفسهم أنهم لن يصمدوا أما الدجال.
أما إذا هجم الدجال على المسلمين وحاصرهم وهاجمهم وباغتهم، فلا بد أن يصمدوا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (فامرؤ حجيج نفسه) كل واحد مسئول عن نفسه.
ثالثاً: الاستغاثة بالله عز وجل، يقول عليه الصلاة والسلام: (فمن ابتلي بناره، فليستغث بالله).
رابعاً: وليقرأ العشر الآيات الأولى من سورة الكهف، فلا بد من حفظها الآن، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام، قال: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عصم من فتنة الدجال) وأما إذا علم بأنه لن يستطيع الصمود، فإن عليه أن يهرب منه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ليفرن الناس من الدجال في الجبال).
وهنا يوجد درس مهم في قوله عليه الصلاة والسلام: (من سمع بالدجال فلينأ عنه، فو الله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه، مما يبعث فيه من الشبهات) هذا الدرس هو: إذا حصلت شبهات أو شهوات؛ فإن على الإنسان أن يبتعد عن الشبهات والشهوات؛ لأن هناك بعض الناس يقولون: لا نريد أن نتحدث، أعطني الآن أسوء مكان أنا مستعد أذهب إليه، بعض الناس عندهم غرور، فتجده يقول: أنا لا أتأثر بأفسق موسيقى موجودة، هات أنا مستعد أسمعها من أولها إلى آخرها وما أتأثر، فبعض الناس عندهم هذه النفسية، أو يقول: أرني أجمل امرأة موجودة وأنا لن أفتن، أنا أعرف نفسي أنني قوي الإيمان، ولا تؤثر فيني هذه المرأة، أو يقول: هات أسوء فلم موجود، أنا مستعد أراه وإيماني لا يتزلزل، وأنا قوي، ولذلك هذا الحديث يعلمنا حقيقة، أن الإنسان المسلم ينبغي أن يبتعد عن مواطن الشبهات والشهوات، وألا يقول: أنا أذهب وأصمد، لا.
لا تذهب أصلاً، ولذلك بعض الناس يقول: ما فيها بلاد الكفار، أنا مستعد أذهب إلى هناك وأدخل أكبر خمارة، وأكبر بيت دعارة، وأنا مستعد أرجع وأبقى مسلماً، فنقول له: يا مسكين، تضمن نفسك، تظن أنك ملكت هداية نفسك وأنه لا يمكن لأحد أن يضلك، ولذلك الله عز وجل أمرنا بالابتعاد عن أسباب الفتن، وما قال يا أيها الناس امتحنوا أنفسكم وادخلوا في الفتن، هذا ما هو مأمور به أبداً، ما قال يا أيها المسلم: اخلُ بأجمل امرأة في الدنيا واختبر نفسك، هذا منطق شيطاني أعوج لا يمكن للمسلم الحق أن يقبل بهذا أبداً.
وأما إن كان مع المسلمين الذين سيكون لهم إمام وهو المهدي الخليفة العادل، الذي سيظهر؛ فإن على المسلمين في ذاك الزمان أن يكونوا معه، وأن يلوذوا به، وهكذا.
ثم إنه ينبغي أن نعلم أولادنا العشر الآيات الأولى من سورة الكهف التي تعصم من الدجال، وقيل السبب أن هذه الطليعة من السورة فيها ذكر أن الله أمن فتية أهل الكهف من الطاغية الجبار الذي أراد أن يبطش بهم، فأنقذهم منه، فبقيام الإنسان المسلم بحفظه لهذه الآيات، ومعرفة معناها، سيستطيع أن ينجو من الطاغية، وهو الدجال؛ وقيل لأن في هذه العشر الآيات من العجائب والآيات التي إذا وقرت في قلب المؤمن جعلته لا يفتن بالدجال ولا يستغرب منه، لأنه عندما يرى قصة أهل الكهف وكيف نجو؛ فإنه يتذكرها عند مقابلته للدجال.
خامساً: من وسائل العصمة من الدجال: اللجوء إلى أحد الحرمين الشريفين والاعتصام بهما؛ لأن الدجال لا يمكن أن يدخل مكة والمدينة.
سادساً: من الوسائل كذلك وهذا مهم لنا أيضاً: الاستعاذة بالله من فتنة الدجال في الصلاة، فنحن نقول نحن في التشهد قبل السلام: اللهم إنا نعوذ بك من عذاب النار، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال.
أمرنا بالاستعاذة من فتنة الدجال ولا ندري متى سيظهر.
وقد كان طاوس رحمه الله -وهو من علماء السلف - يأمر ولده بإعادة الصلاة إذا ما استعاذ من هذه الأربع ومنها فتنة المسيح الدجال؛ حرصاً من السلف على تربية أولادهم، وتعليمهم على الاستعاذة من فتنة الدجال.
سابعاً: معرفة أسماء الله وصفاته؛ لأن الدجال أعور والله ليس بأعور، إن الله سميع بصير، ليس كمثله شيء، والله سبحانه وتعالى جميل ليس فيه عيب، قدوس منزه عن العيوب والنقائص، من يدرك هذا الأمر الذي وقر في نفسه توحيد الأسماء والصفات نجا، ولذلك سيحرم المعتزلة والجهمية من النجاة من الدجال، وغيرهم من الناس المنحرفين في الأسماء والصفات.
ثامناً: وكذلك تبيين أمر الدجال للناس من أسباب الوقاية منه، وهذا ما ينبغي أن يقوم به العلماء وطلبة العلم والخطباء وغيرهم، والرسول صلى الله عليه وسلم ما قال: الدجال لم يأت للناس الآن في عهدي، فلا أذكر به، وإنما قام وذكر به في عدة مجالات.
وكذلك تربية الأولاد والنساء والرجال عموماً، وتوعيتهم بهذا، فإنه قد ورد في حديث صححه الهيثمي في مجمع الزوائد: (لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره) أي لا تجد أحداً يذكره ولا يتعرض له، ويترك الأئمة ذكره على المنابر.
إذاً: يظهر الدجال في وقت عم فيه الجهل، حتى إذا صار لا يذكر بفتنة الدجال أصلاً، ولا يطرأ ذكره على المنابر، فعند ذلك يظهر الدجال.(133/21)
شاب مؤمن يقف أمام الدجال
وهناك مقابلة عظيمة جداً ينبغي الوقوف عندها طويلاً، وهي مقابلة شاب من أهل المدينة للدجال وحدوث مواجهة عنيفة جداً، وقيمة جداً وجميلة جداً نقلها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي الدجال وهو محرم عليه من أن يدخل المدينة، فينزل بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذٍ رجل هو من خير الناس، فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه، فيقول الدجال للناس الذين معه: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته، هل تشكون في الأمر؟ فيقولون: لا.
فيقتله، ثم يحييه، وفي رواية: فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض -بين الشقين مسافة رمية السهم- ثم يدعوه فيقبل يتهلل وجهه -يضحك هذا الشاب، يعني: يحييه الله- فيقول الشاب للدجال: والله ما كنت فيك قط أشد بصيرة مني اليوم) لأن الشاب هذا يعلم بأن الدجال سيشقه نصفين، فلما وقع وشقه نصفين وأعاده، علم الشاب أن هذا هو الدجال، بينما الذين مع الدجال حصل لهم زيادة فتنة، قالوا: هذا هو ربنا، يحي الموتى.
وروى مسلم في صحيحه أيضاً: (يخرج الدجال، فيتوجه قبله رجل من المؤمنين، فتلقاه مسالح الدجال -أي: خفراء وحراس وأعوان الدجال فيمسكونه- فيقولون له أين تعمد؟ فيقول: أعمد إلى هذا الذي خرج، قال فيقولون له هؤلاء المسالح: أو ما تؤمن بربنا؟ فيقول: ما بربنا خفاء، فيقولون: اقتلوه، فيقول بعضهم لبعض: أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحداً دونه؟ -أليس الدجال نهاكم أن تقتلوا أحداً إلا بعد الرجوع والاستشارة- قال: فينطلقون به إلى الدجال.
فإذا رآه المؤمن، قال: يا أيها الناس! -للذين مع الدجال- هذا المسيح الدجال الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فيأمر به الدجال فَيُشبَّحُ -أي: يمد ليضرب هذا الشاب- فيقولوا: خذوه وشجوه، فيوسع ظهره وبطنه ضرباً.
قال: فيقول: أو ما تؤمن بي؟ قال: فيقول: أنت المسيح الكذاب، قال: فيؤمر به فينشر بالمنشار من مفرقه حتى يُفرَّق بين رجليه، قال: ثم يمشي الدجال بين القطعتين.
ثم يقول له: قم، فيستوي قائماً.
ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة.
قال: ثم يقول: يا أيها الناس! إنه لا يفعل بأحد بعدي من الناس -لا يسلط- قال: فيأخذه الدجال ليذبحه، فيُجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نُحاساً فلا يستطيع -أن يذبحه- إليه سبيلاً.
قال: فيأخذ برجليه ويديه فيقذف به إلى النار التي معه، فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار، وإنما ألقي به في الجنة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين) لأنه شهد أنه الدجال أمام الناس ورغم كل ما تعرض له.(133/22)
أهمية العلم الشرعي في الفتن
أيها الإخوة: الدرس العظيم هو: أهمية العلم الشرعي في الفتن، الناس الآن مساكين إذا حصلت فتنة قالوا: ما هو الحق؟ فيذهبون يميناً وشمالاً، ويؤيد أناس هؤلاء ويؤيد أناس آخرون أولئك وأناس تختلط عليهم الأمور، وأناس يتحيرون ويضطربون، فما هو العلاج الفعال في الفتن؟
الجواب
التعلم، ولذلك أوصيكم ونفسي بتعلم العلم الشرعي، فإن هذا الشاب لولا لم يكن عنده علم مسبق بصفة الدجال، ما كان سيكتشف الدجال فالآن هذه الأحاديث معروفة لدى هذا الشاب وهو من أهل المدينة، ولذلك كشف أمر الدجال للناس.(133/23)
الوقوف ضد الظلمة
وكذلك من الفوائد: القيام في وجه الظلمة والإنكار عليهم للمستطيع القادر، وليس أن يذهب واحد جبان فيتشجع في بداية الأمر، وإذا وصل إلى الجبار والطاغية تزلزل واعترف بالباطل وساخت رجلاه في الأرض وسبح بحمد هذا الطاغية، لا يخرج للمجابهة إلا المستعد، وهذا درس آخر، ينبغي على الذين يخرجون لمواجهة أهل الباطل أن يكونوا مستعدين، ولذلك حصل أن بعض المتحمسين لما ذهب لمناقشة بعض الحداثيين أخفق بسبب عدم وجود خلفية في الأدب وأنواع الأدب، ولذلك جاء له هذا الحداثي وأفحمه وأسكته، ولا يجوز أن يناقش أهل البدعة إلا المتمكن.
ولذلك بعض الناس يقول: أنا مستعد أناقش أكبر رافضي، وأكبر خارجي، وأكبر معتزلي، وأكبر جهمي، وأكبر نصراني، ثم يأتيه القس النصراني، وهو عنده علم وسعة اطلاع، فيقول له مثلاً: إن مريم كذا والمسيح وعيسى، ويثبت له أنه ابن الله، وصاحبنا مكتوف اليدين لا يستطيع أن يخرج جواباً، ولذلك لا يجوز أن يخرج لمناقشة أهل البدع وأهل الباطل أو أهل الجبروت والطغيان إلا المتمكنون، أما الضعفاء فيعتزلونهم؛ لأنه على الأقل إذا ما استطاع أن يقنعه؛ فإنه سيقتنع من شبهات ذاك الرجل.(133/24)
هلاك الدجال والقضاء على فتنته
قال عليه الصلاة والسلام: (فبينما هم) يعني المسلمين يعدون العدة لمواجهة الدجال (يعدون للقتال ويسوون الصفوف إذا أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم، وفي رواية: فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق) وهي إلى الآن مكان معروف، لو تذهب إلى واحد من أهل دمشق، وتقول: أين المنارة البيضاء؟ فيدلك عليها، وعيسى ابن مريم ما مات بل رفعه الله حياً بجسده وروحه، وسينزل للقضاء على الدجال وتطبيق شرع الله في الأرض.
(فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين -أي: ثوبين مصبوغين- واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه يقطر ماءً وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه -عيسى ابن مريم- ينتهي حيث ينتهي طرفه) أي: في دائرة نصف قطرها مد بصر عيسى عليه السلام، كل الكفار في تلك الدائرة يموتون.
(فإذا نزل عيسى ابن مريم ويكون المسلمون قد استعدوا للصلاة، وإمامهم المهدي وقائدهم المهدي الذي سيظهر في ذلك الوقت، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح، إذا نزل عليهم عيسى، فيرجع ذاك الإمام؛ لأنه عيسى أفضل منه، فيريد أن يتقدم الفاضل للإمامة، فيمشي القهقرى ليتقدم عيسى، فيضع عيسى يده يبن كتفيه، ثم يقول له: تقدم فصلي، فإنها لك أقيمت) وهذه تكرمة من الله لهذه الأمة أن يؤم عيسى رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيصلي بهم إمامهم.
فإذا انصرفوا من الصلاة، وذهبوا إلى بيت المقدس لمواجهة الدجال، الذي سيكون قد توجه باليهود إلى هناك، قال عيسى: افتحوا الباب، فيفتحونه، ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي، كلهم ذو سيف محلى وساد، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، فينطلق هارباً، فيدركه عيسى عليه السلام بباب لد، وهو المكان المعروف الآن في فلسطين، الذي بنى فيه اليهود مطاراً معروفاً أو قاعدة عسكرية.
فعيسى سيدرك المسيح الدجال في بلدة اللد فيقتله، فينماع الخبيث، كما ينماع الملح في الماء ولكن عيسى يدركه فيضربه بحربة في يده، فيريهم أثر الدم على هذه الحربة، فيقتل مسيح الهداية مسيح الضلالة الدجال بهذه الحربة.
ثم يهزم الله اليهود، فلا يبقى شيء مما خلق الله عز وجل يتواقى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء لا حجر ولا شجر ولا دابة، ولا حائط، إلا شجر الغرقد الذي يزرعه اليهود الآن في فلسطين، فإنها من شجرهم لا تنطق، كل شيء ينطق، يقول: يا عبد الله يا مسلم، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، وبذلك يكون المسيح الدجال قد انتهى وتزول الفتنة، ثم تقع بعد ذلك أحداث أخرى، ويموت المهدي ويمكث سبع سنين ثم تحل البركة في الأرض، ويعم الإسلام، ولا يبقى شرك ولا كفر، ويخرج يأجوج ومأجوج، وتحدث بعد ذلك أشياء أخرى ثم تخرج الأرض بركاتها، إلى آخر القصص المعروفة في ملاحم آخر الزمان.
وهنا ينبغي أن نعتقد اعتقاد جازماً بخروج الدجال، وإنني أخبركم أن الفتنة بالدجال موجودة قبل أن يظهر، فيوجد من هذه الأمة طوائف من الجهمية والخوارج وأبو علي الجبائي من المعتزلة ومن تابعه أنكروا خروج الدجال، ومن المحدثين محمد عبده الذي ظهر في مصر في أول هذا القرن أنكر الدجال وقال: الدجال هذا كناية عن ظهور الشر والفساد وما في شيء حقيقي اسمه الدجال، وتابعه أيضاً محمد فهيم أبو عبية في تعليقه على الملاحم لـ ابن كثير فقال: لا يوجد دجال ولا شيء وإنما هو الشر والفساد، وكذلك فإن بعض الناس قالوا: إن الدجال سيظهر لكن ليس معه فتن، ما في جنة ولا معه نار، ولا يحي ولا يميت، ولا يفعل أشياء، وقالوا: لن تظهر على يديه خوارق، ومع الأسف كان منهم العلامة محمد رشيد رضا رحمة الله عليه، مع أنه صاحب علم وفضل لكن أخطأ في هذه المسألة، ونحن نعتقد ما اعتقده صلى الله عليه وسلم من خروج الدجال ومن وقوع كل هذه الأشياء فيه.(133/25)
فوائد جلية من أحاديث الفتن
ونختم كلامنا هذا بالتذكير ببعض الأمور، ألا وهي: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال: الشرك الخفي، أن يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته؛ لما يرى من نظر الرجل) انظر خاف علينا أكثر من المسيح الدجال من الشرك الخفي؛ نظراً لانتشاره وشيوعه وحصوله في كل الأزمان، أما الدجال فهو محصور في وقت معين.
وقال أيضاً: (أخوف على أمتي من الدجال الأئمة المضلون) يظهر أناس يدعون العلم أو علماء منحرفون ويفتون الأمة بفتاوي غلط، ويضللون الناس، ويقولون: اتبعوا القائد الفلاني ويمشي الناس وراء القائد الفلاني اعتماداً على فتواهم، وهكذا، هذا كله من الأشياء التي خشيها صلى الله عليه وسلم علينا، فينبغي الانتباه من الشرك الخفي، والانتباه من الأئمة المضلين، والاعتصام بالعلماء الحقيقيين المخلصين لله عز وجل، واتباع الدليل.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوءهم، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال) فظهر أن حركة الجهاد في هذه الأمة هي حركة متتابعة، وأن أولها وآخرها متصل مع بعضها، ولا ينقطع الجهاد حتى تقاتل آخر الأمة الدجال، فأثبت أن الجهاد باقي إلى قيام الساعة.
وكذلك فإنه مما ينبغي أن نتعلمه الثبات في الفتن، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (يا عباد الله فاثبتوا، إني سأصف لكم وصفاً) إلى آخر الحديث.
وكذلك فإنه ينبغي ألا نشعر بالتشاؤم وفقدان الثقة من أحاديث الفتن، لأن بعض الشباب عندما يقرأ أحاديث الفتن يقول: فقدنا الأمل وما في مجال للعمل وهكذا.
وكذلك هناك نقطة مهمة أخرى، نلحظ من حديث الدجال وغيره أن القتال في آخر الزمان في ذلك الوقت سيكون بالسلاح الأبيض، الآن موجود قنابل ورشاشات وأسلحة ومدافع وطائرات وبوارج وصواريخ فما هي مصير هذه الأشياء؟ نقول: إنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] ومادام أخبر أن القتال سيكون بالسلاح الأبيض على هذه الخيول، فلا بد أن يحدث، كيف سيحدث؟ هل ستنتهي هذه الحضارة والتكنولوجيا؟ وتقوم حرب مدمرة، وتفنى كل هذه الأشياء من المنشآت العسكرية والأسلحة إلى آخره، ويرجع الناس إلى حياتهم البدائية؟ الله أعلم كيف سيحدث.
لكن لا بد أن يحدث ذلك لأننا نحن المؤمنين نصدق أن عيسى سيقتل المسيح الدجال بالحربة، الدجال معه سيوف، وأسلحة المسلمين هي السيوف، وهم يقاتلون على خيول ولا بد أن يحدث ذلك، أما كيف ستتطور الأمور الله أعلم، ثم إن علماء الكفار يقولون: إن الحياة على وجه الأرض يمكن أن تنتهي بثلاث دقائق باستخدام هذه الأسلحة المدمرة، فإذاً عقلاً لا يستبعد انتهاء الحضارة باستخدام الأسلحة، ممكن يحصل أي شيء وتنتهي هذه الحضارة، ويرجع الناس إلى عصور بدائية، يفنى خلق كثير جداً والباقون يرجعون الحياة البدائية، وهذا ممكن عقلاً وليس هناك أي إشكال، لكن متى؟ كيف؟ هل سيحدث بهذه الطريقة أم بغيرها؟ الله أعلم.
ولذلك بعض الناس عندما يقرءون هذه الأحاديث يقولون: والله مادام القتال بالسيوف ما في داعي نعد العدة، ولا شيء، إن هؤلاء يخالفون السنن الربانية، ويخالفون مفهوم الإعداد الجهادي الذي أمر الله به، قال الله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] صواريخ طائرات دبابات قنابل {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فنحن الآن في هذا العصر، عندنا جهاد وقتال وعندنا كفار، فلا بد أن نقاتلهم بما معنا من الأسلحة، ونعد لهم ما استطعنا، فإذا جاء الوقت الذي سيكون فيه القتال بالسلاح الأبيض، سنضطر إلى استعمال السلاح الأبيض، فلا يقول قائل: ليس هناك أمل الآن في القتال مادام المسألة ستنتهي على السيوف، كلا.
لا بد من إعداد الجهاد، وهذا دين واقعي ينتشر في الأرض بطريقة واقعية، ولا بد أن ينتشر الجهاد بالسلاح الموجود، ولذلك لا بد من أخذ العدة، والتوكل على الله عز وجل.
كذلك لا بد من عدم تضخيم أحاديث الفتن، بعض الناس يضخمون أحاديث الفتن جداً يقول: خلاص ما في أمل الآن شغلتنا نجلس وننتظر المهدي والمسيح ابن مريم، فلا يوجد أمل أبداً في أن يظهر المسلمون على الكفار، والكفار أقوى منا، كلا وألف كلا، إن المسلمين إذا أعدوا العدة؛ فإن الله سينصرهم، وقد تكفل الله بنصرهم ولا بد ولا يوجد مانع أبداً أن نظهر على الكفار وأنتم ترون ما حدث على أرض أفغانستان، فلو أن هذا النموذج توسع وتوسع وشمل بلاد المسلمين، وقامت حركة الجهاد في سبيل الله؛ لطهرت الأرض من الكفار ببساطة، ولكن المسألة لا بد أن تكون شاقة، ولا يمكن أن ينصر الله الكسالى والقاعدين، ولا يمكن أن الدين ينتشر هكذا سلمياً، أي: أن المسلمين ينتصرون وهم قاعدون في بيوتهم، فلا بد من إعداد العدة، وعدم تضخيم هذه الأشياء بحيث إننا نرهب ونخاف، كلا.
بل إننا سنجري على هذه السنن الربانية والكونية، ونأخذ بالأسباب، ونعد أنفسنا، ونعد العدة لتلك الأيام التي سيكون فيها هذا الجهاد المبارك، الذي سيكون انطلاقة بإذن الله عز وجل لإقامة الخلافة في الأرض وتحكيم منهج الله سبحانه وتعالى فيها.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المؤمنين بالغيب، وأن يجعلنا صدقاً عند اللقاء، وأن يجعلنا من الشاكرين في البأساء والضراء وحين البأس، وأن يجعلنا من الصابرين إذا قامت المحن، ومن الثابتين إذا نزلت الفتن، وإذا أراد بعباده فتنة أن يقبضنا إليه غير مفتونين، أقول قولي هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(133/26)
ذم الدين وعاقبة الاستدانة
تكلم الشيخ في هذه الخطبة عن أمر عظيم وهو الدَّين؛ محذراً من الإفراط فيه، فذكر أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الترهيب من أن يموت المرء وعليه دين.
وموضحاً أنه من استدان للضرورة يريد أداء حقوق الناس فهذا قد استثناه العلماء مستدلين بأحاديث تنبئ عن هذا القول، ثم ختم خطبته بذكر العلاج النافع لمرض الدَّين والاستدانة.(134/1)
ذم الدَّيْن والترهيب من عدم قضائه
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] والدواوين ثلاثة، فمنها ديوان لا يتجاوز الله عنه يوم القيامة، وهو ديوان حقوق العباد.
وهاهنا مسألة أيها الإخوة! نريد أن نفرد لها عدة خطب لنتكلم عنها، لما حصل فيها من التقصير العظيم من المسلمين، وهي مسألة ذات شجون خصوصاً لمن ذاق طعمها، وهي من مسائل حقوق العباد التي وقع فيها التفريط، وهذه المسألة أيها الإخوة! مسألة الدَّين.
الناس اليوم يتساهلون في الاستدانة تساهلاً عجيباً، وكثيرٌ منهم لا يدرون عن أحكامها شيئاً، ونحن نتكلم في هذه الخطبة عن ذم الدَين، وعاقبة الاستدانة، وسوف نتكلم إن شاء الله عن الطرف الآخر وهو الدائن المقرض، وسنتكلم أيضاً إن شاء الله عن بعض أحكام الاستدانة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كان لي مثل أحد ذهباً ما يسرني ألا يمر علي ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدَين) فصلى الله عليه وسلم ما كان أحرصه على قضاء دينه، ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، كفر الله عنك خطاياك إلا الدَين كذلك قال لي جبريل آنفاً) وقال عليه السلام: (سبحان الله ماذا أنزل من التشديد في الدَّين، والذي نفسي بيده، لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحيي، ثم قتل ثم أحيي ثم قتل، وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح.
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الآخر: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) وروى الإمام أحمد وابن ماجة، عن سعد بن الأطول رضي الله عنه، أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم، وترك عيالاً، قال: (فأردت أن أنفقها على عياله قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أخاك محبوس بدينه، فاقض عنه دينه) حتى مع أنه له عيال، يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أخا الميت أن يقضي عنه دينه، وفي الحديث الصحيح الآخر: (أنه صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة، فلما انصرف قال: أهاهنا من آل فلان أحد؟ -الميت- فسكت القوم، فقال ذلك مراراً، وهم يسكتون، حتى أشار رجل من الصحابة إلى رجل في آخر القوم، قال: هاهو ذا رجل من أقرباء الميت، فجاء الرجل يجر إزاره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عليه السلام: إن صاحبكم مأسور بدينه عن الجنة، فإن شئتم فاسدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله) حديث صحيح.
وعن جابر رضي الله عنه قال: (مات رجل فغسلناه وكفناه وحنطناه، ووضعناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل، ثم آذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه، فجاء معنا، فتخطى خطىً ثم قال: لعل على صاحبكم دين؟ قالوا: نعم، ديناران، فتخلف قال: صلوا على صاحبكم -ورفض عليه الصلاة والسلام أن يصلي عليه؛ إشعاراً للأمة بخطورة الدين، وأهمية قضائه- قال: صلوا على صاحبكم وصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم على المؤمنين فيها رحمة عظيمة لهم، قال: صلوا على صاحبكم، فقال له رجل منا يقال له أبو قتادة: يا رسول الله! هما علي أي: أنا أقضي دين هذا الرجل، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الميت ثم لقيه عليه السلام من الغد فقال: ما صنعت الديناران؟ قال يا رسول الله! إنما مات أمس -ما صار له وقت طويل- فقال: ما صنعت الديناران؟ ثم لقيه من الغد فقال: ما فعل الديناران؟ قال: قد قضيتهما يا رسول الله، قال: الآن حين بردت عليه جلده).(134/2)
مذلة الدَّين
والدين مذلة أيها الإخوة من عدة جهات: فإنه يضطر المستدين كثيراً للوقع في آفات عظيمة ومنها: الكذب إذا حدث، ومنها: خلف الوعد إذا وعد، ومنها: الحلف إذا اقسم للدائن على أن يرد إليه الدين في أجل معين، ثم أخلف وعده، فحنث في يمينه، وأقسم فعليه الكفارة، وقد يضطره إلى دخول السجن، فتسوء سمعته وسمعة أولاده وأهله بين الناس، ويحرج فيضطر إلى الكذب وربما علم أولاده الكذب، فإذا جاء الدائن إلى بيت المدين فطرق الباب أو اتصل بالهاتف، فيلجأ بعض المستدينين إلى الكذب فيقول: لولده، قل له إنه غير موجود، ثم يضطر للتخفي، ويتحرج من مواجهة الناس الذين يطالبونه، فيتوارى عن الأنظار والمجالس، ويحرم المعيشة الطبيعية، ومعاشرة الخلق، ولذلك يقول عليه السلام، في الحديث الصحيح: (لا تخيفوا أنفسكم بالدين).
ثم انظر إلى تلك الصفة الشنيعة من صفات النفاق العملي: وإذا وعد أخلف كما تتكرر اليوم من المستدينين؟ كم مرة يخلفون؟ وما لإثم النفاق العملي العظيم وآثاره على قلوبهم، وقد يضطر المستدين للوقوع في الربا، فيقترض من مرابٍ ليسدد لمن يطالبه، أو يطلب محاكمته، وربما استدان من مرابٍ ليوفي مرابياً آخر، والدين يزداد، والحرام يعظم حتى يهلكه في الدنيا والآخرة.
وإياكم ثم إياكم يا معشر المستدينين! أن تلجئوا إلى البنوك الربوية للاقتراض منها، فإن من فعل منكم ذلك، فقد وقع في لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهما كانت الحاجة لا تلجأ إلى البنك الحرام المحرم، لكي تقترض منه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعن في الحديث الصحيح آكل الربا وموكله، لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم معطي الربا ولعن آخذ الربا، وهذه الآفات العظيمة في الدين، تجعل بعض المستدينين قد يخرج من دينه بسبب الدين، ولهذا يقول بعض السلف: لأن تلقى الله وعليك دَيْن ولك دِين، خيرٌ لك من أن تلقاه وقد قضيت دينك وذهب دِينُك.
وهو مذلة؛ لأن فيه شغل القلب والبال والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمل منته بالتأخير إلى حين أوانه وربما مات فصار مرتهناً بدينه (نسمة المؤمن معلقة بدينه) وقد يجعل المستدين ذليلاً من جهة أنه يحس في قرارة نفسه أنه صاحب حاجة، وأنه محتاج إلى غيره، وقد يجر على نفسه تسلط غيره عليه إذا كان الدائن لا يراعي حقوق الأخوة، فيبدأ الدائن بالتدخل في شئون المدين الداخلية الخاصة، فيتكلم من منطلق الدين الذي له عند صاحبه، مما يؤذي المدين في أهله وشخصه، وقد يتدخل الدائن في تجارة المدين، ويقول له: بع كذا، ولا تشتر كذا، والمدين المسكين يحرج ولا يستطيع أن يخالف حتى وجهة نظر الدائن.
وهو مذلة أيضاً؛ لأنه سيسمع من الدائن كلاماً قاسياً بشعاً في حقه لا يليق، ولكنه يضطر إلى السكوت على مضض ولا يجد ولا جواباً ولا يستطيع رداً.(134/3)
أقوال السلف في الدَّين
روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: [رآني عمر وأنا متقنع، -أخفي وجهي بالقناع- فقال: يا أبا خالد إن لقمان كان يقول: القناع بالليل ريبة وبالنهار مذلة، فقلت: إن لقمان لم يكن عليه دين] فهذا الرجل كان عليه دين، فلذلك كان يخفي وجهه.
وقال عياض بن عبد الله: الدَّين راية الله في أرضه، فإذا أراد أن يذل عبداً جعلها طوقاً في عنقه.
ومن أمثال العرب: لا هم إلا هم الدَّين، ولا وجع إلا وجع العين، ويروى عن عمر أنه قال: [إياكم والدَّين، فإن أوله هم وآخره حرب].
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: [الدين وكر طالما حمله الكرام].
ومن أمثال العرب مما كان يقال: الدَّين رق استعباد، فلينظر أحدكم أين يضع رقه، ولمن يسلم نفسه، وساير بعض الوجهاء رجلاً وهو يحادثه، ففجأة قطع حديثه واصفر لونه، فقال الرجل لهذا الوجيه: ما هذا الذي رأيت منك؟ قال: رأيت غريماً لي، فهذا من أثر الدَّين، ونفس بعض المدينين عن نفسه في هذين البيتين.
ألا ليت النهار يعود ليلاً فإن الصبح يأتي بالهموم
حوائج ما نطيق لها قضاءً ولا دفعاً وروعات الغريم
الغريم: صاحب الدين يروع، يخيف، وقال بعضهم نثراً: الدين هم بالليل وذل بالنهار، يتمنى هذا القائل الشاعر أن يعود الزمن إلى الوراء حتى لا يأتي غداً؛ لأنه إذا جاء الغد فإنه سيضطر إلى مواجهة الغريم.(134/4)
التساهل في الدَّين
عادة الناس اليوم ذميمة فهم يتساهلون في الدين، وخصوصاً عندما تكون إرادتهم شراء الكماليات، لا يملكون قيمتها، أو بعض قيمتها، فيظنون أن الاقتراض أسهل الأمور، وهو سهل حلو عند أخذه، مر حنظل عند حلول وقت دفعه.
والتبذير عادة قبيحة في مجتمعاتنا اليوم، التي تعودت على صرف الأموال وإنفاقها يميناً وشمالاً، بدافع بحاجة وبغير حاجة، فهم الناس اليوم يصلون لحافهم بلحاف غيرهم، لكي يمدوا أرجلهم أقصى ما يستطيعون، لو أنهم تعقلوا فأنفقوا على قدر طاقتهم واستطاعتهم، لما حصل لهم الخزي الذي حصل، والعجيب أنك ترى بعض هؤلاء من غير المتعقلين، يسكن بيتاً فخماً ويركب سيارة فارهة، وربما ركب فيها هاتفاً سياراً، كل ذلك بالدين، ولعل بعض من استدان منهم بيوتهم وسيارتهم أقل من هذا المستدين لتعقلهم.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو الله عز وجل بأدعية عظيمة منها: (اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، واقض عني ديني) وقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال) وضلع الدين هو: ثقله، وهو أن لا يجد الدائن من حيث يؤدي، وفي رواية: (من غلبة الدين وقهر الرجال).
وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم).
المغرم: ما يغرمه الإنسان بسبب الدين مثلاً، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المأثم والمغرم؟ قال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف) رواه البخاري.(134/5)
أصناف الناس في الدَّين
وليس المستدينون سواسية، فإنهم أنواع وأصناف، فمن الناس من يستدين وهو يعلم من حاله ودخله أنه سيسدد، ومنهم من يستدين ويعلم من حاله ودخله أنه من المستحيل أن يسدد، ومنهم من يستدين وهو لا يدري هل يستطيع إيفاءه أم لا، وبينهم مراتب متفاوتة، وأشدهم الرجل الذي يستدين وهو يعلم أنه لن يوفِ.
وكذلك يتفاوت الناس بحسب حاجتهم، فمنهم من يستدين للكماليات ومنهم يستدين للضروريات، ولذلك يتفاوتون في الذم في الشرع من جهة حاجتهم الحقيقة للاستدانة، ومن جهة معرفتهم هل سيستطيعون إيفاء الدين أم لا؟ ما مدى الحاجة؟ أولاً: عندما تستدين يا أخي اسأل نفسك سؤالين، السؤال الأول: ما مدى حاجتك لهذا الدين؟ السؤال الثاني: هل تستطيع وفاءه ورده أم لا؟ ثم بعد ذلك قرر هل ستستدين أم لا؟ والإمام أحمد رحمه الله سئل عن أخذ الأجرة على تعليم القرآن، فقال: خذ الأجرة -وأخذ الأجرة معروف الخلاف فيها عند السلف هل تجوز أو لا تجوز- فقال: هو أهون عندي -أخذ الأجرة- من أن يأخذ رجل مالاً آخر ليتاجر به، فربما خسر التجارة ولم يستطع إيفاء الدين الذي أخذه منه.
ولذلك وقع النزاع عند العلماء، متى يكون المستدين معذرواً عند الله ومتى لا يكون؟ هذا ما سنبينه بعد قليل إن شاء الله وأستغفر الله لي ولكم.(134/6)
حكم من أخذ أموال الناس يريد أداءها
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيله ورضوانه.
أما بعد: فيقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الدين دينان: فمن مات وهو ينوي قضاءه فأنا وليه، ومن مات وهو لا ينوي قضاءه فذاك الذي يؤخذ من حسناته يوم القيامة، ليس يومئذ دينار ولا درهم) وهو حديث صحيح بالحديث الآتي بعده، وهو: (من مات وعليه دين، فليس ثم دينار ولا درهم، ولكنها الحسنات والسيئات) وقال عليه السلام: (ما من أحد يدان ديناً يعلم الله منه أنه يريد قضاءه، إلا أداه الله عنه في الدنيا) وقال عليه السلام: (ما من عبد كانت له نية في أداء دينه، إلا كان له من الله عون) وقال عليه السلام: (من أخذ ديناً وهو يريد أن يؤديه أعانه الله) أحاديث صحيحة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى مع الدائن حتى يقضي دينه، ما لم يكن دينه فيما يكره الله) ومما يكره الله ويبغضه هذا التبذير الذي يلجئ الكثيرين من ضعاف العقول اليوم إلى الاستدانة، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الآخر: (أيما رجل تدَّين ديناً وهو مجمع -أي عازم- ألا يوفيه لقي الله سارقاً) بعض الناس يستدينون وهو يعلم أنه لن يوفي الدين، فهذا سيلقى الله سارقاً.
وروى البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظم حديث في هذا الباب: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري.
ورجح ابن حجر رحمه الله في تعليقه على هذا الحديث أن المدين إذا مات قبل الوفاء بغير تقصير منه، كأن يعسر مثلاً، أو يفاجئه الموت وله مال مخبوء وكانت نيته أن يؤدي الدين من هذا المال فإنه لا يعتبر مؤاخذاً عند الله يوم القيامة، ولا تبعة عليه في الآخرة، بحيث يؤخذ من حسناته لصاحب الدين، بل يتكفل الله عنه لصاحب الدين، والله عز وجل يوم القيامة يأتي الخصوم أمامه وكل واحد له عند أخيه مظلمة، فهذا عند أخيه أمانة، وهذا عنده دين ما أداه، فإن كان هذا المستدين معذرواً ورجل ملجأ استدان في مرضاة الله وتحرى الوفاء فما استطاع ومات، فهذا إذا شاء الله وتفضل فإن الله يتحمل عن صاحب الدَّيْن الدَّيْن، ويعطي ذلك الرجل المقرض حسنات من عنده عز وجل، دون أن ينقص من حسنات هذا شيئاً.
أما لو جاء مفرطاً مضيعاً لحقوق عباد الله، مبذراً للمال، لم ينو أداءه، فإنه يؤخذ من حسناته فتعطى لأخيه صاحب الدين، ولا تضيع حقوق الله عز وجل.(134/7)
علاج الاندفاع إلى الدَّين
ومن علاج الاندافع في الدين يا إخواني! أمور منها:(134/8)
القناعة
أولاً: القناعة؛ فإن المسلم لو قنع بحاله ومستوى معيشته، وعيشة الكفاف لا له ولا عليه، حتى لو كانت بسيطة جداً لم يتطلب أكثر من ذلك، ولحلت له هذه القناعة مشكلة الاستدانة، ولما لجأ إلى الدين، لكن الناس لا يقنعون، فينظرون إلى من فوقهم في المعيشة، والرسول صلى الله عليه وسلم يطلب من المسلم أن ينظر إلى من دونه في المعيشة، وإنما ينظر إلى من هو أعلى منه في الدين والورع والعبادة والتقوى، إذا أردت أن تنظر إلى الأعلى فانظر إلى صاحب الدين، وفي المعيشة تنظر إلى من هو أسفل منك حتى تحصل عندك القناعة، فلا تغتم وتهتم، وتلجأ إلى الدين، ويدخل في هذا إشاعة القناعة في نفوس أهل البيت، فإن كثيراً من النساء في الحقيقة، يلجئن أزواجهن إلى الاستدانة، ويجب على المسلم العاقل أن يتعقل في هذه الحالة، وألا يستجيب للدواعي وكثرة الصرخات، وكثرة الإلحاح على رأسه أن يستدين من قبل زوجته وأولاده، وإنما يذكرهم بالله، وهذا يبين لنا أهمية التربية الإسلامية، لو تربت الزوجة أو الأولاد التربية الإسلامية لما حصل منهم دفع الرجل صاحب البيت إلى الاستدانة.(134/9)
الزهد في الدنيا
وكذلك من الأمور المهمة: مفهوم الزهد في الدنيا، فلو زهد الإنسان في الدنيا ومتاعها، وزينتها، لما شعر بالدافع إلى التزود فيستدين، ولكن قد تقع الاستدانة لضرورة في مثل علاج ضروري لا يملك قيمته، أو مسكن وأثاث لطالب زواج يريد أن يعف نفسه، وهو يخشى على نفسه العنت والوقوع في الحرام، فلا يستطيع الزواج من المهر والتأثيث إلا بالاستدانة، هنا تكون استدانته وجيهة، ومع ذلك لا ينسى الوفاء، والبحث عن تجارات طيبة، أو صفقات فورية حلال يسدّد بها دينه والله قد تكفل لمن يريد الوفاء بصدق أن يعينه.
هذا كلامنا أيها الإخوة في ذم الدين، والترهيب من عدم قضائه، وعدم اللجوء إليه إلا في الضروريات، وكيف يعالج المسلم حاجة الاستدانة في نفسه، وسنكمل معكم بقية الموضوع وهو موضع خطير حتى يكاد يكون اليوم موضوع الساعة في مجالس الناس وأحاديثهم، والقصص كثيرة مؤلمة، سببها التهور والتفريط والاستعجال، وهو من الشيطان وعدم تقوى الله عز وجل.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم أنت الغني ونحن الفقراء، اللهم اقض عنا ديوننا، اللهم إنا نعوذ بك من الغنى المطغي، ومن الفقر المنسي، اللهم أعنا على قضاء ديوننا ووفائها لمستحقيها، واجعلنا ممن يوفون بالخير، واجعلنا ممن يكونون أحسن الناس قضاءً، وصلوا على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الصلاة عليه في هذا اليوم العظيم فيها أجر عظيم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم وارض عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارض اللهم عنا معهم برحمتك ومنِّك وإحسانك يا أرحم الراحمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(134/10)
رءوس أقلام في الرؤى والأحلام
لقد تكلم الشيخ في هذا الدرس عن تعريف الرؤيا والحلم والفرق بينهما، مبيناً أهمية الرؤيا ومنزلتها في الإسلام، ومعنى كون الرؤيا جزءاً من النبوة كما جاءت الأحاديث دالة على ذلك، ثم ذكر أنواع الرؤى، موضحاً صدق رؤيا المؤمن في آخر الزمان، مذكراً بعقوبة الكاذب في المنام، وقد تطرق إلى مسألة مهمة وهي: هل يترتب على الرؤيا حكم شرعي؟ ثم ختم الموضوع بذكر آداب الرؤيا وبعض الرؤى التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم.(135/1)
تعريف الرؤيا والحلم والفرق بينهما
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين.
وبعد: ففي هذه الليلة وهي أول ليالي العشر من هذا الشهر الكريم، والذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد تواطأت رؤى الصحابة على أن ليلة القدر في ليالي العشر، قال: (أني أرى رؤياكم قد تواطأت على هذه العشر) ففيها ليلة القدر كما أخبر عليه الصلاة والسلام.
وبهذه المناسبة، نريد أن نتحدث قليلاً -أيها الإخوة- عن موضوع الرؤى والأحلام، وما جاء في الشريعة بشأن هذا الموضوع.
الرؤيا هي: ما يراه الإنسان في منامه حسناً.
والحلم: ما يتحلم به وما يراه في المنام، فالرؤى والأحلام من المترادفات، وعرف ابن القيم رحمه الله الرؤى بأنها: أمثال مضروبة يضربها الملك الذي قد وكله الله بالرؤيا ليستدل الرائي مما ضرب له من المثل على نظيره ويعبر منه إلى شبهه.
والفرق بين الرؤيا والحلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: () الرؤيا الصادقة من الله، والحلم من الشيطان) فالرؤيا التي تضاف إلى الله تعالى لا يقال لها: حلم، والتي تضاف إلى الشيطان لا يقال لها: رؤيا وهذا فرق عظيم دل عليه كلام الشارع، من أن هذه من الله، وهذه من الشيطان.(135/2)
أهمية الرؤيا ومنزلتها في الإسلام
أما أهمية الرؤى ومنزلتها في الإسلام، فقد كان للأنبياء معها مواقف ومن ذلك موقف الخليل إبراهيم عليه السلام لما عزم على ذبح ابنه من أجل رؤيا رآها {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:102 - 105].
وكذلك الرؤيا شغلت جزءاً كبيراً من قصة يوسف عليه السلام وما فيها من رؤيا الملك، وكيف عبرها يوسف عليه السلام، وكذلك رؤيا صاحبي السجن.
وفي سورة الأنفال كانت رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، حينما رأى الكافرين قلة ليشجع الله المؤمنين على قتالهم، وفي سورة الفتح كذلك نجد رؤياه صلى الله عليه وسلم في دخوله مكة مع أصحابه معتمرين، وتتحقق تلك الرؤيا في عام الفتح: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح:27].
وقد امتن الله تعالى على نبيه يوسف عليه السلام، بأنه يعلمه تأويل الرؤى {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف:6] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً رؤيا مهمة، كانت من دلائل النبوة، وهي قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: (إني عبد الله وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته) يعني: مضطجع وملقى على الأرض في طينته، قبل أن ينفخ فيه الروح، والنبي عليه الصلاة والسلام مكتوب عند الله أنه خاتم النبيين، وسأخبركم عن ذلك وهي دعوة أبي إبراهيم: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} [البقرة:129] واستجاب الله تعالى بعد آلاف السنين، وبعث الله عز وجل بنبينا عليه الصلاة والسلام: (دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت -وكذلك أمهات النبيين يرينه ترى مناماً على أن ما في بطنها له شأن- وإن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نوراً أضاءت له قصور الشام) رواه الإمام أحمد وهو حديث حسن، وقال الهيثمي: وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح، غير سعيد بن سويد وهو ثقة.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، فالرؤيا لها قدر عظيم، وفيها من المنافع ما الله به عليم، وإذا تأملنا في غزوة بدر كم حصل لرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم من المنافع، وكم اندفع من المضار، ورؤيا ملك مصر، ورؤيا يوسف وما حصل بها من الخيرات الكثيرة، ورفعه الله تعالى درجات، ورؤيا عبد الله بن زيد، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في الأذان والإقامة، ترتب عليها مشروعية الأذان والإقامة، لما وافق الوحي على ذلك وأقره، وصار ذلك سبباً لشرع هذه الشعيرة العظيمة، وفي العشر الأواخر تواطأت رؤى الصحابة، على أن ليلة القدر في أحد ليالي هذه العشر.
فرؤيا الأنبياء والصالحين فيها منافع مهمة، وثمرات طيبة، وهذا من بديع خلق الله سبحانه وتعالى ولطفه، مما يزيد المؤمنين إيماناً، قال ابن عبد البر رحمه الله: وعلم تأويل الرؤيا من علوم الأنبياء، وأهل الإيمان، وحسبك بما أخبر الله من ذلك عن يوسف عليه السلام وما جاء في الآثار الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع أهل الهدى من أئمة الهدى، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين، أهل السنة والجماعة على الإيمان بها، وأنها حكمة بالغة ونعمة يمن الله بها على من يشاء، وهي المبشرات الباقية بعد النبي عليه الصلاة والسلام.
أيها الإخوة: إن كثيراً من الناس في عصرنا تخبطوا في مسألة الرؤى والأحلام، فاقتنى بعضهم قواميس وكتب يقولون أنها تفسر الرؤى والأحلام، وأن من رأى ماء معناها كذا، ومن رأى حية معناها كذا، ونحو ذلك من الأشياء، ولنعلم بأن قضايا الرؤى ليس لها قانون، ليس لها شيء يضبطها، وإنما يكون معناه بالنسبة لشخص يراه يختلف عن معناه بالنسبة لشخص آخر قد يرى الشيء نفسه، وقد حصل على عهد ابن سيرين رحمه الله وهو من مشاهير من كان يفسر الأحلام في هذه الأمة، أنه أتاه رجلان، كل واحد منها يذكر أنه رأى في المنام أنه يؤذن، فقال للأول: أنت تحج، وقال للآخر: أنت تسرق فتقتطع يدك، فقيل له كيف ذلك؟ قال: رأيت على الأول علامات الصلاح فتأولت قول الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] ورأيت على الثاني علامات الخبث والفجور، فأولت قوله تعالى: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] مع أن الرؤيا نفسها هنا وهنا، لكن قال للأول: أنت تحج وقال للآخر: أنت تسرق فتقطع يدك.
فإذاً -أيها الإخوة- ليس هناك قانون يضبط الرؤى، وليس هناك شيء موحد لجميع الرؤى، وليس كل من رأى في المنام نهراً أو بحراً، معناه شيء معين، وليس كل من رأى في المنام أنه يقلع منه ضرس، أنه سيفقد واحداً من أولاده، هذا قانون مضطرب وليست قاعدة في كل من يرى هذا الشيء.
المسألة تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والله عز وجل يلقي في قلوب الذين يعلمون تفسير هذه الرؤيا إلهاماً فلا تستطيع أن تقول: إن لها قاعدة.
وقد نسبت كتب كثيرة لأناس من أهل العلم على أنهم ألفوها في هذا، منهم الكتاب المنسوب لـ ابن سيرين، ولعل الغالب على الظن أنه مما جمعه طلابه من بعده، وليس مما كتبه هو.
وكذلك لا يمكن الاعتماد على معاجم تفاسير الأحلام.
التي ظهرت، بحيث أنها تكون قاعدة مطردة.(135/3)
معنى كون الرؤيا جزءاً من النبوة
بالنسبة لكون الرؤيا جزء من النبوة، فما معناه؟ أولاً: الأحاديث الواردة فيه إذا ألقينا عليها نظرة نجد تفاوتاً في الأرقام، فمثلاً بعض الروايات فيها، (الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) وفي رواية أخرى: (الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءاً من النبوة) الحديث الأول في الصحيح، والثاني أيضاً رواه مسلم، والثالث: (رؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءاً من النبوة) كذلك في مسلم.
فـ ابن حجر رحمه الله لما علق على هذه الروايات قال: تصل إلى خمسة عشر لفظاً، وأنها تتفاوت، من ست وعشرين إلى سبعين، وأشهر الروايات: (جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) فما معنى هذا الاختلاف؟ وما مدلوله؟ ولعل من أمثل ما ذكر في الجمع بين هذه الروايات أن ذلك يختلف باختلاف أحوال الرائين، فبعض الناس أحوالهم صادقة جداً ورؤياهم صادقة جداً فتكون رؤياهم جزء من -مثلاً- ست وأربعين، وبعض الناس في الصدق والتقوى والإيمان أقل، فتكون رؤياه جزء من سبعين، ولكن ما المقصود أن الرؤيا جزء من النبوة؟ النبوة فيها أشياء كثيرة، فيها تشريع وأحكام، وفيها أخبار عما سبق وعما سيأتي من الغيب، وغيرها من الأشياء الكثيرة من إنذار وبشارات، والنبوة تحتمل معجزات؛ لأن فيها إخباراً بالغيب، والرؤيا الصالحة يمكن أن تدل على شيء يحدث في المستقبل، سواء كان بشارة أو نذارة، سواء كان شيئاً حسناً أو شيئاً سيئاً، أو شيئاً من الشر سيقع، فيمهد للمؤمن نفسياً بهذه الرؤيا لكي يستعد لمواجهة الحدث الذي سيكون.
إذاً الرؤيا ممكن أن يكون فيها إخبار عن شيء سيحدث في المستقبل، وبما أن النبوة جزء منها إخبار بالغيب فتلتقي الرؤيا مع النبوة في هذه النقطة، وفي هذه الجزئية.
وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر أنه لم يبق من النبوة إلا المبشرات، مثل بشائر نصر الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه قد أعطي الكنزين الأحمر والأبيض، وأن الكنز الأبيض والأحمر: الفضة والذهب، وهما كنزا كسرى وقيصر.
وكما أن في النبوة مبشرات، كذلك الرؤى فيها مبشرات، فالنبي عليه الصلاة والسلام صح عنه أنه قال () لم يبق من النبوة إلا المبشرات) والبشر: هو الذي يظهر على الإنسان من طلاقة الوجه وفرحه ونحو ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا نبوة بعدي، فشق ذلك على الناس، فقال: لكن المبشرات، قالوا: يا رسول الله! وما المبشرات؟ قال: رؤيا المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة) رواه الترمذي وهو حديث حسن، وفي رواية لـ أحمد: (لا يبقى بعدي من النبوة شيء إلا المبشرات، قالوا: يا رسول الله! ما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له) رواه الإمام أحمد ورجاله رجال الصحيح، وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس:64] قالوا: الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له.
ففي هذه الأحاديث بشارة من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم للمؤمنين لبقاء ما يتحفهم وما يأنسهم من أجزاء النبوة مما فيه إشارة للرائي، والمرئي له، وقد جاءت أحاديث كثيرة في هذا الشأن، إذاً هذه بشائر من الله عز وجل، ومن لطائف ما روي في هذا أن الإمام الشافعي رحمه الله رأى وهو بـ مصر أن الإمام أحمد رحمه الله سيبتلى فكتب له بذلك؛ ليستعد للمحنة، وهكذا حدث فعلاً، وامتحن الإمام أحمد رحمه الله.
فإذاً: يمكن أن يرى الإنسان لنفسه أو يُرى له شيء يقع في المستقبل ويكون من شخص صالح، فهذا إما يفرحه أو يجعله يستعد لحدث في المستقبل، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثاً) وهذا يدل على أن هناك علاقة بين صحة الرؤيا وبين صدق الشخص الذي يرى، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقهم رؤيا، أصدقهم حديثاً).(135/4)
أنواع الرؤيا
والرؤيا ثلاثة أنواع: (بشرى من الله عز وجل، ورؤيا مما يحدث الإنسان به نفسه، ورؤيا من تحزين الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فلا يحدث به، وليقم وليصل، والقيد في المنام ثبات في الدين -إذا رأى نفسه مقيداً في المنام فهذا دليل أو علامة على ثباته في الدين- والغل أكرهه) جمع اليدين إلى العنق بالأغلال يكرهه، يكره رؤيته عليه الصلاة والسلام، هذا الحديث رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى.
ولذلك لا يوثق إلا برؤيا الرجل الذي عرف صدقه، أما من عرف كذبه لا يمكن الوثوق برؤياه إطلاقاً، وقد يدعي أنه رأى رؤيا وهو كذاب، وقد يكون رأى أشياء لكن فساده ومعاصيه أظلمت قلبه، فكان ما يراه بقلبه في المنام لا قيمة له، ولذلك لا يمكن الاعتماد عليه، فالحديث (أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً) فيه إشارة إلى أن طهارة الباطن من أسباب نقاء الرؤيا ووضوحها ومجيئها كفلق الصبح في الصدق، تقع في الواقع كما رآها، وكلما كان أصدق في الحديث كانت رؤياه أصدق في الحدوث والبيان والوضوح والوقوع أيضاً، وقد يندر أن يرى إنسان كافر أو كذاب رؤية صحيحة في المنام، لكن ممكن أن يقع ذلك على ندرته، مثلما رأى فرعون الكفار رؤيا صحيحة، لكن الحقيقة أن الله ما أراه كرامة له، ومثل ملك مصر، ما أراه الله الرؤيا إلا لأجل يوسف، كي يخرج يوسف من السجن، ويبحث الملك عن تعبيرها، ولا يرى أحداً يعبر، ولا ينبري لذلك إلا يوسف فيكون سبب الإفراج عنه، وأن يتبوأ المنزلة العالية ويكون على خزائن الأرض.
فيندر أن يكون من الفاسد أو الكذاب أو الكافر رؤية صحيحة.(135/5)
صدق رؤيا المؤمن في آخر الزمان
وأما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا اقترب الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب) فما معنى اقتراب الزمان؟ بعض العلماء فسره بتقارب الليل والنهار، أي اعتدال الزمنين، وهذا يكون في وقت الربيع، وأن الرؤى عند ذلك تكون أصدق وهذا في العموم، ولكن الراجح والله أعلم ليس هذا، وإنما المراد باقتراب الزمان قرب قيام الساعة، وانتهاء مدة الدنيا، كلما اقتربنا من نهاية الدنيا وقيام الساعة، تكون رؤى المؤمنين لا تكاد تكذب، كأنه لما صار الكذب في آخر الزمان متفشياً، وكذلك الكفر والظلم والجهل، عوض الله المؤمنين في آخر الزمان بأمور من المبشرات والمثبتات، وهي الرؤى التي يرونها صادقة صحيحة وتقع كما رأوها، فهذا تعويض للمؤمنين.(135/6)
الكذب في المنام
والوعيد قد جاء لمن يكذب في المنام، الذي يقول: رأيت كذا، وهو لم ير، بعض الناس يكذبون في المنام، وبعضهم يكذب لأغراض دنيوية، ربما يأتي ويقول: رأيت كذا، لكي تعطيه شيئاً، أو يتقرب منك، ونحو ذلك، وهذا حرام، لو قال بعض الناس: نستخدمه في الدعوة إلى الله، أو لكي نقنع شخصاً عاصياً ونحذره، نخترع له رؤيا نقول: رأيناك في قبر أو رأيناك في سواد، أو رأيناك تضرب، أو رأينا حولك ثعباناً وغير ذلك.
فنقول: لا يجوز، فالغاية لا تبرر الوسيلة، لا بد أن تكون الغاية شرعية والوسيلة شرعية، إذا أردنا أن ندعو إلى الله عز وجل، لا بد أن تكون الوسائل شرعية، أما أن نكذب في المنام لكي نهدي الناس، فهذا أسلوب خاطئ ولا يمكن القبول به، والحديث يقول: (من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل) والحديث رواه البخاري وفي حديث آخر (من أفرى الفرى أن يري الرجل عينه ما لم تر) إدعاء وكذب، وما معنى يعقد بين شعيرتين، يعني: يفتل إحداهما بالأخرى، وهذا حيث أنه محال فالتكليف فيه نوع من التعذيب، مثل المصورين يكلفون يوم القيامة أن ينفخوا الروح في كل صورة صوروها، فإذا قام أحدهم بعمل تمثالاً من ذوات الأرواح، أو صور صورة من ذوات الأرواح ليست للضرورة ولا للحاجة، وإنما للزينة ولكسب المال، فما هو عذابه يوم القيامة؟ يكلف أن ينفخ فيها الروح، يقال: (أحيوا ما خلقتم) كما جاء في الحديث الصحيح، كيف يحيي ما خلق والروح لا يملكها إلا الله عز وجل، وهي من شأنه سبحانه وتعالى؟ فيقال لهم: (أحيوا ما خلقتم) فيكلفون بالمحال وهذا نوع من التعذيب، وكذلك هنا، ولعل هناك ارتباطاً بين هذا وهذا، فالرؤيا خلق من الله، وهي صورة معنوية فما بالك إذا كان المصور يصور صورة حسية، وهذا الذي يتكلف رؤيا ما رآها، إذاً يختلق صورة معنوية لم تقع، إذاً هناك مناسبة بين تعذيب المصور وتعذيب الكذاب في المنام، فيه تشابه لهذه المناسبة، كلاهما يعذب بالتكليف بالمحال، هذا يقال له: (أحيوا ما خلقتم) والآخر يقال له: (اعقد بين شعيرتين) وهيهات الإنسان يعقد بين شعيرتين، وربما تجر الرؤيا الكاذبة على الإنسان مصيبة لم تكن في الحسبان بسبب كذبه في المنام، فقد جاء أن رجلاً قص على ابن سيرين رحمه الله فقال: رأيت كأن بيدي قدحاً من زجاج فيه ماء، فانكسر القدح وبقي الماء، فقال: اتق الله فإنك لم تر شيئاً، يعني أنه اكتشف كذبه، فقال: سبحان الله كيف تكذبني؟ هذا كلامي، قال ابن سيرين: فمن كذب فما عليّ ستلد امرأتك وتموت ويبقى ولدها، فلما خرج الرجل، قال: والله ما رأيت شيئاً، فما لبث إلا أن ولد له وماتت امرأته، فينبغي على المؤمن أن يحذر أشد الحذر في مسألة الكذب في المنام، وكذلك الكذب في التأويل؛ لأن بعض الناس يؤولون الرؤى بغير علم، وهذا حرام، وتأويل الرؤى بغير علم مثل الفتوى بغير علم، وهي باب واحد، يأتي بعض الناس يفسر بالظن يقول: لعل ولعل إما أن يعلم بما يلقيه الله في نفسه مما عنده من علم في تأويل الرؤى وإلا فلا يتكلم إطلاقاً، ويقول: الله أعلم.(135/7)
تقسيم الرؤيا إلى نوعين
أما أنواع الرؤى فإنه قد مر معنا أنها ثلاثة، بشرى من الله، وما يحدث الإنسان بها نفسه، وتحزين من الشيطان.
قال النبي صلى الله عليه وسلم عنها: (إن الرؤيا ثلاث: منها أهاويل من الشيطان ليحزن بها ابن آدم، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر حديث أبي هريرة، وقيل: إن ذلك من كلام ابن سيرين، لكن تقسيم الرؤيا إلى نوعين، نوع من الله، ونوع من الشيطان وهذا صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا ريب، فيمكن أن نقول أن الرؤى نوعان أساسيان: من الله وهي الرؤيا الصالحة، وهي البشرى وجزء من النبوة، وهي كثيرة في الأنبياء والصالحين، قليلة فيمن سواهم.
ثانياً: الأضغاث ويدخل تحت الأضغاث أنواع كثيرة منها: أهاويل وتلاعب الشيطان ليحزن بها ابن آدم، مثل الذي ورد في الحديث: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: رأيت فيما يرى النائم البارحة كأن عنقي ضربت فسقط رأسي فأتبعته، فأخذته ثم أعدته مكانه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه، فلا يحدثن به الناس).
رأيت رأسي قطع وتدحرج ولحقته وأعدته مكانه، هذا من الشيطان فلا يحدث به إطلاقاً، فالشيطان يتلاعب بابن آدم في المنام، فيريه مثل هذه الأشياء، وكذلك من رؤى الضلال المبين أن يرى الإنسان -مثلاً- صورة الله أو النبي صلى الله عليه وسلم أو الملائكة، يقول له: افعل حراماً.
الشيطان يصوره له يقول على أنه الله، أو أنه النبي، أو أنه الملك يقول له: افعل الشيء المحرم، فهذا أيضاً من تلاعب الشيطان لأن الله لا يأمر بالفحشاء، فهذا من الشيطان، كذلك لو أن الشيطان أرى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام مثلاًُ أنه قال: هذا النبي صلى الله عليه وسلم، أسود اللون أو قصير أو سمين أو أعرج أو فيه عاهة أو أعور ونحو ذلك، هذا ليس هو النبي عليه الصلاة والسلام، هذا من تلاعب الشيطان بابن آدم في المنام.
النوع الثالث: نوع لا بشارة ولا من الشيطان، وإنما هو شيء كان الإنسان مهموم به في حياته، كالطالب الذي يذاكر في الامتحان ويقلب الأوراق، ويتخيل الاختبار وما سيأتي من الأسئلة ونحو ذلك فينام، فيرى نفسه في قاعة الاختبار في المنام وتوزع الأوراق، وأنه يحل وأنه سلم الورقة وأنه، شيء كان مهموماً به في يومه فرآه في ليلته، معاملة واحد يتابع فيها، فيرى في المنام المعاملة، ونحو ذلك.
فإذاً هذا النوع لا تقول أنه رؤى من الله بشارة أو لا تقول أنه تلاعب من الشيطان، بل هو هم كان الإنسان مهموماً به في نهاره، فانطبع في شعوره، فرآه في ليله في المنام.(135/8)
أقسام الناس بالنسبة للرؤيا
أقسام الناس بالنسبة للرؤيا، فإن الناس فيها أقسام: فأما الأول فهم: الأنبياء، ورؤياهم كلها صدق ووحي.
الصالحون: والغالب على رؤاهم الصدق، وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير، فهي نوعان: نوع لا يحتاج إلى تعبير، يرى أنه سيحدث في اليوم الفلاني كذا وكذا مثلاً، فيقع فعلاً كما رأى مباشرة، ونوع فيه غموض يحتاج إلى تفسير، فهذا النوع الذي قد يقع لأناس من الصالحين.
وأما من عداهم فتقع لهم أشياء قد تكون صادقة وقد تكون غير صادقة، ولكن الفسقة يغلب على رؤاهم الأضغاث ويقل فيها الصدق، وأما الكفار فيندر جداً أن يقع منام صادق بالنسبة لهم.(135/9)
هل يترتب على الرؤيا حكم شرعي؟
مسألة مهمة: هل يترتب على الرؤيا حكم شرعي؟ إن غلاة الصوفية -أيها الإخوة- كما تقدم في الدرس الماضي، جعلوا من مصادر التلقي المنامات.
كل أهل السنة والجماعة مصادر التلقي عندهم الكتاب والسنة وإجماع الأمة، والقياس؛ أعني قياس عير المنصوص عليه على المنصوص عليه في الكتاب والسنة.
الصوفية عندهم كما ذكرنا (الكشف) يقولون: انكشفت لنا الأستار، ورأى القطب (الولي الأعظم) اللوح المحفوظ ورأى ما هو مكتوب فيه، الذوق والوجد والمنامات، ورأى الخضر، وطلع المقبور فحدثه بأشياء، ويعتبرون ذلك تشريعاً ويقول: أنا أخذت الورد الفلاني والصلاة النارية على فلان الفلاني، خرج من قبره وحدثني به، هذا مصدر عندهم للتشريع والتلقي، وينبني عليه أحكام وفيها فضائل.
بالنسبة لـ أهل السنة، ليست الرؤى عندهم مصادر التلقي، والمنامات والرؤى على فضلها لا تؤخذ منها أحكاماً شرعية، ولا يمكن أن يقول عالم من علماء أهل السنة: إن الشيء الفلاني حرام، والدليل رؤيا رأيتها وفيها كذا كذا، أو يقول: الشيء الفلاني مباح، والدليل رؤيا رأيتها وهي كذا كذا، هذا ليس في دين الإسلام فإذاً غير رؤى الأنبياء لا يمكن أن يؤخذ منها أحكام، رؤى الأنبياء حق ووحي يؤخذ منها أحكام، أما رؤى الناس بشارات، وأخبار عن أشياء تقع في المستقبل، وهكذا.
وليست مجالاً ولا مأخذاً للأحكام، فقد يقول قائل: أليس الأذان شرع بالمنام؟ وأليس عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب رأيا الأذان؟ نقول: نعم.
لكن متى صار الأذان من الدين لما رآه عبد الله بن زيد ورآه عمر أو لما أقره النبي عليه الصلاة والسلام؟ لما أقره عليه الصلاة والسلام، ولذلك ما كانت رؤيا عبد الله بن زيد بمفردها تشريعاً، وإنما بإقرار النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك، وحتى لا يقطع بها في مسائل كمثل رؤية الهلال، قال النووي رحمه الله: لو كانت ليلة الثلاثين من شعبان، ولم ير الناس الهلال، فرأى إنسان النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال له: الليلة أول رمضان، أي: ليلة ثلاثين شعبان، لم يصح الصوم بهذا المنام، لا لصاحب المنام ولا لغيره، فإذاً المنامات لا يؤخذ منها الأحكام الشرعية.(135/10)
آداب المنام
أما بالنسبة للمنام فله آداب تتعلق به: قال ابن القيم رحمه الله: ومن أراد أن تصدق رؤياه، فليتحر الصدق، وأكل الحلال، والمحافظة على الأوامر والنواهي، ولينم على طهارة كاملة، مستقبل القبلة، ويذكر الله حتى تغلبه عيناه، فإن رؤياه لا تكذب البتة.
وأصدق الرؤيا ما كان في الأسحار، فإنه وقت النزول الإلهي، واقتراب الرحمة والمغفرة، وسكون الشياطين، وعكسه رؤيا العتمة، التي هي وقت العشاء، عند انتشار الشياطين والأرواح الشيطانية، فكون الرؤيا تصدق بالأسحار فهذا غالباً، غالب الرؤيا الصادقة تكون في الأسحار.(135/11)
آداب الرؤيا الصالحة
ما هي آداب الرؤيا الصالحة؟ لو أن إنساناً رأى رؤيا يحبها فيها بشارة، ماذا يفعل؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها، وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان، فليستعذ من شرها، ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره) وقال صلى الله عليه وسلم: (فإن رأى أحدكم حسنة فليبشر، ولا يخبر إلا من يحب).
فإذاً الآداب المتعلقة بالرؤيا الصالحة، في السنة عدة: أولاً: أن يحمد الله تعالى.
ثانياً: أن يسأله تحقيقها.
ثالثاً: يحدث بها من يحب.
رابعاً: أنه لا يخبر حاسداً ولا يخبر جاهلاً، يحدث بها من يحب.
وأما الرؤيا المكروهة، فجاء في السنة أنه إذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان، وليتفل ثلاثاً، ولا يحدث بها أحداً، فإنها لا تضره، وفي رواية: (وليبصق عن يساره ثلاثاً، ويستعذ بالله من الشيطان ثلاثاً، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه) وفي رواية: (فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم، وليصل ولا يحدث بها الناس) فإذا رأى الإنسان رؤيا سيئة أو مكربة أو مفزغة فماذا يجب عليه أن يعمل؟ أولاً: يستعيذ بالله من شرها.
ثانياً: يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
ثالثاً: يتفل عن يساره ثلاثاً طرداً للشيطان وتحقيراً له، وجهة الشمال معروفة في الشريعة للأشياء المستقذرة، والشيطان ممكن أنه يكبت من جراء هذا البصق، وهذا التفل الذي يكون عن الشمال ثلاث مرات، ويحقر ويخنس.
رابعاً: لا يذكرها لأحد؛ حتى لا يتعجل أحد بتعبيرها بأشياء مكروهة، فيتضرر الرائي.
خامساً: أن يصلي عندما يستيقظ من نومه، والصلاة مطردة للشيطان.
سادساً: يتحول عن جنبه الذي كان عليه، تفاؤلاً بتغير الحال، فإذا كان نائماً على اليمين ينام على ظهره، فهذه بالنسبة لمسألة الرؤى السيئة، أما إذا انفجع من الرؤيا وقام من النوم مفزوعاً يقول: أعوذ بكلمات الله التامة، من غضبه ومن شر عبادته، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:97 - 98].(135/12)
تأويل الرؤى وتعبيرها
أما تأويل الرؤى وتعبيرها فمعناها: الأخبار بما تئول إليه الرؤيا، فما هو تفسير الرؤيا؟ هو كما عبر يوسف {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} [يوسف:41].
الأولى تعبيرها شبه مباشر: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} [يوسف:41]، وأما الآخر، فيصلب ويموت ويقتل وتأكل الطير من رأسه، تأتي وتقف عليه وهو مصلوب وتأكل من رأسه وتنقر في رأسه، هذا تأويله.
الرؤى إذاً قسمان: قسم جلي، كمن رأى في المنام أنه يعطى تمراً فقام في النهار فأعطي تمراً.
أو رأى في المنام أن فلاناً سيموت، فقام من المنام وأخُبر أن فلاناً مات، أو بعد مدة حصل ما رآه منه.
وقسم مرموز له، بعيد المرامز لا يعبره إلا حاذق؛ لأن فيه ضرب مثل، فهذا لا يقص إلا على معبر، والمعبر له صفات: منها أن يكون عالماً، ذكياً، تقياً، نقياً من الفواحش، يعرف حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولغة العرب، فهذا الذي تقص عليه الرؤى لتعبيرها وتفسيرها، وأيضاً يقول عمر رضي الله عنه لما كتب لـ أبي موسى كما في شرح السنة للبغوي: [أما بعد: فإني آمركم بما يأمركم به القرآن، وأنهاكم عما نهاكم عنه محمد صلى الله عليه وسلم، وآمركم باتباع الفقه والسنة والتفهم في العربية، وإذا رأى أحدكم رؤيا فقص على أخيه فليقل خيراً لنا وشراً لأعدائنا] أي يتفاءل بها لنفسه وللمسلمين، وأيضاً ويتفاءل بأنها شر على الكفار والأعداء.
وقد سئل الإمام مالك رحمه الله: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ قال: [أبالنبوة يلعب!] ثم قال: [الرؤيا جزء من النبوة فلا يعلب بالنبوة] وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا رأى أحدكم رؤيا حسنة فليفسرها وليخبر بها، وإذا رأى رؤيا قبيحة، فلا يفسرها، ولا يخبر بها) وإذا كان يستطيع أن يفسرها فسرها، وإذا لم يستطع أن يفسرها فإنه يقصها على من يعرف التفسير، ممن تقدمت صفته.(135/13)
السؤال عن الرؤيا
والسؤال عن الرؤيا لا بأس به، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا صلى الصبح أقبل على أصحابه، ويقول: هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا؟ من رأى منكم رؤيا فليقصها أعبرها له) كان يقول لأصحابه هذا الكلام بعد الفجر خاصة؛ لأن الرائي يكون صافي الذهن، والعابر يكون حاضر الذهن، ورؤى الأسحار -كما تقدم- من أصدق الرؤى، ومرة ما قص عليه أحد شيء، فأخبر عن رؤيا رآها، وأخبر عما حصل فيها.
تقص الرؤيا على صاحب مودة وعلى ذي علم، كما جاء في الحديث، ولا تقص على حاسد، ولذلك كان يعقوب حكيماً لما قال ليوسف: {لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف:5] لأن إخوتك حسدة، حسدوك على النعمة التي أعطاك الله إياها، فلا تقصصها على حاسد: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} [يوسف:5].
هل يمكن للإنسان إذا أخبر جاهلاً برؤيا ففسرها وعبرها أنها تقع فعلاً على هذا النحو الذي عبرها به؟ ممكن، وقد جاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، تكلم العلماء في صحته، بعضهم صححه وبعضهم لم يصححه أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إن الرؤيا تقع على ما تعبر به، ومثل ذلك كمثل رجل رفع رجله فهو ينتظر متى يضعها) إذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحاً أو عالماً، الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت.
وقد يقال: ممكن الآن واحد يقص الرؤيا على كذا شخص وكل واحد يفسرها له تفسيراً مختلفاً، فعلى أي تفسير تقع؟ قال بعضهم: تقع على أول معبر، واشترط بعضهم أن يكون أول عابر يصيب وجه التعبير الصحيح، وإذا أول عابر ما أصاب وجه التعبير الصحيح، وقال كلاماً من عنده خلطاً وما أصاب، فأول واحد يصيب بعده، يقع تعبير الرؤيا بناءً على كلامه، فإذاً على أول معبر يعبرها بشكل صحيح.
هناك قصة حسنه رواها الدارمي، حسن الحافظ ابن حجر رحمه الله إسنادها في الفتح: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج تاجر، يختلف في التجارة، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن زوجي غائب وتركني حاملاً فرأيت في المنام أن سارية بيتي انكسرت، وأني ولدت غلاماً أعور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خيرٌ، يرجع زوجك إن شاء الله صالحاً تلدين غلاماً براً، فذكرت ذلك له، فجاءت ورسول الله صلى الله عليه وسلم غائب، ذكرت ذلك ثلاثاً) الآن المرأة جاءت وسألت ثلاث مرات وهي تجاب بنفسه، جاءت مرة أخرى والنبي عليه الصلاة والسلام غائب، وعائشة موجودة، فسألت عائشة عن المنام، يعني: الآن ليس هناك داعي أن تسأل عائشة؛ لأنها سألت النبي عليه الصلاة والسلام وهو أصدق الناس، وأعرف الناس بالتأويل، فلماذا تسأل بعده؟ فربما أصبحت في عقوبة.
فـ عائشة ما كانت تدري عما قبل، فلما جاءت هذه المرأة وقالت: رأيت كذا وكذا، قالت عائشة: [لئن صدقت رؤياك، ليموتن زوجك، وتلدين غلاماً فاجراً] فقال: انكسرت سارية البيت، يعني: موت عمود البيت وهو الرجل، والغلام الأعور يعني: غلام فاجر، فقعدت تبكي المرأة هذه، فجاء رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (مه يا عائشة! إذا عبرتم للمسلم الرؤيا فعبروها على خير؛ فإن الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها، قالت عائشة: فمات والله زوجها، ولا أراها إلا ولدت غلاماً فاجراً) فقال بعضهم: لعله عقوبة لهذه المرأة حيث سألت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد سألت ثلاثاً وما اكتفت؟! فإذاً الرؤيا لا تقص على أي أحد، تقص على ناصح وواد، ليس على حاسد ولا على جاهل، وإنما صاحب علم، هذه الصفات التي ذكرناها لمن تقص عليه الرؤيا.(135/14)
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام تقدم الكلام فيها وشرحها، وأن الشيطان لا يتمثل بصورة النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا رأيته عليه الصلاة والسلام ورأيت شعره أسود، ورأيت شيباً بسيطاً في مفارق الرأس والعنفقة (عشرون شعرة بيضاء) ولحيته تملأ ما بين منكبيه، ووجهه أبيض مشرب بالحمرة، وعيناه واسعتان، وشديدتا السواد في شدة البياض، ورموشه قد طالت وانثنت، وأنه صلى الله عليه وسلم عريض ما بين المنكبين، وأنه عظيم المشاش أي: مفاصل الأصابع، وأنه صلى الله عليه وسلم كان شعره يصل إلى أذنيه أو يصل أحياناً إلى عاتقيه، وأحياناً تكون له ظفائر، وكل هذا ورد في صفة شعر النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر ما ورد في صفاته؛ إذا رأيته على صفاته التي وردت في كتب السيرة، فهو هو عليه الصلاة والسلام، والشيطان لا يمكن أن يتمثل به، فرؤيته قد تكون بشارة تثبيت، لصاحب المنام -مثلاً- يثبته الله عز وجل بأن يريه النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقول له كلمات فيها تثبيت، وقد يراه من غير أن يقول له كلمة.
وأما إذا رئي على صفة المغايرة، فليس هو النبي عليه الصلاة والسلام قطعاً، وقد يقول: رأيت نوراً ما رأيت وجهه ولا رأيت شكله، فنقول: لا نستطيع أن نقطع أنه هو عليه الصلاة والسلام.
ابن سيرين قال له رجل: إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، قال: صف الذي رأيته، فإن وصف له صفة لا يعرفها، قال له: لم تره، ومرة رآه رجل، فوصفه لـ ابن عباس: قال: لم تعدل، لو رأيته في الحقيقة ما استطعت أن تصفه بأكثر وأوضح من هذا، والرجل ما كان رأى النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه من التابعين.(135/15)
رؤى النبي صلى الله عليه وسلم
النبي عليه الصلاة والسلام رأى رؤيا فقصها على أصحابه، رأى أنه على حوض يسقي الناس، وأتى أبو بكر فأخذ الدلو ليريح النبي عليه الصلاة والسلام، فنزع ذنوبين، وفي نزعه ضعف والله يغفر له، فأتى عمر بن الخطاب فأخذ منه، فلم يزل ينزع حتى تولى الناس والحوض يتفجر، ففسروه على أن الفتوحات في عهد عمر بن الخطاب تكون شاملة وكبيرة، وعهد الصديق كان سنتين وأشهر، انشغل فيه بقتال المرتدين، وإرساء دعائم الإسلام، وما كان عمر يستطيع أن يفتح لولا أن أبا بكر قد مهد الأمر بوضع القواعد والأسس، وأن الإسلام قد استتب في الجزيرة بمحاربة المرتدين.
خلافة عمر استمرت فوق عشر سنوات، ولذلك فتح الله الأمصار في عهده، والنبي صلى الله عليه وسلم رأى أن عمر بن الخطاب عليه قميص يجتره فأوَّله بالدين، يعني: أن دين عمر كامل وسابغ، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يشرب لبناً وأنه خرج من أظفاره الري وأنه أعطى الفضل لـ عمر، وأول اللبن هنا بالعلم، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم قصراً وامرأة تتوضأ بجانب القصر، فقال: (لمن القصر؟ فقيل: لـ عمر؟ فذكرت غيرتك فوليت مدبراً، فبكى عمر رضي الله تعالى عنه).
رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه هاجر إلى أرض ذات نخل، ذهب وأهله إلى أرض اليمامة أو هجر، فإذا المدينة هي يثرب، ورأى رؤيا أنه انثلم سيفه، فانقطع صدره، فإذا هو ما وقع بالمؤمنين يوم أحد من مصيبة، ثم هزه مرة أخرى فإذا هو راجع كما كان، فأوله ما جاء الله به من فتح واجتماع المؤمنين، ورأى في المنام بقراً تذبح، وكان تأويلها النفر من المؤمنين -السبعين- الذين أصيبوا في أحد وقتلوا، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أناساً من أمته، غزاة في سبيل الله يركبون ثبج البحر كالملوك على الأسرة، فأخبر أصحابه بذلك واستيقظ يضحك، فسألت أم حرام بنت ملحان، أن يجعلها الله منهم، فدعا لها، فهكذا حصل وركبت البحر زمن معاوية وغزت، وخرجت من الساحل وركبت الدابة فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فهلكت وذهبت شهيدة إلى الله سبحانه وتعالى.
وكذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة أنه في دار عقبة بن رافع، وأنه أوتي برطب من رطب مرطاب فأولها بالرفعة لنا في الدين، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب، وكذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم زوجته عائشة يحملها الملك جبريل في سرقة من حرير، ويقول هذه امرأتك، فيكشفها فإذا هي عائشة، هذا الكلام قبل أن يتزوج عائشة بمدة، ويقول: إن يكن من عند الله يمضه، وفعلاً تزوج النبي صلى الله عائشة، ورأى النبي عليه الصلاة والسلام امرأة سوداء ثائرة الرأس، خرجت من المدينة حتى نزلت الجحفة، فأولها: بأن وباء المدينة خرج من المدينة ونقل إلى الجحفة، وهذا الحديث في البخاري.
والصحابة رأوا رؤى؛ منها ما تقدم أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤاكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها) ورؤيا الأذان كذلك من رؤيا الصحابة رضوان الله تعالى عنهم، وغير هذه من الرؤى التي رآها الأنبياء والصالحون من بعدهم، وربما الرؤيا أحياناً تذكر الإنسان بشيء، كأن يكون مجتهداً يفكر في أمر من الأمور، كمن عرضوا عليه قضية صلاة الجنازة على شخص مشكوك فيه، ما يدري هل هو مسلم أم كافر؟ فماذا يقول في صلاة الجنازة؟ فقيل: أن أحد أهل العلم وهو شيخ الإسلام رحمه الله عرضت المسألة عليه ونام، فرأى رؤيا وكأن أحداً يقول له: الشرط يا أحمد! الشرط يا أحمد! ففهم من ذلك أن يشرط في الدعاء، يعني أنه يقول في الدعاء: اللهم إن كان صاحب هذه الجنازة مؤمناً فاغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، وهكذا، فيقول الشرط، إن كان صاحب هذه الجنازة مؤمناً فيدعو له بالمغفرة والرحمة، وكذلك إذا اشتبه في كونه مؤمناً أو كافراً أو ما يدرى عن حاله، وكذلك يمكن أن تحصل رؤيا تدل شخصاً على شيء مفقود، كما حصل لبعض القضاة وكان قد وضع عنده صك قرض لبعض من جاء يستفتيه في مسألة العقار، فقال القاضي: انظر فيها وضعها في مكان وتفي، وجاء أصحاب الصك يريدونه فما عثر عليه الورثة، وصارت المسألة في حرج على أولئك وعلى هؤلاء، فرأى ولد القاضي في المنام أن الشيخ يقول له: أنظرها في المكان كذا من الدرجة، في مكان وضعتها فيه، فقام من النوم، وذهب فعلاً فوجدها في نفس المكان الذي قيل له في المنام أن أباه قد وضعها فيه، وجاء وأعطاها لأصحابها وقال: إنه رحمه الله دلني على المكان في المنام، وقد تقع عجائب من هذا القبيل، وهذا لا حرج في ثبوته وتصديقه، وممكن أن يكون حقاً، وأخبار الرؤى كثيرة جداً وتكفي القواعد التي تقدم ذكرها.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يقر أعيننا بدينه ونصرة دينه، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يجعلنا من أهل الصلاح والتقوى، والمتمسكين بالعروة الوثقى، وأن يجعلنا من أهل الصدق، وصلى الله وسلم على نبيا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(135/16)
رأس المنافقين
إن عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق قد أثر تأثيراً بالغاً في زرع الفتن، وإثارة الأحقاد بين المسلمين، بل لقد بلغ به الحد أن نال من النبي صلى الله عليه وسلم ومن عرضه، لكنه لما مات صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم رحمة بأمته، وتأليفاً للناس؛ كما أنه لم يقتله عندما أثار الفتن.(136/1)
عبد الله بن أبي وبعض تربصه بالنبي والمسلمين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الأخوة: شخصية عجيبة تلك التي سنتناولها في هذه الخطبة إن شاء الله، كان لها أثر كبير في وقتها، وقد جاءت بشأنها آيات من الكتاب العزيز، وأحاديث في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته.(136/2)
أول مقابلة يتربص بها ابن أبيّ بالنبي صلى الله عليه وسلم
كانت أول مقابلة لهذه الشخصية مع النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن أسامة بن زيد؛ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على قطيفة فدكية، وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث من الخزرج، قبل وقعة بدر، حتى مر بمجلسٍ فيه عبد الله بن أبي، قبل أن يسلم عبد الله بن أبي، أي: يتظاهر بالإسلام، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان، واليهود والمسلمين، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، ثم وقف، فنزل فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: أيها المرء! إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقاً فلا تؤذنا به في مجلسنا، ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه، فقال: عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته، حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب؟ يريد عبد الله بن أبي، قال كذا وكذا، قال سعد بن عبادة: يا رسول الله! اعف عنه واصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب، لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة -أي: البلدة، وهي يثرب التي صارت المدينة وطيبة - على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة، أي: يتوجوا عبد الله بن أبي ملكاً عليهم -فلما أبى الله ذلك، فاتت الفرصة على عبد الله بن أبي وفاته الملك للإسلام الذي جاء- فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله، شرق بذلك -أي: غص به وكرهه- فذلك فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وكان النبي صلى الله وعليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب -كما أمرهم الله- ويصبرون على الأذى، أي: في تلك المرحلة التي جاءت بعدها مرحلة أخرى، كما قال الله عز وجل: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} [آل عمران:186] إلى آخر الآية.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم، ونزلت الآيات بالأمر بجهاد الكفار والمنافقين، والغلظة عليهم، وتغيَّر الحال، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً، فقتل الله به صناديد كفار قريش، قال ابن أبي ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه -أي: ظهر وبان، وقوي الإسلام وقام عموده- فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأسلموا، أي: في الظاهر.
لقد اضطر ابن أبي أن ينتقل من العداوة الجهرية للدين إلى العداوة السرية، والكيد للإسلام وأهله، لقد فوت عليه هذا الدين الملك، فشرق من أجل ملكه، ونافق، وصار يعادي الإسلام والمسلمين، ويدبر المؤامرات ويحبكها هو وأعوانه كيداً للدين وأهله، وكان مما يخفي به أمره أنه كان يقوم بعد خطبة الجمعة، بعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطبها، يدعو قومه إلى الإسلام متظاهراً أنه ينصر الله ورسوله، وهكذا كان يتظاهر بالحرص على مصلحة المسلمين.
وفي الجهاد كان لا يريد المسلمين أن يخرجوا من المدينة إلى أحد، حتى لا ينكشف هو وأصحابه، ولكن الله عز وجل أراد أمراً آخر، فاضطر للخروج، ثم انسحب، وهكذا صار أمرهم في بقية الغزوات أنهم لا يخرجون، ويتخلفون بالأعذار الواهية، وإذا خروا خرجوا ليرجعوا، أو ليثيروا الفتنة في جيش المسلمين.
إن ذلك الرجل يكره الدين وأهله، وتجرأ أن يقول للنبي صلى الله عليه وسلم وقد خمر أنفه بردائه: لا تغبروا علينا، وفي رواية أخرى للبخاري أنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام: إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك، فغضب لـ عبد الله رجل من قومه فشتمه، فغضب لكل واحد منهم أصحابه، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال.(136/3)
مكائده في غزوة بني المصطلق
فإذاً كان مؤامرات عبد الله بن أبي تسبب الوقيعة في المسلمين والفتنة بينهم، فلقد كاد النبي عليه والصلاة والسلام وآذاه في أقرب الناس إليه زوجته عائشة، واتهم صفوان بن المعطل وإياها بفعل الفاحشة، وأنزل الله براءتها من فوق سبع سموات، وبراءة صفوان رضي الله عنهما، فقد بلغ أذاه إلى أهل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لا يتوانى في انتهاز الفرص للوقيعة بين المسلمين، ولذلك فإن غزوة المريسيع (غزوة بني المصطلق) قد شهدت مواقف دنيئة من هذا الرجل في غاية العجب، ومن ذلك ما حصل بين رجلين مزح أحدهما مع الآخر، فحصل بينهما رفع لشعار الجاهلية، فلما أنكره النبي صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله بن أبي لما سمع القصة أوقد فعلوها؟ أي: المهاجرون، والله لقد كاثرونا في بلدنا، وصاروا يأكلون من خيراتنا، ونافسونا، ثم يريدون أن يطغوا علينا، فأراد أن يحيي العصبية، ويعيدها جاهلية، فقال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وقال أيضاً: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا، أي: امنعوا الأموال عنه وعن أصحابه، لا تعطوه زكاة ولا غيرها، فيضطر الناس للانفضاض عنه، والأعراب الذين لا يأتون للمال لا يأتون، فلما سمع بذلك عمر رضي الله عنه، قال: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).
سلك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك المسلك إيثاراً لسلامة الدين والدعوة، وحتى لا يتحدث العرب الذين لا يعرفون القصة، وهم البعيدون عن المدينة وظروفها والأحوال والملابسات، حتى لا يقال إن محمداً قتل ابن أبي وهو قد تابعه وأظهر الإسلام، فترك النبي صلى الله عليه وسلم قتله، فانبرى ابنه عبد الله، وكان رجلاً مسلماً صادقاً - عبد الله بن عبد الله بن أبي، والله يخرج الحي من الميت- فقال لأبيه: والله لا تنقلب حتى تقر أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز، ففعل رغماً عنه، حبسه على باب المدينة، الحديث رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
لقد فعل ابن أبي من المؤامرات عجيباً، ومن ذلك أنه خان الله ورسوله؛ وهذا من أشنع الأمور، والله سبحانه وتعالى قال لنبيه: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء:107] أي: يخونونها بالمعصية {} [النساء:107] وخان الخيانات جميعاً الصغرى إلى العظمى، إلى خيانة دولة المسلمين، وإلى التجسس لحساب العدو مع إخوانه المنافقين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} [المائدة:41].
هل تعرفون -يا أيها الأخوة- هذه الآية: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} [المائدة:41] قال أهل التفسير، وذكره ابن كثير رحمه الله: هذه الآية في المنافقين، وقال في شرحها: سماعون من أجل قوم آخرين، فكانوا يأتون مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، وينقلون أخباره إلى قوم وصفهم الله بقوله: لم يأتوك قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} [المائدة:41] فكان هناك كفار صرحاء لا يستطيعون الإتيان، وكان هؤلاء المنافقون يجلسون عند النبي صلى الله عليه وسلم يسمعون الأخبار، وينقلونها إلى قوم لم يأتوه: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:41].(136/4)
ما هي صفات المنافقين؟
ما هي صفات عبد الله بن أبي وأصحابه؟ قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] لقد كان أمراً عجيباً ذلك الذي فعله ابن أبي في الطعن وكشف عورات المسلمين، وإفشاء أسرارهم، والتجسس للمشركين على المسلمين، ونقل أخبار المسلمين والتآمر عليهم، كانوا طابوراً خامساً وصفاً خلفياً، يريدون أن يظهر في المسلمين عورة تنقل إلى الكفار، وثغرة يخبر بها الكفار، واتخذوا مسجد الضرار كفراً وتفريقاً بين المؤمنين، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله، وتستروا بالمسجد، وهو في الحقيقة ضرار للإسلام وأهله، هكذا كانوا يتسترون بالإسلام وهم على الكفر الأكبر، وهكذا فعلوا عندما نصبوا ذلك الصرح ليجعلوه وكراً لمؤامراتهم، حتى لا تنتبه إليهم عيون المسلمين، وكانوا يحرضون الكفار على المسلمين قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} [الحشر:11] وهكذا صنع أعداء الله، وهكذا جاملوهم وكانوا في صفهم، قال الله تعالى عنهم: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء:138 - 139] فكانوا يصانعون اليهود في المدينة ليبتغوا عزة، وإذا كانت الدائرة على المسلمين قالوا: لقد دخلنا في الصف الأقوى قال تعالى: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء:139] وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة:51 - 52] إنها مسارعة وهرولة، إنها ركض وسعي، يسارعون فيهم، يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:52 - 53].
لقد كان أولئك المنافقون بقيادة عبد الله بن أبي يتخلفون عن الجهاد الحقيقي، ويصانعون أعداء الله، وكانوا من تخلفهم لا يعدون عدة، ولقد كشف الله أستارهم وأسرارهم وقال: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46] فلو كانوا يريدون الجهاد حقيقةً لأعدوا عدة الجهاد، ولكنهم لم يعدوها، ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة، كانوا يتخلفون عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأعذار القبيحة، وكذلك فعل عبد الله بن أبي، وكان المسلمون يكتشفون المنافق من وجهه ونصيحته لمن هي، ولذلك قال بعضهم في رجل اتهمه بالنفاق: إنا لنرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين، وهكذا كانت سور القرآن تنزل، كالتوبة والمنافقين، والنساء والنور؛ كاشفة لأستار هؤلاء، فإن الله تعالى لم يكن ليترك نبيه دون كشف حالهم، وسميت سورة من القرآن بالفاضحة، لأنها كانت تفضحهم، والعجب كيف كان شعور ابن أبي وغيره من المنافقين والسور تنزل في فضحهم، والله يقول: يقولون، يقولون، وهو كلامهم بالنص، وهكذا كان القرآن ينزل بكلامهم بالنص الذي قالوه سراً، فاطلع الله عليه، فأطلع المؤمنين عليه.
اللهم إنا نسألك البراءة من النفاق، اللهم إنا نسألك البراءة من النفاق، اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألستنا من الكذب، إنك حي قيوم سميع مجيب، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(136/5)
موت ابن أبي والصلاة عليه
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله! ولا حول ولا وقوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، وحامل لواء الحمد، وصاحب المقام المحمود، الشفيع المشفع يوم الدين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله! وبعد حياة حافلة بالمؤامرات على الإسلام مات عبد الله بن أبي ابن سلول، وذهب منافقاً إلى ربه، فماذا كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم؟ وماذا حصل في نهاية قصة ذلك الرجل؟ روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله، فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة:80] وسأزيده على السبعين، قال: إنه منافق، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84]) الحديث رواه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، قال ابن حجر أحمد بن علي العسقلاني صاحب كتاب فتح الباري بشرح صحيح البخاري رحمه الله تعالى في قول البخاري: جاء ابنه عبد الله بن عبد الله القصة: لما احتضر عبد الله، أي: ابن أبي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا نبي الله إن أبي قد احتضر فأحب أن تشهده وتصلي عليه، قال: ما اسمك؟ قال: الحباب، قال: بل أنت عبد الله).
وكان عبد الله بن عبد الله بن أبي من فضلاء الصحابة، وشهد بدراً وما بعدها، واستشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق، ومن مناقبه: أنه بلغه بعض مقالات أبيه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في قتله، خشي إن قتله أحد المسلمين ألا يتحمل الموقف، فقال: أقتله بيدي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل أحسن صحبته) أخرجه ابن مندة من حديث أبي هريرة بإسناد حسن، وكأنه كان يحمل أمر أبيه على ظاهر الإسلام، فلذلك التمس من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر عنده ويصلي عليه، ولا سيما وقد ورد ما يدل على أنه فعل ذلك بعهد أبيه، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر والطبري من طريق سعيد كلاهما عن قتادة، قال: أرسل عبد الله بن أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه أي: على المنافق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أهلكك حب يهود) فقال: يا رسول الله! إنما أرسلت إليك لتستغفر لي، ولم أرسل إليك لتوبخني، ثم سأله أن يعطيه قميصه ليكفن فيه، فأجابه، وهذا مرسل مع ثقة رجاله، ويعضده ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال: لما مرض عبد الله بن أبي، جاءه النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث، قال ابن حجر: وكأن عبد الله أراد بذلك دفع العار عن ولده وعشيرته بعد موته، فأظهر الرغبة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ووقعت إجابته إلى سؤاله بحسب ما ظهر من حاله، إلى أن كشف الله الغطاء عن ذلك، وهذا من أحسن الأجوبة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: [فقام إليه، فلما وقف عليه يريد الصلاة، وثبتُ إليه فقلت: يا رسول الله! أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا؟ أعدد عليه قوله] يشير بذلك إلى مثل قوله: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، وإلى مثل قوله: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، وقال عمر يا رسول الله: أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ وكأن عمر رضي الله عنه فهم من قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] أن النبي صلى الله عليه وسلم حتى لو زاد على السبعين لن يغفر الله لـ عبد الله بن أبي مادام قد مات على النفاق، وهذا مقتضى كلام العرب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يريد أن يتألف قوم عبد الله بن أبي وولده المسلم أيضاً، وكذلك فإنه كان رحيماً بأمته، فمشى على فهم كان قد تراءى له، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت) وهكذا أراد أن يزيد، فطول القيام تطويلاً طويلاً، كما جاء في بعض الطرق لهذا الحديث، وقال: (تأخر عني يا عمر) فلما تأخر عنه، وحصلت الصلاة، نزلت الآيات، والله سبحانه وتعالى يبين للمؤمنين: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] قال في رواية: فذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (وما يغني عنه قميصي من الله، وإني لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه) وأنزل الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84].
وفي حديث ابن عباس، فلم يمكث إلا يسيراً، حتى نزلت، أي الآية، قال: فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله، وهكذا حصل في هذه السيرة لهذا الرجل، وانتهت بإعلان واضح وصريح من رب العزة سبحانه وتعالى بأنه لا مجاملات على حساب العقيدة، وأنه لا يمكن أن يستغفر المؤمنون لرجل من المشركين: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل بالظاهر حتى يعلم الحق والحقيقة بالأدلة التي يراها في الواقع، أو بما يوحيه الله إليه، وبين الله تعالى لنا صفات المنافقين، في سور كثيرة من القرآن، وآيات معددة لنحذر منهم، وليس بعجيب ولا غريب أن تكون عدد الآيات في صدر سورة البقرة التي تتكلم عن المنافقين أضعاف عدد الآيات التي تتكلم عن المؤمنين، وكذلك التي تتكلم عن الكافرين الصرحاء، لأن الناس ثلاثة أقسام: مسلم، وكافر صريح، ومنافق يخفي الكفر ويظهر الإسلام، ونظراً لخفاء حال هؤلاء فقد اعتنى الله عز وجل عناية بالغة بذكر صفاتهم، ليحذرهم المؤمنون، وهكذا كان جهادهم أمراً واجباً، بنص قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [التحريم:9].
اللهم إن نسألك أن تحيي الإيمان في قلوبنا، اللهم اجعل قلوبنا معمورة بالإيمان واليقين.(136/6)
رواسب الجاهلية
الطبع يغلب التطبع كما قيل، وربما اهتدى المرء لكن مع بقاء أمور في طبعه كان قد اعتادها في جاهليته، فتبدو على حين غفلة، أو في موقف ما، وهذا قد حدث للصحابة على رفعتهم وفضلهم، ونحن بذلك أحرى، ولكن النصح مطلوب، وتقبُّله وإن كان مراً واجب(137/1)
موقف الإسلام من آثار الجاهلية(137/2)
حث الإسلام على التخلص من آثار الجاهلية
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فيا عباد الله! يكون المرء مسلماً، ويولد في الإسلام، ويعيش بين المسلمين، وربما يكون ضالاً فيهديه الله عز وجل، فيغشى دور العبادة، ويصحب الأخيار، ويأتي الطاعات، وينتهي عن كثير من المحرمات، وربما شرع في طلب العلم، ولكن يبقى في نفسه من آثار الجاهلية ما يبقى، يدخل في الإسلام لكن دخولاً ليس بالكلي، فتبقى معه آثار من آثار الجاهلية، وبعضهم تظهر في نفسه بعد حين من الزمن من تلك المورثات الأولى التي كان عليها أيام ضلاله، ويدخل بعضهم في الهداية، ولكن يبقى فيه من لوثات المجتمع الفاسد الذي كان فيه، أو مما ورثه عن بعض أهله وعادات آبائه وأجداده مما يخالف شريعة الإسلام، وهذا عيب كبير أن نكون مسلمين ولكن فينا من لوثات الجاهلية، وأن تظهر علينا علامات الهداية وسمت الإسلام والتمسك بالسنة، ولكن فيها رذاذ يصيبنا من الجاهلية.
لقد جاء الله بالإسلام، فمحا الجاهلية، وتتبعت الشريعة كل أمر من أمور الجاهلية القبيحة لتنسفه وتحرمه، وتعظ الناس به، قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] يذكّر النساء المسلمات بالبقاء في البيوت فلا يخرجن لغير حاجة شرعية، كالصلاة في المسجد بشرطها، أو حاجة دنيوية لا أن يخرجن من غير حاجة.
وقال تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية، وقال قتادة: إذا خرجن من بيوتهن كانت لهن مشية وتكسر وتغنج، فنهى الله تعالى عن ذلك، وقال مقاتل في تبرج الجاهلية: أن تلقي الخمار على رأسها، ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله، وربما كشف النحر وما على النحر من الحلي نتيجة عدم شد الخمار، هذا من تبرج الجاهلية، فذكر الله النساء المسلمات بترك ذلك فقال: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] لا يريد الشارع أن تبقى عند المرأة المسلمة خصلة من تلك الخصال الذميمة من العهد السابق، وعن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189].
لقد كانوا -أيها الإخوة- يدعون الإنسان لمن تبناه، فيأتي إنسان يتبنى شخصاً له أب معروف، فيلغي اسم أبيه، وينسبه إلى نفسه، أو له أب غير معروف فيعطيه اسماً يضيفه إليه، وينسبه إلى نفسه؛ عن عائشة رضي الله عنها أن أبا حذيفة، وكان ممن شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم تبنى سالماً، وأنكحه بنت أخيه هند بنت الوليد، وهو مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً، وكان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه، وورث من ميراثه، حتى أنزل الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5].
لكن لا تجوز النسبة لغير أبيه الحقيقي، وإن لم يعرف فلا ينسب إلى شخص ليس بولده فيرث ظلماً مع أولاده من تركته، وربما كشف كذلك على بنات هذا الرجل، بحجة أنه ولد من أولاده وليس كذلك، فجاءت الشريعة بتحطيم هذه العادة الجاهلية، وأنزل الله في كتابه آية يبين فيها تحريم ذلك، وتغير اسم زيد بن محمد إلى زيد بن حارثة، ورجع إلى اسمه الأصلي، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب زوجة زيد، وكان من أكبر العيوب في الجاهلية، أن يتزوج الإنسان زوجة ابنه بالتبني، فكان تحطيمها بتزويج زينب للنبي عليه الصلاة والسلام، لإزالة تلك العادة الجاهلية، ونسخ ذلك، وعندما كان يدخل الشخص في الإسلام كان يمحو من نفسه عادات الجاهلية، ويقاوم نفسه التي تريد العودة إلى الطبع الأول، وربما غلب شيء أو جهل الإنسان شيئاً -والجاهلية من الجهل- فخرج منه أمر يكرهه الشارع، فيعاتب عليه وينبه إليه، كما حصل لـ أبي ذر رضي الله عنه، فروى المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال: رأيت عليه برداً وعلى غلامه برداً، فقلت -أي: لـ أبي ذر:- لو أخذت هذا فلبسته كانت حلة، وأعطيته ثوباً آخر، فيوافق ما عليك ويكتمل الطقم، فقال: كان بيني وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية، فنلت منها، فذكرني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: (أساببت فلاناً؟ قلت: نعم، قال: أفنلت من أمه؟ قلت: نعم، قال: إنك امرؤٌ فيك جاهلية، قلت: على حين ساعتي هذه من كبر السن، قال: نعم) رواه البخاري وفي رواية مسلم: (نعم على حال ساعتك من الكبر).
فـ أبو ذر رضي الله عنه لعله كان يجهل ذلك، واستغرب كيف فاتت عليه مع كبر سنه، فأكد له عليه الصلاة والسلام أنها من الجاهلية وإن غفل عنها، ثم أوصاه فقال: (هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولايكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه، فليعنه عليه) رواه البخاري، وفي رواية: (إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية، فعيرته بأمه، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبي صلى الله وعليه وسلم، فقال: يا أبا ذر! إنك امرؤٌ فيك جاهلية، قلت: يا رسول الله! من سب الرجال سبوا أباه وأمه، قال: يا أبا ذر! إنك امرؤٌ فيك جاهلية، هم إخوانكم) الحديث رواه مسلم.
حصل بينه وبين إنسان سوء تفاهم، فعيره بأمه، وفي رواية أنه قال له: يا بن السوداء، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنك امرؤٌ فيك جاهلي) أي: خصلة من خصال الجاهلية، وهكذا قالها عليه الصلاة والسلام صريحة، وأبو ذر من هو؟ من أصدق الناس لهجة، وأتقاهم لله تعالى، لكن ظهر منه في لحظة من ضعف مكنونٌ من مكنونات الجاهلية، التي كانت قد ترسبت في الباطن عبر السنوات الطويلة التي عاشها في الجاهلية، ظهرت على حين غفلة وغضب، فعاتبه عليه الصلاة والسلام، وبيَّن له ذلك، لأن الإسلام لا يريد أن ترجع أمور الجاهلية، ولا أن تبرز أمور الجاهلية، بل يريدها نقية، يريد شخصية إسلامية سوية طاهرة ليس فيها من الأمر الأول شيء.
وقال عليه الصلاة والسلام ذلك في القصة المشهورة التي رواها جابر رضي الله عنه قال: (غزونا من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ساب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان من المهاجرين لعاب فكسع أنصارياً، أي: ضربه على القفا يمزح، وكان ذلك عيب عند أولئك، فغضب الأنصاري غضباً شديداً حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ ثم قال: ما شأنهم؟ فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها خبيثة) رواه البخاري.
(ما بال دعوى الجاهلية) أي: كيف ظهرت بينكم؟ كيف رجعتم إلى الاستنصار بالقبيلة والجماعة، وتتعادون، ويتحزب لكل إنسان جماعته وفرقته، ويتفرقون ويقتتلون؟ هذه دعوى الجاهلية، كيف ظهرت بينكم؟ ما بال دعوى الجاهلية، ترجعون إليها بعد أن هداكم الله؟! مع أنهم رفعوا شعارات إسلامية، فقال هذا: يا للمهاجرين! وقال هذا: يا للأنصار! والمهاجرون والأنصار اسمان إسلاميان، هؤلاء هاجروا إلى الله ورسوله، وهؤلاء نصروا الله ورسوله، ولكن مع ذلك لم يرض بها عليه الصلاة والسلام، لأنها على طريقة الجاهلية في التحزب والتعصب والتقاتل، وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) وقال: (أربع من الجاهلية لا يترك) وستبقى الأمة مبتلاة بهن، ستبقى هذه الأربع موجودة وحية في هذه الأمة مع أن هذه الأربع من أمور الجاهلية (الفخر بالأحساب) يفتخرون تعالياً وتكبراً كل إنسان بأصله وقبيلته (والطعن في الأنساب) فيذم ويطعن ويشتم في نسب الشخص الآخر (والاستقاء بالنجوم، والنياحة) قال (والنائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران أو درع من جرب).
فهذه أمور الجاهلية، حذرنا منها النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنها لا تزال تسري في الأمة، لكي ننتبه لها، ولا نقع فيها، بالرغم من أننا مسلمون، ولكن قد يرجع شخص إلى الطبع الأول، وإلى هذه السيئة التي تسري في الأمة.(137/3)
الصحابة يسألون عن أمور جاهلية تحرياً لدينهم
لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم، يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور الجاهلية التي بقيت، كما قال معاوية بن الحكم السلمي ((أرأيت أشياء كنا نفعلها في الجاهلية، كنا نتطير، قال: ذلك شيء تجده في نفسك، فلا يصدنك، قال: كنا نأتي الكهان، قال: فلا تأت الكهان) هكذا قال له: إنني حديث عهد بجاهلية، كنا نفعل كذا وكذا فبيِّن لي، فبيَّن له صلى الله عليه وسلم أن التشاؤم من الشيطان، ولا يردنك عن قصدك ولا يصدنك عن حاجتك، امض لمصلحتك، ولا تتشاءم، ولا تأت الكهان.
وقال عليه الصلاة والسلام في قوم من العرب، والعرب كانوا مشهورين بالفخر بالآباء، وكانوا يتطاولون على بعضهم في ذلك، وينشدون الأشعار في الفخر، ويؤدي ما يؤدي إليه من احتقار الخلق والبغي والحرب بينهم، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس قسمان؛ أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من جنهم، أو ليكونُنَّ أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن).
عُبِّية الجاهلية: فخرها، ونخوتها، وتكبرها، أذهبه الله محاه الله حرمه الله، ولم يبق الناس يتفاضلون إلا بالإيمان والتقوى، ليدعن هذا الفخر بالآباء مع أن الآباء جاهليون كفرة؛ من فحم جهنم، لكن كان لا يزال هناك من يفتخر بآبائه وأجداده، وإذا لم يترك هذا سيكون عند الله أهون من الجعلان، وهي تلك الدويبة السوداء التي تدير الخراءة بأنفها، صوَّر عليه الصلاة والسلام هذا الفخر بأقبح صورة لحشرة تدفع بأنفها العذرة، هكذا قال عليه الصلاة والسلام محارباً هذه الرذيلة التي ربما تظهر في الأمة.
ولما جاءه رجل ممثلاً عن امرأة ضربت بطن الأخرى فأسقطت جنينها، فالنبي عليه الصلاة والسلام قضى بالدية على عصبة القاتلة، فقال الرجل: تغرمني من لا نطق وأكل، ولا شرب واستهل، فمثل ذلك يطل، أي: يبطل دمه وليس له حق، فقال صلى الله عليه وسلم (سجع كسجع الأعراب؟!) أي: رجعتم إلى الكهان، وإلى منطقهم، وشابهتموهم في السجع، وكان الكهان يسجعون، وقضى بالغرة عبد أو أمة مقابل الجنين الذي سقط، وهي عشر الدية، ورفض منطق الجاهلية، بل إنه عليه الصلاة والسلام، كان يغير الأسماء الجاهلية، ليمحو آثار الجاهلية، وقال أحد أولاد الصحابة: كان اسم أبي في الجاهلية عزيزٌ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، العزيز الصلب، ولعله كره له هذه الصفة لأن المؤمن هين لين، فسماه عبد الرحمن، وكذلك قال بشير ابن الخصاصية رضي الله عنه: أنه كان يماشي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر قصته وفيها تغير اسمه إلى بشير، وكان الصحابة يقاومون الأسماء الجاهلية، فهذا ابن عباس رضي عنه، قال: (من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر، ولا تقولوا الحطيم، فإن الرجل في الجاهلية كان يحلف، فيلقي سوطه أو نعله أو قوسه) رواه البخاري.
هذا الحجر: المنطقة غير المبنية من الكعبة، كان أهل الجاهلية يسمونه الحطيم، وكانت أصنامهم فيه، وكان الشخص إذا أراد أن يحلف مد عصاً إلى هذه الأصنام الموجودة في الحطيم ليحلف ويسمونه ب الحطيم، فنهى ابن عباس عن تسميته ب الحطيم وسماه الحجر، وهو الاسم الإسلامي المتعارف عليه هكذا، بل إن الصحابة رضوان الله عليهم تحرجوا من أشياء كانت في الجاهلية، فتحرجوا من الطواف بين الصفا والمروة؛ لأن أصنام الجاهلية كانت عليها، وأهل الجاهلية كانوا يطوفون بها، حتى أنزل الله تعالى قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] وأزيلت الأصنام، ورجعنا إلى طريقة أمنا هاجر، وتلك الذكرى العطرة.
وكان الصحابة قد تحرجوا أيضاً من التجارة في الحج، لأنها كانت من عادات الجاهلية، فكيف يخلطون الدنيا بالآخرة، وقال ابن عباس رضي الله عنه: [كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتى نزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] في مواسم الحج] رواه البخاري.
هكذا إذاً أيها الأخوة، هكذا كانت تسير الأمور، وهكذا المحو لعادات الجاهلية، والإنكار والإباء أن تبرز صفة جاهلية بين المسلمين، فكانوا يريدونها نقية، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحيينا على الإسلام، ويميتنا على الإيمان، ويجنبنا الجاهلية أقوالاً وأفعالاً، إنه سميع مجيب قريب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(137/4)
ظهور الجاهلية بين أهل الدين بالتعصب
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أشهد ألا إله إلا هو وحده لا شريك له رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً رسول الله الصادق الوعد الأمين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصبحه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله! كيف يكون ظهور الجاهلية بين أقوام من أهل الدين؟ يكون ذلك بمثل هذه العصبيات التي حذر منها النبي صلى الله وعليه وسلم، فيتعصب الناس لأقوال ولمذاهب مثلاً كما كان أهل الجاهلية يتعصبون لقبائلهم ويتعصبون لأنسابهم، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أمور من السنة المتنوعة، قال: ومنها أنواع تكبيرات العيدين، يجوز وكلٌ مأثور، ومنها التكبير على الجنائز يجوز على المشهور التربيع والتخميس والتسبيع، وإن اختار، أي: من اختار التكبير أربعاً، ثم تكلم عن التعصب للمذاهب، والأخذ بقول ومحاربة الأقوال الأخرى وبعضها صحيح، قال: حتى صار الأمر بأتباعهم، أي: أتباع المذاهب، إلى نوع جاهلية، فصاروا يقتتلون في بعض بلاد المشرق على ذلك حمية جاهلية، مع أن الجميع حسن، قد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بلالاً بإفراد الإقامة، وأمر أبا محذورة بشفعها، فلو أذن مؤذن على أذان أبي محذورة، فلا ينكر عليه لثبوت ذلك، ومن تعصب لقول واحد مع أن القول الآخر صحيح، وعادى ووالى من أجل ذلك؛ فهو من أهل الجاهلية.
وكذلك لما تلكم -رحمه الله- في مسألة البسملة في الصلاة، وذكر عن أقوال أهل العلم في إثبات كونها آية من القرآن، وفي قراءتها أقوال ذكرها، ثم ذكر أن بعض الناس من هذه الأمة، قد تفرقوا في ذلك، ورفعوا الألوية إظهاراً لشعار الفرقة، مع أن المسألة سهلة وواسعة، ولا تحتاج إلى هذه العصبية مطلقاً.
إذاً فيمكن أن يحصل تعصب لأقوال من أناس يزعمون التدين، مع أن الكل صحيح مادام أنه قد ثبت بالأدلة.
إننا أيها الإخوة! قد تظهر فيها أشياء من هذه الجاهلية، فنتعصب للقريب على البعيد، ويرجع الواحد إلى شعار الجاهلية فمثل: (أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على البعيد) أليس شعاراً جاهلياً؟ ومع هذا فإنهم يفعلونه، ألسنا نحتقر أحياناً أشخاصاً من جنسيات أو بلدان مع أنهم من المسلمين، فنستهزئ بهم، ونذكر ما يسمى بالنكات أو الطرائف عنهم، احتقاراً لهم؟ أو نقول لشخص فيه شيء من السذاجة: (عقليته عقلية كذا) ونحو ذلك؟ أليس فينا مفاخرة؟ أليس فينا مباهاة؟ ألسنا قد ندخل في الدين ونظهر سمات الاهتداء، ثم ننكشف في معاملة من المعاملات المالية، مع أن الشريعة حرمتها فنفعلها؟ وقد نشهد لشخص زوراً في محكمة؟ ألسنا قد نعتدي على المال العام، فنأخذ منه، بحجج مزيفة؟ ونعتدي على حقوق النشر والطبع المحفوظة للآخرين، وربما قال بعضنا: هذا للكفار، وهل كل أموال الكفار مباحة، أم أموال الكفار الحربيين هي المستباحة؟ فنعتدي بحجج واهية، أليس الواحد منا إذا صار في مكان أو وظيفة مهمة، ربما استكبر ومدح فاسقاً، وتعالى على الخلق وظلم، وربما هو يظهر شيئاً من علامات الدين؟ أليس يوجد فينا إسراف، وتبذير وبذخ في تصميم بيوتنا وتزويقها وجمع التحف فيها، ثم نحن نظهر التدين، والدين يقضي ألا إسراف وأن الله لا يحب المسرفين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تزويق البيوت؟ أليس أيها الأخوة ربما ظهر بذاءة في كلامنا؟ بل ربما ظهرت في كلامنا منكر كحلف بغير الله، مع أننا نقول: إننا من أهل التوحيد، وهذا مثال قد حدث على عهد الصحابة رضوان الله عليهم، فكيف كانوا يتتبعون هذا الأمر؟ عن سعد رضي الله عنه قال: كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث عهد بجاهلية، فحلفت باللات والعزى، فقال لي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلت؛ كلهم قاموا عليَّ في المجلس -لأنه قال كلمة باطلة مع أنه ما قصد ذلك، ولكن مما كان تعود عليه في السابق سنين طويلة يتلفظ بها في الجاهلية، فخرجت الآن- وقالوا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأتيته فأخبرته، فقال لي: (قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات، وتعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن يسارك ثلاث مرات، ولا تعد له) رواه النسائي رحمه الله، فهكذا إذاً على أخيهم يعاونون وينبهون، وهكذا يجب أن يكون حالنا أيها الإخوة.
أليس فينا أحياناً خصال من عدم التنازل، وعدم العفو، وعدم المسامحة مع أن الدين يقتضي المسامحة؟ ونصرُّ ونركب في رءوسنا جاهلية جهلاء في ألا نكسر كلمتنا، ولا نتنازل لإخواننا المسلمين، ويظن الواحد بالجاهلية أنه إذا تنازل لن يعود رجلاً، وأن رجولته قد نقصت، أليس كذلك يحدث بيننا أيها الإخوة؟ وهكذا وهكذا من الأشياء الكثيرة مما نرثه أحياناً من عادات أهلينا السيئة، بل إن النساء أيضاً حتى لو احتجبت وسلكت سبيلاً كثيراً طيباً من الدين، فإنه يظهر عليها أحياناً من ذلك، فتقول: هذه لم تزرني فلا أزورها، وهذه دعوتها فلم تجبني والآن دعتني فلا أجيبها، هكذا نتعامل مع أننا ينبغي علينا أن نرجع إلى الدين الحنيف، وأن نتخلص من سائر هذه العصبيات، وهذه الترهات من أمور الجاهلية.
فهذه تذكرة والذكرى تنفع المؤمنين، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيدنا إلى صوابنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً يرزقنا اجتنابه، وأن يقيمنا على الملة السمحاء، وأن يرزقنا التمسك بالعروة الوثقى، وأن يخرج من أنفسنا أمور الجاهلية، إنه سميع مجيب قريب.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واعل كلمة الدين، وانصر أهل السنة يا رب العالمين.(137/5)
زواج المسيار [1]
عاش الناس في الجاهلية حياة فوضى، وخاصة من حيث حفظ الأنساب، وعندما أتى الإسلام جاء معه بهذا المطلب العظيم، فحفظ الأنساب وصان الأعراض؛ بتحريمه لكل نكاح من شأنه إفساد الأسرة التي هي منشأ المجتمع ونواته، وهذا أمر عظيم يحمل في طياته الحفاظ على الرجل والمرأة وبناء الأسرة.(138/1)
أنواع من النكاح الجاهلي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
فالحمد لله الذي جعل لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها، وجعل بيننا مودة ورحمة.
والحمد لله الذي لما أغلق سبيل الحرام إلى الزنا، فتح سبيل النكاح بهذا المباح فأحله سبحانه وتعالى، تطهيراً للنفوس وتصريفاً لهذه الشهوة في طريقها الشرعي.
والحمد لله الذي أبدلنا بنكاح أهل الجاهلية نكاح أهل الإسلام، ويعرف المسلم حقيقة هذه الشريعة وعظمتها إذا ما قارن نكاح أهل الجاهلية بنكاح أهل الإسلام: روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: [أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء، فنكاح منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها.
ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان، فاستبضعي منه -تطلب المباضعة وهو: الجماع من رجل شريف عندهم، أو شجاع أو كريم أو فيه خصال حميدة- ويعتزلها زوجها، ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها، أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.
ونكاح آخر: يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت، ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، وتسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل.
ونكاح رابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة، لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات، تكون علماً فمن أرادهن، دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن، ووضعت حملها، جُمعوا لها ودعوا لهم القافة -أي: الذي يعرفون من الأرجل والخطوط والعلامات والقسمات، يعرفون هذا ولد من، وهذا أثر من ونحو ذلك، وهذه خبرة وإلهام- ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به، أي: التحق به، وانتسب، ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق، هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم] رواه البخاري رحمه الله تعالى في كتاب النكاح من صحيحه.
وبهذا يتبين أنه كان يوجد عدة أنواع من الأنكحة، فمنها: النكاح الذي أقره الإسلام، ومنها: نكاح الاستبضاع المخزي؛ الذي يرضى به شخص أن تذهب امرأته إلى رجل شريف عندهم تجتمع معه ليولد ولد نجيب بزعمهم فيه صفات من ذلك الرجل، ويطؤها زوجها إذا تبين حملها، ويختلط الماء بالماء، ونكاح المشاركة المقرف الآخر الذي يجتمع الرهط ما دون العشرة، يدخلون على المرأة، فتختلط المياه والأنساب، ثم هي التي تعين الأب، ولا يمكن له أن ينتفي منه، ونكاح البغاء الذي يجتمع الناس الكثير على صاحبات الرايات، يدخلون عليهن بالزنا، ثم بعد ذلك يأتي القافة يلزمون من يرون بأن المولود له، فيلتزم به، وكانت العرب في الجملة تكره هذا النوع، وتسميهن المظلمات، والمهينات، وكان لا يليق بالحرائر عندهم، وإنما يمتهن هذا النوع الإماء والرقيق.
وكان هناك نكاح الخدم، وهو ما يتخذ سراً، وكان العرب يقولون بزعمهم: ما استتر فلا بأس، وما ظهر فهو لوم، وهو الذي قال الله فيه: {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25] فاتخاذ الخدن حرام كما أن اتخاذ العشيقة حرام.
ونكاح البدل كان في أهل الجاهلية أيضاً: يقول الرجل للرجل: اترك لي -أي: تنازل لي عن امرأتك- وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك، ونحو ذلك مما يتفقان عليه.
ونكاح المتعة من نكاح أهل الجاهلية: أن ينكح الرجل المرأة بشيء من المال مدة معينة، ينتهي النكاح بانتهاء المدة، وكان الزواج بالأسر يطلق على السبية اسم النزيعة، وعلى ولدها النزيع، ويتزوج الآسر من سبيته، كان ذلك في الجاهلية، والزواج بالشراء أن يشتري الفتاة من أبيها كالسلعة تماماً، والنكاح بالوراثة.
كان الرجل في الجاهلية إذا مات وتحته امرأة، استبق إليها ورثته، فأيهم وضع عليها ثوبه قبل صاحبه كان الحق له فيها، يتصرف فيها كيف يشاء، وهذا الذي قال الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} [النساء:19] لأن إكراه المرأة حرام لا يجوز، وقال: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:22] فإن الولد كان في الجاهلية يرث امرأة أبيه كبقية المتاع.(138/2)
النكاح في الإسلام
هذه الصور المحرمة التي كانت شائعة في الجاهلية، جاءت هذه الشريعة المباركة، الشريعة الحنيفية، الشريعة السمحة، شريعة الفطرة، الشريعة المطهرة من عند رب العالمين، فنسخت ذلك الحرام كله، وأباحت الزواج الحلال، ووضعت له شروطاً، ولذلك فإن النكاح في الإسلام شيء مقدس، وهذه الرابطة بين الزوجين رابطة مطهرة، لسيت برابطة بغاء ولا نجس، ليست برابطة قضاء وطر فقط، ولذلك جُعِلَ للنكاح في الشريعة أحكام تدل على أهميته، وسعت الشريعة لحماية جوانبه، وعدم الاعتداء عليها.(138/3)
أركان النكاح في الإسلام
أركان النكاح في الشريعة ثلاثة: أولها: وجود الزوجين الخاليين من الموانع التي تمنع صحة النكاح: بألا تكون المرأة مثلاً من اللواتي يحرم على الرجل أن يتزوج بهن لنسب أو رضاع أو عدة أو غير ذلك، وألا يكون الرجل كافراً فتتزوجه امرأة مسلمة، أو المرأة كافرة يتزوجها رجل مسلم إلا المحصنة من أهل الكتاب، إلى غير ذلك من الموانع، فإذا خلا الزوجان من هذه الموانع، فإنه يجوز عند ذلك النكاح.
الركن الثاني للزواج في الشريعة: حصول الإيجاب: وهو اللفظ الصادر من الولي، أو من يقوم مقامه، بأن يقول للزوج زوجتك فلانة، أو أنكحتك فلانة.
الركن الثالث: حصول القبول: وهو اللفظ الصادر من الزوج، بأن يقول: قبلت هذا النكاح، أو هذا التزويج.
واختار شيخ الإسلام رحمه الله وتلميذه: أن النكاح ينعقد بكل لفظ يدل عليه، ولا يقتصر على لفظ الإنكاح والتزويج، فإذا قال الرجل أبو البنت: زوجتك ابنتي فلانة، فقال الرجل الآخر: قبلت، فإنه حينئذٍ تنعقد عقدة النكاح، فإذا حصل الإيجاب والقبول انعقد النكاح، ولو كان المتلفظ به هازلاً لم يقصد معناه، وهذا من احترام الشريعة لهذا العقد أن جعلت الهازل ملزماً به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث هزلهن جد وجدهن جد: الطلاق والنكاح والرجعة) رواه الترمذي وهو حديث صحيح.
فمنعاً للتلاعب، وبياناً لمكانة النكاح، وهذا العقد الخطير في الشريعة جعلت الشريعة الهزل في النكاح جداً، فإذا هزل معه، ومزح معه، وقال: زوجتك ابنتي، فقال: قبلت أيضاً هازلاً، ينعقد النكاح رغماً عنهما.
هذه أركان النكاح، فما هي شروطه؟(138/4)
شروط صحة النكاح في الإسلام
شروط صحته أربعة: الشرط الأول: تعيين كل من الزوجين، فلا يكفي أن يقول زوجتك بنتي، وعنده عدة بنات دون أن يسمي من هي التي زوجه إياها.
الشرط الثاني: رضا كل من الزوجين بالآخر، فلا يصح النكاح إذا أكره أحدهما عليه، لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن) متفق عليه، إلا ما كان من نكاح الصغيرة والمعتوه على الشروط التي بينها الفقهاء.
الشرط الثالث: أن يعقد على المرأة وليها، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي) رواه الأئمة الخمسة إلا النسائي، فلو زوجت المرأة نفسها بدون وليها، فنكاحها باطل باطل باطل، لأن ذلك ذريعة إلى الزنا، ولأن المرأة في الغالب قاصرة النظر عن اختيار الأصلح لها، ولذلك خاطب الله الأولياء بالنكاح، فقال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32].
إذاً يزوج الولي بنته، أو موليته، أو أخته من الكفء، ويحرم عليه عضلها، وإذا عضلها -أي حبسها عن الزواج- كان للقاضي تصرف معه.
وللأولياء ترتيب جاءت به الشريعة: أبوها، ثم وكيله ووصيه، ثم جدها لأب وإن علا، ثم ابنها، ثم بنوه -أحفاد المرأة- ثم أخوها لأبوين، ثم أخوها لأب، ثم بنوهما، ثم عمها لأبوين، ثم عمها لأب، ثم بنوهما، ثم أقرب عصبتها نسباً، فإن لم يوجد للمرأة ولي، زوجها الحاكم أي: القاضي ومن يقوم مقامه من الكفء.
الشرط الرابع لصحة النكاح: الشهادة على عقد النكاح، لحديث جابر مرفوعاً: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) فلا يصح إلا بشاهدين عدلين، قال الترمذي رحمه الله: العمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين وغيرهم، قالوا: لا نكاح إلا بشهود.(138/5)
ما يحرم من النكاح في الإسلام
فيحرم على الرجل أن يتزوج إحدى محارمه من النسب الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ} [النساء:23].
ويحرم على الرجل من النساء ما يكون سببه الجمع، فيحرم الجمع بين الأختين، كما يحرم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة خالتها، فقد راعت الشريعة قضية صلة الرحم، وأن اتخاذ الضرائر من الأخوات، والمرأة وعمتها، والمرأة خالتها يفضي إلى قطع الرحم والعداوة بين أقرب الناس إلى بعض، ولا يحوز أن يجمع عنده أكثر من أربع نسوة، والآية في ذلك معروفة.
ومن النكاح ما يحرم لعارض يزول، فإذا زال العارض جاز النكاح، فيحرم تزوج المعتدة من الغير، لأنه لا يؤمن أن تكون حاملاً، فيفضي النكاح الثاني إلى اختلاط المياه والأنساب، فإذا انقضت العدة جاز الزواج، وكذلك يحرم تزوج الزانية إذا علم زناها حتى تتوب، وتأتي الأخبار بأن سيرتها قد صارت سيرة حسنة، وأنها أقلعت عما كانت فيه، وأنها لم تر في موضع ريبة ولا شبهة، ولا خلوة، فإذا تابت جاز الزواج بها لقوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3].
كما لا يجوز تزويج الزاني أيضاً إلا بنفس الشروط السابقة.
ويحرم على الرجل أن يتزوج من طلقها ثلاثاً، إلا إذا تزوجها بعده رجل آخر مريد للنكاح، يحصل بنكاحه وطء حقيقي، ثم إذا طلقها بعد ذلك حلت للأول.
ويحرم تزوج المحرمة حتى تحل من إحرامها، ولا يحل أن يتزوج كافر امرأة مسلمة، ولا المسلمة أن تتزوج رجلاً كفاراً.
ويحرم على الحر أن يتزوج أمة مسلمة إلا إذا خاف على نفسه من الزنا، ولم يقدر على مهر الحرة، أو ثمن الأمة، ويحرم على العبد أن يتزوج سيدته بالإجماع، وكذلك يحرم على السيد أن يتزوج مملوكته؛ لأن عقد الملك أقوى من عقد النكاح، فإذا أعتقها جاز له أن يتزوجها، وإذا جعل عتقها هو مهرها جاز ذلك أيضاً.(138/6)
حكم نكاح الشغار في الإسلام
ومن الأنكحة التي حرمتها الشريعة: ما يكون لوجود شرط فاسد في النكاح، ومن ذلك نكاح الشغار، ونكاح الشغار سمي من الشغور وهو: الخلو من العوض، وقيل: إنما سمي نكاح الشغار شغاراً من شغر الكلب إذا رفع رجله ليبول، بهذه الهيئة القبيحة شبهه النبي صلى الله عليه وسلم تنفيراً منه، وحتى يبتعد الناس عنه، لأنه تجعل فيه المرأة بدل المرأة، وقد أجمع العلماء على تحريمه، وأنه باطل، ويفرق بينهما إذا حصل هذا النكاح، سواء صرحوا بنفي المهر أو سكتوا عن ذلك، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشغار، وجاء في الحديث: (والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، وليس بينهما صداق) متفق عليه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وفصل الخطاب أن الله حرم نكاح الشغار، لأن الولي يجب عليه أن يزوج موليته إذا خطبها كفء، ونظره لها نظر مصلحة لا نظر شهوة، والصداق حق لها لا له، وليس للولي ولا للأب أن يزوجها إلا لمصلحتها، فإذا زوجها لمصلحته غير مراعٍ مصلحتها فهو فاسق، خائن للأمانة ".
وبعض الناس يزوجون بناتهم لمصالحهم الشخصية، ولا يكون في النكاح مصلحة للبنت، وبعض الناس يحبسون بناتهم عن الزواج، لأنه يريد أن ينتفع بمرتبها، لأنها موظفة، وكلاهما من الظلمة الذين سيحاسبهم الله يوم القيامة، قال شيخ الإسلام: "وليس له أن يزوجها لغرضه لا مصلحتها، وبمثل هذا تسقط ولايته، ومتى كان غرضه أن يعاوض فرجها بفرج الأخرى فهو نكاح الشغار".
لم ينظر في مصلحتها، وصار كمن زوجها على مال له لا لها، وكلاهما لا يجوز، وعلى هذا لو سمى صداقاً حيلة -هو يريد بنت الرجل الآخر، أو أخت الرجل الآخر، فأعطاه ابنته أو أخته من أجل تلك المرأة، وسمى مهراً تغطية لنكاح الشغار- لم يجز ذلك كما نص عليه أحمد رحمه الله، لأن مقصوده أن يتزوج المرأة الأخرى ويزوج ابنته أو أخته لمصلحته هو، فهذا حرام لا يجوز.
ونكاح الشغار، عرفه بعض العلماء: أن يزوج الرجل وليته لرجل آخر على أن يزوجه الآخر موليته وليس بينهما صداقاً، فإن سميا صداق حيلة فهو شغار أيضاً، وبهذا قال أحمد والشافعي، فإذا سميا صداقاً ولم يكن حيلة، جاز عند أحمد والشافعي وغيرهما.
ورأى بعض أهل العلم أن حقيقة الشغار هي: أن يزوج رجل وليته لرجل آخر على أن يزوجه موليته؛ سميا مهراً أو لم يسميا مهراً، كل ذلك شغارٌ عندهم.
وذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى أن حقيقة الشغار هي: أن يقول الرجل لرجل آخر: زوجني موليتك على أن أزوجك موليتي، ويشترطان أن كل واحدة تكون مهراً للأخرى.
فإذا كانت كل واحدة مهراً للأخرى، فسواء أضافا مبلغاً مالياً أو لا فما دام في القضية شرط، ألا نزوجك هذه حتى تزوجنا هذه فهو شغار عند بعض العلماء، وعند البعض الآخر إذا لم يقصدوا الحيلة وسميا مهر كل واحدة ودفع جاز ذلك.
ونكاح التحليل أن يتزوج الرجل المرأة ليحللها لزوجها الذي طلقها ثلاثاً، سواء شرط ذلك عليه، أو لم يشرط عليه، فإنه حرام في جميع الأحوال، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: هو المحلل) وقال: (لعلن الله المحلل والمحلل له) رواه ابن ماجة والحاكم وغيرهما.
فلا يجوز نكاح التحليل، فإذا تزوجها الثاني راغباً فيها، وليست نيته أن يحللها للأول، وكذلك إذا وطئها في هذا العقد الذي عقده عليها، ثم طلقها، فإذا انقضت العدة، جازت أن ترجع إلى زوجها الأول.
فهذه بعض الأنكحة الفاسدة في الشريعة؛ لأجل فساد الشرط الذي حصل فيها، وهناك أنكحة أخرى فاسدة سنأتي عليها.
ومن أسباب طرح الموضوع ولا أكتمكم أيها الإخوة: ما حصل فيه اللغط والكلام مؤخراً عن زواج يعرفونه بزواج (المسيار)، واختلط ذلك على بعض العامة بالهاتف السيار، فصاروا يقولون: الزواج السيار، وهذا الموضوع يرتبط بمسألة الشروط في النكاح، وسنبحث ذلك في الخطبة القادمة إن شاء الله مع مسألة أخرى وهي: ما حكم الزواج بنية الطلاق الذي يفعله بعض المغتربين وغيرهم؟ ولكننا نحتاج إلى معرفة ما هو زوج المسيار؟ وما هي شروطه؟ وهل هو منضبط، لأن بعض الناس يطلقون ألفاظاً على شيء، ثم لا تجدهم يتفقون على حقيقته.
وقد سبق أن ذكرنا الزواج العرفي، وقلنا: مهما كان تعريفه، فإذا توافرت شروط النكاح كان النكاح حلالاً، وزدنا ذلك بياناً في هذه الخطبة، ولكن إذا سألتم ما هو الزواج العرفي؟ منهم من يقول لك: هو الزواج السري؛ أي أن يتزوج سراً، ومنهم من يقول لك: هو زواج المتعة، ومنهم من يقول لك: هو الزواج الذي لا يسجل رسمياً، ولذلك نحن لسنا مع الأسماء، وإنما العبرة في المسمى وليس في الاسم، فهاتوا لنا ما وصل إلى أسماعكم من زواج المسيار هذا لنبحث ذلك إن شاء الله في الخطبة القادمة.
نسأل الله وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(138/7)
حرمة نكاح المتعة في الإسلام
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، الذي خلق فسوى وقدر فهدى لا إله إلا هو، أشهد أنه هو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصبحه أجمعين، هو الرحمة المهداة، والسراج المنير، والبشير النذير، صلى الله عليه وعلى آله وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله! إن نكاح المتعة من الأنكحة المحرمة في شريعتنا هذه، وقد كان هذا الزواج، مباحاً في فترتين من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة) متفق عليه.
وفي رواية: (نهى عن متعة النساء يوم خيبر) متفق عليه، وأخرج الإمام مسلم في صحيحه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم الفتح -فتح مكة - عن متعة النساء) وفي رواية لـ مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع بالنساء، وإنه قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيءٌ فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً).
فإذاً النص صريح جداً في تحريم نكاح المتعة، وبعض الناس يستدلون بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] على إباحة نكاح المتعة، وبعض العلماء يقول: إنه ليس المقصود بها نكاح المتعة، وإنما الاستمتاع الذي يكون في النكاح العادي، فلا بد من المهر {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24].
ولو فرضنا أن المقصود بالآية نكاح المتعة فإنه قد نسخ بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يبين للناس ما نُزِّل إليهم من ربهم، فالسنة الصحيحة تنسخ آيات من القرآن أو تخصصها ونحو ذلك، كما أن السنة قد جاءت بتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم لحم الحمار الأهلي، ولم يرد ذلك في القرآن، فالسنة تكمل القرآن وتشرحه وتبينه، وهذه وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أجمع العلماء واتفق أهل السنة والجماعة على تحريم نكاح المتعة، وهو نكاح لقضاء شهوة لا يوافق مقاصد الشريعة، قال الشافعي رحمه الله: "وجماع نكاح المتعة المنهي عنه كل نكاح كان إلى أجل من الآجال قرب أو بعد، وذلك مثل أن يقول الرجل للمرأة نكحتك يوماً أو عشراً أو شهراً، أو نكحتك حتى أخرج من هذا البلد، وما أشبه ذلك".
وقال ابن قدامة رحمه الله: "معنى نكاح المتعة: أن يتزوج المرأة مدة مثل أن يقول: زوجتك ابنتي شهراً أو سنة أو إلى انقضاء الموسم، أو إلى قدوم الحج".
سواء كانت المدة معلومة أو مجهولة، كزوجتك ابنتي شهراً (مدة معلومة) أو زوجتك ابنتي حتى يأتي فلان من سفره (مدة مجهولة) وكلاهما حرام ونكاح متعة.
فهذا نكاح باطل نص عليه أحمد، فقال: "نكاح المتعة حرام، وقد نقل عن بعض الصحابة شيء يفيد إباحته، فما نقل عنهم يحمل على عدم بلوغ النسخ لهم"، ولذلك فلما بلغ بعضهم النسخ -وهم قلة قليلة- رجع عن القول بنكاح المتعة، وقال بتحريمه والحمد لله، ولذلك فلا شبهة ولا إشكال عند أهل السنة والجماعة في أن نكاح المتعة حرام، ولكنه كان قد أبيح في فترتين قبل خيبر وفتح مكة يسيرتين لأجل سفر في غزو، ثم حرم بعد ذلك، وكان التحريم إلى يوم القيامة.
ولا يمكن أن يتوافق هذا النكاح مع مقصد الشريعة في إقامة أسرة وإنجاب أولاد، وسكن بين الزوجين ونحو ذلك، والذين يقولون من أهل البدع: إن في نكاح المتعة حلاً لمشاكل الشباب الجنسية، فنقول: ائتوا بالحلول من الكتاب والسنة، وأما أن تأتوا بحلول محرمة فإنها ليست بحلول، ثم إنكم تريدون أن تحلوا مشكلة الشباب الذكور الجنسية، وتهملوا مشكلة النساء اللاتي يتزوجن يوماً أو شهراً أو سنة ثم بعد ذلك تترك، وتكون القضية مجرد قضاء وطر، وينتج ولد ولا يدرى لمن، وتستعجل فتعقد على غير نكاح متعة مما يجر إلى آخر ذلك من الفساد الذي يجر إليه هذا النوع من النكاح، نسأل الله السلامة والعافية.
اللهم إن نسألك أن تطهر فروجنا وتحصنها يا رب العالمين بالحلال، اجعل بيننا وبين الحرام برزخاً وحجراً محجوراً، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، واكفنا بفضلك عمن سواك، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين وسائر بلاد المسلمين وانصر المجاهدين، واحم حوزة الدين، واقمع أهل البدعة والمبتدعين، اللهم أظهر السنة في البلاد، اللهم اجعلها عامرة بذكرك يا رب العالمين، ووفقنا لكل ما فيه خير وصلاح للإسلام والمسلمين.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(138/8)
زواج المسيار [2]
تعرض الشيخ حفظه الله في هذه الخطبة إلى مسألة الشروط الجائزة وغير الجائزة في الزواج، وما هي الشروط التي يصح أو يفسد بها الزواج، وضرب لهذه الشروط عشرة أمثلة توضحها، ثم ختم خطبته بالتنبيه على التثبت في أخذ الفتاوى من أهلها، وعدم التأثر بما يفتي به مشايخ الفضائيات وأضرابهم.(139/1)
كثرة الفتن تؤدي إلى التحايل على الشرع
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فالحمد لله الذي خلق لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها، وجعل بيننا وبينهن مودة ورحمة.
جُعل هذا النكاح، وهذا العقد عقداً مقدساً في الشريعة له شروطه، وله واجباته وأركانه وقد تقدم الكلام على ذلك في الخطبة الماضية، ويُعلم من كلام العلماء في شروط النكاح وأركانه مدى أهمية هذا العقد ومكانته في الشريعة.
ولما استعرت الشهوات في هذا الزمن، وكثرت المغريات والفتن، وعم الشر، وظهر التبرج والسفور، ولم يغض كثير من الرجال أبصارهم، وعمت المغريات التي فيها إثارة الفتن، سواء كان ذلك في صورة تمشي، أو صورة تتحرك، أو صورة مطبوعة، بحيث أن ما يقع من العيون على هذه الصور أمر كثيرٌ جداً قد أثار الشهوات من واقع النساء في التبرج، ومن هذه الأفلام وخاصة منها الخليعة التي تثير الشهوات، لجأ كثير من الناس إلى طرق يريدون بها قضاء الوطر والشهوة، ومن هؤلاء من وفقهم الله تعالى لتحصين أنفسهم بالزواج الشرعي والنكاح الإسلامي المبني على هذه الشريعة المباركة، ومنهم من وقع في المحرمات والكبائر، ووقع في الفواحش والزنا وانتهاك حرمات الله وحدوده، فويل لهم من عذاب يوم أليم! ومن الناس من ركب الصعب والذلول لأجل الحصول على عقد بأي طريقة كانت ليتوصل به إلى وطء المرأة، فدخل بعضهم في بعض الأنكحة المحرمة كنكاح المتعة وغيره، وركب بعضهم طريق بني إسرائيل في التحايل على شريعة الله تعالى، ويزعم بعضهم أنه اشترى امرأة من الخارج، وآخرون يقولون بأن الخادمة مثل ملك اليمين يطؤها متى شاء، وبعضهم يذهب إلى أماكن معينة فيها بنات وكاتب أنكحة وشهود، يتزوج ثم يطلق، وبعضهم يقول: وهبت نفسها لي، فتزوجتها بموافقتها بلا ولي ولا شهود ولا مهر، إلى آخر ذلك من الاختراعات والحيل التي يريدون بها التوصل إلى تحليل ما حرم الله، فما هو حكم هذه العقود؟! ثم أطلوا علينا بزواج سموه بزواج المسيار، قالوا فيه: إن الرجل يتزوج المرأة، فيقيم عندها أو عند أهلها، ويشترط عليها ألا مبيت ولا نفقة، أو أنه يأتيها بالنهار دون الليل ونحو ذلك، فنريد أن نعرف ما حكم هذا النكاح وغيره من الصور المتقدمة؟ وما حكم الزواج بنية الطلاق الذي يفعله بعضهم إذا ذهب إلى بلاد الغربة، أو إذا سافر سفراً؟ وما حكم إخفاء النكاح، لأنه لا يريد مشكلة مع الزوجة الأولى، فهو يسر به؟(139/2)
قضية الشرط في الزواج
لا بد قبل معرفة حكم بعض هذه الأنكحة أيها الإخوة من الاطلاع على قضية الشرط في الزواج، ما هو؟ ما أنواعه؟ ما هو الملزم منه من غير الملزم؟ ما هو الذي يفسد العقد، والذي لا يفسد العقد؟ وما الشرط المباح الصحيح؟ وما هو الشرط المحرم؟ فهلم بنا إلى جولة مما ذكره أهل العلم في هذه المسألة، لأن كثيراً من الأنكحة الموجودة معلقة بشروط، فما حكم هذه الشروط؟ وبناءً عليه يعرف حكم هذه الأنكحة.(139/3)
أقسام الشرط
أما الشرط في اللغة فهو: الإلزام والالتزام.
وينقسم الشرط إلى قسمين: أولاً: شرط شرعي.
ثانياً: شرط جعلي.
فالشروط التي اشترطها الشارع في العقود والتصرفات والعبادات وإقامة الحدود ونحو ذلك، هذه شروط شرعية كاشتراط الولي في النكاح: (لا نكاح إلا بولي).
والشروط الجعلية لم ترد في الشريعة، ولكن يشترطها المكلف بإرادته، كما يشترط الواقف شروطاً معينة للوقف، أن يكون الوقف مثلاً على طلبة العلم الفقراء، فلا يصرف إلى غيرهم، وشروط الموصي أن يُجعل جزء من التركة لذبح أضاحي مثلاً، فلا يصرف في غيرها، أو الشروط التي يكون فيها منفعة لأحد طرفي العقد.
وهذه الشروط الجعلية المعتبرة مقيدة بقيود شرعية معينة، فليس للشخص أن يشترط أي شرط يريده، بل لا بد أن يكون الشرط غير مناف للشريعة، لقد ثبت اعتبار الشرط في الإسلام ما لم يخالف حكم الله وحكم رسوله، وأوجب الوفاء به، قال الله تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة:177] عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج) رواه البخاري.
فأحق الشروط بالوفاء الشروط التي تكون موجودةً في النكاح، ومعنى هذا: أن الشارع يقر الشروط إذا كانت شرعية، وقد ورد بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) رواه البخاري (المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، وكل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل وإن كان مائة شرط).
وموضوع النكاح له ما يتعلق به من الشروط، ومعلوم أنها إذا كانت شروط شرعية أو جعلية لا تتعارض مع الشريعة فإن الشريعة تقرها: (وأحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) لأن هذه الشروط وقعت في مقابل استحلال فرج كان محرماً، فاستحل ذلك الفرج بهذا الشرط، فإذا كان الشرط شرعياً لا يخرج عن نطاق الشريعة فهو من أحق الشروط بالوفاء، وقد يرد الشرط صريحاً في العقد منصوصاً عليه، فيجب اعتباره والعمل به، كأن تشترط المرأة في عقد النكاح مثلاً ألا يخرجها من بلدها، ونحو ذلك.(139/4)
الشروط العرفية
وقد لا يكون الشرط مذكوراً في العقد، لكنه مما تضمنه العقد، أو دل عليه العرف، والعرف سمي عرفاً لتعارف الناس عليه، ومن ذلك زف العروسة إلى المتزوج، هل يكون في بيت أبيها أو في بيته، فإن الأعراف تختلف في هذا، فإن أهمل ذكر الزفاف عند العقد، رجع فيه إلى العرف.
والأعراف التي يعمل بها والتي ينطبق عليها قول العلماء: (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً) هي الأعراف الموافقة للشريعة، أما إذا خالف العرف الشرع فلا يلتفت إليه ولا يعمل به، ولو أطبقت عليه الأمة جميعها، وهذا لا يكون إن شاء الله، وكانوا في الجاهلية -كما قلنا- متعارفين على أن نكاح الشغار والمتعة والاستبضاع أمور سارية ومنتشرة متعارف عليها بينهم، فليس كل ما انتشر بين الناس من الأعراف توافق عليه الشريعة، وإنما يشترط أن يكون مما توافقه الشريعة وتقره.
وإذا كان الشرط مقارناً للعقد عند كتابة العقد فلا بد من الوفاء.
وإذا كان الشرط متقدماً على العقد -قبل العقد بيوم أو يومين أو غير ذلك- ثم جاء العقد بالإيجاب والقبول، فهذه الشروط المتقدمة على العقد الصحيح يجب الوفاء بها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: هو الظاهر من المذهب وهو المفهوم من كلام أحمد، لأن الوفاء بشروط العهود والعقود يتناول ذلك، ولأن اتفاقهم على الشرط قبل العقد لا يزيله العقد، فلو اتفقوا على هذا الشرط، وبعد يوم أو يومين عقدوا العقد بإيجاب وقبول وولي وشاهدين، فإن الشروط المتفق عليها قبل هذا العقد داخلة فيه، فإذا كانت الشروط متأخرة عن العقد، فلا يلزم الوفاء بها، لأن العقد قد انقضى وتم على ما مضى.(139/5)
أقسام الشروط في النكاح
وهذه الشروط أيها الإخوة التي في النكاح تنقسم إلى قسمين: صحيح وفاسد.(139/6)
الشرط الصحيح في النكاح
الصحيح نوعان: النوع الأول: شرط يقتضيه العقد؛ كتسليم المرأة إلى الزوج، وتمكينه من الاستمتاع بها، فهذا الأمر من مقتضيات عقد النكاح، ولا يمكن أن يكون نكاحاً إلا بذلك، فلا يحتاج إلى شرطه، لأن الشريعة قد شرطته أصلاً، ولأن العقد يقتضي ذلك ضمناً فلا يحتاجه الإنسان إلى شرطه في العقد، وإذا ترافعا إلى القاضي سيجبرها على تسليم نفسها إذا امتنعت لأن هذا من مقتضيات العقد.
والنوع الثاني من الشروط الصحيحة: شرط نفع معين في العقد لا يلزم إلا باشتراطه، كأن تشترط المرأة ألا يتزوج عليها، أو لا يخرجها من دارها، أو لا يفرق بينها وبين أولادها، أو أن ترضع ولدها الصغير من غيره، أو أن تكمل دراستها، أو أن تستمر في وظيفتها، ونحو ذلك من الشروط، فهذه الشروط إذا لم تتعارض مع الشريعة، فهي شروط مباحة إذا شرطوها عليه في العقد وقبل بها لزمه الوفاء بها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فإذا امتنع الزوج من الوفاء بها، ورفض الوفاء بها بعد العقد وبعد الزواج، فإن للزوجة حق المطالبة بفسخ العقد، لأن الزوج لم يفِ ودخلت معه على هذا الشرط الصحيح، وإذا تنازلت الزوجة أو سكتت عن ذلك، فإن العقد باق على حاله.
صحيح مستمر.
وبهذه المناسبة نقول: لا ينبغي لأولياء الزوجة أن يحرجوا الزوجة باشتراط أشياء عليه، خصوصاً إذا كان من أهل الديانة، لأن كثرة الشروط تعقد الموقف، وتفي بأنهم لا يثقون به مثلاً ونحو ذلك، وهذا ربما يؤدي إلى شيء من النفور بينهما، لكن إذا خافوا أو حصلت خشية، فاشترطوا ذلك فلا بأس عليهم.(139/7)
الشرط الفاسد في النكاح
وانتبهوا معي للقضية لأننا نتحدث عن مسألة ستوصلنا إلى حكم زواج المسيار وغير المسيار، والزواج السيار السائر والواقف، وسيتبين حكم هذه الأنكحة من خلال فقه قضية الشروط.
النوع الثاني: الشروط الفاسدة، وهي على نوعين أيضاً: النوع الأول: ما يفسد بنفسه مع بقاء العقد على صحته؛ العقد صحيح باق، والشرط فاسد لاغ، مثل أن يشترط عليها ألا مهر لها، أو أن يرجع عليها بالمهر بعد ذلك فيأخذه منها، أو يشترط عليها أنه لا نفقة لها، أو أن نفقته عليها، أو ألا يطأها، ونحو ذلك من الشروط، فهذه الشروط ذكر عدد من أهل العلم أنها شروط فاسدة، لكنها لا تفسد العقد، فالعقد صحيح، ولكن الشرط فاسد للزوجة أن تطالب بحقها.
النوع الثاني من الشروط الفاسدة: ما يفسد النكاح من أصله مع فساده في ذاته، فهو فاسد مفسد لا يصح معه النكاح، مثل نكاح المتعة، فإذا قال: زوجتك بنتي شهراً أو أسبوعاً أو ساعة ونحوه، فهذا شرط فاسد مفسد للعقد، والعقد باطل من أساسه، والمعاشرة زنا وحرام.
أو نكاح الشغار، أو نكاح التحليل، هذه شروط فاسدة مفسدة للعقد، مثل أن يقول: أزوجكها على أن تطلقها لتحل لزوجها الأول ونحو ذلك، هذه شروط فاسدة مفسدة للعقد.(139/8)
الشروط الصحيحة
الأول: ما يتضمنه العقد وإن لم يذكر في صلبه، فلا حاجة لذكره إذاًَ، لأنه لازم باللزوم كما ذكرنا في قضية اشتراط تسليم المرأة لزوجها، والاستمتاع بها، واشتراط النفقة والسكن على الزوج لا حاجة لاشتراطه، لأن الشريعة شرطته، ولأن الشريعة جاءت به {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] فالنفقة عليه لزوجته رغماً عنه، تؤخذ منه بالقوة، وإذا أعسر صارت ديناً عليه، وإذا امتنع ألزمه القاضي بدفع النفقة الواجبة على الزوجة، هذا من مضمون العقد، الشريعة دلت عليه والعرف دل عليه، والعادة وعقد النكاح يتضمنه حتى لو لم ينصوا عليه.
وما يتضمنه العقد، نوعان: أحدهما: ما يتضمنه العقد بدلالة الشرع، كما تقدم.
الثاني: ما يتضمنه العقد بدلالة العرف، كالأمور التي تعارف عليها الناس من غير مخالفة للشرع، أو أضرار بحق أحد الزوجين، مثل: تحديد النفقة، والكسوة، والمسكن، وزيارة أهلها ونحو ذلك، فهذا يتضمنه العقد تلقائياً، لكن لم تحد الشريعة فيه حداً محدوداً، ولم تقل يا أيها الزوج أنفق خمسمائة، أنفق ألفاً ونحو ذلك، هذه مسألة متروكة للعرف، ومتروكة لإعسار الزوج وإيساره، وقدرته واستطاعته، وما تحتاجه الزوجة ونحو ذلك.
إذا قيل يجب على الزوج أن يسكنها شرعاً، أي: سكن يلائم مثلها بالمعروف، بما تعارف عليه الناس، فلو أسكنها سكناً ليس فيه دورة مياه ولا مطبخ مثلاً، فلا يقوم لها استمتاع بحياتها الزوجية بدون ذلك، والعرف يقتضي سكناً بمثل هذه المرافق الأساسية، فهذه اشتراطها عرفي داخل مع العقد.
أما الشروط الصحيحة التي لا تخالف مقتضى العقد، كأن لا يسافر بها، أو لا يخرجها عن بلدها، أو أن تشترط رضاع ولدها من غيره، أو أن تكمل دراستها، أو تستمر في وظيفتها ونحو ذلك، فهذه شروط مباحة، إذا التزم بها ووافق عليها، لزمه الوفاء بها، فإن امتنع كان للزوجة طلب الفسخ كما تقدم.
والشروط التي لا تخالف الشريعة هي من إنشاء العاقد لا من إنشاء الشارع، فاشتراط الرجل على امرأته في عقد الزواج مثلاً: تقسيط المهر أو تأجيله، أو أن يُجعل جزء مقدم، وجزء مؤخر، أو أن تشرط عليه أن لا ينقلها من بلدها مثلاً ونحو ذلك، فهم الذين اشترطوها، وليست مشروطة في الشرع، فهي من إنشائهم لا من إنشاء الشارع.
وإذا اشتُرط على الزوج شروطاً مثل هذه الشروط فإنه يلزمه الوفاء بها، وإذا امتنع جاز للمرأة طلب الفسخ، فإن قال الزوج: أنا لا أطيق أن تبقى موظفة، فماذا نفعل؟ لا نجبره على الوفاء، ولكن نقول: لها الحق في طلب الفسخ، إن شاءت أن تتنازل عن الشرط أو تسكت، فالعقد باق، وإن شاءت طلبت الفسخ، ولبى مطلبها، لأن شرطها لم ينفذ.
ومثل ذلك أن تختار ألا يتزوج عليها، فهذا الشرط مما اختلف فيه أهل العلم، فقال بعضهم إنه شرط فاسد، لأنها أرادت أن تمنعه مما أحله الله له، وقال بعضهم: إنه دخل عن بصيرة ورضاً بذلك فيلزمه الوفاء، فإذا تزوج عليها، كان لها طلب الفسخ، وبهذا أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فإن الرجل إذا أقدم على العقد وقبِل الشرط، فإنه عند ذلك لا بد أن يفي به، فإذا امتنع تكون النتائج على ما تقدم، وإذا حصل عيب بأحد الزوجين ولم يرض صاحبه، وهذا العيب يفوت الاستمتاع، كأن كانت المرأة بها جنون أو برص ونحو ذلك، أو كان الرجل مجبوباً أو عنيناً -مقطوع المذاكير- أو لا قدرة له على الوقاع، فهذا العيب ينطبق عليه خيار الفسخ من الطرف الآخر.(139/9)
أمثلة للشروط الفاسدة في عقد النكاح
ولنا أن نلقي الآن نظرة أيها الإخوة على الشروط الفاسدة وأمثلتها.
المثال الأول: إذا اشترط الرجل على امرأته ألا مهر لها، فإن العقد صحيح والشرط باطل، لأن المهر من حقوق المرأة التي تستحقها، فلا يسقط بنفيه لهذا المهر، قال الله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] وقال قتادة: فريضة من الله واجبة، والآية تدل على وجوب المهر، وقد أجمع العلماء على ذلك فلا يصح التواطؤ على تركه، فإذا اشترط الرجل على زوجته ألا مهر لها، كما يقولون الآن في زواج المسيار: لا مهر فيه، يتزوجها ولا يعطيها شيئاً.
ولنعلم أيها الإخوة أن بعض هذه الأسماء مختلف عليها بين الناس، فإذا جئت لإنسان تقول: عرف لي زواج المسيار؟ أعطاك رأياً، وإذا قلت لثان: عرف لي زواج المسيار؟ أعطاك رأياً آخر، وهكذا، فنحن نتكلم بغض النظر عن الأسماء، لو شرط عليها ألا مهر لها ووافقت وانعقد العقد، فالعقد صحيح بالشروط الشرعية: الولي، وشاهدين والإيجاب والقبول إلى آخر ذلك، ولكن الشرط باطل، فإذا طالبته بعد ذلك بمهرها وجب عليه أن يعطيها المهر، وإذا سكتت، أو تنازلت له عنه، فإن العقد صحيح، وهي على ما أرادت وعلى ما تنازلت.
مثال ثان: إذا اشترط الزوج عند العقد على امرأته ألا ينفق عليها، وهذا أيضاً داخل في زواج المسيار الذي يسمونه في بعض الأحيان، فهذا الشرط باطل، ولكن العقد صحيح، ويلزم الزوج أن ينفق على زوجته: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7].
وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لـ هند بنت عتبة أن تأخذ من مال زوجها من غير علمه بما يكفيها بالمعروف، ثم إن المرأة قبل العقد لم تستحق النفقة، فكيف تتنازل عنها، تستحق النفقة بعد العقد، فإذا انعقد العقد وسلمت نفسها، استحقت النفقة، فلها المطالبة بها، ولا يعتبر إلغاؤها من قبلها قبل العقد مسقطاً للنفقة عن الزوج، فإذاً يحق لها أن تطالب بالنفقة بعد ذلك، ولكن ما حكم العقد؟ العقد صحيح، إذا توافرت فيه الشروط.
مثال ثالث: وكذلك فإن من الشروط الفاسدة نفي التوارث بينهما، وهذا كلام سمعناه في زواج المسيار أو في غيره، أن يقول لها: أشترط عليك ألا ترثي شيئاً بعد وفاتي، فهذا الشرط فاسد باطل لا يجوز العمل به، قال الله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء:12] إلى قوله: {فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12].
فالإرث أثر من آثار عقد النكاح ولا بد من إعطائه لصاحبه، والتنازل عنه قبل العقد تنازل عن لا شيء، لأنها لم تستحق الإرث ولا هو استحقه حتى يتنازل، فإذا انعقد العقد فالعقد صحيح والشرط باطل، وترث منه رغماً عن كل أوليائه، ويرث منها رغماً عن كل ورثتها، فهذه بعض الأمثلة، ونتابع الكلام إن شاء الله.
ونسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى وآله وصبحه وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله! مثال رابع على الشروط الفاسدة: أن يشترط أحد الزوجين على صاحبه عدم الوطء، فهذا شرط فاسد؛ لمخالفته مقصود النكاح الذي شرع من أجله، ويصح النكاح والشرط فاسد.
واختار شيخ الإسلام رحمه الله أن الزوج إذا اشترط على الزوجة ألا يطأها فالشرط باطل، لأنها لا يمكن أن تعف إلا بذلك، فلا يمكن أن تتزوج زوجاً آخر وهي في عصمته، فليس لها طريق إلى العفة إلا من طريقه هو، فالشرط فاسد، وأما إذا اشترطت هي عليه أن لا يطأها، فرأى شيخ الإسلام رحمه الله أنه لا بأس بذلك، لأنه يمكن أن يعف نفسه من غيرها، ويتزوج غيرها أو يتسرى.
مثال خامس على الشروط الفاسدة: إذا اشترط الزوج على امرأته ألا قسم لها، هو متزوج بزوجة فتزوج امرأة أخرى ثانية، وقال: أنا لا أريد مشكلات مع زوجتي الأولى، فأنت على الاحتياط، عندما أريد أسير عليك، وهذا الذي أخذوا منه زواج المسيار بزعمهم، ولا يوجد مثل هذا الاسم في كتب الفقهاء، وإنما هو من اختراعات الناس، عندما أريد أسير عليك في الوقت الذي أريده، فقال: شرطي ألا قسم لك، فهذا الشرط لاغ والعقد صحيح، وبعد العقد يجوز لها أن تطالب بليلتها، فإذا سكتت وسارت الأمور على ما هي عليه، وقالت في نفسها: أخشى إذا طالبته أن يطلقني، فالعقد صحيح باق على حاله، وكذلك لو اشترطت هي أن يفضلها على ضرتها، فقالت: أشترط عليك أن لي ليلتين ولها ليلة، فالشرط باطل لاغ، والعقد صحيح.
وإذا طالبت ضرتها بليلة وليلة، فيجب عليه الوفاء بذلك، والزوج لا يملك أن يفضل بين نسائه شرعاً، ويجب عليه العدل بينهن: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك) أي: ميل القلب.
وجمهور العلماء يقولون بوجوب العدل بين النساء في كل ما يملكه الزوج ويقدر عليه، ومنه ما يقع في زواج المسيار، أن يشترط عليها ألا يبيت عندها، أو يأتيها في النهار إذا أراد.
وحيث قلنا: إن العدل بين النساء واجب، وليس من حق الزوج اشتراط عدم العدل عند العقد، لأن ذلك من حقوق المرأة، فإنها بعد العقد صار حقاً لها أن تتنازل عنه، أو تلزمه به، فتقول له: أنا أسامحك في ألا تأتيني إلا نهاراً بعد العقد، أو تسكت عن المطالبة بحقها في الليل، والعقد صحيح باق، لكن إذا طالبت يلزمه أن يفي به، ولا يستطيع أن يجبرها على البقاء عنده، وتنازل الزوجة عن ليلتها لزوجة أخرى بعد الزواج قد جاء في السنة، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلق سودة بنت زمعة قالت: يا رسول الله! امسكني وأهب يومي لـ عائشة، وأرادت أن تحوز على الفضل في بقائها زوجته في الدنيا والآخرة، فوافقت على أن تهب يومها لـ عائشة، فصار النبي صلى الله وسلم يقسم لـ عائشة يومها ويوم سودة.
مثال سادس على الشروط الفاسدة: إذا اشترط الرجل على امرأته ألا تزور أهلها ولا ترى أقاربها، ولا تدخل بيتهم، فإن الشرط باطل، لأن في ذلك قطيعة للرحم، وهذا لا تقره الشريعة، وللمرأة الحق في المطالبة بأن يأذن لها في زيارة أهلها، لأن صلة الرحم عليها واجبة، وهذا شيء تقتضيه الطبيعة والجبلة الفطرية، إلا إذا ثبت للزوج أنهم يفسدونها عليه، وترجع من أهلها منقلبة على زوجها، تذيقه ألوان العذاب، فإن له الحق في منعها، لأنه إذا كان قد ثبت الفساد من رواء ذهابها إليهم، وإذا ذهب معها وجلس معها لينظر ويسمع، فهو أحسن وأفضل.
مثال ثامن: إذا اتفق الزوج مع المرأة أو مع وليها على مهر سري ومهر علني، والمهر العلني يقولون: نتباهى به أمام الناس، ونقول: زوجناها بمائتي ألف، وهم كذابون أشرون بطرون، فإنه لم يدفع لهم إلا أربعين ألفاً مثلاً، فما هو الحكم في ذلك؟ يصح العقد على ما وقع عليه، ما حصل عند العقد هو اللازم، ولا عبرة بما يعلن للناس طلباً للسمعة، وأحياناً في بعض البلدان هرباً من الضريبة، فيعلنون مهراً ويتفقون على آخر، فالمهر الذي انعقد عليه العقد هو اللازم، وهو الذي يجب عليه أن يدفعه، وإذا عقدوا عقدين، فالثاني تأكيد للأول، والعقد الأول بمهره هو اللازم على الزوج أن يفي به.
مثال تاسع: إذا اشترطت المرأة طلاق ضرتها، أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الشرط بقوله: (لا تسأل المرأة طلاق أختها، لتكفأ ما في صحفتها) كأن يكون عند أختها إناء فيه طعام، فجاءت الثانية التي طالبت بتطليق الأولى، فأخذت إناء طعامها فقلبته، فأبقتها بغير طعام، فهذا حرام، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم، أن تسأل المرأة طلاق ضرتها، فلا يجوز أن تقول له: شرطي عليك إذا تزوجتك أن تطلق الأولى، أو تقول: طلقها ثم تزوجني، فهذا حرام لا يجوز لما فيه من الضرر، ولما فيه من السعي لقطع نصيب الأولى.
مثال عاشر: جعل الطلاق حقاً للمرأة لا يصح اشتراط جعل الطلاق حقاً للمرأة كالرجل على الصحيح من أقوال أهل العلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1] أنتم يا معشر الرجال إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن، فأنتم الذين تطلقون، فإذا اشترطت عليه أن يكون مصيرها بيدها والطلاق بيدها، فالعقد صحيح والشرط باطل لاغٍ لا عبرة به على الصحيح من أقوال أهل العلم.
وبناءً على ما تقدم أيها الإخوة، يتبين حكم زواج المسيار بالتفصيل، وحكم غيره من الأنكحة، وبقيت عندنا أمور تحتاج إلى تغطية.
الزواج بنية الطلاق دون أن ينص عليه في العقد حكم وطء الخادمة على أنها ملك يمين حكم شراء امرأة من الخارج النكاح السري: كأن يأتي يعقد على امرأة في بلدها ويأتي بها على أنها خادمة، أو أن يتزوج امرأة طرف البلد أو في بلد آخر سراً، فما حكم النكاح السري؟ ولعلنا نغطي ذلك في خطبة بمشيئة الله بعد ثلاثة أسابيع بحول الله وقوته.(139/10)
تنبيهات
والذي أريد أن أنبه عليه قبل ختام الكلام النقطة الأولى: أن بعض الناس -أيها الإخوة- يأخذون الأحكام الشرعية من المجالس ومن القنوات الفضائية، فيأتي واحد إلى الثاني في المجلس، يقول: سمعت عن النكاح الفلاني حللوه، من الذين حللوه؟ من الذين أفتوا بتحليله؟ لا ترى لذلك جواباً، لكن يتناقلون الأحكام بينهم بكل سهولة قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116] حرام أن تفتي بغير علم، وأن تنقل فتوى بغير علم، وأن تنقل فتوى بغير تثبت، وأنت آثم في ذلك.
النقطة الثانية: أن بعض الناس يتأثرون بما يشاهدون في بعض القنوات، وقد أخبرني بعض الإخوان بعد الخطبة الماضية عن شيء من ذلك، يؤتى بطبيب ورجل يمثل دور شيخ، ولا أقول شيخاً، وربما يكون عليه لحية أو لا يكون، ومذيعة فاجرة، واختلاط من عدد من النساء والرجال في ذلك (الأستديو) وبعض الآخرين من المشاهدين، أو من الذين يدلون بآرائهم، ثم يتناولون القضية بالبحث، ويخرجون منها بحكم.
ولدي قاعدة أريد أن أقولها لكم: إذا رأيت من يدعي أنه شيخ يجلس في مقابلة مع امرأة متبرجة، أو يشترك معها في الحديث في برنامج ونحوه، فاعلم أن الشيخ مزيف، وأن اللحية مزورة، وخصوصاً عندما يجلسونه بجانب امرأة متبرجة ويتعمدون ذلك إساءة لسمعة أهل الدين، وتحطيماً لمكانة العلماء في النفوس، وتتبع معي هذه القضية: لا تجد أحداً يقابل امرأة متبرجة أو يشترك معها في برنامج خصوصاً في هذه القنوات الخارجية، إلا وتجده متساهلاً في دينه، متساهلاً في فتاويه، لا تجده ممسكاً بحبل الله المتين، ويمشي على الصراط المستقيم، وهل خلت المسألة من الرجال حتى يكون هذا الشيخ مع المرأة المتبرجة؟ ألا يوجد رجال يسألونه ويجيب، لا توجد إلا امرأة؟ واعجبا! بعد ذلك يتبين لك ما حكم الأحكام المتلقفة من أفواه هؤلاء الذين يزعمون أنهم شيوخ، الأحكام باطلة، سخيفة مثل سخفهم وسخف البرنامج الذي اشتركوا فيه، ويجب أن نحذر أيها الإخوة من الأخطار الوافدة على بلدنا من الخارج مما فيه إشاعة للفاحشة، وإشاعة للفساد؛ مثل أنهم يتكلمون عن الجنس على المكشوف، أي: تحطيم كل الروابط الإسلامية والإيمانية والقواعد الشرعية في نفوس الناس، وهذا الغزو إن لم ننتبه له، فلا شك أنه سيكون من أسباب فساد المجتمع.
نسأل الله أن يقي بلادنا هذه وبلاد المسلمين كافة الشرور، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، واحمها واحفظها بحفظك يا رحمن يا رحيم! اللهم ارحمنا برحمتك يا عزيز يا غفور، ووفق الأئمة وولاة الأمور لكل ما تحب وترضى يا رب العالمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، ودعاء لإخواننا في بلاد الشيشان الذين حقوقوا نتائج باهرة في هذه الأيام، اللهم انصرهم نصراً عزيزاً يا رب العالمين! اللهم قيض لهم جنداً من عندك يدكون معاقل الكفرة إنك على كل شيء قدير، وأقر أعيننا بنصرة الإسلام والمسلمين في ربوع العالمين يا رب العالمين! وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(139/11)
سمات رجل العقيدة [1، 2]
إن الإسلام اليوم في حاجة ماسة إلى رجال يذودون عنه، ويردون على أصحاب الشبهات الذين يريدون تشويه صورة الإسلام الحقيقية، وهؤلاء الرجال ليسوا كغيرهم من الرجال، وإنما لهم سمات خاصة يتميزون بها عن غيرهم طالعها في هذه المادة.(140/1)
حاجة الإسلام إلى الرجال
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
بمثل هذه الكلمات -أيها الإخوة- أسلم صحابيٌ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قادماً من اليمن، فأوحى إليه كفار قريش أن محمداً صلى الله عليه وسلم رجلٌ مؤذٍ لكي يتجنبه، ولكنه خطر بباله أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع منه، فأتاه وعرض عليه أن يساعده إن كان به مرض أو كان به رئي من الجن، فتلا عليه صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات من أوائل خطبة الحاجة، فكان هذا سبباً في إسلامه رضي الله عنه.
إخواني! يُسرني أن ألتقي بكم في هذا المكان، ولعل الله سبحانه وتعالى أن يكتب لنا الأجر العظيم في هذا اللقاء، وأن يجعل حضورنا للقاء بعضنا لقاء الإخوة في الله عز وجل.
والموضوع الذي أريد أن أتحدث به إليكم هو (سمات رجل العقيدة) ونعلم جميعاً -أيها الإخوة- بأن الدين الذي ندين الله به يتعرض في هذا الزمان إلى هجمات شرسة، وأن المسلمين في هذا العصر في غاية الضعف والهوان، وليس العيب من الإسلام، ولكن العيب من المسلمين أنفسهم، فإن هذا الدين دين كامل، ليست المشكلة في هذا الدين، ولكن المشكلة في الناس الذين من المفترض أن يحملوا هذا الدين على أكتافهم، ولذلك لما فكر أحد المستشرقين في هذا الدين فتجلت له بعض جوانب عظمة الإسلام قال: يا له من دينٍ لو كان له رجال.
فهذا المستشرق أدرك عظمة هذا الإسلام، فقال: يا له من دين عظيم لكنه يحتاج إلى رجال يحملونه، إن هذا الدين يحمل في طياته عوامل استمراريته وهيمنته على سائر الأديان، ونحن في عصر الذل الذي يعيش فيه المسلمون، لا بد أن نضع أمام أعيننا عدة اعتبارات: الاعتبار الأول: عدم اليأس واستمرارية العمل لنشر هذا الدين.
الاعتبار الثاني: أن التركيز لا بد أن يتم ويستمر في بناء الشخصيات التي تحمل هذا الدين.
المشكلة هي مشكلة عدم وجود الرجال، لو كان هناك رجال لانتهت المشكلة، وعندما تمنى بعض الصحابة أماني، قال عمر: [أتمنى أن يكون لي ملء هذه الحجرة رجالاً أمثال أبي عبيدة].
نتعرّف في هذا المقام على بعض السمات التي تتكون منها الخطوط العريضة في نفس صاحب العقيدة ورجل العقيدة:(140/2)
الإيمان بهذه العقيدة
فأما أولها: فهو الإيمان بهذه العقيدة التي نزلت من عند رب العالمين؛ الإيمان بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتحاكم إلى الكتاب والسنة عند التنازع، والاستغناء بهما عما جاء في سواهما، واعتقاد كمال هذا الدين، ووجوب تقديم النقل على العقل في حالة التعارض المتوهم، وإلا ففي الحقيقة فإن النقل الصحيح لا يعارض العقل الصريح.
والأدب مع نصوص الكتاب والسنة من حيث مراعاة الألفاظ في بيان العقيدة، وعدم الدخول إلى القرآن والسنة بمقررات عقلية سابقة، وترك الخوض في علم الكلام والفلسفة من حيث أنه علم لا ينفع، وكما ورد في الدعاء: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع) وأن نؤمن إيماناً تاماً بأنه لا يُوجد شيء اسمه فلسفة إسلامية، ورجل العقيدة كما أنه يعتقد بهذه العقيدة، فإنه يُربي الناس عليها، ويبينها بالوحي حتى تمتلئ قلوب الناس بعظمة الله وبعظمة نصوص القرآن والسنة، ويحرص رجل العقيدة على أن يربي نفسه ويربي الشباب بالذات على هذه العقيدة وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمرو بن حبيش رضي الله عنه: [إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه -توقع منه الخير- وإذا رأيته مع أهل البدع فايئس منه، فإن الشاب على أول نشوئه].
ولذلك الآن لو وُجدت هناك الأوعية التربوية الصحيحة المستمدة من عقيدة أهل السنة والجماعة فانضوى وانضم إليها شباب الأمة، لخرجت نوعية عظيمة من الرجال، ولكن المشكلة أن شباب الأمة الإسلامية تتخطفهم الشهوات والشبهات وطرق الزيغ والضلال، والطرق التي يُخلط فيها الحق بالباطل في كثيرٍ من الأحيان، ولذلك لا تجد النوعيات التي تحمل هذا الدين، وإنما تجد عقليات مشوشة ومضطربة لا يمكن أن تفهم نصوص الكتاب والسنة فهماً صحيحاً وتنطلق بها لتطبقها تطبيقاً صحيحاً، فأنى لهؤلاء أن يحملوا هذا الدين.
وقال عبد الله بن شوذب رحمه الله: "إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك -إذا اهتدى وسلك الطريق المستقيم- أن يوافي صاحب سنة يحمله عليها"، وهذا الكلام يشمل النساء أيضاً، ولذلك يجب أن تنتبه المرأة المسلمة إلى دعاة الضلال الذين يريدون أن يؤثروا عليها بالبدعة مثل دعاة التصوف.
والعقيدة الصحيحة إذا استقرت في نفس رجل العقيدة فإن لها أثراً عظيماً في حياته، بل وحتى على فراش الموت يكون لها أثر، مثال: عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شابٍ وهو يحتضر، فقال: كيف تجدك؟ فقال: والله يا رسول الله إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبدٍ في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمَّنه مما يخاف).(140/3)
الدفاع عن هذه العقيدة
وكذلك من سمات رجل العقيدة: أنه يدافع عن هذه العقيدة ويرد عنها سهام المبطلين وكيد المنحرفين وأصحاب الأهواء، وذلك بمنهج متميز واضح، ويعتمد في منهجه على حجية السنة في العقيدة، ومنها أحاديث الآحاد الصحيحة، ويعتقد أن القول بأن أحاديث الآحاد لا تفيد قطعية الثبوت، فهذه بدعة كبيرة جاءت إلينا من كتب أهل البدع، ويعتقد بتقديم أقوال الصحابة في تفسير النصوص الشرعية؛ لأنهم أعلم من غيرهم من أفراد الأمة، ولا ينبز الصحابة بمثل الكلام الذي يتشدق به بعض المنحرفين في كتبهم، وخصوصاً من المعاصرين الذين يقولون: إن الصحابة لم يعلموا علم الكلام؛ لأنهم كانوا منشغلين عن ذلك بالجهاد!! سبحان الله ما أعظم فريتهم! رموا صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم جهلوا علم الكلام؛ لأنهم كانوا منشغلين بالجهاد، وهل يفوت الصحابة رضوان الله عليهم علم نافع، لأنهم كانوا منشغلين بالجهاد؟!! كل الصحابة غاب عليهم هذا العلم التافه، والحمد لله أنه غاب عنهم.
وكذلك يأخذ بطريقة جمع النصوص في المسألة الواحدة وعدم الاقتصار على بعضها دون بعض كفعل أهل البدعة، نأخذ مثالاً -أيها الإخوة- لو أن شخصاً أخذ بحديث: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة) ولم يأخذ بغيره، هذا النص قد يُوهم عند البعض بأن مجرد التلفظ باللسان يكفي في دخول الجنة، ولكنه عندما يأخذ بالنصوص الأخرى، ومنها -مثلاً- قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) وقوله عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة) إلى آخر الحديث.
إذاً: تتكامل النصوص وتجتمع لتكون العقيدة الصحيحة من جميع جوانبها، أما أن نأخذ بعض النصوص ونترك بعضها، فإننا سوف نقع في بدعة وضلال ولا نفهم العقيدة الصحيحة.
والاقتصار على الكتاب والسنة في مقارعة المبتدعة أمر مهم يدل على فقه صاحبه، وإليكم هذا المثال: قال صالح بن الإمام أحمد رحمه الله: جعل ابن أبي دؤاد ينظر إلى أبي كالمغضب، قال أبي: وكان يتكلم هذا فأرد عليه، ويتكلم هذا فأرد عليه، فإذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فيقول: يا أمير المؤمنين! هو والله ضال مضل مبتدع، فيقول الخليفة: كلموه ناظروه، فيكلمني هذا فأرد عليه، ويكلمني هذا فأرد عليه، فإذا انقطعوا يقول المعتصم: ويحك يا أحمد ما تقول، فأقول: يا أمير المؤمنين! أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أقول به، لا زال الإمام أحمد على هذه الحالة حتى قال أحمد بن أبي دؤاد وقد نفذ صبره: أنت لا تقول إلا ما في الكتاب والسنة! وهذا الكلام اعتراض صريح يُدين ذلك المبتدع إدانة كاملة.
ورجل العقيدة يقف أمام محاولات تهوين العقيدة؛ الذين يهونون من شأن العقيدة ويقولون: هذه أمور جانبية، هذه أمور تافهة، هذه أمور لا تقدم ولا تؤخر، وماذا يعني: إذا اعتقدنا أن لله يداً أو وجهاً؟! تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، لم يعرفوا ربهم ثم يريدون أن يدعوا إليه وإلى سبيله.
بعض الناس يتبجحون، فيقولون: أين الذين يقولون بعلو الله من الغزو الفكري؟ أين الذين يقولون بعلو الله من التيارات العلمانية؟ أين الذين يقولون بعلو الله من قضايا الجهاد؟ {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5].
أي: لا يمكن أن يجتمع الإيمان بعلو الله والجهاد في سبيل الله؟! لا يمكن أن يجتمع الإيمان بعلو الله ومقاومة الغزو الفكري؟! لا يمكن أن يجتمع الإيمان بعلو الله والرد وفضح التيارات العلمانية؟! أين التكامل؟! لماذا نقتصر على جانب من الدين ونترك الجوانب الأخرى؟!(140/4)
عدم الاعتداء على نصوص القرآن والسنة
رجل العقيدة لا يعتدي على نصوص القرآن والسنة، ولا يُغير عليها بسهام التأويل والرد والتفنيد ويُحكم عقله فيها، بل إنه يستسلم لها، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم، فقال حمل بن النابغة الهذلي -أحد الذين غرموا في الدية-: يا رسول الله! كيف أغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يُطل؟!).
هذا الرجل لما علم أنه سيدفع دية الجنين اعترض على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: كيف تريدوني أن أدفع دية جنين؛ والجنين لا أكل، ولا شرب، ولا نطق ولا صرخ ولا استهل؟! فمثل هذا الكلام يسقط عني لا شأن لي به.
فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام قال عبارة نقضت كلام الرجل من أصله، وبينت عيبه وزيفه، فقال: (إنما هذا من إخوان الكهان).
هذا الرجل من إخوان الكهان، هذا المنطق تقديم العقل على النقل والاعتراض على نصوص الشريعة؛ لأنها لا توافق عقل الشخص من الكهانة (إنما هذا من إخوان الكهان).
وبعض نصوص العقيدة يكذبها بعض الناس؛ لأنها لا توافق عقولهم، فمثلاً: لما سئل الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله لما روى حديث نزول الله عزوجل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، سأله إنسان في المجلس، قال: كيف ينزل؟ فأجاب عبد الله بن المبارك: "ينزل كيف يشاء سبحانه وتعالى".
وفي رواية: "إذا جاءك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخضع له".
كان هارون الرشيد رحمه الله مرة من المرات في مجلس، وكان يحدثه بالأحاديث رجل من الصالحين يسمى أبو معاوية الضرير، فحدثه بحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتج آدم وموسى) إلى آخر الحديث، فقال عيسى بن جعفر -أحد الحاضرين-: كيف هذا وبين آدم وموسى ما بينهما؟!! -أي: من القرون- ما هو خطأ الرجل؟ أنه قدم عقله على النص، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (احتج آدم وموسى) وهذا يقول: كيف التقوا؟ وأين التقوا وبينهما سنين طويلة؟ هذه جريمة يا إخوان!! هذا العقل المحصور الضيق نحكمه في النصوص الشرعية وننفي النصوص، فوثب هارون الرشيد رحمه الله تعالى، وقال: يحدثك عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتعارضه بكيف؟! وفي رواية: أن هارون الرشيد رحمه الله -وكان شديداً على المبتدعة- قال: النطع -السيف- زنديق يطعن في الحديث.
فما زال أبو معاوية يسكنه ويقول: بادرة منه يا أمير المؤمنين! بادرة منه يا أمير المؤمنين! حتى سكت.
وفي رواية: أنه حبسه ولم يُطلقه حتى حلف بالأيمان المغلظة أنه ما سمعه من أحد؛ أي: ما تلقى الشبهة هذه من أحد.(140/5)
الاهتمام بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم
ورجل العقيدة: يهتم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اهتماماً عظيماً في تعلمها وجمعها وتطبيقها وتمييز صحيحها من سقيمها، فهو يميز الأحاديث الضعيفة من الأحاديث الصحيحة، ولا يأخذ بأي حديث سمعه، وإنما يبحث عن صحته لكي يعمل به ويرويه للناس.
لا يجوز أن نروي حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولسنا متأكدين من صحته، فضلاً عن أن نكون متأكدين من ضعفه أو كذبه: (من حدَّث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبِين، أو الكاذبَين) لا يجوز لك أن تحدث بحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأنت لم تتأكد من صحته، هذا فضلاً عن أن تحدث به وأنت تعلم أنه ضعيف أو موضوع؛ هذه جريمة أكبر من الأولى.
والآن لا يخلو واعظ أو خطيب أو محاضر إلا وتجد في ثنايا كلامه أحاديث ضعيفة أو مكذوبة، يقولون: ترقق قلوب الناس تؤثر في الناس نستغلها لصالح الرسول الله صلى الله وسلم! كذبوا والله، وافتروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كذباً، نحن لسنا يهوداً، والغاية عندنا لا تبرر الوسيلة، وإنما الوسائل لها حكم المقاصد، إذا كان مقصدك صحيح لا بد أن تكون وسيلتك صحيحة.
بعض الناس يأخذ أحاديث مثل: (إذا دمعت عيني اليتيم، وقعت دموعه في كف الرحمن فيأخذها، ويقول: من أبكى هذا اليتيم؟ أعطيت الجنة من أسكته) كلام مؤثر، لكن الحديث لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يجوز لنا أن نأخذ به؟!! ولذلك قام رجال الأمة الذين قيضهم الله لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فما تركوا شيئاً إلا بينوه، فجردوا أسماء الضعفاء، وأسماء الثقات، وبينوا درجات الأحاديث، وبينوا ثقة الرجال من ضعفهم، وجردوا الأحاديث المكذوبة والمصنوعة في الكتب حتى تبين للناس ما هو الحق، ولا زالت الأمور في تنقيح واجتهاد يتوالى عليه الناس المجتهدون منهم في هذا الأمر جيلاً بعد جيل، دلالةً على أن الله يحفظ هذا الدين بحفظ القرآن والسنة.
وكذلك من حق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل العقيدة: أنه يقدم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلام كل أحد، وإذا تعارض كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كلام البشر يقدم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويترك كلام ذلك الشخص.
عن وبرة قال: كنت جالساً عند ابن عمر، فجاء رجل، فقال: أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف؟ فقال: نعم.
فقال: فإن ابن عباس يقول: لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف، فقال ابن عمر: (فقد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف، فبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تأخذ أو بقول ابن عباس إن كنت صادقاً؟!) رواه مسلم.
والاهتمام بالسنة من مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله، بعض الناس يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وهو يُهمل السنن ولا يطبقها، وإذا جاءت سنة يقول: هذه أشياء تافهة، وهذه قشور، وهذه أمور جانبية، اتركنا من اللحية، واتركنا من إسبال الثوب، ودعنا من تحريك الإصبع في الصلاة ووضع اليدين على الصدر؛ هذه قشور، لا ينبغي أن نشتغل بها، سبحان الله العظيم! ماذا كان يفعل الرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إذا كان كلام هؤلاء المجرمين صحيحاً فمعناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كوم السنن الصغيرة حتى إذا كانت آخر دقائق من حياته قال: يا مسلمون! إني كنت أشغلكم بالجهاد وبالأمور الكبيرة، وأنا الآن سوف أذكر لكم السنن الصغيرة في آخر عمري؛ لأني ما أردت أن أشغلكم بها من البداية، ثم مات.
هذا معنى كلامه.
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم الناس الأمور الصغيرة والكبيرة بالتوازن.
لو كان عندك كافر تطبق عليه حديث معاذ: (فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -هذا أول شيء- فإن هم أطاعوك لذلك فأعلموهم بأن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) الحديث.
فلو أسلم الكافر فيجب أن نعلمه جميع الدين، يجب أن نكون أمناء في تقديم الدين، لا نقول: نقدم بعضه للناس ونترك بعضه، وبعد عشرين سنة نبدأ نعلمهم هذه الأشياء الصغيرة، سبحان الله! هذه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ومن المسائل الخطيرة التي تحدث في هذا العصر وتخرج بها كتب جديدة إلى الأسواق، هذه المسألة من مذهب المعتزلة في تقديم العقل على النقل، وربما تظنون أن هذا الكلام نظري وصعب، لكن لو أخبرتكم أن رجلاً من المسلمين قد أخرج كتاباً في هذه السنة (1409هـ) يقول فيه: إن حديث موسى أنه لطم عين ملك الموت ففقأها، مع أنه صحيح وثابت لكنه غير معقول؛ لأن موسى لا يلطم عين ملك الموت فيفقأها، فالحديث لا نقبله، وببساطة شطَّب الحديث.
حديث: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري.
يقولون: هذه أشياء وعادات وتقاليد، ونحن لسنا مكلفين أن ننقل تقاليد عبس وذبيان إلى أمريكا واستراليا.
قالوا: والرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث لما سمع أن بنت كسرى تولت زمام الملك، لكن لو رأى جولدا مائير لقال غير هذا الكلام! سبحان الله! كبرت كلمة تخرج من فمه، اللهم لا تسلطه على أحد من المسلمين، وامحقه وأفكاره التي يريد أن يسمم بها عقول المسلمين.
اللهم قاتل معتزلة القرن العشرين، وامحقهم يا رب العالمين، ولا تجعل لهم سناناً ولا لساناً مسلطاً على المسلمين.
أيها الإخوة! نحن نعيش في أخطار الكتب والأشرطة تُقذف إلينا سموم من هذا المنهج الرديء تقديم العقل على النصوص الشرعية كقولهم: صحيح البخاري لا نأخذ به، وإذا كان هناك حديث ثابت لم يعجبهم يقولون: هذا لا يُوافق طبيعة العصر الذي نعيش فيه أين الإسلام؟! أين الاستسلام لله بالطاعة والانقياد له؟! اللهم اهد من كان ضالاً من المسلمين.(140/6)
الانتساب إلى الله ورسوله
رجل العقيدة لا يُنتسب إلى أحد غير الله ورسوله، كما قال ابن القيم رحمه الله: وأهل هذه الغربة هم أهل الله حقاً، فإنهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، ومن صفات هؤلاء الغرباء: ترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وأكثر الناس لاهم لهم.
إذاً: المسلمون يجمعهم طريقٌ واحد ليس له ثانٍ؛ طريق أهل السنة والجماعة وهو طريق أهل الحديث سماهم أئمة السلف هكذا، سموهم أهل السنة والجماعة تمييزاً لهم عن أهل البدعة، وسموهم بأهل الحديث تمييزاً لهم عن الذين يحكمون عقولهم وآراءهم في النصوص.
قال الإمام أحمد عن الطائفة المنصورة: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم.
كل تسمية مخترعة مهما كان الذي اخترعها، ومهما كان عدد الذين ساروا عليها، فكلها تسميات مبتدعة، يُقصد منها تفريق صفوف المسلمين؛ المسلمون ليس لهم جماعة إلا جماعة واحدة وهم أهل السنة والجماعة؛ عقيدتهم معروفة لم تختلف على مرَّ العصور، وأعمالهم وأخلاقهم معروفة، وطريقتهم في الدعوة معروفة، ومفاصلتهم للكفار معروفة، وكل شيء واضح في القرآن والسنة، وعلماء المسلمين يوضحون هذا الطريق لمن يسير إليه فقط، ليست هناك تسميات وأحزاب وطوائف، وإلا فقل لي: ما الذي أخر مسيرة الدعوة الإسلامية الآن إلا هذه التحزبات والتفرقات؟! هذا من الطائفة الفلانية، وهذا من الطائفة الفلانية.
يا أخي! أين أنت من جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ماذا كانوا يسمون أنفسهم؟! ليس لهم إلا أوصاف: الطائفة المنصورة، الفرقة الناجية، لكنهم هم أهل السنة والجماعة الذين اجتمعوا على هذه السنة فقط، ولذلك فإن من المدهش أحياناً أنك تجد اثنين من المسلمين ليس بينهم فرق في التصورات، لكن هذا يطلق على نفسه اسم كذا، وهذا يطلق على نفسه اسم كذا، وهذا موجود -فقط الاسم- هذا رافع لشعار، وهذا رافع شعار لماذا يا أخي؟ ألسنا أمة واحدة؟!! أليس إبراهيم سمَّانا المسلمين؟!! لماذا نتفرق؟!! ما هي المشكلة؟ أن كل أحد ينتسب إلى طائفة يسميها بأسماء ليست شرعية، فيوالي لها، ويعادي عليها، ويتعصب لها، ويدافع عنها بالحق والباطل.(140/7)
الدعوة إلى مذهب أهل السنة والجماعة
ورجل العقيدة يدعو إلى مذهب أهل السنة والجماعة؛ وهم الوسط بين الأطراف، والحجة عند الخلاف، المتفقون على العقيدة عبر الأزمان، ورجل العقيدة يُصحح معتقدات العامة، فإن كثيراً من العامة عندهم خرافات وشعوذات ومعتقدات باطلة، وهذه قصة تُبين لنا كيف كان العلماء يصححون معتقدات العامة الخاطئة؟ كان نعمان بن محمود الآلوسي رحمه الله جوزي زمانه في الوعظ والتذكير، فكان في كل سنة يجلس في شهر رمضان للوعظ في أحد المساجد الواسعة، فيُقصد من أطراف الأماكن حتى يغص المكان بالمستمعين، فاتفق له في رمضان سنة (1305هـ) أن استطرد في مجلسٍ من مجالسه بحث سماع الموتى، فذكر ما قاله أهل العلم في كتبهم الفقهية من عدم سماع الموتى كلام الأحياء، فقام حشوية بغداد وأنكروا عليه هذا العزو، وأثاروا أفراد جهلة العوام كما هي عادتهم في كل زمان ومكان، وكادت تقع فتنة تسود وجه التاريخ، ولكنه بدهائه وحلمه سكن ثائرتهم، فجمع في اليوم الثاني كل ما لديه من كتب المذاهب الأربعة وارتقى كرسي الوعظ، وقد احتشدت الجموع، فأعاد البحث وصدع بالبيان، ثم أخذ يتناول كتاباً كتاباً فيتلو نصوص العلماء ثم يرمي بها إلى المستمعين ويصرخ: هؤلاء علماؤكم، فإن كنتم في ريبٍ فدونكموهم وناقشوهم الحساب.
حتى إذا فرغ نهض واخترق الجموع الثائرة غير وجلٍ ولا هياب، فأقبلوا عليه يقبلون يديه ويعتذرون إليه من قيامهم بتحريك المرجفين وفريق المقلدة الجامدين، فكان ذلك سبب تأليف رسالته المشهورة: الآيات البينات في حكم سماع الأموات.(140/8)
رجل العقيدة والعصبية
رجل العقيدة لا يتعصب لأحدٍ، ويضع نصب عينيه القاعدة الذهبية التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من نصب شخصاً كائناً من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، ولا تجوز الطاعة المطلقة لإمام من الأئمة مهما علا شأنه، وشاع بين الناس ذكره، ولكن من يجهل حكماً من الأحكام عليه أن يستفتي الأتقياء العلماء؛ الذين يعتمدون في فتاويهم على القرآن والسنة، وينبغي أن يتحرى الدليل ما أمكن، والناس منهم من يجتهد، ومنهم طالب علم يُمحص ويقرأ ويعرف الأدلة، ويتابع القول الذي عليه الدليل الصحيح، ومنهم عامة لا يعرفون ولا يميزون، هؤلاء عليهم أن يسألوا الثقات من العلماء في بلادهم الذين يعتمدون على القرآن والسنة.
هذه المسألة ببساطة.
وفي الوقت الذي ندعو فيه إلى عدم التعصب لأحدٍ أياً كان، فإننا في ذات الوقت ننكر على أولئك النفر الذين وضعوا أنفسهم في رتبة الاجتهاد ولما يحصّلوا العلم الشرعي بعد أو قواعده الأساسية، كيف يطيرون ولم ينبت لهم الريش في أجنحتهم؟ كيف يحلقون في سماء العلم؟ هؤلاء الناس الذين يظنون أنه بمقدورهم وهم العاجزون القُصر أن يستنبطوا الأحكام الشرعية لوحدهم، وبعضهم يزعم أن علماء الحديث عنده كعمال الخدمات يقدمون له الحديث الصحيح وهو الذي يتولى فهمه وشرحه؛ هؤلاء أساءوا العلم والأدب وهم من المغرورين.
وفي ذات الوقت عليكم أن تنتبهوا من خلال قراءتكم وسماعكم لهذه الأشياء المسجلة المنتشرة إلى ألفاظ الغمز واللمز في أهل السنة الذين تجردوا عن التعصب، وهناك من يلمزهم وينبزهم ويغتابهم ويستهزئ بهم، فترى أحدهم يقول: هذه سلفية مزعومة، والآخر يقول: هذا فقه بدوي، وثالث يقول: فتيان سوء يتطاولون على أئمة العلم؛ ومقصودهم تنفير الناس من اتباع الدليل، يريدون التعصب والتقوقع.(140/9)
طلب العلم والعمل به
يجب أن يكون منهاج رجل العقيدة طلب العلم الصحيح، وأن يكون طلبه مبدوءاً بتعلم خشية الله أولاً، فإن رأس العلم خشية الله، وليس مجرد تعلم التعريفات والمتون والمصطلحات والاختلافات والأقوال، وعلم بغير زكاةٍ يكون وبالاً على صاحبه.
وبعض طلبة العلم يقولون: لا نريد دليلاً إلا من القرآن أو من السنة، وغير ذلك نرمي به عرض الحائط، فكيف إذا كان إجماعاً صحيحاً، أو إذا كان قياساً صحيحاً مستنبطاً من القرآن والسنة، وهل متابعتهم للعلماء أولى أم متابعتهم لآرائهم الشخصية؟!! ويجب على رجل العقيدة: أن يعمل الدروس النافعة للعامة والخاصة، للبسطاء والمثقفين، لمن له تعمق في الفهم ومن هو بسيط في الفهم.
قال ابن حجر رحمه الله في ترجمة أحد العلماء في كتابه إنباء الغُمر: "وكان يعمل المواعيد النافعة للعامة والخاصة، حتى إن كثيراً من العوام انتفعوا به، وصارت لديهم فضيلة مما استفادوا منه".
وقال ابن حجر رحمه الله: " أحمد بن محمد الصفدي كانت له عناية بالعلم، وكان يعرف بشيخ الوضوء".
لماذا كان يعرف بشيخ الوضوء؟ لأنه كان يعلم الناس الوضوء، كان يتعاهد المطاهر فيعلم العوام الوضوء، فلذلك سمي شيخ الوضوء.
إذاً: علينا أن نعلم العامة والخاصة، بعض الناس يقصرون جهودهم التعليمية على فئة معينة من الناس؛ على الشباب دون الشيوخ، أو على الرجال دون النساء، أو على الكبار دون الصغار؛ هؤلاء ما عندهم تكامل في خطتهم التربوية التعليمية، ويجب أن يكون التعليم عاماً شائعاً في الناس؛ في الصغار والكبار، والرجال والنساء، والشباب والشيوخ، حاول ألا تخص أحداً دون أحد.
بعضهم تقول له زوجته: علمني شيئاً، وهو مُنشغل مع إخوانه أو يُعلم نفسه، ويتعلم مع إخوانه، زوجته التي في البيت لا تعرف أشياء كثيرة من الأحكام؛ هذا غير صحيح.
أيها الإخوة: يجب أن تكون لدينا نظرة شمولية في قضية الدعوة والتعليم، لو رأيت منكراً في الشارع أنكر عليه، ولو كنت بجانب شخص في الطائرة علمه شيئاً فإنك لن تخسر شيئاً، اصرف جهودك في الأماكن العامة لتعليم الناس، أئمة المساجد يقيمون الدروس لتعليم الناس، المدرسون في المدارس يعلمون الطلاب، ويبذلون العلم للجميع وينصحون الكل، وبهذه الطريقة نصل إلى منع المنكرات بأقصر وقت ما أمكن، أما الانزواء والتقوقع في بيئات معينة منغلقة ونمنع الخير عن الناس فهذا غير صحيح.(140/10)
الاهتمام بالقرآن
رجل العقيدة يهتم بالقرآن الكريم في التربية، فإن بعض الناس يركزون على المواضيع الفكرية، أو الفقهية، أو العلمية البحتة وغيرها، وينسون كتاب الله عزوجل، ويقرءون كلام الأشخاص أكثر مما يقرءون كلام الله، ولذلك يصير اتصالهم بالأشخاص والمؤلفات أكثر من الاتصال بالقرآن الكريم؛ وهذا فيه نوع من الخطورة.
الرسول صلى الله عليه وسلم لماذا منع في بادئ الأمر كتابة شيء غير القرآن؟ لأنه يريد أن ينصب اهتمام الناس على القرآن، ينطلقون منه ويسيرون عليه، وبعض الناس يتصورون أن القرآن لا يوفي جميع الأشياء، وهذا غير صحيح، فالقرآن كتاب أحكام، وكتاب تربية، وكتاب أخلاق، والقرآن يجمع أشياء كثيرة، وإذا أردت التربية فستجد هناك التربية بأنواعها بالقصة، وبالموعظة، وبالقدوة، وبالعقوبة إلى آخره.
ينبغي أن تكون دراسة رجل العقيدة للقرآن الكريم دراسة وافية عامة يدرس قصص القرآن وأمثاله، والعلاقة بينه وبين أسباب نزوله، وتسلسل الأحداث بالمكي والمدني؛ ليعرف مسيرة القرآن في تربية المسلمين، وما هي الأولويات؟ وبماذا يبدأ؟ وبماذا يتوسط؟ وبماذا انتهى؟ وأساليب الجدل والمناظرة في القرآن لمعرفة كيفية إفحام الخصوم وإقامة الحجة عليهم.
وكذلك دراسة نواحي الإعجاز في القرآن حتى يعظم في النفس، وكل علم قد يتندم الإنسان على الاشتغال به إلا دراسة القرآن والسنة.
كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
وكذلك فإن تدبر القرآن الكريم مهم.
يزيدك وجهه حسناً إذا ما زدته نظراً
فعليك بالنظر في هذا القرآن الكريم، والقراءة للكتّاب الذين يأخذون من القرآن ويستشهدون بالقرآن كثيراً، مثل: كتابات ابن القيم رحمه الله، فإنك تُحس أن العبارات حية، كثير الاستشهاد بالآيات والأحاديث، هذا الإمام العالم الرباني الذي يربط الناس بالقرآن والسنة، وليس أن تقرأ كتاباً فيه عشر صفحات ليس فيها آية ولا حديث.
ورجل العقيدة يُقارع الكفار والمبتدعة والفجار بالقرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم كما حدث لـ ابن عباس رضي الله عنه مع الخوارج، فإنه أول ما أتاهم أثنى على عبادتهم وعلى حسناتهم، ثم استفرغ ما لديهم من الحجج حجة حجة، وبعد أن قال: أفرغتم، وتأكد أنه ما بقي لديهم شيء بدأ يجيب عليهم ويرد على كل شبهة بدليل؛ يأخذ شبهتهم ويردها بدليل آية بآية حديثاً بحديث، وسيرة بسيرة وهكذا، ولم يَسْتَسِر ولم ينفعل لما انتقدوا شخصيته، بعض الخوارج لما رأوا ابن عباس قالوا: لا تناظروه فإنه من قريش، الذين قال الله فيهم: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58]، فلم يغضب ابن عباس ويتركهم ويذهب، وإنما تحمل حتى أبلغهم الحق كاملاً.
قال الشافعي رحمه الله: قال رجل من الخوارج لـ علي رضي الله عنه وهو في الصلاة: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] فقرأ علي: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60].
وهذا الإمام أحمد رحمه الله لما سأله المبتدع: ما تقول في القرآن؟ قال الإمام أحمد: ما تقول أنت في علم الله؟ فسكت المبتدع؛ لأنه يعلم ما وراء السؤال.
قال الإمام أحمد: فقال لي بعضهم: أليس الله تعالى يقول: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] والقرآن شيء، قال الإمام أحمد: قال الله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف:25] ألم تبق أشياء لم تدمر.
قال المبتدع: أليس قد قال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الزخرف:3] أفيكون مجعولاً إلا مخلوقاً؟ فقال الإمام أحمد: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] أي: خلقهم؟! وأنت تعلم أن من معاني كلمة جعل: صَيَّرَ.(140/11)
إيقاف الناس عند حدهم
من سمات رجل العقيدة: أنه يُوقف الناس عند حدهم ويفاصلهم عندما يعصون رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن سعيد بن جبير: (أن قريباً لـ عبد الله بن مغفل رضي الله عنه خَذَفَ، فنهاه وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف -يضع الإنسان الحجر بين إصبعيه ويرمي به- وقال: إنها لا تصيد صيداً، ولا تنكأ عدوا؛ ولكنها تكسر السن وتفقأ العين قال: فعاد وأصر وخذف، فلما رآه قال: أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ثم تخذف، لا أكلمك أبداً).
ورجل العقيدة صاحب عبادة، إيمانياته قوية، متصل بربه عزوجل، نأخذ مثالاً واحداً فقط: عثمان رضي الله عنه؛ لأن حياة عثمان رضي الله عنه لا يُهتم بها كثيراً مثلما يُهتم بغيرها من الخلفاء، مع أنه رجل عظيم رحمه الله، قال عثمان رضي الله عنه: [لو طهُرت قلوبنا ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي عليَّ يومٌ لا أنظر فيه في المصحف، وما مات عثمان رضي الله عنه حتى تخرق مصحفه من كثرة ما يدم النظر فيه].
وعن محمد بن سيرين قال: قال أنس: [قالت امرأة عثمان يوم الدار: اقتلوه أو دعوه فوالله لقد كان يحيي الليل بالقرآن].
وكان رضي الله عنه لا يُوقظ أحداً من أهله إذا قام من الليل يُعينه على وضوئه إلا أن يجده يقظاناً، وكان كثير الصوم، وكان يُعاتب، فيقال له: لو أيقظت بعض الخدم يساعدوك في الوضوء في قيام الليل، فيقول: [لا.
الليل لهم يستريحون فيه].
وكان إذا اغتسل لا يرفع المئزر عنه، وهو في بيت مغلق عليه من شدة حيائه رضي الله عنه.
وتأمل في كلام ابن القيم رحمه الله وهو يُعبر لك عن نفسية شيخ الإسلام ابن تيمية، وعن اتصال ذلك الرجل بالله عزوجل، قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنةً من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
وقال لي مرةً: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما ذهبت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شُكر هذه النعمة أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا.
وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
وقال لي مرة: المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه.
ولما دخل إلى القلعة وصار إلى سورها نظر إليه، وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].
وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نظرة النعيم على وجهه.(140/12)
التوازن في التلقي
رجل العقيدة يُوازن في تلقيه وتربيته بين نواحي التربية المختلفة، فتربيته ليست علمية فقط، فإنها قد تقسي القلب، وليست إيمانية فقط فإنها قد تقود إلى جهل يُورد المهالك، وليست دعوية فقط، فكيف يدعو الناس ويهديهم من علمه وإيمانه ضعيف؟! إن جوانب تربيته لنفسه كاملة، وإنه يعلم أن التربية الإيمانية في غاية الأهمية، وأنه مهما بلغ من الشأن والعلو فإنه لا بد أن يهتم بقلبه، وهذا خلاف ما يعتقده بعض المتكبرين الذين يرون أن التربية الإيمانية مهمة للناشئة فقط، مع أنها مهمة للمتقدمين والمتأخرين، وأنه مهما قطع الإنسان مشواراً طويلاً في التربية، فإنه لا يزال يحتاج إلى تقوية قلبه.
ورجل العقيدة يُركز على بناء الأوساط الإيمانية التي من خلالها يتربى الناس، وعلى تنشئة القدوات التي من خلالها يتأثر الناس، وقته مملوء بطاعة الله عزوجل (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا.
من عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا.
من تبع منكم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا).
من ذا الذي يستطيع أن يجمع عيادة مريض وشهود جنازةٍ وصيام يومٍ في يوم واحد؟! أليس يدل ذلك على أن رجال العقيدة في ذلك الوقت كان يومهم مليئاً بأصنافٍ من الطاعات؟! لو قيل لـ حماد بن سلمة: إنك تموت غداً؟ ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً؛ لأنه مُشَبّع بالأعمال الصالحة، لا يستطيع أن يزيد؛ لأنه عد نفسه أنه سيموت غداً.(140/13)
إنكار المنكر
رجل العقيدة يعمل على إنكار المنكر؛ وهذه نقطة مهمة جداً، وما وصل المسلمون إلى ما وصلوا إليه إلا بسبب قيام البعض بفعل المنكر، وقيام آخرين بالسكوت عنهم، وقيام فريق ثالث بإنكاره إنكاراً خاطئاً، فحدث الشر والفساد.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يبدأ بالأهم فالأقل أهمية في الإنكار، ويُقدم الأمر بفعل الواجبات على النهي عن المحرمات إذا استوى الواجب والمحرم، وإلا فإنه يبدأ بالأعلى رتبة، والأكثر خطراً، والأعلى شراً وأشد انتشاراً بين الناس، وهو كذلك يتدرج في الإنكار يداً ولساناً، وإنكاره بقلبه لا يفارق جميع الحالات.
يجب على الإنسان أن يفارق المجلس إن لم يستطع الإنكار، ولا يأمر بمعروف إذا علم أنه سيؤدي إلى منكر أكبر منه، ولا يأمر بمعروف إذا كان سيؤدي إلى فوات معروف أكبر منه، ولا ينهى عن منكر إذا كان سيؤدي إلى منكر أكبر منه، ولا ينهى عن منكر إذا كان سيؤدي إلى فوات معروف أكبر منه، وتفصيل هذه الحالات وغيرها في محاضرة بعنوان: (ضوابط في إنكار المنكر).
وهو صاحب هيبة بين أهل المنكر، ولو رأوه لهابوه، عن سعيد بن جبير قال: مرَّ ابن عمر رضي الله عنه بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه بالنبل، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: (من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضه).
ورجل العقيدة يهتم بإنكار المنكر حتى آخر لحظة من حياته، ألم تر أن عمر رضي الله عنه نهى ذلك الشاب المسبل عن الإسبال وهو على فراش الموت، فقال: [يا بن أخي! ارفع ثوبك؛ فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك].
وأوصى أبو موسى رضي الله عنه حين حضره الموت، فقال: [إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا بي المشي، ولا تجعلون على لحدي شيئاً يحول بيني وبين التراب، ولا تجعلون على قبري بناءً، وأشهدكم أني بريءٌ من كل حالقة، أو سالقة، أو خارقة، قالوا: سمعت فيها شيئاً؟ قال: نعم.
من رسول الله صلى الله عليه وسلم].
ورجل العقيدة يُضحي بنفسه في سبيل الدين؛ لأن هذا الدين لا يقوم بغير تضحيات، وبعض القاعدين الكسالى، يظنون أن الدين سيقوم بمجرد التعلم النظري لهذا الدين، حتى لو لم يؤدوا إليه أي خدمة أو لم يضحوا في سبيل الدين بأي شيء؛ وهذا خطأ.(140/14)
الدعوة إلى عقيدة أهل السنة والجماعة
أريد أن أنبه -أيها الإخوة- بهذه المناسبة على مسألة مهمة: بعض الإخوان الصالحين الطيبين الذين يعتقدون عقيدة أهل السنة والجماعة، ويدينون الله بها يظنون أن مجرد الاعتقاد بعقيدة أهل السنة كافٍ في نُصرة الإسلام؛ لأن الله سينصر الطائفة المنصورة وينجيها، ولكن مجرد الاعتقاد بعقيدة أهل السنة والجماعة من غير محاولة لنشر العقيدة ومقارعة أهل البدع والإجرام بها، والتضحية في سبيل الله بالنفس والمال والوقت والجهد لن يؤد إلى النصر؛ لأن لله سنناً في الكون لا تتخلف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم طريقته معروفة: آمن واعتقد، وعلَّم أصحابه العقيدة، ثم دعا إليها، وجاهد في سبيلها، وصبر في سبيل ذلك، وظل يبحث عن مواطن جديدة للدعوة، وأخرج أصحاباً له إلى الحبشة وخرج هو إلى الطائف، ثم ذهب إلى المدينة وفُتحت المدينة بالقرآن ولم تُفتح بالسيف.
والقرآن مليء بالآيات الدالة على العمل، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25].
إذاً: فمجرد الاعتقاد لا يكفي، وإنما يجب العمل.
عن أبي برزة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان في مغزىً له، فأفاء الله عليه -غَنِمْ- فقال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم.
فلان وفلان وفلان، ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا.
قال: لكني أفقد جليبيباً فاطلبوه، فطُلب في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعة قتلهم ثم قتلوه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه، فقال: قتل سبعة ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه، قالها مرتين أو ثلاثاً، ثم قال بذراعيه هكذا فبسطهما، قال: فوضعه على ساعديه ليس له سرير إلا ذراعي أو ساعدي النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فحفر له ووضعه في قبره ولم يذكر غسله).
حديث صحيح.
جليبيب قتل سبعة في سبيل ماذا؟ ثم قتل في سبيل ماذا؟ عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: [هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى ولم يأحذ من أجره شيئاً، منهم: مصعب بن عمير].
مصعب بن عمير ماذا حصل له؟ مصعب بن عمير أسلم مع الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، وجاهد والديه، وجاهد المجتمع، وأوذي في سبيل الله وناله من الأذى شيئاً كثيراً، ثم يُهاجر مصعب إلى المدينة بسبب اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم له، وذلك لميزات في شخصيته، فكان سفره من أقوى الأسباب التي أدت إلى انتشار الإسلام في المدينة، وقد أسلم على يديه سادات الأنصار، ثم يخرج في معركة بدر ويقاتل، ويخرج في معركة أحد ويحمل اللواء، فيُقتل رضي الله عنه.
ماذا جاءه من نعيم الدنيا؟ لما مات ياسر وقتلت زوجته أم عمار ماذا نالت من الدنيا؟ ماذا نالت من المغانم؟ لا شيء، مات هؤلاء في مقتبل الأمر مات هؤلاء والمسلمون في مرحلة استضعاف، ضحوا ولم يروا نتائج التضحية، بعض المسلمين يستعجلون يريدون أن يروا نتائج العمل في أقرب وقت.
يا أخي! ربما لا ترى النتيجة إلا بعد أجيال وربما لا تراها أنت أصلاً، ربما لا يراها إلا حفيدك أو حفيد حفيدك، وماذا يُضِيرك لو تعمل للإسلام؟ ولو رأى غيرك النتيجة؛ لأنك لست مكلفاً إلا بالعمل (قتل مصعب يوم أحد فلم يُوجد له شيء إلا نمرة، فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعوها على رأسه واجعلوا على رجليه الإذخر، ومنا من أينعت ثمرته فهو يهدبها).
لكن الصحابة حتى بعد أن فُتح عليهم وجاءتهم الأموال، يجلس الواحد منهم يحاسب نفسه ويبكي ويقوم ويترك طعام الإفطار، يقول: ومنا من أينعت ثمرته، هو الآن يتنعم، يحاسب نفسه فيبكي ويقوم ويترك طعام الإفطار.(140/15)
التضحية في سبيل هذه العقيدة
رجل العقيدة إذا عمل في سبيل نصرة الدين وضحى بنفسه لا يريد بذلك متاعاً دنيوياً، ويُصّر على ألا يأخذ متاعاً دنيوياً، عن شداد بن الهاد قال: (أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ليعينوه ويكفلوه ويربوه ويعلموه -أعرابي- فلما كانت غزوة خيبر غنم النبي صلى الله عليه وسلم فيها شيئاً فقسمه، وقسم له -لهذا الأعرابي، ولم يكن موجوداً وقت القسمة؛ لأنه كان يرعى ظهور المسلمين- فأعطى الرسول صلى الله عليه وسلم نصيب الأعرابي لأصحابه، فلما جاءهم دفعوه إليه، فقال: ما هذا المال؟ فقالوا: قَسَمَ لك النبي صلى الله عليه وسلم فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ فقال: قسمته لك، قال: ما على هذا تبعتك؟ ولكن تبعتك على أن أُرمى هاهنا -وأشار إلى حلقه بسهم- فأموت فأدخل الجنة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأُتي به النبي صلى الله عليه وسلم وهو محمول وقد أصابه سهم حيث أشار -بعد المعركة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟ قالوا: نعم.
قال: صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته، ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك، خرج مهاجراً في سبيلك، فقتل شهيداً وأنا شهيدٌ على ذلك) والأحاديث الماضية صحيحة.(140/16)
معرفة الواقع
ومن سمات رجل العقيدة كذلك: أنه يعي الواقع جيداً، ويُلم به، وأنه رجل يعيش عصره لا يعيش متقوقعاً لا يعلم ماذا يحدث في بلاد المسلمين، وما هي التيارات التي تخترق مجتمعات المسلمين؟ إن لديه إلماماً بالتيارات التي تواجه المسلمين بأخطارها، مثل: التيارات الإلحادية الصريحة كـ الشيوعية والقومية وغيرها، وكذلك تيارات الباطنيين كـ القاديانية والبهائية وغيرها، وتيارات القوميين والعلمانيين الذين قال بعض قادتهم:
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
هؤلاء الذين لا يرفض بعضهم الإسلام صراحة، ولكنهم يجعلونه ضمن دوائر خاصة يجعلونه جزءاً من التراث بحيث يشمل كل الفلسفات والأفكار والتقاليد والنظم مما قبل الإسلام أو بعده، سواء كان موافقاً للإسلام أو مخالفاً له، يريدون أن يحصروا الدين في الشعائر التعبدية والأحوال الشخصية، والتزام الفرد بالأخلاق والآداب فقط.
وكذلك يدركون تيارات التبشير النصراني، وعبادة الفرد من دون الله، ويدركون جيداً تيارات أهل البدع من أهل الاعتزال والكلام، وأخطر من يواجه المسلمين في هذا العصر من أهل البدع من جهة العقيدة غير النصارى والعلمانيين والناس الذين ذكرناهم فيما سبق، الصوفية بفرقها، والأشاعرة من ناحية الامتداد والتمركز، وذلك من خلال جامعاتهم في العالم الإسلامي، ودروس مشايخهم وطبع كتبهم وتقريرها وتوفيرها والترابط بين مذاهبهم.
ورجل العقيدة علمه بالواقع يُؤدي إلى عِظم شعوره بالمسئولية تجاه الواقع.
ما فائدة المعرفة بالواقع؟ إنه يؤدي إلى الشعور بالمسئولية للتغيير، ويعلم بأن هناك أكثر من ألفي مليون من البشر يعبدون آلهة وثنية من دون الله، ويعلم بأن هناك أكثر من ستمائة مليون إنسان في الهند يُقدسون البقر، ويقولون: نموت فداءً للبقر، ويعلم بـ الشيوعية وأهدافها وأحزابها ودولها وهيئاتها التي تعمل ليكون العالم كله شيوعياً، ويعلمون عن اليهود وعقائدهم الذين أخبر القرآن عنهم أنهم سبوا الله، فقالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64].
وهم الذين قالوا: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح يوم السبت.
وهم الذين يقولون: إذا احتدم الخلاف بين الله والحاخاميين فإن الحق مع الحاخاميين.
وهم الذين يقولون: إن الأديان بغير اليهود كلاب، يحل غشهم والمنافقة معهم عند اللزوم.
ويعلم رجل العقيدة بمؤامرات اليهود في العالم، وكيف تنطلق أنشطتهم من البنوك والمصارف والاحتكار والمسارح والسينما والمطابع، ودور النشر التي تُصدر كتبهم وصحفهم ومجلاتهم، ويعلم بأن الغرب مشتغل بعبادة المال وتجارة الرقيق الأبيض والمخدرات والتمييز العنصري، وأن الغرب تنتشر فيه تيارات الهيدية والسادية واللواط وعبادة الشيطان، وأن أولئك الكفار لا يعلمون شيئاً اسمه الخوف من الله، وأن الحضارة الغربية والتقدم العلمي ما هو إلا من قول الله عزوجل: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] وصدق من قال: لقد تعلم الإنسان كيف يطير في الهواء ولكنه لا يدري كيف يمشي على الأرض.
ورجل العقيدة: يعلم بوعيه أن هناك مؤامرات تُدبر في بلاد المسلمين ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ويعلم مثالاً جيداً من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أولئك المنافقين الذين بنوا مسجداً ليكون ظاهر الأمر أمام المسلمين أنه شيء طيب، ولكنه في الحقيقة يخفي وراءه عذاباً ونكالاً ومؤامرة على المسلمين.
ولذلك يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:107 - 110].
ولذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بهدمه وحرقه مع أنه مسجد حتى قال بعض السلف: "فهو الآن مزبلة"؛ لأن هذه المؤامرات وهذه الدسائس لا تنطلي على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وليس كل شيء ظاهره الطيبة أنه خير للمسلمين، بل إنه قد يكون وراءه شر مستطير، والمسلم ينفذ بعين بصيرته ما وراء تلك الجدران فيعلم ماذا يدور؟ وماذا يخبأ للمسلمين؟ وقازان الذي انتحل شخصية رجل الدين، وجاء معه بإمام وقاضٍ ومؤذن، لم ينطل أمره على شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه وعى الأمر على حقيقته، وفتوى شيخ الإسلام في قتال التتر معروفة، وفي العصر الحديث جاء نابليون إلى مصر، فلبس الجبة، وحضر مجالس العلماء، وصلى في الأزهر، وأفطروا على مائدته، وانطلى أمره على كثير من المسلمين.(140/17)
تقدير الأمور ومعرفة أنها مسئولية
ورجل العقيدة يُقدر الأمور ويُقدر أنها مسئولية، ويعرف ثِقل التبعات، ويقف عندما يحس بأن المسألة تحتاج للاستعداد، عن أنس رضي الله عنه قال: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سيفاً يوم أحد فقال: من يأخذ مني هذا؟ فبسطوا أيديهم وكل إنسان منهم يقول: أنا أنا، قال: فمن يأخذه بحقه؟ فأحجم القوم، فقال سماك بن خرش أبو دجانة: أنا آخذه بحقه، قال: فأخذه ففلق به هام المشركين) رواه مسلم.
وفي المواقف الصعبة يظهر دور رجل العقيدة في تثبيت الناس، ويظهر دور تلك الشخصيات العظيمة في إشاعة أجواء الإيمان والطمأنينة في جنبات تلك النفوس المزلزلة، وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه صار ملجأ الناس لما تزلزلوا عند موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكشفت تلك الحادثة عن قدرة الرجل وإيمانه وعلمه، قام بدور لم يقم به بقية الصحابة، فتشهد أبو بكر فمال إليه الناس وتركوا عمر، فقال: [أما بعد من كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، قال: والله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها] في طرق المدينة وهم خارجون كأنهم لم يشعروا أن الآية نزلت إلا في ذلك الوقت، مع أنها نزلت من قبل، وهكذا كان دور الإمام أحمد رحمه الله في تثبيت الناس يوم المحنة.(140/18)
تثبيت النفس والغير
رجل العقيدة يثبت نفسه، ويثبت غيره حتى اللحظات الأخيرة من حياته، لما حُمل الإمام أحمد ومحمد بن نوح رحمهما الله، قال الإمام أحمد بعد ذلك يحدث عن الموقف: ما رأيت أحداً على حداثة سنه وقدر علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، وإني لأرجو أنه قد خُتم له بخير، قال لي ذات يوم: يا أبا عبد الله! الله الله إنك لست مثلي، أنت رجل يُقتدى بك، قد مد الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك، فاتق الله واثبت لأمر الله، فمات وفُك قيده وغسله الإمام أحمد، وصلى عليه ودفنه يرحمه الله.
إذاً: هذا دور طالب العلم مع العالم، محمد بن نوح ماذا كان بالنسبة للإمام أحمد؟ علمه قليل، وسنه صغير، أين دور طلبة اليوم مع العلماء في تثبيتهم وتوعيتهم، وإمدادهم بالمعلومات عن الواقع، إن طلبة العلم قد يكونون في تقصير عظيم تجاه العلماء.
فالله الله يا طلبة العلم بالقيام بأدواركم مع علمائكم، وانظروا إلى دور الرجل الذي يثبت الآخرين في كلام ابن القيم رحمه الله عن شيخه: وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله عنا، وينقلب انشراحاً وقوةً ويقيناً وطمأنينة، فسبحان الله من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها.
إذا ضاق الأمر بتلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية وكاد لهم أهل البدعة ضاقت عليهم الأمور، فكانوا يأتون شيخهم، ما أن يسمعوا كلامه حتى يزول الهم والغم وينقلب انشراحاً وطمأنينة.(140/19)
الدعوة إلى الله عز وجل
رجل العقيدة داعية إلى الله عزوجل أينما حل وارتحل، في كل مكان ينشر العقيدة، وهؤلاء رجال العقيدة الذين يدعون إلى الله، يدعون الناس سراً وجهاراً وليلاً ونهاراً، بشتى الأساليب وشتى الأزمان، إن أحدهم كان يقطع البلاد من بلد إلى بلد ومن قرية إلى قرية في عشرين يوماً، وفي بعض الأحيان يُصبح في بلد ويتغدى في آخر، ويمسي في ثالث وينام في رابع؛ وينام ساعة أو بعض ساعة في اليوم الواحد، وأصحابه يتحدثون حوله.
إن رجل العقيدة يدعو إلى الله في كل وقت حتى لو كان في السجن انظروا إلى يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39].
وانظر إلى دور الإمام أحمد في السجن وكذلك ابن تيمية وغيرهم، حتى أن بعض المساجين ممن قد انتهت مدتهم كانوا يختارون البقاء في السجن مع أولئك العلماء القدوات من رجال العقيدة ليواصلوا تعلمهم.
ورجل العقيدة: يكون حيث تكون المصلحة لا يتطلع إلى أشياء من الدنيا، ويقول: ضعوني هنا ولا يُعجبني هذا المكان، إنه يكون حيث تكون مصلحة الإسلام (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة).
قال ابن كثير رحمه الله في البداية: "كتب الصديق إلى عمرو بن العاص يستنفره إلى الشام، فقال له: إني كنت قد رددتك على العمل الذي ولاك رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه لك مرة، وقد أحببت يا أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك، إلا أن يكون ما أنت فيه هو أحب إليك".
انظر الأسلوب التربوي في تحويل الأشخاص من مكان إلى آخر، فماذا قال عمرو بن العاص؟ "كتب إلى أبي بكر: إني سهم من سهام الإسلام، وأنت عبد الله الرامي بها والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها فارم بي فيها".
أي: ضعني حيث تريد فأنا مستعد أن أعمل، وبعض الناس كونه يوجد في هذا المكان ويسد هذه الثغرة يعترض ويقول: لا أريد أن أكون فيها، لأن هذه الثغرة ما فيها إلا قلة، ولا يوجد أحد يعرفني فيها ولا يحترمني، فأنا أريد أن أكون هناك حيث تشرأب إليَّ الأعناق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(140/20)
استغلال الطاقات والمواهب في خدمة الدين
ورجل العقيدة يستغل طاقاته ومواهبه في خدمة الدين.
أيها الإخوة! إن الله يحاسب الناس على قدر طاقاتهم، فالله لا يحاسب الذكي مثل البليد، ولا يحاسب القوي مثل الضعيف، ولا يحاسب الشاب مثل الكهل الكبير، ولا يحاسب صاحب النفوذ والسلطان مثل الرجل المسلوب السلطان الذي ليس له قوة، ولا يحاسب الرجل الذي عنده قدرة على التداخل في نفوس الناس وإيصال الإيمان والدعوة إليهم، مثل الرجل الذي ليست عنده تلك القدرة انظر إلى مصعب بن عمير كيف استغل ذلك؟! ورجل العقيدة يستغل منصبه ونفوذه وسلطانه في دعم الدين انظر إلى عمر بن عبد العزيز، وحتى إذا آتاه الله موهبة قرض الشعر فإنه يكتب الشعر لينافح عن دين الله عزوجل، ويهتك أستار أهل الباطل انظر إلى حسان رحمه الله.
وإليك -يا أخي- هذا المثال العظيم الذي سطَّره التاريخ الإسلامي لرجلٍ من رجال العقيدة استغل موهبته في خدمة الدين، قال القاضي ابن شداد رحمه الله في سيرة صلاح الدين الأيوبي في إحدى الوقعات يقول: ومن نوادر هذه الوقعة ومحاسنها أن عَوّاماً مسلماً يقال له: عيسى كان يدخل إلى البلد بالكتب والنفقات على وسطه ليلاً على غرة من العدو، وكانت بلاد المسلمين محاصرة، فكان يغوص ويخرج من الجانب الآخر من مراكب العدو رجل من المسلمين ليست عنده موهبة إلا القدرة على الغطس والعوم، فكان يستغل قدرته على الغطس والعوم في أن ينزل قبل مراكب العدو بمسافة ومعه هذه الأحمال إلى البلد المحاصرة، وكان ذات ليلة قد شد على وسطه ثلاثة أكياس فيها ألف دينار، وكتب للعسكر، وعام في البحر، فجرى عليه من أهلكه ومات هذا العوّام، وأبطأ خبره، فاستشعر الناس هلاكه، وبينما الناس على طرف البحر في البلد وإذا البحر قد قذف إليهم ميتاً غريقاً، فرأوه فإذا هو عيسى العوام، ووجدوا على وسطه الذهب وشمع الكتب، وكان الذهب نفقة للمجاهدين، فما رُؤي من أدى الأمانة في حال حياته -وقد أداها بعد وفاته- مثل هذا الرجل، وكان ذلك في العشرة الأيام الأخيرة من شهر رجب.
رجل العقيدة يعمل ولو كان غير معروف، ولو كان يجهله الناس، ولكنه يعمل لا يبتغي الشهرة أو المعرفة أو يُشار إليه بالبنان، قال ابن كثير في البداية: ولما أُخبر عمر بمقتل النعمان بكى، وسأل عمن قتل من المسلمين؟ فقال: فلان وفلان وفلان، ثم قال: وآخرون من أصناف الناس ممن لا يعرفهم أمير المؤمنين من البلاد المتفرقة والقبائل المتفرقة، فجعل عمر رضي الله عنه يبكي، ويقول: [ما ضرهم ألا يعرفهم أمير المؤمنين، لكن الله يعرفهم وقد أكرمهم الله بالشهادة وما يصنعون بمعرفة عمر].
رجل العقيدة إذا تعرض لاستمالة من قبل أهل الضلال، فإنه يأبى أن يترك الصف الإسلامي وينحاز إلى صفوف أهل الفجور والبدعة والمعاصي الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وأنت تسمع قصة كعب بن مالك وترى عظمة ذلك الصحابي رضي الله عنه، لما فاضت عيناه؛ لأن الناس ما كلموه بناءً على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول كعب: [فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، فإذا بنبطي من نبطي أهل الشام يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون إليّ حتى جاءني، فدفع إليَّ كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً، فقرأته فإذا فيه: أما بعد! فإنا قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسيك قال: فقلت حين قرأتها -النفوس لا تظهر إلا عند مواضع الاحتكاك والفتنة؛ وهنا تظهر المعادن- وهذا أيضاً من البلاء، فتيممت بها التنور وسجرته بها].
رجل العقيدة صاحب نفس طويل في متابعة المهمات انظر إلى سلمة بن الأكوع رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه، بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية ثلاث مرات، ولما نادى منادي المسلمين: يا للمهاجرين في الغزوة بعد الصلح قفز فجأة، لأن الحال خطير، فوجد أربعة من المشركين فألقى القبض عليهم وأخذ أسلحتهم وجاء يقودهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم رجل واحد يأسر أربعة فجأة وفي طريق الرجوع أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصعد أحد الصحابة إلى الجبل المرتفع ليكون الطليعة فينظر هل وراء الجبل أحد من المشركين، فصعده سلمة رضي الله عنه مرتين.
ولما قدموا المدينة أغار أناس على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوا الراعي وأخذوا الإبل، واستُنفر الناس، فكان أول رجل نفر هو سلمة بن الأكوع فجرى سلمة وراءهم وانتزع إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً واحداً وانتزع منهم كذلك متاعاً لهم، وظل يطاردهم بالنبل وجرحهم وأجلاهم عن الماء وتركهم عطاشى حتى وصل فرسان الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذوا المال كله، وهو في الرجوع جاء رجل وقال: من يسابق إلى المدينة؟ فسابقه سلمة رضي الله عنه إلى المدينة فسبقه.
كل هذا فعله في فترة واحدة، أشياء متتابعة تأخذ مجهوداً، لكن رجل العقيدة لا يعرف الكلل والملل، بل إنه لا يعرف إلا المتابعة والاستمرارية في العمل.(140/21)
الاهتمام بضعفاء المسلمين ومساكينهم
رجل العقيدة يهتم بضعفاء المسلمين وعوامهم، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعود مرضى مساكين المسلمين وضعفائهم، ويتبع جنائزهم، ولا يُصلي عليهم غيره، وإن امرأة مسكينة من أهل العوالي طال سقمها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل من حضرها من جيرانها، وأمرهم إذا ماتت ألا يدفنوها إن حدث بها حدث حتى يأتي ويصلي عليها، فتوفيت تلك المرأة ليلاً فاحتملوها وأتوا بها إلى مكان الجنائز، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليها فوجدوه نائماً، فما أحبوا أن يزعجوه من الليل، فصلوا عليها ودفنوها، ولما علم عليه الصلاة والسلام صباح اليوم الثاني، قال: لم فعلتم؟ انطلقوا، فانطلقوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قاموا على قبرها، فصفوا وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يصف لصلاة الجنازة، فصلى عليها صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم اهتم بامرأة عجوز من المسلمين، وبعض الناس الآن لا يهتمون بالعجائز، يموت العجوز وقد لا يُدرى عنه، وقد تتغير جثته في بيته ولا أحد يعلم بموته.
أحدهم يقول لجاره: هؤلاء أولادك الآن تركوك في البيت وذهبوا واشتغلوا، وبينما هو باقٍ في البيت ومن البيت إلى المسجد، افتقده أهل المسجد فبحثوا عنه، وفي الأخير ذهبوا إلى البيت فوجدوه مغلقاً فحطموا الباب ودخلوا، فوجدوا رائحة الرجل متغيرة ثلاثة أيام لم يسأل عنه أحد لماذا؟ أين الاهتمام بعامة المسلمين؟! أين الاهتمام بالضعفاء؟! أين الاهتمام بمن لا أهل لهم، ولا أناس يسألون عنهم؟! وفي جنازة المساكين لا تجد إلا أناساً قليلين جداً، لكن لو مات رجل عظيم لوجدت الناس كلهم قد اجتمعوا هل هذا عدل؟!(140/22)
مخالفة الكفار ومفاصلتهم
كذلك رجل العقيدة له موقف من الكفار؛ وهو أنه يفاصلهم ويتميز عنهم في عبادته لماذا لا نصلي في وقت شروق الشمس وغروبها؟ تميزاً عن الكفار في العبادة، وهو كذلك يتميز عنهم في العقيدة، ويتميز عنهم في اللباس، ويتميز عنهم في المظهر، ويتميز عنهم في كل ما اختصوا به من عادات، ولا يُقدم وشيجة القربى على العقيدة.
انظر إلى هذه الحادثة العجيبة في الحديث الصحيح في وفاة أبي طالب يقول: (لما توفي أبو طالب أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت -من المتكلم؟ علي بن أبي طالب انظر ماذا قال علي الغلام الصغير للرسول صلى الله عليه وسلم، من الذي مات؟ أبوه الذي مات.
ماذا قال علي؟ يقول مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم-: إن عمك الشيخ الضال قد مات فمن يواريه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: اذهب فواريه ثم لا تحدث شيئاً حتى تأتيني، فقال علي رضي الله عنه: إنه مات مشركاً، فيعود عليه السلام ويقول: اذهب فواريه.
قال: فواريته ثم أتيته، قال: اذهب فاغتسل ثم لا تحدث شيئاً حتى تأتيني، قال: فاغتسلت ثم أتيته، قال: فدعا لي بدعوات ما يسر أن لي بها حمر النعم) حديث صحيح رواه الإمام أحمد.
ورجل العقيدة له موقف من الكفار في الصدع بالدين وإعلان الإسلام، وأنتم تعرفون قصة أبي ذر في الصحيحين، تعرفون أنه لما قال له النبي عليه الصلاة والسلام بعدما أسلم: ارجع إلى قومك، قال: لا.
سأذهب إلى كفار قريش ولأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فثار إليه القوم فضربوه حتى أضجعوه على الأرض، فأتى العباس فأنقذه، وفي اليوم التالي يرجع أبو ذر ويعاود نفس العملية؛ لأنه يريد أن يُعلن العقيدة على ملأ الكفار.
رجل العقيدة ليس بخب ولا يخدعه الخب، ليس غادر لئيم مكّار وفي نفس الوقت لا يسمح لمخادع مكّار لئيم خبيث أن يلعب عليه ويخدعه.
ورجل العقيدة رجل نبيه، لما سار عمرو بن العاص رضي الله عنه بجيشه إلى الرملة وجد الروم عليهم الأرطبون، وكان أدهى الروم، وقد وضع بالرملة جنداً عظيماً، فأقام عمرو رضي الله عنه مع الجيش بأجناده، لا يقدر من الأرطبون على سقطة ولا تشفيه الرسل؛ يُرسل الرسل لكي يأتون له بالأخبار عن ملك الروم، لكن الأخبار التي يأتون بها غير كافية، فقرر عمرو بن العاص رضي الله عنه أن يذهب بنفسه وهو أمير الجيش على أنه رسول إلى ملك الروم يدخل في عسكرهم ويرى، فدخل على أنه رسول وبلغ الرسالة لملك الروم، وسمع كلامه وتأمل حضرته، وعرف ماذا يدور، فقال الأرطبون في نفسه وكان داهية: والله إن هذا لـ عمرو، أو أنه الذي يأخذ عمرو برأيه، وما كنت لأصيب القوم بأمر هو أعظم من قتل هذا الرجل، لأن بعض الكفار عندهم خبرة، فنادى هذا القائد حرسياً قال: تعال، وهمس في أذنه قال: إذا مر بك هذا الرجل -رسول المسلمين- فاذهب واختبئ في الموضع الفلاني، فإذا مرَّ بك فاقتله، فعلم عمرو رضي الله عنه أن المسألة فيها خديعة، فماذا قال للأرطبون؟ قال: أيها الأمير! إني قد سمعت كلامك -أي: المراسلة التي كلمتك عنها وسمعت كلامي- وإني واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لنكون مع هذا الوالي -أي: عمرو بن العاص - لنشهد أمورهم، وقد أحببت أن آتيك بهم ليسمعوا كلامك ويروا ما رأيت أنا، فقال الأرطبون: نعم.
فاذهب فأتني بهم، ودعا رجلاً، وقال: قل للحرسي لا يقتل هذا الرجل.
فخرج عمرو بن العاص وسرى من الجيش، ولما وصل إلى جيشه دخل فيه، ثم تحقق الأرطبون أن هذا هو عمرو بن العاص، فقال: خدعني هذا الرجل، والله إنه أدهى العرب.
وبالنسبة لإرهاب الكفار والكذب عليهم في الحرب، فيقول ابن كثير رحمه الله في البداية: قال خالد لـ ماهان؛ في مقابلة جرت بينهما: إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت، غير أنا قومٌ نشرب الدماء، وأنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم، فجئنا لذلك، فقال أصحاب ماهان: هذا والله ما كنا نُحدث به عن العرب.(140/23)
اليقين بأن المستقبل للإسلام
وختاماً: فإن رجل العقيدة يعلم بأن المستقبل للإسلام، ويعلم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بأحاديث كثيرة على أن المستقبل للإسلام، ومنها: (بشر هذه الأمة بالسناء والتمكين في البلاد، والنصر والرفعة في الدين، ومن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة نصيب).
هذا الكلام مهم جداً أن نعلم أن المستقبل للإسلام، لماذا؟ لأن الناس يقولون: مستحيل أن يخرج اليهود من فلسطين؛ لأن عندهم القنابل والطائرات وعندهم السلاح وعندهم وعندهم، لكن أريد أن أسألكم سؤالاً، كم مكث النصارى -الروم- في القدس في الماضي؟ قرابة تسعين عاماً، ثم أخرجهم المسلمون في النهاية، واليهود كم مدة احتلالهم لـ فلسطين؟ قرابة أربعين سنة.
وكان المسلمون أيام الاحتلال الصليبي في ضعف، ثم قيض الله للأمة صلاح الدين فأخرجهم وليس بعزيزٍ على الله أن يُخرج رجلاً في الأمة يجتمع عليه المسلمون، فيخرجون اليهود، وكذلك مر في التاريخ الإسلامي أحداث سوداء جداً، المسلمون في غاية الضعف، كيف كان التتر والمغول يفعلون بالمسلمين في البداية قبل أن يدخل فيهم الإسلام؛ كان الجندي من التتر يدخل الحي من أحياء المسلمين، ولا يتكلم أحد من المسلمين؛ لأنهم في ذل، فيقول: اجتمعوا يا أهل الحي، فيجتمعون كلهم ولا يتخلف منهم رجل واحد، فيقول لأحدهم: ضع رأسك على الصخرة، فيضع رأسه على الصخرة، ويقول لرجل آخر من المسلمين: خذ هذه الصخرة ورض بها رأس صاحبك، فلا يملك ذلك المسكين إلا أن يأخذ الصخرة ويرض بها رأس صاحبه وهكذا يفعل بهم واحداً واحداً حتى يفنيهم وهو واحد؛ لأن الذل عم المسلمين، ولكن مع ذلك صد المسلمون بعد مدة حملات التتر.
إذاً أيها الإخوة: مهما كاد الكائدون فالمستقبل للإسلام، ومهما حاول أهل الشر والبغي، ومهما خطط المخططون فإن المستقبل للإسلام.
انظر إلى التاريخ الإسلامي المعاصر، كم ضربة وجهت للإسلام والمسلمين؟ كم خطة أعدت؟ كم محاولة جرت؟ ومع ذلك الصحوة الإسلامية في ازدياد، وهذا دليل على أن ديننا دين عظيم؛ فهو يحمل في طياته عناصر استمراريته وهيمنته: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].
وصلى الله على نبينا محمد.(140/24)
صبر الرسول على الأذى
لم تقم دعوة الإسلام، ولم تبلغ ما بلغت إلا بعد تضحيات جسيمة، وتحمل صنوف من الأذى، وأول من واجه ذلك وصبر عليه هو إمام هذه الدعوة صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك للمسلم أسوة في مواجهة المشاكل والأذى الذي يعترضه خلال الدعوة إلى دينه.(141/1)
أهمية دراسة شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: إن دراسة شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمور المهمة للمسلم الذي يريد أن يطبق قول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] ويريد أن يسير على تأثرٍ من نور هذه الآية: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
وشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها جوانب كثيرة من العظمة؛ تلك الجوانب التي لا بد للداعية إلى الله، ومن يريد أن يتربى على طريق الإسلام أن يدرسها دراسة متأنية.(141/2)
عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبره على الاستهزاء
ونحن نستعرض في هذا المقام جانباً من جوانب عظمة شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله على نورٍ من ربه، ويصبر على الأذى في سبيل هذه الدعوة، وصبره صلى الله عليه وسلم على الأذى يتمثل في أحداث كثيرة تمَّت في حياته صلى الله عليه وسلم؛ من مواجهته للكفار والمشركين والمنافقين، وفي عامٍ واحد وهو العام العاشر من البعثة يتوفى الله تعالى خديجة رضي الله عنها ويموت أبو طالب، فيطمع كفار قريش في أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يكونوا يطمعون قبل ذلك، وأذية الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم تتمثل في جوانب كثيرة: أولاً: الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء:36] أن يهزأ المبطل بالمحق، وأن يسخر السفيه بالعاقل، تلك والله أذية كبيرة تقع كالصخر على صدر الذي يتعرض لهذا النوع من الأذى، رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أنه على الحق وهم يستهزئون به: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} [الفرقان:41] يستهزئون بشخصيته صلى الله عليه وسلم، ولكنه يصبر على هذا الأذى وهو يتفكر في قول الله تعالى يسري عن شخصه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:10].
لقد دارت دائرة السوء عليهم، وهذا الاستهزاء الذي استهزءوا به قد أصبح وبالاً عليهم.(141/3)
للدعاة في النبي صلى الله عليه وسلم أسوة في الصبر على الاستهزاء
واليوم يقف الداعية إلى الله سبحانه وتعالى، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر موقفاً حرجاً أمام السهام التي توجه إليه من المستهزئين وهم يستهزئون بشخصيته، أو يستهزئون بمظهره، أو يستهزئون بالأفكار التي يحملها، إنه يتأسى بموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصبر على هذا الاستهزاء.
ولقد صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على شتى الاتهامات؛ فقد اتهموه بأنه يقول الشعر، وأن هذا القرآن إنما هو شعر، وأنهم أيضاً شعراء ولو شاءوا أن يأتوا بمثل شعره لأتوا، يريدون أن يحولوا هذا القرآن عن المجرى العظيم والقالب الذي نزل به؛ لكي يقولوا للناس: نحن نستطيع أن نصنع مثله قال تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء:5] وقالوا: {أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36] وقال الله عنهم: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30] إنهم ينتظرون نهايته، وينتظرون موته حتى تدفن دعوته في مهدها، ولا تقوم لها قائمة، ولكن الله سبحانه وتعالى تولى الرد عليهم، وتثبيت نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:38 - 41]، وقال عز وجل: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69].
وكل عارف باللغة العربية؛ بنثرها وشعرها يعرف أن هذا القرآن ليس على وزن الشعر، وليس شعراً كالذي يقوله الشعراء.
واليوم يقف الدعاة إلى الله عزوجل أمام المستهزئين وهم يرمونهم بتهم مثل هذه، فليس لهم والله إلا الصبر عليها، والرد على هذه الشبهات التي تطلق على الشريعة وأفكار الدين، منتهجين نهج القرآن في الرد عليها.
وأوذي عليه السلام باتهامه بالسحر، قال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس:2] {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص:4] {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان:8] ولكن الله رد عليهم فقال: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52] لماذا يريد الجاهليون أن يصموا شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر؟ لأنهم رأوا أن لهذا القرآن الذي يتلوه صلى الله عليه وسلم أثراً عظيماً على نفوس الناس؛ إنه يجذب الأنظار، ويأخذ بمجاميع القلوب (إن عليه لطلاوة، وإن له لحلاوة) فهم يريدون أن يصرفوا أذهان الناس عن سبب هذا التأثير؛ وسبب هذا التأثير أن القرآن كلام الله، سبب هذا التأثير أنه نزل من عند الله الذي خلق النفس، ويعلم ما يؤثر بهذه النفس، وما تتأثر به هذه النفس، إنهم يريدون أن يصرفوا سبب التأثير إلى السحر الذي يؤثر -كذلك- في الناس؛ إنها والله دعاية إعلامية يريدون أن يلبسوا بها على الناس الذين يتأثرون بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقف الدعاة إلى الله عزوجل اليوم أمام أولئك الشاتمين الذين يريدون أن يلبسوا الحق بالباطل، ويريدون أن يصرفوا الناس عن تأثير القرآن والسنة، إنهم يستخدمون وسائل شتى من التهويس والتهويل، وصرف أنظار الناس عن هذا القرآن، وعن الوحي، وعن التأثر بالشريعة، فيستخدمون لذلك وسائل شتى.
إن على دعاة الإسلام أن يجابهوا هذه المواقف، وأن يُجَلُّوا للناس أثر القرآن والسنة، وأن يُروا الناس بأبصار قلوبهم قبل أبصار عيونهم أن هذا القرآن وهذه السنة ذات أثر على الناس، مخاطبة الناس بالقرآن والسنة، وربطهم بها مباشرة من الواجبات اليوم، حتى يحصل ذلك التأثير.
وصبر صلى الله عليه وسلم على اتهامه بالجنون: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] وقالوا: {أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36] {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان:14].
ليس أصعب على صاحب الإيمان، والعقل الراجح، والرأي السديد، والفكر الصائب، من أن يتهم في عقله، وأن يوصف بالجنون.
وتولى الله الرد على هذه الفرية مثبتاً رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ:46] وقال عز وجل: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22]، وقال سبحانه وتعالى: {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:1 - 2].
واليوم عندما يحاول الداعية إلى الله أن يبين للناس الحق، ويرجعهم إليه، وأن يبين لهم الميزان الصحيح، ويزيل عنهم الغشاوة التي رانت على قلوبهم، والحجاب الذي غطى أبصارهم، ويريد أن يرجعهم إلى الشريعة وإلى الدين، يقولون له: أأنت مجنون؟!! كيف تريدنا أن نرجع إلى ذلك الواقع وأنت ترى الغرب والشرق، وترى القوى العظمى، والواقع المستحكم، ثم تريد أن تنقلنا إلى عصر يطبق فيه الإسلام (100%)؟ هذا مستحيل! كن واقعياً، دع هذه الخيالات جانباً، إنك تحلم! وعند ذلك يجب أن يجابه الداعية إلى الله هذه السهام بواقعية الإسلام، وأن يثبت للناس أنه يمكن أن يطبق الإسلام، وأن أفكار الإسلام ليست جنوناً ولا هوساً، رغم تلك الاتهامات الباطلة التي يتهم بها أعداء الإسلام المتمسكين بشرع الله، إنهم يرمونهم كما رمى الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم -قدوة هذا الداعية- رموه أول مرة بالجنون والهوس واختلال العقل، إنهم كذلك اليوم يرمون من تمسك بالدين بالسفه، والجنون، والهوس، والوسوسة إلى آخر تلك التهم، إنهم يتصورون أن تحكيم الله في الشرع والواقع يؤدي إلى جنوح الإنسان عن طريقة التفكير الصحيحة، وعن الواقعية، إن واقعهم فاسد، ولذلك يتصورون أنه واقع صحيح من شدة ضغطه عليهم، ومن تشبعهم بأفكار هذا الواقع، ويتصورون أن تحكيم الإسلام في القوانين والمظاهر، والعبادات والعقائد؛ أنه جنون وهوس؛ لأنهم لا يعقلون، فعقولهم لا تتحمل عظمة تلك التكاليف، ولا يتصورون كيف يمكن أن تطبق هذه التكاليف في ظل الظلمات الجاهلية التي يرزحون اليوم تحت نيرها؛ ولأنهم لا يستطيعون أن يتصوروا الواقع كيف يكون إسلامياً؛ يتهمون من ينادي بالعودة إلى الواقع الإسلامي الصحيح بالجنون، ولا يمكن أن تتصور عقولهم كيف يمكن أن يطبق الإسلام (100%)؟ وهذه نقطة خطيرة أيها الأخوة.(141/4)
صبر النبي صلى الله عليه وسلم على أذى الكفار(141/5)
صبره على أنواع التهم في عقله وعرضه
وقد صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على اتهام كفار قريش له بالتكذيب: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص:4] {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان:4] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الشورى:24] يقولون هذا من جهة في مناسبات كثيرة، ومواقف متعددة، وهم في مناسبة أخرى وفي موقف آخر يعلمون ويعترفون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بكذاب.
وفي صحيح البخاري لما سأل هرقل أبا سفيان في بداية مقابلته له، قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فهذا هرقل جاءته لحظات من التجرد والإنصاف، ولقد هم أن يدخل هذا الدين لولا جشع الملك وحب الرئاسة، وخوفه من زوال سلطانه، فرجع إلى الكفر، ولكنه قد رأى الحق بأم عينيه.
قال أبو سفيان: لا.
ثم قال له في آخر مقابلته: وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، وأعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله؛ أي: أنت تقول أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما عهدت منه الكذب على الناس قبل البعثة، فعلمتُ أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ثم يكذب على الله، والكذب على الله أصعب وأشد من الكذب على الناس، فعلم أنه صادق.
ولقد تولى القرآن الرد على هذه المزاعم فقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13] أي: إذا زعمتم أنه كذاب فهاتوا عشر سور مثل سور القرآن: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [هود:13] لكي تألفوا هذه السور؛ من سائر عظماء الشعراء وأهل النثر والبلاغة: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود:13].
ثم تنزل القرآن في الرد عليهم إلى ما هو أدنى من ذلك، فقال الله عزوجل: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38] عظم التحدي ونقص المقدار، فظهر التحدي أعظم: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِه} [يونس:38] فعجزوا، ولما حاول الكذابون أن يأتوا بسورة واحدة مثل سور القرآن؛ أتوا بأشياء مضحكة ليس هذا مجال سردها: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود:35]، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ} [السجدة:3].
ويسري القرآن عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويثبت الله به قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34].
واليوم عندما يقف الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أمام الناس، ويدعوهم إلى الله، ويبين لهم أحكام الدين؛ ويبين لهم الحلال والحرام، يقولون له: أنت كذاب، لا يمكن أن يكون في القرآن كذا، لا يمكن أن يكون في السنة كذا، لا يمكن أن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكذا، هذا الذي تدعون إليه ليس بدين، أنت تكذب على الدين، أنت جئت بدين جديد، ليس هذا الدين الذي نعرفه، لقد رأينا الدين من آبائنا وأجدادنا، ولقد رأينا الدين سنين عديدة ما رأينا فيه مثل هذا الذي تدعو إليه، فيتهمونه بالكذب على الشريعة، وهم قد أتوا من قبل جهلهم؛ فلجهلهم رموه بالكذب، وأتوا من قبل تقليدهم لآبائهم وأجدادهم، وعدم اتباع الحق، وأتوا من اتباع أهوائهم؛ لأنك عندما تخبرهم بالحق الذي يخالف أهوائهم؛ إذا كان الحق واضحاً يقولون: أنت كذاب فعليك أن تصبر كما صبر رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم.(141/6)
صبر النبي صلى الله عليه وسلم على تلقي الأذى في جسده
ولقد صبر عليه الصلاة والسلام على أذى المشركين في جسده صبراً عظيماً، روى البخاري رحمه الله عن عروة بن الزبير قال: قلت لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيءٍ صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة؛ إذ أقبل عقبة بن أبي معيط وهو من الكفار، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً).
عقبة بن أبي معيط يلوي الثوب حول رقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يصلي: (ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ بمنكبه ودفع عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28]).
آذوه في بدنه صلى الله عليه وسلم، ولهذا أمثلة سنذكرها إن شاء الله.
في معركة أحد ماذا حصل للنبي صلى الله عليه وسلم؟ الذي حصل له أيها الأخوة: أنه أُدمي حتى سال الدم من وجهه، وقد أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصيب في أحد فسال الدم على وجهه، رجع إلى المدينة ولا زال النزف في وجهه عليه الصلاة والسلام، فقام علي رضي الله عنه على رأسه، وفاطمة تأخذ من الإناء في يد علي فتغسل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماء، ولكن الجرح لم يرق، فأخذت حصيراً فأحرقته ووضعت رماده على جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتماسك الجرح قليلاً حتى وقف الدم).(141/7)
للدعاة في رسول الله أسوة في الصبر على الأذى
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذى في جسده، واليوم يعاني المتمسكون بشرع الله عز وجل أصناف العذاب، وألوان الأذى في سبيل الله، فيضربون بالسياط، ويسحلون بالشوارع، ويجرون على جلودهم فوق الحجارة والشوك، كما وقع بالنفر الأول من الصابرين الصادقين، وأدنى من ذلك تقع صور من العذاب في داخل البيوت، هل رأيتم أباً تصل به الدناءة والخسة أن يضرب ولده؛ لأنه امتنع عن المنكرات؟! هل رأيتم أباً تصل به الخسة والدناءة أن يقفل الباب على ابنه حتى لا يذهب لصلاة الفجر؟! يقفل باب البيت بالمفتاح ويأخذ معه المفاتيح حتى لا يخرج الولد إلى صلاة الفجر.
هل رأيتم خسة ودناءةً مثل أن يأتي أحد الآباء بمزيل للشعر فيضعه على لحية ولده وهو نائم حتى تسقط لحيته عداءً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إن ألوان الإيذاء أيها الأخوة تتعاقب، ويتفنن أعداء الله في إذاقة عباد الله العذاب أصنافاً وألواناً، فليس الحل في ذلك إلا الصبر على هذا الأذى في سبيل الله، ولقد سعى أعداء الله لإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلده، فقال الله عزوجل: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:76] تآمروا على إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلده، وخططوا لذلك حتى اضطر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخروج، فتهددهم الله بهذه الآية: {وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً} وفعلاً ما لبثوا في مكة بعد إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم منها إلا قليلاً، فأذاقهم الله العذاب في معركة بدر وغيرها من المواقع حتى فتح الله مكة، ودخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم منصوراً.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم واجعلنا من الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، اللهم ثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(141/8)
صور أخرى من صبر النبي على الأذى يقتدى به فيها
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، خاتم الرسل، وأحب خلق الله إلى الله، وخليل الله الذي اصطفاه الله على العالمين، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وصبر على الأذى في سبيل الله حتى كان مثالاً حياً بسيرته بين أظهرنا اليوم؛ كأنا نرى تلك السيرة، وتلك الأحداث التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد، قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت) الرسول صلى الله عليه وسلم ما وجد ولياً ولا نصيراً، يريد من كفار قريش أن يجيبوه وينصروه فلا يجد.
(فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي).
هذه الألفاظ أيها الأخوة تصور محنة الداعية التي يعيشها حينما يعرض الناس عنه، محنة الداعية التي يعيشها حينما يرفضه كل الناس، حين يطرده جميع الناس، عندما يوصدون الأبواب في وجهه، ولا يرضون بالحق الذي يقول به، ويعرضون عنه.
(فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بـ قرن الثعالب) وهو موضع قريب من مكة.
الرسول صلى الله عليه وسلم هام على وجهه من الغم، وما أفاق إلى نفسه ليعرف إلى أين يسير إلا في قرن الثعالب، وليس ذلك لأجل إفلاس، ولا لذهاب تجارة، ولا لخسارة في صفقة، ولا لفقد وظيفة، كلا.
(فلم أستفق إلا وأنا بـ قرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد! إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -أي: الجبلين العظيمين اللذين تقع بينهما مكة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً).
وعندما يكون الظلم من الأقرباء يكون وقعه شديداً على النفس
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي بطون قريش: (يا بني عدي حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر في الأمر، فجاء أبو لهب وقريش فاجتمعوا -ورسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا - فقال عليه السلام: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً ببطن الوادي تريد أن تغير عليكم -جيش قريب من مكة يريد أن يغير عليكم- أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم.
ما جربنا عليك كذباً، قال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا).
وأبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، داعية إلى الله يقوم يجمع الناس يأتون إليه، يهددهم بعذاب الله عز وجل ويدعوهم إلى الله، فيقوم له واحد من الحاضرين فيقول له: تباً لك سائر اليوم! ألهذا جمعتنا؟ واليوم تعقد مجتمعات للدعوة إلى الله، وقد يجمع داعية إلى الله الناس في بيته، أو يذهب إليهم في بيوتهم فينصحهم وينذرهم عذاب الله، فتنطلق ألسنة المستهزئين به، إنه يتذكر والموقف هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد وصل الأمر إلى أن ادعوا أنهم أحق من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق وصلة الرحم، فهذا أبو جهل لعنه الله وقف يوم بدر يبتهل إلى الله ويقول: اللهم أقطعنا للرحم -يعني الرسول صلى الله عليه وسلم- وأتانا بما لم نعرف فأحنه الغداة.
يوم بدر يقف أبو جهل لعنه الله يدعو الله أن يهزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه قطع الرحم، وأتاهم بما لم يعرفوا، فأنزل الله عز وجل: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال:19] كما في الصحيح المسند من أسباب النزول.
ولقد اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في إنجابه، فعن ابن عباس قال: (لما قدم كعب بن الأشرف مكة -وكان كعب بن الأشرف يهودياً- قالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم -وكان هذا قبل الهجرة- قال: نعم.
قالوا ألا ترى إلى هذا الصنبور).
يقصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستخدام الألفاظ المشينة؛ ألفاظ السب، وانتقائها من قاموس السباب والشتائم لإلصاقها بالدعاة إلى الله قضية قديمة؛ ليست حديثةً ولا وليدة هذا العصر.
والصنبور في لغة العرب: هو الرجل الفرد الضعيف الذليل الذي لا أهل له ولا عقب، ولا ناصر ينصره، قالوا: (ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة، وأهل السقاية، قال: أنتم خير منه.
فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر:3]) أي: إن شانئك وسابك يا محمد هو الأبتر الذي لا عقب له.
وأخيراً هذا الموقف الذي تحكيه لنا آية الأنفال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30] إن عقد المؤتمرات لإجهاض الدعوة، والمؤامرات على دعاة الإسلام، وإلحاق الأذى بهم قضية قديمة.
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:30] لقد اجتمعوا في حجر إسماعيل بجانب الكعبة في مكة؛ يدبرون ويخططون لثلاثة أشياء: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} ومعنى: يثبتوك: يقيدوك ويحبسوك حتى لا تقوم بالدعوة.
{أَوْ يَقْتُلُوكَ} ويضيع دمك بين القبائل.
{أَوْ يُخْرِجُوكَ} من مكة ويطردوك حتى لا تكون بينهم.
روى ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عثمان بن خيثم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (دخلت فاطمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يبكيك يا بنيه؟ قالت: يا أبت! ما لي لا أبكي وهؤلاء الملأ من قريش في الحجر يتعاقدون باللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، لو قد رأوك لقاموا إليك ليقتلوك، وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك، فقال: يا بنيه! ائتيني بوضوئي، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إلى المسجد، فلما رأوه قالوا: إنما هو ذا، فطأطئوا رءوسهم، وسقطت أذقانهم من بين أيديهم فلم يرفعوا أبصارهم -أعماهم الله- فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فحصبهم بها وقال: شاهت الوجوه، فما أصاب رجلاً منهم حصاة من حصياته إلا قتل يوم بدر كافراً).
قال ابن كثير رحمه الله: قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ولا أعرف له علة.
ولو استطردنا أيها الأخوة في ذكر ألوان الأذى التي صبر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لطالت بنا المجالس والأوقات، ولكن إنما هي تذكرة نذكر بها أنفسنا ونسليها ونحن نواجه اليوم أعداء الله، ونواجه مخططاتهم، واتهاماتهم، وسبابهم، وفسوقهم، وأذاهم، وحملاتهم علينا.
إن الإنسان ليزداد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإكباراً له عليه الصلاة والسلام وإجلالاً؛ حين يرى في سيرته صلى الله عليه وسلم من صبره على الأذى، ومن تحمله ذلك في سبيل الله لأجل شيء واحد: أن يبلغ رسالة الله إلى الناس، أن يبلغ الناس دين الإسلام؛ هذا هو الهدف، هذا هو الغرض من الحياة، وإلا فإن الحياة بغير هذا الغرض حياة بهيمية.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك، اللهم واجعلنا من دعاتك وجندك، اللهم وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم وآتنا الحجة على من عادانا، اللهم وانصرنا على من بغى علينا، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم وصلِّ على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم صلاةً تامَّة ما بدا الليل والنهار، اللهم صلَّ عليه صلاة تامة ما غربت شمس وما شرقت.
اللهم اجعلنا من أهل شفاعته، اللهم أوردنا حوضه، اللهم وارزقنا مرافقته في الجنة.(141/9)
صفة الرجولة في القرآن
الرجولة صفة يمتن الله بها على من يشاء من عباده، ونحن اليوم نعاني انعدام صفة الرجولة في كثير من المسلمين.
دين الله والدعوة إليه والصبر على الأذى في سبيل الله وإعانة الرسل ونصرتهم الثبات في مواطن الفتن تثبيت الناس على الإسلام كل هذا يحتاج إلى رجولة.(142/1)
صفة الرجولة في القرآن الكريم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة: حديثنا عن مشكلة من المشاكل التي تواجه العالم الإسلامي اليوم.
إن من الأمور التي خُذِل فيها الإسلام أيما خذلان، هذه القضية -أيها الإخوة- وهي انعدام صفة الرجولة في كثير من المسلمين اليوم.
والرجولة صفة يمتن بها الله عز وجل بها على من يشاء من عبادة، كما قال ذلك الرجل المؤمن الذي يعلِّم صاحبَه الكافر، يقول له موبخاً ومقرعاً، ومذكراً له بنعم الله عز وجل عليه: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [الكهف:37].
هذا الرجولة التي يمتن الله عز وجل وينعم بها، لها صفات ولها خصائص، لا تكتمل إلا بها، ولا تقوم إلا عليها، ولا تشتد إلا بهذه الأركان.
والرسل الذين بعثوا إلى أقوامهم ما كانوا إلا رجالاً، قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} [النحل:43] فلم يرسل الله عز وجل إلى الناس إلا رجالاً.
هذه الرجولة -أيها الإخوة- التي ضاعت مضامينها اليوم، وفقدت أركانها عند الكثيرين، فصاروا أشباه الرجال ولا رجال.
هذه الرجولة نحتاج لنتعرف على صفاتها من القرآن الكريم، وسنذكر في هذه الخطبة -إن شاء الله- شيئاً من صفات الرجولة، حتى يعلم الرجل اليوم هل هو رجل بالمعنى الحقيقي أم هو هيكل خارجي لا يدل على مضمون الرجولة مطلقاً؟!(142/2)
التعلق بالمساجد وحب الطهارة
يقول الله تعالى واصفاً المسجد الذي ينبغي أن يكون حاله الصحيح، ومَن هو بداخلِه؛ يقول الله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] أسس على التقوى، أسس على التوحيد، أسس على العقيدة الصحيحة {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} [التوبة:108] أنشئ على التقوى لوجه الله عز وجل {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108] أحق أن تقوم فيه يا محمد -صلى الله عليه وسلم- من مسجد الضرار الذي بناه المنافقون.
ما هي صفاته الأخرى؟ ما هي أهم صفة من صفاته؟ {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] أين مكان أولئك الرجال؟! أين مكانهم؟! هل هم في الأندية أو في الحفلات؟! هل هم في الأسواق يمرحون ويسرحون؟! هل هم في المجتمعات الفارغة التي تُفْرِغ الرجولة من معانيها؟! كلا -أيها الإخوة- {فِيهِ رِجَالٌ} [التوبة:108] في هذا المسجد رجال.
{رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] يأتون إلى المسجد على طهارة، والله يحب هؤلاء الرجال الذين من صفتهم الطهارة {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108].
هذه صفة من صفات الرجال.(142/3)
ذكر الله تعالى وإقام الصلاة وترك ما يلهي عنها
وانظر معي إلى مشهد مقابل في سورة النور، مماثل لتلك الآية في سورة التوبة يقول الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ} [النور:36] أي: مساجد.
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] شاء الله أن ترفع.
{وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] اسمه عز وجل وحده لا شريك له.
{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:36] أين الفاعل؟! مَن الذي يسبح؟! {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:36] غُدوةً وأصيلاً، مَن الذي يسبح؟! مَن في هذه المساجد يسبح الله عز وجل؟! {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:36 - 37]: مَن في هذا المسجد؟! إنهم رجالٌ، ثم جاءت بقية الصفات.
قال ابن كثير رحمه الله: قوله: {رِجَالٌ} [النور:37]: فيه إشعار بِهِمَمِهِم السامية، ونياتهم وعزائمهم العالية، التي بها صاروا عمَّاراً للمساجد التي هي بيوت الله في أرضه.
{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37] يسبحون الله في المساجد، وما هي صفاتهم الأخرى؟ قال الله: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37].
أيها الإخوة: هؤلاء هم الرجال الذين لم تلههم تجارة ولا بيع عن أي شيء؟ عن ذكر الله، وإقام الصلاة.
قال بعض السلف رحمه الله: يبيعون ويشترون -هؤلاء الرجال- يبيعون ويشترون؛ ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه، وأقبل إلى الصلاة.
ومر عمرو بن دينار رحمه الله ومعه سالم بن عبد الله، قال: [كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد، فمررنا بسوق المدينة، وقد قاموا إلى الصلاة، وخَمَّروا متاعهم، فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد] لم يجلسوا أمامها ليحرسوها، أو لينظروا فيها، أو أغلقوا الدكاكين وقعدوا على الرصيف في الطريق ينتظرون متى تنتهي الصلاة حتى يكون كل واحد منهم أول من يفتح الدكان، تركوا أمتعتهم في الشارع، وغطوها في السوق، وذهبوا إلى المسجد [فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد، فتلا هذا الآية: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37]، ثم قال: هم هؤلاء] هؤلاء الذين عنى الله بقوله في هذه الآية، هؤلاء الذين قدموا مراد الله على مراد أنفسهم، وآثروا طاعة الله على المتاع الدنيوي الزائل، آثروا الاستجابة لهذا النداء العلوي الرباني: حي على الصلاة، حي على الفلاح، على نداء الجشع والطمع الذي يثيره الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء.
أيها الإخوة: كم من الرجال اليوم يقعدون في محلاتهم ودكاكينهم، أو يدخُلون داخلها في حجر مخفية، فيقعد أحدهم في مكتبه وراء الطاولة يجيب على هذا الهاتف وهذا الرجل، ويكلِّم ويفاوض ويخفض ويرفع، ويماكس ويشاكس، ويترك نداء الله، يترك المسجد، لا يجيب داعي الله إليه، لماذا أيها الإخوة؟! هل يُسَمَّى هؤلاء رجالاً؟! كلا.
إنهم أشباه الرجال ولا رجال.(142/4)
الثبات على المنهج الرباني
ومن صفات الرجال: أنهم يثبتون على المنهج الرباني الذي أنزله الله عز وجل أيها الإخوة: إنه المنهاج الذي وضعه رب العزة تبارك وتعالى، ليستقيم عليه الناس هذا المنهاج الذي لا يصح أن ينحرف الإنسان عنه يَمنة ولا يَسرة، لابد أن يرقبه ويجاهد نفسه للسير عليه هذا المنهاج المتضمن لقواعد أصولية، ومسائل تصورية، لا يمكن أن يتخلى عنها المسلم بأي حال من الأحوال هذا المنهاج الذي عليه صور ومنارات تضيء للمسلم الطريق هذا المنهاج الرباني منهاج أهل السنة والجماعة، الطائفة المنصورة لابد من الثبات عليه.
قال الله عز وجل مادحاً صنفاً من أصناف الرجال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] عاهدوا الله ثم صدقوا في الوعد، صدقوا ما عاهدوا الله على هذا المنهج، استمروا عليه، تشبثوا به، وساروا غير مضطربين ولا متحيرين، لا تعيقهم العوائق، ولا تقف أمامهم الصعوبات ولا الشهوات، ولا الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام.
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب:23] ومات على هذا المنهج شهيداً عاملاً لمنهج الله عز وجل.
{فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23] ينتظر أن يتوفاه الله على حسن الختام؛ ليموت على هذا المنهاج غير مغيّر ولا مبدل.
قال الله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23] ما بدلوا ولا غيروا ولا انحرفوا، بل هم مستقيمون على هذا المنهاج، ينتظرون أمر الله تعالى أن يتوفاهم وهم سائرون على هذا الدرب مستقيمون عليه، لا يلوُون على شيء إلا مرضاة ربهم عز وجل.
إنه الثبات على المنهج الذي افتقده كثيرٌ من المسلمين اليوم، حتى ممن شغلوا بالعمل للإسلام، قامت عندهم انحرافات في التصور والسلوك، فانحرفوا عن منهج الله.
أيها الإخوة: ليست القضية أن نمسك الطريق فقط، ولا أن نعرفه فقط، ولا أن نصل إليه فقط، إن المسألة أن نستمر عليه بغير تبديل ولا تحريف {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].(142/5)
تأييد الرسل ومناصرتهم
هذه الرجولة التي يصفها الله تعالى في القرآن، أن مِن أهلها مَن يؤيد الرسل في دعوتهم ويناصرهم، ويبين للناس أن ما جاءت به الرسل هو الحق، ويعين الرسل ويساعدهم.
قال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} [يس:20] مَن الذي جاء؟ هل جاء جيش جرار، أو فئامٌ كثيرة من الناس؟ {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ} [يس:20] جاء من آخر المدينة {رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:20] يشتد، ولماذا جاء؟! ألأن هناك سوقاً أو حراجاً لا يريد أن يفوته منه شيء؟! ألأن هناك أسهماً تباع لا يريد أن يفوت منها شيء؟! كلا -أيها الإخوة- {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21] اتبعوهم، اتبعوهم هؤلاء الرسل {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:22].
ثم يبين عرض حقائق العقيدة، التصورات النقية الصافية الخالية من شوائب الشرك، حتى توفاه الله عز وجل فقال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27].
فمن صفات الرجولة -أيها الإخوة- أن نكون نحن الذين نسمي أنفسنا رجالاً، أن نكون أعواناً للرسل، حرباً على أعداء الرسل، وليس حرباً على الرسل، أن نكون مؤيدين لدعوة الرسل، لا مثبطين عن دعوة الرسل، أن نكون مستجيبين لدعوة الرسل، متبعين لا عاصين ولا مبتدعين ولا معاندين.
هذه الصفة -أيها الإخوة- كم من الرجال من يمتلكها اليوم؟! كم من الرجال من يؤيد دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؟! إنهم قليل.
وفي حال الخوف يتقدم الرجال بالنصح لله عز وجل، رغم الخوف الذي يكتنفهم، وأجواء الإرهاب التي تحيط بهم، فيقومون بواجب النصيحة رجل واحد يفعل أفعالاً لا تفعلها أمة بأسرها، رجل واحد يعدل غثاءً، بل إنه يرجح على هذا الغثاء المترامي الأطراف، الذي لا يجمعه تصور واحد، ولا منهج واحد، ولا عقيدة واحدة، يقوم هؤلاء الرجال بواجب النصح لله عز وجل، ويحذرون أولياء الله من المخاطر التي تحدق بهم.(142/6)
تقديم النصيحة في حال الخوف
قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:20] يشتد من أقصى المدينة، لم يقعد به طول المسافة، ولا بُعد الطريق، جاء يسعى ويشتد، لقد كان هذا الرجل مؤمناً.
{قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} [القصص:20] يتشاورون في أمرك، {لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] إني أكشف لك مخططاتهم، وأعرِّي لك دسائسهم ونياتهم الخبيثة، فاخرج من هذه المدينة، {فَاخْرُجْ إِنِّي لَِكَ مِنَ النِّاصِحِينَ} [القصص:20].
قال ابن كثير رحمه الله: وُصِف بالرجولة؛ لأنه خالف الطريق، يعني بالطرق الجادة التي تُسلك في الشارع، فسلك طريقاً أقرب من طريق الذين بُعثوا وراءه، فسبق إلى موسى وحذره، قال: إن الناس آتون ورائي ليقبضوا عليك ويقتلوك، أعوان فرعون الطاغية: {فَاخْرُجْ إِنِّي لَِكَ مِنَ النِّاصِحِينَ} [القصص:20].
يأتي هذا الرجل يسعى، يختصر الطريق ليحذر ولي الله ونبيه موسى عليه السلام إن تقديم النصيحة حتى في حالة الخوف من صفات الرجولة.(142/7)
حاجة الأمة إلى الرجال
وعند الأزمات تشتد الحاجة لوجود الرجال الحقيقيين، الذين يثبتون الناس على شرع الله.
أيها الإخوة: قد تمر بالإسلام أزمات، قد تمر بالمسلمين شدائد وضائقات، قد يمر بالمسلمين عسر شديد، تنقطع بهم السبل، فيتحير الناس ويضطربون، ويميدون ويحيدون عن شرع الله، فترى الناس متفرقين شذر مذر، لا يرى أحدهم الحق ولا يتبعه، حيَّرتهم فتن الحياة الدنيا، فاضطربوا اضطراباً شديداً، وتبعثروا وتفرقوا، فمَن الذي يثبِّت في هذه الحالة؟ ومَن الذي يقوم بواجب التثبيت؟ في هذه الحالة التي تقع فيها الفتن بالمسلمين نحتاج إلى عناصر مثبته تثبت المسلمين على المنهج الرباني، مَن الذي يثبت؟ في حالة الأزمات تكتشف أنت معادن الرجال، يفضي كل رجل إلى معدنه الخالص؛ ليستبين أمام الناس هل هو من أهل العقيدة أم لا؟ هل هو رجل عقيدة أم لا؟ في حالة الأزمات يتبين الرجال الذين يقفون على منهج الله بأقدام راسخة.
أيها الإخوة: يقول الله تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:313].
موسى عليه السلام يأتي ببني إسرائيل لدخول الأرض المقدسة، ويعدهم بنصر الله تعالى، ويبشرهم ويقول: إن الله معكم، فقاتلوا هؤلاء الكفرة الذين احتلوا تلك الأرض المقدسة بنو إسرائيل الذين ما عُرِف عن طبعهم إلا الغدر والخيانة، وإلا النكوص عن شرع الله وطريقه، ماذا قالوا؟ قالوا كلمة قبيحة جداً، قالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] أنت وربك يا موسى قاتلا، نحن ننتظر النتيجة، فإن انتصرتم جئنا ودخلنا المدينة {إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] بكل وقاحة، موسى نبي الله ليس معه أحد، كل القوم نكصوا.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة:25] موقف صعب، موقف شديد، تخلَّى القوم عن نبيهم، تركوه وحيداً أمام الأعداء، إن هذه أزمة! أليس كذلك؟ فمن الذي يقوم الآن في هذا الأزمة، ويثبت الناس ويقول لهم: يا أيها الناس اثبتوا على شرع الله، اثبتوا على الطريق، لا تنهزموا أمام الأعداء، النصر قادم بإذن الله، تمسكوا بشرع الله، والله ينصركم: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7].
قام هذان الرجلان: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا} [المائدة:23] بنعمة الإيمان والإسلام والثبات.
{قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة:23] اقتحموا إنهم جبناء، {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23].
أيها الإخوة: هذه النوعية التي نحتاجها حقيقة اليوم في وسط الأزمات التي تعصف بالمسلمين، الأزمات والفتن التي تجعل الحليم حيراناً، نحتاج إلى رجال يبصرون الناس بالدين، إلى رجال يكونون قدوة للناس، إلى رجال يثبتون الناس على شرع الله.
وفقنا الله وإياكم لأن نكون رجالاً نقاتل في سبيل الله، ونجاهد في سبيل الله بأموالنا وأنفسنا، وأن نكون من الذين اجتباهم الله تعالى فأقامهم على الصراط المستقيم.
وأستغفر الله لي ولكم.(142/8)
أمور ليست من الرجولة
الحمد لله رب العالمين، الذي لا إله إلا هو، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة: لقد فقدت الرجولة اليوم كثيراً من معانيها الحقيقية، فترى الناس اليوم يزعمون أنهم رجال، يقوم كل واحد منهم فيقول: أنا رجل، ولكن في الحقيقة: ماذا تنطوي عليه هذه الرجولة؟ ما هو مضمونها؟ أيها الإخوة: مِن الناس اليوم مَن يظن أن الرجولة عبارة عن فتل الشوارب، وتربية هذه الشنبات وإطالتها، يظن أن هذه هي الرجولة، وهو مخالف لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً.
مِن الناس -أيها الإخوة- مَن يظن الرجولة اليوم هي الأخذ بالثارات وقتل الأبرياء، وتراه يقول: هؤلاء ليسوا رجالاً، ما أخذوا بثأرهم، وهؤلاء رجال أخذوا بثأرهم فقتلوا فلاناً، ولو كان ليس له ذنب.
مِن الناس مَن يظن اليوم أن ارتكاب المحرمات هي الرجولة، فترى بعض الأحداث اليوم لكي يبرهنوا لأنفسهم وللناس أنهم رجال، يقعد أحدهم ويدخن -مثلاً- ويزعم أن التدخين رجولة، ويسافر لوحده إلى الخارج، ويعبث بالمحرمات، وينتهك حدود الله عز وجل، ويزعم أن هذه هي الرجولة.
مِن الناس مَن يظن أن الرجولة رفع الصوت أو الصياح في البيت، وفرض الرأي بقوة العضلات والبطش وغير ذلك؛ يظنون أن هذه هي الرجولة.
يظن أحدهم أن الرجولة أن ينفخ على الخدم والموظفين، ويطرد من يشاء، ويُبقي من يشاء؛ يظن أن هذه هي الرجولة.
كلا أيها الإخوة! ليست الرجولة ارتكاباً للمحرمات، ولم تكن الرجولة يوماً من الأيام في تاريخ الإسلام البطش والاعتداء على الأبرياء، كلا.
أيها الإخوة: إن الرجولة لها معانٍ سامية، وحقائق علوية، تأخذ هذا الصنف من الناس فترفعهم.
إن حاجة الإسلام اليوم إلى الرجال عظيمة، الإسلام اليوم تنتهك حرماته في شتى أقطار الأرض، لم تعد تقم للإسلام قائمة في وسط هذه الدياجير المظلمة من الشرك والجاهلية، إلا من رحم الله عز وجل من أفراد تلك الطائفة المنصورة، التي استقامت على شرع الله عز وجل.
أيها الإخوة: يقال: أنه اجتمع مرة نفر من الصحابة، فقال لهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [تمنوا، فتمنى كل واحد منهم شيئاً من أعمال البر، فلما انتهوا قال عمر: أنتم تمنيتم، ولكني أتمنى ملء هذه الحجرة رجالاً أمثال أبي عبيدة]؛ لأن الرجال -أيها الإخوة- يصنعون كل شيء بإذن الله، الرجال يصنعون ويسيرون على منهج الله يطبقونه في الواقع، وإذا وجد عندك الرجال لم تعد تحتاج بعدها إلى شيء.
ولكن أي نوع من أنواع الرجال؟ هل هم أصحاب الشوارب والشنبات؟ كلا أيها الإخوة! الرجال بهذه الصفات التي ذكرناها آنفاً: - عبادة.
- عمل.
- استقامة.
- دعوة إلى الله.
- صبر على الأذى في سبيل الله.
- إعانة الرسل ودعوتهم ونصرتُهم.
- والقيام في مواطن الفتن.
- وتثبيت الناس على الإسلام.
الرجولة ليست سناً، بقدر ما هي صفات وشمائل وسجايا ذكرها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ماذا نفعت الرجولة أولئك الناس الذين قال الله عنهم في القرآن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6]؟! ماذا نفعتهم رجولتهم وقد وقعوا في الشرك؟! لا شيء أيها الإخوة.
الإسلام اليوم ينادي أصحابه وأتباعه، يقول لهم ويهتف بهم كما هتف لوط بقومه: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78] الإسلام اليوم يهتف بالناس: أليس منكم رجل رشيد؟! رجلٌ رشيدٌ، رشده يقيم شرع الله عز وجل في نفسه وبيته ومجتمعه، يدعو إلى الله، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أليس منكم رجل رشيد؟! اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على دينك.
اللهم واجعلنا رجالاً من أهل الحق وأعوانه، اللهم واجعلنا من جندك وأتباع نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
اللهم يا سامع الصوت! أجب دعاءنا، واحفظنا في أنفسنا وأهلينا، اللهم واحفظ بلادنا من كل سوء.
اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الشر والشرك والزيغ والبدعة والفساد والعناد، وانشر رحمتك على العباد.
اللهم إنك تعلم ما نخفي وما نعلن، ولا يخفى عليك خافية في الأرض ولا في السماء، اللهم أصلح ظواهرنا وبواطننا، اللهم واجعل نياتنا خالصة لك يا رب العالمين! اللهم وصلِّ على نبيك محمد، سيد الأولين والآخرين، وسلِّم تسليماً كثيراً.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(142/9)
ظاهرة ضعف الإيمان وأسبابها
لقد انشغل الناس بمغريات الدنيا وفتن الحضارة عن دينهم، حتى قست القلوب، وذبلت فيها شجرة الإيمان، وهذه ظاهرة خطيرة لابد من الكشف عن أسبابها والوقوف على أعراضها؛ ليتسنى علاجها، فهذه المحاضرة تخدم ما ذكر، فلينظر فيها من يريد حفظ إيمانه وتجديده(143/1)
حاجة القلب إلى التربية الإيمانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد فنحمد الله -سبحانه وتعالى- أن أعادنا وإياكم إلى هذه المجالس التي نسأله سبحانه أن يجعلها من مجالس الذكر، وأن يجعلنا وإياكم من المقبولين عنده، ومن الذين تحفهم الملائكة، وتغشاهم الرحمة، ويذكرهم الله فيمن عنده، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا في أحوالنا كلها من المستقيمين على شرعه، المتمسكين بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وموضوعنا هنا يتعلق بالقلوب.
وموضوع القلوب موضوع حساس وهام، والقلب يتقلب بشدة؛ كما وصفه عليه الصلاة والسلام: (كالقدر إذا استجمعت غلياناً) بل هو أشد من القدر إذا اشتد غليانها، وهو يتقلب -أيضاً- كما يصفه عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الآخر (كالريشة في الأرض الخلاء تقلبها الرياح ظهراً لبطنٍ، وبطناً لظهرٍ).
هذا القلب يحتاج إلى نوع خاص من التربية، وهي التربية الإيمانية، فالجسد يحتاج إلى ما يغذيه، وكذلك القلب يحتاج إلى ما يغذيه، الجسد حتى يكون سليماً يجب أن تمنع عنه الأشياء الضارة؛ مثل: السموم والآلات الحادة وغيرها، كذلك القلب يجب أن تمنع عنه الأشياء الضارة.
الجسم أحياناً يحتاج إلى نوع من الحمية حتى من الأشياء المباحة لكي يسلم، وكذلك القلب يحتاج إلى حمية، والتربية الإيمانية أهم نوع من أنواع التربية، ويمكن أن نعرف التربية الإيمانية: بأنها تنقية القلب والارتقاء به حتى يكون سليماً، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89] وأن توصل هذه التربية الإنسان إلى مرحلة الإحسان، وهي التي وصفها عليه الصلاة والسلام بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه) ومجال هذه التربية في القلب.
والأشياء الموجودة في القلب من الإيمان: قول القلب وعمله؛ قول القلب التصديق واليقين الجازم الذي لا شك معه، وعمل القلب في أشياء كثيرة، منها: الرجاء والخوف والخشوع والحياء والمحبة إلى آخره.(143/2)
واعظ الإيمان في قلب المسلم
الإيمانيات هي أكبر الطاقات في نفس المسلم، فالطاقة الإيمانية هي المحرك لجميع الأعمال، ويمكن أن نقول أيضاً: إن الهدف من التربية الإيمانية هو إحياء واعظ الله في قلب المسلم.
كل واحدٍ فينا فيه واعظ من الله عز وجل، والدليل على ذلك الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبوابٌ مفتحةً، وعلى الأبواب ستورٌ مرخاةٌ) أي: مثل الستائر (وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس! ادخلوا الصراط جميعاً، ولا تتعودوا، وداعٍ يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب -يعني: المحرمات- قال الداعي من فوق الصراط: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه) لو كشفت الستار؛ ستلج.
فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله تعالى، والأبواب المفتحة محارم الله تعالى، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط الذي يقول: (ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه) واعظ الله في قلب كل مسلم.
أي مسلم يريد أن يقدم على معصية وكان من الذين في قلوبهم خوفٌ من الله، لا بد أن يكون هناك شيء في قلبه وضميره يعظه ويقول له: لا تفعل حتى لو وقع في المعصية؛ لأن النفس الأمارة بالسوء غلبت واعظ الله في قلبه، وإلا فواعظ الله موجود.
فالتربية الإيمانية تهدف إلى تقوية واعظ الله؛ حتى يتغلب واعظ الله على النفس الأمارة بالسوء.(143/3)
انتشار ظاهرة ضعف الإيمان
ومن الظواهر الخطيرة أيها الإخوة: أن نجد نفراً كثيراً من المسلمين اليوم، وحتى من الذين يعملون للإسلام؛ من يتأمل في أحوالهم، ويخالط أشخاصهم، ويحدق في وجوههم؛ يرى ظاهرةً خطيرةً وهي هُزال الإيمان في القلوب، وذبول الناحية العبادية، وضعف الصلة بالله التي أكد عليها القرآن والسنة، وهذه الظاهرة الخطيرة لا بد أن تعالج.
نحن الآن لا نتكلم عن البعداء عن الإسلام بالكلية والخارجين عن ملة الإسلام، لا.
إنما نتكلم عن أناس فيهم خير، لكن اعتراهم ضعفٌ في إيمانهم، وهذا الضعف في الإيمان قد يكون من البداية، مثل: إنسان كانت بداية دخوله في الدين -أصلاً- فيها أخطاء، وبدايته غير صحيحة تماماً، ولذلك إيمانه بقي ضعيفاً مع سيره في طريق الإسلام، لأن البداية فيها أخطاء.
هناك أناس دخلوا في الدين بحماس، والتزموا بشرع الله عز وجل أقبلوا على الله، لكن مع طول الوقت واستمرار الزمن حصل عندهم ضعف في الإيمان، إلى هؤلاء سنتكلم ونوجه هذا الحديث.
الحقيقة -أيها الإخوة- أن الكلام في قضايا الإيمانيات يحتاج إلى أشخاص متخصصين، يتميزون بالشفافية، وقوة الصلة بالله عز وجل، والمداومة على العبادة؛ لأن الحديث الذي يخرج من قلوب هؤلاء يدخل في القلوب، وأحياناً الواحد قد يتعب في موضوع مثل هذا ويحضر نقاطه، ولكن لا يدخل في قلوب السامعين دخولاً قوياً، بينما تجد إنساناً مجتهداً في العبادة، متصلاً بالله عز وجل صلة قوية، يتكلم كلمات بسيطة في مثل هذه القضايا، فيبدع إبداعاً كبيراً ويدخل كلامه في النفوس.
وأحياناً تجد الواحد قد ينتقي موضوعاً من هذه الموضوعات في حالة يكون فيها في وضع إيماني طيب، فإذا جاء يتكلم حصل لإيمانه نوع من الانخفاض، فلا يتأثر السامعون كثيراً بكلامه.
وعلى أية حال أقول: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه عندما خطب في المسلمين، قال: [إني وليت عليكم ولست بخيركم] وهو خيرهم، ولكنه قال هذا تواضعاً.
والواعظ الذي يتكلم في موضوعات إيمانية لا يشترط أن يكون هو أحسن الموجودين؛ لأني أجزم -الآن- أن منكم من يستطيع أن يؤثر في السامعين أكثر مني، ولكني أستعين بالله عز وجل ما دمنا قد انتقينا الموضوع وتورطنا فيه، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتب النفع.(143/4)
أهمية التربية الإيمانية
أيها الإخوة! التربية الإيمانية مهمة للآتي: 1 - أنها كفيلة بتصحيح النيات، وترسيخ الإخلاص، وإيجاد الضمانات لعدم حصول الانحرافات والأمراض القلبية، مثل: الرياء، وحب الرئاسة، وغيرها.
2 - التربية الإيمانية مهمة للفرد المسلم حتى تحميه من هذه الانحرافات والأمراض.
3 - وهي كذلك مهمة حتى يذوق المسلم حلاوة الإيمان؛ وحتى لا يكون هذا الإيمان بارداً جافاً ليس فيه حرارة في قلبه وضميره، وحتى يعمر الإيمان قلب المسلم بحيث يصبح هذا الإيمان في القلب مصدر الدفع، والمحرك الدائم لكل الأعمال الصالحة.
4 - وكذلك التربية الإيمانية مهمة لإيجاد إيجاد الأوساط الإيمانية التي من خلالها يتربى الناس ويتحولون إلى لبنات صالحة في بناء المجتمع المسلم الكبير.
5 - كذلك التربية الإيمانية مهمة لضمان نجاح العمل الإسلامي الذي يختلف عن بقية الأعمال، ويتميز عنها أكثر ما يتميز بهذه النقطة وهي الأشياء الإيمانية، لأن أي عمل تجاري يكون فيه دقة وقوة وحركة دائبة، وفيه تنسيق وتخطيط، وكفاءة عالية، كذلك العمل الإسلامي ينبغي أن يكون كذلك، لكن ليست هذه الأشياء هي التي تفرق بين العمل الإسلامي وغيره بقدر ما تفرق القضايا الإيمانية بين العمل الإسلامي وغيره، وبدون الأشياء الإيمانية تتحول الدعوة إلى الله إلى شبه أعمال روتينية مثل القضايا التجارية فيها تخطيط وتنسيق وكفاءة عالية، فالذي يميز هذه عن هذه قضية الأعمال الإيمانية أعمال القلب وأمور الإيمان.
6 - وأخيراً فإن التربية الإيمانية مهمة؛ لأنها جالبةٌ لتوفيق الله الموصل إلى النصر، وإلا فإن الإخفاق والإحباط مصير كل عمل لا يلتزم بهذه الإيمانيات.(143/5)
مظاهر ضعف الإيمان
الموضوع بعنوان "ظاهرة ضعف الإيمان الأسباب والمظاهر والعلاج"، وحتى لا نطيل فسنتكلم عن المظاهر والأسباب، وإن شاء الله سنتكلم عن العلاج في درس مستقل.(143/6)
الوقوع في المعاصي والتدرج فيها
أيها الإخوة! من مظاهر ضعف الإيمان: أنه يؤدي إلى الوقوع في المعاصي والتدرج فيها من أسفل إلى أسفل سافلين، والوقوع في المنكرات بأنواعها، وهناك أناس كثيرون كانوا في يوم من الأيام من أقوياء الإيمان، فأصبحوا اليوم ينظرون إلى المحرمات: النساء الأجنبيات، ويشاركون في منكرات الأسواق وغيرها، وهذه المعاصي لها أضرار مدمرة ذكرها العلماء منهم: ابن القيم رحمه الله في كتابه الداء والدواء، ولا بد من معرفة أن هذه الآثار والأضرار للمعاصي أشياء محسوسة، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا بخبر عجيب يبين لنا وضوح هذه الآثار للمعاصي، فيقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي عن ابن عباس، قال عليه الصلاة والسلام: (نزل الحجر الأسود من الجنة) هذا الحجر الأسود الذي في الكعبة نزل من الجنة (وهو أشد بياضاً من اللبن، فسودته خطايا بني آدم) فلاحظ كيف أن هذه الخطايا آثارها مادية محسوسة، قلبت البياض سواداً، ويذكر أحد علماء المسلمين في القرن السابع الهجري أنه ذهب إلى الكعبة، فوجد الحجر الأسود وفيه نقطة بيضاء، وبعد ذلك بمدة ذهب فوجد النقطة قد اختفت تماماً.(143/7)
عدم التأثر بآيات القرآن
ومن مظاهر ضعف الإيمان: عدم التأثر بآيات القرآن، ولا بوعده، ولا وعيده، ولا طلبه، ولا أمره، ولا نهيه، ولا في وصفه للقيامة، فهو يسمع القرآن كأي كلام آخر، لا يستطيع أن يتلوه إلا لدقائق معدودة، نفسه لا تتحمل كثرة تلاوة القرآن، وهذا مشاهد؛ فحينما يفتح أحدنا القرآن يحاول أن يقرأ، فلا يستطيع أن يواصل أكثر من دقائق معدودة، ثم يجد نفسه مضطراً لإغلاق المصحف وإعادته إلى مكانه.(143/8)
ضيق الصدر وانحباس الطبع
كذلك من مظاهر ضعف الإيمان: ضيق الصدر، وانحباس الطبع حتى كأن على الإنسان ثقلاً كبيراً ينوء به ويلهث تعباً منه، فيصبح سريع التضجر والتأفف من أدنى شيء، ويشعر بالضيق من تصرفات الناس حوله بسبب ضعف الإيمان، وتنعدم السماحة في نفسه، والرسول صلى الله عليه وسلم يصف الإيمان بقوله: (الإيمان الصبر والسماحة) فتزول السماحة من نفسه وتضعف نتيجةً لضعف الإيمان، ويعقبها هذا التأفف والتضجر وضيق الصدر، وعدم تحمل تصرفات الآخرين.(143/9)
الشعور بقسوة القلب
ومن مظاهر ضعف الإيمان كذلك: الشعور بقسوة القلب، وخشونته، حتى يحس الإنسان أن قلبه قد انقلب حجراً صلداً لا يترشح منه شيء، ولا يتأثر بشيء، وهذا ليس مبالغاً؛ لأن الله تعالى يقول: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74].(143/10)
عدم إتقان العبادات
ومن مظاهر ضعف الإيمان: عدم إتقان العبادات، وهذه تتمثل في شرود الذهن أثناء الصلاة، أو أثناء قراءة القرآن، أو أثناء الأذكار بعد الصلوات، أو دعاء الله عز وجل، فيحدث عدم التفكر في معاني الأذكار كثيراً فيقرأ الإنسان الأذكار كعملية دورية رتيبة يداوم عليها، لكنه لا يفكر في معاني الأذكار وهو يقرؤها، ولو اعتاد أن يدعو بدعاء معين في وقت معين، جاءت به السنة فإنه لا يفكر في معاني الدعاء.(143/11)
التكاسل في أعمال الطاعات والعبادات
ومن مظاهر ضعف الإيمان: التكاسل في أعمال الطاعات والعبادات والتفريط فيها، وإذا أداها فهي حركات جوفاء لا معنى لها، والله عز وجل وصف المنافقين، فقال: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142]، فالتكاسل والإهمال في السنن الرواتب والنوافل وقيام الليل، والأعمال الصالحة، مثل: التبكير إلى المسجد أحياناً يحصل فيه فتور وضعف.(143/12)
الغفلة عن الذكر والدعاء
ومن مظاهر ضعف الإيمان: غفلةٌ عن الله عز وجل في ذكره ودعائه سبحانه وتعالى، فيثقل الذكر على الذاكر، وإذا رفع يديه بالدعاء، فسرعان ما يقبضهما ويمضي، والله وصف المنافقين، فقال: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].(143/13)
عدم التأثر بالموت والتعلق بالدنيا
ومن مظاهر ضعف الإيمان: أن صاحبه لا تؤثر فيه موعظة الموت، ولا رؤية الأموات، ولا الجنائز، وربما حمل الجنازة بنفسه وواراها التراب، ولكنه يسير بين القبور كما يسير بين الأحجار.
ومن مظاهر ضعف الإيمان: التعلق بالدنيا والشغف بها، وتهيج شهوات الجسد المحرمة، والاسترواح إليها، ويتعلق القلب بالدنيا، لدرجة أن يحس صاحبه بالألم إذا فاته شيءٌ من حظوظ الدنيا؛ كالمال والجاه والمنصب والمسكن، ويعتبر نفسه مغبوناً سيئ الحظ؛ لأنه لم ينل ما نال غيره، ويحس بألم أكثر وانقباض إذا رأى أخاه المسلم قد نال بعض ما فاته هو من حظوظ الدنيا، وقد يحسده، ويتمنى زوال النعمة عن أخيه المسلم.(143/14)
عدم استشعار المسئولية في العمل لهذا الدين
ومن مظاهر ضعف الإيمان: عدم استشعار المسئولية في العمل لهذا الدين، فصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا إذا دخلوا في الدين، استشعروا المسئولية فوراً، الطفيل بن عمرو رضي الله عنه وأرضاه لم يكن بين إسلامه وبين ذهابه لدعوة قومه إلى الله عز وجل زمن، بل بمجرد أن دخل في الدين أحس أن عليه مسئولية كبيرة، فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام، فما الذي دفعه إلى الدعوة إلى الله؟ الناس اليوم يجلسون فترات طويلة ما بين التزامهم بالدين حتى يصل إلى مرحلة يدعو فيها إلى الله، لا يتحرك مباشرة، والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتحركون مباشرة، حتى إرهاب الكفار ومفاصلتهم كان يتمثل مباشرة في نفس المسلم بعد إسلامه.
ثمامة رضي الله عنه وأرضاه رئيس ومقدم أهل اليمامة لما أسر وجيء به وربط في المسجد، وعرض الرسول صلى الله عليه وسلم عليه الإسلام، ثم قذف الله النور في قلبه فأسلم، وكان يريد أن يعتمر في الجاهلية، فذهب إلى العمرة في الإسلام، قال للكفار: لا يصلكم حبة حنطة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه قضايا مفاصلة الكفار، ومحاصرتهم اقتصادياً، وتقديم الفاعليات، والإمكانيات في سبيل الله، حصلت مباشرة؛ لأن الإيمان في قلب ثمامة استوجب هذا العمل، والمسلمين الآن لم يصلوا إلى مرحلة يتميزون فيها عن الكفار ويفاصلونهم إلا بعد فترة من دخوله في الدين.(143/15)
عدم الغضب لانتهاك محارم الله
ومن مظاهر ضعف الإيمان: عدم الغضب إذا انتهكت محارم الله، مثل: قضية إنكار المنكر، والأمر بالمعروف ضعيفة جداً، والرسول صلى الله عليه وسلم يصف هذا القلب المصاب بالضعف في قوله في الحديث الصحيح: (تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها، نكتت فيه نكتة سوداء) حتى يصل الأمر به إلى أن يصبح كما أخبر عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث: (مربداً كالكوز مجخياً) مقلوباً لا يعرف شيئاً من الإيمان (لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) فهو لا يعرف المعروف، ولا ينكر المنكر، ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا عملت الخطيئة في الأرض، كان من شهدها فكرهها، كمن غاب عنها) كأنه ما حضرها؛ لأنه أنكرها (ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها) والذي يغيب عن المعصية التي تفعل في الأرض وهو يعلم عنها، فيرضاها، كان كأنه شهدها وأخذ الإثم في شهودها بغير إنكار؛ لأن القلب قد زالت منه حساسية إنكار المنكر، والصد عن سبيل المجرمين.(143/16)
الخطأ في النظر إلى الأمور
ومن مظاهر ضعف الإيمان: النظر إلى الأمور من جهة هل فيها إثم أم لا؟ بعض الناس عندما يريد أن يعمل عملاً، يسأل هل هذا العمل فيه إثم، أم لا؟ ولا يسأل عن أعمال فيها أجر، أم لا؟! وهذه النفسية تؤدي إلى الوقوع في أشياء من الشبهات والمكروهات، أي أن: صاحب هذه النفسية لا يوجد عنده مانع أن يرتكب أمراً مكروهاً، أو يقع في أي شبهة ما دام أنها ليست محرمة.
وهذه أسئلة واقعية جاءت من بعض الناس، يقول: ما حكم الشيء الفلاني؟
الجواب
حرام لا يجوز، والدليل كذا، فيقول: حرام قليل، أو كثير؟ لأن ما عنده اهتمام بالابتعاد عن المنكر والسيئات ولو كانت سيئة واحدة، ولو كان العمل في أول مراتب الحرام، فهذه النفسية من أين أتت؟ من ضعف الإيمان، وينتج عن ذلك الجرأة على محارم الله، وعدم الشعور بأي حاجز بين الإنسان وبين المعصية، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن أناس كما في الحديث الصحيح: (أنهم يأتون يوم القيامة بحسنات كأمثال الجبال، فيجعلها الله هباءً منثوراً)، يقول عليه الصلاة والسلام: (لأنهم كانوا إذا خلوا بمحارم الله، انتهكوها) بكل سهولة ينتهك المحرم، ليس هناك تردد بعض الناس يقع في المحرم، لكن يتردد قبلها كثيراً قبل أن يقع في المحرم، وبعض الناس يقع في المحرم بكل سهولة، مثل: شرب الماء! وكلا الشخصين على خطر، لكن أحدهما أخطر من الثاني، أي: كون الواحد يقع بعد تردد وتحرج هذا أهون قليلاً من الذي يقع في الحرام مباشرة بكل سهولة يأكل الحرام -يقع في الحرام- ينظر إلى الحرام، يستمع إلى الحرام دون أدنى تحرج، وهذه نوعية من الناس أيضاً نتيجة ضعف الإيمان يستسهل الذنوب، ولا يرى أنه عمل شيئاً منكراً، ولذلك يصف ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه في صحيح البخاري حال المؤمن وحال المنافق، يقول: [المؤمن يرى ذنوبه كجبل يوشك أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا، فطار] هذا الشعور نتيجة استسهال المحرمات، واستسهال الوقوع فيها.(143/17)
انفصام عرى الأخوة الإسلامية
ومن مظاهر ضعف الإيمان وعواقبه: انفصام عرى الأخوة الإسلامية، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في الأدب المفرد عن أنس وهو في صحيح الجامع: (ما تواد اثنان في الله، فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما) اثنان متآخيان في الله، بينهما رابطة إسلامية، انفصلت الرابطة، وكره كل واحد منهما الآخر، انفصلا عن بعضهما، فما هو السبب؟ يقول عليه الصلاة والسلام: (ما تواد اثنان في الله، فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما) هناك ذنب حدث، ولذلك انفصلت عرى الأخوة، سواءً كان هذا خلافاً وغضباً شيطانياً، أو ذنباً آخر من المعاصي التي تفرق بين المسلمين، وهذه من شؤم المعصية، ومن شؤم ضعف الإيمان.(143/18)
كثرة الجدال والمراء المقسي للقلب
كذلك من علامات ضعف الإيمان ومظاهره: كثرة الجدال والمراء المقسي للقلب، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ما ضل قومٌ بعد هدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) الجدال بغير دليل، ولا نظر صحيح، ولا أثر، فهذا الجدال يؤدي إلى الابتعاد عن الصراط المستقيم، والآن هناك أناس كثيرون يجادلون بالباطل {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً) حديثٌ حسن، وما دمت أنك قد أقمت عليه الحجة فيكفي.(143/19)
احتقار المعروف
ومن علامات ضعف الإيمان: احتقار المعروف، فلو أرشدت أحد الناس إلى شيء من المعروف، قال: هذه ما فيها إلا شيء يسير من الحسنات، وهذا شيء بسيط أنا مستغنٍ عنه، أعطني أشياء كبيرة في الأجر، يقول عليه الصلاة والسلام: (اتق الله، ولا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي) لو أتى أحد يريد أن يستسقي من بئر وأنت قد رفعت دلوك، فلما وجدت هذا الشخص بيده الدلو، أفرغت دلوك في دلوه، ثم رفعت دلواً آخر لنفسك، فهذه العملية بسيطة، لكن لا تحتقرها، وأن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسطٌ ماذا تكلفك الابتسامة في وجه أخيك؟ لا شيء عمل سهل جداً، لا تحتقر هذا المعروف، لا تقل: هذه قضية ثانوية وجزئية، وما فيها إلا حسنات قليلة، لا؛ لأن هذا العمل البسيط قد يكون سبباً في مغفرة الذنوب كلها، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (بينما رجلٌ يمشي في طريق، وجد غصن شوكٍ على الطريق، فأخره) أزاله جانباً حتى لا يؤذي المسلمين (فشكر الله له، فغفر له) بسبب إزالة غصن من الشوك عن طريق المسلمين.
فإذاً من ضعف الإيمان أن تحتقر الحسنات البسيطة، لو رأيت سجادة المسجد وسخة، ولا تحتقر إزالتها، وفي إزالة أوساخ المسجد وردت الأحاديث الصحيحة؛ كحديث المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فماتت في الليل، فدفنوها دون أن يؤذنوا رسول الله حتى لا يزعجوه، فلما أصبح عليه الصلاة والسلام وافتقدها، قال: (أين هي؟ قالوا: ماتت ودفناها، قال: دلوني على قبرها) فذهب عليه الصلاة والسلام إلى قبرها بنفسه وصلى عليها؛ لأنها كانت تقم المسجد.
أي: تنظف المسجد.(143/20)
السرور والغبطة بما يصيب المسلمين
ومن مظاهر ضعف الإيمان: السرور والغبطة بما يصيب إخوانه المسلمين من فشل، أو خسارة، أو مصيبة، أو زوال نعمة، فيشعر بالسرور أن النعمة عن فلان قد زالت، أو أن الشيء الذي كان فلان متميزاً به عني قد ذهب، وأن تجارته قد بارت، وأنه قد فقد وظيفته، أو قد أصابه عين، فذهب حسن صوته، فيشعر بسرور.
وهذه نفسية سيئة تشعر بهذا نتيجة ضعف الإيمان.(143/21)
الفراغ والخوف عند نزول أي مصيبة
ومن مظاهر ضعف الإيمان كذلك: الفزع والخوف عند نزول أي مصيبة، أو حدوث أي مشكلة، فتراه ترتعد فرائصه يرتجف يفقد اتزانه يتضايق جداً لا يستطيع التفكير يضطرب لنزول مشكلة؛ لأن القلب ضعيف، ولذلك تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، فتجده لأدنى مشكلة محتاراً لا يستطيع مواجهة الواقع، فقد غلب على أمره، وركبته الهموم، ولم يجد مخرجاً؛ لأن إيمانه ضعيف، ولو كان إيمانه قوياً لكان ثابتاً، ولواجه المشكلة بقوة، مندفعاً في المواجهة من قوة إيمانه في قلبه.(143/22)
علامات أخرى لضعف الإيمان
ومن علامات ضعف الإيمان: فشو الأمراض القلبية، مثل: حب الظهور، وإرادة أن تكون الكلمة له، وأن يأخذ الجميع بآرائه وأقواله.
ومن علامات ضعف الإيمان: عدم الاكتراث لفوات مواسم الخيرات، يعني: لو جئت لأحد الناس، وقلت له: هل صمت أمس؟ لأن أمس كان يوم عرفة، أو عاشوراء، قال: والله نسيت ما تذكرت، والأمر عادي، خيرها في غيرها! فعدم الاكتراث لفوات مواسم الخيرات يدل على عدم اهتمام الشخص بتحصيل الخير والحسنات نتيجة ضعف الإيمان في نفسه.
وكذلك من علامات ضعف الإيمان: أن يقول الإنسان ما لا يفعل، والله يقول: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3].
ومن علامات ضعف الإيمان: أن يأخذ كلام الإنسان وأسلوبه الطابع العقلاني البحت، ويفقد السمة الإيمانية حتى لا تكاد تجد في كلام هذا الشخص أثراً فيه نص من القرآن، أو السنة، ولا للتسليم بشرع الله، يعني: تجد كلاماً عقلانياً، وحججاً عقلية، ليس فيها قرآن ولا أحاديث، بل طبيعة الجدال والنقاش فقط، ولذلك الكلام غير مؤثر حتى لو أتى بأدلة كثيرة عقلية، لا يؤثر في نفوس الآخرين.
ومن أعراضه: الشح والبخل.
ومن مظاهر ضعف الإيمان: المغالاة في الاهتمام بالنفس؛ أكلاً ولبساً أناقة مسكناً مركباً، تجد الإنسان هذا ضعيف الإيمان يهتم بالكماليات جداً، يهتم بلباسه جداً، ويشتري أغلى الأقلام، ويهتم بسيارته جداً، في مسكنه يزوقه ويحسنه، وينفق الأموال والأوقات في هذه التحسينات، وليس لها ضرورة، وليست حتى مما يسهل الحياة العملية، وإنما مجرد إنفاق أموال تضيع في أشياء لا فائدة منها، ويقدم اهتمامه بنفسه على الآخرين، وينفق أمواله والمسلمون يحتاجون إليها حتى يقع في التنعم أي: الترفه الزائد عن الحد، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث به إلى اليمن، قال: إياك والتنعم، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين).
إذن! الإغراق في الأناقات، والإنفاق على النفس في الكماليات، والتزويق والتحسين، هذه الأمور دليل على أن الإنسان مستعد أن ينفق أموالاً وأوقاتاً غير مكترث لإنفاق هذه الأموال والأوقات في أشياء أهم منها.(143/23)
أسباب ضعف الإيمان
نأتي الآن إلى القسم الأخير في حديثنا وهو (الأسباب) فقد ذكرنا بعض الأعراض والمظاهر لضعف الإيمان، ونريد أن نتكلم عن أسباب ضعف الإيمان، فما هي أسبابه؟(143/24)
طول الأمد والوقت
يقول الله عز وجل في القرآن: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
إذاً طول الأمد والوقت.
أحد الناس ابتعد عن الأجواء الإيمانية فترة طويلة فكان هذا مدعاة لضعف الإيمان في نفسه، فمثلاً -أيها الإخوة-: أحد الناس ابتعد عن إخوانه في الله فترة طويلة لسفر أو لوظيفة أو لأي شيء، صار عنده انشغال، فابتعد عن إخوانه، والأخوة كما يقول الحسن البصري: [إخواننا أغلى عندنا من أهلينا، فأهلونا يذكروننا بالدنيا، وإخواننا يذكرونا بالآخرة].
عندما يبتعد الإنسان عن إخوانه، فإنه يفقد الجو الإيماني الذي كان يتنعم في ظلاله، ويستمد منه قوة قلبه، والمؤمن قليلٌ بنفسه كثيرٌ بإخوانه، والجو الذي يعيش فيه الأخ بين إخوانه في الله جو مهم جداً، فعندما يبتعد الإنسان عنه لفترة ويطول عليه الأمد يقسو قلبه.
الابتعاد عن القدوة، مثلاً: إنسان يتعرض لنفحات تربوية من أخ له في الله هو أعلى منه علماً وإيماناً، فيتربى تحت يديه، فإذا ابتعد عن هذا القدوة فترة من الزمن يقسو قلبه.
إذاً الابتعاد عن أهل التقوى، وعن القدوات الصالحة، والانشغال عنهم لسفر، أو وظيفة، أو أي شيء يسبب ضعف الإيمان.
صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم لما توفي عليه الصلاة والسلام، واروه من هنا، وقالوا: فأنكرنا قلوبنا، يعني: بعدما واروا جثمان الرسول صلى الله عليه وسلم، قالوا: أنكرنا قلوبنا، أحسوا بوحشة في قلوبهم؛ لأن المصدر -المعلم المربي- مات عليه الصلاة والسلام، وكما ورد في وصفهم في بعض الآثار: فكانوا كالغنم في الليلة الشاتية المطيرة، كذلك الصحابة -رضوان الله عليهم- أحسوا في وحشة في قلوبهم، مع أنهم من المحافظين على إيمانهم، أحسوا بوحشة مع أن فيهم: أبا بكر الصديق، وعمر وعثمان وعلي وقدوات كثيرة من الصحابة، لكنهم أحسوا بوحشة؛ لأن قلوبهم حساسة جداً.
الآن بعض الناس يبتعد عن إخوانه في الله، ويبتعد عن الأجواء الإيمانية، يحس بوحشة، لكن لا يتدارك الأمر، حتى تصير الوحشة شيئاً طبيعياً، ثم تحدث نفرة في قلبه من تلك الأجواء الإيمانية، يقسو القلب، ويضعف الإيمان فعلاً.
الابتعاد عن طلب العلم الشرعي، والاتصال لكتب السلف الإيمانية: كتب تحريك القلوب، فهناك أنواع من الكتب تحس وأنت تقرأ فيها بأنها تحرك قلبك بأنها تستثير الإيمان الكامن بأنها تحرك الدوافع الإيمانية في القلب.
من أفضل الأمثلة على هذه الكتب: كتب ابن القيم رحمه الله، تجد أنه يتطرق بشكل أو بآخر، ويعرض القضية بأسلوب إيماني.
بعض كتب الفقه فيها نوع من الجمود الإيماني في عرض الأحكام، بعض العلماء يتميزون بأسلوب إيماني حتى في عرض الأحكام، فكيف بالأشياء الأخرى؟! لذلك الانقطاع عن هذه الكتب، والإغراق في قراءة الكتب الفكرية فقط، أو كتب الأحكام المجردة عن الإيمانيات فقط، أو كتب اللغة والأصول -مثلاً- فقط من الأشياء التي تورث قسوة القلب أحياناً؛ لأنه انشغل بقرائتها عن قراءة الكتب الإيمانية الأخرى.
نحن لا نذم الناس الذين يطلعون في اللغة والنحو والأصول وغيرها، لا.
لكننا ننبه إلى أولئك الناس الذين أعرضوا عن كتب التفسير والحديث مثلاً، فلا تكاد تجده يقرأ في التفسير، ولا في الحديث، مع أن التفسير وأحاديث الصحيحين وغيرها من أهم الأشياء التي تصل القلب بالله عز وجل.
يا أخي! عندما تقرأ في الصحيحين -مثلاً- تحسن بأنك تعيش في أجواء العصر الأول، تحس كأنك تعيش مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع الصحابة، تتعرض لنفحات إيمانية، هذه سيرتهم وطريقتهم، هذه الأحداث التي جرت في عصرهم، تحس أنك تعيش فيها، تحس أنك فرد منهم.
فالوصية -أيها الإخوة- بقراءة كتب الأحاديث كتب السيرة، ومن الذين يتعرضون لهذا بشدة الذين يقرءون ويدرسون دراسات لا علاقة لها بالإسلام، مثل: الذين يدرسون الكتب التجارية، وفيها كلام عن الربا والبنوك، أو كتب علم الاجتماع والفلسفة، وككتب علم النفس البعيدة عن الإسلام التي فيها نظريات كثيرة تقسي القلب وكلام يقسي القلب، وأحياناً يأتي لك بأمثلة فلان وفلانة، وسكرتيرة وكذا وكذا، هذا لا بد أن ينتبه له.
الذين يدرسون في تخصصات الجامعات غير الشرعية، نعم هي تفيد المسلمين، لا نقول: لا تدرس، لكن انتبه وأنت تدرس في هذه الأشياء، فكثرة القراءة فيها تقسي القلب، لذلك الواحد لو أنه يذاكر للامتحان، ويقرأ في هذه الكتب، لا بد أن يتبع ذلك قراءة قرآن، أو قراءة في كتب أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها، حتى يطري تلك القسوة التي عرضت له نتيجة القراءة في هذه الكتب، طبعاً قراءة القصص الخيالية، وقراءة قصص الحب والغرام، والمجلات، بعض الناس يغرقون في قراءة المجلات والجرائد، ويتتبع الأخبار من هنا وهناك، ومحطات تلفزيون، ويقول: أريد وعياً، لكن في حقيقة الأمر يقسو قلبه نتيجة لقراءة الأخبار، وقراءة هذه الأشياء، لأن بعض الجرائد والمجلات والأخبار ليس فيها شيء يربطك بالله، كلها أشياء تقسي القلب، ليس هناك شيء تجد فيه رقة لقلبك، ولذلك إذا داومت على سماع هذه الأشياء، وقراءتها أورثتك قسوة القلب فعلاً.(143/25)
وجود المسلم في وسط يعج بالمعاصي
ومن الأسباب المهمة في ضعف الإيمان: وجود الإنسان المسلم ولو كانت خامته طيبة في وسط يعج بالمعاصي، وسط يذكر بالدنيا، أحاديث دنيوية، مثل: عموم المجالس والمكاتب وبيوت الناس اليوم، أحاديث التجارة الوظيفة الأموال الاستثمارات الفرص التجارية بيوت فيها اختلاط تعج بالمنكرات تسمع الأغاني تشاهد المتبرجات أفلام ملهيات حكايات، ومجالس فيها قصص العيش في وسط هذه الأجواء يقسي القلب.
بعض الناس لا يملكون شيئاً، فهذا حال أبيه وأمه، وحال إخوانه، وأخواته، وحال أخواله وأعمامه وزواره، فهو لا يملك أن يغير شيئاً أحياناً، ولا يستطيع أن يقول: أنا سأخرج من البيت وأسكن في الشارع، أو أجلس عند صديقي أثقل عليه، لكن هناك إجراءات لا بد من اتخاذها، والقصد أن هذا سبب من أسباب ضعف الإيمان، ولا شك.
بعض الناس أذهانهم مملوءة بهذه القصص التي تقسي القلب والأحاديث، وأذكر مثالاً حصل لي مرة من المرات، كنت ذاهباً مع صاحب سيارة أجرة من مكة إلى جدة في الليل، وفي الليل ينتهز الواحد الفرصة للكلام مع السائق، فقلت له: أنا أخبرك بقصة، وأنت تخبرني بقصة حتى نصل وحتى لا ننام في الطريق، فأخبرته بقصة في صحيح البخاري، وجاء دوره ليقص عليَّ قصة، فأتى الرجل بقصة طويلة، ملخصها أن رجلاً شجاعاً في قبيلة ذهب في الحج، ورأى امرأة وأعجب بها، وكانت ساكنة في اليمن، ثم ذهب إلى اليمن، وتحايل في الدخول إلى بيتها، واتضح أنها زوجة أمير في اليمن، ثم عاش معها شهراً داخل القصر في غياب زوجها، وعاشرها بالحرام، ثم هرب بها، وقتل زوجها.
أشياء كلها بالحرام والزنا والقتل، وفي الأخير قتل، ثم لما علمت بمقتله ماتت بسبب الأشواق التي كانت بينهم، فاستمعت إلى القصة حتى أكمل الرجل، وكان هذا الرجل يتجنب الأشياء الفاحشة، أي: تفاصيل الأشياء، لكن هذا الشيء هو الذي في ذهنه، ويتكلم في القصة وهو معجب بها، وعنده قصص كثيرة مثلها، ويقول: نحن أهل البادية هذه قصصنا وحكاياتنا، وما نمضي به الوقت من هذا القبيل، وهذا مشكلة.
طبعاً هناك أناس مثل سائقي الشاحنات هؤلاء يقطعون على الطريق أوقات طويلة جداً، يظل عشر ساعات وعشرين ساعة وأكثر أيامهم على الطريق، هؤلاء يمضون أوقاتهم في أي شيء؟ وطبعاً هناك سائق ومساعد السائق يمضون أوقاتهم في أشعار فارغة، وقصص كقصص الحب والغرام، أو أشرطة أغاني، والمشكلة أنه طول الوقت في السيارة يمشي ويسمع هذه الأشياء، لذلك لا بد من إيجاد حلول، وتقديم أشياء لهؤلاء الناس لعلهم ينتفعون بها، وهذا قطاع ربما الآن مهمل في الدعوة إلى الله، قطاع سائقي الشاحنات، ليس هناك من ينتبه لهم إلى الدعوة إلى الله، وإعطاءهم الأشياء النافعة والمفيدة.(143/26)
الإغراق في الانشغال بالدنيا
كذلك من أسباب ضعف الإيمان: الإغراق في الانشغال بالدنيا حتى ينشغل القلب، نحن لا نقول: لا تشتغل في الدنيا ولا تعمل، ولا تتكسب، ولا تتوظف، لا.
لكن لدرجة أن ينشغل القلب ويصبح عبداً لهذه الأشياء , فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم) سماه عبد الدينار وعبد الدرهم، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما يكفي أحدكم ما كان في الدنيا مثل زاد الراكب) أي: الشيء اليسير الذي يبلغه إلى المقصود، طبعاً سواءً كان كثيراً، أو قليلاً في الحجم، كأن يسدد ديونه، فربما يحتاج أشياء كثيرة يتكسب.
ومن الأسباب الأخرى: الانشغال بالمال، وبالزوجة، وبالأموال، والله عز وجل يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:28]، وقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] زين للناس، فيتعلقون بها، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن في مال الرجل فتنة، وفي زوجته فتنة، وولده) طبعاً هذه ليست دعوة إلى ترك تربية الزوجة والأولاد، لا.
هذا من الخير ومن الشيء المطلوب شرعاً، لكن الانسياق وراء الزوجة في المحرمات، والانسياق وراء الأولاد في الشغل عن طاعة الله، والرسول صلى الله عليه وسلم، قال: (الولد مجبنة) إذا جاء المرء يجاهد في سبيل الله قال: ولدي.
(مبخلة) إذا جاء ينفق في سبيل الله، قال: ولدي أحق.
(محزنة) يركبه الهم والغم إذا أصابه مرض أو غيره؛ فينشغل عن أشياء كثيرة.
فإذاً ليس المقصود ترك التربية، وإنما المقصود الانشغال معهم بالمحرمات، والزوجة منعطف خطير في حياة زوجها أحياناً، والزوج كذلك منعطفٌ خطير في حياة زوجته الملتزمة بدين الله، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن لكل أمةٍ فتنة، وإن فتنة أمتي المال) في صحيح الجامع.(143/27)
الإفراط في كثير من الأمور
ومن أسباب قسوة القلب: الإفراط في الأكل والنوم والسهر والكلام والخلطة، وكل واحدة تحتاج إلى شرح، لكنا الآن في مجال التذكير.
الإفراط في الأكل يقسي القلب، والإفراط في النوم يقسي القلب، والإفراط في السهر يقسي القلب، والإفراط في الكلام يقسي القلب.
والإفراط في مخالطة الناس تقسي القلب، تجد الواحد لا يتفرغ ليحاسب نفسه قليلاً.
كثرة الضحك تقسي القلب، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (وأقِل الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب) والفراغ الذي لا يملأ بطاعة الله حتى لو جلس الإنسان فقط في هواجس بينه وبين نفسه يتخيل أشياء؛ يقسي القلب، فأسباب ضعف الإيمان كثيرة هذا ما نقتصر على ذكره منها في هذا الدرس، وسيكون إن شاء الله موعدنا معكم في الدرس القادم؛ لنتكلم عن موضوع بعنوان "كيف نجدد الإيمان في قلوبنا" وسنتطرق في الدرس القادم بإذن الله إلى علاج هذه المشكلة، لأن ما من إنسان إلا ويعاني من ضعف في قلبه، فسنتكلم إن شاء الله عن حلول وعلاجات لهذه المشكلة.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على النبي الأمي محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(143/28)
عبر بين موازين الله وموازين البشر [1]
التقوى هي ميزان الشرع الذي به يزن البشر، أما موازين البشر فغير كاملة لنقصانهم، وضيق نظرتهم، وفي هذه الخطبة يوضح الشيخ ذلك بأمثلة من الواقع وأدلة من الشرع، فاقرأ تستفد.(144/1)
مقارنة بين ميزان الشرع وميزان البشر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: إخواني الأحبة! إن من الأمور التي ينبغي أن نتفكر فيها جيداً ونمعن النظر، ونأخذ العبر، الفروق بين موازين الله وموازين البشر، ذلك أننا في كثير من الأحيان، نحكم على الأشخاص والأحوال من منظار الدنيا، ونقوم الناس والمواقف من المناظير الدنيوية التي ننظر إلى هؤلاء الأشخاص والأحوال من خلالها، بينما يكون الأمر عند الله تعالى مختلفاً تمام الاختلاف.
ومن هنا كان لابد لنا أن نعدل النظرة، وأن نقوم الميزان، حتى ننظر إلى الأمور من خلال منظار الشرع، لا من خلال منظار الهوى والعادات والتقاليد، وما استحدثه الناس من أنواع الموازين الدنيوية.
وسنتحدث -إن شاء الله- عن بعض الأحوال والمواقف، وأنواع الناس الذين يُنظر إليهم من خلال ميزان الدنيا، ونقارن ذلك بما عند الله تعالى.(144/2)
العاهات البدنية ومنظار الشرع إليها
أيها الإخوة: ما هو رأينا في رجل مشوه الخلقة، ربما يكون دقيق الساقين، أو أسود البشرة، أو أعور أفحج، أو أنه مشلول، أو مجدوع الأنف والأطراف ونحو ذلك؟! كثير من الناس ينظر إليه بازدراء؛ لأن خلقته مشوهة، ينظرون إليه من منظار النقص، ولكن المسألة ليست بالشكل ولا بالصورة، وإنما هي بالتقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على إيضاح هذا المفهوم، فروى الإمام أحمد رحمه الله في الحديث الحسن عن ابن مسعود: (أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مم تضحكون؟! قالوا: يا نبي الله! من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد) ساقا ابن مسعود الدقيقتان النحيلتان أثقل عند الله في الميزان من جبل أحد.
وفي رواية لـ أحمد أيضاً، عن أم موسى قالت: (سمعت علياً رضي الله عنه يقول: أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود، أن يصعد شجرة فيأتيه منها بشيء، فنظر أصحابه إلى ساق عبد الله بن مسعود حين صعد الشجرة، فضحكوا من حمشوة ساقيه -أي: دقة أقدامه وصغرها- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مِمَّ تضحكون؟ لرجل عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد).
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعرفون له هذا الفضل، فقال حذيفة رضي الله عنه: [إن أشبه الناس هدياً ودلاً برسول الله صلى الله عليه وسلم من حين يخرج من بيته حتى يرجع -فلا أدري ما يصنع في أهله- كـ عبد الله بن مسعود، والله لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبد الله من أقربهم عند الله وسيلة يوم القيامة].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلفت نظر الناس إلى هذا الأمر، وأن القضية ليست بجمال الصورة، وإنما هو بالإيمان الذي وقر في القلب، فروى أحمد رحمه الله في الحديث الصحيح عن أنس: (أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً، كان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية، فيجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن زاهراً باديتنا، ونحن حاضروه).
قال في مرقاة المصابيح في شرح الحديث: أي نستفيد منه ما يستفيد الرجل من باديته من أنواع النباتات، يجلب إلينا أشياء لا تكون إلا في البادية ليست عندنا، ونحن نعد له ما يحتاج إليه من البلد.
(وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه وكان رجلاً دميماً، قبيح المنظر والخلقة ليس فيه جمال، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال الرجل: أرسلني من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول -ممازحاً لـ زاهر -: من يشتري العبد؟! فقال: يا رسول الله! إذاً والله تجدني كاسداً -من يرغب فيّ؟ ومن يطمع في شكلي؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكنك عند الله لست بكاسد) أو قال: (لكنك عند الله غالٍ) فتأمل كيف لفت النظر إلى هذا الشيء.(144/3)
ذم الشرع للسمن
وفي المقابل نجد أن الرجل العظيم السمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة) هذه رواية البخاري، وفي رواية لـ ابن مردويه: (الطويل العظيم الأكول الشروب) عند الناس الطويل العظيم، خلقة محترمة, خلقة جيدة، وشيء يُتطلع إليه، مثل المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون:4].
(إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة) هذا في ميزان الرب، عندنا نعجب بالصورة والخلقة، والعضلات المفتولة، والجسم الفارع الطول: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرءوا: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:105]).
وهذا لأنه رجل فاجرٌ أو كافرٌ لا يزن عند الله جناح بعوضة، ولا يعني ذلك التعميم، فقد كان من الصحابة الأجلاء من هو طويل مربوع، وكان في الكفار من هو دقيق نحيل.
ولكن المقصود لفت النظر إلى عدم التعلق بجمال الصورة، وأن نُقوم الناس أو نُعجب بهم، أو نحبهم بناءً على جمال صورتهم، فإن الجمال لا يغني عنهم من الله شيئاً، وربما يكون من أجمل الناس وهو عند الله من أحقر خلقه، وربما يكون الرجل أكثر الناس تشويهاً، وهو من أعظم الناس عند الله يوم القيامة.
وقد كان عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى مفتي مكة وقاضيها؛ عبداً أسود، مجدوع الأنف، أعور، مشوه الخلقة، رأسه داخل في جسده، -لا يكاد يوجد له رقبة- ومع ذلك كان مقدم الناس، لا يفتي في الحج إلا عطاء، ولا يجسر في الحج أن يفتي أحد إلا عطاء، قاضي مكة بأسرها، يأتي إليه الناس، حتى الخليفة قال لولديه: يا بني! اطلبوا العلم، فإنني لا أنسى ذُلنا بين يدي هذا العبد الأسود.
لأن المجتمع كان ينظر إلى الناس من خلال العلم والإيمان، ومن خلال العقيدة، لا من خلال الشكل والصورة كما يفعله كثير من الناس، فإذا أراد مثلاً أن يتزوج نظروا إلى صورته وشكله قبل دينه وخلقه، لا مانع من الاهتمام بالصورة والشكل، لكن المشكلة في تقديم ذلك على الدين والخلق، والإيمان والتقوى، والعلم والفضل.
لما استقر هذا المفهوم في أذهان الصحابة رضي الله عنهم، بان ذلك من خلال كلامهم، فلما قام عتبة بن غزوان الصحابي الجليل رضي الله عنه يخطب في الناس بعد ما فتحوا البلاد بعد النبي عليه الصلاة والسلام، وحمد الله وأثنى عليه، ماذا قال في كلمته؟ قال: [ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مالنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة، فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد، إلا أصبح أميراً على مِصر من الأمصار] لأن الخلفاء الراشدين كانوا يولون الصحابة على الأمصار، يكونون أمراء وقضاة وأئمة، الأمير والقاضي والإمام واحد، والمفتي لهم والمعلم وناقل الأحاديث والمربي واحد.
قال: [فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً- نتيجة هذه المنزلة وهذه الإمرة- وعند الله صغيراً، وإنها لم تكن نبوة قط إلا تناسخت حتى يكون آخر عاقبتها ملكاً، فستخبرون وتجربون الأمراء بعدنا] رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه.
إذاً: ما هو الميزان عند الله؟ ما هو الميزان الذي يجب علينا أن ننظر إلى الناس من خلاله؟ إنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) -هذا هو الميزان- رواه مسلم رحمه الله وغيره.(144/4)
مقارنة بين منظار الشرع والبشر إلى الفقر
ما هو رأينا؟ وماذا نقول؟ وما هي وجهة نظرنا، إذا رأينا شخصاً فقيراً عليه أسمال بالية، وثيابه رثة، وهيئته محقورة، وهو ضعيف، وليس له منزلة، ولا أحد يعطيه وجهاً كما يقول العامة، ما هو رأينا فيه؟ ما هي نظرتنا له؟ روى البخاري رحمه الله عن حارثة بن وهب الخزاعي، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف) الناس يتضعفونه لضعفه، كل يظلمه ويحقره ولا يبالي به ولا يعطيه وزناً ولا قيمة، هؤلاء أهل الجنة: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره) من عظمه عند الله ومنزلته ومكانته، لو قال: أقسمت عليك يا رب أن تفعل كذا، لبر الله بقسمه وفعل.
(ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل -أي: جافٍ شديد الخصومة بالباطل- جواظ) أي: فظ غليظ متكبر في مشيته، ومستكبر كما دلت عليه الصفتان السابقتان.
وفي رواية أحمد: (ألا أخبركم بأهل النار وأهل الجنة؟ أما أهل الجنة فكل ضعيف متضعف أشعث ذي طمرين -ثوبين باليين- لو أقسم على الله لأبره، وأما أهل النار فكل جعضري -وهو الغليظ المتكبر- جواظ -المختال في مشيته وقيل: كثير اللحم- جمّاع -يجمع الأموال- منّاع -يمنع حق الله فيها- ذي تبع -أي: له أتباع وعشيرة ويتبعه كثير من الناس) هذه صفة من صفات أهل النار.
وفي رواية ابن ماجة عن معاذ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبرك عن ملوك الجنة؟ قلت: بلى، قال: رجل ضعيف مستضعف ذو طمرين، لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على تجلية هذا الموقف لأصحابه، فقد روى البخاري رحمه الله عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: (مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟) والنبي عليه الصلاة والسلام يُوحى إليه، فكان يعلم حال هذا الرجل أنه منافق أو كافر أو فاجر، فقال: (ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع إن يُشفع -إذا توسط لأحد أن يقبل كلامه قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيك في هذا؟ قال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا) أي: الذي ولى أولاً.
وفي رواية ابن ماجة: (مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: رأينا في هذا نقوله: هذا من أشرف الناس، هذا حري إن خطب أن يُخطب، وإن شفع أن يُشفع، وإن قال إن يُسمع لقوله، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ومر رجلٌ آخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هذا؟ قالوا: نقول: والله يا رسول الله! هذا من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب لم ينكح، وإن شفع لا يشفع، وإن قال لا يسمع لقوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لهذا خير من ملء الأرض من مثل هذا).
ونحن ننظر إلى الناس غالباً من مناظير دنيوية، نقول: هذا رجل صاحب منصب، هذا رجل غني، هذا رجل قوي، هذا رجل جميل الخلقة، هذا ذو مرة، وهو عند الله قد يكون من أحقر الناس، وإذا نظرنا إلى شخص فقير ضعيف لا مكانة له ولا وظيفة، أو كما يقول العامة: لا وجه ولا جاه، ماذا نعتقد فيه؟ وبأي عين ننظر إليه؟ وكيف نعامله، ونستقبله في مجالسنا؟ وكيف نسلم عليه، وكيف نكلمه؟ بناءً على موازيننا نتعامل، فهذا العظيم الغني صاحب المنصب، نقوم له، ونجله، ونرحب به، ونسمع كلامه، ونلبي طلبه، وهذا الضعيف المستضعف الفقير، إذا دخل المجلس لا أحد يلتفت إليه، ولا يأبه به، ولو طلب طلباً قاطعنا كلامه، ولا نلبيه، وربما طردناه، لماذا؟ لأن نظرتنا دنيوية أيها الإخوة! نظرتنا ليست بميزان الشرع.
هذا الذي نريد أن نعدله، النبي عليه الصلاة والسلام كان حريصاً أن يربي هذا المفهوم في نفوس أصحابه، فقد روى أحمد، قال الهيثمي بأسانيد ورجالها رجال الصحيح: عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر! ارفع بصرك فانظر أرفع رجل تراه في المسجد -أعلى رجل منزلة- قال: فنظرت -استعرضت الناس في المسجد- فإذا رجل جالس عليه حلة -أي: ثوب من قطعتين نفيس -فقلت: هذا أرفع رجل، فقال: يا أبا ذر! ارفع بصرك فانظر أوضع رجل تراه في المسجد، فنظرت، فإذا رجل ضعيف عليه أخلاق -أي ثياب قديمة بالية- قال: فقلت: هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لهذا أفضل عند الله يوم القيامة من قراب الأرض - أي: ملئها وقدرها- مثل هذا).(144/5)
الفصاحة والعي بين ميزان الشرع وميزان البشر
الفصاحة عندنا ماذا تعني؟ القدرة على الكلام والخطاب، والمحاماة والمرافعة، وتصدر المجالس، وفي الوقت نفسه يعني عندنا العيّ: عدم القدرة على التعبير عما في النفس، والضعف في المنطق، وعدم البلاغة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة) التخلل في الكلام: أي التشدق وتفخيم اللسان به، كما تأكل البقرة وتخرج لسانها، هذا يتشدق بالكلام مخرجاً لسانه يميناً وشمالاً، رافعاً له، كما تتخلل البقرة، قال أبو عيسى -أي: الترمذي - هذا حديث حسن غريب.
وفي رواية أبي داود: (إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه تخلل البقرة بلسانها) قال في الشرح: أي المبالغ في الحديث استهزاءً بالناس، يتخلل في الكلام، أي: يفخم ويتشدق في قوله كما تلف البقرة لسانها على الكلأ، وفي صفات المنافقين: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] من حلاوته والطلاوة التي عليه والفصاحة التي هم عليها: (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) من حلاوة منطقهم، وجودته وجماله، وفصاحتهم، لكن إذا كان الفصيح منافقاً، فأي شيء تنفعه فصاحته؟ وماذا ينبغي أن تكون نظرتنا إليه؟ وفي الوقت نفسه جاء في الحديث: (العيّ من الإيمان) العي هو: عدم القدرة على توضيح المقصود، وعدم البلاغة، والضعف في المنطق، وطبعاً هذه ليست قواعد، فقد كان من الصحابة فصحاء، ومن الكفار من يكون عيياً، لكن المقصود ألا نقيس الناس على الفصاحة والعي، فنقول صاحب المنطق البليغ المتشدق: هذا مؤمن، هذا إنسان عظيم، هذا إنسان له منزلة، وإذا جاء واحد لا يعرف أن يتكلم بكلمتين يضعهما فوق بعضهما احتقرناه لضعف لسانه ومنطقه.(144/6)
المرض في الشرع ليس شراً محضاً
المرض ماذا يعني بالنسبة إلينا؟ المرض شر، ونحن نكره المرض، ولا غرابة في ذلك، لكن ينبغي أن ننظر إلى المسألة بالمنظار الشرعي، وأن المرض فيه إيجابيات وفيه خير، فالخطأ في نظرتنا إلى المرض أن ننظر إليه أنه شر كله.
دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم المسيب أو أم السائب، فقال: (مالك يا أم السائب أو يا أم المسيب تزفزفين -أي: تضطربين وترتجفين- قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم، كما يذهب الكير خبث الحديد) إذاً لها فائدة، تُكفر السيئات، وورد أنها من فيح جهنم.
ولذلك قال: (أمرنا أن نبردها بالماء) وورد في بعض الأحاديث: [أن بعض الصحابة لما علموا أنها لو مكثت عندهم كفرت خطيئتهم اختاروا مكثها] لا تظن أن الذي لا يمرض -قوي الجسم الصحيح - أنها علامة خير، بل ربما لا تكون كذلك، روى أحمد رحمه الله عن أبي هريرة قال: (دخل أعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أخذتك أم ملدم قط، قال: وما أم ملدم؟ قال: حرٌ يكون بين الجلد واللحم، قال: ما وجدت هذا قط، قال: فهل أخذك هذا الصداع قط، قال: وما هذا الصداع؟ قال: عرق يضرب على الإنسان في رأسه، قال: ما وجدت هذا قط، فلما ولى، قال عليه الصلاة والسلام: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا).
وفي رواية لـ أحمد: (مر برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي أعجبه صحته وجَلَدُه، قال: فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: متى أحسست أم ملدم؟ قال: وأي شيء أم ملدم؟ قال: الحمى، قال: وأي شيء الحمى؟ قال: سخنة تكون بين الجلد والعظام، قال: ما لي بذلك عهد، قال: فمتى أحسست بالصداع؟ قال: وأي شيء الصداع؟ قال: ضربان يكون في الصدعين والرأس، قال: ما لي بذلك عهد؟ فلما ولى الأعرابي، قال: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه).
لعل الرواية التالية توضحه: (دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: متى عهدك بأم ملدم، وهو حر بين الجلد واللحم؟ قال: إن ذلك لوجع ما أصابني قط، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمن مثل الخامة تحمر مرة وتصفر أخرى) أي: المؤمن مثل النبات اللين الطري يحمر ويصفر، كناية عن الصحة والمرض، المؤمن تأتيه أمراض، حمى، وصداع: (والكافر مثل الأرز، قوي يكون انجعافه مرة واحدة).
مرة أخرى هذه من العلامات، لكنها ليست قاعدة مطردة في كل من يصيبه حمى أنه مؤمن، وفي كل من لا يصيبه أنه كافر، لكن النبي عليه الصلاة والسلام يلفت النظر إلى هذه القضية، لا تظنوا -يا أيها الناس- إذا رأيتم شخصاً فأعجبتكم صحته وجلده أنه مؤمن، والذي لا عهد له بالأمراض معناها أن الله لا يبتليه، ولا يريد أن يكفر عنه، والذي لا يريد الله أن يكفر عنه فما هي نهايته؟ يكون انجعافه مرة واحدة، المؤمن مبتلى مثل الشجرة الطرية والنبت اللين؛ تفيؤها الريح مرة يمنة ومرة يسرة، حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة.
نسأل الله أن يجعلنا بمنظار الشرع ناظرين، وبقواعده عاملين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(144/7)
النظر بمنظار الشرع واجب يقي المرء الحيف
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين بعثه رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه وذريته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله! لا نتمنى المرض ولا الفقر، ونسأل الله العافية والغنى عن الناس، لكن لو أصابنا شيء من ذلك هل هو دليل على أن الله يكرهنا ويبغضنا؟ لا.
بل هو دليل على: (إذا أحب الله عبداً ابتلاه).
إذاً ننظر بمنظار الشرع، والفقر مع أنه مكروه لنا، لكن فيه إيجابيات عظيمة إذا حصل، ونحن لا نتمناه، ففي الترمذي وهو حديث صحيح عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة -من الجوع والفقر يُغشى على الواحد ويسقط في الصف وهو أثناء الصلاة- وهم أهل الصفة رضي الله عنهم؛ حتى يقول الأعراب الذين لا فقه لهم: هؤلاء مجانين، فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إليهم مواسياً -على هذا الوضع كان المجتمع وكان هناك جوع عظيم، لكن صبروا رضي الله عنهم وحصلّوا- انصرف إليهم فقال: لو تعلمون مالكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة).
ريح فم الصائم عندنا مكروهة، ننفر منها ولاشك في ذلك، لكن عند الله ماذا تعني؟ وما منزلته؟ وما قيمتها؟ قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) نتيجة تغير رائحة الفم بخلو الجوف من الطعام تخرج الرائحة الكريهة، لكن هذه الرائحة الكريهة عندنا، هي عند الله أطيب من ريح المسك، فهذا يفيدنا لو رأيناها أو شممناها وأحسسنا بها؛ ألا نحتقر ذلك، لأنها عند الله أطيب من ريح المسك.
الرجل المقام عليه الحد كثير من الناس ينظر إليه باحتقار واشمئزاز؛ لأنه فعل هذه الجريمة، لكن هو إذا تاب وأقيم عليه الحد، فله عند الله شأن عظيم، لكن ربما بعض الناس يشمئز من هذا المحدود الذي أقيم عليه الحد، ولذلك لما رُجم ماعز كان ممن رماه خالد بلحي جمل فتنضح الدم على وجه خالد فسبه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (مه يا خالد -نهره- لقد تاب توبة لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم) توبة عظيمة، فنظرتنا إلى التائب المحدود يجب أن تكون من خلال الشريعة.
وفي رواية لـ أبي داود وأحمد حسنها بعض أهل العلم، (قال خالد بن اللجلاج: إن أباه حدثه قال: بينما نحن في السوق، إذ مرت امرأة تحمل صبياً، فثار الناس وثُرت معهم، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من أبو هذا؟ -هذه المرأة متهمة بالفاحشة، وقد ولدت من الفاحشة، في التحقيق النبي عليه الصلاة والسلام يسأل: من أبو هذا؟ - فسكتت، فقال شاب: بحذائها يا رسول الله! إنها حديثة السن، حديثة عهد بجزية، وليس عندها فقه وربما لا تستطيع الكلام، وإنها لم تخبرك، وأنا أبوه يا رسول الله، فالتفت إلى من عنده كأنه يسألهم عنه، فقالوا: ما علمنا إلا خيراً عن هذا الشاب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحصنت؟ -سبق لك الزواج- قال: نعم، فأمر برجمه) مادام أنه اعترف فأمر برجمه: (فذهبنا فحفرنا له حتى أمكنا ورميناه بالحجارة حتى هدأ -مات- ثم رجعنا إلى مجالسنا، فبينما نحن كذلك، إذ أنا بشيخ يسأل عن الفتى، أين الفتى؟ فقمنا إليه، فأخذنا بتلابيبه فجئنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول الله! إن هذا جاء يسأل عن الخبيث؟ فقال: مه! كفوا -كلمة سيئة أن تصفوه بالخبيث!! - لهو أطيب عند الله ريحاً من المسك) تاب وكُفر عن ذنبه في الدنيا بإقامة الحد، قال: (فذهبنا فأعناه على غسله وحنوطه وتكفينه، وحفرنا له) ولا أدري أذكر الصلاة أم لا، ولكن يصلى على الذي يقام عليه الحد.
هذا إذاً بالنسبة لهذا التائب، بعض الناس يشمئز من المحدود الذي أقيم عليه الحد، وربما يصفه بالخبيث.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أوليائك وحزبك المفلحين، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، وانصر المجاهدين يا رب العالمين، اللهم اجعلنا من أوليائك ولا تجعلنا من أعدائك، اللهم اجعلنا فيمن أحببتهم ولا تجعلنا فيمن أبغضتهم يا سميع الدعاء.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(144/8)
عبر بين موازين الله وموازين البشر [2]
إن الله تعالى حكم عدل، عزيز عليم، فخير الموازين ميزانه، وهو قد جعل البشر ناقصين وابتلاهم في الدنيا بعد أن بيّن لهم الصراط المستقيم، ولكن لا يزال منهم ظالم لنفسه إلا من عصمه الله، واقرأ هذه المادة تجد مصداق ذلك.(145/1)
أمثلة تساعد على تيقن أفضلية ميزان الشرع
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أيها الإخوة: لازال حديثنا متصلاً عن (عبر في موازين الله وموازين البشر) وقد سبق الكلام عن أمور ينظر لها الناس بمنظار، وهي عند الله شيء آخر، وكانت العبرة المستخلصة، أنه ينبغي علينا أن ننظر بمنظار الشارع، أن ننظر إلى الأمور كما هي عند الله تعالى، وأن نقيس الأمور بمقياس الشرع، ونزنها بميزانه لا بميزان الدنيا وميزان الناس، ولنضرب أمثلة أخرى، نستعيد فيها هذا التصور، ونربي أنفسنا بها على التطلع إلى الأمور وتحليلها وتقويمها بحسب ما هي عند الله لا بحسب ما هي عند الناس.(145/2)
الهزيمة في أحد وحادثة الإفك
لقد كانت وقعة أحد هزيمة عظيمة، وألماً وجرحاً دامياً، ومرارة تجرع غصتها المسلمون في سبعين قتيلاً من خيارهم، علماء وقادة وشجعان فقدهم المسلمون، وحصل من وراء ذلك أرامل وأيتام صاروا عبئاً إضافياً على المسلمين؛ لفقد الكاسب والمعيل، هذه مات زوجها، وهذه مات أبوها، وهذه مات أخوها، وهذه مات أبوها وزوجها وأخوها.
ولكن كان ذلك عند الله سبحانه وتعالى بميزان آخر، قال الله عز وجل: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141] {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179] {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154] {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران:166 - 167].
إذاً: الله سبحانه وتعالى أراد من وراء هذه الهزيمة أموراً، أراد كشف المؤمنين وتبيان حالهم، وإظهار أمرهم في الواقع ليطابق الواقع علم الله الأزلي بشأنهم، وأراد الله كشف أستار المنافقين وتعرية موقفهم، وإظهارهم للمؤمنين ليحذروهم، وأراد الله أن يميز الخبيث من الطيب، فالله سبحانه وتعالى لا يرضى بأن يكون الأمر مختلطاً، وتتلبس الأمور، يريد اللهُ أن يهلك من هلك عن بينه، وأن يحيا من حيَّ عن بينه.
يريد الله تمييز الصفوف، يريد الله كشف الحقائق وإظهار البواطن، فأظهر المؤمنين الصادقين الثابتين المطيعين، وأظهر المنافقين المنسحبين، وكذلك أراد الله بهذه المعركة أن يتخذ شهداء لم يكونوا ليصلوا إلى مرتبة الشهادة بغير هزيمة أحد، هذا العدد الكم الكبير سبعون قتيلاً من المسلمين، شهداء عند الله، أراد الله حكماً، أراد الله أموراً مع أن الهزيمة بالنسبة للمسلمين في الظاهر شر كبير.
حادثة الإفك اعتبرها الناس شراً؛ لأن فيها إيذاءً للنبي صلى الله عليه وسلم، وبلبلة عظيمة حصلت في المجتمع المسلم، قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11] فيها تمحيص وثبات المؤمنين، وكف ألسنتهم، وفيها انزلاق ألسنة المنافقين ومن ضعفت نفسه، وتعليمه درساً عظيماً لئلا يتابعهم فيما يُستقبل، ورفع منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عائشة وتبرئتها في القرآن، وأمور أخرى عظيمة كانت في تلك الواقعة.(145/3)
فضل الشهداء ومنزلة الفقراء
الشهداء بالنسبة إلينا ما هم؟ إنهم أموات، ماتوا وذهبوا، وفارقت أرواحهم أجسادهم، لكن يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154] الشهداء عند الله أحياء، وعندنا أموات: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].
انظروا إذاً -أيها الإخوة- للاختلاف بين ميزان الله وميزان البشر، الشهداء أحياء عند الله، وعندنا أموات، نحزن لفراقهم، وهم عند الله تعالى أحياء فرحون جداً بما وجدوا من كرم الله تعالى، وهم يفضلون ما عند الله على ما عندنا بالتأكيد، لكننا نحن نحزن لأجلهم، ولفراقهم.
من الموازين التي يظهر فيها الاختلاف أيضاً، ميزان العطية والمنحة، والحرمان والقلة، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:15 - 16] قدر عليه رزقه: أي: ضيق.
ماذا قال الله عن هذا الميزان البشري الدنيوي؟ قال: {كَلَّا} [الفجر:17] أي: ليس الأمر كذلك، لأنه إذا أعطى عبداً وأكرمه ونعمه فإن ذلك لا يقتضي أنه راض عن هذا العبد، بل إنه يعطي الكفار والفساق والفجرة والعصاة أعطيات عظيمة، لماذا؟ هم عند الناس: رب أكرمن، يقولون: الله أكرمهم، ولكن عند الله استدراج: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178].
لا حظ الفرق يا أخي! لاحظ الفرق لتعتبر، فالمسألة تحتاج إلى نظر وفقه، عند الناس يقولون: هذا أكرمه الله عز وجل ونعمه بهذه الملايين، وهذه النعم، لكن يقول الله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178] هل هذه كرامة ونعمة؟ لا.
بل هذه نقمة وشر، واستدراج، إذا رأيت العبد مقيماً على معصية الله والله يعطيه، فاعلم أنما هو استدراج، وفي المقابل إذا حُرم شخص من نعمة مال ومن دنيا، فإن هذا ليس دليلاً على أن الله يريد أن يهينه، كما يظنه بعض الناس بميزانهم الدنيوي البشري، كما قال تعالى عنهم: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر:16 - 17] لأن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، والقلة له خير من الكثرة، والكثرة يشتغل بها عن الطاعة وعن دينه فيهلك.(145/4)
الأنساب وأشرفها في الإسلام
مسألة الأنساب ودرجات القبائل، ماذا تعني عند الناس؟ وماذا تعني عند الله؟ روى البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم؟) -كانت قضية القبلية والنعرات والتفاخر بالأنساب مسألة لها ثِقَلٌ كبير ووزن عظيم عند العرب، (قالوا: أي الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم) فأجابهم بميزان الشرع، (قالوا: ليس عن هذا نسألك) يريدون شيئاً معيناً، الأنساب والقبائل، أي: أيُّ القبائل أعظم والأنساب أعظم وأعلى؟ قال: (فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله) يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام.
(قالوا: ليس عن هذا نسألك؟ قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا) إذاً الذي هو شريف في الجاهلية، إذا أسلم وتفقه -شرطان- إذا أسلم وتفقه فهم خياركم في الإسلام.
وروى أحمد رحمه الله حديثاً حول هذا المعنى، عن عمر بن عبسة السلمي، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض يوماً خيلاً، وعنده عيينة بن حصن بن بدر الفزاري، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أفرس بالخيل منك، فقال عيينة وكان من أهل نجد: وأنا أفرس بالرجال منك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وكيف ذاك؟ -هذا رجل من الأعراب جاء حديث عهد بإسلام- قال هذا الأعرابي: خير الرجال رجال يحملون سيوفهم على عواتقهم، جاعلين رماحهم على مناسد خيولهم -لاحظ الوصف- لابسوا البرود -البرد الكساء المخطط- من أهل نجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت) لأن قبائل الحجاز مع النبي صلى الله عليه وسلم أسلموا قبل غيرهم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينبه إلى هذا المعنى فقال: (كذبت، بل خير الرجال رجال أهل اليمن، والإيمان يمان إلى لخم وجذامة وعاملة، ومأكولُ حمير خير من آكلها، وحضرموت خير من بني الحارث، وقبيلة خير من قبيلة، وقبيلة شر من قبيلة، والله ما أبالي أن يهلك الحارثان كلاهما، لعن الله الملوك الأربعة جمداء ومخوساء ومشرخاء وأبضعة وأختهم العمردة -وكانوا كفرة- ثم قال: أمرني ربي عز وجل أن ألعن قريشاً مرتين فلعنتهم -مثلما دعا عليهم بالقحط والسنين، والدعاء عليهم من اللعنة- وأمرني أن أصلي عليهم فصليت عليهم مرتين، ثم قال: عصية عصت الله ورسوله، غير قيس وجعدة، ثم قال: لأسلم وغفار ومزينة وأخلاطهم من جهينة خير من بني أسد وتميم وغطفان وهوازن عند الله عز وجل يوم القيامة) إلى آخر الحديث.
قال الهيثمي رحمه الله: رواه أحمد متصلاً ومرسلاً، ورواه الطبراني ورجال الجميع ثقات.
أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين لهذا الرجل الأعرابي، أن خير القبائل الذين سبقوا إلى الإسلام، هؤلاء خير القبائل في ذلك الوقت -وقت النبوة- من الذي سبق إلى الإسلام؟ مزينة وبعض جهينة، مزينة: قبائل أسلم وأهل اليمن الذين جاءوا مسرعين يريدون العلم، الذي رفضه غيرهم من كبار القبائل؛ هؤلاء أفضل، لماذا؟ في التصنيف القبلي عند بعض أهل الجزيرة هم أدنى، لكن عند الله وعند النبي صلى الله عليه وسلم بين له أنهم خير من كثير من القبائل، لأنهم أسلموا قبل غيرهم.
وكذلك من بني تميم من هو أشد هذه الأمة على الدجال كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (سيكونون في آخر الزمان خير الناس؛ لأنهم أشد الناس على الدجال) ولما تابعوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وغيرهم من أهل نجد كانوا خيراً من غيرهم من المشركين، وغيرهم من الذين رفضوا الدعوة في وقتهم، إذاً -أيها الإخوة- معيار القبائل والأنساب الذين سبقوا إلى الدين وآمنوا به، هذا هو المعيار.(145/5)
الأعمال بالخواتيم
العمل في الظاهر قد يكون بالنسبة إلينا عظيماً، لكن عند الله شيئاً آخر باعتبار النهاية، باعتبار الشيء الخفي الذي يكون في قلب صاحبه ونحن لا ندركه في الظاهر، والله يعلمه، روى البخاري رحمه الله تعالى (عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتتلوا، فلما مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عسكره، ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا أتبعها يضربها بسيفه فقال الناس: ما أجزى منا اليوم أحد كما أجزى فلان -ما أحد عمل مثل هذا الرجل منا معشر المسلمين- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه من أهل النار).
شيء عجيب! شخص يقاتل مع المسلمين ويبلي بلاء حسناً، وهو شجاع للغاية، ولا يدع للكفار شيئاً إلا ضربه، ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أما إنه من أهل النار فقال رجل من القوم: أنا صاحبه) أي: واحد من المسلمين تبرع أن يلازم هذا الرجل؛ ليعرف الحقيقة ويأتيهم بخبره- فخرج معه، كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: (فجرح الرجل جرحاً شديداً، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض، وذبابه -أي: رأس السيف وطرفه الحاد- بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه).
ما هي النهاية؟ انتحار! فخرج الرجل هذا الملاصق المراقب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: (وما ذاك؟) قال: الرجل الذي ذكرت آنفاً أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك، فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه، ثم جرح جرحاً شديداً، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة).
وذلك لأن الأعمال بالخواتيم، فنحن قد نحكم على شخص بأنه من أهل الجنة ونظن ذلك، وعن آخر أنه من أهل النار، وننسى قضية الخاتمة، فلننتظر إذاً.
ولذلك من القواعد عند أهل السنة والجماعة: ألا نحكم لمعين بجنة ولا بنار إلا من حكم عليه أو حكم له الشارع، وهذا الرجل الذي وردت قصته في هذا الحديث، الذي قتل نفسه وانتحر مثال على قضية الاعتبار بالخواتيم.
مسألة الدنيا عندنا -أيها الإخوة- الدنيا عندنا هي الأموال والعمارات، والقصور والبساتين، والزروع والثمار، والذهب والفضة، والمراكب، وهي تعني عندنا أشياء عظيمة ولهذا تثقل في نفوسنا، وهذا معروف ومشاهد في الواقع، ولا يحتاج إلى شرح: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14].
لكن الميزان عند الله في هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) لو كانت تساوي عند الله شيئاً، ما أعطى الكافر منها شيئاً، قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه.
حديث صحيح رواه الترمذي رحمه الله تعالى وغيره، يبين لنا الميزان الحقيقي عند الله تعالى لهذه الدنيا، كل هذه الدنيا بما فيها من ألوان النعيم؛ من ناطحات سحابها إلى ما تحت التراب من المعادن والثمار لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وعندنا كم تساوي؟! انظروا إلى الفرق بين الميزان الإلهي والميزان البشري.
الغنى ما الغنى؟ الغنى: كثرة المال والمراكب والبيوت، هذا هو الغنى، الغنى: المادة، روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس) رواه البخاري ومسلم، ليس الغنى الزيادة في المادة، ولكن الغنى غنى النفس، لو جئت بأغنى أهل الأرض لو كان له واديان من ذهب فإنه يريد الثالث، ما شبع ولن يشبع أبداً.
فهو ليس مطمئن النفس، والغني حقيقة هو المستغني عن الناس والذي لا يتطلع إلى شيء، والذي نفسه راضية مطمئنة: (ولكن الغنى غنى النفس) الذي لا يأسف على الدنيا إذا فاتت، ولا يفرح إذا جاءت، هذا هو الغني حقيقة، المتنعم بحياته، وصاحب راحة البال والمطمئن: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس).
الناس إذا رأوا ما عند الأغنياء تطلعوا ومدوا أعينهم: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] ماذا قال الذين أوتوا العلم والذين يُعملون الميزان الإلهي، ولا ينخدعون بالمنظُور البشري؟ {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:80 - 81].
كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً أن يبين للناس أن قضية الكثرة ليست اعتباراً شرعياً، فكان يقول لهم: (الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال: هكذا وهكذا وهكذا) أي: الغني الذي ينفق ماله من اليمين والشمال في جميع الاتجاهات وجميع سبل الخير، وكلما عرضت فرصة أنفق، لا يبالي بما ينفق، وينفق بلا حساب، ولا تعلم يمينه ما تنفق شماله: (الأكثرون -أي: في الدنيا- هم الأقلون يوم القيامة).(145/6)
بين حقيقة الربح وصورته
الربح في المنظور الدنيوي يعني أن تحصل الزيادة على رأس المال، وكلما كانت الزيادة أكثر كنت في المنظور البشري رابحاً أكثر، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة:207] ولهذا سبب نزول، قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة: [نزلت في صهيب بن سنان الرومي، وذلك أنه لما أسلم بـ مكة وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل، فتخلص منهم وأعطاهم ماله، فأنزل الله فيه هذه الآية، وذهب إلى المدينة، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف المدينة في الحرة، فقالوا: ربح البيع، فقال: وأنتم، فلا أخسر الله تجارتكم، وما ذاك؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية].
وروى ابن مردويه كما ذكر ابن كثير رحمه الله تعالى عن أبي عثمان النهدي (عن صهيب قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالت لي قريش: يا صهيب! قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج أنت ومالك؟!!) -مستحيل لا يمكن، جئتنا فقيراً صعلوكاً، فاشتغلت عندنا بـ مكة وحصلت أموالك، ثم تريد أن تخرج الآن إلى المدينة أنت ومالك، (والله لا يكون ذلك أبداً، فقال لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي، تخلون عني، قالوا: نعم) -إنهم أناس دنيويون يأخذون المال ويتركون الشخص- (فدفعت إليهم مالي، فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ربح صهيب ربح صهيب!) وفي رواية: (ربح البيع ربح البيع).
ترك كل الممتلكات والأموال وما بقي له شيء، خرج بثيابه فهذا يعتبر عندنا خسراناً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ربح البيع، ربح صهيب) والله ينزل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].
إذاً عند الشارع كونه يهاجر ويترك بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، وينصر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ويذهب ليقيم في المدينة، ويتعلم العلم ويجاهد مع الصحابة، ولو خسر كل ماله، فإن ذلك هو الربح الحقيقي، فانظروا -رحمكم الله- إلى الفرق بين الميزان الإلهي والميزان البشري، ونحن يجب علينا أن نتحرر من هذه الموازين الأرضية، وأن نسلك سبيل الموازين الشرعية.
لما استقرت هذه الحقيقة في نفوس الصحابة تصدقوا بأموالهم، فهل عرفتهم أحداً يذهب اليوم إلى رصيد ماله في البنك، وينظر ماذا في الرصيد، مائة ألف مثلاً يأخذ خمسين ألفاً ويتصدق بها (نصف المال)؟ لا نقول: مستحيل، لكن ليس أمراً معروفاً على الإطلاق.
الصحابة لما استقرت في نفوسهم قضية الموازين الإلهية، والنظرة الشرعية إلى الأمور؛ أبو بكر تصدق بماله كله، وعمر تصدق بنصف ماله، وأبو طلحة كان أكثر الأنصار بـ المدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد (موقع استراتيجي) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويشرب من ماء فيها، وبها ثمار يانعة وماء طيب وموقع مهم، قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، -أنفس مال عندي- وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله).
ذهب إلى العالم ليتصرف له بالمال، لأن العالم يعرف أكثر من الغني أي المجالات أكثر أجراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بخ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح!) رجل ذهب أنفس ما عنده من المال أين الربح؟! وهذه القصة في البخاري.
وروى أحمد وهو حديث صحيح أن أبا الدحداح باع حائطه كله بنخلة، لأنه سمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لرجل: (أعطها إياه بنخلة في الجنة) أي: ليتيم كان ينازعه فيها.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب النخلة: (أعطه النخلة ولك نخلة في الجنة فرفض، فسمع أبو الدحداح فقال: أعطيك بستاني كله بهذه النخلة، فوافق -صفقة ممتازة ورابحة- فأعطاه وبادله، وجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله! قد ابتعت النخلة بحائطي، قال: اجعلها له).
إذاً: لا الثمن ولا السلعة، ما بقي عنده شيء، فقال عليه الصلاة والسلام: (كم من عذق رداح لـ أبي الدحداح في الجنة قالها مراراً) قال: فأتى امرأته فقال: (يا أم الدحداح! اخرجي من الحائط -من البستان- فإني قد بعته بنخلة في الجنة، فقالت: ربح البيع، أو كلمة تشبهها).
إذاً الرجل والمرأة البيت المسلم تأسس على هذا الأساس، على أساس الأخذ بالميزان الشرعي، وبما عند الله لا بما عند الناس، فالمرأة قالت: صفقة رابحة، اعتبرتها رابحة ووافقت زوجها.
أنت إذا ذبحت شاة وتصدقت بجزء منها وبقي لك جزء ما هو معيارك في النظر إلى الشيء الباقي والشيء الذاهب؟ الشيء الذي تصدقت به ذهب، والذي بقي هو ما عندك حقيقة، لكن عند الله تعالى المسألة تختلف، روى الترمذي عن عائشة: (أنهم ذبحوا شاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: ما بقي منها؟ فقالت: ما بقي منها إلا كتفها -تصدقنا بكل الشاة المذبوحة ما أبقينا إلا الكتف، لأنها تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب الكتف- فقال عليه الصلاة والسلام -العبارة العظيمة-: بقي كلها غير كتفها) وذلك لأن الكتف سيؤكل بعد قليل ويذهب، إذاً ما الذي بقي حقيقة؟ الذي تصدقوا به هو الذي بقي.
إذاً: هو هذا المعيار الشرعي، قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) عند الله هذا هو المفلس.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا بدينه فقهاء، وأن يجعلنا بأحكامه عالمين، وعلى سنة نبيه سائرين، وبحبله مستمسكين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(145/7)
حقيقة الربا خسارة
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا هو لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، أنزل الميزان، وأنزل الكتاب ليحكُم الناس بالقسط، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: لازلنا نقول: إن معيار الكثرة والقلة يجب أن يضبط بميزان الشرع، يظن الناس أن الأكثرية على صواب، وبناءً على هذا قام مذهب الديمقراطية الأرضي، ولكن الله يقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].
إذاً مبدأ الأكثرية لا يعني دائماً أن الحق معه، بل في الغالب أن الناس إذا تركوا إلى شهواتهم، فإن أكثرهم يختار الباطل، كما ذكر الله في كتابه، فليست الأكثرية دليلاً على الحق ولا على الصواب، لأن الناس في الغالب عبيد لأهوائهم وشهواتهم.
مسألة الربا في المنظار الدنيوي زيادة وكثرة، وفي المنظار الشرعي قال عليه الصلاة والسلام: (الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل) حديث صحيح.
أي بما يفتح على المرابي من المغارم والمهالك، وإن كان الربا زيادة في المال عاجلاً، فإنه يئول إلى نقص ومحق آجل.
وروى هذا الحديث ابن ماجة بلفظ: (ما أحد أكثر من الربا، إلا كان عاقبة أمره إلى قلة) ينقص مال المرابي ويذهب ببركته.
عندنا في الميزان الدنيوي وفي المنظور البشري المليون (70%) فيها زيادة سبعين ألفاً، قلت لرجل: أين فلان؟ قال: مقيم في الخارج، أينفق عليه أبوك؟ قال: لا.
قلت: من ينفق عليه؟ قال: عنده ملايين الريالات يضعها في الخارج في البنوك، ويعيش من فوائدها، ينقلها بين المصارف أيهم يعطيه أكثر، وهو مرتاح البال، المال مضمون والفوائد تأتي، ويعيش في الخارج، يضع (7.
000.
000) ملايين مثلاً في البنك، يأتيه في السنة نصف مليون، ينفق في كل شهر (40.
000) ألف ريال ما يحتاج أكثر من هذا.
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] والنبي صلى الله عليه وسلم بين عذابهم في البرزخ: (رجل يسبح في نهر الدم يأتيه شخص يلقمه حجراً، فيسبح ويعود ويلتقم الأحجار واحداً وراء واحد) وفي الآخرة يحارب الله تعالى ولا قدرة له بمحاربته، والله تعالى سيحربه ويغلبه وإلى جهنم وبئس المهاد، مع أنها في الدنيا وفي المنظور البشري زيادة مضمونة، ورأس المال مضمون وكل شيء مريح.
مسألة العلم الشرعي، كلمة العلم عند الناس، إذا قلت: هذا قسم علمي، وهذه جامعة علمية، إلى أي شيء تنصرف أذهانهم؟ إلى العلم الدنيوي، أي: عالم ذرة، أو عالم فلك، أو عالم فيزياء، جامعة علمية، أي: هندسة أو طب، قسم علمي، أي: فيزياء وكيمياء ورياضيات، لكن هذه العلوم عند الله ظاهرية، قال الله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
العلم الحقيقي إذاً هو العلم بالله وبالآخرة، وهذا الذي يُصلح السلوك، لكن علم الذرة والفلك لا يصلح السلوك، ولا يجعل صاحبه يعمل لليوم الآخر.
هؤلاء المخترعون الغربيون كم منهم أسلم؟ قلة نادرة، الباقون اخترعوا وإلى جهنم وماتوا على الكفر، مع الأخذ ببقية الضوابط الشرعية من بلوغ الدعوة إلى آخره.
إذاً العلم الحقيقي، والمستوى العالي من العلم، والعلم النفيس، هو العلم بالله وآياته وسنة نبيه واليوم الآخر، هذا هو العلم، الفقه في دين الله تعالى هو العلم، مع أنك لا ترى الناس عندهم هذا المفهوم بشكل واضح وصريح.(145/8)
من هو الرقوب الحقيقي؟
مثال أخير: نختم به كلامنا والموضوع لازال، ولازال فيه أشياء: الذي فقد ولده في الميزان الدنيوي والبشري، ماذا يعتبر؟ حلت به كارثة أو مصيبة، لكن الذي فقد ولده عند الله شيء آخر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الرقوب فيكم؟ قلنا: الذي لا يولد له -الرقوب في اللغة: الرجل والمرأة الذي لم يعش لهما ولد، لأنه يرقب موته ويرصده خوفاً عليه- قال: ليس ذاك بالرقوب، ولكنه الرجل الذي لم يقدم من ولده شيئاً، قال: فما تعدون الصرعة فيكم؟ قلنا: الذي لا يصرعه الرجال، قال: ليس بذلك، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب) رواه مسلم.
نعود إلى قضية الرقوب، ولفظ أحمد: (شهد رجل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقال: تدرون ما الرقوب؟ قالوا: الذي لا ولد له، فقال: الرقوب كل الرقوب ثلاثاً، الذي له ولد فمات -الأب- ولم يقدم منهم شيئاً) هذا هو الرقوب.
وعن بريدة بن الحصيب، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعهد الأنصار ويعودهم ويسأل عنهم، فبلغه عن امرأة من الأنصار مات ابنها وليس لها غيره، وأنها جزعت عليه جزعاً شديداً، فأتاها النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، فلما بلغ باب المرأة، قيل للمرأة: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يدخل يعزيها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما إنه بلغني أنك جزعت على ابنك، فأمرها بتقوى الله وبالصبر، فقالت: يا رسول الله! ومالي لا أجزع، وإني امرأة رقوب لا ألد، ولم يكن لي غيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرقوب الذي يبقى ولدها، ثم قال: ما من امرئ أو امرأة مسلمة يموت لها ثلاثة أولاد يحتسبهم إلا أدخله الله بهم الجنة، فقال عمر وهو عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي واثنين، قال: واثنين) رواه الحاكم وهو صحيح الإسناد، وأخرجه البزار وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
فإذاً النبي عليه الصلاة والسلام يريد أن ينقل مفهوم كلمة الرقوب إلى شيء آخر غير الذي في الأذهان، أن الذي قدم شيئاً من الولد واحتسبه عند الله تعالى هو الرابح، والذي لم يقدم شيئاً من الولد في حياته فيفوته ثواب الصبر والتسليم عند فقد الولد، فنحن لا نتمنى فقد الأولاد ولا ندعو الله بأخذهم أبداً، وقد نهينا عن ذلك، ولكن إذا حصل نصبر، وماذا تكون نظرتنا لمن مات أولاده؟ أنه كاسب رابح إذا صبر وسلم لقضاء الله.
أحد الإخوان حصل له حادث، وضربت سيارته من الخلف، فمات أولاده الثلاثة في المقعد الخلفي في حادث واحد مريع، حتى نزلوا يجمعون الجثث، وهذا مخ الرأس، وهذه الأشلاء والجثث، مصيبة واقعة وكارثة كبيرة جداً، كل الذكور ماتوا في حادث واحد وضربة واحدة، بالنسبة لنا كارثة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لكن عند الله يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ذراري المؤمنين عند إبراهيم وسارة يكفلانهما لآبائهما) يوم القيامة إبراهيم يرجع كل واحد مات وهو صغير لأبيه وأمه، كما جاء في الحديث الصحيح أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فكفالة إبراهيم وسارة -أو سارّة لأنها كانت تسر إبراهيم بجمالها من عظمه- أحسن من كفالتك.
إذاً: القضية الفرق بين الميزان البشري وما عند الله، فلو أننا آمنا بهذه الأشياء ستتغير سلوكياتنا وأعمالنا وأحوالنا تغيراً جذرياً، وهذا هو المهم -أيها الإخوة- وهو الذي أردنا لفت النظر إليه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أصحاب البصيرة، اللهم اجعلنا من أصحاب البصيرة يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك الأمن والأمان لنا ولجميع المسلمين، اللهم احفظنا واحفظ أموالنا وأهلينا من كل سوء يا رب العالمين!(145/9)
عبر وعظات من حياة الإمام الشافعي
لوجود القدوة في المجتمع أهمية بالغة، ودراسة حياة العظماء تيسر للجيل الاقتداء بهم، وسلوك سبيلهم.
وللإمام الشافعي شخصية فذة، يجد المطالع لحياته كثيراً من شمائله وخصاله الحسنة، وهذه المادة تسلط الضوء على ولادة الشافعي ونشأته، وطلبه للعلم ونبوغه، وأخلاقه وثناء العلماء عليه، وغير ذلك من الجوانب المتعلقة به.(146/1)
الشافعي وبعض ميزاته
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأحييكم في هذه الليلة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على عبادته وذكره وشكره، وأن يعفو عنا فيما قصرنا وأذنبنا في حقه سبحانه وتعالى.
الحمد لله الذي جعل نجوم السماء هداية للحيارى في البر والبحر من الظلماء، وجعل نجوم الأرض -وهم العلماء- هداية من ظلمات الجهل والعمى، وفضل بعضهم على بعض في الفهم والذكاء، كما فضَّل بعض النجوم على بعض في الزينة والضياء، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء، وعلى آله وصحبه الأتقياء، صلاةً وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.
وبعد أيها الإخوة! فإن موضوعنا في هذه الليلة عن شيء من العبر والعظات من حياة الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى، ومن حق سلفنا علينا أن نتعرف على سيرهم، وأن نقف مع أحداث حياتهم، وخصوصاً إذا كنا نريد طلب العلم، فإن القراءة في حياة أهل العلم لاشك أنها من الأمور التي تكسب طالب العلم أدباً وفقهاً وخشوعاً وإعجاباً بهؤلاء، والخير في هذه الأمة لا ينقطع ولله الحمد، ولكنه كان كثيراً في أولها.
إن هذه الأمة جعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وفتنة، والمطلوب منا هو الصبر على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم حتى نلقاه، والتفقه في هذا الدين؛ لأن التفقه في الدين من الواجبات.
إن حياة هذا الإمام -رحمه الله تعالى- حياة حافلة، ولاشك أنه من المجددين، وهو من الأئمة الذين كانوا يهدون بأمر الله وصبروا على ذلك، ولاشك أنه كان للمتقين إماماً ولا يزال، وقد عدَّه كثير من أهل العلم من المجددين، ولاشك أنه أول من كتب في أصول الفقه في كتابه الرسالة، وكانت حياته -رحمه الله تعالى- مليئة بالعبر والعظات.
وأما حياته، فإنه رحمه الله تعالى- كما هو معلوم لكثير من الإخوان- كان قد توفي في مصر، كما ذكر أهل العلم عنه في مسألة نسبه ومولده، فإنه قد ولد بـ غزة في سنة (150هـ) وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وكان في أول عمره في عسقلان وبها ولد، وغزة وعسقلان شيء واحد، ولما بلغ سنتين حولته أمه إلى الحجاز، ودخلت به إلى قومها وهم من أهل اليمن؛ لأن أمه كانت أزدية من الأزد، فنزلت عندهم، فلما بلغ عشراً خافت على نسبه الشريف أن ينسى ويضيع، فحولته إلى مكة.
وقد اتفق أهل العلم على أن الشافعي رحمه الله ولد سنة (150هـ) وهي السنة التي توفي فيها الإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، وقال الشافعي عن نفسه: قدمت مكة وأنا ابن عشر أو شبهها، فصرت إلى نسيب لي إلى آخر القصة.(146/2)
الشافعي قرشي مطلبي
لاشك أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى من جهة النسب، كان عربياً قرشياً، ولاشك أن هذه ميزة، وهو يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف، فإن اسم الشافعي هو: محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي إلى آخر النسب المعروف، فهو يجتمع مع الرسول صلى الله عليه وسلم في عبد مناف.
إذاً: الشافعي قرشي، وهو ينسب إلى جده شافع بن السائب، وهو لاشك أنه مطلبي، وبما أنه قرشي فنحن نعلم ميزة قريش التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (أن الله قد اصطفاهم من قبائل العرب) ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال أيضاً: (تعلموا من قريش ولا تعلموها، وقدموا قريشاً ولا تؤخروها، فإن للقرشي قوة الرجلين من غير قريش) أي: في الرأي، وهذا من الأشياء التي تدل على نباهة هذا الإمام القرشي الشافعي، وأن عقله كان فيه من الكمال أمر عظيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعلموا من قريش ولا تعلموها).
ولأن القرشي فيه من رجاحة العقل أكثر من غيره ولذلك كان الأئمة من قريش، فالشرط في الخليفة شرعاً أن يكون قرشياً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قدموا قريشاً ولا تؤخروها، وتعلموا من قريش ولا تعلموها، ولولا أن تبطر قريش لأخبرتها مال لخيارها عند الله تعالى) وقد رواه الطبراني رحمه الله، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (من أهان قريشاً، أهانه الله).
وقريش أول الناس من العرب موتاً، وأسرعهم فناءً وزوالاً، فـ الشافعي رحمه الله إذاً هو إمام قرشي، وأمه من الأزد، والأزد من اليمن وهم أصل العرب، ولاشك أن أهل اليمن كثير منهم قد أقام في بلاد الشام وفي أرض فلسطين وغيرها.
ومن طريف ما يحكى عن أم الشافعي من الحذاقة: أنها شهدت عند قاضي مكة هي وامرأة أخرى، فأراد القاضي أن يفرق بين المرأتين ليختبر صدق كل واحدة -يفرق بينهما فيسمع من هذه على حدة ومن الأخرى على حدة- فقالت له أم الشافعي: ليس لك ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة:282] إذاً لا يكون لك أن تفرق بيننا، قال ابن حجر رحمه الله: "وهذا فرع غريب واستنباط قوي".
وبالنسبة لكنيته فإن الشافعي رحمه الله تعالى يكنى بـ أبي عبد الله، وقد تزوج، وله أولاد، واستدل عدد من أهل العلم بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) بأن الشافعي هو المجدد في المائة الثانية، وعمر بن عبد العزيز هو المجدد في رأس المائة الأولى.
والبحث في موضوع التجديد طويل، والتجديد الصحيح أنه يتجزأ، فمن الناس من يبعثهم الله ليجددوا للأمة في الحديث، ومنهم من يجدد في الفقه، ومنهم من يجدد في أصوله، ومنهم من يجدد في الجهاد وهكذا، وقد تجتمع نواحي التجديد كلها في شخص واحد كما حصل في عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه.
ومن الرؤى التي رؤيت ما جاء عن ابن عبد الحكم، وهو من مشاهير تلاميذه، قال: لما حملت أم الشافعي رأت كأن المشتري خرج منها حتى انقض بـ مصر، ثم وقع في كل بلد منه شظية، وهذا فيه إشارة إلى انتشار علم الشافعي رحمه الله تعالى في أرجاء المعمورة، وأن علمه سيدخل البلدان.(146/3)
ولادة الشافعي في عسقلان وتربيته في الصحراء
وولادته بـ عسقلان أيضاً ميزة؛ لأنها من الأرض المقدسة التي بارك الله فيها، وذكرنا أنه حمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وتوفي بـ مصر سنة (204هـ) وهو ابن (54) سنة في آخر يوم من شهر رجب سنة (204هـ).
وكان من أمر الشافعي رحمه الله تعالى في بداية أمره أنه دخل في الصحراء وجلس إلى العرب يستمع منهم ومن أخبارهم، حتى بلغ عشرين سنة، وهذا كان من الأسباب التي جعلت لغته قوية جداً، وحفظ من الشواهد المهمة في تفسير النصوص ومعرفة التنزيل شيئاً كثيراً، حتى أنه كان يحفظ نحواً من عشرين ألفاً من الشواهد، ولاشك أن هذا قد ساعده كثيراً في مسألة فهم الكتاب والسنة.
ولاشك أن طفولة الشخص من الأشياء التي تؤدي إلى نبوغه وبراعته، فنحن نأخذ من هنا درساً وفائدة، وهي أن الإنسان المسلم إذا أراد أن يعد ولده لأن يكون طالب علم، فلابد أن يعتني بنشأته، وأن يبذل من الأسباب ما يجعل هذا الولد من المتفوقين في هذا الجانب، ولاشك فإن طلب العلم الشرعي من أعظم الأمور.
وكان الشافعي رحمه الله تعالى قد رزق فطنة كبيرة، وقد رزق أيضاً ذكاءً وحفظاً، حتى أنه قال عن نفسه: كنت أنا في الكُتاب أسمع المعلم يلقن الصبي الآية فأحفظها، ولقد كنت أسمع وهم يكتبون، فما أن يفرغ المعلم من الإملاء عليهم إلا وقد حفظت جميع ما أملى، فقال لي ذات يوم: ما يحل لي أن آخذ منك شيئاً- لا أخذ منك أجرة، وأنت بهذا النبوغ والحفظ- ثم لما خرجت من الكُتاب كنت أتلقط الخزف -وهو الآجر؛ الطين المشوي الذي يشوى لكي يكون صلباً- والدفوف وكرب النخل -أصول السعف الغلاظ من النخل -وأكتاف الجمال- وهي: العظام العريضة خلف المنكب وكانت تستعمل للكتابة- أكتب فيها الحديث، وأجيء إلى الدواوين فأستوهب منها الظهور -وهي الأوراق- وأكتب فيها، حتى كانت لأمي حباب فملأتها أكتافاً -والحباب: الجرار جمع جرة، كان عندها جرار فملأها من هذه الأشياء المكتوبة- ثم إني خرجت عن مكة، فلزمت هذيلاً في البادية أتعلم كلامها وآخذ طبعها، وكانت أفصح العرب، فبقيت فيهم سبع عشرة سنة، مع السنتين التي قضاها في مكة قارب العشرين، فرجع إلى مكة وقد حفظ شيئاً عظيماً.(146/4)
تحول الإمام الشافعي من الشعر إلى الفقه
كان اهتمام الشافعي في بداية أمره بالأشعار، وهذا نجده موجوداً عند بعض الشباب، أنهم يستغلون حافظتهم في حفظ الأشعار، ويكون لهم اتجاهات أدبية، ولكن قد يقدر الله سبحانه وتعالى شيئاً يجعل اتجاه الشخص يتغير، وقد حدث للشافعي رحمه الله في هذه الفترة من حياته قصة كانت عبارة عن كلمة غيرت اتجاه هذا الرجل.
كان السبب في اتجاه الشافعي من الشعر والأدب إلى الفقه أنه كان ذات مرة يسير على دابة، فتمثل ببيتٍ من الشعر، فقال له كاتب كان لوالد مصعب بن عبد الله الزبيري: مثلك يذهب بمروءته في هذا! أين أنت من الفقه؟ -قال له: إن هذا يذهب بمروءتك، تعلم الفقه -فهزته هذه الكلمات- وبعدها قصد الشافعي رحمه الله مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة فلازمه، ثم قدم المدينة على الإمام مالك رحمه الله تعالى، ودرس الموطأ عنده.
إذاً توفيق الله عز وجل يكون من الأشياء التي تؤدي بطالب العلم إلى الاتجاه في طلب العلم، وقد يكون له اتجاهات أخرى.
بعض الناس لهم اشتغال بعلوم دنيوية، أو بأدب وشعر، أو بتجارة وأمور من الوظائف ونحوها، فيقدر الله سبحانه وتعالى حادثة تجعل الشخص يتجه إلى الاهتمام بطلب العلم، ولذلك لابد أن يطلب الإنسان من الله عز وجل التوفيق دائماً.(146/5)
رحلة الشافعي إلى مالك في المدينة
ولما قصد الشافعي رحمه الله مالكاً في المدينة، أخذ كتاباً معه من والي مكة إلى والي المدينة توصية، وجاء والي المدينة معه إلى مالك وهو متهيب، وهو يقول له: مالنا ولـ مالك، الشافعي يريد من الوالي أن يذهب معه إلى مالك ليكون هذا من نوع التوصية، فلما قصدوا مالكاً، تقدم رجلٌ فقرع الباب، فخرجت جارية سوداء، فقال لها الوالي: قولي لمولاك إني بالباب، قال: فدخلت فأبطأت ثم خرجت، فقالت: إن مولاي يقرئك السلام، ويقول: إن كانت مسألة فارفعها في رقعة يخرج إليك الجواب- هذا من عزة العلماء في ذلك الزمان- وإن كان للحديث- إن جئت لتسمع الحديث- فقد عرفت يوم المجلس فانصرف.
" اليوم المخصص للحديث أنت تعرفه.
فقال لها: قولي له: إن معي كتاب والي مكة إليه في حاجة مهمة، قال: فدخلت وخرجت وفي يدها كرسي، فوضعته، ثم إذا أنا بـ مالك قد خرج وعليه المهابة والوقار، وهو شيخ طويل مسنون اللحية -أي: طويل اللحية- فجلس وهو متطلس -لابس الطيلسان: كساء مدور لا أسفل له- فرفع إليه الوالي كتاباً، فبلغ إلى هذا: إن هذا رجلٌ من أمره وحاله، فتُحدثه وتفعل وتصنع، توصية للشافعي مكتوبة، فرمى مالك الكتاب من يده، ثم قال: سبحان الله! أو صار علم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ بالوسائل؟! -أي: الوساطات- قال: فرأيت الوالي وقد تهيبه أن يكلمه، فتقدمت إليه وقلت: أصلحك الله، إني رجل مطلبي، ومن حالي وقصتي، وأخبره، فلما سمع كلامي نظر إليّ ساعة، وكان عند مالك فراسة، فقال لي: ما اسمك؟ قلت: محمد، قال لي: يا محمد! اتق الله واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشأن، هذه من فراسة مالك رحمه الله تعالى، وفي رواية أنه قال له: إن الله عز وجل قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعاصي.
وطلب الشافعي من مالك أن يقرأ عليه، قال له: لابد لك من مقرئ، لا تقرأ مباشرة على الشيخ، تقرأ على تلميذ الشيخ الذي ضبط كتاب الشيخ، فقال الشافعي -التمس من مالك - قال: اسمع مني ولو صفحة، فإن أعجبتك أواصل، وإلا فلا، فأمره أن يقرأ، قال: فبدأت أقرأ كتاب مالك رحمة الله عليه، فكلما تهيبت مالكاً وأردت أن أقطع القراءة وأقف، أعجبه حسن قراءتي وإعرابي، فيقول: يا فتى! زد، حتى قرأته في أيام يسيره، ثم أقمت بـ المدينة حتى توفي مالك بن أنس.
ثم ذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى إلى اليمن.
إذاً: جلس الإمام الشافعي إلى الإمام مالك، وسمع منه الموطأ، وهذا فيه فائدة وهي: 1 - الحرص على التلقي من الأكابر، طلب ما أمكن من أهل العلم الكبار، فإن لم يكن، فطلبة العلم الآخذين عن العلماء، وهذا أمر مهم جداً.
2 - عدم إذلال العلم، وإنما يعز:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
ولكن للأسف! فإن كثيراً من حملته لا يقدرون العلم حق قدره، فيضعونه عند الأسافل، ويكونون مطية لغيرهم من الفسقة والفجرة.
3 - أن من الأمور المهمة لطالب العلم الاعتناء بالإعراب، فإنه إذا قرأ على الشيخ ونحوه، وكان يلحن في قراءته، يرفع المنصوب، ويخفض المرفوع ونحو ذلك، كان ذلك منفراً للشيخ، حتى لا يريد أن يسمع منه شيئاً.
ثم انظروا -أيها الإخوة- إلى قدر الله سبحانه وتعالى الذي جعل الإمام الشافعي ينصرف من الشعر إلى الفقه، من جراء تلك الكلمة التي سمعها، فرضي من دينه ودنياه أن يكون معلماً، وأن تكون القضية قضية شعر، فوقر في قلبه ذلك الكلام، فالإنسان إذا وجد من يعظه ويوجهه فعليه أن يتوجه، ولاشك أن من صفات المسلم أن يقبل النصيحة.(146/6)
تصدر الإمام الشافعي للفتيا
كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى منذ صغره معروفاً بالنباهة، حتى قال مالك: "ما يأتيني قرشي أفهم من هذا الفتى".
وكان مسلم بن خالد الزنجي يقول للشافعي: "أفتي يا أبا عبد الله، فقد آن لك والله أن تفتي"، وهو ابن خمس عشرة سنة، وكان قد لقي مالكاً وعمره ثلاث عشرة سنة.
وقال إبراهيم بن محمد بن عباس: كنت في مجلس ابن عيينة والشافعي حاضر، فحدث ابن عيينة عن الزهري بحديث صفية والرجلين، وفيه: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) فقال ابن عيينة للشافعي: ما فقه هذا الحديث يا أبا عبد الله؟ وكان إذا جاءه شيء من التفسير أو الفتوى يسأل عنها التفت إلى الشافعي، فقال: سلوا هذا.
وقد أثنى العلماء عليه ثناءً عظيماً، وأثنى عليه من الأئمة الكبار يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، حتى قال يحيى بن سعيد القطان: "إني لأدعو الله للشافعي في كل صلاة، لما فتح الله عليه في العلم ووفقه للسداد فيه".(146/7)
سبب تأليف الشافعي لكتاب الرسالة
وأما بالنسبة لـ عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى فإنه قد كتب إلى الشافعي وهو شاب أن يصنع له كتاباً في معاني القرآن يجمع فيه قبول الأخبار، وحجية الإجماع، وبيان الناسخ من المنسوخ في القرآن والسنة، فكانت رسالة عبد الرحمن بن مهدي للشافعي هي السبب في تأليف الشافعي كتاب الرسالة المعروف والمشهور، وهو أول كتاب في أصول الفقه.
ويعتبر الشافعي رحمه الله هو أول من كتب في هذا العلم، فكان جواب الشافعي لـ عبد الرحمن بن مهدي هو كتاب الرسالة المجلد المعروف المطبوع الموجود، فلما وصل الكتاب إلى عبد الرحمن بن مهدي -وكان من كبار الأئمة- قال: "ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها".
وقال: "لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني؛ لأنني رأيت كلام رجل عاقل فصيح ناصح، فإني لأكثر الدعاء له".(146/8)
مكانة الشافعي عند أهل البدع
أيضاً كان المبتدعة يهابون الإمام الشافعي ويعرفون مكانته، فهذا بشر المريسي -وكان في بداية أمره على السنة ثم انحرف، نسأل الله الهداية والثبات- وكان بشر يرافق الشافعي، كان زميلاً له وكان يعرفه، ولكنه انحرف وصار من أهل البدعة، ولذلك لما جاء بشر المريسي وكان عنده أشياء من علم الكلام، قال بعضهم: كنا لا نقدر على مناظرته، فقدم الشافعي فأعطانا كتاب الشاهد واليمين، الحكم والقضاء بالشاهد ويمينه، فدرسته في ليلتين، ثم تقدمت إلى حلقة بشر، فناظرته فيه فقطعته- أي: أسكته وأفحمته- فقال بشر: "ليس هذا من كيسك، هذا من كلام رجل رأيته بـ مكة، معه نصف عقل أهل الدنيا"، يقصد الشافعي.(146/9)
وصف بعض العلماء للشافعي(146/10)
وصف يحيى بن أكثم للشافعي
وصفه يحيى بن أكثم فقال: كنا معاً عند محمد بن الحسن في المناظرة، فكان الشافعي رجلاً قرشي العقل والفهم والذهن، صافي العقل والفهم والدماغ، سريع الإصابة، ولو كان أمعن في الحديث لاستغنت به أمة محمد صلى الله عليه وسلم عن غيره من العلماء، ومعروف أن الشافعي رحمه الله لم يكن من المكثرين في جمع الحديث، وإن كان جمع في أشياء وله المسند، ولكنه لم يكن مثل الإمام أحمد رحمه الله الذي كان من المكثرين من جمع الحديث.(146/11)
وصف أحمد بن حنبل للشافعي
قال أحمد رحمه الله يصف الشافعي: قدم الشافعي فوضعنا على المحجة البيضاء.
يقول عبد الله بن أحمد: جاء الشافعي إلى أبي زائراً وهو عليل يعوده - الشافعي يعود أحمد مع أن أحمد من تلاميذ الشافعي، لكن الشافعي رحمه الله كان يعود تلاميذه- فوثب أبي إليه، فقبل ما بين عينيه، وأجلسه في مكانه وجلس بين يديه، مع أن أحمد كان مريضاً، فلما قام ليركب، راح أبي فأخذ بركابه ومشى معه.
وكان أحمد رحمه الله حريصاً على مجلس الشافعي كثيراً، وعلى الجلوس إليه، وكان ربما يفوت مجالس علماء ومحدثين كبار كـ ابن عيينة من أجل أن يجلس عند الشافعي، حتى قال بعض أهل العلم: حججت مع أحمد بن حنبل فنزلت في مكان واحد معه، فخرج باكراً وخرجت بعده، فدرت المسجد فلم أجده في مجلس ابن عيينة ولا غيره، حتى وجدته جالساً مع أعرابي، فقلت: يا أبا عبد الله! تركت ابن عيينة وجئت إلى هذا؟ فقال لي: اسكت، إنك إن فاتك حديث بعلو وجدته بنزول، لو فاتك ابن عيينة -تأخذ حديث ابن عيينة من تلاميذ ابن عيينة - وإن فاتك عقل هذا -أي: الشافعي - أخافك ألا تجده، ما رأيت أحداً أفقه في كتاب الله من هذا الفتى، قلت: من هذا؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي.
وقال أحمد رحمه الله: كان الفقه قفلاً على أهله، حتى فتحه الله بـ الشافعي، وقال أحمد أيضاً: ما أحدٌ مس محبرة ولا قلماً إلا وللشافعي في عنقه منة، وقال أحمد أيضاً: لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث، فـ الشافعي له فضل على أهل الحديث بتبيان معاني الحديث، والناسخ والمنسوخ، والجمع بين الأحاديث المتعارضة، وكان بعض العلماء مثل يحيى بن معين يستغربون من إقبال أحمد على الشافعي، حتى أن يحيى بن معين -مرةً- بلغه أن الإمام أحمد مشى مع بغلة الشافعي فأرسل إليه يعاتبه، فأرسل أحمد رداً يقول لـ يحيى: لو مشيت من الجانب الآخر كان أنفع لك.
أي: لو مشيت أنت من الجانب الآخر من البغلة كان أنفع لك.
فـ الشافعي رحمه الله رزق منهجاً سليماً، وفكراً ثاقباً، وحصافة وفطنة، وكانت أصوله في غاية الجودة، فسهَّل على أهل الحديث كثيراً فهم الأحاديث، صحيح أنه ما كان واسعاً جداً في طلب الحديث وجمعه، ولكن إذا بلغه يعرف وجهه، وكثيراً ما كان يقول: إذا صح الحديث هذا فأنا أمشي عليه؛ لأنه لم يكن يعرف صحته في بعض الأحيان، ولكن من تجرده وإنصافه- كما سيأتي- أنه كان يتبع الحديث.(146/12)
وصف الربيع بن سليمان للشافعي
قال الربيع بن سليمان: "لو وزن عقل الشافعي بنصف عقل أهل الأرض لرجحهم، ولو كان من بني إسرائيل لاحتاجوا إليه".
وكان الشافعي رحمه الله سبباً في توجيه بعض طلبة العلم المشتغلين بعلم الكلام إلى اتباع السنة، منهم الأئمة الكبار، مثل: أبي ثور رحمه الله تعالى، والحسين بن علي الكرابيسي، أبو ثور من كبار الفقهاء، وكذلك الحسين بن علي الكرابيسي كان أول ما اشتغل هؤلاء بعلم الكلام، وكانوا ينبزون بأهل الحديث.
ولما جاء الشافعي إلى العراق، قال أبو ثور للحسين بن علي الكرابيسي -وكانا من أهل الرأي، وربما تهكما بأهل الحديث، واعتبرا أن الرأي الذي عندهما هو القوي، وهو العلم- قال أبو ثور للكرابيسي: ورد رجلٌ من أهل الحديث يتفقه، فقم بنا نسخر منه -لأنهم يقولون: هؤلاء حملة آثار لا يفهمون شيئاً، فقط يحملون النصوص لكن لا يفهمونها- فذهبنا إليه، فسأله الحسين عن مسألة، فلم يزل يقل: قال الله، قال رسول الله، حتى أظلم عليهم البيت، فتركا ما كانا عليه واتبعاه.
تركا قضية الرأي واشتغلا بالنصوص والآثار، فكان له فضل على مثل هؤلاء.
وكان بليغاً جداً في المناظرة، حتى قال بعضهم: لو أن الشافعي ناظر على هذا العمود الذي من حجارة بأنه من ذهب لأقنعه بأنه من ذهب، وستأتي بعض قصص مناظراته.(146/13)
وصف يونس بن عبد الأعلى للشافعي
ومن الأمور المهمة التي حصلت للشافعي الجمع بين الفقه والحديث، وكان عذب المنطق جداً، حتى قال يونس بن عبد الأعلى: كانت ألفاظ الشافعي كأنها سكر، وقال: كنا إذا قعدنا حوله لا ندري كيف يتكلم، كأنه سحرٌ، وكان اطلاعه في الأنساب واسعاً جداً، حتى أن ابن هشام النحوي صاحب المغازي جاء فجلس إلى الشافعي، فذاكره أنساب الرجال، هذا يذكر نسب رجل، وهذا يذكر آخراً، فقال له الشافعي بعد أن تذاكرا: دع عنك أنساب الرجال فإنها لا تذهب عني وعنك، وخذ بنا في أنساب النساء، قال: ندخل في أنساب النساء، فلانة بنت من؟ قال: فلما أخذ فيها قعد هشام، أي: بقي هشام ساكتاً والشافعي مستمر في سرد أنساب النساء.(146/14)
وعظ الشافعي وعبادته
كان رحمه الله أيضاً واعظاً جيداً، وهذه من الأمور المهمة لطالب العلم، أن يكون بالإضافة لاشتغاله بالعلم مجيداً للوعظ؛ لأن الناس قد لا تتحرك قلوبهم بالمسائل العلمية، فلابد أن تُحرَّك بالوعظ، فقال بحر بن نصير: كنا إذا أردنا أن نبكي قلنا: اذهبوا إلى هذا المطلبي نقرأ القرآن، فإذا أتيناه استفتح القرآن، فتساقط الناس بين يديه، يكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته، فإذا رآهم كذلك أمسك عن القراءة، وهذه كانت طريقة السلف حتى لا يصاب بالعجب، الواحد منهم إذا أجاد في الشيء، فرأى إعجاب الناس توقف وأمسك عنه.
وكان عابداً، وكان يختم القرآن ختمات كثيرة، وكان يقسم الليل ثلاثة أقسام: الثلث الأول للاشتغال بالعلم، والثلث الثاني للصلاة، والثلث الثالث للنوم، ويقوم إلى صلاة الفجر نشيطاً.
ومسألة أن يكون طالب العلم مشتغلاً بالعبادة مسألة مهمة جداً، وهذا درس عظيم وفائدة بليغة، فإن بعض الناس إذا اشتغلوا بطلب العلم نسوا العبادة، فصارت عبادتهم عادية جداً، كعبادة العوام أو أقل، بل إن بعض العوام في العبادة أحسن من بعض الذين يشتغلون بالقراءة أو تحصيل العلم، وهذا راجع إلى خلل في المنهج، ولذلك لابد أن يكون طالب العلم له حظ كبير من العبادة.
والشافعي رحمه الله وفقه الله لأمورٍ كثيرة، حتى قال بعض أهل العلم: اجتمع للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره، فأول ذلك: 1 - شرف نسبه، وأنه من رهط النبي صلى الله عليه وسلم.
2 - صحة دينه وسلامة معتقده من الأهواء، وسخاوة نفسه.
3 - معرفته بصحيح الحديث من سقيمه، وبالناسخ والمنسوخ.
4 - حفظه لكتاب الله تعالى ولأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفته لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء، وتأليف الكتب.
5 - وأنه اتفق له من الأصحاب ما لم يحصل لغيره.(146/15)
بعض تلاميذ الشافعي
من فضل الرجل أن يكون تلاميذه أجلاء، فإذا كان تلاميذه أجلاء دل ذلك على جلالته، فمن هم تلاميذ الشافعي؟ 1 - أحمد بن حنبل رحمه الله.
2 - سليمان بن داود الهاشمي.
قال الإمام أحمد فيه: "يصلح للخلافة"، أي: في العلم والتقوى والورع والنسب يصلح للخلافة.
3 - الحميدي.
4 - الكرابيسي.
5 - البويطي.
6 - حرملة.
7 - ابن عبد الحكم وكان من مشاهير تلاميذه، فيوفق الله بإخلاص صاحب العلم بتلاميذ أقوياء يحفظون علمه وينشرونه، فيزداد أجره.(146/16)
موسوعية الشافعي في جميع الفنون
والشافعي رحمه الله -وهذه فائدة لطالب العلم مهمة- لم يكن مقتصراً على فن واحد من فنون العلم، وإنما كان متوسعاً في جميع الفنون، ولذلك كان يجلس في حلقته إذا صلى الصبح، فيجيء أهل القرآن فيسألونه، فإذا طلعت الشمس قاموا، وجاء أهل الحديث فيسألونه عن معانيه وتفسيره، فإذا ارتفعت الشمس قاموا، واستوت الحلقة للمناظرة والمذاكرة، فإذا ارتفع النهار تفرقوا، وجاء أهل العربية والعروض والشعر والنحو، حتى ينتصف النهار فيذهب إلى منزله.
قارنوا -الآن- بين طريقة السلف في طلب العلم، وبين الطريقة الحديثة التي تجعل الواحد يتخصص في فرع دقيق ولا يدري عن الأشياء الأخرى، فترى الواحد يتخصص في (الطب) مثلاً، ثم إنه لا يدري عن بقية العلوم حتى الدنيوية، وأكثرها عيباً أن يكون جاهلاً بالأمور الشرعية، وإذا تخصص تخصصاً دقيقاً في شيء نسي الأشياء الأخرى، فالطريقة الحديثة في التخصص من سلبياتها أنها تمنع الشخص عن الإسهام والقراءة في المجالات الأخرى، ويقول: هذا تخصصي ليس لي علاقة بغيره، الهمم ضعفت؛ ولذلك صار الاتجاه العام أن يكون الإنسان موسوعياً في الطلب صعباً، إلا على من وفقه الله عز وجل، فقد تجد الشخص مبرزاً في الحديث لكنه جاهل في التفسير والفقه، وقد تجد آخر عنده علم بالفقه ومتوسع فيه، ولكن عنده جهل عجيب بالحديث، وقد يستشهد بالأحاديث الضعيفة والموضوعة.
لكن طريقة السلف في طلب العلم كانت طريقة موسوعية، فلم يكن عندهم تخصص ينسيهم بقية مجالات العلم وفروعه، حتى أن بعض أهل العلم كانوا يرون بعض اللغويين في مجلس الشافعي، يقولون لهم: أنتم لستم بطلبة علم ولا بأهل علم فلماذا تأتون؟ يقولون: نتعلم منه اللغة؛ لأن الشافعي رحمه الله كان يجلس المجالس الطويلة جداً، لا يسمع منه لحن واحد أو خطأ.(146/17)
شغف الشافعي بطلب العلم
كذلك من الأمور المهمة أن يكون عند طالب العلم شغف بطلب العلم، إذا لم يكن عنده شغف بالطلب فلن يحصِّل، والشغف هو الذي يجعل الإنسان منهمكاً بالشيء ومشتغلاً به.
قال الشافعي عن نفسه: أسمع بالحرف مما لم أسمعه -أي: تعلمت فائدة جديدة أو شيئاً جديداً ما هو وقع الفائدة عليك إذا سمعت شيئاً جديداً، وتعلمت مسألة ما كنت تعلمها من قبل؟ كيف تشتاق لهذه الفائدة؟ - قال الشافعي: فتود أعضائي -اليد والرجل وغيرها- أن لها أسماعاً تتنعم به مثلما تنعمت به الأذنان، فقيل له: كيف حرصك عليه؟ قال: حرص الجموع المنوع.
مثل الذي يهتم بالمال يجمع ويمنع، إذا دخل الشيء لا يخرج ودائماً يدخل، لا يذهب منه شيء، فكان الشافعي في العلم جموعاً منوعاً، يجمع ولا يخرج منه شيئاً، بمعنى: لا ينساه ويذهب عنه.
فقيل له: كيف طلبك للعلم؟ قال: كطلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره.
أي: كيف تبحث عنه؟(146/18)
الشافعي وانقياده لنصوص الكتاب والسنة
هل كان الشافعي رحمه الله متعالياً؟ هل العلم الكثير الذي جمعه أدى به إلى الكبر كما يحدث عند البعض إذا اجتمع له شيء من أطراف العلم، أحس بأنه قد وصل، ويتعالى على الناس ويريد أن ينسب إليه العلم، ويقال: هذا كلام فلان، أما الشافعي رحمه الله، فإنه سُمع وهو مريض، وقد ذكر ما جمع من الكتب، فقال: وددت لو أن الخلق تعلموه ولا ينسب إليّ منه شيء، وقال: وددت أن كل علم أعلمه يعلمه الناس أؤجر عليه ولا يحمدونني.
لم يكن علمه الواسع سبباً في غروره بمؤلفاته وكتبه؛ بل كان يقول: لقد ألفت هذه الكتب، ولم آلو فيها، أي: اعتنيت واجتهدت، ولابد أن يوجد فيها الخطأ؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] يقول: لابد أن هناك أخطاء، فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة، فقد رجعت عنه.
وقال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول صلى الله عليه وسلم فقولوا بها ودعوا ما قلته.
وكان يقول: كل ما قلت فكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح، فحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى.
انظروا الآن -أيها الإخوة- إلى متعصبة المذاهب، يقول أحدهم للآخر: إلى أين؟ قال: أسافر.
قال: ما هو مذهبك؟ قال: أبي حنفي وأمي شافعية، قال: سلم لي على أمك فقط، أصبح تعصب الناس للمذاهب شيئاً عجيباً، أين كلام الشافعي رحمه الله ومبادئه ومنهجه من المتعصبة الذين كانوا يقولون: نزوج فلاناً؛ لأنه على مذهبنا ولا نزوج فلاناً؟ لا يمكن أن تكون ابنتنا من مذهبنا تحت رجل آخر مذهبه مختلف، لا يمكن أن نعطي حنفية لشافعي، لكن العكس، يقولون: يمكن تنزيلاً لهم منزلة أهل الكتاب، نأخذ من نسائهم؟ لكن لا نعطيهم من نسائنا، أين هذا التعصب من كلام الأئمة الذين كانوا يربطون الناس بالكتاب والسنة؟ وهذه من الفوائد العظيمة: أن طالب العلم يربط الناس بالكتاب والسنة، لا بقول فلان وعلان، وإنما بالأدلة الشرعية.
يقول: إذا وجدتم سنة صحيحة فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد.
وكان يقول: كل مسألة تكلمت فيها، وصح الخبر فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي.
وسأل رجل الشافعي عن مسألة فأفتاه، وقال الشافعي: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال الرجل: أتقول بهذا؟ قال: يا هذا! أرأيت في وسطي زناراً -والزنار كان من لباس أهل الذمة، مشروط عليهم لبس الزنار، ولا يلبسوا عمائم المسلمين- أرأيتني خارجاً من كنيسة؟ أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، وتقول لي: أتقول بهذا؟ أي: واعجباً لك! هل أسأل أنا آخذ بالحديث أو لا، الحديث حجة بنفسه.
وكان يقول: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً ولم أقل به.
وكان يقول هذا الإمام المطلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
وكان يقول: إذا صح الحديث فقل لي أذهب إليه.
يقول الشافعي لـ أحمد؛ لأن الشافعي يعرف أن أحمد أكثر اشتغالاً منه بجمع الحديث: "إذا صح الحديث فقل لي أذهب إليه حجازياً كان أو عراقياً أو شامياً أو مصرياً؛ لأن الصحابة تفرقوا في الأمصار، فصار بعضهم في العراق، وبعضهم في الشام، وبعضهم في مصر، وبعضهم في اليمن، وبعضهم في الحجاز، وصارت الأحاديث موجودة.
يقول لـ أحمد: الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني عنه وأنا أتبعه، أياً كان مصدره، سواءً مصدره الصحابة الذين في الحجاز، أو الشام، أو غيرهم.
وكان رحمه الله تعالى يعلق القول في كثير من الأحيان على ثبوت الحديث، فكان يقول مثلاً: إن صح الحديث في الغسل من غسل الميت قلت به.
وكان يقول: إن صح حديث ضباعة في الاشتراط في الحج، قلت به، ضباعة رضي الله عنها خافت أن تحتبس، فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تشترط، فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم بالاشتراط، أي: إذا وصل الإنسان إلى الميقات ينوي الإحرام، ويقول: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، وإذا حبسه الحابس هذا، فإنه يجوز له أن يحل دون أن يكون عليه دم، ولا يلزمه شيء، فكان الشافعي رحمه الله لم يثبت عنده حديث ضباعة هذا، ولكن لإنصافه قال: إن صح حديث ضباعة في الاشتراط قلت به.
حتى أن بعض العلماء ألف كتاباً سماه: المنحة فيما علق الشافعي القول فيه على الصحة، والمؤلف هو ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى.
كان الشافعي يوصي بالحديث وبأصحاب الحديث، يقول: "عليكم بأصحاب الحديث، فإنهم أكثر صواباً من غيرهم".(146/19)
عقيدة الشافعي وموقفه من أهل الكلام
وكان حسن المعتقد، سواءً كان في الإيمان أو في الأسماء والصفات أو في القضاء والقدر، كان يقول: (الإيمان قول وعمل يزيد وينقص)، وكان شديداً على أهل البدعة، بعض الناس -الآن- يطلبون الفقه، لكن ليس عندهم مواقف مفاصلة لأهل البدعة، قال الشافعي في حكمه في أهل الكلام: "أن يضربوا بالجريد والنعال، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، وينادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام".(146/20)
الشافعي وبعض مناظراته وأخلاقه فيها
وبالنسبة للأخلاق: فإن الشافعي رحمه الله كانت أخلاقه عالية جداً، وقال عنه ولده: ما سمعت أبي يناظر أحداً قط فيرفع صوته، وكان من خلقه أنه يحب أن تكون الغلبة لخصمه، وكان يقول: "ما عرضت الحجة على أحد فقبلها إلا عظم في عيني، ولا عرضتها على أحد فردها إلا سقط من عيني".
ويقول: "ما ناظرت أحداً قط على الغلبة -ما دخلت في مناظرة مع أحد لكي أتغلب عليه- وإنما لكي يتبين الحق".
وكان يقول: "ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ".
وهذه مرتبة لا يصل إليها الإنسان بالسهولة مطلقاً.
وقال: "ما ناظرت أحداً قط إلا على النصيحة".
كثير من الشباب -الآن- الذين يدخلون في نقاشات فقهية، يكون قصد الواحد منهم أن يتغلب على الآخر، وأن يظهر خطأ الآخر، وأن يظهر صوابه وفضله، فأين هؤلاء من أخلاق الشافعي رحمه الله؟ يجب علينا أننا إذا دخلنا في مناقشات علمية أن يكون قصد الواحد منا ظهور الحق، ولا فرق أن يكون ظهر الحق منه أو من الآخر، هذا ما ينبغي أن تكون عليه أخلاق طلبة العلم، يقول الشافعي رحمه الله: "ما ناظرت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد، وما ناظرت أحداً إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه.(146/21)
مناظرته مع من يقول بعدم جواز الدعاء في الصلاة بغير القرآن
كان الشافعي رحمه الله كان له مناظرات، فكان من مناظراته لمن كان يمنع الدعاء بشيء من خارج القرآن في الصلاة، كان بعض أهل العلم يرون أن الدعاء في الصلاة لابد أن يكون من القرآن: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] وأنك إذا دعوت بشيء من خارج القرآن لا يجوز لك ذلك، فناظر الشافعي واحداً من هؤلاء، وقال له: ماذا تقول في الصلاة بغير ما في القرآن؟ قال: تفسد صلاته، وإن دعا بما في القرآن لا تفسد.
قال: فقلت له: أرأيت إن قال: أطعمنا بقلاً وقثاءً وفوماً وعدساً وبصلاً، ما هو الحكم؟ قال: تفسد صلاته، قال: أنت تقول بفسادها، وأنت تقول: يجوز أن تدعو بما في القرآن، قال الآخر: فماذا تقول أنت؟ قال الشافعي: ما يجوز أن يدعو به المرء في غير الصلاة جاز أن يدعو به في الصلاة؛ لأن المخاطب في ذلك ليست إلى الآدميين- المصلي إذا دعا لا يتكلم مع الآدميين وإنما يدعو ربه- وإنما الخبر أنه لا يصلح في الصلاة شيء من كلام الناس، هذا الذي يفسدها؛ أن يكلم الناس بعضهم بعضاً، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لقوم وسماهم بأسمائهم.
النبي صلى الله عليه وسلم قنت ودعا على أناس وسماهم بأسمائهم، وعلى عصية ورعل وذكوان، ودعا وقال: اللهم أنجي الوليد بن الوليد وغيره ممن دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فسماهم بأسمائهم، ونسبهم إلى قبائلهم.
وهذا كله يدل على أن المحرم من الكلام إنما هو كلام الناس بعضهم بعضاً في حوائجهم، فأما ما دعا به المرء ربه تبارك وتعالى وسأله إياه، فهذا لا أعلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من اختلف فيه.
والصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وأما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء، فإنه قمن- أي: حري- أن يستجاب لكم) ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم دعاء دون دعاء، وكلما كان يجوز أن يسأل الرجل ربه في غير الصلاة، فهو جائز في الصلاة.(146/22)
مناظرة الشافعي مع الرشيد
وكذلك من الأشياء التي حصلت له رحمه الله تعالى، لما دخل هو ورجل آخر على الرشيد، فلما استويا بين يديه، قال: يا أبا عبد الله! تسأل أو أسأل؟ قال: قلت: ذاك إليك، قال: فأخبرني عن صلاة الخوف أواجبة هي؟ قلت: نعم.
قال ولم؟ فقلت: لقول الله عز وجل: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102] فلتقم: هذا فعل أمر، فدل على أنها واجبة.
قال: وما تنكر من قائل قال لك: إنما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وهو فيهم، فلما زال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم زالت تلك الصلاة: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} قال: فقلت: وكذلك قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] فلما أن زال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم زالت عنهم الصدقة؟ - لما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم تذهب الزكاة- فقال: لا.
قلت: وما الفرق بينهما، والنبي صلى الله عليه وسلم هو المأمور بهما جميعاً؟ قال: فسكت.
أي: الرشيد.(146/23)
مناظرة بين الشافعي وإسحاق بن راهويه
حصلت مناظرة بين الإمام الشافعي رحمه الله وإسحاق بن راهويه والإمام أحمد موجود يسمع في مسجد الخيف بـ منى، مناظرة مشهورة جداً، وذلك أن الموضوع الذي أثير هو: ما حكم شراء بيوت مكة وبيعها وإجارتها؟ فكانت فتوى الشافعي الجواز، إسحاق بن راهويه يسأله، الشافعي يفتي بالجواز، فقلت: إي يرحمك الله، وجعلت أذكر له الحديث عن عائشة وعبد الرحمن وعمر وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كري بيوت مكة، وهو ساكت يسمع وأنا أسرد عليه، فلما فرغت سكت ساعة، وقال: يرحمك الله -الآن إسحاق يحتج بكلام بعض الصحابة على عدم جواز ذلك في مكة وهذه مسألة خلافية عند أهل العلم على أية حال- فقال الشافعي: يرحمك الله، أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هل ترك لنا عقيل من رباع أو دار)؟ لأنه تصرف فيها قبل فتح مكة وباعها- قال: فوالله ما فهمت عنه ما أراد بها، قال إسحاق: أتأذن لي في الكلام؟ فقال: نعم.
فقلت: حدثنا يزيد بن هارون، عن هشام، عن الحسن أنه لم يكن يرى ذلك، وأخبرنا أبو نعيم، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم أنه لم يكن يرى ذلك.
فقال الشافعي رحمه الله: أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: عطاء وطاوس وإبراهيم والحسن، هل لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة؟ ثم قال الشافعي مناظراً إسحاق: يقول الله عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحشر:8] المهاجرون من أين أخرجوا؟ من مكة، نسب الدار إلى المالكين أو إلى غير المالكين؟ قال إسحاق: إلى المالكين، قال الشافعي: فقوله عز وجل أصدق الأقاويل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) فنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم الدار إلى مالك أم إلى غير مالك؟ قال إسحاق: نسبها إلى مالكها.
فقال الشافعي: وقد اشترى عمر بن الخطاب دار الحجامين فأسكنها، وأيضاً عمر بن الخطاب اشترى دار صفوان ليجعلها سجناً بـ مكة فكونه اشترى دار صفوان فهذا يعني أن شراء بيوت مكة جائز، وذكر له جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اشتروا دوراً في مكة وجماعة باعوها.
فقال إسحاق: يقول الله عز وجل: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} أي: أنهم كلهم لهم حق العاكف والباد، فقال الشافعي: اقرأ أول الآية: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25] قال الشافعي: والعكوف يكون في المسجد، ألا ترى إلى قوله: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة:125]؟ والعاكفون يكونون في المساجد، ألا ترى إلى قوله: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187]؟ فدل ذلك أن قوله عز وجل: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} في المسجد خاص، فأما من ملك شيئاً فله أن يكري وأن يبيع.
هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، فبعضهم رأى جواز بيع بيوت مكة وشرائها وإجارتها، وبعضهم رأى منع ذلك كله، وتوسط الإمام أحمد فقال بجواز شراء وبيع البيوت في مكة، وعدم جواز الإجارة.
والمسألة من المسائل التي فيها مبررات من قال بالمنع، مثل: إن مكة يفد إليها الناس من جميع الأنحاء، فالأصل أن الذي يسبق إلى مكان هو أحق به، لا نجيز التملك فيها؛ لأننا إذا أجزنا التملك ضيق الناس على الحجاج والعمار، فإذاً الذي يسبق إلى مكان هو أحق به، وليس هناك أجرة ولا تأجير، فإذا انتهت حاجته من مكة ذهب، وجاء غيره فخلفه فيه، وبالنسبة لـ منى ليس هناك خلاف، منى مناخ من سبق، فـ منى الذي يأتي أولاً يأخذ المكان لا شك في ذلك، لكنهم اختلفوا في مكة، هل يجوز البيع والشراء والتأجير فيها أم لا؟ هذه مسألة طويلة، وذكر ابن كثير رحمه الله في كتابه في ترجمة الشافعي توسط أحمد رحمه الله بين الشافعي وإسحاق.
وأيضاً مما يدل على فقهه رحمه الله، ما قال له عبد الله بن محمد بن هارون الفريالي، قال: وقفت بـ مكة على حلقة عظيمة وفيها رجل، فسألت عنه، فقيل: هذا محمد بن إدريس الشافعي، فسمعته يقول: سلوني عما شئتم، أخبركم بآية من كتاب الله، وسنةٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول صحابي، فقلت في نفسي: إن هذا الرجل جريء، ثم قلت له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ -الزنبور الذي يلسع، من أين تأتي للزنبور بآية وحديث؟ - فقال الشافعي رحمه الله تعالى: قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] وحدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر) وحدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أن عمر رضي الله عنه [أمر المحرم بقتل الزنبور].
فأولاً أتى بالآية {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}.
ما هو الذي أتى من الرسول؟ (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر) وعمر أمر بقتل الزنبور، فهكذا أجاب رحمه الله تعالى.(146/24)
تأديب الشافعي لطلابه
وكذلك فإن من الأشياء التي كان الشافعي رحمه الله متحلياً بها ومجيداً لها: تأديب الطلاب، فمن الأشياء التي ورد فيها تأديب لطلابه أشياء كثيرة.(146/25)
تأديب الشافعي لطالب في نفسه وسوسة في أمر التوحيد
كان أحد طلاب الشافعي قد وجد في نفسه أشياء من الوسوسة المتعلقة بأمرٍ من أمور التوحيد، مثل ما يجد بعض الناس أشياء يلقيها الشيطان عن الله عز وجل أو عن ذات الله من الشكوك والأوهام والوساوس ونحو ذلك، فقال أحد تلاميذه: صرت إليه في مسجد مصر، وقد هجس في ضميري مسألة في التوحيد، فأخبره عن هذا الشيء الذي في نفسه، فغضب الشافعي رحمه الله، وقال: أتدري أين أنت؟ قلت: نعم.
قال: هذا الموضع الذي أغرق الله فيه فرعون -أي: في بلاد مصر - أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسؤال عن ذلك؟ هذه بعض الأشياء التي بعض الناس يتناقش فيها في أمور تتعلق بالتوحيد مما ليس عندنا دليل عليه، أمور من أمور الغيب، لأن قضايا الغيب يجب أن نمسك فيها، حتى أن الشافعي رحمه الله من الحكم التي قالها: "إن للعقل حداً ينتهي إليه".
أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسؤال عن ذلك؟ قلت: لا.
قال: هل تكلم فيه أحد من الصحابة؟ قلت: لا.
قال: تدري كم نجماً في السماء؟ قلت: لا.
قال: فكوكب منها تعرف جنسه طلوعه أفوله مم خلق؟ قلت: لا.
قال: فشيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه تتكلم في علم خالقه! أي: الآن بعض المخلوقات العقل عاجز عن إدراكها، تتكلم في أمور تتعلق بالخالق مما لم يأت في الكتاب والسنة، ثم سألني عن مسألة في الوضوء، فأخطأت فيها، ففرعها على أربعة أوجه، فلم أصب في شيء منها، فقال لي: شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات، تدع علمه، وتتكلف علم الخالق، إذا هجس في ضميرك ذلك فارجع إلى الله، وإلى قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الآية)) [البقرة:163 - 164].(146/26)
تأديب الشافعي لطلابه بآداب المناظرة
ومن تأديب الشافعي لطلابه: أنه كان إذا ناظره إنسان في مسألة وتعداها إلى غيرها ولم يفرغ من المسألة الأولى، قال له: ننتهي من هذه المسألة ثم ننتقل إلى ما تريد، دعنا ننتهي من المسألة الأولى، ثم ندخل في الثانية؛ لأن هذا من الآداب، تجد بعض الناس إذا ناقشوا تنقلوا في المسائل من هذه إلى هذه، لم يفرغ من الأولى حتى يدخل في الثانية والثالثة والرابعة، ويخلط الأمور، وتتعقد النقاشات، ولا ينتهي الناس إلى نتيجة، بسبب أنهم يفتحون أكثر من موضوع في نفس الوقت، ولا ينتهون لا من هذا ولا من هذا ولا من هذا، فكان الشافعي رحمه الله إذا ناظرة إنسان في مسألة وتعداها إلى غيرها قبل أن تنتهي، قال: نفرغ من هذه المسألة ثم نصير إلى ما تريد، فإذا أكثر علي وأصر وألح الدخول في مسألة جديدة ولم تنته الأولى، قال: مثلك مثل معلم كان بـ المدينة يعلم الصبيان القرآن من كراس، فأملى على صبي بسؤال نعجتك، يريد أن يملي عليه الآية التي فيها قول الله عز وجل: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ} [ص:24] فقال بسؤال ولم يدرِ ما بعده، المعلم في غفلة، فأراد أن يملي عليه بسؤال نعجتك، فقرأ الكلمة الأولى ولم يدرِ بالثانية، فمر رجل فقام إليه، فقال: أصلحك الله، بسؤال نعجتك أو بعجتك؟ -هو لا يدري نعجتك أو بعجتك- فقال له رجل: يا أبا عبد الله! أفرغ من سؤال ثم سل عما بعده، إنما هو -ويحك- بسؤال نعجتك.
وكذلك من الأشياء التي حصلت للشافعي رحمه الله تعالى أنه كان يوصي طلابه بالفقه، ويقول لـ يونس بن عبد الأعلى: يا أبا موسى! عليك بالفقه فإنه كالتفاح الشامي يحمل من عامه.
بعض النباتات إذا زرعت -الآن- لا تثمر إلا بعد أعوام، قال: عليك بالفقه فإنه كالتفاح الشامي يحمل من عامه، أي: أنه من النباتات التي ثمرتها عجلة تخرج بسرعة وهكذا الفقه، وكان يقول: "طلب العلم أفضل من صلاة النافلة".(146/27)
الشافعي وتأديبه لأبي ثور
وكذلك فإنه -رحمه الله تعالى- كان من تأديبه لطلابه ما حصل ذات مرة أنه دخل بغداد، فنزل في مكان فانصب الناس إليه، فاستووا في مجالسهم، حتى جاء أبو ثور بمسألة -قبل أن يرحب بالشيخ ويعطيه قدره ويؤنسه بالكلام، مباشرة دخل في السؤال، فهذا ليس فيه الأدب المطلوب مع العالم، مجرد أن ينزل يبادر بسؤال قبل شيء من الاستئناس معه والانبساط وشيء من السؤال عن الحال أو المودة- فلما بادره بالسؤال، قال: يا أبا ثور! (الإيناس قبل الإسناس) -الإسناس ليست شركة الـ ( D-H-L) هذه- فلم يدرِ ما قلت له، فقال: ما هو يا أبا عبد الله؟! فقلت: الإيناس مسح الناقة بيدك حول ضرعها، والإسناس حلب ضرعها بيدك، قبل أن تحلب الناقة تمسح على الضرع وتؤنس الناقة ثم تحلب، فكأنه يقول: قبل أن تسأل العالم وتستخرج منه؛ آنسه أولاً ثم اسأله (الإيناس قبل الإسناس) وهذا من علمه رحمه الله باللغة.
وكان من تأديبه للناس أيضاً ما حصل مرة، قال محمد بن عبد الله بن الحكم: دخل رجل من الحرس يوماً على الشافعي وأنا آكل معه خبزاً فدخل وجلس يأكل معنا- بدون استئذان- فلما فرغ، قال الحارس: يا أبا عبد الله! ما تقول في طعام الفجاءة؟ - يسأل الشيخ الآن عن حكم إذا دخل على أناس أن يأكل معهم بدون استئذان- فقال الشافعي سراً: هلاّ كان هذا منه قبل الأكل.(146/28)
ملاطفة الشافعي لأصحابه وحسن خلقه معهم
ومن ملاطفته لأصحابه وحسن خلقه وإحسان الظن بهم، قال ربيع بين سليمان: دخلت يوماً على الشافعي، فقلت: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت ضعيفاً، فقلت: قوى الله ضعفك، فقال لي: يا ربيع! أجاب الله قلبك ولا أجاب لفظك -أي: أجاب الله نيتك، لكن لا أسأله أين يجيب ما تلفظت به- إن قوى ضعفي علي قتلني -إن قوى الضعف صار الضعف قوياً- ولكن قل: قواك الله على ضعفك، فقال الربيع: والله ما أردت إلا خيراً، قال الشافعي: أجل والله يا بني! لو تشتمني صراحاً لعلمت أنك لم ترد، أي: أعلم أن نيتك طيبة، لكنه قصد أن يعلم رحمه الله تعالى.
وكذلك فإنه رحمه الله كان ذكياً فطناً، وكان ذكاؤه ينعكس على فقهه وفتاويه.
سئل الشافعي في رجل قال لامرأته وفي فيها تمرة: إن أكلتيها فأنتِ طالق، وإن طرحتيها فأنتِ طالق؟ يقول: ربما هذا إنسان يريد أن يطلق زوجته بأسلوب ابتكاري، ويمكن أنه ضاق بها ذرعاً وانتهز فرصة أنها وضعت التمرة في فمها، فسئل الشافعي رحمه الله عن هذا ماذا يفعل؟ فأجاب مباشرة، تأكل نصفها إذا طرحت النصف الآخر؛ لأنه إذا أكلت نصفها ما أكلتها، وتطرح النصف الثاني فما تكون قد طرحتها.
وكذلك فإنه من حسن خلقه -أيضاً- ما روى المزني، قال: كنت عند الشافعي يوماً ودخل عليه جار له خياط، فأمره الشافعي بإصلاح أزراره فأصلحها، فأعطاه الشافعي ديناراً ذهباً، فنظر إليه الخياط وضحك، فقال له الشافعي: خذه، فلو أحضرنا أكثر منه ما رضينا لك به، فقال له: إنما دخلت عليك لأسلِّم عليك، لم أدخل لأعمل عملاً، قال الشافعي: فأنت إذاً ضيف زائر، وليس من المروءة استخدام بالضيف الزائر، فإذاً لابد من إعطائك الأجرة.(146/29)
فراسة الإمام الشافعي
كان -رحمه الله- صاحب فراسة، إذا ظن شيئاً يكون على ظنه، قال الحميدي: خرجت أنا والشافعي من مكة، فلقينا رجلاً بـ الأبطح، فقلت للشافعي: أزكن ما الرجل؟ -أي: خمن ما عمل هذا الرجل؟ - فقال الشافعي عندما نظر إلى الرجل: نجار أو خياط، قال: فلحقته فسألته عن مهنته، فقال: كنت نجاراً، وأنا الآن أشتغل بالخياطة.
وكذلك وردت قصة أخرى حملها ابن حجر رحمه الله، والقصتان على التعدد؛ لأن هذه شبيهة بتلك، عن محمد بن الحسن والشافعي أنهما كانا قاعدين بفناء الكعبة، فمر رجل فقال أحدهما لصاحبه: تعال حتى نزكن على هذا الرجل الآتي أي حرفة معه، فقال أحدهما: خياط، وقال الآخر: نجار، فبعثنا إليه فسألاه، فقال: كنت خياطاً وأنا اليوم نجار، فتحمل على أنها قصة أخرى.
وكذلك قال الربيع: مر أخي في صحن الجامع، فدعاني الشافعي، فقال: يا ربيع! هذا المار الذي يمشي أخوك؟ قلت: نعم.
ولم يكن رآه قبل ذلك.
وقال المزني: كنت مع الشافعي في الجامع، إذ دخل رجل يدور على النيام الذين ينامون في المسجد، فقال الشافعي للربيع: قم فقل له: ذهب لك عبد أسود مصاب بإحدى عينيه؟ قال الربيع: فقمت إليه فقلت له، فقال: نعم.
فقلت: تعال، فجاء إلى الشافعي، فقال: أين عبدي؟ فقال الشافعي: تجده في الحبس، فذهب الرجل فوجده في الحبس.
قال المزني: فقلت للشافعي: أخبرنا فقد حيرتنا، قال: نعم.
رأيت رجلاً دخل من باب المسجد يدور بين النيام، فقلت: يطلب هارباً، ورأيته يجيء إلى السود دون البيض، فقلت: هرب له عبد أسود، ورأيته يجيء ليرى العين اليسرى، فقلت: مصاب بإحدى عينيه، قلنا: فما يدريك أنه في الحبس، فقال: هذا هو الغالب، أي: أنهم إذا جاعوا سرقوا، وإذا شبعوا أفسدوا، فتأولت أنه قد فعل شيئاً في ذلك، مادام أنه هارب يبحث عن شيء، فقد سرق وأنه في السجن.(146/30)
اهتمام الشافعي بالواقع
كان الشافعي مشهوراً بالطب وحريصاً عليه، وله قولة عظيمة جداً تبين بعد نظر الرجل في الواقع، كان الشافعي رضي الله عنه يتلهف فيما ضيع المسلمون من الطب، ويقول: "ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى".
لم يكن الشافعي رحمه الله يعجبه أبداً أن يكون اليهود والنصارى متفوقين في الطب؛ لأن مجال الطب مجال مهم جداً، وكان اليهود والنصارى بارعين فيه، والمسلمون عندهم شيء من القصور فيه، فكان الشافعي رحمه الله متحسساً جداً من هذه النقطة، وهذا يدل على أنه يدرك خطورة أن يكون بعض غير المسلمين عندهم احتكار أو شبه تفوق في هذا الجانب بحيث يحتاج إليهم المسلمون، ولاشك أن مهنة الطب فيها اطلاع على الأسرار، ولذلك قال الشافعي: "ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى" وله أقوال في الطب لعلنا نأتي على بعضها.(146/31)
كرم الشافعي وعزة نفسه
كان للشافعي -رحمه الله- كرم وعزة نفس، ما كان يأخذ من الناس ويسأل، أفلست ثلاث مرات، فكنت أبيع قليلي وكثيري، حتى حلي ابنتي وزوجتي، ولم أستدن قط، ما مد يده إلى الناس ولا طلب شيئاً، وقال الربيع: رأيت الشافعي ركب حماراً، فمر على سوق الحذائين، فسقط سوطه من يده، فوثب غلام من الحذائين فمسح السوط بكمه وناوله إياه، فقال الشافعي لغلامه: ادفع تلك الدنانير التي معك لهذا الفتى، قال: لا أدري إن كانت تسعة أو سبعة، أي: أنه حتى لو أن واحداً ناوله شيئاً لابد أن يكافئه، حتى لا يكون لأحد عليه منّة.
ومن مهارات الشافعي رحمه الله: إحسان الرمي، قال: كان همتي في شيئين: العلم والرمي، فنلت من الرمي حتى كنت أصيب من عشرة عشرة، ومر برجل يرمي، فقال له: أحسنت، وبرك عليه -دعا له بالبركة- ثم قال لغلامه: ما معك؟ قال: ثلاثة دنانير، قال: أعطها إياه، لهذا الرامي تشجيعاً على الرمي.
كان الشافعي كريماً ينفق أمواله، فمرة قدم من اليمن ومعه عشرون ألف دينار إلى مكة، فضربت له خيمة خارج مكة، فما دخل مكة حتى كان قد فرق كل الدنانير على من حضره وعلى أصحابه، وعندما يكون العالم وطالب العلم عنده سخاوة نفس، وعنده كرم يحبه الناس ويحترمونه، وهذه من الأشياء المهمة، ليست القضية قضية علم، وإنما لابد أن يكون مع العلم أخلاق.(146/32)
حسن الاستماع والتثبت في السؤال والجواب عند الشافعي
تميزت شخصية الشافعي رحمه الله بأشياء مهمة لطالب العلم، كما قال محمد بن الحسن: إن كان أحد يخالفنا فيثبت خلافه علينا فـ الشافعي، فقيل له: فلِمَ؟ قال: لبيانه وتثبته في السؤال والجواب والاستماع، وهذه خصلات تفوت كثيراً من الطلاب، قد لا يحسنون الاستماع ولا الجواب، ولا يفهمون السؤال، ولا يتثبتون في النقل، فتحدث لأجل ذلك طامات.
وكان للشافعي رحمه الله أقوال من الحكم المأثورة، فمن الأقوال التي تنسب إليه: 1 - يقول: "ليس العاقل الذي يميز بين الشر والخير فيختار الخير، لا.
إنما العاقل الذي يقع بين الشرين فيختار أيسرهما.
فمعرفة أدنى المفسدتين هي فعلاً الدليل على قوة العقل.
2 - وقال محمد بن عبد الله بن الحكم: رآني الشافعي، وأنا أستمد من دواة على اليسار، الدواة على اليسار المحبرة، فقال لي: أشعرت أنه يقال: إن من الحماقة أن يضع الرجل دواته على يساره.
3 - وكان يقول: لا ينبغي لأحد أن يسكن بلدة ليس فيها عالم ولا طبيب.
4 - وقال: عجبت لمن يحتجم ثم يأكل من ساعته، كيف يعيش؟! أي: أنه لا ينصح بالأكل بعد الحجامة.
5 - وقال أيضاً في الأشياء التي فيها دواء: العنب ولبن اللقاح وقصب السكر.
6 - وكان يقول: عجباً لمن تعشى البيض المسلوق ثم نام كيف لا يموت؟! ففعلاً فإن من النصيحة ألا يتعشى أحد على البيض المسلوق.(146/33)
بعض أبيات الشافعي الشعرية
وأما بالنسبة لأشعاره، فقد كان للشافعي رحمه الله تعالى أشعار كثيرة وكثيرة جداً، وله ديوان عظيم، وأشعاره في غاية الجمال والجودة، فمن أشعاره:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عنه يغيب
غفلنا لعمر الله حتى تداركت علينا ذنوب بعدهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب
ومن أشعاره أيضاً:
لا خير في حشو الكلا م إذا اهتديت إلى عيونه
والصمت أجمل للفتى من منطق في غير حلمه
وعلى الفتى لطباعه سمـ ـة تلوح على جبينه
ومما قاله أيضاً رحمه الله تعالى:
المرء إن عاقلاً ورعاً يشغله عن عيوبه الورع
كما العليل السقيم يشغله عن وجع الناس كلهم وجع
وقال:
ومنزلة السفيه من الفقيه كمنزلة الفقيه من السفيه
فهذا زاهد في قرب هذا وهذا فيه أزهد منه فيه
إذا غلب الشقاء على سفيه تنطع في مخالفة الفقيه
وهو الذي قال:
شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نورٌ ونور الله لا يهدى لعاصي
وهو القائل أيضاً:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
في كل يوم يبتديك بنعمة منه وأنت لشكر ذاك مضيع
وهو الذي قال:
نعيب زماننا والعيب فينا وليس لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنبٍ ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئبٍ ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
وهو الذي قال:
إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
ونظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا
وهو الذي قال:
دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفساً إذا حكم القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء
وكن رجلاً على الأهوال جلداً وشيمتك السماحة والوفاء
ورزقك ليس ينقصه التأني وليس يزيد في الرزق العناء
وقال:
وأرض الله واسعة ولكن إذا نزل القضاء ضاق الفضاء(146/34)
صفات الشافعي الخلقية وموته
وكان الشافعي رحمه الله عز وجل من جهة صفة خلقته طويلاً سائل الخدين، قليل لحمة الوجه، طويل العنق، أسمر، خفيف العارضين -جانبتي اللحية- يخضب لحيته بالحناء، حسن الصوت والسمت، مهيباً فصيحاً، وكان طويل أرنبة الأنف، وكان مفلج الأسنان -أي: بين كل سن وسن فرجة- وكان رقيق البشرة، واضح الشبهة، معتدل القامة، لونه يميل إلى السمرة.
ولما مات الشافعي رحمه الله نعاه كثيرٌ من أهل العلم، وفقدت الأمة بوفاته علماً رائعاً، ولكن نعيمه المدون والمنقول من طريق تلاميذه الذين وفقهم الله له لاشك أنه من الأشياء الكثيرة التي نحسب أن الرجل قد كسب بها طرقاً للخير توصل الثواب إليه وهو في قبره.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحمه، وأن يجزيه خير الجزاء، عما قدم للإسلام وأهل الإسلام، ونسأله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بعلمه وما ترك وخلف.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(146/35)
عوائق في طريق الالتزام [1، 2]
العوائق التي تعيق كثيراً من الناس عن الالتزام بالإسلام كثيرة جداً، ويمكن تقسيمها إلى قسمين هما: عائق الشبهات وعائق الشهوات.
وفي طيّات هذه المادة تجد الشيخ قد شرح هذه العوائق بالتفصيل، مبيناً أثرها، مع بعض الردود والمناقشات لمن وقع في شراك تلك العوائق.(147/1)
معوقات الالتزام بالإسلام
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
الجواب
=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
الجواب
=6000493> يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
الجواب
=6003602> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
إخواني في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنه من نعم الله علينا أن التقينا معاً في هذا المكان في حلقة نسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون من حلق الذكر، وأن يكتبنا وإياكم في ديوان السعداء من أهل الجنة، ويكفر عنا سيئاتنا، ويعلي درجاتنا بحوله وقوته، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.
والحقيقة أيها الإخوة! أن التقاء الأخ بإخوانه بعد فترة من الزمن؛ يجدد النشاط للنفس للسلوك في سبيل الله عز وجل في سبيل الدعوة إلى الله في سبيل تعلم العلم في سبيل الالتقاء على الخير، وعلى طريق المحبة في الله.
أما بالنسبة لموضوعنا فسنتكلم الليلة -إن شاء الله- عن عوائق في طريق الالتزام بالإسلام.
نحن أيها الإخوة! سبق أن بينا في درسٍ ماضٍ بعنوان: (جدية الالتزام بالإسلام) حيث بينا تعريف الالتزام، وذكرنا أنه ممثلٌ بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] والسلم: هو الإسلام {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] أي: تمسكوا بجميع شعب الدين، وخذوا بجميع عُرى الدين، لا تتركوا منها شيئاً على قدر استطاعتكم، هذا هو الالتزام بالإسلام، ويمكن أن نضع له تعريفات كثيرة، ولكن يكفينا قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] أي: لا تتركوا منه شيئاً.
وإذا نظرنا -أيها الإخوة- إلى واقع الناس اليوم نجدهم في بُعدٍ كبيرٍ عن تعاليم الإسلام، والتمسك بهذا الدين، والالتزام بأحكامه، فإذا سألنا أنفسنا سؤالاً: لماذا يترك الناس الالتزام بالإسلام، وأحكامه مع أنهم يعرفون بأن هذا التمسك واجبٌ عليهم؟ ولماذا يعيشون حياة التفلت التي نراها اليوم في واقع المسلمين وحياتهم؟! أيها الإخوة! للإجابة على هذا التساؤل لا بد أن نفكر في المعوقات التي أدت إلى هذا التفلت والترك للالتزام بالإسلام، وبالنظر إلى هذه المعوقات وجدناها تنقسم إلى قسمين: 1 - قسمٌ يتعلق بالشهوات.
2 - قسمٌ يتعلق بالشبهات.
واعلموا أيها الإخوة! أن الله أشار إلى كلٍّ من هذين الأمرين في محكم التنزيل، وفي الكتاب العزيز، فقال عز وجل عن المنافقين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة:10]، وقال جل وعلا: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الحج:53]، وقال عز وجل: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32].
والآن لو سألنا سؤالاً: هاتين الآيتين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة:10]، والآية الثانية: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] أي الآيتين التي فيها ذكر مرض الشهوات، وأي الآيتين التي فيها مرض الشبهات؟ الآية الأولى: فيها مرض الشبهات: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة:10] هؤلاء المنافقون في قلوبهم مرض، هذا المرض هو الذي سبب هذا النفاق، وهو مرض الشبهات التي تترسب في الأذهان والقلوب، فتسبب هذا النفاق بجميع أنواعه وصوره ومراحله.
أما الآية الثانية: يوصي الله عز وجل نساء النبي صلى الله عليه وسلم ألَّا يخضعن بالقول، أي: أمام الرجل الأجنبي يجب على المرأة ألَّا تلين بالقول، وتتكسر في صوتها، وتتغنج به؛ حتى يطمع الذي في قلبه مرض، وهذا القلب هو الذي يتأثر بالتغير في صوت المرأة، فبسبب مرض الشهوة تستثار الشهوة عندما يسمع الصوت المتكسر المتخلع الرقيق من المرأة.
فلذلك يجب على المرأة أمام الرجال الأجانب أن تخشن من صوتها، وألَّا تجعل فيه ذلك الطبع الأنثوي الذي يثير الغريزة في نفس الرجل.
عندما أشار الله تعالى في القرآن إلى هذين المرضين، لم يترك الخلق وفيهم هذه الأمراض تنتشر وتستفحل! لا.
ولكنه أخبر في القرآن بأن فيه علاجٌ لكل مرضٍ، ولكل نوعٍ من هذه الأمراض، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]، وقال الله عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82].
إذاً أيها الإخوة! هذين المرضين من الأمراض المستفحلة العظيمة المهلكة التي تصيب قلوب العباد، وفي موضوعنا هذا تلعب أمراض الشهوات والشبهات أدواراً أساسية في إعاقة التزام الناس بالإسلام، وتحول بينهم وبين الالتزام بأحكام الدين.(147/2)
مصطلحات متداولة بين الناس في الميزان
أيها الإخوة! في هذا العصر الذي نعيش فيه عمَّ الجهل وقلَّ العلم، واختلطت الحقائق وخفيت، واندرس العلم، واندرست الحقائق الإيمانية -اندرست أي: اندثرت- وكادت أن تزول، فخفيت معالم الهدى واختلط الحق بالباطل، فلذلك تجد كثيراً من التعريفات والمصطلحات المتداولة بين الناس يعرفونها بتعريفاتٍ غير شرعية، وهي غير مقصود منها في الدين هكذا كما يعرفونها، لذلك كان لا بد من إلقاء الضوء على هذه المصطلحات التي تدور على ألسنة الناس اليوم قبل الخوض في الموضوع.
فمثلاً: ما هو تعريف الوسط؟ ما هو تعريف الغلو؟ ما هو تعريف التطرف؟ ما هو تعريف الإسلام؟ ما هو تعريف التقوى؟ ما هو تعريف الإيمان؟ ما هو تعريف العبادة؟ ما هو تعريف الالتزام؟ لماذا هذه التعريفات مهمة؟ لأنك إذا سألت أي أحدٍ من هؤلاء المذنبين العصاة المبتعدين عن الدين، وقلت له: أأنت تعبد الله؟ سيقول لك: نعم، أنا أعبد الله، فتقول له: لماذا أنت الآن مبتعد عن أحكام الدين ومقصر في كذا وكذا وكذا، ولا تكن مثل هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم والتزموا بأحكام الإسلام؟ فيقول لك: هؤلاء أناسٌ مغالون ومتطرفون ومتشددون.
أنا أحب الوسط أنا أريد أن أكون وسطاً لا أريد أن أكون مزوداً ولا منقصاً في الموضوع، أنا أريد أن أكون وسطاً.
إذاً ما هو تعريف الوسط؟ إذا طرحت هذا الموضوع: (تعريف الوسط) وما هي (الوسطية)؟ تبين لك الحق وانهزم الباطل.
نحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان على الوسط، وهذه الأمة هي الأمة الوسط، فالوسط هو الذي بين الإفراط والتفريط، هذا الوسط هو الذي يحتج به كثيرٌ من العصاة اليوم بأنهم يمثلونه، هذا الوسط هو طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمور كلها في أبواب العقيدة، وفي أبواب المعاملات، وفي أبوابٍ كثيرةٍ جداً، والرسول صلى الله عليه وسلم كان عيشه وسطاً.
إذاً: الناس اليوم يخطئون في تعريف الوسط، ولا يدرون ما هو الوسط؛ نظراً لاضطراب المفاهيم والمفهومات في عقولهم.
ما هو الاعتدال؟ بعض الناس يقول: أنا أريد أن أكون معتدلاً، لا أريد أن أزيد، ولا أنقص! الاعتدال: هو أن تعرف الأوامر وتمتثلها، وأن تعرف النواهي وتجتنبها، وبهذا تصبح إنساناً معتدلاً وسطاً.
ولما قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32] الظالم لنفسه: الذي يترك أداء الزكاة، ويترك الصلاة، ويفرط فيها، ويفرط في النهي عن المنكر، والأمر بالمعروف، وبر الوالدين.
ومنهم النوع الثاني: مقتصد يمتثل الأوامر ويترك النواهي، لكن لا يزيد في أبواب الخير والبر والإحسان على هذه الأشياء، فقط يفعل الأوامر من الصلاة، والزكاة، والصيام، وبر الوالدين إلخ، ويترك النواهي؛ لا يزني ولا يسرق، ولا يغش، ولا يكذب، ولا يظلم وهكذا، لكنه قد لا يزيد في أعمال البر؛ فلا يخرج الصدقات، ولا يقوم الليل كثيراً، ولا يكثر من الاستغفار وذكر الله عز وجل فهذا مقتصد.
والنوع الثالث: سابقٌ بالخيرات، وهو الذي يفعل الأوامر وينتهي عن النواهي والمنكرات، ويزيد على ذلك في أبواب الخير والبر والإحسان أشياء عظيمة، فلذلك قال بعض أهل العلم: إن هذه الآية تمثل أنواع المسلمين، وليس في أحدهم، فالظالم لنفسه هو الذي يرتكب المنكرات وهو لا يزال مسلماً قائماً بالأمور التي تجعله مسلماً، لكنه مفرط مقصر مثل أغلب الناس اليوم.
فإذاً مفهوم الالتزام عند الناس تغير مفهوم العبادة تغير مفهوم الاستقامة تغير، قال سبحانه وتتعلا لرسوله عليه الصلاة السلام: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود:112] والرسول صلى الله عليه وسلم قال لأحد أصحابه، لما سأله أن يوصيه: (قل آمنت ثم استقم).
قال النووي رحمه الله: قال العلماء معنى الاستقامة لزوم طاعة الله تعالى، هذه هي الاستقامة.
والعبادة: اسمٌ جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال.
الإيمان تصديقٌ بالجنان، ونطقٌ باللسان، وعملٌ بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان.
وهذه العبادة على أربع مراتب: قول القلب: وهو التصديق، وقول اللسان: وهو النطق بالشهادتين وذكر الله عز وجل، وعمل القلب: وهو التوكل والإنابة والمراقبة والحياء والخوف والرجاء، وعمل الجوارح: مثل الجهاد في سبيل الله، والصلاة، والحج إلخ.
ما هو تعريف العبادة؟ كثيرٌُ من الناس لا يعرفون تعريف العبادة.
ما هو تعريف الإيمان؟ كثير من الناس لا يعرفون تعريف الإيمان.
لماذا نقول هذا الكلام؟ لأن الناس عندما نقول لهم: يجب أن تكونوا مؤمنين، والله أمرنا أن نكون مؤمنين وأن نعبده: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم:65] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، والله أمرنا أن نستقيم: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود:112].
والله أمرنا أن نكون مسلمين؛ فما هو تعريف الإسلام؟ ما هو تعريف الشهادتين؟ الشهادة: كلمة (أشهد) تتضمن التصديق بالقلب، والنطق باللسان، والعمل والصبر على ما تلاقي في سبيلها، وإذا لم تفعل هذه الأشياء؛ لا تسمى شاهداً ما شهدت أن لا إله إلا الله، ولا شهدت أن محمداً رسول الله.
إذاً: أيها الإخوة! هذه المصطلحات، وهذه الكلمات وتوضحها في عقول الناس أمرٌ مهمٌ جداً، حتى ندخل بعد ذلك في قضية الالتزام، فكثيرٌ من الناس اليوم لا يرون حال الملتزمين بالدين والمتمسكين وسطاً؛ بل يرونه تطرفاً وغلواً، ويرون أنفسهم هم الوسط والمعتدلون، وعلى أحسن الأحوال يرون أنفسهم مقتصدين، ويرون غيرهم سابقين بالخيرات من الملتزمين، لكنه لا يمكن أن يفكر أبداً أنه ليس متوسطاً وليس ملتزماً.(147/3)
كيفية تسيير الجدال مع الناس بخصوص الالتزام
الناس الآن في جدالنا معهم يقولون: نحن الوسط وأنت مغالٍ ومتطرفٌ متشدد، ونحن الوسط، ونحن المعتدلين؛ لأنهم لو اعترفوا بأنهم ليسوا هم الوسط، وأنك أنت -يا أخي- الملتزم بالدين معناه: أنهم اعترفوا بذنوبهم، وأقاموا الحجة على أنفسهم.
لذلك تجد دائماً في الكلام وفي النقاشات يقولون: نحن نحب الوسط، والمعتدل، كن يا أخي معتدلاً كن وسطاً، لا تزيد ولا تنقص!! نعم! أقول لهذا الذي يناقشني: أنا معك أنا أحب الوسط، والإسلام دين الوسط، ودين الاعتدال، لكن ما هو الوسط؟ وما هو الاعتدال؟ أليست هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقته، وفعله أوامر ونواهي؟ أليس هذا هو الوسط، أم لا؟ لكن المشكلة إذا قلنا: إن الوسط هو الذي يرتكب بعض المنكرات، لو قلنا: إن هذا هو الوسط لضاع الدين، وفتحنا أبواب المعاصي والمنكرات على الناس.
إذاً أيها الإخوة! كلمة (ملتزم) الآن التي ندندن حولها اليوم، تساوي كلمة (مسلم حقيقي) في أيام السلف، أي: في زمان السلف عندما كان يقول أحدهم: إنه مسلم، ويأمر الناس أن يكونوا مسلمين، أي: ملتزمين بالإسلام، لا يأمر الناس أن يكونوا مسلمين متهاونين ومفرطين بالإسلام.
فلذلك أنت -الآن- تحتاج إلى مصطلحات أخرى للشاب، لأنك لو قلت له: يا أخي! لا بد أن تكون مسلماً.
يقول: أنا مسلم، وأنا أشهد بالشهادتين، وأنا كذا، فلا بد أن تزيد الأمر إيضاحاً.
ولذلك وردت قصة: أن أحدهم خرج فلقي إنساناً ملتزماً، فقال له: يا مطوع! تعال.
فلما أتى المطوع قال له: يا أخي! أنت ناديتني يا مطوع! فأنا أريد أن أعرف ماذا تكون أنت؟ أي: إذا أنا صرت مطوعاً فأنت عرف لي نفسك منافق فاسق فاجر، ما هي الكلمة التي تريد أن أقولها؟ وهذا قد يقول: قل لي: يا مسلم، لأن الناس لا يفهمون الإسلام والالتزام بالأحكام، هذه هي المشكلة، ولذلك يقولون عن الناس الملتزمين: يا مطوع! وهو ليس بمطوع، فلا بد أن نعرف ما هو تعريفه؟ وما هو المصطلح الذي يريدنا أن نطلقه عليه، نقول: يا مفرط يا مضيع يا عاصي يا مؤمن يا ملتزم!! ماذا يريدنا أن نقول عنه؟ هذه المسألة مهمة بالنسبة للذين يجادلون؛ لأنه يريد الواحد منهم أن يقول: أنا الوسط، وأنت يا فلان الملتزم بالدين الذي لا تفعل المنكرات أنت المتطرف.
فلذلك يقولون بعد ذلك مثلاً: يا أخي! هذه اللحية الأمر بها تشدد، وعلى نطاق النساء مثلاً: يعتبر الأمر بالحجاب والتزام المرأة بالحجاب الكامل الساتر، يعتبره تشدداً.
لماذا اعتبروا هذا؟ لأنهم بنوه على أصلٍ فاسد، الذي هو (الوسط) المرأة -الآن- عندما تقول لها: التزمي بالحجاب غطي نفسك وغطي العورة، تقول: أنا امرأة وسط، أنا معتدلة تريدني أكون امرأة لا يظهر مني شيء، لا يمكن، هذا تطرف وعندما تأمر المرأة بالحجاب أو أن تتحجب ابنتها تقول الأم: اتركها الآن بدون حجاب دعها تتمتع دعها تخرج وتذهب هذه صغيرة، وغداً -إن شاء الله- عندما تكبر سوق تتحجب.
أي: تكبر ويصبح عمرها خمسين سنة، وتكون من القواعد من النساء اللاتي يكون الحجاب في حقهن ليس بواجب، فعند ذلك تتحجب.
انظر إلى الناس! وهذا هو الحاصل الآن وهو الذي يسري في المجتمع، فإن عامة النساء -إلا من رحم ربي- في قضية الحجاب متفلتات، فإذا جئت تأمر بالحجاب تجدها تقول: أنا وسط ومعتدلة، أنا لست كاللواتي يلبسن القفازات ويضعن على الوجه الحجاب، وتلبس الساتر ويصير فضفاضاً، هذه المتطرفة.
انظر -الآن- كيف انعكس الفهم الخاطئ للوسطية والاعتدال، وانعكس على تقييم الناس للأوضاع.
أليس الذي يلتحي ويؤدي الصلوات في المسجد هذا هو الوسط، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فعل هذا، ألم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم له لحية كثة وكان يصلي مع الناس في المسجد؟ نعم! إذاً الرسول هو الوسط، وأي إنسان يخالف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم يصبح مفرطاً، ومقصراً، ومضيعاً، أو فاسقاً بحسب الأشياء التي يرتكبها.(147/4)
الشهوات عوائق في سبيل التزام الناس بالإسلام
الحقيقة أيها الأخوة! أن الناس الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ويُطالبون بالالتزام بأحكام الدين، تقف شهواتهم حجر عثرةٍ أمام التزامهم بالإسلام.
فمثلاً: تجد الواحد منهم لسان حاله يقول: أنا شهواتي تصدني عن الالتزام بالإسلام، أنا لا أستطيع أن أقاوم شهواتي، فلذلك أقع في كثيرٍ من المحرمات، ولذلك هذه الشهوات تمنعني من الالتزام بالإسلام.(147/5)
الالتزام وفقدان اللذة والشهوة
بعضهم يخافون إذا التزموا بالإسلام أن يفقدوا اللذات والشهوات التي يعتبرون أنهم يتنعمون ويتلذذون بها، مثلاً: إنسان غارق في الشهوات، فعندما تعرض عليه الالتزام بالإسلام؛ يخشى في نفسه أن يفقد هذه اللذائذ والشهوات، فيرفض الالتزام؛ لأنه يخشى أن يفقدها.
أولاً: لتوضيح حال هؤلاء الناس أضرب الآن مثالاً واقعياً من الحياة.
شُوهد إنسانٌ ما وهو يمسك الهاتف ويغازل به النساء، فقال له إنسان بعدما انتهى: يا أخي! لماذا لا تصلي؟ فقال هذا الرجل: كيف أصلي وأنا عندي موعد مع فتاة بعد ساعتين؟ الآن من الذي منع هذا الرجل من الصلاة، هو الآن رجل صاحب شهوة، وجالس يركض وراء تلبية شهواته.
فلذلك تجد في عقله تناقضاً، كيف أصلي وبعد ذلك أذهب إلى شهواتي! فلذلك تصعب عليه القضية فماذا يترك؟ للأسف! لا يترك الشهوة بل يترك الصلاة، لأنه يعتقد أن هذه الشهوة حائلٌ بينه وبين الالتزام بالإسلام، ولا يجتمع في عقله ولا في نفسه صلاة مع اتباع الشهوات.
هذا الإنسان علاجه كما قال الله تعالى في القرآن: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] القرآن فيه أنواع كثيرة من الشفاء للشهوات، منها -مثلاً- قصة يوسف عليه السلام، كيف صبر على شهوته.
هذه القضية عندما تعرض على هذا الرجل، وعندما يقرأ هذه القصة يتعظ منها، وتكون نوعاً من الشفاء للمرض الذي في نفسه، فهذا الإنسان يذكَّر بالله عز وجل: كيف يبيع العاقل الجنة بشهوة ساعة؟! فنقول: أنت -يا أخي- الآن عندما تقول: أنا لا يمكن أن أصلي، وأنا -الآن- على موعد من هذه المواعيد المحرمة، لماذا لا تصلي؟ الآن إذا لم تصل بالكلية تصبح كافراً، وتخلد في النار، فهل الأحسن لك أن تصلي حتى لو ارتكبت هذا المنكر أم لا؟ بعض الناس واقعين في منكرات؛ فيريدون أن يتحللوا من سبب أنواع الطاعات، بحجة أنه واقع في هذه الشهوات، وأنه لا يستطيع أن يقاوم نفسه، وما دام أنه واقع فيها كيف يؤدي الطاعات؟ فيترك الطاعات.
فهذا الرجل يقال له: أنت يا أخي صلِّ، ولعل الله أن يهديك بهذه الصلاة، فتنهاك صلاتك عن الفحشاء والمنكر، وكم من أناسٍ كانت بدايتهم مع الصلاة بداية لهجر المعاصي والمنكرات، إذا هم أخلصوا فيها وعرفوا معنى الخشوع، ومعنى إقامة الصلاة على حقيقتها، في فروضها، وشروطها، وواجباتها، وسننها، وما يترتب عليها، وحال العبد فيها مع الله عز وجل، والإنسان إذا صلى صلاةً صحيحة؛ فإنه لا بد أن صلاته ستنهاه عن الفحشاء والمنكر، والذي يرتكب هذه الشهوات، لا يعتبر إنساناً كافراً، أي: الذي يزني ليس بكافر.
فالذي يزني أو الذي يرتكب شيئاً من الشهوات، هذا لا يعني أنه كفر ولا ينفع معه عمل صالح.
انظر إلى هذا الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا زنا العبد؛ خرج منه الإيمان، فكان على رأسه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه) فإذا أقلع عن الذنب رجع إليه إيمانه.
فلذلك يجب أن يفهم الناس جميعاً، أنهم لو وقعوا في بعض المنكرات، فهذا لا يعني أنه لن تقبل أعمالهم الصالحة الأخرى.
فيا أخي! لا بد أن تصلي، ولكن لا نفعل كما فعل رجل من الناس، فقد كان هناك اثنين من الفسقة جاء وقت الصلاة فقال الأول: أريد أن أصلي.
فقال الثاني: أنا لا أريد أن أصلي، وكل واحد منهما يعلم حال الثاني من الجرائم التي كانوا يقعون فيها، فسمعهما ثالث يقول أحدهم للآخر: ازنِ وصلِ، نحن لا نقول مقالة هذا الرجل، نقول له: يا أخي! صلِ الصلاة كما يريدها الله عز وجل، وإن صلاتك لا بد أن تنهاك عن الفحشاء والمنكر؛ لأن الله يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] ولا بد أن تجاهد نفسك.
والرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه الشاب وقال: أنا أبايعك على كل شيء، لكن اسمح لي بالزنا، فلم يرض الرسول صلى الله عليه وسلم منه هذا، لكن لا بد أن يجاهد الإنسان نفسه، والله عز وجل من سلك سبيله يهديه وييسر له الأمر، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7] فالله عز وجل ييسر للعباد الذين انتهجوا سبيله، ييسرهم لليسرى وللحق، ويسهل عليهم التمسك بالحق.
فإذاً: الذي يقول: أنا كيف أشرب الخمر وأصلي هذا تناقض وأنا لا أحب التناقض! نقول له: صحيح أن التناقض شيء مزعج ومؤذي، لكن هل الحل أنك تختار شرب الخمر وتترك الصلاة؟! أي: هل هذا علاج التناقض عندك؟ أم أنك تصلي وتلتزم بأحكام الدين، وتحاول أن تتخلص من هذه المنكرات، كما أمر الله عز وجل، جاهد ولا تقل: أنا حاولت لكني فشلت، وهو لم يحاول ألبتة.
أيها الإخوة! بعض الناس مستعد أن يلتزم بالأحكام التي لا شهوة فيها مستعد أن يطلق لحيته، ويقصر ثوبه، ويصلي في المسجد؛ لكنه لا يستطيع أن يترك النظر إلى المرأة الأجنبية؛ لأنها مسألة متعلقة بالشعور، يشق عليه أن يترك ويعتزل الشهوات، ولكنه مستعد أن يلتزم بأحكام كثيرة من أحكام الدين.
أيضاً: هذا نفس الكلام الذي ذكرناه {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101]، فهذا الإنسان يعتصم بالله عز وجل، ومادام أن الباب مفتوح ويجاهد نفسه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] كذلك على مستوى النساء، تجد المرأة مستعدة أن تصلي وتزكي وتصوم وتفعل أشياء كثيرة، لكنه إذا أتيت إلى قضية الخروج بين الرجال، ووضع الزينة والمكياج وهذه الأدوات والمنكرات للفت أنظار الرجل إليها لا تستطيع أن تترك هذه الشهوة.
وقد رأينا أناساً من هذا القبيل، ترى المرأة تصلي وربما تبكي وهي تقرأ القرآن، وفي رمضان وو وإلخ، ولكن إذا أتيت إلى ترك الزينة، والتبرج، وعدم لفت أنظار الرجال إليها لا تقوى على هذا؛ لأن القضية شهوة، هذه المسائل علاجها بمجاهدة النفس، ليس هناك علاج سحري، لكننا نقول: لا تُترك الطاعات الأخرى من أجل هذه المنكرات، ولا بد من مجاهدة النفس بالتخلص من هذه المنكرات.(147/6)
شهوة المنصب
كذلك من الشهوات مثلاً: شهوة المنصب، بعض الناس لا يلتزمون بأحكام الإسلام، ليس لأنهم لا يحبون الالتزام، ولكن لأنهم يخافون أن يفقدوا مناصبهم الإدارية وما شابه ذلك؛ لأنه يخشى أن يغضب عليه رؤساؤه عند الالتزام، فيعزلونه من منصب الإدارة أو من المنصب الفلاني؛ لأن رؤساءه لا يحبون التدين ولا الالتزام بالإسلام؛ فهو يخشى أنه إذا التزم أن يفقد منصبه، ولن يعطي العلاوات الفلانية، ولا الزيادات، ولن يترقى من مرتبة إلى مرتبة، وسيجمد في مكانه وهكذا.
هذه المسألة -مثلاً- نفس قضية الزعامة أو الرئاسة، قد يكون الإنسان في مجموعة من الناس الشاردين، ويكون هو الذي يُسيطر عليهم ويأتمرون بأمره، هو القائد فيخشى إذا التزم أن يفقد سيطرته على هؤلاء الناس، ويفقد هذه الزعامة التي يتمتع بها الآن يفقد شهوة حب الرئاسة، لا يتمتع بذلك، هو الآن عنده مجموعة وهو القائم عليها، وهو الذي يطيعون أمره، وإذا قال شيئاً نفذوه وهكذا.
هذا يخشى إذا التزم ألَّا يلتزموا معه، أو يخشى إذا التزم أن الالتزام سيذهب هذه الشهوة وسيقضي على إشباع الغريزة غريزة حب الرئاسة بنفس هذا الرجل.
أيها الإخوة! إذا خُير الإنسان المسلم بين أمرٍ فيه طاعةٌ لله وبين أمرٍ فيه إرضاءٌ لنزواته وشهواته، فماذا يختار؟ هنا يظهر الالتزام بالإسلام، وهنا يظهر الإيمان حقيقةً، لأنك -الآن- مخير بين أمرين شديدين على نفسك، فما الذي تقدم؟ هل تقدم ما يحبه الله عز وجل ويرضاه، أم تقدم ما ترضي به نفسك وما يُرضي شيطانك؟(147/7)
الشبهات عوائق في سبيل التزام الناس بالإسلام
أما إذا أتيت إلى جانب الشُبهات؛ فإن أمرها كبير وواسع جداً، وما يسمعه الدعاة إلى الله عز وجل يومياً من الناس وهم يأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر، ويدعونهم إلى الطيبات، وإلى سلوك الصراط المستقيم، أي: هذا الكلام الذي يسمع يُوضح بجلاء لماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل) هذه الشبهات التي تُعرض وتُطرح ويُصدم بها كل داعية، وتُلقى عليه في وجهه، ولسان حال قائلها يقول: أنا لا يعجبني الالتزام، وأنا لا أريد أن ألتزم بالإسلام.(147/8)
شبهة: الالتزام بالإسلام يقيد الحرية
هذه الشبهات -أيها الإخوة- كثيرة، ونحن نتطرق إلى شيءٍ منها، فمثلاً: يقول بعض الناس أنا أشعر بأن الالتزام بالإسلام فيه تقييدٌ للحرية، وأنا أحب التحرر والانطلاق، لا أحب الكبت والتصفيد بالأغلال، فبعض الناس ينظرون أن الالتزام بالإسلام هو تقييد للحريات، وكبت للحرية الشخصية، لكن ما هو حظ هذا الكلام من الصواب؟ نقول: نعم -يا أخي- نحن نعترف معك -ولا بد أن نعترف بهذا- بأن الإسلام فيه تقييد لشهوات النفس، ولنزواتها، وإلا فأخبرني كيف تكون عبداً لله.
إذا سألت أي إنسان تقول له: هل أنت معترف بأنك عبد لله؟ يقول: نعم.
لا يقول في العادة: أنا لست عبداً لله.
أليس العبد مكلفاً بأن يطيع أوامر سيده؟ نعم.
والعبيد على مستوى البشر تجد أنه إذا أمره سيده بأمر فيه مخالفة لراحته، أو لنومه أو لوقت الطعام عنده -مثلاً- لا بد أن يطيعه وإلا كان عاصياً.
أيها الإخوة! بما أننا عبيدٌ لله، فلا بد أن نتقيد بأوامر الله عز وجل، حتى نكون عبيداً لله حقاً، أما الذي يرفض أن يكون عبداً لله فهذا أمره شيء آخر، أي: هذا إنسان قد ذهب عن الدين بعيداً، ووقع في الكفر والضلال والعياذ بالله.
ماذا تعني هذه المسألة -في الحقيقة- عند هؤلاء الناس؟ يشعر أنه إذا التزم بالإسلام أنه سيقيد بقيود كثيرة، لن يسمع الأغاني، ولن يصافح ابنة عمه، ولن يستطيع أن يفعل ما يحلو له عند وقت الصلوات إلخ.
ومن جانبٍ آخر: بعض الضائعين إذا فكروا الالتزام بالإسلام يتخيل نفسه بعد أن يلتزم، وينظر في أحوال الملتزمين، فيقول لنفسه: هؤلاء الملتزمين مساكين يتمنون أن يفعلوا أشياء كثيرة من الحرية، ولكنهم مقيدون لا يستطيعون.
يتخيل واقع الملتزمين أنه واقع كبت وقهر وضغط وصراع نفسي.
يتخيل أن هذا الملتزم يريد أن يزني لكنه ليس قادراً على ذلك، يريد أن يسمع الأغاني لكن لا يستطيع، يريد أن يصافح المرأة الأجنبية وينظر إليها، يريد أن ينظر إلى الأفلام وإلى التمثيليات ولكنه حرم نفسه، فيتخيل هذا الرجل أن هذا الإنسان الملتزم يعيش في صراع نفسي، هو يريد ولكنه لا يستطيع.
إذاً: يقول في نفسه: لماذا أضع نفسي في هذا الأتون من الصراعات التي قد تفضي بي إلى أمراضٍ نفسية وعُقد وأمراض عصبية، وقد يؤدي بي الأمر إلى الجنون، فهل هذا الكلام صحيح؟ هل الآن كل ملتزمٍ بأوامر الله عز وجل يعيش في صراع نفسي وفي شقاء؟ هل هذا حادث أم أن الأمر على النقيض من هذا تماماً؟ أي: أن الملتزم بأوامر الله يشعر بسعادة وبطمأنينة بالغة، وهو يحس بلذة وطعم العبادة والطاعة.
ألم يقل الله عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] فكيف أن هذا الرجل يعمل صالحاً، وبعد ذلك يعطيه الله عز وجل حياة كلها نغص وتنغيص! وصراعات نفسية! وشقاء ونكد وكبت! كلا، بل أيها الإخوة! إن تعذيب النفس لله، وإلزامها بأوامر الله هي الحرية الحقيقية، لذلك تجد أصحاب الشهوات عبيداً لشهواتهم تجد أنه يدفع من جيبه كذا وكذا من الدراهم؛ لكي يحصل ويُرضي نزوةً من النزوات التي ألقاها في قلبه الشيطان، ويسافر من هنا إلى هناك لكي يرضي هذه النزوة والشهوة، ويتمرغ على أوحال أعتاب من يظن أنهم سيمنحونه أو سيحفظ عن طريقهم السعادة، سواءً كن من النساء الفاجرات أو غيرهن، لكي يصل هذه القضية ويروي شهوته.
أليس هذا عبداً في الحقيقة؟ نعم، إنه عبد لا يكاد يصبر على الشهوات، فهو العبد حقيقةً بالمعنى الخاطئ، أي: الذي عبد الشهوات، وليس عبداً لله، وإلا فثقوا أن كل من عبد الله تعالى فهو يعيش في غاية الارتياح والحرية؛ لأن عبادته لله قد حولته من أسر شهواته، وأسر هذه النفس الأمارة بالسوء، والجري وراء الشهوات ليلاً ونهاراً، ووراء جمع المال من الحلال والحرام، ووراء إرضاء الشهوات الجنسية إلخ.
وكذلك يصف القرآن حال من أعرض عن ذكر الله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] معيشة ضنكا، أي: شديدة قاسية مؤلمة.(147/9)
شبهة: التصرفات السيئة لواقع بعض الملتزمين ظاهراً
من العوائق التي تعيق بعض الناس عن الالتزام بالإسلام: أنهم يستدلون بواقع بعض الملتزمين الذين هم في الحقيقة غير ملتزمين بالإسلام.
مثلاً: رجل ظاهره الالتزام بالإسلام، لكن عنده تصرفات سيئة، فيأتي هؤلاء الناس الذين لا يريدون أن يلتزموا بالدين وأحكامه، فيقول لك وأنت تناقشه وتجادله بالتي هي أحسن: كيف تريدني أن ألتزم؟ انظر إلى حال فلان الفلاني! طويل اللحية قصير الثياب، لكن انظر كيف يأخذ سيارة العمل وسيارته الخاصة إلى الورشة، ويقول لصاحب الورشة: فك كفرات سيارة العمل وغيرها لسيارتي، لأن كفرات سيارة العمل جديدة.
أو رجل ظاهره الالتزام، يعمل بالتجارة في العقارات، فيأتي رجل ليشتري منه، فيلاحظ أنه يتعامل بالربا أو يغش، أو يدلس ويكذب إلخ.
أو مثلاً على أقل الأحوال: أحياناً يرى إنساناً أنه ملتزم؛ ولكنه لا يحافظ على نظافته الشخصية.
فيقول: انظر -يا أخي- الالتزام كيف هو وسخ، هذا الذي تريدني أصبح مثلهم؟ انظر كيف شكل فلان؟! هذا الرجل كلامه بعيد تماماً عن الحجة، ولا يُعتبر حجة أبداً، لأنه يحتج الآن بإنسان غير ملتزم، لأنه للأسف كثيرٌ من الناس المجادلين عندما تتناقش معهم، يفتري على أناس من عباد الله الصالحين، ويقول: يفعل كذا ويفعل كذا، وتريد أن أكون مثله، وعندما تتحقق من الموضوع تجد أن ذلك الشخص الملتزم لا يفعل أياً من هذه الأمور، وأنما اختلق قصة لذلك الرجل وألصقها به، وضخم الأمر، أو أن لها أصلاً، فرآه مرة في حالة لا تعجبه، أو لا ترضيه، فعمم عليه وعلى غيره، فأولاً قد يكون افتراءً، ولو كان صحيحاً؛ فإن هذا الشخص الذي يحتج به ليس ملتزماً، فلا يكون هذا حجة أبداً.
فنقول له: أنا لا أريد أن تكون مثل فلان، أنا أريدك أن تقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم، دع فلاناً وفلاناً، أنت قال الله لك: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] أنا أخطئ وغيري يخطئ، لذلك أرسل الله لنا قدوة من البشر كاملاً في صفاته وخصاله لكي نقتدي به، وهذا رحمة من الله لهذه الأمة، أن أرسل إلينا رسولاً قدوةً، فلا نحتاج لأن نقول: انظر يا فلان! لا تنظر إلى فلان، لكن نقول لأي أحد: اقتدِ بالشيخ الفلاني اقتدِ بالرجل الفلاني، لكي تقرب له واقع القدوة، وتنتقي له قدوة يعايشها ويراها، لكن ما هي القدوة الأساسية التي نرتبط بها؟ إنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم يقول لك: يا أخي! انظر فلاناً هذا حج ولكنه يشرب الخمر، فتقول له: ماذا تريد؟ أي: نترك الحج لأن فلاناً يحج ويسكر.
يقول لك: هذا فلان الملتحي يفعل كذا وكذا من الغش والتزوير! تقول له: نترك اللحية سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن فلاناً يزور، ما علاقة التزوير بهذا الحكم الإسلامي؟! حكم اللحية ما علاقته بالموضوع؟! فهذا الربط والتلازم الذي يزعمه كثيرٌ من الناس في نقاشاتهم، لا حقيقة له؛ ولكنه يريد أن يجادل ويماري -بالأحرى- حتى يخرج من المأزق الذي يحس أنه قد تورط فيه عندما تقام عليه الحجة، ويشعر بأنه مخطئ، ألم يقل الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164].
ألم يقل الله عز وجل: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:13] كل إنسان محاسب على عمله، وأنت لماذا تنتظر خطأه، خطأه سيحاسبه الله عز وجل عليه، ولماذا تحتج بخطئه على الإسلام؟ ولماذا تجعل الإسلام هو هذا الشخص؟ فما إن وقع هذا الشخص في خلل؛ فأنا لا أريد أن ألتزم بالإسلام ما علاقة هذا الرجل بالإسلام الذي أنت المفترض أنك تتبع وتلتزم به، فلماذا تحتج به؟! أيها الإخوة! الناس ليسوا حجة على الشريعة، ولكن الشريعة هي الحجة على الناس، ومثل هذا بالنسبة لأخواتنا النساء، فلا شك أنهن يسمعن كثيراً من بنات جنسهن، يقلن: أنا لا أريد أن أتحجب؛ لأن فلانة المتحجبة تفعل أشياء ومصائب من تحت الحجاب من خلف الحجاب! أي: كون فلانة ترتكب هذه المنكرات وهي متحجبة أن نترك الحجاب لأجل أنها ترتكب المعاصي، ما علاقة المعصية بالحجاب؟ هل المعصية هي الحجة على شريعة الله في أمر المرأة بالحجاب؟ ولأن هذه المرأة كان فيها نقص ولو أنها متحجبة أخطأت أو عصت أصبحت معصيتها حجة على الشريعة الإسلامية بأمر الحجاب، فانظر كيف يصرفون ويفكرون: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف:56] وأي أحد من أهل الباطل إذا تفكرت في كلامه لا تجد عنده مستنداً شرعياً مطلقاً.(147/10)
شبهة: تكرار الوقوع في المعصية مع التوبة
كذلك أيها الإخوة! بعضهم يقول: أنا إنسان يتكرر مني وقوع المعصية، مثلاً: أشرب الخمر ثم أتوب وأبتعد عن شربه، ثم أشربه مرة ثانية، وأترك الشرب ثم أشربه مرة ثالثة أنا رجل التحيت فترة من الزمن، ثم حلقت لحيتي، ثم تركتها، ثم حلقتها، ثم تركتها، ثم حلقتها أنا امرأة تحجبت ثم تركت الحجاب، ثم تحجبت ثم تركت الحجاب، ثم تحجبت فيأتيه الشيطان يقول له: جعلت الدين لعبة!! لا.
أول شيء أن تكون على ما أنت عليه من المعصية، وبعد ذلك إذا تأكدت أنك قد وصلت إلى مستوى أنك إذا التزمت بهذا الحكم لا تتركه؛ فبعد ذلك التزم بالإسلام حتى لا يصبح الدين لعبة.
وكذلك يقول بعضهم: إنسان التزم بالإسلام فترة من الزمن، ثم انتكس وارتد على عقيبيه، ثم خالف أوامر الله عز وجل، فيقول في نفسه: بدل ما أرتقي ثم أهبط من هذا المستوى، فأجلس في الوسط لأني أخاف أن أتردى بعد ذلك إلى أسفل سافلين، دعني على قليل من المعاصي التي عندي وقليل من الطاعات، فهذه بركة وكفاية! فهذا الرجل الذي يقول: أنا أتأكد من نفسي أولاً ثم ألتزم.
لا بد أن نعلم أننا نحن البشر مخطئون، وأن من طبيعتنا أن نخطئ، والله خلقنا وفينا قابلية للخطأ والمعصية:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا لأنه يتقلبُ
نحن ننسى ونخطئ ونذنب، ولما علم الله هذا الطبع في نفوسنا أخبر على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بالحديث الصحيح الذي يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يذنبون، فيستغفرون الله تعالى؛ فيغفر لهم) رواه مسلم، وهذا حديث جميل جداً ويريح النفس كثيراً.
الله عز وجل لم يخلقنا إلا وهو يعلم بأننا نذنب ونخطئ، ولكن الخطأ الحقيقي هو الاستمرار على الذنب وعدم التوبة والرجوع إلى الله عز وجل، ولذلك فتح الله باباً بين المشرق والمغرب لا يُغلق إلا عند قيام الساعة لا يُغلق إلا عند طلوع الشمس من مغربها، هذا الباب هو باب التوبة.
فعندما يأتي إنسان، ويقول: أنا أذنب وأتوب، وأذنب وأتوب، فأنا أريد أن أبقى على هذا الذنب؛ لأني لا أريد أن أجعل الدين لعبة، فنقول له: يا أخي! لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه فيما يحكي عن ربه تبارك وتعالى قال: (أذنب عبدٌ ذنباً، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، وقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب مرة ثالثة، فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي فليفعل ما يشاء).
إذاً: هل لك بعد أن سمعت هذا الحديث أن تقول: أنا لا أريد أن أجعل من الدين لعبة، ألتزم ثم أنتكس، ثم ألتزم ثم أنتكس، فإذاً أنا أريد أن أكون منتكساً هكذا حتى يأذن الله، وحتى أتمكن نفسياً، وحتى أقوى وحتى وحتى لقد فتح الله باب التوبة؛ لكي يرجع العاصي، ويئوب هذا المفسد الذي حصل منه الخطأ.
أيها الإخوة! وقوع الذنب منا ليس مسالةً مستغربة، وإنما هو حقيقة من حقائق البشر، لكن يجب أن ننتبه إلى أن باب الذنب مفتوح على مصراعيه، كل إنسان يذنب ويستغفر، ويذنب ويستغفر، ويذنب ويستغفر، هذا فعلاً يكون لعبة، لكن في الحديث أمرٌ لا بد من الانتباه إليه، يقول الله عز وجل في الحديث: (قال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب).
الناس لا ينتبهون لمعنى كلمة (ويأخذ بالذنب) أي: يعاقب عليه، فهذا العبد المؤمن في هذا الحديث يفقه أن الله غفورٌ رحيم، كما يفقه أن الله شديد العقاب، وهذه هي الحقيقة المهمة.
وأيضاً من عقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا تلازم في التوبة بين الماضي والمستقبل، أي: لو أن إنساناً أذنب ثم تاب إلى الله عز وجل توبة صحيحة، ثم أغواه الشيطان والنفس الأمارة بالسوء ووقع في الذنب مرة ثانية، هذا لا يعني أن توبته الماضية فاسدة، وأن الذنب الأول ما زال مكتوباً عليه حتى الآن، لا.
الذنب الأول قد مسح بالتوبة الأولى الصحيحة بشروطها، ولاحظ شروط التوبة عند السلف، وهي: 1 - الإقلاع عن الذنب.
2 - الندم على ما فات.
3 - العزم على عدم العودة إليه.
لم يقولوا في التعريف: وعدم العودة إليه، وإنما قالوا: والعزم على عدم العودة.
أي: العودة شيء، والعزم على عدم العودة شيءٌ آخر، فإذا أذنبت وتبت توبةً صحيحة، ليس توبة المستهزئ واللاعب؛ فإن الله يغفر لك ذنبك حتى لو عدت إلى الذنب مرة أخرى.
إذاً: لا تلازم بين الماضي والمستقبل في قضية التوبة إذا كانت صحيحة، ليس أن يذنب الإنسان وبعد ذلك يستغفر استغفار اللاهي من أجل أن يعود بعد قليل، وهو يعرف أنه بعد قليل سيجعل هذا الاستغفار من باب إكمال الإجراءات.
كذلك نقول لهذا الإنسان: هب أنك ستذنب وتتوب، وتذنب وتتوب، أليس من الأفضل لك أن تصبح (50%) من أفعالك صالحة و (50%) غير صالحة بدلاً من أن تصبح كلها غير صالحة وشقية.
أي: يقول هذا: ما دام أني أذنب وأستغفر، وأذنب وأستغفر، إذاً لا أريد أن ألتزم نهائياً، نقول له: أنت الآن إذا لم تلتزم نهائياً وقعت في مصيبة أعظم من الأولى، على الأقل أن نصف عملك صالح ونصفه فاسد، لكن الآن أصبح كله فاسداً؛ لأنك لست ملتزماً نهائياً.
إذاً الكلام الشائع بين العوام: الذنب بعد توبة أشد من سبعين ذنباً، كلام غير صحيح.
ثم إنه أيها الإخوة! هناك مسألة مهمة وهي: أننا لا نطلب من الناس أن يلتزموا من أجل إرضاء الملتزمين، وحتى لا يتكلم عليهم الملتزمون، وإنما نطلب منهم أن يلتزموا لأجل الله عز وجل، فأنت -يا أخي- المذنب المقصر لم يضرك الناس لو قالوا عنك: أنت تبت ورجعت، وتبت ورجعت، أنت لعّاب، ما عليك منهم، ما دام أنك إنسان صادق في توبتك لله عز وجل ما عليك منهم، دعهم يقولون ما يقولون، أنت لم تلتزم من أجل ألا يتكلم عليك، لا الطيب ولا التعبان، أنت التزمت لله عز وجل، وقمت بهذا العمل لله عز وجل.(147/11)
شبهة: الاضطهاد الذي يراه على الملتزمين
من العوائق أيضاً: إنسان يشاهد رجلاً ملتزماً قد عظ على الدين بالنواجذ، فسبب هذا اضطهاد من حوله له، فيقول في نفسه: أف! كل هذه الاضطهادات والاستهزاءات والسخريات، فما دام أن المسألة كذا فأنا ليس عندي استعداد أن ألتزم؛ لأنه يرى أحد الملتزمين الآخرين بالدين يُسخر منه، ويُؤذى في الله عز وجل، فيقول في نفسه: أنا إذا التزمت سيحصل لي مثل هذا، أنا لا أستطيع أن أثبت، فإن قلت له: كيف يثبت فلان هذا؟ يقول لك: هذا فلان شخصيته قوية، وأنا والله لا أظلم نفسي، فنقول له: لماذا تفترض أنك لن تستطيع أن تثبت؟ انظر إلى الخطأ الشنيع عندما يقيس الناس أحوال الملتزمين بما يفهمونه هم وهم خارج الالتزام.
أي: أن الإنسان عندما يلتزم؛ يُعطيه الله عز وجل قوة ويُثبته، وتصير عنده شحنة إضافية من الصبر على الأذى لم تكن عنده قبل الالتزام، وهذه مسألة لا يفقهها غير الملتزم بالدين.
تجد الملتزم يقول في نفسه: سأضطهد، وأنا ليس عندي استعداد أن أصبر، وأنا ضعيف الشخصية، لماذا يتصور هذا وهو يعيش خارج الالتزام؟ وما يدريك -يا أخي- عندما تلتزم بأحكام الدين أن الله يثبتك ويؤيدك بقوةٍ وتأييدٍ من عنده، فتصبر أضعاف مضاعفة على البلاء وهذا هو الذي يحصل: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:51]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد:35].
الله مع المؤمنين مع المتقين ولي الذين آمنوا الله لا يتخلى عن أوليائه، قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38].
ثق يا أخي أنك إذا التزمت بالدين رغم كل الاضطهادات التي ستلقاها، فإن الله لن ينساك، وسيثبتك ويؤيدك، وستصبح شخصيتك قوية أمام المستهزئين، وأمام الذين يؤذونك، فتثبت إن شاء الله تعالى.
بعض الناس يريد التزاماً من غير أذى، فإذا حصل شيء في الالتزام سيؤذيه تركه، فيكون مثل الذي يعبد الله على حرف: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} [الحج:11].
هنا قاعدة من المفيد أن تُذكر وهي مذكورة في بعض كتب السلف -ربما في كتاب الورع لـ أحمد بن حنبل رحمه الله ورضي عنه وأرضاه- تقول القاعدة: "على الإنسان -أي: المسلم- ألا يُعرض نفسه لبلاءٍ لا يطيقه"، ليس ألا يعرض نفسه للبلاء، لا.
فهو لا بد أن يتعرض للبلاء؛ لأن سنة الله جرت بأن من يتمسك بالدين يحصل له الأذى والاضطهاد، لكن على الإنسان ألَّا يعرض نفسه لبلاءٍ لا يطيقه؛ فيجعله يرتد على عقبيه.
مثلاً: رجل متفلت، وبعيد عن طريق الله عز وجل، وعن منهج الله، فهداه الله تعالى ودخل الإيمان في قلبه، فتمسك بأحكام الدين، وهو -مثلاً- شابٌ يعيش في أسرة، ومن أحكام الدين وشرائعه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتغييره باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب، حسب الاستطاعة، إذا كان هذا الشخص حديث عهد بالالتزام، ولا يضمن أنه إذا قام على أهله في البيت وغيّّر المنكرات التي عندهم أنهم سيقومون عليه قومةً تفتنه عن دينه، وترجعه إلى ما كان عليه في الماضي؛ فعند ذلك لا يقوم هذه القومة، وإنما يؤجلها إلى حين، أو يتدرج بها بالحكمة والموعظة الحسنة.
مثلاً: رجل هداه الله عز وجل، فليس من المصلحة أن يأتي ويكسر التلفزيون, وبعد ذلك يأتي أبوه ويطرده من البيت، ويقطع عنه المصاريف ويقطع عنه ويقطع عنه ويجلس هذا الرجل من غير مأوى ولا مال، ثم تصبح عنده ضغوط بسبب أنه لا يمتلك المال، فماذا يفعل؟ يعود إلى البيت كئيباً ذليلاً صاغراً، وقد رجع إلى ما يريده أبوه.
إذاً: على الإنسان ألا يُعرض نفسه لبلاء لا يطيقه، إذا قدَّرت أن هذه العملية التي ستفعلها ستعرضك لبلاء لا تطيقه، وقد تفتنك عن دينك، وقد ترجع وتنكس على عقبيك فلا تفعلها، بل تدرج تدرجاً مناسباً.
بعض الناس يعتقد أن الالتزام وسوسة!! ويقول عن الملتزم: إنه موسوس، مثلاً: الإنسان المسلم الملتزم الأصل أن يكثر من ذكر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:41 - 42] فيأتي إنسان من هؤلاء المتشردين البعيدين عن منهج الله ويرى إنساناً ملتزماً يمشي في الطريق وهو يحرك شفتيه بدعاء الذهاب إلى المسجد دعاء السوق وهذا المتفلت لا يعرف مثلاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} ولا يعرف أن السوق له ذكر، ولا يعرف أن الذهاب إلى المسجد له ذكر؛ فيقول عن هذا الإنسان الذي يحرك شفتيه ويتمتم: موسوس! يقول: الله المستعان! إذا كان هذه هي حالتهم فهذه مشكلة، ثم يتكلم في المجالس بما يرى، يقول: أنا يا جماعة رأيت فلاناً يمشي، ويفعل كذا وكذا، وكأنه راكبه جني يكلم نفسه في الطريق، ما معه أحد.
وهذا كله بسبب الجهل، وإلا فالمفترض أن الإنسان المسلم عليه أن يَذكر الله تعالى في كل أحيانه؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر ربه عز وجل.(147/12)
شبهة: حب الملتزمين مع الرضا بالواقع المعاش
من العوائق التي توجد عند بعض الناس: أنهم يرضون بالواقع السيئ الذي يعيشون فيه، لكنهم يمتدحون الملتزمين بالدين، فإذا رأى مثلاً الناس ملتزمين يقول: جزاكم الله خيراً، وكثّر الله من أمثالكم، يُغدق عليهم ألفاظاً ولا يعاديهم.
لكن يعتقد أن الالتزام فرض كفاية، وأن الدعوة إلى الله فرض كفاية، والحمد لله فهؤلاء الناس قد كفونا العملية، فجزاهم الله خيراً، وكثَّر الله من أمثالهم، فهم لم يقصروا، ونحن دعنا في حالنا الذي نحن عليه، وتمشي الأمور.
الواقع أن هؤلاء الناس يظنون أنهم من أهون المتفلتين شراً، وإذا كان قد كف عن غيره، فهذا لا يعني أنه قد كف شره عن نفسه؛ لأن النفس أمارة بالسوء، والله عز وجل عندما أهلك قريةً من القرى قال: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:165].
هذا يعني أن الله ينجي الذين ينهون عن السوء؛ لكن هذا المتفلت الذي رضي بواقعه إذا نزل العذاب؛ فإنه لن ينجو، لأن الله عز وجل لا ينجي إلا الذين ينهون عن السوء، وكذلك حديث السفينة -الذي تعرفونه- فكان فيها طابقين، أناس تحت وأناس فوق، فكان الذين في الأسفل إذا أرادوا أن يشربوا الماء مروا على من فوقهم وأخذوا من فوق، فقالوا: بدل أن نؤذي من فوقنا، لو خرقنا نحن في جانبنا خرقاً ونأخذ الماء مباشرة، ولا داعي أن نؤذي الناس الذين فوقنا (فإذا أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً، وإن تركوهم هلكوا وهلكوا جميعاً) فهذا لا يعني أن المجتمع يجب أن يكون فيه قسمين: 1 - قسم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
2 - وقسم يسير حسب سير المجتمع.
وهنا نقطة مهمة: وهي أن أكثر أصحاب هذا القول هم من كبار السن في العادة، فهنا قد يسأل الإنسان: لماذا يكون الالتزام في الشباب أسرع وأفضل من الالتزام عند كبار السن؟
الجواب
أن الشباب بطبيعتهم عندهم روح التجديد والتجدد والسرعة في التَغَيُر والتَغْيِير، وتقبل الأفكار أكثر من كبار السن، لأن الكبير في السن قد مشى على حالة معينة، ونمط معين، واستمر عليه، فمن الصعب جداً أن نغير فكره، أما هذا الشاب الناشئ، فمن السهل أن يقبل الأفكار، ويؤمن بها، ويغير ويتغير ويدعو إليها وهكذا.
ولذلك كان أكثر المستجيبين لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم شباباً، فكان أكبر رجل منهم في مكة، تقريباً عمره تسعة وثلاثين سنة تقريباً وهو أبو بكر الصديق.
بعض الناس يقول: الالتزام كلمة كبيرة، فيأتي مثلاً على قضية اللحية، ويقول: أنا عندي منكرات، وعندي مصائب، وعندي فأنا عندما أترك هذه الأشياء أربي اللحية؛ لأني لا أحب أن أضع شيئاً ليس على مستواي، وإذا وضعت اللحية يمكن أصد عن سبيل الله، ويمكن أن يرى واقعي ويختلف مظهري، فيكون هذا من باب صرفهم عن الحق وصدهم عنه، هذا كلامٌ نسمعه من الكثيرين، هنا نتساءل: لو قال الناس كلهم هذه الكلمة، أنا ليس عندي استعداد، ولست على مستوى هذه المسألة، ماذا يحدث؟ سؤال آخر: هذا الرجل قد يؤدي الصلاة، نقول له: هل حق الصلاة في الإسلام أكبر أم حق اللحية؟ والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر أكثر أم اللحية؟ إذاً فالمفروض على كلامك أنك لا تصلي؛ لأنك لست على مستوى الصلاة! انظر كيف أن الشيطان يمكن أن يتدرج مع هذا الإنسان الظالم لنفسه، فيجعله يتفلت من عرى الإسلام عروة عروة وهكذا، ثم نقول له: أما قولك بأنك إذا ربيت اللحية، وفعلت بعض الآثام سوف تصد الناس عن دين الله، فهذا غير صحيح، لأنك عندما أطلقت لحيتك والتزمت بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، هل أطلقتها من أجل أن تغرر بالناس أم من أجل امتثال الشرع؟ نعم! من أجل الامتثال بالشرع، فأنت هذه نيتك، فستأجر على هذه النية.
وكذلك نقول أيها الأخوة: هذه قضايا يظن كثير من الناس أنها قضايا شكلية وهامشية، وقشور، وليست من الأمور المهمة في الدين! وهذا كلام خاطئ، ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، عقد فصلاً جيداً ومهماً عن موضوع أثر الظاهر على الباطن، وقال في معرض كلامه: إن الإنسان إذا تلبس بشيء في ظاهره لا بد أن يؤثر على تصرفاته كيف؟ نضرب مثالاً: الآن نفترض رجلاً لبس لباس العسكرية -لباس الشرطي- كيف تكون تصرفاته وهو يمشي ويقعد، أي: يكون شديداً، ويمشي بشدة وقوة، وعنده حزم ولا يلعب؛ لأنه وهو يلبس ملابس العسكرية يتخيل نفسه عسكرياً، لا بد أن يكون على مستوى هذا اللباس، فيتحمس أن تكون في نفسه صفات تطابق الظاهر الذي هو عليه.
لذلك نجد كثيراً من الذين يدخلون في السلك العسكري تتغير شخصياتهم، أي: قد يكون فيه نوع من اللعب والفوضى؛ فإذا به يتحسن في هذا الجانب، يصبح عنده جدية أكثر.
إذاً: الذي يتشبه بأهل الصلاح ويتصف بصفاتهم -مثلاً- فيعفي لحيته، ويجعل ثوبه على السنة؛ هذا الرجل اتخذ هذه الصفات على ظاهره، فلا بد أن يؤثر على باطنه، ويكفيه فخراً أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من تشبه بقومٍ فهو منهم) فعندما يتشبه بسيماء أهل الصلاح وصفاتهم، ويعفي هذه السنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ويلتزم غيرها من السنن والآداب والمظاهر الإسلامية، فإن هذا يؤثر على قلبه وباطنه.
وبعض الناس عندما تدعوه إلى الالتزام يقول: أنا مستعد أن ألتزم ولكن ليس الآن! أي: على فترات، سوف أعمل خطة خمسية وألتزم عليها، بناءً على هذه السنة القادمة لا أسمع الأغاني، والتي بعدها لا أنظر إلى المرأة الأجنبية، والتي بعدها لا أشاهد تمثيليات، والتي بعدها وهكذا، إلى أن أصل إلى الالتزام، وفي الأخير لا أدري هل يصل بعد الموت أو قبل الموت أو لا يصل نهائياً.
مسألة أني ألتزم على مراحل، أو ألتزم شيئاً فشيئاً وسوف أؤجل الالتزام بعد فترة من الزمن كل هذا من نزغات الشيطان ومداخله، وذلك لأمور: أولاً: ما يدريك أنك ستعيش إلى الوقت الذي ستصبح فيه ملتزماً؟ هل تضمن نفسك؟ ثانياً: هل تضمن أن تهدي نفسك بنفسك؟ أي: أنت حكمت بأنك بعد فترة خمس سنوات ستهتدي، هل فعلاً بعد خمس سنوات سوف تهتدي؟ أو ربما أن الله عز وجل يكتب عليك ألا تهتدي، فهل هداية نفسك بيدك، أنت يجب عليك أن تسلك السبيل المستقيم، فيهديك الله عز وجل بهذه الصفات، وبهذه الأعمال الصالحة.
ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال الصالحة) بادر الآن لأنك لا تعلم متى تموت! {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} [المؤمنون:99 - 100] هذا لن يحصل.
ولذلك قال العلماء في قول الله عز وجل: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد:13 - 14] هؤلاء المنافقون الكفرة ينادون المؤمنين: ألم نكن معكم؟ أعطونا من النور الذي معكم؟ فيقول لهم المؤمنون: {بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد:14] بالشهوات والمعاصي واللذات {وَتَرَبَّصْتُمْ} [الحديد:14]، فقال المفسرون: {وَتَرَبَّصْتُمْ} [الحديد:14] أي: الانتظار.
ولذلك جاء في آياتٍ عدة: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226] تربص أربعة أشهر أي: التأخير أربعة أشهر، وتربصتم أي: أخرتم التوبة، قال بعض السلف: أخرتم التوبة من وقتٍ إلى آخر، وأنتم جالسون تسوفون وتأخرون التوبة: {وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الجاثية:35] {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14].
ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله: "كلما جاء طارق الخير صرفه بواب لعل وعسى".
وهناك مثل جميل يضربه ابن القيم لهؤلاء الناس يقول: الذي يترك الشبهات والشهوات تسري في جسمه ويقول: أنا سأؤخر التوبة، هذا مثله مثل رجلٍ نبتت في داره شجرة مؤذية، وهو شاب قوي، والشجرة صغيرة، فكلما جاء يقطعها، قال: سوف أقطع في القريب، ويؤخر القطع إلى بعد ذلك، حتى مضت فترةٌ طويلة جداً، كبرت فيها الشجرة واشتدت وصارت قوية، وجذورها عميقة، وقد صار شيخاً كبيراً عاجزاً، فلما أتى ليقطعها إذا قواه تخور وتنهار، فالعملية عكسية، فكلما زادت الشهوات والشبهات بالنفس كلما ضعفت قوة التغيير إلى الصلاح وهكذا، فعلى الإنسان أن يبادر بالتوبة والتغيير والالتزام ولا يقول: سوف التزم بعد فترة ومن الذي يضمن لك أن تعيش حتى تأتي تلك الفترة.
هذه مقولة يقولها البعض: أنا لست شريراً إلى تلك الدرجة أني من جماعة كذا، أي: أنا إنسان طيب، ونيتي صادقة، والله يفرض عليّ أن أكون مطوعاً وو الخ.
أي: أنا إنسان طيب، ونيتي طيبة، لماذا تقول لي: التزم بهذه وهذه وهذه، أي: أنا لست شريراً إلى هذه الدرجة، فهذا الإنسان يجهل قضية العبادة، ويجهل: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] يجهل أن يكون كل شيء لله، يعتقد أن هناك شيء لله، وشيء لنفسه، شيء للشهوات، ولإرضاء حظوظ النفس.(147/13)
عوائق ضغط المجتمع على الفرد
كنا قد تكلمنا فيما سبق عن بعض العوائق التي تواجه الناس الذين يريدون أن يلتزموا بأحكام الإسلام وشرائع الدين، ويريدون أن يختاروا لأنفسهم طريقاً صحيحاً يكون على منهاج الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء السائرون تواجههم مصاعب عديدة، وتحديات كبيرة تحتاج إلى صبر وعلم، وتحتاج إلى أخوة في الله، وإلى أسلحة كثيرة جداً؛ لكي يصمد الإنسان أمام هذه التحديات، ويجتاز هذه العقبات، ويتغلب على تلك المصاعب التي تحيط به في ذلك الطريق المحفوف بالمخاطر، الذي سار فيه الأنبياء من قبل والتابعون لهم بإحسانٍ.
ولعله من أكبر العوائق التي تواجه الذين يحاولون الالتزام بالإسلام، ويلتزمون به: هو ضغط المجتمع الذي يعيشون فيه، فإنه ما من شكٍ أن مجتمعات المسلمين اليوم أصبحت مجتمعاتٍ بعيدة جداً عن الإسلام وعن تعليمات الدين.
ولذلك أصبح المجتمع الذي نعيش فيه كله مجموعة من العوائق، فأنت ترى الزوج أحياناً قد يكون عائقاً أمام زوجته التي تريد أن تلتزم بالإسلام، والزوجة قد تكون عائقاً أمام زوجها الذي يريد أن يتمسك بأحكام الدين، والأولاد قد يكونون عوائق أمام الأب والأم، والأسرة بأجمعها قد تكون عائقاً أمام شاب فيها يريد أن يتمسك بالإسلام، والحي والمدرسة والشارع والسوق والمجتمع بأسره قد يكون عائقاً كبيراً من العوائق التي تواجه اليوم الذين يريدون أن يتمسكوا بأحكام الدين، ويلتزموا بشرائع الله عز وجل.(147/14)
الزوجة عائق أمام الزوج
أيها الإخوة! هناك رجلٌ قذف الله الإيمان في قلبه، وهو متزوج، فعندما يريد أن يلتزم ويطبق أحكام الله عز وجل، فإن من أوليات التطبيق أن يطبق أحكام الله في بيته، فإذا أراد أن يطبق أحكام الله في البيت ويجعل هذا البيت ملتزماً بالإسلام، ويُخرج آلات اللهو والمنكرات من البيت، سوف يكون أول الواقفين أمامه زوجته، هذه التي لم يُقدر الله لها أن تلتزم بأحكام الإسلام، وأن يدخل الإيمان في قلبها.
وهنا يحصل التصادم بين الزوج وزوجته، فهي تريد أن تخرج متبرجة إلى السوق، وربما تخرج مع السائق، أو تخرج إلى تلك الحفلات والمجتمعات الساهرة الغارقة في الملهيات وفي كل ما يغضب الله عز وجل، وهو يريد أن يمنع زوجته من هذا الخروج المحرم.
وهي تريد أن تستمع إلى الأغاني وتشاهد الأشياء المحرمة، وهو يريد أن يمنع وقوع هذا الشيء.
وهي تريد أن تربي الأولاد على أشياء لا ترضي الله عز وجل، وهو يريد أن يمنع هذه الآثار السلبية ويحول دون هذه التربية السيئة التي تخرج الولد ولداً عاصياً، فيحصل التصادم وتحصل المشاكل، فإذا كان الرجل صاحب شخصية ضعيفة، ولم يكن الإيمان متمكناً في قلبه؛ فإن زوجته سترغمه على أن يسير في طريقها، وإن لم ترغمه على الرجوع إلى الواقع السيئ الذي كان يعيش فيه، فإنها على الأقل ستضطره إلى أن يكف عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهذا لعمر الله وحده من الأدواء الخطيرة، ومن العوائق، أو من سبل الشيطان، وهو فخ عظيم من فخاخ الشيطان يقع فيه الزوج؛ إذا سكت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله يقول: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] والطريق والعلاج هو قول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحسنة} [النحل:125] وهذه المسألة التفصيل فيها طويل، وهذا يعني أن نتكلم عن طريقة الدعوة، وهذا الكلام له مجالٌ آخر.(147/15)
الزوج عائق أمام الزوجة
هناك زوجةٌ قذف الله الإيمان في قلبها، ودخل نور الهدى ونور القرآن إلى قلب هذه المؤمنة، فهي تريد أن تتمسك بشعائر الله وشرائعه.
فتاة آمنت بالله عز وجل، وتأثرت بفتياتٍ مؤمناتٍ صاحبتهن وصحبنها فأثرن فيها، فسلكت سبيل الالتزام بشرع الله عز وجل، فتريد أن تلتزم بالحجاب كاملاً، وتريد أن تمتنع من مصافحة أقارب زوجها، ومن الاختلاط بهم، والجلوس معهم، وتقديم الضيافة لهم، وهو إذا كان عاصياً لله فاسقاً ديوثاً يُقر الخبث في أهله يُريد منها أن تخرج إلى الضيوف، وأن تقدم إليهم الضيافة، وأن تجلس معهم، وأن تصافحهم، ويمنعها من الحجاب، ويمنعها من الذهاب إلى الفتيات المسلمات التي تتأثر بهن، أو اللاتي هن مشكاة نور ومصباح هداية هداية الدلالة والإرشاد التي تتأثر بها، ومنها هذه الفتاة.
فهو يحجبها ويمنعها من مخالطة الرفيقات الصالحات، فتصطدم معه، وستتعارض الرغبات، ولا يمكن التوفيق، فهي تريد أن تربي ولدها الصغير؛ لكي ينشأ شاباً في طاعة الله، وهو يريد من هذا الولد أن يكون معه في الشر، وأن يعلمه ويقتبس منه جميع أنواع الشرور والمعاصي، هو يريد أن يربي ولده على الخنوع والذل والأغاني والمنكرات والترف والميوعة بسائر أنواعها.
هنا أيها الإخوة! يحدث التضارب، ويحدث الصدام الذي لا بد منه بين كل حقٍ وباطل، والطريق هو: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] لا بد لهذه المرأة من الصبر على هذه اللأواء والشدة والضنك التي تواجهها من زوجها، ولن نفصل كما ذكرت آنفاً في طريقة المواجهة والعلاج؛ لأن هذا هو شرحٌ لمعنى الدعوة وكيفية مواجهة المصاعب، ولكن هذه الحقائق من الأشياء التي تحدث في البيوت، وتتكرر دائماً.(147/16)
الأولاد عائق أمام الأب
إذا نظرت إلى الأولاد فإنهم يجرون الأب والأم إلى كل شيءٍ فيه إسرافٌ أو معصية لله عز وجل، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال في الحديث الصحيح: (الولد مجبنة مبخلة محزنة) فإنك إذا جئت لكي تجاهد في سبيل الله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ تذكرت ولدك وقلت في نفسك: أين يضيع هذا الولد؟ وأين يذهب؟ فإذا قمت بدوري في الجهاد في سبيل الله، وقمت صادعاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيثبطك هذا الولد عن هذا الدور؛ فتكون جباناً أمام هذه الشهوة وهذه الزينة من زينة الحياة الدنيا.
وإذا جئت لتنفق في سبيل الله، وتخرج من جيبك هذه الدريهمات التي تتصدق بها في سبيل الله عز وجل؛ نازعتك نفسك، وتذكرت ولدك، وقلت في نفسك: أليس من الأجدر والأحسن أن أبُقي هذا المال من أجل ولدي، وعند ذلك يكون الولد مبخلة كما قال صلى الله عليه وسلم.
وهو أيضاً محزنة؛ فإذا مرض، أو حصل له شيء؛ فإنه يحزنك ويقع في نفسك هذا الألم وهذا الحزن لما وقع في هذا الولد.(147/17)
عائق الأسرة والمجتمع
إذا جئتم إلى الأسرة بطبيعة تركيبها؛ فإنكم تجدون أغلب الأسر اليوم -إلا من عصم الله عز وجل- قائمة على أمورٍ كثيرة من المنكرات والمعاصي التي لا يرضاها الله عز وجل.
فإذاً تشعر بأن كل ما يحيط بك هم أعداء لك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] فقد سماهم الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} وإذا نظرت إلى تلك الرفقة السيئة التي تحيط بك في مجتمعك من الأصدقاء والأقارب والإخوان والخلان، فإنك تجد واقعهم أيضاً بعيداً عن الدين كل البعد، وهم يثبطونك في كل حركة، وفي كل مشروعٍ خير تريد فيه أن تربي نفسك على الإسلام، تجدهم يجرونك إلى الواقع السيئ، ويأتونك بالليل والنهار يحاولون أن يثنونك عن الطاعة التي تريد أن تؤديها، إن هذا بحد ذاته تحدٍّ كبير.
وإذا نظرت إلى السوق والمدرسة والشارع والمجتمع وجدته بأسره يحول بينك وبين الالتزام بالإسلام، هل هذا الشيء غريب؟ وهل هذا الشيء حديث؟ كلا؛ فإن الله قد قال في القرآن: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] هذه هي الحقيقة التي قررها الله عز وجل في كتابه، وقال سبحانه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].(147/18)
حوار مع من جرفه تيار المجتمع
أيها الإخوة! هذا المجتمع يشدنا إلى الأثقال وإلى الوحل الدنيوي والطين المادي، الذي يحجبنا عن نور الهدى والتمسك بشعائر الله وشرائعه، وفي هذا المجتمع تسود عاداتٌ وتقاليد بعيدة عن الحق كل البعد عادات وتقاليد منافية للإسلام، ومنافية للدين، وأعراف سائدة مخالفة لشرع الله عز وجل، أنت محكومٌ بها ومسيطرٌ عليك بها، ماذا تفعل لمواجهة هذه الأشياء؟ كثيرٌ من الناس من أصحاب النفوس الضعيفة، تأسن نفوسهم، وتضعف مقاومتهم أمام هذه الأشياء السائدة المخالفة لشرع الله عز وجل، ولذلك فإنهم يسيرون مع التيار، يسبحون معه، وهم إمعات!! كل واحد منهم يقلد تقليد الأعمى، هنا نقف موقف نقاشٍ ومسائلة مع هذا الرجل الذي جرفه تيار المجتمع عموماً من الأشياء التي ذكرناها، ونقول له: أنت إذا رأيت طريق الشر مليئاً بالناس، وطريق الخير ليس فيه إلا القلة، فهل تكون القلة والكثرة هي الميزان والمعيار الذي تقيس به الأمور والذي تسير وراءها، هل القلة والكثرة هي الأشياء المؤثرة في اختيار الطريق الصواب؟ لا يغرنك كثرة الهالكين، ولا قلة السالكين؛ فإنه يجب عليك -يا أخي المسلم- أن تتبع الحق، كما قال ابن مسعود رحمه الله: [الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك] الجماعة ما وافقت طاعة الله، لا تقل لي: إن أبي يفعل كذا، والأسرة تفعل كذا، والمجتمع يفعل كذا، وهذه هي الأعراف وهذا هو السائد، وهذا هو المتعارف عليه، هل تريدني أن أخالف هؤلاء كلهم؟ أي: إن هذه الحجة لا يقبلها الله عز وجل يوم القيامة، بل إنه سيسألك أنت كفردٍ ولن يسأل المجتمع {وَيَأْتِينَا فَرْداً} [مريم:80] ويحاسب الإنسان أمام الله عز وجل محاسبة فردية.
فإذاً: أسألك سؤالاً يتعلق بالدنيا: لو أنك رأيت مشروعاً فدرسته فوجدته خاسراً، مثل: شركة استثمار، فدرست حالها ووضعها؛ فوجدت المشروع خاسراً، ولكن أغلب الناس منكبين على هذه الشركة يشترون أسهمها، ويشاركون فيها، وهي تعطي أرباحاً، ولكن لما درست الأحوال وجدت أن هذه الأرباح مؤقتة، وأن هذه الشركة بعد فترة قصيرة ستذوب وتنهار وتصبح الأمور خسائر في خسائر، هل تسير مع الناس وتشتري أسهم هذه الشركة وتشارك فيها بحجة أن أكثر الناس مشتركون ومشاركون في هذه الشركة! إن العاقل سيقول: كلا.
إنني لن أقدم على هذا العمل؛ لأن أكثر الناس فعلوا ذلك؛ فإذا كان هذا موقفك -يا أخي المسلم- في تجارة دنيوية، فكيف يكون موقفك وأنت في هذه المسألة العويصة الشائكة الدقيقة العصيبة التي هي من أمور الآخرة والتي ينبني عليها دخولك في الجنة أو النار.
إذاً ليس بالضرورة أن ما يفعله الناس هو الصحيح، كلا.
بل إن أكثر ما يفعله الناس خطأ، ومخالف لشرع الله ومنهجه، فلا تحتج بالكثرة أبداً، ولا يحملنك التعصب للعادات والتقاليد والأعراف السائدة على متابعة هذه الأشياء، بل إنك يجب أن تفكر بروية، تفكر وأنت تواجه هذه المشاكل! كيف التزم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخطار تحدق بهم من كل جانب؟ كيف التزم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسلام والمغريات من حولهم كثيرة؟ كيف التزم صحابة رسول صلى الله عليه وسلم والشهوات والشبهات والشرك يحيط بهم من كل جانب؟! بل إن ضغط المجتمع على الصحابة في العهد المكي كان ضغطاً قوياً جداً بحيث أنه قد يخرج الإنسان عن دينه.
كيف صمد صحابة رسول صلى الله عليه وسلم أمام هذا الضغط؟! كيف أصبحوا قمماً وقادة؟! كيف أصبحوا علماء وأئمة يهتدي بهم من بعدهم بالرغم من هذه الصعوبات والمخاطر والمخاوف والضغوط؟ إن ذلك المجتمع هو قدوتنا الذي يجب أن نقتدي به، وأن نتابع الحق أينما وجد، وألَّا نخشى في الله لومة لائم.
كذلك أيها الإخوة! ينبغي أن نتنبه إلى مسألة تتعلق بكون الزوجة عائقاً، أقول: الزوج معرض لأن يسير كثيراً في طريق الهدى، فالرجل يستطيع أن يحتك بأجواء كثيرة طيبة، فهو يذهب إلى المسجد، ويستمع إلى خطب الجمعة، وإلى الدروس، ويخالط أناساً كثيرين قد يكون فيهم من أهل الصلاح والتقوى عددٌ لا بأس به، لكن المرأة التي تكون غالباً موجودة في البيت، تكون الأجواء التأثيرية التي تتعرض لها قليلة، لذلك يجب على كل رجلٍ أن يحسب حساباً لهذه القضية، وألا يستعجل من زوجته الثمرة قبل النضوج، ولا يطالبها بمستوى إيماني مثل الذي وصل إليه، والمؤثرات ليست حولها كما صارت حوله.
بل إنه يجب عليه أن يقوي نقاط الضعف فيها، وأن يحرص على تكثير المؤثرات الإيجابية التي تحيط بها حتى تسلك زوجته نفس الطريق، فالرجل من السهل أن يستمع إلى الخير، أو يجد الخير، لكن المرأة قد تكون عندها صعوبة في هذا الجانب، فلا بد أن يهتم الزوج بهذه النقطة ولا يطالب زوجته أن تصل إلى ذلك المستوى الذي وصل إليه في وقتٍ قصير وهو قد وصل إليه بسبب مؤثرات كثيرة لا تملكها زوجته.
فيجب عليه يحيطها بأكبر عدد من المؤثرات حتى تلتزم هذه الزوجة، أما بالنسبة للزوجة المسكينة التي ابتليت برجلٍ شرير، فإنه إن كان كافراً مصراً على كفره؛ فإنه يجب عليها أن تفارقه، وأما إن كان رجلاً فاسقاً لابد لها من الصبر على هذا الرجل والمحاولة معه، ومع العلم بأن قوة التأثير في جانب المرأة أقل، إلا أنه لا بد لهذه الأخت المسلمة من بذل الجهد علَّ الله أن يهدي زوجها على يدها، فتكون قد أدت خدمةً عظيمة جليلة لبيتها ولدينها.(147/19)
عائق الخوف من الالتزام بالإسلام
وإذا جئتُ معكم إلى عائقٍ آخر من المعوقات الموجودة، فإن هذا العائق هو عائق الخوف، فكثيراً ما يمنع الخوف والرهبة أناساً كثيرين من الالتزام بأحكام الإسلام، فهم يخافون من الالتزام بالإسلام، ويحسبون أن التزامهم بالإسلام سيجر عليهم مشاكل كبيرة لا يستطيعوا أن يتحملوها، ويظنون بأن الذي يلتزم بالإسلام سيعيش في حالة رعب وقلق وخوف دائم؛ فلذلك يحجمون عن الالتزام بأحكام الدين لخوفٍ جاء في نفوسهم.(147/20)
الشائعات ودورها في بذر الخوف
مصادر الخوف كثيرة، منها مثلاً: الشائعات التي تروج في المجتمع بكافة الوسائل المرئية والمسموعة والمكتوبة هذا الخوف يؤدي إلى الإحجام عن الالتزام بالإسلام، وكثيرٌ من الأخبار الشائعة التي بين الناس لا أساس لها من الصحة في غالب الأحيان، وفي أحيانٍ أخرى تكون مضخمة جداً، وهي التي تخيف الناس وترعبهم وتمنعهم من الالتزام بالإسلام، لأنهم يظنون بأن الجو الذي سيصبحون فيه جو رعب دائم، ولكن الذي يتذكر قول الله عز وجل {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:81 - 82] إن الذين لهم الأمن هم كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.
بل إن الذي يبتعد عن شرع الله عز وجل هو الذي يعيش في رعبٍ وخوفٍ دائم من الشرور والآثام التي يقترفها يومياً إنه يخاف لأنه جبانٌ رعديد، فقد جعلت المعصية منه فأراً جباناً لا يستطيع أن يثبت.
أيها الإخوة! إن الذي يتمسك بشرع الله يثبت الله قدمه في مواقف تزل فيها الأقدام، ويربط الله على قلبه فتجده شديداً قوياً وهو يواجه مشاكل الحياة.
مثلاً: هناك رجلٌ معرض لأن يفصل من وظيفته، إذا كان مؤمناً بالله وبمن كتب الرزق؛ فإنه لا يخاف مطلقاً؛ لأن الله سيرزقه.
أما الرجل غير الملتزم بالإسلام ما إن تلوح في وجهه شبح الطرد أو الفصل من وظيفته، إلا وتجده قلقاً في الليل والنهار، لا يستطيع أن ينام، تهزه كل كلمة تأتيه من رئيسه؛ لأنه ليس متمسكاً بالدين ولا بأحكام الإسلام، فمن أين له الجرأة ومن أين له الثبات؟! ومن أين له الطمأنينة التي يقذفها الله في قلوب المؤمنين؟! إذا حصل لولده أو له مرض؛ وجدته جزعاً قلقاً مضطرباً، بل إنه قد يموت من رعبه، وتزداد حالته سوءاً؛ بخلاف المتمسك بأحكام الدين الذي يعلم بأن هذا ابتلاء، وأن له فيه الأجر من الله عز وجل.
كثيرٌ من الناس ماتوا عندما سمعوا بأقارب لهم قد ماتوا، وبعضهم حصل له شلل، وبعضهم حصل له جزعٌ شديد، والسبب هو الخوف، الخوف ليس معنا نحن الملتزمين بأحكام الإسلام، الخوف يؤرق ويقلق كل إنسانٍ بعيد عن منهج الله؛ لأن الله تعالى أنزل هذا الدين موافقاً لفطرة البشر، فالذي يبتعد عن الفطرة وعن أحكام الدين لا بد أن يعيش في قلق وخوف دائم.(147/21)
كتب تشوه صورة الملتزمين بالإسلام
هناك من المصادر أيضاً: الكتب التي يقرؤها بعض الناس، والتي تصور الملتزمين بالإسلام تصويراً سيئاً؛ يُلقي في قلب القارئ لهذه الكتب بأنهم يعيشون في رعبٍ دائم، بسبب التهويلات والتضخيمات الموجودة في طريقة العرض والأسلوب الذي كتبت به هذه الكتب، ولو أن بعض هذه الكتب فيها أشياء كثيرة صحيحة من التعذيب، والأشياء التي تعرض لها كثيرٌ من أولياء الصالحين، إلا أنه لا يجدر بإنسانٍ قد خطت قدماه في الطريق مبكراً أن يقرأ هذه الكتب ولا أن يُرشد إليها؛ لأن الإسلام لم يتمكن بعد من قلبه، فقد تكون هذه الأشياء التي يقرأها مانعاً وحاجزاً له ومسبباً للتراجع.
لذلك أيها الإخوة! لا بد أن يستشير الإنسان من يثق به عند قراءة أي كتابٍ يريد أن يقرأه، ولا بد أن يأخذ من أهل الخبرة خبراتهم في هذا الموضوع، وليس من الصحيح أن يمد يده إلى أي كتابٍ في رفٍ من رفوف المكتبة وينتزعه ليقرأه، إن هذا قد يكون فيه تثبيط لهذا الرجل، لذلك -يا أخي- انتبه إلى الكتب التي تقرأها.(147/22)
دور المرجفين في إثارة الإشاعات والخوف بين الناس
ومن المصادر الأخرى للخوف: المرجفون الذين يثيرون الإشاعات والبلابل بين الناس، وتثبيطهم عن أحكام الدين، ويقولون في إشاعاتهم: انظر إلى فلان عندما التزم بالإسلام ماذا حل به؟! وفلان ماذا حصل له؟! فيثبطون كثيراً من الملتزمين بالإسلام.
أيها الإخوة! إذا نظرنا إلى واقع الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، والخوف الذي تعرضوا له، وقارناه بالخوف الذي نتعرض له نحن، لوجدنا أشياء عجيبة، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يُخاف أحد، ولقد أتت علي ثلاثون ما بين يومٍ وليلة، وما لي وما لـ بلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيءٌ يواريه إبط بلال).
الرسول صلى الله عليه وسلم أخيف وأرهب بجميع وسائل الإرهاب والخوف، وليس هناك مثل الخوف الذي تعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم أي خوفٍ آخر مطلقاً، لدرجة أنه في وقتٍ من الأوقات لا يجد شيئاً يأكله إلا شيئاً يسيراً يخفى تحت إبط بلال: (وما لي وما لـ بلال شيءٌ يأكله ذو كبدٍ -طعامٌ يأكله ذو كبدٍ- إلا شيءٌ يواريه إبط بلال) ويدلك على ذلك واقع الرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أنه جلس ثلاثة عشر عاماً في مكة، يتعرض لجميع وسائل الإخافة والأذى والإرهاب حتى يرجع عن دينه، هذا يسخر منه، وهذا يسبه، وهذا يبصق في وجهه صلى الله عليه وسلم، وهذا يحاول أن يضع رجليه على عنقه إذا سجد، وهذا يضع أمعاء البعير على ظهره وهو ساجد، وهذا يأخذ بمجامع ثوبه ويحاول أن يخنقه خنقاً شديداً، وهذا عمه يتبعه في المجامع أنى ذهب يؤذيه ويقول للناس: هذا كذاب هذا مجنون، ويحذرهم منه، وهؤلاء يغرون السفهاء فيرجمونه حتى تسيل رجلاه دماً، وهؤلاء يحاصرون أهله وعشيرته فترة طويلة في الشعب ليموتوا جوعاً، وهؤلاء يعذبون من اتبعه بأنواع العذاب، فمنهم من يضجعونه على الرمل في شدة الرمضاء ويمنعونه الماء، ومنهم -من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم- من ألقي على شيءٍ محمى وما أطفأ هذه النار إلا شحم ظهر هذا الرجل الذي سال على النار من شدة الحر فأطفأها.
ومنهم امرأة عذبوها لترجع عن دينها، فلما يأسوا منها؛ طعنها أحدهم بحربةٍ في فرجها فقتلها، كل ذلك لا لشيءٍ إلا لشيءٍ واحد؛ لأنه يدعوهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور فقط.
أما الناس الذين كانوا من قبلنا من أتباع الأنبياء، فمنهم من نشر بالمنشار، ومنهم من أحرق بالنار، هذا هو الابتلاء الذي تعرضوا له.
نحن الآن في واقعنا ما هي نسبة هذه الأشياء التي نتعرض لها؟! لا شيء، فما بال كثير من الناس اليوم يرجعون عن التمسك بالإسلام لكلمةٍ سمعها أحدهم من صاحبٍ أو قريبٍ له وهو يستهزئ به، والنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الأوائل لم يتراجعوا عن الدين بالرغم من هذه المصائب التي ابتلوا بها.
نحن اليوم نرجع عن الدين وعن التمسك بأحكامه لأدنى كلمة، وأدنى شهوة تعرض لنا في طريقنا، أليس هذا من العجائب، ومن الدلائل على ضعف الإيمان ومقوماته في نفوسنا؟ بلى.(147/23)
عائق الاستهزاء
ومن العوائق التي تمنع الناس من الالتزام بالإسلام في هذا العصر وفي كل العصور، ويرتبط بما ذكرنا آنفاً، فإنك تجد أن هذا العائق هو الاستهزاء.
أيها الإخوة! يتعرض اليوم كثيرٌ من الملتزمين بأحكام الإسلام إلى الاستهزاء من أقاربهم وأصدقائهم وزملائهم في العمل إلى غير ذلك من طبقات المجتمع، يتعرضون للاستهزاء سواءً كان استهزاءً بمظهرهم الإسلامي الذي يطلبه الإسلام، أو استهزاءً بأحكامٍ من أحكام الدين تمسكوا بها، أو استهزاءً بشعائر من شعائر الإسلام يعبدون الله عز وجل ويتعبدونه بها.
هذا الاستهزاء إذا صادف قلوباً ضعيفة، ونفوساً في الإيمان هزيلة؛ فإنه لا شك يكون من أسباب النكوص والرجوع القهقرى في طريق الالتزام بالإسلام.
هؤلاء الذين يستهزئون أمرهم عجيبٌ جداً، فإنهم يستهزئون بأحكام الله عز وجل الذي يؤدي إلى الكفر في كثير من الأحيان.
فإذا وجد أحد هؤلاء رجلاً من الملتزمين بالدين، قد جعل ثوبه موافقاً لما أخبر وأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ تتداعى كلمات الاستهزاء على لسانه في كل وقتٍ وحين، ويلمز هذا الرجل الملتزم بشتى النعوت الدالة على السطحية والسذاجة أو الجنون أو التشدد أو التزمت المقيت.(147/24)
خطورة الاستهزاء بالدين
لا بد أن يعلم المستهزئ بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم بخطورة استهزائه، ويبين له الحكم في هذا الاستهزاء، ولا بد أن يعلم المستهزأ به بالموقف الصحيح الذي يجب أن يقفه، وكيف وقف المسلمون من قبل أمام الاستهزاء الذي حصل بهم، كيف كان نوح عليه السلام يبني السفينة هو وأتباعه، وعندما كان يمر عليه أولئك الملأ فيسخرون منهم؛ كان نوحٌ يجيبهم بذلك الجواب القوي: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38].
وقد جرت سنة الله تعالى بأن يكون الاستهزاء والسخرية من صفات المبتعدين عن الإسلام وأعداء الإسلام، الذين يرفضون الخير لكل إنسانٍ يريد الحق، ويريد التمسك بالدين، ولذلك يقول الله عز وجل في سورة البقرة: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:212] هذه طبيعتهم، وهذه صفاتهم، وأنا أعجب -أيها الإخوة- لأمرٍ من الأمور، في قضية الثوب مثلاً، أحد الناس المستهزئين يرى إنساناً لابساً ثوباً، جعل طوله كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول له مستهزئاً: أنت لابس (شانيل) مثل القميص النسائي الذي تلبسه النساء، أي: أنت تشبه النساء.
أما إذا ذهب هذا الرجل المستهزئ إلى بلدٍ جرت عادات الناس وتقاليدهم في تلك البلاد أن يجعلوا ثيابهم قصيرة، مثل إخواننا من أهل اليمن عاداتهم في لبسهم للثياب وفي لبس الإزار أن تكون قصيرة.
نفس هذا الرجل المستهزئ إذا رأى هذا الأخ وعادته في بلده كذا لا يستهزئ به، فإذا ذهب إلى اليمن وشاهد الناس لا يستهزئ بهم، يقول: هذه عادة الناس.
أما إذا جاء إلى الحكم الشرعي في الموضوع المستهزئ كحكم، وهو لا يستهزئ به كعادة وتقليد، فهذا من الأمور العجيبة ومن المفارقات التي تدل على مدى نجاح المستشرقين وأعداء الإسلام في غزوهم الفكري وفي إبعاد المسلمين عن التصورات، وسلخهم كليةً من تعليمات الدين.
وإذا جلست مع أحد هؤلاء المستهزئين فإنه يطرح عليك سؤالاً بطريقة الاستهزاء، فعندما تأتي -مثلاً- إلى الغناء أو الموسيقى إلخ يقول لك: ما حكم هذه المسألة؟ أو أن فيها قولان.
أي: استهزاء بهذا الحكم واستهزاء بما ستقوله له، هؤلاء الناس بيَّن الله عز وجل علاجهم في القرآن، وبيَّن مصيرهم، وثبتنا نحن المؤمنين -والحمد لله- بآياتٍ عظيمة في سورة المطففين: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29 - 30] يغمزونهم ويلمزونهم ويشيرون إليهم بإشارات الاستهزاء والانتقاص والسخرية: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} ما اكتفوا بهذا الغمز {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:31] أي: منتشين، في حالة نشوة من هذه الجريمة التي ارتكبوها، مبسوطين؛ لأنهم استهزءوا بالمؤمنين، ولم يكتفوا بهذا بل إنهم: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:32].
إذا راوا المستهزئين المؤمنين {قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:32]، وا عجبي من قلب المفاهيم، كيف صار الهدى ضلالاً، مستهزئ يقول لمؤمن: إنك لضال، كما قال الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} هذا ضال، هذا متزمت، هذا رجعي، قُلبت المفهومات.
وأصبح المؤمنون يُلصق بهم ما يجب أن يُوصف به هؤلاء المبتعدين عن شرع الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} قال الله تعالى مبكتاً لهم، وراداً عليهم: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:33] من الذي وكلكم على هؤلاء المؤمنين تحسبون عليهم، من الذي كلفكم بأن تكونوا أنتم الكتبة لما يفعلون: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} ما جعلنا هؤلاء الكفرة على المؤمنين يحصون أعمالهم ويُقيِّمون أعمالهم.
ثم ينتقل السياق إلى اليوم الآخر، والوقت الذي تدوم فيه الأشياء، وتدوم فيه الجنة والنار والعذاب والعقاب والنعيم كلها دائمة: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34] انظر إلى رحمة الله تعالى، وتسليته عن قلوب المؤمنين وعن نفوسهم، كيف أنه يوم القيامة عكس الوضع الذي كان في الدنيا على أولئك المستهزئين: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:34 - 36].(147/25)
قوة المواجهة ضد المستهزئين بالدين
أيها الإخوة! هذا الاستهزاء يجب أن نصبر أمامه، فإن كثيراً من الملتزمين بالإسلام شخصياتهم ضعيفة جداً في مواجهة الاستهزاء، فكثيرٌ منهم لا يقوون على أن يتلفظوا بحرفٍ واحد يقابل فيه استهزاء المستهزئين، وهذه مسألة خطيرة؛ لأنها تسبب نظرة الضعف للإسلام، فالمستهزئ عندما يستهزئ بك وأنت تسكت وتطأطئ برأسك أمام تلك الكلمات الجارحة التي يتلفظ بها ثم تستدير وتذهب، أو تجلس وعليك علامات الخزي، يقوي من شأن ذلك المستهزئ، ويُضعف هيبة الإسلام في قلب المستهزئ، ويثبته أكثر على باطله الذي هو عليه.
يجب أن تكون نفوسنا قوية في مواجهة المستهزئين، نرد عليهم باطلهم، ونبين الحق ونعلنه ونصدع به، أما الشعور أو الظهور بمظهر الاستحذاء والخزي والعار والذلة أمام الفسقة والعصاة والكفرة، فهذا ليس من شيم المسلمين ولا من صفاتهم أبداً، ولا يريد الإسلام منا أن نكون بهذه الصورة، وانظر إلى موقف نوح: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] هذه هي النتيجة، فلا بد من الصمود والمواجهة، وعدم الاستكانة أو الظهور بمظهر الضعف؛ فهذا يؤثر سلبياً على انتشار الإسلام، وعلى وهيبته في نفوس الناس.(147/26)
عائق تعريض النفس للبيئات المؤثرة سلباً
كذلك من العوائق التي تكون حائلاً بين كثيرٍ من الناس وبين الالتزام بالإسلام: قضية تعريض النفس للبيئات التي تؤثر فيها سلبياً، أي: كثيرٌ من الناس يتأثرون بأشياء كثيرة مما يسمعونه ويرونه في حياتهم.(147/27)
كتب الانحلال والمجون
هناك كتبٌ كثيرة تدعو إلى الانحلال والمجون والخلاعة والتحلل من أحكام الإسلام، وهناك أفلام كثيرة وتمثيليات تدعو إلى نفس ما تدعو إليه هذه الكتب، وهذه الأشياء لا يمكن منعها؛ لأن العالم -الآن- مفتوح على مصراعية، فلا تستطيع أن تمنع نفسك من التأثر، فلا بد من بناء النفس المسلمة بناءً صحيحاً بحيث تستطيع فيه أن تواجه هذه المؤثرات.
ونقول: إن من العوائق حقيقة هذه الأشياء التي تُقرأ وتُرى وتُسمع، والتي تدعو الناس إلى الانحلال، هذه الأشياء من أكبر العوائق أمام ضعف المؤثرات الطيبة التي يتعرض لها الناس، فإنك إذا قارنت الكلام السيئ الذي يسمعه الناس، والتصرفات السيئة التي يرونها، أمام الكلام الطيب الذي يسمعونه، والتصرفات الطيبة التي يرونها؛ فإنك تجدها لا شيء.
إن المؤثرات التي توجد حولهم أكثرها سلبية، وتضعف الإيمان وتجعل مكانه مظاهر الفسق والانحلال والابتعاد عن شرع الله عز وجل، وكثير من الكتب المؤلفة في الحلال والحرام منهجها العلمي والشرعي غير صحيح، هذه الكتب تؤثر على الناس تأثيراً سلبياً؛ لأنه إذا كان منهج الكاتب أنه لا يرى شيئاً في الأغاني مثلاً، أو يستهزئ بالمتمسكين ببعض السنن، كما في كتب بعض المحدثين، نسأل الله لنا ولهم الهداية، هذه الكتب تؤثر على الناس تأثيراً سلبياً؛ لأن الناس يتعلمون منها أحكام الدين، فإذا قرءوا هذا الحكم خطأ، فإنه سيستقر في أذهانهم الحكم خطأ، وبالتالي حكم وراء حكم، فتكون النتيجة تحلل الكثير من أحكام الدين.
لذلك -يا أخي المسلم- يجب أن يكون عندك منهج صحيح في تلقي الأحكام، يجب ألا تقرأ إلا لمن يُوثق بدينه وعلمه، ولا تسأل ولا تستفتي إلا من يوثق بدينه وعلمه؛ لأن كثيراً من شيوخ الباطل وأئمة الضلال هم من الذين خاف الرسول صلى الله عليه وسلم منهم على أمته أشد الخوف: (إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) هؤلاء الناس هم الذين يضلون الناس ويكونون عائقاً كبيراً بينهم وبين الالتزام بالإسلام؛ لأنهم يفتونهم بفتاوى خاطئة، ويقرأ الناس كلامهم مكتوباً.
لذلك لا بد أن ننعى كثيراً على أولئك الذين يستقون الأحكام والفتاوى من كثيرٍ من المجلات غير الموثوقة، التي تنشر الفجور والمجون والخلاعة، فتجده يفتح على صفحة الفتاوى ويقرأ، والله أعلم من الذي يكتب، أهو إنسان بعيد عن الإسلام وعن أحكامه، أم في قلبه هوى، أم عنده علم ولكن في قلبه هوى.
فتجد مِنْ الناس مَنْ يتأثرون بها، فلذلك لا بد أن نحرص على أن نستقي الأحكام من الناس الموثوقين، والحمد لله يوجد في هذا البلد كثيرٌ من العلماء الطيبين الموثوق بهم، الذين يُرجع إليهم إذا نزلت بالناس المعضلات، وحلت بهم الملمات، التي تستلزم البحث عن الأحكام، ونحمد الله أن هذه من النعم الكبيرة التي تفتقدها كثيرٌ من بلاد المسلمين؛ إما خطيباً أو عالماً أو داعية.
فيجب أن نقدر هذه النعمة الموجودة بيننا، ولا نجعل هؤلاء العلماء نسياً منسياً، لا نلجأ إليهم ولا نسألهم كما هي حالٌ كثيرٌ من الناس اليوم، فلا بد من استغلال هذه النعمة والتوجه بالسؤال لأولئك الفضلاء الموجودين بين ظهرانينا.(147/28)
الأفلام والتمثيليات
هناك أفلامٌ وتمثيليات في بلاد الغرب تكتب حواراتها، وتمثل وتشيع بين المسلمين واقع خاطئ وسيئ لأجيال من السلف الصالح والعلماء الأجلاء، فتجد بعضها عن صلاح الدين، وبعضها عن ابن تيمية، وبعضها عن كذا، وليس الغرض منها إلا تشويه صورة هذا العالم، وهذا القائد المسلم في أنظار الناس.
فلمٌ كامل مختصره أن رجلاً يحب امرأة، هذه المختصرات الغير مفيدة هي التي تعرض للناس هذه الشخصيات الإسلامية، فتُضل الناس، وتكون هذه عائقاً كبير بين الناس وبين التزامهم بالإسلام؛ لأنهم يظنون أن هذا هو الإسلام، أن الإسلام رقص وحب ومجون، فتشوه القدوات التي من الممكن أن تكون هي المؤثرة والدافعة للناس، فتعرض بشكل مزري جداً، بحيث يفقد الناس ثقتهم به.
أيها الإخوة! كثيرٌ من هذه الأفلام فيها أشياء خطيرة تعرض لأدوار لما يُزعم أنه تمثيل عن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيظهر الصحابي أمام امرأة متبرجة وهو ينظر إليها ويكلمها ويحاورها، أي: الذي يزعم بأنه صحابي، أو الذي يمثل دور الصحابي.
ولذلك أفتت هيئة كبار العلماء بـ المملكة فتوى مهمة في عدم جواز تمثيل أدوار الصحابة مطلقاً؛ لما تفضي إليه من المفاسد، والكلام أيضاً في هذه الفتوى عن التمثيل في مجلة البحوث الإسلامية التي تصدرها إدارة البحوث العلمية والدعوة والإرشاد، فينبغي الرجوع إليها لمعرفة تفصيل هذا الأمر.
وبلغ من تأثير هذه الأشياء! أن إحدى النساء كانت تنتقد وتهاجم بشدة فتاةً ملتزمة متحجبة بالإسلام، وتهاجم الفتيات المتحجبات عموماً، وتقول لهن: أنتن متشددات، أنتن اخترعتن في الدين حجاباً ما أنزله الله، أي: تريدون أن تكونوا أحسن من الصحابيات اللائي نراهن في الأفلام، نحن نرى الصحابية الآن، كيف تكشف عن وجهها وشعرها لماذا التَزَمُتْ؟ انظر إلى فعل هذه الأشياء في عقول الناس في كونها عائقاً أمام الالتزام بالإسلام!(147/29)
عائق نشر الخلافات بين علماء المسلمين
كذلك يعمد كثيرٌ من أعداء الإسلام إلى نشر الخلافات بين علماء المسلمين، ومذاهب المسلمين، حتى يتوصلوا بذلك إلى تفريق المسلمين، ويحتار الإنسان المسلم الجديد ماذا يختار! وتُنشر الفتاوي وتُتبع السقطات لبعض الأجلاء من العلماء، فتروج بين الناس، فتكون عائقاً لهم أمام التمسك بالدين، أي: عندما يرون العالم الفلاني قال كذا، وهو مخطئ، اجتهد فأخطأ له أجر، فتروج فتواه؛ فتكون عائقاً بين الناس وبين الالتزام بالإسلام، وقد حدث من هذا شيء كثير.
إن بعض أهل البلاد الكافرة عندما أرادوا أن يدخلوا في الإسلام، كانت قضية المذهبية عائقاً بينهم وبين الدخول في الدين؛ لأنهم احتاروا ماذا يختارون! ومن الذي قال: إنه يجب عليهم أن يختاروا شيئاً، وهذا يعود إلى موضوع التعصب الذي ذكرناه آنفاً، وهو أن الإنسان المسلم يجب عليه أن يعرف الحق بدليله من العلماء الثقات أياً كانوا، فإذا عرفت عالماً تثق بعلمه فتسأله عن المسألة وعن الحكم والدليل، ولا بأس أن تتفقه على مذهبٍ معين بشرط أن ترجع إلى الحق إذا وجدت المذهب بخلاف الحق.
وكذلك أيها الإخوة! لا بد أن نفهم أن قضية اختلاف العلماء ليست حائلاً بيننا وبين الالتزام بأحكام الإسلام، فالاختلاف من طبيعة البشر، فالبشر يختلفون دائماً في الحق والباطل، والآراء تتباين، والافهام تختلف، فلذلك تجد الآراء مختلفة، فيجب عليك أن تبحث عن الحق بدليله، فإن عجزت لقصورٍ فيك وفي قدراتك؛ فاسأل أي عالمٍ من أهل الذكر عن الحكم، ثم اتبعه على ما قال لك.(147/30)
عائق الحيرة بسبب تعدد طرق الدعوة إلى الله
كذلك من الأسباب: أن الإنسان يجد طرائق متعددة أمامه في الدعوة إلى الله وطلب العلم، فيحتار أيها يختار! وهذه المسألة هي بحد ذاتها إحدى العوائق التي تمنع كثيراً من الناس والشباب من الالتزام بأحكام الدين، لأنه يحتار ماذا يختار، لذلك كان لا بد من معرفة أصول أهل السنة والجماعة في العلم والعمل؛ حتى تعرف ماذا تختار من الأقوال والأفعال، هذه نقطة مهمة يا إخواني! ليس التعصب لشخصٍ ولا لجماعة من البشر، يجب على الناس أن يتعصبوا للحق فقط للدليل للقرآن والسنة لكلام العلماء الموثوق بهم، الذين يبينون الأحكام بالأدلة، ويبينون أقوالهم بهدي من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: إذا رجعنا إلى هذه الأشياء فإنه لن يكون هذا العائق موجوداً أبداً -بإذن الله تعالى- فلا بد من معرفة أركان المنهج الصحيح حتى تكون دليلاً وهادياً ومرشداً لنا أمام الاختلافات التي نراها في هذا العصر.(147/31)
عائق مفاهيم خاطئة عن الدين عند الناس
من العوائق -أيضاً- أن كثيراً من الناس اليوم عندهم مفاهيم خاطئة عن الدين:(147/32)
الالتزام بقدر الاستطاعة
مثلاً: يأتي إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) احتج أحدهم على أحد من الفضلاء بهذا الحديث، وقال: يا أخي! أنت لماذا تريدنا أن نتمسك بكل شيء ونتبع كل شيء؟ الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ففهم ما استطعتم، أي: ما استطعتم على التيسير والتسهيل، أي: إن تيسر لك الالتزام التزمت، وإن لم يتيسر لك الالتزام لا تلتزم هكذا فهم.
(فأتوا منه ما استطعتم) أي: على قدر الفراغ، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصد هذا الفهم مطلقاً.
أيها الإخوة! الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نتمسك بالدين بجميع ما أوتينا من قوة، لكن قد لا يستطيع الإنسان أحياناً، فعند ذلك إذا لم يستطع وعجز تماماً؛ فله أن يدع ذلك الأمر لعجزه.
أما أن نأخذ الإسلام على التساهيل، إذا وجدنا فرصة التزمنا، وإذا لم نجد الفرصة لم نلتزم وهكذا، هذه مشكلة.(147/33)
الدين يسر
كذلك يقول كثيرٌ من الناس عندما تواجههم بأمور وحقائق وأحكام يقول: يا أخي! (الدين يُسر) يفهم هذا فهماً خاطئاً.
أقول: نعم الدين يسر ولا شك في هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم بعث بالحنيفية السمحة، ولكن إذا دققت في كلام أولئك الناس تجد أنهم يقولون: بلا دين هو اليسر، هو يحتج بأن (الدين يسر) ويريد من هذا التخلص والهروب من كثير من الأحكام، فإذا جئت تحقق في دعواه؛ وجدت أنه يقصد "بلا دين هو اليسر" هذه حقيقة ما يدعو إليه وما يقوله، أي: لا يريد الالتزام بالأحكام، لأن الدين يسر.
هل معنى أن الدين يسر أنك لا تلتزم بأحكام الإسلام؟! هذا مفهوم عجيب جداً، مثلاً: أنت الآن في أرض منقطعة وليس عندك ماء، فإذا حان وقت الصلاة تيممت، هل فرض الله عليك أن تحفر بئراً حتى تتوضأ؟ لا.
وإنما أباح لك التيمم رخصة من الله عز وجل، كذلك قصر الصلاة، والمسح على الجوربين، وجمع الصلاتين، هذه الأشياء المشروعة هي معنى "الدين يُسر".
هل معنى الدين يُسر أن نتفلت من الأحكام ونأخذ ما نشاء وندع ما نشاء؟ لا.
هذا أصبح الدين لعباً، وهذه من صفات بني إسرائيل أنهم اتخذوا دينهم لهواً ولعباً، الذي يعجبه يفعله والذي لا يعجبه لا يفعله، والذي يدخل عقله يفعله والذي لا يدخل عقله لا يفعله، والذي يطاوع هواه يفعله والذي لا يطاوع هواه لا يفعله وهكذا.(147/34)
أولئك هم الصحابة
بعض الناس -مثلاً- إذا جئت تكلمه وتقول له: يا أخي! الحكم كذا، والرسول كان يفعل كذا.
يقول لك: إيه ذاك الرسول، الصحابة كانوا يفعلون كذا: إيه أولئك الصحابة، هذا كلام نسمعه كثيراً.
أي: سبحان الله! الرسول أرسل لكي يعمل بمفرده، وليعمل لنفسه، لا لأجل أن نستفيد من هذا العمل مطلقاً، هذا معنى كلامه، لأننا كلما أتينا بشيء قال: ذاك رسول، أي: لا نتبع شيئاً من أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، والله يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:20].
وهؤلاء الصحابة قدوتنا، وإذا لم نقتدِ بالصحابة ولا بالرسل صلى الله عليه وسلم فبمن نقتدي إذاً؟ وما هي فائدة القدوة؟ ولماذا صار ذلك الجيل الذي اجتمعت فيه تلك الصفات أمام الأمة وفي بدايتها، وما هي الحكمة أن نقتدي بهذا الجيل، وأن نسير على نهجه وعلى طريقه؟(147/35)
المقصود منه كذا وكذا
وإذا جئت إلى أحكام كثيرة، تنهى الإنسان عن إسبال الثوب، يقول لك: المقصود الخيلاء وأنا لم أسبل خيلاء، ومن الذي قال لك: إن النهي عن إسبال الثوب المقصود منه الخيلاء؟ ومن أين استقيته؟ فكثير من الناس ليس عنده علم، يقول هكذا، فإذا رجعت إلى الأحاديث وجدت أن الإسبال منهي عنه مطلقاً لا للخيلاء ولا لغير الخيلاء: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه) فصار عندنا عملين مختلفين كل واحد له جزاء مختلف عن الآخر: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) مطلقاً و (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه) فالذي يسبل ثوبه إلى تحت الكعب له جزاء وهو أن يحترق ذلك الجزء من جسمه في النار، ومن جره خيلاء له جزاء أعظم وهو ألا ينظر الله إليه.
انظر كيف تبين الأحاديث، وهذا الرجل يقول: المقصود أنها خيلاء، ثم كما يقول ابن العربي رحمه الله في فتح الباري في التعليق على هذا الحديث الذي رواه ابن عمر في الصحيح: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) قال: وأي إنسان يقول: أنا لا يوجد في نفسي خيلاء، لا نقبل كلامه، لأن معناه أننا فتحنا الباب أمام كل أحد أن يقول: أنا لا أقصد الخيلاء: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم:32] ما يدريك أن ما في نفسك خيلاء، أي: لو لم يكن هذا الحكم إلا من باب سد الذرائع لكفى.(147/36)
هذه سنة
وإذا جئت إلى إناس في قضايا كثيرة من الأحكام قال: يا أخي! هذه سنة، أي: إذا فعلتها أُثاب وإذا لم أفعلها لا أعاقب، ومن قال لك: إن هذا هو تعريف السنة، هل هذا هو التعريف فقط للسنة، أليس عندنا سنن واجبة، وسنن مستحبة، صلاة الظهر أربع ركعات ليست موجودة في القرآن، وموجودة في السنة، فصلاة الظهر أربع ركعات سنة لكنها واجبة.
هل يستطيع أحد أن ما يريد، كثير من الأحكام وردت في السنة واجبة ملزمة لا يمكن أن يتخلى عنها الإنسان مطلقاً، فالذي يقول: إن أي سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها هذا كلام خطأ، ليس هذا هو التعريف فقط للسنة، هذا إحدى التعريفات؛ ولكن هناك سنن واجبة وسنن مستحبة، فيجب عليك أن تنظر هل هي من السنن الواجبة أم من السنن المستحبة.(147/37)
إنما الأعمال بالنيات
كذلك يوجد عند الناس قضية (إنما الأعمال بالنيات) أي إنسان تريد أن تتكلم معه في أحكام يقول: والله إنما الأعمال بالنيات، وأنا نيتي طيبة، طيب! الحديث يقول: (إنما الأعمال بالنيات) وهذا الرجل مشكلته أنه لا يوجد عنده أعمال في الأصل حتى تكون بالنيات! الحديث يقول: (إنما الأعمال بالنيات) وهذا الرجل لا يعمل أي عمل، ثم يقول: (إنما الأعمال بالنيات) أين الأعمال؟ أرنا الأعمال أولاً؟(147/38)
إن الله غفور رحيم
تجدهم يفهمون (إن الله غفورٌ رحيم) كما يشاءون، وينسون أن الله عز وجل شديد العقاب، وإذا ناقشت أحدهم يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] والحمد لله أنا لست مشركاً؛ فإذاً -إن شاء الله- الله يغفر لي، والحمد لله أنا في خير، وأنا أملي في الله كبير، وأن واثق بالله، وأنا ولكن الآية تقول: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
ما يدريك أنك من الناس الذين شاء الله أن يغفر لهم؟ هل عرفت مشيئة الله وعرفت أنت في أي نوع من الأنواع إن شاء الله أن يعذبك أو يغفر لك؟! نحن نقول: نعم كل الأعمال سوى الشرك تحت المشيئة، يمكن أن الله يعذبه، وقد يغفر له ولا يعذبه، لكن ما يدريك يا مرتكب المنكر يا مرتكب الحرام يا من وقع في المعصية بأنك دخلت في مشيئة المغفرة وأن الله قد غفر لك؟ ثم تأتي وتحتج بالآية! أيها الإخوة! هناك مفاهيم كثيرة خاطئة عند الناس يفهمونها عن الإسلام، فمفهوم الشهادتين خطأ، ومفهوم العبادة خطأ، ومفهوم الإيمان خطأ، ومفهوم إن الله غفور رحيم خطأ، ومفهوم القضاء والقدر خطأ، فلذلك هناك عوائق كثيرة أمام الناس، ونحن الدعاة إلى الله عز وجل يجب علينا أن نبين للناس وأن نعلمهم، وأن نزيل هذا الغبش من أذهانهم.(147/39)
عائق انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة
كذلك من العوائق: انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي تكون بين الناس وبين الالتزام بالإسلام، مثلاً: يأتي إنسان إليك ويقول لك: (نية المؤمن خيرٌ من عمله) فإذاً النية أحسن من العمل، إذاً العمل شيء ثانوي والنية هي الأساس، فأنا يمكن أن تكون نيتي طيبة ولا أعمل، والدليل على ما أقول: هذا الحديث.
فإذا نظرت إليه وجدته حديثاً منكراً باطلاً لا يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويأتي آخر يقول: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له) رجل فيه فسق لكنه يريد أن يصلي؛ لكن المشكلة الآن أنه فاسق؛ فينظر إلى هذا الحديث: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له) أو (لم يزدد من الله إلا بعداً) فيقول: لا أصلي، فأحد الإخوان قال لي: أنا ضللت ستة وعشرين عاماً لا أصلي بسبب هذا الحديث، كنت واقعاً في بعض المنكرات ولكني أريد أن أصلي مع أني واقع فيها، وكلما جئت أصلي أتى هذا الحديث أمامي: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له) فيقول: لماذا أصلي؟ وهذا الحديث منكر باطل، ولا يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
أحدهم يأتي يشيع على ألسنة الناس حديث: (السارق من السارق كالوارث من أبيه) هذا سمعته في أحد المجالس، أي: المسألة معناها أن كل أحد يبحث له عن سارق ويسرق منه؛ لأنه كالوارث من أبيه، أي: أصبحت القضية لها مستنداً شرعياً، صارت هذه أحد الأوجه التي يتملك فيها الإنسان المال من طريق شرعي، لأن السارق من السارق كالوارث من أبيه، وهذا حديث غير معروف ولا مشهور وليس له أصل، بل وضعه بعض العامة، فاشتهر بينهم على أنه حديث، وقس على ذلك أحاديث كثيرة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة المنتشرة التي تثبط الناس وتخذلهم، وإذا وبحثت عنها وجدتها ضعيفة أو موضوعة أو مكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم، والعلاج أن نبين، والواجب على الناس أن يسألوا ما حكم هذا الحديث؟ وما درجة صحته؟(147/40)
عائق مواصفات بعض الشخصيات
ختاماً: هناك بعض المواصفات في بعض الشخصيات يعوق التزامه بالإسلام، فمثلاً: إنسان شخصيته هزلية، يحب الهزل كثيراً، لا يريد أن يلتزم بالإسلام لماذا؟ يقول: أخشى إن التزمت أني لا أبتسم أبداًَ، ولا أضحك مطلقاً، ولا يمكن أن أفرح ولا أمرح وهذه هي طبيعتي، وسأضيق وأكتم نفسي!! يا أخي! من قال لك: إن الإسلام يحرم الضحك؟! ومن قال لك: إن الإسلام يحرم المزاح؟! ألم يكن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم يترامون بقشر البطيخ، كما ثبت في الحديث الصحيح، كانوا إذا أكل بعضهم بطيخاً؛ أخذوا القشر فتراموا -مزاح- فإذا جاء الجد كانوا هم الرجال.
لكن نحن الآن في الجد وفي غير الجد هزليين، بل إن كثيراً من الملتزمين وغير ملتزمين، يضحكون على أنفسهم؛ لأنه هزلي، فلا يقدر أبداً أهمية هذا الدين وهذه المبادئ التي يحملها، هزلي في جميع التصرفات، ولا يمكن أن يكون قدوة بأي حال من الأحوال، ولا يمكن أن نتلقى منه علماً، ولا يمكن أي يتأثر منه أحد، والسبب أن شخصيته هزلية جداً، لا تمثل أبداً ذلك الوقار والسمت الحسن الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم لدرجة أنك ترى أناساً ظاهرهم الالتزام لكن يأخذ السيارة ويفحط، أحدهم قال: أعرف شخصاً يفحط وهو يسمع القرآن.
يا أخي! نحن فعلاً في آخر الزمان! كذلك بعض الشخصيات إنطوائية لا تحب المعاشرة، ولا الكلفة، فهذا يحول بينه وبين التأثر بالشخصيات الطيبة، لكن هذا العائق قد لا يكون لهذا الإنسان ذنب فيه، وإنما هذه قضية يتحملها دعاة الإسلام، الذين يجب عليهم أن يتغلغلوا ويحاولون أن يتداخلوا مع هذا الرجل، ويبينوا له الحق ويعرضوا عليه النور الذي أنزله الله عز وجل.
بعض الشخصيات عندها ضعف إرادة في اتخاذ القرارات، ليس عنده مقدرة على اتخاذ القرار أبداً، هذه الشخصية التي فيها الضعف الناتج عن قلة الإيمان لا يمكن أن يتمسك بحكمٍ ما، لا يمكن أن يقرر أن يواجه المجتمع بشيءٍ ما، ليست عنده إرادة وقدرة على اتخاذ القرار، وقد سمعت أشياء عجيبة عن بعض الرجال، أحدهم يقول: لا أستطيع أن أعمل كذا؛ لأن زوجتي ستطلقني إذا فعلت، سبحان الله! النساء قوامات على الرجال، انقلبت الآية.
قال: زوجتي ستطلقني، وهو يتكلم ليس هزالاً، قال: والله ستطلقني ستطلقني.
سبحان الله العظيم! إذاً هؤلاء أشباه الرجال ولا رجال، وفعلاً هذه حال كثير من الناس في بيوتهم، أمام الناس شخصية من أحسن ما يكون، وفارض نفسه على غيره، فإذا رجع إلى البيت صار مثل الدجاجة.
بعض الشخصيات -مثلاً- عندها اللامبالاة، وتبلد في الإحساس، ويمشي من غير هدف، وقد يقلد الملتزمين في الشكل، لكن لا يحس بأي قيمة لأحكام الإسلام، ولا يحس أن وراءه هدف، ولا أن عليه مسئولية، ولو أن أحداً كلمه لا يبالي، فهذا الرجل لا يمكن أن يتحرك مطلقاً في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نهائياً أبداً.
فلذلك بعض الناس عندهم صفة الكبر، هذه الصفة الذميمة الأثيمة التي تمنع تقبل الحق، والكبر هو بطر الحق وغمط الناس، فهو لا يقبل الحق لهذه الصفة.
وبعض الناس في شخصياتهم المراوغة واللف والدوران، بحيث أنك إذا جئته بأي شيء لا بد أن يروغ منك.
إذا أعطيته حكماً لابد أن يدبر لك حلاً أو مخرجاً، يقول: يا أخي! اللحية! تشوه زوجتي إذا اقتربت منها، وتتأذى منها، ويقول مثلاً: عندي حساسية وحبوب، المهم أنه لا يطبق الحكم، وهذا مثل، وأنا لا أقصد هذا الحكم لذاته، وإنما أقصد المثل عموماً، وأن هذه البلايا الموجودة في بعض الشخصيات تمنع كثيراً من الناس من الالتزام بالإسلام.
ما هو الحل؟ علاج هذه العيوب بالإيمان والعمل الصالح، ويجب على الدعاة إلى الله عز وجل أن يتفطنوا لنقاط الضعف في شخصيات أولئك الناس الذين يدعونهم إلى الإسلام، حتى يعرفوا كيف يتسللون إلى نفوسهم، وما هو مكمن الضعف عند هذا الرجل حتى يُعالج ويُدفع ويُقوى، وحتى يستقيم على شرع الله عز وجل.
نكتفي بهذه النقاط التي ذكرناها في هذا الموضوع، وهو موضوع طويل، ويحتاج إلى تفصيل، وبعض النقاط سردناها هكذا، ولكن لعل في هذا يكون ذكرى لنا جميعاً.(147/41)
الأسئلة(147/42)
حكم الصلاة ببطاقة العمل
السؤال
ما حكم صلاة رجل يعلق بطاقة العمل وعليها صورته بارزة كما في بعض المستشفيات؟ وهل إذا نسي وصلى صلاته صحيحة؟
الجواب
لقد أجاب الشيخ ابن باز على هذا السؤال، وقال: هذا لا يجوز مطلقاً، أي: لا يجوز أن يصلي الإنسان وهو يعلق البطاقة التي فيها صورته على جيبه، إما أن يقلب البطاقة، أو يدخل الصورة في جيبه، لكن لا يعلق الصورة على جيبه.
أما بالنسبة لو صلى هل صلاته صحيحة؟ فقد أجاب عن هذا الشيخ ابن عثيمين فقال: نعم صلاته صحيحة ولا شيء عليه.(147/43)
أكل الفاكهة قبل الطعام
السؤال
هل أكل الفاكهة قبل الطعام سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
يمكن أن هذا الأخ يقصد أن قول الله عز وجل: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20 - 21] أنه قدم الفاكهة على لحم الطير -هذا في الجنة لكن لا يؤخذ منه- كما يقول الشيخ ابن عثيمين - أن هذا سنة، وأما أنه بدأ بالفاكهة، أو بدأ بالطعام، أو بدأ بالماء فليس هناك حرج في هذا كله.(147/44)
حكم أكل شجرة رمان نبتت في بلاعة
السؤال
شجرة رمان تنبت في بلاعة هل يجوز أكل ثمرها؟
الجواب
يقول الشيخ ابن عثيمين: إذا لم يتغير طعم ولون هذه الثمرة بنجاسة؛ فيجوز أكلها، أما إذا تغير الطعم بالنجاسة؛ فلا يجوز أكلها.(147/45)
حكم إغماض العينين في الصلاة بسبب الزخرفة
السؤال
هل الزخرفة الموجودة في سجاجيد المساجد اليوم مبرر شرعي لإغماض العينين في الصلاة؟
الجواب
يقول الشيخ ابن عثيمين: ليست مبرراً شرعياً لإغماض العين إذا تعود عليها، أي: إذا تعود عليها يفتح عينيه ويصلي، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مفتوح العينين ينظر إلى موضع السجود، وينظر إلى السبابة وهو يحركها في الصلاة، لأنه إذا غمض عينيه فسوف تفوته مثل هذه السنن، أما إذا كان ينشغل ذهنه -فعلاً- ويتشوش وهو ينظر إلى هذه السجاجيد المزخرفة؛ فلا حرج عليه في إغماض عينيه.(147/46)
شرط شفاعة البقرة وآل عمران
السؤال
قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما معنى الحديث: (تأتي سورة البقرة وآل عمران شفيعتان لأصحابهما) هل يشترط الحفظ حتى يحصل هذا الأجر، أو هذا الجزاء؟
الجواب
يقول الشيخ ابن عثيمين: ليس الحفظ شرطاً، وإنما يحصل هذا الشيء -إن شاء الله- بالقراءة، والحفظ أفضل، ولكن لا يعني أنه لا يحصل هذا الأجر إلا بالحفظ، وإنما يحصل أيضاً بالقراءة.(147/47)
الدعاء بالنجاح أو بالأفضل
السؤال
ما هو الصحيح: أن أدعو الله أن ينجحني في الامتحان، أم أدعو الله أن يختار لي الأفضل سواءً النجاح أو الرسوب؟
الجواب
الشيخ ابن عثيمين لما عَرضت عليه السؤال ضحك وقال: تدعو الله أن ينجحك في الامتحان.
قال: وإلا جالس يذاكر طوال السنة من أجل أن يرسب في الأخير، فأنت تدعو الله بما تريد، تقول: اللهم أعطني كذا، وهب لي كذا وتعمل الأسباب وتتوكل على الله عز وجل، وكذلك لا مانع أن تدعو بالدعاء العام أن الله عز وجل ييسر لك الخير حيثما كان، ولذلك شرعت لهذه الأشياء صلاة الاستخارة.(147/48)
اختلاف الزوج والزوجة في بعض الأحكام
السؤال
كثيراً ما يرى الزوج حرمة شيء، وترى زوجته خلاف هذا الأمر، وكلاهما يستند إلى دليل شرعي، فما هو الحل هل يقدم رأي الزوج أو رأي الزوجة؟
الجواب
فصّل الشيخ ابن عثيمين في هذا السؤال تفصيلاً طيباً، فقال: إذا كان الشيء خاصاً بالزوج، وهذا مفروغ منه، فلابد أن تقدم قناعة الزوج الشرعية، أما لو كان الشيء متعلقاً بالزوجة فقط؛ فتقدم قناعة الزوجة الشرعية.
مثلاً: زكاة الحلي: نفترض أن رجلاً يعتقد وجوب الزكاة في الحلي، والمرأة تعتقد عدم وجوب الزكاة في الحلي، وكل واحدٍ عنده أدلة ومقتنع برأي بعض العلماء الموثوق بهم، فهنا المسألة متعلقة بالمرأة لا بالرجل.
فلذلك لا يجوز للرجل أن يجبر زوجته على تطبيق الرأي الذي توصل إليه؛ لأن هذه المسألة متعلقة بالزوجة وهي المتعبدة به والمسئولة عنه أمام الله عز وجل، أما إذا كان الشيء مشتركاً، مثل: آنية المطبخ -مثلاً- الزوجة ترى في هذا الإناء شيئاً وزوجها لا يرى فيه شيئاً، أو مثلاً: أكل اللحم المستورد: الزوجة ترى فيه كذا والزوج يرى كذا.
فهذه الأشياء المشتركة يقول الشيخ ابن عثيمين: يقدم فيها رأي الزوج؛ لأنه هو ولي الأمر الذي تجب طاعته، فصارت عندنا الأشياء ثلاثة أقسام: 1 - شيء متعلق بالزوج وهذا مفروغ منه.
2 - شيء متعلق بالزوجة: فإذا كانت الزوجة عندها أدلة فعلاً، وسألت أناساً موثوق بهم فعلاً، وهي لا تعلم، أو أن الحق ليس عندها مطلقاً، فإذا كان عندها قناعة شرعية، لا يجوز لزوجها أن يجبرها على الرأي الذي توصل إليه هو.
3 - أما لو كان الشيء مشتركاً، فعند ذلك يقدم قول الزوج.(147/49)
حكم الصدقة ببقية الطعام الزائد دون إذن الزوج
السؤال
امرأة تتصدق ببقية الطعام الزائد عندها، والزوج لا يسمح لها بهذا، فماذا تفعل؟
الجواب
يقول الشيخ ابن عثيمين: لا يجوز لها أن تتصدق بهذا الطعام؛ لأنه ملكٌ لزوجها، ولكن إذا كان عندها من المال ما تضمن به هذا الشيء الذي تصدقت به لو طالبها به الزوج؛ فيجوز لها أن تفعل هذا.(147/50)
أخي الأكبر لا يصلي وهو ولي الأمر في البيت
س
السؤال
أخي الأكبر هو ولي الأمر في البيت؛ لأن والدي قد توفى وهو يصرف علينا، فهل يجوز أن آكل وأسكن في البيت وهذا الأخ لا يصلي مطلقاً، أي: خارج عن ملة الإسلام؟
الجواب
يقول الشيخ ابن عثيمين: نعم يسكن ويجلس في البيت ويأكل معه من الطعام، وينصحه ويواظب على نصحه، فإن استجاب وإلا فإنه يهجره ولا يسلم عليه.(147/51)
حكم الصلاة بين الأعمدة والسواري
السؤال
هل هناك حديث ينهي في الصف بين الأعمدة والسواري في المسجد، فلو أن الناس يصلون في الزحام في الحر فهل يصلون بين السواري؟ أي: يصفون وتكون الأعمدة متخللة الصف أم يتركون هذا حتى لو اضطروا إلى الصف خارج المسجد في الحر؟
الجواب
يقول الشيخ ابن عثيمين: لا بأس بهذه الحالة أن يصف الإنسان بين السواري، ويجب عليهم أن يملئوا الصف ويكملوه.(147/52)
حكم اتلاف الصور
السؤال
أنا شابٌ ملتزم، وزوجتي عندها صور، فبعد أن التزمت هذه الصور التي عند زوجتي هل يجب عليّ أن آخذها من زوجتي إن رفضت؟
الجواب
كان جواب الشيخ ابن عثيمين: نعم يجب عليك ذلك، وأجاب الشيخ ابن جبرين كذلك: يجب عليك.(147/53)
حكم الصور المدفونة
السؤال
أنا شابٌ ملتزم عندي صور قديمة، فأخفيتها في محل لا يعلم به إلا الله وهو كذلك يعلم به -دفنها مثلاً- يقول: فما هو الحكم؟
الجواب
قال الشيخ ابن عثيمين مجيباً على هذا السؤال: يجب عليه أن يتلفها.
فما هي المصلحة في إبقائها إذاً في مكان أنت لا تستفيد منها.(147/54)
معاملتي لرفقة أبي السيئة
السؤال
أنا والدي فاسق، ويأتي إليه أصحاب يشربون معه الخمر، ويطرقون الباب ويكون أحياناً غير موجود، فهل يجوز لي أن أدخلهم إلى البيت وأرحب بهم علماً بأنني إذا لم أفعل ذلك سيغضب والدي؟
الجواب
كان جواب الشيخ عبد الله بن جبرين على هذا السؤال: لا يجوز لك أن تدخلهم، ولا أن ترحب بهم، بل تطردهم من البيت أو تردهم على الأقل حتى لو غضب والدك.(147/55)
حكم تزيين اللوحات بأجنحة الفراشة الطبيعية
السؤال
امرأة تقول: ما حكم تزيين بعض اللوحات بأجنحة الفراشة الطبيعية، أي: تصيد فراش وتأخذ الأجنحة وتضعها زينة في لوحاتها في المعارض الفنية إلخ؟
الجواب
يقول الشيخ عبد الله بن جبرين: لا بأس بذلك، ومن الأسباب أن ما قطع من حيٌ فهو ميت لا ينطبق على هذا، لأن هذه الحيوانات لا نفس لها سائلة، وليس لها دم، فلذلك إذا ماتت فليست نجسة، أما البعوض ففيه دم لكنه غير نجس؛ لأن الدم الذي فيه دم امتصه من إنسان أو كائن حي وليس دم البعوض نفسه، أي: أن البعوض ليس لديه جهاز دموي ودم يسري فيه، وإنما الدم الذي يوجد بعد قتله إنما هو دم امتصه من مصدرٍ آخر، ولذلك تبقى هذه الميتات التي لا نفس لها سائلة طاهرة، فيقول الشيخ: فلا بأس من استعمالها.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(147/56)
فضيحة المشعوذين [1]
الجن خلق من خلق الله خلقهم من نار، فالإيمان بهم واجب، وهم أصناف: فمنهم المؤمن ومنهم الكافر، وقد عمد كفارهم إلى إغواء المسلمين، بما لديهم من قدرات وإمكانات خارقة.
فضيحة المشعوذين هو عنوان هذه الخطبة التي تتضمن كلاماً عن خلق الجن وأصنافهم وقدراتهم؛ لأن الجن هم السلاح الأقوى لدى المشعوذين، الذي يتمكنون به من الإغواء والتزيين.
فهذه الخطبة هي الجزء الأول من هذا الموضوع، ويغلب عليها تفصيل قدرات الجن في شتى المجالات.(148/1)
حقيقة خلق الجن وقدراتهم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فحديثنا اليوم -أيها الإخوة- عن خلقٍ من خلق الله تعالى، منهم المؤمن ومنهم الكافر، عمد كفارهم إلى إغواء المسلمين وحرفهم إلى الشرك، واستعملوا من أجل ذلك أنواع القدرات التي عندهم لإضلال الإنس، فاستجاب لهم كثيرٌ من الإنس، واستعانوا من أجل تحقيق غرضهم بأمر الشيطان كبيرهم بوسائل متعددة، ومن ذلك: هؤلاء الكهان والعرافون المنتشرون، والمشعوذون وغير ذلك.
ومن أسباب طرح الموضوع ما سمعته من عدد من الإخوان الذين سألوا عن أشخاص يذهبون إليهم لمعرفة مكان السحر فيدلونهم عليه، ومكان المسروقات والمفقودات فيدلونهم عليها، ويجرون عملياتٍ بدون جراحة، ويستأصلون الأورام، ويزيلون العاهات، ويقرءون البطاقات الشخصية، ويعدون النقود في الجيب، ويخبرون الإنسان بأحواله الخاصة التي لا يعرفها إلا هو، ويكون كلامهم صحيحاً، وبدأت تجد الناس يصطفون طوابير على هؤلاء المشعوذين المتصلين بالشياطين رجاء شفاءٍ، أو معرفة مفقودٍ، وبعضهم عن فضول وحب استطلاع، فنريد أن نتعرف في هذه الخطبة على طرق هؤلاء الشياطين ووسائلهم وما هي ألاعيبهم، وما هي القدرات التي عندهم؟ لكي يبين بعد ذلك ويستبين للمسلم حقيقة هؤلاء، ولكي يكون الإنسان على بصيرة من أمره، خصوصاً وأن القضية قد دخلت حتى عالم الألعاب، فيحدثونك عن لعبة أو ألعاب تباع في السوق، رقعة تبسط عليها أشياء ثم يشير السهم أو القطعة إلى جوابٍ محدد، وتتحرك هذه القطعة على الرقعة بمفردها بدون أن يمسها الشخص ونحو ذلك.
فما هو حكم الشرع في هذه الأشياء؟(148/2)
تقدم خلق الجن وبيان أصنافهم
أولاً: لا بد أن نعود إلى الجذور، لا بد أن نعود للكلام عن الجن، ذلك العالم الذي خلقه الله تعالى كما خلق عالم الإنس وعالم الملائكة، والحمد لله رب العالمين، والعالمين جمع عالم، أخبرنا الله تبارك وتعالى أنهم خلقوا من النار، فقال عز وجل: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:27] {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15] ومارج النار: طرف اللهب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خلق الملائكة من نور، وخلق الجان من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) رواه مسلم رحمه الله تعالى.
وخلق الجن متقدمٌ على خلق الإنس، فكانوا قبلهم في الأرض بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:26 - 27] وقيل في سبب قول الله تعالى في كلام الملائكة لما قالوا لربهم في خلق آدم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] قالوا: إن الملائكة توقعت أن يكون هذا شأن المخلوق الجديد لما رأوا من المخاليق الذين قبله من الجن الذين أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وسمي الجن جناً لاستتارهم قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:76] واستجن بالشيء أي: اتقى به واختفى وراءه، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم عن أصنافهم وعن شيءٍ من قدراتهم، فقال في الحديث الصحيح: (الجن ثلاثة أصناف: فصنفٌ يطيرون في الهواء، وصنفٌ حياتٌ وكلاب، وصنفٌ يحلون ويظعنون) فأخبرنا بقدرتهم على الطيران وأخبرنا بقدرتهم على التشكل في هيئة حياتٍ وكلاب، ولا مجال للتكذيب بعالم الجن ألبتة، ومن أنكر وجود الجن فهو كافر، لأنه كذب الله تعالى الذي قال في محكم تنزيله: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ} [الحجر:27] {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} [الجن:1] {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:29] فالمكذب بوجود الجن كافر، ولم يكذب به إلا طائفة من الفلاسفة والعقلانيين، وبعضهم زعموا أن الجن نوازع الشر في النفس الإنسانية، وأنهم ليسوا خلقاً مستقلاً وأنكروا وجودهم، وهؤلاء ولا شك ضلال، فإن المعرض عن كلام الله ورسوله لا يكون إلا ضالاً.(148/3)
الهداية والضلال في عالم الجن
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه التقى بهم ودعاهم إلى الله تعالى وقال: (إنه أتاني وفد نصيبين -وهي بلدة- ونعم الجن! فسألوني الزاد فدعوت الله لهم ألا يمروا بعظمٍ ولا روثة إلا وجدوا عليها طعاما) فكان منهم المؤمنون الذين انطلقوا في الأرض يستمعون لأي شيء يدل على سبب منع استراق الخبر من السماء {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:29 - 30] ودعوا قومهم إلى الله تعالى، وكان منهم الفقهاء لما قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن فكان إذا مر بقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد! ولكن كثيراً منهم كفار وضلال وفسقة، هؤلاء الجن.
ولذلك فإنهم شياطين، الشيطان اسمٌ للكافر من الجن، وهم كثيرون جداً، وكانوا يسترقون الخبر من السماء، يركب بعضهم فوق بعض ليستمع الخبر من السماء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كالسلسلة على صفوان) يعني: كصوت جر السلسلة على صخرة، وهو صوتٌ عظيم {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] فيسمعها مسترقو السمع الجن الذين يركب بعضهم فوق بعضٍ إلى السماء يستمعون شيئاً من كلام الملائكة عن أوامر الرب في مرض فلان، أو شفاء فلان أو موت فلان أو زلزالٍ في مكان كذا، ونحو ذلك من الأحداث الأرضية، فيسمعها مسترقو السمع واحداً فوق الآخر، وصف سفيان راوي الحديث بعضهم فوق بعض وفرج أصابع يده اليمنى نصب بعضها فوق بعض (هكذا يركب بعضهم فوق بعض) يستمعون هذه الأوامر بصوت الملائكة الذين نقلوها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه -أي: الذي تحته- فيحرقه ولا تصل الكلمة إلى الأرض، وربما لم يدركه -الشهاب- حتى يرمي بها إلى الذي يليه، حتى يلقوها إلى الأرض، فإذا وصلت الكلمة إلى الأرض من خبر غيبي سيحدث فتلقى على فم الساحر -الجن هؤلاء الشياطين المتعاونون مع الساحر يأتون بالخبر إلى هذا الكاهن- فيكذب معها مائة كذبة فيصدق من قبل المغفلين في الأرض من الإنس الذين يأتون طوابير فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا بكذا وكذا فوجدناه حقاً؟ للتي سمعت من السماء، رواه البخاري في صحيحه، فالناس لا يذكرون من كلام الكاهن إلا الشيء الذي حصل، ويقولون: أخبرنا بوقوع كذا ووقع، ولا يذكرون الكذبات الكثيرة التي يخبرهم بها من عالم الغيب من التي لا تقع، وبعض هؤلاء الكهان أذكياء يستخدمون ذكاءهم في الشر، فربما يخبرهم عن أشياء متوقعة الحصول، وأشياء لا يبعد وقوعها تعرف بالاستنتاج مثلاً فلا يكتشفون أمره، إذاً لو فرضنا أن كاهنا أو عرافاً أو ساحراً أخبر شخصاً بأنه سيقع حدثاً، وهذا الحدث لا يمكن استنتاجه ولا معرفته أو توقعه ووقع كما قال، فربما يكون مما زوده به شيطانه من الأخبار التي يسترقها الجن من السماء، ولكن نسبة الصدق في كلامهم (1%) ونسبة الكذب في كلام الكهان (99%)، لكن المغفلين لا ينتبهون إلا لهذا الخبر الواحد الذي تحقق ويقولون: يعلم الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله.(148/4)
ظهور القدرات الخارقة للجن في خدمتهم لسليمان
وقد أخبرنا الله تعالى أنهم أصحاب قدرات عجيبة، وسخر الجن لنبيه سليمان فكانوا يقومون له بالأعمال الكثيرة، قال الله عز وجل: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ:12 - 13] فيعملون له ما شاء بتسخير الله له، سلطه عليهم، لا يستطيعون أن يخالفوا أمر سليمان ومن خالف أذاقه الله من عذاب السعير، وهو الحريق فيحرق، والمحاريب هي: المساجد والأبنية الكبيرة، والتماثيل قيل: من غير ذوات الأرواح، ولو كانت من ذوات الأرواح فيحمل على أنه لم يكن حراماً في شريعة سليمان مثلاً، وجفانٍ ك
الجواب
أي أنهم يعملون له أحواض كبيرة جداً للماء، وقدورٍ راسيات: يعني ثابتات في أماكنها لا تتحرك من عظمها واتساعها، قدور يطبخ فيها طعام جيش سليمان الذي كانت تحمله الريح، غدوها شهر ورواحها شهر، ملك لا ينبغي لأحدٍ من بعده، ولا يكون عند الكفار المتقدمين ولا المتأخرين، مهما بلغوا أسباب القوة لا ينالون أبداً ما نال سيلمان عليه السلام من أسباب القوة.
إذاً لهم قدرات عجيبة، ومن قدرتهم: استطاعتهم لنقل الأشياء عبر الجدران، والطيران بها في المسافات الشاسعة وإحضارها، وإدخالها عبر الجدران مرة أخرى إلى مكان ما، ولذلك قال سليمان وهو يفكر في طريقة لدعوة ملكة سبأ إلى الله وكيف يقنعها؟ قال يستشير من حوله من أولياء الله الصالحين ومن الجن الذين سخرهم الله له: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:39 - 39] فهذا الجني الشديد كان يستطيع -ولم يكن يكذب في دعواه- أن يأتي بعرش ملكة سبأ من داخل قصرها في اليمن ويضعه داخل قصر سليمان في الشام قبل أن يقوم سليمان من مقامه! إذاً قضية استطاعتهم لنقل الأشياء عبر الجدران والأجسام الصلبة والطيران بها تلك المسافة الشاسعة في وقتٍ قصيرٍ جداً للغاية أمرٌ مقدورٌ لهم، أخبرنا الله عنه لا مجال للتكذيب به، فاستخدمت الشياطين هذه القدرات في إضلال الناس {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6] وهذا المنطلق الذي ننطلق به في استكشاف كل القصص التي يأتي بها الناس ويتداولونها عن أشياء خرقت العادة التي يعرفونها، ونقول: انتبهوا يا عباد الله! فليست كل خارقة كرامة من الله، ليست كل خارقة تدل على صلاح صاحبها، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يمتحن الدجالين وذهب إلى عبد الله بن صياد، وكان قد ظن أنه الدجال، وكان النبي عليه الصلاة والسلام حريصاً على كشف أمره فقال له: (قد خبأت لك خبئاً -يقول النبي عليه الصلاة والسلام مختبراً له- قال عبد الله بن صياد: الدخ الدخ) والنبي عليه الصلاة والسلام كان قد خبأ له سورة الدخان فقيل: إن شيطان عبد الله بن صياد قد أوصل إليه الخبر من السماء، ولكن الخبر وصلَ ناقصاً، وما وصلت كلمة الدخان كاملة لـ عبد الله بن صياد، ولذلك قال له عليه الصلاة والسلام: (اخسأ فلن تعدو قدرك) يعني: إنما أنت من إخوان الكهان والشياطين، يأتونك بهذا الخبر ويخلطون فيه، فلذلك أتوك به ناقصاً، وعرف بعد ذلك أن عبد الله بن صياد ليس هو الدجال المنتظر، وإنما هو دجالٌ من الدجاجلة يعينه الشياطين.
وهكذا أعانت الشياطين مدعيي النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل فتنة الناس فهذا الأسود العنسي الذي ادعى النبوة كان له من الشياطين -كما ثبت في التاريخ- من يخبره ببعض الأمور المغيبة، وكذلك مسيلمة الكذاب كان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات، ويعينه على بعض الأمور قال شيخ الإسلام رحمه الله كاشفاً زيف هؤلاء، ومن كلامه ننقل هذه الدرر النفيسة والتجارب العظيمة له رحمه الله مع هؤلاء في كشف أحوالهم، ينقل تاريخياً ومن واقعه، قال: وأمثال هؤلاء كثيرون مثل الحارث الدمشقي الذي خرج بـ الشام زمن عبد الملك بن مروان وادعى النبوة وكانت الشياطين يخرجون رجليه من القيد -هو مقيد ويخرج من القيد- وتمنع السلاح أن ينفذ فيه -الشياطين تمنع السيوف والرماح من النفوذ في جسد هذا الدجال.
وهذا يذكرنا بما يفعله بعض أصحاب الطريقة الرفاعية الصوفية الضُلَّال من ضرب أجسادهم بالشيش، وما يفعله بعض الذين يستعينون بالشياطين في بعض السيركات أو الحفلات التي يعملونها من ضرب أنفسهم بسكاكين، أو بسيوف، ولا يخرج منه قطرة دم واحدة، وليس خداع نظر، بل شيء حقيقي، ما هو التعليل؟ عندما يعرف المسلم الحقيقة لا تنطلي عليه الأباطيل، الاستعانة بالشياطين، إذا كان الشيطان يستطيع أن يستخرج عرش ملكة سبأ وهو جسمٌ كبير عبر الجدار، فكذلك يستطيع أن يمنع اختراق السيف لجسم شخصٍ، أو أن يخترقه دون إيذاء كما يخترق عرش ملكة سبأ جدران قصرها، وتمنع السلاح أن ينفذ فيه، وتسبِّح الرخامة إذا مسحها بيده، هذا الدجال كان إذا مسح رخامة سبَّحت، وصوت التسبيح صادر من الشياطين الذين يعينونه لإضلال الناس -وكان يرى الناس رجالاً وركباناً على خيل في الهواء ويقول: هي الملائكة وإنما كانت جنا- فالجن تتشكل بأشكالٍ يراها هذا الدجال ويظنها ملائكة تنزل عليه بالوحي، وفعلاً يلقون في سمعه كلمات وهكذا مسيلمة كان يسمع شيئاً في أذنه فعلاً، وهو مما تنزلت به الشياطين، ولذلك لا يمكن أن تجعل الأحوال الشيطانية هذه دليلاً على أن هذا الرجل ولي من أولياء الله، ولا يمكن أن تُجعل أي خارقة من خوارق العادات دليلاً على أن هذا الرجل صالح أبداً، فإنه قد يكون مشركاً عظيماً من المشركين تساعده هؤلاء الشياطين.(148/5)
من قدراتهم: الكلام بألسنة مختلفة والنقل السريع
ومن طرقهم كذلك: أنهم ربما تكلموا بألسنة مختلفة على لسان هذا الدجال كما يتكلم الجني على لسان المصروع، ولذلك يحدثك بعض الأشخاص الذين ذهبوا إلى بعض العرافين أنهم سمعوا منه مرة صوت طفل، ومرة صوت امرأة، ومرة صوت رجل، ومرة صوتاً نحيفاً، ومرة غليظاً، وأنه دخل في غيبوبة وأغمض عينيه، وصار يتكلم وهو نائم ونحو ذلك، وكل ذلك من فعل الشياطين، تتكلم على لسانه، وربما لا يدري بما يخرج منه، ومن هؤلاء الدجالين يقول شيخ الإسلام رحمه الله في المجلد التاسع عشر من فتاويه: من يأتيه الشيطان بأطعمةٍ وفاكهة وحلوى، وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع من فاكهة بلاد بعيدة، يأتيه بها في هذا البلد، ومنهم من يطير به الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، ومنهم من يحمله عشية عرفة ثم يعيده من ليلته، وهذا الذي ادعاه من يسموهم بأهل الخطوة من الصوفية، الذين كانوا يذهبون في ليلة ويعودون في نفس الليلة، ويخبرون الناس بأشياء في عرفة ممن لقوا من فلان وفلان، وعندما يعود الحجاج يتبينُ أن كلامهم صحيح! كيف؟ حملته الجن، وليس بغريب يا إخوان ما دام أنهم يستطيعون حمل عرش سبأ من اليمن إلى الشام قبل أن يقوم سليمان من مقامه، فلا تستغرب أن يحملوا شخصاً إلى عرفة ويعودوا به، ليس ذلك بغريبٍ ولا مستحيل! وهو بالنسبة إلينا غريب، ولكن هؤلاء الذين يذهبون بهم إلى الحج قال شيخ الإسلام رحمه الله: فلا يحج حجاً شرعياً، بل يذهب بثيابه ولا يحرم إذا حاذى الميقات، فهو يتكلم عن مسألة لها علاقة بإحرامنا بالطائرة اليوم من فوق إذا حاذينا الميقات، ولا يلبي ولا يقف بـ مزدلفة ولا يطوف بالبيت، ولا يسعى بين الصفا والمروة ولا يرمي الجمار بل يقف بـ عرفة بثيابه ثم يرجع من ليلته وهذا ليس بحج، إذاً إذا سمعتم مرة بأهل الخطوة فكثيرٌ منهم دجالون كذابون لا يستطيعون إلا الاستعانة بالجن، ومنهم نفرٌ قليل تعينه الشياطين فعلاً.(148/6)
من قدراتهم: التصور بصور الموتى
ومن طرق الشياطين أن المخلوق قد يستغيث بشخصٍ حيٍ أو ميت؛ سواءً كان هذا المستغيث مسلماً أو نصرانياً أو مشركاً، فيتصور له الشيطان بصورة ذلك المستغاث، فيظن الشخص أنه هو، فإذا نادى مستغيثاً يا فلان أغثني ظهر الشيطان بصورة البدوي، وظهر بصورة أبي العباس المرسي، أو العيدروس أو أي ولي من الأولياء المزعومين، النبي عليه الصلاة والسلام أخبرنا أن الجن يتشكلون بحيات وكلاب، إذاً يمكن أن يتشكلوا بصورة شخصٍ أيضاً، وهنا يلبس على هذا الإنسي المسكين ويظن أن الاستغاثة صحيحة فعلاً، وأن الشيخ أغاثه، وأن الميت حضر وأنجده، قال شيخ الإسلام: ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان ويقول له: أنا الخضر، وربما أخبره ببعض الأمور، وأعانه على بعض مطالبه، فيقول له: ماذا تشتهي؟ فيقول: عنباً من المكان الفلاني، فيأتيه به، كما قد جرى ذلك لغير واحدٍ من المسلمين واليهود والنصارى، وكثير من الكفار بأرض المشرق والمغرب، يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته وهم يعتقدون أنه ذلك الميت، وهذا هو التفسير الحقيقي لعملية تحضير الأرواح، وسيأتي عليها كلامٌ بعد قليل إن شاء الله.
فيأتي هذا الشيطان بصورة الميت ويكلم الشخص بأمورٍ دقيقة تتعلق بالميت، وقد أخبرني أشخاصٌ عن أمورٍ حدثت لهم من هذا القبيل، فعلاً يأتيه بصورة أبيه، أو يأتيه بصورة لا يراها ويقول له: أنا روح أبيك، وبصوت أبيه؛ لأن القرين الشيطان الذي مع الأب يعرف صوت الأب، ويقلد صوت الأب، وإذا كانوا ينقلون الأشياء ويتشكلون، فهم يقلدون الأصوات أيضاً، ويصف له أشياء دقيقة في البيت لا يعرفها إلا الولد والأب الذي مات، وفعلاً يخرج الواحد من عند المشعوذ والعراف مذهولاً بسبب أنه لا يعرف حقيقة القضية، ونظراً لانتشار قضية العرافين والدجالين والمشعوذين جداً، فإننا نؤكد ونركز على هذه المسألة، تدخل الشياطين لإغواء الإنس، ويصدق الإنسان فعلاً بالعراف ليوقعه في الشرك.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وربما يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنار كما تصنع كفار الهند فيظنون أنه عاش بعد موته، ومن هؤلاء شيخٌ كان بـ مصر أوصى خادمه فقال: إذا أنا مت فلا تدع أحداً يغسلني، فأنا أجيء وأغسل نفسي، فلما مات رأى شخصاً في صورته فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه، فلما قضى ذلك الداخل غسله غاب، وكان ذلك شيطانه، فإذاً لا تستغرب إذا سمعت ببعض الأخبار، فإن القضية واضحة لأهل الحق وضوح الشمس، دجالون ومشعوذون، كهنة وسحرة، وعرافون يتعاونون مع الشياطين لإضلال الناس، وهؤلاء المساكين الذين لم يستقر التوحيد في قلوبهم ينخدعون.
نسأل الله تعالى أن ينور بصائرنا، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا على الحق مستقيمين، وبالتوحيد عاملين إنه سميعٌ قريبٌ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(148/7)
بعض أفعال الجن المحسوسة
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، أشهد أن الله ولي الصالحين، ورب الأولين والآخرين، وخالق الإنس والجن والناس أجمعين، سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء كما يشاء على ما يشاء سبحانه وتعالى، لا معقب لحكمه، ولا يُسْأَلُ عما يفعل وهو الحكيم الخبير.
ومما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله: أنه ربما يرى شخص في المنام أن شعره قد قص، أو أنه لبس طاقية، فيصبح وقد قص شعره فعلاً وأُلبس تلك الطاقية، ويكون ذلك بفعل الشياطين، قصوا شعره في المنام، وبعد ذلك يصدق ببقية المنام ويكون فيه من الشرك والكفر ما الله به عليم.
وكذلك فإن من هذه الطرق أيضاً مناداة عباد القبور من داخل القبر، وهو شيءٌ تفعله الشياطين، فلا تُكذّب من قال لك: سمعت الشيخ من قبره يتكلم، فربما يكون صحيحاً لكن الذي تكلم هو الشيطان.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد يضعون مصروعاً عند القبر فيغادره الشيطان ويقوم بعافية، ليتوهم الناس أن الولي الذي في القبر عالجه، وإنما فعلت ذلك الشياطين، وغادرت المصروع ليستقر عند الناس أن الميت الذي في القبر هو البركة التي عالجت هذا المصروع، وإذا قُرئت هناك آية الكرسي بصدق بطل هذا، فإن التوحيد يطرد الشيطان، ولهذا حمل بعضهم في الهواء فقال: لا إله إلا الله فسقط على الأرض، ومثل أن يرى أحدهم أن القبر قد انشق، وخرج منه إنسان، فيظنه الميت وهو شيطان، ومثل المناداة من المغارات والجبال والكهوف؛ يأخذون إليها الشخص أو يذهب إليها بعض الناس، ويسمعون أصواتاً من داخل المغارات والكهوف، وما هي إلا شياطين، قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية سماع الغناء والملاهي، وهو سماع المشركين، وهذا هو الذي يُفعل في حفلات الزار لمن سمع بها، وهي الحفلات التي يجتمع بها أناسٌ يضربون بالدف بالطبول العظيمة بأصواتٍ عالية جداً، ويرقصون رقصات جنونية حتى يؤدي بهم الأمر إلى الوقوع في حالة إغماء ونحو ذلك، ثم تتكلم الشياطين على ألسنتهم، وتحضر حفلات الزار؛ لأن الغناء والطبل يجر الشياطين، كما أن القرآن يطردهم، وربما خاطبه من عصفورٍ، أو من ثمرةٍ، أو من حجرٍ ونحو ذلك، وربما جاءه بصورة جميلة وزعم أنه ملكٌ يريد أن يزوره، وبعد ذلك تأتي الشركيات، والأمر بالسجود له، والصلاة له، وذبح شيءٍ له، ولذلك بعض الدجالين يقول: من شرط العلاج أن تذبح ديكاً أسود لكن لا تقل: باسم الله، لو قلت: باسم الله، فلن ينفع العلاج، وبعض الشياطين يأمرون الكهان الذين يتعاملون معهم أن يخنقوا لهم دابة بدون ذكر اسم الله عليها، وهكذا.(148/8)
من قدراتهم: إمكان رؤية الأماكن البعيدة
قال شيخ الإسلام: أخبر بعض الشيوخ الذين كان قد جرى لهم قال: يُرونني الجن شيئاً براقاً مثل الماء والزجاج، ويمثلون له فيه ما يطرد من الأخبار، وهذا شيءٌ قد حدثني عنه شخصٌ ذهب إلى عمان قال ذهبنا إلى ساحر، فوضع لنا طستاً فيه زئبق -سطح عاكس لماع- فقال له الرجل: أريد أن أرى أهلي في البلد التي جاء منها في الخبر في الدمام قال: فجعل يتمتم بأشياء ثم صفا ذلك السطح وظهرت صورة البلد ثم ظهرت صورة الحي ثم ظهرت صورة الحارة ثم ظهرت صورة العمارة ثم ظهرت صورة الشقة قال: فرأيت أولادي يلعبون، لا شيء في هذا مستنكر من جهة الوقوع، إذا كان الإنس قد نقلوا الأشياء بالبث المباشر حياً على الهواء، ترى في بيتك ما يحدث في أمريكا، أفلا يستطيع الجن أن ينقلوا على هذا السطح صورة أولاده؟ بلى يستطيعون، ولكن القضية فيما بعد ذلك، فيما يأمره به هذا الدجال والساحر من الكفر والحرام، وبعضهم يقول: لا يأخذون نقوداً؛ ليضلوا الناس، أو لا يأخذون نقوداً في البداية، ويقولون: ما فعلناها إلا خدمة وواجباً علينا، وعبادة، لا يأخذون نقوداً ويظهرون العفة وهم يتعاملون مع الشياطين قطعاً وبلا شك، والذي يسمع الأخبار لا يمكن أن يقول إلا هذا.
أيها الإخوة: إن إدراك هذه الأشياء يفسر لك شيئاً من الحركات، وبعض الألعاب يقولون: وضعناها وتحركت أمامنا، وأشارت إلى السهم المعين، ومن الذي يحركها؟ هو الشيطان، الشياطين الذين يضلون الناس.
ومن ذلك أن يشترطوا على الساحر بكتابة العزائم والطلاسم لكي يساعدوه أن يكتب القرآن بدم الحيض والنجاسات، وهذا مستخدم عندهم، ويعكسون السور من آخرها إلى أولها، وبعض هذه الأوراق لو فتحتها وجدت فيها استغاثات واضحة بجني أو شيطان، ومن شروط الرقية أن تكون بالقرآن، وبالكلام العربي مما يعرف، وليست مشتملة على شرك، ولا يعتقد أنها تنفع بذاتها، وكثيرٌ يأخذون هذه العزائم والتمائم وهذه الأشياء المربوطة، وبالجملة فإن الشياطين هم الذي يفعلون كثيراً من هذه الأشياء بالتعاون مع شياطين الإنس؛ لإضلال هؤلاء المساكين، وكثيرٌ منهم لا يفهمون ولا يدركون ولا يعقلون ويرجعون مخدوعين.(148/9)
من قدرات الجن في العلاج وحكم ذلك
قال لي شخصٌ بالأمس: شاب صغير في الأردن يذهبون إليه طوابير يقول للشخص: أنت تحتاج إلى عملية ولا يدخل معه إلا لوحده في الغرفة، ويقول له: مهما سمعت من أصوات فلا تكترث، ويجري العملية دون أي جراحة، ويخرج من عنده، فيمكن أن يقع ذلك من الشياطين التي تعينه، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أم المؤمنين التي كانت تذهب إلى يهودي لرقيتها ونهاها، قالت: هذا إذا رقاني سكن الألم قال: (إن الشيطان ينخس العرق فيسكن).
إذاً: الشيطان يستطيع أن يعمل عمل البنج، وأن ينخس عرقاً فيسكنه، فلماذا إذاً لا يُعمل شيءٌ مثل هذا؟! وهنا قد يقول قائل: فما حكم الاستعانة بالجن في الأمور المباحة؟ ولماذا تحرمون الذهاب إلى هؤلاء وهم يعملون أشياء مباحة؟ والوقت قد ضاق -أيها الإخوة- فلعلنا إن شاء الله نأتي على ذكر هذا الموضوع وأمورٍ أخرى متعلقة به في خطبة قادمة بحول الله وقوته، ونقول هذا الكلام إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل، وردعاً لكل من تسول له نفسه الذهاب إلى هؤلاء المشعوذين، أو الانخداع بهم، مع أن كثيراً منهم كذابون لا عندهم جنٌ ولا شياطين ولا عفاريت، لكنهم يضحكون على الناس ويشوشون عليهم.
ولذلك فالمسلم على بصيرة من أمره والحمد لله، والموحد يعرف ربه، ويعرف أن الله خلق هذه الأشياء سبحانه وتعالى، وأنهم لا يخرجون عن إرادته ولا عن مشيئته قيد أنملة، فكلهم تحت قهره وأمره سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء.
وأشهد أن محمداً رسول الله النبي الأمي، الذي أرسله رحمة للعالمين، فكشف أخبار الدجالين، وبين لنا صفات الدجالين، ونهانا عن الذهاب إلى العرافين والكهنة والمشعوذين، وأخبرنا أنه من ذهب إلى عرافٍ لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً، وأن من صدق كاهناً بما أخبره فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم إنا نسألك أن تجنبنا كيد الشياطين ودجل الدجالين، اللهم أرنا التوحيد وبصرنا به، وارزقنا التمسك به يا رب العالمين، وباعد بيننا وبين الشرك وأهله؛ إنك على كل شيءٍ قدير.(148/10)
فضيحة المشعوذين [2]
بعد أن مهد الشيخ لهذا الموضوع في خطبة ماضية بكلام مفصل عن خلق الجن وقدراتهم، استهل هذه الخطبة ببيان علاقة رجال الإنس بالجن، ومنها استغاثة أهل الجاهلية برجال الجن.
كما أورد في هذه الخطبة بعض حيل المشعوذين، وكذبهم في ادعاء تحضير الأرواح، وتفصيل صور كثيرة من عجزهم وضعفهم، وبيان الفرق بين حيلهم وبين كرامات الأولياء.
وفي ختام هذه المادة ذكر حيل بعض المشعوذين الذي لا يتصلون بالجن، بل يضحكون على الناس بغية المال أو استهداف الدِّين.(149/1)
علاقة رجال الإنس برجال الجن
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فقد تحدثنا في الخطبة الماضية -أيها الإخوة- عن أمرٍ من مظاهرة شياطين الجن لشياطين الإنس، وشيءٍ من ماهية العلاقة بين شياطين الجن وشياطين الإنس، وأن هذه المؤامرة لا تزال مستمرة لحرف الناس عن التوحيد، وإيقاعهم في الشرك، ولا تزال تسمع بين الفينة والأخرى عن قصصٍ عجيبة غريبة تدل على كثرة وقوع الناس في زماننا في حبال الشعوذة والدجل، وكثرة إتيانهم وغشيانهم للسحرة والعرافين والكهان، وهذا أمرٌ يصادم التوحيد بالكلية، وهو أمرٌ خطيرٌ ينبغي أن يتصدى له دعاة التوحيد، وهذا شأنهم دائماً وأبداً أن يبينوا للناس أن أعظم معروفٍ جاءت به الرسل هو التوحيد، وأعظم منكرٍ نهت عنه الرسل هو الشرك.
لقد بين الله سبحانه وتعالى هذه العلاقة بين شياطين الإنس والجن الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، ويبن الله لنا كيف استهوت بعض شياطين الجن المشركين فعبدوهم: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6] قال المفسرون: كان الرجل في الجاهلية إذا نزل بالوادي في طريق سفره قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فلما استغاثت الإنس بالجن، ازدادت الجن طغياناً وكفراً، كما قال سبحانه تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6] ولذلك فإن المسلم لا ينخدع أبداً بما يراه ويسمعه من أفعال هؤلاء الشياطين، مهما كانت الحيل، ومهما كانت الخوارق التي يظهرونها على أنها خوارق، ومهما كان التعاون بين شياطين الإنس والجن من هؤلاء الكهنة والعرافين والمشعوذين، مهما ظهر من الأشياء الغريبة والعجيبة، فإن المؤمن يبقى على الثوابت التي جاءت بها شريعته، ولا يستجرينه الشيطان، ولا تخدعه هذه التصرفات، فإنه ولله الحمد على إيمانٍ ودينٍ وتوحيد.(149/2)
كلام شيخ الإسلام عما يفعله الجن للمشعوذين
ولما كان من واجب أهل العلم كشف هذه الأشياء سطر ذلك العلماء في كتبهم، وذكرنا شيئاً مما بسطه شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا التعاون، وعن الأشياء التي ظهرت في عهده، وهي في عهدنا موجودة بدرجة كبيرة إن لم تكن أكثر، ذكر رحمه الله فعل هؤلاء الشياطين الذين كانوا يطيرون بأوليائهم في الهواء وينقلونهم من مكان إلى مكان، ويأتون لهم بأشياء يطلبونها، ولكنهم لا يفعلون لهم ذلك إلا إذا كفروا معهم بالله رب الأرض والسماوات، وفعلوا المنكرات والموبقات، وإن تظاهروا بالصلاح والتقوى، ولذلك لما تكلم رحمه الله تعالى عن الحلاج الذي يقدسه اليوم بعض مفكري القرن العشرين، ويكتبون عنه على أنه شهيد الثورة والإصلاح، وإنما كان دجالاً من الدجاجلة، وكان مشركاً بالله تعالى، قال: كان له شياطين تخدمه أحياناً، وكان بعض أتباعه معه على جبل أبي قبيس فطلبوا منه حلاوة، فذهب إلى مكانٍ قريبٍ فجاء بصحن حلوى، فكشفوا الأمر بعد ذلك فوجدوه قد سُرق من دكان حلوى بـ اليمن، حمله شيطان تلك البقعة.
قال رحمه الله: ونحن نعرف كثيراً من هؤلاء في زماننا وغير زماننا، مثل شخصٍ هو الآن بـ دمشق كان الشيطان يحمله من جبل الصالحية إلى قرية حول دمشق، فيجيء من الهواء إلى نافذة البيت الذي فيه الناس، فيدخل وهم يرونه، ويجيء بالليل إلى باب الصغير فيعبر منه هو ورفيقه وهو من أفجر الناس، وكذلك كان بـ الشوبك وهي قلعة من أطراف الشام يأتي من قرية يُقال لها: الشاهدة، يطير في الهواء إلى رأس الجبل والناس يرونه، يحمله ذلك الشيطان يقطع به الطريق، ثم إن هؤلاء الشياطين يسألونهم أموراً كبقرٍ وخيلٍ يخنقونها خنقاً لا يذكرون اسم الله تعالى عليها، وهؤلاء الذين يتعاونون مع الشياطين منهم من يطير في الهواء والشيطان طائرٌ به، ومنهم من يصرع الحاضرين وشياطينه تصرعهم يقول: أنا أصرع أمامكم شخصاً فيسقط شخصاً بالفعل، ويكون الشيطان الذي مع هذا الرجل هو الذي صرع ذلك الرجل، فيحسب الجاهلون أنها كراماتٌ من كرامات أولياء الله المتقين.
قال رحمه الله تعالى: فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر ويقول له: هنيئاً لك يا ولي الله والشياطين هي التي تخاطبه، فإذا قرأ آية الكرسي ذهب ذلك، وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وتقول: خذني حتى يأكلني الفقراء، ويكون الشيطان قد دخل فيها فخاطبه، ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح، ومنهم من تأتيه الشياطين بمن يهواه من امرأة أو صبيٍ لفعل الفاحشة من زناً ولواط، وبعض هؤلاء إما أن يؤتى بهم إليه مدفوعاً ملجئاً مكرها أو مختاراً.
إلى هذه الدرجة يصل التعامل بينهم إلى قيادة هؤلاء لعمل الفاحشة، وكذلك فإنه رحمه الله قد بين أن بعض هؤلاء الشياطين يتنزلون بأشياء من المكاشفات والتأثيرات على هؤلاء، فيُسمعونهم كلاماً كما كانت الشياطين تدخل في الأصنام وتكلم عابديها في الجاهلية، وفي غير الجاهلية بعد الإسلام، فيتخيل هؤلاء أن الأصنام تتكلم، ثم بين رحمه الله تعالى أن هؤلاء يجتمعون في أماكن الخبث، والأماكن المقفلة المهجورة، وأماكن القمامة والأوساخ، نظراً لأن الشياطين تغشى تلك الأماكن.
قال رحمه الله: ولما كان الانقطاع إلى المغارات والبوادي من البدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله؛ صارت الشياطين كثيراً ما تأوي إلى المغارات والجبال مثل: مغارة الدم التي بـ جبل قاسيون وجبل لبنان الذي بساحل الشام، وجبل الفتح بـ أسوان مصر، وجبالٍ بالروم وخراسان والجزيرة وجبل اللكامي والأحيس وجبل سولانا قرب أردبيل، وغير ذلك من الجبال التي يظن بعض الناس أن بها رجالاً من الصالحين يعتقدون أن فيها أولياء، ويسمونهم رجال الغيب، وإنما هم رجالٌ من الجن؛ فالجن رجال كما أن الإنس رجال، قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6] قال رحمه الله: ومن هؤلاء من يظهر بصورة رجلٍ شعرانيٍ جلده يشبه جلد الماعز، فيظن من لا يعرفه أنه إنسيٌ وإنما هو جني، فهذا من التلبيسات أيضاً، وكذلك التحول إلى الصور والأشكال يساعدهم على ذلك.(149/3)
قصة من الواقع: فضيحة مشعوذ
بعد الخطبة الماضية -أيها الإخوة- حضر لدي أحد الإخوان فقال: بمناسبة هذه الخطبة أخبرك عما وقع لي: سمعت أن شيخاً في القرية عندنا وليٌ من أولياء الله وعنده كراماتٌ وخوراق، فذهبت إليه، قال: فمن يوم أن لقيته قال: أهلاً بفلان، وسماني باسمي، ولم أكن رأيته من قبل، واستغربت ودهشت كيف عرف اسمي!! ثم بعد ذلك لزمته وصرت معه أخدمه على أني أخدم الشيخ، وأتقرب إلى الله بتلك الخدمة، وكنت أرى منه عجائب قال وهو يحدثني هذا الشخص: وكنت معه مرة في الغرفة، فالتفتُّ فجأة إليه فإذا شكله قد تغير وصار أقرب ما يكون إلى الشبح، فقلت له: شبهه لي بأي صورة؟ قال: أقرب ما يكون إلى شكل الخنزير، ثم عاد إلى شكله مرة أخرى، إلى هيئته الإنسية التي أعرفها، قال: وأتيته مرة بفتاة أوصتني أمها بالذهاب بها إلى هذا الشيخ، لأن الخطاب ينفرون منها، ولم يكتب لها نصيبٌ في الزواج، فخشيت عليها من العنوسة، قال: فذهبت بها إليه فجلس كأنه يقرأ عليها فذهبت لشيءٍ ثم جئت على حين غفلة، فرأيته يقبلها، ففوجئ لما رآني، وجعل يتمتم كأنه يأخذ عليها العهد بالانتساب إلى الطريقة، وذكر أشياء أخرى.
والمهم -أيها الإخوة- أن هؤلاء الناس موجودون إلى الآن، وأن الناس يُفتنون بهم، وأنهم أصحاب فواحش، وهذا الذي يزعم أنه شيخ قال له في آخر الجلسة: اذهب إلى أهلك وأنا أوصلها إلى بيتها، فماذا وراء ذلك إلا فعل الحرام؟ وماذا وراء التعامل مع الشياطين إلا التلبيس على السذج والمساكين، ولذلك إذا قال لك أحد هؤلاء الذين يدعون أنهم يقرءون على المصروعين، ويخرجون السحر ويفكونه إذا قال: لا تدخل مع زوجتك أو لا بد أن أقرأ عليها لوحدها، فاعلم أنه دجالٌ كذاب أشر، وأنه أفاكٌ أثيم: (ما اختلى رجلٌ بامرأةٍ إلا كان الشيطان ثالثهما).(149/4)
بعض حيل المشعوذين
واعلموا -عباد الله- أن هذا شيءٌ موجودٌ واقعٌ عند هؤلاء الدجالين، يطلب الخلوة بالمرأة لكي يُخرج منها الشيطان بزعمه، وهو يريد من وراء ذلك فعل الحرام، وقضاء شهوته ووطره، ولذلك فإن الموحد يعلم علم اليقين أن مثل هذا مخالفٌ لدين الله، مخالفٌ لشريعة الإسلام.
ومن حيل هؤلاء يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ويحكى عن شيخٍ آخر كان له شياطين يرسلهم يصرعون بعض الناس، فيأتي أهل ذلك المصروع إلى الشيخ يطلبون إبرائه، فيرسل إلى أتباعه من الشياطين فيفارقون المصروع ويقوم ليس به بأس، فيعطون ذلك الشيخ دراهم كثيرة، إذاً العملية عملية ابتزاز، هذا يعمل السحر وهذا يفكه، وهذا يصرعه، وهذا يخرج منه الجن، ويقوم المصروع سواءً كان بالتعاون بينهم أو كان نفس هذا الدجال الذي يرسل شيطانه ليصرع الإنس ثم يخرجه هو، ويأخذ الأشياء ويسرقها ذلك الشيطان ثم يخبرهم بمكانها، فالعملية صارت عملية تجارة، هذا يدخل الجني ثم يخرجه، وهذا يعمل لهم سحراً ثم يفكه، وهؤلاء يدفعون، ولو كانوا يتحصنون بكتاب الله ما جعلوا للشياطين عليهم سبيلاً.
أقول لكم بصدقٍ وإخلاصٍ أيها الإخوة: إن هذه العملية نصبٌ واحتيال، ومع ذلك فالناس لا يزالون يذهبون إلى السحرة والمشعوذين الذين يعقدون السحر ويفكونه، أو يتعاونون فيما بينهم على ذلك، ويدعون المغيبات، وقد حصلت قصص ذكرها العلماء، ذكروا أن رجلاً عند أميرٍ في مجلس فيما مضى من الزمان تحدى الناس أن يعلم عدد الحصى في يد كل شخصٍ، فكان الناس يأخذون كفاً من الحصى فيعدونها ثم يخبرهم بعددها ويكون كلامه صحيح، حتى جاء رجلٌ من الموحدين ممن يعرف تلك الحيل فقال: أنا أقبض كفاً من حصى وأتحداك أن تعرف عددها فأخذ كفاً من حصى وقال: بسم الله ولم يعد، ثم قال: كم في كفي؟ قال: عدها حتى إذا قلت لك يكون الجواب مطابقاً، قال: لا أعدها إلا بعد أن تخبرني، فأخبره بعددٍ فلما عد ما في يده كان الذي أخبره به خطأً، ثم أخبرهم بأن القرين من الجن الذي يكون مع هذا العاد يعد معه ويعرف العدد، فيخبر قرين ذلك الدجال أو الذي يدعي معرفة المخبئات بالعدد، فيخبره لصاحبه ثم يخبر الناس، إذاً فهذا النوع من التعاون لا يمكن أن يخفى على الموحدين ولا أن يذهبوا بعد ذلك إلى الدجالين والمشعوذين، ثم إن بعض هؤلاء يأخذون أموال الناس ظلماً إما بالسرقة، وإما بغيرها من النصب والاحتيال.
واحد يُتصل به بالهاتف (مكالمات خارجية) يقول: لا أخبركم بمكان السحر ولا بعلة صاحبكم حتى تحولوا لي مبلغ خمسمائة ريال، أو ألف وخمسمائة أو أكثر، وتحول المبالغ إلى ذلك الدجال، ليخبرهم عبر الهاتف أين يوجد السحر، وما هي علة هذا الرجل، ومن الذي سحر صاحبهم، ونحو ذلك من الكلام، هذا ما يحدث حقاً وحقيقةً من النصب والاحتيال على هؤلاء المساكين، والسبب ضعف الإيمان لم يتحصنوا بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وآية الكرسي، وباسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، وأعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ فصاروا نهباً للشياطين.(149/5)
كذب المشعوذين في عملية تحضير الأرواح
وذكرنا كذلك أن ما قام من سوق تحضير الأرواح، وأن بعض الناس يستطيع أن يحضر روح القريب من أبٍ أو أمٍ ونحو ذلك وأنه كله دجل، وأن بعضه من التعاون مع الشياطين الذين يستطيعون التشكل فيأتون الإنسان بصورة أبيه الميت، أو أمه، ونحو ذلك، وقد حكى بعضهم تجربته عن ذلك فقال: ذهبت إلى هذا الذي يقول: إنه تعلم تحضير الأرواح بأذكارٍ وأمورٍ يقرأها، وتلاواتٍ ورياضاتٍ وممارسات، فأكون معه على الطعام فتأخذه الإغفاءة المعهودة فيميل رأسه إلى الأمام وتلتصق ذقنه بصدره ثم يحثني الزائر الذي يزعم أنه ملك أو أبو هريرة أو أبو الحسن الشاذلي أو نحو هؤلاء بأمور، ثم وعدوني وبشروني بقرب زيارة والدي الميت لي في وقتٍ عينوه، وانتظرت الموعد بلهف، وطلبوا مني أن أقرأ سورة الواقعة، إذاً يمكن من طرق التلبيس أن يطلبوا من الشخص أن يقرأ سورة من القرآن، ثم قالوا: سيحضر والدك بعد لحظات، ولكن بشرط لا تسأله عن شيء، وبعد دقائق جاء شخصٌ، ودخل فزعم أنه أبي في شكله، وسلم علي وأظهر سروره بلقائي، وأوصاني أن أعتني بهذا الشيخ وأهله، وأنه فقير محتاج إلى المال، وهذا هو لب القضية (الاحتيال المالي) وبعض الدجالين لكي يخفي أمره بزيادة لا يطلب مالاً في البداية، كنا نقول للناس: إنهم لا يستعملون القرآن، وبعض الدجالين يستعملونه تلبيساً، وقلنا لهم: يحتالون لأخذ المال، وبعض الدجالين يقولون لمن يأتيهم في البداية: لا نريد منكم مالاً، لا نريد إلا وجه الله: {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] ولكن بعد ذلك يبدءون بأخذ الأموال.
فإذاً لا بد من معرفة الواقع ولماذا قالوا له: لا تسأله عن شيء؟ أو يأتي شكلٌ يخاطبه بالخفاء يقول: أنا روح أبيك ويخبره عن أشياء لا يعرفها إلا هذا الولد فعلاً، ولكن يعرفه القرين ويعرفه الجن المحيطون به، ويخبرون ذلك الشخص فيظنه حقاً وهو دجل وتلبيس، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الدجال: (وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطانانِ في صورة أبيه وأمه فيقولان له: يا بني اتبعه فإنه ربك) الحديث في سنن ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم، يخبر أن من فتنة الدجال يبعث له شيطانان في صورة أبيه وأمه الميتين.
ثم إن مما يدل على كذبهم في عملية تحضير الأرواح أن الله يقول: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:42] ويستيقظ الإنسان من نومه، أما الذي يموت في المنام وهو نائم وعددٌ من الناس ماتوا في نومهم، يمسك الله أرواحهم فإذا كان الله يمسكها، فهل تستطيع الروح أن تأتي لهذا الولد؟! وإذا وكل الله بالأرواح ملائكة يعذبونها إن كانت شقية كافرة، وينعمونها إن كانت صالحة، فهل يستطيع أحدٌ أن يخرج روح الميت من قبضة الملائكة الموكلين بها؟! فإذا كانت الأرواح ممسكة عند ربها بحسب الآية وموكلٌ بها حفظة أقوياء مهرة، فهل يمكن أن تتفلت لتأتي إلى رجلٍ يقول إنه حضر روح فلان وفلان؟! وإذا كان هذا الشخص الميت صالحاً ينعم في قبره، أو من الشهداء الذين أخبرنا الله عنهم وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم عنهم: (إن أرواح الشهداء في حواصل طيرٍ خضر تسرح بهم في رياض الجنة) فهل هذه الروح مستعدة أن تترك النعيم لتأتي إلى هذا الرجل، أو إلى الشيطان، أو إلى الجني، أو إلى الدجال، أو إلى الذي يحضر الأرواح ليلتقي بولده وهو منعمٌ أصلاً في ذلك المكان؟! إذاً: المسألة واضحة ولله الحمد والمنة.(149/6)
صور من عجز الشياطين
ثم إنه بعد هذا العرض لبعض قدرات الجن والعلاقة بينهم وبين شياطين الإنس؛ لتنكشف الألاعيب لعامة الناس ويكون الناس على بينة لا بد أن نعلم -أيها الإخوة- أن الله لم يتركنا نهباً للشياطين، وأن الجن بالرغم من قدراتهم الهائلة من الطيران والتشكل ونحو ذلك، فإنهم لا يستطيعون أن يلعبوا بنا كيف شاءوا، وبالرغم من كل ما سبق من القصص، فإن ذلك لا يعني بأنهم يحركون من شاءوا كيف شاءوا، ويخطفون من شاءوا، ويصرعون من شاءوا، وينهبون أموال من شاءوا، ويتلاعبون بأضواء البيوت والكهرباء كيف شاءوا أبداً، فإن لهم قدراً مقدوراً وحداً محدوداً لا يتعدونه، فإن الله أخبرنا عن عجزهم.(149/7)
من عجزهم: أنهم لا يعلمون الغيب
قال الله تعالى في قصة سليمان: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14] وما استمروا على العمل الذي أمرهم به سليمان، وهم لا يعلمون بموته وهم مستمرون في العمل الذي سخرهم الله له، لا يعلمون أن سليمان قد مات {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14].
إذاً: لا يعلمون الغيب، وإذا حصل شيء من استراق السمع من السماء عن مسألة غيبية كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام فإن ذلك شيءٌ قليلٌ وليس كثيراً، ولذلك يضطر الكاهن أن يكذب معها تسعة وتسعين كذبة، ولذلك فإنهم كما قال الله تعالى لا يستطيعون استراق الخبر إلا شيئاً يسيرا فبين الله تعالى في كتابه: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:6 - 10].
وانظر إلى السماء في ليلة صافية في الليل فإنه لا يخلو الأمر أن ترى بعض الشهب النازلة بهذه السرعة والتي نهينا عن تتبعها بأبصارنا خشية على الأبصار، إذاً {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:10] فهو شيءٌ نادر.(149/8)
من عجزهم: أنهم لا يستطيعون التمثل بصورة النبي صلى الله عليه وسلم
ومن عجز الجن أنهم لا يستطيعون التمثل بصورة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ولذلك قال في الحديث الصحيح: (من رآني فإني أنا هو فإنه ليس للشيطان أن يتمثل بي) (من رآني فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتزيا بي) فإذا رأى إنسانٌ في المنام وهو صادق صورة النبي صلى الله عليه وسلم بالأوصاف المذكورة في الكتب شعره غير جعدٍ ولا سبطٍ، في عينيه شدة سواد في شدة بياض، لا بالطويل ولا بالقصير، ربعة، بعيد ما بين المنكبين، عظيم المشاش، أبيض مشرب بالحمرة فهو هو، هو النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الشيطان لا يستطيع أن يتزيا بصورته عليه الصلاة والسلام في المنام، لكن يمكن أن يخرج له رجلٌ أسود أو شيءٌ غامض يقول: أنا رسول الله افعل كذا، لكن لا يستطيع الشيطان يتمثل بالصورة النبوية الحقيقية في المنام.(149/9)
من عجزهم: أنهم لا يستطيعون فتح باب مغلق ذكر اسم الله عليه
ومن عجزهم، أنهم لا يستطيعون فتح بابٍ مغلقٍ ذكر عليه اسم الله، ولا فتح إناءٍ أُغلق وذكر عليه اسم الله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أجيفوا الأبواب، واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح باباً أجيف عليه، وأوكئوا قربكم واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله) متفقٌ عليه، ورواية أحمد: (فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، ولا يكشف غطاءً، ولا يحل وكاءً).
فإذاً: لا يستطيعون فتح بابٍ ذكر اسم الله عليه، ولذلك إذا دخل العبد بيته وذكر اسم الله قال الشيطان: فاتكم المبيت، فإذا ذكر اسم الله على عشائه قال: فاتكم المبيت والعشاء، فمن رحمته تعالى أنه لم يسلط علينا الجن يفعلون بنا ما يشاءون ويقلبون المعارك، ويقضون مضاجع أهل البيوت كلهم ويلعبون بالعالم، بل إن لهم آثاراً محدودة، وأشياء معينة ينجحون فيها من صرعٍ ونحوه، ولكن ليس نصف الناس مصروعين، ولا ثلاثة أرباعهم، المصروعون عدد قليل، وكذلك المسحورون، وكذلك الذين يصابون بعين، ونحو ذلك من الأشياء، فليس للجن القدرة على التلاعب بكل الناس، فإذا ذكر العبد ربه لم يستطع الشيطان أن يفعل به شيئاً.(149/10)
من عجزهم: تمكن بعض الإنس منهم
بل ذكر بعض أهل العلم أنه ربما حاول شيطانٌ أن يمس إنساناً مؤمناً ذاكراً لله فيصرع الشيطان، فتجتمع عليه الشياطين، يقولون: ما بال صاحبنا؟ فيقول بعضهم لبعض: صرعه الإنسي.
وأبو هريرة ألقى القبض على الشيطان، قبض عليه في القصة المشهورة في الصحيحين الذي جاء يسرق، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه صارع شيطاناً فصرعه، والقصة في سنن الدارمي صحيحة عن عبد الله بن مسعود قال: لقي رجلٌ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً من الجن فصارعه فصرعه الإنسي، فهو عمر رضي الله عنه، فقال له الإنسي: إني لأراك ضئيلاً شخيتاً كأن ذريعتيك ذريعتا كلب، فكذلك أنتم معشر الجن أم أنت من بينهم؟ قال لا والله إني منهم لضليع _أنا من أقواهم- ولكن عاودني الثانية فإن صرعتني علمتك شيئاً ينفعك، قال: نعم قال: تقرأ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] قال: نعم، قال: فإنك لا تقرأها في بيتٍ إلا خرج منه الشيطان له خبجٌ كخبج الحمار، ثم لا يدخلها حتى يصبحْ.
والضئيل: الدقيق، والشخيت: المهزول، والضليع: جيد الأضلاع، والخبج: الريح، يخرج الشيطان من البيت له ريحٌ كريح الحمار لا يستطيع أن يعود بعد ذلك.(149/11)
الفرق بين خوارق الدجالين وكرامات الأولياء
فإن قال قائل: فرقوا لنا بين خوارق هؤلاء الدجالين الذين يتعاونون مع الجن والمشعوذين والشياطين وبين كرامات أولياء الله المتقين، ف
الجواب
قال أهل العلم: إن كرامات الأولياء سببها الإيمان والتقوى، والأحوال الشيطانية سببها ما نهى الله عنه ورسوله، ولذلك لا بد من التحري في حال المدعي هذا الخارق أو صاحب الكرامة، فمثلاً هل يصلي الفجر في جماعة؟ هل يغض بصره عن الحرام؟ هل هو ملتزم بأحكام الدين أم لا؟ فإذا تبين لك أنه فاسق فلا يمكن أن يكون الذي يجري على يده كرامة! وإنما هو من فعل الشياطين، ولذلك لا بد من التأكد من صحة معتقد هؤلاء الأشخاص وعبادتهم قبل أن نقول: هذه كرامة، أو هذا من فعل الشياطين.
وكذلك فإن ولي الله لو أجرى الله على يده كرامة لا يخبر بها ولا ينشرها في العالمين؛ لأن من إخلاصه أن يكتم أمره، ولكن قد يكشفها الله لبعض الناس، قال تعالى عن مريم: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران:37] كرامة من الله، لكن هؤلاء يقول: تعال أريك أشياء عجيبة، ثم يريه خوارق يفعلون ذلك تباهياً، وهذا لا يمكن أن يعمله ولي الله.(149/12)
لماذا لا نستفيد من قدرات الجن؟
فإن قال قائل: ما دام الجن عندهم قدرات، فلماذا لا نستعملهم في فك السحر، وعلاج المصروع، والبحث عن المفقودات، والسيارة المسروقة ونحو ذلك، فنقول: لا يجوز الذهاب إلى هؤلاء الكهنة أو المشعوذين أو الدجالين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم علينا الذهاب إليهم: (من أتى عرافاً فسأله فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) و (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) فنحن ممنوعون من الذهاب إليهم، حتى لا يستحوذوا علينا ولا يوقعونا في الشرك، والشارع أعلم فلما نهانا عن الذهاب يجب علينا أن ننتهي.
ثانياً: ما يدريك بأن العلاقة بين هذا الإنسي والجني علاقة شرعية أليس في الغالب أنها علاقة شركية؟ وأنه يأمره بالشرك؟ ذكر شيخ الإسلام رحمه الله قال: كان أحد هؤلاء الذين يتعاونون مع الشياطين على فراش الموت فقال لولده: إن شيطاناً كان يطير بي إلى كذا وكذا، فإذا متُّ سيأتيك على هيئة جمل فاركب عليه، فلما مات أبوه جاءه على هيئة جمل فركب عليه فلما صار في منتصف الطريق قال: إن أباك كان يسجد لي، فرفض الولد أن يسجد له فألقاه في الصحراء، فإذاً يأمرونهم بالشرك، وبينا صوراً من ذلك في الخطبة الماضية.
ثالثاً: ما يدريك أن هذا الجني المطلوب الاستعانة به مشرك وكافر والله قال عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن:14] وكذلك قال: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} [الجن:11] قال المفسرون فمنهم المسلم واليهودي والنصراني والسني والبدعي، وأهل الأهواء موجودون عندهم، فما أدرانا أن هذا الجني صالح مستقيم الدين والعقيدة حتى يجوز لنا أن نتعامل معه، خصوصاً وأن القضية من عالم الغيب؟! إذاً إثبات أن هذا الإنسي صالح وأن الجني الذي يتعامل معه صالح، وأن التعامل مباح، والوسيلة مباحة أمرٌ صعبٌ جداً لا يكاد يثبت، فكيف بعد ذلك يفتح الباب على مصراعيه ونقول: عنده جن يستعملها في المباحات، ولو فرضنا وجد شيء فهو نادر جداً جداً، ولا يجوز التوسع فيه على الإطلاق.
قال شيخ الإسلام: والشيطان وإن أعان إنساناً على مقاصده فإنه يضره أضعاف ما ينفعه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يعيذنا من شر شياطين الإنس والجن أجمعين، وأن يحفظنا وأهلينا من كل سوء إنه هو خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(149/13)
صور أخرى من الشعوذة (بدون الاستعانة بالجن)
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا هو ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً رسوله الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله! إن كثيراً من هؤلاء المشعوذين حيلتهم الدجل والكذب وربما لا يكون عندهم جنٌ أصلاً، ولا يقدرون على تحضير جنٍ ولا على استدعائهم، ولكن يخادعون الناس فيوهمونهم بأشياء، وهذا حال كثيرٍ من الناس، وربما كان بعضهم عاطلاً عن العمل لا يجد عملاً ولا وظيفة فاشتغل مشعوذاً يضحك على الناس يهمه أنه يقرأ ويحصل الأموال الطائلة ويبيع الزيت والماء بأسعار عالية، وما به إلا الفاقة، ثم بعد ذلك ادعى أنه صاحب قدرات وأنه يتعامل مع الجن وهؤلاء كثيرون في المجتمع، وهم يزدادون بشكل مريع، ويجب أن يقف أهل الإيمان والتوحيد لمحاربتهم.(149/14)
مناظرات مع أهل الشعوذة
وبعضهم ادعى هذه الأشياء فيما مضى فتصدى لهم أهل العلم، فإذا نظرنا في مناظرة شيخ الإسلام رحمه الله للفرقة البطائحية الذين كانوا في عهده ينتسبون إلى الرفاعي ونحو ذلك، كيف ناظرهم وكشف زيف حالهم؟ هؤلاء من حيلهم، قال رحمه الله: كانوا يرسلون بعض النساء إلى بعض البيوت يستخذلون عن أحوال أهلها الباطنة، ثم يكاشفون صاحب البيت بما علموه زاعمين أن هذه الأمور من الأمور التي اختصوا بالاطلاع عليها، فإذاً حيلة إرسال نساء للبيوت يطلعون على أحوال البيت فإذا جاءهم من هذا البيت إنسانٌ مسحورٌ مصروعٌ أو فيه ما فيه قالوا: أنت في بيتك كذا، فهل هذا صحيح أم لا؟ أنت عندكم كذا -من الأشياء الباطنة- وهذا المغفل يقول: صحيح كيف عرفوا، لا بد أن عندهم قدرات، فبين رحمه الله تعالى الطرق التي كانوا يتسترون بها، ومن ألاعيبهم أيضاً: قال: ودلسوا على آخر كان يدعى قبجق إذ أدخلوا رجلاً في القبر يتكلم، وأتوا به في الليل يقولون: هذا القبر سيخبرك بأشياء وأخبار، وأوهموه أن الموتى تتكلم، وما هو إلا صاحبهم يتكلم من داخل قبرٍ وهذا المسكين يظن أن هذا من أنباء الغيب، يوحون بها إليه، ولذلك ناظرهم رحمه الله لما جاءوا بأطواق الحديد بقضهم وقضيضهم وجموعهم أمام الناس والملأ والأمراء في عهده وقال لهم: هذه بدع وصرخ فيهم، قالوا: نحن نريد الأربعة القضاة والفقهاء ونحن قومٌ شافعية، قال شيخ الإسلام فقلت: هذا غير مستحبٍ ولا مشروعٍ عند أحدٍ من علماء المسلمين، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني مفتي الشافعية ودعوته وقلت له: يا كمال الدين! ما تقول في هذا؟ قال: هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة، وقال: ليس لأحدٍ الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولا الخروج عن كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال شيخهم عبد الله الكذاب: نحن لنا أحوال وأمور باطنة لا يُوقف عليها وقال: الباطن لنا والظاهر لغيرنا، وأنتم أهل الظاهر ونحن أصحاب الباطن، فقلت له ورفعت صوتي وغضبت: الباطن والظاهر، والمدارس والمجالس، والشريعة والحقائق كل هذا مردود إلى الكتاب والسنة، ليس لأحدٍ الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لا من المشايخ والفقراء، ولا من الملوك والأمراء، ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فرفع صوته وقال: نحن لنا أحوال ولنا خوارق وكرامات، ونحن ندخل في النار ولا تحرقنا، فقلت ورفعت صوتي وغضبت: أنا أخاطب كل أحمديٍ -المنتسبين إلى أحمد الرفاعي - من مشرق الأرض إلى مغربها أي شيءٍ فعلوه في النار فأنا أصنع مثلما تصنعون ومن احترق فهو مغلوب، وربما قلت: فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فسألني الأمراء والناس عن ذلك، فقلت: لأن لهم حيلاً في الاتصال بالنار يصنعونها من دهن الضفادع، وقشر النارنج، وحجر الطلق، فضج الناس بذلك، فأخذ ذلك الشيخ عبد الله الكذاب يظهر القدرة ويقول: أنا وأنت ندخل في النار وتحدى، فقلت: قم فلم يقم فأخذت أكرر عليه القيام فمد يظهر -خلع القميص- وأنه سيتحدى فقلت: لا حتى تغتسل أولاً بالماء الحار والخل فقال متظاهراً: من كان يحب الأمير فليحضر خشباً أو حزمة حطب فقلت: هذا تطويل وتفريق للجمع ولا يحصل به المقصود، هات قنديلاً لا حزمة من حطب وأدخل إصبعي وإصبعك فيه بعد الغسل ومن احترقت إصبعه فعليه لعنة الله أو قلت: فهو مغلوب، فلما قلت ذلك تغير وذل وذكر لي أنه اصفر وجهه، ثم قلت لهم: ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين، ولو طرتم في الهواء ومشيتم على الماء، ولو فعلتم ما فعلتم لم يكن في ذلك دليلٌ على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع، ولا على إبطال الشرع، فإن الدجال الأكبر يقول للسماء: أمطري فتمطر، وللأرض: أنبتي فتنبت، وللخرب: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها تتبعه، ويقتل رجلاً ثم يمشي بين شقيه ثم يقول له قم فيقوم ومع هذا فهو دجالٌ كذاب ملعون لعنه الله، ورفعت صوتي بذلك، فكان لذلك وقعٌ عظيم، وذكر بعض الحاضرين أن الناس قالوا: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:118 - 119] فعندما يكون في الناس من أهل العلم من يكشف الزيف والحيل، وأن بعض الناس مشعوذون لا عندهم جن ولا شيء، وإنما مجرد أكاذيب وألاعيب، فإن الناس لا يذهبون إلى هؤلاء، ولكن إذا سكت أهل الحق والناس في جهل، تراكم الناس على أبواب المشعوذين زرافاتٍ ووحداناً، وأتوهم من كل فجٍ عميق.(149/15)
بعض علامات المشعوذين
فإذا قلت أعطنا علامات للمشعوذ، فإن لذلك علامات كما قلنا، أولاً: أنه ليس بصاحب دين ولا عبادة.
ثانياً: أنه ربما يطلب أشياء من المحرمات كخنق ديكٍ أو ذبح شيء، ويشترط أن لا يذكر عليه اسم الله.
ثالثاً: يعطي أوراق فيها مربعات ورسومات عجيبة وغريبة، أو يعطي أشياء فيها طلاسم وكلمات غير مفهومة، ويقول: الزمها وضعها تحت المخدة، وعلقها على جنبك، ونحو ذلك، وكذلك يطلب اسمك واسم أمك، هذا من علامات المشعوذ أيضاً، ونحو ذلك من الأشياء والعلامات التي يعرفها بعض من جرب وذهب إلى هؤلاء.
نسأل الله السلامة والعافية، اللهم إنا نسألك أن تنصر السنة وتعلي شأن أهليها، اللهم انصر عبادك الموحدين، اللهم اكبت شأن المشعوذين والدجالين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، واكبت اليهود والنصارى والمنافقين، وأظهرنا عليهم يا رب العالمين!(149/16)
قوة الإرادة وعلو الهمة
إن قوة الإرادة وعلو الهمة شيئان متماثلان، لابد من وجودهما عند كل مسلم؛ لكي يستطيع التغلب على نفسه وشيطانه الذي يثبطه عن العمل ويجعله يعتاد على النوم والكسل والخمول والميل إلى الدنيا.
وعلو الهمة يحتاج إليها في العبادة، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، وطلب العلم وغيرها من المواضع التي يحتاج فيها إلى همة عالية، فما هي الوسائل التي تؤدي إلى تقوية الإرادة وعلو الهمة؟(150/1)
أهمية قوة الإرادة وعلو الهمة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فيطيب لي في هذه الليلة أن أتحدث إليكم في هذا المجلس الذي أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله مجلساً خالصاً لوجهه، وأن يجعلنا فيه من عتقائه من النار، الذين تجالسوا في الله، وتذاكروا في الله، وتحابوا في الله، واجتمعوا على طلب العلم.
أيها الإخوة: موضوعنا في هذه الليلة بعنوان: قوة الإرادة وعلو الهمة.
قوة الإرادة وعلو الهمة موضوعان مترابطان؛ وهذان الموضوعان في غاية الأهمية من جهة الحاجة إليهما؛ لأنه لا يقوم بدين الله إلا من كانت له إرادة قوية وهمة عالية، فإن هذا الدين دين قويم ودين عظيم، والله سبحانه وتعالى أنزله وامتحن به الناس؛ ليرى من الذي يقوم به ممن لا يقوم، من الذي يتحرك لنصرته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه ومن الذي يتخاذل عن ذلك ويركن إلى الدنيا وإلى الدعة والكسل.
وهذان الموضوعان أيضاً في غاية الأهمية من جهة علاج الواقع الذي نعيش فيه، فإننا في حال هزيمة على المستوى الفردي والمستوى الجماعي، وإن العودة بالنفس والمجتمع من حال الهزيمة إلى حال الانتصار تحتاج إلى إرادة قوية وهمة عالية.
وحال الأفراد الذين يقولون: عندنا معاصٍ لا نستطيع أن نفارقها، وشهوات واقعون فيها لا نستطيع أن نبارحها، ومن مشاكلنا ضياع الأوقات والدخول في مشاريع دون تكملتها، وتنقطع بنا السبل، ونعيش في فوضى، وحياتنا ليست مرتبة على حسب الشريعة.
لا شك أن علاج كل هذه المشكلات وعلاج قضية عدم الجدية في الالتزام بالإسلام وهذه الأوقات الضائعة، والالتزام الناقص، ومظاهر نقص الاستقامة؛ لا شك أنها لا تعالج إلا بإرادة قوية وهمة عالية.
ونحن نلتفت لعلاج أنفسنا إلى الأنبياء والصحابة والتابعين والعلماء والشهداء الذين قضوا نحبهم وهم مقيمون على طاعة الله، أولئك الذين وصفهم الله تعالى بأنهم {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
أولئك أصحاب الهمم العالية، والعزائم القوية، والإرادات التي جعلت أصحابها في ذلك المستوى الإيماني المرتفع.
أيضاً: فإن هذا الموضوع مهم في العبادة، والجهاد، وطلب العلم، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه الأمور الشرعية المطلوبة لا يمكن تحقيقها إلا بذلك.(150/2)
قوة الإرادة
ولنشرع بالشطر الأول من هذا الموضوع وهو قوة الإرادة.
أما الإرادة: فإن الإرادة الكاملة التامة هي لله سبحانه وتعالى، الذي وصف نفسه بأنه {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] لا تحدث حركة ولا سكنة في الأرض ولا في السماء إلا بإرادته ومشيئته، ولو شاء عدم وقوعها لم تقع، فهذه هي إرادته الكونية القدرية التي لا بد من وقوعها، كما قال الله عز وجل: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف:82]، وقال: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:16] {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [المائدة:41] {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد:11] فمشيئته سبحانه وتعالى نافذة، إرادته نافذة؛ هذه الإرادة الكونية القدرية.
والإرادة الثانية: هي الإرادة الدينية الشرعية كما قال الله تعالى فيها: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27] ثم إن بعض الناس قد يسلكون سبيل التوبة فيتوب الله عليهم، وبعض الناس لا يسلكونها فلا يتوب الله عليهم، وقال الله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] وهذه أيضاً من الإرادة الدينية الشرعية، فلو كانت الإرادة هذه كونية لما حصل لواحد منا عسر أبداً، والخلط بين الإرادتين هو الذي يورد المهالك.
وقد ضل أناس في هذين النوعين فجعلوهما شيئاً واحداً، فصار بعض الناس يقولون: إننا مجبورون على الأفعال لا إرادة لنا، وبعض الناس يقولون: إن كل شيء نفعله فالله يريده، يعني: يحبه، فضلوا واستمروا على المعاصي والضلال، قالوا: إن الله يحب هذا واحتجوا بأنه وقع وأن الله أراده، وبعض الناس: ضلوا في الناحية الأخرى فقالوا: إن العباد يخلقون أفعالهم بأنفسهم، وهؤلاء الضُّلاَّل هم الذين انحرفوا في مفهوم إرادة الله سبحانه وتعالى فخلطوا بين الإرادة الشرعية وبين الإرادة الكونية، والذي يخلط بينهما -ولا شك- يضل.
فهؤلاء الذين قالوا: إن العباد يخلقون أفعالهم بأنفسهم جعلوا هناك أكثر من خالق، بل إن عدد الخالقين صار بعدد الناس الذين يفعلون الأفعال، ولا شك أن الله خلقنا وخلق أفعالنا: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] وأما الذين قالوا: إن العباد ليس لهم إرادة وإنهم مقصورون ومجبورون على أفعالهم سلبوا العباد القدرة والإرادة التي أعطاهم الله إياها، بل إنهم بهذا الكلام الباطل جعلوا تعذيب الله للعاصي مثل تعذيب الطويل؛ لماذا لم يكن قصيراً، والقصير؛ لماذا لم يكن طويلاً، بل إنهم عذروا إبليس وقدموا العذر لفرعون وهامان وقارون؛ لأنهم معذورون بما فعلوه لأنهم مجبورون، وقال قائلهم في البيت المشهور:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
هذا بيت من عقيدة الجبرية، والذي قاله جبري، يقول: إن الإنسان مجبور، وأن الله سبحانه وتعالى امتحنه مع أن المخلوق لا إرادة له، بل إن بعض هؤلاء القدرية الضُّلال اجتمع نفر منهم فتذاكروا في القدر فجرى ذكر الهدهد وقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [النمل:24] فقال أحدهم: كان الهدهد قدرياً، أضاف العمل إليهم والتزيين إلى الشيطان، وكل ذلك من فعل الله.
ونحن نعتقد أن الله سبحانه وتعالى أعطانا القدرة وأعطانا الإرادة، ولكن لا يقع إلا ما يريده الله، لم يسلبنا الله الإرادة والقدرة، بل إن العبد إذا أراد أن يفعل شيئاً فإن له الحرية في الفعل إذا أراد الله وقدر وقوع ذلك، ولا يشعر العاصي بقوة تدفعه إلى عمل الشيء وهو لا يريد ذلك أبداً، وليس العبد مجبوراً على أفعاله مطلقاً، وكم كانت هذه العقيدة الضالة سبباً في صد بعض الناس عن دين الله سبحانه وتعالى، وهذا مثال على ذلك: قال بعض السلف: خرجنا في سفينة وصحِبَنَا فيها قدريٌ ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم، قال المجوسي: حتى يريد الله -هذا عين ما يقع اليوم من بعض الناس الفسقة إذا قلت لهم: التزموا بدين الله عودوا إلى الله اتركوا المعاصي قالوا: حتى يريد الله- قال المجوسي: حتى يريد الله، فقال القدري: إن الله يريد، ولكن الشيطان لا يريد، فقال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان فكان ما أراد الشيطان، هذا شيطان قوي، وفي رواية قال: فأنا مع الأقوى منهما.
وهذا الضلال بسبب الخلط بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، فإن الله سبحانه وتعالى أعطانا الإرادة وأراد منا أن نعبده سبحانه وهو لا يقع في ملكه إلا ما يريد: {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:47] ومن الأدلة على أن الإنسان له إرادة ما أخبر الله سبحانه وتعالى به في عدد من المواضع في كتابه، كقوله عز وجل: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} [القصص:19] {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:79] {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً} [القصص:19] فنحن لنا إرادة ضمن إرادة الله، ولا يمكن أن نخرج عن إرادة الله، ولكن لنا إرادة، لسنا مجبورين على أفعالنا.
وبالمناسبة فإن عدداً من الذين يتكلمون عن موضوع الإرادة من أصحاب الكتابات في علم النفس المأخوذ من النظريات الغربية والمبني على عقائد القوم المنحرفين والكفرة عندهم هذه المسألة، وهي أنهم يقولون في كلامهم: إن الشخص يستطيع أن يفعل ما يريد، وأن الإنسان إذا صمم على شيء فلا بد أن يفعله، فهذا من نتيجة إلحادهم وعدم إيمانهم بالله سبحانه وتعالى وبمشيئته وإرادته، وأننا تحت قهره وسلطانه ونفوذه عز وجل.
فالله سبحانه وتعالى خلق فينا الإرادة وجعل فينا غرائز وأهواء وشهوات، فالإرادة الحازمة تلبي المطالب الشرعية وترفض الإذعان لما يخالف الشريعة، وعلى مقدار إيمان الإنسان تكون قوة إرادته، وبمقدار انحرافه واتباعه لأهوائه وشهواته ونزواته وغرائزه تكون ضعف إرادته؛ لأن الشهوة تجعل ضعيف الإرادة مسوقاً إلى تحقيق مطالب النفس الأمارة بالسوء بدون أن يقاوم، وإرادة الإنسان المسلم تكبح جماح الأهواء والشهوات الثائرة وتسكنها بالكبح والصبر.
وإذا كانت الإرادة قوية محكومة بالعلم الشرعي مع العقل والحكمة التي اقتضتهما الشريعة وجاءت بهما، فإن أفعال المسلم تكون حكيمة ونافعة، وإذا كانت الإرادة ضعيفة أو غير مقرونة بالعلم والعقل والحكمة فإن التصرفات لا تكون حكيمة ولا نافعة، وضعيف الإرادة يتخاذل أمام ميل نفسه إلى الكسل والتباطؤ في العمل، ويجعل غالب وقته في الهزل، ويتعطل عن العمل عند شعوره بأدنى تعب في جسمه، أو علة في نفسه، أو عند شعوره أن العمل لا يوافق هواه وهكذا.
وهؤلاء ضعفاء الإرادة متبعون لأهوائهم، ولذلك تراهم يخلدون إلى النوم الطويل القاتل للقوة والمتلف للجسم، وهؤلاء الذين لم يلتزموا بدين الله ولم يأخذوا بهذه الشريعة فقصروا وجعلوا للشيطان عليهم سبيلاً.
وبعض الناس يكون عندهم قوة إرادة لكن لا يحكمونها بحكمة الشريعة، قد تكون إرادتهم قوية جداً، لكن لسبب فقدانهم للعلم والحكمة تكون قوة إرادتهم نكبة على أنفسهم، فقد يضغط بعضهم على نفسه فيركب مركب الغلو، فيصل إلى تعذيب النفس والجسد فينهار ويتحطم، وبعضهم قد يستخدم إرادته القوية فيفرض سيطرته على مجموعة من الناس ويقودهم للإجرام، وبعضهم من قوة إرادته يغامر بنفسه وبغيره مغامرات تقودهم إلى الهلكة، وهذا من الغلو في هذا الموضوع.
وإن الإرادة التي نتكلم عنها هي إرادة وجه الله، ما نريده إرادة وجه الله سبحانه وتعالى، فإن بعض الناس في هذه الدنيا عندهم قوة إرادة لكنهم وجهوها لطلب الحياة الدنيا، فأرادوها وسعوا من أجلها، فمن أجل الدنيا يعيشون ومن أجلها يكافحون ومن أجلها يعملون في الصباح والمساء حتى يصل إلى غنى، أو شهرة، أو منصب، أو شهادة، ونحو ذلك.
وهذا حال كثير من الناس اليوم، فإن بعضهم عنده إرادة قوية لكن في أي شيء سخرها؟ لجمع الأموال، وفتح الشركات، ومتابعة الأعمال أو الدراسة، وكله في الدنيا، تجده يهلك نفسه في الدراسة الدنيوية وهو مفرِّط في أمور الشريعة وفي أمور الدين، وجَاعلٌ إرادته كلها منصبة في قضايا الدنيا، فهذا الذي قال الله عز وجل فيه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، يعني: قد تحصل له وقد لا تحصل، فإن بعضهم يكدحون ويكدحون وعندهم إرادات لكن لا يوفقهم الله حتى في الدنيا {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:18 - 19].
فالذين لا يريدون وجه الله وليس عندهم إرادة لوجه الله، هؤلاء يكون من عقوبتهم التثبيط عن الأعمال الصالحة؛ لأنهم ما أرادوا وجهه، ولا فعلوا موجبات الإرادة، فإذا كان إنسان يريد الدين فعلاً، ويريد نصرة دين الله، والعمل له لكان قام بالأعمال، ولصار عنده من أعمال الجوارح وغيرها والتخطيط والتدبير لنصرة هذا الدين والسعي إليه، لكن لما فرط وتخلى ثبطه الله، كما قال الله سبحانه وتعالى في الذين في قلوبهم مرض: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46] لقاموا بالعمل وجهزوا أنفسهم بما يستطيعون {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46].(150/3)
وسائل تقوية الإرادة
ما هي وسائل تقوية الإرادة؟(150/4)
الإيمان بالله عز وجل وأسمائه وصفاته يقوي الإرادة
أولاً: الإيمان بالله عز وجل وأسمائه وصفاته، وقضائه وقدره، والتوكل عليه، وحسن الظن به، والثقة بالله سبحانه.
لاحظ الفرق بيننا وبين طرح مفهوم الإرادة عند الكفار وفي بعض كتب النفس، يقولون: أنت تستطيع أن تفعل أي شيء، تستطيع أن تفعل كل شيء، رددت وقلت: أريد وأريد وأريد وستفعل ذلك مهما كان، ونحن نقول: لا بد أن يوجد عندنا تصميم وعزم كما دعتنا الشريعة إلى ذلك، لكن لا بد أن نتوكل على الله، ونفوض أمرنا إلى الله مع العمل: (اعقلها وتوكل) أما الكفار يعقلون ولا يتوكلون، هذا هو الفرق بيننا وبينهم.
ولذلك إذا فشل الواحد منهم تحطم وانهار وانتهى وربما انتحر أو أصيب بالجنون أو الأمراض العصبية، لكن المسلم يعمل وهو متوكل على الله فلو لم يستطع الوصول إلى مرامه ولا نجح فإنها فيصبر على قضاء الله سبحانه وتعالى.(150/5)
بالتربية تنمو الإرادة
ثانياً: التربية هي التي تدرب الشخص على مقاومة الأهواء والشهوات، وتربية الإرادة في نفسه هي التي تكبح جماح هذه الأهواء والشهوات، فالإنسان قد يفشل في المرة الأولى فينهار من أول مواجهة، لكنه بالتربية يصمد في المرة التي بعدها، نعم قد لا يستطيع الصمود إلى النهاية أو لا يصمد إلى النهاية ويسقط، لكن مع النصيحة والمتابعة والتوجيه وشد الأزر ومع الجو الطيب تتكون عنده الإرادة وتنمو الإرادة القوية التي تساعده في الوقوف أمام جيوش المعاصي والشهوات.(150/6)
تحديث النفس بالطاعة والانتهاء عن المعصية
ثم من وسائل تقوية الإرادة: تحديث النفس بالشيء من طاعة الله، أو الانتهاء عن معصية الله، تحدث نفسك به باستمرار، وتتذكره بينك وبين نفسك، تأمل في حديث: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق) هذا الذي يموت على شعبة من النفاق، لو أنه كان يحدث نفسه بالغزو دائماً وقام قائم الجهاد ونادى المنادي للنفير فإنه سيكون مع الخارجين في سبيل الله؛ لأنه دائماً يحدث نفسه في هذا الشيء، ويذكر نفسه بهذا الشيء، ويردد على نفسه تلك الآيات والأحاديث المرغبة في هذا العمل.
وكذلك لو أنه يريد أن تكون عنده إرادة في مقاومة شهوة من الشهوات، يردد على نفسه ويتذكر دائماً وباستمرار هاجسه الذي يقلقه والشيء الذي يتردد في نفسه حرمة هذه المعصية وعقوبة العاصي عند الله والعزم على عدم العودة، والندم على الفعل، هذا في النهاية سيوصله إلى إرادة قوية تمنعه من الوقوع في هذه المعصية.(150/7)
ممارسة العبادات من عوامل تقوية الإرادة
ومن عوامل تقوية الإرادة: ممارسة العبادات، ويجب أن يكون على رأسها ذكر الله عز وجل، وقد ثبت بالدليل الصحيح أن ذكر الله تعالى يقوي القلب ويقوي البدن، وتأمل أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها وانتصر عليهم أولئك النفر من المؤمنين الذين لم يكونوا مثلهم في قوة الأجساد ولا في العدة والعتاد.
إذاً: من المزايا التي أعطاها الله للذاكرين الله كثيراً والذاكرات قوة الإرادة والإيمان والقوة في القلب والبدن.
ثم من العبادات التي تقوي الإرادة: الصيام: فلا شك أن الصيام يقوي الإرادة؛ إرادة الصبر على الجوع والعطش والشهوة لأجل الله سبحانه وتعالى، فهناك عبادات واضح أثرها في تقوية الإرادة.(150/8)
عدم التردد والتحير
من الأمور المهمة أيضاً: عدم التردد والتحير والتلكؤ إذا ظهر لك رجحان الأمر شرعاً وأنه من طاعة الله، بل ينبغي عليك الإقدام والإسراع، الذين {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90].
ينبغي عليك أن تأخذ بجانب الحزم والعزم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل) وهذا في غزوة أحد حيث استشار القوم فأشار بعضهم بالخروج وأشار الآخرون بعدم الخروج فمال النبي صلى الله عليه وسلم إلى قول الذين قالوا بالخروج من المدينة لملاقاة العدو ولبس لأمته، وكأن بعضهم ندم، قالوا: ربما أكرهنا النبي صلى الله عليه وسلم فراجعوه إذا كان يريد أن يقعد، يعني: ما عندهم مانع في ذلك، وهم يؤيدونه لكن النبي صلى الله عليه وسلم ما دام اتخذ القرار ورأى فيه المصلحة الشرعية بعدما شاور {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] فقال: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل).
وهذا درس في مسألة رد التحير والاضطراب والتردد ونبذ هذا الكلام والإقدام على الأمر بالحزم والعزم.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد علمنا هذا المفهوم في حديث مهم، فقال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) طبعاً القوي في كل شيء؛ في إرادته، وفي دينه وإيمانه وبدنه ومهاراته وقدراته.
(المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) يعني: أقدم ولا تتردد لا تتحير لا تتخاذل لا تتكاسل، احرص على ما ينفعك؛ ما دام رأيت فيه المصلحة الشرعية.
(واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء -بعد كل هذه الإجراءات- إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان).
إذاً: الإرادة القوية تقتضي الحزم والإقدام والجرأة والشروع في العمل، ولا للتردد والحيرة والاضطراب.
وهذا الحديث رواه أحمد ومسلم.
وهذه اللفتة أيضاً موجودة في حديث مسلم لما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الراية، وجاء في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه.
قال عمر رضي الله عنه، أنه ما أحببت الإمارة إلا يومئذٍ).
بأي سبب؟ بسبب هذا الوصف يحب الله ورسوله، وهذا من ورع عمر رضي الله عنه ما كان يتطلع للإمارة إلا في هذا الموقف.
(فتساورت لها رجاء أن أدعى إليها.
قال أبو هريرة: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأعطاه إياها، وقال: امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك، فسار علي شيئاً ثم وقف ولم يلتفت فصرخ: يا رسول الله! على ماذا أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) الحديث.
ومن صفات القائد المسلم الذي يقود في معركة، أو في أي مجال آخر من المجالات أنه لا يتردد ولا يتباطأ لأن عامل الحسم عامل مهم في القيادة، إذا كان الكفار يتكلمون عنه في كثير من الأمور العسكرية والإدارية وغيرها نحن أولى وأحرى بهذا، بل هو من ديننا وعرفناه قبلهم من هذا الدين.
وإن عدم التكاسل والتردد يكون حتى في العبادة، في الصلاة، في السهو إذا غلب على ظنه، يفعل ما ترجح لديه، وإذا لم يغلب على ظنه شيء وشك يبني على اليقين ولا ينصرف عن صلاته وهو شاك فيها، إما أن ينصرف عن يقين أو غلبة ظن ويسجد للسهو.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: (يا بن آدم لا تعجز عن أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره) هذه مثل: صلاة الضحى أربع ركعات في أول النهار تسبب الوقاية من الأحداث السيئة والأعراض والأمراض ونحو ذلك من الحوادث والأعراض السيئة.
(لا تعجز عن أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره) ويحتاج الإنسان في هذا إلى الصبر، وأن يكون جاداً، وأن يعقد قلبه على الشيء ويعزم؛ والعزم من مرادفات قوة الإرادة، قال الله عزوجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186].
فهناك أفعال تحتاج إلى عزيمة وقوة: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43] ليس كل الناس يستطيعون أن يصبروا ويسامحوا الآخرين.
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17] فليس كل الناس يستطيعون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما يترتب على ذلك مع إقام الصلاة.
وتأمل في حال أولي العزم من الرسل، لماذا سموا بأولي العزم؟ هؤلاء الخمسة المقدمون عند الله عز وجل، كانت لهم إرادات تنفيذية على مستوى رفيع، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ} [الأحقاف:35].
ولذلك نحن نعزم ونتوكل على الله وننفذ ولا نكن كالعاجز الذي يتبع نفسه هواها ويتمنى على الله الأماني.
والإنسان المتعرض للشهوات ينبغي عليه أن يتدبر قول الله عزوجل: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 41].
فقوة الإرادة عند الشهوة أن تحضر قلبك وتحضر علمك وعزيمتك للوقوف أمام الشهوة {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله رب العالمين) فهذا الرجل الذي قال: إني أخاف الله رب العالمين أمام هذا الإغراء ذات منصب وجمال مغرٍ؛ وربما ترغمه وتسجنه وتذيقه الأذى إذا لم يستجب، فاجتمعت المسألة من جوانبها ترغيباً وترهيباً، وهو يقول: إني أخاف الله رب العالمين، هذا صاحب إرادة قوية.(150/9)
المبادرة بالأعمال والمداومة عليها
ومن عوامل تقوية الإرادة أيها الإخوة: المبادرة بالأعمال قبل الأعراض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال) قد يأتيك فقر ينسي، وقد يأتيك غنىً يطغي، وقد يأتيك مرض يقعدك، وقد يأتيك الموت، فبادر بالأعمال الآن واشرع بها قبل فوات الأوان، قبل أن تجتمع عليك الحوادث، أو يأتي ما لا تظن وما لا تفكر فيه.
وكذلك من عوامل تقوية الإرادة: أن يحافظ الإنسان على العمل وإن قل، فتشرع فيه ثم تحافظ عليه وإن قلت الأعمال (فإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل).
وكذلك: إذا فرغت من عمل فابدأ في عمل آخر وراءه مباشرة؛ هذا من الأمور المهمة في متابعة قوة الإرادة، والدليل على ذلك قول الله عزوجل: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]، إذا فرغت من الصلاة فانصب للذكر، فليس إذا انتهى الإنسان من عمل يذهب ويلعب، إذا انتهى من الصلاة يذهب ويطلق هوى النفس يقول: الحمد لله صلينا الصلوات وأدينا الفروض فيمكننا بعد ذلك أن نذهب لمشاهدة الأفلام والمسلسلات ونلعب الورق، {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح:7] ليس موجوداً عند هؤلاء، ولذلك تكون إراداتهم ضعيفة، وصحيح أنه يحافظ على بعض الأعمال الدينية كالصلاة مثلاً، أو الزكاة أو الصيام لكن في بقية أعمال الخير كسول متردد مسوف.(150/10)
التفاؤل يؤثر في الإرادة
وكذلك من الأمور التي تؤثر في الإرادة: التفاؤل وعدم التشاؤم، فإن بعض الناس الذين عندهم نفسيات متشائمة ليست عندهم إرادات قوية؛ لأنه بمجرد ما يرى شيئاً يجلب لنفسه التشاؤم فيترك العمل، وتنتهي الإرادة، وتفتر وتتلاشى، كما أن بعضهم إذا ذهب يفتح الدكان فرأى رجلاً أعور تشاءم وقال: هذا يوم سوء سنخسر ثم أقفل الدكان ورجع، وإذا خرج له رقم مقعد (13) قال: هذا رقم سوء وشؤم، أكيد سيحصل لي حادث فيلغي السفر ويرجع، وهكذا بعض الناس يتشاءمون، ربما لو طنت أذنه اليسرى قال: هذا العمل لا بد من عدم الإقدام عليه، وهكذا.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التفاؤل، كان يتفاءل ويحب التفاؤل، وقال: (الطيرة شرك) لا يجوز التشاؤم؛ والتشاؤم يبطئ الهمة ويشتت القلب ويميت روح الإقدام.(150/11)
الصبر والتحمل يقوي الإرادة
وعلى المسلم أن يتحامل على نفسه رغم الصعاب؛ وهذه من الأشياء التي تقوي الإرادة، كما قال الله عزوجل: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} [النساء:104] ففي غزوة أحد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحق بالمشركين وفي المسلمين جراحات، وتعب شديد من المعركة {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] مثلكم لكن الفرق أنكم {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] وهذا فرق أساسي ومهم جداً {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] تحملوا وتجلدوا وتصبروا إن تكونوا تألمون فهم يألمون أيضاً لكنكم أنتم أيها المؤمنون {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:104].
ثم على المسلم أن يتلقى الأحداث بالصبر وعدم الجزع عند المصيبة، أو الحزن على ما فات، وهذا -ولا شك- نابع من الإيمان بالقضاء والقدر، والله سبحانه قال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] من قبل أن نخلقها ونوجدها في الواقع هي مكتوبة في كتاب {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] فائدة الإيمان بهذا المفهوم ذكرها الله تعالى فقال: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23].
وبعد هذا العرض في موضوع قوة الإرادة لننتقل الآن إلى الشق الثاني من موضوع هذه الليلة وهو علو الهمة.(150/12)
علو الهمة
علو الهمة -أيها الإخوة- شيء لا يحسنه ولا يتوفر إلا عند أكابر الناس الذين جعل الله التوفيق حليفهم.
وعلو الهمة: التطلع إلى الأعلى وهو رضا الله سبحانه وتعالى وابتغاء وجه الله، ما هي همتنا؟ وما الذي ينبغي أن تكون موجهة إليه؟ إنه ابتغاء وجه الله والجنة
وإنا لنبتغي فوق ذلك مظهراً
هذه الهمة العالية ليست إلا لمن وفقه الله تعالى.(150/13)
مركبات علو الهمة
علو الهمة مركب من عدة عناصر: منها: الجد في الأمر والإباء والترفع عن الصغائر والدنايا والطموح إلى المعالي الشرعية، لأن بعض الناس يطمحون إلى وظائف ومناصب ومستويات مادية وشرف دنيوي ومدح وثناء، فهذا ليس علواً في الهمة بل هو دنو في الهمة؛ لأنه صار ينظر إلى الدنيا، لماذا سميت بالدنيا؟ لأنها دنية سافلة.
فالذي يتطلع إلى منصب أو وظيفة لا يوصف بأنه ذو علو في همته، بل هذا همه في الدنيا، وذكرنا أنه قد يكون عنده من قوة الإرادة والشخصية ما يحقق له الغرض الذي يريده، لكن ليس له عند الله من خلاق، فإن قصد بها وجه الله صارت قضية شرعية، كمن قصد أن يحصل على الشهادة لكي يوظف ذلك في طاعة الله، أو قصد التجارة لينفق على نفسه وأهله بالمعروف وأن يتصدق وأن يدعم القضايا الإسلامية، ونحو ذلك، فهذا ممن يبتغي وجه الله، همته إرادة وجه الله، وما تاجر إلا لوجه الله، ما اكتسب إلا لوجه الله، ما درس إلا لوجه الله، فهذا عنده علو همة.
فعلو الهمة هو الجد في الأمر والإباء والترفع عن الصغائر والدنايا والطموح إلى المعالي الشرعية، وكلما عظم الهدف وسمت النفس إليه ارتفعت الهمة ووصف صاحبها بأنه عالي الهمة، وكلما هبط الهدف ودنا نزلت الهمة وحصلت الدناءة ورضي المرء بالصغائر والتوافه.
علو الهمة يقتضي أمورا: منها: الجدية في العمل وعدم التواني والكسل، إذا دعا الداعي من الله عز وجل إلى عمل تسابقوا إليه مثل حي على الصلاة فإن من علو الهمة إن كانت مطرقته رفعها ألقاها خلف ظهره ولا يطرق بها وإنما يذهب إلى الصلاة مباشرة، إذا أراد أن يبيع فأذن المؤذن لم يبع ولم يكمل التفاوض ولا المساومة وترك ذلك للصلاة، هذا من علو الهمة، عندما يستطيع الحج يحج هذا علو همة، لا يسوف ولا يؤخر، إذا قال الله: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] طاروا إليه رجالاً وركباناً، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ} [النساء:71] يعني: جماعات، {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} [النساء:71] نفير عام، الجيش كله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء:72] ما عندهم علو همة بل عندهم ضعف إرادة فهم يثبطون.
وقلنا: إن علو الهمة وقوة الإرادة أمران مترابطان غاية الترابط وبينهما علاقة وثيقة جداً.
أصحاب الهمة الدنيئة لا يقومون إلى ما يرضي الله، وإذا دعا الداعي إلى شيء من الطاعات أحجموا وسوفوا وتكاسلوا، كما وصف الله المنافقين بقوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54].
فالتكاسل والتقاعس هذا مما ينافي علو الهمة، وعكسه الجد وعدم التواني، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من العجز والكسل، فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل).
كما جاء في الحديث الصحيح، وهذا دعاء مهم جداً.
والإسلام يدفع المسلم إلى ابتغاء الكمالات، من التطلع للآخرة، والتطلع إلى المعالي، وإلى الأشياء العظيمة، والإسلام يصرف المسلم عن أن ينزل ببصره إلى الدنايا والتوافه والصغائر والأمور الحقيرة، خذ مثلاً على ذلك: يريد الله عز وجل من المسلم أن يرتفع بنفسه عن هذه الأرض وجواذبها ودناياها ليتطلع إلى الأمر العظيم وإلى الهمة العالية وهي طاعة الله عزوجل -العبادة- {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9].
فهو يريد أن تكون همة العباد إلى هذا الشيء وهو قيام الليل {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وقال الله عزوجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:95] لا يستوون هؤلاء، {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء:95]، ثم قال: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:95 - 96].
هذا المنادي من الله يدعو العباد إلى التطلع إلى هذه المعالي، ويقارن بينهم وبين الشيء العادي والشيء الدنيء، وكذلك حتى الأشياء العالية متفاوتة، فيقول: التمسوا الأعلى {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10].
والإسلام كما أنه يحث على الارتفاع والتطلع إلى معالي الأمور مثل طاعة الله من قِبل عباده، من الجهاد، والصدقة، والصلاة، وقيام الليل، فإنه يصرف المسلم عن أن ينظر ببصره أو يتطلع ويهفو قلبه أن يركن إلى سفاسف الأمور والدنايا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفسافها) وجاء الحديث بألفاظ أخرى.
والسفساف: هو الأمر الحقير والرديء من كل شيء، ومن الأمثلة على ذلك: ذم السؤال في الإسلام -الشحاذة وطلب الناس- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السفلى) فسرها في الحديث الآخر: (اليد العليا هي المنفقة والسفلى هي السائلة).
ما يريد الإسلام من المسلمين أن يكونوا شحاذين وسُؤًّالاً يمدون أيديهم، وإنما أن يكونوا عاملين يأكلون من عمل أيديهم، وأشرف طعام يدخل جوفك ما صنعته بيدك؛ هذه سنة داود عليه السلام، وذم النبي صلى الله عليه وسلم السؤال من غير حاجة، والمكثرين من السؤال، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عنهم: (لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم)، وقال: (من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش -أو خدوش، أو كدوح- قيل: وما الغنى يا رسول الله؟ قال: خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب).
فإذا كان له ما يغنيه وسأل جاءت المسألة يوم القيامة في وجهه نُدَباً وآثاراً.
وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم نظر أصحابه إلى قضية ترك سؤال الناس بالكلية، وقال: (من يتكفل لي ألا يسأل الناس شيئاً وأتكفل له بالجنة؟ فقال ثوبان: أنا، فكان بعد ذلك لا يسأل أحداً من الناس شيئاً) وصار الصحابة رضوان الله عليهم إذا سقط السوط من يد أحدهم لا يسأل أحداً من الناس أن يناوله إياه.
وقضية علو الهمة تكون بالتطلع إلى الآخرة، والتطلع إلى طاعة الله، حتى في الدعاء، فإن الإنسان تكون همته عالية في الدعاء (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة) وقد يقول قائل: أنا مقصر ومذنب وأعرف نفسي لا أستحق الفردوس، نقول: لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة).
إن الله كريم، ولا يعجزه شيء، سبحانه وتعالى وهو المنان فاسأله، وماذا يضرك؟ إن علو الهمة يكون حتى في الدعاء فيتطلع إلى الفردوس، على أن المسلم يسأل الله الفردوس، وربما بعض الناس يقول في نفسه: دعني فسوف أسأل أن أكون عند باب الجنة فقط، نقول: لا.
يقول: عندي معاصٍ، نقول: لا.
فاسأل الله الفردوس، حتى في الجنة اسأل المراتب العليا، ادع الله فربما يجيبك فتكون من الفائزين بهذه الدرجات العلى والنعيم المقيم.(150/14)
الدافع إلى علو الهمة
والذي يدفع المسلم إلى علو الهمة هو الزهد في الدنيا؛ لأنه لو عرف حقيقة الدنيا أنها فانية زائلة ملعونة، وأنها كالعصف المأكول، وأنها تكون كهذا الذي تذروه الرياح، فإذا عرف قيمة الدنيا وتفاهتها وحقارتها وزوالها وفناءها فإنه في هذه الحالة يزهد فيها، وتتطلع همته إلى الأمور العليا إلى الآخرة وإلى الجنان وما أعد الله فيها.
ومن الأمور المعينة على أن تكون الهمة عالية: اشتغال الإنسان بما يعنيه وانصرافه عما لا يعنيه، فإنه إذا انشغل بما يعنيه؛ ومعنى: يعنيه، أي: يعنيه شرعاً، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني: الدعوة إلى الله، كسبك لأجل أولادك وزوجتك والإنفاق على زوجتك يعنيك، كل هذا يعنيك، معرفة أوقات الصلوات تعنيك، وما لا يعنيك هو: كل ما يضرك وما لا مصلحة لك فيه شرعاً.
انظر إلى هؤلاء الناس الذين عندهم هوايات عجيبة: التصوير، وجمع الطوابع، والرياضات البحرية وتقضى فيها ساعات، وصيد الجرابيع، وأن يصعد بسيارته على تل من رمل؛ هذا همهم في هذه الأشياء، وآخر يجلس عند الألعاب التي في الكمبيوتر عشر ساعات واللعبة تأخذ كل يوم مراحل وساعات طويلة: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) فينبغي ترك هذه الأشياء، لا نقول: لا تروح عن نفسك، ولا تتريض الرياضة المباحة، لا.
هذا مما يعنيك، لكن الإغراق في هذه الأشياء، وإضاعة الساعات الطويلة فيها، هذا لا شك أنه منافٍ لعلو الهمة.
وترك فضول الكلام، ومجالس إضاعة الوقت، والناس الثرثارين؛ هذا مهم لكي يحفظ الإنسان وقته، فالشخص الذي عنده علو همة ينصرف لمراعاة وقته، وكل ما هو من مدعاة الكسل والخمول، فالإنسان يترفع عنه، حتى التثاؤب انظر كيف أمرنا برد التثاؤب وتغطية الفم في الصلاة إذا تثاءبنا حتى لا يدخل الشيطان؛ لأن التثاؤب من الشيطان والتثاؤب عنوان الكسل والخمول، حتى التثاؤب الذي هو عملية طبعية تكون في الجسم ومع ذلك نرده ونكظمه حيث أمرنا بذلك شرعاً.(150/15)
صور من علو الهمة عند السلف
وبعد هذه النقاط في مقتضيات علو الهمة وبعض الأسباب التي تؤدي إلى علو الهمة لننتقل إلى تطبيقات عملية في واقع السلف في بعض الجوانب فيما يتعلق بعلو الهمة، ومن ذلك: الهمة في العبادة، والهمة في البحث عن الحق، والهمة في الدعوة إلى الله، وفي الجهاد، وفي طلب العلم.
وتحت كل فرع من هذه الفروع نضرب أمثلة ونستلهم المعاني من قصص أولائكم النفر الكرام من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.(150/16)
الهمة في العبادة
أما الهمة في العبادة: فإن الله سبحانه وتعالى قد رغبنا في ذلك، وذكر لنا حال أصحاب الهمم العالية في العبادة؛ مثل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:16 - 17] وهذا النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الأمة قاطبة في همته، فهو أعلى الناس همة في العبادة كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه.
قال ابن مسعود: [صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فأطال القيام حتى هممت بأمر سوء، قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه] يعني: يكمل الصلاة قاعداً.
وروى مسلم عن حذيفة قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع، فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قام قياماً طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريباً من قيامه).
والأمثلة كثيرة في الصحابة والتابعين وذكرنا طرفاً صالحاً من هذا في محاضرة بعنوان: "اجتهاد السلف في العبادة"، فلا نطيل في ذلك.
ولكن لنعلم -أيها الأخوة- أن الشيطان يثبط الإنسان أن تكون له همة في العبادة، والشيطان يعقد على قافية رأس أحدنا بثلاث عقد حتى لا يقوم الليل، فإذا قام وذكر الله انحلت عقدة، فإذا توضأ انحلت، وإذا صلى انحلت كل العقد، ولما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم رجلاً نام حتى أصبح، قال: (ذلك رجل بال الشيطان في أذنه).
أما بالنسبة للهمة في البحث عن الحق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو النبي صلى الله عليه وسلم- كان يسأل الله أن يوفقه للحق ويدعو ربه ويناجيه في الليل وهو يصلي ويقوم الليل: (اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك).
الإنسان مطالب بالوصول إلى الحق، وأن يحاول ذلك، سواء كان في مسائل الاعتقاد، أو العبادات ومعرفة الصواب والحق فيها، ينبغي أن يبذل جهده في ذلك.(150/17)
الهمة في طلب الحق
ولنأخذ مثلاً واحداً يبين لنا الهمة العالية في البحث عن الحق، إنه سلمان الفارسي رضي الله عنه، فقد كان أبوه من عباد النار من المجوس، وكان مع أبيه يحش النار، فحصلت له حادثة حيث أرسله أبوه في أمر فمر على ديرٍ للرهبان فتعرف على دين النصرانية فأعجب بهم فأخبر أباه فسجنه وقيده بالسلاسل، فأرسل إلى أولئك النصارى يسألهم عن أصل هذا الدين، قالوا: هو بـ الشام، فأرسل إليهم يقول: إذا كان هناك أناس يريدون السفر إلى الشام فأعلموني فلما علم حلَّ القيد وهرب وخرج إلى الشام، وذهب إلى أسقف في كنيسة يخدمه ويتعلم منه ويبحث عن الحق، فإن عبادة النار هذه لا تجدي، ولا تنفع، ولا تصلح.
ولما أوشك الرجل على الموت عَلِم سلمان أنه كان رجل سوء، وأنه كان يأخذ من صدقات الناس ويخزنها، فدل الناس عليه فرجموه وصلبوه ولم يدفنوه، وجعلوا واحداً بدلاً منه وكان رجلاً صالحاً على دين التوحيد، يعني: ملة عيسى عليه السلام، فلازمه سلمان رضي الله عنه يخدم ويتعلم منه فلما أوشك الرجل الصالح على الموت قال: لمن توصي بي من بعدك، فأوصاه إلى رجل بـ الموصل، فذهب إليه يتعلم منه، فلما نزل به الموت أوصاه إلى رجل بـ نصيبين، فلما حضرته الوفاة أوصاه برجل بـ عمورية، وسلمان ينتقل ويسافر من بلد إلى بلد.
فلما نزل الموت بصاحب عمورية، سأله سلمان فقال: تدلني على من؟ قال: أي بني، والله ما أعلم أنه بقي أحد على مثل ما كنا عليه، ولكن قد أظلك زمان يبعث فيه نبي من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى: بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة.
فلما واراه ودفنه أعطى كل ما يملك إلى رجال من تجار من العرب ليحملوه إلى أرض العرب، لكنهم ظلموه وباعوه عبداً لرجلٍ من وادي القرى فباعه على رجل من بني قريظة، فجيء به إلى المدينة وهو عبد، فأقام في الرق.
وبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم في مكة وسلمان لا يدري عنه شيئاً، يعمل في النخل، حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فجاء ابن عم اليهودي يخبره بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم، وسلمان فوق النخلة فلما سمع الخبر قال: فأخذتني العرواء -يعني: الرعدة- حتى ظننت أني سأسقط على صاحبي، ونزلت أقول: ما هذا الخبر؟ فرفع مولاي يده فلكمني لكمة شديدة، وقال: مالك ولهذا؟ ولكن سلمان عند المساء أتى النبي صلى الله عليه وسلم بطعام قال: هو صدقة، فلم يأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه مرة أخرى بطعام قال: هو هدية، فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، وسلمان يقول: هذه واحدة، والثانية: فدار سلمان حول ظهر النبي صلى الله عليه وسلم فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يتثبت من شيء فأرخى له الرداء فقال سلمان: فنظرت إلى الخاتم فعرفته فانكببت عليه أقبله وأبكي.
يعني: بعد هذه السنوات الطويلة جداً وصل سلمان إلى هدفه، وعرف الحق، ترك أباه وأهله وفارق الأوطان وتغرب وأنفق كل ما عنده من البقرات والمال لأجل أن يسافر إلى المكان الذي فيه ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وظُلِمَ وبِيْعَ عبداً فاشتغل في الرق سنوات طويلة جداً حتى وصل إلى الحق وعرفه.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام(150/18)
الهمة في الدعوة إلى الله
وأما الهمة في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ فهذه قضية ينبغي أن تكون مغروسة في أنفسنا؛ لأننا -أيها الإخوة- مطالبون بأمر إلهي {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل:125] يجب علينا أن ندعو لننقذ الأمة من الهلكة، الأمة الآن تعيش في أحط أوضاعها، وأسفل ما مر بها في تاريخها، ولو تأمل الداعية صعوبة المهمة لعرف أنه لا بد أن يكون صاحب إرادة قوية وهمة عالية؛ لأن هناك جهداً كبيراً يجب أن يبذل، فتصحيح الانحرافات الموجودة ليس أمراً سهلاً، والأمر أعظم مما قال عمر بن عبد العزيز لما قال: [إني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره].
هذه الأمة الآن غارقة في المصائب والمعاصي، والكفر والشرك على رأس ذلك، إنها المحاربة من قبل الأعداء؛ يحاربون المساجد بالمراقص، والزوجات بالمومسات، والعقيدة بالفكر المنحرف والفلسفة، والقوة باللذة، يحاربوننا بأن يجعلوا همتنا دنية في اللقمة والجنس.
والداعية إلى الله إذا رأى أهل الباطل وعملهم في دعواتهم الباطلة وسعيهم لنشرها حتى لربما كانت عجوزاً شمطاء في المجاهل والأدغال مع ضعفها وقلة حيلتها تعمل لأجل الصليب، أو غير ذلك من الأفكار المنحرفة، ويسهرون الليل، وينفقون الأموال، فالعيب الكبير في الشخص أن يتقاعس عن الدعوة وهو ينظر إلى أولئك القوم.
والداعية إلى الله يعلم أنه منصور، وإن لم يكن منصوراً بالسنان فهو منصور بالحجة والبيان (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله).
وتأمل في قوة إرادة النبي صلى الله عليه وسلم وعلو همته في الدعوة لما بعث ولم يكن في الأرض في ذلك الوقت إلا هذه البشرية المنحرفة، تأمل حال رجل واحد مطلوب منه التبليغ وحمل الناس على الدين، وإقامة الإسلام في الأرض، وهو واحد أمام هذا الكم الهائل من ركام البشرية المنحرفة التائهة الغارقة في الشرك والوثنية، كم تكون المهمة صعبة والحمل ثقيل؟ رجع يقول: (زملوني زملوني) من هول ما ألقي عليه من هذه التبعات العظيمة، لا يقام بهذه المسئولية إلا من قبل رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، أصحاب همم عالية وإرادات قوية، والدعوة إلى الله طبيعتها الابتلاء والفتن والمحن، ولا بد من صبر.
الدعوة تحتاج إلى بذل أوقات، وهذا نوح ظل يدعو قومه {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14].
الدعوة إلى الله تحتاج لصاحب همة عالية يدعو إلى الله سراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً، في جميع الأحوال والظروف، وينوع الوسائل.
والداعية إلى الله يرحل ويتجول في أي مكان سافر وإلى أي مكان ارتحل فهو يدعو، تأمل حال الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك).
لاحظ: أتانا رسولك؛ هؤلاء رسل النبي صلى الله عليه وسلم يجوبون القفار والصحاري وينتقلون بين القبائل لتبليغ الدعوة، أسفار ومشاق وصرف أموال وتعب، لكن هذه حال الدعوة.
والداعية وقف لله تعالى لا يصلح أن يترك هذه المهمة، أو يقول: أدعو سنة وأنام سنة، كلا.
وقد تكلمنا في بعض المحاضرات الماضية عن أساليب الدعوة، ووسائل الدعوة، وبعض صفات الداعية، فلا نطيل بهذا ولكن القضية تذكير بأن المهمة في عصرنا صعبة ولكنها واجبة، ولا بد أن نكون أصحاب إرادات كبيرة وهمم عليا لنقوم بهذه الدعوة.(150/19)
الهمة في الجهاد في سبيل الله
أما الجهاد في سبيل الله: فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام حكى لنا حال رجل مَثَّلهَ بألفاظ عجيبة تبين همة هذا الرجل العالية في الجهاد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خير معاشر الناس رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعةً أو فزعةً طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه).
هذا رجل على أهبة الاستعداد، دائماً مستعد ممسك بعنان فرسه، أي وقت سمع منادي الجهاد طار ولم يمش مشياً، بل طار على الفرس يبتغي مظان الموت، وأين يوجد القتل فيدخل في المعترك.
حديث صحيح رواه مسلم.
(وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقاتل ويحتمي به أصحابه).
وتمنى ألا يتخلف عن سرية قط، لكن لأجل بعض المصالح، ومع ذلك قاد عدداً كبيراً من الجيوش والسرايا، وأصحابه ساروا على منهاجه، وانظر إلى همة أنس بن النضر العالية في قتاله حتى ما بقي منه إلا ما عرفته أخته به وهي بنانه، سبعون موضعاً في جسمه ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح، وحمزة في أحد قال الراوي: مثل الجمل الأورق يهد الناس بسيفه هداً ما يقوم له شيء، يقول: يا بن أم أنمار! يا مقطعة البظور! أتحاد الله ورسوله؟! فيضربه فكان كأمسٍ الذاهب.
ولعل من أعجب الأمثلة وأروع الأمثلة في تاريخنا الإسلامي لصاحب همة عالية في الجهاد، الرجل الذي مع شهرة اسمه لكن لا يعرف من أفعاله إلا القليل، إنه خالد بن الوليد رضي الله عنه؛ هذا الرجل عجيب فعلاً فيما قدم لهذا الدين في الجهاد والقتال، أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد حينٍ، ولكن سخر قوته ومواهبه لله ورسوله، وقاد جيشاً من المسلمين في فتح مكة، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أرسله وبعثه بعوثاً ارتدت العرب، وكانت مهمة عظيمة ملقاة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فعرف كيف ينتقي سيفاً من سيوف الله، فوجهه إلى أشد الخصوم مسيلمة الكذاب وقاتلوا في ليالي اليمامة وأيامها مقاتلة شديدة حتى أظفرهم الله على المرتدين.
وبرغم قساوة وشراسة معارك الردة -التي مع الأسف ليست معروفة لكثير من الأجيال المسلمة التي ينبغي أن تدرس بعناية؛ لأن فيها أموراً كثيرة مما ينطبق في زماننا- لم يقعد خالد وإنما وجهه أبو بكر لغزو فارس، بادئاً بثغر أهل الهند والسند، وأرسل معه أناساً، فقام خالد رضي الله عنه فقسم الجيش إلى ثلاث فرق، وأعدهم عند الحفير، وراسل هرمز يدعوه إلى الإسلام، أو الجزية، أو القتال، وجاء هرمز بجيشه، ونزل على الماء ونزل المسلمون على غير ماء، وكلموا خالداً فقال: حطوا أثقالكم، ثم جالدوهم على الماء، فلعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين، وربط الفرس بعضهم بالسلاسل، ودعا هرمز خالداً للمبارزة يريد الخديعة، حتى إنه جعل خطة بحيث إن هناك أناساً من الفرس ينقضون على خالد من الخلف أثناء المبارزة، ولكن القعقاع وهو قائد إسلامي آخر كان منتبهاً فحمل عليهم فقتل خالد هرمز، وانهزم الفرس وأرسلت الغنائم إلى أبي بكر.
ثم دخل في واقعة المذار وكان هرمز قد كتب لـ أردشير يستمده، فأمده بقائد منهم، فالتقى الجيشان مع فلول جيش هرمز في ذلك المكان، فنهض خالد لقتالهم على التعبئة، وخرج إليهم فاقتتل الجيشان وانهزم الفرس وكانت مقتلة عظيمة.
ثم وقعة الولجة التي أرسل فيها الفرس جيشاً كثيف العدد ونهض لهم خالد وخلفه من يحمي ظهره وقسم الجيش وأعد الكمائن واقتتل الجيشان واستعرت الحرب وصار الظفر للمسلمين وولى الفرس ومات قائدهم من العطش.
ثم انتقل إلى وقعة أليس -وهم جماعة من عرب الضاحية نصارى من بكر ووائل- الذين عبئوا أنفسهم للثأر وراسلوا الفرس فأمدوهم، وعلم خالد باجتماعهم فذهب إليهم وعاجلهم واقتتل الجيشان مقتلة عظيمة, ونذر خالد لئن أظفره الله بهم ليجرين نهرهم بدمائهم، وهزم الله الفرس وأسر المسلمون الكثير منهم، ثم قتلوهم حتى جرى النهر بدمهم، فسمي نهر الدم، وكان خالد يقول: ما لقيت من أهل فارس قوماً كأهل أليس، وقسم الغنائم وأرسل الخمس إلى الخليفة.
ثم واقعة أنغيسيا التي أكمل خالد بجنده إليها وقاتل أهلها وولوا تاركين كل شيء، ما إن اقترب خالد حتى هربوا وتركوا كل شيء غنيمة.
ثم توجه إلى الحيرة وخرج المرزبان بجنده وجعل خالد الجيش على سفنٍ في الفرات، ولكن الفرس عملوا مكيدة، بأن فجروا أنهاراً فرعية لتقف سفن المسلمين بأحمالهم، وفعلاً وقفت سفن المسلمين بأحمالها، لكن خالداً لم يكن ليحتار ويضطرب ولا يدري ماذا يفعل، وإنما انفلت بكتيبة من المسلمين وقاتل المرزبان على حين غفلة من جيشه حتى هزمهم وهم القائمون على الأنهار الفرعية، وأجرى الماء في الفرات فرجع الماء وحملت سفن المسلمين، ودخل الحيرة وفتحها وأعمل القتل فيها، وخير قساوستها فاختاروا الجزية، فأرسل إلى أبي بكر الصديق.
ثم انتقل إلى الأنباط، وهكذا من معركة إلى أخرى، ثم إلى عين التمر وهي واقعة عجيبة، ثم إلى دومة الجندل ثم إلى الخنافس والحصيب وهي وقعة أخرى.
ثم ينتقل خالد بن الوليد من مكان إلى مكان ومن واقعة إلى واقعة الفراض التي تحالف فيها الفرس والروم ونصارى العرب في جيش واحد ضد خالد بن الوليد وجيش المسلمين، وفتحها الله.
ثم معركة اليرموك المشهورة وأنتم تعلمون ما حصل فيها، وظهرت العبقرية العجيبة لـ خالد بن الوليد حينما أراد أن يفاجئ الروم من مكان لا يحسبون له حساباً، فاختار أن ينطلق من العراق إلى الشام عبر بادية الشام الصحراء -التي تقطع الآن بسيارات بعشرين ساعة مع الراحات- أتى خالد بدليل يدل الطريق، وأمر بحمل الماء وأمر بعشرين جزوراً سماناً عظاماً فأظمأها حتى اشتد عطشها ثم أوردها الماء، حتى رويت فقطع مشافرها وعكمها حتى لا تجتر، وكان كل يوم له منزل يعمد إلى أربع من الإبل فيقطع أسنمتها ويأخذ ما في كروشها ويسقيه الخيل حتى كان المنزل الأخير، فوفقهم الله حتى عبروا ذلك المكان، وفاجأ الروم من المكان الذي لا يحتسبونه.
ولما حوصرت دمشق من أبوابها المختلفة كانت الفرقة التي فيها خالد هي التي دخلت دمشق وهو الذي قال لهم: انتظرونا فإذا سمعتمونا كبرنا فاقتحموا، فصعد هو ومن معه على الأسوار ونزلوا على الروم الحراس وقتلوهم وفتحوا الأبواب وكبروا، فدخلت جيوش المسلمين إلى دمشق، وكان بعض أهلها قد صالحوا المسلمين في الجهة الأخرى، فبعض دمشق فتح عنوة وبعضها فتح صلحاً.
وهكذا يستمر خالد بن الوليد، وفي معركة من المعارك تواجه جيش خالد مع جيش عقة بن أبي عقة النصراني العربي الذي كان يجهز الجيش، فلمح خالد ثغرةً فترك جيشه وانطلق إلى القائد المشرك الكافر فأخذه واحتضنه ورجع به أسيراً فانهزم جيشه.
وفي معركة من المعارك حاصر المسلمون حصناً، فقال بعض المسلمين لـ خالد: إن هؤلاء إذا رأوا وجهك لا يخرجون خارج الحصن، مع أننا نريد أن يخرجوا لكي نقاتلهم، فخرج خالد نهاراً وهم يرونه مبتعداً، ثم دخل ليلاً في الجيش مرة أخرى، وفي الصباح خرجوا لأنهم علموا أن خالداً خرج، فخرجوا من الحصن ليقاتلوا فصبحهم خالد بوجهه فهزموا، رضي الله تعالى عنه.
ويستمر حتى يطيع أمر الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد حين برجوعه إلى المدينة، ويكون عنده حتى وافاه الأجل رضي الله عنه.
وفي إحدى الغزوات بعدما فتح مدينة أخذ فرساناً وذهب إلى الحج -قطع مسافة إلى عرفة - مباشرة فحج ورجع فلما رآه أصحابه حليق الرأس عرفوا أنه قد حج.(150/20)