مصاحبة من هو أعلى في الدين واتخاذه قدوة
السؤال
قلت إن الإنسان المؤمن يجب أن يصاحب دائماً من هو أعلى منه في الدين، ولا يصاحب من هو أقل منه في هذه الحالة لن يصاحب أحد أحداً؛ لأن كل واحد سيبحث عن من هو أعلى منه ويترك منه أدنى منه؟!
الجواب
عندما نقول: إن الإنسان يحرص على أن يقتدي بشخص أعلى منه في الدين أو العلم مثلاً فما معنى هذا الكلام؟ هل يعني أنه سيخالطه أربعة وعشرين ساعة؟ لا.
وإنما هي دعوة للبحث عمن هو أعلى منك لتقتدي به، وبقية الأوقات تخالط مثلك ومن هو دونك، فتتعاون أنت وإياهم ويستفيدون منك، لا يوجد أحد من الناس إلا ويوجد من هو أعلى منه وأدنى منه، فهو يبحث عن الأعلى ليخالطه ويستفيد منه ويقتدي به، وبقية الأوقات هو مع زملائه ومع أقرانه، ومع الناس الذين يدعوهم إلى الله.
فالإنسان ليس فقط متلقي ومقتدي، هو أيضاً داعية، هو أيضاً ينشر الخير، فلا يُفهم إذاً من الكلام السابق أننا ندعو فقط إلى أن كل إنسان يذهب إلى من هو أعلى منه، وفي النهاية الناس الذين تحتهم ليس لهم أحد، فهذا نظرياً لا يمكن تخيله.(88/45)
حكم الجلوس مع الذين يغتابون الناس بحكم العمل
السؤال
ما حكم الجلوس مع من يغتابون الناس بحكم الارتباط معهم بالعمل خصوصاً أنهم أرفع في الرتبة؟
الجواب
إذا كان الإنسان يعمل بعمل عسكري مثلاً نقول: إن الإنسان لا يجوز له أن يخالط من يرتكب المنكر، وإذا أكره على شيء، فالإثم على من أكرهه.(88/46)
الحل لمن جلس بين أشخاص دينهم قليل
السؤال
مصاحبة الصالحين لا شك أنها طيبة؛ لكن الشخص قد يضطر أن يكون بين أشخاص دينهم قليل، فمنهم من يتكلم بالغيبة والنميمة والقصص الغرامية وغير ذلك، والعمل يُحتم عليك أن تقعد بينهم؟
الجواب
أول شيء إذا تحتم عليك أن تقعد معهم أن تنشغل بذكر الله.
ثانياً: لابد أن تكون كارهاً لهذا العمل في نفسك.
ثالثاً: يجب عليك أن تحاول التغيير، فتنصح وتتكلم وتُشغل المجلس بأمور طيبة.(88/47)
زملائي في العمل ليسوا بصالحين
السؤال
لدي زملاء خارج العمل صالحون نذهب بعض الأحيان مع بعض، ولكن الزملاء في العمل ليسوا صالحين هل أجلس معهم أم ماذا أفعل؟
الجواب
افرض أن طالباً قال: كل الذين عندي في الفصل غير ملتزمين بالدين، نقول: على الأقل في الفسحة أو في أوقات الفراغ أن تذهب وتختلط بالناس الطيبين لتزيل صدأ قلبك.(88/48)
أخي أخرج عني الزكاة بعد الاتفاق دون أن أعطيه نقوداً
السؤال
اتفقت مع أخي على أن نجعل زكاتنا سوياً، فاشتراها وأخرجها لكنني نسيت أن أعطيه فلوساً؟
الجواب
لا حرج عليك، أنت وكلته بإخراج زكاة الفطر فهو أخرجها، بقي عليك أن تسدد له ولو سددت له بعد العيد لا حرج.(88/49)
رجل يجهل: رياض الصالحين العقيدة الطحاوية
السؤال
ما هو رياض الصالحين؟ وهناك سؤال آخر عجيب يقول: ما هي العقيدة الطحاوية؟ هل هي عقيدة إسلامية أم هي عقيدة منحرفة؟ أو هي طريقة من الطرق المنحرفة في العقيدة؟
الجواب
هذه الأسئلة يا جماعة تدل على ماذا؟ كون الواحد لا يعرف كتاب رياض الصالحين مع أن كتاب رياض الصالحين كتاب مشهور معروف، ألفه الإمام النووي رحمه الله ورتبه على أبواب منها ما هو متعلق بالعقيدة ومنها ما هو متعلق بالرقائق ومنها ما هو متعلق بالأدب، ومنها ما هو متعلق بالأخلاق، ومنها ما هو متعلق بالفقه، فكيف يجهل إنسان مسلم مثل هذا! أو يقول: العقيدة الطحاوية هذه مثل العقيدة الأشعرية والماتريدية والمرجئة والخوارج! هذه ألفها الإمام الطحاوي رحمه الله وكتبها وشرحها بعض الأئمة بعده، وهي في مجملها عقيدة لـ أهل السنة والجماعة، لا تخلو من انتقادات وأحرف يسيرة بسيطة، وقد نبه بعض أهل العلم مثل تعليقات سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز على هذه العقيدة.
فنقول: كيف يغفل المسلم عن هذه الأشياء؟ هذا يدل على قلة العلم وضعف الاطلاع حتى لا يعرف الشاب رياض الصالحين ولا العقيدة الطحاوية لا يعرف هل عقيدة طيبة أو لا.(88/50)
حكم قول: (هل أنتِ مسلمة؟) للمضيفات
السؤال
هل قول "هل أنتِ مسلمة" للمضيفات في الطائرات من الشباب المسلم صحيح؟
الجواب
لا، أنا لا أرى هذا أبداً أن يمسك مضيفة ويقول لها: تعالِ هل أنت مسلمة أو لا؟ هذا فتح باب شر والعياذ بالله، ما لك ولها؟ أصلاً أنت الآن ينبغي عليك أن تبتعد عن هذه الفتنة وتغض بصرك، وإذا أردت شيئاً تطلبه من المضيف الرجل ما أمكنك ذلك، أما أن تستدعيها وتنصحها لا، أقصى شيء ممكن أن يقول الواحد: امرأة أجنبية أن يقول لها: تستري يا أمة الله وهو لا ينظر إليها.(88/51)
حكم مجالسة الأهل والإخوان وهم على المعصية
السؤال
ماذا عن مجالسة الأهل والإخوان إذا كان الوالد يدخن، وينظر إلى التلفاز، والمسلسلات، والنساء المتبرجات؟
الجواب
هذا شيء موجود في المجتمع شئنا أم أبينا، ومخالطة الشاب المسلم لأناس من أهل الفسق مسألة محتومة الآن في هذا المجتمع، صعب جداً أن ينجو الإنسان بنفسه في عالم نظيف جداً إلا في حالات نادرة.
ولذلك نقول: الإنسان المسلم المعتصم بالله، والذي له من الإخوة الطيبين من يزيلون عنه الغربة التي يعيشها في بيته أو في مدرسته أو مكان عمله لا شك أن وجود هؤلاء الطيبين نعمة عظيمة من الله عز وجل؛ لأن الإنسان إذا عاش في غربة فترة طويلة فقد يبدأ في التساهل في أساسيات الدين، أو يجهل أساسيات الدين.(88/52)
حكم شراء الأشرطة بسعر رخيص ثم بيعها
السؤال
كنت أشتري أشرطة في مسجد يبيع الأشرطة بسعر رخيص والربح يعود للمسجد والمكتبة، وأشتري الشريط بريالين وأبيعه بأربعة، أي هو يشتري الشريط من المسجد ويبيع؟
الجواب
إذا اشتراه من المسجد؛ فقد ملكه، فإذا ملكه؛ جاز له أن يبيعه أو يهبه أو يهديه، أو يفعل به ما يشاء، لكن الملاحظة هنا على حكم بيع الأشرطة في المساجد أنه لا يجوز، حتى لو كان عملاً خيرياً لا يجوز بيع الأشرطة في المساجد.(88/53)
شخص يؤاخي شخصاً آخر ويجعل جل وقته معه
السؤال
ما رأيك فيمن يؤاخي شخصاً ويجعل جلّ وقته معه، ويتحمس لخدمته دون غيره ويقول: أخلاقه حسنة، ويُوجد فيمن حوله من هو أحسن منه خُلقاً، ويجعله شخصية خاصة فهل هذا مخطئ؟
الجواب
نعم، أنا أرى أنه مخطئ وأن أمره خطير، وأنه سيؤدي به في وقت من الأوقات إلى الوقوع في العشق المحرم؛ لأن هذا الرجل الذي عكف على هذا مع أنه يقول: إنه يوجد من حوله من هو أحسن خلقاً ومن هو أفضل منه، لكنه يتحمس لخدمته ويجعل جل وقته له معنى هذا أن الرابطة ليست لله: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] فقد يكون هو وإياه من الأعداء يوم القيامة؛ لأن اجتماعهم ما كان لله ولا في الله.(88/54)
حكم الذهاب إلى الأصحاب الضالين للنصيحة
السؤال
هل يجوز أن أذهب إلى الأصحاب الضالين الذين من الواجب نصحهم، وعندما أكون معهم أحس بضعف الإيمان؟
الجواب
إذا كان الإنسان مع أناس فيهم انحرافات، فأحس بضعف الإيمان هذا شيء طبيعي؛ لأنه لا يمكن أن يحس الإنسان بقوة الإيمان وهو يرافق أناساً فيهم بعد عن الدين، لكن إذا كانت مخالطتك لهم تسبب وقوعك في منكر، أو ترك واجب مثل صلاة الجماعة، أو ارتكاب محرم مثل مشاهدة أشياء محرمة فيجب عليك أن تفارقهم.(88/55)
تصرفات بعض الشباب الملتزمين غير جيدة
السؤال
بعض الشباب الملتزمين يعملون بعض الأعمال التي لا تكون للشاب الملتزم؛ كالمزح الشديد في الطرقات، والضحك برفع الصوت؟
الجواب
هذا لا يليق، المسلم يجب أن يمثل الإسلام في عمله، والرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أن كثرة الضحك تميت القلب، ولم يكن عليه الصلاة والسلام يقهقه ولا يرفع صوته، ولا يضحك في الطرقات بصوت مرتفع، وهناك شيء مهم عند الشباب ينبغي أن يهتموا به وهو قضية السمت النبوي والوقار، وقضية الاتزان، فكثير من الشباب تجد عنده تصرفات طائشة، أو ليس عنده اتزان في الأفعال، أو ليس عندهم سمت حسن.
فحركاتهم غير متزنة، كلامهم غير متزن، ضحكهم غير متزن وهكذا، فهذا معناها أنهم ما انطبعوا بالأخلاق الإسلامية بشكل جيد، وإنما يحتاجون إلى مزيد من التربية؛ حتى يصلوا إلى الحد الذي يكون الإنسان عنده شخصية راسية وراسخة تعطي انطباعاً حسناً عن أهل الدين، لا انطباع خفة، يقال: هذا عقله خفيف، وتصرفاته تصرفات أطفال، هذا لا يليق أن يكون عليه الشاب المسلم.(88/56)
حكم السلام على من تعرفه فقط
السؤال
بعض الناس لا يكون منهم السلام إلا على من مثلهم؟!
الجواب
السلام لله، أي: يجب أن يكون خالصاً لله، فمن أشراط الساعة أن يكون السلام فقط للمعرفة، فإن سلم على الذي يعرفه فقط فهذا غلط، ينبغي أن يكون السلام للجميع.(88/57)
التردد في الإقبال على الخير والانضمام إلى صحبة صالحة
السؤال
بعض الناس تجد أن عنده إقبالاً على الخير ويريد أن ينضم إلى صحبة صالحة لكن تجد عنده تردداً؟
الجواب
ما هي أسباب التردد؟ لماذا يتردد الشخص في مصاحبة صحبة طيبة؟ الجواب: إما أن يكون خوفاً منه، يظن أنهم -مثلاً- أناس متزمتون، أو أناس متشددون، أو أنهم سيؤدون به إلى كارثة أو إلى عقد نفسية، ويحطمون شخصيته.
ثانياً: أن الناس في كثير من الأحيان ليس عندهم جرأة على التعرف، فالسبب الذي لا يجعل بعض الشباب يدخلون في الصحبة الطيبة أنه ليس لديه جرأة على التعرف، فهو يخشى أي غريب، مع أن هذا قد يُفوت عليه خيراً كثيراً، ربما هذا الشخص الذي يخشاه ولا يجرأ أن يتعرف عليه يكون فاتحة خير عظيمة له من علم أو صلاح، أو حتى أمور تعينه في دنياه كوظيفة وزواج.
فإذاً قضية التخوف من الدخول مع الناس الطيبين عقبة موجودة في كثير من العامة، ينبغي عليهم أن يتخلصوا منها.
وكذلك من الأشياء: اعتقاد -مثلاً- أنهم يحرمون الضحك، يقول: الآن أدخل فمعناه أن لا ضحك، مشكلة! أنا لا يمكن أن أعيش من غير ضحك ومن قال لك: إنه لن يكون هناك ضحك؟ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يضاحك أصحابه، ويضاحك زوجته، ويضاحك من يعاشره بالأدب الشرعي.
فينبغي إزالة هذه العوائق، وينبغي على الدعاة إلى الله عز وجل أن يشرحوا هذا للناس ويقولوا لهم: ما هي العوائق؟ دعونا نذلل لكم العوائق لدخولكم في الأوساط الطيبة.
أو أنه يظن أنهم سيستهزئون به أو يحتقرونه، يقول: هؤلاء الآن كلهم متدينون وأنا إنسان مبتدئ، يمكن أني أسأل سؤالاً فيستهزئون بي، أو يضحكون مني ويسخرون، ولذلك يتحمل هؤلاء الطيبون جزءاً من المسئولية في حسن استقبال الوافد إليهم.(88/58)
الشروط الواجب توفرها في الداعية إلى الله عز وجل
السؤال
ما هي الشروط التي يجب توفرها في الداعية إلى الله عز وجل؟
الجواب
هذه كثيرة جداً فمن ذلك مثلاً: العلم الشرعي، والأخلاق، والقدوة، والسلاسة في التعامل، والانبساط، والابتسامة.(88/59)
شبهة: تكثير سواد الصالحين في أماكن غير مرغوب فيها
السؤال
مجموعة من الشباب الصالحين يتواجدون في أماكن غير مرغوب فيها، وعندما ننكر عليهم يقولون: نحن نريد أن نكثر سواد الصالحين ونخلف جواً إسلامياً؟
الجواب
حسناً هذا ادعاء طيب، لكن التطبيق قد يكون فيه خلل، فمثلاً: لو قال إنسان: نذهب إلى مدينة ملاهي ونكون جواً إسلامياً، هل هذا يليق؟ أو مثلاً: نذهب إلى مدرسة بنات نكون جواً إسلامياً هل هذا يليق؟ فإذاً قضية التطبيق العملي لهذه المسألة قد يكون خاطئاً.
أما إذا كان هناك مجمع من الناس، وحضور أهل الخير فيه يجعل اتجاه الحديث والمجلس يتجه بشكل طيب وخيّر، هذا مطلوب تكثير السواد فيه، يؤيد بعضهم بعضاً ويساعد بعضهم بعضاً، ألم يطلب موسى من ربه أن يرسل معه أخاه هارون؟ {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي} [طه:29 - 30] فالوزير والمعين مهم جداًَ في الدعوة إلى الله، يشد بعضهم بعضاً.(88/60)
حاجة المسلمين إلى العلماء الشرعيين
السؤال
هل المسلمون اليوم في حاجة إلى العلماء الشرعيين أكثر من حاجتهم إلى العلماء التجريبيين؟
الجواب
لا شك أن حاجتهم إلى العلماء الشرعيين أكبر بكثير من حاجتهم إلى العلماء التجريبيين، في بعض البلاد مثل مصر عدد حاملي الشهادات العليا (الدكتوراه والماجستير) النسبة تفوق أمريكا، لكن القضية الآن ليست بكثرة حملة الدكتوراه والماجستير، المسألة أولاً: قبل هذا في بناء الشخصية الإسلامية بالعلم والإيمان أحوج منها إلى الهندسة والفلك ونحوه، صحيح أن هذه القضايا الدنيوية مهمة للمجتمع الإسلامي، كيف يعيش المجتمع من غير أطباء؟ كيف يعيش المجتمع من غير خبراء في المياه؟ كيف يعيش المجتمع من غير مهندسي كهرباء يشغلون المحطات؟ كيف يعيش المجتمع من غير خبراء في الجريمة؟ فإذاً العلوم الدنيوية مهمة -ولا شك- في المجتمع الإسلامي، لكن السؤال: أيها أهم؟ لا شك أن الذين يجيبون الناس على استفتاءاتهم ويقدمون الحلول لجميع المشكلات، والذين يشرحون للناس القرآن والسنة، يحتاجهم الناس أكثر بكثير مما يحتاجون إلى المهندس وغيره من الذين يحصلون العلوم الدنيوية.
ثم هناك قضية: لماذا الانفصام النكد بين العلوم الشرعية والعلوم الدنيوية؟ إما طبيب أو طالب علم؟! ألا يمكن أن يكون طبيباً وطالب علم؟ ألا يمكن أن يكون مهندساً وداعية؟ ألا يمكن أن يكون رجل أمن وناصحاً؟! فلماذا الانفصام النكد الذي يكون أحياناً في عقول البعض في التفكير في هذه القضايا؟!(88/61)
انشغال طلاب العلم عن إفادة الآخرين
السؤال
أنا شاب أشعر أن عندي طاقة قوية في طلب العلم والدعوة إلى الله، ولكن المشكلة أنني عرضت نفسي على أكثر من واحد من طلبة العلم لكي أستفيد منهم ووجدتهم مشغولين عني، فماذا أفعل؟
الجواب
أقول: أحياناً قد يأتي شخص إلى طالب علم في وقت غير مناسب، أو ظرف غير مناسب ويقول له: أريد أن آتيك كل يوم نصف ساعة هذه قضية قد لا تكون ممكنة بالنسبة له، فإذاً انتقاء الفرصة المناسبة للالتقاء مسألة مهمة لكي تستفيد.
ثانياً: بعض الشباب عندهم عقدة (الشيء الخاص) يقول: أريد شيئاً خاصاً، لا أريد جلسات في المسجد تعطينا فقهاً وغيره، أريد أن تشرح لي كتاباً لوحدي فإذا كان كل طالب علم، أو كل شيخ، أو كل عالم سيشرح الكتاب لواحد بعينه دائماً فكيف يتم هذا؟ فعقدة الخصوصية عند بعض الشباب تمنعه من الاستفادة، أي: كأنه يظن أن حلقة العلم تكون للعامة فقط، يقول: لا أريد هذا، أريد شيئاً خاصاً ما هذا الشيء الخاص؟ هذا الدين واضح، لا يوجد أسرار في الدين، الدين للجميع، فإذا حضرت حلقة تفسير أو حديث أو فقه أو شيء في الأخلاق أو الأدب؛ فأنت مستفيد جداً.
ثم بعض الشباب لا يقيمون وزناً للكتب يقول: هذا تفسير ابن كثير اطلعنا فيه وانتهينا.
مع أنه -صدقني- لم يقرأه مرة واحدة، بل ولا مجلد ولا ربع التفسير، فهؤلاء الذين يستخفون بالكتب يقولون: نحن لا نريد تفسير ابن كثير نريد تفاسير مثل: تفسير الخازن والكشاف والبحر المحيط وأعطنا من هذه التفاسير غير المعروفة حسناً، يمكن تفسير ابن كثير أبرك وأنفع، وأحسن وأرجى، وأفهم وأقبل للفهم أكثر من الأشياء التي أنت تطلبها.
ثم إن طلب العلم بالجماعة فيه بركة، ولذلك ما هو منهج السلف في طلب العلم؟ هل يخصصون لكل طالب شيخاً؟ هل المسألة دروس خصوصية؟! طلب العلم بالحلق وبالمدارسة، تعلم الأدب والعلم بالمجموعات، هكذا كان يفعل السلف، هذه حلقة سفيان، هذه حلقة الحسن، هذه حلقة الأوزاعي، هذه حلقة سعيد.
بعد ذلك كونه يوجد عندك أسئلة خاصة بك هذه قضايا طارئة، من الممكن أن تأتي في عشر دقائق أو في ربع ساعة أو نصف ساعة أحياناً تحلها وتنتهي، ولا تحتاج المسألة إلى ترتيب موعد دوري من أجلها.
فأنا أقول: إن طلب الخصوصية يحطم كثيراً من الشباب في مسألة طلب العلم، نعم بعض العلماء يختصون بعض الطلبة بشيء في البيت، نعرف بعض العلماء -مثلاً- عندهم في البيت حلقة خاصة لكبار الطلبة الذين يشرح لهم أشياء صعبة مثلاً، هذا موجود عند علمائنا، لكن كثيراً من الشباب الذين يزعمون أنفسهم في هذه الدرجة يقولون: هذه حلقات المساجد نحن الآن أكبر من هذا المستوى، هم في الحقيقة ليسوا أكبر من هذا المستوى، ولكن يعظمون أنفسهم ويتعالون على أشياء فيها نفع كبير لهم، لكن قضية الأنا هي التي أودت بهم المهالك.(88/62)
حكم مصاحبة أهل البدع
السؤال
هل يجوز مصاحبة أهل البدعة؟
الجواب
كلا والله.(88/63)
داء الحزبيات المتفشية بين الشباب
السؤال
ذكرت وجوب توحد الشباب الصالح، ولكن من خلال معرفتي بأنواع من الشباب لا أجد فيهم حب التوحد والجماعة، فهذا يكره هذا، ولا يرتاح مع هذا، ولكن اكتشفت بعد فترة أن السبب هو هذه الحزبيات المتفشية والموجودة بينهم التي تزرع الأحقاد، وتخلف التعصب، فكيف يتخلص من هذا الداء الذي انتشر بين الشباب؟
الجواب
هذه قضية مهمة ولا شك، بعض الناس يتعصبون للجنس، بعض الشباب يتعصبون للبلد، بعض الناس يتعصبون للغة، بعض الناس يتعصبون للمهنة، فالطبيب لا يخالط إلا أطباء، والمهندس لا يخالط إلا مهندسين، والمدرس لا يخالط إلى مدرسين، وبعض الناس يتعصبون للقبيلة، وبعض الناس يتعصبون لتجمع فكري أو دعوي التعصب هذا كله حرام إلا التعصب للحق فقط، فإذا كان أي نوع من أنواع الانتماء فوق الانتماء الشرعي فهو حرام، فلو كان انتماء إلى أي مجتمع من المجتمعات يجعل تقطع الروابط الأخوية سبباً؛ فإنه خلل يجب أن يُسعى إلى تغييره.
ثم إنه قد تدعو المصلحة الدعوية إلى أنه يتخصص أناس في أمر العلم في نشره، وفي الناس من عنده خبرة في الوعظ، ومن الناس من عنده خبرة في الجهاد والأمة الإسلامية تحتاج إلى طاقات في مجالات مختلفة، لا يمنع التخصص، لكن التخصص شيء، والتنافر والتخالف والتحارب والتعادي شيء آخر، فلا يمنع أن يكون هناك مجموعة تشتغل بشأن الجهاد، ومجموعة تشتغل بشأن التعليم، ومجموعة تشتغل بشأن إنكار المنكرات هذا لا يمنع، لكن هؤلاء هم مسلمون، أمة واحدة: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] إبراهيم سماهم أمة واحدة، فلا يصلح أن يكون التخصص سبباً للعداء أو التنافر.
ولذلك نقول: لابد من تصفية النفوس أولاً بدراسة قضايا سلامة الصدر، موضوع سلامة الصدر من المواضيع غير المطروقة مع الأسف في كثير من الأوساط الإسلامية، مثل الصحابي الذي كان يبيت وليس في صدره شيء على أحد من المسلمين، هذا الرجل ينبغي أن يكون قدوة لنا في هذه المسألة.
ثم لابد من علم شرعي لتعرف الهامش المسموح به من الخلاف، يمكن أن أختلف معك في وجهة نظر، لكن لا يمكن أن أختلف معك في المعتقد، إذا اختلفنا في المعتقد فأحدنا ضال، لكن ما هو الهامش المسموح به من الاختلاف؟ ما هي الأشياء الاجتهادية وما هي الأصول؟ هذه قضايا غير واضحة بالنسبة لكثير من الشباب، وينتج بناءً عليها مفاصلات، مفاصلات على قضايا جزئية لا يجب أن يفاصل فيها، فقد تجد أحدهم مثلاً يفاصل الآخر لأنه يلبس بنطلوناً، فإذا لبس بنطلوناً واسعاً وغير مسبل ماذا يعني؟ أو واحد يفاصل آخر لأنه مثلاً يفعل شيئاً في الصلاة بخلاف فعله، ولا يجوز ذلك، وليس هذا موضع مفاصلة، الولاء للمسلمين أكبر من قضية مفاصلته على مسألة من المستحبات، حتى لو فعل منكراً من المنكرات فإنه ينصح، فمعرفة نقاط الالتقاء والافتراق في منهج أهل السنة والجماعة من المواضيع الأصلية.
فإذاً هناك قضيتان لحل المشكلة: قضية تتعلق بالأخلاق والآداب التي هي سلامة الصدر، وقضية تتعلق بمنهج العلم الشرعي والتي هي دراسة نقاط مواضع الافتراق والاختلاف في منهج أهل السنة والجماعة.(88/64)
نصيحة لشاب يجالس الصديق الصالح والصديق السيئ
السؤال
بماذا تنصح الشاب الذي يجالس الصديق الصالح والصديق السوء؟
الجواب
نقول: هذا الرجل يعاني من نوع من النفاق أو الازدواجية، وينبغي عليه أن يطهر وقته وصداقاته من الناس السيئين؛ لأنه ليس من الشريعة في شيء أن يبني قصوراً من الحسنات مع أناس، ثم يذهب إلى آخرين فيهدمها في لحظات.(88/65)
واجبنا تجاه إخواننا المسلمين في العالم
السؤال
هل نحن مذنبون تجاه إخواننا المسلمين في العالم الذين يتعرضون للقتل والجوع والتنصير والسجون، ونحن لا نستطيع أن نفعل شيئاً؟
الجواب
لا تأثم إذا كنت لا تستطيع أن تفعل شيئاً؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، لكن إذا كنت تستطيع أن تفعل شيئاً ولو بالدعاء فلماذا لا تفعل!(88/66)
ملتزم مبتلى بحب مشاهدة مباريات كرة القدم
السؤال
شاب ملتزم -نحسبه والله حسيبه- حريصاً وخيراً ومرتبطاً ببيئة صالحة؛ لكن -عافانا الله وإياكم- مبتلى بحب مشاهدة مباريات كرة القدم التي كان عليها في ماضيه قبل التزامه، ما هي الوسائل المناسبة للعلاج؟
الجواب
إن عدم التخلص من رواسب الجاهلية هي من المشاكل التي تواجه كثيراً من الشباب الذين سلكوا مشوار التدين، ألم يقل مفكرو الإسلام ودعاة الإسلام: إن المسلم ينبغي أن يخلع على عتبة الإسلام جميع أردية الجاهلية؟ فالاهتمام ومتابعة مباريات كرة القدم بالتفصيل من أردية الجاهلية، فكيف يدخل هذا عالم الالتزام بالإسلام ولا زال يرتدي شيئاً من أردية الجاهلية؟ إذاً ينبغي عليه أن يخلع هذه.
ثانياً: إن عدم الإحساس بالمسئوليات الملقاة على عاتق الشخص هو الذي يجعله يشتغل بهذه الترهات، فالشخص الذي لا يشعر بأهمية العلم الشرعي، أو أهمية الدعوة إلى الله، وأهمية التربية، وأهمية الجهاد، وأهمية إنكار المنكر، وأهمية نصرة المظلومين من المسلمين في العالم، وجمع المساعدات لهم، الذي لا يحس أن الأمة فيها مآسٍ وثغرات كثيرة، الذي لا يحس أنه على ثغرة من هذه الثغرات لا شك أنه سيجري وراء كرة القدم ولا شك في ذلك، هذه نتيجة طبيعية.
بعض الأشخاص يلتبس عليهم مفهوم "اللهو" ومفهوم "روحوا عن القلوب ساعة وساعة" صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل لهو محرم إلا ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه ولده، وسياسة الفرس، والسباحة) أو كما ورد بمعناه في الحديث الصحيح، الإنسان كونه ينشغل بمضاحكة أهله، أو بملاعبه ولده، أو سياسة فرسه، أو تعلم شيء ينفعه مثلاً كالسباحة أو كالرماية هذه قضايا ليست من اللهو المحرم، فكون الإنسان يبقى في حلق العلم وفي الدعوة دائماً يتعب، فهو ينتقل إلى ممازحة الأهل وملاطفة الأولاد، وتعلم شيء من الهوايات التي تقوي البدن كالسباحة أو الرماية، أو خبرة يكتسبها في الحياة، أو أي شيء يتعلق بتصليح سيارة مثلاً فهذه أشياء جيدة.
لكن أي شيء يفيده من متابعة كرة القدم؟ لا شيء إلا الشعور باللذة حينما تلج الكرة الشباك وفي أي زاوية تدخل، ومن بين أي مدافعين تمرق، وتحت أي رجلين تخترق، وهذه هي المسألة، وإلا فليس هناك فائدة واضحة من مشاهدة مباراة كرة القدم إلا حرق الأعصاب، وتضييع الأوقات، والتعصب للجاهلية والأندية الجاهلية.(88/67)
الحنين إلى المعاصي في الماضي
السؤال
من المشاكل التي تواجه الشاب الملتزم بعد ارتباطه بإخوة طيبين الحنين إلى الماضي، أي الحنين إلى المعصية التي كان مصراً عليها في الماضي، ثم منّ الله عليه فتركه بعد التزامه وارتباطه بهذه الصحبة الطيبة، فهل على الشخص إذا التزم أن يقطع أو يتناسى هذا الحنين؟ أم أنه لا خطر من هذا الحنين إذا لم يؤد به إلى الوقوع في المعصية؟
الجواب
هذا الحنين دافع شيطاني، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فقد لا يملك الإنسان أن يتخلى عن جميع الفكر التي يفكر بها في ماضيه، لكن قد يشعر أحياناً بشيء من الانجذاب، فينبغي أن يعالج مسألة التمني، فرق أن يخطر ببالك معصية كنت تفعلها في الماضي، أو شخصاً تقارف معه معصية، وبين أن تتمنى الآن أن تكون معه لمقارفة المعصية؛ لأن التمني من أعمال القلوب، والتمني خطير، فينبغي أن ينتبه الإنسان إلى قضية التفريق بين الخاطر الذي لا يؤاخذ عليه وبين التمني، فمشكلة كثير من الشباب أنه الآن التزم بالإسلام لكنه يتمنى في قرارة نفسه أحياناً أن يواقع معصية من المعاصي، يقول لك: إذا التزمنا وأصبحنا مع الشباب الطيبين لا نستطيع أن نذهب إلى تلك الأجواء، صارت المسألة الآن إحراج؛ كيف نذهب إلى هناك ونحن! فهو إذاً يتمنى، وهذه قضية خطيرة، فإذا كان في المسألة خواطر فلا يأثم عليها إن شاء الله لأن هذا حديث النفس، لكن إذا تطور إلى أمنيات وإصرار وتخطيط لكن لم يتهيأ له؛ فهذا تخطيط عمل يأثم به.(88/68)
كيفية الانضمام إلى الصالحين
السؤال
أين الصالحون؟ وكيف يمكن الانضمام إليهم؟
الجواب
إنهم موجودون ومن مظان وجودهم المساجد، وكيف يمكن الذهاب إليهم؟ لا شك أنه لا بد من إسقاط حاجز الخوف من مصاحبتهم، والتعرف عليهم، ثم إنك لست مطالباً بالانخداع بالمظاهر، وأي واحد يظهر عليه الخير تذهب معه، ولا بد أن تختبره وتبتليه قبل أن تصاحبه.(88/69)
نصيحة للذين يراسلون الإذاعات الأجنبية
السؤال
عندما يسمع الإنسان اسمه في المذياع يحس بالنشوة؛ لأنه منبوذ في المجتمع وأقرب المقربين إليه، فما هي نصيحتك للمجتمع في احتضان هؤلاء الذين يراسلون الإذاعات الأجنبية؟
الجواب
إذا كان الإنسان يعتقد بعقيدة الولاء والبراء فكيف يوالي أعداء الله؟! فكيف يوالي أناساً يتكلمون في هدم الشريعة، ويثيرون شبهات حول الإسلام؟ كيف يراسلهم؟!!(88/70)
فراغ العمل من الصالحين
السؤال
إذا كان العمل الذي تؤمن منه رزقك اليومي لا يوجد فيه أحد من الصالحين بل يكاد يخلو منهم، أكثرهم من العامة الذين لا يكادون يذكرون الله إلا من رحم ربي، فماذا نفعل؟
الجواب
إننا في كثير من الأحيان نلقي باللوم على غيرنا ونقول: الوسط هذا تعبان، الوسط هذا سيئ، لا خلاف لكن ماذا فعلت أنت لتعديل الوضع؟ اسأل نفسك وحاسبها، ماذا فعلت لإصلاح الوضع؟ ماذا فعلت لاجتناب المنكر؟ ماذا فعلت لنشر الخير؟ هل فعلت شيئاً؟ قبل أن تلعن الظلام أوقد شمعة، فما هي شمعة الخير التي أوقدتها من أجل الآخرين قبل أن تقع فيهم؟ فإذاً أنا أقول: إذا فكرنا من وجهة النظر الإيجابية في تغيير الأوضاع ربما تجد أعواناً لك على الخير في هذا المكان، والأمة فيها خير ولا شك.(88/71)
فضل حفظ القرآن
السؤال
لماذا لا يكون عنوان الدرس القادم "أهمية حفظ كتاب الله" و"التحزبات التي تواجه الشباب" في الدرس الذي بعده؟
الجواب
هذه قضايا قد لا تكون هي لوحدها مجالاً لمحاضرة كاملة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا جُمع القرآن في إهاب لم يحرقه الله بالنار) أي: أن هذه من فضيلة حفظ القرآن أن الإنسان إذا حفظ القرآن؛ فإن الله عز وجل لا يحرق بالنار جسداً جُمع فيه القرآن، فهذا من فضيلة حفظة كتاب الله عز وجل: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49].
عند الدفن من الذي يقدم؟ إذا كان هناك عدة موتى الآن نريد أن ندفنهم أول واحد نقدم منهم أحفظهم لكتاب الله، كان يسأل في غزوة أحد عن القوم إذا اجتمع اثنان في الدفن في قبر واحد لأن المسلمين منهكون بالجراحات، فيصعب عليهم حفر قبر لكل واحد، فقال الرسول: ادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، عمقوا ووسعوا، ادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، وكان إذا أراد أن يدفن سأل أيهم أكثر قرآناً فقدمه.
ويؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإذاً حفظ القرآن فيه ميزة عظيمة، كيف لا وأنت تستطيع أن تستشهد به في المجالس، وتدعو به إلى الله؟ والله يقول عن القرآن: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52] أي بالقرآن، ونحن أحياناً نأتي بكلام من عندنا مع أن كلام الله عز وجل أشد تأثيراً وأعمق في النفس، لكن نغفل عن قضية الاستشهاد بآيات الكتاب العزيز لأسباب منها: عدم حفظها، كيف تستشهد بها وأنت لا تحفظ؟!(88/72)
الإلتزام بالإسلام من دون مصاحبة الصالحين
السؤال
من لا يصاحب الصالحين ينحرف ويفعل المعاصي، هل يمكن للإنسان أن يلتزم بالإسلام من دون مصاحبة الصالحين؟
الجواب
نظرياً ممكن للإنسان أن يلتزم بالإسلام من غير مصاحبة الصالحين، لكن كيف يُكمل المشوار، وكثير من تشريعات الإسلام جماعية: يا أيها الذين آمنوا، يا أيها الذين آمنوا فكيف يمكن أن يكمل الشريعة وكيف له أن يحيا الحياة الإسلامية وحيداً؟ كيف يتعلم التضحية والإيثار من غير أن يكون مع مجموعة من الناس الصالحين؟ كيف يتعلم؟ وممن يتعلم؟ لابد أن يكون هناك إنسان يعلمه.(88/73)
الواجب تجاه أصحاب الوجهين
السؤال
أنا في إحدى المكتبات في المساجد، ويوجد فيها طلاب صالحون والعكس فهناك طلاب غير صالحين ويعتبرون من أصحاب الوجهين، ويعتقد أستاذ المكتبة أنهم صالحون، فماذا يجب عليّ؟
الجواب
عليك أن تنصحهم، فإذا لم يتغيروا؛ فلا بأس أن تقول لهذا الأستاذ: إن أناساً فيهم الأمراض الفلانية لا للغيبة ولا للنميمة، لكن لكي يجد وسيلة هو يساعدهم بالإصلاح.(88/74)
حكم من لم يستطع الجهاد لمانع شرعي
السؤال
إذا أراد المسلم أن يجاهد بنفسه، ثم كانت هناك أشياء تعيقه مثل عدم موافقة أبيه، أو كونه وصياً على أيتام، هل يبلغ مراتب الشهداء؟
الجواب
يُرجى أن يكون له أجر الجهاد إذا منعه عن الجهاد طاعة أوجب منه.(88/75)
إعطاء الفقير مالاً لا يكفيه
السؤال
ما رأيك فيمن قال: لا تعطي المحتاج الفقير مبلغاً كبيراً يغنيه، بل أعطه القليل حتى يبقى دائماً في حاجتك ولا يستغني عنك؟
الجواب
هذا شيء سيء، المال مال الله، أنت الآن تعطيه لله لا تعطيه لكي تلفت إليك الأنظار، والناس يأتون إليك، ويحومون حولك، ويطرقون بابك، ويناشدونك ويلتمسون منك لا، فالعلماء قالوا: يُعطى الفقير نفقة سنة حتى يحين موعد الزكاة التي بعدها.(88/76)
الامتناع عن الزوج لشربه الخمر
السؤال
هل لزوجة شارب الخمر أن تمتنع منه إذا دعاها للفراش؟
الجواب
نعم، لها أن تمتنع منه وتطالبه بالتطهر.(88/77)
حكم من وضع ولد الزنا في حمامات عامة لا مطروقة ولا مهجورة وذهب
السؤال
رجل أخذ ولد زنا ووضعه في حمامات عامة لا مطروقة ولا مهجورة، وذهب، وبعد سنوات رآه في المنام يقول له: ضيعك الله كما ضيعتني (ثلاث ليال متوالية) فماذا عليه؟
الجواب
هذا رجل عليه أشياء كثيرة: يتوب إلى الله، ويكفر عن المعصية، ويعمل طاعات كثيرة، وقد أجاب الشيخ عبد العزيز بالنسبة للكفارة قال: عليه التوبة فقط لأن وفاة الولد غير متحققة، يحتمل أنه التقطه أحد ويحتمل أنه ما التقطه، فبما أن الوفاة غير متحققة فلا يلزم الكفارة، لكن عليه أن يتوب إلى الله توبة عظيمة؛ لأن هذه نفس نفخ فيها الروح ولها الحق في الحياة، وليس ذنبه أنه ولد زنا فيموت ويخنق ويرمى في الزبالة، فبعد أن نفخت فيه الروح يتحمل مسئوليته الذي أنجبه.(88/78)
حكم التبول وانغماس الجنب في الماء الذي في البانيو
السؤال
هذا سؤال عرض لنا في درس الفقه، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن التبول في الماء الدائم، ونهى عن دخول الجنب للماء الدائم الذي لا يجري، فالماء الذي في البانيو الذي في الحمامات اليوم إذا وضع فيه السدادة أو البركة ماذا يكون حكمها؟
الجواب
جواب الشيخ عبد العزيز: حكمها حكم الماء الدائم، لا يجوز التبول فيها ولا الانغماس للجنب فيها، فإذا نزعت السدادة صار حكمها حكم الماء الجاري، فلو كان الماء ينزل عليه والبلاعة تشفط الماء فيعتبر أن هذا الماء جارٍ، فلو أنه دخل فيه وهو جنب فلا يضر ولا بأس بذلك، أو حصل به حاجة للتبول فتبول لا بأس، أما الماء المحصور في حوض أو مكان معين لا يجري فإنه لا يجوز التبول فيه ولا الدخول فيه وهو جنب.(88/79)
حكم المباهلة في الأمور غير المستحقة
السؤال
ما رأيك فيما يفعله كثير من الناس والشباب حينما يختلفون يعمدون إلى المباهلة؟
الجواب
المباهلة ما هي؟ اثنان متخالفان يقولان: لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين، وذاك يقول: لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين، أو غضب الله عليّ، أو أهلكني الله إذا كنت كاذباً يدعو على نفسه بالهلاك إذا كان كاذباً، هل هذه تُفعل لأي شيء ولأبسط الأشياء؟ أي: أنهم اختلفوا هذه سيارة فلان أو سيارة فلان قال: تعال نتباهل، فهذه من المصائب أن ينزلوا إلى هذه الدرجة، وأما المباهلة فقد قال الله عز وجل: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ} [آل عمران:61] فإذاً هذه مع أهل الكتاب يجعل لعنة الله على الظالم فيهم وعلى الكاذب فيهم، بيننا وبين أهل الكتاب نبتهل، وليس بين مسلمين على شيء تافه يقولون: تعال نتباهل!(88/80)
حكم مساعدتي لأبي مع الإحراج
السؤال
أنا أب عائلة وأساعد أبي المتزوج من امرأتين مادياً إلى درجة أني أُحْرج؟
الجواب
يجب عليك أن تساعد أباك المحتاج بشرط ألا تضر بنفسك، فإذا وصل الأمر إلى ضررٍ في نفسك؛ فليس عليك المساعدة في ما لا تطيقه.(88/81)
كفارة اليمين
السؤال
زوجتي كانت غضبى وأنا أريد أن أخرج من البيت، فحلفت علي ألا أخرج وخرجت، هل يجب عليها الكفارة؟
الجواب
نعم، إذا حلفت ألا تخرج ثم خرجت فعليها الكفارة.
يتبع السؤال: ما هو الترتيب؟ الجواب: أولاً: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، فثلاثة على التخيير والثانية على الترتيب -والتي هي الرابعة- وهي الصيام لا يجوز أن ينتقل إلى الصيام وهو يستطيع واحدة من الثلاث التي قبله.
يتبع السؤال: علماً أنها كررت اليمين أكثر من مرة؟ الجواب: من كرر اليمين على شيء واحد فعليه كفارة واحدة.(88/82)
حكم تقديم الإمام لرجل ليس بالأقرأ
السؤال
إذا نوَّب الإمام رجلاً ليس بالأقرأ فهل يقدم عليه الأقرأ؟
الجواب
الإمام ولي أمر في المكان الذي هو فيه، الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (ولا يؤم الرجل رجلاً في سلطانه) فإذاً الإمام في المسجد هو ولي أمر، فإذا عين أحداً فلا يصلح التقدم على النائب الذي عينه ولي أمر المسجد وهو الإمام، فإذا كان هذا إمام معروف، فإذا نوب شخصاً فيلتزم بالنائب ولا يتعدى عليه.(88/83)
قراءة الكتب دون الخروج بالفائدة
السؤال
أقرأ الكتب ولا أخرج بفائدة.
أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
سبق وأن ذكرنا في محاضرة "كيف تقرأ كتاباً" نماذج أو أشياء مما يساعد في حفظ المعلومات؛ منها: تلخيص الكتاب، وضع خطوط تحت النقاط المهمة، ترقيم المعلومات، وضع فهرس دقيق، إعادة قراءة الكتاب أكثر من مرة، إلقاؤه وتقديمه للآخرين.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(88/84)
أسباب الزيادة في الرزق
إن لزيادة الرزق أسباباً شرعية وغير شرعية، فمن الأسباب الشرعية: الاستغفار والتوبة، وتقوى الله تعالى، والتفرغ لعبادته، والتوكل، والمتابعة بين الحج والعمرة، وصلة الرحم، وكذلك الإنفاق في سبيل الله والهجرة هذا ما تحدث عنه الشيخ، وذكر أنه لابد أن يأخذ الإنسان بهذه الأسباب حتى يرزقه الله تعالى، وذكر أسباباً غير شرعية؛ كالسرقة والرشوة، والربا وغيرها، وبين أن على الإنسان أن يحتنبها ويحذر منها.(89/1)
أسباب الزيادة في الرزق
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فيا عباد الله: إن الله تعالى أمرنا بالضرب في الأرض لطلب المعاش والرزق، وللرزق أسباب شرعية جاءت في الكتاب والسنة، ولعلنا نعرض لها في هذه الخطبة، إضافةً لما تقدم من خطبة ماضية حول هذا الموضوع، وهذا العرض نافع لكل من لم يجد عملاً أو وظيفة، ونافع لكل من ركبته ديون لا يستطيع أداءها، ونافع لكل من لم يحصل على حقه فهو ينتظره على أحر من الجمر، ونافع كذلك لمن لا يكفيه راتبه، ولا يكفيه دخله من كثرة المصروفات وأبوابها المفتوحة عليه.
وبالجملة: فإن موضوع المال والاقتصاد من الموضوعات الحساسة، ولذلك جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية ذكر كبير لما يتعلق بهذه القضية؛ لأنها قيام الناس قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء:5] فشأنكم وحياتكم يقوم بالمال.
ولذلك فإن هذه المسألة كان لها مساحة لا بأس بها في القرآن والسنة، يحتاج إليها المسلم.
ونقول هذا الكلام -أيضاً- في وقت رجع فيه كثير من الناس من الإجازات، وقد أنفقوا كل ما ادخروه في السنة الماضية، وصار بعضهم في شيء من الضيق.(89/2)
الاستغفار والتوبة
أيها المسلمون: اعلموا -رحمكم الله تعالى- أن من الأسباب العظيمة للرزق الشرعي: الاستغفار والتوبة (أستغفر الله وأتوب إليه).
الاستغفار والتوبة من الأمور العظيمة التي جاء في القرآن والسنة ذكرها، قال الله تعالى عن نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10 - 12].
وكثير من الناس اليوم يستغفرون باللسان؛ لكن لا حقيقة للاستغفار في قلوبهم، وإذا تابوا فتوبتهم ناقصة، فبعضهم لا يقلع عن الذنب أصلاً، وبعضهم إذا أقلع فإنه لا يندم على ما فات، بل ربما تمنى أن يحصل له الذنب مرةً أخرى، وأما العزم على عدم العودة فغير حاصل؛ وذلك لأنه لعله يترقب أن يحصل له من الفرص ما يعود به إلى الذنب؛ لأن الاستغفار ليس من القلب، ولأن التوبة ليست صادقة، فكثير من الناس يُضَيَّق عليهم في معاشهم، وليس كلهم؛ فإن بعض الناس يملي الله لهم ليزدادوا إثماً.
والله تعالى لما قال عن نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح:10 - 11] قال العلماء رحمهم الله: أي: إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه كَثُر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدرَّ لكم الضرع، وأمدكم بأموال وبنين، أي: أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار، وخللها بالأنهار الجارية بينها.
فإذاً: قضية الاستغفار والتوبة مسألة عظيمة.
جاء رجل إلى الحسن البصري يشكو الجدب والقحط، فقال له: استغفر الله.
ثم جاءه آخر يشكو إليه الفقر، فقال له: استغفر الله.
ثم جاء ثالث يقول: ادعُ الله أن يرزقني ولداًَ، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه رابع جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله، فقلنا له في ذلك وفي رواية: فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أنواعاً فأمرتهم كلهم بالاستغفار! فقال: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله يقول في سورة نوح: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10 - 12].
عباد الله: إن الذي يكثر من الاستغفار؛ فإن الله يفرج همه، وينفس كربه، ويرزقه من حيث لا يحتسب، مصداقاً لما في كتاب الله تعالى.(89/3)
التقوى
والعامل الثاني من عوامل الرزق الشرعي: التقوى وقد عرفها العلماء بقولهم: امتثال أمر الله ونهيه، والوقاية من سخطه وعذابه سبحانه وتعالى.
ولذلك فإن الذي يصون نفسه عن المعاصي متقٍ لله، والذي يقوم بالواجبات متقٍ لله، والدليل على ارتباط التقوى بالرزق قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} [الطلاق:2] فيما أمره به، وترك ما نهاه عنه، يجعل له من أمره مخرجاً {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:3] أي: من جهة لا تخطر بباله.
وهذا له قصص كثيرة، وشواهد في الواقع؛ لكن أين المتقون؟! إن الذين يفعلون المعاصي ويرتكبون المنهيات كثير ينظرون إلى ما حرم الله، ويستمعون إلى ما حرم الله، ويمشون إلى ما حرم الله، ثم يقولون: لا نجد رزقاً، لا نجد عملاً، لا نجد وظيفة! نقول: اتقوا الله يجعل لكم مخرجاً، فقد قال ربنا: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].
بركات من السماء، أي: المطر، وبركات الأرض، أي: النبات والثمار، وكثرة المواشي والأنعام، وحصول الأمن والسلامة؛ لأن السماء تجري مجرى الأب، والأرض تجري مجرى الأم، ويحصل لهذا المخلوق على الأرض وتحت السماء من الرزق -إذا ما اتقى الله- ما الله به عليم.
عباد الله: إن تطبيق الشريعة وسيلة عظيمة لحصول الرزق للناس، ودليله قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} [المائدة:66] أقاموا الشيء المنزل من السماء، أقاموه وطبقوه وحكَّموه {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة:66] هذه الآية السادسة والستون من سورة المائدة، وهكذا يكون تطبيق الشرع عاملاً من عوامل الرخاء، وسعة الرزق، ووجود البحبوحة للخلق.(89/4)
التوكل على الله
وأما النقطة الثالثة: فهي التوكل على الله سبحانه وتعالى والتوكل تفويض الأمر إلى الله، والاعتماد على الله وحده، وعدم التعلق بالعباد؛ لأن الله قال: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17] وهذه أبلغ من قوله: (فابتغوا الرزق عند الله)، أي: عنده لا عند غيره، التمسوه منه لا من غيره.
التوكل على الله أن تفرغ قلبك من التعلق بالخلق، وتُوكل أمرك لله، وترجو الفرج من الله، وتنتظر الرزق مع بذل الأسباب والأخذ بها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً).
(تغدو) أي: تذهب في أول النهار.
(خماصاً) أي: جياعاً.
(وتروح) أي: ترجع في آخر النهار.
(بطاناً) جمع بطين، وهو عظيم البطن، والمراد: شباعاً.
هؤلاء خَلْق الله؛ الطير في السماء تتوكل على الله أكثر بكثير من البشر (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير) {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] فالله يكفيه، ويقضي دينه، ويسد جوعته.
ولا شك أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله، بل إنه داخل في التوكل على الله، ومن صلب التوكل أن تأخذ بالأسباب، وإلا صار التوكل لغواً.
سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي، فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي) يعني: الجهاد، وكم يحتاج إلى إعداد! وتجميع الطاقات! وبذل الأسباب! والتوقيت المناسب! وخداع العدو! وأخذه على حين غرة! ونحو ذلك الأمور الحربية! (وجُعِل رزقي تحت ظل رمحي) فإذا كان الرزق تحت ظل الرمح، وكان الجهاد في سبيل الله باباً عظيماً للرزق؛ لأن الله قال: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال:69] أي: غنمتم من المعارك مع الكفار، خذوه حلالاً طيباً، ولا شك أن الجهاد يحتاج إلى بذل أسباب، والرزق تحت ظل الرمح؛ إذاً: لابد من بذل الأسباب.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تكملةً للجواب عن
السؤال
فقد قال -أي: النبي صلى الله عليه وسلم-: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً) فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق.
فتأملْ فقه الإمام رحمه الله الطير تتوكل على الله؛ لكن هل تقعد في أعشاشها، أو أنها تغدو وتروح، تذهب في الصباح للبحث عن الرزق، وتعود محملةً بالطعام لأولادها في أعشاشها؟ كَدٌّ وسعي وذهاب في طلب الرزق، فلم يقل: توكلوا فقط، بل قال: (اعقلها وتوكل).
وهذه المسألة مسألة الأخذ بالأسباب باب يغرق فيه كثير من الناس، فبعضهم يجعل كل شيء الأخذ بالأسباب، ولا يتوكل على الله، وقلبه غير معلق بالله، وإنما معلق بالواسطة الفلانية، والموظف الفلاني، والصديق الفلاني، والأوراق التي قدمها، والإعلانات، وترقب النتائج من الشركة، ونحو ذلك، لكن لا يترقب شيئاً من الله، وبعض الناس مضيع للأسباب لا يبذل شيئاً.
أحدثكم عن قصة حدثت مع شخص جاء إليَّ، شاب يقول: إنني أحتاج إلى إيجار الشقة التي استأجرتها للسكنى، وأحتاج إلى قرض لكي أسكن وأدفع الإيجار، فاعتذرتُ إليه بأن إقراضه غير متيسر الآن، والناس كان أكثرهم مسافرين، فذهب هذا الشخص يسعى في طلب الرزق، فبدأ بهذه المطاعم الموجودة يلف عليها، ويقول: ما حاجتكم من الخضراوات والفواكه واللحوم؟ وبدأ يسجل هذه الاحتياجات ويقولون: قدم لنا تسعيرة.
ثم ذهب إلى سوق الخضار المركزي يسجل ويدون الأسعار، ثم قدم تسعيرته إلى بعض المطاعم، واكتفى بربح معقول، فبدأ هذا المطعم يأخذ منه، وهذا المطعم يأخذ منه، والثالث يأخذ منه، وهكذا، حتى دفع إيجار بيته بالكامل.
إذاً: يمكن للإنسان إذا تحرك وفكر أن يحصل على الرزق، ولستُ أقول: اذهبوا إلى المطاعم الآن كلكم، وإنما المقصود -أيها الإخوة- ضرب المثل، قد يوجد في البقالات مستلزمات تحتاج إلى شراء من تجار الجملة ونحو ذلك، فالمقصود تحريك الذهن لمن لم يجد وظيفة أن يسعى في العمل، ولو كان عنده وظيفة، يسعى في العمل، والله يرزقه لو أحسن التوكل على الله {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6].(89/5)
التفرغ لعبادة الله تعالى
وكذلك من الأسباب العظيمة للرزق: التفرغ لعبادة الله تعالى ومعنى التفرغ لعبادة الله: أن يكون العبد حاضر القلب عند العبادة، هذا هو المقصود بالتفرغ لعبادة الله؛ لأن الله تعالى يقول في الحديث القدسي: (يا بن آدم: تفرغ لعبادتي؛ أملأ صدرك غِنَىً، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت يدك شغلاً، ولم أسد فقرك) حديث صحيح.
فبعض الناس عندهم أشغال؛ لكن فقرهم لم يُسَد، الله ملأ أيديهم بالأشغال والمقاولات والأعمال؛ لكن لا يوجد بركة ولا فائدة، خسارات متوالية، ولا يجدون الكفاية.
وقال الله تعالى في الحديث القدسي في اللفظ الآخر: (يا بن آدم: تفرغ لعبادتي؛ أملأ قلبك غِنَىً، وأملأ يديك رزقاً، يا بن آدم: لا تباعدني؛ فأملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً) فيشغله بنفسه، ويكثر عليه الأشغال والأعمال؛ لكن الفقر لا زال موجوداً، وهو تحت الصفر، والحساب بالناقص، وهكذا(89/6)
المتابعة بين الحج والعمرة
ومن أسباب الرزق -يا عباد الله- المتابعة بين الحج والعمرة ومعنى المتابعة بين الحج والعمرة: أن يجعل أحدهما تابعاًَ للآخر، واقعاً عقبه، أي: إذا حج يعتمر، وإذا اعتمر يحج، وهكذا والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة -أي: الأشياء الرديئة والشوائب- وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة) فتأمل أنه جعل المتابعة بين الحج والعمرة، نافية للفقر والذنوب، مذهبة لهما.(89/7)
صلة الرحم
ومن أسباب الرزق الشرعية: صلة الرحم والرحم هم أقرباء الرجل من جهة أبيه وأمه، سواءً كانوا يرثونه أو لا يرثونه، وهذا الكلام مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (مَن سرَّه أن يُبْسَط له في رزقه، وأن يُنْسأ له في أثره؛ فليصل رحمه).
وقال صلى الله عليه وسلم: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، مَنسأة في العمر) يعني: تطيل عمر الإنسان.
فهذه صلة الرحم بما فيها من هذا الفضل العظيم، حتى لو كان الإنسان فاسقاً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم، حتى إن أهل البيت لَيَكونوا فَجَرَة -مقيمين على مَعاصٍ- فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، إذا تواصلوا) رواه ابن حبان وهو حديث صحيح.
فإذاًَ: عليك بصلة الرحم، تصل الأقارب وتزورهم، تعين محتاجهم، تهديهم، وتعودهم، وجميع أنواع الصلات سبب لمجيء الرزق إليك، ولو كانوا على البُعد، فلن يخلو الأمر من وسيلة للصلة.(89/8)
الإنفاق في سبيل الله، والنفقة على طلاب العلم
سابعاً: الإنفاق في سبيل الله قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تبارك وتعالى: يا بن آدم أَنفق أُنفق عليك) رواه مسلم رحمه الله تعالى، فهذا وعد الله {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] ومن أصدق من الله وعداً.
والملَك يدعو ويقول: (اللهم أعطِ منفقاً خلفاً) والنبي عليه الصلاة والسلام يوصي بلالاً ويقول: (أنفق يا بلال، ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً) قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة:268] يقول: لو أنفقتَ نقص مالك، أنت محتاج إليه، قدم نفسك على الناس، أولادك أحوج، والله يقول: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] (أَنفق أُنفق عليك).
ومن الأسباب كذلك: الإنفاق وإعاشة عباد الله المتقين من طلاب العلم والدليل على هذا الكلام: ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أخوان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم والآخر يحترف -واحد متفرغ للعلم، وواحد متفرغ للتجارة- فشكا المحترف أخاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! لا يبذل شيئاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعلك تُرْزَق به) لعل السبب في رزقك هو إنفاقك عليه، رواه الترمذي رحمه الله تعالى، وهو حديث صحيح.(89/9)
الهجرة
أيها المسلمون: هذه بعض الأسباب الجالبة للرزق؛ فإذا ضاقت الدنيا بالإنسان في بقعة من البقاع فمن أسباب طلب الرزق: الهجرة قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100] سعة في الرزق، وإرغاماً لمن أخرجوه، ولذلك لما هاجر المهاجرون في سبيل الله، وتركوا وطنهم لله، فَتَحَ الله عليهم الدنيا، وجاءت الغنائم، وتَبِعَتْ غنائمَ المشركين غنائمُ كسرى وقيصر، جاءت إلى المهاجرين، فوسَّع الله عليهم توسعة عظيمة، ومشكلة الناس أنهم يستعجلون النتيجة، يقولون: تُبْنا اليوم فما جاءنا الرزق بسرغة، هاجرنا اليوم فما حصل شيء بسرعة، ولكن المسألة تحتاج إلى مصابرة وتحتاج إلى استمرار، فإن نتائج كثير من الأعمال لا تُرى فوراً.
نسأل الله تعالى أن يمد في أعمارنا في طاعته، وأن يوسع في أرزاقنا ويجعلها عوناً لنا على طاعته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(89/10)
أسباب غير شرعية لزيادة الرزق
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
أشهد أن لا إله إلا هو الرزاق {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6] كتب الرزق قبل أن يخلق السماوات والأرض، وكتب رزق كل مولود قبل أن يولد -سبحانه وتعالى- وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: هذه بعض الأسباب الشرعية لطلب الرزق، فهل هناك أسباب غير شرعية لطلب الرزق؟
الجواب
نعم، وهي كثيرة جداً، وإن البلاء في هذا الزمان أن يجد العبد أبواباً للحرام كثيرة، ولا يجد أبواب الحلال إلا قليلة، ولكن: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2].
فأبواب كسب الرزق بالحرام متعددة: كالسرقة، والرشوة، والشفاعة مقابل المال أنقلك من مكانك إلى مكان وتدفع لي خمسة آلاف أبحث لك عن عمل أشفع لك لتأخذ الوظيفة، وأنقل لك زوجتك من مدرسة إلى مدرسة، وأساعد في توظيف زوجتك بعد تخرجها من الكلية بالمال، والشاهد أخذ المقابل على الشفاعة، وقد جاء النهي عن ذلك، فأما من يقوم بالعمل، ويطالب وراء المعاملة، ويذهب ويجيء؛ فهذا يأخذ أجرة تعبه دون تَعَدٍّ على غيره، فإن كثيراً من الذين يشتغلون في هذه الأعمال يتعدون على دَور غيرهم، ويظلمون الناس.
ومن الناس من يتعامل بالربا، ويستلف بالربا؛ ليقيم مشروعاً بالربا، ثم يأخذ بعض العوائد ليسدد الربا، ويجادلون بالباطل ويقولون: استفدنا واستفاد البلد، ونقول: إنما هو دمار وخراب ونزع للبركة، ولو كثرت الأرقام فإنه كما جاء في الحديث الصحيح: (إن الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قُلٍ) سيكون قليلاً.
وهكذا يفعل كثير من الناس في أنوع من المحرمات والشبهات، ثم يجادلون بالباطل، صار الربا شيئاً مسَلَّماً من المسلمات الشرعية، صار يُناقش ويقول: أقنعني، ويعطون الرُّشا لمندوبي المبيعات، ومندوب المبيعات لا يشتري من الدكان إلا برشوة محسوبة داخل الفاتورة أو خارج الفاتورة، علماً أن له راتباً يأخذه من الشركة التي يعمل فيها، وتجده قد يعطى مبلغاً زهيداً إذا كان من هذه العمالة الآسيوية أو غيرها، ويعطى غيره مبلغاً أكبر، وهكذا، والجامع واحد؛ إعطاء الرشوة، إفساد الذمم، وتخريب العمال على مَن وظفهم، وأصحاب شركاتهم، وصارت هناك دخول أخرى، هناك بعض الناس لهم دخول أخرى، دخلهم الوظيفي ليس بشيء بجانب هذا، وأكثرها من الحرام، ومن تأمل عرف وشاهد بأم عينيه.
ومنهم من يسعى لجذب الزبائن باستخدام الميسر وجوائز السحب، وما أكثرها! ويعملون المسابقات التي لا تَمُتُّ لا إلى جهاد ولا إلى علم شرعي، ويعطون عليها الجوائز لجذب الناس، وإيغار صدور الباعة الآخرين عليهم، والتغرير بالمشترين، وهذه أشياء كثيرة.
وقد تكلمنا في خطبة ماضية عن الدولار الصاروخي، الذي يتعامل به الآن عددٌ من الناس، ويوزعون قسائمه، ويبيعونها، ويرسلون المبالغ بالشيكات إلى الكفار يا عباد الله! ويُضْحَك عليهم بإرسال أربع قسائم ليبيعوها، ويقول: رجع إلي مالي، ومسكت الدور لعلها تأتيني الفرصة والكسب العظيم، وقد سبق بيان أن ذلك حرام، وفتوى أهل العلم في المسألة في هذا الدولار الصاروخي الذي يقولون فيه: استرخِ وأَصْبِح غنياً، ووصف للنجاح بواسطة هذه الوصفة، تستطيع أن تربح رأس المال بدون التزامات مالية مقابل دفع كذا على القسائم، تغريرٌ بالناس، وأكل أموالهم بالباطل، وقد أفتى علماؤنا أنه ميسر داخل في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] ثم بعد ذلك إذا بيعت هذه القسائم، وتطورت الأمور، سيجد عددٌ كثير من الأغبياء عندهم قسائم، ولا يجدون من يبيعونها عليه؛ لان أكثر الناس قد اشتروا القسائم ولا يوجد من يباع عليه، وهذه القاعدة الهرمية السفلى هم الأغبياء والمغفلون، والذين باعوا عليهم هم آكلو الحرام، الواقعون في الميسر، المُعِيْنُون للكفرة، المُرَوِّجُون للباطل.
فالناس بين ذكي يستخدم ذكاءه في الشر، وبين غبي تنطلي عليه الخدع بسبب جهله وعدم استفتائه وعدم سؤاله، فهو واقع فيه، ومع التحذير الذي ذكرناه سابقاً والفتوى التي أشرنا إليها من أهل العلم؛ فلا زال الناس يتعاملون، وتنتشر هذه الأوراق سعياً في طلب رزق يكون وهمياً بالنسبة لأكثر من (99%) من الذين يشترون هذه القسائم، ويبقى بعض المحظوظين بزعمهم الذين ينالهم شيء.
فابتعدوا -يا عباد الله- رحمكم الله عن أبواب الرزق المحرم، ابتعدوا عن الشبهات، اتقوا الله وخلِّصوا أموالكم من الحرام.
نسأل الله تعالى أن يطيب مكاسبنا، وأن يجعل رزقنا حلالاً.
اللهم اقضِ ديوننا، وسُد جوعتنا.
اللهم اكفنا مد الأيدي للناس، واجعلنا غير محتاجين إلى أحد من خلقك.
اللهم اجعلنا عليك متوكلين، وإليك منيبين، واغفر لنا ذنوبنا أجمعين.
والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(89/11)
استدراك ما فات
خلق الله الإنسان ضعيفاً، وسلط عليه الشيطان فتنة، فلا إنسان إلا ويفوته من فعل الخيرات أمور كثيرة، بل قد يقع في المنكرات قلَّت أو كثرت، لكن السلف كانوا يستدركون ذلك، ويبحثون عن خير القربات للتعويض، ولا ييئسون لكبر عمر أو ضعف جسم أو قلة ذات اليد، وفي هذه المادة كلام غزير نافع حول هذا الأمر، يبحثه من حيث أسبابه وعلاجه، ويضرب أمثلة ويبين سبلاً فعليك به لعلك ترشد!(90/1)
فضل حلق الذكر
الحمد لله الذي لم يزل عليماً خبيراً، قد أحصى كل شيء ولا يفوته شيء، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وكان بعباده خبيراً بصيراً، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
إخواني الأحبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فإنني أسأل الله كما جمعنا في بيته هذا، أن يجمعنا في دار كرامته ومستقر رحمته وفسيح جنته، النفس أيها الأخوة تزكو بالذكر، والبلد يزكو بحلق الذكر ودروس العلم، فتصبح الملائكة في شوارعها وأحيائها تذهب وتجيء، وتصعد وتنزل ملتزمة حلق الذكر؛ فتتنزل السكينة وتعم الرحمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم الحديث إلى أن قال في آخره: أن الله يقول للملائكة: فأشهدكم أني قد غفرت لهم) رواه البخاري.
وفي رواية أحمد (إن لله عزَّ وجلَّ ملائكة فضلاً يتبعون مجالس الذكر يجتمعون عند الذكر، فإذا مروا بمجلس علا بعضهم على بعض حتى يبلغوا العرش الحديث) اللهم اجعلنا في هذه الساعة من أهل هذا الحديث يا رب العالمين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً وارزقهم من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر.
وقبل البداية أيها الأخوة، لابد من شكر المسئولين والقائمين على هذه السلسلة الطيبة التي استمعتم إلى عدد من دروسها في هذا المكان الطيب، فجزى الله بالخير كل من تسبب في قيامها وتنفيذها والإعانة عليها ابتغاء وجهه الكريم.
أيها الأخوة: درسنا لهذه الليلة أحكام وعظات، ونظرات تربوية في استدراك ما فات، وسبب الحديث عن هذا الموضوع أن هناك ملحظاً فيما يخص مسألة التفويت والتضييع، والاستسلام لليأس، وعدم السعي إلى الإصلاح والاستدراك.
أناس كانوا في جاهلية فهداهم الله، وبعضهم كانوا في بدعة فأنقذهم الله، فكيف يعوضون ما مضى من عمرهم؟ وآخرون تردت أحوالهم، وضعف إيمانهم، وانتكست مسيرتهم، وبردت هممهم، واعتراهم من الشيطان ما اعتراهم، ومسهم من كيده ما آذاهم، فوقفوا يتلمسون الطريق.
ولهم أصحاب يدعونهم إلى الهدى ائتونا، قل إن هدى الله هو الهدى، وبعض هؤلاء يحاولون الرجوع، وبعضهم لا يزالون في أمرهم يترددون فلنلق نظرة على هذا الموضوع، وأجد أنه بحق موضوع مهم لنا جميعاً (استدراك ما فات) ننظر ماذا قال العلماء في هذا الموضوع، وكيف يمكن أن نستفيد منه في مسيرتنا وحياتنا(90/2)
فوات الدِّين أعظم من فوات الدنيا
العنوان مكون من جزئين: استدراك ما فات.
والاستدراك لغة: استفعال من درك، والدرْك والدرَك اللحاق والبلوغ، وفي اللغة استدرك الرأي والأمر إذا تلافى ما فرط فيه من خطأ ونقص، والاستدراك عند العلماء، وهو الذي يرد كثيراً في كلام الفقهاء: إصلاح ما حصل في القول أو العمل من خلل أو قصور أو فوات، ويقولون: استدراك نقص الصلاة بسجود السهو، واستدراك الصلاة إذا بطلت بإعادتها، واستدراك الصلاة المنسية بقضائها، والاستدراك بإبطال خطأ القول وإثبات صوابه، إذا كنت تتحدث وأخطأت تستدرك كلامك وتأتي بالصواب.
ويقول العلماء أحياناً: التدارك، وهي لفظة أخرى يستخدمها الفقهاء، والتدارك في الأفعال: فعل العبادة المتروكة، أو فعل جزئها في محله المقرر شرعاً ما لم يفت، كما في قول صاحب كشاف القناع رحمه الله من علماء الحنابلة: لو دفن الميت قبل الغسل، وقد أمكن غسله لزم نبشه، وأن يخرج ويغسل تداركاً لواجب غسله، وكقول الرملي رحمه الله: إذا سلم الإمام من صلاة الجنازة تدارك المسبوق باقي التكبيرات بأذكارها، وقوله: لو نسي تكبيرات صلاة العيد فتذكرها وقد شرع في القراءة وفاتت فلا يتداركها.
وقد يقطع الغلط في القول فيحتاج الإنسان إلى تداركه، بأن يبطله ويثبت الصواب، ولذلك طرق ومنها: قولهم (بل) فيقول كلاماً فيتذكر أو يعرف أنه خطأ، فيغير ويقول (بل) ويأتي بالصواب، هذا هو الاستدراك.
أما الفوات فمن الفوت، والفوات يقال في اللغة: فاته الشيء إذا ذهب عنه كما في اللسان، والفوات منه ما يكون في أمور الدين، ومنه ما يكون في أمور الدنيا، أما فوات الدنيا فهو شيء قليل سهل ويسير يمكن تعويضه، ومن نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله الله به عليه كتبه الله شاكراً صابراً.
ومن نظر في دينه إلى من هو دونه ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته منه، لم يكتبه الله شاكراً ولا صابراً، وقد تولى الله علاج الألم النفسي الذي يترتب على الفوات، تولى الله علاج ما حصل من ذلك في نفوس الصحابة في غزوة أحد، فقال الله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران:153].
فقوله تعالى: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} [آل عمران:153] أي: فجزاكم غماً على غم، وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: الغم الأول بسبب الهزيمة، والغم الثاني حين قيل: قتل محمد صلى الله عليه وسلم، كان ذلك عندهم أشد وأعظم من الهزيمة، فإذاً: كان ألماً عظيماً بالهزيمة والقتل والجراح.
لما قيل: قتل محمد صلى الله عليه وسلم، كان غم غطى على الغم الأول فنسوا الغم الأول، ثم تبين أن محمداً صلى الله عليه وسلم حي، فسروا وكان الغم الأول قد نسي في غمرات الغم الثاني، وهذه حكمة إلهية بديعة قدرها الله تعالى في أحداث هذه الغزوة.
{لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [آل عمران:153] أي: على ما فاتكم من الغنيمة، والظفر بعدوكم، ولا ما أصابكم من الجراح والقتل.
إذاً فوات الدين في نفوس المؤمنين هو الأعظم، ويحصل الهم لفوات الدنيا لأنهم بشر، فأي إنسان إذا فاته شيء من الدنيا ربما يتألم؛ لكن ينبغي أن يعلم أن فوات الدين أعظم بكثير من فوات الدنيا.
ومما يساعد على التغلب على ألم فوات شيء من مال أو نجاح أو أي شيء فاتك من الدنيا: الإيمان بالقضاء والقدر، ولذلك قال الله تعالى في سورة الحديد: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] فأخبر أنه كتب كل المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض، وكل مصيبة قبل أن تحدث فهي مكتوبة عند الله، أي: فعلنا ذلك وكتبناه وقدرناه من قبل أن نخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] أي: فأعلمناكم -كما يقول ابن كثير في تفسيره رحمه الله- بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها، وتقديرنا الكائنات قبل وجودها لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم، وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، فلا تأسوا على ما فاتكم، لأنه لو قدر شيء لكان.
إذا فاتتك عبادة وعلم فهو الذي يحزن عليه حقاً، وهو المصيبة كما جاء عن نوفل بن معاوية أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) أي: فكأنما فقد أهله وماله.
أما الدنيا فتعوض؛ حدثني أحد التجار في الحج قال: أنا نزلت إلى تحت الصفر وطلعت إلى مئات الملايين، ثم نزلت إلى تحت الصفر ثم طلعت إلى مئات الملايين أربع مرات في حياتي، فالدنيا تذهب وتجيء، لكن الدين إذا ذهب:
لكل شيء إذا ضيعته عوض وما من الله إن ضيعته عوض(90/3)
أحوال السلف في استدراك ما فات
هناك آية في سورة الفرقان تذكر المؤمنين باستدراك ما فات، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] قال المفسرون في قوله خلفة، أي: من فاته في الليل عمل أدركه بالنهار، أو فاته بالنهار أدركه بالليل، فمن رحمة الله بهذه الأمة أنه لما علم قصر أعمارها، وضعف أجسادها بالنسبة لمن سبقها، عوضهم تعالى بالمناسبات تضاعف فيها الأجور، يدركون بها من سبقهم ويسبقونه، ليلة القدر خير من ألف شهر، صيام عرفة يكفر سنتين، وعاشوراء يكفر سنة، وصيام شوال بشهرين، الحسنة بعشر أمثالها.(90/4)
كيفية استدراك السلف لبعض الطاعات التي فاتتهم
كيف كان حال السلف رحمهم الله إذا فاتهم شيء من الطاعات؟ نحن الآن نتكلم أيها الأخوة في غمرة أحوال تفوت فيها علينا أشياء كثيرة من الطاعات، وربما يكون عندنا ضعف في الإيمان فلا نحزن على ما فات من الطاعات.(90/5)
استدراك الصحابة ما فاتهم من الجهاد
مثال فوت ملاقاة العدو: كان بعض الصحابة يفوتهم أشياء لعذر ويتأسفون عليها يريدون التعويض، ونحن تفوتنا أشياء لغير عذر وربما لا نحزن ولا نتألم، ولا نسعى للتعويض؛ عن أنس قال: غاب أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، أي: المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، أي: المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ! الجنة! ورب النضر إني لأجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة ما بين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه.
فهذا الذي وجد فيه بضع وثمانون ضربة وجرحاً، كم قاتل حتى ضرب هذه الضربات؟ وكم تحامل على نفسه وواصل في القتال حتى يضرب هذا العدد؟ ومن حنقهم عليه مثلوا به هذا التمثيل.
قال أنس: كنا نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ الآية)) [الأحزاب:23]) وهذا الحديث رواه البخاري رحمه الله.
وروى النسائي عن عاصم بن سفيان الثقفي أنهم غزوا غزوة ذات السلاسل ففاتهم الغزو، فرابطوا ثم رجعوا إلى معاوية وعنده أبو أيوب وعقبة بن عامر، فقال عاصم: يا أبا أيوب! فاتنا الغزو العام، وقد أخبرنا أنه من صلى في المساجد الأربعة غفر له ذنبه، فقال: يا بن أخي! أدلك على أيسر من ذلك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من توضأ كما أمر، وصلى كما أمر، غفر له ما قدم من عمل) أكذلك يا عقبة؟ قال: نعم.
وشهد معه على الحديث.
إذاً: فهناك تحسر على ما فات ورغبة في التعويض، وسؤال واستفتاء: فاتنا فكيف نعوض؟(90/6)
استدراك بعض السلف ما فاتهم من اللقاء بالنبي صلى الله علهي وسلم أو بالشيوخ
من الأشياء التي نلاحظها أيضاً في سير السلف ألمهم لفوات لقاء الشيوخ والعلماء، وعلى رأس هؤلاء محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان بعض التابعين يريدون اللحاق به ليصبحوا صحابة فلم يقدر لهم؛ كما حدث لـ أبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالى، رحل إلى المدينة ليرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل المدينة إذا الصحابة قد فرغوا من دفنه عليه الصلاة والسلام.
وأبو ذؤيب الهذلي الشاعر المشهور، ذكر ابن حجر رحمه الله في الإصابة عنه، قال: قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا جميعاً بالإحرام فقلت: ما الأمر؟ فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الرجل كان الطاعون قد أصاب خمسة من أولاده فماتوا في عام واحد، وكانوا رجالاً ولهم بأس ونجدة، فقال في قصيدته التي أولها:
أمن المنون وريبها تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع
المحدثون ذهبوا في المدن يجوبون الطرق راحلين لطلب العلم وسماع الحديث، فكيف حصل لبعضهم عندما يفوته الشيخ؟ روى السمعاني رحمه الله عن رجل من المحدثين أنه رحل إلى ابن خلف -وهو من مشاهير المحدثين- فقال: دخلت نيسابور وأنا أعدو إلى بيت أحمد بن خلف، فلقيت أحد طلابه، فعاتبني وقال: تعال أطعمك أولاً، فقدم طعاماً وأكلنا، وأخرج لي مسموعاته من ابن خلف، وقال: مات ودفنته، قال: فكادت مرارتي تنشق لفوت الشيخ.
وذيَّل الخطيب البغدادي رحمه الله، كتابه الرحلة بذكر من رحل إلى شيخ يبتغي علو إسناده، فمات قبل ظفر الطالب منه ببلوغ مراده، وذكر أن عبد الله بن داود الخريبي قال: كان سبب دخولي البصرة لأن ألقى ابن عون، فلما صرت إلى قناطر بني دارى تلقاني نعي ابن عون فدخلني ما الله به عليم، فهكذا كان شعورهم في فوات الشيوخ.(90/7)
فوات مجالس العلم
وأيضاً: فوات مجالس العلم، كان المحدثون يحدثون في الحلقة ثم ينتهي الدرس، فبعض الناس يأتي بعد الدرس ولم يسمع الشيخ، وربما لا يسمع والشيخ وفاته الحديث، الشيخ سيحدث بأحاديث أخرى، فكان لفوات المجلس عليهم أثر عظيم، خصوصاً أن المشايخ في ذلك الوقت كانوا يشعرون الطلبة بأهمية الدرس، ولا يعيدونه حتى يقول أحد: يا أخي! إذا ما لحقت الجماعة الأولى ألحق الجماعة الثانية، المسجد -الحمد لله- فيه جماعات متوالية، المسألة عندهم يسيرة، ولكن أين أجر الجماعة الثانية من أجر الجماعة الأولى؟ كان المشايخ يعلمون الطلبة قيمة الدرس، وكان الناس في الخير الذي هم فيه يتأملون ويحسون، جاء رجل إلى الأعمش فقال: يا أبا محمد! اكتريت حماراً بنصف درهم وأتيتك لأسألك عن حديث كذا وكذا -بعد ما انتهى من المجلس- فقال: اكترِ بالنصف الآخر وارجع.
وقال يحيى بن معين: كنا عند ابن عيينة، فجاء رجل وقد فاته إسناد الحديث، فذكر الشيخ المتن، فقال هذا الآتي: أمل علي إسناده فقد فاتني الإسناد فقال: قد بلغتك حكمته ولزمتك حجته، ولم يحدثه؛ ليتعلم ويأتي مبكراً مرة أخرى.
وكان يزيد بن هارون رحمه الله إذا جاءه من فاته المجلس، قال: يا غلام! ناوله المنديل، أي: أكلنا وغسلنا والآن في التنشيف، أعطه المنديل.
وكان يزيد بن هارون يقول لرجل من ولد عمر بن الخطاب من نسله، جاء وقد فاته المجلس وسأله أن يحدثه، فقال له: يا أبا فلان أما علمت أنه من غاب خاب، وأكل نصيبه الأصحاب.
وقال الخطيب رحمه الله: وقد كان خلق من طلبة العلم بـ البصرة في زمن علي بن المديني يأخذون مواضعهم في مجلسه في ليلة الإملاء، ويبيتون هناك حرصاً على السماع وتخوفاً من الفوات، قال جعفر بن طلسطويه: كنا نأخذ المجلس في مجلس علي بن المديني وقت العصر اليوم لمجلس غد، فنقعد طول الليل مخافة ألا نلحق من الغد موضعاً يسمع فيه.
والآن بعض المشايخ لا يجدون طلاباً للدروس، وتفتح الدروس ثم تغلق، وتبدأ ولتنتهي ولا يوجد طلاب، أو ثلاثة أربعة، خمسة، من ضعف الهمم، وعدم الحرص على العلم.(90/8)
استدراك الصحابة ما فات من أعمارهم في الجاهلية وسؤالهم عن أفضل الأعمال
ثم لننتقل إلى جانب آخر، ومسألة تحصيل ما فات، كثير من الصحابة رضوان الله عليهم أسلموا بعدما تقدم بهم العمر، فكانت سنون طويلة من حياتهم قد ذهبت في الجاهلية، وما عاش بعضهم في الإسلام إلا فترة يسيرة، أو عاش سنين، لكن هذه السنين اغتنموها فعلاً إلى الحد الأقصى، ولذلك نحن نعيش الآن عشرات السنين في الإسلام ولا ندرك شيئاً مما فعلوه.
من الأسباب التي رفعتهم: أنهم نظروا في أعمارهم فعرف الواحد منهم أنه لم يبق إلا القليل، فأحب اغتنام هذا القليل في أفضل ما يمكن، ولذلك إذا استعربت كلمة أفضل في بعض المعاجم الحديثية، وجمعت الأحاديث التي فيها كلمة أفضل، ستلاحظ أمراً واضحاً في حرص الصحابة رضوان الله عليهم ليس فقط على الخير، وإنما على الأفضل؛ لأنهم قالوا: هذا العمر قصير، فينبغي أن نستغله في الأفضل.
فمثلاً: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، فسكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته لزادني).
رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى عليه وسلم سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور).
رواه البخاري.(90/9)
بحث الصحابة عن الأجور المضاعفة
أمة تبحث عن الأجر المضاعف، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال: (من سلم المسلمون من لسانه ويده).
رواه البخاري.
ثم لم يقتصر الأمر على الأفضليات في الأمور عامة، وإنما سألوه عن الأفضل في الأبواب المخصوصة المعينة، ففي الصلاة مثلاً: روى جابر رضي الله عنه قال: (سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت) رواه مسلم.
وفي العتق سأله أبو ذر رضي الله عنه فقال: (يا رسول الله! فأي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها) رواه البخاري.
وفي الصدقة جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تتصدق وأنت صحيح شحيح ترجو الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان) راوه البخاري.
فإذا بلغت الحلقوم لم تعد تنفع الوصية، تقول: وزعوا كذا، وأعطوا فلاناً كذا، وضعوا في الأيتام كذا، وفي المساجد كذا، وفي أبواب الخير الفلانية كذا، لا.
انتهى، إذا وصلت روحه الحلقوم صار في حكم الميت، وقوله عليه الصلاة والسلام: وقد كان لفلان، -أي: المال قد أصبح للورثة- انتهى الآن وأقفل باب التوزيع.
وفي الذكر روى أبو ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل؟ قال (ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده) رواه مسلم.
وفي أبواب من الخير مجموعة: روى عبد الله بن حبشي الخثعمي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: (أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان لا شك فيه، وجهاد لا غلول فيه، وحجة مبرورة، قيل: فأي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت، قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل) الآن لو أن واحداً عنده ألف ريال فتصدق بخمسمائة، فقد تصدق بنصف ماله، وآخر عنده مائة مليون تصدق بمائة ألف ريال، فقد تصدق بعشر ماله، والأول أفضل، وهو جهد المقل.
(وقيل: فأي الهجرة أفضل؟ قال: من هجر ما حرم الله عزَّ وجلَّ، قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من جاهد المشركين بماله ونفسه، قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: من أهريق دمه وعقر جواده) رواه النسائي.
ومما يدلك على أن القوم كانت هممهم متصاعدة لعمل أفضل وليس لعمل فاضل فحسب؛ هو أن المناقشات كانت تدور بينهم على هذه الأشياء، وستنظر في المناقشات التي تدور بين الإخوان والأصحاب، وتعرف ما الذي يشغل بالهم.
جاء عن النعمان بن بشير قال: (كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: لا أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: لا أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر رضي الله عنه، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان يوم الجمعة- ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيه فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) [التوبة:19]) رواه مسلم رحمه الله في صحيحه.(90/10)
أمثلة من الشريعة في مجالات استدراك ما فات
ومباحث المفاضلة في كتب العلماء كثيرة مما يدل على أن المسألة لها وزن واهتمام، ولنأتِ -أيها الأخوة- الآن إلى صعيد آخر لننظر ما هي الوسائل التي جاءت بها الشرعية للاستدراك: إن الله عزَّ وجلَّ يعلم أن البشر ضعفاء، تعتريهم عوامل النقص والضعف، والنسيان، والمعصية، فإذا قصر الواحد في عبادة، وجد السبل متاحة أمامه كي يعوض، وفي كتب الفقه أبواباً لذلك؛ فمن ذلك: القضاء والإعادة والفدية والكفارة.(90/11)
القضاء والإعادة والفدية والكفارات
والعلماء يعرفون القضاء بأنه: فعل الواجب بعد وقته، والإعادة: فعل الواجب في وقته مرة أخرى لخلل حصل في المرة الأولى، كمن صلى الظهر بدون وضوء، ثم بعد الصلاة تذكر ذلك فعليه أن يعيد صلاته، وأما الأداء فهو: فعل الواجب في وقته.
والقضاء والإعادة لاستدراك ما فات في العبادة، أحياناً لا يوجد سبيل للاستدراك من جهة الإعادة أو القضاء كمن ترك الرمي حتى انتهت أيام التشريق، فإذا غربت شمس يوم الثالث عشر انتهى وقت الرمي، ولا يمكن أن يقضي الرمي في اليوم الرابع عشر.
وهل هذا له حل في الشريعة؟ وهناك أشياء يرتكبها الإنسان، كمن يفعل محظوراً من محظورات الإحرام، وله أيضاً حل في الشريعة رحمةً من رب العالمين، فقد جاءت الشريعة بما يقضي الفوائت، ويعوض الناس عما فاتهم، فمثلاً: الفدية، وهي البدل الذي يتخلص به المكلف من مكروه توجه إليه، أو وقع فيه، والكفارة تغطي الإثم وهي أخص من الفدية، مثل كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة القتل.
هناك أشياء جاءت بها الشريعة لتعويض النقص الذي هو من طبيعة البشر، لو جئنا إلى موضوع الصلاة، لوجدنا بعض الناس تركوا الصلوات متعمدين، فماذا يفعل الواحد منهم، خصوصاً إذا عرفنا مثلاً أن القول الراجح: أن من تعمد ترك صلاة حتى خرج وقتها فلا سبيل إلى قضائها، والله لا يقبلها في غير وقتها، وإن لله عملاً في الليل لا يقبله بالنهار، وعملاً في النهار لا يقبله بالليل.
هل هناك يا ترى فرصة؟ يأتيك الآن تائب يقول لك: أنا ضاعت علي صلوات لمدة سنين، فما هو الحل وأنت -مثلاً- تعرف هذا القول الراجح في عدم القبول؟(90/12)
تكميل الفرائض بالنوافل
الحل: عن حريث بن قبيصة قال: قدمت المدينة، فقلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً قال: فجلست إلى أبي هريرة، فقلت: إني سألت الله أن يرزقني جليساً صالحاً، فحدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله أن ينفعني به، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن خابت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب عزَّ وجلَّ: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك) رواه الترمذي وصححه في صحيح الجامع.
ورواية النسائي عن حريث بن قبيصة قال: قدمت المدينة، قلت: اللهم يسر لي جليساً صالحا، فجلست إلى أبي هريرة رضي الله عنه فقلت: إني دعوت الله عزَّ وجلَّ أن ييسر لي جليساً صالحاً، فحدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله أن ينفعني به، فذكر الحديث وفيه: (فإن انتقص من فريضته شيء قال: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل به ما نقص من الفريضة، ثم يكون سائر علمه على نحو ذلك).
وروى أبو داود رحمه الله أيضاً، وقال فيه: (انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم) وفي رواية قال: (ثم الزكاة مثل ذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك) رواه أبو داود وصححه في صحيح الجامع.
شخص نقص من الزكاة وما عوض، ينظر يوم القيامة في صدقاته فيعوض منها، وشخص نقص في الصيام، كأن جرح صيامه بعمل المعاصي، فينظر في صيام نوافله، وتعوِّض ما فاته من رمضان.(90/13)
الإتيان بما نسي وقت تذكره أو جبره بنحو سجود السهو
إذاً من المسائل المهمة جداً في استدراك ما فات الإكثار من النوافل، وحتى النوافل نفسها لو فاتت فتحت الشريعة فيها أبواباً للتعويض، مثلاً: البسملة في الوضوء واجبة، فإذا نسيها في أوله وذكر أثناء الوضوء، ماذا قال العلماء؟ قالوا: فإن نسي في أوله وذكر أثناءه سمى بقوله: باسم الله، يأتي بها في أثنائه تداركاً لما فاته، كما في كتاب نهاية المحتاج.
وبعضهم قاس على الطعام فيقول: باسم الله أوله وآخره، لكن إذا فاتته ولم يتذكر إلا بعد نهاية الوضوء فات محلها، فيكثر من ذكر الله أي: الأذكار العامة.
غسل الميت تقدم معنا، لو دفن ميت دون غسل وقد أمكن غسله لزم نبشه لغسله تداركاً لواجب غسله، ما لم يُخشَ تغيره وهذا قول الجمهور.
تدارك المتروك في الصلاة، كمن نسي سجدة مثلاً، أو التشهد الأول فإن كان ركناً عاد إليه وجوباً، فأتى به وما بعده على الترتيب، وواجبات الصلاة عند الحنابلة كالتشهد الأول وتكبيرات الانتقال، وتسبيح الركوع والسجود، إن تركه سهواً فيجب عليه تداركه ما لم يفت محله -قبل أن يرفع من الركوع تذكر أنه ما قال سبحان ربي العظيم، إذاً يأتي بها- ويفوت محله بالانتقال لما بعده، فإذا اعتدل من الركوع وقد نسي سبحان ربي العظيم فلا يعود؛ لأنه دخل في الركن فلا يعود للواجب، ويستدرك بسجود السهو -سبحان الذي شرعه- فإذا لم يعتدل رجع إلى الركوع فأتى بالتسبيح، وكذلك التشهد الأول يرجع إليه ما لم يعتدل قائماً، فإذا اعتدل فلا يرجع وعليه سجود السهو.
وأما السنن فقد جاء في كشاف القناع أنه لا تتدارك للسنن إذا فات محلها، كما إذا ترك الاستفتاح حتى تعوذ، أو ترك التعوذ حتى بسمل، أو ترك البسملة حتى شرع في القراءة، أو ترك التأمين حتى شرع في السورة.
وسألت والدنا وشيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز عن بعض هذه المسائل فقال: إذا تجاوز الاستفتاح يرجع إليه ولو شرع في الاستعاذة، ويرجع إلى الاستعاذة ولو شرع في البسملة، ويتدارك السنن، قال: وما المانع؟ إلا إذا كان مأموماً وشرع الإمام في القراءة فإنه ينصت.
لو نسي سجود السهو يرجع فيأتي به وشيخ الإسلام يقول: حتى في البيت، أي أنه لم يتذكره إلا بعد فترة، والجمهور يقولون: إذا تذكره عن قرب رجع إليه فأتى به.
إذا نسي تكبيرات صلاة العيد حتى شرع في القراءة، فلا يتداركها لأنها سنة فات محلها، وهذا قول الشافعية والحنابلة، غير أن الشافعية قالوا: يتداركها في الركعة الثانية مع تكبيراتها.
ومن دخل في صلاة الجنازة والإمام في التكبيرة الثالثة فماذا يفعل؟ سألت شيخنا -نفع الله بعلومه- عن هذه المسألة، فقال: إنما أدركه المأموم مع الإمام هو أول صلاته، ثم يتم الباقي إذا سلم الإمام، فإذا دخلت مع الإمام في صلاة الجنازة وهو في التكبيرة الثالثة يقرأ الدعاء للميت، وأنت تقرأ سورة الفاتحة.(90/14)
ما لا يدرك كله لا يترك كله
إذا ترك شوطاً في الطواف أو بعض شوط كمن دخل في الحجر وخرج منه أثناء الطواف، فعليه أن يأتي بما تركه إذا كان في وقت قريب عند الحنابلة؛ لأنهم يشترطون الموالاة بين الطوافات، وأما من ترك شوطاً من السعي أو بعض شوط، فعليه تداركه بالإتيان به ولو بعد مدة، لأنه لا يشترط الموالاة في الطواف كما ذكره ابن قدامة رحمه الله في المغني.
إذا نسي الرمل في الأشواط الأولى من طواف القدوم -وهو سنة للرجال- فات محله، لكن لو تذكر في الشوط الثاني، تذكر أنه لا يرمل وبإمكانه أن يرمل، هل يقول: فاتنا الأول فنكمل على الأول؟ نقول: لا.
انتهز الفرصة وأكمل الرمل في الثاني.
ولا يشرع له تدارك الهرولة في السعي بين العلمين الأخضرين في الصفا والمروة إذا فات؛ لأنه تعدى الموقع فلا يهرول بعدما تعدى الموقع.
إذا فاته الاضطباع في طواف القدوم ثم تذكر وهو في الشوط السابع أنه لم يضطبع، فعليه أن يخرج كتفه الأيمن ويكشفه، ولا يقول: فاتني ستة فأكمل، لا.
بل ينتهز الفرصة ويأتي بما بقي.
وهكذا من الأشياء في طواف الوداع إن خرج دون أن يأتي به فعند الشافعية والحنابلة يجب عليه الرجوع لتداركه إن كان قريباً دون مسافة القصر، ويسقط عنه الإثم والدم، فإن تجاوز مسافة القصر لم يسقط عنه الدم، ومن تجاوز الميقات دون إحرام، إذا رجع إليه فأحرم فلا يلزمه شيء.
نلاحظ عموماً أيها الأخوة، أن المبادرة بالتدارك تنقذ الشخص من الإثم أو التبعات كالكفارة أحياناً.
وفي مجال الآداب قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم طعاماً، فليقل: باسم الله، فإن نسي في أوله فليقل: باسم الله في أوله وآخره) يتدارك، رواه الترمذي.
وفي النوافل: عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فاتته الصلاة من الليل -من وجع أو غيره- صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة) رواه مسلم.
من فاتته صلاة الجماعة: قال البخاري في صحيحه: باب فضل صلاة الجماعة، وكان الأسود إذا فاتته الجماعة ذهب إلى مسجد آخر.
صلاة العيد: قال البخاري رحمه الله: باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين، وكذلك النساء، ومن كان في البيوت والقرى، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا عيدنا نحن أهل الإسلام) وقال عطاء: إذا فاته العيد صلى ركعتين.
وهناك صلوات إذا فاتت فلا تتدارك، كصلاة الكسوف، إذا انتهى الكسوف فلا يمكن الصلاة.
وهكذا النوافل كالعيد والضحى والرواتب التابعة للفرائض والأظهر أنها تقضى، وسألت شيخنا الشيخ عبد العزيز -نفع الله به- عمن دخل المسجد فجلس؛ هل تفوت التحية؟ فقال: يقوم فيصلي ركعتين كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
حتى قضاء الحقوق، قال العلماء: يتدارك بقضاء ما عليه كالنفقة الواجبة على الزوجة عند الجمهور، فمن تركها وأهملها فلا تسقط النفقة، وتبقى على الرجل لزوجته ديناً لا يسقط بمضي الزمن.
وحتى مسألة العدل بين الزوجتين، قالوا: والزوج إذا لم يبت عند ذات الليلة لعذر أو لغير عذر قضاه لها عند الشافعية والحنابلة.
وإذا استعرضنا القواعد الفقهية وجدنا أن من بينها (مالا يدرك كله لا يترك كله) و (الميسور لا يسقط بالمعسور) واستدلوا له بحديث البخاري: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وللقاعدة ألفاظ منها: مالا يدرك كله لا يترك جله، أي ما لا يدرك كله لا يترك باقيه، ومنها: مالا يدرك كله لا يترك كله، أي بل تأتي بما تستطيع، ومثلوا لها بأمثلة فمثلاً: إذا كان بعض العضو مقطوعاً وجب عليه غسل ما بقي، وإذا قدر على ستر بعض العورة لزمه ذلك، ومن قدر على بعض صاع في الفطرة أخرجه، ولو عجز عن سداد كل الدين أدى ما قدر عليه.
وهذه مسألة يخطئ فيها كثير من الناس، فبعض الناس قد يستلف عشرة آلاف، فإذا جاء وقت السداد، وطولب بالدين وما عنده إلا خمسمائة، يقول: ماذا تغني الخمسمائة في العشرة آلاف؟! فينفقها هنا وهنا ويقول لصاحب الدين: ما عندي شيء، نقول: تستطيع أن تؤدي خمسمائة من العشرة آلاف أدها، ومسألة تضييع الحقوق في الديون لا تحصى ولا تعد.
ثم أيها الأخوة: في مسألة تدارك ما فات، قد يكون ما فات بتقصير وقد يكون بغير تقصير، وليست الدعوة الآن لأن نعوض ما فاتنا إذا قصرنا فقط، بل حتى إذا لم تقصر وفاتك شيء من الخير فابحث عن أبواب أخرى، وتمثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحدٌ أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة).
هؤلاء هم المهاجرون رضي الله عنهم فقراء، فاتتهم الصدقة ليس بتقصير منهم، ومع ذلك جاءوا يسألون كيف نعوض؟ الرسول عليه الصلاة والسلام فاته قضاء سنة الظهر، ليس من تقصير ولكن شغل بطاعة عن طاعة، شغله وفد عبد القيس، فاستدركها وقال لمَّا سئل عن ذلك: (وإنه أتاني أناس من بني عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان) كما في البخاري عندما رأته أم سلمة يصلي بعد العصر وكان عندها نساء، فقالت للجارية: (قومي بجنبه، فقولي له: تقول لك أم سلمة: يا رسول الله! سمعتك تنهى عن هاتين، وأراك تصليهما، فإن أشار بيده فاستأخري عنه، ففعلت الجارية، فأشار بيده، فاستأخرت عنه، ثم ذكر الحديث).
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا احتاج أن يكلم المصلي ولا بد، يكون بجانبه ليس أمامه ولا خلفه، يكون بجانبه ويكلمه، وأرادت أم سلمة أن تذكره عليه الصلاة والسلام لأنه ربما نسي.(90/15)
أسباب تفويت الطاعات(90/16)
التسويف من أسباب التفويت
فإن جئنا -أيها الإخوة- إلى أسباب التفويت وجدنا أن من أعظم أسباب التفويت التسويف، وعندنا شاهد لهذا المعنى في قصة كعب بن مالك لما قال: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ثم قال: وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً.
فأقول في نفسي: أنا قادر عليه -لاحظ هنا التسويف- فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً، فقلت: أتجهز بعده بيومٍ أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئاً، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم؛ وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء.
رواه البخاري.(90/17)
الرفقة من أسباب التفويت
من أسباب التفويت عند كثير من الشباب رفقاء السوء، أو الرفقاء الذين لا فائدة منهم، نحن الآن إذا جئنا ننصح الشباب نقول لهم: رفقاء السوء ورفقاء السوء، بعضهم يقول: ليس عندنا رفقاء سوء، الحمد لله كلهم أصحاب لحى، وكلهم على خير، لاحظ -يا أخي- قد لا يكونون أهل سوء، لكن لا يكونون أهل فائدة، فإنك لا تستفيد منهم يضيعون وقتك.(90/18)
من أسباب التفويت الزوجة والأولاد
قد تكون الزوجة هي سبب فوات الطاعات، وقد يكون الأولاد إذا شغلوك بغير الطاعة: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] ونأخذ مثلاً من السيرة يوضح كيف كان الأولاد والزوجات سبباً في تفويت طاعة عظيمة وهي الهجرة، ثم ننظر في موقف الإنسان المسلم في عدم الانتقام ممن كان سبباً في التفويت إذا كان الانتقام بغير فائدة؛ عن عكرمة عن ابن عباس، وسأله رجل عن هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14].
قال ابن عباس: هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، إذاً: الزوجة والأولاد قد يقعدوا بالإنسان عن الطاعة، أو يثبطوه عن فريضة، عن حج، يقعدوا به عن طلب علم، قال: فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، وتحت وطأة الزوجة والأولاد ينهار الإنسان، وفي كثير من الأحيان تغلب العاطفة، يتابع الزوجة والأولاد فيما يسيرونه إليه.
فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين بعد سنوات، فرأوا الناس قد فقهوا، فالذي تعلم قد تعلم، والذي جاهد جاهد، فلما رأوا ذلك هموا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم؛ فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14].
ثم أمر تعالى بالعفو، ما فائدة الانتقام من الزوجة والأولاد الآن وقد فاتهم ما فات؟ الآن راقب الله فيهم واحملهم على الطاعة.(90/19)
من الوسائل في الاستدراك(90/20)
البيئة تؤثر على المرء في الاستدراك
وسط الإنسان المحيط به له دور في دفع الشخص للاستدراك أو للتفويت، والدعاة إلى الله عليهم دور عظيم في حث المسلم الجديد لاستدراك ما فاته بعمل الصالحات، مقابلة السيئات التي كان يفعلها في الجاهلية.
بعض الصحابة لما أسلموا كان عندهم هذا الشعور.
عن ابن عباس قال: (كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله! ثلاثاً أعطنيهن قال: نعم.
قال: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجك، قال: نعم -وبعض المحدثين قد اعترض على هذه اللفظة، والخطأ في هذا الموضع- قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: نعم.
قال: وتؤمرني -هذا الشاهد- حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: نعم) رواه مسلم.
إذاً: أبو سفيان لما رأى نظرة الناس له عرف وأحس بالتقصير، وأراد أن يعوض.
,خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، لما أسلموا اندفعوا للتعويض، وينبغي على المسلم إذا هداه الله أن يندفع للتعويض، فقد كان في جاهلية؛ كان في سنوات الضياع والتيه والبعد عن الشريعة، فإذا اهتدى اندفع للتعويض.
لاحظ معي هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله، وقال الهيثمي عن إسناده: رجاله ثقات، ولعل في بعضهم شيئاً من الكلام، لكن هذه المسألة في القصص والسيرة، يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: لما انصرفنا من الأحزاب عن الخندق -وكان مع المشركين- جمعت رجالاً من قريش، وكانوا يرون مكاني ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون -والله- إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علواً كبيراً منكراً، وإني قد رأيت رأياً فما ترون فيه؟ قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بـ النجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرف، نرجع إلى قومنا فلن يأتينا منهم إلا خير، فقالوا: إن هذا لرأي.
واضح أنه بعد معركة الأحزاب بدأ ميزان القوى يتحول، قال: فقلت لهم: فاجمعوا له، أي: للنجاشي ما نهدي له، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، أي: الجلود، فجمعنا له أدماً كثيراً، فخرجنا حتى قدمنا عليه، فوالله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه -أي: إلى النجاشي - في شأن جعفر وأصحابه، فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري لو قد دخلت على النجاشي، فسألته إياه فأعطانيه، فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد صلى الله عليه وسلم.
فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحباً بصديقي -وهذا يدل على قوة العلاقة بين النجاشي وعمرو بن العاص - أهديتني من بلادك شيئاً؟ قال: نعم أيها الملك قد أهديت لك أدماً كثيراً، ثم قدمته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له: أيها الملك! إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا، قال: فغضب، ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة فظننت أنه قد كسره، فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقاً منه، ثم قلت: أيها الملك والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال النجاشي: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله؟! قال: قلت: أيها الملك أكذاك هو؟ فقال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعله الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده.
قال: قلت: فبايعني له على الإسلام، قال: نعم.
فبسط يده وبايعته على الإسلام ثم خرجت إلى أصحابي، وقد حال رأيي عما كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي، ثم خرجت عامداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح، وهو مقبل من مكة إلى المدينة، فقلت: أين يا أبا سليمان؟ قال: والله لقد استقام المنسم -وفي بعض المراجع الميسم: هو أثر الحسن والجمال في الشيء، ويعني: خالد رضي الله عنه الحق، أي أن: الحق استبان- وإن الرجل لنبي، أذهب والله أسلم، فحتى متى؟ هذه كلمة مهمة جداً، يقول خالد بن الوليد: الحق استبان فحتى متى لا نتدارك أمرنا الآن ونسلم، فقلت: والله ما جئت إلا لأسلم، فقدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلمنا.
وهكذا قد يسمع بعض الشباب التائبين الحق في أمريكا، هو هنا ضال، يذهب إلى أمريكا يسمع كلمة الحق هناك ويهديه الله، ويرجع مهتدياً من هناك بعد أن كان ضالاً هنا، وهذا عمرو بن العاص ذهب فسمع من النجاشي، ورجع متأثراً.(90/21)
التوبة وسيلة لاستدراك ما فات
إن هناك عدداً من المذنبين سمعوا مواعظ، وسمعوا أشياء حركت فيهم المشاعر الجياشة للتوبة، بعض الناس عندهم رغبة في التوبة، ومن المهم جداً للدعاة إلى الله أن يفتحوا لهم الأبواب، بتوضيح كيف يستدركوا ما فاتهم، وكيف يصلحوا أخطاءهم، يريدون التوبة لكن لا يعرفون كيف الطريق! عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (إن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تدعو إليه لحسن -نحن مقتنعين بما تقول- ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل قول الله تعالى {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68] ثم قال: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:70] ونزل {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً الآية} [الزمر:53]) رواه مسلم.
نلاحظ أن الشريعة فتحت باب الاستدراك، أنت يا أيها التائب عندك معاصٍ كثيرة والقضية مهمة، وبعض الناس يسألون عن أحكام التوبة، ما هي؟ والتوبة: هي عملية استدراك لما فات، فكما قال السفاريني رحمه الله تعالى في غذاء الألباب: اعلم -رحمك الله تعالى ووفقك- أن الحق الذي تاب منه التائب إما أن يكون لله أو لآدمي، ثم ذكر أشياء عن حق الله، وأشياء عن الحقوق المشتركة، ثم حق الآدمي المحض، وكل معصية وكل اعتداء على حق آدمي فهو اعتداء على حق الله تعالى ومعصية لله، لا بد أن يتوب منها الشخص ثم يعيد حق الآدمي.
إذا كان حق الآدمي قصاصاً مكنه من نفسه، أو كان مالاً أعاده إليه، فإن كان قد أتلف شيئاً عوضه عنه، وإذا لم يستطع استسمح منه، وإذا اغتابه أو قذفه، ثم لو جاء وقال: يا فلان! أنا اغتبتك وقلت فيك كذا وكذا، وخصوصاً أن بعض الناس لا تدري ما ردة فعله، فإنه قد يطلب منك ما قلته فيقول: لا.
ماذا قلت بالضبط؟ أنا أريد أن أعرف ماذا قلت بالضبط، وإلا لا أسامحك إلى يوم الدين.
يأتي الأخ هذا فيقول: أنا أريد أن أتوب قذفت فلاناً واغتبت فلاناً، فكيف أفعل؟ لو أخبرته لربما تفاقم الشر، فذهب شيخ الإسلام رحمه الله وتلميذه ابن القيم وغيرهم من العلماء، إلى أنه إذا قدر أن الشر سيزيد ويعظم ويقع في نفس صاحبه عليه أشياء، ويجد عليه أموراً ما كان يجدها عليه من قبل، فإنه يكتفي بالاستغفار والدعاء له، ويدافع عنه في المجالس الذي اغتابه فيها، ويكذب نفسه في المجالس الذي قذفه فيها، ثم لعله إذا جاء يوم القيامة ووجد في صحيفته حسنات فيقال له: هذا استغفار أخيك الذي اغتابك فإنه استغفر لك، لربما سامحه إذا وجد استغفار أخيه له.
وهكذا عللوا قضية الاستغفار، رجاء أن يرضى عنه خصمه يوم القيامة ببركة استغفاره، وقال ابن المبارك: لا تؤذه مرتين، اغتبته ثم تقول له: قلت فيك كذا وكذا.
وكل أنواع الذنوب لها حل، وهذا ما يجب أن نؤكد عليه أمام التائبين، ونخبرهم به لنفتح لهم الأبواب فيقبلوا، ولا بد أن نعيد الحقوق لأصحابها قبل أن يأتي يوم لا دينار ولا درهم، ولكن بالحسنات والسيئات، كما جاء في الحديث الصحيح.(90/22)
التغلب على مشاعر الإحباط لاستدراك ما فات
من الأمور المهمة في علاج ما فات -ونتكلم عن بعض الأمور التربوية- أنه لابد من التغلب على مشاعر الإحباط التي تعتري الشخص المقصر، خصوصاً عندما يأتيه شيطان فيقول: لا فائدة! فما فعلته في الماضي لا سبيل إلا إنقاذ نفسك من تبعته ومسئوليته، ولا تستطيع أن تعوض.
فلا يجوز أن يشعر الإنسان بمشاعر الإحباط حتى تسيطر عليه وتقعد به عن محاولة التقدم وتعويض ما فات.
بعض الناس إذا استعرض في ذهنه الأشياء الذي فاتته وجدها كثيرة جداً فيستعظم ذلك، وقد نهينا عن (لو) التي تفتح عمل الشيطان؛ لأنها تسبب القنوط واليأس الذي لا فائدة منه، بل يضر.
إن تحقيق الأماني لا يكون بالندم على ما فات، ولا باجترار الأحزان على الماضي، وهو الندم السلبي؛ -لأن هناك ندم إيجابي كما سيأتي- وإنما يكون بالجد والعمل واغتنام كل فرصة.
بادر الفرصة واحذر فوتها فبلوغ العز في نيل الفرص
فابتدر مسعاك واعلم أن من بادر الصيد مع الفجر قنص
أما إضاعة الحاضر بالاستسلام للأوهام والأشياء التي حصلت في الماضي، والانسياق وراء وساوس الشيطان فإنها ضارة للغاية.
أفنيت يا مسكين عمـ ـرك في التأوه والحزن
وقعدت مكتوف اليديـ ـن تقول حاربني الزمن
ما لم تقم بالعبء أنـ ـت فمن يقوم به إذن؟
من المهم -أيها الأخوة- أن ننظر في أحوالنا، ونصحح المسيرة، ونستدرك ما فاتنا، ونحاسب أنفسنا بحسب الإمكانات، ولا يمكن أن تكون محاسبة طالب في تخصص شرعي في مسألة طلب العلم كمحاسبة الموظف الذي له دوامان أو دوام طويل، لأن الإمكانات تختلف، فما يفوت هذا أعظم مما يفوت ذاك، وما ينبغي أن تكون عليه الدرجة في المحاسبة أشد في حق طالب العلم المتفرغ.
ثم لابد من إزالة الحواجز النفسية التي تمنع الاستدراك، كأن يقول: أنا كبرت، وذاكرتي قد ضعفت فلا فائدة الآن من حفظ المتون وطلب العلم في حالتي.
نقول: يا أخي! بعض الصحابة أنتجوا في أعمار متأخرة، وبعضهم ما عاشوا إلا أشهراً قلائل وعلموا أشياء كثيرة جداً، ثم استحضار قصص الذين طلبوا العلم متأخرين، بعضهم ما طلب العلم إلا بعد الأربعين وأصبحوا علماء، فـ ابن أبي ذئب طلب العلم متأخراً، وكان يقارن بـ مالك، وقالوا: لو طلب العلم مبكراً لما قورن به مالك ولا كان قريباً منه، رضي الله عنهم جميعاً ورحمهم.
وإذا نظرنا في حال بعض العلماء كيف استدركوا الأمور وكيف تقدموا، لوجدنا أمراً عظيماً! ابن حزم رحمه الله طلب العلم بعدما بلغ السادسة والعشرين وابن حجر رحمه الله مرت عليه سنوات لم يكن يطلب فيها الحديث، حتى كان ينشد شعراً فسمعه شخص فقال: ليس هذا من شأنك، هذا لا يليق بك، فانصرف إلى الحديث.
الذهبي رحمه الله قال: رأى خطي رجل، فقال: إن خطك يشبه خط المحدثين، فوقع في نفسي طلب الحديث.
ابن القيم رحمه الله مضى فترة من عمره مع الصوفية، ثم رجع وصار العلم العظيم، يقول:
يا قوم والله العظيم نصيحة من مشفق وأخ لكم معوان
جربت هذا كله ووقعت في تلك الشباك وكنت ذا طيران
حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي ولساني
حبر أتى من أرض حران فيا أهلاً بمن قد جاء من حران
فالله يجزيه الذي هو أهله للجنة المأوى مع الرضوان
أخذت يداه يدي وسار فلم يرم حتى أراني مطلع الإيمان
ورأيت أعلام المدينة حولها نزل الهدى وعساكر القرآن
ورأيت آثاراً عظيماً شأنها محجوبة عن زمرة العميان
لا تقل: فاتتنا المرحلة الذهبية في طلب العلم، فاتتنا مرحلة الذاكرة القوية، ولا فائدة، فهناك من طلب العلم متأخراً وأفلح، وهذا عبد الصمد شرف الدين ذكر في مقدمة تحقيقه لـ تحفة الأشراف أنه ما طلب العلم إلا بعد الأربعين.
الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله جاء إلى شيخه السندي في المدينة فرأى الناس يطوفون بقبر النبي عليه الصلاة والسلام، وكان محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في مقتبل عمره، فقال لشيخه السندي: ما تقول في هؤلاء؟ قال: إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون، ولكن من يقوم لهم؟ قال الشيخ: فوقعت في نفسي.
أحياناً كلمة من عالم موجه، من مربٍ فاضل، أو قدوة، تغير مجرى حياة الإنسان، وحتى لو ذهبنا بعيداً بين الشعراء هذا النابغة الذبياني ما قال بيتاً من الشعر إلا بعد أن بلغ الأربعين.
أيها الأخوة: بعض الناس فاتهم حفظ القرآن، فلما تقدم بأحدهم العمر قال: لا سبيل إلى حفظه وقد ضعفت الذاكرة، نقول له: راجع ما حفظته يا أخي، واسع للحفظ من جديد، بعض الناس حفظوه بعد الأربعين، وهناك امرأة كبيرة في السن حفظت القرآن في سنة ونصف، من كثرة سماعه ومواظبتها وحرصها وسعيها، فتحت الشريط وهي تغسل الصحون في المطبخ، ذهبت مركز تحفيظ القرآن فتأثرت، وأحضرت أشرطة القرآن، وهي في المطبخ تستمع الأشرطة، تستمع وتستمع حتى حفظته في سنة ونصف، ولو كانت أمية فإنها تحفظ من الأشرطة.
فالإنسان إذا كان صاحب همة يستدرك ما فاته مهما كان، ويمكنه أن يعمل أشياء كثيرة جداً، مثلاً: عدد من الطلاب ندموا أنهم لم يكونوا يكتبون الفوائد والنفائس، ويقيدون الأفكار والخواطر، وذهب الموضوع من ذهنهم وضاع التحضير، لأن النقاط كانت في ورقة صغيرة وضاعت، فيقول: لا فائدة قد ذهب الكثير، نقول: قيد الآن، ابدأ من جديد، قيد ورتب وفهرس.(90/23)
الشعور بأن هناك شيئاً فات والاندفاع إلى التعويض
وختاماً أيها الأخوة! في مسألة استدراك ما فات ينبغي أن ينتابنا شعوران: الشعور الأول: أن نشعر فعلاً أن هناك أشياء فاتت؛ لأن الذي لا يحس أن هناك أشياء فاتت سيندفع إلى ما هو أعظم؛ لأنه لا يشعر أنه قد فاته شيء، فلابد أن نحاسب أنفسنا ونعرف ماذا فاتنا في كل جانب من الجوانب؛ في طلب العلم، في الأخلاق، في الدعوة إلى الله، في بر الوالدين، في صلة الرحم، وهكذا ثم نستدرك ونبدأ بإصلاح الأوضاع.
الشعور الثاني: العزم والاندفاع للتعويض، إذاً الشعور الأول أن نحس أن هناك أشياء فاتت، الشعور الثاني العزم والاندفاع للتعويض، ونمثل للأول بأبيات، وللثاني بأبيات نختم بها هذا الدرس.
الأول الذي هو المحاسبة والشعور بأن هناك أشياء فاتت، قال الشاعر رحمه الله:
تفيض عيوني بالدموع السواكب ومالي لا أبكي على خير ذاهب
على العمر إذ ولى وحان انقضاؤه بآمال مغرور وأعمار ناكب
على غرر الأيام لما تصرمت وأصبحت منها رهن شؤم المكاسب
على زهرات العيش لما تساقطت بريح الأماني والظنون الكواذب
على أشرف الأوقات لما غبنتها بأسواق غبن بين لاهٍ ولاعب
على أنفس الساعات لما أضعتها وقضيتها في غفلة ومعاطب
على صرفي الأيام في غير طائل ولا نافع من فعل فضل وواجب
على ما تولى من زمان قضيته ورجيته في غير حق وصائب
على فرص كانت لو اني انتهزتها لقد نلت فيها من شريف المطالب
وأحيان آناء من الدهر قد مضت ضياعاً وكانت موسماً للرغائب
هذا شعور بالتفريط والمحاسبة وأن هناك أشياء كثيرة فاتت، ثم هذه الأبيات لـ جمال الدين الصرصري رحمه الله، وبعد هذا الشعور، يقول في قصيدة له:
فيا من مد في كسب الخطايا خطاه أما يأن لك أن تتوبا
ألا فاقلع وتب واجهد فإنا رأينا كل مجتهد مصيبا
وأقبل صادقاً في العزم واقصد جناباً للمنيب له رحيبا
وكن للصالحين أخاً وخلاً وكن في هذه الدنيا غريبا
وغض عن المحارم منك طرفاً طموحاً يفتن الرجل الأريبا
فخائنة العيون كأسد غاب إذا ما أهملت وثبت وثوبا
ولا تطلق لسانك في كلام يجر عليك أحقاداً وحوبا
ولا يبرح لسانك كل وقت بذكر الله رياناً رطيبا
وصلِّ إذا الدجى أرخى سدولاً ولا تضجر به وتكن هيوبا
تجد أنساً إذا أودعت قبراً وفارقت المعاشر والنسيبا
وصم ما تستطيع تجده ريا إذا ما قمت ظمئانا سغيبا
وكن متصدقاً سراً وجهراً ولا تبخل وكن سمحاً وهوبا
تجد ما قدمته يداك ظلاً إذا ما اشتد بالناس الكروبا
وكن حسناً السجايا ذا حياء طليق الوجه لا شكساً غضوبا
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من التائبين المنيبين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات والحسنات وحب المساكين، اللهم إنا نسألك ترك المنكرات، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الأخيار، الأتقياء الأخفياء الحنفاء، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.(90/24)
استنهاض الهمم للعمل للإسلام
إن العمل للإسلام واجب لا مفر منه، ولا يشترط العمل للإسلام عمراً محدداً، بل يجب العمل له في جميع مراحل العمر، وإن من أكبر المعوقات التي تعيق عن العمل للإسلام هي الدنيا والانشغال بملذاتها والتمتع بها، فالله الله في استنهاض الهمم للعمل له، والحذر من المعوقات التي قد تعيقنا عن ذلك.(91/1)
العمل للإسلام واجب لا يقف عند حد معين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا بالعمل، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل للدين -يا عباد الله- هو حياة الإنسان المسلم الذي يعبد الله سبحانه وتعالى على بصيرة العمل وترك البطالة والكسل هو منهج حياتنا العمل للإسلام واغتنام الفرص لأجل ذلك العمل لإعزاز دين الله العمل لرفع راية لا إله إلا الله.
إن العمل -أيها المسلمون- هو ما ينبغي علينا أن نقوم به، لأن من حق الله عز وجل علينا أن نعمل لدينه، وأن نقوم بما يريده منا سبحانه وتعالى، ولذلك خلقنا لأجل أن نعمل.
أيها المسلمون: إن العمل للإسلام واجب لا مفر منه، وإن المعوقات عن هذا الواجب لا بد من إزالتها والتغلب عليها، والعمل للإسلام في جميع مراحل العمر، فإن من نعم الله علينا في هذا الدين أن العمل له صالح في كل الأعمار، للصغير والكبير، والذين يقولون: إن السن قد تقدم ولا مجال للعمل، وقد رق العظم، وظهر الشيب، فلنتركه للشباب إن هؤلاء ما فقهوا دين الله تعالى، وقد قال عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
قال الحسن البصري رحمه الله: [لم يجعل الله للعبد أجلاً في العمل الصالح دون الموت] فالنهاية التي نقف عندها هي الموت، ألم تر أن ورقة بن نوفل رضي الله تعالى عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً).
هذا مع كبر سنه وذهاب بصره، وتمنى أن يكون فيها جذعاً قوياً عندما يظهر أمر الدعوة، ليقوم بالواجب إن مثل هذه الأمنية تنفع صاحبها عند الله، لأن نيته حسنة.
وقال أبو طلحة الأنصاري لما قرأ سورة براءة، وأتى على هذه الآية: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] قال: [أرى ربنا عز وجل استنفرنا شيوخاً وشباباً، جهزوني أي بني.
فقال بنوه: يرحمك الله! قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر رضي الله عنه حتى مات، ومع عمر رضي الله عنه حتى مات، فنحن نغزو عنك، فأبى، فجهزوه فركب البحر، فمات غازياً في البحر في سبيل الله، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، ولم يتغير، فدفنوه فيها].
أيها المسلمون: إن العبد لا يجوز له أن يطعم طعم الراحة التامة والنهائية من العمل ولا يستريح إلا بالموت، بل قال الإمام أحمد رحمه الله لما سئل: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة.
وهؤلاء الأنبياء بعثوا بعد الأربعين، وعملوا إلى الموت، وهذا عمر رضي الله عنه يعمل في مصالح المسلمين، وهو مطعون وجرحه يثعب دماً!!(91/2)
خطر الانهماك في الدنيا على حساب العمل للإسلام
أيها المسلمون: إن الدنيا تشغلنا عن العمل للإسلام كثيراً، وإن أوقات الكثيرين لتذهب في قضايا الدنيا، وبعضهم يعمل مع أنه يكسب أكثر من حاجته، لكن الطمع في الدنيا يجعله يعمل زيادة، ولو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى أن يكون له ثان، وهكذا فإذا قنعك الله -يا عبد الله- بما رزقك، فاستعمل بقية وقتك في خدمة دينك، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فاتقوا الله وأجملوا في الطلب).
وإن الانهماك التام في الأعمال الدنيوية يضيع على العبد فرصاً عظيمة لنيل الأجر والثواب، فكيف بمن ينشغل بالدنيا عن عمل الآخرة؟! وقد مدح الله المؤمنين الذين يتركون عمل الدنيا عند حضور عمل الآخرة، فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:36 - 37].
وترى بعض الطلاب ينهمكون في دراسات قد لا تعود عليهم بفائدة في أمتهم ودينهم، ويعملون أكثر من المطلوب، ويستهلكون وقت اليوم كله في أمور الدنيا، كما يستهلكه أولئك التجار وغيرهم من العاملين للدنيا، من عمل إلى عمل، ومن قضية إلى قضية، إلى آخر اليوم فماذا بقي للآخرة إذاً؟ يا أخا الإسلام: أين العمل للآخرة في برنامجك اليومي؟ هذه الصلوات تؤديها، لكن العمل لإعزاز الدين ونشره والدعوة إليه أين هو في حياتك؟ أين إقامة الإسلام؟ أين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أين تعليم الشرع؟ أين نصح الناس في حياتك؟ لما تخاذل أكثر المسلمين عن نشر الدين؛ صرنا في هذه المنزلة الوضيعة بين الخلق، وكثيرٌ من الموظفين لا يغتنمون مجالات الدعوة في وظائفهم لنشر الإسلام، والدعوة إليه، ونصح الخلق.
خذ على سبيل المثال: هؤلاء الأطباء الذين يحتكون يومياً ويتعاملون مع المرضى، ومن أسهل شيء عليهم أن يقوموا بدعوة المرضى للتمسك بالدين، من خلال المعالجة التي يقومون بها، فماذا قدم هؤلاء وغيرهم من أصحاب المكاتب لأجل الدين، حتى في وسط العمل، وفي وسط الموظفين الذين يعملون معهم؟ كم أمروا شخصاً بإقامة الصلاة؟ وكم نهوا شخصاً عن منكر ومعصية؟ وكم نصحوا للدين وأخلصوا لله؟ أيها المسلمون: إنها مسئولية سوف نحاسب عليها، يقول تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44].
عباد الله: إن بعض الناس أتوا من فساد تصورهم، فتركوا العمل للدين، وقالوا: إن القضية ليست قضيتنا، ونحن نتركها للدعاة العاملين، وأنا مقصر لست ملتزماً بكثير من الأحكام، فليست الدعوة من شأني ولا من وظيفتي، وليس إقامة الدين والنصح من أمري كيف -أيها الأخ المسلم- تقول ذلك؟ إن نشر الدين ليس مقتصراً على طبقة دون طبقة، ولا على مستوى دون مستوى، ولا على نوعية من المسلمين دون أخرى، بل كلنا دعاة وكلنا ناصحون، وكلنا يجب أن نقوم بأمر الدين، قال الله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133].
أين المسارعة في الخيرات؟ {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61]، كل واحد يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى- وقد تبين بذلك أن الدعوة نفسها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فإذاً لا بد لكل إنسان أن يقوم بذلك، ليس نهياً عن المنكر فقط، وإنما أمر بالمعروف أيضاً، وإنما هو تعليم للدين، وإرشاد ونصح.(91/3)
خطر الاشتغال بنقد الآخرين عن العمل للإسلام
أيها الإخوة: أيها المسلمون: كم من الخلل والعيب يكون عندما ينشغل الإنسان عن العمل بنقد الآخرين، فيكون شأنه أن يلمز هذا، ويسخر من هذا، وينتقص هذا من الدعاة العاملين، وهو لا يعمل شيئاً؟! أيها الإخوة: إن الذي يعمل هو الذي يخطئ، والذي لا يعمل قد لا يُرى منه خطأ، فلا يغرنك ألا ينتقد شخص، فربما يكون سبب عدم انتقاده أنه لا يعمل أصلاً.(91/4)
مشكلة ترك العمل لأجل الناس
إيها الإخوة: إن حساسية بعض الناس من النقد تجعله يترك العمل، ويقول في نفسه: لماذا أصبر على لوم الناس؟ وما الذي يجبرني على تحمل هذه الانتقادات؟ فيترك العمل، وهل الدين إلا مناصحة، ودلٌّ على العيوب؟ كما قال عمر رضي الله عنه داعياً ربه: [رحم الله امرأً أهدى إلينا عيوبنا] وكذلك كان الصالحون يطلبون النقد لأعمالهم والتصحيح، ولذلك قال ميمون بن مهران رحمه الله: قولوا لي ما أكره في وجهي، لأن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره.
وليس المقصود إساءة الأدب، ولا التطاول والتعدي، ولكن يكون النصح في بعض الأحيان ثقيلاً على النفس؛ لأن فيه نوع انتقاد، ألا فلا ينبغي أن يمنع هذا، أو أن يترك الإنسان العمل لأجل خوف نقد الآخرين، فإن شخصية المسلم ليست شخصية هزيلة، وإن مرضاة الناس لا تقدم عنده على مرضاة الله عز وجل.
ثم إن بعض هؤلاء يقولون: إن الآخرين لا يقدرون جهودنا سبحان الله! وهل نحن نعمل لأجل أن يقدر الآخرون جهودنا؟ إننا نعمل لوجه الله {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] وكل ما لا يراد به وجه الله يضمحل ويذهب.
أيها الإخوة: إذا كان القصد أن يثني الناس على أعمالنا فقد هلكنا والله، فينبغي أن نعمل سواءً قدر الآخرون جهدنا وأثنوا علينا، أو لم يثنوا علينا، ذكرونا بخير أو ذكرونا بغيره، فإنه ينبغي علينا أن نعمل لأن الثناء من الله هو مقصودنا، وكذلك ينبغي أن يكون الثواب من الله عز وجل هو الباعث لنا على العمل، لا ثناء الناس ولا مدحهم.
أيها الإخوة: إننا في حال نحتاج فيه إلى أن نصبر أنفسنا مع العمل للإسلام، وألا نتغير مزاجياً مع الأمور والأودية والأنواع والمجالات، فلا نتم هذا ولا نتم هذا، بل (إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه) فإذا أمسكت بعمل -يا عبد الله- فأتمه وأتقنه.
ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام
فاثبت عليه وأتمه وأتقنه، وعند ذلك تكون منجزات تحسب لك عند الله عز وجل، أما الانقطاع في منتصف الطريق، والتغير من مكان إلى مكان، دون أن يكون في ذلك مصلحة شرعية، فهي من خدع إبليس، يريدك ألا تتم هذا ولا تكمل هذا، حتى لا تظهر الثمرة ولا يُنتفع بالعمل.(91/5)
حقيقة الحياة الكريمة
عباد الله: إن بعض الناس يريد الحياة أن تكون سهلة مريحة، خالية من كل ما يكدر الخاطر ويتعب البال، وهذه حياة ليست والله بحياة كريمة، فإن المسلم ينبغي أن يسعى في طاعة ربه، ولو كان ذلك متعباً، ولو كان ذلك قاسياً، ولو كان ذلك شاقاً، لأنه يريد الحياة المريحة في الجنة.
قالوا السعادة في السكون وفي الخمول وفي الجمود
في العيش بين الأهل لا في المشي عيش المهاجر والطريد
خلف الركب في دعة وفي خطو وئيد
في أن تقول كما يقال فلا اعتراض ولا ردود
قلت الحياة التحرك لا السكون ولا الهمود
وهي التلذذ بالمتاعب لا التلذذ بالرقود
هي أن تذود عن الحياض وأي حر لا يذود
هي أن تحس بأن كأس الذل من ماء صديد
فإذا أحس الإنسان بأن ما يتجرعه المسلمون من الذل اليوم هو من ماء صديد، فإنه يرفض أن يتجرع الكأس مع الآخرين، فينهض للعمل، وينفض عنه غبار النوم والكسل، ويقوم لله تعالى بالواجب والمطلوب.(91/6)
الصلة بالله تبعث على العمل للإسلام
عباد الله: إن العمل لا يعظم ولا يندفع الإنسان له -ونتحدث عن عمل الآخرة بالذات- إلا إذا كان للمرء صلة قوية بربه، ولذلك كان العابدون أعظم المندفعين للعمل، لأن صلتهم القوية بالله عز وجل كانت تجعلهم يغتنمون أوقاتهم في العمل للدين.
قال الوليد بن مسلم رحمه الله تعالى: رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه، يذكر الله حتى تطلع الشمس.
وأخبروا عن بعض السلف أنهم كان هذا هديهم، في ذكر الله إلى طلوع الشمس، ثم يقوم بعضهم إلى بعض -بعد الخلوة والعبادة الفردية- يفيضون في ذكر الله تعالى، والتفقه في دينه، قال ضمرة بن ربيعة: حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة، فما رأيته مضطجعاً في المحمل، كان يصلي فإذا غلبه النوم أستند إلى القتب، وكان يحيي الليل صلاة وقرآناً وبكاءً، حتى إن أمه كانت تدخل منزله وتتفقد موضع مصلاه، فتجده رطباً من دموعه في الليل.
قال ابن جريج: صحبت عطاء ثماني عشرة سنة، وكان بعدما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة، فيقرأ مائتي آية من البقرة، وهو قائم لا يزول منه شيء ولا يتحرك فكيف إذاً كان لما كان قوياً؟! وكان الربيع بن خثيم يبكي حتى يبل لحيته من دموعه ثم يقول: أدركنا قوماً كنا في جنبهم لصوصاً.
أي: إذا نسبنا أنفسنا إليهم، وأعمالنا إلى أعمالهم، كنا في جنبهم لصوصاً، وهكذا يقول مع شدة عمله.
أيها الإخوة: إن العمل في النهار يحتاج إلى عبادة بالليل، والعمل في الضحى يحتاج إلى ذكر بعد الفجر، وهكذا إذا كان الإنسان حسن الصلة بالله قوي العبادة، كان ذلك زاداً له في طريق الدعوة، وتحصيل العلم، ونشر الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم إن من أكثر ما ذبح أولئك الذين يريدون العمل: زوجات غير صالحات، أشغلنهم في أمور الدنيا، وأركبنهم مطاياها، وذهبن بهم في أوديتها، كما قال الإمام مالك رحمه الله: ينطلق أحدهم فيتزوج امرأة قد سمنها أبواها وترفوها، حتى كأنها زبدة، يتزوجها فتأخذ بقلبه، فيقول لها: أي شيء تريدين؟ فتقول: كذا وكذا.
فيأتي به، ثم يقول: أي شيء تريدين؟ فتقول: كذا وكذا.
فيأتي به، فتمرط والله دينه وتمزق، ولو أنه تزوج يتيمة ضعيفة كساها أُجِرَ على ذلك.
إذاً: ينبغي أن يكون إرضاء الله مقدماً على إرضاء الزوجات والأولاد، ولكلٍّ حقٌ يجب القيام به: (إن لربك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حق حقه).
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من العاملين لدينك يا رب العالمين، اللهم اهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم إنا نسألك الرشد في الأمر، والعزيمة على الرشد، ونسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.(91/7)
أهمية مرافقة الصالحين
الحمد لله معز من أطاعه ومذل من عصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والبشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: إن من أعظم الأسباب الداعية إلى مواصلة العمل للإسلام وعدم تركه: أن يكون الإنسان مع العاملين المخلصين أن يؤاخيهم، ويرافقهم، وألا ينفصل عنهم المحيا محياهم، والممات مماتهم، وهكذا يكون معهم أخاً صادقاً {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] يكونون كالبنيان المرصوص في مواجهة كيد الأعداء، ويكونون كالجسد الواحد في التآخي فيما بينهم، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى إن الانفصال عن الأخيار العاملين هو الداء الوبيل، وهو الشر الكبير.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) وذكَّرنا بأن يد الله مع الجماعة، وذكَّرنا بأن البركة في ثلاث: في الجماعة، والثريد، والسحور.
إذاً: الجماعة المجتمعون على الخير بركة، فإذا كنت مع الأخيار عملت، وأججوك وأزوك للعمل ودفعوك، واقتديت بهم، ونلت نصيحة أو حافزاً وحماساً، أو تسديداً وستراً على عيب، وتكميلاً لشخصية، واقتباس خلق، وعلم، ونحو ذلك من الفوائد العظيمة.(91/8)
المعاصي وأثرها في العمل
عباد الله: أيها المسلمون! إن المعاصي من شر ما يقطع الإنسان عن العمل للدين، وإن الشيطان ليستثمر المعصية استثماراً ويرابي فيها، بحيث تكون قاطعة عن الله والدار الآخرة، ولا يزال يقول لمن اتبع دربه ومشى في ركبه: أنت عاص مقصر، لا يليق بك أن تدعو وتعمل وتنصح ولا شك أن هذا في الحقيقة إضافة تقصير إلى تقصير، فلو أن المقصر ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأجل هذه الحجة الواهية، التي ليست بحجة أصلاً، فماذا سيحدث أيها الإخوة؟ إنه سيضيف إلى معاصيه وتقصيره معصية وتقصيراً آخراً، وهو ترك إنكار المنكر الواجب، وترك النصيحة الواجبة في الدين.
وهكذا يتنقل الشيطان بالمرء من حفرة إلى حفرة، وينزل به سلم الدرج حتى يورده قاع الذل والهزيمة والمعصية، فإياكم -يا عباد الله- من الاستجابة لهذه الخدعة الإبليسية!!(91/9)
خطر الكسل والخمول وعلاجه
أيها المسلمون: إن الإنسان المسلم قد تعرض له عوارض، فيعرض له ضعف، ويعرض له شيء من الكسل والخمول، فعليه أن يزيله بالإقبال على الله، والانطراح بين يديه، والذل عنده يقف ويناشد ربه أن يعيد إليه إيمانه جذوة مشتعلة، وحماسة متقدة، وأن يأخذ بيده إلى سبيل الطاعة والنهوض بنفسه مرة أخرى، ويطلب من إخوانه المسلمين أن يكونوا عوناً له ومدداً في تجاوز هذا الحال المؤقت.
إن هذه المنعطفات الموجودة في طريق الطاعة عند كثير من الناس ينبغي أن يتغلب عليها لا أن يستسلم لها، وأن نأخذ من كتاب ربنا ومن سيرة سلفنا ونبينا إمامهم وقدوتهم العلاج في مواجهة مثل هذه الحالات التي تحدث لدينا من كسل أو خمول أو تباطؤ أو فتور، بل حتى وانتكاس، لنعود مرة أخرى متغذين بهذه المحفزات لأعمال الخيرات، وأن نرجع مرة أخرى إلى الطريق كما كنا وأفضل مما كنا، والسعيد من عرف كيف يعالج نفسه، ولو أنك لم تهتد إلى علاج فسألت من إخوانك من يدلك على الطريق والعلاج لكان ذلك من الحكمة العظيمة.(91/10)
ضرورة الصبر والمصابرة في العمل للإسلام
أيها الإخوة: إن القضية تحتاج إلى مكابدة، وإلى تعب نفس {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت:14] فهذا نوحٌ يدعو قومه تسعمائة وخمسين عاماً من غير كلل ولا ملل، هذه الهمة العالية من نبي الله الكريم في القيام بالواجب، وحتى التغلب على عيوب النفس يحتاج إلى مصابرة، قال ابن المنكدر: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت.
وكذلك قال ثابت البناني عن الصلاة: كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة.
وهذه العبارة توضح لك -يا عبد الله- كيف تتم المصابرة في موضوع مثل قيام الليل، الذي يكون شاقاً على النفس، ومراً عندما يحاول الإنسان أن يفعله وأن يطيل فيه، ولكن الحل والعلاج هو الاستمرار حتى تأتي الحلاوة، فإن الحلاوة قد لا تأتي إلا بعد وقت من الزمن.
أيها الإخوة: إن الاستمرار في الأعمال يرزق الإنسان به حلاوة إيمان يستشعر طعمها حتى يفارق الدنيا، فهذا ربيعة بن يزيد ما أذن المؤذن لصلاة الظهر أربعين سنة إلا وهو في المسجد، إلا إذا كان مريضاً أو مسافراً.
وهذا بشر بن الحسن الصفي، سمي بالصفي لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة.
وهكذا كانت الأعمال ترتقي بهم من مرحلة إلى مرحلة حتى يحس المعاشر لهم أنهم يزدادون كل يوم، وهذه هي القضية العظيمة.
قال إبراهيم الحربي -رحمه الله- وهو من أصحاب الإمام أحمد عن شيخه: ولقد صحبته عشرين سنة صيفاً وشتاء، وحراً وبرداً، وليلاً ونهاراً، فما لقيته في يوم إلا وهو زائد فيه عما بالأمس.
يا مطعوناً في العزم: أين أنت والطريق؟! طريق تعب فيه آدم، وبكى لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، وأضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف نحن باللهو واللعب؟ أيها المسلمون: عباد الله! ليكن شعارنا: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] كيف يهنأ المسلم بعيش ويرتاح له بال؟! وهو يرى أفراد أمته يجرون وراء اليهود والنصارى والكفار تشبهاً بهم.
وما جرى في يوم عيد الحب ببعيد، عندما رأيت أنواع هذه الترهات يبيعها الناس في أسواقهم، الورود والبطاقات، وترسل التهاني عبر شبكة نسيج العنكبوت، وغير ذلك من أنواع التبادل، وتتحدث القنوات عن قضية عيد الحب، وتنتهي الورود الحمراء من المحلات، وتتقاذف القلوب الأوراق المقصوصة وغيرها على هيئة القلوب، تتنقل في أيدي شبابنا وبناتنا.
هذه الغيرة التي تأخذ بنفس الإنسان المسلم، والحسرة والغصة مما يتجرعه من هذا المرأى الشنيع لبنات وشباب من آباء وأمهات مسلمين، يعيشون مع المسلمين، ثم يصل بهم الانحدار إلى أن يركبوا مركب الكفار، ويسيروا في ركبهم، ثم تعمل الحفلات، وتسمع عن الديجيه وغير ذلك من أنواع الموسيقى والرقصات أناسٌ يهيمون في أودية إبليس، والشيطان يستجرهم هذا مثل واحد.
ثم تجد في المقابل مذابح الشيشان، وتجد الطعن في العيون، وبقر البطون، وأنواع الاغتصاب، والإذلال والمجاعة مدن تهدم بأكملها على رءوس قاطنيها، وعاصمتهم تغلق، ومحصورون في الجبال وفي الثلوج والجوع، ثم هؤلاء يهيمون في الأسواق والمراكز التجارية وعلى الشواطئ يلعبون بالكفر والتشبه بالكفرة تهدم العقيدة، ويزلزل الدين، ويتشبه بالكفرة الذين يقاتلوننا.
إذاً أيها الإخوة: القضية والله تؤجج للعمل، وتدفع للمنازلة، والقدوم إلى ساحة الوغى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، كفى لعباً، وكفى لهواً ونوماً وكسلاً، انفضوا ذلك الغبار، وقوموا لله بالواجب، وإلا فإن السفينة ستغرق والله.
اللهم إنا نسألك الهداية لنا وللمسلمين جميعاً، اللهم ردنا إلى الإسلام رداً جميلاً، ونعوذ بك من غضبك وعقابك، ونعوذ بك من همزات الشياطين وأن يحضرون يا رب العالمين.
اللهم فقهنا في ديننا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، اللهم اجعل حياتنا على التوحيد، واجعل مماتنا على التوحيد، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك.
اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً يا رب العالمين، ومن أراد بلدنا هذا بسوء فاشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، اللهم ومن أراد المسلمين في هذا البلد وفي غيره من بلدان المسلمين بسوء اللهم فأرنا فيه عجائب قدرتك يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(91/11)
استوصوا بالتائبين خيراً
إن العناية بالتائبين من الأمور التي أكد عليها الشرع، وراعاها النبي صلى الله عليه وسلم وعلمها أصحابه، وهي الآن منوطة بالدعاة إلى الله؛ إذ يجب عليهم أن يتعلموا كيفية التعامل معهم، فهم وإن كان ماضيهم في عصيان فإن حاضرهم طاعة، ومخالطتهم تزيد الإيمان إلى هذا أشار الشيخ في هذه المادة، كما أشار إلى أن التوبة ضرورية لكل فرد وإن كان صالحاً(92/1)
بيان أهمية توبة الصالحين
الحمد لله العزيز الوهاب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، لا إله إلا هو، إليه أدعو وإليه متاب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد خير من استغفر وأناب، وعلى آله وصحبه أولو الأيدي والألباب، وعلى من سار على نهجه واقتفى سنته إلى يوم الحساب.
أيها الإخوة: نحن نعيش في وقت نشهد فيه رجعة من المسلمين إلى الله واضحة، وكثير من الناس صاروا ما بين تائب وأوَّاب، وتيمم كثير منهم شطر المسجد والمحراب، يريدون المغفرة من ربهم ويواصلون قرع الأبواب، والدعاة إلى الله في مواقفهم من هؤلاء التائبين العائدين إلى ربهم يحتاجون إلى تعلم الحكمة وكيفية الخطاب، فكان لابد لاستقبال هؤلاء التائبين الجدد من إعداد العدة والأخذ بالأسباب.
وقد سبق أن تكلمنا في لقاء منفصل عن التوبة وأهميتها وعوائقها، وكيف تزال هذه العوائق، ونحن نتكلم الآن في لقاء موجه إلى الدعاة إلى الله أكثر من غيرهم عن هذه المسألة.
ونحن نعلم -أيها الإخوة- أن الحديث عن موضوع التوبة حديث ذو شجون، فإن آثام الناس في هذا العصر قد كثرت، وتبين لكثير من المخطئين خطأهم وذنوبهم، وأرادوا أن يرجعوا إلى الله عز وجل، والتوبة فيها تجديد لمعاني أسماء الله وصفاته في النفس، فإنه يتبين في قلب التائب من معاني أسماء الله: التواب، الكريم، الواسع، الغفار، الغفور، الرحمن، الرحيم، ومن صفاته: أنه غافر الذنب، وقابل التوب سبحانه وتعالى.
وموضوع التوبة بالنسبة للصالحين موضوع مهم، فإن الكثير يطرق موضوع التوبة بالنسبة للمذنبين العصاة، ولا يطلق موضوع التوبة بالنسبة للصالحين والدعاة إلى الله إلا قليلاً، علماً بأن الجميع يحتاج هذا الموضوع من أكبر صالح إلى أكبر مذنب.
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة، فما بالنا نحن العبيد المقصرون؟! وماذا يكون حالنا في هذا الميزان، ونحن نرى رسولنا صلى الله عليه وسلم كان يفعل ما يفعل؟! وموضوع التوبة بالنسبة للصالحين له مجالات متعددة، فإن هذا الصالح كان في يوم من الأيام مذنباً، ثم تاب إلى الله وأصبح صالحاً، ولكن هذه الفترة التي مضت من عمره كان فيها منغمساً في أوحال الذنوب والمعاصي، ثم أحدث التوبة بعد ذلك، هذه الفترة التي مضت دون توبة عاجلة، وتأخرت توبته سنوات، ثم صلح حاله بعد ذلك، هذه التوبة تحتاج إلى توبة من تأخير التوبة.
لأننا في كثير من الأحيان نذنب، أو نكون قد أذنبنا في فترات ماضية، ولكن لم نتب إلا بعدها بسنوات، إذاً فهذا التأخير الحاصل بالنسبة للتوبة هو ذنب مستقل يحتاج إلى توبة، وكذلك فإن هناك كثيراً من الأمراض التي تنتاب بعض الصالحين مثل: غرور العبادة، والتألي على الله عز وجل، والاستكبار في الأرض، ومشاهدة بعض الناس لأعمالهم الصالحة، ودخول الرياء على الكثيرين حتى من الصالحين، وحب الرئاسة والظهور من الأمراض التي لا يسلم منها إلا النادر من الناس.(92/2)
التوبة مهمة لأصلح الصلحاء كأكبر الفجار
والذي يظن أن موضوع التوبة هو مهم فقط بالنسبة للعصاة المذنبين أرباب الفواحش والمنكرات إنسان مخطئ جداً؛ لأننا في كل يوم نقصر في حق الله عز وجل، وقد لفت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله النظر إلى مسألة مهمة فقال: إن الذنوب تحصل في نوعين: ترك الواجبات، وفعل المحرمات.
وكثير من الناس الذين يبدو على ظاهرهم الالتزام بهذا الدين والعمل له؛ يتركون أشياء من الواجبات، فهم قد لا يقعون في منكرات وفواحش، لكنهم يتركون أشياء من الواجبات، وهذا الترك يحتاج إلى توبة، وهذا التقصير لابد من استدراكه بالاستغفار والندم، والعزم على المواصلة، والسير إلى الله سيراً حثيثاً.
وكثير من الذين يشتغلون بالدعوة إلى الله عز وجل يصابون بآفات وأمراض أثناء سيرهم في الطريق؛ من أنواع البرود والتقهقر والتراجع، وغيبة تخرج مخرج جرح وتعديل ليست عند الله شيئاً، وطعن بعضهم في بعض، والذي يحصل في قلوب بعضهم من التكبر على خلق الله هو في الحقيقة مرضٌ مزمن وخطير يحتاج إلى توبة.
أضف إلى ذلك احتقار بعض الصالحين لبعض المذنبين، والنظر إليهم بعين النقص؛ مع أنهم ربما يكونون في حالة ندم ترتفع معها أعمال قلوبهم في بعض الأحيان، لتكون أحسن من أعمال قلوب بعض الصالحين الذين حصل في نفوسهم هذا الكبر والغرور والاحتقار لخلق الله، وسنضرب لذلك أمثلة ونسوق عليها أدلة يتبين فيها حجم هذه المشكلة.(92/3)
التوبة العامة وأهميتها
أيها الإخوة: إن التوبة من أنواع الذنوب، سواء كانت ترك واجبات أو فعل محرمات مثل الاستفراغ والقيء الذي يتقيؤه المريض لإخراج ما في بطنه من أنواع العفن والمواد الضارة بالجسم، وكذلك هي مثل الترياق والدواء المستخدم ضد السموم، هذه لفتة عن أهمية التوبة.
أضف إلى ذلك أن كثيراً من المسلمين لا يتوبون توبة عامة، لكن إذا أذنب ذنباً تاب منه بالذات، فإذا نظر إلى امرأة أجنبية في السوق قال: أستغفر الله وأتوب إليه، لكنه ينسى التوبة العامة غير المرتبطة بذنب معين، وهذه هي التوبة التي كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يتوب منها، وهذه التوبة العامة يغفل عنها حتى الدعاة إلى الله عز وجل، وعن تجديدها في كل حين ووقت.
ألا ترى أن المسلم قد يذنب ذنباً وهو لا يرى أنه قد أذنب! ألا ترى للدعاء الذي يقول فيه المسلم: (اللهم إني أستغفرك مما أعلم ومما لا أعلم) لأننا في كثير من الأحيان نقع في ذنوب دون أن نشعر أننا قد وقعنا فيها.
وكذلك قد يكون الإنسان واقعاً في بدعة من البدع يظنها عملاً صالحاً، ثم يتبين له بعد ذلك أنها عمل غير صالح، وأنها مخالفة لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله وهديه وسنته، هذا الرجل لا يشعر عندما فعل تلك الأعمال أنه اقترف ذنوباً ليست فواحش ولا كبائر في نظره، لكن بعد ذلك عندما يشعر أنه كان يعبد الله على غير بصيرة في بعض المسائل فهو محتاج إلى توبة من هذه النوعية أيضاً.
وقد يتلطخ الإنسان ببعض أمور الجاهلية وإن نشأ بين أهل علم ودين، وأذكر هذه الملاحظة لكثير من الإخوان الذين يعيشون في بعض البيئات الصالحة، فإنهم بالرغم من معيشتهم في وسط أناس صالحين، وبين أهل علم ودين، إلا أنهم لا يسلمون من الوقوع في بعض المعاصي والتلطخ بها، والشيطان يدخل على الصالحين من عدة مداخل، وقد يدخلهم في أنواع من البدع.
ولذلك لابد من تجديد التوبة حتى لهؤلاء، ولذلك فإننا نقول أيضاً في هذا المقام: إن بعض الصالحين قد يتركون واجبات لا يعلمون وجوبها، وبعد ذلك يكتشف أن هذه الأشياء واجبة، وأنه كان قد تركها في الماضي جهلاً، وليس كل الناس يعذرون بجهلهم، لأننا نقول: الشخص الذي يعيش في بيئة فيها أهل العلم فالواجب أن يسألهم، فكونه يكتشف أنه كان قد ترك واجبات وهو لا يعلم أنها واجبات، ووقع في محرمات وهو لا يعلم أنها محرمات، نقول له: لماذا لا تسأل وتفكر بالسؤال؟ لماذا كنت تسير هكذا مع التيار دون تحقيق وتمحيص؟ أليس هذا قد يكون ذنباً يحتاج إلى التوبة والاستغفار؟(92/4)
تأخير التوبة إصرار على الذنب
واعلموا أيها الإخوة أن المسلم الذي يؤخر التوبة إلى أمد معين هو مصر على الذنب، فبعض الناس يقول: إذا جاء رمضان فسوف أتوب، وهو عازم على التوبة في رمضان، ولكنه رجل مذنب مصر على الذنب، ويطلق عليه أنه يصر على الذنب؛ لأن المفروض عليه المبادرة بالتوبة ولا يجوز تأخيرها إلى أمد معين، ولكن كثيراً من الناس عندهم هذا المبدأ وهذا المفهوم يقول: عندما يأتي رمضان سأتوب إن شاء الله توبة كاملة، ويقول بعضهم: سأذهب إلى العمرة وأتوب، ولن أعمل بعدها أي عمل سيء، وبعضهم يقول: إلى الحج وبعد الحج سأتوب.
وما يدريه أنه سيعيش إلى رمضان أو الحج؟! هذا أولاً، وثانياً: لو عاش إلى رمضان أو الحج أليس هذا التأخير الذي تأخره في التوبة ذنباً يستحق التوبة أيضاً ولو تاب في رمضان أو الحج؟! لكن هذا التأخير هو إصرار يحتاج إلى توبة، وكون الإنسان يعزم على التوبة بعد فترة من الزمن لا يعفيه من الذنب، ولا ينفعه عند الله عز وجل في هذا الموضوع.
وكذلك فإن التوبة تحدث في النفس من الآثار الحسنة في الاندفاع نحو الطاعات أموراً كثيرة، وتجعل الإنسان المسلم يحس بالتقصير، ويحس بأنه دائماً لا يفعل ما يجب عليه من الحقوق تجاه ربه، وهذا الشخص الذي يستشعر النقص دائماً يستمر في الأعمال الصالحة؛ لأنه يعلم علم اليقين أنه مهما عمل من الأعمال الصالحة فإنه لا يزال مقصراً، ولو أنه فكر في هذه الأعمال الصالحة من الصلوات والزكوات والعبادات، وطلب العلم، والدعوة إلى الله، ثم وزنها ببعض نعم الله عليه مثل السمع والبصر والفؤاد، لوجد أنها لا تساوي شيئاً.
فإذا كنا مهما عبدنا الله لن نؤدي شكر النعم فقط، فكيف بالواجبات التي أوجبها علينا؟! بعض الصالحين قد يقع في أخطاء في حقوق إخوانه المسلمين، أو قراباته أو جيرانه، فهذا عليه ألا ينسى الدعاء والاستغفار لهم بظهر الغيب؛ لأن ذلك يعوض هذا التقصير في الحقوق تجاههم.
ونحن بشر لا نسلم من التقصير، قد تكون أنت تطلب العلم وتدعو إلى الله عز وجل، ومع ذلك أنت مقصر في حقوق أقربائك، وقد تكون أخطأت في الموازنة بين الواجبات المترتبة عليك، لذلك يكون الاستغفار لمن قصرت في حقه من عباد الله والدعاء له من الأشياء التي تنفع في إصلاح ذلك النقص والخلل.(92/5)
التوبة من التقصير والخلل
ونأتي الآن إلى بيان نوع آخر من أنواع التوبة التي يحتاج إليها الصالحون، ألا وهو التوبة من التقصير والخلل الذي يحدث في عباداتهم، فلو أنك أتيت بأصلح الناس حالاً، ثم قلت له: هل ترى بأنك قد خشعت في جميع صلواتك؟ وهل ترى بأنك قد جاهدت الشيطان -في الصلاة فقط- حق الجهاد؟ وهل ترى بأنك في الحج لم تؤذ أحداً من عباد الله البتة في الزحام ونحوه؟ وهل ترى بأنك قد قمت بهذا العمل بالضبط كما هو الواجب فيه، أم أن الخلل والتقصير ملازم لي ولك في جميع أعمالنا الصالحة؟ فإذاً لابد من توبة أيضاً من هذه التقصيرات الحادثة في الأعمال الصالحة.(92/6)
استوصوا بالتائبين خيراً (نصائح وتوجيهات)
ثم دعونا الآن ندخل في صلب الموضع، وهو: استوصوا بالتائبين خيراً.
أيها الإخوة: نحن الآن في وقت تشهد فيه ديار ومجتمعات المسلمين -ولله الحمد- صحوة إسلامية، وهذه الصحوة -كما ذكرنا- صحوة مباركة عاد فيها كثير من الناس إلى الله عز وجل، وهناك أفواج كثيرة الآن تأتي إلى طريق الهداية، وإلى المساجد وحلق الذكر، هناك أناس كثيرون بدءوا يسألون عن المخرج ويريدون معرفة الطريق الصحيح، ودب في قلوبهم الندم على الماضي الأسود الذي خلفوه، هناك أناس كثيرون شعروا بالإفلاس التام بعد تلك المعاصي الكثيرة التي عملوها، وشعروا أنهم أهدروا سنوات طويلة من أعمارهم في لا شيء، بل في معصية الله.
هؤلاء القادمون إلى الطريق المفروض أن يستلمهم، ويأخذ بأيديهم، ويرشدهم ويعلمهم الدعاة إلى الله عز وجل، فهم الذين تقع على عواتقهم أهمية إرشاد هؤلاء التائبين إلى الطريق، واستقبال هذه الأفواج واحتواؤها في ضمن المجتمعات الإسلامية المصغرة؛ كلٌ بحسب طاقته وقدرته، حتى يقوى عود هذا التائب ويصلب، ولا ينكص ويعود، وكثيرٌ من الذين انتكسوا كان من أسباب انتكاسهم المواقف الخاطئة لبعض الدعاة، ولذلك يتحمل هؤلاء الذين لا يحسنون استقبال التائبين جزءاً من المسئولية عند الله في انتكاس هؤلاء المنتكسين.(92/7)
نظرة المسلمين الصالحين إلى أخيهم المسلم المذنب
ولذلك فإننا نقول الآن: ما هو موقع المذنب في المجتمع الإسلامي؟ كيف يجب أن تكون نظرة المسلمين الصالحين في المجتمع الإسلامي إلى أخيهم المسلم المذنب؟ بعض الناس يقول: ينبغي أن تكون نظرة قاتمة؛ وعنده أن هذا الشخص الذي أذنب ينبغي أن نهجره ونقاطعه ولا نكلمه ولا نزوره ولا نسلم عليه؛ لأنه وقع في ذنب، وهذا الموقف في هذا الزمن بالذات في غاية الخطأ والخطورة؛ وإذا قاطعته وهجرته فهذا الهجر غير شرعي، فإن هناك آلافاً من شياطين الإنس مستعدون لإيوائه واحتوائه وجذبه إليهم.
كعب بن مالك رضي الله عنه، لما أخطأ وترك الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم للجهاد في مجتمع إسلامي الهجر فيه مفيد، قاطعه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر الصحابة بمقاطعته، ولكن ماذا فعل ملك غسان الكافر وأصحابه؟ لقد اصطادوا الخبر فوراً وأرادوا انتهازه، فكتب ملك غسان إلى فرد مسلم في المدينة رسالة، فجاء بها نبطي من أنباط الشام فدخل المدينة، وأخذ يسأل في السوق عن كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون إليه، يقول كعب: فأتاني فدفع إليّ رسالة من ملك غسان، يقول فيها: قد سمعنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك.
هذا موقف خطير جداً، ملك الكفار مهتم بموضوع شخص في المجتمع الإسلامي؛ لأن كيد أهل الباطل لأهل الإسلام لا يتوقف، ولذلك فهم يحاولون الاصطياد في الماء العكر دائماً، وأي واحد يأنسوا فيه ضعفاً من الدعاة والصالحين حاولوا فوراً التقاطه وجذبه إليهم.
كعب بن مالك صحابي جليل فقيه، يعلم تماماً بمؤامرات أعداء الإسلام، ويعلم أن هذه محنة وابتلاء فصمد، قال كعب: فقلت في نفسي: وهذا أيضاً من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتها.
لكن قل لي: كم من المسلمين من لو وقع في ذنب، وصار عنده ضعف سيكون موقفه لو عرض عليه بعض أهل الباطل مثلما عرض على كعب؟ كم منهم سيكون موقفه مثل موقف كعب بن مالك رضي الله عنه؟ فاستوصوا بالتائبين خيراً، أول ما يقع الإنسان في الذنب فمن الخطأ الكبير أن نهجره مباشرة، فنقاطعه ولا نكلمه، ولا نسلم عليه ولا نزوره، ولا نعوده ولا نساعده في شيء، هذا خطأ كبير، إلا إذا كان الهجر نافعاً له -كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- وسيعيده إلى صوابه فعند ذلك نهجره، أما إذا كان هجره سيتسبب في إمعانه في الضلال وزيادته في الانتكاس، فإن من الجرم هجره والحالة هذه.(92/8)
حسن استقبال المذنب في المجتمع الإسلامي
ما هو موقع المذنب في المجتمع الإسلامي؟ إذا أخطأ شخص وندم، فإن أهل الوعي من المسلمين لابد أن يحسنوا استقباله مرة أخرى، حتى يرى المذنب أن المجال مفتوح أمامه، وأن خط الرجعة ممكن، فلا يمعن في الضلال والابتعاد.
وهذه الحادثة العظيمة التي رواها النسائي وغيره بإسناد صحيح عن ابن عباس تبين لكم هذا الفقه العظيم في باب الدعوة إلى الله في الموقف من المذنبين، كان هناك رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالمشركين، ثم تندم، هل هناك أكبر من الردة ذنباً؟ لا يوجد.
ثم تندم فأرسل إلى قومه: سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل لي من توبة؟ هذا الموقف يجب أن يستغل مباشرة، يمكن أن يأتي مذنب ويقول: أنا أشعر بالندم فهل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن فلاناً قد ندم، وإنه أمرنا أنا نسألك هل له من توبة؟ فنزل قول الله عز وجل: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران:86] حتى جاءت الآية التي فيها: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [آل عمران:89].
الذين تابوا بعد هذه الردة والظلم {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:89] فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم أن هناك مجالاً لك، فجاء فأسلم مرة أخرى، فما هو المطلوب؟ إن المطلوب أن يعود الشخص إلى الصراط المستقيم لأن هذا هو عين المطلوب.
حادثة أخرى تبين لنا الموقف: رجل من المسلمين شرب الخمر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجلده، قال أبو هريرة: فمنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه، فقال واحد من المسلمين: قاتلك الله! -أمام الناس- أو أخزاك الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم).
شخص أمسك به وقد ارتكب ذنباً وأقيم عليه الحد، فهو كفارة للذنب؛ لأن من أقيم عليه الحد في الدنيا وتاب؛ فإن هذا الحد كفارة للذنب.
فما هو الداعي لأن يقال لمثل هذا الشخص: أخزاك الله؟ هذا خطأ! ولذلك قال: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم) يطبق عليه الحد ويجلد، ولكن لا يدعى عليه، لا يقال له: أخزاك الله، فإن قلت له ذلك؛ ففد أعنت الشيطان عليه، وبدأ يكره هؤلاء الناس الذين يقولون له مثل هذه الكلمات.
قصة أخرى: أخرج أحمد والبيهقي عن أبي ماجدة قال: كنت قاعداً مع عبد الله بن مسعود، فقال: إني لأذكر أول رجل قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: حد السرقة- أُتي بسارق فأمر بقطعه فكأنما أسف وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قطعت يده، لاحظ الصحابة في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه أسف، فيه علامات تأسف على ما حصل.
(فقالوا: يا رسول الله! كأنك كرهت قطعه، قال: وما يمنعني؟ -لماذا لا أكره قطعه- لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم) إنه لا ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حد ألا يقيمه، إن الله عفو يحب العفو: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] قال الشيخ ناصر في السلسلة الصحيحة: هو عندي حسن.
فإذاً كان من الأولى أن يعفى عن هذا السارق، لكن مادام وقد رفع أمره، وثبتت عليه السرقة عند الإمام أو الوالي أو القاضي أو ولي الأمر، فلابد من إقامة الحدود، ولا يمكن أن تنفع بعد ذلك شفاعة ولا واسطة، وحتى لو تنازل المسروق منه فلابد من إقامة الحد إذا وصل إلى ولي الأمر، هذا حكم شرعي.
فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لو أن هذا الشخص ما أُتي به إلي، ولم تبلغني القضية، وسامحه الناس الذين سرق منهم ما قطعت يده، ونحن نتكلم عن هذه الحالة بالذات، ولا نتكلم عن شخص كثيرة جرائمه، وقد عمت البلوى وصار لا يسلم أحد من شره، لا.
هذا قد يكون في قطع يده إصلاحاً له.
وهناك أيضاً حادثة أخرى من السيرة تبين كيف كان المذنب يستقبل في المجتمع الإسلامي الأول، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه امرأة شريفة في القوم لها مكانة من بني مخزوم، هذه يحكم عليها بقطع يدها؟! فكانت هذه مشكلة عندهم، قالوا: من يتوسط فيها، ويكلم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يوجد أحد أبداً إلا أسامة، فهو أقرب الناس إليه، والرسول صلى الله عليه وسلم يحبه جداً، وهذا موضوع خطير وحساس لا يمكن أن يتكلم فيه إلا أسامة.
كلموا أسامة: توسط لنا عند رسول الله، فأُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمرأة، فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغضب، فقال: (أتشفع في حد من حدود الله) فقال أسامة وشعر بالذنب الشديد: استغفر لي يا رسول الله! أي: لأني تجرأت بأن أتوسط في حد من الحدود.
لا تجوز الوساطة في الحدود نهائياً، ومن أكبر الجرائم إخراج شخص قد حكم عليه بحد، وبلغ الإمام، فمن يتوسط له يبوء بإثم عظيم عند الله.
فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً، فأثنى على الله تعالى بما هو أهله، ثم قال: (أما بعد: فإنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقُطعت يدها أمام الناس).
هذه قصة معروفة للجميع، لكن الشيء الذي يجهله الكثير من الناس تكملة القصة، والقصة في صحيح مسلم، قالت عائشة: [فحسنت توبتها بعد -هذه المرأة السارقة تابت إلى الله، وحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت- وكانت تأتيني بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم] هذه عبارات عظيمة جداً ينبغي أن نقف عندها، هذه المرأة السارقة لما تابت لم تصبح منبوذة، لم ينظر الناس إليها بعين السخط والازدراء على ما وقع منها من ذنب، لقد وجدت لها مكاناً في المجتمع الإسلامي، لقد وجدت من يتزوجها، لقد كانت تأتي إلى عائشة فتفتح لها البيت وتستقبلها، بل لقد كانت حاجتها ترفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قائد الأمة، وأعلى رجل في الدولة الإسلامية.
إذاً هذا الاستقبال الحسن هو الذي يجعل التائب يواصل في التوبة عندما يشعر أن له مكاناً وأن الاستقبال حسن؛ فإنه يواصل في التوبة، ولكن في كثير من الأحيان لا يحسن البعض استقبال التائبين، وينظر إليهم بعين الازدراء والاحتقار والنقص؛ لأنه كان صاحب سجل في الماضي، فيرى نفسه منتقصاً، فيقول: الأحسن ألا أرجع إلى الناس الذين كنت معهم في الماضي، لماذا أعيش بين أناس ينظرون إلي بهذه النظرة؟ وهذا السيء في الاستقبال يتحمل إثم نكوص الشخص الذي كان قد تاب، ثم نظر إليه بهذه النظرة ولم يفسح له المجال، فهو يتحمل شيئاً من إثم هؤلاء الذين لم يحسن استقبالهم.(92/9)
أهمية الاعتناء بالتائبين
أيها الإخوة! استوصوا بالتائبين خيراً، لابد أن نلتقط الناس الذين تابوا نتيجة ظرف معين، لابد أن نبحث عنهم وندقق في الأحوال، ونتلمس هذه النوعية لكي تحاط بشيء من العناية والرعاية والاهتمام حتى يستكمل هذا الشخص المشوار.
مثال: هناك الآن أناس كثيرون بعد الحج والعمرة يتغيرون، بعد حادث سيارة يتغير، وبعد مرض يشفى منه يتغير، وهذا التغير قد لا يستمر، فالواجب على الدعاة إلى الله أن ينتهزوا الفرصة، وأن يبادروا مباشرة إلى هذا الشخص الذي تأثر الآن، وأن يضربوا على الحديد وهو حامٍ ليتشكل التشكل المطلوب، وهذه نقطة مهمة جداً؛ لأن بعض الناس يرى شخصاً ما جاء من الحج وتأثر، ولكن يقول: ألتفت إليه فيما بعد (يؤجله) الشخص هذا رجع من الحج، وجلس في فترة تأثر، ثم بدأ يضعف شيئاً فشيئاً، ويرجع إلى عادته الأولى، وإلى أصحابه القدامى، ويرجع إلى ما كان عليه، ثم تأتي إليه بعد ذلك بفترة لتجد الشخص قد رجع تماماً مثلما كان، الآن أثر الكلام لن يكون قوياً، والشخص الآن قد لا يتأثر، لكن لو جئته مباشرة بعد ذلك العمل الصالح الذي قام به، أو بعد ذلك المرض أو الحادث الذي نجا منه، فكلمته وأعطيته دفعات من أعمال الخير والأعمال الصالحة، ودللته على الحق وأبواب الخيرات، واهتممت به وراعيت أحواله، فإن حاله يتطور إلى المزيد.
فلابد أن يتلقف مثل هذا الشخص، ويحاط بمجموعة من أهل الخير، ويدخل في وسط طيب، ويصبح أصحابه من أهل الخير، ويصبح الرجل يشترك ويأتي في المناسبات الطيبة التي تحفظ عليه الإيمان الذي اكتسبه من هذه الحادثة، أو من هذا العمل الصالح الذي قام به.
هذه البذرة إذا لم تتعهد بالرعاية، ولم تسق بماء الإيمان فإنها تموت، ومن المسئول بالإضافة إلى الشخص نفسه؟ إن المسئول هو الداعية المقصر الذي لم يلتفت إليه وضيع الفرصة.(92/10)
مخالطة التائبين
استوصوا بالتائبين خيراً، هؤلاء التائبون الذين قدموا إلى طريق التوبة، وهم يشعرون بغاية الندم والأسى والأسف والحزن على ما مضى، والجلوس معهم أيها الإخوة يزيد الإيمان جرب هذا، قم واجلس مع شخص تاب الآن في هذه الأيام، اجلس معه سيزيد إيمانك فعلاً، ولو اهتديت قبله بسنوات طويلة، ولكن الواحد يصيبه البرود عبر الزمن حتى الأشخاص الصالحين، إذا جلست مع هؤلاء التائبين الجدد ستشعر بزيادة في الإيمان؛ لأنه شخص مقبل على الله يشعر بالندم والأسف، يريد الازدياد من الأعمال الصالحة.
ولذلك بعضهم يجرؤ على أعمال صالحة ويستطيعها، أو يقبل عليها ما لا يقبل عليها شخص صالح له في الطريق سنوات طويلة؛ لأنه جاء متحمساً لاستدراك ما فات، ولابد من فعل الحسنات لتمحو السيئات الماضيات.
ولذلك تجد من يقول: أريد أن أذهب لأعتمر وأحج وأعتكف وأصوم، أنا أصوم الإثنين والخميس، أنا أصوم يوماً وأترك يوماً، يفعل أشياء كثيرة جداً، قد يقرأ القرآن كثيراً، قد يبكي من خشية الله، فلو جعلت تائباً الآن في هذه المرحلة الجديدة من حياته إماماً للناس، لوجدت أن القلوب تخشع وراءه في الصلاة وهو يتلو القرآن ما لا تخشع وراء رجل سار لسنوات في طريق الهداية في بعض الأحيان.
لأن هذه النفسية المقبلة على الله، والتي تحس بما أجرمت في الماضي مشحونة بالإيمان، ولذلك يمكن حتى الدعاة إلى الله أن يستفيدوا منها بزيادة إيمانهم من الجلوس مع مثل هذه النوعيات من الناس، جدد إيمانك، واجلس مع تائب توبته لازالت طرية.
وهؤلاء القادمون الجدد في طريق التوبة يحدث في نفوسهم من الانكسار والضعف لله رب العالمين ما يجعلهم قريبين لله جداً، وبعض هؤلاء مما يحمسهم في الأعمال الصالحة أنه يضع ذنبه نصب عينيه، فهو يراه دائماً إن قام وإن قعد، وإن مشى وإن أكل، وإن أراد أن ينام.
هذا الشخص التائب يكون هذا الذنب الذي ارتكبه دافعاً في قلبه ليحيي في هذا القلب الخوف من الله، والحياء منه، والانطراح بين يديه، والانكسار، وطأطأة الرأس.
ولذلك تجد عند هؤلاء التائبين الجدد من البكاء من خشية الله والخشوع ما لا تجده عند بعض القدماء من الصالحين، وقد يبلغ الأمر أن الشيطان يتندم أنه أوقعه في هذا الذنب، فيقول: يا ليتني لم أوقعه فيه؛ لأن هذا الذنب هو الذي كان سبباً في التوبة وازدياد الحسنات واستدراكها.
أضف إلى ذلك أنك تجد عند هؤلاء من الهمة في الأعمال الصالحة ما لا تجده عند شخص سار في طريق العبادة سنوات، لأنه مندفع ومتحمس كما ذكرنا.(92/11)
ستر المذنب منهم
استوصوا بالتائبين خيراً، ماذا يمكن أن نفعل أيضاً بالنسبة لهؤلاء الأشخاص؟ من الأمور المهمة ستر ذنوبهم وزلاتهم الماضية، وإسدال الستار تماماً على ما مضى من حياتهم، وطي صفحاتهم السابقة بالكلية، والمقصود هو سترهم، فأي مذنب تاب لابد أن تستره: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) ومن أسماء الله الستير، وهي صيغة مبالغة من ستر (إن الله حيي ستير) غفار أي: يغفر، المؤمن أي: يؤمن أولياءه من العقاب يوم القيامة يؤمنهم فلا يعاقبهم، وستير: أي: يستر على عباده.
ولذلك ورد في الحديث الصحيح: (يبيت يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عليه) هؤلاء هم المجاهرون بالمعصية.
ولذلك يأتي الله يوم القيامة بالعبد المؤمن ليس بينه وبينه ترجمان، فيقرره بذنوبه فيقول الله لعبده: فعلت كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فيقرره بذنوبه لا يستطيع العبد أن ينكر منها شيئاً، حتى إذا رأى العبد ألا مجال له في النجاة أبداً، وأن الذنوب عدت كلها عليه من ربه وأيس، قال الله له: إني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أسترها عليك يوم القيامة، ثم يدخله الجنة، اللهم اجعلنا منهم.
فإذاً الله عز وجل من أسمائه الستير، فهو يستر عباده، والشريعة تدعو لستر المذنب والتائب، ولا يجوز بأي حال من الأحوال نبش ماضيه، ولا التكلم بسيئاته الماضية، ولا فضح معاصيه السابقة، ولا التشهير به مطلقاً، لا يجوز ذلك أبداً، وفضحه والتشهير به وهو تائب من إعانة الشيطان عليه، وهذا المشهر الفاضح قد يفضحه الله يوم القيامة جزاءً وفاقاً بما أساء لأخيه المسلم التائب.
ولذلك فإننا نقول لبعض الناس: بعض الإخوان أحياناً يريد أن يضرب مثالاً على شخص في مجلس من المجالس فيفضحه دون أن يشعر، فيقول للناس: تصوروا كان هناك واحد يعمل في مكان كذا، وعمل كذا وكذا، ثم الآن تاب إلى الله، وهو الآن قد صلح، والشخص الذي بهذه الأوصاف أصبح معروفاً للآخرين ومكشوفاً.
فليس من المصلحة الشرعية أن تأتي على كل تائب وتقول للناس: هذا كان يفعل كذا وكذا، بل لابد من ستره، ونقول أيضاً: هب أنك رأيت شخصاً يتعاطى المخدرات مثلاً، وأحسست أنه يتعاطى المخدرات، لكن شعرت أن هذا الشخص نادم، وأنه يريد الإقلاع عن هذا الإدمان فعلاً، وأنه الآن في مرحلة علاج، وأن الرجل صادق فعلاً في الإقلاع، فهذا لابد أن تستره أيضاً.
افرض أنك علمت عن امرأة من الجيران أنها تفعل شيئاً في الخفاء، فأنت قدمت النصيحة وذكّرت بالله، فالمفروض أن تستر ما شاهدت حيث لا مجاهرة، وأن المسألة في السر، إلا أن تكون المسألة مستفحلة، وأن هذا وكر فساد، وأن المسألة تتفاقم، وأن أناساً آخرين ينضمون إلى الجريمة، فعند ذلك لابد من فضحهم حتى لا يستشري فسادهم.
لكن إذا شاهدت أحدهم يعمل ذنباً، فعليك أن تذكره بالله وتنصحه وتستر عليه، ومن باب أولى إذا أذنب وتاب ألا تتكلم بذنوبه السابقة.
من أنواع الستر: أن يكون هذا المذنب مثلاً قد يفقد وظيفته، أو فقدها، فيأتي أحد الصالحين فيهيئ له وظيفة بعد توبته؛ لأن بعض الناس لا يبالون بمثل هذه الشخصيات، يقول: هذا كان مدمناً ماذا أريد به!! وبعض الناس لو علم أن هذه المرأة الملتزمة كان لها سوابق في الماضي، فيقول: لا يمكن أن أقترب منها مطلقاً في مسألة الزواج، وبعض الأزواج لو علم أن زوجته ارتكبت معصية فإنه يشهر بها مباشرة ويطلقها، دون أن يدع لها مجالاً للتوبة، مع أن المفروض أن يعظها، ويذكرها بالله عز وجل، ويعطيها الفرصة، فإن استقامت فالحمد لله، وإن لم تستقم طلقها.(92/12)
إرشاد المذنب إلى باب التوبة
انظر إلى مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عائشة لما أشاع المنافقون الإفك، وأنها وقعت في الفاحشة مع صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنهما، ماذا كان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لقد قال هذه العبارة: (يا عائشة! إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله) الرسول كان غير متأكد، فماذا فعل؟ قال لها: (إن كنت ألممتي بذنب فاستغفري الله) فقط.
والآن بعض الناس قد يقع في بعض هذه الظروف، فيقول نفس الشيء: إن كنتِ ألممت بذنب فاستغفري الله، وإن اشتبهت في شخص، فقل له: إن كنت ألممت بذنب فاستغفر الله، فقط.
أما أنك تتهم شخصاً أو تلزق به التهمة والمسألة مازالت ظنوناً، فهذا من الجرائم، وهذا بعينه ذنب من الذنوب ترتكبه باتهامك لشخص بريء.
ولذلك كان من الاستيصاء بالتائبين خيراً: إرشادهم إلى باب التوبة المفتوح، وإلى عظم مغفرة الله ورحمته، وهذه فيها نصوص كثيرة جداً من القرآن والسنة، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135].
(إن للتوبة باباً عرض ما بين مصراعيه كما بين المشرق والمغرب، لا يغلق حتى تقوم الساعة) (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) (من علم أني ذو مقدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي) (يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم) (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة).
إرشاد للناس هؤلاء، فتح للطريق، حين تريهم الأمل فإنك تجعلهم يستمرون في التوبة، وتجعلهم يقبلون على الله عز وجل، وتزيل اليأس من قلوبهم؛ لأن كثيراً من هذه النوعيات يحصل عندهم اليأس والقنوط، فيقول: الآن لا يمكن أن يغفر الله ذنوبي كلها، وليكن موقفك فيه كموقف العالم الذي جاءه قاتل المائة، قال: (قتلت مائة نفس، فهل لي من توبة؟ قال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟).
أما قضية أن يرى الإنسان مذنباً، فيقول: والله لا يغفر الله لك، فهذه من أعظم المصائب.
يُروى أن رجلاً قال: (والله لا يغفر الله لفلان، قال الله: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك) تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته، ولهذه قصة وردت في الحديث الصحيح التالي: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، وكان أحدهما مذنباً، والآخر مجتهداً في العبادة، وكان لايزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: اقصر -كف عن الذنوب- فوجده يوماً على ذنب، فقال له: اقصر فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيباً، فقال: والله لا يغفر الله لك، أو والله لا يدخلك الجنة، فقبضت روحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار).
بعض الناس الذين يصيبهم غرور في العبادة، يظن أنه الوحيد الذي يغفر له، وأن هؤلاء المساكين إلى النار مباشرة، فيتحكم في رحمة الله، وينازع الله في ألوهيته ويقول: هذا للجنة وهذا للنار، فهذا قد يدخل النار كما ثبت في هذا الحديث، وليعلم كل داعية إلى الله أن هذا الانكسار الذي يحدث عند توبته، والذل والخضوع يخلص المذنب من الكبر والعجب الذي يكون مترسخاً في نفوس البعض من العابدين، وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين المتفاخرين، ولعل الله قد أسقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داءً قاتلاً هو فيك وأنت لا تشعر.
ولذلك قد يكون تعيير المسلم لأخيه بذنب فعله أعظم إثماً من المذنب نفسه، لما فيه من إظهار الطاعة، وتزكية النفس وتبرءتها من الذنوب، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا زنت أمة أحدكم فليقم عليها الحد، ولا يثرب)، أي: لا يعيبها، فلا يظل بين فترة وأخرى يذكرها الذنب، يقول: أنت فعلت كذا وكذا، أنت فعلت الذنب!! فهذا التعيير غير جائز لهذا المذنب الذي أقيم عليه الحد، أو الذي تاب من ذنبه، وقد ورد عن بعض السلف: أن من عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله.
فيبتليه الله بأن يعمل نفس الذنب الذي عير أخاه به، وتعيير المسلم فيه نوع من الشماتة به، ولذلك ورد في القول المأثور: "لا تظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك".
ولابد أن يشعر كل واحد من الدعاة إلى الله بأن الله يمكن أن يضله في أي لحظة: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء:74] وقال يوسف: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] وكان عامة يمينه صلى الله عليه وسلم: (لا ومقلب القلوب) وكان يكثر أن يقول: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك).(92/13)
إزالة العوائق النفسية لدى بعض التائبين
والاستيصاء بالتائبين خيراً: يكون من ضمنه إزالة العوائق النفسية التي تكون عند بعض التائبين، وتقديم الحلول العملية لهم، وشرح شروط التوبة لهؤلاء، فإن كثيراً من الناس يريدون التوبة ولا يعرفون شروطها، فلابد أن تشرح لهؤلاء، تقول لهم: لابد من الإقلاع عن الذنب فوراً، والندم على ما فات، والعزم على عدم العودة إليه، وإرجاع حقوق العباد الذين ظلمتهم، أو طلب البراءة منهم ومسامحتهم، وأن يكون ترك الذنب لله لا لشيء آخر، فتقول لهذا الشخص: انتبه! ينبغي أن تكون توبتك صادقة.
فمثلاً لا تقبل توبة من ترك ذنباً لحفظ صحته، كمن ترك الزنا أو الفاحشة؛ لما فيها من الأمراض الفتاكة، أو ترك السرقة خوفاً من الشرطي، أو ترك أخذ الرشوة لأنه خشي أن يكون معطيها من هيئة مكافحة الرشوة مثلاً، أو شخص ترك الكذب لأن لسانه أصيب بالشلل، أو سارق ترك السرقة؛ لأنه فقد أطرافه في حادث، هؤلاء ينبغي أن تكون توبتهم لله لا لأشياء أخرى، أو واحد ترك المخدرات؛ لأنه خاف على وظيفته؛ أو خشي أن يطرد من عمله.
إن التوبة ينبغي أن تكون لله عز وجل لا لشيء آخر، وأن يستقبح العبد الذنب ويشعر بالضرر.
وينبغي أن نبين أضرار الذنوب: كحرمان العلم، ووحشة القلب، وتعسير الأمور، ووهن البدن، وحرمان الطاعة، ومحق البركة، وقلة التوفيق، وضيق الصدر، وتوالد السيئات، واعتياد الذنوب، وهوان المذنب على الله، وعلى الناس، ولعنة البهائم له، ولباس الذل، والطبع على قلبه، والدخول تحت لعنة الله ورسوله، ومنع إجابة الدعاء، والفساد في البر والبحر، وانعدام الغيرة، وذهاب الحياء، وزوال النعم ونزول النقم، والرعب في قلب العاصي، والوقوع في أسر الشيطان، وسوء الخاتمة، وعذاب الآخرة.
لابد أن نبين لهم عاقبة وأضرار الذنوب، كذلك لابد أن نقول لهم: انتبهوا! إنكم قد تتركون معاصي وتصرون على معاصٍ أخرى، قد تنتقل من معصية إلى معصية لأن طبعك متعلق فيها، أو لأن أسبابها حاضرة، أو لأن الشهوة فيها أقوى، أو أن القرناء لا يخالطونك إلا بها.
وكذلك فإنه لابد أن نذكر أنفسنا جميعاً أن التائب لا ينبغي أن يشعر أن الله غفر له وانتهينا، وأنه الآن صارت صفحته بيضاء تماماً، بل ينبغي ألا يزال يشعر ويخاف من تلك الذنوب، ويشعر أنها جبل يريد أن يقع عليه، هو يرجو رحمة الله ولا ييئس، لكن لا يقول: أنا متأكد أن الله غفر ذنوبي، وإني داخل الجنة.
وكذلك لابد أن نرشده إلى ما أرشده ذلك الرجل الصالح لقاتل المائة حيث قال: اذهب إلى بلدة كذا وكذا فإن فيها أناساً صالحين يعبدون الله فاعبد الله معهم، لابد أن ترشد التائب، تقول: أول شيء أصحاب السوء لابد أن تتركهم، كيف تخالط فلاناً وفلاناً وتعاشرهم وتريد الاستمرار على التوبة!!.
ثانياً: وسائل المعصية لابد من إتلافها فوراً، لو كان عندك صور سيئة في البيت، أو مجلات سيئة وأفلام محرمة، وأشياء محرمة تتعاطى، وأدوات لهو، ومزامير ومعازف، وأشرطة فساد لابد أن تتخلص منها فوراً، هذا شيء لابد أن يرسخ في نفوس التائبين.(92/14)
سبب الاستيصاء بالتائبين خيراً
استوصوا بهم خيراً؛ لأن كثيراً من التائبين قد يعودون إلى الذنوب مرة أخرى؛ لأن وسائل الذنوب مازالت موجودة على مقربة منهم، ولذلك يسهل عليهم العودة، فلابد أن تعلمه أن يترك كل تلك الأشياء، وأن يتلفها، وأن يخلع على عتبة التوبة كل ملابس الجاهلية وأوضارها، وأن تشرح له أن يعمد إلى هذا البدن الذي رباه بالسحت والحرام فيصرف طاقته في طاعة الله حتى يبارك الله فيه.(92/15)
أهمية إيجاد الحلول العملية للتائبين
ومن الأمور المهمة أيها الإخوة: أن نوجد الحلول العملية لهؤلاء التائبين، فبعض التائبين يعاني من مشكلات، وعلاقات في الماضي، ومشاكل ترتبت على حياته الماضية، لابد أن نمد لهؤلاء يد العون، وأن نقول لهم: إننا على استعداد لمساعدتهم، والأخذ بأيديهم، والوقوف بجانبهم، إنهم ليسوا لوحدهم، فإننا أيضاً نشد من أزرهم ونعينهم على ما هم فيه من الطاعة والإقبال على الله عز وجل.
وكثير من المشاكل النفسية كشعور التائب أن الله لا يمكن أن يغفر له، وأن ذنوبه أعظم من مغفرة الله، أو يقول: هل لابد أن أذهب وأعترف بالذنوب التي ارتكبتها، وهل لابد أن أذهب إلى المحكمة وأقر بالزنا الذي فعلته؟ هل إذا أذنبت ذنباً ثم تبت ثم أذنبت كأني لم أتب، أم أن التوبة الأولى صحيحة إذا استوفت شروطها؟ لابد أن نقوم بالإجابة على جميع علامات الاستفهام الموجودة، أن نعلمهم صلاة التوبة، وإذا أذنب ذنباً كيف يتوب، ما هي صلاة التوبة وصفاتها، وماذا يقول فيها؟ بعض أصدقائه القدامى قد يهددونه، واحد يقول: كانوا يدسون له الصور من تحت الباب، أخذوا له صوراً في الماضي، فلما تاب صاروا يهددونه، ويضعون له الصور تحت الباب، ويرسلونها له في رسائل، ليقولوا له: نستطيع أن نفضحك، وعندنا إثباتات عليك.
أو واحدة مثلاً: خبيث يسجل لها مكالمات كانت تكلمه في الماضي، ثم يهددها بفضحها، هنا لابد أن تقوم الواعيات من المسلمات بالوقوف بجانب هذه التائبة، ولابد أن يقوم الواعون من المسلمين بالوقوف بجانب هذا التائب، هذه لحظات حرجة وحساسة.(92/16)
إرشاد التائب إلى أهل العلم ليرشدوه إلى ما يفعله بما تحت يده من الحرام
أو مثلاً بعض الناس ليس عنده إجابات واضحة، يقول مثلاً: أنا تركت صلوات هل علي قضاؤها أم لا؟ وتركت صياماً هل علي قضاؤه أم لا؟ أنا تركت زكاة لم أخرجها في الماضي، قد يقول: قتلت وسرقت فكيف أفعل وأنا محرج في إرجاع الأشياء المسروقة إلى أصحابها، فكيف أرجعها؟ قد يقول: أنا لا أعرف كم سرقت بالضبط، قد يقول: الناس الذي سرقت منهم ذهبوا ولا أعرف عناوينهم، فماذا أفعل؟ قد يقول: سرقت شيئاً هل يجب أن أعيده بذاته أو أعيد قيمته؟ قد يقول: أخذت رشوة، قد يقول: أنا عملت أعمالاً محرمة، يمكن أن مغنياً تاب إلى الله وعنده أموال من الغناء، زانية تتوب إلى الله عندها أموال من الزنا، مروج للمخدرات عنده أموال من ترويج المخدرات، هذه الأموال ما حكمها، وماذا يفعلون بها؟ المرابون الذين يتعاملون بالربا، كيف يفعلون بأموالهم؟ كيف يتوبون؟ واحد فعل فاحشة بامرأة قد يكون مغتصباً وقد يكون برضاها، ما هو الفرق بين الحالتين؟ مثلاً واحد عقد على زانية، هل العقد صحيح وماذا يترتب على ذلك؟ رجل كان ينشر الأفكار الإلحادية كيف تكون توبته الآن؟ هناك مسائل علمية تحتاج إلى إجابات، وأمور تحتاج إلى تبيين، فينبغي أن نرشد هؤلاء إلى أهل العلم ليبينوا لهم.
وذكر أحاديث الترغيب والرجاء المناسبة مهم، لأن بعض الناس يمكن أن يذكر أحاديث غير مناسبة، يذهب إلى أناس من اللاهين واللاعبين يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) وهؤلاء لاهون لاعبون عابثون، لا يريدون التوبة، يقول لهم هذه الأحاديث فتكون فتنة.
ولذلك يقول أحد السلف: "ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" ولذلك لابد من شرح معنى الحديث لهم، وإذا وجدت أنهم لا يفهمونه فيجب ألا تذكره أصلاً، مثلاً حديث العابد الذي قال لصاحبه المذنب: اقصر، والمذنب قال له: خلني وربي أبعثت علي رقيباً، لو وجدت بعض الناس لن يفهموا الحديث، أو أن بعض المذنبين سيقول لكل داعية أو آمر بالمعروف أو ناهٍ عن المنكر: خلني وربي أبعثت علي رقيباً، لو تحس أنه سيفهم من الحديث هذا المفهوم فلا يجوز لك أن تحدثه به، ليس كل الآيات والأحاديث تصلح أن يخاطب بها جميع الناس، ولذلك لابد من انتقاء الأشياء المناسبة لمثل هؤلاء.
هذه بعض الواجبات التي أرى أنه لابد للدعاة إلى الله عز وجل أن يقوموا بها تجاه التائبين.
استوصوا بالتائبين خيراً، هؤلاء وفد الله قدموا إليكم، ومن حقوقهم عليكم إكرامهم وحسن وفادتهم، ونسأل الله أن يعيننا وإياكم على هذه الأمور.(92/17)
الأسئلة(92/18)
حكم من أخطأ في التعامل مع التائب مما أدى إلى انتكاسه
السؤال
قلت: إن الداعية إذا أخطأ في التعامل مع التائب مما أدى إلى انتكاسه، أن عليه بعض المسئولية عند الله، كيف يكون ذلك، وهذا الإنسان اجتهد وأخطأ، والله يقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]؟
الجواب
المقصود أن الشخص الذي لم يجتهد أصلاً، فهذا هو الذي يتحمل المسئولية، وأما من اجتهد وأخطأ وكان اجتهاده فعلاً نابعاً من قدراته وهذا هو الذي يستطيعه، فهذا ليس عليه شيء عند الله إن شاء الله.(92/19)
حكم الصلاة على المنتحر الذي علم صلاحه
السؤال
رجل كان يصلي ثم انتحر لأسباب غير معلومة، فهل يصلى عليه؟
الجواب
إذا كان مسلماً مصلياً، ليس عنده نواقض الإسلام فيصلى عليه، لكن ينبغي لأهل العلم والفضل والقدوة أن يتركوا الصلاة عليه تأديباً لأمثاله الذين يفكرون في الانتحار، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على بعض المسلمين لمَّا عملوا بعض الجرائم وماتوا عليها تأديباً لأمثالهم ممن هم واقعون في نفس الجريمة، لكن بقية المسلمين يصلون عليهم.(92/20)
حكم الصلاة على من عزم على التوبة وشهد بأنه مات عليها
السؤال
رجل في مدينة جدة كان يصلي فرضاً ويترك فروضاً، وكان يشرب المخدرات، وفي يوم من الأيام في الساعة الثالثة ليلاً صب على نفسه البنزين، وأشعل النار كي ينتحر، وتداركه إخوته، ونقل إلى المستشفى ثم قعد ثمانية عشر يوماً ثم توفي، هل يصلى عليه، علماً أنه أثناء فترة وجوده في المستشفى كان يقول: إنه سيتوب وكان يقول: لا إله إلا الله؟
الجواب
إذا كان في فترة جلوسه في المستشفى قد تاب إلى الله، ويصلي، فإنه يصلى عليه كما قدمنا.(92/21)
حكم من تاب وهو يفكر بالملذات السابقة
السؤال
هل يأثم التائب الذي يفكر بين الحين والآخر بالملذات السابقة؟
الجواب
أما من ناحية الإثم فإنه قد لا يأثم، لأن الله (تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل) لكن لو وصلت إلى مرحلة القول فيأثم صاحبها، فلو جلس مع أصحابه وقال: أنا أتمنى أن الزنا غير محرم حتى أرجع إليه، فهذا قول خطير جداً، ولو قال: كنت أفعل وأفعل متفاخراً، لا على سبيل الندم بل على سبيل التفاخر فهذا يأثم، أو قال مثلاً: والله لقد كانت الذنوب التي أقارفها في جاهليتي لذيذة، ويتحدث عنها بنوع من الانتشاء فهذا يأثم، فإذا وصلت المسألة إلى القول أو العمل فإنه يأثم، وإذا ظلت حبيسة النفس وهو يجاهد نفسه؛ لأنه أحياناً إذا تذكر إثماً معيناً ينتشي ويشعر باللذة على شيء مضى، فهنا ينبغي أن يجاهد نفسه مادامت الأمور حبيسة ونرجو أن الله عز وجل لا يؤاخذه عليها.(92/22)
حكم من تاب من بعض ذنوبه
السؤال
أنا شاب أبلغ من العمر ثمانية وعشرين عاماً، لي ذنوب وكبائر تهز الجبال لا يعلمها إلا الله، وعند رؤية أول شعرة بيضاء في رأسي استيقظت من سبات عميق، وتبت إلى الله توبة نصوحاً صادقة، وتركت كل ذنوبي، وعاهدت الله أن أترك جميع الذنوب إلا شرب الدخان لم أستطع تركه، فما هو الحل؟
الجواب
هذا الشخص إذا صدق في كلامه فإن التوبة تَجُبُّ ما قبلها، وهذه التوبة من الذنوب الماضية تمسح الماضي، إلا الذنب الذي بقي مصراً عليه، وهذه مسألة علمية ومهمة، يقول: لو أن واحداً تاب من ذنب وبقي مصراً على ذنب آخر ما هو الحكم؟ ذكر ابن القيم رحمه الله: أنه إذا كان الذنب الذي تاب منه يختلف عن الذنب الذي لا يزال مصراً عليه؛ فإن التوبة صحيحة، وإذا كان من نفس النوع فإن التوبة غير صحيحة.
مثال: رجل تاب من شرب الخمر وهو مصر على عقوق الوالدين، فحكم توبته من شرب الخمر صحيحة، ويبقى عليه إثم عقوق الوالدين.
واحد تاب من الزنا بامرأة ولا يزال مصراً على الزنا بامرأة أخرى، فلا تصح توبته.
واحد تاب من ربا الفضل لكنه مصر على ربا النسيئة فلا تقبل توبته.
شخص تاب من شرب الدخان لكنه لا يزال مصراً على شرب الشيشة، فهذه الذنوب من نفس النوع لا تقبل التوبة إذا ترك ذنباً ومازال مصراً على ذنب آخر من نفس النوع، لكن لو تاب من ذنب وهو مصر على ذنب آخر مختلف عنه؛ فإن التوبة من هذا الذنب صحيحة والذنب الآخر لازال عليه.(92/23)
حكم من تزوج بامرأة واكتشف أنها حبلى من الزنا
السؤال
تزوج رجل بامرأة فاكتشف أنها حامل فتركها حتى وضعت، ثم أخذ الطفل ووضعه عند المسجد، واحتفظ بزوجته فماذا يتوجب عليه؟
الجواب
أولاً: إذا تزوج رجل بامرأة ثم اكتشف أنها حامل فإن العقد باطل، ولابد أن يتركها ويفارقها حتى تضع، فإذا تابت إلى الله وتأكد من توبتها جاز أن يعقد عليها، وإلا لم يجز العقد عليها: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3].
فالعقد على الزانية باطل، والعقد على امرأة في رحمها شيء من غيره باطل، ولا يجوز العقد عليها إلا بعد توبتها.
أما بالنسبة للمولود فإن رعاية اللقيط فرض كفاية، لابد أن يقوم به بعض المسلمين، أو يرعى من بيت مال المسلمين فهذا أمر لابد منه، ولو تُرك اللقطاء ولم يقم بشأنهم أحد من المسلمين أثم كل المسلمين، حتى يقوم من المسلمين من يكفل اللقيط، وله في ذلك أجر عظيم.
وهذه أسئلة عن أشياء مختلفة، مثل بعض الأشياء الواردة في المحاضرة: ترك الصلاة، والصيام، والزكاة، وتوبة المرتشي والذي عنده أموال من الربا إلى آخره.
أقول: إن شاء الله، لعل الله سبحانه وتعالى ييسر لنا إخراج أشياء تتعلق بهذه الأحكام في رسالة صغيرة؛ لأنه سبق أن تكلمنا عن بعض هذه الأحكام في لقاء بعنوان: أريد أن أتوب ولكن! كانت موجهة إلى التائبين، وهذه محاضرة موجهة أكثرها إلى الدعاة الذين يدعون التائبين وما هو الموقف، فلعل الله عز وجل ييسر لنا إخراج هذه الرسالة التي فيها إجابات على كثير من هذه الأسئلة، سواء ما كان من عوائق نفسية أو مسائل علمية تحتاج إلى بيان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.(92/24)
إصلاح القلوب
في القلب مضغة تتبعها الجوارح صلاحاً وفساداً، ولذا اعتنى بصلاحها الفضلاء، والسلف الصلحاء، وفي هذه الخطبة ترشف من عبير السلف الصالح في ذلك، وتستقي نصائح تعينك على صلاح قلبك فاقرأ والزم.(93/1)
صلاح القلب بإخفاء العمل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: لما كان في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب، كان القلب موضع نظر الرب، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم) ومن هنا كان لابد على العبد أن يشتغل بإصلاح قلبه، فإن ربه إنما ينظر إلى قلبه.
وإذا تساءلت -يا أخي- عن السبب الذي تفشت به الخيانة بين الناس في الأموال والنكاح وغير ذلك من الأمور، وإذا تساءلت عن السبب في حصول السرقات والاختلاسات، وإذا تساءلت عن السبب في حصول الهجران والقطيعة بين الناس، وإذا تساءلت عن سائر أسباب أمراض المجتمع؛ فاعلم أن ذلك نتيجة لفساد القلب.
الله أعلم بما في أنفسهم؛ فالقلوب قد تكون سليمة، وقد تكون مريضة مصابة بالوهن، وهذا سبب آخر لتسلط الأعداء علينا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بل أنتم يومئذ كثير -كما في حديث القصعة- ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن.
قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) فمن فساد القلوب أن يقذف فيها الوهن.(93/2)
الأعمال الظاهرة ثمرة الإيمان
لما فسدت القلوب تسلط الأعداء، وقد عرفنا سابقاً أن الدين القائم بالقلب هو الأصل، وأن الأعمال الظاهرة هي الفروع، وأنه إذا لم تكن أعمال فإن ذلك دليل على خلو القلب من الإيمان، وأن الذين يقولون لك: إن المهم هو ما في القلب يطالبون بالإثباتات والدلائل على أن ما في قلوبهم سليم، وذلك بالأعمال ولا بد من الأعمال.
والأعمال مهمة مع تصحيح ما في القلب؛ فكيف نصحح ما في القلب؟ كيف يجعل الإنسان المسلم قلبه سليماً؟ كيف يكون القلب عامراً بمحبة الله تعالى؟ ألم تر أن المصليين تلتصق مناكبهما ببعض وأقدامهما ببعض وبينهما كما بين السماء والأرض في درجة الصلاة؟ وذلك أن أحدهما مقبل بقلبه على ربه في الصلاة، والآخر قلبه يسرح في أودية الدنيا، فهذا له نصف وذاك أكثر وهذا أقل وآخر قد ردت صلاته.
عباد الله: إن الاهتمام بإصلاح قلوبنا أمر في غاية الأهمية، فإصلاح القلوب يترتب عليه صحة الأعمال، وصحة السيرة، وصحة التصرفات والسلوكيات، وكثير من التناقضات إنما تحدث من مخالفة الباطن للظاهر والظاهر للباطن، قال سفيان بن عيينة رحمه الله: إذا وافقت السريرة العلانية فذلك العدل، وإذا كانت السريرة أفضل من العلانية فذلك الفضل، وإذا كانت العلانية أفضل من السريرة فذلك الجور والظلم.
عباد الله: قال بعض السلف: من صفا -أي: صفا قلبه من الشوائب- صُفِّي له، ومن كَدَّر كُدِّر عليه، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن صدق في ترك الشهوة ذهب الله بها من قلبه، ولله أكرم من أن يعذب قلباً بشهوة تركت له.
وصاحب القلب السليم، والبصيرة الصحيحة يكون طيباً بحيث يشم أهل الخير منه رائحة روحه على بدنه وثيابه وإن لم يضع طيباً، والفاجر يشم صاحبُ البصيرة السليمة رائحة فجوره على بدنه وثيابه وإن وضع أطيب أطياب الأرض، والمزكوم لا يشم لا هذا ولا هذا، بل إن زكامه يحمله على الإنكار، فقد يقشعر وينفر من بعض أهل الخير، فلا يحسن التمييز بين صاحب القلب الطيب وصاحب القلب الخبيث.
ولما كان سلفنا رحمهم الله أحرص ما يكونون على الخير كان اعتناؤهم بقلوبهم أشد ما يكون، ومن اعتنائهم بقلوبهم إخفاؤهم لأعمالهم، لما وصف عمر رضي الله عنه أبا بكر الصديق قال: [اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله] سريرته خير من علانيته، وهذه المنزلة العالية.(93/3)
مواقف تبين إخفاء ابن المبارك لعمله
ولما وصف أحمد بن حنبل رحمه الله عبد الله بن المبارك قال: ما رفعه الله إلا بخبيئة كانت له.
كان يخفي أعماله الصالحة؛ فرفع الله قدره، وكانوا في جميع الميادين من الحريصين على إخفاء الأعمال.
قال عبدة بن سليمان المروزي: كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك لبلاد الروم فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو ودعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل من المسلمين قد تلثم فلا يعرف، فطارده ساعة فطعنه فقتله، ثم خرج من الكفار رجل آخر ودعا إلى المبارزة فخرج له نفس الرجل من المسلمين فطارده ساعة فطعنه فقتله، فازدحم عليه المسلمون يريدون معرفة شخصيته، وكنت فيمن ازدحم عليه، فإذا هو ملثم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فمددته؛ فإذا هو عبد الله بن المبارك، فقال ابن المبارك لهذا الذي كشف وجهه: وأنت يا أبا عمر ممن يشنع علينا؟! قالها تواضعاً لله تعالى.
وقال عبد الله بن سنان: كنت مع ابن المبارك ومعتمر بن سليمان بـ طرسوس فصاح الناس: النفير، فخرج ابن المبارك والناس، فلما اصطف الجمعان خرج رومي فطلب المبارزة، فخرج إليه رجل فشد العلج عليه فقتله -قتل المسلم- حتى قتل ستة من المسلمين، وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة، ولا يخرج إليه أحد، فالتفت إلي ابن المبارك فقال: يا فلان! إن قتلت فافعل كذا وكذا، وذكر له وصيته، ثم حرك دابته وبرز للعلج فعالج معه ساعة فقتل العلج وطلب المبارزة، فبرز له علج آخر فقتله حتى قتل ستة علوج، ستة بستة، وطلب البراز فكأنهم كاعوا عنه -جبنوا وخافوا- فضرب دابته وطرد بين الصفين وغاب عن الأنظار فلم نشعر بشيء، وإذا أنا به في الموضع الذي كان بجانبي فقال لي: يا عبد الله! لئن حدثت بهذا أحداً وأنا حي فذكر كلمة، أنه توعده بشيء عظيم لو نشر هذه القصة وعبد الله بن المبارك حي، فرفع الله ذكره، وهذه سيرته منشورة وقصصه سائرة رحمه الله تعالى بسبب صدقه وإخلاصه وإخفائه للعمل.(93/4)
من أخفى عمله أظهره الله ورفع قدره
المرائي يرائي، والمسمع يسمع الناس، ويحدث بعمله ليظهر ويعلو شأنه، والله يجعل نوره منطفئاً وأمره زائلاً، وإذا أخفى العبد العمل نشر الله ذكره، ورفع شأنه، وأظهر أمره، وحبب الناس فيه، عن أبي حمزة الثمالي أن علي بن الحسين كان يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين في الظلمة، ويقول: إن الصدقة في الليل تطفئ غضب الرب.
كان ناس في المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، يأتون إلى بيوتهم فيجدون عندها الطعام، يخرج أحدهم من الباب يجد عنده صدقة لا يدرون من وضعها، فلما مات علي بن الحسين رحمه الله فقدوا ذلك، ولم يعودوا يجدون الطعام الذي كانوا يجدونه عند أبواب بيوتهم؛ فعلموا من الذي كان يأتيهم بالليل.
وعن عمر بن ثابت قال: لما مات علي بن الحسين وجدوا بظهره أثراً مما كان ينقل الجرب بالليل إلى منازل الأرامل، فمن ثقلها على ظهره أثرت فيه، فصارت أثراً مستمراً، وجدوه في بدنه عند تغسيله رحمه الله تعالى.
وأما الصلاة والدعاء فحدث عنهم ولا حرج في أخبارهم رحمهم الله تعالى، قال سلام بن أبي مطيع: كان أيوب يقوم الليل يخفي ذلك، فإذا كان قبيل الصبح رفع صوته كأنه قام في تلك الساعة.
لم يكن يشعرهم أنه كان قد قام قبلها بوقت طويل.
وكان منصور بن المعتمر إذا صلى الغداة -أي: الصبح- أظهر النشاط لأصحابه فيحدثهم ويكثر إليهم، ولعله إنما بات قائماً على أطرافه؛ ليخفي عنهم العمل.
وكان مسروق رحمه الله يرخي الستر بينه وبين أهله ثم يقبل على صلاته ويخليهم ودنياهم.
وكان حسان بن أبي سنان يفتح باب الحانوت فيضع الدواة ويفرش الحساب ويرخي ستره داخل الدكان ثم يصلي، فإذا أحس بإنسان قد جاء -زبون قادم- جاء يقبل على الحساب يريه أنه كان يحسب ميزانية المحل وما دخل وما خرج رحمه الله تعالى.
وعن الأعمش قال: رأيت إبراهيم النخعي وهو يقرأ في المصحف، فاستأذن عليه رجل فغطى المصحف وقال: لا يرى هذا أنني أقرأ فيه كل ساعة.
كان عمل الربيع كله سراً، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف ليقرأه فيغطيه بثوبه، وكان بعض السلف إذا حضرته الرقة في المجلس وأثر فيه الوعظ وأوشك على البكاء لف المنديل على أنفه وامتخط وقال: ما أشد الزكام! قال محمد بن واسع رحمه الله: لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بلَّ ما تحت خده من الدموع وزوجته لا تشعر به! ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي بجانبه! وكان محمد بن سيرين رحمه الله يسمع بكاؤه بالليل وضحكه بالنهار، وكانت البيوت متجاورة متلاصقة، قال الإمام البصري رحمه الله: كان الرجل يتعبد عشرين سنة لا يشعر به جاره، وأحدهم الآن يصلي ليلة أو بعض ليلة فيصبح وقد استطال على جاره وهذا الفرق، بعض الناس يقولون: تصدقنا وأنفقنا واعتمرنا وحججنا، وفعلنا وفعلنا لمرة واحدة، والصالحون يفعلونه سنين ولا يحدثون به، بل لا يدرى عنهم، ولكن الله يكشفه ويرفع قدر صاحبه؛ ولذلك بلغ السلف والصالحون ما بلغوا، وإن كانت أعمالهم مستورة لكن الله يحببهم إلى العباد، ويغرس في قلوب العباد محبتهم هذه من نتيجة طاعة الله تعالى.
أقام عمر بن قيس -رحمه الله- عشرين سنة يصوم ويكثر الصيام لا يعلم به أهله، يأخذ إفطاره في الصباح وهو ذاهب إلى دكانه، يغدو إلى الحانوت فيتصدق بغدائه على المساكين، ويصوم وأهله لا يدرون، ويرجع إليهم قبيل المغرب حيث كان ينتهي وقت العمل في ذلك المجتمع، ثم يأكل بعد ذلك كأنه يتغدى غداءه العادي! أفعال الخير كانت عندهم -رحمهم الله تعالى- حتى مع العجائز، هذا طلحة رضي الله عنه رأى عمر في سواد الليل يدخل بيتاً ويخرج منه، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت لينظر إلى أين دخل عمر بالليل وماذا كان يفعل، فإذا بعجوز عمياء مقعدة فقال لها: ما بال هذا الرجل الذي يأتيك بالليل؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى.
قال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة! أعثرات عمر تتبع؟! هكذا كانوا رحمهم الله تعالى، هكذا كانوا في إخفائهم لأعمالهم، فإذا أردت يا عبد الله أن يصلح قلبك فاعمل وأخف العمل، فإن في ذلك إصلاحاً عظيماً للقلب.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح قلوبنا، وأن يصلح أعمالنا، وأن يصلح سرائرنا وأن يصلح ظواهرنا، وأن يتوب علينا ويغفر لنا تقصيرنا وإسرافنا في أمرنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(93/5)
أمور تعين على صلاح القلب
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أشهد أن لا إله إلا هو ولي الصالحين، وناصر المستضعفين، والمنتقم من الظالمين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى آله وذريته الطيبين الطاهرين، صلى الله عليه، إمام المتقين وقائد الغر المحجلين، الشافع المشفع، وصاحب لواء الحمد والمقام المحمود، صلى الله عليه صلاة دائمة ما تتابع الليل والنهار، وعمل الأبرار والفجار، صلى الله عليه صلاة دائمة إلى يوم الدين.(93/6)
الخلوة
عباد الله: إن من الأمور التي تعين على إصلاح القلب وإخفاء العمل الخلوة المشروعة، فلا بد للعبد أن يكون له مجالس يخلو فيها بذكر ربه، وتعداد ذنوبه، ومحاسبة نفسه، وإصلاح قلبه، وطلب المغفرة من ربه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: لا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبته، قال طاوس رحمه الله: نعم صومعة الرجل بيته، يكف فيها بصره ولسانه.
إذا أراد الإنسان تحقيق علم أو عمل فتخلى في بعض الأماكن مع محافظته على الجمعة والجماعة؛ فهذا حق كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، ومن أجل ذلك شرع الاعتكاف؛ لقطع النفس عن العلائق والانشغالات الدنيوية حتى يصفو القلب ويتهذب، لكن ليست خلوة صوفية في كهف من الكهوف أو برية من البراري ينقطع الإنسان بها عن المجتمع وعن المسجد، وعن الجمعة والجماعة، وعن تعليم الناس وإنكار المنكر كلا، بل هي خلوة وقتية يخلو في بيته، أو يخلو في بيت الله معتكفاً يحاسب نفسه، لا بد من خلوة (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) فهو من السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وجرب -يا عبد الله- مسألة الخلوة هذه، في مكتب أغلق عليك، أو في حجرة في بيتك، اعبد ربك واذكر ذنبك، وحاسب نفسك، واستغفر الله تعالى؛ تجد لها أثراً ولابد.
الخلوة مسألة مهمة في إصلاح القلب، ومن فقد أنسه فقد الخشوع والأنس بالله، فقد مظاهر الإيمان، من فقد أنسه بين الناس ووجده في الوحدة فهو صادق ضعيف، ومن وجده بين الناس وفقده في الخلوة فهو معلول مريض، الذي لا يجد الخشوع إلا بين الناس، فإذا خلا بنفسه لا يجد خشوعاً؛ فهذا مريض، ومن فقده بين الناس وفي الخلوة فهو ميت مطرود، ومن وجد في الخلوة وبين الناس حلاوة الإيمان والخشوع والخوف من الله فهو المحب الصادق القوي، وليتنا هكذا! ومن كان هذا حاله في الخلوة لم يكن مزيده إلا منها، ومن كان لا يستشعر الإيمان إلا إذا جلس مع الناس لم يكن مزيده إلا معهم، ومن كان يجد تلك الحلاوة في أي مكان كان فهذا عبد الله حقاً حقاً.(93/7)
مراقبة الله
ومما يعين على إصلاح القلب مراقبة الله: {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل:19] {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الحديد:6] سئل بعض السلف: بم يستعان على غض البصر؟ وما أحوجنا إليه في هذا الزمان، ما أكثر النساء المتبرجات! ما أكثر العيون المكحلة! ما أكثر هذا النقاب الفاضح، والشفاف من اللباس والقصير والضيق والصور المتحركة الحقيقية في الشوارع والمطبوعة على الأغلفة! ما أكثرها!! سئل بعض السلف: بم يستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى المنظور.
فإذا علمت أن نظر الله إليك أسرع وأسبق من نظرك إلى المرأة ربما استحييت وأطرقت وغضضت من بصرك.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني(93/8)
الحياء من الله
عباد الله: إن الاستحياء من الله عز وجل دافع لترك المعصية، إنه يصلح القلب.
ومن أسباب صلاح القلب: أن يتذكر العبد المساءلة بين يدي الله عز وجل.
هذه الوظائف وهذه الشهادات وهذه الجامعات، وهذه القصور والبيوت، وهذا النعيم إنما هو زائل وسوف نغادر، والنبي عليه الصلاة والسلام شبهه برجل استظل في ظل شجرة ثم راح وتركها، فهو ظل زائل، وفي الجنة ظل ممدود لا يزول ولا ينحسر.
عباد الله: إن قضية الاشتغال بإصلاح القلب هو من نهج السلف رحمهم الله تعالى، ولكن فات ذلك على كثير منا؛ فينبغي أن نبادر ونسرع بإصلاح ذلك.
اللهم يا من أظهر الجميل وستر القبيح، يا من لا يؤاخذ بالجريرة ولا يهتك الستر، نسألك اللهم أن تمن علينا بسترك الجميل، وفضلك الجزيل، اللهم اجعل سريرتنا خيراً من علانيتنا، واجعل علانيتنا حسنة، اللهم استرنا فوق الأرض واسترنا تحت الأرض واسترنا يوم العرض ولا تفضحنا بين الخلق.
اللهم إنا نسألك الإيمان والعفو عما سلف وكان، يا رحيم يا رحمن! اللهم انصر المسلمين، واخذل أعداء الدين، وانشر السنة في العالمين، وارفع لواء الجهاد في الأرض إنك أنت الذي تنصر المستضعفين يا رب العالمين! اللهم آمنا في أوطاننا وبيوتنا، اللهم أصلحنا وأصلح شأننا وتب علينا، اللهم آمنا في الأوطان والدور وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور!(93/9)
اعتناء الإسلام بنفسية المسلم وشعوره
مشاعر الإنسان من أغلى ما يملك.
وكذا نفسه التي بين جنبيه.
وقد رأينا اهتمام علماء النفس بهذا الموضوع أيما اهتمام، لكن أنى لهم بمثل ما جاء به الإسلام: من مراعاة المشاعر والأحاسيس التي اعتبرها جزءاً من الإنسان، وسلَّط الضوء عليها بصورة مباشرة وغير مباشرة.
نصوص شرعية كثيرة لم يكن القصد من قولها ولا من تشريع الأحكام التي تضمنتها إلا مراعاة مشاعر الإنسان بل والحيوان، والعمل على تهدئة نفسيته والمطالبة بحفظها حتى لا يتعرض لها أو تجرح بشيء.
جمع من النصوص والمواقف تبرز هذه الحقيقة ناصعة نجدها في ثنايا هذه الكلمات.(94/1)
تعامل الإسلام مع النفسيات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أحييكم في هذه الليلة في هذا المكان المبارك في بيت من بيوت الله عز وجل، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ليلتنا هذه ذات فائدة وما يقدم فيها له أثر في حياتنا ومعاملاتنا.
والمسلم الحقيقي هو الذي يسير على نور من ربه، ويسلك صراط الله المستقيم، ويسير على طريق أهل السنة والجماعة، الطريق الذي سار فيه الأنبياء والعلماء والشهداء، الطريق الذي بيَّن الله أنواره ومعالمه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
والذي نلاحظه على الكثيرين أنهم قد يهتمون بأبواب أو بأجزاء من هذا الطريق، فقد يهتمون بالعقيدة فقط، أو يركزون على الطريقة الصحيحة في التفقه، والأخذ بالدليل، والبحث عن الحديث الصحيح، وقد يركزون على أعمال القلوب فقط وأمور الرقائق، وقد يركِّزون على الجانب الخلقي السلوكي، والصحيح والحظ العظيم هو التركيز عليها كلها مجتمعة، حتى يجعل طريقه هذا طريقاً متكاملاً.
وموضوع التعامل من الموضوعات المهمة، وأهل السنة والجماعة لهم أصول في قضايا التعامل والقضايا السلوكية ولم يتركوها هملاً، وإنما وضعوا لها ضوابط مستمدة من القرآن والسنة.
ونحن نجد الآن بين المسلمين تنافراً في شخصياتهم، وخلافات كثيرة بينهم، وطريقة معاملة بعضهم لبعض ليست صحيحة، وباختصار قد تقطعت أواصر الأخوة الإيمانية فيما بينهم.
وهذا التقطع نشأ من عدم الاهتمام بمراعاة الجانب السلوكي الخلقي، وعدم الاهتمام بمشاعر الأخ المسلم، وعدم الاهتمام من الأخ المسلم بنفسية أخاه المسلم، كيف يعامله؟ كيف يتجنب الأشياء التي تؤذيه؟ كيف يبتعد عن جرح شعوره بالتصرفات القاسية المؤذية؟ والحقيقة -أيها الإخوة- أننا كثيراً ما نتلفظ بكلمات، ونأتي بأفعال لها مردود سلبي وسيئ على علاقتنا الأخوية مع إخواننا الآخرين، ينبغي أن ننقي هذه التعاملات، وأن نعرف كيف نتكلم، وكيف نخرج الأخ المسلم من موقف حرج يتعرض له، وكيف نتجنب إحراجه.
واليوم لا يوجد اهتمام بقضية عدم إحراج المسلم لأخيه المسلم، إلا من رحم الله يهتم بهذا الأمر.
هناك أناس من المسلمين يتميزون بالغلظة والجفاء واللامبالاة، لا يسألون عن أوضاع إخوانهم المسلمين، ينتقدونهم بأمور وطرق تجرح مشاعرهم، لا ينتقون الألفاظ المناسبة، فنريد أن نبيَّن في هذا الدرس أن هذا الأمر من صميم الإسلام، ونريد أن نبين من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن القرآن قبل ذلك أن هذه المسألة قد رُكِّز عليها تركيز عظيم، وأنها لم تهمل، وأنه يجب على الفرد المسلم أن يتمعن فيها وينظر كيف يعامل إخوانه.(94/2)
معالجة القرآن لمشاعر المسلمين
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما نزلت: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2] إلى قوله عز وجل: {فَوْزاً عَظِيماً} [الفتح:5]-وقد نزلت هذه الآيات عندما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الحديبية - وقد كان الصحابة يخالطهم الحزن والكآبة، لأنهم رجعوا من غزوة الحديبية ولاهم بالذين حاربوا الكفار، وقاتلوهم، وانتصروا عليهم، ولا هم بالذين دخلوا مكة واعتمروا وحققوا الشيء الذي خرجوا من أجله، بل قد وضعت لهم شروط واتفاقيات مع كفار قريش، رجعوا بسببها إلى المدينة من غير أن ينالوا شيئاً، وكان في بعض هذه الشروط، ما يظنه الرجل الذي ينظر إلى ظاهر الأمر وينظر نظرة سطحية بدون تمعن، أن فيها ظلماً للمسلمين، فرجعوا وهم في غاية من الحزن والكآبة.
وفي هذه الأثناء تنزل الآيات، ويصف القرآن هذا الصلح بأنه فتح مبين {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد أنزلت عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا جميعاً).
لماذا كانت هذه الآية لها أثر عظيم؟ لأنها أزالت الكآبة والحزن من نفوس الصحابة.
إذاً: كان القرآن ينزل لأهداف منها: معالجة الحزن والكآبة في نفوس الصحابة، يقول الله عز وجل بعد غزوة أحد -تعليقاً عليها في الآيات-: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} [آل عمران:153]، ففي غزوة أحد قتل من الصحابة خلق عظيم، وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أكبر حملة ألوية الدعوة إلى الله، وكان رجلاً صنديداً فقُتل، والرسول صلى الله عليه وسلم جرح جراحاً شديدة، وأشيع أنه قتل، وصلت هزيمة بالمسلمين.
يقول الله عز وجل: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} [آل عمران:153]، ما معنى {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ}؟ ذكر بعض أهل التفسير من أوجه ما قيل في هذه الآية قول عبد الرحمن بن عوف: الغم الأول بسبب الهزيمة.
والغم الثاني: حين قيل: قتل محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن قمئة: قتلت محمداً، وصدقه الكفار وبعض المسلمين.
لما شعر المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، نسوا في غمرة الغم العظيم الهزيمة، وصاروا الآن في الغم الجديد، وهو قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فانظر كيف عالج الله أثر الهزيمة في النفوس، بأن أعطاهم غماً آخر غير حقيقي وهو مقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فانشغلت النفوس به عن الهزيمة، ثم تبين أنه غير مقتول، وكانت قد نسيت أشياء من الهزيمة، فانظر كيف عالج الله هذه النفسيات، وكيف شفى الله نفوس المسلمين من أمور كثيرة.(94/3)
نماذج من اهتمام الإسلام بالمشاعر والنفسيات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أحييكم في هذه الليلة في هذا المكان المبارك في بيت من بيوت الله عز وجل، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ليلتنا هذه ذات فائدة وما يقدم فيها له أثر في حياتنا ومعاملاتنا.
والمسلم الحقيقي هو الذي يسير على نور من ربه، ويسلك صراط الله المستقيم، ويسير على طريق أهل السنة والجماعة، الطريق الذي سار فيه الأنبياء والعلماء والشهداء، الطريق الذي بيَّن الله أنواره ومعالمه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
والذي نلاحظه على الكثيرين أنهم قد يهتمون بأبواب أو بأجزاء من هذا الطريق، فقد يهتمون بالعقيدة فقط، أو يركزون على الطريقة الصحيحة في التفقه، والأخذ بالدليل، والبحث عن الحديث الصحيح، وقد يركزون على أعمال القلوب فقط وأمور الرقائق، وقد يركِّزون على الجانب الخلقي السلوكي، والصحيح والحظ العظيم هو التركيز عليها كلها مجتمعة، حتى يجعل طريقه هذا طريقاً متكاملاً.
وموضوع التعامل من الموضوعات المهمة، وأهل السنة والجماعة لهم أصول في قضايا التعامل والقضايا السلوكية ولم يتركوها هملاً، وإنما وضعوا لها ضوابط مستمدة من القرآن والسنة.
ونحن نجد الآن بين المسلمين تنافراً في شخصياتهم، وخلافات كثيرة بينهم، وطريقة معاملة بعضهم لبعض ليست صحيحة، وباختصار قد تقطعت أواصر الأخوة الإيمانية فيما بينهم.
وهذا التقطع نشأ من عدم الاهتمام بمراعاة الجانب السلوكي الخلقي، وعدم الاهتمام بمشاعر الأخ المسلم، وعدم الاهتمام من الأخ المسلم بنفسية أخاه المسلم، كيف يعامله؟ كيف يتجنب الأشياء التي تؤذيه؟ كيف يبتعد عن جرح شعوره بالتصرفات القاسية المؤذية؟ والحقيقة -أيها الإخوة- أننا كثيراً ما نتلفظ بكلمات، ونأتي بأفعال لها مردود سلبي وسيئ على علاقتنا الأخوية مع إخواننا الآخرين، ينبغي أن ننقي هذه التعاملات، وأن نعرف كيف نتكلم، وكيف نخرج الأخ المسلم من موقف حرج يتعرض له، وكيف نتجنب إحراجه.
واليوم لا يوجد اهتمام بقضية عدم إحراج المسلم لأخيه المسلم، إلا من رحم الله يهتم بهذا الأمر.
هناك أناس من المسلمين يتميزون بالغلظة والجفاء واللامبالاة، لا يسألون عن أوضاع إخوانهم المسلمين، ينتقدونهم بأمور وطرق تجرح مشاعرهم، لا ينتقون الألفاظ المناسبة، فنريد أن نبيَّن في هذا الدرس أن هذا الأمر من صميم الإسلام، ونريد أن نبين من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن القرآن قبل ذلك أن هذه المسألة قد رُكِّز عليها تركيز عظيم، وأنها لم تهمل، وأنه يجب على الفرد المسلم أن يتمعن فيها وينظر كيف يعامل إخوانه.(94/4)
النهي عن المكوث في بيوت النبي بعد الأكل طويلاً
القرآن يريد من المؤمن أن يحس ويشعر بهذه الأمور، وكيف يتجنب جرح شعور إخوانه المسلمين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53].
فالصحابة كانوا يدخلون بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم يريدون أن يأكلوا، ثم يمكثون بعد الأكل وقتاً طويلاً، والرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن ينصرف إلى أهله، ويرتاح، وينام، ويخلد إلى نفسه قليلاً.
وكان من الصحابة من يطيل في المجلس، وهذه الإطالة فيها أذى لصاحب البيت، فنزلت هذه الآية: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب:53]، اخرجوا بسرعة حتى يتهيأ لصاحب البيت أن يذهب إلى أهله، ويجلس، ويستريح: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} [الأحزاب:53] أي: أذىً نفسياً، فالرسول صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، كان يستحي أن يقول: قد أطلتم فانصرفوا، ولكنه يريد منهم أن يشعروا بأنفسهم.
بأن الوقت قد حان للانصراف.(94/5)
النهي عن تناجي اثنين دون الثالث
وخذ مثلاً آخر في القرآن: قضية النجوى التي قال الله في شأنها: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:10]، لو وُجد ثلاثة في مجلس فلا يجوز لاثنين الحديث دون الثالث سراً من دون علمه بما يقال؛ فهذه هي النجوى.
فلا يجوز أن تأخذ شخصاً وتتكلم معه في السر، وتترك الشخص الآخر في المجلس، إلا إذا كان معه شخص رابع فلا مانع، حتى لا تحزنه؛ فربما يشعر أنك والآخر تتآمران عليه، أو أنه ليس على مستوى الكلام الذي تسر به إلى أخيك، هذا فيه أذى، ويدخل فيه أيضاً كما ذكر بعض أهل العلم، أن الاثنين يتحدثان بلغة لا يفهمها الشخص الثالث حتى ولو كانا يتكلمان بصوت مرتفع.
وقد تحدث هذه عند ما يكون رجل من كبار السن في المجلس، وهو لا يعرف اللغة الإنجليزية، فيأتي اثنان كل شخص يتكلم مع الثاني باللغة الإنجليزية، والكبير لا يفهم ماذا يقولان، وفي هذا أذى للنفوس ولذلك نهى الله عنه في القرآن، وكذلك على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يتناجى اثنان دون الثالث؛ فإن ذلك يحزنه)، وهو حديث في الصحيح.(94/6)
أسلوب يوسف عليه السلام في معاملة إخوته
تأمل أيضاً عندما جاء إخوة يوسف ودخلوا عليه، وهم قد أخطئوا في حق أخيهم خطأً عظيماً، فقد ألقوه في البئر، وربما كان يموت ويهلك، فأنقذه الله ببعض السيارة المارَّين -أخذوه وباعوه- وتسببوا في أن يعيش فترة من حياته مملوكاً، فظلموه، وهذا من الحسد حيث قالوا: كيف يحب يعقوب أخانا يوسف أكثر منا؟! لابد أن نعمل ما يبعده عنه؛ فنلقيه في الجب، أو نقتله، أو نطرحه في أرض غريبة فيضيع.
وبعد فترة من الزمن أعطى الله يوسف عليه السلام الملك والحكمة، وأعطاه النبوة، وقلَّده خزائن الأرض، وجاء بإخوته، وأبيه، وأهله من البدو وأسكنهم في المدينة.
فما هو موقف إخوة يوسف أمام أخيهم القادر، صاحب السلطة؟ يستطيع أن يفعل بهم أي شيء، ما هو موقفهم أمامه؟ وبأي شيء يشعرون؟ يشعرون بالخجل، بل بغاية الخجل منه، وقد يشعرون بالخوف من أن قد يبطش بهم.
فهذا الموقف ماذا يفعل فيه المسلم الحقيقي؟ يوسف عليه السلام كان حليماً، لا يريد أن ينتقم، فماذا فعل؟ وماذا قال لإخوته؟ قال: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100]، لم يقل: أخرجني من الجب، وإنما قال: أخرجني من السجن فقط، فلم يذكر الجب مطلقاً مع أن الله أخرجه من الجب لماذا؟ حتى لا يشعرهم بأنهم أخطئوا، وأنه يوبخهم.
وأيضاً هو عندما أتى بأهله رفع عنهم جهد الجوع والتعب الشديد، والعيشة القاسية في البادية، وأتى بهم إلى المدينة، فحتى لا يَمتنَّ عليهم، ماذا قال لهم؟ قال: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100] أي: الحمد لله الذي جاء بكم من البدو، ولم يقل: وأنا أتيت بكم من البادية، ووطّنتكم في المدينة، وأعطيتكم وأعطيتكم وأعطيتكم لماذا؟ حتى لا يشعرون بالذل، وأنه هو الذي تفضل عليهم، وإنما تلافى هذا الشعور الخاطئ، حتى يحفظ كرامتهم وماء وجههم، فصلاة الله وسلامه على هذا النبي الكريم.
ثم قال: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100] من المخطئ؟ إنهم إخوته الذين أخطئوا لكنه قال: من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي، فوضع القضية بكاملها على الشيطان، ولماذا وضع القضية بكاملها على الشيطان؟ حتى لا يشعرهم بأنهم أخطئوا.
وهذا أسلوب نحن نفتقده، فنحن نفتقد أسلوب التعامل مع شخص أخطأ عليك، ثم قدرت عليه وأصبحت في موقف القوة، كيف تعامله؟ كيف تعفو عنه وتصفح؟ ليس فقط تعفو وتصفح، بل كيف تتجنب أن تشعره بأنك تتفضل عليه اليوم، يوسف ليس فقط عفا عنهم، لكنه لم يشعرهم أنه قد تفضل عليهم، فقال: فعلت لكم، وفعلت لكم وأنا الآن أنعم عليكم وأعف عنكم، أنتم ظلمتموني، لكن أنا أحسن منكم لا.
لكن أتى بهذا الأسلوب اللطيف.(94/7)
الأمر بتسليم الراكب على الماشي والماشي على الراكب
فكر معي في مقصد الإسلام عندما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد).
لماذا كان من السنة أن الراكب يسلم على الماشي؟ لأن الراكب الذي يركب السيارة أو الدابة مستواه أعلى من الماشي على رجله، فعندما يبتدئ الراكب بالسلام على الماشي يكون في هذا إكرام لنفس الماشي.
وعندما يسلم الماشي على القاعد، من الذي في الموقف الأعلى؟ الماشي، فهو الذي يمر على القاعد؛ لذا فهو الذي يلقي عليه السلام، وفي هذا اعتبارات معينة في آداب السلام لحفظ المشاعر ومراعاة الشعور.(94/8)
النهي عن إقامة الرجل من مجلسه والجلوس مكانه
خذ مثلاً -يا أخي- حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يقيم الرجل الرجل من مقعده ثم يجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا).
وبعض الناس الجهلة اليوم إذا جاء ووجد المجلس ممتلئاً، يقول: قم، فيقيم شخصاً ويجلس مكانه، وهذا خطأ؛ لأنك عندما تقول له: قم أمام الناس، ثم تقعد مكانه فقد آذيته، وجرحت شعوره أمام الناس، ولكن اجلس حيث انتهى بك المجلس.
ولذا فإن بعض المتكبرين عندما يدخل المجلس ولا يجد مكاناً في صدر المجلس يستمر واقفاً ينتظر شخصاً يقوم حتى يجلس مكانه، عجيب! أين التواضع؟ وإن قام شخص فبنفس منكسرة لا عن طواعية، بخلاف ما لو دخل وجلس فقام له شخص وقال له: اجلس في المكان هذا، أو صاحب البيت طلب منه أن يجلس في هذا المكان، أما هذا فينتظر ليقوم له شخص حتى يجلس في مكانه.
وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه، يقول: لا.
اجلس فيه.
وعن أبي هريرة أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به).
فمثلاً: كان شخص جالساً في مكان كالصف الأول في المسجد فأحس بريح في بطنه وأنه بحاجة إلى أن يجدد الوضوء فترك مكانه وذهب إلى مكان الوضوء ليتوضأ ويرجع، وفي أثناء غيابه جاء شخص وقعد في مكانه، وعندما رجع الشخص الذي ذهب يتوضأ إلى مكانه وجد أن هناك شخصاً آخراً فيه، فمن الأحق بالمجلس؟ الأول؛ لأن غيابه قصير، بخلاف شخص ذهب إلى البيت أو خرج ثم جاء بعد ساعة، انتهى حقه في المجلس، لكن فترة غياب بسيطة تحفظ لصاحب المجلس مكانه، أي: إذا رجع فهو أحق به حفظاً لنفسيته وشعوره.(94/9)
النهي عن تقدم الضيف في الإمامة على مضيفه
خذ مثلاً آخر من الأحاديث الصحيحة، وانظر كيف يراعي الإسلام المشاعر والنفسيات: (إذا زار أحدكم قوماً فلا يصل بهم، وليصل بهم رجل منهم)، أي: من أصحاب البيت، فصاحب البيت أولى بالإمامة ولو كان من الضيوف من هو أحفظ منه لكتاب الله، مادام أنه يقيم الفاتحة والصلاة فهو أحق.
فلماذا جعل الإسلام صاحب البيت أولى بالإمامة من الضيف، حتى لو كان الضيف أحفظ؟ لأنه صاحب البيت والسلطان، فليس من المناسب لمشاعره ونفسيته أن يتقدم عليه أحد الضيوف، فمادام هو صاحب البيت فهو أحق بالإمامة، إلا إذا تنازل وقال: صلِّ يا فلان! فهنا يجوز للضيف أن يتقدم.
وهذا الكلام فيما لو أن المسجد كان بعيداً جداً، ولا يسمعون النداء، أو أن الصلاة فاتتهم، أو تعذَّر خروجهم من البيت، وإلا فالأصل أنهم يصلون في المسجد.(94/10)
الأمر بتقديم الأكبر في الكلام
وتعال معي إلى حديث آخر من الأحاديث الصحيحة، أخرج الشيخان والنسائي وغيرهم من حديث رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة -وفي أثناء القصة- قال: (فذهب عبد الرحمن بن سهل وكان أصغر القوم يتكلم قبل صاحبيه -هناك اثنان أكبر من الثالث أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء الصغير وأراد أن يتكلم أمام الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الاثنين الكبار- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: كبر، كبر)، أي: دع الكبير يتكلم، لماذا دع الكبير يتكلم؟ احتراماً لنفسيته ومشاعره، فالكبير هو الذي يتكلم أولاً قبل الصغير، هذا من آداب الإسلام، فلو تكلم الصغير أولاً لكان فيها نوع من الاستهانة بالكبير، وإذا لم يرد الكلام تكلم الصغير.(94/11)
ضرورة تبيين السبب عند رد الهدية
مراعاة نفسية الشخص إذا أهدى لك شيئاً فرددت الهدية لسبب من الأسباب: فلو أن شخصاً أهداك شيئاً ثم رددت الهدية لسبب من الأسباب، فإنه يتأثر بفعلك، إلا إذا كان هناك سبب شرعي لرد الهدية.
وفي الحديث الصحيح عن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه، أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً، وهو بـ الأبواء أو ودان، والرسول صلى الله عليه وسلم كان محرماً، والمحرم لا يجوز له أن يصيد وهو محرم، ولا أن يأكل صيداً قد صِيدَ لأجله.
والصحابي هذا لا يعرف الحكم، جاء واصطاد للرسول صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً -والحمار الوحشي يجوز أكل لحمه، لكن الحمار الأهلي الذي في المدن والذي يحملون عليه لا يجوز أكله، لكن الحمار الوحشي الذي يعيش في الصحراء أو في الغابات فإنه يجوز أكله- وجاء يهديه إليه، فتصور الموقف، رجل يهدي لآخر هدية، يقول له: تفضل هدية، لكنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصح أن يأكل منه، فماذا يجب عليه؟ أن يرده، ولو رده إلى صاحبه لتأثر، فماذا فعل عليه السلام؟ قال: (فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الصحابي: فلما أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في قال: إنَّا لم نرده عليك إلا أنَّا حرم).
فالرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن السبب، قال: يا فلان! لم نرده عليك أنك دون المقام، أو أن هديتك ليست في المستوى، لا، وإنما رددناه عليك لأنَّا في حالة إحرام، ولا يجوز لنا أن نأكل الصيد الذي صيد لأجلنا، فلما بين السبب ارتاح الصحابي واطمأن.
وذات مرة أهدى أحد الصحابة خميصة لها أعلام -نوع من الملابس فيه زينه- للنبي صلى الله عليه وسلم، فلبسه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قام للصلاة صار هذا الثوب يشغله في الصلاة، وهو لا يحب أن يشغله شيء عن الصلاة، فخلعها وقال: (اذهبوا بها إلى أبي جهم).
ولو ردها إلى الصحابي لتأثرت نفسيته وشعر بالحزن، فقال عليه الصلاة والسلام: (وأتوني بانبجانية أبي جهم)، قال: ردوا عليه هذه، لكن أحضروا لي من عنده نوعاً آخر من الملابس لا تشغل في الصلاة، فصارت واحدة بدل واحدة.
فلماذا قال: ردوها وأتوا لي بدلاً منها؟ حتى لا يحزن.(94/12)
مراعاة الإسلام لشعور الضيف
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أحييكم في هذه الليلة في هذا المكان المبارك في بيت من بيوت الله عز وجل، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ليلتنا هذه ذات فائدة وما يقدم فيها له أثر في حياتنا ومعاملاتنا.
والمسلم الحقيقي هو الذي يسير على نور من ربه، ويسلك صراط الله المستقيم، ويسير على طريق أهل السنة والجماعة، الطريق الذي سار فيه الأنبياء والعلماء والشهداء، الطريق الذي بيَّن الله أنواره ومعالمه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
والذي نلاحظه على الكثيرين أنهم قد يهتمون بأبواب أو بأجزاء من هذا الطريق، فقد يهتمون بالعقيدة فقط، أو يركزون على الطريقة الصحيحة في التفقه، والأخذ بالدليل، والبحث عن الحديث الصحيح، وقد يركزون على أعمال القلوب فقط وأمور الرقائق، وقد يركِّزون على الجانب الخلقي السلوكي، والصحيح والحظ العظيم هو التركيز عليها كلها مجتمعة، حتى يجعل طريقه هذا طريقاً متكاملاً.
وموضوع التعامل من الموضوعات المهمة، وأهل السنة والجماعة لهم أصول في قضايا التعامل والقضايا السلوكية ولم يتركوها هملاً، وإنما وضعوا لها ضوابط مستمدة من القرآن والسنة.
ونحن نجد الآن بين المسلمين تنافراً في شخصياتهم، وخلافات كثيرة بينهم، وطريقة معاملة بعضهم لبعض ليست صحيحة، وباختصار قد تقطعت أواصر الأخوة الإيمانية فيما بينهم.
وهذا التقطع نشأ من عدم الاهتمام بمراعاة الجانب السلوكي الخلقي، وعدم الاهتمام بمشاعر الأخ المسلم، وعدم الاهتمام من الأخ المسلم بنفسية أخاه المسلم، كيف يعامله؟ كيف يتجنب الأشياء التي تؤذيه؟ كيف يبتعد عن جرح شعوره بالتصرفات القاسية المؤذية؟ والحقيقة -أيها الإخوة- أننا كثيراً ما نتلفظ بكلمات، ونأتي بأفعال لها مردود سلبي وسيئ على علاقتنا الأخوية مع إخواننا الآخرين، ينبغي أن ننقي هذه التعاملات، وأن نعرف كيف نتكلم، وكيف نخرج الأخ المسلم من موقف حرج يتعرض له، وكيف نتجنب إحراجه.
واليوم لا يوجد اهتمام بقضية عدم إحراج المسلم لأخيه المسلم، إلا من رحم الله يهتم بهذا الأمر.
هناك أناس من المسلمين يتميزون بالغلظة والجفاء واللامبالاة، لا يسألون عن أوضاع إخوانهم المسلمين، ينتقدونهم بأمور وطرق تجرح مشاعرهم، لا ينتقون الألفاظ المناسبة، فنريد أن نبيَّن في هذا الدرس أن هذا الأمر من صميم الإسلام، ونريد أن نبين من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن القرآن قبل ذلك أن هذه المسألة قد رُكِّز عليها تركيز عظيم، وأنها لم تهمل، وأنه يجب على الفرد المسلم أن يتمعن فيها وينظر كيف يعامل إخوانه.(94/13)
صور من مراعاة شعور الضيف
ومراعاة مشاعر الضيف ونفسيته من الأشياء المهمة، لذلك الضيافة لها آداب، منها: ما ورد في القرآن الكريم عن نبي الله إبراهيم عليه السلام: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:26 - 27] وهذه الآيتان قد جمعت من آداب الضيافة أشياء عظيمة، كيف؟ إنه راغ إلى أهله بدون أن يقول لهم: عن إذنكم سأذهب وآتي بالغداء، ثم هم يقولون: لا نريد، وهو يقول: لابد منه، ولكن راغ إلا أهله بخفية، وأخذ عجلاً وجعله حنيذاً وهذا طعام لذيذ، وهذا من أجل إكرام الضيف، ثم قربه إليهم، ولم يقل: تعالوا أنتم على الأكل، بل قربه إليهم، فمن الآداب أن تقرب الطعام إلى الضيف.
ولكن لو حدثت صعوبة في تقريب الطعام للضيف؛ لأن السفرة لابد أن تجهَّز-لأننا الآن لم نعد نأكل صنفاً واحداً بل نأكل عشرين صنفاً، فيصعب أن تأتي بالرز، ومن ثم اللحم، والفواكه، والكيك- فلا بأس بأن تضعه في غرفة ثم تدعوهم إليه، لكن لو قربته إليهم لكان أحسن.
ثم قال: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] واليوم بعض الناس يضعون الطعام ويسكتون، ولا يقولون للضيوف شيئاً، والضيوف ينظرون ويخجلون أن يمدوا أيديهم، لكنَّ إبراهيم عليه السلام قال: ألا تأكلون؟ وهذا من مراعاة شعور الضيف.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني مجهود -قد بلغ مني الجهد وما عندي شيء آكله- فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء -انظر الزهد- ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يضيف هذا الليلة يرحمه الله؟ فقام رجلٌ من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله! فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته -الصحابي يقول لامرأته-: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني، قال: فعليهم بشيء -أي: اجعلي الأولاد الصغار يتلهون بشيء- فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنَّا نأكل، فإذا أهوى ليأكل، قومي إلى السراج حتى تطفئيه.
فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها -أضاءت السراج- ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته.
انظر -سبحان الله العظيم! - كيف فقه النساء، هذا الأدب العظيم، قامت كأنها تصلحه فأطفأته، لماذا أطفأته؟ حتى لا يشعر بأنهما لا يأكلان معه؛ لأنه لا يوجد إلا طعام قليل قدماه وجلسا ولم يأكلا، ولو كان الضوء موجوداً لشعر الضيف بالإحراج ولم يهنأ بالأكل لأنه يأكل وهما لا يأكلان! فانظر إلى تلك المرأة كيف راعت شعور هذا الضيف، وأطفأت السراج حتى لا يرى هذا الضيف أنهم لا يأكلان شيئاً، ليس هذا فقط.
قال: فجعلا يريانه أنهما يأكلان، أي: أتيا بأصوات وحركات إذا سمعها الشخص الآخر يتوهم أنهم يأكلون، انظروا الصحابة إلى أي درجة وصل بهم الأمر، قال: فقعد وأكل الضيف، فباتا طاويين، والأولاد الصغار ناموا من الجوع.
ونحن اليوم نبذر، فالواحد منا عنده الملايين ويقدم للضيف مائدة طويلة عريضة أنفق عليها الألوف، لكن ليس هذا هو الكرم الحقيقي، الكرم هو أن يكون ليس عندك شيء أو عندك شيء تحتاجه، فتؤثر به غيرك، فهذا أعلى الدرجات، ولكن مع ذلك إذا جاءك الضيف وعندك قليل أو كثير أنت تكرمه، لا كما يفعل الناس اليوم يتكلفون ما ليس في وسعهم، وربما يحلفون بالطلاق على الضيف إلا نزل عندهم وأقاموا له الذبائح وهذا يحلف بالطلاق، والثاني مثله! والحلف بالطلاق من عادات الجاهلية، وربما يرفض، أو يعتذر؛ فيقع الطلاق على زوجته من حيث لا يشعر.
وما المانع من أن يعزم عليه بدون طلاق حتى لا يقع فيما لا يحمد عقباه بعدها؟ ثم يأتي هذا الشخص إلى العلماء يسال: أنا حلفت على الضيف بالطلاق ولم يفعل، فما حكم زوجتي؟ لماذا أورطت نفسك أصلاً في هذا؟! والتلفظ بالطلاق في هذه المناسبات صار -مع الأسف- مسألة من أسهل الأمور عند الناس.
وهذا أمر ينبغي علينا الانتهاء عنه واجتنابه.
فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: (قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة)، أي: مِنْ عِظم ما فعلوا عجبَ الله عز وجل من صنيعهما، سبحان الله العظيم! وفي رواية: (ضحك الله من صنيع فلان وفلانة) وضحك الله عز وجل صفة تليق بجلاله وعظمته، ليست كضحك المخلوقين، وهي تدل على رضا الرب عز وجل عن هذا الفعل، ولكنه ضحك يليق بجلاله وعظمته.
أحياناً يأتيك ضيف، وتكرمه، وتذبح له، فيشعر الضيف أنك تكلفت، فبعض الناس يتعمَّدون إشعار الضيف أنهم تكلفوا له، أتينا بالذبيحة وصنعنا وفعلنا، فيُحرَج الضيف.
انظر معي إلى هذا الحديث الذي رواه أبو داود وابن حبان عن لقيط بن صبرة قال: (كنت وافد بني المنتفق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما قدمنا لم نصادفه في منزله، وصادفنا عائشة أم المؤمنين، فأمرت لنا بخزيرة -نوع من اللحم يقطع ويطبخ- فلم ننشب أن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ، فقال: هل أصبتم شيئاً؟ فقلنا: نعم يا رسول الله! ضيفونا، ولكنه عليه السلام أمر راعي غنم له أن يذبح شاة من أجل الضيوف، ثم قال للقيط: لا تحسبن أنَّا ذبحنا الشاة من أجلك -انظر لا يريد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشعر الضيف بالتكلف- لنا غنم مائة -عندنا مائة رأس- لا نريد أن نزيد عليها، فإذا ولَّد الراعي بهمة -أي: إذا ولدت جديدة- ذبحنا مكانها شاة) إذا أصبحت مائة وواحدة ذبحنا واحدة، ونحن ذبحنا الآن واحدة لتبقى الغنم مائة لا نريد الزيادة، فانظر كيف راعى عليه السلام نفسية الضيف، حتى لا يظن أنه تكلف له وذبح ذبيحة.(94/14)
صورة تبين مراعاة الإسلام لشعور المضيف
ومن الجهة المقابلة: كيف يراعي الضيف شعور المضيف؟ شخص آتى له ضيف فجأة، ولا يوجد عند صاحب البيت أكل، كيف يتلافى الضيف الموقف ويشعر صاحب البيت أنه لا يضر وأنه غير متأثر، ولا يعتبرها إهانة؟ هذا الحديث الصحيح في السلسلة الصحيحة، يقول ثوبان رضي الله عنه: (نزل بنا ضيف بدوي) أي: عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام بيوته -ما هي بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هل هي فلل؟ كل بيت حجرة، هذه حجرة عائشة، وهذه حجرة أم سلمة، ولو وقف الواحد فيها لضرب رأسه بالسقف.
(فجعل يسأل عن الناس) هذا البدوي أتى من البادية، والرسول صلى الله عليه وسلم حكيم يهتم بأمور المسلمين، فجلس مع البدوي يسأله، يقول: كيف البادية عندكم؟ أظنهم يصلون ويؤدون الشعائر، ومهتمين بالدين، ويراعون الحلال والحرام، ويسألون عما أشكل عليهم؟ فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل البدوي عن الناس في البادية: (كيف فرحهم بالإسلام؟ وكيف حدبهم على الصلاة؟ فما زال يخبره من ذلك بالذي يسره، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم نضراً، فلما انتصف النهار وحان أكل الطعام، دعاني مستخفياً -انظر الأدب، فلم يقل: يا ولد! أحضر الطعام، لا- قال: دعاني مستخفياً لا يألو: أن ائت عائشة رضي الله عنها فأخبرها أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ضيفاً.
فقالت عائشة لما ذهب ثوبان إليها: والذي بعثه بالهدى ودين الحق ما أصبح في يدي شيء يأكله أحد من الناس.
فردني إلى نسائه -الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه الخبر، يقول: اذهب إلى فلانة، وإلى فلانة، على زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم كلهن- كلهن يعتذرن بما اعتذرت به عائشة رضي الله عنها، قال: فرأيت لون رسول الله صلى الله عليه وسلم خسف) لماذا خسف؟ لأنه ليس عنده شيء، يريد أن يكرم الضيف فصار في موقف حرج.
والبدوي كان ذكياً رضي الله عنه، وكان رجلاً فقيهاً، لم تجعله البادية ينسى قضية الاهتمام بالنفوس ومراعاة الشعور، (فقال البدوي لما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم قد حرج، قال: إنَّا أهل البادية معانون على زماننا، لسنا بأهل الحاضرة، فإنما يكفي القبضة من التمر، يشرب عليها من اللبن أو الماء فذلك الخصب) أي: إذا وجد تمر وعليه ماء أو لبن، فهذا أعلى شيء، وهذا هو الخصب.
وبعد ذلك حلب له الرسول صلى الله عليه وسلم، وصارت معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم حيث درت شاة من الشياه، وشرب البدوي حتى ارتوى.
فانظر كيف أن هذا البدوي من فطنته ورقته ومراعاته لهذه الأشياء ذكر هذا الكلام، حتى لا يحرج الرسول صلى الله عليه وسلم.(94/15)
مراعاة الإسلام مشاعر الغرباء
عندما يفارق الناس أوطانهم ويبتعدون عن أهليهم يشعرون بنوع من الوحشة، وقد يصيبهم مرض في غربتهم، ولابد من مراعاة شعور هؤلاء، خصوصاً إذا تركوا أوطانهم لله، وهاجروا من ديارهم في سبيل الله.
لمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً، وعك أبو بكر وبلال -أصابهم المرض- قالت عائشة: فدخلت عليهما فقلت: يا أبتي! كيف تجدك؟ ويا بلال! كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى، يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
هذه أشياء كانت في مكة وبلال يحن إليها، الإذخر، ومياه مجنة، وشامة وطفيل، أشياء تُذكّر بلالاً بـ مكة.
وهذه الوحشة التي يعاني منها بلال هي لأنهم تركوا البلد والوطن لله مهاجرين في سبيل الله، قالت عائشة: (فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها -أي نقها من الأمراض- وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حُمَّاها فاجعلها بالجحفة) كان في المدينة حمى فنقلت كمعجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصارت بـ الجحفة، وهو مكان يبعد عن المدينة.
فانظر كيف راعى الرسول صلى الله عليه وسلم أحوال هؤلاء الغرباء وشعورهم، وفي البخاري أيضاً عن مالك قال: (أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون -أي: أتينا من بلدتنا نطلب العلم عند الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن في سن الشباب، متقاربون في السن- فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً، فلما ظن أنّا قد اشتقنا إلى أهلنا، سألنا عمن تركنا خلفنا، فأخبرناه -أي قال: كيف أهلكم؟ كيف تركتموهم؟ كيف الذين جئتم من عندهم؟ - ثم قال عليه السلام: ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم وعلموهم).
لم يقل: ابقوا عندي زيادة تتعلمون، بل راعى شعورهم، فهم شباب صغار فارقوا الأهل والأوطان والأحبة، قال: (ارجعوا إلى أهليكم) شفقة بهم وعليهم، ومراعاة لنفوسهم وشعورهم.(94/16)
مراعاة الشعور عند التعليم والتعلم
التعليم والتعلم أيضاً فيه مراعاة للشعور، وعند سؤال العالم يجب أن يكون فيه مراعاة للشعور، ولذلك لا يأت السائل إلى عالم ويقول: أنت! أو يا هذا! ما الحكم في كذا؟ أو يقول: أجب على هذا السؤال، لا.
بل لابد أن يراعي الإنسان شعور العالم ويحفظ له قدره، ويأتي بالألفاظ التي تشجعه على الإجابة، كغفر الله لك، وأحسن الله إليك، ويرحمك الله أجبني على كذا، وبيَّن لي كذا.
يقول علي رضي الله عنه: (كنت رجلاً مذاءً)، أي يخرج منه المذي بسرعة وبكثرة عند ملامسة النساء أو الاجتماع بالزوجة مثلاً، وزوجته هي فاطمة الرسول بنت صلى الله عليه وسلم.
والمذي هو الذي يخرج من الرجل عند مداعبة الزوجة، أو عند الجماع فالذي يخرج المني لا المذي.
فكان علي رضي الله عنه لا يدري بحكم المذي هذا، وكان يغتسل حتى ولو كان الجو بارداً إذا خرج منه حتى تشقق ظهره.
فأراد أن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحكم، ولو أنه سأله لشعر بالحرج منه، وهذا الشيء الذي يسأل عنه يخرج منه عندما يجلس علي مع بنت الرسول صلى الله عليه وسلم.
فقال علي: (فأمرت المقداد بن الأسود أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني، فسأله، فقال: فيه الوضوء)، وفي رواية: (توضأ واغسل ذكرك -وفي رواية-: وأنثييك) فأصبح الحكم لمن خرج منه المذي أن يغسل ذكره وانثييه -ما أسفل الذكر- ثم يتوضأ، ويكون بذلك قد تطهر من خروج المذي.
وجاء معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه إلى المدينة ولم يكن يعلم أن الكلام في الصلاة قد حرم، فعطس رجل من الناس، فقال له معاوية بن الحكم: يرحمك الله، فضرب الصحابة على أفخاذهم فقال: ما فعلت؟! وهو في الصلاة ولا يدري أن الكلام في الصلاة قد حرِّم، لأنه في أول الأمر كان الكلام في الصلاة مباح، كان الواحد يسأل الآخر ويقول: متى نزلت هذه الآية التي نسمعها الآن من الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ثم نزل قول الله عز وجل: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ومُنع الكلام.
فلما سلموا من الصلاة وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يرفق بهذا الرجل ويقول: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي كذا وكذا) فعلمه بدون أن يشهر به، وبدون أن يقسو عليه.
وكذلك الأعرابي الذي بال في المسجد، رفق به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعطس رجل في مجلس ابن المبارك ولم يقل الحمد لله، فرموه الناس بأبصارهم، ينكرون عليه كيف لم يقل: الحمد لله، فتدارك عبد الله بن المبارك الرجل قبل أن تلتهمه أبصار الناس، فقال له: ماذا يقول الرجل إذا عطس؟ قال: يقول: الحمد لله، قال عبد الله بن المبارك: يرحمك الله.
فانتهت المشكلة، جعله يقول: الحمد لله من غير إحراج، ورد عليه يرحمك الله.
ومن الأمثلة -أيها الإخوة- التي تدل أيضاً على مراعاة النفوس في طلب العلم: ذُكر أن الأصمعي اجتمع بـ الخليل بن أحمد، وحرص على فهم العروض منه -العروض هي أوزان الشعر- فأعياه ذلك، فقال له الخليل بن أحمد يوماً -يريد أن يفهمه من غير أن يجرح شعوره-: قطِّع لي هذا البيت:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
ففهم ما أراد، فأمسك عنه ولم يشتغل به.(94/17)
مشاركة الناس أفراحهم وأحزانهم
أحياناً قد يتهم رجل بأنه مذنب، ثم تتبين براءته من الذنب، فلابد من تعويضه عما وقع عليه، وأن يرفع الظلم الذي نزل به.
مثل هذا حادثة زيد بن أرقم -في الصحيح - لما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بقول المنافق وتكذيبه للرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء المنافق وحلف أنه ما قال هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بقول المنافق ولم يأخذ بقول زيد بن أرقم -وهو شاب صغير- فاتهم الناس زيد بن أرقم وقيل له: ما أردت إلا أن مقتك رسول الله وكذبك والمسلمون.
قال: فوقع عليَّ من الهم ما لم يقع على أحد.
قال: (فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، قد خفقت برأسي من الهم، إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني، وضحك في وجهي، فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا، ثم إن أبا بكر لحقني، فقال: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وجاء عمر وسأل) حتى يراعوا نفس هذا الصحابي الصغير الذي كان متهماً ظلماً، ثم تبينت براءته، وأنزل الله تصديقه في القرآن: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون:1] إلى آخر الآيات.
مشاركة الحزانى في أحزانهم: وفي يوم بدر عندما أسر الرسول صلى الله عليه وسلم سبعين من المشركين، سأل الصحابة، قال: (ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ترى يا بن الخطاب؟ قال: قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، إني أرى أن تمكنَّا فنضرب أعناقهم، فتعطي كل واحد قريبه من المشركين يقتله، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده، وفي قتلهم مصلحة للمسلمين.
قال عمر: فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فإذا كان من الغد جئت، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر يبكيان، فقلت: يا رسول الله! من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت -انظر قال عمر: أخبرني ماذا يبكيك لعلي أشارك في البكاء يا رسول الله! - وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما) تظاهرت بالبكاء حتى أشارككما بالشعور إلى آخر الحديث.
فهذا ابن الخطاب يريد أن يشارك بالبكاء.
وكذلك عائشة لما رميت في حديث الإفك، واتهمها المنافقون وسرت الإشاعة بين المسلمين، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يتبين له شيء، واعتزل عائشة، تقول عائشة: (وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، استأذنت علي امرأة من الأنصار، فأذنت لها فجلست تبكي).
مع أن المشكلة ليست مشكلتها هي، لكن جلست تبكي من باب مشاركة عائشة في المصيبة.
الشاهد: أن مشاركة الناس في أحزانهم مهمة، فلا يكون المرء في مصيبة وهو يبكي وأنت بجانبه تضحك، وتقول أمامه الطرائف والنكت.
ولو أنه فرح، ماذا تفعل؟ تشاركه أيضاً في الفرح.
كعب بن مالك في قصة تخلفه عن غزوة العسرة المعروفة والمشهورة لما تاب الله عليه وبشره شخص بصوت من بعيد، يقول: (فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بالتوبة -انظر الصحابة كيف يشاركون بعضهم البعض- ويقولون: لتهنك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني، ووالله ما قام رجل من المهاجرين غيره، قال الراوي: فكان كعب لا ينساها لـ طلحة) لماذا لا ينساها لـ طلحة؟ لأنه قام من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم ومشى واستقبل كعباً وهنأه وصافحه.
عندما يتنافس اثنان في عمل، وواحد منهما ينجز العمل والثاني لا ينجزه، والذي لم ينجز العمل هو صادق يريد إنفاذ العمل، لكن فاز به الآخر، فلابد من مراعاة شعور هذا الرجل.
كان اثنان من الصحابة - معاذ ومعوذ - يتسابقان لقتل أبي جهل، وأحدهما هو الذي قتله فعلاً بالضربة القاضية، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أتياه بعد القتل، قال: (أيكما قتله؟ قال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال صلى الله عليه وسلم: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا.
فنظر في السيفين، فقال: كلاكما قتله) أي: كلاكما شارك في قتله، لماذا؟ مراعاة للشعور، حتى لا يشعر الشخص الآخر أن ذاك هو الذي أدى المهمة وهو فشل.
ولو رأيت إنساناً في غم، ماذا تحاول أن تفعل؟ تهون عليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم في حادثة النفقة على نسائه، -والرسول صلى الله عليه وسلم ليس عنده النفقة- جلس مهموماً حزيناً، فدخل عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجده جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً، فقال عمر في نفسه: (لأقولن شيئاً أضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! لو رأيت بنت خارجة -يقصد زوجته- سألتني النفقة، فقمت إليها فوجأت عنقها -أي: لو أتت وسألتني النفقة وأنا ليس عندي نفقة فوجأت عنقها، ما رأيك في هذا التصرف؟ - فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هن حولي يسألنني النفقة).
فانظر إلى عمر كيف فعل هذا التصرف حتى يخفف عن الرسول صلى الله عليه وسلم.(94/18)
تفقد أحوال الناس ومعرفة حاجاتهم من تعابير وجوههم
شخص محتاج إلى شيء، لكن لا يستطيع أن يكلم الناس بما يريد، فهذا لابد من مراعاة شعوره.
أحد الصحابة جاء وليس معه راحلة، فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً يريد شيئاً، فما تفطن له الناس، فقال عليه الصلاة والسلام: (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له، قال الراوي: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل شيء) حتى ظن الصحابة أنه لابد من توزيعها على المسلمين.
فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف فطن لهذا الرجل، فهو يصرف بصره لأنه محتاج إلى شيء ولا يتكلم لأنه محرج، ولا يريد أن يعرف الناس.
معرفة وجوه الناس: إذا كان فيه جوع أو مشكلة أو شيء يُعرف من وجهه، ولو كنت تتفرس في وجوه إخوانك المسلمين لعرفت من وجوههم ماذا يريدون.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: (آلله الذي لا إله إلا هو! إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه -أي: من بيوتهم إلى المسجد- فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني) أبو هريرة يقول: أنا استحي أن أقول لـ أبي بكر: أعطني طعاماً، لكن قال أبو هريرة: أسأل أبا بكر سؤالاً، فلعله يتفطن لي أثناء عرض السؤال أني جائع وأني منهك القوى، قال: (فسألته، فمر ولم يفعل) سأله وأجاب على السؤال ومشى، ولم يتفطن.
(ثم مرَّ بي عمر، فسألته عن آية من كتاب الله تعالى، ما سألته إلا ليشبعني، فمرَّ ولم يفعل، ثم مرَّ بي أبا القاسم فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي -قبل أن يتكلم أبو هريرة بشيء، عرف من وجهه أنه جائع- قال: أبا هر، فقلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق، فمضى فتبعته، فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبناً في قدح) إلى آخر الحديث الصحيح.
فكان عليه الصلاة والسلام يعلم من نبرات الصوت ومن الألفاظ ومن تعابير الوجه ما هي حالة المتكلم، ولذلك في الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام لـ عائشة: (إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت عليَّ غضبى -مراعاة الزوج لحال زوجته- أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد -تحلفين برب محمد- وإذا كنت عليَّ غضبى قلت: لا ورب إبراهيم).
ولو أن أناساً احتاجوا للسؤال وجاءوا إلى رجل عنده خير وأرادوا من الخير الذي عنده، فحتى لا يريق ماء وجوههم، لا ينتظرهم حتى يسألوه، لكن يقول: لعلكم جئتم تحتاجون شيئاً، ماذا تريدون؟ ولذلك لما جاء أبو عبيدة من البحرين على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة جياع، سمعوا بالخبر فجاءوا للرسول صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فتعرضوا له في الطريق، فما انتظر الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة أن يقولوا له: سمعنا أن أبا عبيدة جاء من البحرين فأعطنا من المال الذي جاء به، لا.
بل بادرهم هو، قال: (أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين، فقالوا: أجل يا رسول الله، قال: فأبشروا وأمِّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم) إلخ ولو أن شخصاً أخطأ وندم على خطئه، أو عمل عملاً خطأ، فيحاول المسلم أن يستر على أخيه المسلم، ولو أخطأ في حقك لا تدعُ عليه، وتقول: اللهم أهلكه، ولكن قل: اللهم اهده، اللهم يسر له أمره، اللهم اغفر له(94/19)
من صور رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين
هذه قصة طريفة وصحيحة عن المقداد رضي الله عنه قال: (قدمت أنا وصاحبان لي وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد -أي: من الجوع- فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس أحد منهم يقبلنا -ليس عندهم شيء- فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق بنا إلى أهله، فإذا ثلاث أعنز -جمع عنزة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احتلبوا هذا اللبن بيننا -احلبوه كل يوم واجعلوه في إناء ثم نقتسم اللبن، كل واحد يشرب نصيبه من هذا اللبن- قال: فكنا نحتلب فيشرب كل إنسان منا نصيبه، ونرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه -أي: الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينشغل عنهم ويتأخر، فيأتي في الليل فيأخذ نصيبه ويشربه- قال: فيجيء من الليل فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ويسمع اليقظان) وانظر إلى مراعاة شعور النائمين، لعل أناساً لم يناموا بعد، فيسلم عليهم بصوت منخفض، إن كانوا أيقاظاً ردوا عليه، وإن كانوا نائمين لم يزعجهم الصوت، ثم يأتي المسجد فيصلي، ثم يأتي شرابه فيشربه.
قال المقداد: (فأتاني الشيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي -وبقي نصيب الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأت له بعد- فقال: محمدٌ يأتي الأنصار فيتحفونه، ويصيب عندهم، وما به حاجة إلى هذه الجرعة، فأتيت فشربتها، فلما أن وغلت في بطني، وعلمت أنه ليس إليها سبيل -لا يمكن أن تخرج- ندمني الشيطان -وهذا الشيطان لا يترك أحداً، لا إذا أطاعه ولا إذا عصاه- فقال: ويحك! ما صنعت؟! أشربت شراب محمد؟! فيجيء فلا يجده فيدعو عليك فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك؟ يقول المقداد: وعليَّ شملة إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرجت قدماي، وجعل لا يجيئني النوم -من هذا الندم ولوم النفس- وأما صاحبيَّ فناما ولم يصنعا ما صنعت.
فقال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فَسلّم كما كان يُسلّم، ثم أتى المسجد فصلى، فلما أتى شرابه كشف عنه فلم يجد فيه شيئاً، فرفع رأسه إلى السماء، فقلت: الآن يدعو عليَّ فأهلك.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني -هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، حريص على المؤمنين، عزيز عليه ما عنتم، بالمؤمنين رءوف رحيم- فلما سمع المقداد هذا الدعاء قام إلى الأعنز المحلوبة وأخذ الشفرة وقال: أذبح له واحدة منها بدل اللبن الذي شربته، قال: فوجدتها كلها حُفَّل -كلها فيها لبن، معجزة- قال: فحلبت منه وجئت به إليه.
فقلت: اشرب يا رسول الله! فشرب وشرب وشرب، قال: فلما رأيته قد شرب وشبع، ضحكت حتى استلقيت على قفاي من الضحك، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إحدى سوءاتك يا مقداد! فقلت: يا رسول الله! صار من أمري كذا وكذا.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: هلا أيقظت صاحبيك ليشربا معنا الآن، قال: والله يا رسول الله! لا أبالي من شرب بعدك بعدما شربت يا رسول الله!).
وهذه قصة صحيحة رواها مسلم وغيره.(94/20)
من آداب النبوة تجاه مشاعر الآخرين
من مراعاة الشعور لو حصل شيء يخجل المرء، كيف يعالجه؟ مثال: يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:) إذا أحدث أحدكم في صلاته) وهذا موقف محرج، تصور شخصاً واقفاً في الصلاة، وخرجت منه ريح، أو أنه سجد وخرجت منه ريح، ماذا يفعل؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف) لماذا؟ كأنه أصابه الرعاف، لأنه لو ما فعل كذا وخرج، يقول الناس: هذا فعلها في الصلاة، لكن عندما يخرج ويده على أنفه يظن الناس أن به رعافاً.
والله الذي لا إله إلا هو! إن هذا لدين عظيم، ووالله الذي لا إله إلا هو لا تجدون هذا عند اليهود أو النصارى أو سائر أصحاب الديانات، بل ولا عند أصحاب الأدب أو من ليس عندهم أدب؛ لأن هذا شيء خاص بعظمة هذا الدين.
وقد يقول قائل: ليتك ما علمتنا وما أعلنت هذا، فلو رأينا من يخرج من الصف نقول: أكيد أنه كذا وكذا، لكن بعض أهل العلم قال: لو رأيت رجلاً خرج من الصف وهو على هذه الحال هل تجزم أنه قد أحدث في الصلاة؟ لا.
لأنه قد يكون رعف فعلاً، فما زال في الأمر احتمال، فمع هذا الحديث إلا أنك لا تستطيع الجزم بالحال التي هو عليها.
في حديث صحيح آخر -لولا أن الصحابي قاله- قد تستغربون من لفظه، فيه لفظ بعض الناس يظنون أنه شَين في الحديث، فيقولون: كيف تقوله في المسجد؟! لكن لأنه حديث صحيح رواه الطبراني في الأوسط عن جابر، وهو في صحيح الجامع (نهى صلى الله عليه وسلم عن الضحك من الضرطة) قد يكون بعض الناس جالسين في المجلس، ثم يحدث شخصاً حدثاً فيه صوت، ماذا يفعل الناس؟ يضحكون، على ماذا؟ على هذا المسكين.
هذا مسكين عنده غازات، لا يملك نفسه وليس متعمداً، عدل الجلسة فإذا به يخرج منه هذا: (فعلام يضحك أحدكم مما يفعل؟!)، أي: هذا الشيء قد يحدث منك ومن غيرك، فلماذا تضحك على أخيك المسلم؟ فاستمر في حديثك وكأنه لم يحدث شيء، وهذا من الآداب، حتى لا يُحرج الرجل القاعد، فلو ضحكوا عليه لعله يترك المجلس ويذهب.
كذلك لو وقع شخص وقعة مشينة، أو تعثر فوقع ماذا يفعل الناس؟ يضحكون عليه، عن الأسودي قال: (دخل شباب من قريش على عائشة رضي الله عنها وهي بـ منى وهم يضحكون، فقالت: ما يضحككم؟ قالوا: فلان خر على طنب فسطاط فكادت عينه أن تذهب -هذا شخص في الحج تعثر بحبال الخيام ووقع، وكاد أن يجيء على عينه، فهؤلاء الشباب ضحكوا- فقالت: لا تضحكوا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة) انظر إلى رحمة الله، وجع في ضرس، أو صداع في الرأس، أو مغص في البطن، يكفر عنك السيئات، أين تجد هذا في أي دين؟ ومن هذا الباب أيضاً -عدم إحراج الناس- قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لا تحدوا النظر إلى المجذومين)، وفي رواية: (لا تديموا النظر إلى المجذومين) أي: الذي به جذام أو برص أو أي تشوه في الخلقة، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تحدوا النظر إلى المجذومين) إذا رأيت أبرص أو من فيه بهاق أو مجذوماً لا تحدق فيه، لماذا؟ بعض الناس قد يقول حتى لا تنتقل إليك العدوى، وهذا ليس بصحيح، لكنَّ السبب حتى لا تحرجه.
إذا جاء رجل مصاب بالبرص أو غيره فدخل وجلس، فجعل الناس ينظرون إليه.
فماذا يحدث في نفسه؟ يحزن.
ومن الغرائب أني ذات مرة قلت هذا الحديث في مسجد، وكان رجل يجلس وفيه هذا المرض، وليس أحد من الناس ينظر إليه فلما قلت هذا الحديث إذا بالذي بجواره ينظر إليه بنوع من الاحتقار، وكأن الواحد يقول: ما أصابني الذي أصابك، أين أنا وأين أنت؟ وهذا ابتلاء من الله، يمكن أنه الآن كُفّرت عنه سيئات كثيرة هي ما زالت على ظهرك.
انظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يرى أحد الصحابة قد أصابه الأذى.
كعب بن عجرة جيء به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في الإحرام، قال: (فحُمِلتُ إليه والقمل يتناثر على وجهي، فقال عليه الصلاة والسلام ملطفاً عليه: ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى -أي: لم أكن أتوقع أن يصل بك الحال إلى ما أنت عليه الآن- أتجد شاة؟ قلت: لا، فنزلت هذه الآية {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]-تخفيف من الله على عباده- فقال: صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، نصف صاع طعام لكل مسكين، قال: فنزلت فيَّ خاصة، وهي لكم عامة، فقال عليه السلام: احلق رأسك واذبح أو صم أو أطعم) مع أنه في الإحرام لا يجوز حلق الشعر، لكنه مسكين القمل قد آذاه.
من مراعاة الشعور أيضاً المرأة البكر، إذا جاء القاضي يسألها أمام الناس، يقول لها: ترضين بفلان؟ هل تتوقعون امرأة بكراً تقول أمام القاضي: نعم أرضى بفلان، وأمام العالم والناس؟ بل تسكت، كيف يعرف القاضي أنها موافقة؟ بالسكوت، ولذلك عليه الصلاة والسلام قال: (ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله! وكيف أذنها؟ قال: أن تسكت -وفي رواية-: إذنها صماتها) إذا سكتت فهي موافقة، وإذا رفضت ستقول: لا.
فلماذا جعل الصمت؟ حتى لا تحرج هذه المرأة المسكينة، انظر إلى الإسلام كيف يراعي الشعور.
مثلاً: الزوجة تريد أن تلعب.
الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وهي صغيرة، والمرأة وهي صغيرة تحب اللهو واللعب في حدود الشرع، فلا يأت واحد يغلق عليها ويحجر، ويقول: ممنوع أن تلعبي أو تقومي أو تتحركي من مكانكِ، بل تغسلين، وتطبخين، وتكنسين فقط، وليس لك غير هذا.
لا، لا يصلح هذا.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يداعب نساءه، وكان يداعب عائشة، وأم سلمة، ويمازحهم، ويتكلم ويتلطف معهم، ومرة سابق عائشة في السفر، قال للصحابة: تقدموا، حتى لا يراهم أحد، فسابق عائشة.
عن عائشة رضي الله عنها: (أنها كانت تلعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -كانت عندها دمى تلعب بها- قالت: وكانت تأتيني صواحبي، فكنَّ ينقمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: يحدث نوع من الخجل من رسول الله صلى الله عليه وسلم- قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسربهن إليّ) يدخلهنَّ على عائشة يلعبن معها.
لو أنَّ ناساً مخلصين عملوا عملاً ولم ينجحوا، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما من غزية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم، إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم، وما من غزية أو سرية تخفق وتصاب إلا كَمُلَ أجرها) أخفقوا ولم ينتصروا فلهم الأجر كاملاً، والذين انتصروا وأخذوا المغانم لهم ثلثي الأجر.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (أيما مسلم رمى بسهم في سبيل الله فبلغ مخطئاً أو مصيباً فله من الأجر كرقبة أعتقها من ولد إسماعيل) فلو كان معك بندقية وجاءك أعداء المسلمين، وأطلقت عليهم، أصبت أو لم تصب كأن لك من الأجر مثل رقبة أعتقتها من ولد إسماعيل، حديث صحيح رواه الطبراني عن عمرو بن عنبسة.
وكذلك يقول عليه الصلاة والسلام في مراعاة شعور الناس الذين يريدون أن يخرجوا للجهاد وما استطاعوا: (إن في المدينة رجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر) أي: أصبح لهم الأجر مع أنهم قاعدون، لكنهم لا يستطيعون الذهاب للجهاد.
وفي مراعاة شعور التائب إذا تاب من الذنب، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا زنت أمة أحدكم فليقم عليها الحد ولا يثرِّب) أي: لا يعيِّبها، شخص عمل الذنب وتاب، لا تعيّره بالذنب تقول: اذكر كذا، لكن استر عليه، من ستر مسلماً ستره الله، ولا تعيبه أمام الناس أنه فعل الذنوب ما دام أنه تاب.
وختاماً: أيها الإخوة: من عظمة هذا الموضوع ومن أهميته أنه ليس فقط مراعاة شعور بني الإنسان ونفسياتهم، بل إن الإسلام جاء بمراعاة شعور الحيوانات، تقول لي: كيف جاء الإسلام بمراعاة شعور الحيوانات؟ أقول لك: اسمع هذا الحديث الصحيح: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضعاً رجله على صفحة شاة -أي: أتى بشاة ووضع رجله على جنب الشاة- وهو يحد شفرته) تخيل المنظر: الشاة على الأرض وهو واضع رجله عليها، ويحد الشفرة (وهي تلحظ إليه ببصرها -وهذا شيء يقطع القلب حتى ولو حيواناً، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل في هذه الحالة- فقال: أتريد أن تميتها موتات -مقرعاً وموبخاً، تميتها قبل أن تموت- هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها) مراعاة للشعور حتى في البهائم، وهذا من رحمة الإسلام.
فإذاً -أيها الإخوة- نقول: هذا الباب باب عظيم، وقل من ينتبه له من المسلمين اليوم، وكم من أناس جرحوا شعور إخوانهم بكلمات وتصرفات سيئة، وكم من أواصر تقطعت وأناس هجروا بعض ولم يسألوا عن بعض بسبب كلمة واحدة قالها واحد للآخر في المجلس، كلمة أدت إلى قطيعة سنوات، لماذا؟ لعدم الاعتناء بالشعور والنفوس.
وفقنا الله وإياكم لأن نقوم بحقوق إخواننا، وأن نعتني بمشاعرهم، وأن يوفقنا وإياكم للقيام بحقوق الأُخوة الإسلامية، وأن يجعلنا إخواناً متحابين في سبيله، قائمين بشرعته، ونصر دينه، وأن يغفر لنا ولكم، وأن يدخلنا الجنة بحوله، وقوته، ورحمته رجالاً ونساءً وأولاداً، وصلى الله على نبينا محمد.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(94/21)
اغتنام الأوقات بالطاعات
ذم الله في الكفار تضييعهم لأوقاتهم، ومدح الله المؤمنين لاستغلالهم لأعمارهم بالأعمال الصالحة.
وهذه الأوقات تتفاوت في فضلها، وتتفاوت أيضاً الأعمال في أفضليتها وتقديم بعضها على بعض.
وفي حياة السلف نماذج رائعة، وصور مشرقة، في استغلال الأوقات، وإنجاز الأعمال العظيمة.
كما تحتوي هذه المادة أيضاً على تفصيل لأحكام جمع الصلوات في المطر، وبيان لبعض المخالفات في ذلك.(95/1)
مسئولية اغتنام الأوقات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن الله تعالى جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم:33] وقد أنب الله تعالى الكفار لما أعطاهم العمر المديد، فلم يستفيدوا منه، فقال عز وجل: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] ومدح المؤمنين، لأنهم استفادوا من أعمارهم، واغتنموا أوقاتهم، فقال عز وجل: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] فوبخ هؤلاء مع أنه عمرهم؛ لأنهم لم يستفيدوا من العمر، ومدح هؤلاء؛ لأنهم اغتنموا الأيام الخالية، اغتنموا العمر في طاعة الله تعالى، وهذا المبدأ مهمٌ للغاية- أيها المسلمون- أن يعلم الإنسان قيمة عمره (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) فتأمل! أنه يُسأل عن العمر عموماً، ويسأل عن الشباب خصوصاً؛ لأنها مرحلةٌ فيها نشاطٌ وقوةٌ وحيويةٌ، ففي أي شيء صرفها؟ وفيمَ قضاها؟ وكذلك يسأل عن الصحة؛ لأنها نعمة يستطيع أن يفعل فيها أكثر مما يفعل في حال المرض، ويسأل كذلك عن أوقات الفراغ -يا عباد الله- والنبي صلى الله عليه وسلم بين هذا المفهوم بقوله: (عجلوا الخروج إلى مكة، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له من مرض أو حاجة)، وقال: (من أراد الحج، فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، أو تعرض الحاجة) حديث صحيح.(95/2)
الإسراع في اغتنام الأوقات
انتهاز الفرصة، واغتنام الأوقات قبل ورود المشاغل، وقبل الانشغال بالمرض، وقبل الانشغال بالفقر، وقبل الانشغال بالأولاد والزوجة، وقبل الانشغال بما سينزل به من الموت.
ومع الأسف! فإن كثيراً من الناس لا يعرفون قيمة عمرهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ) فالحديث يدل على توفر أمرين: الوقت، وقوة الجسد الوقت الذي يمكن ملؤه، وقوة الجسد المعينة على العمل، وفترة الشباب تكون زاخرةً بهذين الأمرين.
عباد الله: ونحن مقبلون على موسم الطاعة، وعلى شهرٍ عظيمٍ، وسيكون فيه إجازةٌ من المدارس، فماذا سيفعل الشباب ويفعل الناس عموماً في هذا الموسم القادم؟ إذا علمنا أنه لا يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعةٍ مرت بهم في الدنيا لم يذكروا الله عز وجل فيها، فإذا قارنا هذا بالساعات الطوال التي تضيع في غير ما فائدة، بل إنها تقضى في المعاصي، ولا يبقي كثيرٌ من الناس لربهم وعبادته سبحانه إلا ساعة إذا اكتملت، هذا إذا اكتملت، وأهل الجنة يتحسرون على ساعة مرت لم يذكروا الله تعالى فيها، وكثيرٌ من الناس في هذا الزمان لا يتعدى ذكرهم لله في اليوم ساعة، وبقية الأوقات في الأشغال والملاهي والمحرمات، وهنا ينبغي أن يقف العاقل مع نفسه وقفةً يتذكر فيها ربه، ويعد العدة لما بعد الموت.
عباد الله: ينبغي اغتنام كل فرصة، واغتنام العمر حتى آخر لحظة، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألَّا تقوم حتى يغرسها، فليفعل) رواه الإمام أحمد.
في هذا الحديث الصحيح انتهاز الفرصة في عمل صالح في آخر لحظة، ولو كان الإنسان لم ير ثمرته، فسوف يرى ثمرته في الآخرة، ولو لم يجدها في الدنيا.
عباد الله: إن المشكلة تكمن في عدم معرفة قيمة الوقت الوقت سريع التقضي أبي التأتي، لا يرجع مطلقاً، والعاقل هو الذي يفعل ما يغتنم به وقته، قال بعض أهل العلم: ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ثم ليس فقط انتهاز العمر بالطاعات، واغتنام الأوقات بالعبادات، وإنما يقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل، اغتنام الوقت في أفضل ما يمكن مسألة تحتاج إلى فقه؛ لأن مسألة التفاضل بين الأعمال لا يمكن التوصل إليها إلا من خلال الأدلة الشرعية، ولذلك فلا بد أن يكون للمسلم علمٌ بالأعمال التي نص الشارع على فضلها، وأنها أفضل من غيرها.
ولذلك نجد في بعض الأحاديث: (أفضل الأعمال إيمانٌ بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجةٌ برة) (أفضل الأعمال الصلاة على وقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله) وهكذا تتفاوت الأعمال في الفضل كما تختلف بالنسبة للأشخاص في ظروفهم وأحوالهم وإمكاناتهم، وكذلك فإنه قد يكون الأفضل لشخصٍ ما ليس لآخر، فالأذان لمن كان حسن الصوت، وقيادة عسكر الجهاد لمن كان له خبرةٌ وقوةٌ، والصدقات للأغنياء، وتعليم الناس لأهل العلم، والشفاعة الحسنة من صاحب الجاه، وغير ذلك من الأعمال التي تعتمد على إمكانات الأشخاص، ثم إنه قد لا يكون هناك من يقدر على هذا العمل ويستطيع القيام به إلا هو، فيتعين عليه.
وكذلك أن يكون العمل أنفع، فكلما كانت دائرة النفع أشمل، كلما كان أفضل، ولذلك كان نفع المسلم لأخيه المسلم من قضاء دين، أو تعليم علم، أو سد جوعة ونحو ذلك من أفضل القرب؛ حتى ربما فاق الاعتكاف في المسجد النبوي شهراً.
وكذلك فإنه إذا عرف أن بعض الأعمال أفضل لمشقتها، فإنه يقدم عليها كما جاء في فضل إسباغ الوضوء على المكاره، والمشي في الظلم إلى المساجد، والجهاد في سبيل الله، ولذلك فإن احتساب الأجر في التصدي لأهل البدع وأعداء الدين فيه أجرٌ عظيمٌ؛ لأنه يترتب عليه مشقة شديدة وتضحية، والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يناله شيء من أذاهم.
عباد الله: حتى القرآن وهو كلام الله تعالى فيه آيات وسور بعضها أفضل من بعض، والأذكار الشرعية بعضها أفضل من بعض، فالحمد لله أفضل من سبحان الله، والكل واردٌ، وبعضه محددٌ في مناسبات، ولكن إذا جئت للأذكار المطلقة، هنا يظهر الفقه في انتهاز الوقت في العبادة والذكر التي هي أفضل من غيرها.(95/3)
استغلال الأوقات فيما ينفع قبل ازدحام الأعمال
عباد الله: إن على المسلم أن ينظر في أي شيء يصرف وقته، قال بعض أهل العلم: رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً، إن طال الليل فبحديث لا ينفع، أو بقراءة كتاب وسمر قراءة كتاب في أي شيء؟ فيما لا ينفع ككثيرٍ من القصص التافهة، والمجلات الماجنة، وإن طال النهار فبالنوم، وهم في أطراف النهار على دجلة، أو في الأسواق، هذه ملاحظة أحد علماء العراق في زمانه، قال: تراهم في أطراف النهار على دجلة -كما يضيع كثير من الناس أوقاتهم على الأرصفة والشواطئ والصف في الأسواق، تضيع الأوقات عمرٌ يهدر، شهورٌ وسنواتٌ تجري وهو لم يفعل غير الصف في الأسواق، والجلوس في الطرقات، وإضاعة الأوقات في الملاهي والمحرمات، ليتهم كان صرفهم لوقتهم في شيء لا يضرهم! ولكنه يصرفونه فيما يضرهم ولا ينفعهم- قال: وهم في أطراف النهار على دجلة، أو في الأسواق، فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري بهم وما عندهم خبرها.
لماذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال، وكثرة السؤال، ونهى عن سؤال ما لم يقع؟ لأجل حفظ الوقت، فيكون حال الجاهل بحق ربه ومصلحة نفسه من يضيع أوقاته في مثل هذه الترهات، وكثيرٌ ما هم! ونحن قادمون على إجازة في شهرٍ كريمٍ، فما هي الخطة؟ وما هو المنهج؟ وماذا كان الإعداد.
عباد الله! إن العوارض كثيرة، والأشغال متعددة، وتتزاحم الهموم، وينشغل التفكير، ويتكدر صفاء الذهن بمشكلات الحياة الكثيرة، ولذلك لا بد من اغتنام الأوقات قبل عروض المشاغل، والإنسان لا يدري ماذا تخبئ له الأيام، وبعض الناس قد انشغل بمرض سنوات طويلة أقعده وآلمه، وصرفه عن سعيه ونشاطه، ولا يظنن الشاب أن الأمر سيستمر على ما هو عليه.
أترجو أن تكون وأنت شيخٌ كما قد كنت أيام الشبابِ
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب دريسٌ كالجديد من الثيابِ
وينبغي على الطالب أن يغتنم وقته قبل أن يصبح موظفاً، وكذلك من لم يتزوج ينتهز وقته قبل أن ينشغل بالزواج والأولاد وهكذا تشغل الحياة الدنيا من فيها، فالسعيد العاقل من انتهز الوقت وعرف قيمته.
عباد الله: تمر بنا إجازات كثيرة، وعُطلٌ عن الأعمال في آخر الأسبوع وغيرها، ففي أي شيء تقضى؟ وفي أي شيء تصرف؟ والمسألة تحتاج إلى إمام يدفع لقضاء الأوقات في الطاعات.(95/4)
نماذج ممن عرفوا فضائل الأوقات
بماذا انتهز عبد الله بن عمرو بن العاص وقته؟ واغتنمه في أي شيء؟ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن لي قوة- شاب عندي قوة- وذكر له الصوم، فقال عليه الصلاة والسلام: (صم من كل عشرة أيامٍ يوماً ولك أجر التسعة، فقال: إني أقوى من ذلك، قال: فصم من كل تسعة أيامٍ يوماً ولك أجر الثمانية، فقال: إني أقوى من ذلك.
قال: فصم من كل ثمانية أيامٍ يوماً ولك أجر تلك السبعة، قال: إني أقوى من ذلك، قال: فلم يزل به حتى قال: صم يوماً، وأفطر يوماً، فقال: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أفضل من ذلك) فكان ينتهز عمره وفرصة شبابه في الصيام.
كيف تعود الأعمش رحمه الله على ألا تفوته تكبيرة الإحرام ستين عاماً؟ لقد كان العلماء يعرفون فضائل الأوقات.
والبخاري -رحمه الله- كان يتمثل بهذين البيتين:
اغتنم في الفراغ فضل ركوعٍ فعسى أن يكون موتك بغتة
كم صحيحٍ رأيت من غير سقمٍ ذهبت نفسه الصحيحة فلتة
وفعلاً فقد توفي البخاري رحمه الله بالسكتة وموت الفجأة مثلما كان يقول في هذين البيتين، ولكن: ماذا ترك محمد بن إسماعيل رحمة الله عليه؟ ترك هذا الكتاب العظيم الذي هو أصح كتابٍ بعد كتاب الله، ومنه ينهل الواردون، ويأتي المتعطشون للعلم، ويستدل بأحاديثه في الخطب والدروس والمواعظ، فكم جاء لـ أبي عبد الله في قبره من حسنة، والله يعلم شأن عباده.
عباد الله: إن الله لما أمر نبيه بالعبادة، أو بالصلاة، أتبع الصلاة بعمل آخر، قال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8] والمؤمن يخرج من عبادة ليدخل في أخرى، وهذا هو الاغتنام الحقيقي، فتحسن نيته حتى يكون نومه وأكله وشربه ونكاحه عبادة إذا حسنت النية، وابتغى بذلك وجه الله عز وجل.(95/5)
توزيع الأوقات في حياة السلف
عباد الله: كان السلف -رحمهم الله- أوقاتهم موزعة بين العبادة والتعلم والحفظ والتدريس والتصنيف والإفتاء، وربما كان يقرأ عليهم في الطريق، ويقرءون هم في الطريق، وكان الخطيب البغدادي رحمه الله يمشي وفي يده جزء يطالعه، وكان جد شيخ الإسلام إذا دخل المغتسل، أمر قارئاً يقرأ ويرفع صوته ليستفيد من العلم وهو يغتسل، وكانوا يأكلون الطعام نيئاً أحياناً لضيق الوقت، ويختارون سفَّ الكعك، لأنه أسهل وأشد يسراً في البلع، ولا يأخذ وقتاً في المضغ، وربما تعلم واحدٌ منهم المسألة وهو على فراش الموت يحتضر، وقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [تفقهوا قبل أن تسودوا] لأن السيادة لها ضريبة في الشغل والانشغال، فإذا لم يدخل فيها المرء بعلم وفقه، فأي شيء يفعل؟ وكيف يقود؟(95/6)
التحول الكبير في خلافة عمر بن عبد العزيز
عباد الله: تبقى مسالة معرفة قيمة الزمن وشرف الوقت، فإذا خلصت النية فالله يبارك، هذا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- في سنتين ونصف فقط أحدث انقلاباً في حياة الناس، صار الناس في غاية الشغل في العبادة والطاعة، وكانوا في عهد من قبله يسأل بعضهم بعضاً عن القصور والبساتين والعمائر والزراعات والتجارات، وفي عهد عمر صار الواحد يسأل الآخر عن الختمة والحجة والعمرة والطاعة، فالإنسان يمكن أن يفعل لنفسه ولغيره من النفع العظيم في وقت يسير إذا خلصت النية، وكذلك ينبغي الانتباه (لسوف) ومرض (التسويف)، كما قال بعض السلف: "كلما جاء طارق الخير، صرفه بواب لعل وعسى"، فينبغي أن يسارع المسلم الآن، لأن قولة: (عسى وسوف) لا تغني شيئاً، بل ربما سوف وفاتت عليه الفرصة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعمر أوقاتنا بالطاعات، وأن يجعلنا من القائمين بالعبادات، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(95/7)
صور مختلفة من الاستعداد للشهر الكريم
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وصلى الله وسلم على النبي الأمين، محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: أمران أنبه عليهما في هذا الاجتماع، لم يبق على رمضان إلا أيام قليلة، فينبغي إعداد العدة لقدوم الشهر الكريم، وإذا كان التجار يستعدون بتكديس المواد الغذائية، وأهل المعاصي يستعدون بالسهرات المحرمة والفوازير والمسابقات القائمة على الميسر والقمار الشائعة بين الناس، وغيرهم من أهل الدنيا في لهو ولعب، واستعداداتهم للشهر دائرة بين الانشغال بالمباحات، أو الإعداد للمحرمات، فينبغي للمسلم أن يعد العدة لهذا الشهر الكريم، فأما من كان على ثغرة في تعليم الناس، فينبغي أن يعد العدة فيما يقرأ عليهم، وأي شيء يذكرهم به، وأن يقرأ في فتاوى الصيام وأحكامه ليكون على استعداد لتعليم غيره ونفعه بما ينبه به غافلاً، ويعلم به جاهلاً، وهذه مسألة في غاية الأهمية، وهي تنبع من الشعور بالمسئولية، وحمل الأمانة التي كلف الله بها أهل هذا الدين.(95/8)
أحكام قضاء الصيام
ننبه من كان عليه قضاء من رمضان ماضٍ بأن يسارع إلى القضاء قبل دخول رمضان الجديد؛ لأنه لا يجوز للمسلم أن يؤخر ما عليه من الدين لله تعالى من رمضان الماضي حتى يدخل رمضان الجديد، وإنما ينبغي عليه أن يقضي قبل ذلك، ولو كان له شغلٌ أخر قضاءه إلى شعبان كما كانت عائشة -رضي الله عنها- تفعل في انشغالها بشأن زوجها صلى الله عليه وسلم حتى تجعل قضاءها في شعبان، فإنها الفرصة الأخيرة، فننبه -وبالذات- النساء في البيوت اللاتي عليهن قضاء من نفاس، أو رضاع أشغلهن في رمضان الماضي للمسارعة في القضاء، وأما إن اتصل العذر، فكانت في حمل ونفاس ورضاع حتى دخل رمضان الجديد ولم تمكن من القضاء، أو المريض الذي اتصل مرضه من رمضان الماضي حتى دخل رمضان الجديد، فليس عليه شيء غير القضاء فيما يستقبل إذا زال العذر وتمكن منه.
كما أنبه- أيها الإخوة- إلى أنه لا يجوز تأخير القضاء بعذر الاختبارات والامتحانات، فإنها ليست بعذر؛ لأن قضاء الصوم أعلى درجةً بكثير من اختبارات الدنيا وامتحاناتها، فلا يكون ذلك عذرٌ، فتنبه يا ولي أمر الطالب والطالبة، وكذلك فإننا نسأل الله التوفيق للأبناء، وأن يجعل سعيهم في طاعته.(95/9)
ضوابط الجمع بين الصلوات
عباد الله: أمرٌ آخرٌ في قضية الجمع في المطر وقد سبق التنبيه على عدم التنازع وتحويل المساجد إلى ساحات للصراع في الآراء، ورفع الأصوات والصياح، والاختلاف بين المسلمين، حتى لو أن كافراً يريد أن يسلم واطلع على بعض ما يدور في جماعة مسجد من المساجد في هذا الشأن، لربما صده ذلك عن ديننا، فلا يجوز رفع الأصوات في المساجد والصياح والاختلاف فيها، وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى شيئاً من ذلك، فاجتنبوا ذلك يرحمكم الله، والمسألة واضحة فيما ذكره أهل العلم في الجمع في المطر من استمرار نزوله مطراً حقيقاً يبل الثياب، فيه مشقة وحرج في قدوم الناس إلى المسجد، فهذا المطر الذي يجمع فيه- وقد ذكر علماؤنا هذه المسألة- وأنقل لكم هذه الفتوى التي صدرت من سماحة الشيخ ابن باز في هذه المسألة: يجب على المسلم أداء الصلوات الخمس في أوقاتها التي حددها الله لها، وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله وبفعله، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلِّ الصلاة لوقتها) فلا يجوز فعل الصلاة في غير وقتها لا قبله ولا بعده إلا لمن يجوز له الجمع بين الصلاتين لعذر شرعي يبيح له الجمع، كالسفر الذي تقصر فيه الصلاة، والمرض الذي يحصل فيه على المريض بترك الجمع مشقة، وفي حالة المطر والوحل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لأن فعل الصلاة في وقتها فرض، والوقت أوكد فرائض الصلاة، كما أن صيام شهر رمضان واجب في وقته ليس لأحد أن يؤخره عن وقته، لكن يجوز الجمع بين الظهر والعصر بـ عرفة، وبين المغرب والعشاء بـ مزدلفة باتفاق المسلمين، وكذلك يجوز الجمع بين صلاة المغرب والعشاء، وبين الظهر والعصر عند كثيرٍ من العلماء للسفر والمرض ونحو ذلك من الأعذار، وأما تأخير صلاة النهار إلى الليل، وتأخير صلاة الليل إلى النهار فلا يجوز لمرض، ولا لسفر، ولا لشغل من الأشغال، ولا لصناعة باتفاق العلماء، بل قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: [الجمع بين صلاتين من غير عذر من الكبائر] انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
وبناءً على ذلك فالذين يسارعون إلى الجمع لمجرد وجود غيم، أو مطر خفيف لا يحصل منه مشقة، أو لحصول مطر سابق لم ينتج عنه وحلٌ في الطرق، فإنهم قد أخطئوا خطأً كبيراً، ولا تصح منهم الصلاة التي جمعوها إلى ما قبلها؛ لأنهم جمعوا من غير عذر، وصلوا الصلاة قبل دخول وقتها.
وأيضاً: لا يجوز الجمع بين الجمعة والعصر، لأن ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه رضي الله عنهم، ولأن الجمعة ليست من جنس العصر، فمن جمع بين الجمعة والعصر فعليه أن يعيد صلاة العصر لكونه صلاها قبل وقتها لغير مسوغ شرعي.
فإذاً إذا كان مطراً واضحاً يبل الثياب ويحصل منه مشقة ولو لبعض الناس، لأن بعض المجاورين للمسجد قد لا يحصل له شيء، فعند ذلك تُجمع الصلاتان.
وينبغي -يا عباد الله- كذلك الائتلاف والاتفاق وعدم الاختلاف، وبيان كلام أهل العلم في المسائل، وليس الجمع شهوة، المسألة ليست كما قال أحد الناس، قال: اجمعوا أين نجد هذه الفرصة؟ ليست المسألة بيعاً وشراءً، وليست عرضاً تجارياً، المسألة مسألة صلاة ودين، ولذلك ينبغي أن يكون الجمع صحيحاً، ولنعلم أيضاً: أن حال الأحياء والمدن يختلف، فبعض المساجد قد يحيط بها مستنقعات من المياه حتى لو توقف المطر يخوضون في الوحل والماء، فهؤلاء يجمعون، وآخرون ليس عندهم هذا العذر لا يجمعون، وبعض المخططات السكنية فيها خوض في الوحل والطين يجمعون ولو توقف المطر، وغيرهم لا يجمع، لأنه ليس عندهم عذر الجمع، وقد يكون المطر كثيفاً في طرف البلد خفيفاً في الطرف الآخر أو منقطعاً، فينبغي مراعاة كل مسجد وكل حي بحسبه.
وكذلك فإنه ينبغي تعلم دين الله تعالى، فإن بعض الناس بلغ من جهلهم أنهم جمعوا في المطر في البلد وقصروا!! وهذا من تقصيرهم وجهلهم، فأين سمعت بقصر صلاة في البلد وليس قصرٌ إلا في السفر؟! ومن فعل ذلك، فعليه التوبة والإعادة، وأحياناً يكون الإمام من الأعاجم، فيتسلط عليه من في المسجد، ويلزمونه بجمع ليس فيه جمع شرعي، ويكون بجهله ربما يؤدي إلى قصر الصلاة، وهم بجهلهم لا ينبهونه، ويخرج الناس من المسجد ويتفرقون ولم يقضوا واجب الله تعالى، ولذلك ينبغي الحرص على العلم، ومعرفة أقوال أهل العلم وتحقق العذر، ولا بأس إذا كان العذر قائماً أن يذهب إلى مسجد فيه جمع ليجمع ما دام العذر قائماً، وأما إذا لم يكن قائماً، فلا يجمع ولو معهم، ولا يصلي معهم ولو نافلة؛ لئلا يكون مقراً لهم على حالهم، وينبغي أن تكون النصيحة بالحسنى فيما بينه وبين إمامه وبين المصلين وبعضهم، وكونوا عباد الله إخواناً.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في دينه والعمل بكتابه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(95/10)
اغتنم فراغك قبل شغلك
من أعظم النعم التي أنعم الله بها علينا هي نعمة الزمن، التي ما استطاع كثير من المسلمين أن يستغلوها في مرضاة الله عز وجل، وخيرٌ للمسلم أن يقدم له أعمالاً؛ لكي يلقى الله عز وجل بها، ولكي تكون له نوراً في قبره؛ لأنه لا يعلم ماذا قد قدر الله عليه من أمراض، وغيرها من الأسباب التي تشغله عن طاعة الله عز وجل.(96/1)
الزمن نعمة من نعم الله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
الحمد لله القائل في كتابه، ممتناً على عباده: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:33 - 34].
فإذاً: هذه الشمس وهذا القمر، وهذا الليل، وهذا النهار من نعم الله، ولو لم يكن هناك ليلٌ ولا نهار، ولا شمسٌ ولا قمر، ولم يكن هناك زمن يقضي فيه العباد أعمالهم، فكيف سيكون الحال؟ ولذلك كان هذا الزمن نعمة من نعم الله، جعله الله ليستفيد منه العباد: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62].
جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، ولذلك لما كان هذا الزمان نعمة مسئول عنها العبد، كانت محاسبة الله للكفار شديدة، فإن الله يؤنبهم يوم القيامة، لما أعطاهم العمر المديد ففرطوا فيه قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37].
تأنيب، أولم نعمركم في الدنيا؟! ولكن ليست هناك منفعة، ولا تذكر أحد، وجاءكم النذير، ويمدح الله المؤمنين عندما يدخلون الجنة فيقول: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24].
يعني: أنهم استغلوا الأيام وصاموا فيها، وعبدوا الله فيها، ولذلك يوم القيامة في الجنة كوفئوا على هذا الاستغلال للوقت: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] أي: في الدنيا.
عمر الإنسان ما هو؟ هو لحظات دقائق ساعات أيام شهور سنوات، وهذه الشجرة، يا ابن آدم! إنما أنت لحظات، فإن ذهبت لحظة ذهب بعضك حتى يذهب الإنسان كله، ولذلك الله عز وجل عندما يعطي العبد نعمة يسأله عنها: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه) حديثٌ صحيح.(96/2)
حديث: "اغتنم خمساً قبل خمس"
وحتى لا يشعر العباد بالبخس، ولا تفوتهم الفرصة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم -ويجب أن نشعر أن هذا الحديث موجه إلى كل واحدٍ منا- قال: اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك؛ لأن الشباب فيه من الطاقة والحيوية ما ليس في الهرم، وصحتك قبل سقمك؛ قبل أن يأتيك مرض يشغلك، وغناك قبل فقرك؛ أي: قبل أن تأتي حاجة أو مصاريف كثيرة تقضي على المال وتفتقر، فاغتنم المال الذي بين يديك وتصدق منه قبل أن تفتقر، فأنت لا تدري ماذا سيحدث لك في المستقبل، وفراغك قبل شغلك؛ فكل الفراغ الذي يحصل لك في الدنيا اغتنمه، فقد تنشغل في الدنيا، وقيل: اغتنم فراغك في الدنيا قبل أن تنشغل بالعذاب في الآخرة- وحياتك قبل موتك، فعلى وجه الإجمال اغتنم حياتك قبل موتك، وهو حديثٌ صحيح.
وسنركز أيها الإخوة على واحدة من هذه الخمس وهي: اغتنم فراغك قبل شغلك: أريد أن أسألكم سؤالاً: حديث: (اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) هذا الحديث يدور على عدة أشياء.
أليس بعض هذه الخمس يدخل في بعض؟ يعني: فراغك قبل شغلك يدخل في حياتك قبل موتك، والوقت هذا واحد، وثانياً: الصحة، وثالثاً: المال.
لأن الصحة من الشباب، والمال منصوص عليه في الحديث، الواحد منا إذا كان عنده وقت وصحة ومال، استطاع أن يفعل كل شيء، يعني من الناس من يكون صحيحاً لكنه مشغول بالكسب، ومن الناس من قد يكون متفرغاً ليس عنده شغل، لكنه مريض معلول أليس كذلك؟ لكن الشخص الذي عنده صحة وعنده وقت، يستطيع أن يكسب مالاً ويستطيع أن يعمل أشياء كثيرة جداً، فعنده الآن أهم مسألتين في النعم بعد نعمة الإيمان وهما: الصحة والوقت، الوقت الذي هو الفراغ، لذلك جاء النص عليهما في الحديث الآخر: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس؛ الصحة والفراغ) ولذلك قال العلماء: أهم نعم الله عز وجل على العبد ثلاث: الإيمان والصحة والفراغ.
فأن يجد إيماناً وصحةً وفراغاً فهو رأس المال كله، ومعنى مغبون فيهما كثير من الناس، الغبن: أن تشتري سلعة بأكثر من قيمتها الحقيقية، أو تبيع سلعة بأقل من قدرها، هذا غبن أيضاً، وأكثر الناس مفرطون في الصحة والفراغ، ولذلك فهم مغبونون أشد الغبن، وهناك قلة من الناس لم يغبنوا، كما نص عليه الحديث قال: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس) يعني: هناك قليل تلافوا ذلك الغبن، وهؤلاء القليل هم الفائزون.
استغلال الوقت مهم جداً لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعةٍ مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها).
يتحسرون على ساعة، والساعة لحظة، أي: مدة من الزمن، يقال: للفترة القصيرة من الزمن في لغة العرب ساعة، لا يتحسر أهل الجنة على شيء، إلا على ساعةٍ مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها، ويبلغ مقدار أهمية استغلال الوقت في الإسلام مبلغاً عجيباً لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليفعل).
يعني: استغل كل شيء، لو قامت القيامة وتستطيع أن تغرس فسيلة في يدك، فاغرسها ثم مت، وهذا الوقت -أيها الإخوة- من نعم الله عز وجل، وله ميزات عجيبة، فهو سريع التقضي أبي التأتي، يذهب بسرعة ولا يمكن أن يرجع، وهو كالسيف إن لم تقطعه قطعك، بعض الناس يقول: هذا عنده غيرة، وهذا ليس عنده غيرة، هناك غيرة مهمة جداً، وهي الغيرة على الوقت، الواحد قد يغار على عرضه، ويغار على أهله، لكن هناك غيرة مهمة، وهي الغيرة على الوقت الذي يذهب ويهدر، فإذا صارت هناك غيرة على هذه الأوقات المهدرة حصل كمالٌ عظيم للمسلم، قال صاحب صيد الخاطر: ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظةً في غيره قربة، ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة، فإذا علم الإنسان وإن بالغ في الجد بأن الموت يقطعه عن العمل، عمل في حياته ما يدوم له أجره بعد موته، فإن كان له شيءٌ من الدنيا -يعني عنده أموال مثلاً- وقف وقفاً وغرس غرساً يأكل منه الطير والحيوان فيكون له أجر- الناس الذين عندهم مزارع وبساتين، وعندهم حدائق في بيوتهم، لو نووا بهذا الغرس أنه لله، فإذا أكل منه طير أو حيوان فإنهم يؤجرون على نيتهم هذه؛ وقف وقفاً أو غرس غرساً وأجرى نهراً، ويسعى في تحصيل ذرية تذكر الله بعده، فيكون الأجر له.(96/3)
أهمية الناس الذين ينجبون الأولاد
الذين يعملون بتحديد النسل ويقولون: نحن لا نريد إنجاب أطفال، ويكفي اثنان أو ثلاثة هؤلاء يفوتهم أجر كبير، لماذا؟ لأن الإنسان لو كان عنده سبعة أولاد أخيار، أو بعضهم، فإنه يؤجر على هؤلاء؛ لأن كل واحد من الأولاد سيصلي ويحج ويصوم ويدعو ويطلب العلم، ويذكر الله، والأب له مثل أجورهم إذا كان هو الدال على الخير وربَّى أولاده على هذا، وبعض الآباء يتركون أولادهم في الشوارع ثم يأتي الدعاة إلى الله فيلتقطونهم من الشوارع ليدخلوهم في معترك الحياة الإسلامية الصحيحة، ثم بعد ذلك نقول: الأب يؤجر لأن ولده أصبح مستقيماً، وهو لم يتعب في تربيته ولم يُجهد نفسه في أن يصبح ابنه كذلك، وهذا أجره ليس لأبيه، وإنما للداعية الذي اهتدى على يديه.
عندما يربي الأب ابنه تربية إسلامية؛ مثلاً: لو عندك سبعة أولاد تربوا تربية إسلامية على يديك فلو متّ فإن كل عمل صالح يعملوه فإن لك مثل أجره، من غير أن ينقص من أجورهم شيء.
عرفنا الآن نعمة أو أهمية أن يكون للإنسان أولاد، وعملية الإنجاب لها فوائد مثل تكثير نسل المسلمين، وغيرها من الفوائد الكثيرة التي تنشأ من الإنجاب، وهؤلاء الغافلون المتأثرون بدعوات تحديد النسل، يعملون عملهم في أوساط المسلمين، من يصنف كتاباً -إن كان من أهل العلم- فإن تصنيفه هو ولده المخلد، أما من ينجب ولداً يعيش مثلاً ستين سنة ومات، كان هذا العمل الصالح في هذه الستين سنة فقط، ويكون الأب له نصيب منه بحسب جهده، لكن العالم عندما يصنف كتاباً فإنه يستفاد من الكتاب مئات السنين، فإن تصنيف العالم ولده المخلد، ونحن الآن عيال -مثلاً- على كتاب فتح الباري، عيال على كتب علماء السلف، عيال على صحيح البخاري عيال على صحيح مسلم، وعلى مسند أحمد، وعلى كتب أهل الحديث، وعيال على مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه، فكل حرفٍ نقرأه في هذه الكتب ونستفيد منه ونحضر فيه موضوعاً ونلقيه إلى الناس فيعود الفضل لأولئك العلماء.
فإن تصنيف العالم هو ولده المخلد، فمن نقل إلينا سيرة الإمام أحمد فتأثر الناس بها، والإمام أحمد يصله الأجر في قبره بسبب تأثر الناس بسيرته، لو شخصاً -مثلاً- تعرض لاضطهاد فقرأ فتنة الإمام أحمد وثبت، فإن للإمام أحمد أجر ثبات هذا الرجل، لأن عمل الإمام أحمد قد مات قومٌ وهم في الناس أحياءُ
في الجانب المقابل هناك أشخاص هامشيون، بعض الناس وجوده مثل عدمه، بل إن وجوده ضار، أليس ذلك صحيحاً؟ وهناك أناس لو ماتوا لكان أفضل، وهناك أناس لو ماتوا لما حصل أي نوع من التغيير أو النقصان، لا في بيته، ولا في مدرسته، ولا في عمله، ولا في مجتمعه، لكن هناك أناس لو مات أحدهم تأثر البيت من موته؛ لأنه كان يملأ فراغاً عظيماً في ذلك البيت، وكذلك لو مات مدير لتأثرت الدائرة كلها، بسبب موت ذلك المدير الصالح في دائرته التي يعمل فيها، وهناك مدرس لو مات لحزن الطلاب عليه، وأصبح هناك نقص في المدرسة بموت هذا المدرس:
قد مات قومٌ وهم في الناس أحياءُ
الإسلام يريد من المسلمين أن يكونوا طاقات فعالة، لها أثر في الواقع، أنت إذا لم يكن لك أثر في الواقع، فمعناه أن عندك خطأ كبيراً في منهجك، ويجب أن تراجع نفسك: لماذا ليس لك أثر في الواقع؟(96/4)
طريقة تعامل بعض الناس مع الزمن
يقول ابن الجوزي وهو يتحدث في مدينة بغداد: رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً، إن طال الليل فبحديثٍ لا ينفع، أو بقراءة كتابٍ في غزاةٍ أو سمر؛ بطولات معارك كلام وأشياء الحروب، أو سمر، ونحن نضيف الآن، أفلام الفيديو، والتلفزيون، والجرائد، والمجلات، والكتب الغثائية التي ترمى يومياً في الأسواق، وتملأ رفوف المكتبات، روايات وقصص مدمرة، سبحان الله! اخترع أهل الباطل كتاباً اسمه كتاب الجيب، لماذا؟ لأنه يدخل في الجيب، قصة أو غيرها، وهناك كتب اسمها مقاس فرنسي صغير بحجم الكف، لماذا؟ لأنه يمكن لأي شخص أن يأخذه معه أينما ذهب.
وقد لا تجد مثل هذه الخدمة في الكتاب الإسلامي، لكن قد بدأت تظهر كتيبات صغيرة تحمل في الجيب وأشياء من الأذكار وغيرها، لكن تأمل أن بعض الناس يقتلون وقتهم قتلاً بهذه الأشياء؛ إن طال الليل فبحديثٍ لا ينفع أو بقراءة كتاب في غزاةٍ أو سمر، وإن طال النهار فبالنوم! وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق، نحن الآن نقول: على الكورنيش أو في الأسواق- فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري بهم وما عندهم خبر- سفينة العمر تجري وسترسو على شاطئ الموت وما عندهم خبر، شرائع الإسلام متكاملة يعضد بعضها بعضاً، ولذلك إذا أمر الشرع بشيءٍ، أمر بتهيئة أسبابه ونهى عما يخالفه ويضاده، فمثلاً: لماذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال وكثرة السؤال؟ لأن أقل ما فيها مضيعة الوقت.
ولذلك نهى السلف عن السؤال عن الأشياء التي لم يقع، وهؤلاء الناس دائماً يقولون: أرأيت لو كان كذا، أرأيت لو حصل كذا!! وهذا شيء بسيط، هذا من كثرة السؤال والقيل والقال، بجانب انشغال الناس الآن بالزينات والكماليات ومتاع الدنيا وانشغال النساء بالبهارج، المشكلة أن الناس -أقصد الأغنياء- يظنون أن حالتهم ستستمر كما هي! بعض الناس يقول: المهم النظر في الحالة الراهنة فحسب، فهذه حالة الجهلة الحمقى، مثل أن يرى نفسه معافى وينسى المرض فيستبعده، هل يخطر ببالك الآن وأنت صحيح أنك قد تصاب بمرض شديد جداً؟ الواحد الآن وهو غني وراتبه كبير، وعقاراته تدر، هل يتصور الآن في حال الغنى أنه قد يفتقر؟ لا يتصور؛ لأنه لم ير شيئاً بعينيه مثل الإفلاس أو المرض، ولذلك هو يظن أن حاله سيدوم، كلما أصبح وأمسى معافى زاد الاغترار وطال الأمل!(96/5)
استغلال نعمة الصحة والفراغ
الواحد لو ظل معافى خمسة أيام، يمكن أن يخشى المرض، ولو بقي شهراً أو سنة ما أصابه مرض، كل هذا الطول في الزمن هو أيضاً يستبعد بازدياد أن يحدث له مرض، وهذه بالضبط مشكلة الناس عندما يكبرون في السن، فيرى نفسه الآن عاش عشرين سنة، أو أربعين سنة فيقول: إيه باقي! يقول: عشت أربعين، ما دام عاش أربعين بالنظر إلى الماضي يقول: ستين، فأمله يزداد في العيش لأنه عاش وما حدث له شيء، فهو إذاً يأمل يأمل وهذا الذي يقتل الناس فما هو الأمل المحمود والأمل المذموم؟ الأمل المحمود: هو أن يأمل في الخير وهذا جيد، لكن الأمل المذموم هو الذي يدعو إلى التسويف كما سيمر معنا.
فالعاقل الذي يأخذ بالاحتياط، فإذا مرض أو افتقر فعنده رصيد والحمد لله، إذا ما مرض أو افتقر لا يتضرر! الناس أنواع: طالب وموظف، وأعزب ومتزوج، وصغير وكبير، هناك بعض الناس الذين يعيشون في نوع من العافية، لا يفكرون في المستقبل وهذه هي المشكلة، فمثلاً: الطالب يظن أنه في المستقبل إذا تخرج من الجامعة فإنه سيكون لديه وقت أطول، وسيتحرر من الدراسة ومن الامتحانات وأن الوقت سيتسع بالنسبة له، لكن في الغالب لا يكون ذلك، وتمر بالموظف أوقات يتمنى أن يكون فيها في حياة الدراسة، دع الآن موظفاً يدخل الجامعة التي درس فيها قبل عشر سنوات، ماذا سيكون شعوره؟ سيقول: أين أيام زمان! أيام كان الواحد ليس عنده مسئوليات، أيام كان الواحد عنده عطلة الربيع وعطلة صيفية، وعطلة خميس، بالنسبة للناس الذين في وظائفهم عطلة خميس، ويقول: الدراسة -تنتهي- مثلاً الساعة الثانية، لكن العمل يستمر حتى الليل أحياناً.
لكن عندما تذهب إلى الطالب يقول: الآن عندي خطط في طلب العلم، وعندي خطط في الدعوة، وعندي خطط في صلة الرحم، وعندي خطط، انتظر حتى أتخرج وأتفرغ من همّ الدراسة وهمّ الامتحانات، وأتفرغ إن شاء الله وأفعل هذه الأشياء كلها، وأنفذ المخططات، لكن عندما يتخرج تقع الواقعة، فينشغل بالوظيفة، والوظيفة ليست سهلة، الآن الوظائف مع مرور الزمن تتعقد ويحصل فيها من الصعوبة أكثر من ذي قبل! ولذلك لا تفكر أبداً وأنت طالب أنك إذا دخلت حياة الوظيفة، أنك ستدخل عالماً من الفراغ الذي ستستغله في كثيرٍ من الأعمال الصالحة، بل إنك وأنت طالب عندك من الإمكانيات ما ليس عند الموظف، فلا تغتر واغتنم فراغك قبل شغلك.
أنت الآن لم تتزوج بعد، الواحد أحياناً يقول: الآن عزوبية، والأوقات مختلطة، لكن غداً أتزوج وأجلس في بيت وأستقر، وسيصير عندي وقت كبير، لكن فكر الآن في قضية الزواج، الزواج مسئولية وسوف يأتيك أولاد، وتحدث عندك روابط اجتماعية، وستزور أهل الزوجة، وعم الزوجة، وعمتها، وخال الزوجة، وخالتها، وأقرباءك الذين لم تكن تعمل لهم حساباً، ستضطر أن تعمل لهم حساباً بعد الزواج، الإنسان عندما يكون فرداً قد لا يزور بعض أقربائه، لكن عندما يتزوج طبيعة الوضع تفرض عليه، سيأتيه أقرباء له بزوجاتهم ليتعرفوا على زوجته، وهو يضطر لأن يزورهم أيضاً، ويدخل في معمعة من الزيارات العائلية، ويضطر لحضور مناسبات كثيرة، لأنه متزوج، طبعاً، والزواج ليس سيئاً لكن نقول: اغتنم فراغك قبل شغلك، الزواج عبادة، يفتح لك أبواباً من الأجر، لكن هناك أشياء تستطيع أن تفعلها قبل الزواج ولا تستطيع أن تفعلها بعد الزواج، هناك عبادات تستطيع أن تستكثر منها قبل الزواج ما لا تستطيع أن تستكثر منها بعد الزواج.
مثلاً السفر في طلب العلم: الآن إذا تزوجت قد يصعب عليك أن تقوم بهذه العبادة، وعندما يكون لك أولاد كثيرون يصعب عليك دائماً أن تأتي بعمرة وراء عمرة، لكن عندما تكون فرداً يسهل عليك أن تخرج كثيراً، قد تبيت في مكان آخر لتواصل عبادة أو طاعة أو طلب علم؛ لأنه ليس لك زوجة، لكن عندما يصبح عندك زوجة يجب أن ترجع إلى العش وتبيت فيه، وسيصعب عليك أن تترك الغداء عند أولادك وعند أهلك، لكن عندما تكون طليقاً من هذه الناحية يمكن أن تفعل أشياء لا تفعلها في حال الزواج، ستنشغل في بناء بيت! وقد تنشغل في مشروع تجاري إضافي، وقد تنشغل في شراء أغراض، فالذين عندهم أولاد لو فكر أحدهم فقط في قضية تطعيم الأولاد، وكل ما مرض ولد تريد أن تأخذه إلى المستشفى، هذه لوحدها بند كبير في الأوقات المصروفة، وكذلك شراء الأغراض من السوق واستئجار بيت، وتأثيثه، وتوفير مال لشراء سيارة ودفع لفواتير الهاتف والكهرباء، وشراء للملابس، وهناك حاجات كثيرة جداً ستستهلك الوقت، لا تحسب أنك في المستقبل ستتفرغ أكثر، الآن استغل الوقت.
أيضاً من الأشياء الأخرى: الإنسان عندما تكبر مسئولياته الاجتماعية، ويصبح عدد أفراد أسرته أكثر أو -مثلاً- يكبر أبوه ويصبح غير قادر على العمل، وتزداد الرعية واحداً، سيحتاج إلى أن يصرف على بيت ثانٍ، وهناك أناس كانوا يصرفون على بيت، وأصبحوا الآن يصرفون على بيتين، وقد يصرف على ثلاثة بيوت، فيضطر أن يعمل عملاً إضافياً في المساء، أو يشترك في مشروع تجاري غير الوظيفة من أجل أن يلاحق المسئوليات.
لا تظن أنك ستجزم أنك تتفرغ في المستقبل أبداً، الآن قد يكفيك راتب لشراء السلع لكن ما تدري غداً تقل الرواتب أو أن السلع ترتفع أسعارها! مع التضخم الذي يعيشه العالم اليوم، فالشيء الذي ستشتريه الآن بعشرة ريالات في المستقبل قد لا تشتريه إلا بخمسين ريالاً، وستضطر أن تعمل أكثر لتكسب أكثر، لكي تستطيع أن تشتري.
هذا الاضطرار قد يكون مذموماً؛ لأنه انشغال بالدنيا عن الآخرة، لكن أحياناً هناك أشياء ملجئة فعلاً وتعتبر عبادة، أنك تصرف على بطون جائعة، وعلى أناس محتاجين، لكن هذه العبادة قد تشغلك عن عبادة أخرى كنت تستطيع أن تعملها في الماضي!(96/6)
استغلال نعمة الشباب
اغتنم فراغك قبل شغلك! الشخص عندما يكون في مقتبل عمره، يكون ذهنه صافياً، لذلك كان عمر بن الخطاب يجعل في مشورته الشباب بالإضافة إلى الشيوخ، نوعية معينة من الشباب، لماذا؟ لصفاء أذهانهم، كان يبتغي حدة عقول الشباب، فكان ابن عباس في مشورة عمر، وكان عمره ثلاث عشرة سنة، لكن ذهنه حاد، قد ينقدح في ذهنه من الأفكار ما لا يأتي في أذهان الشيوخ؛ لأنه ليس عنده مسئوليات، ما عنده أولاد إذا مرضوا اهتم بهم، ولا عنده أولاد إذا تخرجوا من الجامعة يهتم أين سيذهبون ويتوظفون، ولا عنده أولاد إذا كبروا سيبحث للولد عن زوجة، وإذا كان عنده بنت فسيحمل همَّ زواجها، هذه الهموم وهموم المستقبل والأولاد تكدر صفاء ذهن الشخص، ولذلك بعض الشباب يحفظ قرآناً فيريد من أمه أو من أبيه أن يحفظ معه بنفس المعدل، يقول: يا أمي! لماذا لم تحفظي؟ أنا حفظت كذا بفترة، تقول: لكن ذهنك غير ذهنها، والهم الذي عندك غير الهم الذي عندها، ولذلك تجد كثيراً من كبار السن يقولون: يا ولدي! ذهبت علينا أيام، يا ولدي! الآن لا نستطيع أن نحفظ، لا نستطيع أن نصلي مثلكم صلاة التراويح، لأن الإنسان مع الزمن يستهلك، حواسه تضعف، ولذلك كان من الدعاء النبوي: (اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أبقيتنا -ليس فقط هذا- واجعله الوارث منا) يعني اجعله زائداً بحيث كأنه يفيض بعد موتنا، أو ورثه لأولادنا.
فصفاء الذهن نعمة، ينبغي أن تستغلها الآن في طلب العلم وفي الحفظ والتفكير السليم.
الإنسان -أيها الإخوة- لا يدري ماذا تخبئ له الأيام! الآن هو قد يكون صحيحاً، لكن في المستقبل قد يمرض مرضاً مزمناً -نسأل الله العافية- اسأل كثيراً من المرضى، قل للمرضى الذين عندهم أمراض مزمنة، قل لهم: قبل أن تصابوا بهذا المرض كيف كنتم؟ كانوا شباباً وكانوا في صحة، لكن بعد ذلك تجد الواحد منهم مرض مرضاً شديداً؛ الآن إما أنه في المستشفى، أو في الفراش في البيت لا يخرج إلا نادراً، وقد يريد من يحمله لقضاء حوائجه، بعض الناس لا يحسب هذا الحساب، قال الشاعر:
يسر الفتى طول السلامة والبقا فكيف ترى طول السلامة يفعلُ
يُرد الفتى بعد اعتدالٍ وصحةٍ ينوء إذا رامَ القيام ويحملُ
انظر إلى كبيرٍ في السن كيف يقوم! يقوم على مراحل! يمكن على اليد الأولى ثم على الرجل الأولى ثم على اليد الثانية ثم على الرجل الثانية، وربما يحمل حملاً، لكن انظر في شاب تجده يستوفز إذا أراد أن يقوم قام مرةً واحدة.
اغتنم فراغك قبل انشغالك بأمراض، وقبل انشغالك بتعب الشيخوخة وأمراضها، وهؤلاء الشباب الذين لم يقدّروا لهذا السن قدره عليهم أن يتمعنوا جيداً:
أترجو أن تكون وأنت شيخٌ كما قد كنتَ أيام الشبابِ
لقد كذبتك نفسك ليس ثوبٌ دريسٌ كالجديد من الثيابِ
ثوب دريس: بال من الاستعمال ليس مثلك؛ الناس مختلفون، بعض الناس عندهم عقارات تدر عليهم أرباحاً -وصاحب العقار جالس في البيت- ليس عنده شيء إلا أنه يحصل في آخر السنة الأجرة، وهناك رجل أبوه غني قد يصرف عليه وعلى بيته، ورجل أبوه فقير يصرف هو على نفسه وعلى أبيه، وهناك أناس عائلتهم غنية، فإخوانه أغنياء، وأعمامه أغنياء، وأخواله أغنياء، لو أراد أن يستلف لوجد من يسلفه، ولو غاب وجد من يصرف على بيته، لكن بعض الناس قد يضطر أن يصرف على عدة عوائل، وبعض الناس أولادهم في صحة وقد لا يذهب إلى الطبيب أو العيادة إلا في السنة مرة، أو ما يذهب إلا نادراً، وهناك أناس عندهم أولاد مرضى قد يضطر للسفر من أجل علاجهم، ويقضي فترات طويلة يتنقل في مستشفيات! وتخيل أن رجلاً عنده ولد مصاب بمرض من الأمراض، كيف يكون وضعه مع الولد؟ تراه دائماً منشغلاً بالولد، فإذا ارتفعت الحرارة ذهب إلى الدكتور في المستشفى، فإذا لم يجد العلاج ذهب للثاني وذهب للثالث، فإذا لم يجد في الظهران ذهب إلى الرياض أو إلى جدة، وقد يضطر للسفر إلى مصر أو إلى أمريكا بحثاً عن العلاج، والسفر يحتاج إلى تذاكر وإلى أموال تنفق فيها، وإلى جهود وأوقات، وهذا كله من أجل العلاج وليس بالسهل.(96/7)
نعمة العافية
وردني سؤال يتعلق بأحكام الطهارة -الوضوء- كأن يكون على اليد حائل -مثلاً مرهم- يمنع وصول الماء.
القصة: أن عائلة فيها ولدان مرضهما أنه ظهر طفح في الجلد ثم أصبح بثوراً، ثم تحولت إلى أورام سرطانية دقيقة أو صغيرة لها جذور في الجلد إلى الداخل، ولا يمكن لهذا المريض أن يرى النور -يعني: النور يضره جداً- فلذلك لا يمكن أن يجلس تحت أنوار، ولا في أشعة الشمس، ولا حتى أمام نور شاشة التلفزيون، ولابد أن يضع نظارة طوال الوقت ما عدا وقت النوم، ولابد أن يدهن الجلد كله بمرهم عازل للضوء (عازل للأشعة أربعة وعشرين ساعة) والمرض لا يعرف له علاج في العالم، وفي المستقبل قد يزداد حتى يضرب في مناطق الأعصاب فيسبب آلاماً رهيبة.
الآن تأمل حال الأم المنشغلة بهؤلاء الأولاد، كيف يكون البيت بلا نور! لابد أن تساعدهم في دهن الجسم بالمرهم دائماً.
تصور بيتاً فيه أولاد فيهم عاهات، أو كبار في السن وفيهم عاهات، يحتاج هذا المريض إلى شخص يأخذه، وآخر يطعمه وآخر يسقيه، ويحتاج إلى من يخرج له الفضلات، وينقله من الحمام إلى الغرفة، وغيرها من الأعمال.
والله عز وجل له حكمه، ولله في خلقه شئون، لكن نحن بسبب الصحة غافلون، ولو أردت أن تعرف شيئاً من الحقيقة فادخل إلى مستشفى من المستشفيات، وتأمل في حال المرضى في الأقسام المختلفة، سئل الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله هل يجوز زيارات المستشفيات للاعتبار، قال: نعم! يمكن للشخص أن يذهب للمستشفيات ليعتبر، وعندما نعلم هذه الأشياء لا بد أن نتأثر لكي نستغل الصحة التي نحن فيها الآن، لأننا لا نعلم حقيقةً ماذا سيحدث لنا في المستقبل، قد يحدث لنا مرض أو عدة أمراض أو مرض مزمن -نسأل الله العافية- لكن الإنسان عليه أن يتعظ ويأخذ عبرة.
فنعود ونقول: الناس أصناف، منهم من دخله كبير، ومنهم من دخله يحتاج إلى عمل شديد، الإنسان الذي عنده شركات، غير العامل الذي يشتغل في الشمس وفي البناء ساعات طويلة، والشخص الذي في بداية الزواج غير الشخص الذي عنده أولاد، والشخص الذي في بداية الوظيفة، ليس مثل الشخص الذي عنده تطور في الوظيفة ودخل فيها وتشعب، وازدادت مسئولياته الوظيفية، ما هو المقصد من وراء ذكر هذه المسألة؟ أن الله عز وجل يؤاخذ الناس على حسب النعم التي أعطاهم إياها.
فأنت لا تتخيل -مثلاً- أو لا تظن أن الشخص الذي عنده عقارات تأتيه الإيجارات هكذا في نهاية السنة وهو جالس! لا.
وإنما يتعب ويعمل مثل العامل الذي يضطر أن يشتغل ست عشرة ساعة في اليوم في الشمس وفي البرد أحياناً، لا تتخيل أن الرجل الذي عنده وقت سواء كان طالباً أو أعزب أن حسابه عند الله مثل الرجل المتزوج الذي عنده مسئوليات وأولاد، وهكذا.
وكذلك المرأة -مثلاً- عندما تكون فتاة في مقتبل العمر ليس عندها مسئولية، أمها هي التي تطبخ وهي التي تنظف البيت، أو أن في البيت خادمات -والعياذ بالله من خادمات السوء- هذه المرأة عندما تكبر وتتزوج، وهي متزوجة قبل الأولاد حسابها يتغير عندما يأتيها أول ولد، وحسابها غير ذلك عندما يصير لها ولدان، وحسابها يختلف عندما يصير عندها خمسة أو سبعة أولاد.
ولذلك اغتنم فراغك قبل شغلك، هذه حكم نبوية لها مدلولات عظيمة، لكن أكثر الناس لا يعلمون، وأكثر الناس لا يفقهون، ولا يتفكرون، ولا يتعظون، تستهلكهم الحياة دون أن يخططوا شيئاً للمستقبل ودون أن يحتاط الآن للمستقبل.
كذلك يضاف إلى ما سبق قبل أن ننتقل إلى نقطة أخرى: أن الناس بالنسبة للإجازات مختلفون، مثلاً الطالب قد يكون عنده عدة أنواع من الإجازات كما ذكرنا، إجازة صيفية وأحياناً تكون شهرين أو شهرين ونصف أو ثلاثة شهور، إجازة الربيع أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، وقد تكون عنده إجازات مختلفة، بخلاف الموظف فإنه قد لا يكون عنده إلا شهر أو شهر ونصف، وعطلة نهاية الأسبوع.
إن الشاب يختلف عن رب الأسرة، فالطالب عندما تكون عنده إجازة يستغلها فيما يشاء، لكن رب العائلة عندما تصبح عنده إجازة يشغلها في أشياء مختلفة، كأن تكون عنده حاجة تحتاج إلى تصليح أو يريد أن يسافر، وهكذا تجد أن إجازات بعض الناس هي أشغال في الحقيقة، أكثر من أيام الوظيفة، بينما إجازات بعض الناس هي عبارة عن فراغ في فراغ في فراغ.(96/8)
الجوانب التي يؤسس الإنسان فيها نفسه في فراغه
فالمقصود الآن: أن المسئولية أمام الله والحساب يوم القيامة ليس الناس فيه سواء.
عندنا الآن
السؤال
ما هي الجوانب التي يحرص الإنسان على أن يؤسس فيها نفسه في فراغه قبل أن ينشغل؟ الآن لو صار عندك فراغ، لو كنت شاباً في مقتبل العمر ما هي الجوانب التي تستغل فيها فراغك، لتؤسس فيها نفسك؟ طبعاً بداية العمر هذه فترة تأسيسية، مثل البناء تضع الأساسات ثم تبني، فترات الشباب هي فترات تأسيس في الحقيقة، للعاقل فترات الشباب فترات تأسيس وبناء، ولذلك ينبغي أن تستغل في عدة أمور، نذكر اثنين منها:(96/9)
تعويد النفس على الأعمال الصالحة والعبادات المختلفة
الأول: مجاهدة الشاب المتفرغ لنفسه في تعويدها على الأعمال الصالحة والعبادات المختلفة: وهذه نقطة مهمة جداً، العبادة إذا جاءت في البداية مبكرةً تصادف موقعاً جميلاً، وتدخل فيه وتترسخ وتصبح سجية، يعني: لو أن شاباً تعود على قراءة جزء من القرآن يومياً، وعلى إدراك تكبيرة الإحرام دائماً، وعلى صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فإن هذا التأسيس سيصبح سجية فسيستمر فيه طيلة حياته، لكن لو أتيت بشخص كبير في السن وقلت له: أنت غير متعود على قراءة جزء قرآن في اليوم، نريد أن نعودك على قراءة جزء من القرآن في اليوم؟ وأنت كنت لا تصوم النوافل وسنعودك على أن تصوم النوافل دائماً؟ هل تتوقع أنها ستكون مسألة سهلة؟ لا.
أبداً، العبادة إذا جاءت على شغل لا ترسخ في النفس، لكن لو جاءت العبادة على فراغ في النفس فإنها تصبح عادة وطبعاً وسجية، ولذلك الآن ندرك خطأ الفكرة التي يظنها كثير من الناس حينما يقول: يا أخي! هذا شاب، دعه يتمتع بعمره وبشبابه، تريدون أن تؤذوا الشباب وتنكدوا عليهم، وتريدون أن تضيعوا عليه أحلى أيام عمره وزهرة شبابه، وهؤلاء الذين يفكرون بهذا التفكير مساكين.
إذا أردت الدليل فاستمع معي إلى هذا الحديث: في البخاري ومسلم وغيرهما: عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (بلغني أنك تصوم النهار وتقوم الليل فلا تفعل، فإن لجسدك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، أو حظاً -كما في بعض الروايات- صم وأفطر، صم من كل شهرٍ ثلاثة أيام، فذلك صوم الدهر) -الحسنة بعشرة أمثالها، ثلاثة في عشرة بثلاثين كأنه صام الشهر كله، وثلاثة أيام من الشهر الذي بعده، وكأنه صام الشهر الذي بعده، وهكذا حتى كأنه صام الدهر، قلتُ: (يا رسول الله! إن بي قوةً أو إن لي قوةً) وكان عبد الله بن عمرو في فترة شباب؛ فقال: إن لي قوةً، هو أصلاً يستغل شبابه في قيام الليل وصيام النهار، لما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم منه أن يعتدل في عبادته قال: إن بي قوةً (قال: فصم صوم داود عليه السلام، صم يوماً وأفطر يوماً- وفي رواية: ذكرتُ للنبي صلى الله عليه وسلم الصوم، فقال: صم من كل عشرة أيامٍ يوماً ولك أجر التسعة، قلت: إني أقوى من ذلك، قال: فصم من كل تسعةٍ أيامٍ يوماً ولك أجر الثمانية، فقلت: إني أقوى من ذلك، قال: فصم من كل ثمانية أيام يوماً ولك أجر السبعة، قلتُ: إني أقوى من ذلك، قال: فلم يزل -يعني يتدرج معه- حتى قال: صم يوماً وأفطر يوماً)، يعني: من كل يومين يصوم يوماً، وفي رواية أن عبد الله قال: (فإني أطيق أفضل من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أفضل من ذلك) يعني: أنك تصوم يوماً وتفطر يوماً لا يوجد أفضل من هذا، أفضل الصيام صيام داود، لكن صيام داود -أيها الإخوة- مشروطٌ بأمرٍ ورد في حديث وهذا الأمر مهم.
والحديث في تكملته أنه صلى الله عليه وسلم لما وصف صيام داود قال: (ولكنه كان لا يفر إذا لاقى) كان لا يفر إذا لاقى، يعني: لم يكن هذا الصوم ليعجزه ولا ليضعفه عن الجهاد، فإذا كان صيام يوم وإفطار يوم سيجعلك تضعف عن القيام بالوظائف الأساسية، بيتك، وأهلك، وعملك، وصلاتك، وجهادك، وطلبك للعلم، فإنك قد انشغلت بمفضول عما هو أفضل منه، هذا شرط صيام يوم وإفطار يوم.
السؤال
كيف تعود الأعمش رحمه الله على إدراك تكبيرة الإحرام بحيث قال الراوي: أن الأعمش لم تفته تكبيرة الإحرام ستين عاماً؟ معناها: أنه كان متعوداً منذُ الصغر على إدراك تكبيرة الإحرام، فلذلك ينبغي أن يتعود الإنسان في أوقات الفراغ على العبادة، وهذا مهم جداً للشاب، تأسيس نفسه على العبادة وأنواع الأذكار، وأنواع العبادات حتى ينطلق:
اغتنم في الفراغ فضل ركوعٍ فعسى أن يكون موتك بغته
كم صحيحٍ رأيت من غير سقمٍ ذهبت نفسه الصحيحة فلته
ماذا تعني كلمة: وقت الفراغ؟ في وقت الفراغ شيء مهم في مفهوم (أيش معنى وقت الفراغ) بعض الناس يظن أن المعنى: اعمل كل شيء، البعض يظن أن وقت الفراغ هو بعد أن يقوم بكل أعماله ويقول: إذا زاد الوقت طلبنا العلم ودعونا إلى الله.
هذه من الأشياء الأساسية -طلب العلم والدعوة إلى الله- إذا أردت أن تعرف المعنى الصحيح لهذا، تأمل معي في آخر سورة الشرح: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:5 - 8].
فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب، ما معنى هذا؟ قال أهل العلم كما في تفسير ابن كثير: فإذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها -يعني: الأمور المهمة، مثل البيت والأكل والأهل والأولاد- فانصب في العبادة وقم إليها نشيطاً، قال بعض المفسرين: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل، وقال بعض المفسرين: فانصب في الدعاء، وقال بعضهم: فإذا فرغت من الجهاد فانصب في العبادة.
وهذا يدلك على شيء مهم جداً، وهو أن أوقات الفراغ هي غير أوقات العبادات المفروضة في أوقات معينة، منها صلاة الجماعة، ومثل الجهاد إذا حان وقته، وهكذا.(96/10)
طلب العلم
والأمر الثاني -أيها الأخوة- هو قضية طلب العلم؛ وطلب العلم من الأمور المهمة، التي ينبغي أن يستغل الإنسان وقته فيها، لذلك يقول عمر رضي الله عنه: [تفقهوا قبل أن تسودوا] ما معنى قبل أن تسودوا؟ يعني: قبل أن تصبح إنساناً ذا شأن، وصاحب مسئوليات وصاحب منصب، وقبل أن تصبح سيداً متصدراً للناس، تفقه فإنك غداً عندما تصبح منشغلاً بذلك المنصب أو بتلك السيادة، ربما لا تجد وقتاً كافياً لطلب العلم، وأيضاً، فإن السيادة تحتاج إلى فقه، وإلا فكيف يقود الناس إنسانٌ جاهل، لذلك يقول عمر: [تفقهوا قبل أن تسودوا] ولذلك كان علماؤنا رحمهم الله، لا يضيعون وقتاً بغير فائدة، فترى وقتهم مقسوماً بين القراءة والتصنيف، وبين الإفتاء والقضاء، وبين الحفظ والتدبر والعبادة، وإنكار المنكر، والجهاد في سبيل الله، والتدريس، حتى أن بعضهم كان لهم ثلاثة عشر درساً في اليوم، ويقرأ عليهم أحياناً في الطريق، وهم يمشون ويسألون العلماء في الطريق، وربما إذا دخل بعضهم الخلاء أمر القارئ أن يرفع صوته، حتى يستغل وقته وهو في الخلاء، فيسمع العلم، وربما فكروا بالمسألة وعلموها أو تعلموها وهم في النزع الأخير من حياتهم على فراش الموت، وأكل بعضهم الطعام نيئاً لعدم وجود الوقت للطبخ وكان بعضهم يختصر الوجبات، فيقتصر على وجبة في اليوم، وينتقون الأكلات السهلة التحضير، وسهلة المضغ ليوفروا وقتاً لطلب العلم، وإذا انشغل أحدهم ببري القلم وهو يكتب انطلق لسانه بذكر الله أو مراجعة المسائل حتى لا يتوقف عن عمل مفيد، لكن انظر الآن! إذا كان أحدنا يكتب ويستغل وقته، وأراد أن يبري القلم يتأمل في البراية، ويطالع في المرايا التي خلف المبراة.
وكانوا لا ينامون إلا قليلاً؛ حتى ربما خفق رأس بعضهم في كتابه، هكذا كانوا حريصين جداً على طلب العلم، ومن المشاكل الكبرى أن ترى طالب العلم يبرز للناس، ويتصدر قبل أن يتأسس علمياً فينزلق في مزالق، ويقع في مطبات وحفر شيطانية؛ من إفتاء الناس بغير علم -مثلاً- وسيأفل سريعاً ويزوى؛ لأنه تصدر وليس عنده أساس علمي قوي، يعرف كلمتين، فإذا انتهت الكلمتان التي يعرفها انفض الناس من حوله، بعض الخطباء والوعاظ وطلبة العلم يبرز للناس ولم يتأسس بعد، عنده حصيلة قليلة، فإذا ألقى كذا خطبة، أو كذا درساً انتهى الذي عنده، حتى لو كان -مثلاً- مع رفقاء له يعلمهم، فإذا علم فلاناً وفلاناً وفلاناً شهراً أو شهرين أو سنة أو سنتين انتهت الحصيلة، وصاروا مثله في النهاية؛ لأنه لم يستغل وقته في الطلب، والمسلم الجيد هو الذي لا يزال الناس يجدون عنده ما يحتاجون إليه.
ولذلك يجب علينا أن ننظر ونعتبر من بعض العلماء الذين بارك الله في أوقاتهم، سبحان الله -مثلاً- أنت إذا نظرت في حال شيخنا عبد العزيز بن باز حفظه الله، تجد من حاله عجباً، طبعاً هذا الرجل أسس نفسه على العلم منذُ الصغر، أسس نفسه على الأصول، يعني: على القرآن ودواوين السنة، عنده أصول أسس نفسه عليها، وهو لا يزال يراجعها، ولذلك ترى حلقات الشيخ أكثرها قراءة وهو يسمع، يعني: يقرأ عليه أكثر مما يعلق، فهو لا يزال يراجع الأصول، ولذلك عندما تأتي النازلة ليفتي فيها الشيخ، فعنده الأصول وهي قد اختمرت في ذهنه بمرور السنين وتواليها، آيات وأحاديث كثيرة جداً اختمرت في ذهنه، تأسست نفسه في العلم، فلو جاءت نازلة أفتى فيها، لكن لو جاء طالب علم، وجاءت نازلة، سيبحث في الكتب والدواوين وأقوال العلماء، والأشباه والنظائر، ويرى الأمور، ثم بعد ذلك قد تكون فتواه صحيحة وقد تكون عوجاء، ولذلك ترى الآن العلماء الحقيقيين وإن كانوا قلة وندرة، إلا أن عندهم القدرة على الكلام في مستجدات العصر بعلم شرعي، وإلا فهناك أناس يفتون بجهل في مستجدات العصر، ولذلك مثل الشيخ حفظه الله الذي لديه خلفية قوية في أصول الإسلام، لا يحتاج إلى أن يفتش وينقب دائماً في الكتب ويبحث مثل طالب العلم، فإنه إذا أراد أن يفتي في مسألة يبحث فيها! وأيضاً -أيها الإخوة- الداعية إلى الله مهم جداً أن يؤسس نفسه، قبل أن تتراكم عليه المسئوليات -وهذه القاعدة مهمة- قبل أن تتراكم عليه المسئوليات الدعوية والتربوية، فإن الإنسان إذا كان يسير في طريق الدعوة والتربية فإن مسئولياته في ازدياد من يومٍ إلى آخر، وإذا كان مخلصاً عاملاً نشيطاً، فإن مسئولياته ستزداد يوماً بعد يوم، وإن رعيته التربوية ستكبر وتتضخم، فإذا لم يكن عنده أساسٌ قوي، فكيف سيقوم بمواجهة هذه المسئوليات والاضطلاع بها؟ ولذلك تجد بعض المشايخ الكبار، قد لا يجد وقتاً للقراءة أحياناً، لأنه يتنقل من مكان إلى مكان، يلقي محاضرة هنا وهناك، ودرساً هنا وهناك، ويتصل الناس به ويستفتونه.
الشيخ ابن عثيمين قال كلمة جميلة، أقصد في جمال المدلول عندما كان يدرس في الحرم في رمضان، وكانت له حلقة بعد الفجر وحلقة بعد المغرب، وكان الناس يسألونه بعد الصلوات وبعد العصر، وكانت له غرفة مخصصة يتصل عليه الناس قال: والله إني أحياناً لا أجد وقتاً أقرأ فيه القرآن، فأحياناً يكون الإفتاء أفضل من تلاوة القرآن، وذلك بسبب حاجة الناس، خصوصاً للذي لم يهجره، ومن هنا -أيها الإخوة- كان لابد للدعاة الصادقين من إيجاد خطة لتفريغ الدعاة إلى الله، ويجب على أهل الغنى والثراء أن ينظروا في المشاريع الإسلامية، ويحاولوا أن يشاركوا فيها؛ لتفريغ الدعاة إلى الله لكي يتجولوا في بلاد الكفار، ليلقوا الدروس والمحاضرات، وتفريغهم لهذا المجال ولهذا العمل أفضل من أن يعمل أحدهم في شركة أو في مؤسسة يستهلك وقته فيها، وترتيب الرواتب لهم من أعظم أبواب الأجر؛ لأنه سيستطيع أن يعطي، ولذلك كان العلماء في الماضي لهم رواتب من بيت مال المسلمين، العالم ليس عنده عمل إلا طلب العلم، والتعليم، وهذا التفرغ هو الذي أنتج العلماء في الماضي.(96/11)
ثلاثة مداخل شيطانية
من الأمور التي نختم بها كلامنا -أيها الإخوة- أن هناك ثلاثة مداخل ربما تكون أحياناً شيطانية.
بعض الناس لو لم يهتد إلى الله إلا بعد فترة من الزمن -مثلاً صار عمره ثلاثين سنة، أو أربعين سنة، ثم هداه الله- فماذا يحصل له؟ يقول: لقد فاتني وقت الطلب، وقت تأسيس نفسي على العبادة، وذهب عليَّ الزمن وذهب عليَّ الوقت، وفاتني القطار.
وتراه دائماً يشتغل بالندم على الوقت الفائت، فيسبب تضييع الوقت الحاضر، وهذه نقطة شيطانية خطيرة جداً، وهذا خطأ كما قال أهل العلم، ولذلك صارت القاعدة الذهبية، "ما لا يدرك كله لا يترك بعضه" أي: إذا لم تستطع أن تأخذ طريق العلم من بداية عمرك، فلا يترك بعضه، وهناك من العلماء من طلب العلم وهو كبير، فهناك من طلب العلم وهو ابن أربعين أو خمسين، وهناك من العلماء من أصبح نابغة في هذا، وهناك عباد وزهاد لم يتعبدوا لله إلا بعد فترة طويلة من حياتهم، وانظر في حال الصحابة، أليس حالهم عجيباً؟! كثير منهم اهتدوا في الأربعين والخمسين عمرو بن الجموح وطأ بعرجته في الجنة، رجل أدركه الإسلام وهو كهل لكن ما فتر، ولذلك أنت تعجب بعض الأحيان عندما تدخل في حلقة شيخ من المشايخ أو عالم من العلماء -مثلاً- في حلقة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله قد تجد رجلاً كبيراً في السن، وتراه جالساً في الحلقة وهو يستمع، هذا الرجل عاقل، ما قال أنا فاتني العلم، وعليَّ أن أجلس في البيت، هذا هو الذي يفرح الشيطان فعلاً.
إياك ثم إياك أن تفكر من هذا المنطلق، وإذا أخلصت النية فإن الله سيبارك لك في وقتك ولو كان ضيقاً، لو شخصاً قال: أنا أصرف على كذا أسرة، أنا إنسان مشغول فكيف أطلب العلم؟ نقول: أنت إذا أخلصت لله يبارك الله لك في وقتك، يا أخي! تأمل في حياة عمر بن عبد العزيز تجد عجباً: عمر بن عبد العزيز: استلم الخلافة وفيها ترف وابتعاد عن الله، وانشغال بالدنيا، والطرب والغناء والرقص في البيوت، وكانت هناك منكرات كثيرة عمت المجتمع، كم حكم عمر بن عبد العزيز؟ حكم سنتين ونيفاً، لكن سبحان الله العظيم! كيف تغير الوضع لما حكم عمر بن عبد العزيز في سنتين ونيف؟ صار هناك انقلاب في المجتمع وتَغيَّر الناس! وازدهرت حلقات العلم والعلماء بشكل أكبر بكثير مما كان قبل ذلك، حتى أن الناس اكتفوا مادياً، وكانوا يبحثون عن فقراء للزكاة فما يجدون، كيف فعل هذا الرجل في سنتين! كيف حدث هذا؟! أليست هذه شبه معجزة، إنما حدث هذا بإخلاص عمر بن عبد العزيز! رحمه الله، ورضي عنه وأرضاه، كم أدى للإسلام من خدمةً جليلة في هذه الفترة القصيرة التي حكم فيها! وآخر ما نختم به، مرض من أمراض هذه المشكلة -اغتنم فراغك قبل شغلك- مرض التسويف.
بعض الناس، كما يقول ابن القيم رحمه الله: كلما جاء طارق الخير صرفه بوَّاب (لعل وعسى).
كلما جاء طارق الخير وقال: يا فلان! اطلب العلم، يا فلان اعبد الله، يا فلان ادع إلى الله، يا فلان، صرفه بواب لعل وعسى، وأكثر الناس ضائعون بين السين وسوفَ، والأماني رأس مال المفاليس.
هذا ما سنقف عنده في هذا الموضوع.(96/12)
الأسئلة
وهنا وردنا
السؤال
(96/13)
كيفية استغلال الوقت في العطل
السؤال
نحن شباب استغللنا الوقت في العطلة الصيفية في المراكز الصيفية، والآن قد انتهت المراكز الصيفية فماذا نفعل؟
الجواب
طبعاً هناك أمور كثيرة جداً ينبغي على الشباب أن يتوجهوا إليها في هذه الفترة، الآن كم بقي حتى تأتي الدراسة، عشرون يوماً أو ثمانية عشر يوماً، لا تظن أن هذه فترة سهلة، ثمانية عشر يوماً إذا استغلت استغلالاً جيداً؛ فإنك ستحصل فيها على فوائد كثيرة جداً، لا تحلم بها! إذا استعنت بالله وأخلصت وخططت تخطيطاً جيداً، طبعاً هناك مجالات كثيرة -مثلاً- مكتبات المساجد هذه فرصة للشباب، تبادل الأشرطة والكتب وقراءتها، الزيارات الأخوية في الله، الرحلات العلمية المفيدة، التي يخرج فيها الطالب من أجل أن يغير فيها الجو لكنه يستفيد، وكذلك حلقات العلم، والمواظبة عليها، وحضورها في المساجد، وكذلك زيارة العلماء، وزيارة طلبة العلم والاستفادة منهم، وتبادل الآراء وغيرها، وهناك وسائل كثيرة جداً يمكن أن يستفيد الشباب منها في هذا الوقت.
والمسألة كما قلنا -أيها الأخوة- أولاً وأخيراً هي الإخلاص، وصدق النية، وصدق التوجه، زائداً عليها العزيمة والهمة التي ينتجها هذا الإخلاص، زائداً على ذلك التخطيط الجيد واستشارة أهل الخبرة، سيكون لها أثرٌ كبيرٌ إن شاء الله في استغلال هذا الوقت.
وأخيراً نقول كما قال عليه الصلاة والسلام: (اغتنم فراغك قبل شغلك).
وصلى الله على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(96/14)
اقتضاء العلم العمل
أخي: لابد من التعرف على رسائل العلماء وعلى ما احتوته تلك الرسائل من الكنوز والمواعظ والآداب، وهذه رسالة تبين أهمية العمل بالعلم، وقد ترجم الشيخ لمؤلفها، وذكر نشأته ورحلاته في طلب الحديث وتأليفه وإملائه، ثم ذكر سبب تأليف هذه الرسالة، ثم شرع يبين مفاهيمها ومعانيها التي تتحدث عن العلم والغاية من طلبه.(97/1)
ترجمة الخطيب البغدادي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فهذه الرسالة الثانية من سلسلة رسائل أهل العلم التي نتعرف فيها على بعض ما احتوته تلك الرسائل من الكنوز والعلوم والمواعظ والآداب، والرسالة بعنوان اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي رحمه الله تعالى.
واقتضاء العلم للعمل أي: أن العلم يقتضي العمل به، ومؤلفها هو أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي يكنى بـ أبي بكر وقد اشتهر بـ الخطيب البغدادي، وقد ذكر الخطيب رحمه الله تعالى في تاريخ بغداد في ترجمة والده أن أصله من العرب، وأن له عشيرة كانوا يركبون الخيول، وأن مسكنهم بـ الحصّاصة من نواحي الفرات من بلاد العراق، ولم يكن والده من العلماء المشهورين في فنٍ من الفنون، وإنما كان له إلمام بسيط بالعلم، وقد كان يخطب الجمعة والعيدين بقرية قريبة من بغداد اسمها درزيجان.
ولذلك لم يصف الخطيب والده بأنه من العلماء، وإنما وصفه بأنه أحد حفاظ القرآن، فقال في ترجمة والده في تاريخ بغداد: كان أحد حفاظ القرآن، ويبدو أن لقب الخطيب قد استمر من الأب إلى ابنه؛ لأن الخطيب نفسه قد تولى الخطابة، كما ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية أنه تولى الخطابة وكان خطيباً للجمعة والعيدين في بغداد، ولم ينفرد الخطيب البغدادي بهذا اللفظ (الخطيب) أو بهذا اللقب، وقد لقب به عددٌ من العلماء، منهم: تلميذ الخطيب البغدادي وهو الخطيب التبريزي رحمه الله وآخرون.
ولد أبو بكر الحافظ أحمد بن علي بن ثابت يوم الخميس لستة من جمادي الآخر سنة (392هـ) ونشأ في كنف أبيه، وكان في نشأته قد وكل به أحد القراء ليعلمه القرآن، فتعلم القرآن وحفظه منه، ولما بلغ الحادي عشر من عمره بدأ بسماع الحديث، ثم درس الفقه، ولما بلغ العشرين من عمره عزم على الرحلة في طلب العلم والحديث.
وكان الذي قد حفظّه القرآن وعلمه الكتابة هو هلال بن عبد الله رحمه الله، وتأدب منه، وهذا ما يفيد أهمية تأديب الأولاد في المرحلة المبكرة.(97/2)
رحلات الخطيب البغدادي في جمع الحديث
في سنة (412هـ) بدأت المرحلة الثانية من حياة الخطيب وهي إنشاء رحلات لجمع الحديث، وقد قام بثلاث رحلات، زار فيها ثلاث عشرة ناحية ومدينة من أشهر بلاد المسلمين.(97/3)
رحلته إلى البصرة
كانت رحلته الأولى إلى البصرة في (412هـ) والتقى بكبار محدثيها، ومنهم: أبو عمر القاسم، وأبو جعفر بن عبد الله الهاشمي، وسمع منه سنن أبي داود وغيرها، وعاد إلى بغداد في السنة نفسها، وفي الطريق مر بـ الكوفة والتقى بمحدثيها واستفاد فوائد، وقد ذكر ذلك في كتابه: تاريخ بغداد، ولما رجع من هذه الرحلة لم تطل فرحة أبيه به؛ لأن أباه توفي في هذه السنة، وعاجلته المنية يوم الأحد من نصف شوال في السنة ذاتها التي رجع فيها الولد من رحلته.
فتولى ابنه دفنه بنفسه ولم يؤثر ذلك في نيته في الطلب وعزمه عليه، واقتضب الخطيب رحمه الله هذه الحادثة في ترجمة والده، فقال: توفي يوم الأحد النصف من شوال سنة (412هـ) ودفنته من يومه في مقبرة باب حرب، ولم يزد على هذا كلمةً واحدة.(97/4)
رحلة الخطيب إلى نيسابور
بعد وفاة والده تابع جمعه للحديث من أفواه المحدثين، وطاف على محدثي بغداد يأخذ عنهم الحديث، وبعد أن رأى بأنه قد أكمل الأخذ عنهم عزم على الرحلة مرة ثانية، وكان عنده اختياران: إما أن يذهب إلى مصر، وإما أن يذهب إلى نيسابور، فتردد فاستشار شيخه البرقاني رحمه الله وهو من كبار الحفاظ، وقال له: هل أرحل إلى ابن النحاس في مصر أو أخرج إلى نيسابور إلى أصحاب الأصم؟ فأشار عليه شيخه إلى نيسابور، وعلل ذلك قائلاً: إنك إن خرجت إلى مصر إنما تخرج إلى رجلٍ واحد، إن فاتك ضاعت رحلتك، وإن خرجت إلى نيسابور ففيها جماعة، إن فاتك واحدٌ أدركت من بقي، فخرج إلى نيسابور وزوده شيخه البرقاني رحمه الله برسالة لطيفه إلى محدثي أصبهان، وكتب إلى أبي نعيم، رحمه الله الحافظ الكبير يوصيه بتلميذه الخطيب البغدادي، ويقول له فيها: قد نفذ إلى ما عندك عمداً متعمداً أخونا أبو بكرٍ أحمد بن علي بن ثابت أيده الله وسلَّمه، ليقتبس من علومك، ويستفيد من حديثك، وهو بحمد الله من له في هذا الشأن سابقةً حسنة، وقدم ثابت، وفهم حسن، وقد رحل فيه وفي طلبه، وقد حصل له منه ما لم يحصل لكثيرٍ من أمثاله الطالبين له، وسيظهر لك منه عند الاجتماع به، مع التورع -هذه المسألة ليست مسألة فقط حفظ روايات- مع التورع والتحفظ وصحة التحصيل -أي: الدقة- ما يحسّن لديك موقعه، ويجبل عندك منزلته، وأنا أرجو إن صحت منه لديك هذه الصفة أن تبين له جانباً، وأن توفر له وتحتمل منه ما عساه يورده من تثقيل في الاستكثار، أو زيادةٍ في الاصطبار، فقديماً حمل السلف عن الخلف ما ربما ثقل.
خرج الخطيب البغدادي رحمه الله مع رفيقٍ له اسمه أبو الحسن علي بن عبد الغالب متوجهاً إلى نيسابور، وفي رحلته كان يحصل له من العبادة الشيء الكثير، وقد رآه رفقاؤه الذين معه، وحصلت له في الرحلة من الروايات والأحاديث ما ألهاه عن النساء والطعام والشراب، بل ربما أنساه حاجته للنوم! فمن العجائب التي حصلت له، ويضرب له المثل في سرعة القراءة، وشهد له الحافظ ابن حجر رحمه الله بذلك، أنه قرأ صحيح البخاري كاملاً على إسماعيل بن أحمد الضرير في ثلاثة أيام قراءة ضبط على شيخ، ولا يعرف أنه حصل لغيره مثل هذا.
ورجع بعد ذلك إلى بغداد وسمع وقرأ فيها ذلك، ولما استقر بها عكف على كتابه المشهور تاريخ بغداد، ولما اكتملت فصول الكتاب، واجتمعت مادته، عزم على أداء فريضة الحج شكراً لله عز وجل، ولتتم النعمة، ولتتم رحلاته في أقطار العالم الإسلامي في ذلك الوقت.(97/5)
رحلة الخطيب إلى دمشق وتوجهه إلى بلد الله الحرام
بدأت الرحلة الثالثة في سنة (444هـ) فتوجه من بغداد إلى دمشق وسمع من كثيرٍ من محدثيها، ثم توجه إلى مكة ولم يكن يترك طريقه بدون فائدة، بل كان يشغله بتلاوة القرآن الكريم، فيقول أحد مرافقيه وهو أبو الفرج الأسفرائيني: كان الخطيب معنا في طريق الحج يختم كل يومٍ ختمة، قراءة ترتيل، ثم يجتمع عليه الناس وهو راكب يقولون: حدثنا فيحدثهم، وهكذا قضى الطريق متقرباً إلى الله تعالى بتلاوة القرآن، وإسماع الناس الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولما وصل مكة وطاف ببيت الله الحرام، وصلى ركعتين خلف المقام توجه إلى ماء زمزم وشرب منه ثلاث شربات، وسأل الله ثلاث حاجات، آخذاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له) وهذه الثلاث هي: الأولى: أن يحدث بـ تاريخ بغداد في بغداد.
الثانية: أن يملي الحديث بجامع المنصور، وكان جامعاً مشهوراً لا يحدث به إلا النوادر ممن يؤذن له من الخليفة.
الثالثة: أن يدفن بجانب بشر الحافي، وهو أحد الورعين الزهاد العباد، فتمنى أن يدفن بجانبه، وبلغه أن كريمة المروزية مجاورة بـ مكة المكرمة، وعندها سماعٌ عالٍ لـ صحيح البخاري؛ لأن كريمة عُمِّرت إلى سن المائة رحمها الله تعالى، فذهب إليها وقرأ عليها صحيح البخاري في خمسة أيام.
وبعد الانتهاء من فريضة الحج والاجتماع بمحدثي مكة، والمشاهدات النافعة التي حصلت له، كما قال الله عز وجل: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] قفل راجعاً إلى الشام من الحجاز، فمر بـ البيت المقدس أولى القبلتين ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمع بعلمائها، مثل: أبي محمد عبد العزيز بن أحمد بن عمر المقدسي وسمع منه الحديث، ولعل هذا الدخول لـ بيت المقدس كان في سنة (446هـ).
ثم انتقل بعدها إلى صُوْرٍ وسمع فيها من بعض مشايخها، مثل: عبد الوهاب بن حسين العمر الغزال، وانتهى مكثه بمدينة صُوْر فتوجه راجعاً إلى وطنه بغداد حاملاً معه رواياته الجديدة، ومسموعاته التي تزود بها، وبدخوله بغداد، انتهت المرحلة الثانية من حياته.(97/6)
الخطيب ومرحلة التصنيف والكتابة والإسماع والإملاء
بدأت المرحلة الثالثة: وهي مرحلة التصنيف والكتابة والإسماع والإملاء، فجعل يجمع المتفرق، ويرتب المتناثر من الفوائد والمسموعات التي حصلها، ويجعل منها مادة دسمة وغنية بتصانيفه التي كانت بحقٍ من أجود التصانيف خصوصاً في علوم الحديث، ويعتبر الخطيب البغدادي رحمه الله مجدداً في علوم الحديث، ويعتبر النقلة التي نقل بها علم الحديث من ناحية التأليف نقلة كبيرة، فكان العلماء في الحديث من بعده كلهم عالة عليه، وكل من أراد أن يؤلف في الحديث لابد أن يرجع إلى كتب الخطيب رحمه الله تعالى.
حتى عدّد بعض أهل العلم كتبه بأربع وخمسين مصنفاً إلى عام (453هـ) غير ما صنف بعدها.
وأما الحاجة الأولى التي كان سأل الله إياها: وهي التحديث بـ تاريخ بغداد بـ بغداد، فقد حدثت في هذا الاستقرار، فإنه حدث بـ بغداد بكتاب تاريخ بغداد وأملاه على بعض تلاميذه في حجرةٍ كانت له قرب المدرسة النظّامية.(97/7)
الخطيب والتحديث بجامع المنصور
وأما الحاجة الثانية: وهي إملاء الحديث بجامع المنصور، فلم يكن ذلك أمراً سهلاً ويصعب على الخطيب أن يقدم التماسات للسلطان لكي يسمح له بذلك، ولعل قدر الله يجري، وكان يتمنى أن يجري قدر الله بشيءٍ يجعل السلطان من نفسه يأذن له بالتحديث أو يعرف رغبته فيأذن له بالتحديث، فجرت حادثة سنة (447هـ) وكان لها الأثر الكبير في رفعة مقام الخطيب البغدادي عند السلطان، ومن كان في ذلك الوقت آخذاً بزمام الأمور، وهذا الحادث هو أن بعض اليهود قد أظهر كتاباً بخط اليد، وادّعى أنه من النبي صلى الله عليه وسلم بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وأن فيه شهادات الصحابة وخط علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فرئيس الرؤساء في ذلك الوقت أبو مسلم عرضه على الخطيب، وسمع أن الخطيب محقق من المحققين، ومؤرخ ومحدث؛ فعرض عليه الرسالة، فقال الخطيب لما اطلع على الرسالة فوراً: هذا مزوّر، فقال من أين لك هذا؟ وما هو الدليل؟ قال: في الكتاب شهادة معاوية بن أبي سفيان ومعاوية أسلم يوم الفتح، وخيبر كانت في سنة (7هـ) وفي هذه الرسالة أيضاً شهادة سعد بن معاذ رضي الله عنه، وسعد بن معاذ مات يوم الخندق قبل معركة خيبر، فكيف يشهد سعد بن معاذ الذي مات قبل خيبر على قضية حصلت بـ خيبر، وكيف يوقع معاوية بن أبي سفيان الذي أسلم بعد خيبر على قضية حدثت بـ خيبر! هذه فائدة معرفة التواريخ، وكان ذلك من فطنته وعلمه رحمه الله، فاستحسن السلطان ذلك جداً، واعتمده وأمضاه، ولم يُجز اليهود على ما في الكتاب؛ لظهور التزوير، ولعله عاقبهم.
وارتفعت منزلته بهذه القصة عند أبي مسلم وكبر في عينه كثيراً، ووثق به وبدقة علمه؛ فقدمه وصار يذكره، وشاع ذكر الخطيب رحمه الله بعد تلك القصة جداً، وحُمل إلى الخليفة ومعه جزءٌ من سماع الخليفة الآخر القائم بأمر الله، وأراد أن يحدث الخليفة بجزء الخليفة الآخر، فقال الخليفة: هذا رجلٌ كبيرٌ في الحديث ليس له إلى السماع مني حاجة -ذهب إليه ليستمع حديثه منه، وكان الخليفة قد سمعه هو نفسه، فكان الخطيب قد كتبها عنده لما أدخل على الخليفة ومعه جزء الخليفة، وطلب منه أن يسرد عليه الأحاديث التي سمعها، قال الخليفة متعجباً: هذا رجلٌ كبير القدر في الحديث، فليس له إلى السماع مني حاجة، وعنده من الطرق الأخرى ما يستغني عني وعن سماعي- فما حاجته اسألوه؟ قال: حاجتي أن يأذن لي بالإملاء في جامع المنصور.
فأذن للخطيب بالإملاء، واجتمع الناس في جامع المنصور، وأملى الحديث وتمت له اثنتين مما دعا الله بها عند زمزم، وهذا المسجد الكبير الذي يؤمه الطلاب لا شك أنه كان نافذة كبيرة للخطيب رحمه الله؛ لكي يملي أحاديثه وينشر علمه من خلال ذلك المنبر.(97/8)
فتنة البساسير وخروج الخطيب إلى دمشق
بقي الخطيب طيب النفس قرير العين بما بلغت أمانيه التي استجابها الله له يملي بجامع المنصور، ويصنف ويهذب، إلى أن حدثت فتنة البساسير، وهذا انقلاب خطير جداً صارع الخلافة العباسية السنية من قبل هذا البساسير الرافضي الباطني ومعه عددٌ آخر من الباطنية، ومعهم من الرعاع والأشرار وقطاع الطرق والمجرمين، بحيث أنهم سيطروا على مدينة بغداد فعلاً، واستطار شر هذه الفتنة وكاد الخطيب رحمه الله أن يُقتل فيها، لكنه سارع بالخروج من بغداد متخفياً إلى دمشق وهاجر منها وقد صارت موطن كفرٍ بما حكم به ذلك الرافضي الباطني الخبيث، وخلع خليفة المسلمين، وتُتبع أهل العلم والفضل، وقُتل من أهل السنة وعلمائهم خلقٌ كثير في تلك الفتنة بأمورٍ شنيعة، وكيفيات بشعة في القتل جداً، وقد أشار ابن كثير رحمه الله إلى هذه الفتنة في كتاب البداية والنهاية، ووصف البساسير بالخبيث.
لقد استتر الخطيب رحمه الله وخرج من بغداد في شهر صفر سنة (451هـ) مصطحباً كتبه وتصانيفه قاصداً دمشق فوصلها سالماً، واتخذ المئذنة الشرقية من الجامع الأموي مسكناً له، وبدأ التدريس في المسجد، وصار له حلقة كبيرة يجتمع الناس فيها ويحدثهم، وكان يخرج أيضاً إلى بساتين ويقرأ كتب الأدب هناك، ولعل كتاب التطفيل وحكاية الطفيليين قد حدث في ذلك الجو والظل الوارف، وبينما كان يقرأ من الكتب في دمشق كتاب فضائل الصحابة الأربعة للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله سمع بذلك بعض الروافض، وكان لهم شوكةٌ؛ حصلت لهم بسبب حكم الفاطميين في مصر، فثاروا على الخطيب وأرادوا قتله، فأجاره أحد الأشراف في ذلك المكان، وكان مسكنه قريباً من الجامع، فأجاره على أن يخرج من دمشق، فخرج إلى صور، ونفعته الرحلة الأولى التي دخل فيها صور وأقام فيها علاقات مع بعض أهلها، فكان المكان المناسب أن يخرج إلى تلك البلدة، ومن الأسباب التي جعلت هؤلاء يقومون عليه هو صوته -رحمه الله- فقد قال ابن كثير في البداية، عن الخطيب البغدادي: أنه كان جهوري الصوت، يُسمع صوته من أرجاء الجامع كله، فاتفق أن قرأ على الناس في يومٍ من الأيام فضائل العباس فثار عليه الروافض من أتباع الفاطميين وأرادوا قتله، فحصل ما حصل من خروجه إلى صور، وقد خرج في سنة (459هـ) وكان فيها بعض أهل العلم وهاجر إليها لا ليسمع كما كان من قبل وإنما ليُسمِع هو ويملي ويحدث في تلك البلدة، وقد قيض الله له من يُنفق عليه في تلك البلدة ويُعطيه مالاً كثيراً، فحصل له به اكتفاء.(97/9)
رجوع الخطيب إلى بغداد بعد الفتنة
لما بلغ الخطيب سبعين سنة وشاخ وشعر بقرب أجله حنّ إلى بغداد، وكانت فتنة البساسير قد زالت، وعاد الأمر إلى أهل السنة، ونُصِبَ الخليفة منهم مرةً أخرى، فرجع الخطيب رحمه الله في سنة (462هـ) سالكاً طريق الساحل ماراً بـ طرابلس ودخل فيها وجلس فيها فترةً يسيرة ناظر في ضمن من ناظره بعض أهل التشيع هناك، وكانت طرابلس تحت حكمهم، وتفوق عليهم، ثم خرج منها قاصداً حلب، وأقام بها أياماً يسيرة يُعلِّم ويحدِّث، وسمع من بعض الشيوخ بـ حلب، ومنهم: أبو الفتح أحمد بن النحاس رحمه الله، ثم توجه إلى بغداد فوصلها في سنة (462هـ) في تلك السنة أيضاً، فاستغرقت الرحلة من صُوْر إلى بغداد أربعة أشهر لم يكن يترك في طريقه الفائدة والعبادة والتقرب إلى الله، فلا زال على طريقته التي عهدوه عليها في رحلة الحج من ختمٍ للقرآن كل يومٍ ختمةً كاملةً.
ولما وصل إلى بغداد وسُر بالوصول إليها بعد فراق دام إحدى عشرة سنة، أراد أن يكافئ أحد من صنع إليه معروفاً في بغداد، فلم يجد ما يكافئه به أعظم من كتابه تاريخ بغداد، وقال: لو كان عندي أعز منه لأهديته له.
وكانت هذه النسخة من تاريخ بغداد بخط الخطيب نفسه، واستأنف الخطيب رحمه الله دروسه في بغداد في جامع المنصور بعد أن آل الأمر فيها لـ أهل السنة، والخليفة العباسي القائم بأمر الله، واجتمع إليه الناس، ورجع إليه طلاب الحديث بشوقٍ ولهفة وحنين، فحدَّث بـ سنن أبي داود من روايته وبكتبه وتواريخه.(97/10)
مرض الخطيب البغدادي ووفاته
لقد مرض الخطيب رحمه الله في نصف رمضان من سنة (463هـ) في حجرته، ولما أحس بدنو أجله وكان عنده شيءٌ من المال والثياب أراد أن يوزع ذلك قبل أن يموت، ولم يكن له زوجة ولا أولاد، ولا عقب ولا وارث؛ فلعله أراد أن يختم حياته بالتصدق بما عنده من أموال، ففرقها على أصحاب الحديث، وكانت كل ممتلكاته مائتي دينار، وكّل في توزيعها أبا الفضل بن خيرون، فوزعها في حياة الخطيب، وأوصى بأن يتصدق بجميع ثيابه وما يملكه من أشياء بعد وفاته، وجعل جميع كتبه ومصنفاته وقفاً على المسلمين، واشتد المرض به في أوائل ذي الحجة سنة (463هـ) حتى توفي في ضحى يوم الاثنين السابع من ذي الحجة في تلك السنة، رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه، وامتدت فترة مرضه من رمضان إلى سبع ذي الحجة، وكان اشتداد المرض في أوائل ذي الحجة، والوفاة في السابع من هذا الشهر.
بوفاته رحمه الله تعالى طويت صفحة عظيمة من صفحات علم الحديث التي ذهب فيها هذا العالم الكبير إلى ربه سبحانه وتعالى، وكان على أخلاقٍ عظيمة وعبادةٍ كبيرة، وعفةٍ متناهية، فإنه لم يتزلف إلى سلطانٍ، ولم يتولَّى منصباً قط، لا قاضياً ولا مفتياً، مع أنه كان أهلاً لذلك، ولم تكن المناصب لتمتنع عليه، لو أنه سعى إليها وأرادها، لكنه اختار أن يبقى بعيداً عن فتنة الوجاهة، ورضي بالكفاف من العيش، ولم يكن له خدمٌ ولا جوارٍ، ولعلّ الرحلة في طلب العلم لم تسعفه في الزواج، فتوفي رحمه الله وخلف أولاداً مخلدين من المصنفات التي ألفها.(97/11)
بيان عفة الخطيب البغدادي وبعض سجاياه
لقد ذكر المؤرخون من قصص الخطيب العظيمة في عفته، أنه كان مرةً بـ مرو فحدثت له القصة التالية: أحد أهل مرو حدَّث بالقصة التالية عن الخطيب: عن شخصٍ اسمه عمر النسوي من نسى وهي بلدة معروفة، قال: كنتُ في جامع صور عند الخطيب، فدخل عليه بعض العلوية، وفي كمه دنانير، وقال للخطيب فلانٌ -من بعض الأغنياء- يسلم عليك ويقول: هذا تصرفه في بعض مهماتك، فقال الخطيب: لا حاجة لي فيه، وقطّب وجهه، فقال العلوي: فتصرفه إلى بعض أصحابك؟ قال: قل له يصرفه هو إلى من يريد.
قال العلوي: كأنك تستقله، ونفض كمه على سجادة الخطيب وطرح الدنانير عليها، وقال هذه ثلاثمائة دينار -والدينار أربعة غرامات وربع من الذهب- ووضعها على السجادة، فقام الخطيب محمر الوجه، وأخذ السجادة ونفض الدنانير على الأرض وخرج من المسجد.
قال: الفضل بن أبي ليلى الذي حضر القصة: لا أنسى عز خروج الخطيب وذل ذلك العلوي وهو قاعدٌ على الأرض يلتقط الدنانير من شقق الحصر ويجمعها، قام وترك له هذه الدنيا، وقام ذلك يجمع الدنانير.(97/12)
تواضع الخطيب رحمه الله
ومن تواضعه رحمه الله أن أحد المحدثين لقيه، فقال له: أنت الحافظ أبو بكر، قال: انتهى الحفظ إلى الدارقطني، أنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب.(97/13)
كرم الخطيب البغدادي
ومن كرمه رحمه الله ما حدّث به تلميذه الخطيب التبريزي قال: دخلتُ دمشق فكنتُ أقرأ على الخطيب بحلقته بالجامع كتب الأدب المسموعة له، وكنت أسكن منارة الجامع، فصعد إليّ وقال: أحببت -الشيخ يقول للتلميذ- أن أزورك في بيتك، فتحدثنا ساعةً، ثم أخرج ورقةً، وقال: الهدية مستحبة، اشتر بهذه أقلاماً، ثم نهض فإذا خمسة دنانير مصرية، ثم إنه صعد مرةً أخرى، ووضع نحواً من ذلك، فهذا من إكرامه لتلاميذه رحمهم الله تعالى.
وكان من مميزات الخطيب أنه كان جيد الخط، وتجد أن بعض المخطوطات التي كتبها بعض العلماء قد أتعبت من بعدهم في فك رموزها من سوء خطهم، ولعل بعضهم لم يكن عنده وقت للتدرب على تحسين الخط من ولعهم بالعلم والرحلات، لكن الخطيب رحمه الله من ميزاته أنه كان حسن الخط، كثير الضبط، كثير الشكل، وهو الذي عنون عنواناً في كتابه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، باب تحسين الخط وتجويده، نصح فيه طلبة العلم بتحسين الخط.
ومن ضمن تلك النصائح: أن الواحد لا يقرنط فيتعب ويتعب من بعده، يقرنط: أي يصغر الخط؛ لأنه إذا كبر وصار بصره ضعيفاً لم يعد يقرأ ما كتب في أيام الشباب، ولو مات وأراد واحد أن ينتفع بما كتبَ فسيتعب جداً في فك هذه الرموز، وكذلك فإنه كان فصيحاً للغاية، كان يقرأ قراءةً معربةً صحيحةً.
قال ابن الجوزي: كان حسن القراءة، فصيح اللهجة، وكان جهوري الصوت، وكان عجيباً في سرعة القراءة، ضرب به المثل في ذلك، وكان حريصاً على الاستفادة من وقته، كان يمشي في الطريق وفي يده جزءٌ يطالعه، يضرب به المثل في سرعة القراءة، وكان عليه هيبة ووقارٌ من عمله بالعلم الذي اكتسبه رحمه الله تعالى، وقد أثنى عليه العلماء ومدحوه للغاية، مثل تلميذه الحافظ ابن ماكولا، والحافظ أبو بكر ابن نقطة الحنبلي وأبو سعد السمعاني وابن عساكر وابن خلكان وابن النجار والسبكي والسِلَفِي وأبو إسحاق الشيرازي، والتاجي، وابن الأثير، والذهبي وغيرهم.
يقول الذهبي رحمه الله: "ختم به إتقان هذا الشأن".
وقال صاحب وفيات الأعيان: "سنة كذا مات حافظ الدنيا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب صاحب التصانيف".(97/14)
مصنفات الخطيب البغدادي رحمه الله
لقد ترك تصانيفاً كثيرةً جداً قريباً من مائة مصنف صارت عمدةً لأهل الحديث، ومن هذه المصنفات: 1 - تاريخ بغداد وهو أشهرها.
2 - الكفاية في علم الرواية، وهو موضح أوهام الجمع والتفريق في باب مصطلح الحديث.
3 - شرف أصحاب الحديث.
4 - الفقيه والمتفقه.
5 - التطفيل.
6 - اقتضاء العلم العمل.
7 - تقييد العلم.
8 - نصيحة أهل الحديث.
9 - الرحلة في طلب الحديث.
10 - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع.
11 - المتفق والمفترق.
12 - السابق واللاحق.
13 - المزيد في متصل الأسانيد.
لا يكاد يوجد باب من أبواب المصطلح إلا وتجد فيه للخطيب تأليفاً وتصنيفاً.
14 - التفصيل لمبهم الأسانيد.
15 - الأسماء المبهمة.
16 - روايات الآباء عن الأبناء.
17 - من حدث ونسي.
18 - غنيمة الملتمس في إيضاح الملتبس.
19 - الأسماء المتواطئة.
20 - المؤتلف والمختلف.
هذه كلها أبواب في مصطلح الحديث قد غطاها الخطيب رحمه الله تأليفاً وتصنيفاً، وكل من صنَّف في علم الحديث بعد الخطيب عيالٌ على كتبه، وكتبه ليست في الحديث فقط وإنما يوجد منها أشياء أخرى في أبوابٍ من العلم، ومن هذه المنصفات: رسالة لطيفة للخطيب البغدادي رحمه الله، بعنوان: اقتضاء العلم العمل، وهي التي سنتعرض لها في هذا المقام بمشيئة الله عز وجل.(97/15)
سبب تأليف رسالة اقتضاء العلم العمل
لقد جمع الخطيب البغدادي رحمه الله هذه الرسالة ليبين أهمية العلم بالعمل، وقد جمع علماً كثيراً ومرويات متعددة وفيرة، لكنه علم رحمه الله أن الغاية من طلب العلم هو العمل به، ولعله لاحظ أن هناك تقصيراً في العلم، وأن بعض الناس في عهده من طلاب الحديث قد رحلوا في طلب الحديث، وجمعوا الروايات والطرق والأسانيد وربما اجتمع عند الواحد منهم أسانيد كثيرة لحديثٍ واحد، فلاحظ أن هناك انشغالاً كبيراً بالجمع وتقصيراً في العمل.
والعصر الذي عاش فيه الخطيب رحمه الله، كان عصر جمع الأحاديث، وكان انكباب الطلاب على الجمع، والانشغال عن العمل، مما يبين أن هناك سبب وراء تأليف الرسالة يتعلق بالعصر الذي عاش فيه، وهناك السبب العام وهو نصيحة لكل المسلمين بأهمية العمل بالعلم، لأن هذا باب يحتاجه كل مسلم، وهو التركيز على قضية العمل بالعلم.(97/16)
أهمية التوازن بين العلم والعمل
لقد صدّر رسالته هذه بقوله: (نشكر الله سبحانه على ما ألهمنا، ونسأله التوفيق للعمل بما علّمنا، فإنّ الخير لا يدرك إلا بتوفيقه ومعونته، ومن يضلل الله فلا هادي له من خليقته، وصلى الله على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين، وعلى من اتبع النور الذي أنزل معه إلى يوم الدين.
ثم إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبك، وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرة والعمل ثمرة، وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً، وقيل: العلم والد والعمل مولود، والعلم مع العمل، والرواية مع الدراية) الرواية هي: الأسانيد والمتون، والدراية هي: أن يدري بما يعلم ويفقهه.
(ورأس الفقه العمل بالعلم، فلا تأنس بالعمل ما دمتَ مستوحشاً من العلم، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصراً في العمل).
هذه نظرية مهمة جداً، وهي قضية التوازن بين العلم والعمل، وتجد بعض الناس عندهم طاقة في العمل لكنه سيقع في البدعة والخطأ، وبعض الناس عنده طاقة في جمع العلم، وليس عنده طاقة في العمل، فيكون علماً نظرياً لا ينفع صاحبه، فلا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشاً من العلم، ولا تأنس بالعلم ما دمت مقصراً في العمل (ولكن اجمع بينهما وإن قل نصيبك منهما، وما شيءٌ أضعف من عالمٍ ترك الناس علمه لفساد طريقته، وجاهلٍ أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته) وهذا فعلاً من الأخطاء التي يقع فيها العامة.
ينظرون إلى واحد يجدون عنده اجتهاد وعبادة كبيرة فيستفتونه ويسألونه وينصبونه عالماً، وهو ليس بعالم إنما هو عابد، وربما يوجد عالم عنده علم لكن ليس عنده عبادة ولا زكاة للعلم، فالناس سيتركونه؛ لأن أخلاقه ليست أخلاق العلماء، وعبادته ليست عبادة العلماء، وعمله ليس عمل العلماء؛ فيتركونه، فتكون النتيجة ضلال الخلق.
والناس يريدون واقعاً عملياً يقتنعون به، فالسيرة والتصرفات، هي التي تقنع الناس.
قال: (والقليل مع هذا) أي: من العلم (مع القليل من هذا) من العمل (أنجى في العاقبة إذا تفضل الله بالرحمة، وتمم على عبده النعمة، فأما المدافعة والإهمال) لا علم ولا عمل (وحب الهوينة والاسترسال، وإيثار الخفض والدعة، والميل إلى الراحة والسعة، فإن خواتم هذه الخصال ذميمة، وعُقباها كريهةٌ وخيمة).
وكثير من شباب الصحوة ابتلوا في هذه الأيام بقضية الميل إلى الدعة والراحة، والكسل واللهو واللعب، فلم يعد في حياتهم نصيبٌ إلى الجد في طلب العلم، وليس عليهم إلا سيما الالتزام في الظاهر، من لحيةٍ، وتقصيرٍ ثوبٍ، ولكن في باطن الأمر لا تجد علماً جيداً، ولا عملاً مجتهداً فيه.(97/17)
الغاية من طلب العلم
قال: (والعلم يراد للعمل كما العمل يراد للنجاة! فإذا كان العمل قاصراً عن العلم، كان العلم كلاً على العالم، ونعوذ بالله من علمٍ عاد كلاً، وأورث ذلاً، وصار في رقبة صاحبه غلاً، قال بعض العلماء: العلم خادم العمل، والعمل غاية العلم) أي: أنت لماذا تتعلم ما هو السر؟ ما هي الغاية من وراء التعلم؟ إنك تتعلم لتعمل.
وتجد بعض الناس عندهم إنخداع وانجذاب لمنهج الغربيين الضلال الكفرة، الذين يقولون: العلم للعلم، والقراءة للقراءة، والثقافة للثقافة، أي: أن العلم لذاته يقصد لذاته، ولذلك تراهم يسلكون سبلاً ليست نافعة في العلم إطلاقاً، ترى الواحد منهم يتخصص وربما يأخذ شهادة الدكتوراه في شيءٍ تافه سخيف جداً، يفني عمره فيه، مثلاً: بعضهم يتخصص في الآثار والتحف الموجودة من الحضارات القديمة، دكتوراه في التحف والآثار، ما هي الفائدة؟ وربما واحد تخصص في اللغة الهيروغلوفية ومعه دكتوراه في اللغة الهيروغلوفية، ما هي الفائدة في لغة انقرضت؟ ويفني عمره فيها، لماذا؟ لأن عند الغربيين مبدأ العلم للعلم.
أما المسلمون فعندهم مبدأ العلم للعمل، وهذا الفرق بيننا وبينهم، فرق كبير، ولذلك تجد كثيراً منهم تضيع أعمارهم في أشياء تافهة، وبعض أبناء المسلمين قلدهم، ذهب إلى بلدانهم وتعلم مثلهم وعلى طريقتهم، ورجعوا بتخصصات تافهة سخيفة، أمضى سنواتٍ طويلة وأبحاث، في ماذا؟ يقول: علم هذا لأجل العلم، فليس عند المسلمين شيء اسمه العلم للعلم، وإنما العلم وسيلة لغايةٍ وهي العمل.
قال الشيخ: (وهل أدرك من السلف الماضيين الدرجات العلى إلا بإخلاص المعتقد والعمل الصالح، والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا؟! وهل وصل الحكماء إلى السعادة العظمى إلا التشييد بالسعي، والرضا بالميسور، وبذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم؟! وهل جامع كتب العلم إلا كجامع الفضة والذهب؟! وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليها؟ وكما لا تنفع الأموال إلا بإنفاقها! كذلك لا تنفع العلوم إلا لمن عمل بها وقام بواجباتها!!) افترض لو أن واحداً يجهد عمره في جمع المال وكسبه ولا يستفيد منه ولا ينفق، ولا يستمتع به شيئاً فهل هذا عاقل؟ وهل استفاد شيئاً مما جمع؟ لا.
فكذلك الذي يحرص على جمع العلم دون عمل، (فلينظر المرء لنفسه، وليغتنم وقته، فإن الثوى قليل -أي: البقاء في الدنيا قليل- والرحيل قريب، والطريق مخوف، والاغترار غالب، والخطر عظيم، والناقد بصير، والله تعالى بالمرصاد، وإليه المرجع والمعاد: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8]).(97/18)
الأحاديث والآثار في بيان أهمية العمل بالعلم
بعد هذا شرع الخطيب رحمه الله في إيراد الأحاديث والآثار التي جمعها عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين والسلف في هذه المسألة، وهي قضية العمل بالعلم، فصدَّره بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزولا قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه) وهذا حديثٌ صحيح أخرجه المصنفون من أهل العلم في كتبهم، وبعض الأحاديث التي ساقها الخطيب رحمه الله في هذا الكتاب ضعيفة، وبعضها أكثر من ضعيفة، ولكن كما ذكر العلامة الألباني رحمه الله، في تعليقه على هذه الرسالة: لعل عُذر الخطيب رحمه الله في ذلك أن العالم يسوق الإسناد، والمُحدِّث إذا ساق بالإسناد فإنه يكون قد حمّلك أنت أيها القارئ المسئولية، قال لك: هذا إسنادي فلان عن فلان عن فلان، وأنت تتحمل مسئولية البحث في صحة هذا الحديث.
وكذلك فإن بعض الطرق التي ساقها الخطيب ضعيفة، لكن الحديث له طرق أخرى صحيحة أو يتحسن بها الحديث بمجموع طرقه، ولعل الخطيب رحمه الله اشتغل بالجمع فترةً طويلة من عمره، ولم يكن عنده نصيبٌ كافٍ من الوقت لتحقيق ما جمع ونخله والتعليق عليه، والخطيب رحمه الله ليس جمّاعاً فقط بل جمّاع ناقد، وأصول النقد عنده واضحة، وتآليفه في المصطلح واضحة، وهي تدل على علو كعبه في علم الحديث، فلا تخفى عليه العلل، لكنه ربما لم يكن عنده الوقت لكي ينخل كل ما جمع ويكتب بجانب كل حديث صحته، أو أن طريقة العلماء أنهم كان يكتبون وطلبة العلم بقراءة الأسانيد يعرفون مدى صحة الحديث لا يحتاج إلى أن يقال له: هذا حسن وهذا ضعيف، أو هذا ضعيف وهذا صحيح، بينما نحن الآن بسبب جهلنا بعلم الحديث ليس عندنا قدرة على التمييز بين الأسانيد إلا من ندر.
ولذلك نحتاج بجانب كل حديث أن يعلق لنا عليه صحيح أو ضعيف، لأن هذا أوان وزمانٌ قد اضمحل فيه العلم، وذهب كثيرٌ منه، وتجد أكثر الناس ليس عندهم قدرة على التمييز بين الصحيح والضعيف.
ولذلك فإن عدداً من العلماء في الفترات المتأخرة بعد أن انتهت فترة جمع الحديث كانت هناك فترة التحقيق والتمحيص، والتصحيح والتضعيف، والتعليق على الأحاديث، وقد ورد عن علي رضي الله عنه: [يا حملة العلم! اعملوا به، فإنما العالم من عمل، وسيكون قومٌ يحملون العلم يباهي بعضهم بعضاً، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره، أولئك لا تصعد أعمالهم إلى السماء] وهذا يتضح كثيراً في مشايخ الصوفية، فالشيخ يريد أن يكون كل الطلاب مريدين عنده، ومنتسبين إليه، ولا يرضى أبداً أن يذهب أحد تلاميذه إلى شيخٍ آخر، ويجلس عند الشيخ الآخر، والحسد والتقاتل على الدنيا، وتكثير الاتباع والطلاب واضحٌ جداً فيهم، وتجد بين طلابهم أحقاد ومنافسات، وبعض المصابين بالأمراض النفسية، حتى من المنتسبين إلى السنة تجد فيهم هذا الداء، فلا يُعصم منه إلا من عصم الله، وينبغي على الإنسان أن يدل الطلاب على الفائدة والخير، وينصحهم بالذهاب إلى المشايخ والعلماء أينما كانت مجالسهم، عنده أو عند غيره؛ لأن المهم هو فائدة الطالب، وليس المهم أن يستفيد منك أو من غيرك، ثم إن من طبيعة العلم أنه لا يُتلقى عن شخصٍ واحد، فالشخص الواحد يخطئ والطالب قد لا يعرف خطأ الشيخ إلا إذا جلس إلى غيره، وإلى هذا وهذا وهذا، ولذلك كان من وسائل السلامة في طلب العلم: الأخذ عن عددٍ من الأشياخ وليس عن شيخٍ واحد؛ خصوصاً في هذا الزمان الذي قلَّ فيه فقه العلم الموسوعي، أي: منذُ زمن كان العالم يعرف الفقه والحديث، والتفسير واللغة، وأصول الفقه والمصطلح وسائر العلوم، أما الآن مع وجود الجامعات والكليات بدأ التخصص، فصار عندنا طالب يفهم في الأصول فقط، ولا يفهم في الحديث، والآخر يفهم في الحديث ولا يفهم في الفقه، وهذا يفهم في الفقه ولا يفهم في اللغة وهكذا، وذلك بسبب انحصار منهج التعليم الموسوعي والدخول في عالم التخصصات، بل إن البعض أحياناً يأخذ مسألة واحدة يبذل فيها جهده وعمره في رسالة ماجستير أو دكتوراه، وبقية مسائل العلم نفسه التي تحمله كليته بالاسم لا يفقهها كثيراً، ثم يتخرج ويتوظف وينتهي علمه عند هذه المسألة التي بحثها في رسالته، أو في بحثه الذي قدَّمه لنيل شهادةٍ علمية.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: [تعلموا فإذا علمتم فاعملوا]، وقال: [أيها الناس! تعلموا فمن علمَ فليعمل].
وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: [مثل علمٍ لا يعمل به، كمثل كنزٍ لا ينفق منه في سبيل الله عز وجل].
وقال الزهري رحمه الله: [لا يرضّين الناس قول عالمٍ لا يعمل، ولا عاملٍ لا يعلم، فالذي يرضيهم العلم والعمل].
فالعمل والإيمان قرينان، ولا يصلح كل واحدٍ منهما إلا مع صاحبه.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: [إنك لن تكون عالماً حتى تكون متعلماً، ولن تكون متعلماً حتى تكون بما علمت عاملاً].
وقال بعضهم: "الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم"، لماذا؟ لأنه قد لا يختم له بالإخلاص، فقد ينحرف في آخر عمره، فالدنيا جهلٌ ومواتٌ إلا العلم، والعلم كله حجة على الإنسان إلا العمل به، والعمل كله هباءً إلا الإخلاص، والإخلاص على خطرٍ عظيم حتى يُختم به.
وقال الخواص: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العالم من اتبع العلم واستعمله، واقتدى بالسنن وإن كان قليل العلم".
وقال عباس بن أحمد في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].
قال: من هم هؤلاء الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]؟ قال: "الذين يعملون بما يعلمون نهديهم إلى ما لا يعلمون، فيعلمونه".
وقال يوسف بن حسين: [في الدنيا طغيانان: طغيان العلم وطغيان المال، والذي ينجيك من طغيان العلم العبادة، والذي ينجيك من طغيان المال -ما هو؟ - الزهد فيه].
وقال يوسف: [بالأدب تفهم العلم، وبالعلم يصح لك العمل، وبالعمل تنال الحكمة، وبالحكمة تفهم الزهد وتوفق له، وبالزهد تترك الدنيا -الترك الشرعي- وبترك الدنيا ترغب في الآخرة، وبالرغبة في الآخرة تنال رضا الله عز وجل].
العلم والعمل سلسلة تنتهي برضى الله عز وجل متى أردت أن تشرُف بالعلم وتنسب إليه وتكون من أهله، قبل أن تُعطي العلم ماله عليك، احتجب عنك نوره وبقي عليك رسمه وظُهوره، مجرد عنوان، ذلك العلم عليك لا لك، وذلك أن العلم يشير إلى استعماله، فإذا لم تستعمل العلم في مراتبه، رحلت بركاته.
قال عوذبادي: من خرج إلى العلم يريد العلمَ لم ينفعه العلم، ومن خرج إلى العلم يريد العمل بالعلم نفعه قليل العلم.
وقال: "العلم موقوفٌ على العمل، والعمل موقوفٌ على الإخلاص، والإخلاص لله يُورث الفهم عن الله عز وجل".
وقال مالك بن دينار: "إن العبد إذا طلب العلم للعمل كسره علمه -أي: عرف قيمة نفسه وعرف حقيقة أمره وتواضع لله- وإذا طلبه لغير ذلك، ازداد به فجوراً وفخراً" ازداد بالعلم فجوراً وفخراً وطغياناً على عباد الله وتكبراً.
الآن بعض الناس من المشايخ الذين أخذوا علمهم في بعض الجامعات وأخذوا الدكتوارة، يغضب إذا لم يُقال له: الدكتور فلان أو الشيخ فلان! فلابد أن يصدّر بلقب، وهذا يدل على عيبٍ فيه، وأن علمه لم يزكِ نفسه فيكون متواضعاً.
وورد: "خير العلم ما نفع، وإنما ينفع الله بالعلم من علمه ثم عمل به، ولا ينفع به من علمه ثم تركه" والآن عدد من الشباب الذين انتكسوا وانحرفوا باعوا كتبهم وقد كانوا في أول الأمر مقبلين على العلم والتعلم، والقراءة والبحث، وحضور الدروس، ثم انشغلوا بالدنيا والفتن والأشياء من الشبهات والشهوات ومغريات الدنيا، وفي النهاية باعوا كتبهم؛ للتخلص منها.
ولذلك قيل: "تعلموا العلم واعقلوه وانتفعوا به، ولا تعلموه لتجبلوا به، فإنه يوشك إن طال بكم العمر أن يتجمل بالعلم، كما يتجمل الرجل بثوبه" أي: تصبح القضية مجرد حلية وزينه فقط، وليست حقيقة ولا باطن.
قال أبو سعيد الخراز: "العلم ما استعملك واليقين ما حملك".
وقال أبو قلابة: [إذا أحدث الله لكَ علماً، فأحدث له عبادًة، ولا يكن همك أن تحدث به الناس].
ولذلك قال الحسن البصري رحمه الله: [همة العلماء الرعاية -رعاية حدود الله، رعاية حق الله، رعاية العلم الذي يحملونه وإعطاء العلم حقه بالعمل- وهمة السفهاء الرواية].
وقال علي بن أبي طالب بإسنادٍ عجيبٍ ذكره الخطيب رحمه الله قال: أخبرنا أبو الفرج عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن يزيد بن وكينة بن عبد الله التميمي من حفظه قال: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول؛ سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ علي بن أبي طالب يقول: [هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل] قال الخطيب: عدد الآباء تسعة، أي: هذا إسناد من النوادر، وكل واحد من أصحاب هذا السند أخذه عن أبيه عن أبيه، وكان أبوهم الكبير قد سمعه من علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال: [هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل] فعلم بدون عمل يُذهب العلم.(97/19)
كيفية المحافظة على العلم وتثبيته
كيف يثبت العلم؟ تجد بعض الطلاب يقولون: نحن نقرأ ونقرأ ولكننا ننسى، كيف نحافظ على العلم؟ وكيف يستمر معنا في صدورنا؟ أهم وسيلة للحفاظ عليه هو العمل به، لأنك إذا عملت به ترسخ في نفسك، وإذا صار سجيةً عندك كيف تنساه؟ خذ أي حديثٍ في أي ذكرٍ من الأذكار، أو أي صلاة من الصلوات النافلة، أو أي مسألة من المسائل، فعندما تعمل بها وتصبح مقررة عندك في نفسك وسجية لك في طبعك، وعادة من عاداتك لا تنساه، لكن إذا كان مجرد علم نظري لا تعمل به، فنسيانه سهل.
قال الفضيل رحمه الله: "لا يزال العالم جاهلاً بما علم حتى يعمل به، فإذا عمل به كان عالماً".
وقال عبد الله بن المعتز: "علمٌ بلا عمل، كشجرةٍ بلا ثمرة! " وقال أيضاً: "علم المنافق في قوله، وعلم المؤمن في عمله".
وأنشد محمد بن أبي علي الأصبهاني لبعضهم أبياتاً لطيفة يقول فيها:
اعمل بعلمك تغنم أيها الرجل لا ينفع العلم إن لم يحسنُ العملُ
والعلم زينٌ وتقوى الله زينته والمتقون لهم في علمهم شغلُ
وحجة الله يا ذا العلم بالغة لا المكر ينفع فيها لا ولا الحيلُ
تعلم العلم واعمل ما استطعت به لا يلهينك عنه اللهو والجدلُ
وعلِّم الناس واقصد نفعهم أبداً إياك إياك أن يعتادكَ المللُ
وعظ أخاك برفقٍ عند زلته فالعلم يعطف من يعتاده الزللُ
وإن تكن بين قومٍ لا خلاق لهم فأمر عليهم بمعروفٍ إذا جهلوا
فإن عصوك فراجعهم بلا ضجرٍ واصبر وصابر ولا يحزنك ما فعلوا
فكل شاةٍ برجليها معلقة عليك نفسك إن جاروا وإن عدلوا
وقال يونس بن ميسرة: "تقول الحكمة: تبتغيني يا بن آدم؟ وأنت واجدني في حرفين: تعمل بخير ما تعلم، وتذر شرُ ما تعلم".(97/20)
خوف العلماء من عاقبة عدم العمل بالعلم
وعن أبي الدرداء قال: [إنما أخاف أن يكون أول ما يسألني عنه ربي أن يقول: قد علمته، فما عملت فيما علمته].
وقال: [إن أخوف ما أخاف على نفسي يا عويمر -هذا اسم أبي الدرداء، هل علمتَ؟ فأقول: نعم، فيقال لي: فماذا عملتَ فيما علمتَ؟].
وقال الحسن البصري رحمه الله: [ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن الإيمان ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال] وبعض الناس يروي هذا الأثر حديثاً مرفوعاً، لكنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلام الحسن البصري رحمه الله.
من قال حسناً وعمل غير صالحٍ؛ رده الله على قوله، ومن قال حسناً وعمل صالحاً رفعه العمل، وذلك لأن الله يقول: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] فالعلم الصالح يرفع صاحبه، والعمل الصالح يُرفع إلى الله عز وجل.
وقالوا في قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:13] ما هو طائره؟ عمله.
وقال حفص بن حميد: [دخلتُ على داود الطائي أسأله عن مسألة وكان كريماً؟ فقال: أرأيت المحارب إذا أراد أن يلقى الحرب أليس يجمّع آلته؟ -يستعد للمعركة والقتال ويجمّع السلاح- أليس يجمّع آلته، فإذا أفنى عمره في جمع الآلة فمتى يحارب؟ إن العلم آلة العمل، فإذا أفنى عمره في جمعه فمتى يعمل؟!] هكذا يكون حال الذي يجمع ولا يعمل.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: [سمعني عبد الله بن إدريس أتلهف على بعض الشيوخ -أي: الذين فاتوني، مات الشيخ فلم يلحق به- فقال: يا أبا عبيد! مهما يفوتك من العلماء فلا يفوتنك العمل] إذا مات الشيخ فنقول: رحمه الله، لكن علمه باقٍ فلا تتحسر على فواته، واعمل بما تركه من علم تفلح، وهذا هو الخير العظيم والتعويض الكبير.
وقال أبو الدرداء رحمه الله ورضي عنه وأرضاه: [ويلٌ للذي لا يعلم، وويلٌ للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات] لماذا هذا الكلام؟ لأن بعض الناس يقول: إذا كان العلم حجة فلماذا نتعلم؟ نبقى في جهلنا أحسن! فنقول: وهل إذا بقيت في جهلك ستكون معذوراً عند الله؟ لأن بعضهم سمع عن مسئولية العلم، وماذا على المتعلم من الوزر إذا لم يعمل، قال: أمكث بلا تعليم أحسن، فنقول له: وماذا ستكون في جهلك؟ غير معذورٍ به، تؤاخذ عند الله، وتقع في الحرام، وتقع في البدع، فأي شيءٍ هذا؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل العالم الذي يُعلِّم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه)، وفي رواية: (مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها) فالذي يعلم الناس خير إضاءة، لكن إذا كان لا يعمل فسيكون محرقاً لنفسه، أما الذي هو منطفئٌ خامد لا يضيء للآخرين ولا يضيء لنفسه، فهذا من أشر الناس.
وقال عليه الصلاة والسلام: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه، فيقال: أليست كنت تأمر بالمعروف وتنهى المنكر، قال: كنتُ آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) وهذا حديثٌ صحيح أخرجه البخاري ومسلم وأحمد.
قال منصور بن زاذان: "نبأت أن بعض من يُلقى في النار ليتأذى أهل النار بريحه، فيقال له: ويلك! ما كنتَ تعمل؟ لا يكفينا ما نحن فيه من الشر حتى ابتلينا بك ونتن ريحك؟ فيقول: إني كنتُ عالماً فلم أنتفع بعلمي".
وقال يحيى بن معاذ الرازي: "مسكينٌ من كان علمه حجيجه، ولسانه خصيمه".
وقيل: "كل من لم ينظر بالعلم فيما لله عليه، فالعلم حجةٌ عليه ووبال".
العلم يستفاد منه أن تعلم حق الله عليك فتقوم به:
إذا العلم لم تعمل به كان حجة عليك ولم تُعذر بما أنت حامله.
فإن كنت قد أبصرت هذا فإنما يُصدق قول المرء ما هو فاعله
وبعض السلف تمنَّى أنه لم يحمل من العلم شيئاً؛ وذلك لعظم مسئولية العلم، وما هو مطالب به من العمل، لكنه لا يمكن أن يكون متمنياً للجهل، وأن يبقى جاهلاً، فينبغي التوازن في معاني عبارات بعض العلماء.
كقول الشعبي رحمه الله: [ليتني لم أكن تعلمتُ من هذا العلم شيئاً] قال الكلام معاتبة لنفسه، وشعوره بالذنب والتقصير، وهذا من تواضعه رحمه الله.
قال سفيان الثوري وهو من كبار العلماء: [ليتني لم أكتب العلم، وليتني أنجو من علمي كفافاً لا علي ولا لي].
وقال ابن عيينة: "العلم إن لم ينفعك ضرك" ليس في علم ما لا ينفع ولا يضر؛ لأن العلم حجة لك أو عليك، فإما أن تنتفع به وإما أن تتضرر به.
وعن مالك بن دينار قال: إني وجدتُ في بعض الحكمة: لا خير لك أن تعلم ما لم تعلم ولم تعمل بما قد علمت، فإن مثل ذلك مثل رجلٍ احتطب حطباً -الآن يريد أن يضرب مثلاً لمن عنده علم فلم يعمل به ويريد أن يتعلم زيادة، فقال: لا خير لك أن تعلم ما لم تعلم، ولم تعمل بما قد علمت فتضيف علوماً إضافية، ولم تعمل بعد بالعلم الأول، فإن مثل ذلك مثل رجل احتطبَ حطباً -فحزم حزمةً وذهب يحملها فعجز عنها، فضمّ إليها أخرى".
وقال محمد بن علي الصوري -نسبة إلى صور وهي إحدى البلدان التي دخلها الخطيب رحمه الله-:
كم إلى كم أغدو إلى طلب العلم مجداً في جمع ذاك حفياً
طالباً منه كل نوعٍ وفنٍ وغريبٍ ولست أعمل شيئاً
وإذا كان طالب العلم لا يعمل بالعلم كان عبداً شقياً
إنما تنفع العلوم لمن كان بها عاملاً وكان تقياً(97/21)
انتزاع العلم ورفعه
جاء في حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى السماء يوماً فقال: هذا أوان رفع العلم، فقال له رجلٌ من الانصار يقال له زياد بن لبيد: يا رسول الله! يرفع العلم وقد أثبت ووعته القلوب؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني كنتُ لأحسبك من أفقه أهل المدينة، ثم ذكر ضلالة اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب الله، فلقيت شداد بن أوس فحدثته بحديث عوف بن مالك، فقال: صدق عوف، ألا أخبرك بأول ذلك يرفع؟ قلتُ: بلى، قال: الخشوع، فلا ترى خاشعاً) وواضح أن الكلام على العمل بالعلم، أن أول ما يرفع هو بركة العلم، تزول بقلة العمل، ومن ذلك زوال الخشوع، حتى يؤدي ذلك في النهاية إلى أن يكون الناس فيهم من يقول: لا إله إلا الله، ويُسأل الرجل عن معناها فيقول: سمعتها من جدي وأبي ولا يعرف معناها، وفي آخر الزمن تنتهي المسألة إلى أن تصبح كلمة التوحيد طلسم من الطلاسم، لا يُعرف معناه.
وقال بعضهم: خرج رجلٌ يطلب العلم، فاستقبله حجرٌ في الطريق، فإذا فيه خط منقوش "إقلبني ترى العجب وتعتذر" قال: فأقلب الحجر، فإذا فيه مكتوب: أنتَ بما تعلمُ لا تعمل، كيف تطلب ما لا تعلم؟ فرجع الرجل، لعل رجلاً كتبه في طريق طلاب الحديث، وكلما مرَّ عليها واحد قرأها وردها.
وقال عطاء: [كان فتىً يختلف إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فيسألها وتحدثه، فجاءها ذات يومٍ يسألها، فقالت: يا بني! هل عملتَ بعدُ بما سمعتَ مني؟ قال: لا والله يا أماه، فقالت: يا بني! فبم تستكثر من حجج الله علينا وعليك؟] إذا أخذت نصيباً وعملت به، فتعال خذ غيره.
وقال شعبة: "ما أنا على شيءٍ مقيمٌ أخاف أن يدخلني النار غيره" غير هذا العلم الذي تعلمته، أخشى أن يدخلني النار بعدم عملي به.
وقال ابن مسعود: [إني لأحسب العبد ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها.
فالخطايا تنسي العلوم، وإن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب، كما يزل القطر عن الصفا، أي: إن عدم العمل بالعلم يسبب نفور الناس من العالم، وزوال هيبته من القلوب وبعدهم عنه.(97/22)
ذم طلب العلم للمباهاة والمراءاة
عقد الخطيب رحمه الله باباً مهماً بعنوان: باب (ذم طلب العلم للمباهاة به والمراءاة فيه ونيل الأغراض وأخذ الأعواض عليه).
مثل الذين يطلبون العلم للشهادات، يريد وظيفة، يقول: لم نقبل في القسم العلمي ولا الجامعة، لم نقبل في الطب والهندسة، ندخل شريعة لنأخذ شهادة، أكون قاضياً أو مدرساً وهكذا يريد شهادة فقط!! وأصبحت عملية الدراسة كلها من أولها إلى آخرها في كلية الشريعة لأجل الشهادة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري بها السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار) هذا الحديث أخرجه الخطيب البغدادي رحمه الله بإسناد ضعيفٍ جداً في هذا الكتاب، لكن الحديث رواه ابن ماجة وله طرق أخرى، والحديث حسَّنه الألباني في صحيح الجامع.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) حديث صحيح، أخرجه أحمد وغيره، ومعناه: لو أن واحداً جاء إلى العلم الشرعي الذي يبتغى به وجه الله -علم الشريعة- وتعلمه لأجل أن يصيب به عرضاً من الدنيا فقط، فلا يجد عرف الجنة يوم القيامة، وعرفها هو ريحها.
وقال الحسن: [من طلب العلم ابتغاء الآخرة أدركها، ومن طلب العلم ابتغاء الدنيا، فهو حظه منها].
وضرب مثل العالم السوء، فقيل: مثل عالم السوء كمثل حجرٍ وقع في ساقية، فلا هو يشرب من الماء ولا هو يخلي عن الماء فيحيا به الشجر.
ولو أن علماء السوء نصحوا لله في عباده، فقالوا: يا عباد الله! اسمعوا ما نخبركم به عن نبيكم، وصالح سلفكم فاعملوا به، ولا تنظروا إلى أعمالنا هذه فإنَّا قومٌ مفتونون، كانوا قد نصحوا لله في عباده، ولكنهم يريدون أن يدعوا عباد الله إلى أعمالهم القبيحة فيدخلوا معهم فيها.
وجاء في بعض المواعظ القديمة: "يا علماء السوء! جعلتم الدنيا على رءوسكم، والآخرة تحت أقدامكم، قولكم شفاء، وعلمكم داء، مثلكم مثل شجرة الدفل، تعجب من رأها، وتقتل من آكلها"، شجرة الدفل هذه شجر مر أخضر، حسن المنظر، (من الخارج خلاخل والبلاء من الداخل) فهذا مثل الذي عنده كلام وعلم لكنه لا يعمل.
ويلكم يا عبيد الدنيا، ماذا يغني عن الأعمى سعة نور الشمس وهو لا يبصرها؟ كذلك لا يغني عن العالم كثرة علمه إذا لم يعمل به، ما أكثر أثمار الشجر، وليس كلها ينفع ولا يؤكل، وما أكثر العلماء وليس كلهم ينتفع بما علم، فاحتفظوا -هذه نصيحة للناس أن يحتفظوا وينتبهوا ويحذروا من العلماء الكذبة الذين عليهم لباس الصوف، منكسين رءوسهم إلى الأرض، قولهم مخالف فعلهم، يشتري من الشوك العنب، ومن الحنظل التين، كذلك لا يثمر قول العالم الكذاب إلا زوراً، وإن البعير إذا لم يوثقه صاحبه في البرية، نزع إلى وطنه وأصله، وإن العلم إذا لم يعمل به صاحبه خرج من صدره وتخلَّى عنه وعطّله، وإن الزرع لا يصلح إلا بالماء والتراب، كذلك لا يصلح الإيمان إلا بالعلم والعمل.(97/23)
الوعيد الشديد لمن قرأ القرآن للصيت ولم يقرأه للعمل
عقد الخطيب رحمه الله تعالى باباً في هذا الكتاب بعنوان: باب ما جاء من الوعيد والتهديد والتشديد لمن قرأ القرآن للصيت والذكر ولم يقرأه للعمل به واكتساب الأجر، وساق حديث النبي صلى الله عليه وسلم، عن أبي هريرة: (أول الناس يُقضى فيه يوم القيامة رجلٌ أوتي به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: ما عملتَ فيها؟) قال: في الحديث: (ورجلٌ تعلم العلم والقرآن فأتى به الله فعرفه نعمه فعرفها، فقال: ما عملتَ فيها؟ قال: تعلمت العلم، وقرأت القرآن وعلمته، فقال: كذبت! إنما أردت أن يقال: فلانٌ عالم، وفلانٌ قارئ، فأمر به فسحب على وجه حتى ألقي في النار).
وقال الحسن رحمه الله: [إنه تعلم هذا القرآن عبيدٌ وصبيان لم يأتوه من قبل وجه، ولا يدرون ما تأويله، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]-ما تدبر آياته؟ اتباعه بالعمل- وإن أولى الناس بهذا القرآن من اتبعه، وإن لم يكن يقرأه].
يقول بعض القراء والحفظة: تعال نتنافس أنا وإياك في القراءة ومن أحفظ ومن أجود ومن أتقن، ولا ينظرون إلى مسألة العمل قال عمر رضي الله عنه: [لا يغرنكم من قرأ القرآن إنما هو كلامٌ يتكلم به، ولكن انظروا من يعمل بالقرآن].
ولذلك فإن هناك أناساً قد أقاموا حروف القرآن وعطلوا معانيه وحدوده: (وقد حدَّث النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به على قومٍ تقرض شفاههم بمقارض من نار، كلما قرضت وفت ورجعت، فقلتُ: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: خطباء من أمتك يقولون ولا يفعلون، ويقرءون كتاب الله ولا يعملون).
ولذلك كانوا يحذرون من القراء الذين لا يعملون بالقرآن، فقال أيوب السختياني: [لا خبيث أخبث من قارئٍ فاجر].
وقال مالك بن دينار: "لأنا للقارئ الفاجر أخوف مني من الفاجر المبرز أو المبرز بفجوره" لماذا؟ لأنه الفاجر المبرز بفجوره تعلم أنه فاجر فتحذر منه، لكن الذي يلبس عليك، يظهر بشكل قارئ وصاحب دين، ولباس أهل العلم، وهو في الحقيقة بخلاف ذلك، فهذا يغتر وينخدع الناس به، فيضلهم.(97/24)
ذم السلف لظاهرة الجدل
قال في باب ذم التفقه لغير العبادة: قال الشعبي: "إنا لسنا بالفقهاء، ولكن سمعنا الحديث فرويناه، ولكن الفقهاء من إذا علم عمل".
وقال الأوزاعي: "إذا أراد الله بقومٍ شراً فتح عليهم الجدل، ومنعهم العمل".
فترى الآن بعض المناظرات في مسائل بسيطة، هذا يتكلم وهذا يرد، وهذا يرد على الرد، وهذا ينتصر لرد فلان، وهذا ينتصر لرد فلان، وترى المجادلات في الجرائد والكتيبات والكتب، كل واحد يرد، ويرد على الرد، وينسون قضية العلم، ويتمارون ويتجادلون في أشياء الحق فيها واضح، لكن الرد على أهل البدع والضلال لابد منه، وكذا المنافحة عن الدين، لكن الكلام في قضية تحويل مسائل العلم إلى مجادلات، فإذا أراد الله بعبدٍ خيراً فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبدٍِ شراً فتح له باب الجدل، وأغلق عنه باب العمل.(97/25)
ذم الاستكثار من الطلب وترك العمل
قال أبو نعيم: دخلتُ على زفر وقد غرغرت نفسه في صدره -أي: عند الموت- فرفع رأسه إليّ، فقال: يا أبا نعيم: "وددت أن الذي كنا فيه كان تسبيحاً" زفر من الفقهاء ومن تلاميذ أبي حنيفة رحمه الله، يقول: وددنا أن المسائل التي تكلمنا فيها كانت تسبيحاً.
وقال عائض الله: الذي يتبع الأحاديث ليحدثَ بها -أي: دون أن يعمل- لا يجد ريح الجنة.
ولما بكَّر أصحاب الحديث مرةً على الأوزاعي التفت إليهم، فقال: "كم من حريصٍ جامعٍ جاشعٍ ليس بمنتفعٍ ولا نافعٍ".
وقال الفضيل لشخص جاءه: لو طلبت مني الدنانير كان أيسر إليّ من أن تطلب مني الأحاديث، فقلت له: لو حدثتني بأحاديث -فوائد- ليست عندي كان أحب إليَّ من عددها من الدنانير.
قال: إنك مفتون، أما والله لو عملت بما قد سمعتَ لكان لك في ذلك شغلاً عما لم تسمع، ثم قال: سمعتُ سليمان بن مهران - الأعمش - قال: إذا كان بين يديك طعامٌ تأكله، فتأخذ اللقمة وترمي بها خلف ظهرك -شخص أمامه طعام يأخذ لقمة ويرمي بها خلف ظهره وهكذا- فمتى يشبع؟!! وهكذا الذي يجمع العلم دون أن يعمل، ويجمع ويجمع ويجمع ولا ينتفع بشيء؟ وقال سفيان بن عيينة من ورعه رحمه الله: "لو قيل لي يوم القيامة: لم طلبت الحديث؟ ما دريت ما أقول".
ولذلك كانوا إذا جاءهم الشخص العامي، أو الشخص الذي لا علاقة له بعلم الأسانيد يسأل عن شيءٍ في دقائق الأمور ليست من شأنه ردوه، وقد سأل رجلٌ ابن عيينة عن إسناد حديث، فقال له ابن عيينة: ما تصنع بإسناده؟ أما أنت فقد بلغتك حكمته، ولزمتك موعظته، اعمل به الآن، جئت تسألني عن الأسانيد والعلة، اعمل به أولاً.
وقال خلاد بن يزيد، وكان من أجل الناس وأعبدهم: أتيت سفيان بن عيينة، جاء يطلب أحاديث، فقال له سفيان: إنما يأتي بك الجهل لا ابتغاء العلم، لو اقتصر جيرانك على علمك كفاهم، ثم كوّم كومةً من حصى، ثم شقها بأصبعية، ثم قال: هذا العلم أخذت نصفه، ثم جئت تبتغي النصف الباقي، فلو قيل: أرأيت ما أخذته هل استعملته؟ فإذا صدقت قلت: لا، فيقال لك: ما حاجاتك إلى ما تزيد به نفسك وِقْراً على وقر، استعمل ما أخذت أولاً.
وسُئل سفيان بن عيينة من العالم؟ قال: "الذي يعطي كل حديثٍ حقه".
وما حق الحديث؟ العمل به، ولذلك كانوا يربون طلابهم على العمل بالعلم، ولذلك قال بعضهم لطلابه لما جاءوا يطلب منه سماع حديثٍ قال: حتى تعملوا بما تعلمون تأتوني فأحدثكم.
وقال شبابة: دخلت على شعبة في يومه الذي مات فيه وهو يبكي، فقلت له: ما هذا الجزع يا أبا بسطام؟ أبشر فإن لك في الإسلام موضعاً، فقال دعني، فلوددت أني وقادُ حمام، وأني لم أعرف الحديث، أي: من ثقل مسئولية العلم عليه، يقول: أنا لا أدري أن العلم الذي أخذته وجمعته قد يكون حجة عليّ، قد لا أكون عملت به، فألقى الله وعليّ حجة هذا العلم الذي تعلمته، ولذلك كانوا يحاربون تكثير الأسانيد، وطلب التكثيف، وعدم العمل بالنافع، وتعلم الشيء الجديد الذي ينفع، ولذلك وأي رجل في المنام علي بن المديني فقال له: جمعت حديثاً من مائة طريق، فانتظر قليلاً: أخشى أن يكون هذا داخل تحت قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1].
فأما الذي يعمل بالحديث فالاستكثار منه جيد، ولذلك وضع الإمام أحمد رحمه الله في كتابه المسند فوق أربعين ألف حديث، لكنه عمل بها كلها، قال: ما تركت حديثاً إلا عملت به، ولما قرأ (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة الحجام ديناراً) قال: احتجمت وأعطيت الحجام ديناراً، والدينار أربعة غرامات وربع من الذهب، لكن لأجل تطبيق الحديث بذلها الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
ولذلك قال العلماء: كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به، وكانوا يحاربون فيما يحاربون مسألة التوغل في بعض العلوم التي تشغل عن علم الكتاب والسنة، مثل: الاستكثار من النحو، حتى قال بعضهم: تلقى الرجل وهؤلاء يلحن حرفاً وعمله لحنٌ كله.
وقال بعضهم: رأيت الخليل بن أحمد في النوم، فقلت في منامي: لا يُرى أحد أعقل من الخليل، فقلت: ما صنع الله بك؟ قال: أرأيت ما كنا فيه، فإنه لم يكن شيءٌ أفضل من سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وقال بعضهم: رأيت الخليل في المنام فقلت له: نجوت؟ قال: بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قلت: كيف وجدت علمك؟ -علم العروض والأدب والشعر؟ - قال: وجدته هباءً منثوراً:
سيبلى لسانٌ كان يعرب لفظة فيا ليته في وقفة العرض يسلم
وما ينفع الإعراب إن لم يكن تقىً وما ضر ذا تقوى لسانٌ معجم
على أن هذا الكلام لا يهون من أهمية تعلم اللغة العربية، لأن الإنسان لابد أن يتعلم اللغة العربية؛ ليصحح قراءة القرآن والحديث، لكن التوغل في دقائقها وفروعها التي تجعل الإنسان يتباهى بما عنده من النحو، ويؤدي به الأمر إلى التقعر والتكلف، والاختيال على الآخرين وانتقادهم، هذا هو المذموم.
ولذلك لما قيل لبعضهم: يا أبا نصر! أنت رجل قرأت كذا وكذا فلمَ لا تتعلم العربية حتى تصحح لسانك؟ قال: ومن يعلمني يا أبا الفضل؟ قال: أنا يا أبا نصر، قال: فافعل، قال: قل: ضرب زيدٌ عمراً، فقال له: يا أخي! ولمَ ضربه؟ قال يا أبا نصر: ما ضربه، إنما هذا أصلٌ ووضع للتمثيل فقط، قال: هذا أوله كذب لا حاجة لي فيه.
فهذا الكلام ينبغي أن يفهم الفهم الصحيح، وهو: أن تعلم اللغة العربية لابد منه، خصوصاً في هذا الزمان الذي عمَّ فيه الجهل باللغة العربية حتى صار الواحد يفتح القرآن ولا يعرف معناه من ضعف اللغة العربية، فلابد من تعلم اللغة العربية بقدر ما نفهم به القرآن والسنة، لكن الخوض في دقائقها وتفاصيلها الذي يصرف عن علم القرآن والسنة وعن الفقه وعن العمل هذا هو المذموم، ولابد أن يكون الإنسان عاملاً يتخذ من علمه زاداً لمعاده ينفعه يوم القيامة.
قال الحسن رحمه الله: [يتوسد المؤمن ما قدم من عمله في قبره -أي: رأسك في قبرك موضوع على وسادة؟ ما هي الوسادة؟ العلم- إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً، فاغتنموا المبادرة رحمكم الله في المهلة] هذه المهلة الدنيا.
وقال بعضهم:
فما لك يوم الحشر شيءٌ سوى الذي تزودته قبل الممات إلى الحشر
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً ندمت على التفريط في زمنِ البذرِ
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد بما كان أرصدا(97/26)
نعمة الصحة والفراغ
قد يفتن الناس بنعمة الصحة والفراغ، والنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحية والفراغ) عنده مال؛ بعض الناس ورث عن أبيه عقارات، يأتيه رزقه بكرةً وعشياً، لا ينقصه شيء، تراه في الصباح في نوم، وفي الليل يلعب البلوت إلى الفجر، وعنده عقارات تدر عليه: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح.
ونظم الشاعر المعنى فقال:
بادر شبابك أن يهرمَ وصحة جسمك أن يسقما
وأيام عيشك قبل الممات فما دهر من عاش أن يسلما
ووقت فراغك بادر به ليالي شغلك في بعض ما
وقدم فكل امرئ قادمٌ على بعض ما كان قد قدما
وقال معاوية بن قرة: أكثر الناس حساباً يوم القيامة الصحيح الفارغ، ورأى شريح جيراناً له يجولون مثلما تجد الآن الشباب في الشوارع يتسكعون، فقال: ما لكم؟ قالوا: فرغنا اليوم -أكملنا أشغالنا، والذي عنده حلقة علم أكملها- قال: وبهذا أمر الفارغ؟! أي: هل أمر بأن يتسكع.
ولذلك لمّا قال البخاري رحمه الله:
اغتنم في الفراغ فضل ركوعٍ فعسى أن يكون موتك بغتة
كم صحيحٍ رأيت من غير سقمٍ ذهبت نفسه الصحيحة فلتة
وفعلاً مات البخاري رحمه الله فجأةً.
ولما دخلوا على أبي بكر النهشلي وهو في الموت يومئ برأسه يصلي، لأنه لا يستطيع أن يقوم، فقالوا له: سبحان الله! على هذه الحال، فقال: أبادر طي الصحيفة، الآن صحيفتي ستطوى، فأنا أنتهز آخر لحظة من عمري في هذه العبادة:
اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت ريحاً مستريحاً
وإذا ما هممت بالنطق في البـ ـاطلِ فاجعل مكانه تسبيحاً.
ولذلك أهل العلم إذا جاء إليه من يجادل بين يديه، قال: سبح سبح، إذا هممت بالنطق بالباطل فاجعل مكانه تسبيحاً، فينبغي اغتنام الصحة والفراغ والحذر من التأجيل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(97/27)
الابتلاء بفتنة النساء
أشد الفتن على المسلم فتنة المرأة، ويكمن الخطر في أنها عندما تخرج من البيت يستشرفها الشيطان، أي: يزينها في نظر الرجال، لذلك حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الدخول على النساء والاختلاط، وأمر بالزواج وتيسير الزواج، كما أمر بغض البصر، كما تحدث عن أوصاف الحور العين في الجنة وما أعده الله للذين لا يعملون الفاحشة ولا يلهثون وراءها.(98/1)
النساء أشد فتنة على الرجال
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
عباد الله: إن فتن الحياة الدنيا كثيرة، فمنها: فتنة المال، وفتنة الفقر، وفتنة الغنى، وفتنة الأولاد، وفتنة الحرب، وفتنة الاضطهاد والإيذاء، وغير ذلك من أنواع الفتن، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما تركت بعدي في الناس فتنةً أضر على الرجال من النساء).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: وفي الحديث أن الفتنة بالنساء أشد من الفتنة بغيرهن، ويشهد له قول الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران:14] فجعلهن من حب الشهوات، وبدأ بهن قبل بقية الأنواع قبل الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، وقبل فتنة الأولاد، ومع أنها ناقصة العقل والدين، فإنها تحمل الرجال على تعاطي ما فيه نقص العقل والدين كشغلهم عن طلب أمور الدين، وحملهم على التهالك على طلب الدنيا، وذلك أشد الفساد.
وعن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدنيا حلوةٌ خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) رواه مسلم، وفي رواية للإمام أحمد رحمه الله تعالى: (إن الدنيا خضرة حلوة، فاتقوها واتقوا النساء) ثم ذكر نسوة ثلاثاً من بني إسرائيل (امرأتين طويلتين تعرفان، وامرأة قصيرة لا تعرف، فاتخذت رجلين من خشب- من تحت الثياب لتطول- وصاغت خاتماً، فحشته من أطيب الطيب المسك، وجعلت له غلفاً، فإذا مرت بالملأ أو بالمجلس قالت به، ففتحته ففاح ريحه) هكذا تحايلت لتلفت نظر الرجال إليها، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء.
قال النووي رحمه الله: ومعناه تجنبوا الافتتان بها وبالنساء، وتدخل في النساء الزوجات وغيرهن، وأكثرهن فتنة الزوجات لدوام فتنتهن وابتلاء أكثر الناس بهن، ولذلك كان السلف -رحمهم الله- يحرصون على عدم الافتتان، فقد أرسل بعض الخلفاء إلى الفقهاء بجوائز، فقبلوها وردها الفضيل، فقالت له امرأته: ترد عشرة آلاف وما عندنا قوت يومنا! فقال: مثلي ومثلكم كقوم لهم بقرة يحرثون عليها، فلما هرمت ذبحوها، وكذا أنتم أردتم ذبحي على كبر سني، موتوا جوعاً قبل أن تذبحوا فضيلاً.(98/2)
خروج المرأة واستشراف الشيطان لها
ومن أسباب كون المرأة فتنة، ومن أسباب عظم الفتنة بها أمرٌ مهمٌ جداً تفسير للقضية، ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله في الحديث الصحيح: (المرأة عورة) ولم يستثن وجهاً ولا كفين أمام الرجال (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان) فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (استشرفها الشيطان)؟ أيها المسلم: فكر في هذه الكلمة: (استشرفها الشيطان) لتعلم من أين أتينا؟ قال المباركفوري رحمه الله تعالى: أي: زينها في نظر الرجال، وقيل: أي: نظر إليها ليغويها ويغوي بها، والأصل في الاستشراف رفع البصر للنظر إلى الشيء، وبسط الكف فوق الحاجب، هذا هو الاستشراف، والمعنى: أن المرأة يستقبح خروجها وظهورها، فإذا خرجت أمعن النظر إليها؛ ليغويها بغيرها ويغوي غيرها بها؛ ليوقعهما أو أحدهما في الفتنة، أو يريد بالشيطان شيطان الإنس من أهل الفسق وسماه به على التشبيه.
إذاً: الشيطان يرفع أنظار الرجال إلى المرأة، والشيطان يزين المرأة في أعين الناظرين، فترى المرأة إذا خرجت إلى الشارع تمشي ارتفعت إليها أبصار الرجال، ذلك لأن الشيطان حريصٌ على تزيينها وعلى رفع الأبصار إليها، فتجد الأبصار تتجه إلى المرأة من حين خروجها إلى الشارع، ومن حين بدوها للرجال، يستشرفها الشيطان، ويجعلها هدفاً منصوباً ملفتاً لينظر إليها الرجال، فهي وسيلته لإغواء الناس، ولذلك كان السلف -رحمهم الله- مع عبادتهم وزهدهم وورعهم، يخافون على أنفسهم من فتنة النساء أكثر مما نخاف نحن على أنفسنا مع ضعفنا، ولا مقارنة بيننا وبينهم.
فهذا سعيد بن المسيب وقد أتت عليه ثمانون سنة، منها خمسون سنة يصلي فيها الصبح بوضوء العشاء، وهو قائمٌ على قدمية يصلي، كان يقول: ما شيء أخوف عليَّ من النساء.
وهو ابن ثمانين سنة، يعبد الله تعالى، ويقوم الليالي، ومع ذلك يقول هذا.(98/3)
التحذير من الدخول على النساء والخلوة بهن
ومن أجل فتنة النساء اتخذ الشارع سائر الإجراءات الكفيلة لحماية الرجل من الوقوع في فتنة المرأة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء! فقال رجلٌ: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) وهو قريب الزوج أخوه وسائر أقاربه، فالدخول على النساء الأجنبيات يشبه الموت في خطره يؤدي إلى موت الدين، وربما أدى إلى الرجم وهو موت إذا زنا بها وهو محصن، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) كل هذه الإجراءات لأجل درء فتنة النساء، والنبي صلى الله عليه وسلم أطهر الناس مع الصحابة، وهو أفضل هذه الأمة، وقد كان عليه الصلاة والسلام يعمل سائر الإجراءات الكفيلة بمنع الاختلاط والنظر، فعن أبي أسيد الأنصاري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد، فاختلط الرجال بالنساء في الطريق، فقال صلى الله عليه وسلم ينهى عما رآه: (استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق) فالمرأة لا تمشي في الوسط، بل تمشي في الجوانب، والرجال يمشون في الوسط هكذا كانت الشوارع في المجتمع الإسلامي الأول، فكانت المرأة تلتصق بالجدار، حتى أن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به، والحديث رواه أبو داود وهو حديث صحيح.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: [كان النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلمن من المكتوبة، قمن مباشرةً، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال فترة كافية لخروج النساء، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام الرجال].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث الاحتياط في اجتناب ما قد يفضي إلى المحظور، وفيه اجتناب مواضع التهم، وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلاً عن البيوت.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو تركنا هذا الباب للنساء) وهو باب في المسجد مخصص للنساء، وإلى الآن اسمه باب النساء، قال نافع: [فلم يدخل ابن عمر منه حتى مات].
هذه الإجراءات وغيرها لأجل درء فتنة النساء.
تقول عائشة -رضي الله عنها- بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بفترة: [لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء- أي: ما أحدثن بعده- لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل] وماذا أحدث النساء في عهد عائشة؟ وهي تقول: لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم الوضع، لمنعهن من المساجد والخروج، فلو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعنا اليوم، ماذا تراه يقول؟ وماذا تراه يفعل؟!(98/4)
الأسباب المؤدية إلى الفتنة بالنساء
عباد الله: إن الأمر خطير- والله- وإن الخطب جلل، وإن الفساد في انتشار بسبب فتنة النساء، وفي هذا الزمان الذي لم يمر في العالم زمان مثله؛ زينت فيه المرأة لفتنة الرجال، واجتهد أعداء الله في إبراز المرأة، فترى عوامل الجذب والفتنة في الملابس الضيقة، والمفتوحة، والشفافة، والكعب العالي، والمناكير على الأظفار، ورائحة العطور، والصوت، والأزياء الفاضحة، وحتى النقاب الذي تلبسه بعض النساء أو البرقع اليوم ربما يكون أشد فتنة مما لو كشفت وجهها بالكلية، والأفلام، والقصص الفاسدة، والمجلات، والدعايات، فلا تكاد توجد سلعة إلا ومعها صورة امرأة ولا بد، وعروض الأزياء، وكل ذلك يزين المرأة في نظر الرجال، حتى إذا نزلت إلى الشارع والسوق، رأيت العجب، وهذه المساحيق والمكياجات التي تجعل أشد النساء دمامةً لوحة فنية من الأصباغ، وما تفعله الكوافيرات في وجوه النساء.
ثم تحدث الفتنة العظيمة، وتخرج المرأة بهذه الزينة، وتجتمع كل عوامل الإغراء، فلا تدخل دكاناً، ولا سوقاً، أو باب مدرسة، أو مستشفى، أو طائرة، أو غير ذلك من الأماكن إلا ووجدت القضية كلها تدور على الإغراء والإغواء بالمرأة، ولا تكاد تنظر في الصفحة الخارجية لمجلة أو غيرها إلا وتجد القضية نفسها تدور.
كل هذا بفعل إخوان القردة والخنازير الذين وصلوا بالمرأة إلى ما وصلوا إليه، وعمت الفتنة، وثارت الشهوات، وصار الوضع محزناً لصاحب القلب الحي.
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ
عباد الله: المسألة كلها مخالفات شرعية في قضية هذه الأشياء والإغراءات التي تحصل، وتأمل ماذا أحدثه هذا الهاتف من الفتنة في بدء العلاقة وتطويرها وتنميتها، والتخطيط للخروج، ثم الخروج! وتأمل كيف يزين الشيطان الحيل بحجة خروجها إلى السوق، أو الدراسة مع صاحبتها، أو زيارة صاحبتها، وأثناء غياب الزوج في العمل، أو الوردية الليلية، وأيام الاختبارات -التي نحن مقبلون عليها- بالذات سيحدث فسادٌ عظيمٌ، وشرٌ مستطيرٌ، وأيام البر وتتخلف الأسرة هناك والشاب هنا لوحده، وهذه أشياء نحن مقبلون عليها كل هذه الأمور التي تؤدي إلى الفتنة والوقوع في الفاحشة، والمسألة فيها غضب من الله وإغضاب لله.
وكل القضية تدور على مخالفة الآيات الشرعية، فتأمل في الواقع ثم قارنه بقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31]، وبقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53]، وقارنه بقوله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] فكيف تستهل البنت الكلام في الهاتف؟ {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32]، وبقوله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] وبقوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] المسألة كانت على الخلخال، والآن تفتح العباءة وتلبس عدة مرات لتصلح من هندامها -بزعمها- وهي في وسط الرجال، وقارنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم (أيما امرأة استعطرت فخرجت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا) يعني: زانية.
إن المسألة تحتاج في زماننا هذا إلى صبرٍ عظيمٍ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مجانباً للصواب أبداً ولا مبالغاً عندما قال: (إن أخشى ما يخشى على هذه الأمة فتنة النساء) والذي يتتبع الأخبار يعرف، وليس المجال مجال التفصيل، ولا تعميم الحال، فهناك صلاحٌ- والحمد لله- وهناك خيرٌ، ولكن لا بد من أن نضع الضوابط، وأن نلزم أنفسنا بأحكام الشريعة.(98/5)
وسائل الوقاية من فتنة النساء
قد يقول قائل: وما هي الإجراءات التي تحمي الرجل من فتنة النساء؟ فأقول:(98/6)
غض البصر
قد يقول قائل: وما هي الإجراءات التي تحمي الرجل من فتنة النساء؟ فأقول: أولاً: قال عليه الصلاة والسلام: (لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة)، وعن جرير بن عبد الله قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري) ولما رأى الفضل ينظر إلى امرأة وضيئة صرف وجهه إلى الشق الآخر.
فغض البصر هو أساس العلاج؛ لأن المسألة في أولها سببها النظر، وهو أهون شيء في البداية، قال العلاء بن زياد: [لا تتبع بصرك رداء امرأة، فإن النظرة تجعل في القلب شهوة] وقال أحد الصالحين لابنه: "يا بني! امش وراء الأسد والأسود -وراء الأسد والحية والثعبان- ولا تمش وراء امرأة".
إن نظر الرجل إلى محاسن المرأة سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس، والسهم المسموم إذا دخل انتشر السم (إياكم والنظرة، فإنها تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة).
وكان السلف -رحمهم الله- في غاية الحرص على هذه المسألة، قال سفيان: كان الربيع بن خثيم يغض بصره، فمر به نسوة، فأطرق إطراقاً شديداً، حتى ظن النسوة أنه أعمى، فتعوذن بالله من العمى.
وخرج حسان بن أبي سنان إلى العيد، فقيل له لما رجع: يا أبا عبد الله! ما رأينا عيداً أكثر نساءً منه.
فقال: ما تلقتني امرأة حتى رجعت.
وقالت له امرأته: كم من امرأة حسناء قد نظرت اليوم؟! فلما أكثرت عليه، قال: ويحك ويحك! ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت من عندكِ حتى رجعت إليكِ.
وكانوا يحاربون النظر ويعتبرونه منكراً شديداً، وينهرون فاعله، فعن عبد الله بن أبي الهذيل، قال: دخل عبد الله بن مسعود على مريض يعوده، ومعه قوم، وفي البيت امرأة، فجعل رجل من القوم ينظر إلى المرأة، فقال عبد الله رضي الله عنه وأرضاه: [لو انفقأت عينه، لكان خيراً له] لو انفقأت عينه وكانت مصيبة فاحتسب عند الله لكان خيراً له من النظر واستعمال البصر في المعصية، ثم إنه إذا كرره حصل في القلب زرع الفتنة، وذلك أمرٌ يصعب قلعه، ولذلك لا بد من الحِمية بسد باب النظر، فإنه إذا سُدَّ سهل بعد ذلك انحسار الأمر.
عباد الله! هذه القضية لا يكاد يطبقها اليوم إلا من رحم الله، غض البصر عن النساء.(98/7)
عدم وصف المرأة المرأة لزوجها
وفي معنى النظر: وصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها، ولذلك نهينا عنه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تباشر المرأة المرأة، فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها) وهذا أصلٌ في سد الذرائع، وأن وصف المرأة للرجل الأجنبي عنها يؤدي إلى الافتتان بالموصوفة.(98/8)
من رأى امرأة فأعجبته فليأت زوجته
إن الإنسان إذا رأى امرأةً فأعجبته كمن كان له زوجةٌ، أو مملوكةٌ فليأتها مباشرةً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأةً فأعجبته فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه) وأما الأعزب فإنه يستعين بالصبر والصلاة والصيام الذي هو من أسباب تقليل الشهوة، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أحدكم أعجبته امرأة، فوقعت في قلبه، فليعمد إلى امرأته فليواقعها، فإن ذلك يرد ما في نفسه، لأن الذي معها مثل الذي معها) فيسكن نفسه، ويدفع شهوته، وفي هذا بيانٌ عظيمٌ، وإرشادٌ كبيرٌ إلى قضية العلاج لمثل ما يقع للرجال في هذه المسألة.(98/9)
عدم الذهاب إلى مواطن الفتنة
ثم إن من الأمور المهمة: أن الإنسان لا يغشى أماكن الفتنة، ولا يغشى أماكن الخلوة، ثم بعد ذلك يقول: لم أستطع أن أصبر؛ بل إنه يتمنى الصبر عند الحرام، ولذلك لما دعت امرأة العزيز يوسف، قال: إني أخاف الله، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجلٌ دعته امرأة ذات منصبٍ وجمالٍ، فقال: إني أخاف الله رب العالمين) مع أنها امرأة ذات منصب وجمال، وأنَّى يجتمع هذا؟ ومع ذلك يقول: إني أخاف الله رب العالمين.(98/10)
عدم الالتفات إلى المرأة أثناء تعرضها
ومن العلاجات أيضاً: أنها إذا تعرضت له- وكثيرٌ من النساء اليوم هي التي تتعرض للرجل، وربما تكون هي التي اتصلت، وهي التي تأتي بالحركات والإشارات الداعية- فماذا يفعل؟ افعل كما فعل جريج رحمه الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنه لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة، ومنهم: صبي تكلم من أجل جريج، قال صلى الله عليه وسلم: (كانت امرأة بغيٌ يتمثل بحسنها، فقالت لبني إسرائيل: إن شئتم لأفتنن هذا العابد الزاهد، فتعرضت له، فلم يلتفت إليها -هذا هو المهم، هذا هو لبُّ الموضوع الآن- فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها، فحملت) الحديث.
وفيه كيف خلص الله جريجاً بسبب صبره.
الشاهد قوله: فلم يلتفت إليها، ومن الذي لا يلتفت اليوم إلا من رحمه الله وأراد به خيراً.(98/11)
تذكر بشاعة الفاحشة وعقوبتها
لا بد من التأمل في مسألة الفاحشة، فإن الشيطان كتابه الوسوسة، وقرآنه الشعر، ورسله الكهنة، وطعامه ما لم يذكر اسم الله عليه، وشرابه كل مسكر، وبيته الحمام، ومصائده النساء، ومؤذنه المزمار، ومسجده السوق، وكل هذه الأشياء مع بعضها البعض تؤدي إلى الفتنة العظيمة، والزنا من أعظم الذنوب والفواحش، وبعضه أشد من بعض، فمن أفحش الزنا الزنا بالمحارم، ومن أفحشه الرجل يزني بزوجة الرجل -أي: المتزوجة- مما يؤدي إلى اختلاط المياه والأنساب، ومن أفحشه أن تكون المرأة المزني بها جارة: قال عليه الصلاة والسلام: (ولأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره) وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن عقوبة الزناة والزواني في البرزخ قبل دخول جهنم، أنهم في تنور -فرن- يأتيهم اللهب من أسفل منهم، فيرتفعون فيصيحون، فإذا خمد اللهب، سقطوا، ثم يأتيهم مرة أخرى فيرتفعوا، حتى يكادوا أن يخرجوا وهكذا إلى قيام الساعة.
هذا عقاب الزناة والزواني في البرزخ يا عباد الله.
وحكى لنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أشخاصٍ كادوا أن يقعوا في الفاحشة، وربما يصل الأمر إلى هذه الدرجة، فماذا يفعل الشخص؟ حينئذٍ (قال الثاني: اللهم إنه كانت لي ابنة عمٍ كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فطلبت إليها نفسها فأبت، حتى أتيتها بمائة دينار، فسعيت حتى جمعت مائة دينار، فلقيتها بها، فلما قعدت بين رجليها، قالت: يا عبد الله! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه -والحق هو عقد الزواج الشرعي- فقمت عنها وهي أحب الناس إليَّ) إذاً: يمكن للإنسان المسلم لو ساقته نفسه والشيطان والمرأة إلى الفاحشة أن يذكر الله تعالى في اللحظة الأخيرة فيقوم ويترك المعصية.
إذاً: هذه من النظرة إلى اللحظة الأخيرة، إجراءات شرعية لأجل الوقاية من فتنة النساء، وهي المسألة العظيمة في عصرنا.
يا عباد الله! والله إنني ما طرقت هذا الموضوع إلا لأجل رؤية ذلك عياناً بياناً، والتمعن في أمراضنا ومشكلاتنا، فإنك إذا تمعنت معي وجدت فعلاً أن من أشنع الأشياء فتنة النساء.
وتعلم فعلاً- يا عبد الله- أن القضية بحاجة شديدة إلى مصابرة ومجاهدة، وبعض الناس يقول: لا تلوموا الشباب ولوموا الفتيات، كيف ذلك؟ اللوم على الجميع، اللوم على الفتاة التي تبرجت، وعلى الشاب الذي استجاب، وعلى وليهما الذي لم يرب هذا، ولم يمنع تلك من الخروج، وعلى الذي يضع العراقيل في طريق الزواج بحجج واهية، ويغلي المهور، ويقول: ابنتنا ليست بأقل من ابنة فلان، أو يضع العراقيل الواهية باسم القبلية والموازين التافهة الدنيوية، ويرد هذا، وهذه ابنتنا تريد الدراسة ونحو ذلك، فاللوم على الجميع، وليس أحد بمستثنى.
نسأل الله ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ونسأله عز وجل أن يقينا كل هذه الشرور، وأن يجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(98/12)
رحلة إلى الجنة مع الحور العين ووصفهن
الحمد لله، الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، هو الحي القيوم، هو الحي لا يموت والجن والإنس يموتون، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله، وعبده ومصطفاه، وخاتم أنبيائه ورسله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
عباد الله: تعالوا بنا الآن في رحلةٍ أخرى تختلف عن هذه الدنيا تماماً، تعالوا بنا في رحلة تنسينا بالكلية فتنة نساء هذا الكوكب، فإن من علاج القضية أن يتمعن الإنسان فيما أعد الله لمن يصبر من الأجر.
فإن من شرب الخمر في الدنيا ولم يتب لا يشربها يوم القيامة، ومن لبس الحرير من الذكور في الدنيا ولم يتب، لا يلبسه يوم القيامة.
فالذي يزني في الدنيا ولم يتب، فماذا سيكون الموقف يوم القيامة؟ ومن أي شيء يحرم؟ وما هي عاقبة الذين يصبرون على هذا العذاب؟ أقول: العذاب -فعلاً- من شدة الفتنة ولأوائها في هذا الزمان، فهل الذي يصبر، ويقول له أصحابه: أنت مجنون أنت معقد أنت تحرم نفسك، هل هذا الذي يصبر سيلاقي شيئاً أم لا؟ وإن سألت عن عرائسها وأزواجهم، فهن الكواعب الأتراب اللاتي جرى في أعضائهن ماء الشباب، تجري الشمس في محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت، إذا قابلت حِبها، فقل ما تشاء في تقابل النيرين، وإذا حادثته فما ظنك بمحادثة المحبين، وإن ضمها إليه فما ظنك بتعانق الغصنين.
لو طلعت على الدنيا، لملأت ما بين الأرض والسماء ريحاً، ولاستنطقت أفواه الخلائق تهليلاً وتكبيراً وتسبيحاً، ولتزخرف لها ما بين الخافقين، ولأغمضت عن غيرها كل عين، ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم، ولآمن من على ظهرها بالحي القيوم، ونصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها، ووصالها أشهى إليه من جميع أمانيها لا تزداد على طول الأحقاب إلا حسناً وجمالاً، ولا يزداد لها طول المدى إلا محبةً ووصالاً مبرأةً من الحبل والولادة والحيض والنفاس، مطهرةً من المخاط والبصاق والبول والغائط وسائر الأدناس لا يفنى شبابها، ولا تبلى ثيابها، ولا يخلق ثوب جمالها، ولا يمل طيب وصالها، قد قصرت طرفها على زوجها، فلا تطمح لأحد سواه، وقصر طرفه عليها فهي غاية أمنيته وهواه.
وإن سألت عن السن، فأتراب في أعدل سن الشباب، وإن سألت عن حسن الخلق، فهن الخيرات الحسان اللآتي جمع لهن بين الحسن والإحسان، وإن سألت عن حسن العشرة ولذة ما هنالك فهن العرب المتحببات إلى الأزواج، بلطافة التبعل التي تمتزج بالروح أي امتزاج.
فما ظنك بامرأةٍ إذا ضحكت في وجه زوجها، أضاءت الجنة من ضحكها، وإذا حاضرت زوجها، فيا حسن محاضرتها! وإن خاصرته فيا لذة تلك المعانقة والمخاصرة! وإن غنت فيا لذة الأبصار والأسماع! وإن آنست وأمتعت، فيا حبذا تلك المؤانسة والإمتاع! قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:35 - 37].
وتفضل المرأة الصالحة في الدنيا تلك المرأة من الحور العين بصلاتها وصيامها، ويجعلها الله تبارك وتعالى من العرب وهي التي جمعت إلى حلاوة الصورة حسن التأني والتبعل والتحبب إلى الزوج، والعروب من النساء المطيعة لزوجها العاشقة له المتحببة إليه، أبكاراً؛ ذلك لفضل وطء البكر على الثيب، فجعلهن الله أبكاراً، ولو كانت في الدنيا ثيبة.
وقال الله تعالى عن الحور العين: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:74] فلم يطأهن، ولم يغشهن إنسٌ ولا جانٌ من قبل {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:58] بالياقوت لصفائه، وبالمرجان لبياضه، فجمعن بين هذا البياض والصفاء.
قال أبو هريرة: (ألم يقل أبو القاسم: إن أول زمرةٍ تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضوء كوكب دري في السماء، لكل امرئٍ منهم زوجتان اثنتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ولو اطلعت امرأة من نساء الجنة إلى الأرض، لملأت ما بينهما ريحاً، وأضاءت ما بينهما، ولنصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها) هذا قدر الخمار، فما بالك بقدر اللابسة! أزواجٌ مطهرةٌ، لا حيض، ولا نفاس، ولا سوائل، ولا صفرة، ولا كدرة، ولا عرق، ولا بصاق، ولا مخاط.
عباد الله: هذه النساء الحسان يغنين لأزواجهن، قال الله عن المؤمنين {فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم:15] يحبرون أي: يسمعون الغناء، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصواتٍ ما سمعها أحدٌ قط) إن مما يغنين به:
نحن الخيرات الحسان أزواج قومٍ كرام ينظرن بقرة أعيان
وإن مما يغنين به:
نحن الخالدات فلا يمتنه نحن الآمنات فلا يخفنه نحن المقيمات فلا يضعنه
ويقلن:
نحن الحور الحسان خبئنا لأزواجٍ كرام
وهكذا يتقلب المرء من أهل الجنة بين زوجاته وهو في هذه الخيمة من اللؤلؤة المجوفة، طولها سبعون ميلاً، في كل زاوية له أهل لا يراهم الآخرون، (لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا) إنها مشتاقة إليه من الآن.
وقد أخبر علي رضي الله عنه وأرضاه في الحديث الموقوف الذي له حكم الرفع: (أنه إذا دخل الجنة، خف إليه الغلمان، فتحلقوا حوله، خدمه وحشمه يستقبلونه، يذهب واحدٌ منهم مسرعاً إلى بيته، فيخبر تلك الحورية بأن زوجها على وشك الوصول، فلا تصبر حتى تخرج إلى أسكفة الباب لتستقبله) إنه استقبال عظيمٌ يومئذٍ، ويعطى الرجل قوة مائة رجل في الجماع، ويصل إلى نسائه في الجنة وهي تهب ريح الشمال يوم الجمعة -كما جاء في صحيح مسلم - (فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً) فأين هذا -يا عبد الله- من لذة ساعة شر إلى قيام الساعة، فإذا قامت الساعة، كان ذلك أشد وأنكى؟ أين هذه الصفات للحور العين من هؤلاء النساء؟ مهما تجملت فغالب زينتها المكياج الزائف، ومهما كانت جميلة فانظر إليها بعد سنين، فإنها تكون في غاية القبح والدمامة، وتصبح عجوزاً شوهاء، ومع ذلك فإن الاستمتاع بها مكدر في حيضها ودمها وطمثها وإفرازاتها، وسائر الأشياء المقرفة التي تخرج منها، أين هذا من هؤلاء الأزواج المطهرة؟ فمن صبر هنا، كان له هذا هناك، ومن لم يصبر هنا، فيا سوء ذلك الحرمان! ونعوذ بالله من الخذلان.
اللهم إنا نسألك الفوز بالجنان، والعتق من النيران اللهم هب لنا من زوجاتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً اللهم طهِّر قلوبنا، وحصِّن فروجنا، يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين.
اللهم باعد بيننا وبين الفتن ما ظهر منها وما بطن، وارزقنا العفة والعفاف , والأمن والإيمان.
اللهم انشر الأمن والإيمان في بلدنا هذا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأرشد الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، إنك أنت أرحم الراحمين.
اللهم انصر المجاهدين، اللهم انصر هذه الأمة، اللهم ردها إلى كتابها وسنة نبيها، وأيقظها من سباتها، واكتب لها النصر على أعدائها يا رب العالمين اللهم اجعلنا في بلدنا آمنين مطمئنين وسائر إخواننا المسلمين يا رب العالمين.
اللهم انصر من نصر الدين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(98/13)
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1]
إن حب الناس للنبي صلى الله عليه وسلم دفعهم لقبول ما يروى عنه دون تثبت، لاسيما إذا خاطب ما يروى عليهم عواطفهم ومشاعرهم، ورتب على قليل الفعل جزيل الأجر.
وهذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة قد تركت آثاراً سيئة على الفرد والمجتمع كالتفرقة بين المسلمين، وإلغاء قواعد في أصول الفقه، وإيقاع المسلمين في الشرك، ورد الحديث الصحيح، وغيرها من الآثار السيئة التي بينتها هذه المادة، والتي بينت كذلك: خطورة التقول على النبي صلى الله عليه وسلم وخطورة انتشار هذه الأحاديث أسباب الوضع فضل العلماء في الذب عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم وتنقيحه وأسباب انتشار هذه الأحاديث بين الناس.(99/1)
خطورة انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخواني في الله، أهل هذا البلد الآمن: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإني والله مسرورٌ ومنشرح الصدر لهذا اللقاء، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل مجلسنا هذا مجلساً يرضاه سبحانه وتعالى، وأن يجعل فيه خيراً كثيراً للسامع والمتكلم.
أيها الإخوة: كان في الذهن أكثر من موضوعٍ لإلقائه في هذه الليلة، ورأيت الآن وأنا في مجلسي هذا أن أبدأ معكم بالموضوع المتفق عليه أصلاً وهو: (الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة)؛ لأني أخشى لو أنني بدأت بالموضوع الآخر ألا ننتهي منه، وأن يطول الكلام عليكم جداً، ولعلكم تسمعونه في مناسبة أخرى إن شاء الله، وعلى العموم فهذا الموضوع أو الموضوع الآخر مذكورة تفاصيلهما في كتب أهل العلم، ولكن حسبنا في هذه الجلسة أن نتذاكر ونتواصى معاً ونحقق قول الله عز وجل في الذين استثناهم من الخسران: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] وهذه الآية تبين لنا أن هناك أشياء في الإسلام لا يمكن أن تؤدى بشكلٍ فردي، ولا بد من عباداتٍ جماعية يقوم بها المسلمون، ومنها التواصي على الحق والصبر، ومن التواصي بالحق -أيها الإخوة- التواصي بالمحافظة على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أرسله الله سبحانه وتعالى ليبين لنا ما أنزل إلينا من ربنا، فكانت سنته صلى الله عليه وسلم شارحة للكتاب العزيز، مفصلة لمجمله، مخصصة لعمومه في بعض الأحكام، ولذلك كان لا بد لحفظ الكتاب من حفظ السنة، والذي نراه -أيها الإخوة- في هذا العصر أن تفريطاً عظيماً حصل من المسلمين بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذا التفريط: التساهل في رواية الأحاديث التي تنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون عليه السلام منا براء، ولا يمكن أن يقول عليه الصلاة والسلام مثل بعض الكلام الذي ينسبه بعض الجهلة إليه صلى الله عليه وسلم.
وقد يكون في أذهان البعض أن هذا الموضوع من البديهيات، ولكن -أيها الإخوة- المتأمل في أضرار هذه المسألة وهي انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس لَيُدْرِكُ بجلاء أن المسألة خطيرة، ولعلنا نخلص من عرض هذه المحاضرة إلى شيءٍ من هذه الخطورة التي نريد أن نبينها، حتى يعي المسلم من أين يؤتى، وحتى يعي المسلم ما هو مصدر الأمراض المنتشرة في المجتمع، فإنه أحياناً يكون خارجياً، من أعداء الإسلام في الخارج، وأحياناً يكون من الداخل، وبعض المسلمين يوحون إلى آخرين بأن السبب في تقهقر المسلمين وانهزامهم مؤامرات خارجية، وقد تتخذ هذه النقطة شماعة تعلق عليها الأخطاء الداخلية التي ترتكب في المجتمع الإسلامي.(99/2)
خطورة التقول على النبي صلى الله عليه وسلم
بادئ ذي بدءٍ -أيها الإخوة- لا بد لنا أن نذكر هذا الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنتم تعلمون أن حديث: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) حديثٌ متواتر، رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحواً من سبعين صحابياً وربما مائة صحابي، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن الذي أصله في الصحيحين: (من قال عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار) وقد ترجم عليه ابن حبان رحمه الله: فصل ذكر إيجاب دخول النار لمن نسب الشيء إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو غير عالمٍ بصحته.
وروى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه: (من حدث عني بحديثٍ يرى أنه كذب فهو أحد الكاذِبِيْن -أو الكاذِبَيْن-).(99/3)
أسباب الوضع
لقد كانت حركة الوضع في الحديث من المؤامرات الباطنية التي يقصد منها تشويه الإسلام، والتي يقصد منها إشاعة الفتنة وإبعاد المسلمين عن الصحيح من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان من هؤلاء زنادقة يضعون الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم كـ عبد الكريم بن أبي العوجاء وغيره، الذي كان يقول لما قدم ليضرب عنقه: والله لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديثٍ أحرم فيها الحلال وأحلل فيها الحرام.
وكان من هؤلاء أصحاب أهواءٍ كما قال ذلك الشيخ الخارجي: كنا إذا اشتهينا أمراً أو هوينا أمراً صيَّرنا له حديثاً.
وممن اشترك في وضع الحديث أناسٌ يضعونه صناعة وتسوقاً جراءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إن أحدهم ليسهر عامة ليلة، في وضع حديث.
ومنهم من كان ينسب إلى الزهد والتدين، ولكنه جاهل على الأقل في هذه النقطة، فكان يضع الأحاديث يظن ذلك احتساباً عند الله كـ نوح الجامع، وسمي بالجامع لأنه كان يجمع التفسير والفقه والمغازي وعلوماً كثيرة إلا شيئاً واحداً وهو التورع من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يكن عنده، وعندما يجهل المسلم المنطلق الصحيح وتقع له شبهة، ولكنه غير معذورٍ فيها مثل هذا الرجل، لأن الأمر قد بين له ونوقش ولكنه مع ذلك أصر وقال: رأيت الناس يشتغلون بـ مغازي ابن إسحاق، وفقه أبي حنيفة فأردت إرجاعهم إلى القرآن، فقعد يضع الحديث في فضائل السور سورة سورة.
ومنهم أناسٌ كانوا يضعون الأحاديث في تمجيد رؤساء مذاهبهم كما وضعت الكرامية هذا الحديث: (يجيء في آخر الزمان رجلٌ يقال له: محمد بن كرام يحيي السنة والجماعة، هجرته من خراسان إلى بيت المقدس كهجرته من مكة إلى المدينة) حديثٌ مكذوب يريدون به رفع شأن هذا المبتدع حتى يتلقف الناس منه العلم، ويزينونه في أعين الناظرين والسامعين، ويُخدع به عباد الله المسلمون.
ومنهم أناسٌ كان فيهم حقدٌ على الإسلام وعلى هذا القرآن الذي نزل بلغة العرب، يريدون نسف اللغة العربية، ويريدون إعلاء شأنهم حقداً على هذا الدين، منهم بعض الفرس الذين وضعوا مثل هذا الحديث: (إن كلام الله حول العرش بالفارسية، وإن الله إذا أوحى أمراً فيه لينٌ أوحاه بالفارسية، وإذا أوحى أمراً فيه شدة أوحاه بالعربية) ما هو المقصود؟! ماذا يوحي هذا الحديث؟! ماذا يلقي في أنفس السامعين؟ إنه يلقي كراهية اللغة العربية ومحبة اللغة الفارسية.
وهل سكت الجهلة المقابلون لهم من العرب؟ كلا.
فإنهم وضعوا أحاديث أيضاً في فضل اللغة العربية وأن كلام أهل الجنة عربي، وفي المقابل وضعوا أحاديث في ذم بلاد خراسان مدينة مدينة.
فلا يجوز أن ترد البدعة ببدعة ولا يجوز أن نرد على الخطأ بخطأ آخر! إن الرد على البدعة والخطأ -أيها الإخوة! - يكون بتبيان الصواب أولاً، ثم بنقد الخطأ والبدعة ثانياً.
وبعض الوعاظ يظنون أن السبيل إلى تحميس الناس لأمرٍ معين هو أن يضع حديثاً في فضل هذا الأمر، فيأتي واعظ جاهل يرى الناس قد قصروا في زكاة الفطر مثلاً فيضع لهم هذا الحديث: (شهر رمضان معلقٌ بين السماء والأرض لا يرفع إلى الله إلا بزكاة الفطر) لماذا؟! قال: لأن الناس لا يخرجون زكاة الفطر، نريد أن نحمس الناس على إخراج زكاة الفطر.
وبعضهم من الفرق الباطنية الذين كان همهم تمجيد بعض الأشخاص كشخص علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى يوصلوه إلى مرتبة الألوهية، انظروا مثلاً إلى هذا الحديث: (ستكون فتنة فإن أدركها أحد منكم فعليه بخصلتين: كتاب الله وعلي بن أبي طالب) علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين، مناقبه مشتهرة متكاثرة لا يماري فيها إنسان مسلم يعرف الله عز وجل، ويعرف حق صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن أن تصل المسألة أن يجاء برجل ولو كان صحابياً فيُعتبر هو المرجع بعد كتاب الله.
إذاً: -أيها الإخوة! - المسألة مخططٌ لها، مذاهب قامت في التاريخ يريد كل أصحاب مذهبٍ منهم أن يؤصلوا لمذهبهم بأحاديث يروجونها بين المسلمين، يؤصلون للمذهب ويقعدون له بأحاديث موضوعة ومكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وضعوا حديثاً عن علي: (غسلت النبي صلى الله عليه وسلم فشربت ماء محاجر عينيه فورثت علم الأولين والآخرين) ولم يكتفوا بذلك بل وضعوا حديث: (النظر إلى علي عبادة)، ونحن نعرف أن النظر إلى المصحف عبادة، هل وقف الأمر عند هذا الحد؟ كلا.
لتعزيز المذهب وتأصيله أيضاً لا بد من الاختلاق في مجال التفسير فلذلك جاءوا بحديث: (اسمي في القرآن {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1]، واسم علي {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:2]، واسم الحسن والحسين {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس:3]، واسم بني أمية {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس:4])، ولما وصل الحقد بهؤلاء الباطنية على صحابيٍ جليل مثل معاوية رضي الله عنه، فقد وضعوا الحديث السابق وأحاديث أخرى مثل حديث: (لكل أمة فرعون وفرعون هذه الأمة معاوية) عندما يسمع الناس -أيها الإخوة! - هذه الأحاديث ماذا يُحدث في قلوبهم على معاوية رضي الله عنه؟ ما هو الأثر السيء لهذا الحديث في قلوب الناس على صحابة أجلاء كرام من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ولكن المتعصبة للطرف الآخر هل ستتوب؟ كلا.
فقد وضعوا أحاديث منها: (أخذ القلم من علي ودفعه إلى معاوية) علي لا يصلح فـ معاوية هو الكاتب الأمين؟! صحيح أنهم أقل شراً من أولئك ولكن المشكلة أن الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم صار أمراً سهلاً لا يُتورعُ عنه، ولا يخاف الإنسان ربه من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم فيختلقون آلاف الأحاديث الموضوعة المكذوبة في شتى المجالات.
ولما حقد هؤلاء الباطنية على أبي بكر وعمر؛ قام بعض الناس يضع الأحاديث في فضل أبي بكر وعمر ومنها حديث لـ عثمان: (لما أسري بي إلى السماء فصرت في السماء الرابعة سقط في حجري تفاحة فأخذتها بيدي فانفلقت فخرج منها حوراء تقهقه فقلت لها: تكلمي لمن أنت؟ قالت: للمقتول شهيداً عثمان) وأما الأحاديث الموضوعة في فضل أبي بكر وعمر فهي كثيرة ولكنها ليست أكثر من الأحاديث الموضوعة في فضل الرجال الذين يريد الباطنية أن يمجدوهم، ومن هذه الأحاديث مثلاً: (من شتم الصديق فإنه زنديق، ومن شتم عمر فمأواه سقر، ومن شتم عثمان فخصمه الرحمن، ومن شتم علياً فخصمه النبي صلى الله عليه وسلم) فهذه الطائفة أرادت أن تقرب بين وجهات النظر المختلفة فقالوا: نضع أحاديث في فضل الأربعة حتى تجتمع الأمة عليهم، والأحاديث في فضل الأربعة موجودة، فلماذا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وقد يحمل التعصب المذهبي الذميم بعض الناس على اختلاق الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنه مثلاً الحديث المشهور المعروف: (سراج أمتي أبو حنيفة النعمان) (يكون في أمتي رجلٌ كنيته أبو حنيفة النعمان هو سراج أمتي، ويكون رجلٌ في أمتي اسمه محمد بن إدريس هو أضر على أمتي من إبليس) يقصدون الشافعي رحمه الله تعالى الذي هو مجدد من المجددين في الأمة في أصول الفقه، فهل سكت الطرف الآخر؟ كلا.
بل اختلقوا حديث: (عالم قريش يملأ الأرض علماً) يقصدون الشافعي، وتظهر الأشياء المتبادلة في الأخذ والرد، ولكن المشكلة أنها في مجال الأحاديث والسنة النبوية عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد يحمل إرضاءٌ لخليفة أو سلطان من السلاطين رجلاً أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرضي ذلك الأمير مثلما وقع لـ غياث بن إبراهيم لما كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة: (لا سبق إلا في نصل أو خفٍ أو حافر) فأضاف هذا الرجل: (أو جناح) لكي يرضي المهدي الذي كان يلعب بالحمام، ولكن المهدي رحمه الله كان مشهوراً بتعقب الزنادقة، فلما سمع رجلاً يكذب من أجل إرضائه رجع إلى نفسه فذبح الحمام، فلما تولى غياث بن إبراهيم قال: أشهد أن قفاك قفا كذاب.
وقد يكون دافع الانتقام من أشخاصٍ معينين أو هيئاتٍ معينة سبباً لوضع الأحاديث فمثلاً يحنق أحدهم على قاضٍ من القضاة لم يعجبه حكمه فيطلق الحكم على القضاة فيطرده طرداً فيأتي بحديثٍ مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليذم هذه الطائفة طائفة القضاة مثلاً كحديث: (عرج حجرٌ إلى الله فقال: إلهي وسيدي! عبدتك كذا وكذا سنة ثم جعلتني في حش كنيس -مرحاض، الحجر يشتكي- فقال -يعني الله عز وجل، وتعالى الله أن يقول ذلك-: أما ترضى أني عزلت بك عن مجالس القضاة) أي أن المرحاض أحسن من مجالس القضاة.
وقد يحنق أحدهم على الشرطة فيضع الأحاديث في ذلك، فمنها مثلاً: (دخلت الجنة فرأيت فيها ذئباً فقلت: أذئبٌ في الجنة؟! فقال إني أكلت ابن شرطي) فلأنه أكل ابن شرطي دخل الجنة.
فالمدهش -أيها الإخوة! - أنه قد يكون أحياناً السبب تافهاً، ولكن المقابل لهذا الأ(99/4)
فضل العلماء في الذب عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم وتنقيحه
ولذلك -أيها الإخوة! - قيض الله لهذه الأمة علماء أفذاذاً نقحوا هذه الأحاديث، وبينوا ما هو الصحيح من الضعيف، ما تركوا حديثاً إلا وتكلموا فيه، وبينوا نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليسوا محدودين في عصرٍ أو مصرٍ بل هم يتكررون على مر العصور والدهور، ولا يخلي الله منهم عصراً غير أن هذا الضرب من العلماء نادر:
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أعز من القليل
كان العالم عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله يقول: "لأن أعرف علة حديثٍ هو عندي أحب إلي من أن أكتب حديثاً ليس عندي"، ما الفائدة من الجمع فقط؟ لا بد أن أعرف هل الذي جمعت يحتج به أم لا؟ هل هو صحيح فيعمل به، أم هو ضعيف فيحذر الناس منه.
قال سفيان الثوري رحمه الله: "الملائكة حراس السماء وأصحاب الحديث حراس الأرض" وقال يزيد بن زريع: "لكل دينٍ فرسان وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد" ولذلك مرة من المرات -كما ذكر الحافظ الذهبي في الميزان - أتى هارون الرشيد رحمه الله بزنديق ليقتله، فقال الزنديق: أين أنت من ألف حديثٍ وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ -يعني: ماذا تستفيد من قتلي وقد وضعت ألف حديث وقد سرت بين الناس؟ - فقال له هارون رحمه الله: وأين أنت من أبي إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك ينخلانها حرفاً حرفاً، يبينانها للناس.
فإذاً: وجد هؤلاء العلماء، ووجد هؤلاء المهتمون بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد مر أحمد بن حنبل رحمه الله على نفرٍ من أصحاب الحديث وهم يعرضون كتاباً لهم فقال: ما أحسب هؤلاء إلا ممن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى تقوم الساعة) قال ابن حبان رحمه الله: ومن أحق بهذا التأويل من قومٍ فارقوا الأهل والأوطان، وقنعوا بالكسر والأطمار في طلب السنن والآثار، يجولون البراري والقفار، ولا يبالون بالبؤس والإقتار، متبعين لآثار السلف الماضين، وسالكين طريق الصالحين.
بأي شيء؟ برد الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذب الزور عنه، ولذلك كان للعلماء جهودٌ جبارة في كشف الكذب، وتعيين الأحاديث المكذوبة، وتبيين الضعيف للناس والمكذوب حتى يحذروا منه، ولذلك ألفوا مصنفاتٍ خاصة في تبيان الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وفي تبيان الأحاديث المشتهرة على الألسنة، وقعدوا القواعد في روايات أهل البدع، وشددوا في قبول الحديث، ودعوا الناس إلى تلقي الصحيح، والحث على التثبت في الرواية، وألفوا الكتب في أسماء الضعفاء والوضَّاعين، وبينوا الأحاديث المسروقة والمركبة وأحاديث القصاصين، وكانت لهم مواقف من الكذابين: بفضحهم، وترك السلام عليهم، ووعظهم، والتشهير بهم، وتمزيق كتبهم بين أعينهم، والاستعداء عليهم من أهل الخير، ووصفهم بألقابٍ تناسبهم، فكان أحد العلماء يقول: فلان كذاب أكذب من حماري، وقال: فلان مَدْلٌ في جلد خنزير، وقال: فلان أكذب من فرعون إلخ.(99/5)
أسباب انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس
ولكن قد يتساءل البعض: ما هي الأسباب في كثرة انتشار هذه الأحاديث؟ فنقول: منها قلة علماء الحديث في هذا العصر، وهذا لا شك فيه، والسبب الثاني: انتشار وسائل النشر والتوزيع التي تطبع الكتب وتغرق الأسواق بآلافٍ من الكتب التي فيها الشيء الكثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وقلما تجد واعظاً أو محاوراً أو خطيباً إلا ويسوق في ثنايا كلامه أحاديث موضوعة أو ضعيفة إلا من رحم الله من طلبة العلم الذين يتحرون فيما ينسبونه إلى رسولهم صلى الله عليه وسلم، وبعض الناس -أيها الإخوة! - تعجبهم الأحاديث الضعيفة والموضوعة لأسباب فمنها مثلاً: أنها تلمس عواطفهم، مثال: (من زار قبر والديه كل جمعة فقرأ عندهما يس غفر له بعدد كل آية أو حرف) الناس يحبون آباءهم ويحبون أمهاتهم، ويريد الواحد منهم أن يفعل شيئاً لأمه وأبيه، فيذهب عندما يسمع هذا الحديث ويطبق ليس إلا من باب العاطفة، وبعض الأحاديث الموضوعة تستدر الشفقة، إذا سمعت هذا الحديث: (إذا بكى اليتيم وقعت دموعه في كف الرحمن يقول: من أبكى هذا اليتيم الذي واريت والديه تحت الثرى، من أسكته فله الجنة) هذا الحديث المكذوب الموضوع في رحمة اليتيم قد يؤثر في عواطف الناس، فيندفعون بعواطفهم لتقبل هذه الأحاديث، وتلقفها والعمل بها، لأنه شيء عاطفي، شيء يؤثر في النفس، ولكن ما درى أولئك المساكين أن هذا كلام مكذوب على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث مؤثرة تجيش عواطف النفس وتؤثر في القلب، فلماذا لا يعملون بها؟(99/6)
آثار انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس(99/7)
عدم تقبلهم للأحاديث الصحيحة بعد سماعهم للأحاديث الضعيفة
من الآثار السيئة كذلك لهذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة: أن في كثيرٍ منها أجوراً خيالية! من فعل كذا فله ألف حسنة وألف قصر في الجنة، وفي كل قصر ألف خيمة، وفي كل خيمة ألف حورية، وعلى كل حورية ألف حلة من ذهب!! وفي المقابل أحاديث العذاب: من فعل كذا وكذا وكذا وضع في تنورٍ من نار فيه ألف فرن، في كل فرن ألف أفعى، في كل أفعى ألف لسان، في كل لسان ألف نوعٍ من أنواع السم يقرصه صباحاً ويلدغه مساءً وهكذا! مع استمرار الكلام في هذه الأشياء وطرق مثل هذه الأحاديث الخيالية يتعود الناس على المبالغة مما يعكس أثراً سيئاً وهو أنهم لا يتقبلون أحاديث صحيحة كحديث -على سبيل المثال-: (ويلٌ لمن فعل كذا) لأن كلمة ويل صارت بالنسبة للأحاديث التي فيها ألف ألف كذا وكذا شيئاً قليلاً، فصاروا لا يتأثرون، فلابد أن تأتي بحديث فيه ألف ألف كذا، وعشرة آلاف كذا، ومائة ألف كذا حتى يتأثر، وهذه من إحدى السلبيات لانتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة.(99/8)
إيقاع المسلم في الشرك الصريح
من الآثار السيئة لهذه الأحاديث: إيقاع المسلم في الشرك الصريح، والكفر المخرج عن الملة، والردة عن الدين، والعياذ بالله مثل حديث: (من اعتقد أحدكم بحجرٍ لَنفَعه) لو اعتقدت أن هذا حجر يضر وينفع لنفعك، لا يوجد حجر ينفع! إن في هذا إرجاعاً للمسلمين إلى الجاهلية الأولى، إلى عبادة الأحجار، والأوثان، وفيه صرف للناس عن التوسل المشروع إلى التوسل غير المشروع.
فبدلاً من أن يقول الواحد مثلاً: يا ألله! إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! ويسأل الله، يأتيه هذا الحديث، مثلاً: (توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم) ونأتي نقول: نسألك بحق الأنبياء، نسألك بجاه محمد، نسألك بكذا وكذا، وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم توسلاتٍ مشروعة، ولكن هذه الأحاديث لا تدع الناس يكملون التوسل المشروع بل تصرفهم إلى الشيء غير المشروع، بل إنها قد توقع الناس في الكفر، فمن جهة ترك الصلاة -مثلاً- حديث: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له، أو لم يزدد من الله إلا بعداً) بعض الناس يقع في الفواحش؛ قد يشرب الخمر، قد يزني قد يسرق، قد يرتشي، فعندما يسمع هذا الحديث: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له) يقول في نفسه أنا لم أستطع أن أتخلص من الزنا إذاً: ليس لي صلاة، فلماذا أصلي؟! أعرف رجلاً قال لي بلسانه وكان رجلاً ضالاً ثم مَنَّ الله عليه فاهتدى: كنت وأنا ضال في البداية أصلي، مع أني أسافر وأفجر وأفسق لكني كنت أصلي، ثم سمعت هذا الحديث: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له) فقال: قلت في نفسي: إذاً لماذا أصلي إذا كان ليس لي صلاة وأنا مصمم على المعصية مصرٌّ عليها، إذاً: ليس لي حاجة لأن أصلي، وكلما أردت أن أصلي برز أمام عيني هذا الحديث فتركت الصلاة! لماذا ترك الصلاة؟ لهذا الحديث الموضوع المكذوب المنكر.
مثلاً: إيقاع الناس في قضايا تنافي التوحيد مثل: التشاؤم بالأزمان والتطير بها: (لا تسافر والقمر في العقرب) إذا صار القمر في برج العقرب فلا تسافروا فهذا السفر سيء، ولا تسافروا لأن نتائجه سيئة.
علي بن أبي طالب لما ذهب لقتال الخوارج، عرض له أحد المنجمين فقال: يا أمير المؤمنين! لا تسافر فإن القمر في العقرب، قال: [بل أسافر ثقة بالله وتوكلاً على الله وتكذيباً لك] وسافر فظفر على الخوارج وانتصر عليهم.
أو حديث: (من بشرني بخروج صفر بشرته بالجنة) لأنهم يتشاءمون بشهر صفر، فهي أحاديث مكذوبة توقع الناس، وأحياناً هذه الأحاديث المكذوبة تكون في أمورٍ تنافي الإيمان وتنافي مفهومه الصحيح، بل إنها تركب في أنفسهم مفاهيم للإيمان غير صحيحة، مثل: مفهوم المرجئة للإيمان، كالحديث المكذوب: (من قال الإيمان يزيد وينقص فقد خرج من أمر الله) (ومن قال أنا مؤمن إن شاء الله فليس له في الإيمان نصيب) كما لا ينفع مع الشرك شيء فكذلك لا يضر مع الإيمان شيء، فالناس يعتقدون أن الإيمان في القلب، وأن العمل غير مهم، لماذا؟ لهذه الأحاديث.
ولذلك مرة قلت لرجل: يا أخي! اتقِ الله قم صل الصلاة، لماذا لا تصلي؟ فأشار إلى قلبه، وكان هذا هو الجواب، لأنه يعتقد أنه يكفي أن يكون الإيمان في القلب ولا داعي للعمل! وقد تؤدي هذه الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة أيضاً إلى إنكار أشياء من العقيدة مثل حديث: (لا مهدي إلا عيسى) فماذا تكون النتيجة؟ إنكار أمر من أمور العقيدة وهو: المهدي الذي أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، من أنه سيخرج في آخر الزمان عندما تمتلئ الأرض جوراً وظلماً.
الغلو بالأنبياء ورفعهم فوق المقام الذي أنزلهم الله عز وجل مثل حديث في تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ورفعه فوق منزلته التي أنزله الله فيها كحديث: (لولاك ما خلقت الأفلاك) لولاك يا محمد! ما خلقت الأفلاك، حديث مكذوب، وهو يعني أن الله لم يوجد السماوات والأرض ويخلق الناس لعبادته، لولا محمد صلى الله عليه وسلم ما خلقهم، وهذا ينافي القرآن وظاهر القرآن، أو حديث (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين) وهكذا.
حديث إحياء أبويه، بعض الناس من محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم عندما يعرف حقيقة تاريخية من أن أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم ماتا على الكفر لا يعجبه، يقول: كيف أبو الرسول صلى الله عليه وسلم وأمه على الكفر؟! غير معقول! مستحيل! لا يمكن! إذاً ما هو الحل؟ هذا الحديث: (أحياء أبوي عرض عليهما الإسلام) فماتا بعد ذلك على الإسلام، وغير صحيح هذا، لماذا؟ نوح عليه السلام على ماذا كان ولده؟ وإبراهيم عليه السلام على ماذا كان أبوه؟ هل نفعه شيئاً؟ يؤتى بـ آزر يوم القيامة فيلقى في النار، فيرى إبراهيم عليه السلام أباه كذيخٍ ملتطخ مسخ ضبعاً، ثم يؤخذ بقوائمه فيلقى في النار، وهو أبو الخليل خليل الله إبراهيم، لأن هذا الدين -أيها الإخوة! - لا يحابي أحداً، لا ينفع إلا الإيمان والعمل الصالح.(99/9)
التشنيع على أهل الحديث
وكذلك من الآثار السيئة لهذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة: التشنيع على أهل الحديث، فاختلق بعض الزنادقة أحاديث ليشوهوا سمعة أهل الحديث، مثل حديث: (إن الله لما أراد أن يخلق نفسه خلق الخيل فأجراها فعرقت فخلق نفسه من هذا العرق) تعالى الله عما يقولون عنه علواً كبيراً، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، ومثل الأحاديث التي يروونها من أن الله ينزل يوم عرفة إلى الموكب فيصافح الناس المشاة والركبان سبحان الله العظيم! لماذا وضعوها؟! وبعضهم يعرف أن العامة لن تتقبل هذا الكلام لكن ليقولوا: انظر إلى أهل الحديث ماذا يروون!! نسبة ما لا يليق إلى الأنبياء والتشنيع عليهم منتشرة ومبثوثة الآن في كتب السير، أو بعض التفاسير: أن داود عليه السلام أعجب بزوجة أحد جنوده فأراد أن يتزوجها، فلكي يتخلص منه أرسل به في ميدان من ميادين القتال ليموت ويتزوج المرأة، هل يمكن أن نبياً من الأنبياء يعمل هذا العمل؟ ماذا يعتقد الناس عن داود عندما يسمعون بهذا الحديث، ولكي يفتحوا باب العمل بالأحاديث الضعيفة في الفضائل على مصراعيه وضعوا مثل هذا الحديث (من بلَغه عن الله فضلٌ فأخذ بذلك الفضل الذي بلغه؛ أعطاه الله ما بلغه وإن كان الذي حدثه كاذباً) سبحان الله! يعني: لو جاء أحد يقول حديثاً ضعيفاً أو موضوعاً في فضائل الأعمال وأنت أخذت به فلك الفضل حتى لو كان ذلك كذباً، هذا معنى الحديث.(99/10)
تعليم الناس ما لم يثبت
أيضاً من هذه الآثار السيئة: تعليم الناس أشياء لا تثبت؛ مثلاً في حفظ القرآن الكريم: أكثر الناس يتفلت منهم القرآن ويحتاجون إلى مراجعته دائماً، ومع ذلك فهو يتفلت، فيريد الناس وسيلة سهلة لحبهم السهل، يقول: المراجعة شيء صعب، كل يوم مراجعة! ما هو الحل؟ يأتيك الجواب، والله -يا أخي! - يوجد حديث يجعلك لا تنسى القرآن، ما هو هذا الحديث؟ يقول: يا أخي! يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءت ليلة الجمعة فصل أربع ركعات واقرأ في الأولى الفاتحة ويس، وفي الثانية الفاتحة والدخان، وفي الثالثة الفاتحة والسجدة، وفي الرابعة الفاتحة وتبارك، فإذا فرغت من التشهد فاحمد الله وقل كذا وكذا لا تنسى ما حفظته) فالناس يريدون هذه الأشياء، يريدون شيئاً سهلاً يوفر عليهم تعب المراجعة، فيقوم المسكين فيعمل بهذا الحديث، مثلاً حديث مسح العينين بباطن الأنملة من السبابتين عند قول المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، تجد بعض الناس يفعل هذا، ومع ذلك يفعلونها، فهل ثبت هذا الكلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إذاً كيف نعمله؟! كيف نستبيح لأنفسنا أن نعمل أشياء في العبادات لم تثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أن ندعو بما لم يثبت مع الأدعية الواردة والأذكار، إذا قامت الصلاة قالوا: أقامها الله وأدامها، إذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قالوا: استعنا بالله، إذا توضأ، قالوا: زمزم، إذا صلى ثلاثاً، قالوا: تقبل الله، وإذا قالوا: حرماً، قال: جمعاً، أين وردت هذه؟ وأين هي موجودة؟ ويواظب الناس عليها! ولو جئت الآن تقول: لا.
فيقول: كيف؟ أنا أدعو له أن يصلي في الحرم وأن يتوضأ بماء زمزم ما فيها؟! فيها أنك الآن تبتدع في الدين، وأنك تقول أن الدين غير كامل، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما عمل الأفضل، وجئنا الآن واكتشفنا الأفضل فنحن نعمل به!! وهذا كثير، يقول: الفاتحة على روح فلان! فتقول له: يا أخي! الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح يقول: (إذا مات واحد) فيقاطعك: الفاتحة على روح فلان؟! إذاً: لماذا نأتي بأشياء من جيوبنا ثم نطبقها في الواقع؟ أدعية على مدى الأيام؛ دعاء يوم السبت، ودعاء يوم الأحد، ودعاء يوم الإثنين، ودعاء يوم الثلاثاء، ودعاء يوم الأربعاء، ودعاء يوم الخميس، ودعاء يوم الجمعة، والصلوات؛ صلاة يوم السبت، وصلاة يوم الأحد! ومن الكتب المشهورة في هذا كتاب: الدعاء المستجاب الذي يقول عنه الشيخ/ عبد العزيز حفظه الله: مؤلفه حاطب ليل، يأتي من كل مكان يجمع ما هب ودب، والكتاب منتشر، والمشكلة أن الاسم ملفت للنظر: الدعاء المستجاب، كل واحد يريد أن يكون دعاؤه مستجاباً، إذاً: اقتن هذا الكتاب وطبق ما فيه!!! بعض الناس يوزعون أيام الأسبوع لمهمات معينة بناءً على أحاديث ضعيفة أيضاً، يأتي مثلاً فيقول: يوم السبت يوم مكرٍ ومكيدة، ويوم الأحد يوم بناءٍ وعرس، ويوم الإثنين يوم سفرٍ وتجارة، ويوم الثلاثاء يوم دم، ويوم الأربعاء يوم نحسٍ مستمر، ويوم الخميس يوم دخول على السلطان وقضاء الحوائج، ويوم الجمعة يوم خطبة ونكاح، انتهت القضية! أي توزيع وأي شيء هذا؟! تجارة ليوم كذا، ونكاح ليوم كذا، توزعت الأعمال وأصبحت جدولاً! لماذا؟ من أين أتى هذا الكلام؟ إنه من حديث موضوع عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
الأحاديث في فضل الأزمان والأماكن، ومن فعل كذا في رجب حصل له كذا وكذا، وصيام يوم سبعة وعشرين من رجب، وقيام ليلة خمس عشرة من شعبان، ولا بد أن يصام عند العامة ولا يمكن تركه! من أين جاء هذا؟! لا يوجد شيء صحيح، ولا يوجد مستند شرعي لهذا الكلام.
حتى شم الورود ما سلم من الأحاديث الموضوعة المكذوبة: (من شم الورد الأحمر ولم يصل علي فقد جفاني) (من أراد أن يشم رائحتي فليشم الورد الأحمر) الآن -بالمناسبة- عند بعض الناس إذا أتيت بالبخور ودرت به على المجلس قال: اللهم صل على النبي! فصارت هذه الآن ذكراً محدداً بوقت معين وهو عند البخور! اخترعنا الآن ذكراً محدداً عند شيء معين، عندما يأتي البخور يقول: اللهم صل على محمد، وقد يكون هذا من هذا.
اختراع أصول في الجزاء والحساب ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يمكن أن الله يحاسب الناس بناءً عليها: (إن الله تعالى لا يعذب حسان الوجوه) أي أنه: إذا وجد شخص خلقته جميلة فهذا نجاة له من العذاب! (عليكم بالوجوه الملاح فإن الله يستحي أن يعذب وجهاً مليحاً بالنار) قال الشيخ القارئ: فلعنة الله على واضعه الخبيث، فهل هذا المقياس من الممكن أن الشريعة تأتي به؟ شخص ينجو من النار لأن وجهه جميل ولو كان أكفر الناس وأبعدهم عن الشريعة وعن العبادة؟! ومن المعايير الأخرى أيضاً في الحساب: (آليت على نفسي ألا يدخل أحدٌ اسمه محمد أو أحمد النار) فقط لأن اسمه محمد أو أحمد!! لا يدخل النار! أممكن هذا الكلام؟! ألم يوجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين أخطر شخصيتين: عبد الله بن أبي بن سلول وعبد الله بن سبأ، من أخطر الشخصيات في التاريخ الإسلامي وكل واحد اسمه عبد الله، ليست القضية قضية أسماء، لأن من المنافقين من الذين ينتسبون للإسلام ويتكلمون بألسنتنا من اسمه عبد الله وعبد الرحمن ومحمد وأحمد، ولكنهم يمكن أن يكونوا أشد خطراً على الإسلام من جورج وجوزيف إلى آخره، نعم يوجد هذا.
في الإمامة أحكام فقهية: (يؤم القوم أفقههم بكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا بالسنة سواء فأحسنهم وجهاً) يعني: إذا تساووا نقدم أحسنهم وجهاً، وماذا بعد إلا أن نحول المسجد إلى مسابقة جمال ووجوه، ثم انتخاب ثم ننتخب، واللجنة، والأصوات حتى نخرج أجملهم ثم يصلي بالناس، قبح الله ذلك فعلاً، وهذا موجود وإن لم تكونوا قد سمعتم به فهناك أناسٌ يعملون به، ويتفقهون على هذه الأشياء المبثوثة في المذاهب من الأحاديث الباطلة.
إدخال أمورٍ في الإيمان ليست منه: (حب الوطن من الإيمان) ليس حب الوطن من الإيمان، قد يكون الوطن كافراً، قد يكون الإنسان في بلد كافر، فهل إذا أحب وطنه الذي نشأ فيه ولو كان بلداً كافراً صار هذا من الإيمان؟! هذا غير صحيح.(99/11)
تأصيل أصول مخالفة للشريعة
أحياناً تأتي الأحاديث الضعيفة والموضوعة بتأصيل أصولٍ مخالفة للشريعة مثل حديث: (اختلاف أمتي رحمة) هذا الحديث من آثاره السيئة: أنه يقضي على كل محاولة للوصول إلى الحق، لأنه مثلاً إذا وقع خلافٌ علمي بين واحد وآخر هذا يرى شيئاً وذلك يرى شيئاً آخر، فإن المفروض في هذه الحالة المباحثة والمناقشة العلمية المؤدبة على طريقة السلف حتى نصل إلى الحق، لكن عندما يأتي حديث: (اختلاف أمتي رحمة) إذاً: ليطمئن كل إنسان فكل الناس بخير، كل الآراء الفقهية الحمد لله صحيحة، أنت على صواب وهو على صواب رحمة من الأصل! قد تكون بعض الآراء ضعيفة متهافتة باطلة لا يمكن أن تكون صحيحة، وكيف يكون الاختلاف رحمة والله عز وجل ذم الاختلاف في القرآن الكريم، فقال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].
كذلك من هذه الأصول الباطلة: وضع أصولٍ في قبول الروايات غير الأصول الشرعية المعتمدة كحديث: (أصدق الحديث ما عطس عنده) إذاً: لو جاء حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولما ذكر هذا الحديث عطس رجل من الحاضرين فهذا دليل على صحة الحديث عجيب! سبحان الله! كيف يكون دليلاً على صحة الحديث، ولو عطس مائة رجل عند حديث مكذوب لا يمكن أن نجزم بنسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك أحاديث تطبع وتنشر وتوزع بين الناس، وتنتشر انتشار النار في الهشيم، الآن هل منكم أحد لم يسمع بالحديث الذي فيه أن تارك الصلاة يعاقب بكذا عقوبة، خمسة في الدنيا، وخمسة في القبر، وخمسة في الآخرة؟ فقد انتشرت بين الناس مع أن هناك أحاديث في الحث على الصلاة، والتحذير من ترك الصلاة صحيحة، فلماذا نلجأ إلى هذا وننشره بين الناس؟ وكذلك هذه أوراق دعاء الخضر وإلياس، وأن زينب رضي الله عنها قالت هذا الكلام، وأن امرأة عميت فقرأت هذا الكلام فرأت زينب في الليل، فقالت لها زينب: اقرئي هذا الذكر أو هذا الدعاء فستشفي، فاستيقظت فقرأت فشفيت، وأن الدعاء الفلاني ويلٌ لمن لم يقرأه ولم يوزعه، وأن فلاناً قرأه فغني من ثاني يوم، وفلان سافر فربح، وفلان لم يعمل به فخسر التجارة وقتل بعد كذا يوم ومن قبيل هذا الكلام، والمشكلة أن بعض الضعفاء لما يأتي مكتوب فيه مثلاً: وزع ثلاث عشرة نسخة، وإن من لم يوزع هذه النسخ فإنه يحصل له كذا وكذا من المصائب، والناس تصدق فتصور وتوزع، وامرأة من المسكينات أتى لي واحد بورق مكتوب بخط اليد، وهو نفس هذا الكلام المنسوب إلى زينب، فهذه المسكينة لم تجد آلة تصوير فنسختها بيدها ثلاث عشرة مرة نسخاً باليد ثم وزعتها! لماذا؟ خوفاً من أن يحصل لها شيء؛ لأن فيه تخويفاً وترعيباً (وإذا ما فعلت سيحدث لك كذا وكذا) وطبعاً الذي ليس عنده ثقة بالله عز وجل ولا معرفة حقيقية بطبيعة هذا الدين سيكتب ويوزع.(99/12)
إفساد الأخلاق
التشجيع على أمورٍ من المفاسد، حتى في الأخلاق الأحاديث الضعيفة والموضوعة لها آثار سيئة: (من عشق وكتم فمات مات شهيداً) يشجع الناس على العشق، والعشق باختصار هو: أن تحب إنساناً مع الله أو أكثر من الله عز وجل، شرك بالمحبة بحيث يسيطر ذكر المعشوق على العاشق فيلهيه عن الصلاة وعن ذكر الله عز وجل، وعن كل شيء حتى عن الأكل والشرب، ولكن الحديث يقول: (من عشق وكتم فمات مات شهيداً) المشكلة أيضاً (مات شهيداً) فوضعت هذه الشهادة -المرتبة العظمى- لمن يعشق، إذاً العشق حسن، وهذه الأغاني التي فيها العشق ممتازة.
انظروا إلى هذا الحديث المكذوب لكي تتبينوا معي -أيها الإخوة! - كيف أن هذه الأحاديث الضعيفة المكذوبة لها آثار سيئة في نسف الأخلاق والفضيلة، وإحلال الرذيلة في نفوس البشر الذين يستمعون إليها ويطبقونها.
في روض الأذكار: (أن امرأة خرجت تسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم فرآها شابٌ فقال: إلى أين؟ قالت: أسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتحبينه؟ قالت: نعم.
قال: فبحقه ارفعي نقابك حتى أنظر إلى وجهك، ففعلت ثم أخبرت زوجها بذلك فأوقد تنوراً ثم قال: بحقه عليك -يعني الرسول صلى الله عليه وسلم- ادخلي التنور فألقت نفسها في التنور -كل هذا (بحقه عليه) - وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال للزوج: ارجع واكشف عنها فكشف عنها التنور -فرناً محمى- فرآها سالمة وقد جللها العرق!) أي: لم يصبها شيء! ما هي النتيجة؟ شاب أجنبي رأى أجنبية في الطريق قال: تحبين رسول الله؟ قالت: نعم.
قال: بحقه عليك اكشفي النقاب حتى أنظر إلى وجهك، أتكشف النقاب وينظر إلى وجهها؟!! ومن الآثار السيئة أيضاً في الأخلاق: أن بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة لها آثار سيئة في عدم تغيير الخلق السيء وتبديله، كل إنسان فيه أخلاق سيئة وطبائع غير جيدة، والحل أن يجاهد نفسه حتى يبدل الخلق السيء بخلق طيب، لكن عندما يأتي حديث: (الحدة تعتري خيار أمتي) (الحدة تعتري حملة القرآن لعزة القرآن في أجوافهم) لو أن إنساناً حاد الطبع يغضب بسرعة وينفعل فإنه عندما يسمع هذا الحديث: (الحدة تعتري خيار أمتي) (وحملة القرآن لعزة القرآن في أجوافهم) ماذا يعمل الحديث هذا وما هو مفعوله في النفس؟ إنه على الأقل يجعلك حادَّاً.(99/13)
تغيير سنة النبي صلى الله عليه وسلم
إن تغيير سنة النبي صلى الله عليه وسلم أثر من آثار الأحاديث الضعيفة والموضوعة مثل حديث: (كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها) لحية الرسول صلى الله عليه وسلم كانت أوفر ما يكون، وأجمل ما يكون، وأمر عليه الصلاة والسلام بإعفاء اللحى، ولكن يأتيك هذا الحديث: (كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها) فيأتي إنسان يقصقص، لماذا تقصقص يا أخي؟ الرسول أمر بإعفاء اللحية! قال: لا.
عندي دليل، ما هو؟ قال: (كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها) لا يمكن يا أخي! أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بإعفاء اللحية ثم بعد ذلك هو نفسه عليه الصلاة والسلام يخالف أمره فيذهب يقصقص منها، هذا لا يمكن! قال أحدهم: الناس تستطيع أن تتلمس اتجاهات بعضهم في التفكير ومشاربهم المختلفة في قضية واحدة مثل هذه القضية، الرسول لم يكن يحلق لحيته لأنه لم يكن عنده موس، أي أنه لو كان عنده موس لحلق، وأجابه أحد الحاضرين، قال: يا أخي! الرسول كان عنده سيف طويل ولو أراد أن يحلق لفعل، ما هذا الكلام! والموس كانت موجودة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، لحديث: (حتى تستحد المغيبة) التي غاب عنها زوجها، وأيضاً أصرح من هذا صلح الحديبية: (فدعا بالحلاق فحلق رأس الرسول صلى الله عليه وسلم بالموسة).
وحديث خبيب بن عدي لما دب إليه ولد وهو مأسورٌ بـ مكة وبيده موسة، كان يستحد بها رضي الله عنه وهو مأسور في صدر الإسلام.
وكذلك الحديث الآخر الباطل: (من سعادة المؤمن خفة لحيته) فخفيف اللحية يصير منبسطاً، وأما كثيف اللحية فيغتم، مشكلة لست بسعيد بل شقي! لماذا؟ لأن عندي لحية كثيفة! انظروا إلى هذه الآثار السيئة.
وكذلك من الآثار السيئة في فضائل تمشيط اللحية أو التمشيط عموماً: (عليكم بالمشط فإنه يذهب الفقر، ومن سرح لحيته حتى يصبح كان له أماناً حتى يمسي) التمشيط هذا شيء طيب؛ لكن ليس الذي يدفعنا إلى هذا التمشيط الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وإنما نمشط ونهذب وننظف لحث الشرع على أن يبدو الإنسان بالمظهر الحسن المسلم، ولذلك كانت سنن الفطرة.
مثلاً: العصا والاتكاء عليها وضعت لها فضائل (العصا علامة المؤمن وسنة الأنبياء، ومن خرج في سفر ومعه عصاً من لوز -يجب أن تكون من لوز فلو كانت ليست من لوز فلا تنفع- مر -ولابد أن يكون مراً- أمنه الله من كل سبعٍ ضار، ولصٍ عاصٍ، وكل ذات صلَّة حتى يرجع إلى أهله ومنزلة، وكان معه سبعة وسبعون من المعقبات) إلى آخر هذا الكلام الفارغ.(99/14)
إلغاء قواعد في أصول الفقه
من آثار الأحاديث الضعيفة والموضوعة: إلغاء قواعد في أصول الفقه، نحن نعلم أن القرآن والسنة والإجماع من مصادر الأحكام الشرعية، وكذلك إذا كان القياس صحيحاً فيؤخذ منه الحكم الشرعي فيأتي هذا الحديث مثلاً: (من عمل بالمقاييس فقد هلك وأهلك) ما هي النتيجة؟ إلغاء هذا البند من أصول الفقه، وعدم الاستفادة من القياس إطلاقاً.(99/15)
التفرقة بين المسلمين
ومن الآثار السيئة: التفرقة بين المسلمين، وذم بعض الأجناس أو الألوان، ومخالفة قول الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] كحديث: (دعوني من السودان إنما الأسود لبطنه وفرجه) يقول: الأسود فقط همه البطن والفرج، سبحان الله! ألم يكن من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم بلال بن رباح؟ أو ما كان عطاء رضي الله عنه من كبار علماء مكة وكان يخضع له الملوك والخلفاء ويأتونه ويستفتونه؟ إذاً: هذه الأحاديث التي تفرق شمل الأمة، وتفضل أجناساً على أجناس، وعرقاً على عرق إنما هي من مفرزات الجاهلية فصيغت بهذه الأحاديث الموضوعة.(99/16)
تحريم ما أحل الله وتشويه سمعة الصحابة
وكذلك تحريم ما أحل الله، مثل أحاديث تحريم لحم البعير مثلاً، ومنها تشويه سمعة صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكثير من الناس الآن يعرفون الحديث الذي فيه أن الصحابي ثعلبة بن حاطب طلب المال وكسب المال وخرج عن المدينة وفوت صلاة الجمعة والجماعة، وأنه بعد ذلك أراد أن يتوب فلم يقبل منه عليه الصلاة والسلام الزكاة، وأن أبا بكر لم يقبل منه الزكاة ولا عمر، وعندما تراجع الحديث تجد أن سنده ضعيف وأن ثعلبة بن حاطب رضي الله عنه بريءٌ من هذا الكلام، وأنه صحابي جليل كانت له مواقف محمودة، وقد يكون الأمر أخطر من ذلك عندما يُدخَل في قضية الصحابة بعض الأشياء المتعلقة بهم مثل بيعة أبي بكر رضي الله عنه يدخل فيها أهل الأهواء، فمثلاً يأتي حديث موضوع: (أن رجلاً قال لـ علي بن أبي طالب: أتعلم من بايع أبا بكر الصديق، فيقول: من هو؟ فيقول: بايعه شيخٌ متوكئٌ على عصا فيقول علي: نعم ذاك إبليس فقد أخبرني صلى الله عليه وسلم أن أول من بايع أبا بكر رجلٍ متوكئٌ على عصاً، شيخ من مكان كذا، وأن هذا إبليس متنكر يكون أول من يبايع أبا بكر رضي الله عنه) فهذا من تشويه سمعة الصحابة رضوان الله عليهم.(99/17)
إعانة المستهترين على الاجتراء على الله بالمعاصي، والابتداع في العبادة، ومخالفة السنة
وكذلك من آثارها السيئة أيضاً: إعانة المستهترين على الاجتراء على الله بالمعاصي مثل حديث: (إنما حر جهنم على أمتي كحر الحمَّام) فإذا كان حر جنهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم مثل حر الحمام فما الذي يمنع الناس أن يرتكبوا المعاصي، إذا كانت النهاية هي عبارة عن حمام ساخن؟ فإذاً: هل بعد هذا القبح وبعد هذه الآثار السيئة من شناعة، وآثارٍ تدفع الناس إلى الوقوع في المعاصي والجرأة على الله عز وجل؟! الابتداع في العبادة وقد ذكرنا طائفة من الأحاديث، فمثلاً الحديث الضعيف: (ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا) ولذلك تجد بعض الناس مواظباً على القنوت في صلاة الفجر، لماذا يا أخي؟ فيها أحاديث، هل بحثت في هذه الأحاديث فعرفت صحتها؟ أبحثت في سندها؟ ومن الذي صححها من العلماء؟ هل تعرف الرأي الآخر في الموضوع؟ هل تعرف أن الصحابي لما سأله ولده عن القنوت وهو طارق بن شهاب قال له: [أي بني إنه محدث]؟، وهل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا إذا نزلت نازلة بالمسلمين كما قنت لما قتل القراء في بئر معونة فظل يدعو على من قتلهم شهراً، فإذا نزلت النازلة قنتوا وإذا لم يكن هناك نوازل لم يقنتوا، فلا يشرع للإمام أن يقنت.
وكذلك إضافات في العبادات مثل: إضافة مسح الرقبة في الوضوء، ألم تروا أناساً يمسحون رقابهم عند الوضوء؟ فهذه الزيادة في الوضوء من أين أتت؟ أصلها من هذا الحديث الموضوع: (من توضأ ومسح عنقه لم يغل بالأغلال يوم القيامة) انتهى الأمر! كل واحد لا يريد أن يغل بالأغلال يوم القيامة فما عليه إلا أن يمسح، مع أن المسح غير وارد، ولم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مسح رقبته.
مساواة المسلمين بأهل الذمة مثل حديث: (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) وهذا غير صحيح، أنها أحاديث تنافي أحكاماً شرعية.
تحريم مس الرجل المرأة الأجنبية، بعض الناس يقول: أنا لا أصافحها مباشرة بل أصافحها من وراء حائل، أي أني أدخل يدي في عمامتي ثم أصافح، أو أمسك طرف العباءة وأصافح، هذا غير صحيح ولا يجوز لا مباشرة ولا من وراء حائل، ويفعلونه لهذا الحديث الضعيف: (كان يصافح النساء وعلى يده ثوب) وهو لم يثبت، بل إن الذي ثبت أنه عليه الصلاة والسلام ما مست يده يد امرأة أجنبية قط.
وحديث: (من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعد صلاته) ونحن نعلم أن كثرة الحركة في الصلاة مذمومة، لكن أحياناً توجد أسباب معينة يجوز معها الحركة في الصلاة بيَّنها أهل العلم، وأنا أذكر الآن مثالاً فيه فائدة فقهية: الذي لا يقرأ الفاتحة في الركعة ماذا يفعل؟ لو أن واحداً بدلاً من أن يقرأ الفاتحة قرأ التحيات ثم تذكر، ماذا يفعل؟ عليه أن يعيد تلك الركعة إذا كان داخل الصلاة، آخر ما انتبه إلا بعد ما جلس للتشهد ويظن أنه في الركعة الرابعة وهو قرأ نفس الشيء، يحدث أحياناً أليس كذلك؟ بلى.
يحدث أن بعض الناس قد يقرأ بدل الفاتحة التحيات، لو أن إماماً في صلاة سرية يؤم الناس قرأ في الركعة الرابعة بدل الفاتحة التحيات، وهو في التشهد الأخير تذكر أنه قرأ التحيات ما المفروض أن يعمله هذا الإمام؟ الواجب أن يزيد ركعة، فإذا ركع بدل هذه فالناس يستغربون ما هي هذه الركعة؟ زائدة! خامسة! هل يجوز أن يقوموا أصلاً؟ لا يجوز أن يقوم في تصورهم، لو قام الإمام إلى ركعة خامسة فلا يجوز للناس أن يقوموا بل يجلسوا ويسبحوا، وإذا أصر يجلسون وينتظرونه حتى يجلس ويسلم فيسلمون معه أو يفارقونه، لكن هذا الإمام ما أخطأ ولا نسي في القيام للخامسة بل قام عامداً لأنه لا بد أن يأتي بركعة فماذا يفعل الإمام لكي ينبه الناس هل يقول إني أنا يا جماعة ما قمت إلى الخامسة نسياناً ولا ذهولاً، وإنما قمت عامداً، وأنا أرجو أن تقوموا معي!! ماذا يفعل؟ يؤشر بيده لمن خلفه: أن قوموا، أنا أؤكد أن هناك سبباً في هذه الخامسة، لست ناسياً.
فإذاً: هذه الحركة صارت لها حاجة في الصلاة، فلما يأتي هذا: (من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعد صلاته) ماذا يكون الموقف؟ أحياناً تكون لهذه الأحاديث آثار سيئة في التفسير، فتأتي الأحاديث الضعيفة في تفاسير خاطئة للآيات، لو أنه مثلاً قرأ هذه الآية: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف:52] قال: لما قالها عليه السلام قال له جبريل: يا يوسف! اذكر همك فقال: وما أبرئ نفسي، يعني: هذه مقولة امرأة العزيز.
مشروعية الرقص والتواجد عند الذكر، ويخترعون لذلك أحاديث كحديث: (ليس بكريمٍ من لم يتواجد عند ذكر الحبيب) إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم من سمعه يرقص ويتواجد فليس بكريم.
وكذلك اعتقادات خاطئة مثل (من طنت أذنه فليقل: ذكر الله بخير من ذكرني) هذا منتشر بين الناس، لو طنت أذن واحد يقول: أكيد الآن أن واحداً في مشارق الأرض أو مغاربها يذكرني ويأتي بسيرتي؛ ولذلك الآن طنت أذني فيقول: (ذكر الله بخير من ذكرني) ليس بصحيح هذا الحديث، وهذا اعتقاد خاطئ، فطنين أذنك -يا أخي- قد يكون لسبب في الدماغ فجعل الأذن تطن.
هذه الخرافات أحياناً لو اطلع عليها بعض الناس الذين يريدون الدخول في الإسلام -والله! - قد تكون عائقاً في دخولهم الإسلام مثل حديث: (هل تدرون ما يقول الأسد في زئيره، قالوا: الله ورسوله أعلم؟ قال: يقول: اللهم لا تسلطني على أحدٍ من أهل المعروف)، وحديث: (إن الله لما خلق الشمس جعل لها تسعين ألف ملك يرمونها بالثلج كل يوم ولولا ذلك لاحترق الناس) الآن يرمونها بالثلج لكي تبرد، أهذا كلام؟! وحديث (خذوا من القرآن ما شئتم لما شئتم) جعل القرآن شذر مذر! تقطيفاً! إذا فيه الأورام قرءوا: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه:105]، نقرأ لروح الله، وبعض الناس فعلاً عندهم آيات معينة ما وردت في السنة ولا ثبتت بطريق صحيح، أو أنها جربت مثلاً فنفعت، بطريقٍ شرعي؟ لا.
قطَّعوها لما يبدوا لهم من أن الظاهر مقارب للآية: (إذا زلزلت الأرض) فيضعها فإذاً: يقطعون القرآن على حسب الأشياء، يقولون: هذه الآية تصلح لكذا وهذه الآية تصلح لكذا.
فإذا لم ترد بطريق شرعي فلا يجوز الاعتماد عليها.
ومن الأشياء أيضاً: استحباب لبس بعض الثياب وتفضيل بعضها على بعض: (من لبس نعلاً صفراء لم يزل في سرور ما دام لابسها) وذلك لقول الله عز وجل {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] سبحان الله العظيم! صفراء فاقع لونها يا أخي! قضية البقرة وموسى وبني إسرائيل، أخذوها وجعلوها على لبس النعل الصفراء.
مخالفة السنة: (كان يأكل بكفه كلها) حديثٌ باطل، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يأكل بثلاثة أصابع، الناس يأكلون بكم؟ أبالكف كلها؟ فانظر حديث: (كان يأكل بكفه كلها) فهذا مخالفة لهديه صلى الله عليه وسلم في طريقة الأكل.(99/18)
إلقاء الشك والريبة بين المسلمين؛ ونشر الخرافة بينهم
إلقاء الشك والريبة بين المسلمين: (احترسوا من الناس بسوء الظن) أي أن الزمان قد فسد الآن فلابد أن تسيء الظن في كل واحد، تأخذ احتياطك منه فتفترض في الأصل أنه سيء فتسيء الظن به، فتكون النتيجة أن كل مسلم ينظر لأخيه بمنظار أسود، أكيد أنه يريد أن يؤذيني! أكيد أنه يريد أن يفعل بي كذا! يريد بي شراً! وهكذا.
كذلك انظر من الخرافات العجيبة (إن الله أعطاني نهراً يقال له الكوثر في الجنة لا يدخل أحدٌ أصبعه في أذنيه إلا سمع خريره) يعني: إذا أدخلت أصبعك في أذنيك فإنك تسمع خرير نهر الكوثر، ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، الآن من مجرد ما نضع أصابعنا في آذاننا فإننا نسمع خرير نهر الكوثر! والأحاديث الموضوعة في فضائل الأطعمة ما أكثرها (اجعلوا في موائدكم البقل فإنه يطرد الشياطين) (إن الله تعالى يوكل بآكل الخل ملكين يستغفران له) (عليكم بالقرع فإنه يزيد بالعقل) (عليكم بالعدس فإنه مبارك ويرق القلب، ويكثر الدمع، وقد قدس على لسان سبعين نبياً) (شكا نبيٌ من قلة الولد فأمره أن يأكل البيض والبصل) إلى آخر هذا الهراء، ومنها: (اتخذوا الحمام المقاصيص فإنها تنجي الدين عن صبيانكم) إذاً والله نأخذ هذه الحمام، أو نوعاً من الحمام ونربيها في البيوت! (إذا كتبت فضع القلم في أذنيك فإنه أذكر) يعني أن هذا يقوي الذاكرة إذا وضعت القلم على أذنك، اعتقادات ليس لها أصل ولا دليل بل هوس وهراء.
بعض الناس يشيع عندهم إذا كانت المرأة تسقط دائماً الجنين حديث: (يا رسول الله! إني امرأة لا يعيش لي ولد فقال: اجعلي لله عليك أن تسميه محمداً ففعلت فعاش ولدها) فصار بعض الناس الآن إذا صارت امرأته دائماً تسقط يقول: لله علي نذر أن أسميه محمداً لكي يعيش.
التضييق على الناس في أمورٍ من المباحات، بعض الناس يرجع من دوامه الساعة الثانية والنصف تعباً مرهقاً يصلي ويتغدى، فلا يجد فرصة للراحة والنوم إلا بعد العصر فيأتيه حديث: (من نام بعد العصر ففقد عقله فلا يلومن إلا نفسه) فماذا يفعل؟ رجل هذه ظروفه الآن متعب، فنقول: لا.
لا تنم بعد العصر فإنه يجلب الجنون، فماذا يفعل؟! إنسان لا يمكن أن يعيش مع زوجته أكثر من ذلك لوجود مشكلة بينه وبين زوجته، الطلاق في بعض الأحيان هو الحل الوحيد، لكن ليس في كل الأحيان، فإنه يمكن في كثيرٍ من الأحيان تدارك الوضع وتحسين الأشياء بغير الطلاق، الطلاق أحياناً يكون خطيراً، وأحياناً لا يكون الحل بالطلاق فيأتي حديث: (تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز له العرش) مهما كانت سيئة خلق؟! مهما كان عدم التوافق موجوداً؟! لا يمكن أن يطلق فكيف يعيش الزوج؟! يعيش في جحيم.
تحريم أشياء من المباحات فيها بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة، واحد يريد مثلاً أن يتزوج، شاب يحتاج للزواج -وأهل مكة لا مشكلة عندهم في هذا الموضوع- لكن واحد يريد أن يتزوج، محتاج للزواج فأتاه الحج قبل التزوج: (من تزوج قبل أن يحج فقد بدأ بمعصية) سبحان الله! كيف يكون إعفاف الرجل نفسه وإحصانه فرجه سبباً للمعصية؟ هل هذه معصية؟! من قال ذلك؟ يقول: لا.
لا يجوز، بعض الناس عندهم اعتقاد (لا يجوز الزواج قبل الحج بل لا بد أن تحج أولاً).
الذي ما عق عنه أبوه في الماضي فإنه لا بد من أن يعق قبل أن يعتمر أو يحج وإلا فستصير عمرته أو حجه باطلاً، وبعض الناس عندهم اعتقادات بهذا، وأحياناً يكون أساسه حديثاً ضعيفاً أو موضوعاً.
وأحياناً تؤدي الأحاديث الضعيفة والموضوعة إلى احتقار النساء، مثل حديث: (لا تسكنوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة)، أو حديث (شاوروهن وخالفوهن) هناك شخص كان دائماً يستشير زوجته تقول كذا فيفعل هو العكس، في يوم من الأيام تضايقت وقالت: أنت يا فلان! تأخذ بخلاف مشورتي، قال: أنا عندي حديث ((شاوروهن وخالفوهن).
(سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن) إذاً: لا بد أن الواحد يمشي رويداً رويداً ويخالف مشية الرسول صلى الله عليه وسلم.
(نسخ الأضحى كل ذبح) انتهت القضية فلا عقيقة ولا غيرها من الذبح! (من رفع يديه في الصلاة فلا صلاة له) قضاء على سنة رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه.
حديث جذب الرجل في الصف، إذا أتيت ولم تجد لك مكاناً تجذب رجلاً، غير صحيح والحديث الذي فيه ضعيف والناس يطبقونه.
وحديث (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني) لا بد من الزيارة لكل من أراد أن يحج، ولو ما زار فحجه باطل، أو ناقص إلى آخره.
أيها الإخوة الكرام: لقد عرفنا أن الخطورة ليست فقط في نسبة هذه الأحاديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنها خطورة في حد ذاتها، أحياناً يكون معنى الحديث صحيحاً، مثلاً: (من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له) هذا الحديث ضعيف لكن معناه صحيح، فالمجاهر بالمعصية ليست له حرمة في الغيبة، ولكن لا يجوز أن ننسب هذا الحديث فنقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له) لا.
هذه مسألة خطيرة أن ننسب حديثاً ضعيفاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولو كان معناه صحيحاً، فكيف إذا انضاف أن هذا الحديث الموضوع له أثر سيء على الناس كما بينا في المحاضرة.(99/19)
الموقف من الأحاديث الضعيفة والموضوعة
فإذاً -أيها الإخوة! - ماذا يكون موقفنا من الأحاديث المنتشرة؟ وما هو موقف الرجل العادي من هذه الأحاديث المنتشرة التي يسمعها والتي هي محفوظة في ذاكرته؟ فنقول: أولاً: طالب العلم عنده مراجع يستطيع أن يرجع إليها، هناك إما نقاد كبار مثل الحافظ ابن حجر رحمه الله، والحافظ الذهبي وغيرهما من العلماء الذين صنفوا الكتب وبينوا فيها درجات الأحاديث، وبعض الكتب في الأحاديث المشتهرة على الألسنة تذكر درجات الأحاديث، وهناك مصنفات في الأحاديث الموضوعة مثل الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني رحمه الله.
وكذلك من المحدثين مثلاً العلامة الشيخ/ أحمد شاكر في جهوده في التعليقات على الأحاديث التي علق عليها، وكذلك المحدث علامة الشام الشيخ/ محمد ناصر الدين الألباني في تعليقاته وفي كتبه التي ألفها ومن أنفعها سلسلة الأحاديث الصحيحة والضعيفة وضعيف الجامع وصحيح الجامع وغيرها، وما يذكره سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز علامة الجزيرة في بعض الأحاديث، فإنه من المهتمين بالأسانيد والعلل جزاه الله خيراً.
ثانياً: الرجل العامي الذي لا يستطيع أن يبحث ماذا يجب عليه؟ نقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان:59] يجب اللجوء إلى الخبراء، إلى العلماء، فإذا لم تجد عالماً فعليك أن تسأل طالب علم موثوق يرجع إلى كتب العلماء فيخبرك ما هي درجة هذا الحديث.
كذلك عليك -يا أخي! - أن تواظب على القراءة في الكتب التي تنتقي الأحاديث الصحيحة مثل كتاب رياض الصالحين فهو من أنفع الكتب، خصوصاً مع تعليقات الشيخ/ ناصر حفظه الله وهناك بعض الانتقادات على بعض الأحاديث، لكنه كتاب جيد وممتاز، وبعض الناس يذهب إلى معارض الكتاب ويشتري كتباً لكن ماذا يقرأ منها؟ الله يعلم، لو ما قرأ إلا تفسيراً مبسطاً للقرآن وواظب عليه وكتاب رياض الصالحين، فهو شيء جيد، وشيء عظيم أن يفعل رجل عامي هذا الشيء، ممتاز جداً أن يختم أو يقرأ كتاب رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله.
والكتب في الأحاديث الصحيحة كثيرة، كـ الصحيحين وغيرها.
كذلك عليه أن يتجنب القراءة في الكتب ذات الأحاديث غير الموثوق بها أو غير المميزة، لأن بعض الكتب تكثر فيها الأحاديث الضعيفة والموضوعة مثل: بستان العارفين، أو مثلاً: إحياء علوم الدين، طبعاً طالب العلم قد يقرأ تخريجات الحافظ العراقي وغيره رحمهم الله لكن العامي يفتح كتاب الإحياء ويقرأ ولا يدري عن قيمة التخريجات التي تحته وهذه مشكلة، ولذلك عليه أن يتجنب القراءة في كتبٍ لا يعرف درجة الأحاديث التي فيها، وهذه كتب كثيرة منتشرة؛ كتب أذكار، وكتب أدعية، وكتب في السيرة، وإلى غير ذلك من الأشياء التي تحوي الكثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، فإذاً: باختصار يجب أن يجعل قراءته في الكتب الموثوقة، وأن يرجع إلى الموثوقين الذين يبينون له درجة هذه الأحاديث.(99/20)
الأسئلة(99/21)
التصحيح والتضعيف للحديث يخضع للاجتهاد أحياناً
السؤال
ما رأيك بالشيخ الذي يقول: لا تجادلوني في صحة حديثٍ أضعفه أو حديث ضعيف أصححه لأن المسألة اجتهادية؟
الجواب
صحيح أن بعض الأحاديث اجتهادية، والعلماء في تصحيح الحديث يختلفون، وقد يختلفون ويكون الخلاف قوياً وطالب العلم عليه أن يجتهد في معرفة أي الرأيين أقوى في الحكم على هذا الحديث، لكن كثيراً من الأحاديث ليس فيها اجتهاد أبداً، والمسألة واضحة جداً، رجل في سند حديث كذاب، أو رجل سيء الحفظ، لا توجد شواهد ولا متابعة لهذا.
ولا اجتهاد في الحديث الموضوع، فلا يمكن أن توجد اجتهادات في هذه المسألة، فهذه قضية واضحة، فإذاً: نرى هل في تصحيح الحديث خلافٌ سائغ، أي: أن هناك فعلاً جماعة من كبار الحفاظ صححوه وأن آخرين ضعفوه، أو أن الخلاف غير صائب، أي: أن الذي ضعفه أئمة العلم غير المتخصصين وما صححه أحد من الذين يعتد برأيهم، فعند ذلك نقول: لا.
تعالوا ما تقول أنت، مسألة اجتهادية على هواك! تقول: والله مسألة اجتهادية، لا.
المسألة يرجع فيها لأهل العلم الموثوقين.(99/22)
حكم العمل بالأحاديث الضعيفة
السؤال
ما حكم العمل بالأحاديث الضعيفة؟
الجواب
حكم العمل في الأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال، رأيان مشهوران لأهل العلم: الرأي الأول: أنه لا يجوز العمل بها مطلقاً كما هو مذهب الإمام البخاري رحمه الله أمير المؤمنين في الحديث وغيره، وأنه ليس هناك فرق بين الأحاديث الضعيفة في العقائد أو في الأحكام وفضائل الأعمال، فإذا أثبته هنا وجب أن تثبته هناك، وإذا لم يثبت هنا فلا يثبت هناك، فلا يمكن أن نفرق بينهما؟ والرأي الثاني: أنه يجوز العمل به بشروطٍ أربعة: أولاً: أن يكون في فضائل الأعمال.
ثانياً: ألا يكون شديد الضعف.
ثالثاً: ألا يكون مندرجاً تحت أصل من أصول الشريعة.
رابعاً: ألا يعتقد عند العمل به أنه ثابت وسنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولكن إذا دققت -يا أخي! - في هذه الشروط تجد أنها تعود تقريباً إلى رأي الأول لأنه من ذا الذي يستطيع أن يجمع هذه الأشياء، وأن يعرف أنه ليس شديد الضعف إلا أن يكون رجلاً له باع في علم الحديث حتى يعرف أنه شديد الضعف، أم لا، ثم بعد ذلك حتى وحتى، والأرجح، والله أعلم، فهو نفس الرأي الأول، والرأي الثاني -أصلاً- لو جئنا نطبقه عملياً سنجد أن حدود التطبيق ضيقة جداً، ولا يمكن أن نقوله لعامة الناس، نقول: اعملوا بغير شديد الضعف، كيف يعرف أنه غير شديد الضعف؟(99/23)
أهمية بيان الأحاديث الضعيفة والموضوعة للعامة
السؤال
ألا ترون أن هذه المحاضرة تصلح لطلبة العلم المختصين أما الحاضرون فهم من جماعة قد لا يدركون؟
الجواب
والله -يا أخي! - أنا لا أدري، وقد كنت سأطرح موضوع (ضوابط في إنكار المنكر) وكان هذا الموضوع في نظري فيه صعوبة كبيرة، وفيه قواعد أصولية، ومتشعب، لكني قلت في نفسي أنه ربما يكون هذا الموضوع أنفع لأن قضية الأحاديث الضعيفة والموضوعة منتشرة عند العامة، فإذا كنت ترى هذا فالحمد لله قد طمأنتني، فلم أكن أعتقد ذلك، فقد كنت والله أرجو ألا أكون قد غمطت إخواني حقهم وأني قلت لهم كلاماً معاداً ويمكن أن يكون كذلك لكن بعد أن سمعت هذا فالحمد لله، وعلى العموم فأنا أرى أن هذه من الأشياء التي ينبغي أن تطرح على العامة؛ لأن طلبة العلم الحمد لله الآن في اتجاه جيد بين الشباب الذين هداهم الله عز وجل إلى تمييز هذه الأمور، لكن عامة الناس مساكين، إذا قيل لهم: قال رسول الله فقد انتهى عندهم الأمر ولو كان الحديث مكذوباً كما مر معنا.(99/24)
عدم ثبوت حديث: (أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي) عن النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
حديث: (إني والإنس والجن في نبأٍ عظيم؛ أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إليهم نازل، وشرهم إلي صاعد) هل هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
الذي أذكره الآن أن هذا الحديث لم يصح رفعه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ذكره ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين في الفصل الذي عقده للتوبة، ولكن لم يجزم بنسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى العموم هو حديث معناه جميل، وكلماته جميلة جداً وهو أطول من هذا، ولكنه لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالمناسبة أقول: لو جئنا الآن لأحاديث ضعيفة ومعانيها صحيحة فهنا ينبغي أن ننتبه لمسألة ألا نقول للناس: هذا الحديث ضعيف، ولا نفصل لهم إذا كان الضعف في السند أو في المتن، أحياناً تأتي أحاديث معانيها صحيحة، مثلاً (أدبني ربي فأحسن تأديبي) الحديث كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنه لا أصل له، ولكن قال رحمه الله: ومعناه صحيح، فأنا أقول: الأكمل لطالب العلم أن يبين فيقول: يا جماعة! هذا الحديث سنده ضعيف لكن معناه صحيح، حتى لا يعتقد العامة أن الحديث ضعيف، انتهى أمره فليس بصحيح لا سنداً ولا متناً، فالأحسن أن تفصل لهم.(99/25)
عدم اشتراط التصريح بالحكم في الدليل
السؤال
هل توجد أحاديث قطعية تنهى عن شرب الدخان والغناء واستعمال المعازف والصلاة مع الجماعة في المساجد؟ حيث أنا نسمع من يقول: لم يرد نص مباشر أو حرفي في التحريم.
الجواب
أولاً: الناس الذين لا يفهمون عمومات الشريعة وأن هناك قواعد عامة في الشريعة تندرج تحتها أشياء كثيرة من الطبيعي أن يقولوا مثل هذا الكلام، يعني مثلاً: لو جئت إلى قضية الدخان المنتشر، يقول الله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ألا تكفي هذه الآية في الدلالة على تحريم الدخان؟ لأن الله قسم الأشياء إلى طيبة وخبيثة، فالدخان من أي شيء؟ هذا الكلام أي عامي يمكن أن يجيب عليه، لا يحتاج إلى قضية علماء: الدخان طيب أم خبيث؟ هل يمكن أن واحداً يقول: الدخان طيِّبٌ؟ لا يمكن، فإذاً الله عز وجل يقول: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] فإذاً: مادام أنه خبيث فهو حرام من الآية، فالمشكلة أن هذه من مجادلات الذين يتبعون الهوى، يقول: هات لي دليلاً من القرآن أن العود حرام، يعني: قضية تعجيز، ولو أتيت له بدليل فلن يقتنع، فلماذا تتعب نفسك؟ فأنت قل له الحكم وإن أعرض عنك {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63].(99/26)
حكم قيام ليلة النصف من شعبان
السؤال
أحاديث الإسراء والمعراج وليلة النصف من شعبان، هل ثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
أحاديث ليلة النصف من شعبان وليلة الإسراء والمعراج أظن أنه تكلم فيها كثير من المشايخ جزاهم الله خيراً والأمر فيها واضح أنها من المبتدعات، ولم يثبت فيها شيء، ورجح الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح أن الإسراء والمعراج لم يحدث في ليلة سبع وعشرين من رجب هذا فضلاً عن الاحتفال بتلك الليلة.(99/27)
سبب إيراد بعض العلماء لأحاديث ضعيفة في مصنفاتهم
السؤال
بعض العلماء يوردون أحاديث ضعيفة في كتبهم، فما قولكم في ذلك؟
الجواب
نعم يحصل هذا ولكن أولاً: قد يكونون لم يعلموا بضعفها، وثانياً: قد يكون هذا العالم صدرها بلفظٍ يشير إلى ضعفها كلفظة (روي) مثلاً التي تستعمل للإشارة إلى الحديث الضعيف، فإذا قال ابن القيم رحمه الله: روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو لم يجزم بصحته، لكن الذي لا يعلم هذا المصطلح يقع في لبس، وثالثاً: كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب ذلك القبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
(النظر إلى الكعبة عبادة) حديث لا يصح، (النظر إلى الوالدين عبادة) لا يصح، ويمكن أن تجد مثل هذه الكتب في الأحاديث المشتهرة على الألسنة التي تبين ضعف أو كذب مثل هذه الأحاديث.(99/28)
حكم الاحتجاج بصحة معنى حديث ضعيف في نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
بعض الناس يحتجون أن معنى الحديث صحيح في روايته على الملأ، فما قولكم؟
الجواب
نقول هذا كلام باطل، لأن أي واحد الآن فيكم لو قلت له: ضع لي حديثاً معناه صحيح، فهو يستطيع أن يؤلف حديثاً معناه صحيح، فهل هذا يعني وبهذه السهولة أنه لمجرد أن معناه صحيح ننسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وقد بينا في غضون الكلام خطورة أن ينسب الإنسان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حديثاً لا يعلم أنه عليه الصلاة والسلام قد قاله على سبيل الجزم، فكيف يأتي الناس بكل سهولة فيقولون: معناه صحيح وليس هناك حرج! هذا غير ممكن! هذه نفسها قضية، نسبة الحديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تثبت نسبته خطيرة جداً، فضلاً عن أن يكون الكلام معناه صحيحاً أو غير صحيح، فمجرد النسبة قضية خطيرة.(99/29)
حكم تصحيح الحديث لمجرد سماعه من شخص موثوق
السؤال
لو سمعت حديثاً من شخصٍ أثق به هل أحدث به غيري؟
الجواب
هل هذا الشخص يشترط على نفسه أنه لا يروي إلا حديثاً صحيحاً ولا يذكر إلا حديثاً صحيحاً، هذه نقطة.
وثانياً: الإنسان
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب
كل إنسان ممكن أنه ينسى، أو يسهى، ويمكن أن يخطئ، فإذاً: لا نقدس الأشخاص لدرجة أن نقول: والله هذا الحديث صحيح لماذا؟ ذكره فلان، ليست إلى هذه الدرجة، صحيح أن بعض العلماء هذا منهجهم، ويحتمل أن تكون هذه إشارة إلى أن الحديث صحيح، لكن: إنسان أثق فيه وانتهى، الشيخ هذا -يا أخي! - مشهور، يخطب ويحاضر ويظهر في التلفزيون ويتكلم في الراديو، إذاً: أكيد كلامه وليس معقول أن الإنسان يخطب ويحاضر ثم يأتي بحديث ضعيف، أكيد أنهم ما جعلوه يظهر إلا لأنه يأتي بأحاديث صحيحة ليس هذا الكلام صحيحاً.(99/30)
كيفية توبة من نشر حديثاً موضوعاً
السؤال
من أخذ حديثاً موضوعاً وأرشد به ودل عليه ماذا يجب عليه أن يفعل؟
الجواب
يجب عليه أن يبين للناس الذين دلهم عليه، وأرشدهم إليه، وقرأه عليهم درجته ليكون من كمال التوبة {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [البقرة:160] فلا بد من التبيين لاكتمال التوبة.(99/31)
حكم رجوع القارئ إلى سند الحديث
السؤال
هل يجب على كل مسلم إذا قرأ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى إسناده؟
الجواب
أظن أنا قد أجبنا على هذا الكلام وقلنا: لا.
لو أنه مثلاً يقرأ في صحيح البخاري، أو يقرأ في كتاب قد تعقب على المصنف عالم حديث فبين ووضح فالحمد لله يكفي، ولا يجب على كل واحد أن يرجع إلى السند لأنه ليس كل واحد مؤهلاً لهذا.(99/32)
حكم صلاة التسابيح
السؤال
بعض الصلاة المختلف فيها مثل صلاة التسابيح ما الحكم فيها وماذا نفعل؟
الجواب
قلت في أثناء الكلام أن طالب العلم يقرأ آراء الفريقين ويتمعن فيها ثم يعمل بما ترجح لديه منها، وهو في هذه الحالة مجتهدٌ مأجور، إن أخطأ له أجر، وإن أصاب فله أجران والحمد لله.(99/33)
عدم ثبوت نسبة حديث: (من رأيتموه يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان) إلى النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما رأيك بحديث (من رأيتموه يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان)؟
الجواب
غير صحيح، لم يثبت.
مع أنه قد يكون له معنى، وفي معناه شيء وجيه وفيه صحة، ولكن نسبة هذا الحديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لم تثبت.(99/34)
لا ميزة لأحد على أحد إلا بالتقوى
السؤال
ما رأيك في الحديث الذي يقول: (سفهاء مكة سكان الجنة)؟
الجواب
هذه المسألة قد ذكرنا في الكلام أنه لا يمكن أن تكون مثل هذه الاعتبارات كافية لدخول الناس الجنة، يكون واحد من سكان مكة، أو يكون من أجمل الناس وجهاً، وقد سمعتم كلاماً أن كل بلد فيها صالح وطالح، ولكن أحياناً تسمع كلاماً من بعض الناس، مرة من المرات أحدهم يتفاخر بقوة شخصيته أنه من أهل مكة يقول: نحن الذين أخرجنا الرسول من مكة متفاخراً!! سبحان الله العظيم! يا جماعة! كلمة الكفر تقال هكذا بكل بساطة.
نكتفي بهذه الأسئلة، وجزاكم الله خيراً على حضوركم وإنصاتكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بهذا المجلس، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(99/35)
الاستشارة في حياة المسلم [1،2]
الحياة مليئة بالمشكلات التي قد تجبر الإنسان على الاستعانة بغيره، ومن هذه الاستعانة المشورة، ومن جرب المشورة عرف أهميتها وقدرها، وقد تحدث الشيخ عن كثير مما يتعلق بالاستشارة من حيث السبب والأهمية، والكيفية والنتائج، وصفات المستشار والمستشير، والموانع التي تمنع من المشورة، وكيف تعالج هذه الموانع.(100/1)
أهمية الاستشارة في حياة المسلم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة! أحييكم في هذه الليلة وفي هذا المجتمع الطيب، وأقول لكم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأحمد الله عز وجل أن جمعني وإياكم في هذا المكان، وأحمده على هذه النعمة، وهي نعمة التقاء الأخ بإخوانه في الله للتذاكر والتناصح، ونسأل الله عز وجل أن يجعل مجلسنا هذا مجلس خير، وأن يجعلنا من المقبولين عنده إنه سميعٌ مجيب.
حديثي إليكم في هذه الليلة عن موضوع بعنوان: (الاستشارة في حياة المسلم) وأهمية هذا الموضوع في عدة نقاط، منها: أن هذا أدبٌ إسلاميٌ عظيم حصل فيه نوع من التفريط بين المسلمين، وهذا الأدب يعكس جوانب من عظمة هذا الدين في ترابط أفراد المجتمع الإسلامي الواحد، وهو كذلك مهمٌ في ضبط الأمور ومنع الفوضى التي قد تحصل نتيجةً لبعض الآراء التي لا تكون ضمن الطريق الصحيح، وكذلك تمنع حدوث كثيرٍ من الكوارث الفكرية وغيرها؛ نتيجة بعض الآراء الشاذة التي لا يخلو منها بعض أذهان الناس، وسيكون حديثي مركزاً حول نقاط، وهي: ما هي الاستشارة؟ أي: تعريف الاستشارة.
لماذا نستشير؟ أي: أهمية الاستشارة.
أين نستشير؟ أي: ما هي مجالات الاستشارة؟ من نستشير؟ أي: ما هي صفات المستشار؟ من الذي يستشير؟ كيف نستشير؟ متى نستشير؟ ما هي موانع الاستشارة؟(100/2)
تعريف الاستشارة
الاستشارة مأخوذةٌ من قول العرب: شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها بجريٍ أو غيره، وشرت الدابة إذا امتحنتها فعرفت هيئتها في سيرها، وشرت العسل إذا أخذته من مواضع النحل.
وهذا يبين لك الارتباط بين المعنى اللغوي والمعنى الذي نقصده نحن اليوم، فكونك تشور الدابة، أي: تختبرها، وكونك تشور العسل، أي: تبتغي الصفاء والنقاء في العسل بأخذه من مواطنه الأصلية، ومعنى قولهم: شاورت فلاناً، أي: أظهرت ما عندي وما عنده.
وزيادة الألف والسين والتاء في بداية الكلمة: (الاستشارة) هي للطلب، أي: طلب المشورة من الآخرين، وأما الأدلة على هذا، فمنها قول الله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "لا غنى لولي الأمر عن المشاورة، فإن الله تعالى أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] وقد قيل: إن الله أمر بها نبيه لتأليف قلوب أصحابه، وليقتدي به من بعده، وليستخرج بها منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحيٌ من أمر الحروف والأمور الجزئية".
وقال النووي رحمه الله: "إذا أمر الله بها النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه أكمل الخلق، فما الظن بغيره؟ ".
وقد مدح الله سبحانه وتعالى من عمل بها في جميع أموره، قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] وهذا من الثناء على المؤمنين، وكانت سادات العرب قديماً إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم في الأمر؛ فإن ذلك أعطف لهم عليه، وأذهب لأضغانهم، وأطيب لنفوسهم، فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم.
وأما الآيات التي أثنى الله فيها على صفات المؤمنين ومن ضمنها صفة المشورة، قال الله عز وجل: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى:36 - 38].
وقال ابن القيم رحمه الله في الزاد مبيناً هديه صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب: "واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد أصحابه أيخرج إليهم -أي: إلى الكفار- أم يمكث في المدينة ".
وفي معرض سياقه لغزوة الخندق قال: "فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه استشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو والمدينة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به؛ فبادر إليه المسلمون وعمل بنفسه فيه".
وكذلك في غزوة الحديبية كان من ضمن الدروس التي استنبطها ابن القيم رحمه الله في هذه الغزوة" استشارة الإمام لأصحابه".
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمدوا إلى تطبيق هذه السنة، والالتزام بهذا الأدب الإسلامي العظيم، فتجد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قد شاور الصحابة في أمور المرتدين، وتسيير البعوث والجيوش وغيرها، وكذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان له مجلس مشورة خاص، وكان في هذا المجلس الشباب والشيوخ كما سنبين ذلك.
ومن الأمثلة على استشارة عمر رضي الله عنه: ما ورد في صحيح مسلم لما خرج رضي الله عنه إلى الشام، ثم لقيه أهل الأجناد - أبو عبيدة وأصحابه- فأخبروه أن الطاعون قد وقع في الشام، قال ابن عباس: [فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعوتهم، فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بـ الشام] إلى آخر الحديث الذي فيه قصة عبد الرحمن بن عوف المعروفة.
رواه الإمام مسلم في صحيحه.
وإذا أردت أن تستدل أو تعرف مدى أهمية أمرٍ من الأمور عند السلف أو عند علماء المسلمين؛ فإنك تستدل على هذا بـ (هل عقد المصنفون كأهل الحديث في كتبهم أبواباً خاصة لهذا الأمر أم لا؟).
فإذا كانوا قد أفردوا هذا الأمر، فهذا دالٌ على أهميته؛ لأنه لو لم يكن مهماً جداً لما أفردوه، ولما جعلوه ضمن شيء من الأبواب، أو يجعلوه شيئاً جزئياً في داخل المصنف، ولكن عندما ترى أن الإمام البخاري خصص أبواباً في كتابه للمشورة، ويقول في أحدها: (وكان الأئمة يستشيرون الأمناء) وترى أبا داود رحمه الله يقول في سننه: (باب في المشورة) وترى الترمذي رحمه الله يقول أيضاً في سننه: (باب ما جاء في المشورة) وغير هؤلاء تراهم قد عقدوا أبواباً خاصة، فإنك لابد أن تستدل بذلك على أن لهذا الأمر أهميته؛ ولذلك أفردوا له هذه الأبواب والكتب في مصنفاتهم.(100/3)
أهمية الاستشارة وفوائدها
السؤال الآن: لماذا نستشير؟ وما هي أهمية وفوائد الاستشارة؟ الفائدة الأولى: اتباع الأثر: فنحن المسلمين نتبع ونقتفي آثار من مضى، (عليكم بالأمر العتيق).
ونحن أيضاً ننفذ ما أمرنا الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال الله لرسوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة لنا، فيعني ذلك: أن نقتدي به صلى الله عليه وسلم في المشورة.
وإذا كان الله أثنى على المؤمنين بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] ونحن من ضمن المؤمنين، فإذاً لابد أن نطبق هذه المسألة، أضف إلى ذلك أن هذا التطبيق فيه أجر التنفيذ لهذا الأمر الوارد، وإذا تشبهنا بالمؤمنين وبخصالهم فسنكون منهم إن شاء الله.
الفائدة الثانية: بالإضافة إلى التطبيق والأجر الحاصل: استنباط الصواب، فإن من أعز الأشياء أن تهتدي إلى الأمر الصحيح والحق والصواب.
فأنت ماذا تريد وعم تبحث؟ ألست تبحث عن الصواب في الأمر الذي تحتار فيه، وتريد أن تقدم عليه؟ عن الحسن قال: [والله ما استشار قوم قط إلا هدوا لأفضل ما بحضرتهم، ثم تلا: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) [الشورى:38]].
وينبغي أن تكثر أيها الأخ المسلم من استشارة ذوي الألباب، لاسيما في الأمر الجليل، فقلما يضل عن الجماعة رأي أو يذهب عنهم صواب، لأن إرسال الخواطر الثاقبة، وإجالة الأفكار الصادقة هذا هو الذي يجعلك تصل إلى الصواب، ومن أكثر المشورة لم يعدم الصواب، والخطأ إلى الجماعة أبعد من الخطأ إلى الفرد، لأن احتمال أن يخطئ الفرد أكثر من أن تخطئ جماعة من الناس.
الفائدة الثالثة: اكتساب الرأي: إن الإنسان إذا شاور وحاور وتناقش وطلب الأمر وقلَّبه على وجوهه، فإن هذه المناقشة مع الآخرين تكسبه رأياً وتُوسع مداركه، وتجعله يعرف من أين تؤتى الأمور، وما هي طريقة تفكير فلان وفلان، ويعرف أن فكره قد انصرف إلى جانب معين، وأن هناك جوانباً أخرى؛ فتتوسع مداركه، ويكتسب طرق في التفكير لم يكن ليهتدي إليها لولا الاستشارة.
وقال بعض الحكماء: "نصف رأيك مع أخيك، فشاوره يكمل لك الرأي".
خليلي ليس الرأي في صدر واحدٍ أشيرا عليّ بالذي تريان
ومن حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العقلاء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فرأي الفرد الواحد ربما زلّ، والعقل الفرد ربما ضلّ، ولكن عندما تجتمع العقول تصل إلى المأمول، وروي عن بعض السلف: "الرأي الفرد كالخيط السحيب -الخيط الرقيق الذي سرعان ما ينقطع- والرأيان كالخيطين المبرمين -أقوى قليلاً- والثلاثة مرار -وهو الحبل المفتول لا يكاد ينتقض- والمستشير الحازم يزداد برأي الوزراء الحزمة كما يزداد البحر بمواده من الأنهار".
الفائدة الرابعة: أنك تتحصن من الوقوع في الخطأ والزلل باستشارتك، قال حكيم لابنه: "شاور من جرب الأمور، فإنه يعطيك من أمره ما قام عليه بالغلاء وأنت تأخذه مجاناً".
الله أكبر! هذه هي الحكمة، الآن الشاب في مقتبل عمره تجاربه محدودة وقليلة، وحتى يكتسب تجارب فإنه يحتاج إلى وقت وجهد، وربما يقع في أخطاء كثيرة حتى يصل في النهاية إلى الرأي الحكيم وإلى الصواب في أمرٍ من الأمور، فعندما يذهب إلى شيخ مجرب وإنسان قد عركته الحياة، فإنه يأخذ منه الخلاصة التي توصل إليها هذا الشيخ؛ فهذا الشيخ يكون قد توصل إلى الحكمة والتجربة والخلاصة والصواب، ودفع كثيراً من الجهد والوقت حتى وصل إليه بالغلاء، وأنت تأتي وتأخذه بالمجان، فانظر إلى عظم هذه الاستشارة وعلو موقعها.
الفائدة الخامسة: أنها حرزٌ من الملامة، فلو أن شخصاً فعل أمراً من الأمور، ثم تبين له أن هذا الأمر خطأ، وظهرت النتائج عكسية وسيئة وفشِل، ماذا سيقول له الناس؟ لماذا لم تشاور؟ أنت مخطئ، أنت وأنت وتوجه إليه سهام الانتقاد من كل جانب ويلام، لكن عندما يكون هذا الشخص قد استشار مجموعة من الناس الحكماء والخبراء، ثم يخطئ وتكون النتيجة عكسية، هل سيلومه الناس؟ لن يلوموه لأنه استشار، ولو لاموه لقال لهم: أنا سألت فلاناً وفلاناً وهم الذين أشاروا عليّ بهذا الأمر؛ حينها كلهم يسكتون، لكن لو لم يشاور لظل عرضه للنقد من كل جانب.
الفائدة السادسة: أنها نجاة من الندامة، أن الشخص الآن فعل أمراً دون أن يستشير ثم فشل في هذا الأمر، فسيشعر بالندم ولو من توبيخ نفسه له وهي تقول له: لو أنك سألت ما حصل هذا! ولو أنك استشرت ما وصلت إلى هذه النتيجة المخيبة للأمل، فيشعر بالندم.
لكن عندما يستشير حتى لو أخطأ، فيقول لنفسه: هذا أمر خارج عن إرادتي، أنا استشرت وأخذت بالأسباب ثم أخطأت، والحمد لله هذا ليس رأيي فقط، فهو ينجو حتى من لوم نفسه، وعندما يستشير الإنسان ويخطئ؛ فإنه يعلم أن هذا الأمر قضاء وقدر، لكن لم يخطئ في الخطوات التي وصلت إلى هذه النتيجة، فيعلم أنه لم يكن بوسعه أن يفعل شيئاً، استشار فحصل خطأ، فلا يلوم نفسه.
الفائدة السابعة: ألفة القلوب: فأنت الآن عندما تستشير اثنين وثلاثة، وعندما تذهب إليهم، وتقول: يا أخي! أشر علي في هذه القضية، يا أيها الوالد! أشر عليّ في هذه القضية، يا أيها الأستاذ! أشر عليّ، يا أيها الصديق، فكيف تكون نظرة الناس إليك؟ وما هو الانطباع الذي يكون في نفوسهم تجاهك وأنت تستشيرهم؟ وبماذا سيشعرون؟ سيشرعون لك بتقدير ومحبة، ويقولون: فلان ما استشارنا إلا لأنه يعتقد أننا أصحاب رأي، وأننا أمناء فلان ليس بمنعزل عنا فلان متداخل معنا فلان يثق فينا وإلا لما استشارنا، فهذه تقرب ما بين القلوب، وتربط ما بين الناس، وفيها تقدير للأطراف المستشارة، وأنك تقدره وتضعه في موضع أنك تستشيره، ولذلك يقول عبد الملك بن مروان: لأن أخطئ وقد استشرت، أحب إلي أن أصيب وقد استبددت برأيي.
الفائدة الثامنة: أن القائد والمربي والداعية إلى الله والذي يقود الناس يكون تواقاً لمعرفة الحق وما فيه من المصلحة، ويلح بنفسه على جنوده لإظهار ما عندهم من الحجج والأدلة والآراء، ويسمعها ويقلِّب وجهات نظرهم طمعاً إلى الوصول لما فيه الصالح العام، وعندما يحدث الفشل فإنه يكون موزعاً على جميع الجند والناس الذين استشيروا، فلا يشعر الإنسان أنه يتحمل الخطأ لوحده.
وكذلك فإنه يصل إلى مدى نضجهم، ويعرف مستوى تفكيرهم وعمق آرائهم، ويميز بالاستشارة كيف يشير فلان، وكيف يفكر فلان، فيعرف النوابغ من الناس الذين يعيش بينهم، ويكتشف الطاقات والمواهب التي فيهم.
وهذا الأمر من الأمور المهمة لمن كان يريد أن يسوس الناس بالهدي الصحيح، لأن هناك أناساً يسوسون الناس -بغض النظر عما يكون في أفكارهم من الآراء- ولا يعرفون من هو الناضج من غيره، ومن هو الذكي ممن هو واسع الأفق، ومن هو الشخص صاحب الرأي الصحيح والمشورة الطيبة ممن هو ليس كذلك، فهو بسبب أنه لا يعرف من يستشير، أو قلما يستشير يقع في الخطأ، وأنت لا تكتشف أن فلاناً هذا إنسان يؤخذ برأيه إلا عندما تستشير فيشير عليك برأي، فتعرف رجاحة عقله من خلال رأيه.(100/4)
مجالات الاستشارة
قد يقول إنسان: الاستشارة في كل أمر، وهذا صحيح، والرسول صلى الله عليه وسلم لما صعد إلى السماء -كما في حديث المعراج في صحيح البخاري - وفرض الله على رسوله صلى الله عليه وسلم خمسون صلاة في كل يوم وليلة، قال له موسى: (إن أمتك لا تستطيع ذلك، ارجع فليخفف ربك عنهم، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره -هذه رواية البخاري - فأشار إليه جبريل: أن نعم إن شئت، فعلا به إلى الجبار، فقال وهو مكانه: يا رب خفف عنا) إلى آخر الحديث.
فأنت ترى هنا أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد استشار جبريل في أمرٍ عظيم، وهو قضية الصلوات التي تفرض على الأمة إلى آخر الزمان.(100/5)
الاستشارة في أمور يعود تأثيرها على المجتمع كله
كذلك ترى استشارته في مجال المعارك، وهي من المجالات الهامة جداً، والتي يترتب عليها مصائر ومنعطفات تغييريه أحياناً في حياة المجتمع كله.
فمثلاً: في مسند أحمد وصحيح مسلم عن أنس بن مالك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان في معركة بدر، قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقال سعد بن عبادة: إيانا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رد أبو بكر وعمر وهما بهذه المنزلة إلا أنه يعنينا نحن الأنصار، فقام وقال: والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخوض هذه البحار لخضناها معك"، هذا لفظ مسلم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يستوثق أن الأنصار سوف يحاربون معه خارج المدينة، وأنهم على استعداد للخروج، وأن وعيهم قد بلغ بهم أن يخرجوا ويقاتلوا الكفار خارج المدينة.
وكلما عظُم الأمر وكان أهم كلما كانت الاستشارة فيه أبلغ وأعظم وأهم، ومثال ذلك: ما وقع في حادثة مقتل عمر رضي الله عنه وتولية عثمان بن عفان الخلافة، فعهد عمر إلى سته من الصحابة، ثم عهد ثلاثة من الستة إلى الثلاثة الآخرين وتنازلوا لهم عن الأمر، فصار الأمر في النهاية إلى عبد الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين.
فقال عبد الرحمن بن عوف: إذا رضيتما بمن أختاره فأنا أتنازل لواحدٍ منكما، فقالوا: رضينا.
فالآن عبد الرحمن بن عوف صار في موقف عظيم وجليل جداً، والقضية من أهم القضايا، وفيها اختيار خليفة للمسلمين.
وعبد الرحمن بن عوف لن يتخذ قراراً فردياً، ويقول: فلان أفضل، لا.
بل ذهب يشاور المهاجرين والأنصار، ويدخلون عليه ويطلبهم ويستشيرهم في المسجد، وكلما لقي أحداً من أهل الرأي استشاره، حتى يقول عبد الرحمن بن عوف: [مرت علي ثلاث ليال ما اكتحلت فيها بنوم إلا شيئاً يسيراً جداً].
ولذلك قال المسور: [فما رأيت مثل عبد الرحمن، والله ما ترك أحداً من المهاجرين والأنصار ولا غيرهم من ذوي الرأي إلا استشارهم تلك الليلة].(100/6)
الاستشارة في القضايا العلمية وقضايا الأحكام
قد تمر بالإنسان أشياء لا يدري ما الحكم فيها ولابد أن يستشير، فعن المغيرة بن شعبة: أن عمر رضي الله عنهما استشاره في إملاص المرأة، فقال المغيرة: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة) أي: عبد أو أمة، وهذا في صحيح البخاري، فـ عمر استشار الصحابة في المرأة إذا ضربت على بطنها فسقط الجنين ومات، فما هي الدية؟ فجاء له المغيرة بالحكم الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عمر: أيكم سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيئاً، فانظر إلى الراوي وهو يقول: إن عمر استشارهم في إملاص المرأة.
الناس يحتاجون إلى استشارة أهل العلم، ويحتاجون إلى معرفة الأحكام في الأمور والمسائل، والرسول صلى الله عليه وسلم لما أُمر بتخيير نسائه بين أن يبقين معه على ما عنده، أو يمتعهن ويسرحهن سراحاً جميلاً، عن عائشة قالت: (أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني سأعرض عليك أمراً فلا عليك ألا تعجلي فيه حتى تشاوري أبويك، فقلت: وما هذا الأمر؟ قالت: فتلا علي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:28 - 29]، فقالت عائشة: وفي أي شيء تأمرني أن أشاور أبواي؟! بل أريد الله ورسوله والدار الآخرة) هذه رواية البخاري.(100/7)
الاستشارة في قضايا الزواج
ومن الشواهد على هذه المسألة ما رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده -وهو حديث صحيح- عن أبي برزة الأسلمي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الأنصار: (زوجني ابنتك، فقال: وكرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعم عيني، فقال: إني لست أريدها لنفسي، قال: فلمن يا رسول الله؟ قال: لـ جليبيب، قال: فقال: يا رسول الله، أشاور أمها، فأتى أمها) إلى آخر الحديث وكانت البنت عاقلة، قالت: هل تظنون أنكم ستأتونني بأفضل مما عرض عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأقنعتهم أن يزوجوها لـ جليبيب رضي الله عنه الذي قتل في معركة أحد شهيداً، فأنت ترى أن الأب لم يستبد برأيه، وأنه شاور أم البنت، فهي لها دور في الموضوع ولابد أن تشاور.
ومن الأمثلة على الاستشارة في مجال الجهاد الحديث الحسن عن معاوية بن جاهمة: أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! أردت الغزو وجئت أستشيرك - هذا مسألة مهمة نحتاج إليها الآن جداً، وهذا حديث فيه فقه مهم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من أم؟ قال: نعم، فقال: الزمها، فإن الجنة عند رجليها) ثم الثانية ثم الثالثة في مقاعد شتى كمثل هذا القول، والرسول صلى الله عليه وسلم يشير عليه بنفس الرأي، وقد أخرج طرق هذا الحديث الشيخ ناصر في إرواء الغليل.
ومن الأمور المكملة في موضوع استشارة النساء للزواج استشارة نفس البنت التي تريد أن تتزوج، فمعرفة رأي البنت أمر مهم جداً، وبعض أولياء الأمور في هذه الأيام لا يضربون لها أي حساب، قال ابن عمر لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أبت، اخطب لي ابنة صالح، فقال عمر: إن له يتامى ولم يكن ليؤثرنا عليهم، فانطلق عبد الله إلى عمه زيد بن الخطاب ليخطب له، فانطلق زيد إلى صالح، فقال: إن عبد الله بن عمر أرسلني إليك يخطب ابنتك، فقال صالح: لي يتامى، ولم أكن لأترب لحمي وأرفع لحمكم، أشهدكم أني قد أنكحتها فلاناً، اتخذ القرار فجأة في نفس المجلس، وكان هذا رأي أبيها.
فأتت أمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا نبي الله! خطب عبد الله بن عمر ابنتي، فأنكحها أبوها يتيماً في حجره، ولم يؤامرها، ما استشارها ولا استأذنها، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صالح، فقال: (أنكحت ابنتك ولم تؤامرها، ثم قال عليه الصلاة والسلام: أشيروا على النساء في أنفسهم- الشاهد أشيروا- فقال: إن البكر تستحي يا رسول الله، قال: الثيب تعرب عن نفسها بلسانها، والبكر رضاها صماتها)، حديث صحيح في السلسلة الصحيحة.
وقد وقعت لـ ابن عمر قصة مشابهة ولكن بنتيجة مختلفة، وهي أيضاً قصة حسنة، قال ابن عمر: توفي عثمان بن مظعون وترك ابنة له من خولة بنت حكيم بن أمية، وأوصى إلى أخيه قدامة بن مظعون.
قال عبد الله: وهما خالايا، أي: عثمان بن مظعون وقدامة بن مظعون خالا ابن عمر، فخطبت إلى قدامة بن مظعون ابنة عثمان بن مظعون فزوجنيها.
ودخل المغيرة بن شعبة الصحابي الآخر إلى أم البنت، ولعله لم يكن يعلم بموضوع خطبة عبد الله بن عمر والله أعلم، فأرغبها في المال، فحطت إليه الأم ورغبت في المغيرة، وولي البنت زوجها لـ عبد الله بن عمر، وحطت الجارية إلى هوى أمها، والبنت غالباً لا تخالف الأم، فصار خلاف، فارتفع أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قدامة بن مظعون: (يا رسول الله! ابنة أخي أوصى بها إلي، فزوجتها ابن عمتها عبد الله بن عمر، فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة، ولكنها امرأة وإنما حطت إلى هوى أمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها قال عبد الله بن عمر: فانتزعت والله مني بعد أن ملكتها، فزوجوها المغيرة بن شعبة).
أخرجه الإمام أحمد والدارقطني، وهو حديث صحيح.
هذه نماذج من السيرة وحياة الصحابة رضي الله عنهم تبين بعض مجالات الاستشارة، ونحن هنا نبين ونضيف أيضاً قضايا أخرى نذكرها بشكلٍ عام.(100/8)
الاستشارة في طلب العلم والدعوة إلى الله
الاستشارة في طلب العلم أمر مهم جداً، ولابد أن يستشير الإنسان ماذا يقرأ؟ وماذا يسمع؟ وكيف يطلب العلم؟ وكيف يبتدئ؟ ومن هم الثقات من العلماء ليجلس إليهم؟ ويستشير هؤلاء العلماء في بداية الطلب، وبعد كل كتاب مثلاً ماذا يقرأ؟ وفي أي فن يبدأ؟ وما هي الفنون المهمة؟ وهكذا، وهذه أشياء أهل العلم يشيرون بها لما عندهم من الخبرة في هذا المجال، بعض الشباب يضع لنفسه برنامجاً في طلب العلم، يقول: أنا أريد أن أقرأ هذا الكتاب، ثم هذا الكتاب، وأريد أن أنهي هذا الكتاب في أسبوع، فيبدأ متحمساً في هذا البرنامج الذي وضع لنفسه، وقد لا يعرف هو طاقات نفسه، ولا الفنون التي يبدأ بها، وقد يبدأ في حفظ متون وغيرها أهم منها ليبدأ بها.
وإنني أعتب عتباً خاصاً على بعض الشباب الذين يبدءون بحفظ المتون وهم لا يحفظون إلا نزراً يسيراً من كتاب الله، والواجب أن تسير الأمور مع بعضها البعض، أأحفظ المتون وأترك أهم متن وهو كتاب الله عز وجل لا أحفظ منه شيئاً؟ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كـ الأربعين النووية لا أحفظ منها شيئاً، هذه مصيبة، فلا بد أن نحفظ باستشارة أهل العلم بشكل متوازن لنحقق الأهداف التي نحتاج إليها في طلبنا للعلم.
أحياناً يخطر لشخص خاطرة في آية أو حديث، فيستنبط بعقله حكماً منها، يقول: سبحان الله! هذه الآية كأنها تومئ إلى الحكم الفلاني، ولكن لا يفعل إجراءً آخر وهو أن يتأكد من صحة استنباطه، ثم بعد فترة ربما سنوات يسأله شخص عن هذه المسألة- هذا يحدث أحياناً- فبماذا سيجيبه في الغالب وهو ليس عنده أقوال العلماء مطلقاً فيها؟ سيجيبه بنفس الاستنباط الذي استنبطه هو شخصياً وعلق بذهنه منذ ذلك الزمن ولم يعرضه على أهل العلم، ولو أنه استشار أهل العلم، وقال: يا أيها العالم! خطر في ذهني أن هذه الآية يؤخذ منها كذا، فهل هذا الاستنباط صحيح؟ وهل له وجه؟ وهل قال به أحد من العلماء؟ السفر في طلب العلم: - يستشير الإنسان في السفر في طلب العلم إلى من يسافر مثلاً؟ ومن المشايخ الذين يحرص على لقياهم؟ وغالباً تجد أن الشيخ أو العالم سيقول لك: إذا ذهبت إلى بلدة كذا وكذا فإن فيها الشيخ فلان، فاذهب إليه زره واستفد منه في الجانب الفلاني فهو ضليع في هذا الجانب وهكذا.
وهذه عادة علمائنا منذ زمن بعيد، يشيرون على طلبتهم بالمشايخ إذا أرادوا أن يسافروا في طلب العلم في البلدان المختلفة لما تجمع عندهم من الأخبار، ويقول: اسأل فلاناً، اذهب إلى فلان، فلان من أهل السنة احرص على لقياه وهكذا.
- تقديم الأولويات في طلب العلم: نبدأ بأي شيء، ثم بعده بماذا؟ أحياناً تتزاحم الأشياء عند الشخص، ولا يعرف هل يبدأ بالتفسير، أو بالحديث، أو بالفقه، ومن الذي يقرر لك بماذا تبدأ؟ - الاستشارة في تغيير المنكر: كيف نغير المنكر الفلاني؟ ما هي الطريقة السليمة لتغيير هذا المنكر والتي لا تؤدي إلى مضاعفات أو حصول منكر أكبر من هذا المنكر الذي نريد أن نغيره، أو تؤدي إلى فوات معروف أكبر من هذا المنكر الذي نريد أن نغيره؟ الاستشارة في طرائق الدعوة إلى الله: بمن نبدأ من الناس؟ وكيف نبدأ معهم؟ وكيف ندعوهم؟ وكيف نفتح معهم المواضيع المختلفة؟ وما هي المواضيع المناسبة للعامة والشباب والكبار والجيران وأهل الحي وطلبة المدارس والعمال والموظفين وغيرهم؟ وما التوقيت المناسب لطرح المفهوم الفلاني؟ هل يصلح أن نطرحه الآن؟ هل هؤلاء يفهمون ما سنقوله لهم؟ حدث الناس على قدر عقولهم وبما يفهمون هل سيفهمون أم أن هذا المفهوم من السابق لأوانه أن يطرح مثلاً؟ - كيفية الاستفادة من الوقت: أحياناً بعض الناس يقول: يا أخي كيف أستفيد من الوقت الذي من بعد الدراسة إلى الساعة الفلانية لا أدري ماذا أعمل به، هلا تشير عليّ بشيء أفعله لتغطية هذا الوقت؟ - مصادقة الأصحاب والإخوان: بمن تشير عليّ أصاحب؟ أصادق من؟ أشر عليّ من هم الناس الذين أمشي معهم وأصادقهم وأتعاون معهم على الخير والبر والتقوى؟ وهكذا.
- تجريح وتعديل الأشخاص: من القضايا المهمة التي ينبغي أن يستشار فيها: ماذا أقول عن فلان؟ ماذا تعرف عن فلان؟ ما مدى ثقة فلان؟ ما مدى ضعف فلان؟ وهكذا.
ولذلك- كما سنذكر فيما بعد- يجب أن يكون المستشار ليس بصاحب هوى، لأن بعض الناس قد يستشير صاحباً له أو عظيماً عنده في نفسه، ثم يقبل التجريح الذي يأتي منه أو التعديل الذي يكون نابعاً من هوى في نفس المشير.
- قضايا الزواج: لابد أن يستشير الإنسان في قضايا الزواج، مثلاً: أريد أن أتزوج من بنت فلان، ما رأيك يا فلان أنت تعرف هذا البيت؟ اسأل أهل البيت عندكم هل يعرفونها؟ حتى قضايا الفسخ والطلاق أيضاً الإنسان يحتاج أن يسأل فيها لأنها مسألة صعبة، ليس من السهل أن تطلق امرأة، لابد أن تستشير خاصة الناس الذين يعرفون أمورك وعندهم خلفية عن أحوال هذه المرأة أو هذا البيت الذي نشأت فيه.
مثلاً: هل هذه المرأة يحصل منها كذا وكذا، وأنا تضايقت جداً، وبلغ الأمر عندي أوجه، هل أطلقها؟ هل أصبر عليها؟ هل أعطيها فرصة؟ إذا طلقتها هل يا ترى سأجد أحسن منها أم أنني لن أجد؟ وبعض الناس يستخدمون الطلاق في لحظة غضب، ويتسرع فيه، كأن يحصل تصرف من المرأة أو أكثر، فتزداد المسألة عنده ثم يقوم بالطلاق مباشرة، وهذا من الأخطاء.(100/9)
الاستشارة في مشاكل الأسرة
أحياناً تحدث في البيت خلافات وانشقاقات في الأسرة مشاكل بين الأب والأم، والأب والأولاد، والأم والأولاد وهكذا، فيحتار الإنسان ماذا يفعل؟ أين يكون موقفه؟ أحياناً يقول: لو وقفت مع أبي ستغضب أمي، ولو وقفت مع أمي سيغضب عمي وهكذا، فيحتار ماذا يفعل، فلابد أن يلجأ إلى أهل الخبرة في الجوانب الاجتماعية، ويسألهم عن الأسلوب الصحيح في التعامل مع هذه المشاكل.
- بعض الأوضاع في البيت تغيير منكرات البيوت: ما هي وسائل الإصلاح في البيت؟ كيف نغير وضع البيت، حتى الأشياء الدنيوية منها.
كذلك المركب: الإنسان يريد أن يشتري سيارة، قد لا يكون في بداية الأمر عنده خبرة بأنواع السيارات، وما هو النوع المناسب الذي يفي بحاجياته.
- التخصص الدراسي: كثير من الطلبة الذين يتخرجون من المرحلة الثانوية قد لا يدركون ما هو التخصص المناسب بالنسبة لهم، وما هو التخصص الذي يمكن أن يبدعوا فيه، وما هو التخصص الذي للمسلمين فيه حاجة، فقد يدخل تخصصاً ويفشل فيه، ثم ينتقل إلى تخصص آخر ويفشل فيه، ويضيع جزءاً طويلاً من عمره هكذا، ولو أنه استشار أهل الخبرة من البداية لما حصل له هذا التشتت.
- الوظيفة: إذا وجد عنده أكثر من مجال للعمل، ففي أي مكان يتوظف، هذا أيضاً من الأمور المهمة أن يستشير فيها.
حتى في هيئة الإنسان ومنظره أحياناً، إذا كان يخرج إلى العامة ويظهر أمامهم، ويستشير تفادياً للشذوذ الذي قد يحصل في بعض الآراء.(100/10)
صفات المستشار
من نستشير؟ وما هي صفات المستشار؟ هذه نقطة حساسة، لأننا قد نتفق على أهمية الاستشارة، وأننا لابد أن نستشير، ولكن عندما نأتي إلى التطبيق هنا تبرز مشكلة: من هم أهل الاستشارة؟ هل أنتقي شخصاً من الشارع أو المسجد أسأله إلى من أتجه؟ هذا سؤال مهم جداً، وتترتب عليه نتيجة مهمة، بعض الناس يسأل بطانته والمقربين إليه ولو كانوا أجهل وأسوأ منه حالاً، ولذلك نقول: أولاً: لابد أن تصلح بطانتك حتى إذا استشرتهم أشاروا عليك بالرأي السديد الذي يرضي الله عز وجل.
وثانياً: ما الفائدة من جاهل يستشير جاهلاً آخر؟ فلابد من إحسان الاستشارة.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم له أناساً من أصحابه لهم مميزات معينة؛ لذا كان يستشيرهم ويأخذ بمشورتهم، مثال: حديث عبد الرحمن بن غنم الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: (لو اجتمعتما في مشورةٍ ما خالفتكما) رواه الإمام أحمد.
وسألت الشيخ عبد العزيز بن باز عن هذا الحديث؟ فقال: إسناده حسن.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لو اجتمعت عنده مشورة أبي بكر وعمر على شيء واحد لم يخالفهما فيه.
وعمر رضي الله عنه كان لديه مجموعة من المستشارين، وكان فيهم الشباب والشيوخ، ولذلك كان بعض السلف يقول: يا معشر الشباب! لا تحتقروا أنفسكم، فإن مشورة عمر رضي الله عنه كان فيهم شباب حدثاء السن.
وهؤلاء أهل المشورة عند عمر رضي الله عنه كانت لهم مواقف جميلة، فمنها مثلاً: أن عم الحر بن قيس ويدعى عيينة بن حصن، قال لابن أخيه: يا بن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه؟ قال: سأستأذن لك عليه.
قال ابن عباس: فاستأذن لـ عيينة فلما دخل، قال عيينة -وكان فيه شيء من البداوة- يا بن الخطاب! والله ما تعطينا الجزل، وما تحكم بيننا بالعدل.
فغضب عمر حتى همَّ أن يقع به، فقال الحر: يا أمير المؤمنين! - الحر هذا من مستشاري عمر - إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله.
فانظر كيف تنفع الاستشارة.(100/11)
من صفات المستشار: أن يكون صاحب دين وتقى
والمشير دائماً يأمر بالخير والرأي السديد، وينصح بالشيء الصحيح، فمن خصال المشير مثلاً: أن يكون صاحب دين وتقى: فإن صاحب الدين يكون أميناً في إعطاء الرأي مأمون السريرة موفق العزيمة.
واستشارة الناس الذين لا خير ولا دين فيهم كثيراً ما تكون آرائهم وبالاً على المستشير.
انظر على سبيل المثال النكبات التي أصيبت بها جيوش المسلمين في العصر الحاضر، كل الهزائم التي مني بها المسلمون في هذا الزمان كانت بسبب استشارة الكفرة والمنافقين والناس الذين لا يوثق بهم أبداً من أعداء الله، لأن المنافق عدو الله ما هو الخير من وراء استشارته، وإذا أردت مثلاً من القديم: فما هو السبب في تخريب بغداد ودخولها إلا أن مستشار الخليفة يومئذٍ هو ابن العلقمي الخائن الرافضي؟ ولما كان مثل ابن العلقمي الخائن هو المستشار حل الخراب في بلاد المسلمين، وهكذا في يومنا هذا تحصل النكبات والنكسات بسبب وجود أولئك الخبثاء الذين يشيرون بالخطأ عمداً ونكاية، وتقع النكبات نتيجة أخذ آرائهم.
وورد في حديث ضعيف: (لا تستضيئوا بنار المشركين) استنبط منه الحسن البصري استنباطاً يقول فيه: أي: لا تأخذوا بآراء المشركين، ولا تستشيروهم في أموركم، ولا تأخذوا بآرائهم، لأن آراءهم مثل النار، وإن كان المعنى الأقرب للحديث: ابتعدوا عن المشركين ولا تساكنوهم ولا تخالطوهم، والحديث فيه ضعف.
ولكن لا مانع أن يستشار الكافر أحياناً إذا كان موثوقاً به، مثلاً: مقاول رأى مهندساً كافراً، لكن تبين له من أمر هذا المهندس أنه ثقة في الرأي لا يخون، وينبغي أن ينتبه؛ لأن هؤلاء الكفرة لا خير فيهم، قد يكون فيهم خبث، وقد يكون في استشارتهم دمار عليه، وعلى العمل الذي يريد إنشاءه، لكن لو وثق به مثل ما وثق الرسول صلى الله عليه وسلم بـ عبد الله بن أريقط المشرك فقد استئجره في الطريق، وكان إنساناً مأموناً، قد يكون كافراً لكن فيه أمانة.
لكن ما هو الغالب على الكفار؟ الغالب عليهم أنهم أعداء للدين، وأنهم يريدون الشر بالمسلمين، وأن آراءهم وبال على المسلمين وليست لصالح المسلمين.(100/12)
من صفات المستشار: أن يكون عاقلاً مجرباً
فيكون معروفاً بكثرة التجارب، "استرشدوا العاقل ترشدوا، ولا تعصوه فتندموا"، وقال عبد الله بن الحسن لابنه محمد: احذر مشاورة الجاهل وإن كان ناصحاً، كما تحذر عداوة العاقل إذا كان عدواً، فإنه يوشك أن يورطك بمشاورته.
وقبيلة عبس كانوا معروفين بكثرة الصواب، حتى إن رجلاً سأل آخر من قبيلة عبس قال: ما أكثر صوابكم؟ قال: نحن ألف رجل وفينا رجل حازم، ونحن نطيعه فكأننا ألف حازم.
وقال بعض الحكماء: التجارب ليس لها غاية، والعاقل منها في زيادة.
وقال بعض الحكماء: من استعان بذوي العقول فاز بدرك المأمول.
وقال أبو الأسود الدؤلي رحمه الله:
وما كل ذي لب بمؤتيك نصحه ولا كل مؤتٍ نصحه بلبيب
ولكن إذا ما استجمعا عند صاحب فحق له من طاعة بنصيب(100/13)
من صفات المستشار: أن يكون عالماً بما يستشار فيه
هنا تبرز قضية وهي: هل يوجد إنسان معين يصلح أن نستشيره في جميع الأشياء، أم أن هناك أناساً نستشيرهم في أشياء ولا نستشيرهم في أشياء أخرى؟ الحقيقة أن هذا الأخير هو أقرب إلى الصواب، فإنه ينبغي أن يستشار كل إنسان في مجال تخصصه، فإذا كانت قضية شرعية لا تعرف حكمها؛ فإنك تستشير العلماء إذا كان عندك مشكلة في تخصص دراسي تستشير أهل الخبرة بالتخصصات إذا كان عندك مشكلة وظيفية في الوظائف لا تدري إلى أي وظيفة تذهب، تستشير الخبراء بهذا.
إذاً: ليس بالضرورة أن يوجد شخص يفهم في كل الأمور، بعض الناس يظن أنه إذا استشار فلاناً في شيء، ولم يستشره في شيء آخر فإن هذا إزراء عليه، يقول: هذا رجل موثوق، إذا لم أستشره في كل القضايا فكأني أزري به، ولكن ليس الأمر كذلك، فبعض الناس يفهمون في الأدوات الكهربائية، وبعض الناس لا يفهمون في الأدوات الكهربائية، وإن كان هؤلاء الذين لا يفهمون في الأدوات الكهربائية قد يكونون أعلم بعلوم الشريعة من غيرهم، فإذاً نستشير كلاً في مجال تخصصه.(100/14)
من صفات المستشار: أن يكون عنده علم بالشريعة
يتضمن العلم بأحوال الناس، وعلم الزمان والمكان والترجيح، كما ذكر المناوي رحمه الله في شرح حديث: (المستشار مؤتمن).
فما يصلح لمكان قد لا يصلح لمكان آخر، وما يصلح لزمان قد لا يصلح لزمان آخر، وأحياناً تتزاحم الأمور، فلابد أن يكون المستشار عنده عقل راجح يرجح لك به أي الأمور تقدمها الآن عندما تتزاحم الأشياء.
وأن يكون ناصحاً ودوداً، فإن النصح والمودة يصدقان الفكرة ويمحصان الرأي.(100/15)
من صفات المستشار: أن يكون سليم الفكر من الهموم والغموم
فلو استشرت إنساناً مغموماً وفكره مشغول بأشياء، فهل تتوقع أن يعطيك إشارة واستشارة صحيحة؟ كان كسرى -هذه من الحكم تؤخذ حتى من الكفار- إذا دهمه أمرٌ بعث إلى مرازبته -وهم الأمراء الكبار وأهل الرأي- فاستشارهم، فإن قصروا في الرأي، أي: لم يعطوه الرأي الصحيح، ضرب قهارمته -وهم القائمون على الأموال- لماذا؟ لأنهم لم يعطوهم أرزاقهم، وكان يقول لهم: أبطأتم بأرزاقهم فأخطئوا في آرائهم، ولو أعطيتموهم الأموال التي يحتاجوها لما جلس واحدهم مهموم يفكر من أين يسترزق، فانشغل همه بتحصيل المال والرزق، فصارت آراؤه ليست سديدة.
ولذلك يقال: إن حارثة بن زيد مرَّ بـ الأحنف بن قيس، فقال: لولا أنك عجلان لشاورتك في بعض الأمر، فقال: يا حارثة أجلّ.
وكانوا لا يشاورون الجائع حتى يشبع، والعطشان حتى ينقع، والأسير حتى يطلق، والمضل حتى يجد، والراغب حتى يمنح.
وقيل: لا تشاور صاحب حاجة يريد قضاءها، ولا جائعاً.
وقالوا: لا رأي لحاقن ولا لحازق، ومن هو الحازق؟ هو الذي ضغطه حذاؤه فهو يؤلمه، فطالما وهو يمشي ذهنه مشغول بضيق الحذاء، ولذلك هذا لا يصلح لأن يستشار، لأن ذهنه مشغول بالحذاء، والحاقن هو: الذي يجد شيئاً في بطنه، مثل الغازات أو الألم أو شيء من هذا القبيل، فهذا الذي في بطنه هذا الشيء لا يعطيك الرأي الصواب؛ لأن ذهنه مشغول بشيء آخر.(100/16)
من صفات المستشار: ألَّا يكون صاحب هوى
لابد أن يكون المستشار ليس بصاحب هوى أو غرض شخصي يتابعه، فإن هذا الشخص لو كان ذكي وخبير لكنه صاحب هوى فإنه سيشير عليك بالرأي الذي يهواه هو، وهذا شيء خطير جداً.
فلو أن شخصاً يميل إلى شيء، وجئت واستشرته؛ فإنه سوف يشير عليك بما يهواه لا لأنه صواب ولكن لأنه يهواه.
مثلاً: رجل عنده أخت فيها عيوب، لكن همه أن تتزوج بأي وسيلة، وجئت تستشيره، وقلت له: أريدك أن تبحث لي عن فتاة، فماذا سيقول لك؟ سيقول: طلبك عندي، أشيرك على فلانة مع أن فيها عيوباً.
لكنه الآن عنده هوى وغرض شخصي، مثل: صاحب الدكان يكون عنده بعض السلع، وعند جاره سلع أفضل منها، وتستشيره تقول: ما رأيك آخذ هذا، أو أبحث عن نوع آخر، هو صاحب غرض الآن، سيقول: لا.
هذه نوعية ممتازة خذ منها، فالآن يجب أن يكون المستشار ليس صاحب هوى، ولا صاحب غرض شخصي.
وبعض الناس يذهب يستشير صاحب هوى فيشير عليه بما يهواه، ثم يقول: الحمد لله استشرت، نقول: لا.
أين استشرت؟! أنت الآن استشرت من لديه ميول معينة، فأشار عليك بما يهواه وبما يميل إليه، فاستشارتك ناقصة في الحقيقة.
وبعض الأحيان يكون معرفة حال المستشير مهم للمستشار: فلابد أن تسأل الشخص الذي يعرف حالتك أكثر من غيرك، فبعض الناس أحياناً يتخطون أناساً قريبين منهم، مع أن عندهم عقل راجح، وعندهم بصيرة، وهم أهل للاستشارة، فيتخطون القريب إلى آخر بعيد لا يعرف حال المستشير، ويقول له: أشر عليّ، وماذا تنصحني في حالتي هذه؟ ويعرض له مشكلة خاصة تتعلق بواقعه الشخصي، وقد يخفي شيئاً من خلفيتها، والمستشار لا يدري عن الخلفية، لأنه ليس محتكاً ولا قريباً من المستشير، فيشير عليه برأيه، فيقول هذا: الحمد لله أنا استشرت.
فنقول: لا.
أنت استشرت مَنْ ليس لديه خبره بحالك، وتخطيت أناساً آخرين لهم معرفة بحالك من الممكن أن تستشيرهم، لكنك تخاف أن يقولوا لك: لا تفعل، أو افعل، وأنت لا تهوى هذا الشيء، وبنفس الوقت تريد أن تستشير، لكن تريد الجواب الذي تهواه؛ لذا ذهبت إلى البعيد، ولو كان شيخاً كبيراً وعظيماً، وتقول له: ما رأيك في المشكلة الفلانية؟ وتخفي عنه أشياء، ولا تعرض له خلفية القضية، وتقول: أشر عليّ، فلما يشير عليك بالذي تهواه.
وقد يستشير الشخص مَنْ يرتاح إليهم عاطفياً، لا لأنهم أهل بصيرة، ولا لأنهم أهل تجربة، ولا لأنهم أهل دين، ولكن لأنه يستريح لهم ويتقارب معهم نفسياً، فتجد أنه يستشيره في أموره الخاصة والخطيرة، مع أن هذا المستشار أدنى منه منزلة، لكن لأنه يرتاح إليه عاطفياً ونفسياً، فتجده يستشيره في أشياء كثيرة من أموره التي من الأولى أن يستشير فيها أناساً آخرين.
وما هي المنفعة من استشارة شخص تميل إليه عاطفياً وليس عنده خبرة في المشورة؟(100/17)
من صفات المستشار: أن يشعر بعظم أمانة مشورته
المستشار يجب أن يشعر بالمسئولية، بأنه الآن استؤمن على شيء، ولذلك قيل: المشاورة راحة لك وتعب على غيرك؛ لأن المستشير الآن تحمل مسئولية عظيمة، ولذلك ليتق الله كل مستشار فيما يستشار فيه، ويعلم أنها أمانة، ويعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: (المستشار مؤتمن) والقضية أمانة: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان} [الأحزاب:72]، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58].
فمن جعل أخاه مستشاراً واستشاره فقد جعله بمنزلة المؤتمن، فيجب عليه أن يكون أميناً وهو يشير عليه، وألا يفشي بالسر.
فإذا كانت لديك قضية خاصة لا تريد خبرها أن يتسرب إلى أحد فتستشير فيها، فمن أمانة المستشار ألا يسرب هذه القضية إلى أناس آخرين، إلا إذا كان هناك مفسدة عظيمة تنشأ، أو مصلحة كبيرة تفوت أكبر من مفسدة هذا، لأنك الآن تستودع عنده سرك، وأحياناً تكون قضية خاصة جداً تستودعها عند هذا المستشار.
ومما ورد في هذا: قال البخاري رحمه الله في الأدب المفرد: (باب المستشار مؤتمن) عن أبي هريرة قال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي الهيثم: هل لك من خادم؟ قال: لا.
قال: فإذا أتانا سبي فأتنا، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم -حسب الاتفاق- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اختر واحداً من هذين الرجلين، فقال الصحابي وكان فطناً: بل أنت اختر لي يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المستشار مؤتمن، خذ هذا فإني رأيته يصلي واستوصي به خيراً).
حديث صحيح رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وغيرهما.
انظر من قبل قال: اختار لك فلما حُمل الرسول صلى الله عليه وسلم أمانة الاستشارة صار عنده موقف آخر، قال (المستشار مؤتمن، خذ هذا فإني رأيته يصلي) انظر كيف تغير موقف الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن المسألة أصبحت أمانة.
ومن أشار على أخيه المسلم برأي ليس صواباً وهو يعلم أنه ليس بصواب، ورد فيه وعيد في حديث صحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار، ومن استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد، فقد خانه)، وفي رواية: (وأشار عليه بأمر يعلم أن الرشد في غيره، فقد خانه، ومن أفتى بفتيا غير ثبت فإثمه على من أفتاه).
إذاً: الذي يشير على أخيه بشيء وهو يعلم أن الصواب غير هذا فهذه خيانة، وفيها أثم عظيم: (ومن غشنا فليس منا) كما قال عليه الصلاة والسلام.
ومن النوادر العجيبة في هذا: أن أحد الحكام استشار شخصاً، قال له: ما رأيك في تولية فلان القضاء؟ قال: فلان هذا شخص موثوق، ورأيي أنك توليه القضاء.
ثم جاء هذا الشخص الذي يراد أن يتولى القضاء إلى المستشار الذي استشاره الحاكم، فقال له: يا فلان، عرض عليّ الحاكم أن أتولى القضاء، فما رأيك؟ قال: اللهم لا.
لا أشير عليك أن تتولى القضاء، القضاء فيه فتنة، وفيه مسئولية.
فالحاكم لما سمع استعجب، قال: أنا عندما أستشيرك، تقول: نعم، وعندما يستشيرك فلان، تقول: لا.
ما هذا؟! فقال: أيها الأمير! استشرتني فاجتهدت لك رأيي ونصحتك، واستشارني فاجتهدت له رأيي ونصحته، المسألة بالأمانة، فأنا لا أقول له عندما يستشيرني: نعم؛ لأنك أنت تريده.(100/18)
من أخطاء المستشار
بعض الناس يشيرون قبل أن يطلب منهم الرأي، وهذا يعتبر نوع من التدخل، إلا إذا كانت المسألة تتطلب أن يبدي رأيه الآن لتوقعات ستحدث، لكن هناك بعض الناس يدسون أنوفهم في كل شيء، دائماً يبدي رأيه، مع أن التدخل قد لا يكون مناسباً، أو يشير وهو ليس بأهل.
إذا جاءك من يستشيرك وأنت ليس عندك خبرة في هذا الشيء، فماذا تفعل؟ تقول له: أرجو المعذرة، أنا ليس عندي خبرة، ولا أستطيع أن أشير عليك، اذهب إلى غيري، وهذا إذا أردت أن تكون أميناً.
لكن بعض الناس ما إن يأتيه مَن يستشيره حتى يخرج له الرأي، حتى ولو كان رأياً فاشلاً، أو غير مبني على أي شيء من العلم أو الخبرة، وفي كثير من الأحيان إذا كان المستشار غير أهل للمشورة وجاءه إنسان واستشاره، فإن رأيه يزيد الأمور تعقيداً.
في بعض الحالات يأتي من يقول: أنا عندي مشكلة مع أهلي كذا وكذا، فيأتي من يقول: أنا أشير عليك أن تتركهم لمدة أسبوع وتنام خارج البيت حتى تأدبهم.
أو يقول: زوجتي كذا وكذا، فيقول: أنا رأيي أنك تطلقها.
وفي بعض الحالات عندما تكون الاستشارة خاطئة تؤدي إلى نتائج عكسية، ولذلك لابد من انتقاء المستشار، ولا ينبغي للإنسان أن يتبرع برأييه كما قال الشاعر:
فلا تمنحن الرأي من ليس أهله فلا أنت محمود ولا الرأي نافع
أحياناً بعض الناس يتدخل ويعطي رأيه، فإذا كان الذين أعطاهم الرأي ليسوا بأهل، فقد يقولون له: لماذا تتدخل في الموضوع؟ فيكون رأيه وبالاً عليه، فلذلك لا يعطي الرأي المناسب إلا في الوقت المناسب، وعندما يسأل الشخص ويعطي الرأي، يكون الرأي أثقل مما إذا أعطاه ابتداءً دون طلب استشارة.
بعض الناس يعتقدون أن استشارة النساء من النكبات والمصائب، ويستدلون على ذلك بأحاديث: (شاوروهن وخالفوهن) هذا حديث مشهور عند بعض العوام، مع أن هذا الحديث لا أصل له مرفوعاً، ومعناه خطأ، وكذلك ما يروى عن عمر: [خالفوا النساء فإن في خلافهن البركة] وهذا أيضاً إسناده ضعيف ولا يثبت، والحديث الموضوع الآخر: "طاعة المرأة ندامة"، لأن النساء صحيح أنهن أقل عقلاً، لكن بعض النساء قد تأتي برأي لا يأتي به أكابر الرجال.
مثال ذلك: في حادثة الحديبية أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الناس أن يحلقوا وينحروا بعد أن عقد الاتفاقية مع قريش، ومن الغم ماذا فعل الصحابة؟ لم ينفذوا الأمر، فمن الذي حل المشكلة؟ أم سلمة رضي الله عنها، دخل الرسول صلى الله عليه وسلم عليها مكروباً، كيف يأمر الصحابة ولا ينفذوا؟!.
شيء عظيم، فقالت أم سلمة: [يا رسول الله! احلق رأسك أمامهم وانحر هديك وسوف سيتابعوك].
وفعلاً خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ برأي أم سلمة فحلق الصحابة رءوسهم ونحروا هديهم، وكان الذي أتى بالرأي الذي حل هذا الإشكال العظيم أم سلمة، امرأة لكن ليست كأي امرأة، وهذا يبين لنا أن النساء لسن محتقرات الرأي في الإسلام، ولكن لا يعني الأمر هذا أن الرجل يفلت الزمام للمرأة فتكون هي التي تشير وهو الذي ينفذ، فلا إفراط ولا تفريط، لا احتقار ولا إهانة.
ويروى أن رجلاً كان دائماً يشاور زوجته ويخالفها، فتضايقت منه جداً، وفي يوم من الأيام شاورها في شيء ثم خالفها؛ فثارت في وجهه، فقال: إنما أفعل هذا ديانة، لحديث: (شاوروهن وخالفوهن) لماذا تلوميني؟ فعندما ذهب وسأل تبين له أن الحديث ليس بثابت، وأنه لا يثبت مرفوعاً، فهذه قضية اجتماعية -شرخ في البيت- بسبب هذا الحديث الضعيف أو الموضوع.(100/19)
من الذي يستشير؟
العادة أن الصغير هو الذي يستشير من هو أكبر منه، أو الأقل علماً يستشير من هو أعلم منه وهكذا، لكن لا يمنع أحياناً أن الكبير يستشير من هو أصغر منه، عمر رضي الله عنه وهو خليفة يستشير أناساً فيهم ابن عباس وهو صغير السن، وهذا من ذكاء عمر رضي الله عنه وحسن إدارته للأمور، أنه كان يجمع في مجلس مشورته بين شباب في مقتبل العمر، وبين شيوخ كبار في مجلس واحد، فيجمع بين شدة تفكير الشباب، وخبرة وحكمة الشيوخ.
أحياناً ذهن الشباب ينقدح فيه ما لا ينقدح في ذهن الكبير، لأن الشاب حاد الذهن متوقد وفيه حيوية ونشاط، ممكن أن يأتي برأي لا يستطيع بعض الشيوخ أن يأتي به، وبنفس الوقت بعض الشباب قد يطرحوا آراء متهورة اندفاعية بسبب الاندفاعية التي توجد في طبيعتهم، فلابد أن يوجد هناك شيوخ يقيدون هذه الاندفاعية، ويوجهون هذا الإقدام الشديد بخبرتهم وحكمتهم، وكذلك إذا كانت هناك مجموعة تريد رأياً معيناً فيكفي أن يأتي اثنين بالخبر اليقين، وليس هناك ضرورة في أن تذهب المجموعة كلها وتستشير.
استشارة الوالدين مهمة، لماذا؟ لأن الاستشارة فيها تقدير، فالإنسان دائماً يحرص على استشارة والديه، حتى لو أنه تبين له الأمر وعرف أن مصلحته كذا، لكن من باب تأليف القلوب، إلا إذا علم أن الوالدين قد يأمرانه بأمر ليس مخالف للحق، فقد يكون عدم أخذ رأيهم أحسن، حتى لا تظهر مخالفته بشكل واضح، لكن إذا علم أن والديه لن يشيرا عليه بأمر باطل، فشيء طيب على أن يحرص على أخذ آرائهم دائماً.
وكذلك النساء عليهن استشارة الرجال؛ لأن الرجال أكمل عقلاً وأقوم في الأمور، فالنساء أحياناً قد يحتجن إلى أشياء في طلب العلم أو في الدعوة إلى الله، وقد تأتي أحياناً بين النساء أفكار فيها نوع من الخروج عن المألوف، أو الخروج عما يمكن أن يقبله الناس، أحياناً قد يأتي عند النساء أشياء تطرح بقوة في مجالات معينة لا يمكن أن يتقبلها الناس وليست من المألوف، بل قد تسبب مشاكل في المجتمع، فلذلك لابد أن يكون هناك نوع من الرجوع من قبل النساء إلى الرجال.(100/20)
كيف تستشير؟
هل أستشير فرداً، أم جماعة، أم أستشير الجماعة كل شخص بمفرده؟ نحن نثق ونعلم ونوقن أن الإسلام سبق الغرب في القيادة الاستشارية، وأن خلفاءنا وعلماءنا من القديم كانوا يطبقون هذا المفهوم، وليس الغرب الآن هو الذي اكتشف هذا ودونت في كتب الإدارة الحديثة، بل هي قضية قديمة.
الاستشارة لها منازل، منها: ما يدخل فيه الرهط، ومنها: ما يستعان فيه بقوم، ومنها: ما يستغنى فيه برأي واحد، ليس هناك قاعدة معينة أنك تسأل جمع كثرة أو قلة أو واحد حسب الحالة.
بعض علمائنا ناقشوا قضية استشارة الجماعة أم استشارة الفرد؟ فبعضهم قال: الأولى أنك تجمع الناس المستشارين وتستشيرهم؛ لأن هذا فيه إجالة فكر، ومناقشة الأشياء وتنقيحها، وإذا طرح رأي يعارض من قبل الذين عندهم آراء أخرى، ويرى الجميع سلبيات وإيجابيات الرأي، وتقع مناظرة تنتهي بتنقيح المشورة، أي: سيتناقشون ويتناقشون حتى يظهر الرأي الصحيح.
وبعضهم قال: الأولى أنك تستشير كل واحد بمفرده، لماذا؟ قال: لأنك لو طرحت على الجماعة، قلت: أستشيركم في كذا، كل شخص سوف يلقي المسئولية على الآخر ويسكت، ويقول: الآن فلان سيأتي بالرأي، فلا يحدث إنقداح قوي للأذهان، لكن لو استشرت كل واحد لوحده، فعندما تسأله يحس بالمسئولية، فيعطيك الرأي بعد تفكير وتمحيص، لكن لو جمعتهم يمكن أن يكون هناك تواكل.
والحقيقة أن المسألة ليس لها جواب معين، أي: ليس دائماً استشارة كل واحد لوحده صحيحة، وليس دائماً استشارة المجموعة هو الصواب، بعض الأحيان يكون الاجتماع أبلغ وأحسن، وبعض الأحيان تكون استشارة كل واحد على حدة أفضل.(100/21)
كيفية استشارة الرسول
نأخذ مثالاً من السيرة: حادثة واحدة وقع فيها نوعين من الاستشارة: استشارة فردية واستشارة جماعية، حادثة الإفك، الرسول صلى الله عليه وسلم عندما تكلم في أهله المنافقون ونشروا الفتنة والبلبلة، ماذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ صعد على المنبر، وخطب الناس، وحمد الله وأثنى عليه، وقال: (أشيروا عليّ في قوم يسبون أهلي، والله ما علمت عليهم من سوء قط) استشارة جماعية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يتخذ موقفاً جماعياً من المنافقين المندسين بين الأنصار، فإذاً لابد من أن يجتمع الناس على رأي؛ لأن المسألة تعم الجميع.
لكن لما جاء عليه الصلاة والسلام ليستشير في أمر عائشة، ماذا فعل؟ استشارة شخصين هما: أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، واستشار علي بن أبي طالب الصهر، وهل من المصلحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقف على المنبر يقول: يا أيها الناس، أشيروا علي في براءة زوجتي؟ هذا ليس بمناسب، ولذلك أخذ علياً وسأله، وأخذ أسامة وسأله، لكن عندما صارت المسألة موقف من المنافقين، وشيء يعم الجميع صعد على المنبر واستشار.
فإذاً: عندما يكون الأمر متعلقاً بالجميع، فتكون الاستشارة جماعية، وعندما يتعلق الأمر بشيء خاص، أو تكون هناك حساسية معينة، وليس من المعقول أن يجمع الناس ويؤخذ رأيهم في شيء من هذا فتكون فردية، فمن سيتزوج هل يجمع كل أصحابه ويقول: ما رأيكم في زواجي من فلانة؟ لا.
وإنما سيذهب إلى واحد بالسر بينه وبينه فيشير عليه، الإنسان إذا عرف الصواب وتوصل إلى نتيجة هل يستشير ويستشير أم ينفذ الاستشارة؟ الجواب موجودٌ في قوله عز وجل: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159] وفي البخاري: عندما شاور الرسول صلى الله عليه وسلم الناس في أحد، أشار عليه المتحمسون بالخروج من المدينة، فلبس عليه الصلاة والسلام لأمته، فلما أشار عليه الآخرون بالبقاء، ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ (لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن ينزعها) لماذا؟ لأننا استشرنا وأخذنا الرأي هذا إذاً ننفذ.
ولم يكن هناك وضوح تام أن البقاء في المدينة (100%) هو الأصلح؛ بدليل أن المسلمين انتصروا في البداية، فلو نفذت الأوامر كما ينبغي لكمل الانتصار.(100/22)
لا استشارة مع وجود النص
كذلك إذا تبين للإنسان وجه الحق في شيء فلا يسمع كلام أي شخص بعد ذلك.
مثال: أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما عزم على قتال المرتدين، قال عمر: (كيف تقاتل قوماً قالوا: لا إله إلا الله، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين ما جمع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم).
ثم تابعه بعد ذلك عمر على رأيه -هذه رواية البخاري - فلم يلتفت أبو بكر رضي الله عنه إلى مشورة عمر، إذ كان عنده حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة.
فإذاً أبو بكر لما عرف الحق لم يقبل مشورة أحد.
ونحن الآن يقع بعضنا في إشكال وهو: قد يستشير في أمر، لكن حتى مع الاستشارة لا يتبين له وجه الصواب، ولا يدري ما هو الحق، تضاربت عنده الآراء وكل واحد يشير عليه برأي معين، فماذا يفعل؟ قال شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوي: وإذا استشارهم، فإن بين له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو إجماع المسلمين، فعليه اتباع ذلك ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك، وإن كان عظيماً في الدين والدنيا، وإن كان أمراً تنازع فيه المسلمون، فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه ووجه- أي: الرأي وعلى ماذا اعتمد هذا الرأي؟ - فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عمل بها.
يقول: أنت يا فلان ما رأيك؟ ما دليلك؟ ثم ينظر هذا الرجل أيها أقرب إلى الكتاب والسنة، وأشبه بنصوص الكتاب والسنة فيعمل به.
لو أن إنساناً ليس عنده خبرة أو علم، ولا يستطيع أن يعرف ما هو الأشبه بالكتاب والسنة، فماذا يفعل؟ يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دلّ عليه الكتاب والسنة كان هو الواجب، وإن لم يكن ذلك- هذه مسألتنا الآن- لضيق الوقت.
أي: الواحد ليس عنده وقت الآن ينقح الآراء ويقضي وقتاً طويلاً، أو عجز الطالب، عرف أقوال ثلاثة من العلماء متضاربة، وليس عنده قدرة على الترجيح، أو تكافأت الأدلة فلا يستطيع أن يرجحها أو غير ذلك، فماذا يفعل؟ يقلد الأعلم، شخص قرأ ثلاث فتاوى لثلاثة مشايخ فيها آراء مختلفة، وحاول أن يبحث في الأدلة فما استطاع، ماذا يفعل؟ يقلد الأعلم.
نرجع فنقول: إذا كانت القضية شرعية فالأعلم فيها هو الأعلم بالشريعة، وإذا كانت قضية تخصص دراسي، فالأعلم بالتخصصات وبواقعك وبشخصيتك تأخذ برأيه، فتقلده إذا تضاربت عندك الآراء.
ولذلك نقول: العالم يأخذ بالأعلم، وإذا كانت القضية تتعلق بالواقع يأخذ برأي الأقرب وأوعاهم وأكثرهم وعياً بالواقع، والذي يعرف أصول الإسلام ويثق فيه أكثر، وبعبارة أخرى: يأخذ من تجتمع فيه شروط المستشار أكثر من غيره.
أحياناً إذا شعر الواحد أنه إذا استشار عدة أشخاص، فإن هذا يكون سبباً لضياعه وتشتت ذهنه، فإنه لا داعي لأن يفعل هذا، وإنما يستشير من يعتقد أنه الأقرب إلى الصواب.
طالب العلم مثلاً لو استعصت عليه مسألة وسأل فيها أكثر من عالم، وشعر أن أخذ آراء خمسة من العلماء سيجعل فيه نوعاً من التشتت، وسيجعله يرجح، إما بالهوى، أو بالأكثرية، وهذا ليس دائماً صحيحاً، أو لأن أحد الأقوال يوافق تفكيراً سابقاً عنده، كمن فكر في مسألة ثم سأل ثلاثة علماء اختلفوا، ومنهم من يوافق الذي في ذهنه، هل يتبع هذا؟ لا.
ليس بالضرورة أن الذي يوافق الذي في ذهنك يكون هو الصحيح، ولذلك إذا لم يكن عندك قدرة على الترجيح اسأل الأعلم واتبعه.
بعض الناس أحياناً يقعون في مشكلة في الاستشارة، وهي: أخذ الآراء الكثيرة جداً، لماذا؟ لا لأنه يحتاج، لكن بعض الناس يريد أن يضفي أهمية على نفسه، وأهمية على المشكلة، ويكبر المشكلة، فيستشير عشرين شخصاً، لا لأنه يحتاج رأي العشرين، لكن لكي يقول: أنا استشرت فلاناً وفلاناً وويكبر المشكلة، ويبين نفسه أنه مهم، وأن المشكلة هذه خطيرة، وأنها تحتاج إلى عشرين شخصاً، فتكون أحياناً من باب التباهي أمام الناس وأمام نفسه، وهذا النوع من الناس غالباً ما يكون ضعيف الشخصية، ليس عنده قدرة على حبس فكرة في ذهنه، فهو كلما رأى شخصاً طرح القضية عليه.
فلا يستطيع أن يسيطر على ما بداخل نفسه، فيشعر أنه لابد أن يحدث جميع الناس، فلا هو الرجل الحازم الذي عنده الرأي وأخذ به، ولا هو أخذ برأي الناس ولا يأتمر، كما يقول أحدهم: "رجلٌ حائر بائر، لا يأتمر رشداً ولا يطيع مرشداً"، وإذا عرف الإنسان الحق، فإن الجواب في الآية {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159].
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ولا تك بترداد الرأي مفسدا
ويقال: فإن فساد الرأي أن تترددا.(100/23)
متى نستشير؟
الحقيقة أن الاستشارة قد تكون واجبة، وقد تكون مكروهة، وقد تكون محرمة، وقد تكون جائزة.
مثال على الاستشارة الواجبة: استشارة الأب ابنته في الزواج قبل أن يزوجها لفلان على قول طائفة من أهل العلم، أو استشارة الفرد في الجيش قبل أن يعمل عملاً، والأمير إذا قال: ائتمروا بأمري فلا يجوز له أن يفعلها، ولابد أن يستشير.
أحياناً تكون الاستشارة مستحبة، مثل: مشاورة أهل العلم والخبرة في طرائق الدعوة إلى الله.
وأحياناً تكون الاستشارة مباحة، مثل: الاستشارة في شراء السيارة، أو البيت، أو التخصص الدراسي مثلاً.
وأحياناً تكون الاستشارة مكروهة، مثل: الاستشارة الزائدة في أمور تافهة من المطعم والمشرب والملبس مما يضيع وقت المستشير والمستشار.
وأحياناً تكون الاستشارة محرمة، مثل: الاستشارة في أن يصلي الظهر أم لا؟ هذه الاستشارة لا تجوز، وبالطبع تصلي الظهر سواء أشار عليك أو لم يشر عليك لن يقدم ولن يؤخر.(100/24)
خطأ التقرير ثم الاستشارة
هناك خطأ في الاستشارة يقع وهو خطأ حساس ودقيق، وهو: أن بعض الناس يقرر ثم يستشير، أي: يفكر في المسألة ويبدو له شيء معين ويهواه في نفسه ويقرر هذا الشيء، وبعد ذلك يستشير من باب أن يقول: إني استشرت، لكنه في الحقيقة هو عازم على تنفيذ ما خطر في باله سواء أشاروا عليه بخلافه أو به هو، فهو عازم على أن ينفذ ما في ذهنه، ولذلك استشارة هذا الشخص ليس لها معنى، وما هي الفائدة منها؟ وهذا يفعله بعض الناس ليبرر لنفسه إقدامه على العمل الذي في رأسه، أو ليخدع نفسه.
وأحياناً يذهب إلى المستشار ولا يعطيه الصورة الحقيقة عن القضية، أو يجعل له ملابسات بحيث يقول المستشار الرأي الذي يريده المستشير، مثلاً: شخص قرر أن يخرج من البيت، فذهب إلى شخص يستشيره، قال: عندي مشكلة كذا وكذا، وربما إذا دخلت البيت يطردني أبي ويغلق الباب ويسهب له في هذه النقطة، مع أن المسألة ليست كذلك، لكن هذا المستشير أوحى للمستشار بأشياء خطأ حتى يأتي له المستشار بالرأي الذي يوافق هواه والذي يريده هو.
وأحياناً يكون هناك تشاور أشبه بالتناجي من تشاور أناس أو مجموعات ليس لها خبرة ولا رأي، فيقررون بين أنفسهم أمراً يخرجون به على الناس فجأة، فيكون وبالاً عليهم وعلى آخرين، ولذلك نقول: يا أيها الناس! لا تتسرعوا في الأمور، وإذا أردت أن تقدم على أمر وهذا الأمر فيه خطورة عليك أن تستشير الثقات الأمناء، وليس مجموعة من الشباب الاندفاعيين الذين يستشيرون أنفسهم، ثم يقدمون على عمل يكون فيه وبال عليهم، وقد يكون على غيرهم أيضاً ويكون الشر متعدياً.(100/25)
خطأ استشارة الخوارج لأنفسهم
هناك خطأ في استشارة الأنفس دون غيرهم مثل الخوارج: اجتمعوا وتشاوروا فيما بينهم ماذا نفعل؟ اجتمع عبد الرحمن بن ملجم وثلاثة أشخاص في الحج، قالوا: ما هي مشكلة المسلمين؟ تداولوا فيما بينهم، قالوا: مشكلة المسلمين تكمن في ثلاثة أشخاص: علي بن أبي طالب، ومعاوية، وعمرو بن العاص، ما هو الحل؟ -الآن هذه مشاورة- قالوا: نقتلهم ونريح المسلمين منهم، فنحن إذا قتلناهم انتهت المشكلة.
فقالوا: عبد الرحمن بن ملجم يذهب إلى الكوفة ويقتل علياً، وفلان يذهب إلى مصر ويقتل عمرو بن العاص، وفلان يذهب إلى الشام ويقتل معاوية بن أبي سفيان، تشاوروا وتعاقدوا وعملوا هذا العمل، وأنتم تعرفون القصة، وعبد الرحمن بن ملجم له سيف مكث يسقيه السم شهراً، ثم خرج به على علي بن أبي طالب وهو خارج لصلاة الفجر فضربه على جبهته، فتحقق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (أشقى الناس عاقر الناقة والذي يضربك على هذه حتى يبل منها هذه) وفعلاً تصبب الدم حتى نزل من لحية علي بن أبي طالب رضي الله عنه فمات.
هذا الخارجي عندما علق وصلب ليقتل، وبدءوا ليقطعوا أطرافه لم يصرخ ولا صرخة، فلما جاءوا يقطعون لسانه صرخ، قالوا: ويحك! قطعنا أطرافك وما صرخت، فلما أردنا قطع لسانك صرخت، قال: لساني أذكر به الله! فالآن يا أيها الشباب! بعض الناس أحياناً يستشيرون بعضهم ويتعاقدون على أمرٍ فيه دمارٌ عليهم، لأنهم لم يعرفوا أنهم ليسوا هم الذين من المفترض أن يستشيروا أنفسهم، وإنما هناك أناس من أهل الخبرة هم مَن يستشارون.(100/26)
خطأ الاعتماد على المشورة دون الله
من الأخطاء في الاستشارة أيضاً: أن بعض الناس يعتمد اعتماداً كلياً على المشورة دون الله عز وجل، فيظن أنه إذا أخذ المشورة معناها سيكون التوفيق حليفه والصواب معه، وهذا فيه ركون إلى الأسباب الدنيوية، وإلا فمن المفروض أن الإنسان بالإضافة إلى الاستشارة أن يفعل الاستخارة والتوكل على الله عز وجل.
أول شيء: الإنسان يستشير حتى يعرف وجه الصواب، فإذا جاء ليقدم عليه وهمَّ بالأمر عليه أن يستخير، حتى يبرأ من حوله وقوته كما في دعاء الاستخارة: (فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب) هذا فيه براءة من الحول والقوة، واعتماد على الله عز وجل، وهذا أمر مهم جداً، هناك حديث: (ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار) ولكن هذا الحديث ضعيف أو موضوع كما ذكر بعض ذلك أهل العلم، وتجدونه في السلسلة الضعيفة برقم [611].(100/27)
موانع الاستشارة
بعض الناس مع علمهم بأهمية الاستشارة لكنهم لا يستشيرون لماذا؟(100/28)
الاستهانة بالأشخاص المستشارين
عندما تقول له: يا أخي! استشر في المشكلة، يقول: من أستشير؟ تقول له: استشر فلاناً، يقول: وهل فلان أعلم بمشكلتي مني؟! أي: فلان يفهم أكثر مني في المشكلة، وبماذا سيشير علي؟! أنا أعرف المشكلة أساساً وخلفياتها أعرف تاريخ المشكلة، وفلان إذا أخبرته لن يأتي لي برأي لم يخطر في بالي، فهذا استهانة بالأشخاص.
وأحياناً بالإضافة إلى هذا يصل به غرور الذات إلى الإحساس بالكمال، يقول: أنا رأيي أحسن رأي أنا لست بحاجة إلى الاستشارة أنا عقلي كامل، لماذا أذهب وأستشير الناس؟ أنا لست بحاجة، أنا إنسان عاقل وفاهم ومجرب وخبير، لماذا أسأل وأستشير؟ ولذلك يقول أحدهم: من أعجب برأيه لم يشاور، ومن استبد برأيه كان من الصواب بعيداً.
ويدخل في هذا مسألة نفسية وهي: أن بعض الناس يظن أنه لو استشار كأنه يقول لآخر: أنا لم أستطع أن أحلها بمفردي، وأنا الآن لجأت إليك لأني ضعيف، بعض الناس يأخذ الاستشارة من هذا المنطلق.
يقول: لا أريد أن أظهر أمام الناس أني ضعيف، وأني ما استطعت أن أحل المشكلة بمفردي، وأني بحاجة إليهم وإلى آرائهم، لا، أنا أقرر من نفسي وانتهينا، ولذلك يقول الشاعر:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضةً فإن الخوافي قوة للقوادم
الخوافي: هو الريش الذي يختفي إذا ضم الطائر جناحيه، وهو قوة للقوادم، فإذاً أنت عندما تستشير فأنت في الحقيقة تقوي نفسك لأنك ستستعين وتتقوى بآراء الآخرين.(100/29)
فارق السن والمنزلة
فمثلاً: شخص يرى شيخاً كبيراً وعظيماً، فيستحي أن يأتي إليه ويستشيره لفارق السن، أو بعض الطلاب يستحي أن يسأل أستاذه لفارق السن، أو بالأحرى يخجل، وهذه عبارة أدق.
أو العكس: أحياناً بعض الآباء يكون عنده ولد متعلم وفاهم، والحقيقة أن الأب يحتاج إلى رأي الولد في أمرٍ من الأمور، لكن يقول: أنا أستشير ولدي وأنا أكبر منه؟! ونحن قد بينا أنه لا عيب ولا غضاضة أبداً أن الإنسان كبير السن يستشير من هو أصغر منه، أو مثلاً شخص يستشير من هو أدنى منه منزلة اجتماعية، أي: مدير يستشير موظفاً، أو شخص غني يستشير شخصاً فقيراً، يقول: لا، هذا أدنى مني في المنزلة.(100/30)
الخجل وعدم القدرة على التعبير
أحياناً يكون الخجل أو عدم القدرة على التعبير هو المانع، فمثلاً: شخص يريد أن يستشير لكن لا يستطيع أن يعبر عن المشكلة، فيكون هذا مانعاً له، أو تكون القضية حساسة.
مثلاً: شخص واقع في مشكلة ومخطئ فيها، ولا يدري كيف يخرج من هذه المشكلة، فلو ذهب إلى شخص وقال: أنا حدث لي كذا وكذا، فيستحي، يقول: هذا المستشار سوف يأخذ فكرة سيئة عني، أنا كنت في نظره كبير، الآن لو قلت له: أنا وقعت في المطب الفلاني، ولا أعرف كيف أتصرف، أريد منك الحل، سوف يغير رأيه عني.
وأحياناً تكون المشكلة حساسة إلى درجة أنه لا يجرؤ أن يصارح بها، فلنفترض إنساناً واقع في هوى فتاة والعياذ بالله، فالآن هو واقع في مشكلة عظيمة جداً، فقلبه متعلق بها، وصلاته ليس فيها خشوع، وإيمانه ضعيف جداً، لا طلب علم، ولا دعوة إلى الله، وصار عنده انحلال في القوى والتفكير والرأي والذهن، الآن كيف يأتي إلى شخص يقول له: أنا واقع في كذا وكذا، وتعرفت على فلانة أو فلان، وصار لي كذا وكذا من المشاكل، وأنا أريد رأيك في الموضوع، هذه مسألة محرجة، أليس كذلك؟ من العلاجات لهذه المشكلة: طريقة الكتابة، وقد جربت هذه الطريقة، فكانت نافعة، فالشخص مثلاً محرج لكن لابد أن يستشر اكتب المشكلة في ورقة، ثم اكتب أرجو الإجابة على ظهر الورقة، أو في ورقة أخرى، وسوف أمر بك لأخذ الجواب أو أرسل إليك، وليس من الضروري أن تذكر اسمك.
مثلاً: نستقبل رسائل من أناس في المسجد أو يحضر شخص رسالة، ويقول: هذه رسالة من امرأة أو رجل، وأحياناً تكون منه هو، لكن لا يقول: هذه مني، يقول: هذه من شخص -وهو لم يكذب- ويريدك أن تجيب عليها، نفتح الرسالة وإذا بها: أنا واقع في مشكلة كذا وكذا وكذا، أريد الحل؟ ليس من الضروري أنك تأتي تعبر عن نفسك، وتقول: أنا فلان الفلاني، وقعت في مشكلة مع فلان الفلاني أو مع فلانة، أعطني الحل، لا.
ممكن أن تستشير بدون أن تكشف هويتك الشخصية، ولذلك لا ينبغي أن يمنع الإنسان أي مانع من الاستشارة، وهي خيرٌ إن شاء الله.
وأسأل الله عز وجل أن نكون قد أجبنا على بعض التساؤلات، أو كشفنا بعض النقاط التي قد يكون في البعض غفلة عنها أو عدم إحساس بأهميتها، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بهذه الكلمات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله أولاً وآخراً.(100/31)
الأسئلة(100/32)
كيفية إعداد محاضرة
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، جزاكم الله خير الجزاء على نوعية المحاضرات التي تلقونها، ولتطبيق عملي لمحاضرة هذه الليلة، فإني أستشيرك في كيفية إعداد موضوع متكامل لجلسة معينة أو محاضرة، وجزاكم الله خير الجزاء، وما هي نوعية الكتب التي رجعت إليها في هذه المحاضرة إن أمكن ذلك؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، أما بالنسبة لإعداد الموضوع فهي مسألة مهمة، لأنه يحدث أحياناً ألا يكون الإعداد جيداً، فيكون الكلام ليس له فائدة، نأخذ مثلاً: موضوع الاستشارة، وكيف نعد مثل هذا الموضوع، أحياناً يكون هناك كتاب مؤلف في الموضوع، فيغنيك عن أشياء كثيرة، لكن أحياناً لا يكون هناك كتاب مؤلف في الموضوع، مثلاً هناك كتب عن الشورى وليست عن الاستشارة، لكن تكلم عن الشورى في اختيار الخليفة، وأهل الشورى وأهل الحل والعقد، وصفات أهل الحل والعقد وهكذا.
فهي ليست في الموضوع الذي نحن نطرقه الآن من الناحية التربوية، ولا يتكلم عن الناحية التربوية وإنما يتكلم عن أحكام الإمامة والاستشارة فيها وهكذا، فلو لم يوجد كتاب، ماذا تفعل؟ أول خطوة: ما هي الآيات والأحاديث الواردة في الموضوع؟ ما هي القصص الواردة في الموضوع، ثم ما هي أبيات الشعر والحكم الواردة في الموضوع؟ ولكل من هذه الأشياء مراجع، فمثلاً: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن قد يعطيك الآيات الواردة في الموضوع، المعجم المفهرس لألفاظ الحديث يعطيك الأحاديث الواردة في الموضوع، ثم تنتقل في مجالات الأحاديث إلى خطوة أخرى وهي تحقيق الأحاديث؛ لأنه لا يصح أن تأتي للناس بأحاديث ضعيفة، فلابد أن تلجأ إلى كتب التصحيح والتضعيف لتعرف أقوال العلماء، وإذا لم تعرف تسأل.
مثلاً: ورد هنا حديث لا أعرف درجته، فاتصلت بالشيخ ابن باز وقرأت عليه السند، قلت له: هذا الحديث في مسند أحمد، فقال الشيخ قال: هذا إسناده حسن.
وكذلك من أهم الأشياء بعد ذلك كيف يربط الموضوع في الواقع، لا يكفي أن نتكلم عن الموضوع من وجهة النظر العلمية البحتة النظرية، لابد أن نربطه بالواقع.
مثلاً: فقرة ما هي مجالات الاستشارة؟ هذه فقرة عملية، كيف نستشير؟ هذه فقرة عملية، ما هي موانع الاستشارة؟ هذه أشياء مأخوذة من الواقع، قد لا تكون موجودة ولا في الكتاب، إما أن تكون نتيجة تفكير ذهني.
ولا يكون التفكير سليماً في هذه الأشياء إلا إذا أخذ من واقع الناس، فالشخص إذا احتك بالناس يعرف ماذا لديهم من إشكالات في هذه القضية، فمثلاً عندما يأتي من يستشير في موضوع، فأقول له: كذا، ومن ثم يأتي شخص يستشير في نفس الموضوع، فألاحظ أن طريقة عرض الأول تختلف عن طريقة عرض الثاني، وأن الثاني أتاني بمعلومات لم يأتني بها الأول، فأعرف أن المسألة فيها لعبة وإخفاء معلومات، فتكتشف أن الشخص الأول يريد جواباً معيناً، فلذلك أتى لك بمعلومات معينة وأخفى الباقي، الشخص الثاني أتى لك بطرف الموضوع الآخر، وهذه كثيراً ما تحدث، يأتي شخص يقول: والله أنا أريد أن أستشيرك في موضوع، يا أخي! أنا علاقتي بفلان سيئة، هذا فلان يفعل كذا وكذا وكذا، فأنت من واقع الأشياء المعروضة تكاد أن تقول له: يا أخي! اجتنبه وابتعد عنه، ليس هناك داعٍ للمشاكل.
لكن عندما تسمع من الطرف الآخر، ويأتي يستشيرك الطرف الآخر، تكتشف كما قال أحدهم: إذا جاءك أحد الخصوم مقلوعة عينه، فلا تحكم له على خصمه، فربما قد قلع عينا ذلك الشخص.
فإذاً هناك مواضيع لابد من ربطها بالواقع والتفكير من خلال الأحداث الجارية، وهناك أشياء فيها مراجع، مثلاً هذا الموضوع ارجع فيه إلى شروح الأحاديث من مثل: تحفة الأحوذي، وعون المعبود، وفضل الله الصمد شرح الأدب المفرد، وفتح الباري وكتب الأدب، وأنس المجالس فيه كلام أيضاً عن المشورة، وكتاب ابن قتيبة عيون الأخبار مثلاً فيه فصل عن المشورة، وإذا أردت أن تخرج مثلاً معنى كلمة المشورة لابد أن ترجع مثلاً إلى لسان العرب حتى تعرف مادة شور، وماذا قال أهل العلم فيها؟ وهكذا، فتتكامل الخيوط.
هناك طريقة أحياناً تصلح في بعض المواضيع وهي: إذا لم تستطع أن تعنصر موضوعاً، هناك أسئلة مهمة لو أدخلتها على أي قضية يمكن أن يصبح عندك عناصر لهذا الموضوع، وهذه الطريقة قد اتبعتها في هذه المحاضرة، وهذه الأسئلة مثلاً: (ما هو، كيف، متى، أين، لماذا، من) هذه الأسئلة أدخلها على أي قضية، مثلاً الحسد، ما هو الحسد؟ لماذا الحسد؟ ما دوافع الحسد؟ أين الحسد؟ في أي مجالات يحدث الحسد؟ وكيف العلاج؟ مثلاً الصدق، ما هو تعريف الصدق؟ من هم الصادقون؟ ما هي المواطن التي يظهر فيها الصدق بجلاء؟ مثلاً أخطأت على شخص أنت المذنب فينبغي أن تعتذر وهكذا، وهناك بعض العناصر لا تقبل بعض هذه الأسئلة، فمثلاً: ليس هناك شيء اسمه متى الصدق؟ لكن أحياناً يمكن أن يكون هناك متى الصدق؟ إذا جاء ظالم يأخذ مال مظلوم عندك في هذه الحالة ما حكم الصدق؟ وقال: أين أموال فلان؟ فيمكن أن تستنبط لك أشياء عن طريق إدخال هذه الأسئلة إلى الموضوع.(100/33)
الاستشارة من أجل تأليف القلوب
السؤال
قد يستشير إنسان إنساناً آخر ليس بأهلاً للمشورة، وقد لا يعلم بالمشورة، ولكن ليؤلف قلبه ويكسر الحاجز الذي بينهما، فهل هذا صحيح؟
الجواب
هذه طريقة جيدة، شخص أحياناً انتهى أمره في مسألة من المسائل، لكن هناك بينه وبين فلان حساسيات أو مشاكل، فهو يريد تأليف قلب صاحبه بأي طريقة من الطرق، فمن الطرق أن يأتي ويستشيره في شيء من خصوصياته، فالشخص الآخر عندما يشعر أنك تستشيره في قضية من خصوصياته، فربما يتغير موقفه منك بالكلية، ويقول: فلان لا يعاديني، ولو كان يعاديني لما استشارني، ولولا أنه يقدرني لما استشارني، فمادام أنه استشارني فهو يقدرني، فقد يذهب كثير مما في نفسه عليك لأنك استشرته.(100/34)
الفرق بين النصيحة والغيبة
السؤال
هل قضية الكلام والتجريح على بعض الشباب جائزة؟ ومتى تكون؟ وهل هي دائماً أم في بعض الأحيان المهمة؟ وهل هذا يعتبر من الغيبة والنميمة؟
الجواب
هذه من المشاكل التي بلي بها العمل الإسلامي في هذا الزمان، وهي قضية كلام بعض الدعاة في بعضهم البعض، وهي راجعة إلى قلة تقوى الله، وعدم الخوف من الله عز وجل، وعدم احترام حدود الله، وعبادة أوثان وهمية مثل وثن مصلحة الدعوة، فباسم مصلحة الدعوة ترتكب جميع أنواع المنكرات من الغيبة والنميمة والكذب والخيانة وإخلاف الوعد وغير ذلك باسم هذا الوثن الذي هو مصلحة الدعوة.
نحن لا ننكر أن هناك مصالح مرسلة، وأن الشريعة مبنية على المصالح، وهذا باب، لكن أن نأتي وندخله في هذه الأشياء بين إخواننا المسلمين وأغشه وأكذب عليه وأغتابه باسم المصلحة، أين المصلحة في هذا الأمر؟! قضية التجريح مثلاً: عندما يسألك شخص عن رجل مبتدع، وإنسان ضال ومشرك وكافر ومنافق من المنافقين، وقد ثبت لديك نفاقه في ذلك الوقت فهذا يمكن من باب النصيحة تقول: احذر من فلان.
لكن تأتي إلى إنسان ظاهره الخير وتُسأل عنه، تقول: لا.
هذا إنسان مشكوك في أمره، وتبدأ تجرحه، وتلقي ظلال التهمة والريبة على هذا الشخص في نفس سائلك، هذه من الجرائم التي ترتكب من بعض الناس -للأسف- بكل سهولة، ربما لا يتحرج أصلاً ولا يسأل نفسه ما حكم هذه الكلمة التي أقولها الآن في فلان وفلان، وخصوصاً التجريح في بعض أهل العلم، والذي يجرح في العلماء هو إنسان في الغالب صاحب هوى وجهل، وإلا لما جرح في أهل العلم.
كونك تذكر ملاحظة في منهج عالم فلاني أو شيء عندما تتعرض له ويصبح فيه حاجة للتبيين، وهذا يقول لك: يا أخي! بعض العلماء يقولون بجواز سفر المرأة بغير محرم، فتقول: يا أخي! مستندهم ضعيف وليس لهم دليل، والحديث واضح وصريح، وأهل العلم قالوا بالحكم الفلاني، هذا ممكن، لكن بعض الناس بدون مناسبة وبدون سؤال وهو في مجلس يقول: العالم الفلاني جزاه الله خيراً -بعض الأشياء تأتي من هذا الباب وهو باب عجيب شيطاني- له جهود كبيرة في خدمة الإسلام، وهو إنسان عنده علم غزير ومؤلفات نافعة، ولكنه، ويأتي بعد ولكنه من المثالب والمعايب ما ينسي السامع كل المدح، فقرات المدح جاءت مقدمة فقط لاقتحام قلب الشخص، وإفراغ هذه الشتائم أو المعايب في ذلك السائل.
ولذلك بعض الناس يحتجون، يقول: العلماء يتكلمون في الجرح والتعديل، لكن في أي شيء؟ في قضية أخذ رواية الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، في تمحيص الأخبار، هذه أحاديث يبنى عليها أحكام، وتبنى عليها عقائد، وأشياء يجب أن نؤمن بها، فاضطروا اضطراراً لذلك، أما أن تكون المسألة ليس فيها حديث ينبني عليه كلام رجال في السند، ولا فيها شيء من هذه الأقاويل، فيقول: علماء الجرح والتعديل تكلموا في فلان.
هل الحاجة التي كانت عند علماء الجرح والتعديل فتكلموا في فلان وفلان موجودة الآن في الشخص الذي أنت تتكلم عليه؟ قد يكون هناك حاجة كشخص يريد أن يتزوج أختك، فذهبت وسألت عنه، هناك يكون الكلام واجباً من باب النصيحة في هذا الشخص، فقط في الأشياء المهمة المتعلقة بالزواج، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم: (أما معاوية فصعلوك وأما أبو جهم فإنه لا يضع العصا عن عاتقه).
لكن لو قال لك شخص: ما رأيك يا أخي، فلان تقدم لأختي؟ فتقول: لا.
هذا فلان خطه سيئ، وهو إنسان تلاوته للقرآن غير جيدة وصوته ممل، ثم إنه يلبس ثياباً تفصيلها كذا أي: تأتي له بأشياء أو عيوب لا علاقة لها أبداً بالزواج.
أو مثلاً جاء شخص قال: ما رأيك في فلان أريد أن أشاركه في مشروع تجاري؟ فتقول له: والله فلان يا أخي يضرب زوجته كثيراً، ولا يسمح لزوجته أن تذهب إلى أهلها، ما علاقة هذا بهذا؟! فهنا يتبين لك بالكلام هذا الفرق بين الشيء الضروري الذي ينبغي أن يذكر، وبين الشيء الذي هو غيبة حقيقة ولا يجوز أن يقال.(100/35)
الاقتصار على الاستشارة في الأمور الدنيوية
السؤال
ما حكم من كانت استشارته جميعها في أمور الدنيا، فمنها ما هو نافع ومنها ما هو ضار، وهل جائز للمستشير والمستشار؟
الجواب
السؤال عندي غير واضح تماماً، لكن أقول: الذي يجعل استشارته فقط في الأمور الدنيوية، فأين يذهب بالأمور الدينية؟ وأين يذهب بقضايا الخير مثل الدعوة إلى الله، وطلب العلم، وتغيير المنكر؟ من العجب أن تقتصر استشارة إنسان على استشارة دنيوية، ولا يستشير فيما هو أهم وهو الأمور الدينية والشرعية، ولذلك ينبغي أن تعظم فيها الاستشارة أكثر، لا أظن أن موقف هذا الشخص صحيح عندما يقصر استشارته على الأمور الدنيوية، والله أعلم.(100/36)
الاستقامة
الاستقامة هي لزوم طاعة الله ورسوله في كل جوانب الحياة، بل هي الدين كله.
فيجب على كل مسلم أن يتعرف على معانيها وجوانبها في الحياة، من الاستقامة على العقيدة الصحيحة، والاتباع ونبذ الابتداع، والتوسط وعدم الغلو، فإن لهذا ثماراً كبيرة في إصلاح الفرد والمجتمع والأمة.(101/1)
بيان عظم أمر الاستقامة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
الجواب
=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يقول الله عز وجل في محكم تنزيله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] ويقول عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13].
أيها الإخوة: هاتان الآيتان تبين كل واحدة منهما عظم أمر الاستقامة، وما أعد الله عز وجل للمستقيمين على شرعه.
والاستقامة يمكن معرفة عظمها وخطرها إذا تأملت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شيبتني هود) رواه الترمذي، وهو حديث صحيح، فسورة هود التي أنزلها الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم، قد سببت له شيباً عظيماً، فظهر الشيب في رأسه من شدة ما لاقى عليه السلام من أوامر هذه السورة العظيمة، وما اشتملت عليه من الأحكام الكبيرة.
أيها الإخوة: ذكر بعض المفسرين أن من الأسباب التي شيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم من سورة هود، قول الله عز وجل في هذه السورة: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود:112] الأمر بالاستقامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الأمر وهذه الكلمة الموجزة التي هي من دلائل نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجوامع الكلم التي أوتيها عليه الصلاة والسلام.
هذه الكلمة كانت وصية لرسول الله عليه السلام، اكتفى بها الصحابي الجليل سفيان بن عبد الله لما قال له: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك -يا رسول الله! أعطني عطية عظيمة جامعة لا أحتاج بعدها أن أسأل أحداً غيرك من الناس، أعطني خلاصة هذا الأمر، أعطني ما يجب علي في حياتي كلها- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله ثم استقم) رواه مسلم.(101/2)
معنى الاستقامة ومقصودها
أيها الإخوة: لابد أن نعلم ما هي الاستقامة.
قال العلماء: الاستقامة هي لزوم طاعة الله عز وجل، وعليها مدار نظام الأمور، فلا تنتظم الأمور إلا بها، والاستقامة كما عرفها بعض السلف هي: "لزوم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم".
فالاستقامة إذاً هي الدين كله، (قل آمنت بالله ثم استقم)، لم يكتفِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك الرجل أن يقول آمنت بالله بلسانه فقط، وإنما أمره أن يستقيم على هذا الإيمان.
أيها الإخوة: إن معرفة الحق ممكنة، يمكن للناس أن يعرفوا الحق في أمور كثيرة، وأن يلتزموا به يوماً من أيامهم، ولكن المشكلة هي الثبات على هذا الحق الذي عرفوه، وهذا الإيمان الذي وصلوا إليه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف:13] على هذا الإيمان، وعلى هذه المقولة.
أيها الإخوة: من الجوانب التربوية التي يحرص الإسلام عليها، أن يجعل المسلم يسير على طريق مستقيم، ويدله عليه بالآيات والدلائل والبينات والأنوار التي تضيئ للمسلم الطريق، ولكن من الناس من يسلك هذا الطريق فيكمله حتى النهاية، ومنهم من يسلك هذا الطريق فيتعثر فيه ثم يعاود النهوض، فيمشي ثم يتعثر فيجلس ويقعد، ثم يقوم ويمشي ويتعثر، ثم يقوم ويمشي وهكذا، خطوات فيها تردد، ومشي فيه تباطؤ.
ومن الناس -والعياذ بالله- من يسلك الطريق من أوله ثم ينكص على عقبيه فيرتد إلى طريق الضلالة والعياذ بالله.
إذاً: من هنا نستطيع أن نعلم لماذا قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف:13]، ثم استقاموا على هذا الطريق (قل آمنت بالله ثم استقم)، واصل المشوار، دون تلكؤ ولا تباطؤ.
وهذا المشكلة داء كثير من المسلمين، لا يعرفون المواصلة ولا الاستمرارية على الطريق الذي سلكوه، وقد يصرف بعضهم جهداً كبيراً حتى يصل إلى الطريق، فإذا ما وصل إليه تقاعس وهبط ولصق بالأرض وطينتها ومادياتها وزينتها وزخرفها.
أيها الإخوة: إن الاستقامة هي الدين كله، وهي لزوم طاعة الله، ومن هناك كان لابد أن يحدث شيء من التقصير أثناء استقامة الإنسان، ولذلك أمر الله المستقيمين بالاستغفار، فقال الله عز وجل: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6] لماذا قال: (واستغفروه)، بعدما قال: فاستقيموا إليه؟ لأن الاستقامة قد لا تتهيأ كاملة لكثير من الناس، فيجب عليهم أن يستغفروا الله عز وجل إذا استقاموا على الطريق، حتى يُذهب هذا الاستغفار ما حصل منهم ويحصل من التقصير والتفريط.(101/3)
جوانب الاستقامة
أيها الإخوة: إذا نظرنا إلى جوانب الاستقامة، نجد أن الاستقامة في جميع جوانب الدين وأموره.(101/4)
الاستقامة على العقيدة الصحيحة
لابد من الاستقامة على العقيدة الصحيحة، العقيدة التي هي: إيمان بالله عز وجل، وتوحيد له بجميع أنواع التوحيد توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات استقامة على العقيدة التي تعني أن الإيمان قول وعمل، وليس هو تلفظ باللسان فقط.
العقيدة -أيها الإخوة- التي تدفع الإنسان إلى العمل، ليس ذلك الإسلام البارد، الذي هو مجموعة من الألفاظ التي يتلفظ بها الناس إن هناك مشكلة في سلوك كثير من المسلمين، وهي أن اعتقاداتهم التي يؤمنون بها ليست حافزاً لهم على العمل، ولا دافعاً لهم لمزيد من التقديم في طاعة الله عز وجل.(101/5)
الاتباع وترك الابتداع
أيها الإخوة: والاستقامة كذلك في جانب التزام سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبعد عن البدع، لذلك كانت الاستقامة وسطاً بين التفريط والإفراط، بين الغلو والتقصير الغلو الذي حصل من الخوارج في صدر الإسلام، وهو مضاد للاستقامة التي أمر الله بها مع أن الخوارج كانوا يصلون صلاة أكثر من صلاة الصحابة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة رضوان الله عليهم: (تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم) يقصد الخوارج، أي: أنهم يصلون كثيراً، ويصومون كثيراً، حتى إن الصحابة قد يحتقرون صلواتهم إلى صلوات الخوارج لكثرتها، وصيامهم إلى صيام الخوارج لكثرة صيامهم.
لكن القضية -أيها الإخوة- ليست شعائر تؤدى بكثافة فقط، وإنما هو منهج وتصور صحيح، وسنة منضبطة لها قواعد جاء بها الإسلام تحدد الطريق، وإذا زاد الأمر عن حده انقلب إلى ضده.
هؤلاء هم الخوارج الذين خرجوا على صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقاتلوا المسلمين المتمسكين بالدين تمسكاً صحيحاً، قاتلوهم بالسيف وذبحوهم وأجروا دماءهم في الأنهار، معتقدين أن عملهم هذا قربة إلى الله عز وجل، هؤلاء هم الغلاة والمتطرفون الحقيقيون.
إن التطرف والغلو هو: الخروج عن جادة الاستقامة يمنة أو يسرة، هو مجاوزة الحد الذي أمر الله به ورسوله، أما إذا استقام الإنسان على شريعة الله فيتمسك بدين الله وشرعه، ويتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال، والظاهر والباطن، حتى في الشكل والمظهر والملبس، فهذا لا يمكن أن يسمى متطرفاً، ولا يمكن أن يسمى غالياً أو مغالياً.
ولذلك نتيجة للجهل بمعنى الاستقامة، وبحدود السنة؛ صار الكثير من الجهلة اليوم يطلقون على المتمسكين بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم متطرفين ومغالين، ومتشددين ومتزمتين، وهكذا لماذا؟ لأنهم جهلوا معنى التطرف والغلو، ولأنهم يجهلون -أصلاً- ما هي الاستقامة.
أيها الإخوة: إن هذه الدعوات التي تظهر متهمة عباد الله عز وجل المستقيمين على شرعه، المتمسكين بدينه، بأنهم متطرفون ومتزمتون ومن أهل الغلو، إنما هي من تخطيط أعداء الإسلام لكي ينفروا الناس عن هؤلاء المستقيمين على شريعة الله، لكي ينفروهم ويحذروهم بزعمهم من هذا المسلك.
أيها الإخوة: إن الذي يسمي رجلاً من المسلمين التزم بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في المظهر، فأطلق لحيته، والتزم بثياب الرسول صلى الله عليه وسلم، فجعلها فوق الكعب كما أمر صلى الله عليه وسلم، وكما كان ثوب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولبس من الملابس المشروعة التي ليس فيها تشبه بالكفرة، وأصلح باطنه أولاً؛ فأخرج النفاق من قلبه، والكذب من لسانه الذي يسمي هذه التصرفات غلواً، فإنه لا يبعد عن الكفر كثيراً لماذا؟ لأنه في الحقيقة يطلق على الرسول صلى الله عليه وسلم أنه متطرف ومغال، لأن هذه الأفعال من سلوكيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تصرفاته، فلو أطلقت على هذا الإنسان أنه متطرف أو مغالي فقد اتهمت الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي هو أعظم البشر، والنبي المرسل من عند الله، وخاتم الأنبياء، وصاحب الشفاعة العظمى، وأول من يدخل الجنة، وسيد الأولين والآخرين اتهمته بأنه من أهل الغلو والتطرف.
أيها الإخوة: لابد من الانتباه لهذه المسألة الخطيرة التي زلت فيها أقدام الكثيرين وألسنتهم إلا من عصم الله، أما الذي يخرج على المسلمين بالسيف فيقتل الأبرياء المستقيمين على شرع الله، ويفرق المسلمين، والذي يصوم الدهر كله، ويصلي الليل كله بلا نوم، ويترك الزواج بالكلية، ولا يأكل اللحم مطلقاً، ويعيش نباتياً هذا هو الذي يمكن أن نسميه متطرفاً ومغالياً ومتزمتاً ومتشدداً.
أما أن نأتي إلى رجل من عباد الله الصالحين، استقام على شرع الله، يؤدي الصلوات في المساجد، عرف معنى الإيمان، وعرف معاني العقيدة الصحيحة، والتزم بشرع الله باطناً وظاهراً، ثم نسميه متطرفاً أو مغالياً في الدين!! فهذا لعمر الله هو التطرف بحده.(101/6)
الاستقامة في جانب السلوك
والاستقامة أيها الإخوة: تكون كذلك في جانب السلوك، فلابد أن يكون سلوك الإنسان مستقيماً، ولابد أن تكون أخلاقه مستقيمة، فلا يتلبس بشيء من سفاسف الأمور أو الأخلاق السيئة، ولذلك يعتقد بعض الناس أن الاستقامة فقط في قضايا الأخلاق، فترى أحدهم يُسأل عن فلان: ما رأيك في فلان؟ فيقول: هو والله مستقيم، تسأله: كيف هو مستقيم؟ يقول: لا يكذب، ولا يشتم، ولا يسب، وإنسان لطيف، ومعاملته طيبة، وهو مستقيم لا يستعمل الرشوة، لا يخون في معاملته، إنسان مستقيم.
لكن قد يكون هذا الرجل الموصوف بهذه الصفات لا يصلي، وقد يكون خرج إلى الفسق بقضايا كثيرة، ومخالفات عديدة، يرتكبها في حق نفسه.
فالناس اليوم يعبرون عن الاستقامة، ويقولون: إنسان مستقيم لمجرد الأخلاق الطيبة، والأخلاق الطيبة في حد ذاتها لا تكفي، ولذلك من المضحك جداً أن يأتي أناس قد تقدم لهم شابٌ ليتزوج ابنتهم، فيسألون واحداً ويقولون له: ما رأيك في فلان؟ فيقول: فلان لا يصلي.
فيقولون: لا بأس، لكن كيف أخلاقه؟ هذه -أيها الإخوة- من الأشياء الحاصلة اليوم، لا يسألون عن التزامه بالدين وأحكام الدين، وإن ضيع حق الله فالأمر غير مهم، لكن كيف المعاملة مع العباد؟ كيف سيعامل ابنتنا في المستقبل؟ فإن كانت معاملته طيبة وافقنا وهذا الفهم للاستقامة فهم قاصر جداً؛ لأنهم اقتصروا على الاستقامة في جانب واحد من الجوانب.(101/7)
أنواع الاستقامة
أيها الإخوة: إن الاستقامة هي أمر فردي وأمر جماعي، فإن هناك جوانب لا تتم الاستقامة بها على المستوى الفردي، ولا تحصل ولا تنتج إلا على المستوى الجماعي، والدليل على ذلك قول الله عز وجل في الآية التي أشرنا إليها: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود:112].
إذاً: نزل الأمر بالاستقامة للرسول صلى الله عليه وسلم المستقيم أصلاً، لكن ليزداد في الاستقامة ويثبت عليها، ومن تاب معه من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم خير الأمة، الذين تابوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وسلكوا سبيل الاستقامة.
إذاً: هناك أمورٌ لابد من الاستقامة فيها في المجال الجماعي، كالجهاد في سبيل الله، وتوجيه طاقات الأمة، ومعاملة المجتمع الإسلامي كوحدة واحدة مع الكفرة.
إذاً: لابد أن تكون استقامتنا استقامة فردية، كل إنسان بنفسه، واستقامة جماعية، استقامة المجتمع كله لله عز وجل.
وفقنا الله وإياكم لأن نكون من أهل الإخلاص والاستقامة، وصلى الله على نبينا محمد.(101/8)
الاستقامة طريق إصلاح المجتمع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله خالق كل شيء، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
أيها الإخوة: الاستقامة تدخل في مجالات كثيرة، ولو طبقت الاستقامة تطبيقاً صحيحاً لوجدت أنها الحل لجميع المشاكل، فلو أن الأب استقام على شرع الله عز وجل، فربى أولاده تربية إسلامية صحيحة، خالية من المنكرات والانحرافات، وعرف ماذا يطعم أولاده، وتحرى الحلال لهم؛ فإن هذا يساعد في إنشاء البيت المسلم، ويكون هذا البيت لبنة صالحة في المجتمع، ولو أن الأم استقامت على شريعة الله، فحفظت عرضها ومال زوجها، وأولادها، واستقامت على شرع الله، لتطهر البيت من كثير من الأرجاس والأنجاس.
ولو أن التاجر استقام على شريعة الله، فتجنب الغش في بيعه وشرائه، وراقب الله عز وجل في تصرفاته، ومشى على حدود الله وأحكامه، وتجنب الحرام كالربا والرشوة وغيرها فتأمل ماذا سيحدث؟! ولو أن المدرس استقام على شرع الله، فاتقى الله تعالى واستقام في طريقة تدريسه، وماذا يدرس، وكيف يدرس، وعرف كيف يستغل مكانه في تربية الطلبة تربية إسلامية، فكيف سيكون الحال؟! ولو أن القاضي استقام على شرع الله عز وجل، فلم يجر في الحكم ولم يحد، وعدل العدل الذي أمر الله به، فكيف سيكون وضع المجتمع؟! وهكذا من أصناف الناس، لو أنهم كلهم استقاموا على شرع الله فكيف سيكون الأمر؟!(101/9)
الاستقامة تشمل الدين كله
أيها الإخوة: إن الاستقامة باب عظيم يشمل الدين كله، ولذلك قد لا يمكن للناس أن يمسكوا بكل أطرافه، لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم: (استقيموا ولن تحصوا) أمرهم بالاستقامة، وأخبرهم بأنهم لن يستطيعوا أن يلموا بكل جوانب الإسلام، وأن يفعلوا كل ما أمر به الله عز وجل، ولذلك قال بعدها: (وسددوا وقاربوا)، أي: اتقوا الله ما استطعتم، قم بكل جهدك وطاقتك، بما تستطيع أن تؤديه من حق الله عز وجل، ولا تقصر ولا تهمل، وبعد ذلك لو فاتك شيء خارج عن إرادتك وطاقتك، فإن الله غفور رحيم.(101/10)
المداومة على الأعمال الصالحة
أيها الإخوة: وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (قل آمنت بالله ثم استقم)، وقول الله عز وجل قبل ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] يفيد فائدة تربوية عظيمة وهي: الاستمرار على عمل الطاعات، وعدم قطعها حتى ولو كانت نوافل.
ولذلك كان أحب الأعمال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أدومها وإن قل، فلو لم يصل الإنسان إلا ثلاث ركعات في الليل، لكنه يستمر عليها، فهذا شيء طيب، وهذا أفضل من أن يصلي إحدى عشرة ركعة في الليل لمدة شهر ثم ينقطع فلا يركع ركعة.
ولو أن إنساناً يصوم يوماً واحداً في الشهر أو يوماً في الأسبوع، أو ثلاثة أيام في الشهر فقط ويستمر عليها، فإنه أفضل من الذي يصوم يوماً ويفطر يوماًَ لمدة ثلاثة أشهر ثم ينقطع عن الصيام تماماً طيلة عمره.
إذاً: المحافظة على الأعمال الصالحة نتيجة الاستقامة، ومن مقتضيات الاستقامة ومستلزماتها، (قل آمنت بالله ثم استقم)، واصل المشوار، وأكمل ما أنت عليه من الطاعات.
وإذا تأملت معي الحديث القدسي الذي يقول: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) كلمة (لا يزال) هذه من معاني الاستقامة.
والمعنى: أي هو مستمر، لا يزال يتقرب ويتقرب، ويقوم بالنوافل ويفعل، حتى يصل إلى تلك الدرجة العظيمة، (وإذا أحب الله تعالى عبداً، نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: أحبوا فلان بن فلان، ثم يوضع له القبول في الأرض).
أيها الإخوة: إن من المعاني التربوية العظيمة للاستقامة: الممارسة العملية اليومية المستمرة لهذه النوافل بقدر الطاقة، والاستمرار عليها وعدم قطعها، (يا عبد الله! لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل)، قطع النوافل يقسي القلب، وقطع الأشياء التي اعتادها الإنسان يقسي القلب، ويجعل النفس في وحشة بعيدة عن الله عز وجل.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، اللهم واجعلنا من أهل السداد والاستقامة، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر إخواننا المسلمين في فلسطين، اللهم أمددهم بجيش من عندك، اللهم وأنزل عليهم ملائكة من عندك تثبتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم من أراد منهم الله والدار الآخرة فكن معه يا مولانا لا ألله، اللهم من أراد بعمله جهاداً في سبيلك، ومعاداة لأعدائك اليهود اللهم ثبته وانصره وأيده بجند من عندك يا رب العالمين، اللهم أهلك اليهود ومن شايعهم، اللهم إنهم طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، اللهم إنهم شنقوا أطفالنا فاشنقهم في الدنيا قبل الآخرة يا رب العالمين، اللهم واجعلهم عبرة لكل معتبر اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً اللهم فرق جمعهم وشتت شملهم، واجعل دائرة السوء عليهم يا رب العالمين اللهم إنك العزيز الجبار المتكبر، اللهم أنزل بهم بطشك ونقمتك يا رب العالمين، اللهم لا تجعل لهم قائمة في الأرض، اللهم إنهم أفسدوا وأفسدوا وأفسدوا، اللهم فاجعل دائرة السوء عليهم وابطش بهم ونكل بهم يا رب العالمين.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(101/11)
الإمام ابن باز الفاجعة
العلماء ورثة الأنبياء، رفعهم الله درجات، وأخبر أنهم أهل خشيته، وأمر الناس بسؤالهم وطاعتهم واتباعهم.
والشيخ ابن باز كان واحداً من أولئك العلماء الأعلام، وقد تركت وفاته حيزاً لا يسده فرد بعينه؛ لأن الرجل كان أمة، ولمزيد من فهم وإدراك هذه الحقيقة تأتي هذه المادة حاملة في طياتها نبذة موجزة عن حياة الشيخ من ولادته حتى وفاته رحمه الله.(102/1)
مكانة العلماء في الأمة الإسلامية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أشهد أن لا إله إلا الله هذه الحقيقة التي أشهد عليها سبحانه وتعالى أهل العلم فعظمهم ورفع قدرهم وقرنهم بنفسه وملائكته، فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] أشهدهم على أجل مشهود وهو توحيده سبحانه وتعالى، وهذا يدل على فضلهم، ونفى المساواة بينهم وبين غيرهم، فقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وأخبر أنه رفعهم درجات، فقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وأخبر أنهم أهل الفهم عنه، فقال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]، وأخبر أنهم أهل خشيته، فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8].
لماذا كانوا أخشى الأمة لله؟ لكمال علمهم بربهم سبحانه وتعالى، وما أعد لأوليائه أو لأعدائه علمهم النافع دلهم على معرفة الرب، والمعرفة بما يحبه ويرضاه وبما يكرهه ويسخطه سبحانه وتعالى، فكل من كان بالله أعلم كان أكثر له خشية وهم أهل العلم، أبصر الناس بالشر ومداخل الشر، قال عز وجل: {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [النحل:27] هؤلاء العلماء الربانيون الذين فهموا أن العذاب يحيق بأهل العذاب.
وكذلك قال سبحانه وتعالى عنهم في قصة قارون: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْر} [القصص:80]، وكذلك فإنهم ينهون الناس عن الشر لمعرفتهم به: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63].(102/2)
العلماء هم ولاة الأمور
هؤلاء العلماء هم ولاة الأمر وولاة الأمر تابعون لهم ولاة الأمر هم العلماء والأمراء، والأمراء يتبعون العلماء؛ لأنهم ينفذون ما يقوله أهل العلم، فقوله سبحانه وتعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] يدخل فيه العلماء أولاً، ثم يدخل فيه المنفذون لكلامهم ثانياً.
هؤلاء العلماء طاعتهم طاعة لله عز وجل، فقد أمر سبحانه وتعالى بها، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] قال ابن عباس رضي الله عنه: [يعني أهل الفقه والدين وأهل طاعة الله الذين يعلمون الناس معاني القرآن في دينهم ودنياهم] وكذلك فإنه عز وجل قد أوجب الرجوع إليهم وسؤالهم عمّا أشكل، فقال: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] (إن العلماء ورثة الأنبياء) (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً؛ ولكنهم ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
إنهم المبلغون عن الأنبياء الذين ينقلون للناس أحاديث الأنبياء، فهم يعلمونها، ويحفظونها، ويعرفون صحتها، ويميزون أمرها، ويعلمون شرحها، وينقلونها للناس.
إنهم الطائفة التي أراد الله بهم الخير العظيم (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).
إن نجاة الناس والعالم والأمة منوطة بوجود العلماء، فإن يقبض العلماء يهلك الناس، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).(102/3)
كيفية قبض العلم
عباد الله: هذا موكب أهل العلم يسير، ويقبض الله سبحانه وتعالى من شاء منهم، ويذهب من العلم طائفة عظيمة بقبض عالم من العلماء، قال ابن عباس [أتدرون ما ذهاب العلم؟ قالوا: لا.
قال: ذهاب العلماء].
الناس أحوج إلى العلماء منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب نحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثاً، والعلم يحتاج إليه في كل وقت؛ كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة".
هؤلاء العلماء يهتدى بهم في الظلمات، ويبينون الحق من الباطل عند الاشتباه، وهم زينة أهل الأرض كما أن النجوم زينة السماء، وهم رجوم للشياطين الذين يخلطون الحق بالباطل؛ فيرجمون أهل الأهواء والضلالات بالآيات من الكتاب والسنة، ولأن تموت القبيلة بأسرها أيسر من أن يموت عالم واحد، هذا فضلهم قد جاءت به الآيات والأحاديث.(102/4)
من هم العلماء
إنهم العارفون بشرع الله، المتفقهون في دينه، الذين يقولون: قال الله وقال رسوله، الذين يعلمون معاني الكتاب والسنة.
العلماء هم الذين يعملون بعلمهم.
العلماء هم الذين يخشون الله.
العلماء هم الذين لا يخافون في الله لومة لائم.
العلماء هم أهل السنة، وهم أهل الحديث، وهم أهل الفقه، هؤلاء هم العلماء المقصودون بهذه النصوص الشرعية.(102/5)
فاجعة وفاة ابن باز وبعض خصاله
لقد فجعنا وفجع المسلمون في العالم برحيل الشيخ العلامة/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى رحمة واسعة، أبو عبد الله عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله من آل باز، المولود في الرياض في الثاني عشر من ذي الحجة في عام [1330هـ] الذي أصابه المرض مبكراً في عينيه، فنتج عن ذلك أنه أصيب بالعمى في سن التاسعة عشرة:
عزاء بني الإسلام قد عظم الأمر وليس لنا إلا التجلد والصبر
فشيخ المعالي غاب عنا مسافراً إلى ربه إذ ضمه اللحد والقبر
لقد كان بدراً ضاء في الكون نوره ألا إنه على أنه الشيخ المبجل والحبر
فسمعته في الناس فهي فريدة وسيرته بيضاء ما مسها غدر
وإن هو أعمى العين فالقلب مبصر يساعده في علمه العقل والفكر
فهاهي تنعاه الجزيرة كلها لقد مسها من فقده الحزن والضر
إني لأحسبه والله حسيبه ممن انطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: من أذهبت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، رزقه الله بصيرة ونوراً في قلبه، وفراسة يميز الصادق من الكاذب، واختيار الناس للمهمات، كان قوياً في أمر الله على ما يستطيع ويقدر.(102/6)
من خصال ابن باز: رده على أهل الباطل والبدع
هو الذي رد على أهل الباطل باطلهم، ولما قال عظيم من عظماء الدنيا: إن القرآن فيه خرافات كقصة أصحاب الكهف، وعصا موسى! كتب الشيخ مبيناً أن ذلك ردة وكفر، ولما كتب إليه نائب لذلك القائل أن القائل لا يقصد، وأنه متراجع عن قوله، كتب له الشيخ آمراً: إن كان صادقاً فليعلن توبته على الملأ كما أعلن كفره على الملأ.
هو الشيخ الذي رد على أهل الباطل باطلهم، وعلى أهل البدع بدعهم، فهذه كتبه ورسائله حافلة بالرد عليهم بين لما أمر الله أهل العلم أن يبينوا، رحمة الله تعالى عليه، وهذه مقالاته في التحذير من البدع كالاحتفالات غير الشرعية البدعية من المولد، وذكرى الإسراء، وليلة النصف من شعبان، وغيرها قائمة عندما يرى المنكرات أمامه يتكلم، وعندما يرى انتشار ألوان الفحش والفساد من الأفلام والأغاني يتكلم عن ذلك، وعندما يرى منكر سفر الناس إلى بلاد الكفار يتكلم عن ذلك، وعندما يرى فشو المنكرات يتكلم عن ذلك، وهذه رسائله في المحرمات المنتشرة، وفي البدع الكثيرة، مع أخذه -رحمه الله- بالحكمة والموعظة الحسنة.
نحن لا نبرئه فهو بشر، ولا نرفعه إلى رتبة الأنبياء فليس بمعصوم، الحق ما وافق الكتاب والسنة: كان إماماً بحق لـ أهل السنة والجماعة في عصره، ومجدداً للدين، فكم أحيا الله به من سنة، وأمات من بدعة، وأيقظ من غفلة، وهدى من ضلالة! فهو إمام -إن شاء الله- داخل في قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74].
كان ساعياً في إزالة المنكرات، وخطاباته الكثيرة لم يطلع عليها الناس؛ لأنه كان يخاطب صاحب المنكر أو صاحب الشأن ولا يريد الفضيحة والتشهير، ويسير على الحكمة في ذلك مع ما في فعله -رحمه الله تعالى- من الاجتهاد، فاجتهد وتصدى للنوازل الكبار والمسائل الصعبة الشائكة التي وجدت في هذا العصر، والمتعلقة بأنواع المكتشفات والمخترعات، بما رزقه الله من العلم والفهم والبصيرة، فترأس مجمع الفقه الإسلامي الذي أصدر عدداً من الفتاوى في النوازل الفقهية المعاصرة التي يحار فيها العلماء ويضطربون.(102/7)
من خصال ابن باز: جمعة بين الفقه والحديث
كان مجدداً جامعاً بين الفقه والحديث، يعرف الحديث وصحته، ويحفظ من أحاديث دواوين السنة الكثير، يعرف الرجال وضبط الأسماء، وتصحح النسخ والطبعات بين يديه مع كونه ضريراً، كان بحراً في معرفة أقوال العلماء لا يخرج عنها، ولا تكاد تجد له فتوى شاذة، فظهر -رحمه الله- عدلاً وسطاً بين طرفين، مال أحدهما إلى الحديث ولم يشتغل بالفقه كما ينبغي، ومال الآخر إلى الفقه وأقوال الفقهاء ولم يهتم بالحديث كما ينبغي، فكان جامعاً بين الفقه والحديث.
من أعظم ميزات منهج الشيخ: الجمع بين الفقه والحديث، هو الرئيس المسكت الذي تجتمع على قوله الآراء، وربما اختلف العلماء بين يديه في النقاشات في لجنة الفتوى، أو في مجلس هيئة كبار العلماء، فإذا قال قولاً فصل بينهم وأذعنوا له، ورضخوا لرأيه، وجعلوا لقوله صوتين في لجنة الفتوى مقابل صوت واحد لكل عضو من أعضاء اللجنة، هاتوا واحداً سيجتمع عليه العلماء بعد رحيل الشيخ فتكون له الكلمة المطاعة على الجميع، ويكون له النفوذ في كثير من أقطار الأرض من الجهة العلمية، ومن الإذعان للفتوى!(102/8)
من خصال ابن باز: التواضع والأمانة
كان ينزل إلى مستوى العامة لتفهيمهم، ولم يكن يخاطبهم من علو، بل كان كثيراً ما يجيب باللهجة العامية الدارجة، ليفهموا عنه، كان متواضعاً لله عز وجل، قلما كان يعلق في دروسه مكتفياً بكلام أصحاب الكتب، كأن الدرس له ولمراجعته ومذاكرته وفائدته، وتعليقاته على فتح الباري اليسيرة يعلق على ما لا بد منه، كان يذكر مشايخه ويترحم عليهم.
ومن تواضعه: أنه كان يقوم إلى العجائز والضعفة الواقفات ببابه لقضاء حوائجهن من مال أو سؤال أو قضية طلاق وغيرها، وأوقف مرة نقاشاً مع علماء كبار ليجيب امرأة بالهاتف، فلما عاتبه بعضهم قال: هذه صاحبة حاجة.
ومن تواضعه: جلوسه على الأرض للطعام، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد.
وبساطة لباسه: يلبس ثوباً فضفاضاً لا رقبة له، ولا يتعدى أنصاف ساقيه، وبشته ليس نفيساً غالي الثمن، ولباسه وحذاؤه وعصاه تدل على زهده في الدنيا، ينفق مرتبه وربما يستدين لقضاء حوائج المسلمين.
كان في غاية الديانة والأمانة، يُستأمن على الملايين من صدقات المسلمين وزكواتهم، فيجتهد في إنفاقها في وجوهها.(102/9)
اهتمام ابن باز بطلابه وبمن حوله من الناس
كان يهتم بطلابه، ولما درس في الخرج جعل لهم سكناً، وطلب لهم سكناً إضافياً لما ضاق، ومكافآت، وعقد لهم الدروس والحلق بعد الفجر وبعد الظهر وبعد العصر وبعد المغرب وبعد العشاء، كان يذكر عنه بعض طلابه الذين يقرءون عليه تفسير ابن كثير بين العشائين أنه كان كثيراً ما يتأثر ويبكي، وربما يطول الدرس بسبب تأثره دون أن ينتبه، فإذا انتبه أنهى الدرس وأقيمت صلاة العشاء.
وكان يناقش طلابه وخصوصاً في درس المواريث، ويتفقد أحوالهم، ويقضي حاجاتهم، ويخرج معهم إلى البر، ولا ينسى إقامة الرياضات البدنية لهم، كرياضة العدو والمسابقة على الأقدام التي وردت بها السنة، كما جاء في حديث عائشة وسلمة بن الأكوع.
كان مشاركاً للناس والأهالي، ولما دهمت السيول بلدة الدلم في سنة (1360هـ) خرج يشجع الأهالي على إقامة السدود، وأخرج من بيته التمر والقهوة إلى مواقع العمل لخدمة الناس، ولما هاجمت أسراب الجراد البلد خرج الشيخ معهم لقتله بالجريد، وكان حريصاً على الأوقاف، وإدارتها، وإقامة المدارس.
ولما عين في إدارة الجامعة الإسلامية بـ المدينة النبوية في عام (1381هـ) وما بعدها كان يتفقد الفصول والطلاب، ويعتني بالوافدين من البلدان الأخرى، وقضاء حوائجهم، وتوفير الكتب لهم، والاهتمام بتعليمهم اللغة العربية.
ولما عين رئيساً لإدارات البحوث العلمية والإفتاء عام (1395هـ) وغادر المدينة النبوية إلى الرياض للمنصب الجديد حصلت مشاهد من التأثر لدى أصحابه وطلابه، وألقى كلمة اختلط فيها الكلام بالبكاء والنشيج من الجميع حتى قال أحد الحاضرين في نفسه:
بكينا وفاءً لامرئ قل أن يرى له في الدعاة العاملين نظير
فخلوا ملامي إن ألح بي البكا فإن فراق الصالحين عسير(102/10)
جوانب من سيرة ابن باز
.(102/11)
المناصب التي تولاها ابن باز وبيان نجاحه في أعماله
أيها الإخوة! قليلون أولئك الذين تولوا المناصب فلم يتغيروا، ولم يظلموا ولم يتجبروا، كان الشيخ واحداً من هؤلاء القلة، لم يخربه المنصب، ولم يشغله بالدنيا لم يتجبر ويظلم من تحته كان متواضعاً كان إدارياً ناجحاً، كما تولى إدارة الجامعة الإسلامية، وإدارة اللجنة الدائمة للإفتاء، وهيئة كبار العلماء، كان رجلاً منظماً في وقته وعمله ودروسه وطعامه ومجلسه، يعطي كل ذي حق حقه، كثيرة هي المشاريع الخيرية التي كان ابتداؤها منه، وكثيرة هي المشاريع الخيرية التي كان إنهاؤها على يديه من المساجد ومدارس تحفيظ القرآن ومنشآتها المشاريع الخيرية المتعددة المبثوثة، كان أبو عبد الله هو الذي يدفع بها، وهو الذي يكتب عنها، وهو الذي يطلب المسئولين لإنفاذها، له شفاعات عظيمة، وله تمييز عظيم لأصوات الناس مع كثرتهم، حتى لربما عرف المتكلم ولو لم يسمع صوته منذ سنين، ويحفظ الأشخاص، ويسأل عن أحوالهم، وأحوال بلدهم وأقاربهم، مع كثرتهم البالغة، يترددون على مجلسه بالعشرات، أو بالمئات أحياناً يومياً.
هذا الإمام العلم -أيها الإخوة- لسنا نزعم أنه أعلم من الشافعي أو أحمد أو ابن تيمية كلا والله، ولكن أهميته في عصره لا تقل عن أهميتهم في عصورهم إن لم تكن أكثر، وحاجة الناس إليه أكثر لقلة العلماء في هذا الزمان بالنسبة للعلماء في الأزمنة الماضية.(102/12)
صور من ورع ابن باز وخشيته
كان يكثر ذكر الله تعالى حتى وهو على الطعام وبين اللقم، كان ورعاً في الفتوى، كثيراً ما يقول: ننظر فيها -تحتاج إلى تأمل- اكتبها للجنة ونبحثها مع الإخوان، ولا يستنكف أن يقول في درسه في صحن الحرم المكي على الملأ من الناس -وسمعته بنفسي-: المسألة مشتبهة علي.
ولا يجيب، وكم من مرة سألته فيتوقف عن الإجابة، ولو عُرضت على طالب علم صغير لتسرع فيها! كان صاحب خشية لله سريع الدمعة شديد التأثر يقطع درسه بالبكاء لما يغلبه، لا عجب في ذلك، فقد قال الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] يقطع الجواب لإجابة المؤذن، ويستدرك ما فاته من الأذان لو سهى وأكمل المكالمة، ولا يفوت الذكر بعد الصلاة بالرغم من كثرة السائلين حوله، ويقطع الكلام مع الشخص عند الخروج من المسجد لأجل أن يقول الذكر.
كان عادلاً حتى بين زوجتيه، له زوجتان بلغ من عدله أنه لا يصلي سنة المغرب البعدية إلا في بيت التي هو عندها الليلة، فيبدأ من بداية الليلة من بعد المغرب ومن بعد صلاة الجماعة، فلا يصلي سنة المغرب إلا في بيت التي هو عندها.
هذه شفاعاته لا تعد ولا تحصى، أدى زكاة جاهه كما أدى زكاة علمه رغبة في قوله صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا) -نحسبه كذلك- شفاعاته للكبار والصغار، كم من طالب قبل في جامعة، وكم من فقير حصل على صدقة، وكم من عامل استقدم زوجة، وغير ذلك كثير كثير من شفاعات أبي عبد الله، نسأل الله أن يجعلها في ميزانه يوم يلقاه.
لما كان قاضياً وبعد القضاء يسعى بالصلح بين الأزواج والزوجات، والإصلاح بين المتخاصمين، كان حليماً عفواً سمحاًَ متسامحاً، دخل عليه أيام كان قاضياً بـ الدلم رجل سباب فسب الشيخ وأفحش، والشيخ ساكت لا يجيب، ثم سافر الشيخ للحج فمات ذلك الرجل، فلما قدموه لصلاة الجنازة أبى إمام ذلك المسجد وكان يعرف الواقعة، وقال: لا أصلي على شخص يشتم العالم، صلوا عليه أنتم، ولما عاد الشيخ من الحج وأخبر بموت الرجل الذي سبه والقصة، ترحم عليه وعاتب الإمام، وقال: دلوني على قبره، فصلى عليه ودعا له، وقلت له قبل موته بأيام: أريدك يا شيخ أن تسامحني وتحللني، فلا يخلو الأمر من خطأ في حقك أو تقصير أو إخلال في فهم كلامك والنقل عنك.
فقال لي: مسامح، مسامح، سامحك الله هذا هو طبعه: المسامحة، وهذا من أسباب اجتماع القلوب عليه ومحبة الناس له، أنه لم يكن يصادم، ولم يكن يرد بسفاهة، وإنما كان حليماً رحمه الله.
كان متأدباً حتى مع كتَّابه، فمرة أطال إلى الساعة الحادية عشرة ليلاً، ثم قال: يبدو أنا قد تعبنا؛ مع أن الشيخ لم يتعب، ولكن قال ذلك مواساة للكاتب الذي كان يكتب معه، فتأخر إلى هذا الوقت، وهو الذي كان من أصحاب العبادات والطاعات.
قال أحد الذين رافقوه من الطائف إلى الرياض براً: لما صرنا في منتصف الليل بعد الساعة الثانية عشر ليلاً قال لمرافقيه: يبدو أننا تعبنا، قفوا لننام في الطريق، فتوقفنا، فما لامست أقدامنا الأرض إلا وأخذنا النوم، والجيد منا من صلى ركعة أو ثلاث قبل أن ينام، فشرع الشيخ في الصلاة فاستيقظ الذين كانوا معه قبل الفجر، فإذا بالشيخ يصلي، كذا جاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الثلاثة الذين يضحك الله إليهم.(102/13)
عالمية ابن باز وبرنامجه اليومي
جاءت رسالة من الفلبين إلى الشيخ من امرأة تقول: زوجي مسلم، أخذه النصارى وألقوه في بئر، وأصبحت أرملة وأطفالي يتامى، وليس لي بعد الله جل وعلا أحد، فسألت من يتحمل ومن يساعد؟ فقالوا لي: اكتبي للشيخ عبد العزيز بن باز ليساعد في ذلك، فلما قرأ الشيخ الخطاب وتأثر كتب للإدارة بالمساعدة، فلما جاءه الجواب أنه لا يوجد بند لذلك، قال: اخصموا من راتبي نفقة هذه المرأة، وأرسلوها فوراً.
لم يعلن القصة على الملأ، وإنما قالها الخاصة الذين عرفوا بها.
إن علمه وصل وانتشر في العالمين شرقاً وغرباً، حتى أن بعض الدعاة لما دخل في بعض بلاد أفريقيا وجد عجوزاً، فقالت: من أين أنتم؟ فقلنا لها عبر المترجم: من بلاد السعودية.
فقالت: بلغوا سلامي إلى الشيخ ابن باز، هكذا حصل من نشر صيته في الأرض، والله إذا رضي عن عبد وضع له القبول في الأرض.
عباد الله: إن ذلك الشيخ كان أمة في الأعباء التي يقوم بها، يبدأ يومه قبل الفجر بالاستيقاظ في الثلث الأخير من الليل، فيصلي ما كتب الله له أن يصلي، ويستغفر؛ لقوله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17] وبعد صلاة الفجر يحرص على قراءة الأوراد، ولا يكاد يجيب أحداً حتى يقرأ الأوراد كلها، ثم يبدأ الدرس، فيقرءون عليه حتى ساعة متأخرة من الضحى، ثم يتوجه إلى العمل للإجابة على المعاملات والأسئلة الواردة من الأقطار الأخرى، وقضايا أصحاب الحاجات والشفاعات، ثم بعد ذلك يتوجه إلى بيته فيرتاح قليلاً، ثم يدخل للإجابة على الهاتف، ثم يتغدى مع الضيوف، لم يكن يتغدى وحده رحمه الله تعالى.
ثم بعد ذلك راحة إلى صلاة العصر، وبعدها أعمال خاصة له وبمكتبه، ثم بين المغرب والعشاء الإجابات على الأسئلة وهكذا بعد العشاء يلقي الكلمات في المساجد، ويحضر الندوات، ويحضر المحاضرات، كانت أعماله متوالية، وكان حريصاً على صيام يومي الإثنين والخميس، وحضور دروس الفجر، ودعوة زواره، يستقبل الوفود من البلدان المختلفة، وينجز المعاملات، وهو رحمه الله تعالى يدعو غير المسلمين للإسلام، ويأتي بالمترجمين ليقول ما يريد أن يقوله لهم حتى لم يكد يخلو يوم من أناس يسلمون بين يديه لا يقلون عن خمسة.
هذا أبو عبد الله أمة بعمله، جماعة بمفرده، رحمه الله تعالى وجعل الجنة مثواه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(102/14)
بقاء خصال الشيخ حتى آخر حياته
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، وأعلم العلماء بكتاب الله والسنة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: كان شيخكم -رحمه الله تعالى- كريماً سخياً، يعطي من طلب، ولا يكاد يرد من سأل، ولم يكن يأكل وحده، فكان كثير الضيوف، ولا يأكل إلا ومعه أناس على مائدته، ولما مرض قال لنا مرة ونحن في مجلسه وقد حضر الطعام: تفضلوا أنتم وأنا اسمحوا لي.
كان يعطي من طلب، ورأيته أعطى لباسه -بشته- من سأله إياه في مجلسه، متعه الله بعقله، فلم يصبه زوال ولا خرف ولا تغير، وبعض النسيان الذي حصل له لكبر السن لم يؤثر على مقدرته في الإفتاء واستحضار الأدلة، والتركيز والفهم، مع أنه دخل في التسعين، وقد سألته قبل أيام من موته عن امرأة ماتت وعليها سعي لم تأت به هل يقوم به ولدها عنها؟ فقال: الموت ما منه حيلة، ولولدها أن يسعى عنها، كما له أن يحج عنها -ثم وقف، ثم قال:- ولكن يجب أن يكون محرماً بنسك عند سعيه عنها.
فقلت له: مثل أن يحرم بعمرة ثم يطوف ويسعى لنفسه وقبل أن يقصر شعره يسعى عن أمه؟ فقال: أو قبل أن يأتي بعمرته وبعد الإحرام هذه الدقة وهذا الانتباه للسؤال، وفي الجواب لازمه ذلك إلى آخر عمره، عمل حتى آخر أنفاسه.
وكانت دروسه مستمرة حتى أيام مرضه، ودرس الفجر يوم الخميس يزيد على ثلاث ساعات، عمل (58) سنة ولم يأخذ إجازة واحدة، وكان لا ينام في يومه إلا أربع إلى خمس ساعات، وبقية ذلك في العبادة ومصالح المسلمين.
هذا الإنسان كيف يجد وقتاً لمعصية الله؟؟ من استعمله الله في طاعته من هيأ له هذا الأمر من أدخله في هذه العبادات وحوائج الناس والتدريس الفتيا كيف يجد وقتاً للمعصية.
وقد كان مستحقاً للتقاعد منذ عشرين عاماً بكامل الراتب، ولكنه استمر لخدمة الإسلام ونصرة الدين، ومعنى ذلك أنه عملها بدون أي مقابل.(102/15)
آخر أيام ابن باز وحادثة الوفاة
لما مرض الشيخ وكان يشتد عليه الألم إذا أفاق -هذا في آخر أيامه- قال لمن حوله من الكتاب والمساعدين: هاتوا ما عندكم، اقرءوا علي.
فيقرءون الرسائل والخطابات وقضايا الطلاق، والشكاوى من المنكرات، وخطابات الشفاعات وغير ذلك مما ينفع به العباد والبلاد.
كان لا يشتكي، جلست بجانبه وهو يتأمل فقلت: خيراً.
فقال: أشكو بعض الشيء، وكان إذا اشتد به الألم وقد أصابه سرطان المريء والبلعوم في آخر عمره، إذا اشتد عليه الألم تغير لون وجهه، وسكت ووضع يده على موضع الألم، ولم يتأوه، ولم يصيح.
والإمام أحمد -رحمه الله- لما مرض قد سمع أن طاوساً كان يقول عن الأنين: إنه شكوى؛ فما أنَّ أحمد حتى مات.(102/16)
أصناف الفرحين بموت الشيخ
سيشمت بموت الشيخ ويفرح أصناف من أعداء الله، وهذه حقيقة نعرفها: أولهما: المنافقون الذين يريدون عزل الإسلام عن حياة الناس، وثانيهما: المبتدعة أهل الزيغ والأهواء هؤلاء الذين سيفرحون بموت الشيخ عبد العزيز، أصحاب الشهوات الذين كانوا يقولون: إن المرأة ستسوق إذا مات ابن باز، وارتحنا من فتاويه المتشددة، ولكن أخزاهم الله تعالى في الفترة الماضية، ومات الشيخ وهم في ذل وخيبة ولم يتحقق مقصودهم، لا رفع الله لهم رأساً، ولا مكنهم مما يريدون.
دعاة تحرير المرأة والاختلاط يريدون موت الشيخ بأي طريقة، لأن فتاويه عقبة في طريقهم وهكذا أصحاب الشهوات والمنكرات يريدون وفاته والتخلص منه، ولكن الله لهم بالمرصاد، وسيقيض من هذه الأمة من يقوم ويتصدى، والحمد لله أن الدين لا يقوم على شخص واحد، وأن في هذه الأمة أفذاذاً وأخياراً، وعلماء ودعاة وطلبة علم يقفون بالمرصاد أمام دعاوى هؤلاء أرباب الشهوات، وهؤلاء المنافقين الذين يريدون عزل الدين عن حياة المسلمين.(102/17)
عزاء الأمة في وفاة الشيخ ابن باز
وأما عزاؤنا في وفاة الشيخ فإن على رأس العزاء موت محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الذي قالت عائشة فيه: (فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باباً بينه وبين الناس في آخر عمره، فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر، فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم، رجاء أن يخلفه الله فيهم بالذي رآهم، فقال: يا أيها الناس أيما أحد من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح.
فعزاؤنا في موت الشيخ، أولاً: نتعزى بالمصاب الذي لقيناه ولقيته الأمة بوفاة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فكل مصيبة دونه تهون، وعزاؤنا في الطلاب الذين تركهم، والعلماء الذين خرجهم هذا الشيخ الفاضل، وهذه الكتب والرسائل التي سطرت علمه، فهو وإن رحل فإن علمه باقٍ وموجود فينا، ونحن مسئولون عن نشره وتبليغه، ومن حق الشيخ علينا أن نقوم بعد وفاته بنشر علمه وفضله ومناقبه، وأن نترحم عليه، وندعو له، ونتذكر بأسى وحزن أن أرقام الهاتف [4354444] و [4351421] في الرياض، و [5562874] في مكة، [7460223] في الطائف، لن يرفع الشيخ سماعته اليوم ليجيب.
كانت أسئلة الناس يفزع بها إلى الشيخ ليجيب، كانت الملمات تعرض على هذا المجتهد، كنا إذا داهمنا الناس بالأسئلة فزعنا إلى الشيخ نتصل به وننقل إجابته، فلن يرد علينا الشيخ بعد اليوم في المستجدات، ولكن العزاء فيما تركه من الفتاوى، وفي العلماء الذين تركهم خلفه، فما من عالم مشهور في البلد إلا وللشيخ عليه فضل ومنة.
ونتذكر برؤية جنازته تلك المشاهد العظيمة لجنائز علماء الإسلام، الذين قال السلف فيها: آية ما بيننا وما بين أهل البدع يوم الجنائز.
وسيصلي على الشيخ من الجموع الغفيرة من لا يحصى ولا يعد.(102/18)
وصف الحديث بلغة الشعر
مهج تذوب وأنفس تتحسر ولظى على كل القلوب تسعر
الحزن أضرم في الجوانح والأسى يصلى المشاعر باللهيب ويصهر
كيف التحدث عن مصابٍ فادح أكبادنا من هوله تتفطر
كل امرئ فينا يدوم تعاسة والبؤس في دمه يغور ويزخر
لم لا وقد فقدوا أباً ومهذباً ورعاً بأنواع المفاخر يذكر
لما بدا للحاضرين كيانه والنعش يزهو بالفقيد ويفخر
هلعت لمنظره النفوس كآبة وبدا على كل الوجوه تحسر
نظروا إليه فصعدت زفراتهم والدمع غمر في المحاجر يحمر
كل يحاول أن يغطي دمعه لكنه يلقي النقاب فيسفر
يتزاحمون ليحملوه كأنهم سيل يموج وأبحر لا تجزر
يا راحلاً ريع الثقات بفقده وبكى تغيبه الحمى والمنبر
لو كنت تفدى بالنفوس عن الردى لفدتك أنفسنا وما نتأخر
لكن تلك طريقة مسلوكة وسجية مكتوبة لا تقهر
كل امرئ في الكون غايته الردى والموت حتم للأنام مقدر
كتب الفناء على الأنام جميعهم سيان فيهم فاجر ومطهر
لكن من اتخذ الصلاح شعاره تفنى الخليقة وهو حي يذكر
ما مات من نشر الفضيلة والتقى وأقام صرحاً أسه لا يكسر
ما مات من غمر الأنام بعلمه الكتب تشهد والصحائف تخبر
يا ناصر الإسلام ضد خصومه لك في الجهاد مواقف لا تحصر
قد كنت للدين الحنيف معضداً وبشرعة الهادي القويم تعبر
كم من فؤاد عام في لجج الهوى أنقذته أيام كنت تذكر
بصرته بهدى المشرع فارعوى عن غيه فلك الجزاء الأوفر
طوراً تحذره العذاب وتارة برضا الإله وما أعد تبشر
ولكم خطبت على الأنام مذكراً أن الحنيف على العباد ميسر
يا زاهداً عرف الحياة فما هوى في المغريات ولا سباه المظهر
نم في جنان الخلد يا علم التقى وانعم بظل وارف لا يحسر
إن شاء الله.
اللهم تغمد شيخنا عندك برحمتك يا أرحم الراحمين، وارفع منزلته في أعلى عليين، واخلف في عقبه في الغابرين، واخلف على الإسلام وأهله بخير يا رب العالمين! اللهم اجبر مصابنا، اللهم اجبر كسرنا، وصبرنا على مصابنا، اللهم اجعلنا عاملين بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، واجعلنا رجاعين لأهل العلم، واجعلنا من أهل العلم، واجعلنا أوفياء لأهل العلم، واجعلنا من الذين ينشرون العلم يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تعلي للشيخ درجته في الجنة، وأن تلحقه بمنازل الأبرار والشهداء والأنبياء، وأن تجعله ممن يلتقي بهم يا رب العالمين.
اللهم إننا شهدنا بأنه صاحب فضل وعلم وخير، وإن نبيك محمد صلى الله عليه وسلم قد أخبر أننا شهداؤك في الأرض، وقد شهدنا له بما له من الخير، وأنت تعلم السر وأخفى، وأنت بصير بالعباد، لا نزكي عليك أحداً، أنت حسيبه وحسيبنا وحسيب كل أحد.
اللهم فإنا نسألك له المغفرة ورفعة الدرجات، انشر رحمتك عليه وعلى العباد، اللهم ارزقنا الجنة وأعتقنا من النار نحن ووالدينا وأموات المسلمين يا غفار! واعلموا -أيها الإخوة- أن صلاة الغائب قد ذكر فيها العلماء أقوالاً، فمنهم من قال: لا يصلى عليه إذا صلي عليه كما اختار ذلك ابن القيم وغيره من المحققين، ومنهم من قال: يصلى على أئمة الهدى صلاة الغائب، ومنهم من قال: لكل أحد، وقد صدر التوجيه بصلاة الغائب عليه، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن رحمهم ورفع درجاتهم ومنزلتهم في الجنة إنه سميع مجيب قريب.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(102/19)
الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام [1،2]
لقد حفظ التاريخ في سجله الإمام أبا عبيد القاسم بن سلام ضمن العلماء المجتهدين، فقد حفظ القرآن وهو في الصغر، ثم رحل في طلب العلم وتنقل بين البصرة وبغداد والكوفة وغيرها من البقاع، وتولى القضاء في طرسوس، ولقد اشتهر بالتصنيف حتى أقبل على كتبه عامة الناس، وتتلمذ على يديه تلاميذ من شتى البقاع، وقد كان رحمه الله ذا أخلاق عالية في طلب العلم، والحرص على الفوائد، وتعظيم العلم وأهل العلم.
وقد توفي رحمه الله في مكة بعد أن قدم إليها حاجاً ثم بقي فيها إلى أن توفي سنة (224هـ) ودفن في مقبرة المعلاة.
فرحمه الله رحمة واسعة.(103/1)
أبو عبيد وبداية طلبه العلم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فإن أخبار الأخيار دواءٌ للقلوب، وجلاءٌ للألباب من الدنس والعيوب، وإن النفس تستروح إلى مطالعة أخبار من تقدم، والمطلع على أخبار من درج، ووقائع من غاب في غابر الموت وما خرج، ومآثر من رقى إلى سماء السيادة وعرج، يعود وكأنه عاصر أولئك وجلس معهم على نمارق الأسرة، واتكأ بينهم على وسائد الأرائك، وأفاد ذلك حزماً وعزماً وموعظةً وعلماً، وهمةً تذهب هماً وبياناً يزيل وهناً ووهماًَ، وعوناً للاقتداء بهم في جميل الخصال ونبيل المآثر والفعال.
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم بعد المماتِ جمال الكتب والسيرِ
هذا شيءٌ من فوائد دراسة أخبار المتقدمين، وشخصيات السلف والعلماء رحمهم الله أجمعين، وهي الإفادة من تلك السير في أمورٍ نقتدي بهم فيها.
ويعلم الإنسان المسلم عظمة التاريخ الإسلامي، وعظمة هذه الأمة التي أنجبت هؤلاء الشخصيات، ويحس وهو يقرأ في أخبارهم أنه يعيش معهم، وربما كان في ذلك جلاءٌ لهمومه، وذهابٌ لأحزانه، وحملاً له على التخلق بأخلاق الكرام، وهذا هو المهم -فعلاً- عند الاطلاع على أخبار العلماء والأئمة المتقدمين.
وسنعرض -إن شاء الله تعالى- لحياة الإمام أبي عبيد القاسم بن سلَّام رحمه الله تعالى عن أخلاقه، وحياته، وعلمه، وفضله، وكلام أهل العلم حوله، وشيءٍ من كتبه وآثاره وأخباره.
عاش الإمام أبو عبيد -رحمه الله تعالى- في العصر العباسي الأول، حيث ولد سنة: (151هـ)، وتوفي سنة: (224هـ)، ويكون بهذا قد عاصر سبعةً من خلفاء بني العباس، من المنصور المتوفى سنة: (158هـ) إلى المعتصم المتوفى سنة: (227هـ)، وبذلك يكون قد عاصر المهدي محمد بن عبد الله، والهادي موسى بن محمد، والرشيد هارون بن محمد، الذي حكم ثلاثاً وعشرين سنة، والأمين وَلَد هارون، واسمه محمد بن هارون، وتولى خمس سنين، ويكون أبو عبيد -رحمه الله- قد عاصر -أيضاً- أخا الأمين، المأمون عبد الله بن هارون الذي حكم عشر سنين، وآخر من عاصره من خلفاء بني العباس هو: المعتصم محمد بن هارون، الذي حكم تسع سنين أيضاً.
وهذه الفترة التي سبق أن وصفناها بأنها كانت أيام عز الدولة العباسية وازدهارها، وكانت فيها الحالة الاقتصادية من أحسن ما يكون، حتى أن هارون الرشيد -رحمه الله تعالى- طلب من أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وقاضي الناس في ذلك الوقت أن يؤلف كتاباً في السياسة الاقتصادية للدولة، فألف له كتاب الخراج، لتنظيم بيت مال المسلمين واقتصاد الدولة الإسلامية في ذلك الوقت.
وفي هذه الحقبة -أيضاً- حصلت فتنة خلق القرآن، ومر بالمسلمين محنة شديدة -جداً- طالت علماء أفذاذاً، فمنهم مَن قُتل، ومنهم مَن أُخذ فحُبس، ومنهم مَن جُلد وضُرب، ومنهم مَن قُطعت عنه النفقة ونحو ذلك من أنواع الأذى، ومنهم مَن مُنع مِن التدريس، ثم تنسموا الرحمة بعدما لبثوا في العذاب المهين خمسة عشر عاماً، وذلك عندما جاء الخليفة المتوكل سنة: [232هـ] الذي أعاد السنة ورفع المحنة.
أبو عبيد القاسم بن سلاَّم اسمه: القاسم، وأبوه سلاَّم بن عبد الله، ويُكنى الإمام القاسم بن سلاَّم بـ أبي عبيد، وهو بغدادي، خراساني الأصل، من مدينة هرات، وهي مدينة عظيمة مشهورة من مدن خراسان، وهي المعروفة اليوم في بلاد أفغانستان، وهو تركي مولى الأزد، ومولى الأنصار الخزاعي، والمولى كما سبق أن ذكرنا هو: المعتَق إذا انتسب بنسبك إذا أعتقتَ شخصاً فانتسب إليك، فيقال عنه: فلان الفلاني بنسبتك أنت مولاهم، وأبوه سلاَّم كان عبداً رومياً لرجلٍ من هرات.
ويُحكى أن سلاَّماً خرج يوماً وأبو عبيد في الكُتَّاب، وكان أول ما يبدأ به الصبيان في ذلك الوقت هو حفظ كلام الله تعالى عند الكتاب، فلما سلاَّم مر بالكتَّاب قال للمعلم: "علمي القاسم فإنها كيِّسة" وهذا يدل على أن الرجل صاحب لُكْنة أعجمية لا يحسن العربية؛ فهو يؤنث المذكر، وهذا موجود إلى اليوم، تجد الأعاجم إذا بدءوا في الكلام بالعربية يؤنثون المذكر، ويذكرون المؤنث، فهذا من طبيعة من أراد أن يبدأ يتكلم من الأعاجم العربية أن يقع منه هذا الخلط، ولكن هذا الرجل العامي أكرمه الله تعالى بولدٍ صار من كبار علماء العربية، ومرجعاً في هذا الشأن.
أبو عبيد القاسم بن سلاَّم بمدينة هرات من مملكة خراسان، وكان مولده على الأرجح في سنة: (157هـ)، وقيل: غير ذلك، وكانت سنة وفاته في: (224هـ) على الأصح، وهذا الذي نقله أخص تلاميذه وهو علي بن عبد العزيز البغوي، وبناءً على ذلك يكون قد عُمِّرَ (73) سنة.
وضعه أبوه عند الكتَّاب مع ابن مولاه، ثم لما انتهى من تلقي القرآن عند الكُتَّاب رحل في طلب العلم إلى بغداد، والكوفة، والبصرة، وتنقل في البلدان، وطلب العلم، وسمع الحديث، ودرس الأدب، ونظر في الفقه.
دخل بغداد في سنة: (176هـ) تقريباً، وسمع فيها من سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، وكذلك سمع من فرج بن فضالة.
ودخل الكوفة في سنة: (177هـ)، وسمع فيها من شريك بن عبد الله النخعي.
ودخل أبو عبيد البصرة في سنة: (179هـ) أيضاً وأراد أن يسمع فيها من حماد بن زيد، ولكن لم يدركه، فإنه لما دخل البصرة علم أنه قد توفي رحمه الله تعالى.
حماد بن زيد، شيخ أهل البصرة، مات في نفس السنة، (179هـ)، فـ أبو عبيد ارتحل إلى البصرة ليسمع من حماد، ففاته ولم يدركه، وتأسف على ذلك أسفاً بالغاً كما سيأتي.
ودخل أيضاً الرقة، وسمع من محدثيها، فيقول أبو عبيد -رحمه الله- عن نفسه: جلست إلى معمر بن سليمان بـ الرقة وكان من خير من رأيت، والرقة: مدينة على الفرات وهي معروفة -الآن- من بلاد سورية، سمع فيها من مُعمَّر بن سليمان، بتشديد الميم، وهذا غير معمر الأزدي - معمر بن راشد اليمني رحمه الله، أو معمر بن راشد الأزدي - الذي سكن في اليمن فترة من حياته.(103/2)
تولي الإمام أبي عبيد للقضاء
بعد هذا التجوال رجع أبو عبيد -رحمه الله- إلى خراسان موطنه الأصلي، وعمل هنالك مؤدباً لآل هرثمة، والمؤدب: الذي يربي الأولاد ويعتني بهم، ويخلقهم بالأخلاق الحسنة، ويحملهم على الأدب الجم ويعلمهم الصلاة والطهارة، والأمور الأساسية التي ينبغي أن يتعلمها كل ولدٍ من الأولاد، كان هذا الشيء منتشراً في أولاد الكبار في ذلك الوقت أنهم يحرصون على الاتيان بمؤدبٍ لأولادهم.
فـ هرثمة بن أعين من كبار قواد هارون الرشيد، وأبو عبيد في أول حياته تولى تأديب أولاد آل هرثمة، ثم اتصل بـ ثابت بن نصر بن مالك الخزاعي يؤدب ولده، وكان ثابت قد تولى طرسوس، وهي: مدينة بثغور الشام، بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم، وتُعرف أيضاً بـ طرطوس، ولما تولى ثابت على طرسوس وحكمها ثماني عشرة سنة، ولَّى أبا عبيد القاسم بن سلاَّم قضاء طرسوس، فتولاها له ثماني عشرة سنة، وأصبح قاضياً لـ طرسوس، وعلى ذلك يكون أبو عبيد رحمه الله قد تولى القضاء فيها سنة: (192هـ)، إلى سنة: (210هـ).(103/3)
أبو عبيد وبداية التعليم والتأليف
بعد هذه المدة الطويلة في القضاء عاد أبو عبيد من طرسوس إلى بغداد، وهناك اتصل بـ عبد الله بن طاهر والي خراسان وكان ابن طاهر يُجري عليه في الشهر ألفي درهم.
قال أبو العباس أحمد بن يحيى: قدِم طاهر بن عبد الله بن طاهر من خراسان وهو حدثٌ في حياة أبيه يريد الحج، فنزل في دار إسحاق بن إبراهيم، فوجَّه إسحاق إلى العلماء، فأحضرهم ليراهم طاهر، فقال طاهر: اجمع العلماء وأتِ بهم إلي لأراهم، وليَعْلَم ما عندهم من العلم، فحضر أصحاب الحديث والفقه، وأُحْضِر ابن الأعرابي، وأبو نصر صاحب الأصمعي، ووجِّه إلى أبي عبيد القاسم بن سلاَّم في الحضور، فأبى أن يحضر، وقال: العلم يُقْصَد -العلم يؤتى ولا يأتي، إذا أراد أن يتعلم أو يسمع فيأتي هو، أما أن نأتي إليه فلا- ورفض الاتيان، وكان عبد الله بن طاهر يُجري له في الشهر ألفي درهم، وكان من عادة العلماء في ذلك الوقت أنهم يُفرَّغون للعلم ويُجرى عليهم من بيت المال مرتب يكفيهم في حياتهم لمعيشتهم , ويتفرغون للعلم، فكان يُجرَى لـ أبي عبيد -رحمه الله- في الشهر ألفي درهم، وهو مبلغ كبير.
فلما قال: (العلم يُقْصَد) ورفض أن يأتي، قطع إسحاق عنه الرزق -أي: المرتب- وكتب إلى عبد الله بن طاهر بالخبر أن أبا عبيد امتنع، لكن هذا الامتناع أثر في نفس عبد الله بن طاهر، فكتب رسالة يقول فيها: صَدَقَ أبو عبيد في قوله، وقد ضاعفتُ له الرزق من أجل فعله هذا، فأعطه فائته، أي: كلما خصمت عليه ومنعته فأعطه وأدر عليه بعد ذلك ما يستحقه، وكان لهذه المعاملة أثر في العلاقة الطيبة بين أبي عبيد -رحمه الله- وبين الأمير عبد الله بن طاهر، فكان أبو عبيد إذا ألف كتاباً أهداه إلى عبد الله بن طاهر، وكان الآخر يقدر ذلك ويكافئه عليه.
ويروى أن أبا عبيد -رحمه الله- لما ألف كتاب غريب الحديث وعرضه على عبد الله بن طاهر، وكان الأمراء في ذلك الوقت -بطبيعة الحال- لهم اهتمام بالعلم والأدب، فيعرفون أهمية الكتب، فلما نظر فيه قال: "إن عقلاً بعث صاحبَه على عمل مثلِ هذا الكتاب لحقيقٌ ألا يُحْوَجَ إلى طلب المعاش" فأجرى له عشرة آلاف درهم كل شهر، فعاش أبو عبيد مكرماً، وهيأ الله له من يكفيه هموم المعاش، ويتفرغ لطلب العلم، ولم يكن صاحب تزلف ولا وقوف على الأبواب، ولذلك عمل -كما قلنا في بداية أمره- في تأديب أولاد الكبار، وعمل قاضياً مدة طويلة، ثم بعد ذلك صار متفرغاً للتعليم وللتأليف، وكان يُجرى عليه رزقه.(103/4)
رحلة أبي عبيد إلى مكة ووفاته فيها
بعد عودة أبي عبيد إلى بغداد واتصاله بـ عبد الله بن طاهر لم تطُل إقامته هناك، فرحل من بغداد إلى مصر والشام بصحبة الإمام العلم المشهور يحيى بن معين -رحمه الله تعالى- وقدم دمشق طالب علم، مع أنه كان قاضياً (18) سنة، وكان علماً وعالماً؛ لكن رحل إلى دمشق وسمع من هشام بن عمار، وسليمان بن عبد الرحمن، وحدَّث عنهما، وكانت رحلته في سنة: (214هـ) تقريباً، وفي سنة: (219هـ) خرج إلى مكة حاجاً، وأكرمه الله بأداء المناسك ودخل المدينة النبوية، ويدل على ذلك أنه لما شرح حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم ما بين عير وثور) وهذا الحديث فيه كلمة (عير وثور) وهي من الكلمات الغريبة التي يُتَوَقَّع أن توجد، وهذا الحديث يوجد في كتاب غريب الحديث لـ أبي عبيد، لأن هذا الكتاب يشرح فيه أبو عبيد -رحمه الله- الألفاظ الصعبة والغريبة في الأحاديث، وهذا أشهر كتاب لـ أبي عبيد، وعُرف واشتُهر به.
فطبيعة الحال لما مر بكلمتي (عَير وثور) شرحهما، وأنهما اسم جبلين، فقال: عير بـ المدينة معروف وقد رأيته، وهذا يدل على أنه دخل المدينة.
ثم إنه -رحمه الله- ذهب إلى مكة، وتوفي فيها في المحرم من سنة: (224هـ)، ودُفن في المعلاة، مقبرة أهل مكة.
وقيل: إنه رأى رؤيا قبل أن يموت في مكة، وكان قد عزم على الخروج من مكة إلى العراق في صباح اليوم التالي، فرأى رؤيا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً وعلى رأسه قومٌ يحجبونه، والناس يدخلون عليه ويسلمون عليه ويصافحونه، قال: فلما دنوتُ أدخل مع الناس مُنِعْتُ، فقلت لهم: لِمَ لا تخلوا بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا لي: لا والله لا تدخل ولا تسلم عليه، وأنت غداً ذاهب إلى العراق.
كيف تخرج العراق غداً ثم تريد أن تسلم عليه؟! فقال: فقلت لهم -وهذا كله في المنام-: إني لا أخرج إذاً، فأخذوا علي العهد ألا أخرج، ثم خلوا بيني وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلت وسلمت عليه وصافحته، فلما أصبح أبو عبيد -رحمه الله- بعد هذه الرؤيا، فاسخ كَرِيَّه -أي: الشخص الذي اتفق معه على الكِراء إجارة القافلة أو الدابة من مكة إلى العراق، فسخ معه عقد الإجارة- وجلس في مكة إلى أن توفي بها، ودُفن فيها رحمه الله تعالى.(103/5)
شيوخ الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام
لا شك أن مثل هذا الإمام العلم -كما تعودنا سابقاً في الأعلام الذين سمعنا سيرتهم- لا يمكن أن يكونوا قد خرجوا من فراغ، فإنه لا بد أن يكون هذا نتاج اعتناء وتربية علماء تخرج على أيديهم، لا بد أن يكون هناك وسط علمي وعلماء كبار تخرج أبو عبيد على أيديهم، فمن هم شيوخه؟ - عبد الملك بن قريب الأصمعي المشهور، الأصمعي البصري اللغوي أبو سعيد.
- علي بن حمزة الكسائي الكوفي أحد القراء السبعة.
- أبو عبيدة معمر بن المثنى.
- يحيى بن زياد الفراء.
- هشام بن عمار مقرئ أهل الشام.
- إسماعيل بن عياش عالم الشام ومحدثها.
- سفيان بن عيينة العالم الجليل المشهور الثقة الكوفي ثم المكي محدث الحرم، الذي يعد من أشهر شيوخ أبي عبيد.
- عبد الرحمن بن مهدي العالم الكبير الذي تقدمت سيرته رحمه الله.
- عبد الله بن المبارك أمير المؤمنين في الحديث.
- هشيم بن بشير الواسطي.
- يحيى بن سعيد القطان.
- كذلك من الذين تخرج عليهم أبو عبيد في الفقه وهو الذي فتَّق له المسائل واعتنى به ووجهه إلى الفقه هو: محمد بن الحسن الشيباني، تلميذ أبي حنيفة، والذي تعلم منه أبو عبيد أشياء كثيرة، ومن ذلك ما رواه فقال: كنا مع محمد بن الحسن إذ أقبل الرشيد الخليفة، فقام إليه الناس كلهم إلا محمد بن الحسن فإنه لم يقُم، ومعلوم ما حكم القيام للداخل، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) وأن الصحابة لم يكونوا يقومون للنبي صلى الله عليه وسلم لِمَا يعلمون من كراهيته لذلك، وأن القيام للشخص الداخل دون سببٍ منهيٌّ عنه، وأن القيام إليه لإدخاله أو إجلاسه أو معانقته بعد سفر أمرٌ لا بأس به، وأن القيام عليه أمرٌ محرم أيضاً، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عاتب الصحابة على وقوفهم وهو جالسٌ في الصلاة، وقال: (كدتم تفعلون فعل فارس والروم آنفاً) يعني: أنهم يقفون على رءوس ملوكهم وهم جلوس، إلا ما يكون من أمر تعظيم الخليفة أمام الأعداء مثلما وقف المغيرة وغيره على رأس النبي عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية أمام الكفار ليروا الكفار منزلة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان لـ محمد بن الحسن الشيباني -رحمه الله- أثرٌ بالغ في فقه أبي عبيد.
ولَمَّا رتب الذهبي -رحمه الله- في ترجمة حماد بن أبي سليمان فقيه العراق المتوفى سنة: (120هـ) رتب أجيال الفقهاء، قال: فأفقه أهل الكوفة: علي وابن مسعود، أول ما تأسست هذه البلدة الإسلامية أفقه من نزل بها: علي بن أبي طالب؛ لأنه قُتل في الكوفة، وابن مسعود الصحابي الجليل أفقه من نزل الكوفة، وأفقه أصحابهما -من تلقى عنهما العلم-: علقمة، وأفقه أصحاب علقمة: إبراهيم النخعي، وأفقه أصحاب إبراهيم: حماد بن أبي سليمان، وأفقه أصحاب حماد: أبو حنيفة، وأفقه أصحابه: أبو يوسف، وانتشر أصحاب أبو يوسف في الآفاق، وأفقههم: محمد بن الحسن المذكور، وأفقه أصحابه: الشافعي رحمه الله.
ومعنى ذلك أن أبا عبيد قد عاصر الشافعي؛ لأنه إذا كان شيخه محمد بن الحسن الشيباني، ومحمد بن الحسن الشيباني أفقه من درس على يديه الشافعي، فمعنى ذلك أن أبا عبيد قرين للشافعي، وقد جلس معه عند محمد بن الحسن، وتفقه كلٌ منهما على محمد بن الحسن، وله مناظرات مع الشافعي رحمه الله.
وأبو عبيد كان لا يأنف أن يستفيد من أقرانه، فأخذ كتب الشافعي فنسخها، أي: كتبها ليطلع عليها ويستفيد منها، ولذلك تجد أبا عبيد في كتبه، ينقل عن أقوال الصحابة والتابعين وشيوخه إلى المعاصرين، فينقل من أقوالهم، كما فعل ذلك في كتاب الأموال، وهو كتاب مشهور، فنقل من أقوال الصحابة والتابعين ومن شيوخه ومعاصريه.
وروى الحديث عن القاضي أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم، وتفقه على يديه أيضاً، وقال: جالستُ أبا يوسف ومحمد بن الحسن، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، فما هِبْتُ أحداً في مسألة ما هبتُ أحمد بن حنبل.(103/6)
تلاميذ أبي عبيد القاسم بن سلام
أما تلاميذ أبي عبيد رحمه الله، فإنه لما طار صيته في الآفاق، وسارت بتصانيفه الركبان، قصده الطلاب والحفاظ للأخذ منه والدراسة على يديه، وممن درس عليه بعضُ شيوخه وأقرانه، فسمعوا منه، وقال: كنت في تصنيف هذا الكتاب - غريب الحديث - أربعين سنة، وهذا مما يدل على عظمة هذا الكتاب، وهو كتاب مطبوع.
وكان لـ أبي عبيد -رحمه الله تعالى- منزلة عظيمة عند الكبار من أئمة عصره، قال حمدان بن سهل: سألت يحيى بن معين عن الكتابة عن أبي عبيد والسماع منه؟ فتبسم، وقال: مثلي يُسأل عن أبي عبيد؟! أبو عبيد يُسأل عن الناس.
ومِن شيوخه وأقرانه الذين حدثوا عنه: أحمد بن حنبل رحمه الله، شيخ الإسلام، الإمام المشهور.
سعيد بن الحكم المصري، الثقة الثبت الفقيه.
علي بن عبد الله المديني، أعلم أهل عصره بالحديث والعلل، المتوفى سنة: (234هـ) بـ سامراء.
أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، فإنه ممن درس أيضاً على أبي عبيد.
وكيع بن الجراح، الإمام الحافظ.
يحيى بن معين، سيد الحفاظ، وإمام أهل الجرح والتعديل.
ومن أشهر تلاميذ أبي عبيد القاسم بن سلاَّم: إبراهيم بن إسحاق الحربي.
أحمد بن يحيى البلاذري، الكاتب صاحب فتوح البلدان.
عباس بن محمد الدوري.
عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي، الإمام، شيخ الإسلام، صاحب سنن الدارمي.
عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، الحافظ الإمام صاحب التصانيف الكثيرة جداً والمشهورة.
علي بن عبد العزيز البغوي، وهو أشهر تلاميذه من جهة الملازمة، وأشدهم له ملازمة، وأثبتهم فيه، وهو راوي كتب أبي عبيد، حتى عُرِف بوراق أبي عبيد، لزم أبا عبيد حتى مات.(103/7)
مكارم الأخلاق عند الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام
أبو عبيد القاسم بن سلاَّم رحمه الله صاحب شمائل وخصال عالية وفريدة.(103/8)
أخلاق أبي عبيد في طلب العلم
فمن جهة الأخلاق العلمية فإنه كان حريصاً على العلم، وهذا من أهم سمات طالب العلم أن يكون حريصاً على العلم، له نهمة وحرص على العلم يدون الفائدة ويركض وراءها حتى يحصلها، ولا يكون هذا إلا إذا كان نهماً صاحب نَهْم، كما قال البخاري رحمه الله في سبب حفظه: (النهم والمطالعة) كثرة المطالعة وأن يكون الإنسان نهماً، أي: عنده همة في الحرص على الفوائد والعلوم.
قال أبو عبيد: دخلت البصرة؛ لأسمع من حماد بن زيد، فقدمت فإذا هو قد مات، فشكوت ذلك إلى عبد الرحمن بن مهدي، فقال: مهما سُبِقْتَ به فلا تُسْبَقَنَّ بتقوى الله عز وجل، يعني: مهما فاتك فلا يفوتنك تقوى الله عز وجل.
وقال أيضاً: سمعني عبد الله بن إدريس أتلهف على بعض الشيوخ: وا أسفاه على فلان الذي ما أدركته، مات قبل أن آخذ عنه، فقال لي: يا أبا عبيد! مهما فاتك من العلم فلا يفوتنك العمل؛ لأن العمل هو القصد، أول العلم التقوى والعمل، فلو قال أحد الآن: لماذا نتعلم؟! ولماذا يتعلم طالب العلم؟! نقول: من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله جهنم، فلا بد من القصد أن يكون حسناً.
فما هي نية طالب العلم في تعلمه؟ لا بد من تحديد الأهداف: أولاً: لينال خشية الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
ثانياً: ليعمل به، فإذا صار هدفُ طالب العلم الخشية والعمل، صح توجهه، وطابت نفسه، وزكى.
وكثيرٌ من الناس ربما يطلبون العلم لجمع العلم يطلبون العلم شهوةً في العلم يطلبون العلم للشهادة للمال ليكون صاحب قضاء ونحو ذلك، ومثل هذا لا يبارك له في علمه، ولا يستفيد ولا يُستفاد منه، لكن إذا طلبه لخشية الله، وليعمل به ويؤجر على العمل ويرفعه الله درجات، فهذا الذي يستفيد ويُستفاد منه.
وكان أبو عبيد -رحمه الله- متأدباً غاية الأدب مع العلماء، يقول عن نفسه: "ما أتيت عالماً قط فاستأذنت عليه، ولكن صبرت حتى يخرج إليَّ، وتأولت قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [الحجرات:5] ".
وقال أيضاً: "ما دققت على مُحدِّثٍ بابه قط وإنما أنتظر حتى يخرج ثم أفاتحه برغبتي" وهذا يدل على أدبه رحمه الله مع الشيوخ، ما كان يزعج أحداً، ولا يطرق الباب وإنما ينتظر، وهذا ما فعله ابن عباس -رضي الله عنه- كما قال: [كنت آتي بيت الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأريد أن أسمع منه الحديث، فأجلس على بابه في القيلولة حتى أنام، أتوسد العتبة، فتُسْفِي الريح على وجهي التراب؛ لكن أتحمل حتى يخرج إلي، ويعاتبني لماذا لم أطرق عليه].(103/9)
أخلاق أبي عبيد في الحرص على الفوائد
كان أبو عبيد -رحمه الله تعالى- يفرح فرحاً شديداً لتحصيل العلم والفائدة، حتى ربما حرمه الفرح من النوم، فقال عن نفسه::كنت في تصنيف هذا الكتاب غريب الحديث أربعين سنة، وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال، فأضعها في موضعها من الكتاب -أفواه الرجال أي: العلماء- فأبيت ساهراً فَرِحَاً فَرَحَاً مني بتلك الفائدة- مِن الفَرَح بالفائدة التي حصَّلها ودوَّنها في كتابه غريب الحديث ربما ما جاءه النوم.
ومِن حرصه على الفائدة: القصة المشهورة التي حدثت له في زيارته للإمام أحمد -رحمه الله- وهي قصة جميلة، قال: زرت أحمد بن حنبل، فلما دخلت عليه في بيته قام فاعتنقني وأجلسني في صدر المجلس -وهذا يدل على محبة أحمد لـ أبي عبيد القاسم بن سلاَّم - فقلت: يا أبا عبد الله! أليس يقال: -أي: في الأثر- (صاحب البيت أو المجلس أحق بصدر دابته أو مجلسه) أي: صاحب البيت أحق بصدر البيت من الضيف أو من أي شخص آخر، وكذلك الدابة أولى بصدر الدابة من الشخص الآخر، لأنه صاحب الحق، فلا يجوز للضيف أن يعتدي ويجلس في صدر المجلس بدون إذن صاحب البيت.
قال الإمام أحمد: نعم، يَقْعُدُ ويُقْعِدُ مَن يريد، أي: ما دام أنه صاحب الحق فلو أقعد مَن يريد فلا حرج على هذا الضيف من أن يجلس في صدر المجلس، فقلت في نفسي: خذ إليك أبا عبيد فائدة.
ثم قلت: "يا أبا عبد الله! لو كنتُ آتيك على حق ما تستحق لأتيتك كل يوم" أي: لو كانت زيارتي لك بقدر حقك علينا وعلى قدر ما يليق بك من منزلة لرابطنا كل يوم عندك وأتيناك، فقال: لا تقل ذاك! فإن لي إخواناً ما ألقاهم في كل سنةٍ إلا مرة، أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم.
قال: قلت: هذه فائدة أخرى يا أبا عبيد.
فلما أردت القيام قام معي، قلت: لا تفعل يا أبا عبد الله أي: اجلس مكانك وارتاح ولا داعي أن تقوم معي، فقال الإمام أحمد: قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر أن يُمشى معه إلى باب الدار ويؤخذ بركابه.
قال: قلت: يا أبا عبد الله مَن عَن الشعبي؟ أي: من حدثكم عن الشعبي هذه العبارة- قال: ابن أبي زائدة، عن مجالد عن الشعبي.
قال: قلت: يا أبا عبيد هذه ثالثة، ثلاث فوائد.
فكان يفرح بالفوائد ويجمعها ويراجعها، ويعدد الفوائد واحدة واثنتين وثلاث حتى لا ينساها.
وقد أمسك ابن عباس بركاب زيد بن ثابت رضي الله عنهما، وكان يطلب عليه العلم، فقال زيدٌ متواضعاً: [أتُمْسِكُ بي -يعني: بركاب دابتي- وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم -أنتم آل البيت لكم حق- فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: إنا هكذا نصنع بالعلماء].(103/10)
أخلاق أبي عبيد في تعظيم العلم واحترام أهله
وأما في تعظيمه للعلم وإكرامه لطلبة العلم فما كان يهين العلم كما يفعل بعض الناس الذين يهينون العلم ويضعونه في غير موضعه، ويأتون به الأبواب، لا بد أن يكرم العلم مثلما فعل أبو عبيد رحمه الله.
وهذه قصة أخرى له: كان طاهر بن عبد الله بـ بغداد، هذا الأمير كان يود أن يأتي إليه أبو عبيد؛ ليسمع منه كتاب غريب الحديث في منزله، ويُقال: إن فلاناً أتى عنده أبو عبيد (المؤلف) إلى البيت، وحدَّثه بالكتاب، فرفض أبو عبيد القاسم بن سلاَّم، إجلالاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تريد أن تسمع؟ ولما قدِم علي بن المديني، وعباس العنبري، إلى أبي عبيد طلباً لسماع كتابه غريب الحديث كان يحمل كل يومٍ كتابه ويأتيهما في منزلهما فيحدثهما به، مع أنهما جاءا إليه يطلبانه، فكان يذهب إليهما، هؤلاء أهل العلم وطلبة العلم يُؤتَون ويكرَمون، ووضع العلم عندهم وضع في مكان ومحل مناسب، هذه حكمة، إجلالاًَ لعلم علي بن المديني وعباس العنبري، كان أبو عبيد يأتي إليهما ليحدثهما في بيتهما، ويصون العلم ويُكرمه من أن يُؤتى به إلى الأبواب.(103/11)
أخلاق أبي عبيد في نسبة الفضل لأهل الفضل
كان أبو عبيد -رحمه الله- حريصاً على الأمانة العلمية وعزو العلم لأهله، ونسبة الفضل إلى أهل الفضل، فكان يقول: مِن شُكْر العلم أن تستفيد الشيء -إذا حصلت على فائدة- فإذا ذُكِر لك قلتَ خفي عليَّ كذا وكذا ولم يكن لي به علمٌ حتى أفادني به فلان كذا وكذا، فهذا شُكْر العلم.
فمثلاً: إذا حصلتَ على فائدة مِن شُكْر هذه الفائدة أن تذكر مَن الذي علمك إياها، وتعزوها لصاحبها الذي استفدتها منه، فكأنك تقول: إنها ليست من كدي ولا من عقلي ولا من استنتاجي واستنباطي وإنما علمني إياها فلان، فذِكْر اسم الشيخ الذي علمك الفائدة في المجلس، أو أن تقول: كنت أجهل الأمر الفلاني حتى شرحه لي فلان، وكان يخفى عليَّ معنى الكلمة الفلانية حتى سمعتُه من فلان، هذا من التواضع ومن الأدب ومن معرفة الفضل لأهل الفضل.
وقال أبو محمد عبد الغني بن سعيد المصري: علقت حكاية أبي عبيد مستفيداً لها ومستحسناً، وجعلتها حيث أراها في كل وقت -كأنه كتبها وعلقها على الجدار- لأقتدي بـ أبي عبيد، وأتأدب بآدابه، {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]، وهذا مِن الشُّكْر: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7].
وكان أبو عبيد يقول عن نفسه: "ما كان عليَّ من حفظ خمسين حديثاً مئونة" أي: ما يشق عليه حفظ خمسين حديثاً سنداً ومتناً في مجلس واحد، وهذا مما يسر الله له الحفظ خمسون حديثاً في مجلس واحد ليس فيه مشقة عليه سنداً ومتناً.(103/12)
أخلاق أبي عبيد في صدقه مع الآخرين
روى الخطيب -رحمه الله- حكاية عن أبي عبيد القاسم بن سلاَّم أنه جاءه الحسن بن حربوية، فقال: أريد أن أسألك عن سؤالين قال: ما هما؟ قلت: {دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} [ص:17] ما معنى الأيد؟ قال أبو عبيد: القوة.
قلت: فما معنى: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص:45]؟ قال: القوة، والأبصار: العقول.
قلت: ما بال إحداهما لم تثبت فيها الياء {دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} [ص:17] إنما بالكسرة بدون ياء؟ وهذه {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص:45] ثبتت فيها الياء مع أن كلاهما بمعنى: القوة؟! قال: عمل الكاتب الذي كتب.
قال: فاندفعتُ أسأل عن مسألة أخرى ثالثة، فقال أبو عبيد مذكراً للسائل: أنت قلتَ: مسألتين يرحمك الله؟ قال: قلت: ما أحسب حضر المجلس أحدٌ أبعد مني منزلاً، فقال أبو عبيد معلماً إياهُ: الصدق وإن كان يرحمك الله، فأنت إن قلت مسألتين فعليك أن تلتزم بمسألتين، فإن أردت أكثر فاستأذن، لكن أن تقول: أريد أن أسألك سؤالين، ثم تسأل سبعة أو خمسة أو ثلاثة.
لا، أين الصدق؟ انظر: كيف كان يتعامل بالصدق حتى في هذه الأشياء الدقيقة.(103/13)
طرائف حصلت لأبي عبيد القاسم بن سلام
ومن طرائف ما حصل لـ أبي عبيد مع بعض السائلين: نقول: قد يُبتلى العالم بسؤال من جهلة العوام، كأن يأتيه سائل يسأله فيظن العالم أن هذا يريد منه الفائدة العظيمة والحقيقية، فإذا به يكتشف أن هذا السائل من أتفه ما يمكن.
حصلت له قصة طريفة: وذلك أنه جاءه رجل قد يكون السائل ذا لحية كبيرة، مثلما جاء لـ أبي حنيفة رجل مهيب، عليه سمت، فجلس في المجلس فاحشتم أبو حنيفة وقبض رجليه، وكان قد مد رجليه وتكلموا ودار النقاش في المجلس، فإذا هذا السائل يقول: متى يفطر الصائم؟ قال: إذا غربت الشمس.
قال: وإذا لم تغرب؟! فمد أبو حنيفة رجليه، وقال: قد آن لـ أبي حنيفة أن يمد رجليه، يقول: احتشمت منك طيلة هذا الوقت، وظننتك شيئاً، فإذا بك تسأل هذا السؤال الدال على سخف العقل.
فحصلت قصة مشابهة لـ أبي عبيد رحمه الله، جاءه شخصٌ فسأله عن الرباب أبو عبيد من كبار علماء اللغة والغريب، كان يعرف الألفاظ الغريبة مدخلها ومخرجها، هذا تخصص أبي عبيد، فجاءه رجل فسأله عن الرباب؟ فقال أبو عبيد مجيباً بدقته وعلمه العميق: هو الذي يتدلى دُوَين السحاب -أي: قريب السحاب- وأنشده بيتاً لـ عبد الرحمن بن حسان، وأتى بالشاهد الذي يدل على هذا المعنى:
كأن الرباب دُوَين السحاب نعامٌ تُعلق بالأرجلِ
فقال: لم أُرِد هذا، قال أبو عبيد: إذا كنت تريد إطلاقاً آخر؛ فالرباب يطلق على اسم امرأة، وأنشد أبو عبيد بيتاً فيه الدلالة على أن الرباب اسم امرأة قائلاً:
إن الذي قسم الملاحة بيننا وكسا وجوه الغانيات جمالا
وهب الملاحة للرباب وزادها في الوجه من بعد الملاحة خالا
فقال: لم أُرِدْ هذا -أيضاً- فقال أبو عبيد: عساك أردتَ قول الشاعر:
ربابٌ ربةُ البيتِ تصب الخل في الزيتِ
لها سبعُ دجاجاتٍ وديكٌ حسن الصوتِ
قال: هذا أردت، هذه ربما هي نشيدة كانت عند الأطفال ينشدونها في ذلك الوقت:
ربابٌ ربةُ البيتِ تصب الخل في الزيتِ
لها سبعُ دجاجاتٍ وديكٌ حسن الصوتِ
نشيد أطفال، فقال: هذا أردت، فقال: مِن أين أنت؟ قال: مِن البصرة.
قال: على أي شيءٍ جئت؟ على الظهر -أي: الدابة- أم على الماء -أي: في سفينة أو قارب؟ قال: في الماء.
قال: كم أعطيت الملاح؟ قال: أربعة دراهم.
قال: اذهب استرجع منه ما أعطيته، وقل: لم تحمل شيئاً، فعلام تأخذ مني الأجرة؟ وهذا يشبه -أحياناً- من يعتني ببعض القصائد والأناشيد يُتْرك العلم والشيء المهم، كما وقع لبعض الشباب حفظوا قصيدة (صوت صفير البلبلِ) بالنص، وأما البيقونية أو تحفة الأطفال في التجويد أو الرحبية في المواريث لا تحفظ الطرائف ويترك العلم الأساسي من عدم الجدية، ومن تدني المستوى العلمي؛ أن ينشغل الشاب بالأناشيد وتترك القصائد أو أشعار أهل العلم التي نظموها في المصطلح في الأصول في المواريث في الحديث في غيره، تترك وتحفظ بدلها الأشعار التي إن جاءت أو راحت فهي أشياء يمكن أن تكون من المباحات، قد يكون لبعضها فوائد؛ لكن لا ترقى إلى فوائد العلم، فهذا الذي جاء إلى أبي عبيد ويسأله عن الرباب إذا به يريد:
ربابٌ ربةُ البيتِ تصب الخل في الزيتِ
لها سبعُ دجاجاتٍ وديكٌ حسن الصوتِ
وأبو عبيد -رحمه الله تعالى- كانت له أخلاق كثيرة أخرى، وعبادة، وأدبٌ جم، وعلومٌ، وآثار، فسنتحدث عن ذلك -إن شاء الله- تكملة في الدرس القادم، وهو آخر درس في هذه المدة من الإجازة.(103/14)
مناقب الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام
ومن طرائف ما حصل لـ أبي عبيد مع بعض السائلين: نقول: قد يُبتلى العالم بسؤال من جهلة العوام، كأن يأتيه سائل يسأله فيظن العالم أن هذا يريد منه الفائدة العظيمة والحقيقية، فإذا به يكتشف أن هذا السائل من أتفه ما يمكن.
حصلت له قصة طريفة: وذلك أنه جاءه رجل قد يكون السائل ذا لحية كبيرة، مثلما جاء لـ أبي حنيفة رجل مهيب، عليه سمت، فجلس في المجلس فاحشتم أبو حنيفة وقبض رجليه، وكان قد مد رجليه وتكلموا ودار النقاش في المجلس، فإذا هذا السائل يقول: متى يفطر الصائم؟ قال: إذا غربت الشمس.
قال: وإذا لم تغرب؟! فمد أبو حنيفة رجليه، وقال: قد آن لـ أبي حنيفة أن يمد رجليه، يقول: احتشمت منك طيلة هذا الوقت، وظننتك شيئاً، فإذا بك تسأل هذا السؤال الدال على سخف العقل.
فحصلت قصة مشابهة لـ أبي عبيد رحمه الله، جاءه شخصٌ فسأله عن الرباب أبو عبيد من كبار علماء اللغة والغريب، كان يعرف الألفاظ الغريبة مدخلها ومخرجها، هذا تخصص أبي عبيد، فجاءه رجل فسأله عن الرباب؟ فقال أبو عبيد مجيباً بدقته وعلمه العميق: هو الذي يتدلى دُوَين السحاب -أي: قريب السحاب- وأنشده بيتاً لـ عبد الرحمن بن حسان، وأتى بالشاهد الذي يدل على هذا المعنى:
كأن الرباب دُوَين السحاب نعامٌ تُعلق بالأرجلِ
فقال: لم أُرِد هذا، قال أبو عبيد: إذا كنت تريد إطلاقاً آخر؛ فالرباب يطلق على اسم امرأة، وأنشد أبو عبيد بيتاً فيه الدلالة على أن الرباب اسم امرأة قائلاً:
إن الذي قسم الملاحة بيننا وكسا وجوه الغانيات جمالا
وهب الملاحة للرباب وزادها في الوجه من بعد الملاحة خالا
فقال: لم أُرِدْ هذا -أيضاً- فقال أبو عبيد: عساك أردتَ قول الشاعر:
ربابٌ ربةُ البيتِ تصب الخل في الزيتِ
لها سبعُ دجاجاتٍ وديكٌ حسن الصوتِ
قال: هذا أردت، هذه ربما هي نشيدة كانت عند الأطفال ينشدونها في ذلك الوقت:
ربابٌ ربةُ البيتِ تصب الخل في الزيتِ
لها سبعُ دجاجاتٍ وديكٌ حسن الصوتِ
نشيد أطفال، فقال: هذا أردت، فقال: مِن أين أنت؟ قال: مِن البصرة.
قال: على أي شيءٍ جئت؟ على الظهر -أي: الدابة- أم على الماء -أي: في سفينة أو قارب؟ قال: في الماء.
قال: كم أعطيت الملاح؟ قال: أربعة دراهم.
قال: اذهب استرجع منه ما أعطيته، وقل: لم تحمل شيئاً، فعلام تأخذ مني الأجرة؟ وهذا يشبه -أحياناً- من يعتني ببعض القصائد والأناشيد يُتْرك العلم والشيء المهم، كما وقع لبعض الشباب حفظوا قصيدة (صوت صفير البلبلِ) بالنص، وأما البيقونية أو تحفة الأطفال في التجويد أو الرحبية في المواريث لا تحفظ الطرائف ويترك العلم الأساسي من عدم الجدية، ومن تدني المستوى العلمي؛ أن ينشغل الشاب بالأناشيد وتترك القصائد أو أشعار أهل العلم التي نظموها في المصطلح في الأصول في المواريث في الحديث في غيره، تترك وتحفظ بدلها الأشعار التي إن جاءت أو راحت فهي أشياء يمكن أن تكون من المباحات، قد يكون لبعضها فوائد؛ لكن لا ترقى إلى فوائد العلم، فهذا الذي جاء إلى أبي عبيد ويسأله عن الرباب إذا به يريد:
ربابٌ ربةُ البيتِ تصب الخل في الزيتِ
لها سبعُ دجاجاتٍ وديكٌ حسن الصوتِ
وأبو عبيد -رحمه الله تعالى- كانت له أخلاق كثيرة أخرى، وعبادة، وأدبٌ جم، وعلومٌ، وآثار، فسنتحدث عن ذلك -إن شاء الله- تكملة في الدرس القادم، وهو آخر درس في هذه المدة من الإجازة.(103/15)
عبادة وزهد الإمام أبي عبيد
كانت لهذا الإمام عبادة جيدة، وهكذا كان دأب العلماء رحمهم الله تعالى، وخصوصاً في قيام الليل، والإمام أحمد -رحمه الله- لما استضاف رجلاً من أهل الحديث جاءه في بيته، فوضع له الإمام أحمد -رحمه الله- ماءً بالليل، وفي الصباح نظر في الماء فوجده ما نقص ولا تغير، فعاتبه الإمام أحمد رحمه الله، وقال: صاحب حديثٍ لا يقوم الليل! كيف يكون هذا؟ فلم تكن القضية عندهم حفظ المعلومات -كما ذكرنا- وإنما هي أيضاً عبادة.
وكان أبو عبيد -رحمه الله تعالى- يُقَسِّم الليل أثلاثاً:- فيصلي ثلثه، وينام ثلثه، ويصنف الكتب في ثلثه.
فثلث لقيام الليل، وفيه تأنس القلوب بربها، وترتاح بمناجاة مليكها عز وجل، وثلثٌ ينام فيه، وثلثٌ يصنِّف فيه الكتب، وكان مقتدياً في ذلك بالإمام العلم محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله، وكان شيخه.
وأما بالنسبة للزهد والجود:- فإن الرجل كان زاهداً، مترفعاً عن النقائص، ومع كثرة الأعطيات التي تأتيه إلا أنه لم يكن طماعاً أبداً، فإن أبا دُلَف العِجلي أحد قواد المأمون أرسل إلى عبد الله بن طاهر يستهديه أبا عبيد مدة شهرين، يقول: أهدني أبا عبيد شهرين، وذلك لما سمع بـ أبي عبيد ووَصَلَه صيته العلمي، فطلب عبد الله بن طاهر الأمير من أبي عبيد أن يسير إلى أبي دُلَف لشهرين، فأقام عنده شهرين مشتغلاً بالتعليم، فلما أراد الانصراف وصله أبو دُلَف بثلاثين ألف درهم، فلم يقبلها، وقال: أنا في جنبة رجلٍ لا يحوجني إلى صلة غيره، ولا آخذ ما فيه عليَّ نقصٌ، فلما عاد إلى عبد الله بن طاهر وَصَلَه بثلاثين ألف دينار، لِمَا رأى من تعففه عن قبول ثلاثين ألف درهم من أبي دُلَف، فهل يا ترى أخذ هذا المال، وصار مكافأة عن تعففه الأول؟ كلا، بل إنه قال له: أيها الأمير! قد قبلتها، ولكن قد أغنيتني بمعروفك وبرك وكفايتك عنها، وقد رأيتُ أن أشتري بها سلاحاً وخيلاً، وأوجه به إلى الثغر، فيكون الثواب متوفراً على الأمير، ففعل، ووضعها ثمن سلاحٍ في سبيل الله، وأقنع الأمير بحجة أن هذا سيكون فيه ثواب وافر محفوظ لهذا الأمير.(103/16)
ورع أبي عبيد
كان أبو عبيد -رحمه الله تعالى- متصفاً بالورع أيضاً:- ومِن ورعه: أنه كان وهو رأسٌ في اللغة يستشهد بأبيات الشعر القديمة، كما يفعل أهل اللغة في بيان معاني الألفاظ، ويبينون أن الشاعر أراد بهذا اللفظ المعنى الفلاني، وأن العرب استخدموه في أشعارهم على هذا المعنى، فكانت الشواهد الشعرية تبين المعاني لهذه الألفاظ، ولكن هذه الشواهد الشعرية -وبعضها جاهلي- لم تكن تخلو من هجاءٍ، أو بعض المنكرات، وكان يذكر في بعض الشعر اسم الذي هُجِيَ به.
فمن ورع أبي عبيد -رحمه الله تعالى- أنه كان يحذف اسم الشخص الذي هُجِيَ ويستبدله بميزانه الصرفي، فمثلاً اكتشف بعض العلماء أن أبا عبيد في بعض الأشعار التي فيها هجاء لرجلٍ اسمه عتبة؛ قد حذف عتبة وجعل بدله فُعْلَة (وزن الاسم) حتى لا ينكسر البيت من جهة، وحتى يصون ذلك الشخص، ولا يَقَعَ في الأعراض بالتعيين، وكان يتحفظ من المشاركة في ذم أحدٍ أو هجائه، أو نشر ذلك، أو إشاعته.(103/17)
من حلم أبي عبيد وأدبه
كان أبو عبيد -رحمه الله- أيضاً متصفاً بالحلم، وله في ذلك قصص: فمن ذلك: أن أبا عمرو الطوسي قال: قال لي أبي: غدوتُ إلى أبي عبيد ذات يوم فاستقبلني يعقوب بن السكيت، فقال: إلى أين؟ فقلتُ: إلى أبي عبيد، فقال: أنتَ أعلم منه -كأنه يزهده في لقاء أبي عبيد - قال: فمضيت إلى أبي عبيد فحدثته أن فلاناً قال لي: إني أعلم منك، فقال لي أبو عبيد: الرجل غضبان، قال: قلت: مِن أي شيء؟ قال: جاءني منذ أيام فقال لي: اقرأ علي غريب الحديث، فقلت: لا.
ولكن تجيء مع عامة الناس في الدرس، أما أن أخصص لك درساً فلا أطيق ذلك، فغضب ودخل ذلك في نفسه، وقال لك من جراء ذلك هذا الكلام.
فلم يرد عليه ويقول: هذا جاهل، أو هذا سفيه ونحو ذلك؛ وإنما قال: الرجل غضبان، والغضبان يخرج منه كلام ليس بموزون.
وكان صاحب أدبٍ أيضاً:- قال إسحاق بن راهويه -رحمه الله- وهو من كبار العلماء، ومن قرناء الإمام أحمد رحمه الله، حتى قال بعضهم: ما عَبَر الجسر أحدٌ أحفظ من رجلين -أي: جسر بغداد المنصوب على النهر الذي عبره الكثير من العلماء الأجلاء- مثل أبي زرعة الرازي وإسحاق بن راهويه، أي: على رأي من قال هذه العبارة.
قال إسحاق بن راهويه: أبو عبيد أوسعنا علماً، وأكثرنا أدباً.(103/18)
غيرة أبي عبيد للحق وصفته وسمته
وكان أبو عبيد متحرقاً لنصرة الحق:- ولما حدثت محنة الإمام أحمد رحمه الله؛ يقول عبد الغني المقدسي عن أبي شعيب الحراني: لما أُخذ أحمد بن حنبل فضُرب، جعل أبو عبيد القاسم بن سلَّام يذهب ويجيء، ويقول: أيُضرب سيدُنا؟! لا أصبر، أيُضرب سيدُنا؟! فهو من التحرق لما حصل للإمام أحمد -رحمه الله- ما استطاع أن يجلس في مكان واحد، بل يذهب ويجيء، ويقوم ويقعد، لا يستطيع أن يمسك نفسه، ويقول: أيُضرب سيدُنا، أيُضرب سيدُنا؟ لا أصبر.
وأما بالنسبة لحِلْيته وسمته:- فقد جاء في وصفه كما ذكر الذهبي -رحمه الله- في سير أعلام النبلاء: أنه كان يخضب بالحناء، وكان أحمر الرأس واللحية، ذا وقارٍ وهيبة.
وقال ثعلب وهو يصف أبا عبيد: كان عاقلاً، لو حضره الناس يتعلمون من سمته وهديه لانتفعوا، وكان عددٌ من أهل العلم يُرحل إليهم لا لأجل العلم؛ لكن ليتعلم من أدبهم وسمتهم وهديهم.
وكان أصحاب عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- يرحلون إليه فينظرون إلى سمته وهديه ودَلِّه فيتشبهون به.
والنظر إلى بعض العلماء يجلو صدأ القلب، كما قال مالك رحمه الله: "كنت كلما أجد في قلبي قسوةً آتي محمد بن المنكدر، فأنظر إليه نظرة، فأتعظ في نفسي أياماً" نظرة واحدة إلى محمد بن المنكدر موعظة تكفي الشخص مدة أيام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أولياء الله الذين إذا رُؤوا ذُكِرَ الله عز وجل).
فهناك أناس من كثرة العبادة والتقوى يظهر على وجوههم ما يجعل النظر إليهم يجلب الخشوع، ويزيد الإيمان، من صلاحهم وتقواهم وعبادتهم.(103/19)
مكانة أبي عبيد بين العلماء(103/20)
العلوم التي برع فيها أبو عبيد
وأما بالنسبة للعلوم التي برع فيها أبو عبيد رحمه الله تعالى، فإنه كان موسوعة، لم يشغله علمٌ عن علمٍ، فلم يشتغل بالحديث عن الفقه، ولا باللغة عن التاريخ، فبعض الناس يمكن أن يقال عنه: محدث غير فقيه، وبعض الناس يمكن أن يقال عنه: فقيه غير محدث، لا يميز الصحيح من الضعيف في الأحاديث، لكن أبا عبيد -رحمه الله- وُصف بأنه الإمام، الحافظ، المحدث، المفسر، المقرئ، الفقيه القاضي المجتهد، اللغوي النحوي، الأخباري النسَّابة، أي: يعلم الأنساب، والأخباري من يعلم التاريخ، هكذا أقر له كبار الأئمة من معاصريه ومَن بعده، وبهذا وصفوه.
وهذا قد عبر به عن نفسه، فقال مرة: ما ناظرني رجلٌ قط وكان مفَنَّناً في العلوم إلا غلبته، ولا ناظرني ذو فنٍ واحد إلا غلبني في فنه ذلك، يعني: إذا كان الرجل متخصصاً في فنٍ واحد فيمكنه أن يغلبني، أما إذا كان في كثير من العلوم فإذا ناظرته غلبته، هذا دليل على سعة اطلاعه رحمه الله وشمولية معرفته.
ومما ميز الرجل أنه صنَّف في وقتٍ كانت المصنفات فيه قليلة، ولما انتشرت المصنفات صار بعضهم ينقل من بعض، فكانت مصنفاته أكثرها مبتكَرة، أي: أن بعض مصنفاته ربما لم يُسبق إليها، وبعض التراتيب التي فيها لم يُسبق إليها.
فالرجل مبارك في التصنيف والتأليف، ومصنفاته تنبئ عن أنه لم يكن متخصصاً في فنٍ واحد، فمثلاً: له في القرآن وعلومه مؤلفات، وفي اختيار القراءة الصحيحة الموافقة للعربية والأثر؛ لأن من شروط القراءة الصحيحة أن تكون موافقة للأثر، وموافِقةً لرسم مصحف عثمان، وموافقة لوجهٍ من أوجه اللغة المعتمدة، فـ أبو عبيد -رحمه الله- صنَّف في القراءة المختارة الموافقة للغة والأثر.
وكذلك صنف في الناسخ والمنسوخ.
وصنف في إعراب القرآن، وهذه كلها من علوم القرآن.
وصنف في الحديث وعلله، وكُتُبُه تشهد بذلك، وله كتاب مشهور اسمه: غريب الحديث.
وأما في الفقه؛ فإنه كان إماماً مجتهداً، يُذْكَر في طبقة الشافعي وأحمد، وله أقوال في الفقه، نثرها في كتابه غريب الحديث وغيره، وسنذكر بعضها إن شاء الله.
وله في الأخلاق والآداب مؤلفات؛ وفي اللغة العربية من نحو، وشعر، وأدب أيضاً مؤلفات، وفي التاريخ والأنساب مؤلفات.
فالرجل بالجملة واسع العلم.
وهذا ما ذكرناه من أن التخصصات الجامعية قد قضت على الموسوعية في العلم، ولم يكن من العلماء من يفهم في الأصول، أو يتخصص في اللغة، أو في المصطلح فقط، وإنما كان علم الواحد منهم شاملاً لأبواب العلم وأنواعه.
وقال أحمد بن كامل القاضي: كان أبو عبيد القاسم بن سلَّام فاضلاً في دينه وفي علمه، ربانياً، متفنناً في أصناف علوم الإسلام؛ من القرآن والفقه والعربية والأخبار، حسن الرواية، صحيح النقل، لا أعلم أحداً من الناس طعن عليه في شيء من أمره ودينه.
وهذه تزكية ممن يعرفه؛ بأنه لم يوجد عليه مطعن في شيء من أمره ودينه.
وقال عبد بن جعفر بن درستويه أو درَسْتَوَيه كلها بالفتح أو كلها بالضم، دُرُسْتُوَيْه أو دَرَسْتَوَيْه، وهو يصف أبا عبيد: كان من علماء بغداد المحدثين، النحويين على مذهب الكوفيين، ورواة اللغة والغريب عن البصريين والكوفيين، ومن العلماء بالقراءات، جمع صنوفاً من العلم، وصنف في كل فنٍ من العلوم والآداب فأكثر واشتهر.
وكذلك فإنه قد جاء في ترجمته: أن كتبه مستحسنة مطلوبة في كل بلد، والرواة عنه مشهورون ثقات ذوو ذكرٍ ونبلٍ.
ومعنى ذلك أن العلماء قد عرفوا قيمتها، ونصحوا بها، وطلبة العلم أقبلوا عليها فصارت مطلوبة مرغوبة، وهذا يبين دقة الرجل -رحمه الله- وعمقه.
وصنف كتباً وقد خرجت للناس واستُفيد منها علمٌ كثير، ولا شك أن التأليف في ساعات الأسحار حيث تصفو الأذهان، وتنشط القرائح والأفهام، فيه بركة، ويمكن أن يكون هذا أحد الأسباب التي جعلت مصنفات هذا الرجل مباركة.(103/21)
ثناء العلماء على أبي عبيد
أما ثناء العلماء عليه فكثير، ويكفينا شهادة الإمام أحمد رحمه الله، فإن محمد بن أبي بشر قال: أتيتُ أحمد بن حنبل في مسألة، فقال: ائتِ أبا عبيد فإن له بياناً لا تسمعه من غيره، فأتيت أبا عبيد فسألته فشفاني جوابُه، وأخبرته بقول أحمد فقال: يا بن أخي! ذاك -يعني الإمام أحمد - رجلٌ من عمال الله، نشر الله رداء عمله في الدنيا، وذخر له عنده الزلفى.
وتقدم أن حمدان بن سهل قال لـ يحيى بن معين وسأله عن الكتابة عن أبي عبيد: نكتب عن أبي عبيد أم لا؟ ونسمع منه؟ فتبسم، وقال: مثلي يُسأل عن أبي عبيد! أبو عبيد يُسأل عن الناس، لقد كنت عند الأصمعي يوماً إذ أقبل أبو عبيد فشق إليه بصرُه -بصرُ الأصمعي شقَّ إلى أبي عبيد - حتى اقترب منه، فقال: أترون هذا المقبل؟ قالوا: نعم، قال: لن يضيع الناس ما حيي هذا المقبل.
وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: أبو عبيد أوسعنا علماً، وأكثرنا أدباً، وأجمعنا علماً، إنا نحتاج إلى أبي عبيد وأبو عبيد لا يحتاج إلينا.
وقال أيضاً: الأئمة في زماننا: الشافعي، والحُمَيْدي، وأبو عبيد.
وقال إبراهيم بن أبي طالب: سألتُ أبا قدامة عبد الله بن سعيد اليشكري -أحد أئمة الحديث، مجمعٌ على ثقته- عن الشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبي عبيد، فقال: أما أفهمهم فـ الشافعي، إلا أنه قليل الحديث، وأما أورعهم فـ أحمد بن حنبل، وأما أحفظهم فـ إسحاق، وأما أعلمهم بلغات العرب فـ أبو عبيد.
ولما جاء نعي أبي عبيد لـ عبد الله بن طاهر، وكان قد قال: كان للناس أربعة: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، وقاسم بن معن في زمانه، وأبو عبيد القاسم بن سلَّام في زمانه، لما جاءه نعي أبي عبيد قال:
يا طالب العلم قد مات ابن سلَّام وكان فارس علمٍ غير محجامِ
مات الذي كان فيكم رُبع أربعةٍ لَمْ يلقَ مثله أستاذ أحكامِ
خير البرية عبد الله أولهم وعامرٌ ولنعم الثنا يا عامِ
هما اللذان أنافا فوق غيرهما والقاسمان: ابن مَعْنٍ وابن سلَّام
فازا بقِدحٍ متينٍ لا كفاء له وخلفاكم صفوفاً فوق أقدامِ
وقال الهلال بن علاء الرِّقِّي: مَنَّ الله على هذه الأمة بأربعة في زمانهم: بـ الشافعي: تفقه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبـ أحمد بن حنبل: ثبت في المحنة ولولا ذلك لكفر الناس.
وبـ يحيى بن معين: نفى الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبـ أبي عبيد القاسم بن سلَّام: فسر الغريب من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لولا ذلك لاقتحم الناس في الخطأ، ولم يفهموا الأحاديث على وجهها، ولا فهموا معناها.
وقال إبراهيم الحربي -رحمه الله- وهو من تلاميذ أبي عبيد: أدركتُ ثلاثةً لن يُرى مثلهم أبداً، تعجز النساء أن يلدن مثلهم: رأيت أبا عبيد القاسم بن سلَّام ما مثَّلْتُه إلا بجبلٍ نُفِخ فيه روح.
وقال أحمد بن يحيى الملقب بـ ثعلب: لو كان أبو عبيد في بني إسرائيل لكان عجباً، مع أن القوم أصحاب عجائب كثيرة، ولعلها لتعويض نقص إيمان القوم لأجل أن تحملهم على الإيمان، لأنهم كان عندهم ضعف، قال: لو كان أبو عبيد في بني إسرائيل لكان عجباً.
وقال الأزهري: كان أبو عبيد ديِّناً فاضلاً، عالماً أديباً فقيهاً صاحب سنة.
وعَدَّ ابن تيمية -رحمه الله- أبا عبيد من الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدقٍ، كما ذكره فيمن يعرف كل أحدٍ زكاءهم وذكاءهم.
ما هو الفرق بين الذكاء والزكاء إذا قيل: كان ذكياً زكياً؟ الزكاء: في النفس، فالزكي المزكَّى أي: العدل، الثقة، الطاهر، والأمين، التقي.
والذكي يعني: في ذهنه، وعقله؛ لكنه قد يكون شريراً، ولذلك يقال عن بعض الناس: أوتي ذكاءً ولم يؤت زكاءً، وهذا ذكاؤه يكون وبالاً عليه، لأنه يستخدمه في الشر، فإذا أوتي المرء ذكاءً ولم يؤتَ زكاءً فهذه مصيبة، وعدد من الملاحدة وأصحاب المذاهب الضالة أوتوا ذكاءً ولم يؤتوا زكاءً.
وقال ابن القيم -رحمه الله- عن أبي عبيد: وكان من أعيان المفتين -يعني: بـ بغداد، وكان جبلاً نُفِخ فيه الروح علماً وجلالة ونُبلاً وأدباً.(103/22)
منهج أبي عبيد في العقيدة(103/23)
منهج أبي عبيد في مسائل الصفات والإيمان والقرآن
أما مصنفاته رحمه الله فقد قلنا: إنها كانت منوعة في أبواب العلم المختلفة.
فمثلاً: في التوحيد: له كتاب في الإيمان ومعالمه، وبيان أنه يزيد وينقص.
وفي صفات الله تعالى أيضاً كان يرى إثبات الصفات، وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: قال أبو عبيد: هذه الأحاديث صحاح -يعني: أحاديث الصفات- حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض، وهي عندنا حقٌ لا شك فيها، ولكن إذا قيل: كيف يضحك؟ وكيف وضع قدمه؟ قلنا: لا نفسر هذا، ولا سمعنا أن أحداً يفسره.
ما معنى العبارة؟ معناها: أننا نؤمن أن الرب يضع قدمه في النار، ونؤمن أن الرب يضحك؛ لكن لا نستطيع أن نخبر بالكيفية، فنحن نثبت المعنى على حسب كلام العرب ولغتهم؛ لكننا لا يمكن أن نشبه أو نكيف أو نقول: كيفية قدمه كذا، وكيفية يده كذا، وأصابعه كذا، هذه أشياء لا يمكن أن نخوض فيها، وعقولنا لا تحتمل ذلك أبداً، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110].
أما إثبات الصفة، وإثبات معناها، وإثبات حقيقة الصفة: أن له يداً حقيقية، وله قدماً حقيقية، وله قبضةً حقيقية، وأنه يحثو بيده، فلا شك، وأما الأشاعرة فيقولون: لا قبض ولا يد ولا حثو.
فإثبات الصفات من عقيدة أهل السنة والجماعة، ومعنى نفي التفسير: نفي الإخبار بالكيفية، أما المعنى على حسب كلام العرب فيثبته أبو عبيد وغيره من أئمة المسلمين من أهل السنة والجماعة.
أما القرآن: فلا شك أنه يقول: القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق.
وقال عبد الملك السمسار: اتفقت أنا وعلي بن المديني وأبو عبيد القاسم بن سلَّام، فقال علي أو غيره: يا أبا عبيد! ما تقول فيمن قال: القرآن مخلوق؟ فقال أبو عبيد: هذا رجلٌ يُعَلَّمْ، ويقال له: إن هذا كفرٌ فإن رجع وإلا ضربت عنقه.(103/24)
مذهب أبي عبيد في الصحابة
وأما مذهبه في تفضيل الصحابة: فيرى أبو عبيد -رحمه الله- أن أفضل الصحابة أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وهذا الذي عليه جمهور الأئمة، وأن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة؛ لكن القلة من أهل السنة يقدمون علياً على عثمان في الفضل؛ لأشياء عندهم في مناقب علي، رجَّحوا بها أن علياً أفضل من عثمان؛ لكن جمهور أهل السنة على أن عثمان في الفضل بعد الصديق وعمر.
وقال أبو عبيد: فعلت في البصرة فعلتين أرجو بهما الجنة: أتيت يحيى القطان وهو يقول: أبو بكر وعمر وعلي -أي: في الترتيب- فقلت: معي شاهدان من أهل بدرٍ يشهدان أن عثمان أفضل من علي، قال: من؟ فقلت: أنت حدثتنا، عن شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النَّزَّال بن سبرة قال: [خطبنا عبد الله بن مسعود فقال: أمَّرْنا خير من بقي ولَمْ نأْلُ] فالصحابة كونهم اجتمعوا وعلي موجود وعثمان موجود وانتخبوا، واستشار عبد الرحمن بن عوف الناس، حتى استشار العجائز في البيوت، فاتفقت كلمتهم على عثمان، ولذلك ما أجْمَعَت الأمة على خليفة من الراشدين مثلما أجمعت على عثمان، فبيعة أبي بكر حصل فيها شيء كما في حادثة السقيفة، وعمر كانت بِوَصِية من الصديق، وعلي -رضي الله عنه- حصل ما حصل في توليته، لكن الأمة ما اجتمعت على خليفة في توليته وتعيينه مثلما اجتمعت على عثمان، فاستشار عبد الرحمن بن عوف الناس ثلاث ليالٍ لم يكتحل فيها بنوم، فاجتمعت كلمتهم على عثمان، وما اختلفوا في شأن تقديم عثمان، فقال ابن مسعود: [أَمَّرْنا خير من بقي -أي: أنه أفضل من علي رضي الله عنه- ولَمْ نأْلُ].
فقال يحيى بن سعيد القطان: ومَن الآخر؟ -الشاهد الثاني- قال: قلت: الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن المسور بن مخرمة، قال: [سمعت عبد الرحمن بن عوف يقول: شاورت المهاجرين الأولين، وأمراء الأجناد، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أرَ أحداً يعدل بـ عثمان] قال: فترك قوله -أي يحيى بن سعيد القطان - من نتيجة المناقشة مع أبي عبيد، ترك قوله في تقديم علي على عثمان - وقال: أبو بكر، وعمر، وعثمان، إلى آخره.(103/25)
موقف أبي عبيد من أهل البدع
وأما بالنسبة لموقفه من أهل البدع، فإن أبا عبيد -رحمه الله- كان شديداً على أهل البدع كعادة السلف في ذلك الوقت، وكان صاحب خبرة ومراس، واحتكاك بأصحاب الفرق الضالة، ونقل أخبارهم، وسبر غَوْرَهم، فقال: عاشرت الناس، وكلمت أهل الكلام، فما رأيت أوسخ وسخاً ولا قذراً، ولا أضعف حجةً، ولا أحمق من الرافضة، ولقد وُلِّيت قضاء الثغور -تولى القضاء ثمانية عشر عاماً- فنفيت منهم ثلاثة رجال؛ رافِضِيَّيْن وجهمياً، وقلت: مثلكم لا يساكن أهل الثغور وأخرجتهم، أي: أنهم وبال على المسلمين، فإن الثغور تحتاج إلى جهاد، والثغور هي: رباط في الجهاد، والجهاد يحتاج إلى أناس من أهل التقى والصلاح والسنة، ينتصر بهم المسلمون، أما مثلكم أنتم فأنتم سبب هزيمة فأخرجهم ونفاهم.(103/26)
مصنفات أبي عبيد في غير العقيدة(103/27)
مؤلفات أبي عبيد في علوم القرآن
وأما بالنسبة لعلوم القرآن، فإن أبا عبيد -رحمه الله- قد صنف كتابه شواهد القرآن، وعندما روى حديث: (الله أكبر! خربت خيبر؛ إنا إذا نزلنا بساحة قومٍ فساء صباح المنذَرين) قال السيوطي: هذا الحديث أصلٌ في جواز التمثل والاستشهاد بالقرآن والاقتباس، أي: أن يقتبس المرء من القرآن كلمات أو جزءاً من آية فيجعلها في كلامه وتعبيره إذا كان حقاً، وإذا لم يكن على وجه التنقص أو الاستهزاء، فالنبي عليه الصلاة والسلام عبر عن نزوله ليهود خيبر، فقال: (الله أكبر! خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قومٍ فساء صباح المنذَرين)، وقوله: (فساء صباح المنذرين) جزء من آية، يقول السيوطي: وألف قديماً في جواز الاقتباس من القرآن والاستشهاد ببعض الفقرات الإمام أبو عبيد القاسم بن سلَّام كتاباً ذكر فيه جميع ما وقع للصحابة والتابعين من ذلك، أورده بالأسانيد المتصلة إليهم، أي: استشهادات الصحابة في خلال كلامهم بأشياء من القرآن، وأن ذلك ليس بحرام ولا ببدعة ما دام أنه كلام حق ليس فيه تنقص ولا استهزاء أو مزاح في شيء من الدين، فإنه لا بأس أن يستشهد.
وبعض الاستشهادات يكون فيها تكلف، كما ذكر ابن الجوزي -رحمه الله- في صيد الخاطر، قال: إن أبا علي ابن عقيل -رحمه الله- من الفقهاء والعلماء الكبار، لما مات ولده وكان يحبه كثيراً، وكان شاباً قد علمه وتعب عليه، فحزن الأب جداً، وخرج الناس معه وعليهم الحزن، فمشوا معه في الجنازة إلى المقبرة، ولما اجتمعوا حول القبر وأرادوا إنزاله فيه؛ صاح أحد الناس: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} [يوسف:78] قال: فضج الناس بالبكاء، فعلق عليها قائلاً: إن القرآن لم ينزل لإثارة الأحزان، وتجديد الآلام، وإنما نزل لتسكينها، فنَعَى على ذلك الرجل أن يقتبس هذا الاقتباس الذي كان غير مناسب ألبتة، وصحيحٌ أن العزيز من أسماء الله؛ لكن ليس من المناسب أن يقول في هذا الموضع: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} [يوسف:78].
وكذلك ما روى الخطيب في كتابه التطفل، أي: المتطفلون على الولائم الذين يأتون بغير دعوة، روى قصة رجل رأى أحد أصحاب البيوت يدخل بيته بطعام، وأعرض عنه ولم يلتفت إليه ولا دعاه، قال: فتسَّور عليه السطح، وأشرف عليه في حوش بيته في الدار، والرجل حوله بناته قد وضع الطعام، فانتبه له صاحب البيت فصاح به وعنَّفه وقال: اتقِ الله! كيف تطَّلع على حرماتي وبناتي؟! فقال الطفيلي: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:79].
فبعض الاستشهادات في غير موضعها، فمثل هذا الاقتباس والاستشهاد ليس صحيحاً، وإذا كان فيه شيء من الاستهزاء بالدين فهذه أطم وأسوأ وأخبث، لكن إذا كان في كلامِ جِدٍّ كأن يصف رجل حال الأمة، وما وقع فيه من الأهواء، وحال الناظر والمفكر في هذا الحال، فقال: فأينما توجهت تجد هذا الفساد، وهذا الركام: {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21] يعني: ما لنا مخرج ولا مهرب من هذا الذي وضعنا فيه الأعداء.
فقد يستشهد البعض بأشياء من القرآن لا بأس بالاستشهاد بها في مقامِ جِد مناسب، الشاهد الذي وضعه في السياق مناسب، مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنا إذا نزلنا بساحة قومٍ فساء صباح المنذَرين).
أما أن يُستشهد بالقرآن في أي مناسبة فهذا غير صحيح، ويجب أن يجلَّ كلام الله عن هذه المناسبات التافهة، أو الاستخدامات التي يستخدم بها بعض الناس آيات من القرآن، أو أجزاء من القرآن في أشياء من التوافه، أو مقام لعب ولهو، أو كلام باطل مثلاً، وهذا واقع في كلام الناس كثيراً مع الأسف! ألف أبو عبيد -رحمه الله- أيضاً كتاباً في عدد آي القرآن، وعدد آيات المكي والمدني.
وألف رحمه الله كتاباً في غريب القرآن.
وألف كتاباً في فضائل القرآن ومعالمه وآدابه.
وألف كتاباً في القراءات كما تقدم.(103/28)
مؤلفات أبي عبيد في الناسخ والمنسوخ وفي الحديث
ألف أبي عبيد في الناسخ والمنسوخ في القرآن، وهذا الكتاب في ترتيبه لم يسبق إليه، فإنه رتب الكتاب على الأبواب الفقهية، فذكر تحت كل بابٍ الآيات التي تتعلق بموضوعه التي جاء فيها ناسخ ومنسوخ.
فأولاً: بدأ الكتاب بباب فضل العلم، ناسخ القرآن ومنسوخه، باب ذكر الصلاة وما فيها من الناسخ والمنسوخ، الزكاة، الصيام، النكاح، الطلاق، الشهادات، المناسك، الجهاد، الأسارى، المغانم، الاستئذان، المواريث، الوصية، ناسخ الطعام ومنسوخه، الشراب، إلى آخره، فسلك في ترتيب الآيات سبيل الأبواب الفقهية، حتى أصبح كتاباً في أحكام القرآن مرتباً على الأبواب الفقهية، وهذا ابتكار جميل، وسار على نهجه الإمام الطحاوي رحمه الله في كتابه أحكام القرآن.
وكان منهج أبي عبيد في هذا الكتاب أن يعرض الآيات ويبين غريبها، وما قيل في ناسخها ومنسوخها، ثم الأحكام المستنبطة مع ذكر أقوال الفقهاء من الصحابة ومن بعدهم مع أدلتهم، مع المناقشة وذكر الرأي الراجح وبيان وجه رجحانه، هذه طريقته في كتاب ناسخ القرآن ومنسوخه.
أما في الحديث: فله جزءٌ في حديثه الذي رواه هو حديث القاسم بن سلَّام، وله كتابه المشهور جداً، وأبرز كتاب وأشهر كتاب لـ أبي عبيد هو: غريب الحديث، وهذا الكتاب جعله لبيان الألفاظ الغريبة، الصعبة الغامضة، البعيدة عن الفهم التي تحتاج إلى دقة، أو أنها قليلة الاستعمال، والتي جاءت في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وآثار الصحابة والتابعين ومعانيها.
تتبع أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام وآثار الصحابة والتابعين على تفرقها وتعددها، حتى جمع الأشياء الصعبة التي تحتاج إلى شرح وبيان، فساقها بأسانيده، وكان قد جمع معاني هذه الألفاظ من علومه، وما سمعه من أهل العلم؛ مستعيناً بشعر وأمثال العرب، ومأثور كلامهم، فيذكر ذلك في كتابه، ويذكر أيضاً فوائد فقهية مأخوذة من هذا الحديث الذي فيه كلمة غريبة، وما يُستنبط منه من الفقه بشكلٍ مختصر.
رَتب الكتاب على أربعة أقسام: أول قسم: يتضمن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم المرفوعة بسنده المتصل، والتي بلغت (540) حديثاً.
القسم الثاني: أحاديث الصحابة رضوان الله عليهم:- يذكر أحاديث كل صحابي على حده، ويبين الكلمات الصعبة الغريبة في كلام كل صحابي أو رواية كل صحابي.
القسم الثالث: أحاديث التابعين:- يذكر أحاديث كل تابعي على حدة مما يوجد فيه كلام غريب أو كلمة صعبة مع شرحها.
والرابع: أحاديث لا يعرف أصحابها:- فهي آثار بدون عزو لقائل معين، وشرح ما فيها من الألفاظ الغريبة.
هذا الكتاب يقول أبو عبيد فيه: بقيت في تصنيف هذا الكتاب (40) سنة، لأنه لا يأتي بأي حديث، بل يأتي بالحديث الذي فيه كلمة غريبة تحتاج إلى شرح، ويكون بسنده لا بسند غيره، ويكون فيه أيضاً فوائد فقهية، وتشرحه شواهد شعرية ومن أمثال العرب ونحو ذلك، وهذا الكتاب قد صار له مكانة مرموقة جداً، ونسخه الإمام أحمد رحمه الله واستحسنه.
وكان ابن الباجي أحمد بن عبد الله الإشبيلي يحفظه غيباً.
وكذلك عبد الملك بن إبراهيم الهمداني المقدسي، وغيرهم من العلماء يحفظونه غيباً، تأثراً بطريقة هذا الكتاب.
وأبو إسحاق الحربي ألف على نمطه، وغيره من أهل العلم ألَّفوا على نمط أبي عبيد في الغريب، وقامت لهذا الكتاب شروح ومختصرات، وتعليقات، وتعقيبات، فكان محط اهتمام وانتباه من العلماء، ونقل عنه عددٌ من المصنفين في مؤلفاتهم.(103/29)
منهج أبي عبيد في الفقه
أما بالنسبة للفقه:- فإن أبا عبيد -رحمه الله- كان إماماً مجتهداً، غير مقلدٍ ولا متبعٍ لمذهب معين؛ لأنه قد توافرت فيه صفات الاجتهاد؛ فمثلاً الخبرة بحديث النبي عليه الصلاة والسلام موجودة، وعلم الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه الخبرة باللغة معرفة اختلاف العلماء فقه النفس، كله كان متوفراً عنده رحمه الله.
وهو صاحب مناظرات فقهية مع كبار العلماء، وحصلت له مناظرة مع الشافعي، هذه المناظرة تُكتب وتروى في موضوع أدب الخلاف والمناظرة، والإخلاص وطلب الحق.
والقصة: تناظر الشافعي وأبو عبيد في القرء الذي تعتد به المطلقة، فكان الشافعي يقول: إنه الحيض، فثلاثة قروء تعني: ثلاث حيضات، أي أنه إذا طلقها في طهرٍ لم يجامعها فيه فإنها تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم تحيض، فإذا انتهت الحيضة الثالثة خرجت من العدة، وملكت نفسها، وتزوجت مَن أرادت بالمعروف.
وكان أبو عبيد يقول: إن معنى القرء: الطهر، وكان لكل واحد منهما حجج، وأنت إذا فتحت أضواء البيان للشنقيطي في هذه المسألة ترى عجباً، واستدلالات لطيفة من اللغة؛ لأن مما استدل به على أنه الطهر أن الله قال: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] الثلاثة إلى العشرة إذا كان المعدود مذكراً فيكون العدد مؤنثاً، وإذا كان المعدود مؤنثاً يكون العدد مذكراً، فإذا كان حيضة ستكون ثلاثُ حيضات، وإذا كان الطهر فإننا نقول: ثلاثة أطهار، فهي ثلاثة، لكن للقائلين بأن المقصود هو الحيض أن يقولوا: إن العدد هذا جاء على المعدود وهو أن القرء مذكر، والعدد مؤنث بطبيعة الحال على القاعدة.
المهم: كان الشافعي يقول: إنه الحيض، وأبو عبيد يقول: إنه الطهر، فلم يزل كلٌ منهما يقرر قوله، ويحتج لقوله بالأدلة والشواهد حتى تفرقا وقد انتحل كل واحدٍ مذهب صاحبه وانتقل إلى رأيه.
وتأثر بما أورده من الحجج والشواهد، وهذه القصة نموذج على اتباع السلف -رحمهم الله- للحق وطلبه في النقاشات العلمية، ولم يكن هَمُّ الواحد منهم أن يظهر ويعلو، ويغلب وينتصر لنفسه، ولكن يبحث عن الحق، فإذا كان الحق مع الطرف الآخر تبعه، وإذا تبين للطرف الآخر أن كلامه ليس براجح فالحمد لله.
يقول السبكي الشافعي عن القصة: إن صحت هذه الحكاية ففيها دلالة على عظمة أبي عبيد، فلم يبلغنا عن أحدٍ أنه ناظر الشافعي ثم رجع الشافعي إلى مذهبه، وأن الشافعي لأول مرة يرجع إلى مذهب شخصٍِ آخر.
وأما بالنسبة لـ ابن تيمية -رحمه الله- فإنه لما تكلم عن أهل العلم الذين يبحثون الليل والنهار عن العلم بدون تعصب لشخص، ولا ميل لطائفة ولا مذهب، بل يرجحون قول هذا الصحابي تارة، وقول هذا الصحابي تارة، بحسب ما يرونه من أدلة الشرع ذكر من هذا الصنف أبا عبيد.
كذلك الذهبي -رحمه الله- لما تكلم عن الاجتهاد، ومن يصلح له، ومن يصلح أن يقلَّد من الأئمة، فذكر ممن يصلح للتقليد أبا عبيد.
قال ابن حجر رحمه الله: إن البخاري في جميع ما يورده من تفسير الغريب إنما ينقله عن أهل ذلك الفن؛ كـ أبي عبيد، والنضر بن شميل، والفراء وغيره، أما المباحث الفقهية فغالبها مستمدة له من الشافعي، وأبي عبيد، وأمثالهما.
فـ البخاري استفاد من أبي عبيد في غريب الحديث والفقه.(103/30)
مؤلفات أبي عبيد في الفقه واللغة والأنساب وغيرها
وأما بالنسبة للفقه:- فإنه قد ألف فيه مصنفات، وألف أدب القاضي.
ومن أهم مؤلفات أبي عبيد في الفقه: الأموال الشرعية وبيان جهاتها ومصارفها، وهذا الكتاب كتابٌ عظيم ذكر فيه أن مصارف الأموال ثلاثة: - الفيء.
- والخُمُس.
- والصدقة.
وتحت كل واحد من هذه الثلاثة أنواعٌ وأقسام، عرض فيه هذه المصارف الثلاثة، وآراء الصحابة والتابعين وفقهاء زمانه، ودلل لكل رأي وناقشه حتى يتوصل إلى الرأي المختار.
وكذلك فإنه قد جعل في هذا الكتاب فوائد وفرائد مثل: دفع شُبَه وتوهمات، وقد أثنى العلماء على الكتاب، وقال أحمد بن مهدي: "أردت أن أكتب كتاب الأموال لـ أبي عبيد فخرجت لأشتري ماء الذهب -يعني: من نفاسة الكتاب يريد أن يكتبه بماء الذهب- فلقيت أبا عبيد فقلت: يا أبا عبيد! رحمك الله، أريد أن أكتب كتاب الأموال بماء الذهب، قال: اكتبه بالحبر فإنه أبقى، أي: ماء الذهب مع الوقت ينمحي".
وقال ابن حجر: "وعن بعضٍ: كتابه في الأموال من أحسن ما صنف في الفقه وأجوده".
وهذا الكتاب أيضاً تُنُوْوِل بالشرح والاختصار، ومَن جاء بعده، مثل: ابن زنجويه في كتاب الأموال قد أكثر النقل عن أبي عبيد رحمه الله تعالى.
أيضاً له مصنفات أخرى في الفقه: ففقه أبي عبيد -رحمه الله- مما نُثِر في الكتب ونَقَله العلماء، فإذا نقلوا أقوال الشافعي وأحمد وغيرهما، فإنهم ينقلون: وقال أبو عبيد، فهو من أصحاب الأقوال المنقولة.
والآداب:- فـ أبو عبيد -رحمه الله- قد ألف كتاب آداب الإسلام، وألَّف في الخطب والمواعظ أيضاً، وهذا مما يدل على سعة تصنيفه.
في علوم اللغة:- لا شك أن له فيه مؤلفات.
وألف أيضاً في أمثال العرب، فقد ألف كتاب الأمثال السائرة.
وكذلك ألف رحمه الله في النحو.
وفي التاريخ والأنساب، حتى ألف في أنساب الخيل.
وكذلك فإن هناك أقوالاً في فقهه يمكن أن نذكر منها بعض الأمثلة، ما دام الرجل -رحمه الله- لم يتبع مذهباً معيناً كما قلنا، كان مستقلاً باجتهاده، وكان يراجع نفسه في المسائل، ويغير رأيه بناءً على ما يتبين له، وهذا يدل على التجرد، فلا يقول: أنا قلت كلمة ولا أغيرها.
يقول عباس بن محمد الدوري: سمعت أبا عبيد يقول: وسئل عن الفُقَّاع -وهو نوع من الشراب يُتَخَّذ من الشعير- هل هو مسكر محرم أم لا؟ فقال: كان لي فيه قولٌ، أي: كنت أرى -مثلاً- بالمنع، فإذا هو يفسد بعد ساعة أو ساعتين، فعلمتُ أنه ليس به بأس؛ لأن الخمر لا يفسد؛ الخمر يبقى خمراً؛ لكن إذا كان يفسد، فمعناه: أنه ليس بمسكر وليس خمراً، فرأيه في هذا الشراب تحول وانتقل.
ومن اللطائف التي حصلت له في تغيير رأي فقهي قصة: قال: كنت أفتي أن من نام جالساً لا وضوء عليه، حتى خرج إلى جنبي يوم الجمعة رجلٌ فنام فخرجت منه ريح، فقلت: قم فتوضأ، فقال: لَمْ أنَمْ، فقلت: بلى، وقد خرجت منك ريحٌ تنقض الوضوء، فجعل يحلف أنه ما كان ذلك منه، وقال لي: بل منك خروج ذلك فتركتُ ما كنتُ أعتقد في نوم الجالس، وراعيت غلبة النوم ومخالطته للقلب.
أي: أن النوم جالساً يمكن أن ينقض الوضوء، وأن الإنسان إذا غاب عنه الوعي تماماً؛ فإن وضوءه ينتقض حتى لو نام جالساً.(103/31)
من آراء أبي عبيد الفقهية
من آرائه الفقهية: طهارة بول ما يؤكل لحمه من الحيوانات وجواز شربه:- وبهذا قال المالكية والحنابلة ومحمد بن الحسن من الحنفية، وذهب الحنفية والشافعية إلى نجاستها، وقد استدل أولئك بحديث شرب بول الإبل الذي أمر النبي عليه الصلاة والسلام من نزلوا بـ المدينة وأصابتهم الحمى أن يشربوه.
أيضاً من آرائه: أنه يكفي النضح في تطهير بول الصبي الذي لم يطعم:- وهذا قول الشافعية والحنابلة، وذهب الحنفية والمالكية إلى وجوب غسله.
ومن أراء أبي عبيد رحمه الله: جواز الاغتسال ورفع الحدث بماء زمزم:- وهذا قول الأئمة الأربعة.
ومن أقواله رحمه الله تعالى أيضاً: كراهة قراءة القرآن بالألحان:- وأن التغني بالقرآن هو تحزين القراءة بالتخويف والتشويق المؤدي إلى خشية الله تعالى، وليس التطريب.
كذلك من آرائه الفقهية: كراهة قراءة القرآن منكوساً، أي بتغيير ترتيب السور، وأنه ينبغي أن يقرأ على حسب ترتيب المصحف- وأنه رُخِّص للصبي والعجمي للقراءة، من آخر القرآن من المعوذتين وحتى يرتفع إلى البقرة لصعوبة السور الطوال عليهما.
وذهب كذلك -رحمه الله- إلى أنَّ مَن كان له دَينٌ لا يرجوه أنه ليس فيه زكاة، فإذا قبضه زكَّاه مرة واحدة لما مضى من السنين، وهذا قول الشافعية والحنابلة.
وكذلك من أقواله الفقهية: أن حكم اللقطة في مكة ليس كحكمها في سائر البلاد:- فلا يجوز أخذ اللقطة في مكة للتملك، وإنما تؤخذ للحفظ والتعريف والإنشاد، ولا يحل الانتفاع بها ولا تملكها ولو عرَّفها سنة، بخلاف لقطة بقية البلدان والأماكن؛ فإنه إذا عرَّفها سنة فلم يجد صاحبها يأخذها وينتفع بها ويتملكها، وهذا قول الشافعية، وذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنه لا فرق بين الحل والحرم في اللقطة.
وأقواله كما قلنا منتشرة في كتب الفقه، والذي يطَّلع -مثلاً- على كتب الفقه المقارَن كـ المغني والمجموع وغيرهما يجد كلاماً لـ أبي عبيد منقولاً في المسائل الفقهية المختلفة.
ورحل أبو عبيد رحمه الله تعالى إلى ربه -كما قلنا- في سنة: (224هـ)، وقد بلغ من العمر ثلاثاً وسبعين عاماً.
رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه في أعلى عليين مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(103/32)
الإمام الحسن البصري [1، 2]
دعا له عمر، ورضع من ثدي منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجلت به الحكمة والعلوم، حسن الخلقة والخلق، قوي الجسد، فصيح بليغ، صادع بالحق آمر بالمعروف ناه عن المنكر، واعظ مؤثر وعالم متبحر، شجاع مقدام، حسن الثياب والزينة، جيد الطعام واللباس، زاهد عابد، خائف متقشف، أثنى عليه العلماء بالغ الثناء.
مرب حكيم، صاحب أخبار ومناقشات، مهتم بالعربية، حاكٍ لأشياء من التاريخ قاوم الشرك بأنواعه، توفي سنة (110) للهجرة، هذه العناوين وفي المادة التفصيل.(104/1)
الحسن البصري اسمه وكنيته ونشأته
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فالحمد لله الذي قيض لهذه الأمة رجالاً ينيرون لها الطريق، ويحيون السنة، ويميتون البدعة، ويجددون الدين، ويتخلقون بأخلاق الأنبياء، فيكونون قدوة للناس، ومصلحين لأحوالهم، ومعلمين لهم، ومذكرين لهم بربهم.
ولا شك أن التعرف على سير هؤلاء العلماء الأجلاء من الأمور المطلوبة للإنسان المسلم ليقتدي، وتنوُّع القدوات مهمٌّ؛ لأن كل قدوة قد يكون له جانب من التفوق ليس عند الآخر، فإذا حرص الإنسان على تتبع أحوالهم، اجتمع فيه الخير.
وحديثنا في هذه الليلة -إن شاء الله تعالى- عن الإمام العلم الحسن البصري رحمه الله تعالى.
واسمه: الحسن بن يسار، يلقب بـ البصري، ويُدعى تارة: بـ ابن أبي الحسن.
وكنيته رحمه الله: أبو سعيد.
وأبوه اسمه: يسار، كان مولىً لـ زيد بن ثابت في أحد الأقوال.
وأمه: خَيْرَة، كانت مولاة لـ أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها.
يسار تزوج بـ خَيْرَة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فولدت له الحسن لسنتين بقِيَتا من خلافة عمر رحمه الله.
وقال يونس عن الحسن: [قال لي الحجاج: ما أمدك يا حسن؟ قلت: سنتان من خلافة عمر].
وكانت أم سلمة تبعث أم الحسن في الحاجة، فعندما تحتاج أم سلمة إلى شيء تبعث إليه أم الحسن، ويبقى الولد عند أم سلمة رضي الله عنها، فيبكي وهو طفل، فتسكته أم سلمة بثدييها، وتخرجه إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صغير، وكانت أمه منقطعة لخدمة أم سلمة، فكان الصحابة إذا أُخرج إليهم الحسن رضي الله عنهم يدعون له، فقيل: إنه أُخرج لـ عمر رضي الله عنه، فدعا له، وقال: [اللهم فقهه في الدين، وحببه إلى الناس].
قال ابن كثير رحمه الله: وأمُّه خَيْرَة مولاة لـ أم سلمة، كانت تخدمها، وربما أرسلتها في حاجة فتشتغل عن ولدها الحسن وهو رضيع، فتشاغله أم سلمة بثدييها، فيدران عليه.
وهذه مسألة تحصل في الواقع، من أن المرأة الكبيرة حتى لو انقطعت عن الزوج وعن الولادة بسبب الحنان قد يدر لبنها، ولذلك تكلم العلماء في حكم هذا اللبن، واختلفوا هل له حكم أم لا؟ وهل تكون أماً له من الرضاع؟ وهل تثبت به المحرمية؟ وكانوا يرون أن تلك الحكمة والعلوم التي أوتيها الحسن من بركة رضاعته من أم سلمة رضي الله عنها، من الثدي المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونلاحظ كذلك أثر بركة دعاء الصحابة رضي الله عنهم لهذا المولود، وكيف نشأ وصار بعد ذلك.
ولذلك يجب أن يكثر الإنسان من الدعاء لذريته، فقد يكون صلاحهم بدعائه، ودعوة منه قد تكون سبباً لصلاح الولد، ولذلك ندعو لهم ولا ندعو عليهم.
وفي كلام كثير من الصالحين دعاء للذرية: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74].(104/2)
وصف خلقة الحسن البصري
كان الحسن رحمه الله في خلقته رجلاً جميلاً وسيماً، قال محمد بن سعد يصفه: كان الحسن رحمه الله جامعاً، عالماً، رفيعاً، فقيهاً، ثقةً، حجةً، مأموناً، عابداً، ناسكاً، كثيرَ العلم، فصيحاً، جميلاً، وسيماً.
وقال الذهبي: قلت: كان رجلاً تامَّ الشكل، مليحَ الصورة، بهياً، وكان من الشجعان الموصوفين.
وقال أبو عمرو بن العلاء: نشأ الحسن بـ وادي القرى، وكان من أجمل أهل البصرة، حتى سقط عن دابته فحدث بأنفه ما حدث.
وقال الشعبي لرجل يريد قدوم البصرة: إذا نظرت إلى رجل أجمل أهل البصرة، وأهيبهم، فهو الحسن، فأقرئه مني السلام.
وقال الأصمعي عن أبيه: "ما رأيت زنداً أعرض من زند الحسن البصري، كان عرضه شبراً" وهذا يدل على اكتمال خلقته وقوته وجسمه رضي الله عنه ورحمه.(104/3)
شجاعة الحسن البصري وجهاده
كان يرافق بعض المشهورين بالشجاعة، كـ قَطَرِي بن الفجاءة، والمهلب بن أبي صُفْرة؛ ولذلك تعلم الشجاعة وتربى عليها.
قال هشام بن حسان: كان الحسن أشجع أهل زمانه.
وقال جعفر بن سليمان: كان الحسن من أشد الناس، وكان المهلب إذا قاتل المشركين يقَدِّمُه.
فهذه ميزة في الحسن رحمه الله، وهو معروف برقة القلب وبالوعظ، ولو سألت إنساناً وقلت له: ما هو انطباعك عن الحسن؟ فسيقول لك: هو زاهد وواعظ.
وهذا صحيح؛ لكنه قلَّما يُعرف بأن الحسن كان رجلاً شجاعاً مقداماً مقاتلاً، وكان يُقَدَّم في القتال، كان قوي البنية، شديد البأس، وهذا يدل على أن الإنسان الزاهد الواعظ ليس من طبعه الضعف، ولا تلازم بين ضعف البدن والزهد وأن يكون واعظاً، فقد يكون الإنسان واعظاً رقيق القلب، وهو من أشجع الشجعان، ولا تعني الشجاعة وقوة الجسد غلظة القلب بالضرورة أبداً.
كما أن رقة القلب وكثرة البكاء من خشية الله تعالى والوعظ لا تعني أن الواعظ يجب أن يكون ضعيف البدن، لا.
فهذا الحسن رحمه الله قوي البنية، ومع ذلك فهو رقيق القلب للغاية.
وأما من جهة الجهاد، فإنه رحمه الله كان كثير الجهاد ويخرج للقتال، ولذلك لا انفصام بين العالم والمجاهد، لا انفصام بين الوعظ والجهاد، كلها أمور تجتمع في شخصيات السلف رحمهم الله.(104/4)
فصاحة الحسن البصري
أما فصاحته وبلاغته، فإنه رحمه الله تعالى كان فصيحاً بليغاً.
قال حماد بن زيد: سمعت أيوب يقول: كان الحسن يتكلم بكلام كأنه الدر، فتكلم قوم من بعده بكلام يخرج من أفواههم كأنه القيء.
وهذا الفرق بين من يخرج كلامه من القلب بنور الكتاب والسنة، وبين من يخرجه بتكلف كأنه يقيء قيئاً.
وقال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن البصري، ومن الحجاج بن يوسف الثقفي، فقيل له: فأيهما كان أفصح؟ قال: الحسن.
وقال له رجل: أنا أزهد منك وأفصح، قال: أما أفصح فلا -الزهد لا أزكي نفسي به؛ أما الفصاحة فنعم- قال: فخذ عليَّ كلمة واحدة، قال: هذه.
أي: التي أنت قلتها الآن.
وقيل للحجاج: من أخطب الناس؟ قال: صاحب العمامة السوداء بين أخصاص البصرة.
يعني: الحسن رحمه الله تعالى.(104/5)
لباس الحسن البصري وزينته وطعامه
ومن جهة لباسه وزينته وطعامه ربما يظن بعض الناس أن الحسن عندما كان واعظاً، أنه يلبس أسمالاً بالية وثياباً مرقعة؛ ولكن الرجل كان جيد اللباس، ليس عنده تعارض بين الزهد وبين جودة اللباس وجماله، فقال ابن عُلَي عن يونس: كان الحسن يلبس في الشتاء قباءً حِبَرَة، وطيلساناً كردياً، وعمامة سوداء، وفي الصيف إزارَ كتَّانٍ، وقميصاً، وبرداً حِبَرَة.
وقال أيوب: ما وجدتُ ريح مرقة طُبِخَت أطيب مِن ريح قِدر الحسن.
وقال أبو هلال: قلَّما دخلنا على الحسن، إلا وقد رأينا قِدراً يفوح منه ريح طيبة.
وكان يأكل الفاكهة، فلم يكن الحسن صوفياً مثل هؤلاء الصوفية الذين يتعمدون أن يُرى عليهم اللباس البالي والمرقع، ولا يأكلون اللحم ولا الفاكهة، بل كان يعتني بأمر حاله، ويتجمل لإخوانه، كيف وهو يُغْشَى؟! فالواحد إذا كان لوحده ربما يلبس ما شاء، لكن إذا كان يتصدى للناس، ويأتونه ويسألونه، ويقتربون منه، ويجلسون حوله، فلا بد أن يكون طيب الرائحة، حسن الثياب، يتجمل للناس، حتى يحبوه.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في الأعياد والجُمع يتزين.
أرْسِلَت إليه جُبَّة، فعرض عليه عمر رضي الله عنه أن يلبسها ويتزين بها للوفود؛ لأن الناس يهتمون بالمظاهر، ولا يناسب أن يكون العالم مظهره رث، وهيئته بالية، ورائحته غير طيبة، وثيابه غير نظيفة، بل إنه يكون نظيف الثياب، طيب الرائحة؛ لأنه يُغْشَى ويُخْتَلَط به، وهكذا يجب أن يكون الدعاة إلى الله الذين يأتون إلى الناس ويخالطونهم، فيجب أن يكون أحدهم كالشامة بين الناس، لا بأس أن يكون ثوب أحدهم حسناً، ونعله حسنة، ورائحته طيبة، وثيابه مرتبة، لكن الإنكار على مَن أسرف، (كُلْ ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سَرَفٌ، ومخيلة) المشكلة في السَّرَف والخُيَلاء، وإضاعة الأموال في التوافه، ووضع المال في شيء لا يستحق؛ كالمبالغة في الزينة، والزخرفة.
قال قتادة: دخلنا على الحسن وهو نائم، وعند رأسه سَلَّة، فجذبناها؛ فإذا فيها خبز وفاكهة، فجعلنا نأكل، فانتبه -أي: من النوم- فرآنا، فتبسم- ارتاح جداً أن يرى إخوانه يأكلون من طعامه؛ لأنه يؤجر- وهو يقرأ: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور:61] إشارة إلى الآية التي فيها: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور:61] إلى أن قال: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور:61] فإذا علمت أن صديقك يرضى إذا أكلتَ من بيته، ولو كان غير موجود، أو بدون إذن، فلا يحتاج الأمر إلى إذن، لا يشترط إذن الصديق إذا أذن لك في بيته أن تأكل منه، فلو أعطاك مفتاح البيت وأذن لك بدخوله، وأنت تعلم أنه يرضى أن تأكل من طعامه، فلا حرج عليك أن تفتح الثلاجة وتأكل من طعامه مما هو موجود في البيت دون إفساد، وهذا الحسن رحمه الله لما رأى إخوانه يأكلون من فاكهته وهو نائم سره ذلك، وقرأ الآية: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور:61].
وعن جرثومة قال: رأيت الحسن يُصفِّر لحيته في كل جمعة.
وقال أبو هلال رأيت الحسن يغير بالصفرة.
فمن السنة تغيير الشيب بالحناء بالكتم، والصفرة شيء إلى الحمرة، أو اللون البني لا بأس بذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غيِّر الشيب وجنبوه السواد) و (نهى عن الخضاب بالسواد) و (ليأتين أقوام في آخر الزمان يخضبون بالسواد لهم حواصل كحواصل الحمام لا يدخلون الجنة ولا يريحون ريحها) وحوصلة الحمامة: مثلما يكون من هذا الشكل الهلالي، الذي يجعلونه في اللحى من العبث بها، بحيث يكون هيئتها كحوصلة الحمامة، ويصبغونها بالسواد، فيكون سوءاً على سوء.
فهذا الحسن رحمه الله كان يغير الشيب، ونحن نُهينا عن نتف الشيب؛ لأن كل شعرة بيضاء تكون لصاحبها نوراً يوم القيامة إذا شاب في طاعة الله، فإذا ظهر له الشيب فإنه يفرح؛ لأنه يكون له نوراً يوم القيامة إذا شاب في طاعة الله، وهذا من مراعاة النفس؛ لأن النفس تكره الشيب، فلما نهينا عن نتفه رُخِّص لنا بصبغه وتغييره بغير الأسود.(104/6)
الحسن البصري عبادته وخشيته وحسن خلقه
أما بالنسبة لعبادته رحمه الله، وخشيته لله، وتقشفه، فإنه مع كونه جيد الملبس والمطعم، لكنه كان زاهداً، كان يصوم أيام البيض، والإثنين والخميس، وأشهر الحرم.
وحكى ابن شوذب عن مطر قال: "دخلنا على الحسن نعوده فما كان في البيت شيء -لا فراش، ولا بساط، ولا وسادة، ولا حصير- إلا سريراً مرمولاً هو عليه، حَشْوُهُ الرمل" والسرير المرمول: الذي نسج وجهه بالسعف، ولم يكن على السرير وطاء سوى الحصير، فيسمى مرمولاً.
وقال حمزة الأعمى: ذهبت بي أمي إلى الحسن، فقالت: يا أبا سعيد! ابني هذا قد أحببت أن يلزمك، فلعل الله أن ينفعه بك، قال: فكنتُ أختلف إليه، فقال لي يوماً: [يا بني! أدم الحزن على خير الآخرة لعله أن يوصلك إليه، وابكِ في ساعات الليل والنهار في الخلوة لعل مولاك أن يطَّلع عليك فيرحم عبرتك فتكون من الفائزين] هذه الوصية بالبكاء من خشية الله، ودمع العين من هيبة الله تعالى وخوفه، وكنت أدخل على الحسن منزله وهو يبكي -لم يكن يأمر الناس بالشيء وهو لا يفعل، بل كان يقول ويفعل، ويفعل قبل أن يقول- وربما جئت إليه وهو يصلي، فأسمع بكاءه ونحيبه، فقلت له يوماً: إنك كثير البكاء -دائماً تبكي- فقال: [يا بني! ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبكِ، يا بني! إن البكاء داع إلى الرحمة، فإن استطعت أن تكون عمرك باكياً فافعل، لعله تعالى أن يرحمك، فإذا أنت نجوت من النار إذا رحمك ستجد نفسك قد نجوت من النار].
قال إبراهيم اليشكري: "ما رأيت أحداً أطول حزناً من الحسن، ما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة".
كأنه الآن قبل قليل جرت عليه مصيبة.
وقال أحد مَن رآه: "لو رأيتَ الحسن، لقلتَ: قد بُث عليه حزن الخلائق".
أي: جُمِعَتْ عليه.
وقال يزيد بن حوشب: "ما رأيت أحزن من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما، وكانا قليلاً الضحك والمزاح.
لأنه إذا كان كثير البكاء من خشية الله فإن ذلك ولا شك سيؤثر في مزاحه وضحكه، فمن كان كثير البكاء كان قليل الضحك، ومن كان كثير الخشية والهيبة كان قليل المزاح.
ومن حسن خلقه: أنه كان سمحاً في بيعه وشرائه، فكان إذا اشترى شيئاً وكان في ثمنه كسر جبره لصاحبه، كان يشتري بريال إلا ربع فيترك الربع للبائع، أو بريال ونصف فيترك النصف للبائع، وما ذاك إلا من طيب خلقه، لا يدقق ويفتش ويأخذ الكسور، وإذا اشترى السلعة بدرهم ينقص دانقاً -لأن الدرهم يقسم إلى دوانق، والدانق بعض الدرهم- كمَّله درهماً، يقول: خذ الدرهم كاملاً، أو بتسعة ونصف كمله عشرةً مروءةً وكرماً.
والآن بعض الناس يقولون: هناك صناديق للهيئات الخيرية في البقالات، الهيئة الخيرية أولى من صاحب البقالة، وهذا جيد وطيب، يأخذ هذه القروش ويضعها في هذا الصندوق من صناديق التبرعات، وهذا جيد أنه يجود بهذه الكسور لله تعالى.
رأيت مرة منظراً غريباً في أحد البقالات الكبيرة: أجنبي كافر أعطى البائع الريالات وأخذ الفكة ووضعها في الصندوق الخيري، مع أنه كافر! لكن صحيحٌ هو لا ينتفع بها عند الله يوم القيامة؛ لأن الله تعالى لا يجزي الكافر بحسناته يوم القيامة: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] لكن يعطونها في الدنيا، إنما يؤثر فيك أن ترى كافراً يتبرع لصندوق الإغاثة، أو لصندوق الفقراء وهو كافر!! وباع الحسن -رحمه الله- بغلة، فقال المشتري: أما تحط لي شيئاً يا أبا سعيد؟ -اتفقوا على الثمن ورضوا، فقال المشتري: أما تحط لي شيئاً يا أبا سعيد؟ - قال: لك خمسون درهماً، أزيدك؟ -أي: هل تحتاج إلى زيادة؟ - قال: لا.
رضيت، قال: بارك الله لك.
وهذا عين ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في الحديث ودعا: (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى).(104/7)
ثناء العلماء على الحسن البصري
وقد أثنى العلماء -رحمهم الله تعالى- على الحسن بالغ الثناء:- ولما استهل أبو نعيم في الحلية ترجمة الحسن البصري رحمه الله، قال: "ومنهم حليف الخوف والحزن، أليف الهم والشجن، عديم النوم والوسن، أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن، الفقيه الزاهد، المشمر العابد، كان لفضول الدنيا وزينتها نابذاًَ، ولشهوة النفس ونخوتها واقذاً".
والوقيذ أو الوقذ: أن يُضرب الشيء حتى يسترخي ويموت، أو يشرف على الموت، فكان لشهوته كابتاً.
وعن علقمة بن مرثد قال: "انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، فمنهم: الحسن بن أبي الحسن، فما رأينا أحداً من الناس كان أطول حزناً منه، ما كنا نراه إلا أنه حديث عهد بمصيبة".
قال الحسن: [نضحك ولا ندري لعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا، فقال: لا أقبل منكم شيئاً].
كان مشهوراً جداً بالمواعظ، وكانت مواعظه مؤثرة، لأن العبارات رقيقة تخرج من القلب، وعلى رسم الكتاب والسنة، [ويحك يابن آدم! هل لك بمحاربة الله طاقه، إنه من عصى الله فقد حاربه، واللهِ لقد أدركت سبعين بدرياً، أكثرُ لباسهم الصوف -أي: من زهدهم في الدنيا لا يجدون ولا يحرصون على التنعم- ولو رأيتموهم لقلتم: مجانين، ولو رأوا خياركم لقالوا: ما لهؤلاء من خلاق، ولو رأوا شراركم لقالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب، ولقد رأيتُ أقواماً كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب تحت قدميه، ولقد رأيت أقواماً يمسي أحدهم ما يجد عنده إلا قوته، فيقول: لا أجعل هذا كله في بطني، لأجعلن بعضه لله عز وجل، فيتصدق ببعضٍ وإن كان هو أحوج ممن يتصدق به عليه].
يعني: هذا المتصدِّق محتاج أكثر من المتصدَّق عليه؛ لكن يجودون لله تعالى.
وعن خالد بن صفوان، قال: لما لقيت مسلمة بن عبد الملك بـ الحيرة، قال: يا خالد! أخبرني عن حسن أهل البصرة، قلت: أصلح الله الأمير، أخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم مَن قِبَلي به: أشبه الناس سريرةً بعلانية هذا أولاً، السريرة تطابق العلانية؛ لا رياء، ولا نفاق، ولا كذب، ولا تصنع، ولا مجاملات.
- وأشبه قولاً بفعل.
قوله يشبه فعله، لا يأمر الناس بالبر وينسى نفسه، قوله وفعله مستويان متطابقان.
- إن قعد على أمر قام عليه، وإن قام على أمر قعد عليه.
- وإن أمر بأمر كان أعْمَلَ الناس به، وإن نهى عن شيء كان أَتْرَكَ الناس له.
- رأيته مستغنياً عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه.
قال: حسبك يا خالد! كيف يضل قومٌ هذا فيهم؟! فإذاً: الصالحون والعلماء والعباد والزهاد هم سراج وهاج يستضيء بهم الناس، والناس لا يهلكون وفيهم مثل هؤلاء، متى يهلك الناس؟ إذا انطفأت السرج، وإذا لم يوجد أحد ينير كيف يبصر العميان؟ ولذلك فإن وجود الدعاة في المجتمع رحمة لهذا المجتمع من عدة جهات: أولاً: أنهم من أسباب رفع العذاب عنهم: إذا وجد الصالحون والمصلحون في مجتمع فهم من أسباب رفع العذاب عن المجتمع.
ثانياً: بهم يرزقون، وبهم يمطرون.
ثالثاً: هم مصدر العلم، ومنهم يتعلم الجهَّال.
رابعاً: هم مصدر الوعظ الذين يعظون الغافلين.
خامساً: هم مصدر القدوة.
سادساً: تنصلح أحوال الناس بمخالطتهم.
ولذلك كلما كثروا في المجتمع كان دليلاً على صلاح المجتمع وصحته، وإذا قلوا أو انعدموا فهذا دليل على مرض هذا المجتمع أو موته.
ولذلك يجب أن نحرص على تكثير الدعاة في المجتمع، ونفرح إذا رأينا عدد الصالحين في المجتمع يزيد؛ لأن هذا من أسباب سعادة المجتمع، أما إذا رأيت الصالحين ينقرضون ويقلون ويذهبون، ولا يأتي غيرهم، فهذا نذير شؤم وبلاء خطير.
وبعض الناس لا يقدرون قيمة الصالحين في المجتمع، ولذلك ينابذونهم العداء يجهلون قدرهم يذلونهم يسخرون منهم يستهزئون بهم، لا يعطونهم ما يجب لهم من الحق، ولا يقدمونهم في المجالس ويسمعون لكلامهم، فلذلك ترى أمر هؤلاء الصالحين في ضعف؛ لأن الناس لم يعرفوا قيمتهم، ولم يعرفوا قدرهم.
وأما إذا عرف المجتمع قدر الصالحين رأيتهم يُقَدَّمون في المجالس يقدمون في الحديث يُسْمَع لكلامهم يُنْزَل عند رأيهم، ويُبَتُّ حسب مشورتهم وأمرهم، ولذلك قال مسلمة لـ خالد بن صفوان: كيف يضل قوم هذا فيهم؟! وفي سير أعلام النبلاء يقول الذهبي: "كان الحسن سيد أهل زمانه علماً وعملاً".
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: "الإمام الفقيه المشهور، أحد التابعين الكبار الأجلاء علماً وعملاً وإخلاصاً".
وقال العوام بن حوشب: "ما أشبه الحسن إلا بنبي".
وعن أبي قتادة، قال: "الزموا هذا الشيخ -أي: الحسن - فما رأيت أحداً أشبه رأياً بـ عمر منه".
يعني: من رجاحة عقل الحسن شبه رأيه برأي عمر.
ويقال: إن أنس بن مالك، قال: [سلوا الحسن فإنه حَفِظَ ونسينا].
وهو الصحابي! وقال مطر الوراق: "لما ظهر فينا الحسن جاء كأنما كان في الآخرة".
فهو يخبر عما عايَن.
كأنه واحد كان في الآخرة، كان في القبر ورأى البرزخ ورأى الموت والجنة والنار، والبعث والميزان والصراط، فكأنه واحد جاء من الدار الآخرة، فهو يخبر الناس عما رآه هناك.
فهذا يكون من شدة تمثله لما أخبر الله به عن الدار الآخرة، كأنه جاء من الآخرة، وهذا يدل على تأثره.
وقال قتادة: [ما جمعت علم الحسن إلى أحد من العلماء إلا وجدت له فضلاً عليه -يعني: علم الحسن زائد- غير أنه إذا أُشْكِل عليه شيء كَتَبَ فيه إلى سعيد بن المسيب -وسعيد بن المسيب سيد التابعين- وما جالست فقيهاً قط إلا رأيت فضل الحسن].
وقال أبو هلال: [كنت عند قتادة، فجاء الخبر بموت الحسن، فقلت: لقد كان غُمِسَ في العلم غَمْساً، قال قتادة: بل نَبَتَ فيه، وتحقَّبه، وتشرَّبه، والله لا يبغضه إلا حروري].
والحروريون هم: الخوارج، نسبة إلى بلدة حروراء، التي كان أول أمرهم بها، خرجوا منها وفيها، ولذلك لا يبغض الحسن إلا رجل من الخوارج.
وقال: [ما كان أحد أكمل مروءة من الحسن].
فالرجل كان بالإضافة إلى أدبه صاحب مروءة.
وعن حجاج بن أرطأة عن عطاء: قال: [عليك بذاك -أي: الحسن - ذاك إمام ضخم يُقتدى به].
وقال قتادة: كان الحسن من أعلم الناس بالحلال والحرام.
وقال بكر المُزَنِي: "مَن سره أن ينظر إلى أفقه ممن رأينا، فلينظر إلى الحسن ".
كان في حلقة الحسن البصري التي في المسجد حديث، وفقه، وعلم القرآن، واللغة، والوعظ، فبعض الناس صحبه للحديث ليسمع منه المرويات، وبعض الناس صحبه للقرآن ليسمع منه التفسير، وبعض الناس صحبه للبلاغة ليتعلم منه اللغة والفصاحة والبيان، وبعض الناس صحبوه للوعظ ليتعلم منه الإخلاص والعبادة.
وقال أيوب السختياني: "لو رأيت الحسن، لقلت: إنك لم تجالس فقيهاً قط".
لنسيتَ كلام الفقهاء بجانب كلامه.
وقال الأعمش: "ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها".
لأن الكلام الذي فيه حكمة لا يخرج إلا من رجل ارتضعها ووعاها فنطق بها.
وقال رجل لـ يونس بن عبيد: "أتعلم أحداً يعمل بعمل الحسن؟ قال: والله ما أعرف أحداً يقول بقوله، فكيف يعمل بمثل عمله؟! قال: صفه لنا، أنت رأيته هذا فائدة تربوية: الأجيال كانت تسأل عمن فات، فالذي لم ير الحسن يسأل من رأى الحسن، يقول: صفه لنا، كيف هو؟ كيف شكله؟ كيف سَمْته؟ كيف عبادته؟ كيف وعظه؟ هات من كلامه شيئاً، هات من علمه من فقهه ماذا سمعت منه؟ الآن ربما يموت العالم ويخرج رجل من جيل جديد لم يرَ هذا العالم هل يسأل عنه؟ هل تراه يهتم بالجيل الذي مضى؟! يقول لواحد من الذين عاصروا العالم أو عايشوه: صفه لنا، كيف سَمْته؟ كيف كلامه؟ هات لنا مسائل مما سمعته منه، نادراً! وهذه مشكلة؛ أن الأجيال لا تحرص على الارتباط بمن سبق، والسؤال عمن سبق، كان الواحد من السلف إذا ما رأى رجلاً فاضلاً صالحاً عالماً، فاته، مات قبل أن يولد هذا مثلاً، يسأل عنه: صفه لنا مهتم.
قال: كان إذا أقبل -إذا رأيته آتٍ- فكأنه أقبل من دفن حميمه -كأنه الآن دفن أحب الناس إليه، كيف يكون وجه المصاب بالمصيبة؟ هكذا كان وجهه من الخشوع- وكان إذا جلس فكأنه أسير قد أمر بضرب عنقه -لو أتي بالأسير ليضرب عنقه، كيف يكون جلوسه؟ متخشعاً، هكذا كان جلوسه، لم يكن جلوسه جلوس أشر ولا بطر- وكان إذا ذُكِرَت النار عنده، فكأنها لم تخلق إلا له.
بينما بعض الناس الآن لو تليت عليهم الآيات التي فيها ذكر جهنم، يقول: هذه للكفار، الحمد لله نحن مسلمون، ولا نحتاج، ولسنا معنيين بالأمر، مع أن الإنسان ينبغي أن يخاف على نفسه لأنه لا يدري ماذا يختم له، فقد يُختم له والعياذ بالله بخاتمة أهل النار، فإذاً: لا بد أن يخاف على نفسه.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة: [أما بعد: فإنك لن تزال تعنِّي إليَّ رجلاًَ من المسلمين في الحر والبلاد، تسألني عن السنة كأنك إنما تعظمني بذلك، وأيْمُ الله لحسبك بـ(104/8)
جرأة الحسن البصري وصدعه بالحق، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر
أما ما كان عليه من الجرأة والصدع بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فله مواقف، منها:(104/9)
موقف الحسن مع عمر بن هبيرة
جاء عن علقمة بن مرثد أنه قال: لما وَلِي عمر بن هبيرة العراق، أرسل إلى الحسن وإلى الشعبي، فأمر لهما ببيت، وكانا فيه شهراً، ثم إن الخصيَّ -وكان عند الأمراء هذا النوع من الناس- غدا عليهما ذات يوم، فقال لهما: إن الأمير داخل عليكما، فجاء عمر بن هبيرة -الأمير- يتوكأ على عصاً له، فسلم ثم جلس معظماً لهما، فقال: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك يُنْفِذُ كُتُباً، أعرف أن في إنفاذها الهلكة -يعني: يعطيني أوامر في الكتب لو أنفذتها ففي إنفاذها الهلكة- فإن أطعته عصيت الله، وإن عصيته أطعت الله، فهل تريان لي في متابعتي له فرجاً؟ أي: هل أنا مكره؟ فقال الحسن: يا أبا عمرو! -وهو الشعبي، أجب الأمير، فتكلم الشعبي، فانحط في حِيَل ابن هبيرة، -يعني: كأنه يلتمس له أعذاراً وأشياء- فقال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟! قال: أيها الأمير! قد قال الشعبي ما قد سمعتَ.
قال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟ فقال: يا عمر بن هبيرة! يوشك أن يتنزل بك ملك من ملائكة الله تعالى، فظ غليظ، لا يعصي الله ما أمره، فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك.
يا عمر بن هبيرة! إن تتقِ الله يعصمك من يزيد بن عبد الملك، ولا يعصمك يزيد بن عبد الملك من الله عز وجل.
يا عمر بن هبيرة! لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك نظرة مقت، فيغلق بها باب المغفرة دونك.
يا عمر بن هبيرة! لقد أدركتُ أناساً من صدر هذه الأمة كانوا والله على الدنيا وهي مقبلة أشد إدباراً من إقبالكم عليها وهي مدبرة.
يا عمر بن هبيرة! إني أُخوِّفك مقاماً خوَّفَكَهُ الله تعالى، فقال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:14].
يا عمر بن هبيرة! إن تكُ مع الله تعالى في طاعته كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك، وإن تكُ مع يزيد بن عبد الملك على معاصي الله وكََلَكَ الله إليه.
قال: فبكى عمر بن هبيرة، وقام بعبرته.
أي: أن البكاء متواصل -متأثر- وقام من المجلس ولا تزال عبرته فيه.
هذا ما كان من موعظة الحسن لهذا الأمير، وهذا كلام نادر حتى في لفظه، وفي طريقته وأسلوبه.
ولذلك من المهم أن نتعلم الأسلوب، ومثل هؤلاء العظماء ينبغي أن نتشبه بهم في أساليبهم.
وقد رُوِيَت هذه القصة بسياق آخر: أن عمر بن هبيرة الفزاري والي العراق لما دخل في أيام يزيد بن عبد الملك، استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي في سنة [103هـ] وقال: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليه الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون، فيكتب إليَّ بالأمر من أمره، فأقلده ما تقلد من ذلك الأمر، فما ترون؟! -إذا أمرني بشيء فيه معصية مثلاً؟ -.
فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه تَقِيَّة.
فقال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن؟ فقال: يـ ابن هبيرة! خَفِ الله في يزيد، ولا تخَفْ يزيد في الله.
إن الله يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله.
وأُوْشِكَ أن يُبعث إليك ملَك فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلا عملك.
يـ ابن هبيرة! إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصراً لدين الله وعباده، فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
فأجازهم ابن هبيرة، وأضعف جائزة الحسن.
فقال الشعبي لـ ابن سيرين: سَفْسَفْنا له، فسَفْسَفَ لنا.(104/10)
موقف الحسن مع الحجاج
الموقف من الحجاج لا شك أنه موقف صعب جداً؛ لأن الحجاج كان يقتل على أتفه وأدنى سبب، واخترع أساليب في التعذيب، وبدأ بأشياء من الظلم فتح بها أبواباً شنيعة، وكانوا أحياناً يفعلون بالناس أفعالاً لا تخطر بالبال، مثل: السلخ، يأتون بإنسان يسلخونه، يسلخون جلده عن سائر جسده سلخاً، وربما ولَّوا ذلك لبعض الكفرة، كما أن بعض أهل السنة أتى به أحد هؤلاء الظلمة، فوَلَّى سلخه ليهودي، قال لليهودي: اسلخه، فبدأ بسلخه من الرأس، حتى أن اليهودي رحمه، فضربه بالسكين في قلبه فمات، رحمه من إكمال السلخ.
فكان يحصل ظلم عظيم، وخصوصاً ممن يبطش من أمثال الحجاج! بعث الحجاج بن يوسف الظالم إلى الحسن وقد هَمَّ به -نوى له نية سوء- فلما دخل عليه، وقام بين يديه الحسن، قال: يا حجاج! كم بينك وبين آدم من أب؟ قال: كثير.
قال: فأين هم؟ قال: ماتوا.
فنكس الحجاج رأسه وخرج الحسن.
موعظة بكلمات يسيرة جداً، مثل هؤلاء ربما لا يمكن الكلام معهم، فسؤالان لخص بهما المسألة كلها، انتهت المهمة، وهي بهذه البساطة، والرجل إذا كان صاحب عبادة ودين؛ فإن الله سبحانه وتعالى يلقي في قلوب الأعداء رهبته فلا يجرءون عليه.(104/11)
مواعظ الحسن البصري
وله رحمه الله تعالى مواعظ بالغة: منها ما وعظ بها عمر بن عبد العزيز، من باب النصح لذلك الإمام الخليفة العظيم، ووعظه بمواعظ: فمنها -من الأشياء التي نُقِلَت-: [اعلم أن التفكير يدعو إلى الخير والعمل به، والندم على الشر يدعو إلى تركه، وليس ما يفنى وإن كان كثيراً يعدل ما يبقى وإن كان طلبه عزيزاً، فاحذر هذه الدار الصارعة الخادعة الخاتلة، التي قد تزينت بخدعها، وغرت بغرورها، وقتلت أهلها بأملها، وتشوفت لخُطَّابها، فأصبحت كالعروس المجلوة، العيون إليها ناظرة، والنفوس لها عاشقة، والقلوب إليها والهة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فلا الباقي بالماضي معتبر، ولا الآخر بما رأى من الأول مزدجر، ولا اللبيب بكثرة التجارب منتفع، ولا العارف بالله والمصدق حين أخبر عنها مُدَّكر، فأبت القلوب لها إلا حباً، وأبت النفوس بها إلا ظناً، وما هذا منا لها إلا عشقاً، ومن عشق شيئاً لم يعقل غيره، ومات في طلبه أو يظفر به ثم قال له: فاحذرها الحذر كله، فإنها مثل الحية؛ لين مسها، وسمها يقتل، فأعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها].
وأتى له بكلام في ذم الدنيا ووجوب الحذر منها، وعدم الانغماس في نعيمها، وأنها قد عرضت على من هو خيرٌ منا النبي عليه الصلاة والسلام فرفضها، ورفض أن يكون ملِكاً، واكتفى بأن يكون عبداً رسولاً.
وأمره أن يقتدي بالأنبياء ومن مضى من الصالحين.
وكان تذكيره لـ عمر بن عبد العزيز بالدنيا؛ لأن عمر بن عبد العزيز تحته الخزائن وبيت المال، والأموال تجري بين يديه، ولذلك ركز على قضية الدنيا، ومكانتها، وحقيقتها، لأنه يحتاج أشد ما يحتاج إلى مثل هذا الكلام.
وهكذا الإنسان الداعية الحكيم ينصح كل إنسان بحسب حاله.
فأنت إذا وعظت تاجراً يحتاج أن تكلمه في فتنة المال.
وإذا وعظت طالب علم يحتاج أن تكلمه -مثلاً- في مزالق طلب العلم، ومسألة المراءاة وخطورتها، والعمل بالعلم، والحذر من أن يعلِّم الناسَ شيئاًَ ولا يعمل به.
وإذا أردت أن تعظ بائعاً في السوق تحتاج أن تكلمه عن فتنة النساء.
وإذا وعظت شاباً يحتاج أن تكلمه عن الشهوات واتقائها.
وإذا وعظت رجلاً كبيراً حذرتَه من طول الأمل، ووجوب حسن العمل، وأن الإنسان إذا بلغ الستين أعذر الله إليه، وينبغي أن يتفرغ للعبادة.
فيؤخذ من كلام الحسن رحمه الله: أن الإنسان يعظ الشخص بحسب حاله؛ فإذا كان صاحب سلطان ذكره بقدرة الله وقوته، وبطشه، وانتقامه وهكذا، فتكون النصيحة بحسب المنصوح له وبحسب حاله.(104/12)
الفنون التي برع الحسن البصري فيها
كان الإمام الحسن البصري -رحمه الله- إماماً في عددٍ من فنون العلم، وكان إماماً في العلم حقاً.(104/13)
فن التفسير وبعض آرائه
من الفنون التي برز فيها رحمه الله: فن التفسير، ولذلك نقل عنه المفسرون في تفاسيرهم كثيراً من الأقوال في آيات عديدة من كتاب الله تعالى.
1/ فمما ذكره -رحمه الله- في قوله عز وجل: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة:124] [إي والله! ابتلاه بأمر فصبر عليه؛ ابتلاه بالكوكب، والشمس، والقمر، فأحسن في ذلك، وعرف أن ربه دائمٌ لا يزول، فوجَّه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما كان من المشركين، ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بـ الشام مهاجراً إلى الله، ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة، فصبر على ذلك، فابتلاه الله بذبح ابنه وبالختان فصبر على ذلك].
وذكر المفسرون -رحمهم الله- أيضاً: أن مما ابتلاه الله سبحانه وتعالى به: سنن الفطرة؛ خمس في الرأس، وخمس في الجسد (فأتمهن).
2 - ومما ذكره رحمه الله في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران:152] في سورة آل عمران، في قصة غزوة أحد، قال وقد ضرب بيديه: وكيف عفا عنهم وقد قُتِل منهم سبعون، وقُتِل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكُسِرت رباعيته، وشُجَّ وجهه؟ ثم يقول: قال الله عز وجل: قد عفوتُ عنكم إذ عصيتموني، ألا أكون استأصلتكم -فبيَّن أن عفو الله تعالى عنهم، أنه لم يستأصلهم، مع عظم المصائب التي نزلت بهم- ثم يقول: هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، غضابٌ لله، يقاتلون أعداء الله، نُهُوا عن شيء فصنعوه، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم- وهو قتل سبعين منهم، وما حصل للنبي عليه الصلاة والسلام من الجراحات- وما أشيع من قتله، قال الحسن رحمه الله: فأفسق الفاسقين اليوم يتجرأ على كل كبيرة، ويركب كل داهية، ويسحب عليها ثيابه، ويزعم ألا بأس عليه، فسوف يعلم!! ومعنى قوله: إن هؤلاء الصحابة أكرم خلق الله، وصحبوا نبي الله، خرجوا للجهاد في سبيل الله، قاتلوا أعداء الله؛ لأن بعضهم ارتكب عصياناً، لما ترك الرماة الجبل ونزلوا؛ ابتلاهم الله بهذا الشيء، وهذا الغم العظيم في قتل سبعين منهم، واليوم أفسق الفاسقين يتجرأ على كل كبيرة، ويظن أنه لا بأس عليه، فكأنه يقول: خافوا الله! هؤلاء الصحابة على عِظَمِهِم هكذا ابتلاهم الله أو غمهم بهذا الغم، فكيف بالفسقة! 3 - وكذلك مما نُقِل عنه -رحمه الله تعالى- في التفسير، في ذكر آيات من كتاب الله عز وجل أشياء كثيرة جداً أوردها المفسرون، حتى أنه لا تخلو سورة من سور القرآن في التفسير إلا وتجد للحسن رحمه الله تعالى فيها قولاً أو أقوالاً، وهذا يدل على ضلوعه رحمه الله في التفسير، وكان ينتهز الفرصة ليذكر من خلال تفسيره بعض الآيات بعض العظات التي يرسلها.(104/14)
فن الحديث عند الحسن البصري
أما بالنسبة للحديث، فإن الحسن البصري رحمه الله ولاشك كان قد نشأ في الفترة التي كان النقل فيها من غير كتابة وتدوين، وهي مرحلة الحفظ في الصدور، لأنه توفي في سنة [110هـ]، وهذا الوقت الذي بدأ فيه التدوين، ولذلك ليس للحسن كتاب صنفه في الحديث، لأن عصر التدوين لم يكن قد بدأ بعد.
ولكن الحسن رحمه الله تعالى له مرويات كثيرة جداً، وبعضُ الأسانيدِ التي فيها ذِكْرُ الحسنِ متصلٌ، وبعضُها مرسلٌ، والحديث المرسل كما نعلم: ما أضافه التابعي إلى النبي عليه الصلاة والسلام دون ذكر الصحابي، ولاشك أن المرسل عند العلماء من أقسام الحديث الضعيف، ما عدا استثناءات يسيرة ذُكِرت في كتبهم.
فلو قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإننا نعلم أن هذا حديث مرسل، وأنه حديث ضعيف، لكنه لو ذكره بالإسناد المتصل بذكر الصحابي الذي حدثه، أو التابعي عن الصحابي الذي حدثه فيكون الحديث عندئذٍ متصلاً صحيحاً، ما دام أن الحسن رحمه الله قد صرح بالتحديث.
وقد سمع الحسن رحمه الله من بعض الصحابة، مثل: أنس وسمرة رضي الله عنهما، وهناك قاعدة في المراسيل، يقول الإمام أحمد رحمه الله: "مرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها، وليس في المرسلات شيء أَضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح، فإنهما يأخذان عن كل أحد".
والمقصود أنه إذا قال: قال رسول الله، فلا نستطيع بطبيعة الحال أن نحكم بصحته، بل إنه نوع من الحديث الضعيف، حيث أنه منقطع فيما بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك الحسن روى عن أبي هريرة ولم يسمع منه، وكان قد جاء هذا إلى الحجاز وهذا خرج إلى العراق فلم يتقابلا، والتمس العلماء للحسن في قوله: أخبرنا أبو هريرة، التمسوا له أنه يقصد أن أبا هريرة حدث أهلَ البصرة وهو منهم، ولكن لم يكن معهم عندما حدثهم أبو هريرة.
وبعض المصطلحات: (حدَّثنا) و (أخبرنا) و (عن) ونحو ذلك لم تستقر من جهة معنىً مخصوص أو استعمال مخصوص إلا بعد الحسن رحمه الله تعالى.(104/15)
فن الفقه وبعض آراء الحسن الفقهية
كان الحسن البصري فقيهٌ، -ولا شك- له باع عظيم في الفقه، ونُقِلَت عنه آراؤه، فكلُّ مَن صنف في الفقه لا بد أن يذكر من أقوال الحسن شيئاً، ولم يصل إلينا فقهه مجموعاً كما نقل مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، ولكنه نُقِل منثوراً في بطون كتب الحديث والفقه، لكن الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء ذكر عن الحميدي أن القاضي محمد بن مفرج ألف كتاب فقه الحسن البصري في سبعة مجلدات، جمع فقهه فيها رحمه الله تعالى.
ولا بأس من ذكر بعض المسائل التي تعرِّف ببعض آراء الحسن رحمه الله: فمثلاً: 1/ ذهب رحمه الله إلى أنه لا يجب الترتيب في أعضاء الوضوء، مع أن المذهب الراجح في هذا وجوب الترتيب.
2/ يرى رحمه الله أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء بحال، وهذا هو الراجح إن شاء الله، ما لم يخرج منه شيء، فمجرد لمس المرأة لا ينقض الوضوء.
3/ كان يرى وجوب نقض المرأة شعرها عند الغسل من الحيض، وهو قول الحنابلة.
4/ كان -رحمه الله- يرى أن المتيمم يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل، ويمس المصحف، ويقرأ القرآن، ما دام أنه لم ينقض هذه الطهارة التي عملها بالتيمم، فما دام أنه لم يحدث فإن تيممه باقٍ صحيح يصلي فيه ما شاء من الفرائض والنوافل، ويمس المصحف، ويطوف بالبيت حتى يُحْدِث، ولا يلزمه التيمم لكل صلاة كما قال به بعض أهل العلم.
5/ ذهب إلى أنه يجوز التيمم للصلاة على الجنازة لمن خاف فواتها، فإذا خاف فوات الجنازة ورفعها وذهابها وهو على غير طهارة بالماء جاز له أن يتيمم حتى مع وجود الماء.
6/ ذهب إلى أنه يُرَش من بول الغلام ويُغْسل من بول الجارية، وهذا مقتضى الحديث الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
7/ كان يرى أن للرجل السفر قبل دخول وقت الجمعة، فما دام وقت الجمعة لم يدخل بعد فيجوز لك أن تسافر من البلد حتى لو كان اليوم يوم جمعة، وأن الجمعة لا تمنع من السفر كما قال عمر رضي الله عنه.
وذهب إلى كراهة دفن الميت ليلاً، واحتج بالحديث الصحيح الوارد في هذا، وهذا الحديث قد ذكره الإمام مسلم رحمه الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك).
9/ جواز إخراج القيمة في زكاة الفطر، والراجح في هذه المسألة: وجوب إخراج زكاة الفطر من الطعام، وعدم جواز إخراجها بالقيمة.
10/ ذهب إلى أن المرضع إذا أفطرت في رمضان خوفاً على ولدها، والحامل إذا أفطرت خوفاً على جنينها فليس عليهما كفارة بل عليهما القضاء فقط، وهذا مذهب جماعة من أهل العلم؛ من أن المرضع والحامل ليس عليهما إلا القضاء، أما الكفارة فليس عليهما كفارة ما دامتا قد أفطرتا لهذا العذر فهما أشبه بالمريض.
11) عدم جواز بيع العُربون، والراجح: جواز بيع العُربون، وهو: أن يدفع إلى البائع جزءاً من الثمن إذا اشترى، ويُحْتَسَب من الثمن، وإذا ألغى البيع وغيَّر ما عَقَدَه فإن العربون يذهب عليه، والحديث الوارد في النهي عن بيع العُربون حديث ضعيف، فلذلك المسألة باقية على الأصل في جواز هذا البيع.
12/ وذهب الحسن رحمه الله إلى جواز مشاركة المسلم لليهودي والنصراني، والمعنى جواز أن يدخل معهم في شركة أو في تجارة بشرط: ألا يخلو اليهودي أو النصراني بالمال دونه -أي: دون المسلم- ويكون المسلم هو الذي يلي المال؛ خشية العمل بالربا، لأنه لو تركت إدارة الشركة أو التجارة لليهودي أو النصراني يمكن أن يعمل بالحرام وأن يأخذ الربا، أما إذا كانت الإدارة للمسلم أو له الإشراف عليها فإنه لا بأس أن يشارك الكافر في التجارة.
وهناك مسألة: إذا قال خذ المال مضاربةً ولم يسمِّ للعامل شيئاً من الربح فما نصيب العامل؟ واحد أعطى شخصاً مالاً، قال: اتَّجِر به، هذه شركة مضاربة: المال من شخص والجهد والعمل من شخص آخر، ولم يحدد له نسبة، فذهب رحمه الله إلى أن الربح بينهما مناصفة إذا لم يحدد نسبة وحصلت التجارة وحصلت أرباح فالربح بينهما مناصفة.
13/ ذهب رحمه الله إلى جواز تأجير المستأجر للعين بأكثر مما استأجر به، فإذا استأجر شيئاً جاز أن يؤجره، وذكر أهل العلم أنه يجوز أن يؤجره ما دامت مدة الإجارة سارية المفعول، وما دام أنه قد ملك المنفعة فيجوز أن يعطيها لغيره ويؤجرها أيضاً، لكن بشرط ألا يكون استعمال الثاني أكثر من الأول، فلو كان -مثلاً- عنده خمسة أولاد، فلا يجوز أن يؤجر البيت الذي استأجره على إنسان له عشرة، أو استأجره سكنى فلا يجوز له أن يؤجره على عمال أو على ورشة بحيث يستعملون الشيء المستأجَر أكثر مما كان سيستعمله لو كان سكن فيه.
هذا الشرط عند بعض أهل العلم في جواز تأجير الشيء المستأجر.
14/ كان يرى بأن الخُلْع يُعَدُّ طلقة، وذهب عدد من أهل العلم إلى أنه يعتبر فسخاً ولا يعتبر طلاقاً.
15/ ذهب رحمه الله إلى وقوع طلاق السكران، وأن السكران يتحمل الطلاق، وهذا رأي جمهور أهل العلم، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وكذا ابن القيم وغيرهما إلى أن طلاق السكران لا يقع، ويوجد طرف بريء في الموضوع ألا وهي الزوجة، وهو لا يدري عن تصرفاته، والمسألة فيها كلام طويل، وهذا رأيه رحمه الله.
16/ ثم رأى أيضاً في مسألة صيام شهرين متتابعين أنه إذا كان على الإنسان كفارة الظهار -مثلاًَ- فإن السفر المبيح للفطر لا يقطع التتابع، فلو شرع في صيام شهرين ثم سافر سفراً طبيعياً لم يقصد منه تحايلاً -سافر سفراً مشروعاً- فإنه يفطر في هذا السفر، وإفطاره لا يقطع التتابع.
17/ أفتى رحمه الله بأن الزوج إذا أعسر بالنفقة كان للزوجة الخيار في أن تصبر عليه أو تطلب من الحاكم التفريق بينها وبين زوجها.
18/ ذهب إلى أنه لا فرق بين الرجال والنساء في وجوب القتل بالردة، فإذا ارتدت المرأة تقتل مثلما يقتل الرجل.
وأن الاستتابة مستحبة وليست بواجبة.
19/ وفي باب الأطعمة: ذهب رحمه الله إلى تحريم أكل لحم القرد وتحريم بيعه، قال ابن عبد البر: لا أعلم بين علماء المسلمين خلافاً أن القرد لا يؤكل ولا يجوز بيعه.
وهو مسخ، فيكون من الخبائث المحرمة، وبعض العلماء ذهبوا إلى جواز بيع القرد، قالوا: لأنه يُنْتَفَع منه فيُمْسِك الشمعة ويحفظ الأمتعة، ولأنه يقبل التعليم، أي أنه يمكن تدريبه على حراسة وحفظ الأمتعة.
20/ وفي العقيقة: ذهب الحسن رحمه الله إلى وجوبها، وهو الذي روى حديث العقيقة عن سمرة رضي الله عنه، وذهب جمهور أهل العلم إلى استحباب العقيقة وعدم وجوبها.
21/ ذهب الحسن رحمه الله إلى عدم وجوب الكفارة في اليمين الغموس إذا حلف يميناً كاذبةً غموساً، وسميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في النار، فإنه ليس عليه كفارة لأنها أعظم من أن تكفر، وليس لها إلا التوبة، وذهب بعض أهل العلم كـ الشافعي رحمه الله إلى أنه تجري الكفارة حتى في اليمين الغموس إذا حلف كاذباً.
22/ رأى جواز إخراج الكفارة قبل الحلف باليمين، يعني: إذا أراد أن يحنث في يمينه، حلف على شيء وأراد أن يخالفه فإنه يجوز له أن يكفر قبل أن يحنث، وفعله صحيح.
23/ كان يرى أن المريض الذي عنده الماء ولا يجد من يناوله الماء أنه يتيمم.
24/ ومن فتاويه أيضاً في صلاة الجماعة: قوله: [إن منعته أمه عن العشاء في الجماعة شفقة عليه فلا يُطِعْها]، فإذا منعته أمه من الذهاب إلى المسجد لصلاة العشاء في جماعة شفقة عليه لم يُطِعْها.
25/ وقال الحسن فيمن مات وعليه صوم: [إن صام عنه ثلاثون رجلاً يوماً واحداً جاز]، كل واحد من الثلاثين رجلاً يصوم يوماً واحداً عن شخص عليه قضاء من رمضان ومات ولم يقضه، أنه يجوز ذلك.
26/ وأيضاً من فتاويه، قال: [من تكفَّل عن ميتٍ دَيناً فليس له أن يرجع]، فإذا مات شخص وعليه دين، فقال رجل من الناس الأحياء: أنا عليَّ دينه، أو أنا أتكفل بدينه؛ فليس له أن يتراجع بعد ذلك ويُلْزَم بوفاء الدَّين.(104/16)
درر من كلام الحسن البصري
اشتهر الحسن رحمه الله بالحكم والمواعظ.
والمجتمع في ذلك الوقت بدأت تنتشر فيه الحياة المادية؛ بدأ ينتشر فيه الترف، وينتشر فيه الاستغراق في الملذات والشهوات، ثم كثرت الفتوحات، وجاءت الأموال، وكثير من الناس انشغل بهذه الأموال التي جاءت من الفتوحات، وصاروا يعمِّرون العمائر، ويزرعون، ويشتغلون بالإماء والنساء ونحو ذلك، فبدأ دخول الترف في المجتمع الإسلامي؛ فكان لا بد من قيام من يغسل القلوب، ويقوم بالوعظ، ويذكر الناس حتى لا ينشغلوا بهذه الملذات عن العمل للآخرة.
فكانت كلمات الحسن البصري رحمه الله غاية في التأثير، وتقدمت طائفة من مواعظه، ونضيف إليها طائفة أخرى: 1/ كان يقول رحمه الله: [بئس الرفيقان: الدينار، والدرهم؛ لا ينفعانك حين يفارقانك] فالصديق وقت الضيق، وهذان الرفيقان؛ الدينار والدرهم بئس الرفيقان هما لا ينفعانك حين يفارقانك، وكذلك إذا فارق مالَه لم ينفعه، ولكن الذي تصدق به يبقى له نفعه.
2/ وقال الحسن: [يحق لمن يعلم أن الموت موردُه، وأن الساعة موعدُه، وأن القيام بين يدي الله مشهدُه أن يطول حزنه].
3/ وقال رحمه الله تعالى: [يابن آدم! عملك عملك، فإنما هو لحمُك ودمُك، فانظر على أي شيء تلقى عملَك، إن لأهل التقوى علامات يُعرَفون بها: صدق الحديث، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، ورحمة الضعفاء، وقلة الفخر والخيلاء، وبذل المعروف، وقلة المباهاة للناس، وحسن الخلق، وسعة الخَلْق مما يقرب إلى الله عز وجل].
4/ وقال رحمه الله: [يابن آدم! دينك دينك فإنما هو لحمُك ودمُك، إن يسْلَم لك دينُك يسْلَم لك لحمُك ودمُك، وإن تكن الأخرى فنعوذ بالله، فإنها نار لا تطوى، وجرح لا يبرأ، وعذاب لا ينفد أبداً، ونفس لا تموت].
5/ وقال هشام: سمعت الحسن يقول: [والله لقد أدركتُ أقواماً ما طُوِي لأحدهم في بيته ثوب قط، ولا أَمَر في أهله بصنعة طعام قط، وما جعل بينه وبين الأرض شيئاً قط، وإن كان أحدهم ليقول: لوددت أني أكلت أكلة في جوفي مثل الآجُرَّة].
6/ ويقول: [بلغنا أن الآجُرَّة تبقى في الماء ثلاثمائة سنة، ولقد أدركتُ أقواماً إن كان أحدهم ليرث المال العظيم وإنه لمجهود -شديد الجهد- فيقول لأخيه: يا أخي! إني قد علمت أنَّا ذو ميراث -وهو حلال- ولكن أخاف أن يفْسِد عليَّ قلبي وعملي فهو لك لا حاجة لي فيه، فلا يرزأ منه شيئاً أبداً، وإنه مجهود] شديد الجهد شديد الجوع شديد الحاجة يرث مالاً عظيماً ويعطيه لغيره! 7/ وقال أيضاً: [يابن آدم! جمعاً جمعاً في وعاء، وشداً شداً في وكاء، رَكوب الذلول، ولَبوس اللين، ثم قيل مات فأفضى والله إلى الآخرة!! إن المؤمن عَمِل لله أياماً يسيرة فوالله ما ندم أن يكون أصاب من نعيمها ورخائها، ولكن راقت الدنيا له فاستهانها وهضمها لآخرته].
8/ وقال رحمه الله تعالى: [إن أفسق الفاسقين الذي يركب كل كبيرة، ويسحب عليها ثيابه، ويقول: ليس علي بأس، سيعلم أن الله تعالى ربما عجل العقوبة في الدنيا وربما أخرها ليوم الحساب].
9/ وقال الحسن: [رحم الله رجلاً لَبِس خَلِقاً، وأكل كسرة، ولصق بالأرض، وبكى على الخطيئة، ودأب في العبادة].
10/ وقال: [يابن آدم! السِّكِّين تُحَدُّ، والكبش يعتلف، والتَّنُّور يُسْجَر].
هذا في الدنيا، إذا أراد الإنسان أن يشوي خروفاً، فإنه يسَنُّ السِّكِّين، ويعلف الكبش حتى يسمن، ويسجر التَّنُّور ليُنْضِج اللحم؛ ولكنه أيضاً يصلح مثالاً وتذكيراً للعبد في الدنيا: السِّكِّين تُحَدُّ: يعني: الموت قادم.
والكبش يعتلف: الإنسان يأكل ويرتع في شهواته.
والتَّنُّور يُسْجَر: يعني: جهنم.
11/ وقال مرة لشاب مر به وعليه بردة: [إِيْهٍ يابن آدم! مُعْجَبٌ بشبابه مُعْجَبٌ بجماله مُعْجَبٌ بثيابه، كأن القبر قد وارى بدنك، وكأنك لاقيت عملك، فداوِ قلبك؛ فإن حاجة الله إلى عباده صلاح قلوبهم].
12/ وسمع الحسن رجلاً يشكو إلى آخر، فقال: [أما إنك تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك]، كأنه يشتكي القضاء أو يشتكي القدر، فيقول له: أنت تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك! تشتكي القَدَر إلى المخلوق! 13/ ووصف السلف ممن سبقه، فقال: [أدركتُ من صدر هذه الأمة قوماً كانوا إذا أجَنَّهم الليل فقيامٌ على أطرافهم، يفترشون وجوههم، تجري دموعهم على خدودهم، يناجون مولاهم في فكاك رقابهم، إذا عملوا الحسنة سرَّتهم، وسألوا الله أن يقبلها منهم، وإذا عملوا سيئة ساءتهم، وسألوا الله أن يغفرها لهم].
14/ وكان يقول: [رحم الله امرءاً خلا بكتاب الله فعرض عليه نفسه -عرض نفسه على القرآن- وقارَن، فإن وافقه حَمِد ربه وسأله الزيادة من فضله، وإن خالفه اعتقب وأناب ورجع من قريب، رحم الله رجلاً وعظ أخاه وأهله، فقال: يا أهلي! صلاتكم صلاتكم! زكاتكم زكاتكم! جيرانكم جيرانكم! إخوانكم إخوانكم! مساكنكم مساكنكم! لعل الله يرحمكم؛ فإن الله تبارك وتعالى أثنى على عبدٍ من عباده، فقال: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:55].
يابن آدم! كيف تكون مسلماً ولم يسلم منك جارك؟! وكيف تكون مؤمناً ولم يأمنك الناس؟!].
15/ وقال الحسن رحمه الله حاكياً إخلاص السلف /: كان الرجل يتعبد عشرين سنة لا يشعر به جاره، وأحدهم يصلي ليلة أو بعض ليلة فيصبح وقد استطال على جاره، يعقد مقارنة ويقول: من مضى كان الواحد منهم يصلي ويعبد الله عشرين سنة وجاره لا يحس أنه قام ليلة أو أنه كان يتعبد، واليوم الواحد منا يصلي ليلة أو بعض ليلة وتراه وقد استطال على جاره، وإن كان القوم ليجتمعون فيتذاكرون -مجموعة يجلسون يذكرون الله تعالى ويقرءون كتاب الله- فتجيء الرجلَ عبرتُه -الدمع يسبقه- فيردها ما استطاع -أي: حتى لا يظهر أمام الناس أنه خاشع ومتأثر- فإن غُلب قام عنهم، حتى لا يكون مظهراً للتأثر أمامهم.
16/ وعاد الحسن رحمه الله عليلاً قد شفي من علته، فأراد أن يعظه، فقال: [أيها الرجل! إن الله قد ذكرك فاذكره، وقد أقالك فاشكره، ثم قال: إنما المرض ضربة سوط من ملَك كريم، فإما أن يكون العليل بعد المرض فرساً جواداً، وإما أن يكون حماراً عثوراً عقوراً] فالمرض هذا كضربة سوط على الدابة، فإما أن تنفع في الدبة فتجعلها تجري وتعدو، وإما ألا تكون الدابة مِمَّا ينتفع بالضرب فتكون عثورة عقورة؛ ولذلك شبَّهه بهذا، والعبد إذا أصابه المرض إما أنه يتعظ ويجعل سيره إلى الله حثيثاً بعد المرض، يحمد الله أن شفاه منه، وإلا فإن المرض لن ينفعه ولن يزيده إلا غفلة.
17/ وقال: [المؤمن في الدنيا كالغريب، لا ينافس غيره فيها ولا يجزع من ذلها، للناس حال وله حال، الناس منه في راحة ونفسه منه في شغل].
وقال أيضاً في الإنفاق في سبيل الله: [من أيقن بالخُلْف جاد بالعطية] إذا أيقنت أن كلَّ ما ستنفقه فإنه معوَّضٌ ومخلوف عليك به فإنك ستجود، [من أيقن بالخُلْف جاد بالعطية].
19/ وقال الحسن للمغيرة التميمي: [إن مَن خوَّفك حتى تلقى الأمن خيرٌ لك مِِمَّن أمَّنك حتى تلقى الخوف] فإذا جاء واحد وخوفك بالله وباليوم الآخر فلا تتضايق منه، هذا الذي يخوفك الآن في الدنيا حتى تلقى الأمن يوم القيامة أفضل من الذي يأتي ويعطيك من أنواع الأمل والفسحة، ويحدثك عن أشياء تأمنك حتى تلقى خوفاً، صحيحٌ أنك في الدنيا تسر به وبكلامه والجلوس إليه، ولكن ما الخير إذا كنت في الآخرة ستلقى الخوف؟! 20/ وقال: [كان فيمَن كان قبلكم أرق منكم قلوباً، وأصفق ثياباً -ثيابهم أسمك، ليس عندهم ثياب ناعمة، ثياب سميكة، ولكن قلوب رقيقة- وأنتم أرق ثياباً وأصفق منهم قلوباً]، وأنتم -يقول لجيله ومن معه- بالعكس: ثيابكم رقيقة لينة؛ ولكن القلوب صفيقة.
21/ وقال الحسن أيضاً وهو من كلامه في الأدب: في الطعام اثنتا عشرة خصلة: أربع فريضة، وأربع سنة، وأربع أدب: أما الفريضة (الواجبة): 1 - التسمية.
2 - استطابة الأكل، فلا بد أن يكون الطعام حلالاً.
3 - الرضا بالموجود.
4 - الشكر على النعمة.
وأما السنة: 1 - الجلوس على الرجل اليمنى.
2 - الأكل من بين يدي الآكل.
أي: يأكل مما يليه ولا يتعدى إلى ما يلي غيره.
3 - تناول الطعام بثلاثة أصابع باليد اليمنى.
هذا إذا كان مِمَّا يؤكل كالثريد، أما المرق فيشرب شرباً.
4 - لعق الأصابع.
وأما الأدب: 1 - غسل اليد قبل الطعام وبعده.
2 - تصغير اللقم.
3 - إجادة المضغ.
4 - صرف البصر عن وجوه الآكلين؛ فليس من الأدب أن ينظر إلى وجوه الآكلين وهم يأكلون أثناء الطعام.(104/17)
من أخبار الحسن البصري ومناقشاته
الحسن البصري رحمه الله له أخبار ومناقشات ولقاءات حصلت مع بعض الناس، ومواعظ وجهها إلى بعض الأشخاص، منهم الخلفاء، كما فعل مع عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وكان بعض الناس يأتيه ليعظه مما اشتُهر عنه من الوعظ، فكان الواحد إذا أحس غفلة أو قسوة أو أراد أن يزيد إيمانه جاء إلى الحسن.
يقول عمرو بن ميمون بن مهران: خرجت بأبي أقوده في بعض سكك البصرة، فمررت بجدول فلم يستطع الشيخ أن يتخطاه، فاضطجعت له فمر على ظهري، ثم قمت فأخذت بيده، ثم اندفعنا إلى منزل الحسن فطرقت الباب، فخرجت إلينا جارية، فقالت: من هذا؟ قلت: هذا ميمون بن مهران أراد لقاء الحسن، فسمع الحسن فخرج إليه فاعتنقه ثم دخلا، فقال ميمون: يا أبا سعيد! قد أنست من قلبي غلظة فاستَلِّنَّ لي منه.
أي: ليِّن لي قلبي.
فقرأ الحسن: بسم الله الرحمن الرحيم، {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:105 - 207].
قال: فسقط الشيخ فرأيته يفحص برجله كما تفحص الشاة المذبوحة، فأقام طويلاً ثم أفاق، فجاءت الجارية، فقالت: قد أتعبتم الشيخ، قوموا تفرقوا.
فأخذت بيد أبي فخرجت به، ثم قلت: يا أبتاه! هذا الحسن! قد كنت أحسب أنه أكبر من هذا! قال: فوكزني في صدري وكزة، ثم قال: يا بني! لقد قرأ علينا آية لو فهمتَها بقلبك لبقي لها فيك كُلُوم، والكلم هو: الجرح، لبقي فيه جروح من تأثير هذه الآية.
وكان يعرف الظَّلَمَة من غيرهم وبالذات الحجاج، وتقدم موعظته للحجاج وموقفه منه.
ومن القصص التي حدثت في هذا: أن رجلاً أتى الحسن فقال: يا أبا سعيد! إن حلفت بالطلاق أن الحجاج في النار، فما تقول؟ أقيم مع امرأتي أم أعزلها؟ حلف بالطلاق أن الحجاج في النار، فإذا كان الحجاج في النار يبقى مع زوجته، وإذا لم يكن في النار فيجب أن يفارقها، ولكن مصير الناس لا يعلم بعد الموت، وأهل التوحيد يدخلون تحت المشيئة، وإذا كان كافراً فهو في النار بلا شك.
فقال له الحسن: قد كان الحجاج فاجراً فاسقاً، وما أدري ما أقول لك، إن رحمة الله وسعت كل شيء.
وإن الرجل أتى محمد بن سيرين فأخبره بما حلف، فرد عليه شبيهاً بما قاله الحسن.
وإنه أتى عمرو بن عبيد، فقال له: أقم مع زوجتك، فإن الله تعالى إن غفر للحجاج لم يضرك الزنا.
وبطبيعة الحال فإن عقد الزواج إذا كان صحيحاً فهو باق، فلو أن أحداً طلق طلاقاً مشكوكاً في وقوعه، قال عبارة فيها شك، والنكاح صحيح، فما هو الحكم؟ الحكم أن النكاح يبقى على أصله حتى نتأكد من وقوع الطلاق.
وكان الحسن يشجع الناس على تعلم اللغة العربية، فعن أبي حمزة، قال: قيل للحسن في قوم يتعلمون العربية، قال: [أحْسَنوا، يتعلمون لغة نبيهم صلى الله عليه وسلم].
وقال الحسن لـ فرقد بن يعقوب: [بلغني أنك لا تأكل الفالوذج -والفالوذج نوع من الحلوى نفيس، كان يوجد في ذلك الزمان- فقال: يا أبا سعيد! أخاف ألَّا أؤدي شكره -يعني: ناقش هذا الرجل، ذلك الرجل كان لا يأكل هذا النوع من الطعام النفيس، فـ الحسن سأله: سمعت أنك لا تأكل الفالوذج! لماذا؟ قال: يا أبا سعيد! أخاف ألا أؤدي شكره- قال الحسن: يا لُكَع! هل تقدر أن تؤدي شكر الماء البارد الذي تشربه؟] يعني: إذا كانت المسألة تتوقف على أننا لا نأكل أي شيء خوفاً من ألا نؤدي شكره فلن نأكل شيئاً؛ قال: حتى الماء البارد لا نؤدي شكره، فلذلك ليس إلا شكر النعمة، والاستغفار.
ومن المواقف العظيمة التي دوِّنت في سيرته -رحمه الله- في معاملة أعدائه، قيل له: [إن فلاناً اغتابك، فبعث إليه طبق حلوى، وقال: بلغني أنك أهديت إليَّ حسناتك فكافأتك].
وهذا موقف مؤثر ولا شك، يحمل الخصم على الرجوع وترك ما هو عليه.(104/18)
موقف الحسن البصري من المبتدعة
كان الحسن رحمه الله مقاوماً للبدعة، ومعلوم أن واصل بن عطاء رأس المعتزلة كان من تلاميذ الحسن إلى أن حدثت حادثة جعلت واصل بن عطاء يخرج بفكرة الاعتزال، ويعتزل مجلس الحسن البصري، وبدأت تلك البدعة.
كان واصل بن عطاء في أول أمره يجلس إلى الحسن البصري، فلما ظهر الاختلاف وقالت الخوارج بتكفير مرتكبي الكبائر، وقال أهل السنة والجماعة بإيمانهم، أي أن معهم أصل الإيمان فهم مسلمون، ولكن مرتكبها فاسق فاجر، فلا يُحكم بكفر شخص إذا كان معه أصل الإيمان، وكان ما فعله كبيرة لا تصل إلى الكفر والشرك الأكبر؛ فلمَّا حصل هذا خرج واصل عن الفريقين، وقال بالمنزلة بين المنزلتين.
فـ أهل السنة والجماعة يقولون: حكم مرتكب الكبيرة فاسق، لكنه باقٍ على إسلامه، لأن معه أصل الإيمان.
وقالت الخوارج: مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار.
فلم يفرقوا بينه وبين الكافر.
والمعتزلة خرجوا بعد ذلك، وقالوا: مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين: لا هو مؤمن ولا كافر، وهذه بدعة، ما هو هذا الشيء؟! لا يوجد شيء لا مسلم ولا كافر! لا في الجنة ولا في النار! لما قال واصل بن عطاء هذه البدعة طََرَدَه الحسن من مجلسه، فاعتزل عنه.
ثم تبعه عمرو بن عبيد، وعمرو بن عبيد كان مشهوراً بالزهد، وكان وكان حتى قال الخليفة: كلكم يطلب الصيد إلا عمرو بن عبيد.
لكن عمرو بن عبيد ذهب مع المعتزلة، فُقِدَ؛ فصار في هذه البدعة الخبيثةن وعليه تأسس مذهب المعتزلة من هذه البذور الفاسدة.
سُمُّوا هم وجماعتُهم بـ المعتزلة، وأطلق عليهم أهل السنة هذا اللقب لأنهم اعتزلوا أولاً مجلس الحسن البصري رحمه الله، وهو إمام من أئمة أهل السنة.
والحسن رحمه الله تعالى لا شك أنه من أهل السنة والجماعة، وأقواله في هذا موافقة لأقوال أهل السنة والجماعة في الأبواب المختلفة؛ في الأسماء والصفات، وأن الإيمان قول وعمل، والموقف من الصحابة وغير ذلك؛ لكن لعل الحسن رحمه الله صدرت منه كلمة في وقت من الأوقات حُسِبَت على مذهب القَدَرِية؛ لكنه بعد ذلك بيَّن الأمر وتراجع عن ذلك، ولا يمكن أن يقال أبداً: إنه من القَدَرِية، ويمكن إذا وجد أثناء القراءة في الموضوع كلاماً يعرف الإنسان خلفية الموضوع؛ فلعل عبارة صدرت من الحسن رحمه الله فُهِمَ منها أن الشر ليس بقَدَر وأن الخير هو الذي بقَدَر فقط.
إن أهل السنة والجماعة يقولون: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] وخالق الخير وخالق الشر، والخير والشر كله من خلق الله تعالى وتقديره، وإذا قلت: الله خالق للخير وليس خالقاً للشر، فقد جعلت للشر خالقاً آخر، فيكون الكلام مؤدياً إلى مصيبة عظمى، ولو زعم قائله أنه يريد تنزيه الله عن الشر وأنه لم يخلق الشر لينزهه عن الشر أو عن الرضا بالشر فهذا هراء؛ لأنه جعل للشر خالقاً غير الله، وصارت القضية في تعدد الخالق في مسألة عظيمة، فالله خالق الخير وخالق الشر، لكن إذا قلنا: إن الله خلق الشر فإنه راضٍ به سبحانه وتعالى؟ أبداً، خلقه وخلق الشيطان فتنة، ابتلاء يبتلي به العباد.
فليس في المسألة إشكال؛ بل هي واضحة.
لكن حصل أن نُقِلت عبارة عن الحسن رحمه الله في هذه المسألة، وحصل نقاش بينه وبين بعض السلف ورجع عن ذلك.
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: عن حماد بن زيد، عن أيوب، قال: كذب على الحسن سربان من الناس: قومٌ من القَدَرِية؛ لِيُنَفِّقُوه في الناس بـ الحسن هم مبتدعة لو قالوا للناس: مذهبنا كذا وكذا فلا أحد سيقبل منهم؛ لأنهم مبتدعة؛ فكذبوا على الحسن؛ لأن الحسن ثقة عند الناس، فإذا قيل للناس: إن الحسن يقول: كذا، فإن الناس يأخذون بقوله، فكذبوا على الحسن بأنه قال أشياء؛ لكي يُنَفِّقُوا بدعتهم بين الناس ويروجوها.
وقومٌ في صدورهم شنَآن وبغض للحسن؛ فالذي افترى عليه طائفتان: طائفة تريد ترويج البدعة، وطائفة تبغض الحسن وتكرهه، وأنا نازلته غير مرة في القدر حتى خوَّفته بالسلطان، فقال: لا أعود فيه بعد اليوم، فلا أعلم أحداً يستطيع أن يعيب الحسن إلا به، وقد أدركتُ الحسن والله وما يقول -ما يقول بذلك القول- فهو قال: لا أعود بعد النقاش، ولا يمكن أن يعاب الحسن بشيء من ذلك ألبتة، وقد رجع عنه.
وذكر الذهبي رحمه الله كلاماً أيضاً في الموضوع، قال: الحسن بن يسار مولى الأنصار وسيد التابعين في زمانه بـ البصرة، كان ثقة في نفسه، حجة، رأساً في العلم والعمل، عظيم القدر، وقد بدت منه هفوة في القَدَر لم يقصدها لذاتها، فتكلموا فيه، فما التُفِت إلى كلامهم، لأنه لَمَّا حوقق عليها تبرأ منها.
ويكفي فخراً أن الإنسان إذا تبين له خطأ كلامه أن يرجع.
وقال الذهبي رحمه الله تعالى أيضاً كلاماً في مسألة تدليس الحسن رحمه الله، وذكرنا هذا.
وكذلك فإن ابن حجر رحمه الله في تهذيب التهذيب أيضاً قد أشار إلى المسألة، وأمْر الحسن رحمه الله في هذا، وأن ما نُسب إليه من القدر هو أمر قد تراجع عنه، وبعض الناس زادوا عليه أشياء، فيقول في تهذيب التهذيب: كان من أفصح أهل البصرة وأجملهم وأعبدهم وأفقههم.
وروى معمر عن قتادة عن الحسن تلك الكلمة المتعلقة، قال أيوب: فناظرته في هذه الكلمة، فقال: لا أعود.
وقال ابن عون: سمعت الحسن يقول: [من كذَّب بالقدر فقد كفر]، والحسن كغيره من التابعين يؤمن بالقدر خيره وشره، ولئن نُقِل عنه خلاف ذلك فقد برأه العلماء من هذه التهمة سيما وقد نقل عن بعضهم أنه رجع عن ذلك.
فالحمد لله صفحته بيضاء، ولو كان قال شيئاً من هذا أخطأ فيه فقد رجع.(104/19)
اهتمام الحسن البصري باللغة العربية
كان رحمه الله يهتم باللغة العربية كما أسلفنا، ويقاوم اللحن، واللحن: هو الخطأ في الكلام: جاء رجل إلى الحسن البصري فقال: يا أبا سعيد! ما تقول في رجل مات وترك أبيه وأخيه؟ والصحيح أن يقول: وترك أباه وأخاه- فقال الحسن: ترك أباه وأخاه -يصحح له اللغة في السؤال- فقال له -هذا السائل وكان فيه غفلة-: فما لأباه وأخاه؟ -الآن السائل جاء بحرف الجر وأخطأ ثانية والصحيح أن يقول: فما لأبيه وأخيه! - فقال له الحسن: إنما هو فما لأبيه وأخيه؟ قال الرجل: يا أبا سعيد! ما أشد خلافك علي! -لا بد أن تخالفني، مرة أقول لك: أباك وتقول لي: أبيك، ومرة أقول وأرجع إلى قولك، فتعيب عليَّ أيضاً- قال: أنت أشد خلافاً عليَّ، أدعوك إلى الصواب وتدعوني إلى الخطأ! كان في ذلك الوقت أناس قد دخلوا من الأعاجم في الإسلام وأولاد الإماء، فصار هناك لحن في اللغة؛ لأن هناك أناساً أمهاتهم فارسيات ومن الأعاجم فحصل لحن، واللحن كثير في الكلام، تغيرت اللغة في ألسنة كثير من الناس، فكان الحسن يقاوم ذلك.
قال رجل للحسن: يا أبي سعيد! فقال الحسن: أكَسَبْ الدوانيق شغلك عن أن تقول: يا أبا سعيد؟! يقول: هل البيع والشراء أشغلك عن تعلم اللغة، صرت لا تعرف أن تقول للمنادى المنصوب: يا أبا سعيد؟! وقرع رجل على الحسن البصري الباب، وقال: يا أبو سعيد! فلم يجبه، فقال: يا أبي سعيد، فقال الحسن: قل الثالثة وادخل ما دام قال: يا أبو، ويا أبي، بقيت واحدة وهي الصحيحة، فقال الحسن: قل الثالثة وادخل.(104/20)
حكاية الحسن البصري لأشياء تاريخية
حَكَى عن نفسه رحمه الله بعض الأشياء التاريخية: قال: كنت أدخل بيوت رسول الله صلى الله عليه وسم في خلافة عثمان أتناول سقفها بيدي -يعني: سقوف حُجَر النبي عليه الصلاة والسلام كانت منخفضة، ما كان عليه الصلاة والسلام يسكن في قصور وسقوف مرتفعة- وأنا غلام محتلم يومئذٍ.
وحدَّث مرة عن أنس بن مالك بحديث حنين الجذع، لما النبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب إلى جنب جذع يسند ظهره إليه، فلما كثر الناس بنوا له المنبر وصار يصعد المنبر ويخطب عليه، ولما خطب على المنبر أول مرة عليه الصلاة والسلام، قال أنس: (فسمعت الخشبة تحن حنين الواله -الخشبة التي كان يخطب عليها النبي عليه الصلاة والسلام لما فقدت الذِّكر، فقدت مكان النبي عليه الصلاة والسلام، عندها حنت حنين الولهان- فما زالت تحن وترتجف -مثل: الذي يبكي فإنه يرتعد- فما زالت تحن حتى نزل إليها صلى الله عليه وسلم فاحتضنها فسكنت) وهذا حديث في البخاري معروف، وهو من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام.
يقول الحسن معلقاً، كان إذا حدث بهذا الحديث بكى، ثم قال: [يا عباد الله! الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه].(104/21)
حكاية الحسن مع أنس
وحدَّث مرة عن أنس بن مالك بحديث حنين الجذع، عندما كان النبي عليه الصلاة والسلام يخطب إلى جنب جذع يسند ظهره إليه، فلما كثر الناس بنوا له المنبر، وصار يصعد المنبر ويخطب عليه، ولما خطب على المنبر عليه الصلاة والسلام، قال أنس: (فسمعت الخشبة تحن حنين الواله -الخشبة التي كان يخطب عليها النبي عليه الصلاة والسلام لما فقدت الذِّكر، فقدت مكان النبي عليه الصلاة والسلام، عندها حنت حنين الولهان- فما زالت تحن وترتجف -مثل: الذي يبكي فإنه يرتعد- فما زالت تحن حتى نزل إليها صلى الله عليه وسلم فاحتضنها فسكنت) وهذا حديث في البخاري معروف، وهو من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام.
يقول الحسن معلقاً، كان إذا حدث بهذا الحديث بكى، ثم قال: [يا عباد الله! الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه].(104/22)
الحسن مع الفرزدق الشاعر
حصلت للحسن -رحمه الله- مع الفرزدق الشاعر قصة: فإنه قد اجتمع معه في جنازة أبي رجاء العطاردي، فقال الفرزدق: يا أبا سعيد! يقول الناس: اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشرهم -يقصد أن الحسن خير الناس وأنه شر الناس- فقال الحسن: لستُ بخير الناس ولستَ بشرهم؛ لكن ما أعددت لهذا اليوم يا أبا فراس؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ثم انصرف.
وقال الأصمعي: لما ماتت النوَّار بنت أعين بن ضبيعة المجاشعي -امرأة الفرزدق - وكانت قد أوصت أن يصلِّي عليها الحسن البصري، فشهد أعيان أهل البصرة مع الحسن، والحسن على بغلته، والفرزدق على بعيره، فسار، فقال الحسن للفرزدق: ماذا يقول الناس؟ قال: يقولون: شهد هذه الجنازة اليوم خير الناس؛ يعنونك، وشر الناس؛ يعنوني.
فقال له: يا أبا فراس! لستُ بخير الناس ولستَ أنت بشر الناس، ثم قال الحسن: ما أعددتَ لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة.
فلما أن صلى عليها الحسن مالوا إلى قبرها، فأنشأ الفرزدق يقول:
أخاف وراء القبر إن لم يعافني أشد من القبر التهاباً وأضيقا
إذا جاءني يوم القيامة قائدٌ عنيفٌ وسواقٌ يسوق الفرزدقا
لقد خاب من أولاد دار مَن مشى إلى النار مغلول القلادة أزرقا
يساق إلى نار الجحيم مسربلاً سرابيل قطران لباساً مخرَّقا
إذا شربوا فيها الصديد رأيتَهم يذوبون من حر الصديد تمزقاً
فلما سمع الحسن بكى حتى بلَّ الثرى، ثم التزمه، وقال له: لقد كنت من أبغض الناس إلي وإنك اليوم من أحب الناس إلي.
لما رأى شعره، ما صار في الهجاء والكلام المُقذع، وإنما صار في الترقيق وهذا الكلام الذي فيه وصف النار، التزمه رحمه الله وعانقه.
ومن كلامه في الغيبة والمغتاب، قال أصلة بن طريف: قلت للحسن: الرجل الفاجر المعلِن بفجوره هل له غيبة -أي: يحرم أن يُغتاب؟ - قال: لا.
ولا كرامة، إذا ظهر فجوره فلا غيبة له.
وقال: ثلاثة لا تحرم عليك غيبتهم: 1 - المجاهر بالفسق.
2 - والإمام الجائر.
3 - والمبتدع.(104/23)
استغلال الحسن البصري للمواقف في التربية والوعظ
قال فرقد: دخلنا على الحسن فقلنا: يا أبا سعيد! ألا يعجبك من محمد بن الأهتم؟! -أي: أما تستغرب من خبر محمد بن الأهتم؟! - قال: ما له؟ فقلنا: دخلنا عليه آنفاً وهو يجود بنفسه -يحتضر- فقال لنا: انظروا إلى ذاك الصندوق فيه ثمانون ألف دينار، أو قال: درهم، لم أؤد منها زكاةً، ولم أصل منها رحماً، ولم يأكل منها محتاج.
فقلنا: يا أبا عبد الله! فلمن كنت تجمعها؟! قال: لروعة الزمان، ومكاثرة الأقران، وجفوة السلطان -أخاف أن السلطان يغضب عليَّ، فلا يعطيني المقسوم، والأقران أكاثرهم بالمال، وأستعد لروعة الزمان، هذه القصة التي قيلت للحسن، فقال الحسن -معلقاً على ذلك، ولا يمكن أن يفوت مثله-: انظروا من أين أتاه شيطانه؛ خوَّفه روعة زمانه، ومكاثرة أقرانه، وجفوة سلطانه، ثم قال: أيها الوارث! لا تُخْدَعَنَّ -يقول الآن للوارث الذي ورث الثمانين ألفاً هذه من ذلك الرجل الشحيح البخيل المقصر- كما خُدِع صُوَيْحِبُك بالأمس، جاءك هذا المال، لم تتعب لك فيه يمين، ولم يعرق لك فيه جبين، جاءك ممن كان له جموعاً منوعاً، من باطل جمعه، من حق منعه، ثم قال الحسن: إن يوم القيامة لذو حسرات، الرجل يجمع المال، ثم يموت ويدعه لغيره، فيرزقه الله فيه -أي: في الوارث- الصلاح والإنفاق -في وجوه البر- فيجد -البخيل، المانع الحقوق- ماله في ميزان غيره فيتحسر -أي: يوم القيامة.
وقال الحسن: [قدم علينا بشر بن مروان، أخو الخليفة، وأمير المصريين، وأشب الناس، وأقام عندنا أربعين يوماً، ثم طعن في قدميه فمات، فأخرجناه إلى قبره -يقول الآن قصة فيها موعظة، انطباعه عن هذا المشهد ينقله إلينا- يقول: فلما صرنا إلى الجبَّان -المقبرة- إذ نحن بأربعة سودان يحملون صاحباً لهم إلى قبره -هذا جمع عظيم مع هذا الرجل المشهور، وذاك واحد مسكين معه أربعة سودان يحملونه إلى قبره، فوضعنا السرير عن الجنازة فصلينا عليه، ووضعوا صاحبهم فصلوا عليه -نحن في مكان وهم في مكان آخر في المقبرة- ثم حملنا بشر بن مروان إلى قبره، وحملوا صاحبهم إلى قبره، ودَفَنَّا بشراً، ودفنوا صاحبهم، ثم انصرفوا وانصرفنا، ثم التفتُ التفاتة فلم أعرف قبر بشر من قبر الحبشي، فلم أر شيئاً قط كان أعجب منه.
أي: بعدما تولينا كلنا من المقبرة نظرتُ ورائي فما عرفت أياً من القبرين الذي قبر فيه بشر بن مروان، فاعتبرها موعظة، أي: هذه مظاهر، لكن في النهاية صاروا في القبرين سواء، قبران متشابهان، كلاهما في القبر.
وقال رجل للحسن: إني أكره الموت، قال الحسن: [ذاك أنك ادخرت مالك، ولو قدَّمْتَه لسَرَّك أن تلحق به] لو أنفقتَه في سبيل الله لسَرَّك أن تلحق به.
ومن تعليمه لرجل في المباركة بالمولود: عن عوف قال: قال رجل في مجلس الحسن: لِيَهْنكَ الفارس، قال له الحسن: فلعله حامِر -ما يدريك أنه فارس! ربما يكون حَمَّاراً، يعني: في البلادة والغباء وعدم التدبير- إذا وهب الله لرجل ولداً فقل: شكرتَ الواهب، وبورك لك في الموهوب، وبلغ أشده، ورُزقت بره].(104/24)
مقاومة الحسن البصري للشرك بأنواعه
كان ممن يقاوم الشرك الأصغر والأكبر بأنواعه، حتى قال رجل من بني مجاشع: جاء الحسن في دم كان فينا، فخطبهم فأجابه رجل، فقال: قد تركتُ ذلك لله ولوجوهكم.
هناك قضية دماء، الحسن أراد أن يصلح فيها، فيجعل أهل المقتول يتنازلون، فجاء رجل من أهل المقتول، قال: قد تركت ذلك لله ولوجوهكم -يعني: من أجل الله ومن أجلكم- فقال الحسن: لا تقل هكذا، بل قل: لله ثم لوجوهكم، وآجرك الله.
أثابك الله على تنازلك، ولكن لا تسوِّنا بالله، تقول: تركتها لله ولكم، لا يصلح أن تسوي بيننا وبين الله، قل: لله، ثم لكم.
وهذا نظائره كثيرة، مثل أن تقول: لولا الله ثم فلان، لا تقول: لولا الله وفلان، فهي شرك، بل لولا الله ثم فلان، لا تجعل الخالق والمخلوق بمنزلة واحدة، وتعطف هذا على هذا.(104/25)
وفاة الحسن البصري رحمه الله
وبالنسبة لوفاته رحمه الله تعالى، فإنه لما حضرته الوفاة جعل يسترجع -يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون- فقام إليه ابنه، وقال: يا أبتي! قد غممتنا، فهل رأيت شيئاً؟! قال: [هي نفسي، لَمْ أُصَبْ بمثلها].
ويُروى أنه أغمي عليه ثم أفاق إفاقة فقال: [لقد نبَّهتموني من جنات وعيون، ومقام كريم].
وقال رجل قبل موت الحسن لـ ابن سيرين -وابن سيرين كان مشهوراً بتعبير الرؤى والأحلام-: رأيتُ كأن طائراً أخذ أحسن حصاة بالمسجد؟ فقال ابن سيرين: إن صدقت رؤياك مات الحسن.
أي: هو أحسن من عندنا في المسجد، فلم يكن إلا قليلاً حتى مات الحسن، ووقع تفسير وتأويل الرؤيا.
وكانت وفاة الحسن رضي الله عنه ليلة الجمعة، في أول رجب سنة (110هـ).
وقد عاش -كما قال ابنه- نحواً من 088) سنة، عمراً مباركاً في طاعة الله، وكانت جنازته مشهودة، وصُلِّي عليه عُقيب صلاة الجمعة بـ البصرة، فشيَّعه الخلق وازدحموا عليه.
قال حُميد الطويل: توفي الحسن عشية الخميس، وأصبحنا يوم الجمعة، ففرغنا من أمره -أي: جهزناه- وحملناه بعد صلاة الجمعة ودفناه.
وهذه نهاية هذه السلسلة في هذا الوقت، ولعلنا نعود إليها مجدداً إن شاء الله تعالى.
ونسأل الله التوفيق والإخلاص.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(104/26)
الإمام الوزير ابن هبيرة [1، 2]
ابن هبيرة عالم عامل بعلمه، تولى الوزارة فلم تشغله عن طلب العلم والتأليف والتدريس، فهو قدوة لكل من اشتغل بمنصب أو اعتلى كرسياً في الدولة.
ابن هبيرة تاريخ حافل بالآراء السديدة، والاستنباطات العجيبة من الكتاب والسنة.
ابن هبيرة بلغ درجة عظيمة من الإحسان لمن أساء إليه أو ظلمه، عقيدته سلفية، له كلام عجيب حيث قال: والله لا نترك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع الرافضة، بل نحن أحق به منهم، ولا نترك الشافعي مع الأشعرية بل نحن أحق بالشافعي منهم، ما معنى ذلك؟ في الدرس ستجد الإجابة.
ابن هبيرة مات مسموماً، وجنازته خرج فيها ما لم ير في جنازة غيره في عصره كما قال ابن الجوزي رحمه الله.(105/1)
ابن هبيرة وطلبه للعلم وبعض مؤلفاته
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
وبعد: ففي سلسلة (أضواء على سير العلماء) نتحدث في هذه الليلة -إن شاء الله تعالى- عن سيرة العالم الوزير الكامل الإمام العادل عون الدين أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعيد بن الحسن بن جهم الشيباني الدوسي العراقي الحنبلي، صاحب المصنفات رحمه الله تعالى، وهذا الإمام عربيٌ شيبانيٌ.
كان مولده في سنة بـ قرية بني أوقر من الدور إحد بلدان العراق، ولذلك يقال في نسبه: الدوري.
ودخل بغداد في صباه، وطلب العلم، وقرأ القرآن بالراوية على جماعة.
وسمع الحديث من جماعة، منهم: القاضي أبو الحسين بن الفراء، وابن الزاغوني، وعبد الوهاب الأنماطي، وغيرهم.
وقرأ القرآن بالقراءات السبع.
وشارك في علوم الإسلام، ومهر في اللغة، وكان يعرف مذهب الإمام أحمد رحمه الله، والعربية، والعروض.
يقول الذهبي عنه كما في السير: "كان سلفياً أثرياً".
وهذه صفة مهمة للعلماء.
سلفياً: يتبع السلف في المعتقد.
أثرياً: يعتمد الأثر والحديث والدليل في أقواله الفكرية وغيرها.
وقرأ الفقه على أبي بكر الدينوري.
وقرأ الأدب على أبي منصور الجواليقي.
وصَحِبَ أبا عبد الله محمد بن يحيى الزبيدي الواعظ الزاهد من حداثته، وأخذ عنه التألُّه والعبادة، وانتفع بصحبته حتى إن الزبيدي كان يركب جملاً ويعتم بإزار ويلويها تحت حنكه وعليه جبة وهو مخضوب بالحناء، فيطوف بأسواق بغداد ويعظ الناس، وزمام جمله بيد أبي المظفر ابن هبيرة، فكان ابن هبيرة رحمه الله يمسك بجمل هذا الواعظ يمشي به وهو يطوف على الناس يعظهم، وكلما وصل الزبيدي موضعاً، أشار أبو المظفر بمسبحته ونادى برفيع صوته: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير) وهذا الذكر يقال عند دخول السوق.
وكان رحمه الله تعالى متشدداً في اتباع السنة وسيرة السلف الصالح، ولما طلب العلم حصل أنه رحمه الله أمضه الفقر، وأعيته الحاجة، واحتاج إلى موردٍ للكسب، فتعرض للكتابة فصار كاتباً -حصل على وظيفة كاتب- وتقدم وترقى في الكتابة لدى الخليفة، وصار على مشارف الخزانة، ثم ولي ديوان الزمام، أي: ديوان يُعْنَى بالشئون المالية المدنية والعسكرية، وفيه تُحفظ السجلات، وهو من التراتيب الإدارية في الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، فلوحظ عليه الأمانة وجودة العمل وإتقانه، فكان قوياً أميناًَ، فتولى ديوان الزمام للخليفة المقتفي لأمر الله، وفي سنة: (544 هـ) عينه وزيراً، واستمر في الوزارة لابنه المستنجد بالله بعد الخليفة المقتفي.
وكان -رحمه الله تعالى- ديِّناً، خيِّراً، متعبداً، عاقلاً، وقوراً، متواضعاً، باراً بالعلماء، مكباً -مع أعباء الوزارة- على العلم وتدوينه، كبير الشأن، وكان حسنة الزمان في ذلك الوقت.(105/2)
مؤلفات ابن هبيرة
شرح الوزير ابن هبيرة الصحيحين، وسماه: الإفصاح عن معاني الصحاح، في عشرة مجلدات كما يقول الذهبي رحمه الله تعالى.
ولما وصل إلى حديث: (من يرد الله به خيراً، يفقهه في الدين) شرح الحديث، وتكلم على معاني الفقه، وآل به الكلام إلى أن ذكر مسائل الفقه المتفق عليها والمختلف فيها بين الأئمة الأربعة المشهورين: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، فكان هذا كتاب فقه فيه أقوال العلماء في المسائل المختلفة الفقهية داخلٌ ضمن شرحه لـ صحيح البخاري وصحيح مسلم؛ ولكن الناس أفردوه عن الكتاب الأصلي، وطُبِع باسم الإفصاح عن معاني الصحاح، وهو كتاب مهم، ولكنه في الحقيقة قطعة من الكتاب الأصلي في شرح الصحيحين.
هذا الكتاب صنفه في ولايته للوزارة، واعتنى به، وجمع عليه أئمة المذاهب، فكان يعرف آراء المذاهب من أصحابها، وأوفدهم من البلدان لأجل هذا الكتاب، وحضروا عنده، وأنفق على تأليف ذلك الكتاب مائة ألف دينار يدخل فيها نفقات العلماء الذين رحلوا واجتمعوا وتباحثوا في هذا الكتاب.
وحدَّث بهذا الكتاب، واجتمع خلق عظيم لسماعه، وبُعِث به إلى العظماء في أطراف المملكة الإسلامية، واستُنْسخت منه نسخٌ كثيرة، وبلغ ذلك الكتاب إلى السلطان نور الدين الشهيد رحمه الله، واشتغل الفقهاء في ذلك الزمان بكتاب الإفصاح عن معاني الصحاح يدرسونه في المساجد، ويعيده المعيدون، ويحفظ منه الفقهاء.
وكذلك صنف في النحو كتاباً اسمه المقتصد، وعرضه على أئمة الأدب في عصره، وشرحه ابن الخشاب في أربعة مجلدات.
وكذلك صنف كتاب العبادات الخمس على مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وحدَّث به بحضرة العلماء من أئمة المذهب.
وله أرجوزة في المقصور والممدود، وأرجوزة في علم الخط.
هذا الرجل من عَظَمَته أنه اشتغل بالعلم وألف وهو وزير.(105/3)
ابن هبيرة يتولى الوزارة
استدعي ابن هبيرة من قبل الخليفة المقتفي لأمر الله سنة: (544 هـ) إلى داره وقلده الوزارة، ومشى أرباب الدولة وأصحاب المناصب كلهم بين يديه وهو راكبٌ إلى الإيوان في الديوان، وكان يوماً مشهوداً، وكان ذلك تقليداً عظيماً لمن يتولى الوزارة.
ولكن الرجل لما بلغ ذلك المنصب لم يفسد، ولم ينشغل بأمور الدنيا، ولم يترك طلب العلم، وهذا درسٌ عظيمٌ جداً يؤخذ من حياة هذا الإمام، بل إن أخلاقه قد ازدادت بعد توليه الوزارة، وكان يقول بعد توليه الوزارة: لا تقولوا في ألقابي: سيد الوزراء.
لماذا نهاهم عن تسميته بسيد الوزراء؟ قال: لأن الله تعالى سمى هارون وزيراً.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن وزيريه من أهل السماء: جبريل، وميكائيل، ومن أهل الأرض: أبو بكر، وعمر.
فإذا قيل: سيد الوزراء، قد يُتَوَهَّم دخول هارون، وأبي بكر، وعمر في هؤلاء الوزراء، ولا يمكن أن يكون سيداً لهم، ولا يجوز أن يكون كذلك، فكان يتنبه حتى لهذه المسائل.
وكان متواضعاً رحمه الله تعالى، لم يشغله أو يطغه المنصب، بل كان ملتزماً لجانب التواضع، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اختارني، واختار لي أصحاباً، فجعلهم وزراء وأنصاراً) يقول الوزير ابن هبيرة رحمه الله: "ولا يصلح أن يقال عني: إني سيد هؤلاء السادة".(105/4)
أعمال ابن هبيرة عندما تولى الخلافة
لما تولى الوزير ابن هبيرة الوزارة عمل إصلاحات كثيرة، منها: 1 - قام بالعدل.
2 - جاد على الناس.
3 - أصلح ما فسد من قبل.
4 - شجع الناس على طلب العلم، ورفع منزلة العلماء وقدرهم عنده، وكان صاحب عبادة بالإضافة إلى ذلك.
من الذين ترجموا للوزير ابن هبيرة: ابن الجوزي رحمه الله.
لما ولي الوزير أبو المظفر الوزارة، بالغ في تقريب خيار الناس من الفقهاء والمحدِّثين والصالحين، واجتهد في إكرامهم وإيصال النفع إليهم، وارتفع به أهل السنة غاية الارتفاع.
فالرجل عمل خطوة مهمة جداً وهي تقريب خيار الناس من الفقهاء والمحدِّثين والصالحين، فجعلهم عنده في مجلسه يستشيرهم ويأخذ بعلمهم.
وكذلك جعلهم في الوظائف المختلفة؛ وظف العلماء، وعندما يوظف العلماء لا شك أنه يحصل خير عظيم جداً، وارتفع أهل السنة في عصره، لأنه كان سلفياً، ومن النادر أن يصل إلى هذا المنصب في ذلك الوقت سلفيٌ عالِمٌ، يتبوأ مكان الوزارة بعد الخليفة مباشرة، هذا شيء نادر للغاية، وهذه من مآثر ابن هبيرة رحمه الله.
قال مرة في وزارته: "والله لقد كنت أسأل الله تعالى الدنيا لأخدم بما يرزقنيه الله منها العلم وأهله".
فإذاً كان قصده من طلب الدنيا خدمة العلم وأهل العلم، وليس أن يحصل على منصب شخصي، أو منفعة مادية، لم يكن لأجل مصلحته، وإنما لمصلحة العلم وأهله.
ومن هذا! ينبغي أن يتعلم كل من وصل إلى منصب مهما كان؛ مديراً، أو وزيراً، أو وكيلاً، أو غير ذلك، ماذا يفعل إذا وصل إلى منصب الوزارة؟ القيام بالعدل.
تقريب الأخيار، ووضعهم في الوظائف والمناصب المختلفة، واستشارتهم.
تقريب العلماء، والعمل بكلامهم وأحكامهم التي يقولونها.
إصلاح ما فسد من قبل.
عدم الانشغال عن العلم.
رفع منزلة العلماء.
إقامة الدروس وحضورها، وإقامة المناقشات العلمية والمباحثات تكون بين يديه.
إكرام أهل العلم، وإجراء الرواتب لهم، وتفريغهم للعلم، بجعل الأعطيات لهم ليتفرغوا لطلب العلم.
إقامة السنة ونصر السنة وأهلها، وفي المقابل طمس البدعة، وإبعاد أهل البدعة، وكبتهم.
التواضع، لأن المنصب يُطْغِي، ومن حوله ينفخون فيه، ولكن إذا كان ممن وفقه الله، فإنه لا يتأثر بهذا النفخ، بل يكون على جانب العدل.(105/5)
قصة ابن هبيرة مع أبي محمد الأشيري
هذا الرجل له مناقب عجيبة، منها: لما تولى الوزارة، مع هذه الولاية التي تولاها، التي كان يمكنه أن يخفض ويرفع بإشارة إصبع، يعاقب، أو يكرم، ونحو ذلك في أمور الدنيا، الرجل كان حسَّاساً، طالباً للعدل، متحرياً لبراءة ذمته.
وقد حصلت له قصص، منها هذه القصة: ذكر مرة في مجلسه مسألة تفرد بها الإمام أحمد عن الثلاثة: أبي حنيفة، والشافعي، ومالك.
فادَّعى أبو محمد الأشيري المالكي أنها رواية عن مالك، قال: هذا القول الذي تقول: إنه تفرد به أحمد، لم يتفرد به أحمد فقط، وهو رواية عن مالك، ولكن لم يوافق الأشيري على ذلك أحد من العلماء الحاضرين من المالكية وغير المالكية، وأحضر الوزير للإثبات كتب مفردات أحمد التي فيها بيان المسائل التي انفرد بها أحمد عن الأئمة الثلاثة، وهذه المسألة كانت منها، كما قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله.
ولكن الأشيري المالكي أصر على دعواه أن هذه رواية عن مالك.
فصار عند ابن هبيرة -رحمه الله- غضب من هذا الرجل الذي يصر على غير الحق، هذه الكتب، وهذه الإثباتات، وهؤلاء العلماء، وهذا يقول: ليست من مفردات أحمد، فاحتدَّ ابن هبيرة رحمه الله، وقال له: بهيمةٌ أنت؟ أما تسمع هؤلاء الأئمة يشهدون بانفراد أحمد بها، والكتب المصنفة وأنت تنازع؟! وتفرق المجلس.
فلما كان المجلس الثاني، مجلس علم، يحضره الوزير ابن هبيرة رحمه الله ومعه العلماء، واجتمع الخلق للسماع، أخذ ابن شافع في القراءة، فقام ابن هبيرة ومنع الدرس من الابتداء، وقال: قد كان الفقيه أبو محمد جرى في مسألة أمس على ما لا يليق به من العدول عن الأدب والانحراف عن نهج النظر حتى قلت تلك الكلمة -أي: هذا الأشيري المالكي انحرف عن نهج النظر، وفعلاً هو مخطئ، وهذه الإثباتات، لكن يقول: أنا قلت له كلمة عظيمة وهأنذا، فليقل لي كما قلت له أمام الحاضرين جميعاً -الآن القصاص- فلست بخيرٍ منكم، ولا أنا إلا كأحدكم، فضج المجلس بالبكاء -تأثر الناس جداً من هذا الموقف- وارتفعت الأصوات بالدعاء والثناء، وأخذ الأشيري يعتذر، ويقول: أنا المذنب والأولى بالاعتذار من مولانا الوزير.
وهو يقول - ابن هبيرة -: القصاص القصاص يطلب ويصر على القصاص، اقتص مني وقل لي مثلما قلت لك.
فقال يوسف الدمشقي مدرس النظامية: يا مولانا! إذا أبى القصاص، فالفداء، الآن الأشيري يرفض أن يقول لك تلك الكلمة كما قلت له، وهو راضٍ، فنعدل من القصاص إلى الفدية.
فقال الوزير: له حكمه.
فقال الأشيري: نعمك عليَّ كثيرة، فأي حكم بقي لي؟! فقال: قد جعل الله لك الحكم علينا بما ألجأتنا به إلى الاعتداء عليك، فلا بد من تعويض، ما دمت أنك ترفض القصاص.
فقال الأشيري: عليَّ بقية دين منذ كنتُ بـ الشام.
فقال الوزير: يعطى مائة دينار لإبراء ذمته وذمتي، فأُحضر له مائة دينار.
فقال له الوزير: عفا الله عنك وعني، وغفر لك ولي.
وذكر ابن الجوزي أنه قال: يعطى مائة دينار لإبراء ذمته -أي: من الدَّين- ومائة دينار لإبراء ذمتي -من الكلمة التي قلتها له- فأعطاه مائتي دينار.
والأشيري من علماء المالكية، كان قد طلبه الوزير ابن هبيرة، فأينما وجد عالم مجيد عالم جيد يطلبه، ولو كان في آخر الدنيا.
وكان الأشيري عند نور الدين الشهيد محمود بن زنكي رحمه الله، فسمع به الوزير ابن هبيرة، واستقدمه وطلبه من نور الدين، فأعطاه وأرسله إليه وأكرمه، وصار عنده في المجلس وفي المباحثات التي تكون.(105/6)
تواضع ابن هبيرة واعترافه بأهل الفضل عليه
كان من تواضع ابن هبيرة رحمه الله أنه إذا استفاد شيئاً، قال: أفادنيه فلان، وهذا من أدب طالب العلم، أنه إذا استفاد فائدة من شخص يذكر الذي أفاده هذه الفائدة، فعَرَض له يوماً حديث: (من فاته حزبٌ من الليل، فصلاه قبل الزوال كان كأنه صلى بالليل) فقال: لا أدري معنى هذا، لم أفهم وجه الحديث.
فقال ابن الجوزي: هذا ظاهرٌ في اللغة والفقه.
أما اللغة: فإن العرب تقول: كيف كنت الليلة؟ إلى وقت الزوال.
وأما الفقه: فإن أبا حنيفة يصحح الصوم بنية قبل الزوال، فقد جعل ذلك الوقت في حكم الليل.
فأعجبه هذا القول، وكان يقول بين الجمع الكثير: ما كنت أدري معنى هذا الحديث حتى عرَّفنيه ابن الجوزي، فكنت أستحي من الجماعة، يقول: إذا جاء للوزير يقول العالم الوزير: أفادنيه ابن الجوزي بين الجماعة، فأستحي من هذه الكلمة.
ورتب الوزير ابن هبيرة لـ ابن الجوزي درساً في داره كل يوم جمعة.
ومن تواضعه أيضاً: أنه سمع مرة أحد الفقراء يقرأ القرآن في داره، فأعجبته قراءته، فقال لزوجته: أريد أن أزوجه ابنتي -أي: الوزير ابن هبيرة يزوج ابنته لذلك الفقير، فغضبت زوجته.
وكان يُقرأ الحديث عنده كل يوم بعد العصر.
وكان يكثر مجالس العلماء والفقراء وكانت أمواله مبذولةً لهم.
وكانت السنة تدور وعليه ديون، ولذلك قال: ما وجبت عليَّ زكاةٌ قط، لأن كل الدخل الذي كان يأتيه -مع أنه كان دخلاً كبيراً في هذا المنصب- كله يذهب لأعمال البر وصلة العلماء، وبذله لأهل العلم، ولذلك كان لا تدور عليه السنة إلا وهو مدين، ولذلك قال بعض الشعراء فيه:
يقولون: يحيى لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذلُه
إذا دار حولٌ لا يُرى في بيوته من المال إلا ذكره وفضائلُه
ومن تواضعه: أنه كان يتحدث بنعم الله تعالى عليه، ويذكر في منصبه شدة فقره القديم، وكان يقول: نزلت يوماً إلى دجلة، وليس معي رغيفٌ أعبر به -يقول: جاءتني أيام ما عندي رغيف.
يقول هذا في حال الوزارة بعد أن صار في ذلك المنصب، وإذا رأيت رجلاً صار ذا مال أو ذا منصب يذكر فقره أو حاله الأول من الضعف وهو في حال القوة والغنى، فهذا في معدنه خيرٌ عظيمٌ.
ودخل عليه يوماً تركياً -وكان الأتراك قد أتي بهم وجُلِبوا إلى المملكة الإسلامية في ذلك الوقت، وكانوا جنوداً حتى صاروا عماد جيش الدولة- فقال لحاجبه: أما قلتُ لك: اعط هذا عشرين ديناراً ووِقْراً من طعام، وقل له: لا تحضر هاهنا؟ فقال: قد أعطيناه.
فقال: عد وأعطه، وقل له: لا تحضر، ثم التفت إلى الجماعة، وقال: لا شك أنكم تريبون بسبب هذا.
أي: عندكم ريبة الآن مني؛ لأني أقول له: اعطه، وقل له: لا يعود.
قالوا: نعم.
قال: هذا كان في القرى، فقُتِل قتيل قريباً من قريتنا، فأخذ مشايخ القرى، وأخذني مع الجماعة -يبدو أنه كان شرطياً، فلما قُتل القتيل هذا التركي، جمع مشايخ القرى، وكان ابن هبيرة مع المحشورين قبل أن يتولى الوزارة- قال: وأمشاني مع الفرس، وبالغ في أذاي وأوثقني، ثم أخذ من كل واحد شيئاً وأطلقه -أي: رشوة- ثم قال لي: أي شيء معك؟ قلت: ما معي شيء، فانتهرني، وقال: اذهب، فأنا لا أريد اليوم أذاه، وأبغض رؤيته.
وفي رواية لهذه القصة أنه قال: إنني سألت هذا التركي في الطريق أن يمهلني لأصلي الفرض، فما أجابني وضربني على رأسي، وكان رأسي مكشوفاً، فكنتُ أنقم عليه حين رأيته لأجل الصلاة لا لكونه قبض عليَّ، فإنه كان مأموراً.
ولذلك لما جاءه التركي، قال: أعطوه مالاً، وأعطوه كذا، وقولوا له: لا يأتي، فكان يقول: إنني لم أنقم عليه لأنه أمسك بي، لكنني نقمت عليه لأنه لم يمهلني حتى أصلي فرض الصلاة.
وكان بعض الأعاجم قد شاركه في زراعة، وآل الأمر إلى أن هذا الأعجمي ضرب الوزير -قبل أن يتولى الوزارة- وبالغ في ضربه.
ولما وَلِي ابن هبيرة الوزارة، أتى بالأعجمي وأكرمه ووهب له وأعطاه، مع أنه كان قد أساء إليه، الآن هذه فرصة للانتقام؛ لأنه صار صاحب قدرة وقوة.(105/7)
ابن هبيرة يعفو عمن ظلمه
ومن مناقبه كما يقول ابن الجوزي رحمه الله: كنا نجلس إلى الوزير ابن هبيرة، فيملي علينا كتابه الإفصاح، فبينا نحن كذلك إذ قدم رجل ومعه رجلٌ ادعى عليه أنه قتل أخاه.
فقال له عون الدين ابن هبيرة أقتلته؟ قال: نعم.
جرى بيني وبينه كلام، فقتلته.
فقال الخصم بعد هذا الاعتراف: سلمه إليَّ حتى نقتله، فقد أقر بالقتل.
فقال عون الدين: تبيعونيه؟ كأنه يريد أن يفدي هذا القاتل، فاشتراه منهم بستمائة دينار، وسلَّم الذهب إليهم، ورضي أهل القتيل بالفدية.
فقال للقاتل: اقعد عندنا لا تبرح، فجلس عنده، وأعطاه الوزير خمسين ديناراً.
فقلنا للوزير: لقد أحسنت إلى هذا وعملت له أمراً عظيماً، وبالغت في الإحسان إليه، ما هو السبب؟ قال الوزير: أمنكم أحدٌ يعرف أن عيني اليمنى لا أبصر بها شيئاً؟ فقلنا: معاذ الله، لا ندري أنك لا ترى بعينك اليمنى، كأن العين كان ظاهرها أنها سليمة؛ لكنها في الحقيقة معطوبة.
فقال: بلى والله -أي: أنها معطوبة- أتدرون ما سبب ذلك؟ قلنا: لا.
قال: هذا الذي خلَّصته من القتل جاء إليَّ وأنا في الدور ومعي كتاب من الفقه أقرأ فيه، ومعه سلة من الفاكهة -أيام طلب العلم- فقال: احمل هذه السلة، فقلت له: ليس هذا شُغْلي، فاطلب غيري، فثاكَلَني ولكَمَني على عيني فعطبها، ومضى، ولم أره بعد ذلك إلى يومي هذا، فلما رأيته الآن تذكرت ما صنع بي، فأردت أن أقابل إساءته إليَّ بالإحسان مع القدرة.
هذا شيء من عدل هذا الرجل وتواضعه رحمه الله تعالى، ولا شك أن هذا شيء لا يبلغه إلا نادر من الناس، القليل والقليل جداً، ولا شك أنه أمر صعب، وهذا داخل في قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران:134] أي: الذين يمتنعون عن الانتقام ممن أساء إليهم، يكظمون الغيظ.
{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاس ِ} [آل عمران:134] أي: إذهاب ما في الصدر على الشخص.
والأول قد يكون واجباً؛ لكن الثاني لا يكون واجباً.
أي: أنه يجب عليك شرعاً أن تُخرج من صدرك أي ضغينة على مَن ظلمك، لكن لا يجب عليك العفو عنه؛ لكن لو فعلته فلا شك أن هذا من مقامات الإحسان.
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] أي: من مقامات الإحسان ألَّا تجد في نفسك شيئاً عليه.
فالرجل بحقٍ قد وصل إلى هذه المقامات العالية.(105/8)
تورع ابن هبيرة عن الحرام ومدح المستنجد بالله له
لا شك أن الذي يدخل في الوزارات والمناصب يتعرض لأمور من المحرمات، مثلاً: لبس الذهب والحرير، لأنه كان من عادتهم في ذلك الوقت في الخلافة والوزارة أَلْبِسَة يلبسونها تناسب مناصبهم يوجَد في كثير منها محرمات، مثل: لبس الذهب والحرير.
قال ابن الجوزي: كان الوزير ابن هبيرة رحمه الله يجتهد في اتباع الصواب، ويحذَر من الظلم، ولا يلبس الحرير.
قال لي لما رجعت من مكان، وكان قد ذهب لقتال بعض أهل البغي وإخماد فتنتهم: دخلت على المقتفي -أي: الخليفة- فقال لي: ادخل هذا البيت وغيَّر ثيابك، فدخلتُ، فإذا خادمٌ وفرَّاشٌ معهما خِلَع الحرير، فقلت: والله ما ألبسها، فخرج الخادم وأخبر الخليفة، فسمعتُ صوته يقول: قد والله قلتُ: إنه لا يلبسها - المقتفي كأنه أراد اختبار الوزير - فأعطى الفراش حلل الحرير، وكان المقتفي معجباً به.
ولما استخلف المستنجد بعد أبيه المقتفي، دخل ابن هبيرة عليه، فقال: يكفي في إخلاصي أني ما حابيتك في زمن أبيك، قال: صدقت.
ولذلك فإن المستنجد قد مدح وزيره ابن هبيرة بأبيات منها:
ضَفَت نعمتان خصتاك وعمَّتا فذكرهما حتى القيامة يُذْكَرُ
وُجُودُك والدنيا إليك فقيرةٌ وَجُودُك والمعروف في الناس يُنْكَرُ
فلو رام يا يحيى مكانك جعفر ويحيى لكفَّا عنه يحيى وجعفر
يقصد يحيى البرمكي وابنه جعفر بن يحيى اللذَّين وَزَرا لـ هارون الرشيد، ثم قضى الرشيد على فتنة البرامكة، لكنهما كانا وزيرين مشهورين جداً.
ولو أرى من ينوي لك السوء يا أبـ ـا المظفر إلا كنت أنت المظفر
وكان أيضاً يتأسف على ما دخل فيه من أعمال السلطنة، ويخشى أن يكون قد ظَلَم، أو أكل شيئاً بغير حق، ولذلك فإنه كان يتأسف على الدخول فيها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامةٌ) ولكن نسأل الله عز وجل أن يكون هذا الرجل ممن أخذها بحقها.
يقول ابن الجوزي: قال ابن هبيرة: كان عندنا في القرية مسجدٌ فيه نخلة تحمل ألف رطل، فحدَّثتُ نفسي أن أقيم في ذلك المسجد، وقلت لأخي مجد الدين: اقعد أنا وأنت وحاصلها يكفينا، ثم انظر إلى ما صرتُ إليه من أمر الوزارة، ثم صار يسأل الله الشهادة، ويتعرض لأسبابها -أي: من الخروج للجهاد ونحو ذلك- وفي ليلة ثالث عشر جمادى الأولى سنة: (560هـ) استيقظ وقت السحر، فقاء، -أخذه القيء في وقت السحر- فحضر طبيبه ابن رشادة، فسقاه شيئاً -يعني: كعلاج- فقيل: إنه سَمَّه!! وهكذا المخلصون في هذه الأماكن لا يطول بهم المقام؛ لأن أصحاب الأهواء يُعادونهم ويعملون على رحيلهم حتى يفرغ لهم المكان.
خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري
فقيل: إنه سقاه سماً، فمات - ابن هبيرة رحمه الله تعالى- فيكون قد مات مظلوماً شهيداً.
ومن قدر الله تعالى أن هذا الطبيب سُقي بعده بنصف سنة سُمَّاً، فكان يقول: سَقَيْتُ فسُقِيْتُ -الجزاء من جنس العمل- ومات الطبيب الذي سمه.
فالرجل نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون ممن قد ذهب إلى ربه شهيداً.
وكان من أصحاب التألُّه، واكتسب ذلك من أشياخه كما قلنا، وكانت فائدة في أن طالب العلم يتعلم العلوم المختلفة، لا يقتصر على علمٍ معين، يتعلم القرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والفقه، وغير ذلك، ويضيف إليه أمراً مهماً جداً وهو جانب التألُّه والتعبُّد، كما تأثر ابن هبيرة رحمه الله بشيخه في التألُّه والتعبُّد، وتعلم منه قضية إنكار المنكر ووعظ الناس ونصح الناس.(105/9)
بعض آراء ابن هبيرة السديدة
من الأشياء التي تروى عن كرامات هذا الرجل:(105/10)
رأيه في كيفية القضاء على أحد البغاة
كان هناك أحد الظلمة الذين استطالوا في ناحية من النواحي في تلك البلدان كان يلقَّب بـ مسعود، وكان له أصحاب أفسدوا في الأرض، فعزم الوزير ابن هبيرة رحمه الله والخليفة المقتفي على قتال هذا الباغي، ولكنه فكر ابن هبيرة كثيراً في الأمر، فوجد أنه ليس بصواب، لأن الرجل قوي الشوكة، وربما يقتل من المسلمين أعداداً بسبب محاولة إطفاء فتنة هذا الرجل وربما لا تنطفئ، فدخل ابن هبيرة على المقتفي، وقال له: إني رأيت أن لا وجه في هذا الأمر إلا الالتجاء إلى الله تعالى وصدق الاعتماد عليه، فبادر إلى تصديقه في ذلك -أي: أنك أصبت الرأي- وقال: ليس إلا هذا، ثم كتبتُ إليه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على رعل وذَكْوَان شهراً -قبائل من المشركين- وينبغي أن ندعو نحن شهراً، فأجابني بالأمر بذلك -فصار أمراً بالقنوت والدعاء على المفسد.
قال الوزير رحمه الله: ثم لازمت الدعاء في كل ليلة وقت السحر، أجلس فأدعو الله سبحانه، فمات مسعود بتمام الشهر، وأجاب الله الدعاء وأزال يد مسعود وأتباعه عن العراق، وأورثنا أرضهم وديارهم.
وهذه القصة تذكر في كرامات الوزير ابن هبيرة رحمه الله تعالى.(105/11)
رأي ابن هبيرة في القضاء على الدولة العبيدية (الفاطمية)
من آرائه العظيمة والعظيمة جداً: أنه كتب إلى نور الدين زنكي يحثه على إخراج العُبَيْديين من مصر، لأن هذه الجرثومة الفاسدة، وهذا المذهب الضال -مذهب العُبَيْديين الفاطميين الذي أقاموه في مصر - وحَمَلوا الناس عليه، وقتلوا أئمة أهل السنة، وعلماء أهل السنة، ونشروا القبور والأضرحة، وشجَّعوا على الموالد، وإحياء الطرق الصوفية؛ لأنها تخدم مذهبهم، ونحو ذلك من البدع والضلالات التي ملئوا بِها مصر وغيرها شركاً، شجع ابن هبيرة -وهو الرجل السلفي الأثري السني- نور الدين زنكي رحمه الله، وكان صاحب بأس وشجاعة وقوة أن يذهب لإخراج العُبَيْديين من مصر، وقد أخذ نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله بهذا الرأي، وسيَّر أسد الدين شيراكوه مرتين، إلى مصر، وفعلاً حصل ما حصل، وكان معه صلاح الدين الأيوبي، وتَم إسقاط الدولة الفاطمية، وخُطِبَ بـ مصر للخليفة المستنجد العباسي على المنبر، وجاء الخبر إلى بغداد بهذا الأمر في سنة: (559هـ).
وكُتِبَ إلى ابن هبيرة بقصيدة يُهَنَّأ بها، وأن ذلك كان بسبب سعيه ورأيه، وعظُمَت حرمة الدولة العباسية في ذلك الوقت، وكان ذلك برأي الوزير، وبتنفيذ وسعي نور الدين رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً.(105/12)
شدة ورع ابن هبيرة
وكذلك فإن من ورعه، أنه لم يكن يلبس ثوباً فيه الإِبْرِيْسِم على القطن -والإِبْرِيْسِم هو: الحرير- فإن شك في ماهية الشيء المصنوع منه هذا القميص سل طاقاته ونظر، هل القطن أكثر أم الإِبْرِيْسْم؟ هل الحرير أكثر أم القطن؟ فإن استوت أعداد الخيوط في نسج هذا القميص لم يلبسه.
وفي بعض مجالسه قال له بعض الفقهاء الحنابلة: يا مولانا! إذا استويا، جاز لبسه في أحد الوجهين عن أصحابنا، فقال: أنا لا آخذ إلا بالأحوط، أتبحث لي على قول عند أصحابكم، أو عند أصحابنا؟! وكذلك فإنه كان رحمه الله تعالى عاملاً على تقرير قواعد الدين والنظر في مصالح الإسلام والمسلمين.
كان فاضلاً ذا رأي صائب وسريرة صالحة حتى شكره الخاص والعام.
- كان عفيفاً عن أموال المسلمين وأموال الدولة وبيت المال.
- كان كثير البر والمعروف، وقراءة القرآن، والصلاة، والصيام.
- كان جميل المظهر، شديد التظاهر بالسنة، ومن كثرة ميله إلى السنة أنه اجتاز في سوق بغداد وهو الوزير، فقال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير).
فكان يجهر بالسنة، ويجهر بالأذكار في الأماكن المختلفة.
وكذلك يضاف إلى تحريه في الأمور وشدة الورع: أنه في ذات مرة أُحْضِر له كتاب من وقف المدرسة النظامية التي أسسها النظام، وهي مدرسة خيرية كان يُجْعَل لها أوقاف من الأوقاف يُنْفق على الطلبة والمدرسين في هذه المدرسة، وتدرس فيها العلوم المختلفة، وكان هذا النظام المعمول به في أنحاء العالم الإسلامي، تُخَرِّج طلاباً أقوى من طلاب الجامعات، أحضر للوزير ابن هبيرة كتاب أوقف على المدرسة النظامية ليُقرأ فيه، فقال: قد بلغني أن الواقف شَرَط في الكتاب الوقف بأن لا يُخْرَج شيء من كتب الوقف عن المدرسة، ثم أمر برده.
فقيل له: إن هذا شيء ما تحققناه، أي: لم نتأكد منه.
قال: أليس قد قيل؟ بَلَغَنا ذلك يكفي، مثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل عندما سأله في موضوع الرضاعة: (أليس قد قيل؟) وهذا يبين أهمية التحري، والأخذ بالأحوط، والابتعاد عن الشبهات، فقال: أليس قد قيل؟ ولم يمكنهم من قراءته، وحثهم على إعادته.
وحصل كذلك من تواضعه وإيثاره للفقراء أشياء كثيرة: حتى أنه كان كثيراً ما يقول لبعض الفقراء وهو يخاطبهم في المجلس أمام الناس، يقول: أنت أخي.(105/13)
بعض استنباطات ابن هبيرة في القرآن الكريم
وكذلك: فإنه رحمه الله كان له استنباطات كثيرة في الأمور الفقهية فمن أمثلتها:(105/14)
استنباطات ابن هبيرة في سورة الأنعام
كان يقول في الآيات اللواتي في الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151]: إنها محكمات، وقد اتفقت عليها الشرائع.
قال في الآية الأولى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151] أي: في آخرها.
وفي الثانية: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام:152] في آخرها.
وفي الثالثة: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] لأن كل آية يليق بها ذلك، لأن هذه الآيات التي هي آيات الوصايا العشر في سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151] ختم الآية التي فيها النهي عن الشرك بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151] قال: لأن العقل يشهد بأن الخالق لا شريك له، والعقل يدعو إلى بر الوالدين، وينهى عن قتل الولد، وإتيان الفحشاء، لأن الإنسان يغار من الفاحشة على ابنته وأخته، فينبغي عليه أن يجتنبها، فلما لاقت هذه الأمور بالعقل، قال: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151] يعني: الفطرة السليمة والعقل السليم يهتدي إليها، وهي: - تحريم الشرك.
- الأمر ببر الوالدين.
- النهي عن قتل الولد.
- النهي عن إتيان الفاحشة.
- النهي عن قتل النفس.
في الآية الثانية قال: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} [الأنعام:152] بماذا ختمها؟ ختمها بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام:152] فقال: أي: اذكر لو هلكتَ، فصار ولدك يتيماً.
واذكر عند وزنك لو كنتَ الموزون له.
واذكر كيف تحب العدل لك في القول، فاعدل في حق غيرك.
وكما لا تؤثر أن يخان عهدك، فلا تخن.
فلاقى بهذه الأشياء التذكُّر.
فقال: افرض أن أولادك أنت هم اليتامى، تذكر أنك أنت الموزون له، فماذا تفعل؟ تعدل في اليتامى، وفي الوزن، ولذلك ختمها بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام:152].
وقال في الثالثة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] فلاقى بذلك اتقاء الزلل، فلذلك قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] اتقاء الزلل، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] فاتقاء الزلل ختمها بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].(105/15)
استنباط ابن هبيرة في قوله تعالى: (فإنك من المنظرين)
وأيضاً من فهمه واستنباطه في قوله تعالى: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الحجر:37] أي: أن إبليس لما طلب من الله أن يؤخره إلى آخر الزمان قال الله تعالى: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الحجر:37] يقول ابن هبيرة: هذا ليس بإجابة سؤال، ولا إجابة دعوة، لأن إبليس ليس صاحب كرامة عند الله حتى يجيب الله دعوته، لا.
وإنما قوله: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الحجر:37] إخبارٌ عن قَدَرِ الله، يعني: أن الله أخبر إبليس أنه من المُنْظَرِين، لما سأله الإنظار، فكأنه يقول: كذلك قُدِّر، لا أنه جواب سؤاله، لكن إبليس لم يفهم هذا.(105/16)
استنباط ابن هبيرة في قوله تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)
وفي قوله: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] قال: لم يقل ما كُتِب علينا، أو كَتَب علينا؛ لأنه أمرٌ يتعلق بالمؤمن، أي: الآن المصيبة تُكْتَب على الشخص مثلاً، لماذا قال: {مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] ولم يقل: ما كتب الله علينا، يقول: لأن المصيبة للمؤمن دائماً تكون له، أي: في حسناته؛ لأنه يصبر، فلا يصيب المؤمن شيء إلا وهو خيرٌ له، ولذلك قال في الآية: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] ولم يقل: علينا.(105/17)
استنباط ابن هبيرة في قوله تعالى: (حجاباً مستوراً)
وكذلك في قوله تعالى: {جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} [الإسراء:45] يقول: قال أهل التفسير: مستوراً بمعنى: ساتراً، والصواب: حمله على ظاهره وهو أن الحجاب مستور، الحجاب نفسه مخفي ومستور على العيون، فلا يُرى، وهذا أبلغ، أن تقول: الحجاب مستور أبلغ من كون الحجاب ساتر؛ لأنه إذا كان نفس الحجاب مستور، فهو حجاب وهو مستور، فهذا أبلغ في عدم انتفاعهم بالقرآن: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} [الإسراء:45] لا ينتفعون ولا يصل إليهم شيء من أثر القرآن الذي تقرؤه.(105/18)
استنباط ابن هبيرة في قوله تعالى: (قلت ما شاء الله)
وكذلك قال في قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الكهف:39]: ما شاء الله ماذا؟ الأصل أن يقال: ما شاء الله كان، أو ما شاء الله يكون، أو ما شاء الله سيكون، لكن قال: {مَا شَاءَ اللَّهُ} [الكهف:39] فقط، لم يقل: ما شاء الله كان، أو ما شاء الله يكون، أو ما شاء الله سيكون، قال: أطلق اللفظ ليعم الماضي والحاضر والمستقبل.
فهذا من فقهه رحمه الله في هذه الآية، {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الكهف:39] ماذا يعني ما شاء الله؟ أي: ما شاء الله كان، أو ما شاء الله يكون، أو ما شاء الله سيكون.
قال: وتدبرتُ قوله تعالى: {لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف:39] تكملة لقوله تعالى: {مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف:39] فرأيت لها ثلاثة أوجه: أحدها: أن قائلها يتبرأ من حوله وقوته ويسلِّم الأمر إلى مالكه.
والثاني: أنه يعلم أنه لا قوة للمخلوقين إلا بالله، فلا يخاف منهم إذ قواهم لا تكون إلا بالله، وذلك يوجب الخوف من الله وحده.
فإذا علمتَ أنتَ أن هذا المخلوق مهما بلغ من السلطان والقوة والهيمنة والبطش لا قوة له إلا من الله، فإذا خفت من الله، كفاك هذا المخلوق، ولا تحتاج أن تخاف من المخلوق.
والثالث: أنه ردٌ على الفلاسفة والطبائعيين الذين يدَّعون القوى في الأشياء بطبعها، فإن هذه الكلمة بيَّنت أن القوة لا تكون إلا بالله، وأن القوة ليست شيئاً موجوداً في هذا الشخص القوي، أو الحيوان القوي، أو الحديد القوي بذاته، وأنه أوجدها فيه بنفسه، إنما هو شيء موجود من الله، هو الذي خلق القوة في هذا الشيء، فهذا الشخص ليس قوياً بذاته، ولا هو الذي اكتسب القوة وأودعها عنده، وإنما لولا الله ما كان هذا الشيء قوياً، فمصدر قوة الحديد وقوة الأسد وقوة الرجل صاحب البطش وصاحب البسطة في الجسد من الله، لولا الله ما كان هذا.
أما الفلاسفة والطبائعيون، فإنهم يقولون: إن هذه الأشياء قوية بطبعها بأصلها بوجودها هكذا قوية، ولا ينسبون القوة التي فيها إلى الله.(105/19)
استنباط ابن هبيرة في قوله تعالى: (قال هم أولاء على أثري)
ومن الأمور التي نُقلت عنه -رحمه الله- في التفسير، قال: قرأ عندي قارئ قوله تعالى: {قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي} [طه:84] ففكرت في معنى إسقاط الهاء، (هؤلاء) فلماذا أسقطت هاء التنبيه فأصبحت (أولاء)؟ فنظرت فإذا وضعُها للتنبيه، لا يجوز أن يُخاطَب الله بهذا؛ لأن الذي يخاطِب ربَّه عز وجل بهذا هو موسى عليه السلام، ولم أرَ أحداً خاطب الله عز وجل بحرف التنبيه إلا الكفار، كما قال عز وجل: {قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ} [النحل:86]، وقال سبحانه: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38] وما رأيت أحداً من الأنبياء خاطب ربه بحرف التنبيه والله أعلم.
فـ (الهاء) في قول (هؤلاء): هاء التنبيه، وموسى يخاطِب ربَّه، فلا يليق أن يستخدم هاء التنبيه في الخطاب.
ولما خاطب اللهُ عز وجل المنافقين قال: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء:109].
ولما خاطب المؤمنين، كرمهم بإسقاط الهاء، فقال: {هَاأَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ} [آل عمران:119].
فالتنبيه للمؤمنين أخف.(105/20)
استنباط ابن هبيرة في قوله تعالى: (إنه يعلم الجهر من القول)
في قوله تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ} [الأنبياء:110] بطبيعة الحال الجهر يُعْلَم، لكن مما قاله ابن هبيرة رحمه الله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ} [الأنبياء:110] المعنى: أنه إذا اشتدت الأصوات وتغالبت، فإنها حالةٌ لا يَسمع فيها الإنسان، والله عز وجل يسمع كلام كل شخص بعينه، ولا يشغله سمعٌ عن سمع.
فيمكن في بعض الأحيان أن ترتفع الأصوات ويكون الكلام جهرياً، ومع ذلك الإنسان لا يفقه ولا يفهم من كثرة الاختلاط واشتباك الأصوات، والله سبحانه وتعالى يعلم ضجيج هؤلاء الملبِّين والداعين في الحج وفي غيره، ولو قاموا جماعةً كثيرةً جداً، فهم ربما يجهرون كلهم، ولكن لا يمكن أن يَعلم ماذا يقولون إلا الله سبحانه وتعالى.(105/21)
استنباط ابن هبيرة فائدة في إرسال رسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق
وكذلك في قوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان:20] ذكر لفتة مهمة للداعية إلى الله سبحانه وتعالى، قال: فهذا يدل على فضل هداية الخلق بالعلم، ويبين شرف العالم على الزاهد المنقطع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كالطبيب، والطبيب يكون عند المرضى، فلو انقطع عنهم هلكوا.
هذا وصف جميل للداعية، وهو أن الداعية مثل: الطبيب، والطبيب يكون موقعه عند المرضى، فلو أن الطبيب اعتزل المرضى ولَمْ يُخالطهم هلكوا، ولذلك قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان:20] أي: يخالطون الناس، قال: ويبين شرف العالم على الزاهد المنقطع؛ لأن بعض الناس قد يكون عندهم زهد؛ لكنهم ينقطعون عن الناس، ويشتغلون في الخلوات بذكر الله ونحوه، لكن لا يخالطون الناس، فهؤلاء لا ينفعون الناس.
فتأمل كلام ابن هبيرة -رحمه الله- الدقيق في هذه المسألة عندما شبه المعلم والداعية بالطبيب، وأن الداعية يجب أن يخالط الناس، لأنه إذا لم يخاطبهم ما استفادوا منه ولا تعلموا ولا انتفعوا ولا عدَّلوا من أخطائهم وهكذا كانت وظيفة الرسل؛ الدعوة والتعليم.
ولو أن كل إنسان قال: أنا ملتزم بديني في نفسي وأعتزل الناس ولا أخالطهم، فإن هذا سيؤدي إلى استشراء الشر وعدم وجود من يعلِّم الخلق.(105/22)
استنباط ابن هبيرة فائدة أن الولد يقوم بالشكر نيابة عن الوالدين
وكذلك في قوله تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل:19] هنا قد يظهر سؤال وهو: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل:19] أي: اللهم ألهمني شكر النعمة التي أنعمتها عليَّ، لكن ما علاقة الوالدين بالموضوع؟ {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل:19] هل سيشكر النعمة بالنيابة عن والديه، لأن الأصل أن الوالدين هما اللذان يشكران النعمة، فلماذا قال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل:19]؟ قال رحمه الله تعالى: هذا من تمام بر الوالدين، كأن هذا الولد خاف أن يكون والداه قصَّرا في شكر الرب عز وجل، فسأل الله أن يلهمه الشكر على ما أنعم به عليه وعليهما، ليقوم بما وجب عليهما من الشكر إن كانا قصَّرا.
فالابن إذاً يمكن أن يستدرك شيئاً مما فات والديه، ويكون عملُه مما ينفع والديه، وفي الحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: منها: وولد صالح يدعو له).(105/23)
الفرق بين العالم والجاهل عند ابن هبيرة
قال ابن الجوزي: سمعته يقول في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ} [القصص:80] قال: إيثار ثواب الآجل على العاجل حالة العلماء، فمن كان هكذا فهو عالم، ومن آثر العاجل فليس بعالم، يعني: أن العلماء من فقههم يقدمون الثواب الآجل على الشيء العاجل، ما دام الآجل أنفس وأحسن وأفضل وأعلى وأكثر، فإنهم بفقههم وبصيرتهم يريدون الثواب الأكثر ولو كان آجلاً يقدمونه على الشيء العاجل.
فهذا قارون عندما خرج على قومه في زينته، قال كثير من الناس: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} [القصص:80] يعني: في الآخرة، {لِمَنْ آمَنَ} [القصص:80] فلا تلهينكم أموال قارون، ولا تعجبنكم هذه الأموال الطائلة، فإن ما عند الله في الآجل خيرٌ وأبقى من هذه الدنيا الفانية.
فمن كان نظره إلى الثواب الآجل فهو عالم، ومن كان نظره مقتصراً على الثواب العاجل دون الآجل فليس بعالم.(105/24)
استنباط ابن هبيرة علاقة السمع بالليل والبصر بالنهار في سورة القصص
قال ابن الجوزي: وسمعته يقول في قوله تعالى: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص:71] تكملة: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص:71] أي: نور، نهار تستضيئون بنوره، وفي الآية الأخرى قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [القصص:72] فلماذا قال عند ذكر النهار: {تُبْصِرُونَ} [القصص:72] وعند ذكر الليل {تَسْمَعُونَ} [القصص:71]؟ قال: إنما ذكر السماع عند ذكر الليل، والإبصار عند ذكر النهار؛ لأن الإنسان يدرك بسمعه في الليل أكثر من إدراكه في النهار، ويرى في النهار أكثر مما يرى في الليل، ولذلك سلطان السمع في الليل، وسلطان البصر في النهار.
فـ الوزير يحيى رحمه الله صاحب تدبر في كتاب الله، وهذا من تأملاته وتدبره في كتاب الله؛ لأن الله قال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82] {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون:68].(105/25)
استنباط ابن هبيرة في الآية: (اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله))
قال ابن الجوزي: وسمعته يقول في قوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3] قال: فظللت أتفكر في المناسبة بين ذكر النعمة، وبين قوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3] ما هي العلاقة بين ذكر النعمة في قوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [فاطر:3] وبين قوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3]؟ فرأيت أن كل نعمة ينالها العبد فالله خالقها، فقد أنعم بخلقه لتلك النعمة وبسَوْقها إلى المنعَم عليه.
فإذا قال قائل: ما هو الرابط بين ذكر النعمة وذكر الخالق في هذه الآية {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3]؟
الجواب
أن الله هو الذي خلق النعمة، وهو الذي ساقها إلى المنعَم عليه، وهذا وجه الارتباط بين ذكر الخالق وبين ذكر النعمة في هذه الآية.(105/26)
استنباط ابن هبيرة الفرق بين قوله تعالى: (وجاء من أقصى المدينة رجل) وقوله: (وجاء رجل من أقصى المدينة)
قال ابن الجوزي: وسمعته يقول -من اللفتات الممتازة التي تدل على ذكائه وفطنته- في قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:20] هذه في قصة المؤمن في سورة يس.
وفي الآية الأخرى قال: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:20] وهذه في قصة موسى.
فنلاحظ هنا أن في آية تقديم الرجل، وفي الآية الأخرى تأخير ذكر الرجل.
الرجل صفة مدح: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً} [يوسف:109] {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف:59] {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:20] الرجل في القرآن ورد في سياق المدح، ولذلك لما تمنى أصحاب عمر كل واحد أمنية، قال عمر: [ولكني أتمنى ملء هذه الحجرة رجالاً أمثال أبي عبيدة] فالرجولة صفة مدح، والله سبحانه وتعالى يطلقها في القرآن على الممدوحين، أو في مقام مدح الرجل.
إذاً: قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:20]، وفي آية أخرى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:20] فما هي الفائدة في التقديم والتأخير؟ يقول رحمه الله: فرأيت الفائدة في تقديم ذكر الرجل وتأخيره أن ذكر الأوصاف قبل ذكر الموصوف أبلغ في المدح من تقديم ذكره على وصفه، فإن الناس يقولون: الرئيس الأجل فلان، فيأتي اسمه بعد وصفه، فمثلاً نقول: العالم العلامة الحبر الفهامة فلان، ثم نأتي باسمه، فتتقدم الصفة على الموصوف، هذه رتبة أعلى من تقدم الاسم على الصفة.
فنظرتُ -الآن هذه من ناحية المعنى واللغة والبيان- فإذا الذي زِيْدَ في مدحه هو صاحب سورة يس؛ أَمَرَ بالمعروف، وأعان الرسل، وصبر على القتل، والآخر إنما حذّر موسى من القتل، والرجل الآخر كان فقط ناصحاً جاء وحذَّر موسى من القتل، نعم.
لقد عمل شيئاً عظيماً، وجاء من أقصى المدينة ليقدم لموسى النصيحة ويخبره بالخبر المهم الذي سينبني عليه نجاة موسى وسلامته، ولكن أي الرجلين أعظم؟ الذي في قصة سورة يس أم الذي في قصة موسى؟ الذي في سورة يس أعظم؛ لأنه جاء من أقصى المدينة يسعى، ويقول: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:20 - 22] وناقش قومه، ونصر الرسل، وأمر بالمعروف، ونهى عن الشرك، وصبر على القتل، هذا أعظم ممن جاء فقط ليبلغ موسى بأن فرعون وجنوده يقتفون أثر موسى ويبحثون عنه.
قال رحمه الله: والآخر إنما حذَّر موسى من القتل، فسلم موسى بقبول مشورته، موسى عليه الصلاة والسلام كان حكيماً، هذا قبل أن يؤتى النبوة، كان عاقلاً لبيباً، لما جاءه يقول: ((إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً} [القصص:20 - 21] لم يقل: أذهب أودع أهلي، وأسلم عليهم، ثم أذهب! لا.
المسألة الآن مسألة هرب بالنفس، الهرب بالنفس يحتاج إلى سرعة، ولذلك قال الله عنه: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص:21].
فالأول: هو الآمر بالمعروف -الذي في سورة يس- والناهي عن المنكر.
والثاني: هو ناصح الآمرِ بالمعروف، هو ناصح لموسى، فاستحق الأول الزيادة، الذي في سورة يس، الذي فيه ذكر الوصف قبل ذكر الموصوف.
قال: ثم تأملت ذكر أقصى المدينة، فإذا الرجلان جاءا من بُعد في الأمر بالمعروف، ولم يتقاعدا لبعد الطريق، وهذه فائدة أيضاً.
فإن بعد المسافة قد يكون مثبطاً للشخص عن الإتيان للدعوة والنصح والتعليم، ونحو ذلك، فكونه يأتي من بعيد ويقطع الطريق فهذا يدل على قوة همته في الحق، وعلى عزيمته في البلاغ، وعلى شفقته وحرصه، ولذلك جاء من أقصى المدينة، ما رآه مصادفةً في الطريق، أو أنه جارٌ له، بل جاء من أقصى المدينة، وقوله: (يسعى) يدل على الاشتداد في الإتيان، أنه ما جاء يتباطأ، جاء مسرعاً للبلاغ، ليلحق بالأمر قبل انفراطه وقبل فوات الأوان.(105/27)
استنباط ابن هبيرة الفرق بين قوله تعالى: (لو نشاء لجعلناه حطاما) وقوله: (لو نشاء جعلناه أجاجا)
كذلك من استنباطاته رحمه الله في كتاب الله وتدبره له، في قوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} [الواقعة:65]، و {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة:70].
فهذه في سورة الواقعة.
فقوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} [الواقعة:65] أي: الزرع.
وقوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة:70]؟ أي: الماء.
وما معنى أجاجاً؟ مالحاً لا يستفاد منه.
ما هو الفرق بينهما في الحروف؟ اللام.
في الزرع قال: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} [الواقعة:65].
وفي الماء قال: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة:70] بدون لام.
فلماذا اللام ذكرت في الزرع ولم تذكر في الماء؟ قال: تأملتُ دخول اللام وخروجها، فرأيت المعنى أن اللام تقع للاستقبال، يعني: اللام تدل على المستقبل، تقول: لأضربنك، أي: فيما بعد، لا في الحال، إذا أردت أن تضربه الآن، فلا تقل: لأضربنك، وإنما اللام هذه تدل على المستقبل.
والمعنى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} [الواقعة:63 - 65] أي: في مستقبل الزمان، فيقول: انظروا إلى هذا الشيء الذي أنتم الآن تبذرونه وتزرعونه {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ} [الواقعة:65] بعد أن ينمو ويكبر ويثمر وتتعبون عليه، نجعله حطاماً، فيكون العذاب بذلك والأسى والحسرة والتأسف عليه أكبر مما لو جعله حطاماً في أول أمره، ولذلك قال: {لَجَعَلْنَاهُ} [الواقعة:65] بعدما يكبر وينضج ويثمر أمامكم تتعلق نفوسكم به، {لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً}، لأنه قال: أي: في مستقبل الزمان إذا تم فاستُحْصِد، وذلك أشد العذاب؛ لأنها حالة انتهاء تعب الزرَّاع، واجتماع الدين عليهم، لأن الزرَّاع والمزارعون يقترضون لأجل نفقات الزرع، وثمن البذور، والسقي، وما يتبع ذلك من السماد وغيره، حتى إذا أثمر وحصدوا، باعوا وسددوا الدين وأخذوا الربح، قال: لأنها حالة انتهاء تعب الزراع واجتماع الدين عليهم لرجاء القضاء بعد الحصاد مع فراغ البيوت من الأقوات؛ لأن قبيل الحصاد يكون المزارع مفلساً إلى آخر درجة، حتى البيت ليس فيه قوت، لأنه سيدخر الآن من هذا الثمر، فإذا قضي عليه في ليلة، قضي على الزرع هذا، والحصاد كله صار حطاماً، فكيف يكون وقع المصيبة؟ عظيماً.
وأما في الماء، فقال: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة:70] أي: الآن، هذا الماء الذي عندكم، أما أن نجعله في المستقبل بعد أن تشربون وتخزنون وتدخرون، ويذهب عطشكم، فلا يكون هناك نقمة قوية مثلما يُجعل الآن وأنتم محتاجون إليه قبل أن تشربوا وقبل أن تدخروا، ولذلك قال في الزرع: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ} [الواقعة:65] وقال في الماء: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ} [الواقعة:70].(105/28)
تأملاته في قوله تعالى: (قال هي عصاي)
من تأملاته -رحمه الله- في قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ} [طه:17 - 18] قال: في حمل العصا عظة؛ لأنها من شيء قد كان نامياً، فقُطِع، فكلما رآها حاملُها، ذكر الموت، العصا مأخوذة من شجر قد قطع منه، فيكون في حملها، والتوكؤ عليها، والمشي بها عظة، لأنها من شيء كان نامياً فقطع، ولذلك رؤيتها تذكر بالموت.
قال: ومن هذا قيل لـ ابن سيرين رحمه الله: رجل رأى في المنام أنه يضرِب بطبل، فقال: هذه موعظة، لأن الطبل من خشب قد كان نامياً فقطع، ومن أغشية جلود حيوان فذبح.
وقال ابن الجوزي أيضاً عن شيخه ابن هبيرة رحمه الله، ويا ليته اقتفى أثره في الأسماء والصفات؛ لأن ابن هبيرة كان سلفياً.
وسمعته يقول في قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:10] الآية، قال: المريض كما يحصل له اختلاط في الطعوم -لأن من صفات المريض أن يجد الطعوم على خلاف ما هي عليه، فيذوق الحامض حلواً، والحلو مراً، المرض يؤثر على الحواس حاسة التذوق، وحاسة الشم، فيصبح عنده نوع من الاختلاط فيها- وكذلك هؤلاء المنافقون في قلوبهم مرض، يرون الحق باطلاً، والباطل حقاً، فهذا يعني من بديع وصف المنافقين بأن في قلوبهم مرضاً، أن المريض كما يحصل له اختلاط في الطعوم، فهؤلاء كذلك يحصل عندهم اختلاط وخلط، يرون الحق باطلاً، والباطل حقاً.(105/29)
استنباطات ابن هبيرة في الحديث
ومن تأملاته رحمه الله تعالى في الأحاديث النبوية:(105/30)
استنباط ابن هبيرة فائدة من إكثار الصيام في شعبان
قال في حديث عائشة: (كان أكثر صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان) قال في هذا الحديث: ما أرى هذا إلا على وجه الرياضة -أي: التمرين والتدريب والتهيؤ للشيء، والتعود عليه- لأن الإنسان إذا هجم بنفسه على أمر لم يتعوده صَعُبَ عليه، فدرَّج نفسه بالصوم في شعبان لأجل رمضان.
هذه من فوائد أن يكون الصيام في شعبان كثيراً تدريباً وتمريناً، استعداداً لرمضان.(105/31)
استنباط ابن هبيرة في حديث: (الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)
وكذلك قال: وقد قرئ عنده أن رجلاً قال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه) أي: في مجلس الوزير ابن هبيرة قرئ حديث أن رجلاً من الصحابة رضي الله عنه قال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله حمداً كثيراً طيِّباً -بالتشديد- مباركاً فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّكم قال ذلك؟ فقال الرجل: أنا -الذي قلت- يا رسول الله، ولم أُرِدْ بذلك إلا الخير، فقال صلى الله عليه وسلم: رأيتُ بضعةً وثلاثين ملكاً يبتدرونها).
قال ابن هبيرة رحمه الله: فطفقت والجماعة عندي أفكر في معنى تخصيص هذا العدد من الملائكة.
فنظرتُ فإذا حروف هذه الكلمات بضعٌ وثلاثون حرفاً، إذا فُكَّ المشدد، وعدَّينا الحروف في هذه العبارة، وجدناها بضعةً وثلاثين حرفاً.
ورأيت أنه من عظم ما قد ازدحمت الملائكة عليها لم يحصل لكل ملك سوى حرف واحد، فصعد به يتقرب بحَمْله.(105/32)
ابن هبيرة والتمذهب
ومن كلامه -رحمه الله- في مسألة السنة التي هي ضد البدعة، والسنة التي أمرنا بالسير عليها والتمسك بها، هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك مباحثها توجد عادة في كتب العقيدة، قال مصنف سيرته -مصنف سيرة ابن هبيرة رحمه الله-: كثيراً ما سمعته يقول: ليس مذهب أحمد إلا الاتباع فقط، فما قال السلف قاله، وما سكتوا عنه سكت عنه، فإنه كان ينكر أن يقال: لفظي بالقرآن مخلوق، لأنه لم يُقَل.
فـ ابن هبيرة رحمه الله حنبلي المذهب، متبع لـ أحمد رحمه الله، لكن ننبه على مسألة مهمة جداً تتعلق بقضية اتباع الأئمة في الفقه، يقول: إن مذهب أحمد ليس إلا الاتباع فقط، أي أن أحمد ما جاء بشيء من عنده، أحمد نظر في كلام السلف -في الآيات والأحاديث أولاً وكلام الصحابة والتابعين- فما قال السلف قاله أحمد، أي: أن مذهب أحمد هو كلام السلف، ولذلك أحياناً يأتي عن أحمد ثلاث روايات في مسألة، مرة يجوز، ومرة يكره، ومرة كذا؛ لأن أحمد رحمه الله كل رواية تأتي عنه إنما يكون قد بناها على نقلٍ عن أحد من السلف، عندما اختلفت النقول عن السلف اختلفت روايات أحمد رحمه الله، وأيضاً هذه طريقة الشيخ/ عبد العزيز بن باز -نفع الله به- المسألة إذا كان هناك أكثر من رأي قوي لأهل العلم، فأحياناً يفتي بهذا وأحياناً يفتي بهذا.
فـ أحمد رحمه الله نظر في كلام أهل العلم، فما أثر عن السلف أفتى به ونقله.
ففهم هذا الشيء في قضية التمذهب شيء في غاية الأهمية؛ لأن بعض الناس يظنون أن منتهى العلم إلى الإمام، والإمام أتى به من عنده، وبالتالي تنقطع الصلة فيما بين هذا المتمذهب وبين النبي عليه الصلاة والسلام وبين الصحابة، لأن منتهى علم الرجل هذا وتقليده واتباعه إنما هو للإمام، لكن إذا عرف أن الإمام مجرد ناقل، وأن الإمام متبع للسلف، معنى ذلك أنني عندما أتبع أحمد أنا في الحقيقة متبع للسلف، وأنا منتمٍ إلى السلف قبل أن أنتمي إلى أحمد، وهذه مسألة في غاية الأهمية، لأن القضية: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:20] وليست أطيعوا فلاناً وفلاناً.
فينبغي أن تُشرح المسألة للمتمذهبين، وأن يكون الارتباط بالمنهج أن يكون الارتباط برجال العلم وبأهل العلم، وليس بفلان معين.(105/33)
مقتطفات من كلام ابن هبيرة رحمه الله
كان يقول ابن هبيرة رحمه الله في آيات الصفات: "تُمَرُّ كما جاءت".
وهذه عبارة وجدناها كثيراً ما تنقل عن السلف رحمهم الله.
فما معنى: تُمَرُّ كما جاءت؟ يعني: لا نتعرض لها بتحريف، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل، نثبت المعنى، ولا نتعرض له بتحريف، ولا تكييف، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل، لو سألت أحدهم -مثلاً- عن معنى قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ} [المائدة:64] قال: لا أدري، تثبت اليد؟ يقول: أتوقف، لا أثبت ولا أنفي، ولا أقول شيئاً.
ليس معنى (تُمَرُّ كما جاءت) أنه مذهب أهل التفويض، لا.
تُمَرُّ كما جاءت النقول عن السلف، نثبت المعنى نثبت الآية نثبت الحديث بما تضمنه من المعنى الذي جرى على لسان العرب، ولا نتعرض لهذا المعنى، ولا نتعرض لهذه الآية، ولا نتعرض لهذا النص بأي وجه من وجوه التحريف والتعطيل والتمثيل إلى آخره.
فـ ابن هبيرة سلفي، يقول في آيات الصفات: تُمَرُّ كما جاءت.
قال: تفكرت في أخبار الصفات، فرأيت الصحابة والتابعين سكتوا عن تفسيرها مع قوة علمهم.
وهذا -فعلاً- شيء ملاحَظ.
كثير من آيات الصفات لا تجد للصحابة فيها ذكراً لمعنى الصفة، ولم يتعرضوا لذلك إلا نادراً، فلماذا؟ لأن أهل البدعة لما تكلموا صار العلماء الذين يتبعون طريقة السلف يفسرون آيات الصفات تفسيراً يثبت معناها، ويقولون: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] استوى أي: علا وارتفع وصعد، فيأتون بالكلمات المرادفة التي تدل على المعنى، ويقولون: يَدٌ حقيقية تليق بجلاله وعظمته، بينما لا تجد في كلام الصحابة مثلاً: يَدٌ حقيقة تليق بجلاله وعظمته، ما تعرضوا لتفسير آيات الصفات إلا قليلاً، فلماذا؟ قال: فنظرتُ السبب في سكوتهم، فإذا هو قوة الهيبة للموصوف -يهابون الله تعالى- ولأن تفسيرها لا يتأتى إلا بضرب الأمثال لله، وقد قال عز وجل: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل:74].
ولا شك أن القوم عرب، وإذا كان الواحد عربياً ولغته سليمة فإنه لا يحتاج إلى تفسير، لأن النص أمامه ظاهر ومعروف.(105/34)
مقولة الوزير ابن هبيرة: [نحن أحق بعلي بن أبي طالب من الرافضة]
ومن أقواله رحمه الله: "والله لا نترك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع الرافضة، نحن أحق به، لأنه منا ونحن منه، ولا نترك الشافعي مع الأشعرية، فإنا أحق به منهم".
بعض الناس من الخطباء والدعاة وطلبة العلم ربما يقعون في شيء من التقصير في ذكر الحسن والحسين وآل البيت مثلاً، ولا يكادون يتعرضون لهذا الموضوع، وصار عندهم شيء من الحذر بسبب ما وقع فيه أهل البدع من الغلو في آل البيت وفي الحسين رضي الله عنه، فترانا نادراً ما نتكلم في مناقب الحسين؛ لأننا كأننا لو تكلمنا في مناقب الحسين صرنا مثل القوم هؤلاء في الكلام في مدحه والغلو به، لكن هذا يؤدي إلى شيء كبير وهو ترك هذه الشخصيات حِكراً على أهل البدعة، بينما نحن أولى وأحق بهؤلاء منهم؛ لأن هؤلاء من أهل السنة، مثل: جعفر الصادق رحمه الله فإنه من أئمة أهل السنة، لكن نادراً ما تجد أحداً يستشهد بأقواله؛ كأنه لو استشهد بأقوال جعفر الصادق يظن نفسه أنه صار مشتركاً مع أهل الرفض وغيرهم، مع أنه من أهل البيت ومن أئمة أهل السنة.
فإذاً لا نترك هؤلاء الشخصيات لأهل البدعة، دائماً هم يذكرونهم ويمدحونهم ويستشهدون بأقوالهم حتى يكون كأنه محسوبٌ عليهم، ونحن لا نذكرهم ولا نتعرض لهم كأننا لا علاقة لنا بهم وليسوا منا، بينما نحن أحق بهم منهم، ولذلك لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ورأى اليهود يصومون عاشوراء، سألهم عن سبب صيامهم، فقالوا: هذا يوم نجى الله فيه موسى، فقال عليه الصلاة والسلام: (نحن أحق بموسى منكم)، فصامه، وأمر بصيامه، وأمر بمخالفتهم بصيام يومٍ قبله.
فإذاً: لا نترك فضيلة لأهل الشر والرذيلة، لا نترك لهم شيئاً يتعلقون به، ولذلك يقول: (والله لا نترك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع الرافضة، نحن أحق به منهم؛ لأنه منا ونحن منه، ولا نترك الشافعي مع الأشعرية، فنحن أحق به منهم) فهذا شيء من أقواله رحمه الله في العقيدة.(105/35)
من مكائد الشيطان التي يحذر منها ابن هبيرة
ومن أقواله أيضاً: يقول: من مكائد الشيطان تنفيره عباد الله عن تدبر القرآن لعلمه أن الهدى واقعٌ عند التدبر.
كيف يصدهم؟ يقول: هذه مخاطرة، حتى يقول الإنسان: أنا لا أتكلم في القرآن تورُّعاً.
يقول: من طرق صد إبليس الناس عن القرآن: أن يقول القائل إذا أراد أن يتدبر: ربما تفهم خطأً، هذه مخاطرة، فالشيطان يأتي من باب الورع حتى يتوقف الشخص عن التفكير والتدبر؛ خشية أن يقع في هذا، فما هو المسلك الصحيح في هذا؟ أن الإنسان يقرأ التفسير ويتدبر، أما من غير قراءة التفسير، كيف يتدبر الجاهل؟ لا يمكن أن يتدبر.
كما نظر أحدهم إلى عبارة مكتوبة: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88] فخشع، وكاد يبكي، قال له آخر: ما لك؟! ما لك؟! قال: فيها موعظة بالغة، قال: وما هي؟ قال: انظر مكتوب: وماتوا الآباء بالله فيقي! استيقظي قد لا يفهم العبارة، فيظن نفسه الآن يتدبر، وهو يتخبط.
قال: ومنها -ومن وسائل ومكائد الشيطان في تنفير عباد الله-: أن يقيم أوثاناً في المعنى تعبد من دون الله، مثل: أن يلين الحق، فيقول: ليس هذا مذهبنا، تقليد الشيخ المعظم عنده قد قدمه على الحق.
هنا يشير ابن هبيرة إلى لفتة مهمة جداً وهي أن الأوثان والأصنام ليست فقط أشجاراً وأحجاراً وتماثيل على هيئة شخص، لا.
ليست دائماً الأشياء محسوسة، يمكن أن تكون الأوثان التي تُجعل طواغيت تصد الناس عن الحق وتعبد من دون الله يمكن أن تكون أشياء معنوية، مثل: صد الشخص عن الحق بأن هذا القول الذي هو الحق ليس قول الإمام، هذا ليس هو المذهب، فلا نأخذ به، مع أن الإنسان ينبغي عليه أن يقدم الحق ولو لم يقل به فلان أو علان من الأئمة المتبوعين، أو المعظَّمين.
فإذاً: هناك أشخاص لا يقبلون الحق مع أنه حق، لأنه لم يقل به الشيخ المعظم، أو الإمام المقدم عندهم، فهم لا يقولونه، فهؤلاء قد جعلوا هذا المبدأ وثناً.(105/36)
كلام ابن هبيرة في الفنون
ومن كلامه -رحمه الله- في الفنون، قال: العلم يحصل بثلاثة أشياء: أحدها: العمل به: فإن من كلف نفسه التكلم بالعربية، دعاه ذلك إلى حفظ النحو، ومن سأل عن المشكلات ليعمل فيها بمقتضى الشرع، تعلم.
فيقول: إن العلم لا يحصل إلا بالعمل به، فإن الإنسان -مثلاً- إذا أراد أن يتعلم اللغة العربية ما هي أحسن طريقة لتعلم اللغة العربية؟ بعض الناس يظن حفظ القواعد، فيحفظ القواعد، ويقرأ في بعض كتب اللغة، مثلاً: الأمثلة، الشرح، القاعدة ليحفظ، ولكنه لا يجيدها، لكنه لو طبَّق، فتكلم بالعربية الفصحى، وينتبه للفاعل فيرفعه، وللمفعول فينصبه، وللمجرور فيجره، فيحصل إتقاناًَ للعربية.
فإذاً: الطريقة المثلى لإتقان العلم هي: العمل به.
ثانياً: التعليم: فإنه إذا علم الناس، كان أدعى إلى تعلمه؛ لأن الذي يعلم الناس يحتاج إلى مراجعة، ويحتاج إلى انتباه لما سيسأله عنه الناس، ويحتاج إلى وعي وفهم حتى يفهِّم غيره، فكيف يوضح ويفهم من لا يفهم؟ ولذلك التعليم يقود إلى جودة التعلم.
ثالثاً: التصنيف: فإنه يخرج إلى البحث، والتصنيف لا يكون إلا لشخص عنده حد أدنى على الأقل من العلم، قطع مشواراًَ حتى يبدأ بالتصنيف، وإلا صار هراءً، لماذا التصنيف يجر إلى التمكن في العلم؟ لأنه يخرج إلى البحث، يحوج صاحبه إلى بحث المسائل، فإنه إذا أراد أن يكتب وعَرَضَت مسألة وما علم بها كيف تكتب؟ أو كيف تصاغ؟ أو ما هي أحوال هذه المسألة؟ أراد أن يصنف -مثلاًَ- في قضية لها فروع، يحتاج إلى بحث حتى يعرف الفروع، فإنه يُخْرِج إلى البحث، ولا يتمكن من التصنيف من لم يُدْرِك غور ذلك العلم الذي صنف فيه.(105/37)
قول ابن هبيرة في الحكمة من اختصاص المرأة بالحيض
وقال أيضاً: الحكمة في اختصاص المرأة بالحيض، أنها تحمل الولد، والولد مفتقرٌ إلى الغذاء، فلو شاركها في غذائها، لضعَّف قواها، ولكن جُعلت له فضلةٌ من فضلاتها إن حملت، فهي قوته، وإن لم تحمل اندفعت الفضلة وخرجت.
ما هي الفضلة؟ وهو دم الحيض، شيء زائد عن حاجة المرأة، فضلة من فضلاتها.
إن حملت الجنين، والجنين لا يأخذ من غذائها إنما هي التي تحتاج إليه وإلا ربما تضعف وتموت، لكن يأخذ من هذه الفضلة الزائدة التي هي دم الحيض.
فإن ولدت، ماذا يحصل للفضلة الزائدة؟ تتحول إلى لبن يرتضع منه المولود، ولذلك العادة أن المرضع لا تحيض، لأن الدم -الفضلة- الذي كان يخرج في الحالة العادية يتحول إلى لبن، يخرج {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً} [النحل:66].(105/38)
تحذير ابن هبيرة من العجب بالعمل
وقال رحمه الله: "نَظَرُ العاملِ إلى عمله بعين الثقة به في باب النجاة أضرُّ على العُبَّاد من تفريطهم".
لو أن أحداً وثق بعمله واعتمد واتكل عليه، فإن هذا أضر مما لو قصر وفرط؛ لأن التفريط والتقصير يوجب ندماً وتوبة، لكن لو أن أحداً أُعْجِب بعمله الصالح الذي فعله مما فعل من الأعمال الصالحة -مثلاً- اتكل عليه، واطمأن إليه، وركن إليه، ماذا يحصل لديه؟ عُجْب، والعُجْب يخرِّب العمل، ولا يشعر الشخص أنه مقصر؛ لأنه عنده عمل، ولذلك يقول: الثقة بالعمل أضر على الشخص من التفريط.(105/39)
قول ابن هبيرة في الحكمة من وجود الظلمة والكفار
ومن تأملاته يقول: لولا الظلم الجائر ما حصلت الشهادة للشهيد، ولولا أهل المعاصي ما بلغت بلوى الصابر في الأمر بالمعروف، ولو كان المجرمون ضعفاء لقُهروا، فلم يحصل ذلك المعنى.
فلو قال أحد: الله سبحانه وتعالى يمكِّن لليهود والنصارى والكفار ويجعلهم أقوياء، وعندهم أسلحة، وعندهم وعندهم لماذا؟ نقول: لو لم يكن هذا، لما كان هناك شهداء؛ ولا كان هناك زيادة أجر ورفع درجة للمبتلين من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؛ لأنه مَن الذي سيمتحنهم ويبتليهم؟ مَن الذي سيؤذيهم؟ من الذي سيحبسهم ويعذبهم؟ الفجار والكفار.
فإذاً لو كان الكفار دائماً ضعفاء، فاتت هذه المزايا، فلله في خلقه شئون وحكم! وكان يقول في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} [الأنعام:123] إنه على التقديم والتأخير، أي: جعلنا مجرميها أكابر.
ومن وصاياه لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال: اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب.(105/40)
كلام ابن هبيرة في ليلة القدر
من كلامه في ليلة القدر، قال: الصحيح عندي أن ليلة القدر تنتقل في أفراد العشر -العشر الأواخر- فإنه حدثني من أثق به أنه رآها في ليلة سبعٍ وعشرين، وأما أنا فإني كنت في ليلة إحدى وعشرين وكانت ليلة جمعة، فواصلتُ انتظارها بذكر الله عز وجل، ولم أنم تلك الليلة، فلما كان وقت السحر وأنا قائمٌ على قدمَيَّ رأيت في السماء باباً مفتوحاً مُرَبَّعاً عن يمين القبلة، قدَّرتُ أنه على حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبَقِي على حاله وأنا أنظر إليه نحو قراءتي مائة آية -أي: في الطول والمدة- ولم يزل حتى التفتُّ عن يساري إلى المشرق لأنظر هل طلع الفجر، فرأيت أول الفجر، فالتفت إلى ذلك الباب فرأيته قد ذهب، فكان ذلك مما صدَّق عندي ما رأيت.
فالظاهر من ذلك: تنقلها في ليالي الأفراد في العشر، فإذا اتفقت ليالي الجمع في الأفراد، فأجدر وأخلق بكونها فيها.
وعائشة ماذا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما علمها الدعاء في ليلة القدر: (اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو، فاعفُ عني) ماذا قالت؟ (أرأيتَ إن أُرِيْتُها؟ -أُرِيْتُ ليلة القدر، فماذا أقول؟ - قال: قولي: اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو، فاعفُ عني).
فقد يرى بعض الناس أشياء من آياتِها وعلاماتِها كنورٍ مثلاً، أو مثل ما ذكر رحِمه الله.(105/41)
تأمل ابن هبيرة في سورة الضحى
قال ابن هبيرة في سورة الضحى: لقد توالى فيها قسَمان، وجوابان مثبَتان، وجوابان نافيان، وقرر ذلك بنِعَمٍ ثلاث، وأتبعهن بوصايا ثلاث.
فقال: القسمان: الأول: {وَالضُّحَى} [الضحى:1].
والثاني: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:2].
والجوابان النافيان: الأول: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى:3].
الثاني: {وَمَا قَلَى} [الضحى:3].
والجوابان المثبَتان: الأول: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى:4].
والثاني: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5].
والنعم الثلاث المتبوعة بوصايا ثلاث؟ الأولى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} [الضحى:6].
وجوابها الوصية: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9].
والنعمة الثانية: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [الضحى:7].
قابَلَها بوصية: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10] لأن السائل ضال يبتغي الهدى، إذا كان سائلاً عن علم.
والنعمة الثالثة: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:8].
قابلها بقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11].
لاحظ! هذه لا تأتي لأي أحد، التأملات لا تأتي تكون إلا لمن تدبر وكان عنده فَهم، وعلم.
وقلنا: إن الوزير رحمه الله قد صنف كتابه الإفصاح عن معاني الصحاح في شرح أحاديث الصحيحين في عشرة مجلدات، ولما وصل إلى حديث: (من يرد الله به خيراً، يفقهه في الدين) ذكر فيه أقوال العلماء، واختلافهم، والمسائل التي اختلفوا فيها وأقوالهم، وأقوال كل مذهب في كل مسألة، شَمِل كل أبواب الفقه في هذا الحديث، ثم رجع إلى إكمال الأحاديث، وأفردوا هذا في كتاب لمفرده.(105/42)
ابن هبيرة وبعض أبياته الشعرية
كان -رحمه الله- تعالى شاعراً مجيداً، وناصحاً ملهَماً، وفصيحاً مفوَّهاً، وأديباً بارعاً، وكانت له أشعار، فمن ذلك قوله:
يا أيها الناس إني ناصحٌ لكمو فعُوا كلامي فإني ذو تجاريبِ
لا تلهينكم الدنيا بزهرتها فما تدوم على حُسْنٍ ولا طيبِ
وكان يقول أيضاً:
يلذُّ بهذا العيش من ليس يعقلُ ويزهد فيه الألمعي المحصِّلُ
وما عجبُ نفسٍ أن ترى الرأيَ إنما الـ ـعجيبة نفسٌ مقتضى الرأي تفعلُ
إلى الله أشكو همةً دنيويةً ترى النصَّ إلا أنها تتأولُ
ينهنهها موت النبي فترعوِي وتخدعها روح الحياة فتغفُل
وفي كل جزء ينقضي من زمانها من الجسم جزءٌ مثله يتحللُ
كل جزء ينقضي من زمان هذه النفس معه جزء من الجسم يتحلل وتضعف القوى.
فنفسُ الفتى في سهوها وهي تنقضي وجسمُ الفتى في شغله وهو يعملُ
وهو صاحب البيت المشهور:
والوقتُ أنفسُ ما عُنيت بحفظه وأُراه أسهل ما عليك يضيعُ
وأنشد أيضاً:
الحمد لله هذا العين لا الأثرُ فما الذي باتباع الحق تنتظرُ
قتٌ يفوت وأشغالٌ معوقةٌ وضعف عزمٍ ودارٌ شأنها الغِيَرُ
والناس رَكَضاً إلى مهوى مصارعهم وليس عندهمُ مِن ركضهم خبرُ
إلى آخره.
فـ ابن هبيرة يحث على العلم واغتنام الأوقات.
وكانت له أيضاً حكم وأقوال مأثورة عنه رحمه الله تعالى.(105/43)
كرم ابن هبيرة وعطاؤه
كان ابن هبيرة صاحب كرم، فحُكي عنه أنه كان إذا مد السماط، فأكثر ما يحضره الفقراء والعُمْيان مع أنه وزير؛ لكنه يُدخل عليه الضعفاء والعميان والفقراء، ولا يأنف من ذلك، مجلسه لأهل العلم رحمه الله، وداره مفتوحة للفقراء، قال: فلما كان ذات يوم -هذا من حسن خلقه وتعامله حتى مع الفقراء- وأكل الناس وخرجوا، بقي رجلٌ ضريرٌ يبكي ويقول: سرقوا مداسي وما لي غيره، والله لا أقدر على ثمن مداسي، وما بي إلا أن أمشي حافياً وأَصْلَى -بفتح الهمزة: الحر، فقام الوزير من مجلسه ولبس مداسه - الوزير ابن هبيرة لبس مداسه- وجاء إلى الضرير، فوقف عنده وخلع مداسه والضرير لا يعرف أن هذا الوزير، فقال: البس هذا، وأبْصِرْه على قدر رجلك؟! فلَبِسَه، وقال: نعم.
لا إله إلا الله! كأنه مداسي، ومضى الضرير، ورجع الوزير إلى مجلسه وهو يقول: سلمتُ منه أن يقول: أنت سرقته.
مع أنه معروف أن الأعمى لن يقول: إن الوزير سرقه، لكن من حسن خلقه رحمه الله، وأعطاه لذلك الفقير، وقال هذا الكلام.(105/44)
ابن هبيرة موته ومشهد جنازته
قلنا سابقاً: إن الرجل رحمه الله قد سُقِي السم، وقلنا: لعل بعض أهل الشر الذين ما راق لهم وجود هذا الرجل العادل في هذا المكان، وكيف كانت سيرته، وأنه ربما نغَّص عليهم وحرمهم من أشياء بسبب أنه كان لا يبعثر الأموال، ولا يرشي، ولا يرتشي، ولا يعطي من لا يستحق، فمثل هذا الرجل لا يطول به المقام، عمر بن عبد العزيز حكم سنتين، وسُقِي السم، فمات مسموماً رحمه الله، عمر بن عبد العزيز لم يصبر عليه بنو عمه بنو أمية، كيف يفعل هذا العدل ويحرمهم من الأشياء والمزايا.
ويبدو أن الوزير رحمه الله كان له من يترصد له، وكان يتأسف على دخوله الوزارة، ويرجو السلامة، والنجاة مما دخل فيه، وأنها ندامة يوم القيامة، وكان يخشى الله تعالى، فكان يكثر التأسف على دخوله فيها، ثم صار يسأل الله الشهادة ويتعرض لأسبابها، فحصل له في الثاني عشر من جمادى الأولى سنة: (560هـ) نام ليلة الأحد في عافية، فلما كان وقت السحر قاء -حصل له قيء- فحضر طبيب، فسقاه شيئاً، فقيل: إنه سَمَّه، سقاه سُمَّاً على أنه دواء، وسُقِي الطبيب بعده بنحو ستة أشهر سُمَّاً أيضاً، فكان يقول: سُقِيْتُ كما سَقَيْتُ، فمات الطبيب أيضاً.
وحُمِلت جنازة ابن هبيرة يوم الأحد إلى جامع القصر، وصُلِّيَ عليه، ثم حُمِل إلى مدرسته التي أنشأها بباب البصرة، فدُفِن بها، وغلِّقَت يومئذٍ أسواق بغداد، وخَرَجَ جمعٌ لم ير لمخلوق قط، في الأسواق وعلى السطوح، وشاطئ دجلة، وكثر البكاء عليه لِمَا كان يفعله من البر ويظهره من العدل.
ورُثي رحمه الله بأبياتٍ كثيرة ومنها:
مات يحيى ولَمْ نَجِد بعد يحيى ملكاً ماجداً به يُستعانُ
وإذا مات من زمانٍ كريمٌ مثل يحيى به يموت الزمانُ
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(105/45)
الإمام عبد الرحمن بن مهدي [2،1]
في هذا الدرس يعرج بنا الشيخ في رحلة طويلة مع علم من أعلام أهل السنة والجماعة في الحديث؛ هو عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله، فيذكر عنه الكثير من حياته مبتدئاً بولادته وطلبه للعلم وذكر شيوخه وأقوال أهل العلم فيه، مع ذكر شيء من سيرته وتربيته لتلاميذه، مع بعض القصص التي تدل على ذكائه وشدة حفظه، ولم ينس الشيخ أن يوضح منهج ابن مهدي في العقيدة والفقه، ورأيه في أهل الرأي وأهل الغلو.
إضافةً إلى جوانب أخرى من حياته رحمه الله.(106/1)
عبد الرحمن بن مهدي اسمه ومولده
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فحديثنا -أيها الإخوة- عن علمٍ عظيمٍ من أعلام المسلمين، وشيخٍ مبجل، ومحدِّثٍ كبيرٍ، وهو من كبار الحفاظ الذي وصفه الإمام الذهبي رحمه الله تعالى بقوله: "الإمام الناقد المجوِّد، سيد الحفاظ"، وهذا الشيخ الجليل هو: عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى.
أما نسبه: فهو: عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن العنبري -وقيل: الأزدي مولاهم- البصري اللؤلؤي، ويُكَنَّى بـ أبي سعيد رحمه الله تعالى.
ولد سنة: [135هـ] كما قال الإمام أحمد رحمه الله.
ونشأ في بيت متواضع، فلم يكن أبوه مهدي من العلماء إطلاقاً، بل ربما لم يكن شخصاً صاحب عقل، وسنأتي على قصةٍ له تبين ذلك، بل كان رجلاً عامياً بمعنى الكلمة، ولكنه خرج من صلبه -والله يصطفي من خلقه من يشاء، ويخرج من يشاء ممن يشاء- هذا الرجل العامي إمامٌ عظيمٌ من أئمة المسلمين، وهو عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله.
وكَوْن بيت هذا الرجل ليس ببيت علم، ثم يخرج منه هذا العالم؛ فإنه يدل على نبوغه وعصاميته في طلب العلم.(106/2)
ابن مهدي وطلبه للعلم
توجه عبد الرحمن بن مهدي إلى طلب علم الحديث وهو ابن بضع عشرة سنة، وكان مبرزاً فيه منذ صغره، وكان أول طلبه سنة: نيِّفٍ وخمسين ومائة.
قال أبو عامر العقدي: "كنت سبباً في طلب عبد الرحمن بن مهدي للحديث، فقد كان يتبع القُصَّاص، فقلت له: لا يحصل في يدك من هؤلاء شيء".
أي: لن يفيدك القُصَّاص؛ لأنه لا هم لهم إلا تحديث الناس بما هب ودب من غير تأكد ولا تثبت، والمهم عندهم أن يُغْرِبوا على العامة، ويأتون لهم بالطرف، وأن تشدَّ إليهم الأبصار، وتُفتح لهم الأسماع ولو أتوا بالأعاجيب، فكان يعجبه شأنهم منذ الصغر، ولكن لما نصحه أبو عامر رحمه الله، وقال له: لا يحصل في يدك من هؤلاء شيء، التفت إلى الحديث، وتمييز صحيحه من سقيمه، وطلبه على أصوله، فصار علماً مبرزاً.
وسمع عبد الرحمن بن مهدي من سفيان الثوري، وهو من أجِلَّة شيوخه، سمع منه سنة: (152هـ)، و (153هـ)، و (154هـ)، و (155هـ)، و (156هـ).(106/3)
قصة تدل على نبوغه في العلم
ومن القصص التي تدل على نبوغه في العلم منذ صغره، أنه أخبر عن نفسه، قال: كنا في جنازة فيها عبيد الله بن الحسن العنبري وهو يومئذٍ قاضي البصرة، وله موضعه في قومه وقدره عند الناس، فتكلم في شيء، فأخطأ، فقلت وأنا يومئذٍ حدث: ليس هكذا، عليك بالأثر، فتزايد عليَّ الناس، لأنه وهو حدث (صغير) ينتقد العنبري قاضي البصرة وهو رجل معظم عندهم، وقدره كبير، فالناس وقعوا في ابن مهدي، هذا الحدث الصغير كيف يخطئ أو ينتقد هذا الشيخ الكبير.
فقال عبيد الله العنبري: دعوه، وكيف هو؟ يستفهم من هذا الحدث -الغلام- يقول: ما هو الصحيح؟ فأخبرته.
فقال: صدقت يا غلام، إذاً أرجع إلى قولك وأنا صاغر.
وهذا الرجوع إلى الحق من تواضع العلماء رحمهم الله، ولو جاء من غلام صغير، ولو كان أمام الناس، وهذه وإن كان ظاهرها الحط من شأن هذا الكبير، لكنها في الحقيقة ذِكْرٌ وشَرَفٌ، فإن الإنسان يعظم في نفوس الناس؛ إذا رجع إلى الحق، وإن كانت المسألة في ظاهرها جهلٌ منه في هذه المسألة، أو نقص، لكن يطغى على هذا النقص رجوعه إلى الحق.
وصحب عبد الرحمن بن مهدي شيخه سفيان وحج معه سنة: (159هـ) ثم رجع إلى البصرة (160هـ)، فمات سفيان الثوري في دار عبد الرحمن بن مهدي، أي: مات الشيخ في دار التلميذ.(106/4)
ولع ابن مهدي بالحفظ
وقد ولع ابن مهدي بالحفظ ولعاً شديداً، حتى أنه من باب المبالغة عندما قال له رجلٌ: أيُّما أحب إليك: أن يغفر الله لك ذنباً، أو تحفظ حديثاً؟ فقال: أحفظ حديثاً.
وهذا سِيْقَ مساق المبالغة، وإن لم تُرَد الحقيقة، فإنه لا شيء أعظم من أن يغفر الله الذنب، ولكن حفظ الحديث أيضاً -إذا صحت النية فيه- من الأسباب العظيمة لمغفرة الذنوب، ورفع القدر والدرجة عند الله تعالى.(106/5)
اعتناء ابن مهدي بمعرفة معاني الأحاديث
ومن اعتنائه -رحمه الله- بمعرفة معاني الأحاديث، وضبطه لما تعلمه، يقول بندار محمد بن بشار: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: "لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، لكتبت تفسير كل حديث إلى جنبه، ولأتيت المدينة حتى أنظر في كتب قومٍ قد سمعت منهم".
لعله ليقيِّد تفسير كل حديث إلى جنبه، أو أنه ينظر هل ضَبَطَ فهمه وكتابته، وهل كذلك شيوخه الذين كتب عنهم ضبطوا الحديث، أو تغير عندهم شيء، فكان فهم الحديث عنده أمرٌ مهم، وليس فقط جمع الحديث.
قال علي بن المديني رحمه الله: ستةٌ كادت تذهب عقولهم عند المذاكرة - أي: من شدة شهوتهم للحديث- وهم: 1 - يحيى.
2 - وعبد الرحمن بن مهدي.
3 - ووكيع بن الجراح.
4 - وابن عيينة -أي: سفيان -.
5 - وأبو داود.
6 - وعبد الرزاق.(106/6)
ابن مهدي وصبره ومذاكرته للعلم
ومن صبره ولعه بالعلم، قال علي بن المديني: تذاكر وكيع وعبد الرحمن ليلةً في المسجد الحرام، فلم يزالا حتى أذَّن المؤذن أذان الصبح، من بعد صلاة العشاء انفتحت بينهما مذاكرة الأحاديث، كل واحد منهما يأتي بحديث ويذاكر به الآخر، فلا زالا هكذا إلى أن طلع الفجر وهما على حالهما في المذاكرة، من بعد العشاء إلى الفجر.(106/7)
شيوخ عبد الرحمن بن مهدي وطلابه
لقد حدَّث عبد الرحمن بن مهدي عن عدد من الأئمة، وسمع منهم، وأدرك من التابعين عدداً، مثل: 1 - المثنى.
2 - سعيد.
3 - أبو خلدة.
4 - يزيد بن أبي صالح.
5 - داود بن قيس.
6 - جرير بن حازم، وغيرهم رحمهم الله.
وسمع من: 1 - عمر بن أبي زائدة.
2 - هشام بن أبي عبد الله التستوائي.
3 - إسماعيل بن مسلم العبدي، قاضي جزيرة قيس.
4 - سفيان، وهو من أجِلَّة شيوخه.
5 - شعبة، وهو كذلك أيضاًَ.
6 - عكرمة بن عمار.
7 - عمران القطان.
8 - يونس بن أبي إسحاق.
9 - عمار بن سلمة.
10 - مالك بن أنس.
11 - عبد العزيز بن الماجشون.
12 - وغيرهم من الأئمة الأعلام.
وحدَّث عن عبد الرحمن بن مهدي عدد من الأَجِلاَّء، ومنهم: 1 - ابن المبارك.
2 - ابن وهب.
وهما من شيوخه لكنهما حدثا عنه.
وحدَّث عنه كذلك: 3 - علي بن المديني.
4 - يحيى بن سعيد القطان.
5 - أحمد بن حنبل.
6 - إسحاق بن راهويه.
7 - ابن أبي شيبة.
8 - بندار.
9 - أبو خيثمة.
10 - القواريري.
- وعدد من العلماء.
حتى قالوا: وخلفٌ يتعذر حصرهم، الذين حدثوا عن عبد الرحمن بن مهدي.(106/8)
أقوال العلماء في عبد الرحمن بن مهدي
قال الإمام أحمد: "كأن عبد الرحمن بن مهدي خُلِق للحديث".
وسئل الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي -وكانا قرينين، شيخا أهل البصرة - ووكيع، مَن الأعلَم منهم؟ قال: كان عبد الرحمن أكثرهم حديثاًَ.
وقال الإمام أحمد: "هو أفقه من يحيى القطان، وهو أثبت من وكيع؛ لأنه أقرب عهداً بالكتاب، اختلفا في نحوٍ من خمسين حديثاً للثوري، فنظرنا، فإذا عامة الصواب مع عبد الرحمن.(106/9)
قوة ضبطه للحديث
من القصص التي ذُكِرَت ما ذكره الإمام العلم أبو محمد عبد الرحمن الرازي ابن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل حيث جعل الجزء الأول من كتابه المقدمة ترجمةً لعدد من أشهر مشاهير المحدثين، مثل: شعبة، وسفيان، وابن المبارك، ومنهم بلا شك: عبد الرحمن بن مهدي.
فقال في قصة في ضبطه: حدثنا عبد الرحمن، أخبرنا أبو زرعة، قال: سمعت نوح بن حبيب يقول: حضرنا عبد الرحمن بن مهدي، فحدَّثَنا عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى في قوله عز وجل: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7] حديث في هذه الآية.
إذاً عبد الرحمن بن مهدي يقول: عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، وساق الحديث، مَن شيخ عبد الرحمن بن مهدي؟ سفيان، ومن شيخ سفيان؟ منصور، ومن هو شيخ منصور؟ أبو الضحى.
فقال رجلٌ حضر معنا: يا أبا سعيد -أي: عبد الرحمن بن مهدي - حدثنا يحيى بن سعيد -أي: القطان - عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى.
يعني: يحيى بن سعيد القطان روى لنا الحديث وخالفك، أنت تقول: عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، ويحيى بن سعيد القطان يقول: عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، فجعل بدلاً مِن منصور أبا سفيان في السند.
فسكت عبد الرحمن بن مهدي إجلالاً وتواضعاً، فهو لا يريد أن يخطئ يحيى بن سعيد القطان.
وقال له آخر في المجلس نفسه: يا أبا سعيد! حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، فـ وكيع أيضاً خالفك، وروى السند مثلما رواه يحيى بن سعيد.
قال: فسكت، وقال: حافظان.
أي: يحيى بن سعيد القطان، ووكيع، ثم قال: دعوه، يعني: دعوا هذا الأثر، دعوا هذا الحديث.
قال الراوي: ثم أتوا يحيى بن سعيد هؤلاء الطلبة خرجوا من مجلس عبد الرحمن بن مهدي وذهبوا إلى يحيى بن سعيد، فأخبروه أن عبد الرحمن بن مهدي حدَّث بهذا الحديث، عن الثوري، عن منصور، عن أبي الضحى، فأُخْبِر أنك تخالفه، ويخالفه وكيع.
فأمسك عنه، وقال: حافظان.
قال: فدخل يحيى بن سعيد، ففتش كتبه وخرج، وقال: هو كما قال عبد الرحمن عن سفيان، عن منصور، فالذي ضبط هو ابن مهدي.
قال الراوي: فأُخْبِر وكيع بقصة عبد الرحمن، والحديث، وقوله: حافظان.
فقال وكيع: عافى الله أبا سعيد، لا ينبغي أن يُقْبَلَ الكذب علينا، ثم نظر وكيع وراجع كتبه، فقال: هو كما قال عبد الرحمن، اجعلوه عن منصور، وعدِّلوه.(106/10)
تزكية أهل العلم له
يقول الإمام أحمد رحمه الله: "ما رأيت بعيني مثل يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي إماماً".
وقال: عبد الرحمن ثقة، خيار، صالح، مسلم، من معادن الصدق.
وقال جرير الرازي: "ما رأيت مثل عبد الرحمن بن مهدي، ووصف عنه بصراً بالحديث وحفظاً".
وقال علي بن المديني: "كان عبد الرحمن بن مهدي أعلم الناس"، قالها مراراً.
وقال مرةً: "أعلم الناس بالحديث ابن مهدي "، والذي يشهد له: علي بن المديني، وهو من كبار العلماء والنقاد.
وقال أيضاً: "لو حلفت بين الركن والمقام أني لم أر أعلم من ابن مهدي، لصدقتُ".
وقال أيضاً: "كان يحيى بن سعيد أعلم بالرجال، وكان عبد الرحمن أعلم بالحديث، وما شبَّهتُ علم عبد الرحمن بالحديث إلا بالسحر".
وقال أيضاً: كان علم عبد الرحمن في الحديث كالسحر.
وقال الشافعي: "لا أعرف له نظيراً في هذا الشأن".
وقيل لـ أبي نعيم: "أيُّما أحب إليك: عبد الرحمن بن مهدي عن مالك؟ أم روح بن عبادة عن مالك؟ فقال: عبد الرحمن إمام وهو أحب إلي من كل أحد".
فقيل له: إن عبد الرحمن عَرَض على مالك، وروح بن عبادة سمعه لفظاً.
وهذه المسألة تعود إلى طرق الرواية: - أعلى طريقة للرواية طريقة السماع: أن يسمع الطالب من فم الشيخ، فيحفظه، أو يكتبه، ويقول: سمعت، وحدثنا، وحدثني، هذه أعلى مرتبة وهي مرتبة السماع.
- المرتبة الثانية: العَرْض: أن الشيخ يُعْرَض عليه الحديث من قبل أحد الطلبة، ويُقرأ عليه والشيخ يقر، فيقول الطالب: أخبرنا، ولا يقول سمعتُ، لأن الشيخ ما تكلم، الذي قرأ -الآن- هو الطالب والشيخ يُقِر، فالطالب يقول: أخبركم فلان، أو حدثكم فلان، ويذكر أحاديث الشيخ، والشيخ يسمع ويُقِر، هذه الطريقة اسمها: طريقة العرض، أدنى من مرتبة السماع عند كثير من المحدِّثين.
فلما سئل أبو نعيم: حديث عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك عندك أحسن، أو روح بن عبادة عن مالك؟ فقال: عبد الرحمن إمام، وهو أحب إلي من كل أحد.
فقيل له: إن عبد الرحمن عَرَض على مالك، أي: عبد الرحمن أخذ حديث مالك بطريقة العَرْض، وروح بن عبادة سمعه لفظاً بطريقة السماع، والسماع أعلى من العرض.
فقال أبو نعيم: عَرْض عبد الرحمن أجل وأحب إلينا من سماع غيره، مع أن السماع مرتبة أعلى من العَرْض.
وقال محمد بن أبي بكر المقدمي: "ما رأيت أتقن لما سَمِعَ ولما لم يَسْمَع لحديث الناس من عبد الرحمن بن مهدي، إمام ثبتٌ، أثبتُ الناس في يحيى بن سعيد، وأتقن من وكيع، كان قد عَرَضَ حديثه على سفيان ".
وقال ابن حبان: "كان في الحفَّاظ المتقنين، وأهل الورع في الدين، ممن حفظ وجمع وتفقَّه وصنَّف وحدَّث".
وقال يزيد بن هارون: "وقعت بين أسدين: عبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القطان " كأنه يقول: لا أستطيع أن أفضل أحدهما على الآخر، وأنهما متقاربان ومتساويان وقرينان، ولا أرجح أحداً على الآخر.
وقال الخطيب البغدادي عن عبد الرحمن بن مهدي: "كان من الربانيين في العلم، وأحد المذكورين بالحفظ، وممن برع في معرفة الأثر، وطُرق الروايات، وأحوال الشيوخ".
وقال الذهبي فيه: "الحافظ الكبير، والإمام العَلَم الشهير".
وقال أبو نعيم في الحلية: "الإمام الرضي، والزمام القوي، ناقد الآثار، وحافظ الأخبار".
وقال ابن ناصر الدين: عبد الرحمن بن مهدي أبو سعيد الحافظ المشهور، والإمام المنشور، كان فقيهاً مفتياً، عظيم الشأن، وهو فيما ذكره أحمد: أفقه من يحيى القطان، وأثبت من وكيع في الأبواب".
ولا شك أن مما ساعده على تبوء هذه المكانة أن شيخه سفيان الثوري، فحديثه عن سفيان نفعه جداً، لأنه لازم سفياناً، ولازم مالكاً كذلك.(106/11)
ابن مهدي وتمييزه للحديث الصحيح عن غيره بالخبرة
مما تميز به عبد الرحمن بن مهدي: تمييز الحديث الصحيح من غيره بالخبرة.
قال نعيم بن حماد: "قلت لـ عبد الرحمن بن مهدي: كيف تعرف صحيح الحديث من غيره؟ قال: كما يعرف الطبيبُ المجنونَ".
كأنه يقول: كما أن المجنون لا يخفى على العادي فضلاً عن الطبيب، فكذلك الحديث الصحيح لا يخفى عليَّ من غيره، فأنا أميزه تمييزاً واضحاً، كما أن الطبيب يميز المجنون من غيره، أو ربما من المحتمل أنه إذا قصد بالمجنون المصروع، فإن الطبيب يعرف من حركات المصروع أنه مصروع، وقد يخفى على غيره، فكأنه يقول أنا أميز الأشياء الخفية كما يميز الطبيبُ المصروعَ، وربما لا يعرف شأنه إلا الطبيب.
ولذلك يقول عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: "معرفة الحديث إلهام".
قال ابن نمير: صَدَقَ، لو قلتَ: من أين؟ لم يكن له جواب، يعني: أحياناً الحديث المعلول لا يستطيع أن يقول لك الناقد إن سبب الضعف، أو العلة كذا، لكن يتكون عنده مع مرور الزمن، وطول الوقت حس وشعور خفي يدرك به أن هذا صحيح، وأن هذا معلول بحيث لو قلت له: ما هو سبب الضعف؟ لا يوجد راوي معين ضعيف يقول لك فيه مثلاً: فلان ضعيف، أو فلان كذاب، أو ما فيه انقطاع واضح حتى يقول لك: هذا الحديث الحسن عن عمر فيه انقطاع، ما هناك شيء مميز وواضح حتى يقوله لك عن سبب الضعف، لكن يوجد علة خفية، فالحافظ أو الناقد يعرف بحسه هذه العلةَ حتى من خفائها أنه لا يستطيع أن يشرحها لغيره بالخبرة، ومثلوا له بمثال، وهذا المثال ورد في قصة لـ عبد الرحمن بن مهدي.
قال علي بن المديني: أخذ عبد الرحمن بن مهدي على رجل من أهل البصرة حديثاً لا أسميه حديثاً، قال: فغضب له جماعة؛ لأن عبد الرحمن بن مهدي انتقده على هذا الحديث كيف يأتي به، فجاء هؤلاء البصريون أصحاب الرجل الذي حدَّث بالحديث والذي لا يثبت عند عبد الرحمن بن مهدي، وقالوا له: يا أبا سعيد! من أين قلت هذا في صاحبنا؟ بيِّن سبب ضعف الحديث الذي تدَّعي أن صاحبنا أخطأ.
قال: فغضب عبد الرحمن بن مهدي، وقال: أرأيتم لو أن رجلاً أتى بدينار إلى صيرفي، فقال: انتقد لي هذا، فقال: هو بَهْرَج، يقول له: من أين قلت لي: إنه بهرج؟! طبعاً الدنانير كانت تصنع من الذهب في الماضي والدراهم من الفضة، وكان هناك في سوق الذهب نُقَّاد أو صيارفة خبراء في الذهب، لو أعطيته دينار الذهب يقول لك: هذا صافٍ، أو مغشوش، أو مزيف بدون فحص كيميائي، ولا مختبري، ولا مكبرات، إنما بالخبرة، فهم عائلةٌ صاغَةٌ، أخذ هذا العلم في الصياغة عن أبيه عن جده، عائلة فيها هذا من كثرة الممارسة للصياغة والنظر في الدنانير، والوزن باليد، والصوت ونحو ذلك، فبالخبرة والنظر يعرف الصائغ المحترف أن هذا مزيَّف أو نقي، فشبهوا ذلك بعلم العلل الخفية، وبعض المحدثين يعلمون العلل بدون أسباب واضحة، لكن بالخبرة والحس التي تكون مع الزمن، والاشتغال وطول الممارسة، هؤلاء الصاغة يعرفون الدنانير الصحيحة من المزيفة بمجرد النظر أحياناً، فقال لهم لَمَّا قالوا: هات، بيِّن لنا سبب ضعف حديث صاحبنا البصري، فغضب عبد الرحمن بن مهدي، وقال: أرأيتم لو أن رجلاً أتى بدينار إلى صيرفي، فقال: انتقد لي هذا، فقال: هو بَهْرَج -مزيف- يقول له: من أين قلت لي: إنه بهرج؟! الزم عملي هذا عشرين سنة حتى تعلم منه ما أعلم، تعال اشتغل في الحديث عشرين سنة مثلما أنا اشتغلت، ثم تميز مثلي.
وهذا بطبيعة الحال شيءٌ يستقر في نفوس كبار الحفاظ والنقاد والمحدثين، فيعرفون بعض الأحاديث بالخبرة.
ولذلك قال عبد الرحمن بن مهدي: "معرفة الحديث إلهام"، أي: شيء يقذفه الله في نفس الشخص، ومع الخبرة والممارسة يكون له بصيرة فيه.
ونقد الدراهم والدنانير التي يعرفها هؤلاء الصاغة من غير فحصٍ، بل يعرفونها بالمعاينة، وكذلك يميز أهل الحديث وبعض النقاد وبعض العلماء من المحدثين بعلم يخلقه الله في قلوبهم بعد طول الممارسة للحديث والاعتناء به.
وعبد الرحمن بن مهدي واحد من هؤلاء قطعاً.(106/12)
سعة علم عبد الرحمن بن مهدي وتربيته لتلاميذه(106/13)
قصة ابن مهدي مع تلميذه ابن المديني
ومن سعة علم عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله- القصة العجيبة التي جاءت لتلميذه علي بن المديني، وقد ذكرنا طرفاً منها في ترجمة علي بن المديني.
قال علي بن المديني: قدمتُ الكوفة، فعُنِيْتُ بحديث الأعمش -أي: جعلت أتتبع حديث الأعمش حديثاً حديثاً، أيُّ واحدٍ عنده حديث عن الأعمش، أذهب إليه وأسمعه منه- فجمعتها -أي: جمعت أحاديث الأعمش - حتى ظننت أني قد استكملت أحاديث الأعمش، فلما قدمتُ البصرة، لقيتُ عبد الرحمن -أي: ابن مهدي، شيخه- فسلمت عليه، فقال: هات يا علي ما عندك.
فقلت: لا أحد يفيدني عن الأعمش شيئاً، يقول لشيخه عبد الرحمن بن مهدي بكل ثقة من كثرة جمعه لأحاديث الأعمش: أنا وصلت إلى مرتبة لا أحد يفيدني في أحاديث الأعمش شيئاً، أي شيء ستقوله لي قد سمعته، جمعته وانتهيت، لا جديد يؤتى إليَّ من أحاديث الأعمش.
قال: فغضب عبد الرحمن بن مهدي -وهذه تربية الشيخ للتلميذ- وقال: أهذا كلام أهل العلم؟! أن يقول الرجل: انتهى العلم، وختمتُ العلم الفلاني، ولا أحد يستطيع أن يفيديني شيئاً؟! ومَن يضبط العلم، ومَن يحيط به؟! مثلك يتكلم بهذا؟ قلت: نعم.
قال: اكتب.
قلت: ذاكرني فلعله عندي، أي: أعطني طرف الحديث شفوياً، فربما يكون عندي فلا أحتاج إلى أن أكتب وأخرج الكرَّاس والأقلام.
قال: اكتب، لستُ أملي عليك إلا ما ليس عندك.
قال: فأملى عليَّ ثلاثين حديثاً من أحاديث الأعمش لم أسمع منها حديثاً.
ولذلك ورد في الرواية الأخرى، قال: فجعلتُ أتعجب من معرفته بما ليس عندي، مع أنه لم يسرد عليه أحاديث الأعمش التي عنده، فأملى عليَّ ثلاثين حديثاً لم أسمع منها حديثاً.
ثم قال: لا تعد.
قلت: لا أعود.
وهذا تربية من عبد الرحمن بن مهدي لـ علي بن المديني.(106/14)
قصة ابن مهدي مع الأعمش
قال علي بن المديني: فلما كان بعد سنة، جاء سليمان إلى الباب، وكان سليمان زميلٌ لـ علي بن المديني، وكان يجمع الآثار في الفقه، وبالذات في مسائل الحج والمناسك، فقال ممازحاً لـ علي بن المديني، وبكلام فيه شيء من التحدي، قال: امض بنا إلى عبد الرحمن حتى أفضحه اليوم في المناسك.
قال علي بن المديني: وكان سليمان من أعلم أصحابنا بالحج، فشهد له فعلاً بعلمه التام بالمناسك.
قال: فذهبنا فدخلنا عليه، وسلَّمنا وجلسنا بين يديه.
فقال: هاتا ما عندكما، أظنك يا سليمان صاحب الخطة، والمؤامرة، وأنك حِكْتَ شيئاً قبل الإتيان إلى المجلس، يعني: من فراسة عبد الرحمن بن المهدي رحمه الله أنه عرف من عيني سليمان أنه جاء لتِحَدٍّ لشيء ما.
قال سليمان معترفاً: نعم، لا أحد يفيدنا في الحج شيئاً، ما يمكن أن تجد لي حديثاً أو أثراً لا أعرفه في مسألة من مسائل الحج.
قال علي بن المديني: فأقبل عليه بمثل ما أقبل عليَّ، أي: تعنيفاً وتوبيخاً.
ثم قال: يا سليمان! ما تقول في رجل قضى المناسك كلها إلا الطواف بالبيت فوقع على أهله؟ أي: جامع زوجته قبل الطواف.
فاندفع سليمان، فروى حديث (يتفرقان حيث اجتمعا، ويجتمعان حيث تفرقا) هذه المسألة لم يثبت فيها حديث صحيح مرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لكن ورد حديث ضعيف، وهناك فتاوى عن الصحابة، وجاءت آثار عن عبد الله بن عمرو، وعن عمر، وعن غيرهما في أن الرجل إذا جامع زوجته في الحج، يفرَّق بينه وبين زوجته، وتذهب مع رفقة مأمونة إلى حيث ينتهي الحج، ثم يأخذ زوجته.
إذا جامع قبل عرفة، يفسد الحج، ويفرَّق بينهما، ويكملان الحجة الفاسدة، ثم يأتيان بحجة بدلاً منها صحيحة من العام القادم مع ذبح بدنة، وإذا جاء في العام القادم ليحج الحجة الجديدة، حصل خلاف بين أهل العلم هل يفرَّق بينهما، أو لا، وإذا فُرِّق بينهما من أين؟ ومتى؟ حتى لا يحدث ما حدث في العام الذي قبله، هل يفرَّق بينهما من حين الإحرام؟ أو يفرَّق بينهما عند الموضع الذي جامعها فيه في الحجة الماضية؟ فلو كان مثلاً جامعها بعد فجر يوم عيد الأضحى، هل نقول لهما: أنتما معاً إلى أن تصلا إلى منى يوم العاشر فنفرقكما عن بعضكما، وتجتمعا بعد ذلك إذا انتهيتما؟ وهل تكون التفرقة في المكان الذي جامعها فيه.
مثلاً: وصل إلى منى، نقول: أنت جامعتها الحجة الماضية في منى، الآن وصلت إلى منى، فانفصل عنها؟ هل يكون التفريق في المكان، أو في الوقت؟ إذا جاء إلى نفس الوقت الذي كان قد أتى به في تلك الحَجَّة، يفرق بينهما؟ المسألة فيها كلام طويل.
قال: فاندفع سليمان فروى (يتفرقان حيث اجتمعا، ويجتمعان حيث تفرقا).
فقال عبد الرحمن بن مهدي لـ سليمان: اروِ، هات نص الآثر، ومتى يجتمعان؟ ومتى يتفرقان؟ قال: أنت تقول الآن: (يتفرقان حيث اجتمعا، ويجتمعان حيث تفرقا) وحيث ممكن للمكان وممكن للزمان، يقول: فصِّل، هات التفريق في الزمان، وهات التفريق في المكان، وهات من روى بهذا من الصحابة ومن التابعين، ومَن الذي رُوِيَت عنه آثار التفريق في المكان والزمان والخلاف في الروايات.
قال: فسكت سليمان.
فقال: اكتب.
وأقبل يُلقي عليه المسائل ويملي عليه حتى كتبنا ثلاثين مسألة، في كل مسألة يروي الحديث والحديثَين، ويقول: سألت مالكاً، وسألت سفيان، وعبيد الله بن الحسن.
قال: فلما قمتُ، قال: لا تَعُد ثانياً تقول مثلما قلتَ.
فقمنا وخرجنا، قال علي بن المديني: فأقبل عليَّ سليمان، وقال: لماذا خرج علينا من صلب مهدي هذا؟ ومهدي هو أبو عبد الرحمن، قال: لماذا أنجب هذا؟ لماذا طلع علينا من الأب هذا؟ كأنه كان قاعداً معهم، سمعتُ مالكاً وسفيان وعبيد الله، يتعجبون من حفظه.(106/15)
حسن اختيار ابن مهدي لمشايخه
كان عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله ينتقي شيوخه انتقاءً بالغاً، ولذلك قال بندار: ضرب عبد الرحمن بن مهدي على نيِّف وثمانين شيخاً يحدث عنهم سفيان الثوري، ضرب عليهم، أي: شطب على أحاديثهم، لأنه لم يرتض تلك الروايات.
أقول تعليقاً على القصة الماضية: عندما يكون عند الطالب شيخ مربٍّ، وليس فقط يلقي معلومات تخرج نماذج جيدة، ولذلك عبد الرحمن بن مهدي يُخرج علي بن المديني، مثل: علي بن المديني يخرج البخاري، ولم يكن أولئك العلماء مجرد مثقِّفين ومحفِّظين، ويلقوا المعلومات، كانت هناك تربية، يعني: قضية الوعظ والتعنيف والتوبيخ على ما يبدر من الطالب من اعتداد بالنفس، أو ثقة زائدة فيما عنده، أو يظن أنه حصَّل العلم وختمه ولم يعد هناك شيء زائد، ويُلام ويقرَّع، ويُثبَت له بالدليل من الشيخ أن عنده نقصاً، وأنه ما استكمل، هذا يربي عند الطالب ويؤسس في نفسه التواضع للعلم ولأهل العلم، وأنه لا يمكن أن يظن يوماً واحداً أنه ختم العلم، فمن ظن أنه قد علم، فقد جهل، ولذلك يقولون: "كلما ازددنا علماً، ازددنا جهلاً" فكلما اكتشفنا أن هناك أشياء وأشياء ما اطلعنا عليها، وهناك أشياء ستأتي بالتأكيد لم نطلع عليها، فنكتشف جهلنا بأنفسنا بمزيد من الاطلاع على العلم.
ولذلك ذو العقل يشقى بعقله، ولكن أخا الجهالة مُكَيِّف، يظن أنه على شيء.
ولذلك -الآن- تعرض مسائل في مَجالس العامة، بعضهم بأدنى سبب وبأدنى مناسبة يتكلم ويفتي، وهو لم يطلع على فتاوى أهل العلم، ولا على خلاف العلماء، ولا على الأدلة، ولا على ما صح، ولا على ما ضعف، يتكلمون ويهيمون ويسرحون، وطالب العلم تأتي إليه المشكلات والأشياء العويصة، ويتوقف عندها، ويحار فيها، ويسلِّم بعجزه وتقصيره أحياناً، وتخفى عليه أشياء، فيَعرف هذا الشخص قيمته.
وثانياً: أن الشيخ الذي يربي لا بد أن يكون عنده ما يربي، ويكون عنده تفوق:- لأن القضية ليست أنه فقط يقول: لا تظن نفسك علمت، ثم لا يستطيع أن يقنعه بأنه جاهل وعنده نقص، أو أن عنده ما ليس عنده، فعند ذلك عندما يكون هذا العالم عنده ما يميزه عن الطالب عنده محفوظات كثيرة يستطيع أن يقنع الطالب بعد ذلك أنه يحتاج لمزيد من التعلم، وأنه لا زال في الطريق أو في أوله.(106/16)
قوة حفظ عبد الرحمن بن مهدي
كان عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله حافظاً: يقول القواريري: أملى عليَّ ابن مهدي عشرين ألف حديث حفظاً.
وقد بلغ من تبجيل العلماء له أن حدَّث عنه ابن المبارك، وابن وهب، وهما من شيوخه.
وأخذ عنه سفيان حديثاً، قال عبد الرحمن بن مهدي: سمع سفيان الثوري مني حديثاً، فكتبه، فكون عبد الرحمن بن مهدي يكون عنده حديثاً ليس عند الثوري هذه لمفردها منقبة عظيمة.
وقال ابن مهدي: ربما كنت أماشي عبد الله بن المبارك، فأذاكره بالحديث، فيقول: لا تبرح -قف! انتظر- حتى أكتبه، ويكتب الشيخ عن التلميذ -يكتب عبد الله بن المبارك عن عبد الرحمن بن مهدي - فهذه منقبة لـ عبد الرحمن بن مهدي، وتواضع من ابن المبارك، وتواضع يتعلمه الطالب من الشيخ.
وقال خالد بن خداش: كنت عند حماد أنا وخويل، فجاء عبد الرحمن بن مهدي، فجلس، ثم قام وانصرف، فقال حماد: هذا من الذين لو أدركهم أيوب لأكرمهم، وأيوب من كبار العلماء والمحدثين.
وقال حماد بن زيد: لئن عاش عبد الرحمن بن مهدي ليخرجن رجل أهل البصرة، فكأنه قال: سيخرج عالماً بصرياً نفتخر به على سائر البلدان، ونقول: هذا عين أهل البصرة، رجل أهل البصرة خرج منها، نستغني به عن غيره، أو أنه يقول: إنه سيكون له شأن عظيم، والبلد ستكون قد أخرجت عالِمَها إذا استمر الأمر بـ عبد الرحمن بن مهدي على ما هو عليه، وفعلاً كان ذلك.
قال زياد بن أيوب: كنا في مجلس هشيم، فلما قام هشيم أخذ أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وخلف بن سالم، بيد فتىً أمَّنَ، فأدخلوه مسجداً، وكتبوا عنه وكتبنا، فإذا هو عبد الرحمن بن مهدي.
وعبد الرحمن بن مهدي أكبر من الإمام أحمد، ويحيى بن معين، وهو شيخ الجميع، لكن معنى ذلك أنهم كتبوا عنه وهو لا يزال شاباً، ولم يكتبوا عنه لما صار شيخاً كبيراً فقط، بل كتبوا عنه قبل ذلك.
وقال ابن المديني: إذا اجتمع يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي على ترك رجل، لم أحدث عنه.
فإذا اختلفا -قال بعضهم مثلاً: هذا يُحْتَجُّ به، وقال الآخر: هذا لا يُحْتَجُّ به- أخذت بقول عبد الرحمن؛ لأنه أقصدهما، وكان في يحيى تشدداً، وكما قال العلماء: يقسَّم أهل الجرح والتعديل إلى ثلاثة أقسام: 1 - قسم متشدد ومتعنت، وربما يضعف الراوي الثقة أحياناً، أو يقدح فيه لسبب ليس بقادح.
2 - قسم متوسط.
3 - قسم متساهل، ربما يوثق الضعفاء.
عبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل معدودان في الطبقة المتوسطة المعتدلة من علماء الجرح والتعديل.
وكان يحيى بن سعيد القطان رحمه الله فيه شيء من التشدد، لا يقبل الروايات إلا من أناس بلغوا الغاية.
وقال أحمد بن حنبل: اختلف عبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح في نحو من خمسين حديثاً من حديث الثوري، فنظرنا فإذا عامة الصواب في يد عبد الرحمن.
وسأله ابنه صالح بن أحمد بن حنبل: أيُّما أثبت عندك: عبد الرحمن بن مهدي، أو وكيع؟ فقال الإمام أحمد: عبد الرحمن أقل سَقْطاً من وكيع في سفيان، قد خالفه وكيع في ستين حديثاً من حديث سفيان، وكان عبد الرحمن يجيء بها على ألفاظها، وهو أكثر عدداً لشيوخ سفيان من وكيع، وروى وكيع عن نحو من خمسين شيخاً لم يروِ عنهم عبد الرحمن، ولقد كان لـ عبد الرحمن تَوَقٍّ حسنٍ، أي: ينتقي.
وقال أبو حاتم: "عبد الرحمن بن مهدي أثبت أصحاب حماد بن زيد، وهو إمام ثقة، أثبت من يحيى بن سعيد، وأتقن من وكيع، وكان قد عَرَض حديثه على سفيان الثوري ".
وقال علي بن المديني: "نظرت! فإذا الإسناد يدور على ستة، ثم صار علم هؤلاء الستة إلى اثني عشر، ثم انتهى علم الاثني عشر إلى ستة -مرة أخرى- فنظر في أكثر الأسانيد فوجدها تدور على ستة من كبار العلماء، مَن بعدَهم تلاميذهم أشهر وأكثر من روى عن الستة اثني عشر شخصاً، الطبقة الثانية، ثم لوحظ أن هؤلاء الاثني عشر الذين رووا عنهم، اجتمع علم الاثني عشر عند ستة، الطبقة الثالثة، الستة هؤلاء هم: 1 - يحيى بن سعيد القطان.
2 - عبد الرحمن بن مهدي.
3 - يحيى بن زكريا بن أبي زائدة.
4 - وكيع بن الجراح.
5 - عبد الله بن المبارك.
6 - يحيى بن آدم.
وهؤلاء هم شيوخ: علي بن المديني، والإمام أحمد، ويحيى بن معين.
الطبقة التي بعدهم هي: 1 - علي.
2 - يحيى.
3 - أحمد.
4 - ابن أبي شيبة، وغيرهم.
الطبقة التي بعدها: البخاري وغيره.(106/17)
تبجيل العلماء لابن مهدي واحترامهم له
لقد أكثر العلماء من تبجيل عبد الرحمن بن مهدي حتى أن شيخه سفيان الثوري قال له: لو أن كتبي عندي، لأفدتك علماً.
قال ابن أبي حاتم: فقد بان بذلك جلالة عبد الرحمن عند الثوري، إذا بدأه بهذا القول.
فالمعروف أن الطالب هو الذي يطلب من الشيخ، لكن هنا الشيخ يقول: لو أن كتبي عندي لحدثتك، أو كأن سفيان يقول له: إنني أفيدك الآن من حفظي، لكن لو كانت كتبي عندي لحدَّثتك منها، فـ سفيان رحمه الله تعرض للمحنة، واضطر للهروب، واختفى فترة من الزمن، ما كان له فيها مجالس، وربما خشي على كتبه التي كتب فيها الأحاديث من التغيير، فدفنها، وقد تلف كثيرٌ منها حتى أنه جاء بعد مدة يستخرجها مع بعض تلاميذه من حفرة، فقال له أحد تلاميذه ممازحاً: وفي الركاز الخُمُس أعطنا خُمُس الكتب هذه.
فكأن سفيان يقول لـ عبد الرحمن إجلالاً له: أنا أعطيتك مما أحفظ، لكن لو كان كتبي عندي لأعطيتك منها أحاديث ربما ليست عندي في حفظي.
وقال حماد بن زيد: "إن كان يؤتى لهذا الشأن، فهو هذا الشاب".
أي: عبد الرحمن بن مهدي الذي يؤتى إليه.
فقال هذا الكلام بعدما قام عبد الرحمن من عنده.
وقال عبد الرحمن: "كُتِبَ عني الحديث في حلقة مالك بن أنس ".
وكان حماد بن زيد إذا نظر إلى عبد الرحمن بن مهدي في مجلسه، تهلل وجهه.
وبلغ من اعتناء سفيان بتلميذه عبد الرحمن بن مهدي كما قال مهدي بن حسان والد عبد الرحمن: كان عبد الرحمن يكون عند سفيان عشرة أيام إلى خمسة عشرة يوماً بالليل والنهار متواصلة، فإذا جاءنا ساعةً -أي: يزور أباه وأمه وأهله- جاء رسول سفيان في أثره، فيقول: سفيان يدعوك، فيَدَعنا ويذهب إليه.
فكأن سفيان لا يريد أن يغيب عنه تلميذه عبد الرحمن.
أولئك أناس كانوا مخلصين في تعليم الناس، إذا رأى طالباً حافظاً، فهذه فرصة أن يُوْدِعَه علمه، إن وجده مخلصاً، حافظاً، ذكياً، ألمعياً، فاهماً، فهي فرصة أن يُعْتَنَى به، ولذلك من أسباب النبوغ عند السلف: أن الشيوخ يعتنون بالتلاميذ؛ ولو غاب التلميذ أرسل الشيخ في طلبه، لا يجلس الشيخ في برج عالٍ، يقول: الذي يأتيني أحدثه، والذي لا يأتيني لا أسأل عنه! وكان للشيخ خواص من الطلاب معه في سفره وحضره، في بيته ومجلسه ومسجده، ومعه في جميع الأماكن، كما كان سفيان يرسل رسولاً وراء عبد الرحمن بن مهدي إلى بيته.
ومن تقدير سفيان لـ عبد الرحمن بن مهدي: قال عبد الرحمن بن مهدي: أفتى سفيان الثوري في مسألة، فرآني كأني أنكرت فتياه بالنظر، أي: سئل سفيان عن مسألة، فأفتى فيها، فلاحظ سفيان في المجلس أن وجه عبد الرحمن بن مهدي فيه تغيُّرٌ ما، كأنه لَمْ تَرُقْ له هذه الفتوى، فقال سفيان لـ عبد الرحمن التلميذ: أنتَ ماذا تقول؟ قلت: كذا وكذا، خلاف ما يقول.
قال: فسكت ولم يقل شيئاً، وسكوت سفيان هذا معناه: إجلال لـ عبد الرحمن التلميذ، ولم يعترض على جوابه، ولم يرد عليه، فكأنه سلَّم له بالجواب، أو أقر بصحة جوابه.(106/18)
زهد عبد الرحمن بن مهدي وعبادته
كان عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله رأساً في العبادة، وكان له عادة في قيام الليل، وحدث مرةً أنه فاتته صلاة الفجر بسببٍ من هذا، فعاقب نفسه كما في القصة التالية: قال يحيى بن عبد الرحمن بن مهدي: إن أباه قام ليلةً، وكان يحيي أكثر الليل، فلما طلع الفجر، رمى بنفسه على الفراش فنام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، فقال عندما استيقظ مؤنباً نفسه: هذا مما جنى عليَّ الفراش، فجعل على نفسه ألا يجعل بينه وبين الأرض فراشاً شهرين فتقرحت فخذاه.
وهذه القصة حصلت مرة وبدون قصدٍ منه رحمه الله، ومع ذلك فإنه قد امتنع عن أن يرقد على فراش؛ لأن الفراش كان سبباً في استغراقه في النوم، وبطبيعة الحال فإن الإنسان لا يجوز له أن يتعمد فعل نافلة تؤدي إلى تفويت فريضة، لكن الذي يحدث بغير قصد لا يأثم به الإنسان ولا يؤاخذ.
وقال عبد الرحمن بن عمر عن يحيى بن عبد الرحمن بن مهدي: ودخلت يوماً دار عبد الرحمن، فإذا هو قد خرج عليَّ وقد اغتسل وهو يبكي، فقلت: ما لك يا أبا سعيد؟ قال: كنت من أشد الناس في النفور من القراءة، ومن مثل هذه الأشياء، أي: أكره أن أفعل الرُّقْيَة، فاضطرني البلاء حتى قرأتُ على ماء شيئاً، فاغتسلتُ به.
وكان ورد عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله في كل ليلة نصف القرآن، كما قال علي بن المديني، فإنه كان يحب أن يختم القرآن في كل ليلتين، وهذا يدل على أن الرجل لم يكن صاحب حديث فقط، وإنما صاحب عبادة، وصاحب قرآن، وبعض الناس إذا اشتغلوا بطلب العلم؛ أهملوا جانب العبادة، فصار عندهم شيء من القسوة في القلب، وكذلك بعض الذين يشتغلون بالحديث بالأسانيد والرجال والطرق والتصحيح والتضعيف، ولا يكون عندهم اهتمام بالعبادة، كقراءة القرآن، وقيام الليل، لا شك أن ذلك يُحدث عندهم نوعاً من القسوة، ولم يكن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله من هؤلاء مطلقاً، مع أنه كان من أئمة الجرح والتعديل وعلم الرجال والأسانيد، ولكن مع ذلك ها هو يقوم أكثر الليل، ويختم القرآن في كل ليلتَين مرة.
وقال أيوب المتوكل: كنا إذا أردنا أن ننظر إلى الدين والدنيا، ذهبنا إلى دار عبد الرحمن بن مهدي.
أما بالنسبة للدين: فواضح ماذا يعني الذهاب لـ عبد الرحمن بن مهدي؟ وأما بالنسبة للدنيا: فلعل الراوي - أيوب المتوكل - يقصد أنهم إذا أرادوا الإكرام بالطعام والتوسيع عليهم، يذهبون إلى دار عبد الرحمن بن مهدي، فإنه كان يكرم طلابه ويكرم ضيوفه، ويعطيهم ويوسِّع عليهم، فيقولون: إذا أردنا الدين الأسانيد، وأردنا الأحاديث وأردنا العلم، جئنا عبد الرحمن بن مهدي، وإذا أردنا الدنيا من الإطعام والإكرام والتوسعة؛ جئنا دار عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله.
وهكذا ينبغي أن يكون أهل العلم، عندهم خلقٌ حسنٌ، وتعاملٌ جيدٌ مع الناس، ومن ذلك: الإكرام فإنه -لا شك- يأخذ بمجامع القلوب.
وأما بالنسبة لحجه؛ فقد قال رسته رحمه الله، وهذا لقب لـ عبد الرحمن بن عمر، وهو أحد المحدثين: كان عبد الرحمن يحج كل عام، فهو صاحب عبادة في الحج أيضاً.(106/19)
وفاء علي بن المديني لشيخه ابن مهدي بعد وفاته
قال علي بن المديني: دخلتُ على امرأة عبد الرحمن بن مهدي بعد وفاته، وكان من إخلاص علي بن المديني لشيخه عبد الرحمن أنه كان يزور أهله بعد وفاة الشيخ، يزور تلك المرأة الكبيرة زوجة شيخه ويتفقدهم، وهذا ولا شك أن من الوفاء للشيخ أن يُزار أهلُه بعد رحيله، ويُتَفَقَّد أولاده، وماذا يحتاجون، وهذا من حسن العهد، والنبي عليه الصلاة والسلام كان حسن العهد، من كان له به ارتباط سابق؛ فإنه لا يزال يكرمه أو يكرم أصحابه وأهله ونحو ذلك.
قال ابن المديني: دخلت على امرأة عبد الرحمن بن مهدي، وكنت أزورها بعد موته، فرأيت سواداً في القبلة، فقلت: ما هذا؟ قالت: موضع استراحة عبد الرحمن، كان يصلي بالليل، فإذا غلبه النوم، وضع جبهته عليها، أي: إذا غلبه النوم، اتكأ بجبهته على هذا الموضع من الجدار، فلذلك تراه أسوداً مما يعلق بالجدار من ذلك الاتكاء.
وهذا يعني أنه -رحمه الله- ما كان ينام ويستغرق في النوم، بل إنه يأخذ إغفاءة وهو متكئ، ويضع جبهته على الجدار، حتى إذا ارتاح قليلاً، عاد للقيام رحمه الله تعالى.
وهكذا يُبْنَى الإيمان وقواعد الأدب في نفس الطالب بحسب ما يرى من حياة شيخه القدوة.(106/20)
مهابة العلم عند عبد الرحمن بن مهدي
كان عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى له درسٌ، وكان مهيباً في درسه، ولذلك كان -كما يقول أحمد بن سنان - لا يتحدث في مجلسه أحد، ولا يُبْرَى قلمٌ -الطلبة يجب أن يكونوا متجهزين للدرس قبل أن يبدأ الدرس- ولا يتبسم أحد، ولا يقوم لأحد قائمة، كأن على رءوسهم الطير، يعني: من خشوع شيخهم ومن هيبته، يجلسون كأن على رءوسهم الطير، لا أحد يتحرك، ولا يتبسم، كأن على رءوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة، فإذا رأى أحداً منهم تبسم أو تحدث؛ لبس نعله وخرج، وهذا يعني أنه سيفُوتُ الجميعَ ما يفُوتُ بسبب حركة واحد، الجميع مسئولون عن الجميع.
وهذا توقير منه للعلم رحمه الله لا استكباراً؛ لأن مجلس حديث النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يُتأدب معه، فإنه عليه الصلاة والسلام لو مات، فلا ترفع الأصوات فوق حديثه ولو بعد وفاته، فإذا قُرئ حديثُه، خُفِضت عند حديثه صلى الله عليه وسلم الأصوات، ولذلك فإنه رحمه الله تعالى كان عنده هذا المبدأ في دروسه.
وكذلك فإنه قد حصل مرة من المرات أن أحد الطلاب ضحك في المجلس، فيقول عبد الرحمن بن محمد بن سلام: حدثنا عبد الرحمن بن عمر، قال: ضحك رجلٌ في مجلسه وسمعه.
ولا شك أن من قلة الأدب في مجلس العلم، أو مجلس الحديث أن تقرأ أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يضحك شخصٌ! فضحك رجلٌ في مَجلسه وسَمعه، فقال: من هذا الذي يضحك؟ فأعاد مراراً، يقول لهم: من هذا الذي يضحك؟! فأشاروا إلى رجل، فأقبل عليه، وهو يقول: تطلب العلم وأنت تضحك؟! تطلب العلم وأنت تضحك؟! مرتين، لا حدثتكم شهرين، فقام الناس فانصرف.
وكان رحمه الله في ذاته مقتدياً بالنبي عليه الصلاة والسلام في عدم الإغراق في الضحك، فقال الراوي: ولا أعلم أني رأيت عبد الرحمن ضاحكاً شديداً بقهقهة إلا التبسم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان أكثر ضحكه تبسماً، فإن خشي عليه أن يغلبه الضحك لشدة الموقف؛ أمسك على فمه رحمه الله تعالى.
وكذلك فإن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله كان في مسألة الورع والاحتياط في الكلام في غاية الدقة والانتباه.
قال عبد الرحمن بن عمر: وسمعت عبد الرحمن قال لرجل: لا أفعل.
ثم سأله الرجل.
فقال: إني قد قلت: لا أفعل.
قال: إنك لم تحلف، فماذا يمنعك أن تفعل؟ قال: هذا أشد، لو حلفتُ، لكفَّرت.
فهذا من احتياطه رحمه الله؛ (لو حلفتُ، لكفَّرت).(106/21)
مذاكرة ابن مهدي للعلم وصبره
ومن جهة مذاكرته للعلم وصبره تقدَّمت أشياء، وتقدمت قصته مع وكيع وهي قصة عجيبة في مصابرته ومحبته للعلم، وهي التي رواها أبو داود السختياني، قال: "التقى وكيع وعبد الرحمن في الحرم بعد العشاء، فتواقفا -تذاكرا الحديث- حتى سمعا أذان الصبح، من بعد العشاء إلى الصبح!!(106/22)
منهج ابن مهدي في الاعتقاد
كان الإمام عبد الرحمن بن مهدي على مذهب السلف الصالح رحمهم الله، معتقداً بمذهب أهل السنة والجماعة، شديداً على أهل البدع؛ من الجهمية، والقدرية، والمتأولة.
قال رسته: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: الجهمية يريدون أن ينفوا الكلام عن الله، وأن يكون القرآن كلامه -أي: يريدون أن ينفوا أن يكون القرآن كلام الله، وأن الله كلم موسى- وقد أكَّده الله، فقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] فقد أكَّد الله أنه كلم موسى بقوله: {تَكْلِيماً} [النساء:164] {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164].
فأما الجهمية القُدامى، فإنهم قد حاولوا أن تكتب هذه اللفظة في القرآن: (وَكَلَّمَ اللهَ مُوسى)، بدل {وَكَلَّمَ اللَّهُ} [النساء:164] لكي ينسبوا الكلام إلى موسى، وينفوا عن الله الكلام، فقال كاتب المصحف وكان سُنِّيَّاً: يا أحمق، إذا غيرنا هذه، فماذا أفعل بقول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]؟! كيف بها في هذه؟! أما الذين تأثروا بمذهب الجهمية من المتأخرين، مثل: الأشاعرة، فإنهم إذا أتوا إلى هذه الآية: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] ولا يستطيعون أن يحرفوها، يقولون: كَلَّمَهُ يعني: جرَّحه بأظافر الحكمة، وهذا من أفسد الكلام والتفسير، وما الحاجة إلى تجريح موسى بأظافر الحكمة؟! فإن الله يقذها في قلب موسى بدون تجريح، وهل يحتمل كلام العرب كل هذا التعسف لكي يُصْرَف اللفظ عن ظاهره من أجل مذهب فاسد، أو قواعد من علم الكلام الفاسد التي أخذوها عن الكفار! وقال إبراهيم بن زياد الملقب بـ سبلان: قال لي ابن مهدي: "لو كان لي سلطان، لألقيت من يقول: إن القرآن مخلوق في دجلة بعد أن أضرب عنقه".
وفي رواية قال: "لو كان لي سلطان، لقمت على الجسر -الذي يعبر منه جسر النهر- فلا يمر بي أحدٌ إلا سألته عن القرآن، فإذا قال مخلوق؛ ضربتُ عنقه وألقيته في الماء".
وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضاً: "إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن يكون اللهُ كلَّم موسى، وأن يكون استوى على العرش، أرى أن يُستتابوا، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم".
وهذه الشدة على أهل البدعة واجبة لكي تحاصَر البدعة، لأن أهل البدع لو تُرك لهم المجال؛ فإن أمرهم سيتفشى، فكان السلف في أشد ما يكون على أهل البدع بمحاصرتهم.
قال ابن مهدي بحضرة يحيى القطان وقد جاء ذكر الجهمية، ما كنت لأناكحهم، ولا أصلي خلفهم، ولو أن رجلاً منهم خطب إلى أَمَة لي ما زوجتُه.(106/23)
موقف ابن مهدي من أهل الهوى والرأي
وكان يكره الجلوس إلى ذي هوى، أو ذي رأي، قال محمد بن مثنى: رأيت في حِجْر عبد الرحمن بن مهدي كتاباً فيه حديث رجل قد ضرب عليه -شطب على حديثه، كان عبد الرحمن بن مهدي قد كتب له، ثم شطب عليه- فقلت: يا أبا سعيد! لماذا ضربت على حديثه؟ قال: أخبرني يحيى -يعني: يحيى بن سعيد القطان صاحبه- أنه يرى برأي جهم فضربتُ على حديثه.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: "من قال: القرآنُ مخلوقٌ، فلا تصلِّ خلفه، ولا تمشِ معه في طريق، ولا تناكِحْه".
وقال: "من زعم أن القرآن مخلوق استتبته، فإن تاب وإلا ضُرِبَت عنقه؛ لأنه كافرٌ بالقرآن، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] ".
وقال عبد الرحمن بن عمر: سمعت عبد الرحمن بن مهدي قد سئل عن الصلاة خلف أصحاب الأهواء؟ فقال: يُصَلَّى خلفهم ما لم يكن داعيةً إلى بدعةٍ، مجادلاً بها، إلا هذين الصنفين لا يُصَلَّى خلفهم، الجهمية، والرافضة، فإن الجهمية كفارٌ بكتاب الله عز وجل، والرافضة ينتقصون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكرت عند عبد الرحمن بن مهدي قصة أحد الجهمية أنهم ذكروا عنده أن الله تبارك وتعالى خلق آدم بيده، وهذا حديثٌ صحيحٌ، والله قال في القرآن: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وأخبر أنه خلق آدم بيده.
وعندما سمع هذا الجهمي الكلام؛ قال مستهزئاً: عَجَنَه بيده وحَرَّك بيدَيه العجين.
فقال عبد الرحمن لما سمع قصة هذا الجهمي: لو استشارني هذا السلطان في الجهمية لأشرت عليه أن يستتيبهم، فإن تابوا، وإلا ضُرِبَت أعناقهم.
وقال له رجل: ما رأيك بمن مشى إليهم يتعلم منهم بعض ما يجيدون من أساليب الكلام؟ قال: لا، مشيك إليهم توقير، وقد جاء في الآثار أن من وقر صاحب بدعة؛ فله كذا وكذا من العذاب، وكذا من الذم الذي جاء في حقه.
فهذه الشدة على أهل البدع كانت مطلوبة، ولا شك، لأننا لو نظرنا بعد عبد الرحمن بن مهدي لمَّا قامت المعتزلة ورفعوا رءوسهم، وتولوا الأمور، كانت فتنة الإمام أحمد رحمه الله، وفتنة أهل الحديث التي حصلت في زمن ابن أبي دؤاد لما زين للمأمون القول بخلق القرآن، فحمل المأمون كل القضاة والعلماء وأهل الحديث والأئمة والخطباء بالقوة عليه، حتى وصل الأمر إلى قتل بعضهم وسجنهم وضربهم كما كان المعتصم يفعل، والإمام أحمد رحمه الله مُلْقَىً لصف الجلادين، كل جلاد يضربه سوطين بأقوى ما عنده، ويقول المعتصم للجلاد: شد يدك، قطع الله يدك.
فيعتزل، ويأتي الثاني، ويعتزل، ويأتي الثالث وهكذا حتى كان كل جلاد يضرب بأقوى ما عنده.
فلا عجب بعد ذلك أن نرى بأن السلف كانوا يعرفون ما يمكن أن تؤدي إليه البدعة إذا استحكمت، ولذلك كانوا شديدين على أهل البدع كما فعل عبد الرحمن رحمه الله وجزاه عن الإسلام خيراً.
ذكر له رجل أن المبتدعة عندهم صلاة وصيام أي زيادة على العبادة المشروعة.
فقال: لا يقبل الله إلا ما كان على الكتاب والسنة، ثم قرأ قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27] فلم يقبل ذلك منهم، ووبخهم عليه، يقول ابن مهدي شارحاً الآية: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27] قال: فلم يقبل ذلك منهم، مع أنها زيادة عبادة، فذلك غلو، فلم يقبل الله ذلك منهم، ووبخهم عليه، ثم قال: الزم طريق السنة.(106/24)
مناقشة ابن مهدي لأهل البدع
وقد حصل لـ عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله- قصة عجيبة تدل على ذكائه وحسن مناقشته وإقناعه، فكان ينظر من المتأثر بالمبتدعة؛ فيكلمه وينصحه في الله، ويقنعه.
وهذه القصة يرويها عبد الرحمن بن عمر الملقب بـ رسته، قال: سمعت ابن مهدي يقول لفتىً من ولد الأمير جعفر بن سليمان الهاشمي: مكانك انتظر، لا تذهب، فقعد حتى تفرق الناس.
انظر الحكمة! لا يريد أن يوبخه أمام الناس، قال: انتظر، كأنه يقول: أريدك على انفراد.
ثم قال له: يا بني! تعرف ما في هذه الكورة من الأهواء والاختلاف؟ والكورة معناها: البلد.
فيقول: أتعرف ما يوجد في هذه البلدة من الأهواء والاختلاف والبدع التي خرجت؟ ومن البدع التي كانت موجودة بدعة الجهمية، وبدعة المجسمة الذين يشبهون الله بخلقه؛ كما يُرْوَى عن مقاتل بن سليمان البلخي، قال: هاتوا أي شيء من الإنسان أشبهه لكم بالله -تعالى الله عما يقول علواً كبيراً- ولا أتحرج إلا في اثنتين: اللحية والفرج -تعالى الله عن قوله- هذه بدعة المجسمة الذين يشبهون الله بخلقه، والجهمية ينفون عن الله الصفات، وأهل السنة يثبتون لله الأسماء والصفات، لكن ليست كما للمخلوقين، وإنما على الوجه اللائق به جل وعلا.
قال له: يا بني! أتعرف ما في هذه الكورة من الأهواء والاختلاف؟ وكل ذلك يجري منك رضاً إلا أمرك، وما بلغني فإن الأمر لا يزال هيناً ما لم يصل إليكم -يعني: السلطان- فإذا صار إليكم، جل وعظُم.
يعني: يقول له: أنت سمعت بالأهواء والبدع التي حصلت في هذه الجهة من البلدان التي أنتم مسئولون عنها وأنت راضٍ ولم تغير، ولم تنكر، والأمر سهل إذا ما وصل إليكم، لكن إذا وصل إليكم، جل وعظُم؛ لأنه إذا وصل إليهم واعتقدوه حملوا الناس عليه كما فعل المأمون والمعتصم والواثق عندما حملوا الناس عليه بالقوة، أو على الأقل إذا ما أنكروه، ولا ردعوا من اعتقده؛ فإن المبتدعة سيتشجعون، وليس هناك سلطان يردعهم، ولذلك قال: فإن الأمر لا يزال هيناً ما لم يصل إليكم، فإذا صار إليكم، جلَّ وعظُم؛ لأنه سيجري تحت علمكم ومعرفتكم، فلا تنكرون، فينتشر، أو تعتقدون، فتحملون الناس عليه.
قال: يا أبا سعيد! وما ذاك؟! قال: بلغني أنك تتكلم في الرب وتصفه وتشبِّهُه، وهذا يدل على أن عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله- لم يكن مغفلاً ولا يدري ماذا يحدث حوله، بل كان يعرف البدع ومدى انتشارها، ومن الذي يعتقدوها، فتصل إليه الأخبار، وينصح، ويكلم.
قال: بلغني أنك تعتقد مذهب المجسمة المشبِّهة الذين يشبهون الله بخلقه.
قال الغلام: نعم يا أبا سعيد، نظرْنا، فلم نر من خلق الله شيئاً أحسن ولا أولى من الإنسان، فأخذ يتكلم في الصفة والقامة.
وقولهم: انظرنا! حجة تافهة للمجسِّمة، بأي شيء نشبه الله من مخلوقاته؟ فوجدنا أن أحسن المخلوقات هو الإنسان، فقلنا: إذاً هو يشبه الإنسان.
قال له عبد الرحمن: رويدك يا بني حتى نتكلم أولاً في المخلوق، دعنا الآن من الكلام في الخالق، لنتكلم في المخلوق، فإن عجزنا عن المخلوق، فنحن عن الخالق أعجز، تصوَّر الآن وشبِّه هذا الكلام الذي سأقوله لك وجسِّمه وهو في مخلوق، وفسِّر لي كيف يكون، أخبرني عن حديث حدثنيه شعبة، عن الشيباني، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18] أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى في الإسراء والمعراج من آيات ربه الكبرى، قال عبد الله بن مسعود يفسر الآية: [رأى جبريلَ له ستمائة جناح] قال: شبِّه هذا؟ جبريل له ستمائة جناح، تتخيل ستمائة جناح كيف هي مركبة؟! أتستطيع أن تشبِّه هذا وتجسِّمه وتتخيَّله؟ فبقي الغلام ينظر محتاراً -فعلاً- كيف يشبِّه ستمائة جناح بشيء من المخلوقين، أو يتخيَّله، أو يأتي بمثال.
فقال له عبد الرحمن: يا بني! فإني أهوِّن عليك المسألة، وأضع عنك خمسمائة وسبعاً وتسعين جناحاً، أتنازل لك عنها، هذه لا أريدها منك، وأتنازل لك عنها، صف لي خلقاً بثلاثة أجنحة، وركِّب الجناح الثالث منه موضعاً حتى أعلم، أي: خلق له جناحين كيف يكون؟ مثلِّ وهات مثالاً على خلق له بثلاثة أجنحة، أين يكون الجناح الثالث؟ فبقي الغلام محتاراً بطبيعة الحال، وعلم أنه ضال مخطئ، قال: يا أبا سعيد! قد عجزنا عن صفة المخلوق -فعلاً- ونحن عن صفة الخالق أعجز، فأشهدك أني قد رجعت عن ذلك، وأستغفر الله.
وهذا مثال رائع للغاية، كيف كان عبد الرحمن بن مهدي يناقش ويقنع.
وكلامه -رحمه الله- في مسائل الاعتقاد كثير: وهذه طائفة منه.(106/25)
فقه الإمام عبد الرحمن بن مهدي
وأما بالنسبة لفقهه رحمه الله، فإنه بطبيعة الحال لم يكن له مذهب معين، ولكنه كان يذهب مذهب تابعي أهل المدينة، ويقتدي بطريقتهم.
يقول الإمام أحمد بن حنبل عن عبد الرحمن بن مهدي: كان يتوسع في الفقه، كان أوسع فيه من يحيى -أي: يحيى بن سعيد القطان - وكان يحيى يميل إلى قول الكوفيين، وكان عبد الرحمن يذهب إلى بعض مذاهب الحديث، وإلى رأي المدنيين.
وطريقتهم في ذلك الوقت هي الأخذ بآثار القرآن والسنة، فهم أناس عندهم فهم وعلم باللغة، يأخذون بالقرآن والسنة، ويجمعون الأحاديث، وآثار الصحابة، يفتون بها ويتبعونها، هذا هو المذهب.(106/26)
دقة عبد الرحمن بن مهدي وإتقانه
وكان رحمه الله تعالى متقناً لما يسمع:- قال محمد بن أبي بكر المقدمي: "ما رأيت أحداً أتقن لما سمع، ولما لم يسمع، ولحديث الناس من عبد الرحمن بن مهدي ".
وقد بلغ في الإتقان مبلغاً عظيماً جعل يحيى بن سعيد يقول كلمة فيها تواضع، وفيها أيضاً تزكية بالغة لـ عبد الرحمن بن مهدي، يقول يحيى بن سعيد رحمه الله: ما سمع عبد الرحمن من سفيان عن الأعمش أحب إليَّ مما سمعتُ أنا عن الأعمش، أي: عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش، أحب إليَّ وأوثق عندي مما سمعتُ أنا عن الأعمش، لشدة ضبط عبد الرحمن، ولشدة ضبط سفيان.
وقال علي بن المديني رحمه الله عن عبد الرحمن بن مهدي: كان يعرف حديثه وحديث غيره، وكان يُذكر له الحديث عن الرجل، فيقول: خطأ، ليس هكذا الحديث، ثم يقول: ينبغي أن يكون هذا الشيخ من حديث كذا من وجه كذا، قال: فنجده كما قال، أي: إنه لا يقول فقط: إنه خطأ، لكن يقول: أظن أن الصواب كذا، كما تقدم في قصة عبد الرحمن بن مهدي مع وكيع ويحيى بن سعيد.
حيث جعلا حديث سفيان عن أبيه، وعبد الرحمن روى الحديث عن سفيان عن منصور، مع أن يحيى بن سعيد ووكيع كلاهما قد رواه عن سفيان عن أبيه، لكن عبد الرحمن بن مهدي رواه عن سفيان عن منصور، ورجعا إلى قوله.
ومن دقته: أنه كان لا يحدث بالمعنى، بل يحدث باللفظة، وهذه المسألة عند المحدثين: هل تجوز الرواية بالمعنى أم لا؟ والذين أجازوها اشترطوا فيها شروطاً؛ منها: 1 - أن يكون عالماً باللفظ.
2 - أن يكون عالماً بما يوحي به المعنى.
إلى آخره.
وبعضهم قال: لا تجوز الرواية بالمعنى، إنما يرويه كما سمع، إما أن يحفظه فيرويه، أو لا يروي شيئاً.
فكان عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله ممن لا يحدث إلا باللفظ، ولا يجيز التحديث بالمعنى.(106/27)
معرفة ابن مهدي بعلل الحديث
كان رحمه الله بصيراً في علم العلل؛ حتى قال عنه علي بن المديني: علم عبد الرحمن بن مهدي في الحديث كالسحر.
وهو يقول عن نفسه: لئن أعرف علة حديث أحبُّ إليََّ من أن أستفيد عشرة أحاديث.
وكذلك قال علي بن المديني: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: خالفني ابن المبارك في حياة سفيان في حديث عن إبراهيم في عدة أم الولد، قال: ليس هو حديث ابن أبي ثابت، ابن المبارك رحمه الله رأى هذا، وقد كان من كبار الحفَّاظ، قال عبد الرحمن: فسألت سفيان عنه، فقال: هو حديث ابن أبي ثابت، فـ سفيان الثوري أكَّد ما حفظه عبد الرحمن.(106/28)
روايه ابن مهدي عن الثقات
كان عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله لا يروي إلا عن الثقات، وهو المشهور بالتفتيش عن الضعفاء.
وقال عمرو بن علي: سألت عبد الرحمن بن مهدي عن حديث لـ عبد الكريم المعلم؟ فقال: هو عن عبد الكريم.
فلما قام سألته فيما بيني وبينه.
قال: فأين التقوى؟ يعني: أنه سأل عبد الرحمن بن مهدي عن حديث لـ عبد الكريم المعلم يريد نص الحديث، وعبد الرحمن بن مهدي لم يعطه نص الحديث، قال له: هو عن عبد الكريم، أي: يكفيك أن الحديث الذي تسأل عنه يرويه عبد الكريم هذا، وعبد الرحمن بن مهدي لا يرى أن عبد الكريم المعلم ثقة، وبالتالي لا يروي حديثه.
فالطالب جاء في المجلس وسأله عن حديث عبد الكريم المعلم، قال: هو عن عبد الكريم، ولما قام الطالب من الدرس، اختلى بالشيخ، وقال له: حدثني حديث هذا الرجل.
قال: فأين التقوى؟ يقول: إذا كانت التقوى قد حجزتني عن الرواية عمن ليس بثقة عندي في العلانية، فلا بد أن تحجزني في السر، كيف أنا ما أجبت عنه علانية، ولا أعطيتك حديثه، ثم في السر أعطي حديثه! لا أعطي حديثه؛ لأن عبد الكريم هذا كان عند عبد الرحمن بن مهدي غير قوي، ولذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله: إذا حدَّث عبد الرحمن عن رجل، فهو حجة، يعني: شيوخ عبد الرحمن بن مهدي ثقات، لأنه لا يحدث إلا عن ثقة، وقد سمع من الثقة ومن غير الثقة، ولذلك يطرحون أحاديث كثيرة جداً مع أنهم سمعوها، ويحدثون بأحاديث معينة فقط، ومثل: عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله- لا يحدِّث إلا عن ثقة، وهذه فائدة في المصطلح.
وقال علي بن المديني: أعلم الناس بقول فقهاء أهل المدينة السبعة: 1 - الزهري.
2 - ثم بعده مالك.
3 - ثم بعده ابن مهدي.(106/29)
أقوال مأثورة عن عبد الرحمن بن مهدي
كان لـ عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى أقوال قد أُثِرت عنه فيها حكم: فمن أقواله التي أثرت عنه والتي تصلح أن تكون قواعد في العلم والأدب: 1 - قال: معرفة الحديث إلهام.
2 - وقال أيضاً: فتنة الحديث أشد من فتنة المال والولد، كم من رجل يُظَنُّ به الخير قد حَمَلَه الحديث على الكذب شهوة أن يجتمع عليه الناس، وأن يأخذوا عنه، وأن يقال: فلان عن فلان، وأن يدخل في الأسانيد، فإذا لم يكن صاحب حديث، ويريد أن يدخل نفسه في هذه الصنعة بسبب شهوة الحديث ربما يكذب.
3 - ومن أقواله كذلك: يحرم على الرجل أن يفتي إلا في شيء سمعه من ثقة.
وهذا فيه تعليم لبعض الناس الذين يتفاءلون بالفتيا، فيقول لك: هذا كذا، فتقول: مَن الذي حدثك به؟ فيقول: لا أدري، سمعته مرة في مجلس لا أدري من الذي قال، ومرة سمعت كذا في ذهني؛ لكن يقول: مُحَرَّمٌ على الرجل أن يفتي إلا في شيء سمعه من ثقة.
4 - وقال عن الولع بالحديث: إن الحديث إذا تمكن من الإنسان، صار مسيطراً عليه، يقول: الغرام في طلب الحديث مثل: لعب الحمام، ونطاح الكباش؛ لأن أهل الحمام يولعون باللعب بها جداً، وتصبح هذه قضيتهم وشغلهم الشاغل، وكذلك الذين يهوون مصارعة ومناطحة الكباش ويجتمعون لها، تكون لهم لذة يعني: الغرام بالحديث، بل هو أشد.
5 - وقال رسته: سألت ابن مهدي عن الرجل يتمنى الموت مخافة الفتنة على دينه.
قال: ما أرى بذلك بأساً، لكن لا يتمناه من ضُرٍّ به أو فاقة، تمنى الموتَ أبو بكر وعمر ومن دونهم، فإذا كان يتمنى الموت حتى لا يفتن في دينه، فلا بأس، أما أن يتمنى الموت في ضر نزل به، فلا، لأجل الحديث.
6 - ومن تواضع عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله كما يروي رسته: قام ابن مهدي من المجلس، وتبعه الناس يمشون خلفه فالتفت إليهم يقول لهم: يا قوم، لا تَطَأُنَّ عقِبي، أي: لا تمشوا ورائي، ولا تَمُشُنَّ خلفي، حدثنا أبو الأشهل، عن الحسن، قال عمران: [خفق النعال خلف الأحمق قلَّما يُبقي من دينه] قال: لا تمشوا ورائي، لأن المشي ورائي فتنة لي، وإن خفق النعال خلق الأحمق قلَّما يبقي من دينه، مع أن الرجل من أعقل العقلاء.
7 - ومن أقواله العظيمة التي تنبئ عن التواضع وحب العلم وحب طلبة العلم، يقول: "إذا لقي الرجلُ الرجلَ فوقه في العلم؛ فهو يوم غنيمة" إذا التقيت مع أحد أعلم منك في مجلس فهذا يوم غنيمة لما ستستفيد منه.
و"إذا لقي الرجل من هو مثله: دارسه، أي: مدارسة ومذاكرة، كما فعل هو مع وكيع في الحرم من العشاء إلى الفجر، دارسه وتعلم منه.
وإذا لقي من هو دونه: تواضع له وعلَّمه".
ولا يكون إماماً في العلم من حدَّث بكل ما سمع، وإنما يجب أن ينتقي، ولا يكون إماماً من حدَّث عن كل أحد، ولا مَن يحدث بالشاذ.
8 - ومن أقواله المأثورة: إنما مثل صاحب الحديث بمنزلة السمسار، إذا غاب عن السوق خمسة أيام تغير بصره.
يقول: السمسار الذي يتابع الأسعار والأشياء، إذا غاب عن السوق خمسة أيام تغيرت عليه الأسعار والبضائع والأشياء، وإذا دخل يأتي كأنه لا يعرف ولا يدري ماذا يفعل، وخبرته تغيرت.
قال: صاحب الحديث بمنزلة السمسار، إذا غاب عن السوق خمسة أيام تغير بصره، فكأنه يقول: لا إجازة ولا عطلة من طلب العلم، لا بد كل يوم أن يطلب العلم، إذا غاب صاحب الحديث عن الحديث خمسة أيام، تغير، فكما أن السمسار يحتاج إلى متابعة الأسعار باستمرار؛ كذلك صاحب الحديث يحتاج إلى متابعة الحديث باستمرار.
9 - وقال ابن مهدي: لا ينبغي لمصنفٍ أن يصنف شيئاً من أبواب العلم إلا ويلتجئ بحديث: (إنما الأعمال بالنيات).
10 - وقال: يحرم على الرجل أن يروي حديثاً في أمر الدين حتى يتقنه ويحفظه كالآية من القرآن، أو كاسم الرجل، أو كما يحفظ اسمه، يحفظ الحديث ويرويه، وإلا لا يرويه.
11 - وقال: "الرجل إلى العلم أحوج منه إلى الأكل والشرب".
12 - وقال: لا نعرف كتاباً في الإسلام بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك، ولم يقل: صحيح البخاري مع أن البخاري أنفع من موطأ مالك وأصح؛ لأن البخاري ما جاء إلا بعد ابن مهدي، فـ البخاري تلميذ علي بن المديني، وعلي بن المديني تلميذ عبد الرحمن بن مهدي، فـ عبد الرحمن بن مهدي لم يرَ البخاري.
13 - وقال أيضاً: لا يجوز أن يكون الرجل إماماً حتى يعلم ما يصح مما لم يصح، وحتى يعلم بمخارج العلم، وحتى لا يحتج بكل شيء، بل يحتج بأشياء معينة.
فإذاً الذي ليس عنده تمييز الصحيح من السقيم، هذا لا يصلح أن يكون عالماً.
14 - وقال: أئمة الناس في زمانهم: 1 - سفيان بـ الكوفة.
2 - حماد بن زيد بـ البصرة.
3 - مالك بـ الحجاز.
4 - الأوزاعي بـ الشام.
15 - وقال: ما خصلة تكون في المؤمن بعد الكفر بالله أشد من الكذب وهو أشد النفاق.
16 - وقال: لولا أني أكره أن يُعصى الله تعالى؛ لتمنيت ألَّا يبقى أحد في المصر إلا اغتابني، أي شيء أحسن من أنك تأتي يوم القيامة تجد حسنات في صحيفتك مأخوذة من الذي اغتابك وأنت لم تتعب عليها، ولا عملتها؟! ومما قالو عن حفظه أيضاً: ما قاله محمد بن يحيى الذهلي: ما رأيت في يد عبد الرحمن بن مهدي كتاباً قط، كله من حفظه.(106/30)
تربية ابن مهدي لأهله وأولاده
أما متابعته لأهله وأولاده في صلاة الجماعة، وهذه قضية مهمة، لأن بعض الناس ربما يهملون أهاليهم وأولادهم بحجة طلب العلم، أو بحجة الشغل، أو بحجة بعض الطاعات.
قال رسته: سألت ابن مهدي عن الرجل يبني بأهله؛ فيترك الجماعة أياماً، هل العرس عذر في ترك صلاة الجماعة؟ مثلاً: بعض الناس إذا كان عرسه الليلة؛ لا تراه يصلي الفجر في المسجد، هذه مفروغ منها، فشاع عند بعض الناس أن الذي أعْرَس -الذي يبني بامرأة- يُعذر عن صلاة الجماعة، أسبوع، أو ثلاثة أيام.
قال رسته: سألت ابن مهدي عن رجل يبني بأهله يترك الجماعة أياماً.
قال: لا.
ولا صلاةً واحدةً.
وهاك قصة تبين حرص الرجل على أولاده ومتابعته لهم: قال رسته: وحضرتُ ابن مهدي صبيحة بَنَى على ابنيه -يعني: زوج ابنيه- فخرج فأذن الفجر، ثم مشى إلى بابهما -باب بيت كل واحد- والجواري والخدم موجودون، قال للجارية: قولي لهما يخرجان إلى الصلاة.
فخرجن النساء والجواري من البيت، فقلن: سبحان الله! أيُّ شيء هذا؟! كأنهن يقلن: ما هذا التشديد؟! فقال: لا أبرح حتى يخرجا إلى الصلاة، أنا جالس.
فخرجا بعدما صلى، تأخرا في الخروج، فبعث بهما إلى مسجد خارج من الدير، أي: بعيداً عن البيت.
قال: اذهبا إلى ذلك المسجد.
وقال رسته: وكان عبد الرحمن يحج كل عام، فمات أبوه وأوصى إليه، فأقام على أيتامه، فسمعتُه يقول: ابتليت بهؤلاء الأيتام، فاستقرضت من يحيى بن سعيد أربعمائة دينار احتجت إليها في مصلحة أرضهم.
فكان الرجل حريص على أولاده، وحريص على الأيتام الذين هم عنده، ما كان مضيعاً كما يفعل بعض الناس إذا طلب شيئاً من العلم، ضيع الأهل والأولاد، وضيع مَن عنده، علماً بأنهم كانوا -ولا شك- ليسوا مع أولادهم كل الوقت؛ لأنهم احتاجوا إلى أشياء من الوقت كثيرة.
قال ابن مهدي: لزمت مالكاً حتى ملَّني، فقلت يوماً: قد غبتُ عن أهلي هذه الغيبة الطويلة، ولا أعلم ما حدث لهم بعدي.
قال: يا بني! وأنا بالقرب من أهلي ولا أدري ما حدث بهم منذ خرجت.
فمع تضحيتهم بالأسفار والتغيب، لكنهم ما كانوا مهملين في المتابعة، فإذا حضر عند أهله تابعهم، وأمرهم بالصلاة، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132].
وكانوا عند حماد بن زيد، فسئل عن مسألة، فقال: أين ابن مهدي؟ مَن لهذا إلا ابن مهدي؟ قال: فأقبل عبد الرحمن، فسأله عن ذلك، فأجاب، فلما قام من عنده، قال: هذا سيد البصرة منذ ثلاثين سنة.
هذا من ثناء حماد رحمه الله وهو شيخه عليه.(106/31)
محاربة ابن مهدي للغلو
ومن محاربته للغلو أنه كان هناك قوم من الخوارج يقال لهم: الشمرية، أتباع أحد رءوس الخوارج يكنَّى: بـ أبي شمر، فسئل عبد الرحمن بن مهدي عن الشمرية، فقال: ما أخبث قولهم، يزعمون لو أن رجلاً اشترى ثوباً وفيه درهم من حرام؛ لا تقبل له صلاة، ولو أن رجلاً تزوج امرأةً في مهرها درهمٌ من حرام؛ لا تحل له، وكان وطؤها حراماً.
ويقولون: لو أن رجلاً ذبح شاةً بسكين لرجل لم يأمر به، أو كان ثمنه من حرام؛ كانت ميتة، وما رأيت قولاً أخبث من قولهم، فنسأل الله تعالى السلامة والعافية.
وكان عبد الرحمن بن مهدي ضد أهل الرأي، لأنه من أهل الأثر، وأهل الرأي كانوا لا يعتمدون على الآثار، والآثار مهمة جداً؛ فهي أقوال الصحابة، والتابعين؛ وهم أفقه الأمة، فكانوا يُعْمِلون القياس، أهل الأثر كـ عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله يرون كيف يُعْمَل القياس الآن وعندنا نصوص، لكن أولئك قوم أعجبوا بعقلياتهم، فانتهوا بذلك عن الأثر، وجلسوا يفرعون المسائل ويقيسون، وأهملوا الأخذ بالآثار، ولا شك أن الناس تفاوتوا في هذا، فمنهم من كان يأخذ بقليل من الرأي مع كثير من الأثر، ومنهم من كان يأخذ بكثير من الرأي مع قليل من الأثر، ومن الذين كان اهتمامهم بالرأي أكثر من اهتمامهم بالأثر: أبو حنيفة رحمه الله، وليس هذا نقيصة في الرجل؛ لكن هذا هو الواقع، لأن أبا حنيفة رحمه الله لم يكن جَمَّاعاً للأحاديث مشتغلاً بالرحلة والجمع، لكنه كان صاحب ذهن وقاد، وكان أحمد رحمه الله صاحب حديث، والأصوب هو الاعتماد على أقوال الصحابة.
ولذلك كان عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله لا يعجبه اتجاه أبي حنيفة مطلقاً في قضية اتباع الرأي؛ لأن الآثار موجودة، وكان يخشى أن تفتح باباً لا يُسَد في تقديم الرأي على الأثر في النهاية، أو إهمال الآثار، والأخذ بهذه الأَقْيِسَة والأشياء العقلية، ولذلك قال عبد الرحمن بن عمر: شهدت عبد الرحمن بن مهدي وقد أراد أن يشتري وصيفةً له من رجل من أهل بغداد، فلما قام عنه، أُخْبِر أنه وضع كتباً من الرأي وابتدع ذلك، فجعل يقول: نعوذ بالله من شره، وكان من قبل إذا أتاه قربه وأدناه، ولكنه لما سمع عنه أنه يكتب في الرأي، ويبتعد عن الأثر، فلما جاءه، رأيته دخل وعبد الرحمن مريض، فسلم، فلم يرد عليه فقعد، فقال له عبد الرحمن: يا هذا، ما شيء بلغني عنك؟ إنك ابتدعت كتباً، أو وضعت كتباً من الرأي، فأراد الرجل الآخر أن يتقرب إليه بسوء رأيه في أبي حنيفة.
فقال: يا أبا سعيد! إنَّما وضعت كتباً رداً على أبي حنيفة، أي: الرجل الذي لا يعجبك منهجه أنت، أنا وضعت كتباً في الرد عليه.
فقال له: ترد على أبي حنيفة بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار الصالحين؟! فقال: لا، أرد الرأي بالرأي.
فقال: إنما ترد على أبي حنيفة بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار الصالحين، فأما ما قلتَ فرد الباطل بالباطل، اخرج من داري.
فالرجل أراد أن يدافع عن نفسه، فقال له: مُحَرَّمٌ عليك أن تتكلم أو تتمكن في داري.
فقام وخرج.
تنبيه: قال الكوثري، مجنون أبي حنيفة عن عبد الرحمن بن مهدي: كان زلق اللسان، ليس عنده اتزان، لا يعرف أبا حنيفة، سيء الصلاة، فبعد ذلك كونهم يقرءون بعض الكتب، ينتبهون من التعليقات؛ لأن بعض التعليقات ربما تكون سُمَّاً، كما علق الكوثري على هذا، واتهم عبد الرحمن بن مهدي بأنه يسيء الصلاة.
وقيل لـ عبد الرحمن بن مهدي: إن فلاناً قد صنف كتاباً في السنة رداً على فلان.
فقال عبد الرحمن: رداً بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ قيل: لا، بكلام.
قال: رد باطلاً بباطل، ما فعل شيئاً.(106/32)
وفاة عبد الرحمن بن مهدي
توفي عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله بعد حياة حافلة بالعلم والعبادة في جمادى الآخرة، سنة (198هـ)، وكان له من العمر (63) سنة.
رحمه الله رحمة واسعة، وأثابه خيراً جزيلاً وأجراً عظيماً على ما نافح عن دينه، وأبان من الحق، ونقل من السنة.
فالله يرفع درجته، ويغفر ذنبه، ويلحقه بالرفيق الأعلى.
ونسأله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بعلم ذلك الرجل وما روى.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(106/33)
الانهيار الأُسري [1]
من المعلوم أن المجتمع يقوم على الأسرة؛ لذا اهتم الإسلام بالأسرة من جميع الجوانب؛ لكي ينشئ مجتمعاً سليماً، وحذر أيضاً من انهيار هذه الأسرة التي بها ينهار المجتمع، فالأسرة أمانة في عنق كل من استرعاه الله رعية، ولو لم نعد عودة صادقة إلى الاعتناء بالأسر والبيوت؛ فإنه يخشى أن نصل إلى ما وصل إليه الغرب الكافر في مجتمعه من تفكك وتناحر بين أفراد أسرته فضلاً عن مجتمعه.(107/1)
اهتمام الإسلام بالبناء الأسري
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
أيها المسلمون: لقد امتن الله سبحانه وتعالى على عباده بنعمٍ كثيرةٍ لا تحصى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:18] والله يعلم أن حياة المجتمع لا تقوم إلا بالأسر التي تتكون على طاعة الله وتنشأ كما أمر الله، فامتنَّ الله علينا بمقومات الأسرة، وأنشأها لنا وجعلها قائمة، وأمرنا بسياستها حسب الشريعة، وقال الله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].
انظر كيف يجعل الله الأسرة قائمة، وكيف يُكون الله الأسرة بأن جعل للرجال من أنفسهم أزواجاً، كما خلق حواء من ضلع آدم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] هذا هو السكن النفسي، ولكن الأسرة تحتاج إلى سكنٍ ماديٍ كذلك، فقال الله عز وجل: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} [النحل:80] هذه نعمة الزوجة: السكن النفسي.
ثم أعطانا البيوت: السكن الجسدي والمادي، فأنشئت الأسر وقامت.
ثم أمرنا الله أن نسوس الأسر بالشريعة، وجعل لنا في شرائعه وأحكامه ما يسعد الأسرة، ويسبب تماسكها وقيامها على المبنى الشرعي الذي أراده الله؛ ليكون المجتمع في النهاية مجتمعاً صالحاً مجاهداً في سبيل الله، فيعم الإسلام في الأرض، ولما ضيعنا الأسر، فسدت المجتمعات فتخلف المسلمون، ولما فقدنا مقومات الأسرة المسلمة؛ عمَّ الشقاء والنكد؛ وأصبحت الحياة جحيماً لا يطاق.(107/2)
مثال لأسرة تحيا حياة إسلامية
الأسرة محضن تربية، ومشاعر حبٍ وحنانٍ، وهي رحمة وتكافل، ولكننا أيها الإخوة: إذا نظرنا اليوم إلى حال الأسر، لوجدنا كثيراً من الأسر تعيش في تعاسةٍ وشقاء؛ للابتعاد عن الشريعة وتضييع الأحكام، وسنضرب الأمثلة على ذلك مع ذكر بعض الأسباب التي تؤدي وأدت إلى تفكك الأسر وتمزقها، ولكننا لابد أن نضرب مثالاً في البداية من حال الأسر الإسلامية السعيدة، التي قامت على المنهج الإلهي، قال الله سبحانه: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89] التجأ إلى الله بالدعاء، كما قال الله في مطلع سورة مريم: {كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم:1 - 2] هذا ذكر الله لرحمة عبده زكريا، وهذه هي القصة: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم:3] للإخلاص الذي عنده ناداه نداءً خفياً، فقال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [مريم:4].
رق عظمي، والعظم هو المكون الأساسي للجسد، فإذا وهن العظم وضعف، فمعنى ذلك أن الجسد كله يضعف {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} [مريم:4] أي: انتشر الشيب في شعر الرأس: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [مريم:4] لقد عوضتني يا رب عن الإجابة، فما كنتُ شقياً في دعوتك، أسألك بهذا: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} [مريم:5] أي: ومن سأتركهم من روائي بعد موتي لا يصلحون لإقامة الدين ولا للدعوة {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً} [مريم:5] أي: لا تلد، فإذاً يطلب: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:5 - 6] ليس وراثة المال، لكن وراثة النبوة {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [مريم:6] أي: ترضى عنه، فبشره الله ثم بشرتهم الملائكة بولدٍ سماه الله -ولم يسمه لا أبوه ولا أمه- باسمٍ لم يسم به أحدٍ من الناس قبل، سماه: يحيى {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:89 - 90].
هذه الأسرة المسلمة، التقية النقية، الطائعة لله، هذا الأب النبي، وهذا الولد النبي، وهذه الزوجة الصالحة -أصلحنا له زوجه- كيف كانوا يفعلون؟ {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90] الأسرة كلها تتجه إلى العبادة، وإلى المسارعة في مرضات الله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [الأنبياء:90] في حال الشدة والرخاء يتوجهون إلينا بالعبادة: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] فلم يكونوا منصرفين عن العبادة إلى هذه الدنيا فقط، وإنما كانوا يعبدون الله سبحانه وتعالى، هكذا كانت الأسر، وتخيل أسرة فيها داود الأب وسليمان الابن عليهما السلام، كيف يكون حالها؟(107/3)
أسباب الانهيار الأسري
أخي المسلم: تعال معي لننظر في حال هذه الأسر التعيسة والشقية المبثوثة في مجتمعات المسلمين اليوم، هناك خطرٌ داهم يتهدد مجتمعنا ألا وهو: التمزق الأسري، فتفكك الأسرة صار علامةً بارزة من علامات المجتمع، وسمة من سماته، وهذه نتيجة طبيعية للابتعاد عن الشريعة وترك الدين.
كثيرٌ من الأسر متفككة من الداخل، وإن بدا لك من الخارج أن بيتاً يضمهم، لكن كل واحدٍ منهم يعيش في عالمه الخاص، كل واحدٍ منهم له همومه الخاصة، ومشاغله ومشكلاته التي لا يشارك فيها أحداً، لا يشعر بالتزام نحو الآخرين، ولا أنه ملزمٌ بشيء تجاه أحد، هذا لا يكلم هذا وهما في بيتٍ واحد، والأب ينام في غرفة والأم تنام في غرفة، هذا مثال بسيط، لكن الأمثلة على تحطم الأسر وانهيارها في المجتمع كثيرة، ولهذا أسباب:(107/4)
السبب الأول: تضييع من يعول
من أسباب تفكك الأسر: ما قاله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت).
كثيرٌ من الأولياء مضيعون لأولادهم، مضيعون لبيوتهم، لا يقومون بالحق الذي عليهم؛ تراه إذا تزوج بأخرى، وكان عنده أولاد من الأولى، أدخلت الثانية في ذهنه أن أولاده يريدون التفريق بينه وبينها -سوء ظن- وأنهم سيضعون له سحراً، ثم اتهمهم هو بأنهم يريدون أن يضعوا له السم، ثم طلق الأولى، وطرد الأولاد الذكور.
ثم قالت له الثانية: إما أنا أو ابنتك في هذا البيت، أخرج البنت؟ فإذا به أخرجها ورماها في بيت أختها المتزوجة، فإذا بالأخت الأخرى تجد حرجاً عظيماً، كيف تعيش في بيتٍ وهي غريبة وزوج أختها موجود؟! لكن لا مأوى لها في الواقع، وهكذا يعيش سائر أولاد هذا الأب الذي طردهم من البيت ولم يلتفت إليهم، منهم من يعيش عند جدته، ومنهم من يعيش عند أخواله، وهذه ابنته تعيش عند أختها المتزوجة، والأم تسأل البنت: أين إخوتك الذكور؟ فتقول: لا أدري طردهم أبي منذُ زمنٍ بعيد، ولا أدري أين همُ الآن، لسان حال الأم: أسأل مَنْ وأنا امرأةٌ ضعيفة؟! وهذا أخذه أهل السوء وقرناء أهل السوء فأشغلوه بالملذات، وينفق راتبه على السفريات والمحرمات.
ورجل رمى المرأة وأولادها ولا يأتي إلى البيت إلا نادراً، والأولاد فيهم معوقون وضعفة، والمدارس ستفتح، والبنات يحتجن إلى مصاريف وهو متغيب، والإيجار طاف عليه تسعة أشهر وصاحب البيت يشتكي، والمرأة ضعيفة لوحدها في البيت، وهو يطرق الباب يريد الإيجار، وأهل الخير يعطون الزوجة المساعدات، والزوج المجرم يأتي كل شهر مرة يفتح فيها حقيبة زوجته ويأخذ ما بها من التبرعات ثم يذهب ولا يدخل البيت إلا دقائق في الشهر ولا يسأل عن أولاده: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول).(107/5)
السبب الثاني: كثرة الطلاق
من أسباب انهيار الأسر: التسرع في الطلاق، وكثرة الطلاق.
ولو قلنا: إن الطلاق اليوم من الأمور المنتشرة لما كنا كاذبين، واسأل المحاكم وسجلاتها عن حالات الطلاق التي تحدث لأتفه الأسباب.
إن هذه الماديات هي التي فرقت بين الزوجين، وهذه المشكلات التافهة، والشجار البغيض سببه أن الأب لم يتربَّ على الإسلام، ولا الأم نشأت على الإسلام كما ينبغي، ولذلك نجد الشجار، والطلاق لأتفه الأسباب، والنتيجة: انهيار الأسر وتشرد الأولاد، فهم إما مع الأب أو مع الأم، فلا يرون أباهم أو لا يرون أمهم، أو هم متوزعون بينهما، وهذا يؤجج البعض على البعض الآخر وهكذا!! طلق أمها وعمرها شهرين، والآن البنت عمرها ثمانية وعشرين سنة لم ترهُ إلا مرةً واحدة في زيارةٍ عابرة، لا سأل عنها ولا أنفق عليها، ثم يتقدم الخطاب وهو يتعنت في رفضهم!! وآخر طلق زوجته ومعها ولد، مكث أربع سنوات لا يسأل عن الولد ولا يراه، وأصيبت الأم بمرض وماتت ولم يأت حتى للعزاء، ولا جاء حتى يسأل عن الولد إلى هذه الساعة، وماذا نملك له إذا نزع الله الرحمة من قلبه.
قبل أن تطلق فكر بالأولاد، ماذا ستفعل معهم غداً؟ هل ستزورهم لتطمئن عليهم، أم ستنشغل بترتيب وضعك الجديد، وبعد ذلك لن تر الأولاد وسيضيعون، وإذا جئت تسأل عنهم يطالبك طفلك الصغير أن تدخل على أمه ويقول: لماذا تقاطع أمي؟!(107/6)
السبب الثالث: فشو المخدرات في المجتمع
من أسباب التمزق الأسري وتحطم الأسر: فشو المخدرات في المجتمع، هذا الداء الوبيل والمرض الخطير الذي يلتهم شبابنا كل يوم، ويحطم الأجساد، هذه المخدرات التي روجها الأعداء، وعندنا شبابٌ لم يتربوا على الإسلام، ولا نشأوا على الإسلام، فماذا تتوقع أن يفعلوا إذا أعطوا هذه الحبوب وهذه المخدرات؟ ثم البطالة الموجودة عندهم التي تدفعهم إلى الاتجار بالمخدرات للحصول على الأموال، ثم هذه النشوة واللذة الموهومة التي يحسون بها، ويريدون أن يغيبوا عن الواقع، من كثرة المشاكل الأسرية والظلم الموجودان في الواقع.
ثم أن الآباء لا ينتبهون من يمشي مع أولادهم من قرناء السوء الذين يغشون البيت يومياً -وهم مصدر المخدرات- لكن الذي لا يخاف الله على أولاده هل سينتبه لمثل هذا؟! فتفتك المخدرات بهؤلاء الشباب، ثم تصل إلى الصغار، وقد وصلت إلى الكبار قبل ذلك، ومنهم أناسٌ متزوجون وعندهم أولاد ويتعاطون المخدرات، وينفقون الرواتب على المخدرات، وتبقى الأسرة بلا نفقة؛ لأن الأموال قد أنفقت على المخدرات! ومن ثَمَّ يفقد وظيفته وكل شيء.
ويا إخواني! لا يوجد حلٌ لمشكلة المخدرات أبداً إلا الدين، فهؤلاء الكفرة حاولوا قبلنا كثيراً جداً، سنوا الأنظمة، ووضعوا القوانين، وخوفوا وهددوا، وطاردوا وفعلوا، وعندهم أجهزةٌ أمنية رهيبة، وأشياء متخصصة لمكافحة المخدرات، لكن لا فائدة، فلا يحل قضية المخدرات إلا العودة إلى الدين، وجربوا ما شئتم! هذا بيتٌ فيه بناتٌ مستضعفات، وأولادٌ سكارى يتعاطون المخدرات، والبنات يغلقن على أنفسهن بالليل الغرف ولا يخرجن إلا بعد النظر من ثقب الباب، أو من أسفل الباب؛ ذلك لأنهن يخشين خشيةً حقيقية مدعومة بالشواهد والسوابق من هذا العربيد الذي لا شعور له، وهذا الذي يتحول وحشاً كاسراً بعد تعاطيه لهذه المخدرات! رجل عنده بنتان وولد، عمره ثلاثون عاماً، يستعمل المخدرات من خمس سنين، ضاعت الوظيفة، وضاعت النفقة، وتهدمت الأسرة، وصبرت الأم واحتسبت حتى مات الزوج، ثم قامت توفي ديونه مما تجمعه من أقربائها، حتى جمعت مبلغاً من المال وحجت عنه، هل يستحق هذا الزوج كل هذا الوفاء؟!(107/7)
السبب الرابع: فقدان العاطفة في المنزل
من أسباب انهيار الأسر: فقدان العاطفة، فلا يوجد حنان ولا مشاعر صادقة في البيت، لا عطف من الأب ولا حياء من الأم، الأب يأتي من الوظيفة يأكل ويشرب وينام، وعنده (شلة) السهرة، والأم موضات ومواعيد وأزياء وسهرات، ولا وقت لديها لإلقاء النظرة على أطفالها؛ لأنها وكلتهم إلى الخادمة، أما اللاتي يشتغلن ويعملن فالعمل يرهقها، والمرأة ضعيفة، ومشاكل العمل تؤثر في تلك النفسية العاطفية المرهفة الحساسة، فهي منشغلة في مشكلات العمل ولا تجد وقتاً حتى لإلقاء نظرة على الطفل قبل أن تغادر البيت، بل صرحت بعض الأمهات أنهن قد مللن من الأولاد، ومللن من الأبناء، ولا قدرة لها على أن تنظر في حالهم، والأب يقول: الأولاد لا ينقصهم شيء: أكلهم أحسن أكل، وشرابهم أحسن الشراب، ونشتري لهم أحسن الملابس، وأفخر أدوات المدرسة، وأحدث ألعاب الكمبيوتر.
لكن يا أيها المسكين! يا أيها الأب المغفل! ينقصهم شيء واحد: حنان عاطفة صلة أبوية تربية، هذا الذي ينقصهم، أنت تنفق على الجسد، أنت تغذيه بالطعام وتكسوه بالثياب وتعطيهم الألعاب، لكنك ما أعطيتهم شيئاً مهماً يحتاجون إليه، ما أعطيتهم عطفاً ولا حناناً، ولا جلست معهم ولا قعدت بينهم، ليس المهم أن تشتري الألعاب وترميها إليهم، لكن لاعبهم أنت، ليشعروا أن هناك أباً موجوداً في البيت، تابعهم أنتَ ليلمسوا شخصيتك بينهم، قال الله عن يحيى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم:12] النبوة والعلم، وماذا آتيناه أيضاً: {وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً} [مريم:13].
إذاً: من منة الله على يحيى أنه آتاه حناناً، بل وحناناً من لدنا، وحنانا: أي عطفاً وشفقة ورحمة في قلبه، وكان تقياً، هذا الحنان الذي جعله كما قال الله: {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً} [مريم:14].(107/8)
السبب الخامس: انتشار السحر
ومن أسباب التفكك الأسري: انتشار السحر والتعامل به حتى راج وعمَّ، وكثر السحرة في البلد، وكثر السفر إلى خارج البلد لجلب السحر، وهذا ينتقم من هذا، وهذا يحسد هذا فيريد أن يعمل له سحراً وهكذا، وإذا انحصر التوحيد فشا الشرك.
وأنواعه وهو مضاد للتوحيد، والسحر له حقيقة ومفعول، قال الله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102] ولا يضر والله الذي لا إله إلا هو! وليس له مفعول إلا إذا أذن الله: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} [البقرة:102] وتعاطاه وعمل به {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102].
ولو ضبط الساحر متلبساً بالسحر يقتل حداً، بل الساحر كافر: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102] والناس في السحر حيارى مساكين، يظنون أن السحر قاتلهم؛ لعدم وجود عقيدة صحيحة تجلب التوكل على الله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] والتوكل يمنع مفعول السحر، أما إذا وجدت نفوس ضعيفة خاوية على عروشها، لا إيمان ولا طاعة ولا عبادة، وإنما ملذات وشهوات، فهؤلاء سيتضررون بالسحر.
وما الذي يمنع من السحر، ومن الذي يعطل مفعول السحر إذا لم يوجد إيمان ولا دين، ولا توكل على الله، ولا صحة عقيدة، ولا يوجد محافظة على الأذكار الشرعية؛ مثل أذكار الصباح والمساء، وقبل النوم وبعد الصلوات: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ثلاث مرات؛ لكنها مهجورة، لا تقال بعد الصلوات ولا قبل النوم، ولا في الصباح والمساء والمعوذات لا يوجد أفضل منها مطلقاً لعلاج السحر ولا لمنعه.
وكذلك لا يوجد حذر من إدخال المشبوهين إلى المنزل، بل يدخل أهل السوء والشر البيت -في الضيوف أو في الداخلين- فيدخل من يضع سحراً ونحو ذلك.
أخي المسلم: أدخل أهل الدين، واترك أهل الفسق، وراقب بيتك.
ثم بعد ذلك يقولون: نريد الذهاب للساحر لفك السحر، والذهاب إلى الساحر لا يجوز، ولو قال لك: جربنا ونفعنا، فنقول: سلامة العقيدة والدين أهم من سلامة الأبدان، توكل على الله، وارقِ نفسك بالأذكار الشرعية والمعوذات، ثم بعد ذلك تجد الحل إن شاء الله.
سحر الرسول عليه الصلاة والسلام يهودي، ففك أسره بالمعوذات، والذي فك سحره وحي من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ففك السحر بإذن الله، وببركة هذا القرآن العظيم الذي تقرأه النفوس الصادقة فيقع في الموقع الصحيح فيؤثر وينفع.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يقيمون حدودك في بيوتهم، اللهم اجعلنا ممن يؤسسون أنفسهم على الإسلام، ويربون أبناءهم على الإسلام، ويقيمون بيوتهم على الإسلام، نستغفرك ونتوب إليك، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(107/9)
السبب السادس: وجود الفيديو والتلفزيون
الحمد لله الواحد القهار، مالك الملك الكبير المتعال، لا إله إلا هو يفعل ما يشاء وهو الجبار، خلق فسوى، وقدر فهدى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد البشير النذير، والرحمة المهداة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
أيها المسلمون: من أسباب التفكك الأسري: وجود الفيديو والتلفزيون في البيوت بما يعرضه من السموم والأفلام والخلاعة والمجون، والأمثلة الحية لتعليم الفسق لأبناء العائلة من الذكور والإناث، والآباء والأمهات، ويتصور بعض الناس أن اجتماع العائلة على التلفزيون يقرب العائلة، ويجعل بعضها مجتمعٌ إلى بعض، ولعلهم أخذوا هذا التصور من بداية دخول التلفزيون بأعداد قليلة، وكان البيت الذي كان عنده تلفزيون في القرية يأتي الأقرباء والأصدقاء والجيران ويجتمعون عليه، ويسلم بعضهم على بعض عند الدخول والمغادرة، فيتوهمون أن التلفزيون قد جمعهم، لكن الآن زال هذا الكلام، في بعض البيوت كل غرفة يوجد فيها تلفزيون، وعدّ لي بالله عليك عدد الهوائيات الموجودة فوق المنازل، وأنا فقط أريد إلقاء نظرة على الهوائيات الموجودة فوق المنازل، فأنا أعدد وأغلط في العد، واعدد ما شئت من قرون الشياطين الموجودة.
لقد تبين بالدراسة أن التلفزيون والفيديو يمنعان الإنسان من الاستمتاع بما حوله من العلاقات الاجتماعية والقراءة والتثقيف، بل يساعدان على العزلة، ويقللان من غرس التفاهم بين الأزواج، كما يشغلان الطلاب عن المذاكرة، فالفيديو والتلفزيون لا يساعدان على تقوية الأواصر في الأسرة الواحدة، ولا يوجد تفاعل بين أعضاء الأسرة المجتمعين حول هذا الجهاز، لأنهم قد يشاهدون كأجساد متجاورة، لكن الحقيقة أن أذهانهم منفصلة تماماً ونفوسهم منعزلة، والجلوس أمام الجهاز لا يشجع على المحادثات الجماعية المتبادلة بين أفراد الأسرة كما ينبغي أن تكون، ولو قام الواحد بتعليق لأسكته الآخرون لمتابعة الفيلم.
وقد وجد بالدراسة أن الأطفال لا يقضون وقتاً طويلاً مع بعضهم البعض بعد دخول جهاز التلفزيون إلى البيت.
هذا بالإضافة إلى ما ذكرنا مما يتسرب منه من ألوان الفساد إلى الأسرة، وهذا موضوع طويل يحتاج إلى بصر، لكنني أرشد إلى مرجعٍ مهمٍ جداً في هذا وهو كتاب الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون للمؤلف مروان كجك، هذا الكتاب في غاية الأهمية، يجب على كل واحدٍ أن يقرأه حتى يعلم أضرار هذا الجهاز.(107/10)
مشكلة سوء تربية الأبناء
ثم ننتقل معكم إلى قضيةٍ أخرى في مسألة انفكاك الأسر وانفراط عقدها وانهيار بنيانها، ألا وهو: سوء تربية الأولاد، وانعدام التربية بالكلية، أو قلتها قلة شديدة جداً.
بنت لوحدها في البيت ليس عندها أخوات تجلس عند الهاتف، وأبوها وأمها من الكبار، يتصل بها الثعبان والذئب اللئيم؛ لينساب كلامه عذباً عبر الأسلاك ليدخل إلى ذلك الذهن الخالي من الإيمان، والقلب المريض؛ لكي تصبح الشبكة قوية، وترجع من المدرسة لا تخلع (مريولها) لتجلس عند الهاتف لتنتظر المكالمة، والطائش يمدحها بألفاظ ويطيرها في السماء -وهي تنخدع بهم- ويعدها بالزواج وأنه سيفعل ويفعل وفي النهاية يقول: أعطني نسخة من مفتاح البيت، وإذا غادر أهلك خارج البيت أبلغيني، وبعد ذلك تقع الفاحشة، ويحدث المكروه، وتقوم المصيبة، وتفقد البنت أشرف ما تملك، وأعز ما لديها في نفسها وجسدها، ثم يطرق الخطاب الباب، فماذا تقول لهم؟! ويتصل الخاطب مرةً أخرى ليطالب ويطالب، ولو تابت تبقى الحسرة في نفسها، والسبب: انعدام الرقابة، وغياب التربية، وضياع الأولاد، لأنه لا يوجد متابعة من الآباء والأمهات.
بنتٌ عمرها سبعة عشر عاماً وقعت في حب الموسيقى والأغاني الغربية والأجنبية، ثم استدلت بواسطة المجلات التي تصل إلى البيت على جهةٍ أجنبية لها عنوان بريد، ثم أصبحت تراسل الجهة وتتصل، وتقول: أتمنى أن أهرب من البلد وأن ألتحق بديانتكم، وأعيش معكم، وعندي بعض العوائق المادية، لكن سآخذ من ذهب أمي وأدبر المبلغ وأهرب من البيت، سئمت أهلي وأبي وأمي، أرجو أن تساعدوني في الهروب وتستقبلوني مئات المكالمات وتأتي الفاتورة.
مراهق عمره ثلاثة عشر عاماً فقط، يسرق من محلات (السوبر ماركت) -ولا صلاة بطبيعة الحال- ونسي ما كان قد حفظه في حلقة التحفيظ التي دخلها، ويستخدم الألفاظ البذيئة والفاحشة أمام أخواته، ويضرب أمه، ويساعد في ترويج المخدرات، ويحتك بالشباب الذين ينقل إليهم ومنهم الحبوب، ويختلط بأصحاب الفواحش، وربما فعل الفواحش على سطح البيت أو سلم العمارة، وأطفأ كواية الملابس بيد أخته.
إن هذه البيوت التي نعيش فيها أمانة، ونحن قد ضيعنا كثيراً جداً والمصائب تتوالى، ووالله ليتفككن المجتمع لو لم نعد عودة صادقة إلى الاعتناء بالأسر والبيوت، وسنصل إلى ما وصل إليه الكفرة في مجتمعاتهم من التمزق والانحلال، وسيوضع كبار السن في ملاجئ العجزة في النهاية، وسينفرط عقد الأسرة، وتتمرد البنات، ويخرجن في الشوارع، وسنسير على ركب الكفرة، بل إن كثيراً من المتفرجين، من أبناء المسلمين قد ساروا على الركب فعلاً، والبوادر قد ظهرت، فهل من عقلاء يعودون عودة صادقة إلى الله لكي ينظروا إلى هذا الشتات الذي وصلوا إليه وأوصلوا إليه أولادهم وأسرهم؟ ولتسألُن يومئذٍ عما استودعتموه من هذه الأمانات التي وضعها الله بين أيديكم؛ في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، يقول كل إنسانٍ: نفسي نفسي لا أب ولا أم ولا أخ ولا أخت، تقطعت بينهم الأواصر والعلاقات، وهذا الحضور بين يدي الله في مشهد الجزاء والحساب في ذلك اليوم العظيم الذي مقداره خمسين ألف سنة نحتاج فيه فعلاً أن تكون ذكراه حية في أذهاننا؛ حتى نبدأ في تصحيح الأوضاع.
اللهم أصلح أحوالنا، اللهم أصلح أحوالنا، اللهم أصلح أحوالنا، اللهم اجعلنا بالإسلام قائمين، وأحينا بالإسلام قاعدين، وأحينا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين، اللهم طهر بيوتنا من المنكرات، اللهم واجعل أسرنا مستقيمةً على شرعك يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا، اللهم إن نسألك مغفرةً لا تدع لنا ذنباً، اللهم نسألك أن تجعلنا ممن يخافك ويتقيك، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(107/11)
الانهيار الأُسري [2]
لقد ذكر الشيخ حفظه الله في هذا الدرس عدداً من عوامل التمزق الأسري، ثم ذكر المفاسد المترتبة على استخدام الخدم والسائقين في المنازل، وأرجع أصل هذه المفاسد إلى عدم التمسك بالكتاب والسنة، والسير على منهج الله عز وجل.(108/1)
أهمية معرفة أحوال الأسرة وأسباب انهيارها
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: إخواني: لقد سبق أن تكلمنا في موضوع التمزق الأسري، وفتح ملف خراب البيوت وأسبابه وما ينتج عنه، وهذا الموضوع في غاية الأهمية، لأنه موضوعٌ يتعلق بمجتمعنا الذي نعيش فيه، فهو موضوعٌ واقعي حياتي يومي، إذا لم يكتوِ الإنسانُ بناره ويكون طرفاً من أطرافه، فإنه ربما سيسمع عنه من جيرانه، أو أقربائه أو أصدقائه، ولذلك فإن التصدي لهذا الموضوع من الأمور المهمة.
إن معرفة أحوال الأسر وانهيارها والتمزق الأسري وصوره موضوعٌ مهمٌ للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، لأنهم إذا عرفوا حجم المشكلة، وجهوا إليها الجهود وصرفوا إليها أنواعاً من الأعمال والأوقات لاستدراك ما فات، وإصلاح ما هو موجود، وإلا فإن نهاية المجتمع ستكون أليمة، ولا نريد أن نخطو خطى الكفار فيما وصلوا إليه في مجتمعاتهم المنحلَّة.
وهو مهمٌ أيضاً لمن كان ضالعاً في سببٍ من أسباب التفكك الأسري، حتى يكف عن ظلمه، ويعود إلى الله، ويصلح من أسرته ما أفسد.
وهو مهمٌ لكل ناصحٍ وقريبٍ وذي رحمٍ يريد أن يمد يد العون والمساعدة إلى أقربائه أو جيرانه أو أصحابه الذين تهدمت بيوتهم، وتشتت أسرهم، إنه مهمٌ لكل مصلح وإلا فإن إغماض العينين عن الحقائق الواقعة لا يزيدها إلا انتشاراً(108/2)
أسباب التمزق الأسري(108/3)
تضييع الأولاد بعدم النفقة عليهم
أيها المسلمون: إن من أسباب التمزق: تضييع الأهل والأولاد، وعدم الإنفاق عليهم مما يضطرهم للخروج خارج البيت، وخروج النسوة بالذات خارج البيت يفضي إلى أنواعٍ من المفاسد لا يعلمها إلا الله، وبعض هذا يكون بسبب بخل القائم على أمر البيت، وكم حدثتنا القصص الواقعية عن فتياتٍ ارتكبن الفواحش لتحصيل الأموال، وربما لا يكون الغرض هو الوقوع في الفاحشة، لكنها تريد مالاً، وقل مثل ذلك في أنواع الخيانات الأخرى.
عن عائشة رضي الله عنها: (أن هند بنت عتبة قالت يا رسول الله: إن أبا سفيان رجلٌ شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذتُ منه وهو لا يعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).
إن الشارع حكيم، يعلمُ إذا ما قطعت النفقة عن الأسرة ماذا يمكن أن يحدث، ولذلك شرع للمرأة أن تأخذ سراً بغير إذن زوجها من ماله إذا كان بخيلاً لا يعطيها ما يكفيها وأولادها، لكن الشارع لا يظلم الزوج، ولذلك شرط أن يكون الأخذ بالمعروف، وألا تأخذ على هواها وكما تشاء.(108/4)
نشر الأسرار الزوجية
ومن الأسباب أيضاً في تفكك عرى الأسرة: نشر الأسرار الزوجية، وهتك أسرار البيوت، ولذلك فإن كثيراً من الذين لا يخافون الله يحدثون بما في داخل بيوتهم من أنواع الأسرار التي لا يجوز أن تخرج، ولا أن تفشى؛ من قلة الحياء وانعدام الغيرة، وغير ذلك من التساهل، قال عليه الصلاة والسلام: (هل منكم رجلٌ إذا أتى أهله فأغلق عليه بابه، وألقى عليه ستره، واستتر بستر الله؟ قالوا: نعم، قال: ثم يجلس بعد ذلك، فيقول: فعلتُ كذا، فعلتُ كذا؟ فسكتوا، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أقبل على النساء، فقال: منكن من تحدث؟ فسكتن، فجثت فتاةٌ كعابٌ على إحدى ركبتيها، وتطاولت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليراها ويسمع كلامها، فقالت يا رسول الله: إنهم ليحدثون وإنهن ليحدثن، فقال صلى الله عليه وسلم: أولا تدرون ما مثل ذلك؟ إنما مثل ذلك مثل شيطان لقيت شيطانةٍ في السكة، فقضى حاجته والناس ينظرون إليه).(108/5)
عقوق الوالدين
ومن أسباب انهيار الأسرة عقوق الوالدين: فإن عقوق الوالدين، يسببُ إما طرد الولد من البيت، وفيه فصمٌ لعرى الأسرة، أو أن يتعدى الولد على أبيه، فيعيش الوالد أو الوالدة مقهورين في البيت ذليلين لا يستطيعان مواجهة الناس، ولا ممارسة الحياة بشكلٍ صحيحٍ من الظلم الذي يقع عليهما من الولد، وهذا كثير.
شقاء في الأسر، ونكد وتعاسة بسبب عقوق الوالدين، الذي يؤدي إما إلى طرد الولد وأحياناً يؤدي إلى طرد الوالدين.
هذه قصةٌ واقعية عن ولدٍ طرد أمهُ وأباه من البيت الذي يملكانه، ولكن الله يمهل ولا يهمل، فأرسل إليه بناتٍ على كبره وابتلاه بشرب الخمر فصرن يضربنه وهو مخذولٌ مما يريد التعرض به لهنّ.
وهذه بنتُ تمردت على أمها وتقذرت من خدمتها وتكبرت بشبابها وجمالها، رغم أن جلد الأم قد تجعد من القيام على البنت، وأفنت شبابها فيها، فابتلى الله هذه البنت بولدٍ في المستقبل فعل بها -بأمه العاقة- أكثر مما فعلت هي بأمها، وزاد عليها أن ضربها.
هذا قصاصٌ طبيعيٌ يحدث في المجتمع مما يكون من آثار العقوق!(108/6)
سوء الخلق
ومن أسباب انهيار الأسر: سوء الخلق: سوء الخلق الذي يولد الفحش والبذاءة، والاعتداء والضرب والتوحش.
فهذا رجلٌ يضرب زوجته وأمه، ويدعو على ابنته بالسرطان والشلل، ولا يصلي ولا يصوم، يدخل البيت في سباب وشتائم، ويخرج من البيت في سباب وشتائم، ويقول لزوجته التي أنجبت بنتاً: ليس لك قيمةٌ في المجتمع، لأنك أنجبت بنتاً وهكذا.
والتوحش المتولد من سوء الخلق يؤدي إلى أمورٍ عجيبة في العمر؛ حتى ربما كان هذا الفاجر يعري سلك الكهرباء ويضرب به ابنته وهو مشبوكٌ طرفه بالتيار الكهربائي.
هذه قصصٌ واقعية، لم نختلقها ولم نكذب فيها، وإنما هي مما أفرزه المجتمع عند ابتعاده عن شريعة الله، وآثار الضرب لا زالت في ظهر البنت ما بعد الزواج، والبنت الأخرى قد أصيبت بنوبة صرعٍ مع آثار ٍواضحة في الرأس من أثر الضرب، وتلك أخذ مهرها، ولا ينفق على بناته، وهذه نتيجةٌ طبيعية للابتعاد عن شرع الله، والتجاوز لحدود الله، وعدم التخلق بأخلاق الإسلام، إن النفس إذا نزع منها الدين، تحولت إلى وحشٍ كاسر، لأن الدين يهذب النفوس، ويخلِّقها بالأخلاق الحسنة.(108/7)
المعاصي بأنواعها
ومن أسباب انهيار الأسر وتمزقها: ارتكاب المعاصي والفسوق بأنواعها، والجرائم التي حرمتها الشريعة؛ فهذا إنسانٌ يلعب القمار، ويسافر ليلعب القمار، وإذا أخذ راتبه في آخر الشهر، فلا يمضي عليه عشرة أيام إلا وينتهي الراتب بسبب اللعب بالقمار، وزوجته وأولاده ليس عندهم ما يحتاجون إليه.
ثم إن هذه المعاصي تفشت، ومنها السكر والمخدرات، وقد بينا طرفاً من ذلك، لكن بتتبع كثيرٍ من المشكلات البيتية، وجد أن سببها الخمر والمخدرات، والعربدة، والإدمان والمخدرات من الأشياء التي أطاشت العقول، وخربت البيوت.
هذا ولدٌ عاطلٌ عن العمل: يتعاطى المخدرات، كل يوم في سجن، أو مستشفى، أو عيادةٌ نفسية، وكذلك الفسق والدياثة الذي يتضمن أموراً كثيرةً من إقرار الخبث والسوء في الزوجة والأولاد، وهذه صورة بسيطة جداً لما يمكن أن يقع من ذلك.
هذا رجلٌ زار صاحباً له، رب أسرة، فأراد صاحب البيت أن يكرمه ويقدم له هدية، فماذا قدم له، صورته مع زوجته، صورة الزوج مع زوجته قدمها هدية لهذا الرجل الذي جاء إلى بيته زائراً، لتكون هدية تذكارية لا يغار عليها أن يراها الأجنبي، وهكذا من أنواع فقدان الغيرة الموجودة عند بعض الناس.
ثم إننا نتعرض لهزاتٍ قوية في الأسر بسبب الاختلاف على القضايا المادية، واللهث وراء المادة والتعلق بالفلوس؛ ذلك التعلق المشين الذي يفضي إلى الطمع وحرمان الآخرين، والأنانية ولا ندري هل سيأتي علينا يومٌ يكون الطمع فيه بالمال مؤدياً لنا بما أدى إليه أحوال الكفرة في عالمهم؟ نشرت إحدى الصحف: أن زوجة وزوجها في بلاد الغرب قد اختارا، أو اضطرا للاختيار بين طفلتيهما المولودة حديثاً، وبين السيارة التي يدفعان أقساطها، لأنهما لا يستطيعان الجمع بين نفقة البنت وأقساط السيارة، فكان لا بد من الاختيار، فاختارا السيارة، وسلما البنت لملجأ من الملاجئ، وذكر الأب أنه ترك ابنته في المستشفى للتبني، وقال: الطفلة قد تجد عند من يتبناها أحسن مما تجد عندنا، وأكدت الأم أن ما حصل هو الصواب، ويقوم عددٌ من الناس في بلاد الغرب، ببيع أطفالهم بآلاف الجنيهات، فأي رابطةٍ هي موجودة؟ وأي عطفٍ وأي رحمة؟ وأي حنانٍ في ذلك المكان؟(108/8)
الاقتتال على المادة
أيها الإخوة: إن الاقتتال على المادة، وطمع الناس في المادة يؤثر على الأسرة، ولذلك تجد هذا الرجل يريد أخذ راتب زوجته بالقوة ولا يترك شيئاً، وهذا الأب يحرم ابنته من الزواج، لأنها موظفة ويريد استمرارية المصدر والاستيلاء على راتب البنت، وهؤلاء أخوة يتحايلون على أختهم ويستلفون منها الأموال، وهم لا يريدون ردها وقد ذكر صلى الله عليه وسلم أن من الكبائر استدانة الرجل وهو لا يريد الوفاء، وهكذا تكون المادة نهب الطامعين، وهي مدار العمل واتجاه النيات؛ فتفسد النفوس وتأسن ويكون فيها خراب البيوت.
اللهم إنّ نسألك أن تطهر بيوتنا، اللهم إنّ نسألك تطهر قلوبنا، اللهم إن نسألك أن تجعلنا ممن يقيمون حدودك في بيوتهم، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والستر، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(108/9)
السائقون والخادمات سبب رئيس في الانهيار الأسري
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد؛ الأمين على وحي الله، والمبلغ لرسالة الله، والمجاهد في سبيل الله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله عليه ورزقه الشفاعة يوم الدين، اللهم احشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه، وارزقنا شفاعته، واجعلنا تحت لوائه، يا أرحم الراحمين! أيها الإخوة: لا شك أن من أكبر أسباب تمزق الأسر وخراب البيوت في هذه الأيام: الآثار السيئة للخادمات والسائقين، الخدم الذين هم بلية من البلايا التي نزلت فأحاطت، وطمت وعمت، واستقرت وانتشرت في بيوت المسلمين، وخصوصاً عندما تكون الخادمة كافرةً، وجزيرة العرب لها خصوصية قد ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدم جواز إقامة الكفار فيها، فقال: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب).
فهؤلاء يجلبون اليوم النصارى والبوذيين وغيرهم من الوثنيين؛ من الخادمات والسائقين ما يحرم عليهم، ويأثم والله الذي لا إله إلا هو! وهو واضع إياهم في بيته يعطيهم المرتبات، ويسلمهم السيارات، وأغلى من ذلك يسلمهم البيت والأولاد.
هؤلاء الكافرون والكافرات، الذين يعيشون في البيوت، لا يقيم أصحاب البيوت لهم وزناً، والخطر منهم كبير، والمصيبة بهم عظيمة، لكن أين المعتبرون الذي يعتبرون بما أصاب غيرهم؟! إن الخادمة يمكن أن تهدم بيته، نعم والله يمكن أن تهدم بيته، لأنها تكون في كثيرٍ من الأحيان فتنةً لصاحب البيت وأولاده الشباب، لأنهن يخرجن متزيناتٍ وغير محتشماتٍ ولا متحجبات، وكذلك السائق الأجنبي كم خرب بيوتاً، وكان له أثرٌ سيئ عليها.
النساء في البيت دون تربيةٍ ولا مراقبة، وتخرج مع السائق لوحدها بغية أن تتمشى في الشوارع، ورب البيت يتسكع لاهٍ بالتجارة وشلة السهرة، ألم يأتكم أنباء الخادمات اللاتي تسببن أو أقدمن على قتل صاحب البيت أو صاحبة البيت، أو خنق أحد الأطفال؟ هذا كثيرٌ ولا تمضي فترة وإلا ونسمع خبراً من ذلك.
هذه خادمةٌ نصرانيةٌ كانت تدخل رجالاً أجانب من أصحابها أثناء غياب الأبوين، وهم يلبسون أقنعةً مخيفة، حتى إذا رأوهم الأطفال خافوا ودخلوا وهي تخوفهم، وتقول: لو تكلمتم سآتي بالوحوش لافتراسكم، وهم أطفالٌ يريدون اللعب، وهي لا تريد أن تتعب في القيام عليهم، فكلما حصل شيء، خوفتهم بالوحوش، كيف تنشأ العقد النفسية، وينشأ الخوف والرعب وشخصية الولد الجبان وهكذا، ثم تقوم الفواحش، وتتحول عددٌ من البيوت الطيبة إلى أوكارٍ للفساد.
ألم تكن هذه الخادمات مصدر فتنة للرجل وللشباب في البيت، خصوصاً عندما لا يكون هناك خوفٌ من الله، ولا تربيةٌ ولا احتشام، ومهما أخذوا من الاحتياطات، فلا بد أن يغيب الرجل عن بيته، أو المرأة عن بيتها، فيقع ما يقع.(108/10)
قصص واقعية لمفاسد الخادمات
هذه الخادمة تَعلق بيها أحد الأولاد في البيت، فصارت تهين أم الولد وهو ساكت، وتعطيها الحليب الفاسد، والخبز المتعفن وهو ساكت، ماتت أمه، فصارت الخادمة مع السائق في الصباح، ومع هذا الرجل في الليل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله المستعان وإليه المشتكى مما أصاب البيوت.
هذه خادمةٌ: سحرت الولد، وهنّ يتعلمن السحر في بلادهن التي ينتشر فيها السحرُ والكهانة، ثم يأتين بالسحرِ عياناً بياناً وهذا أمرٌ غير خافٍ، بل هو منتشر معلوم، متواطئٍ على ذكره الكبير والصغير، سحرت هذه، أو سحرت هذا، أو سحرت الأب، أو فرقت بين الأب والأم، وهكذا يفعلن، هذه الخادمة سحرت الولد وأخذت نقوده من الإرث، غرفة الشغالة فيها تلفزيون وفيديو وأشرطة، واشترطت طقم بثلاثة آلاف، والولد لا زال يعطيها هدايا، بأي شيء؟ بهذا السحر الذي أتت به، وهو يرفض تسفيرها، ويقول لأخواته: عندكم خادمة وعندي خادمة، هل أنا ضايقتكم في خادمتكم حتى تضايقوني في خادمتي؟ وقد وصل الأمر بالفواحش لدرجة أن دارت بين خادمتين في بلدهما قبل أن تأتيان، أن أعطت إحداهما للأخرى -تودعها قبل أن تأتيان- صندوقاً من حبوب منع الحمل، قالت: لماذا؟ قالت: ستحتاجينه.
وهكذا سمعتنا نحن المسلمين عند الكفار في بلادهم، وكم سمعنا من الحالات التي كانت الخادمة تريد فيها الإسلام مما سمعت عن الإسلام! ولكن لا تسلم مما تلاقي وتعاني من الانحراف في البيوت، فأي إسلامٍ تريد أن ترغب فيه وهي ترى بعينيها هذه الاعتداءات على الخادمات.
في المقابل ظلم الخادمات وفسادهن جانب، واعتداء أصحاب الأسر على الخادمات جانبٌ آخر، حتى لقد هربت خادمةٌ فلبينية مسلمة إلى بيت عمال مسلمين من آل الفلبين لتحتمي بهم، مما أصابها في بيت مستخدميها، فهل هذه الحالات المزرية التي وصلنا إليها يمكن السكوت عليها يا أيها المصلحون؟! يا أيها الناس الذين يريدون الخير لمجتمعهم! هل نسكت وهل تسكتون ولا تريدون أن تقوموا لله بالواجب من النصح والتذكير والدعوة إلى الله والعمل والإصلاح؟ أم أن الفساد سيترك لينتشر في البيوت وهي معاقل الأسر المسلمة، واللبنات التي يتكون منها المجتمع المسلم؟(108/11)
تحذير من عاقبة الانهيار الأسري
إن هذه الحالات الواقعية التي نشهدها ونسمعها دائماً، والذي يتصل بجيرانه وأقربائه وأصحابه يعرف العجب العجاب من أنواع تمزق الأسر وفشو المخدرات، وأخذ المرتبات ظلماً، وتطليق النساء.
هذا افترق عن زوجته بسبب الخمر وحكم الشيخ لها بالثلاثة الأولاد، ولكنه جاء وراقب خروجها مع أولادها، فأتى بسيارته وخطف الأولاد منها، وبقيت هي ورضيعها من غير مصروف، وهكذا من الحالات التي ينتشر فيها الظلم، في المجتمع.
في المجتمع الولد الكبير مروج، والصغير مات منتحراً بحقن الهروين، وذلك أفلس من شراء المخدرات، والأب والأم في نزاعٍ دائم، وربما رفعت الأم (الساطور) أو (العصا) أثناء النزاع، والاتهامات متبادلة بين الأب والأم، والنزاع قائم بين الأولاد، والطرد والصراخ متواصل.
أيها المسلمون: بيوتكم بيوتكم! وأسركم أسركم! اتقوا الله فيها، واحذروا غضب الله، فإن الله سبحانه وتعالى لا يهمل الظالم، وإذا أخذه لم يفلته، فيأخذه أخذ عزيزٍ مقتدر، ولست مسئولاً عن بيتك فقط نعم أيها الإخوة: يوجد عددٌ كبيرٌ من البيوت -والحمد لله- مستقيمة تحكم الشريعة، بيوت نظيفة طيبة، لكن الطيب مختلط بالخبيث، والمجتمع واحد والعمارات متجاورة، والبيوت متلاصقة، والشوارع والمدارس واحدة، أولادي وأولادك فيها، إننا نتعامل مع بعضنا يومياً، والموظفون يختلطون ببعضهم، الناس لا يعيشون في فرقة، وإنما يعيشون مع بعضهم، وإنما الفرقة في القلوب، فلذلك يمكن أن يكتوي الإنسان بنار فتنة جاره، فعليكم إذاً يا أيها المصلحون يا أيها الغيورون أن تقوموا لله بالواجب، وإذا ترك الأمر على ما هو عليه؛ والله الذي لا إله إلا هو! لينتهين كما انتهت إليه بيوت الغرب وأسره، ولذلك فإننا ندعو الله من قلوبنا أن يصلح أحوالنا وأن يتوب علينا.
اللهم طهر بيوتنا من المنكرات، اللهم ارزقنا الوقوف عند حدودك، اللهم جنبنا الحرام، اللهم ارزقنا حسن الخلق، وحسن تربية الأولاد، اللهم ارزقنا البر بآبائنا وأمهاتنا، اللهم إن نسألك أن تجنبنا الفواحش والفتن ما ظهر منا وما بطن، اللهم حرم علينا الفواحش وما ظهر من الآثام وما بطن، واجعلنا من عبادك المتقين الأخيار.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فاذكروه لعله يذكركم سبحانه وتعالى، وتوبوا إليه، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(108/12)
البركة
لقد جاءت الشريعة الإسلامية لتحقيق التوحيد وتكميله، فسدَّت طرق الشرك المؤدية إليه؛ ومن الطرق التي يمكن أن تخل بالتوحيد ما ينشأ عن المفهوم الخاطئ للبركة؛ وما وقعت الأمة في الشرك إلا من اختلال هذا المفهوم، فبعضهم تبرك بأحجار مكة، وبعضهم بغار حراء أو بغار ثور، وبعضهم يشد الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين، وبعضهم يحتفل بالمولد زاعماً البركة فيه، ومن الناس من يتمسح بالأشخاص والمغارات والجدران، وبهذا حصل الشرك في الأمة وانتشر.(109/1)
تعريف البركة وبيان أنها من الله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: لقد جاءت هذه الشريعة لتحقيق التوحيد وتكميله وتحصيله، جاءت بأعظم معروف وهو التوحيد، ونهت عن أعظم منكر وهو الشرك، فسدَّت طرق الشرك والأسباب المؤدية إليه، وقَطَعَتْها قطعاً، وكذلك فإنها حمت التوحيد بجميع الوسائل ووفَّرتها وكثَّرتها.
عباد الله: لابد أن نعتني بتوحيدنا وعقيدتنا، وأن نجعل هذا التوحيد خالصاً لله تعالى، وألا نواقع شركاً، فـ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] وقد ذهب جمع من العلماء، ومنهم: شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- إلى أن الشرك الأصغر والخفي لا يغفره الله تعالى إلا بتوبة، فلا يكفَّر ولا يدخل في المشيئة إلا إذا تاب منه صاحبه، فإن الله يتوب عليه، ولذلك لابد أن نكثر كثيراً من التوبة والاستغفار من جميع أنواع الشرك، وأن نقول: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه.
ومن الموضوعات التي يقع فيها الشرك في الناس مسألة التبرك، وهذه القضية تحتاج إلى شيء من التوضيح، ولعلنا نلقي عليها بعض الضوء في هذه الخطبة.
أما البركة فإنها دوام الخير وزيادته وكثرته وثبوته أيضاً.
والبركة من الله تعالى، فهو مصدرها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وبارك لي فيما أعطيت) فإنها تُطلَب من الله تعالى فهو مصدر البركة عز وجل، ونحن نقول: (تبارك وتعالى) أي: كَمُلَت بركته، وعَظُمَت بركته، كَثُر خيره وإحسانه إلى خلقه، وخيره هو الذي يدوم، وإذا شاء أن يُكْثِر خيراً فلا رادَّ لفضله، فهو سبحانه وتعالى المبارك حقاً، لا يبارك أحدٌ من الناس، وإنما الله هو الذي يبارك، ولهذا كان كتابه مباركاً، ورسوله مباركاً، وبيته مباركاً، والأزمنة والأمكنة التي شرفها واختصها عن غيرها مباركة.
وإذا طَلَب أحد البركة من غير الله فإنه كَمَن يطلب الرزق من غير الله، فطلب البركة من غير الله تعالى شرك، ومن اعتقد أن شخصاً هو الذي يبارك فقد أشرك بالله تعالى، والأشياء المباركة من الأعيان والأقوال والأفعال والأشخاص ونحو ذلك إنما كانت مباركة لأن الله جعل فيها بركة، وهي سبب للبركة، وليست واهبة للبركة، كما أن العبد يستخدم الأدوية والرُّقَى وهي سبب للشفاء، وليس الدواء واهب الشفاء، وإنما الله هو الذي يشفي، وما ذكر الشرع أن فيه بركة يُستعمل استعمال السبب، قد يتخلف وقد يحصل.
لقد كانت جويرية بنت الحارث رضي الله تعالى عنها بركةً على قومها، فقالت عائشة رضي الله عنها: [فما أعلم امرأةً كانت أعظم بركةً على قومها منها] والسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أغار على بني المصطلق على حين غرةٍ منهم وأُخِذَ مَن أُخِذَ من السبي، تزوج النبي صلى الله عليه وسلم جويرية رضي الله عنها، ولما رأى الناس أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم عبيداً وإماءً أعتقوهم لهذا السبب فأُعْتِقَ مائة أهل بيت من قومها، فهي ليست مصدر البركة، وإنما كانت سبباً للخير والنماء والزيادة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البركة من الله).(109/2)
بركة النبي صلى الله عليه وسلم
ومن أعظم الذوات المباركة: ذات النبي صلى الله عليه وسلم؛ فذاته ذات مباركة، جعل الله فيها بركةً خاصة، ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يأخذون مِن عَرَقه وبُصاقه فيتمسحون به، وكذلك لما حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، أطاف به أصحابه، فما تقع شعرة إلا في يد رجل منهم.
وقال أنس: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل بيت أم سليم، فينام في بيتها وهي من محارم النبي صلى الله عليه وسلم -فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فأُتِيَت، فقيل لها: هذا النبي صلى الله عليه وسلم نام في بيتك على فراشك، قال: فجاءت وقد عرق عليه الصلاة والسلام، واستنقع عرقه -تجمع العرق- على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عتيدتها رضي الله عنها، والعتيدة هي الصندوق الصغير الذي تجعل فيه المرأة ما يعز عليها من المتاع، فجعلت تنشف ذلك العرق وتعصره في قوارير، ففزع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما تصنعين يا أم سليم؟! فقالت: يا رسول الله! نرجو بركته لصبياننا، قال: أصبتِ) وفي رواية: (قالت: أدوف به طيبي) أي: أخلط طيبي بعرقك- حتى يزداد طيباً، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم.
وعبد الرحمن بن عوف -وقصته في الحديث الصحيح- لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قد اكتسى شملةً استوهبه إياها، وطلبها منه، فلامه الصحابة، فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم لعلي أُكَفَّن فيها.
وهكذا كانوا يلتمسون بقية شرابه صلى الله عليه وسلم ليشربوا منه.
وهذه الأحاديث الصحيحة تدل على أن ذاته صلى الله عليه وسلم وما انفصل من جسده من شعر وعرق، وما استعمله من لباس وآنية قد جعل الله فيه من البركة ما يُسْتَشفى به، ويرجى بسببه الفائدة في الدنيا والآخرة.
من الذي جعل فيه البركة؟ الله عز وجل.
من جعله سبباً للشفاء؟ الله عز وجل.
كان الصحابة يأخذون من أثره، فيضعونه عليهم عند إصابتهم بعين أو مرض أو حمى، فيشفيهم الله تعالى، فذاته صلى الله عليه وسلم ذاتٌ مباركة لِمَا وضع الله فيها من البركة.
وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام وتطاول الزمن ذهبت آثاره، وذهب شعره ولباسه وآنيته وسلاحه، ولم يعد لدينا إثبات الآن بأن هناك بقية من ذاته قد بقيت، وليس كل متحف وضع شعرةً في علبة أو وضع سيفاً في خزانة كان فعله دليلاً على أن ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم، فنحن لا نملك إثباتاً الآن على بقاء شيء من ذاته، فلذلك لا يجوز ادعاء ذلك ولا استعماله.(109/3)
بركة القرآن والمأثورات
وكلام الله تعالى القرآن الكريم لاشك أنه مبارك؛ لأنه كلام ربنا، وكلامه صفة من صفاته تعالى، ولذلك كان هذا القرآن مباركاً، وفيه شفاء للناس، وبسبب قراءته يحصل الخير العظيم للعبد، ألَمْ ترَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن البقرة وآل عمران: (إنهما تأتيان يوم القيامة تحاجان عن صاحبهما)؟! وقال عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا سورة البقرة، -اقرءوها واحفظوها- فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البَطَلَة) والبطلة هم: السحرة، وهذا حديث صحيح.
فهي بركة ومضادة للسحر.(109/4)
الاستشفاء بالقرآن وبالمأثورات
ومن بركات كتاب ربنا أنه يُسْتَشْفَى به، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ على نفسه بالمعوذات، وأقر الصحابي لما رقى اللديغ بسورة الفاتحة، وكان بعض أهله صلى الله عليه وسلم يمسح بيده الشريفة اليمنى ويقول: (اللهم رب الناس، أذهب البأس، واشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً) ولا يغادر سقماً: أي لا يترك سقماًَ.
والأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها بركة، وهي التي ينبغي الحرص عليها بالإضافة إلى كلام ربنا.(109/5)
هيئات مباركة (الاجتماع على الطعام، كيل الطعام،)
ومن الهيئات المباركة الاجتماع على الطعام، والأكل من جوانب القصعة، ولعق الأصابع بعد الطعام، وكيل الطعام لِمَا جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله، يبارَكْ لكم فيه).
وقال صلى الله عليه وسلم: (البركة تنزل في وسط الطعام، فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم فلْيَلْعَقَنَّ أصابعه، فإنه لا يدري في أيتهن البركة).
وقال صلى الله عليه وسلم: (كيلوا طعامكم يبارَك لكم) حديث صحيح، رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى.(109/6)
الأماكن المباركة
وأما الأماكن المباركة فقد ثبت أن المساجد بقاعٌ مباركة، وأن أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله تعالى أسواقها، وعلى رأس المساجد المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى).
وكذلك مسجد قباء، قال صلى الله عليه وسلم: (مَن تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء، وصلى فيه صلاةً كان له كأجر عمرة) حديث صحيح، رواه أحمد رحمه الله تعالى.
إذا كان في المدينة يأتي قباء، وإذا جاءه يوم السبت ففيه أجر وفضل، وأما المساجد الثلاثة فيجوز السفر إليها، وقصد السفر لأجلها، وأما غيرها فلا يجوز شد الرحال إليه.
يا عباد الله: إن التبرك بالمساجد لا يكون بالتمسح بترابها، ولا بجدرانها، ونحو ذلك؛ لأن التبرك عبادة، ويشترط في العبادة المتابعة، والتماس البركة في المساجد إنما يكون بالاعتكاف فيها، وانتظار الصلوات، وصلاة الجماعة، وحضور مجالس الذكر، ونحو ذلك: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:36 - 37].(109/7)
بركة مكة والمدينة والشام
ومن البقاع المباركة العظيمة مكة: التي دعا الخليل ربه أن يجعل فيها البركة، فجعل فيها البركة، وفيها بيت الله المبارك، بيت الله العتيق.
وكذلك المدينة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، التي قال فيها عليه الصلاة والسلام: (إني أُحَرِّم ما بين لابَتَي المدينة أن يُقْطَع عضاها، أو يُقْتَل صيدها) وقال: (المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحد رغبةً عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنتُ له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة) رواه مسلم رحمه الله.
وقال: (على أنقاب المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال) وقال: (ومن أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء).
وكذلك من البقاع المباركة الشام التي قال الله تعالى فيها: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] وما حوله هو الشام، التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (طوبى للشام! فقلنا: لأي شيء ذاك؟ فقال: لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليه) حديث صحيح، رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
فمن سكن في مكة أو المدينة أو الشام ملتمساً لبركات الله عز وجل في تلك البقاع سواءً من زيادة أرزاقها أو دفع الفتن عنها، فقد وُفِّق إلى خير كثير.
أما لو تعدى وغلا وطلب التبرك بالتمسح بترابها وأحجارها وأشجارها، أو اعتقد أن غبارها شفاء أو يضع تربتها في الماء للاستسقاء، فإنه مأزور غير مأجور.
ومن المشاعر المباركة: عرفة ومزدلفة ومنى؛ لكثرة الخير الذي ينزل على الناس فيها في موسم العبادة، ولذلك كان إتيانها في غير موسم العبادة رجاء البركة بدعةً من البدع، فمن وقف في عرفة يرجو بركةً في غير يوم عرفة، فإنه مبتدع وصاحب غُلُو.(109/8)
الأزمنة المباركة
وهناك أزمنة جعلها الشارع مباركة، هي مثل غيرها من الزمان، لكن لما خصها الله بشيء من عنده صارت مباركة.
فمثلاً: شهر رمضان شهرٌ مبارك، كما جاء في الحديث الحسن لشواهده: (قد جاءكم رمضان شهر مبارك).
وليلة القدر وصفها الله تعالى بأنها ليلة مباركة: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3] {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3].
وكذلك يوم الجمعة، فإنه يوم مبارك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة) وهو كذلك يوم مبارك في الأسبوع.
واليوم المبارك في السنة يوم عرفة الذي يباهِي الله فيه الملائكة بعباده.
وأيام عشر ذي الحجة أيام مباركة.
وثلث الليل الأخير وقت النزول الإلهي وقت مبارك.
والإثنين والخميس تُفتَح فيهما أبواب الجنة، فيُغْفَر لكل عبد لا يُشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول الله لملائكته: (أنْظِروا هذين حتى يصطلحا).(109/9)
بم تتحقق البركة في الأزمان المفضلة؟
ما هي بركة هذه الأزمنة؟ بأي شيء تتحقق، وتصل إلى العبد، ويحصل عليها العبد؟ بعبادة الله فيها، وكل مَن عيَّن وقتاً يلتمس فيه بركة لم يرد به الشرع عيَّنه، واعتقد أن فيه بركة إضافية تختلف عن بقية الأوقات، فهو مبتدع من المبتدعة، كما يفعل كثير من الناس في السابع والعشرين من رجب، ونحو ذلك من الأيام التي عينوها.(109/10)
الأطعمة المباركة
وقد جعل الله تعالى في بعض المطعومات بركة، ومثل ذلك زيت الزيتون لقوله تعالى: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور:35].
وقال: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} [النور:35].
وقال عليه الصلاة والسلام: (كلوا الزيت وادهنوا به، فإنه من شجرةٍ مباركة).
() ائتدموا بالزيت وادهنوا به، فإنه من شجرةٍ مباركة).
وكذلك اللبن فهو مبارك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطعمه الله طعاماً فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وارزقنا خيراً منه، ومَن سقاه الله لبنا فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، فإني لا أعلم ما يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن).
وكذلك من الأطعمة التي جعل الله فيها بركةً كبيرةً في الدواء: الحبة السوداء، والعجوة، والكمأة؛ لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام وهو الموت) حديث صحيح.
وقال عليه الصلاة والسلام (الكمأة من المَنِّ، وماؤها شفاء للعي).
والعجوة من الجنة، وهي شفاء كذلك.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر).
وكذلك العسل الذي قال الله فيه: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69].
وكذلك ماء زمزم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها مباركة، إنها طعام طُعْم).
وكذلك ماء المطر ماء مبارك، فإن الله قال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً} [ق:9].
وجاء عن أنس رضي الله عنه قال: (أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله! لم صنعت هذا؟ قال: لأنه حديث عهد بربه) رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه.
وكذلك الخيل، جعل الله فيها بركة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر، والمغنم).
وكذلك الغنم فيها بركة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (صلوا فيها -أي: في مرابض الغنم- فإنها بركة).
وقال لـ أم هانئ (اتخذي غنماً، فإن فيها بركة).
والنخل مبارك، جعل الله فيه بركة، زيادة على بقية الثمار والزروع، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن من الشجر لَمَا بركته كبركة المسلم؛ هي النخلة) رواه البخاري رحمه الله.
فالله يجعل البركة في من شاء من عباده، وفيما شاء من البقاع، وفيما شاء من الأمكنة والأزمنة.
نسأل الله تعالى أن يبارك لنا في أهلينا وأموالنا وأولادنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو البر الرءوف الرحيم.(109/11)
التبرك الممنوع
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، خلق فسوى، وقدر فهدى، وهو رب الأولين والآخرين، الحي القيوم لا يموت، والجن والإنس يموتون.
وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إن ما وقعت فيه هذه الأمة من الشرك في مسألة التبرك أمر خطير جداً، وهو منتشر في بلاد المسلمين في طولها وعرضها، لا يكاد يَسْلم منه أحدٌ إلا الموحِّدين، الذين عرفوا الله تعالى ووحدوه، الذين تعلموا هذه الشريعة، وعرفوا معنى الاتباع ومعنى الابتداع، وعرفوا النهي عن الغلو، فاجتنبوا الغلو.
كان أهل الجاهلية قبل البعثة يطلبون البركة من أصنامهم، وكان لهم دار في مكة فيها صنم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع قبل أن يخرج من منزله أن يتمسح بذلك الصنم، وإذا قدِم من سفر تمسح به كذلك، يرجو البركة بانتقال البركة من هذا الصنم إلى اليد، ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل، أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن ولا يرحل راحل إلا حمل معه حجراً من حجارة الحرم، فحيثما نزلوا وضعوها، فطافوا حولها.(109/12)
التبرك بأحجار مكة
وبهذا يتبين أن التبرك بأحجار مكة وتعظيمها أمر غير مشروع أبداً، إلا الحجر الأسود، الذي استلمه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الركن اليماني، قال عمر: [إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك].
ولذلك كان استلام أعمدة الحرم وجدران الحرم وغير ذلك والتمسح بها، وحلقات الأبواب من فعل المشركين الذين يقعون في هذا الشرك بالتبرك بالأشياء التي لم يشرع التبرك بها.
وتنتقل البدعة من واحد إلى آخر؛ حدثني رجل قال: كنت في المسعى أسعى بين الصفا والمروة، فرأيت رجلاً يمسك حلقةً من حلقات أحد الأبواب، يتفرج عليها، قال: فوقف بعده واحدٌ آخر، وصار بدلاً من أن يمسكها للفرجة يمسحها، قال: وبعد عدة أشواط وجدت نفراً كثيرين متجمعين ليمسحوا بتلك الحلقة، فكل جاهل يرى مَن قبله يَمسح فيَمْسح، وهكذا يفعلون.
لقد كان أهل الجاهلية كما قلنا يلتمسون البركة من أصنامهم، وكان لهم صنم يقال له سعدٌ، وهو عبارة عن صخرة في فلاة من الأرض، فأقبل رجل من بني ملكان بإبل له ليقفها عليه التماس بركته، فلما رأته الإبل، وكانت مَرْعِيَّة لا تُرْكَب، وكان هذا الصنم يُراقُ عليه الدم، وتُنْحَر عنده الذبائح، فلما رأت الإبلُ ذلك نَفرَت منه، فذهبت في كل وجه، فغضب الأعرابي، فأخذ حجراً فرمى الصنم، وقال: لا بارك الله فيك، نَفَّرْتَ عليَّ إبِلِي، ثم خرج في طلبها، وعاد فقال:
أتينا إلى سعدٍ ليجمع شملنا فشتتنا سعدٌ فلا نحن مَن سَعْدِ
وهل سعدٌ الا صخرةٌ بتَنُوفةٍ مِن الأرض لا يُدعى لِغَيٍّ ولا رُشْدِ
وهكذا فعل الجاهليون بأصنامهم.
ولذلك لما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى كل صنم من يهدمه، ويحرقه ويزيل أثره، وعلى رأسهم سيف الله وسيف رسوله خالد بن الوليد، وجرير بن عبد الله البجلي وغيرهما، حتى إنه يُروى أن المغيرة بن شعبة لما خرج مع خالد بن الوليد لهدم اللات، وكانت عند أهل الطائف في ثقيف، انكفأ الرجال والنساء والصبيان، وخرجت العواتق ليرون هذا الذي سيَهْدِم صنمهم ماذا سيحل به؟ فأخذ المغيرة بن شعبة فأساً كبيرة، وقال لأصحابه: ألا أضحكنكم من ثقيف؟ قالوا: بلى، فضرب بالمعول ضربةًَ على اللات، ثم صاح وخَرَّ مغشياً على وجهه، فارتجت الطائف بالصياح سروراً بأن اللات قد صَرَعت المغيرة، وأقبلوا يقولون: يا مغيرة! كيف رأيتها؟! دُونَكَها إن استطعت! ألم تعلم أنها تهلك من عاداها، فوثب المغيرة يضحك منهم، وكان قد أتقن تمثيل دوره، ويقول: والله يا معشر ثقيف ما قصدتُ إلا الهُزْء بكم، إنما هي لَكاعِ؛ حجارة ومدر، ثم ضرب الباب فكسره، ثم علوا سورها، فما زالوا يهدمونها حتى ساووها بالأرض، وأخذوا كنوزها وحليها وثيابها، فجاءوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما رأى الأعرابيُّ ثعلباً يبول على صنم لبني سليم استهزأ به وعرف أنه ليس بإله.
وهكذا فعل الصحابي الذي هداه الله لما رأى صنمه مربوطاً بجيفة كلب مُدَّلى في بئر.
كانت تلك حال أهل الجاهلية.
فماذا فعل أهل جاهليتنا؟ لقد جعلوا بدل الأصنام قبوراً، وبدل بيت الصنم شباك القبر، وجعلوا ذلك الحديد الذي حول القبر مكان المَسْح، وأعتاب القبر تُقَبَّل، ويُحج إليه، ويذبح عنده، ويطاف به، وهكذا.(109/13)
التبرك بغار حراء وغار ثور
وكذلك غلا الناس في بعض الآثار النبوية، كـ غار حراء، وغار ثور، ويريدون إحياء مكان خيمة أم معبد، ونحو ذلك.
وقد قطع عمر رضي الله عنه شجرة الرضوان التي قالوا: إنها هي الشجرة التي بويع عندها النبي صلى الله عليه وسلم، لما رأى الناس يأتونها، وقال: [[إنما هلك مَن كان قبلكم بمثل هذا، يتبعون آثار أنبيائهم فيتخذونها كنائس وبيعا].
ولذلك لما رأى أحد الصحابة أخاً له قادماً من جبل الطور، قال: أما لو أدركتك قبل أن ترحل إليه ما رحلتَ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تُشَد الرحال) الحديث.
وكان مالك بن أنس، وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان المساجد الأخرى غير المسجد النبوي ومسجد قباء أو الآثار النبوية ونحو ذلك، ولا يأتون أماكن الآثار للفرجة ولا لغيرها.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: إذا قصد الرجل الصلاة عند بعض قبور الأنبياء أو بعض الصالحين تبركاً بتلك البقعة فهذا عين المحادة لله ورسوله.
وقال: مِثْل مَن يذهب إلى حراء ليصلي فيه ويدعو، أو يسافر إلى غار ثور ليصلي فيه ويدعو، أو يذهب إلى الطور ليصلي فيه ويدعو، أو يسافر إلى غير هذه من الأمكنة أو الجبال التي يقال عنها: إنها مقامات الأنبياء، فلا شك أن هذا الرجل قد وقع فيما نهى الله ورسوله عنه.
وقد تصدى علماؤنا حفظهم الله لمن يريد إحياء الآثار النبوية بزعمهم، كطريق الهجرة، ومكان خيمة أم معبد، وأن يحولوها إلى مزارات يأتي إليها الناس، ولا شك أن هذا من الأسباب التي توصل إلى الشرك، وكثير من الناس فيهم جهل.(109/14)
بدعة الاحتفال بالمولد
ويحتفلون أيضاً بأزمنةٍ يقولون فيها بركة، مثل وقت المولد، وغير خافٍ عليكم ما حصل قبل فترة بسيطة من الاحتفال به عند كثير من المسلمين.
فمن الذي أحيا المولد؟ ومن الذي بعث المولد في البلاد؟ إنهم بنو ميمون القداح، الذين تسموا بالفاطميين، وهم غير قرشيين، بل إن جدهم مجوسي.
قال أبو بكر الباقلاني رحمه الله: القداح جد عبيد الله الذي يسمى بـ المهدي، كان مجوسياً، لا تنعقد لهم بيعة ولا تصح لهم إمامة، كان المهدي عبيد الله باطنياً خبيثاً حريصاً على إزالة ملة الإسلام، أعدم العلماء والفقهاء، وأباح الخمر والفروج، وكان زنديقاً ملعونا، ً أظهر سب الأنبياء.
والفاطميون هم الذين أحيوا المولد، ونشروا الاحتفال به، ويتابعهم الجهلة من بني عصرنا وغيرهم إلى هذا الوقت على الاحتفال بيوم المولد، وأنه يوم مبارك بزعمهم، ويتبركون بذوات الصالحين، ويقولون: الشيخ فلان، وإذا دخل تمسحوا به ثم مسحوا أنفسهم، أو مسحوا وجوه أطفالهم، وهكذا يفعلون بمشايخهم، بل وصل الحد إلى أنهم كانوا يتبركون بـ الحلاج، وهو من زعماء البدع المكفِّرة، حتى كانوا يتمسحون ببوله، ويتبخرون بروثه.
وفي أمم الأرض اليوم، وفي كثير من البلدان من يتمسحون بالأشخاص، والمغارات، والجدران، ومغارة الخضر، ونحوها، ويزعمون أنها أماكن مباركة، وهكذا حصل الشرك وانتشر في الأمة.
ويقول بعض الناس لبعض: تفضل! بارك لنا البيت، أو تبارَكْتَ علينا يا فلان، وإنما البركة من الله، الله هو الذي يبارك، لا يبارك فلان ولا فلان، الله الذي يبارك فقط سبحانه وتعالى.
نسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يجنبنا البدع والشرك بأنواعه، والفتن ما ظهر منها وما بطن.(109/15)
التعلق بالدين لا بالأشخاص
لقد كان لغزوة أحد الأثر الكبير في تهيئة النفوس لاستقبال الأخبار التي قد تؤثر على نفوسهم، من هذه الأخبار: خبر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء في القرآن، وقد أوضح أن رسولنا صلى الله عليه وسلم إنما هو رسول من سائر الرسل مبيناً أن التعلق لا يكون بالأشخاص وإنما بالدين.(110/1)
إعداد النفوس في أحد لتلقي نبأ الوفاة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
يقول الله سبحانه وتعالى في القرآن المجيد: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].
هذه الآية العظيمة من كتاب ربنا سبحانه وتعالى فيها بيان كافٍ لقواعد من أسس التربية الإسلامية، ووضع صحيحٍ في محله للموازين التي ينبغي أن يكون المرء المسلم متزوداً بها وهو ينظر في واقعه ومن حوله، كان لهذه الآية فعلٌ عظيمٌ في مناسبتين خطيرتين من مناسبات الإسلام: أما الأولى: فهي وقعة أحد؛ التي انهزم المسلمون فيها بعد أن نصرهم الله في بادئ الأمر، ثم انهزموا فيها لأسبابٍ أربعة جاء ذكرها في القرآن الكريم: أولاً: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} [آل عمران:152].
ثانياً: {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:152].
ثالثاً: {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران:152].
رابعاً: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:152].
فلأن التفرق قد حل بينهم في تلك اللحظات، والتنازع، ومعصية أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، والطمع في الدنيا للجري وراء الغنائم؛ حلت بهم الهزيمة، وأشيع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، وادعى ذلك بعض كفار قريش.
وفي هذه اللحظات العصيبة التي أشيع فيها مقتل القائد؛ الذي يتجمع الجنود حوله ويصدرون عنه في أمره ونهيه، وهو الذي يعد لهم ويرتب، وهو الذي عليه المدار، ومنه تنبثق الأمور؛ حلت النكبة العظيمة في جيش المسلمين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كأي قائد من القواد، بل إنه قدوة عظيمة، وهو مصدر الوحي من عند الله عز وجل، ولذلك كان وقع خبر مقتله صلى الله عليه وسلم على صحابته وقعاً في غاية السوء.
وقد أيد ذلك أن شخصه صلى الله عليه وسلم قد غاب عن ساحة المعركة في وقت من الأوقات، وكان عليه الصلاة والسلام مختبئاً محصوراً في زاوية من الجبل هو ونفرٌ قليلٌ من أصحابه، فلما جاء وقع ذلك الخبر كالصاعقة على المسلمين، انقسموا إلى ثلاثة أقسام: فمنهم: من أمعن في الفرار.
وقسم ثانٍ: ألقوا السلاح وجلسوا يائسين: لماذا يقاتلون؟ وكيف يقاتلون؟ وعلام يقاتلون وقد مات صلى الله عليه وسلم؟ وقسم ثالث: فقهوا الدين وعاشوا لحظات المصيبة بكامل عتادهم الإيماني، ونظرتهم الشاملة لنصرة دين الله، والاستمرارية التامة لإعلاء كلمة الله حتى آخر لحظة، فكانوا يبثون الحماس في نفوس اليائسين ويقولون: [إذا كان رسولكم قد مات فقوموا فموتوا على ما مات عليه].
وفي لحظات المصيبة والنكبة التي تقع؛ فإن الناس لا بد أن يتقسموا إلى أقسام بحسب الفقه والإيمان الذي وقر في قلوبهم.
ويتخذ القرآن من حادثة فرار المسلمين في أحد مادة للتوجيه وتقرير حقيقة إسلامية عظيمة في التصور الإسلامي، إن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سبقته الرسل، وقد مات الرسل من قبله، فهو إذاً سيموت لا محالة كما مات من قبله، هذه حقيقةٌ أوليةٌ بسيطةٌ، فما بالكم -أيها المسلمون- قد غفلتم عنها حين واجهتكم تلك الحقيقة في ساعات المعركة، إذا مات المبلغ، فإن البلاغ باقٍ، والبشر إلى فناء والعقيدة إلى بقاء.(110/2)
توضيح وظيفة رسول الله في قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ)
إنه عليه الصلاة والسلام قد جاء ليأخذ بأيدي المسلمين إلى العروة الوثقى، ليعقد بها أيدي البشر، ثم يدعهم عليها ويمضي وهم به مستمسكون، هذا هو المفروض أن يكون: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك).
مات عليه السلام وذهب بشخصه وبقيت دعوته حية، من الذي يستمسك بها؟ ومن الذي يعضُّ عليها بالنواجذ؟ أنتم -أيها المسلمون- تأملوا في أنفسكم: لقد ذهب رسولكم صلى الله عليه وسلم إلى ربه، فمن الذي بقي بعده مستمسكاً بحبل الله عز وجل، وبالعروة الوثقى؟ إن الدعوة إلى الله أقدم من الداعية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144] خلوا من قبله يحملون الدعوة الضاربة في جذور الزمن، وهي أكبر من الداعية، الدعاة يجيئون ويذهبون، وتبقى الدعوة إلى الله على مر الأزمان والقرون.
إذاً لابد من توضيح دور الشخصيات بالضبط في هذا الدين، أن تعمل للدين هذا فرضٌ واجبٌ، أن تكون الشخصيات قدوةً حيةً تحرك نفوس المسلمين، هذا أمرٌ مهمٌ، وأن تكون مشعلاً ينير للناس ظلمات الجاهلية؛ هذا أمرٌ مطلوب، ولكن أن يكونوا هم الدين، كلا.
إن هذا أمرٌ لن يتم مطلقاً؛ لأنهم سيذهبون.
مشكلة كثيرٍ من المسلمين اليوم (عقدة الشخصانية) أنهم يتعلقون بالأشخاص على حساب المنهج، وهذا التعلق مذمومٌ لأسباب كثيرة: فمنها: لو أن هذا الشخص ضل، أو انحرف، أو ارتد عن دين الله، أو أخطأ كما هو متوقعٌ -لأن البشر غير معصومين- فإذاً ما الذي سيحصل لو كان التقليد الأعمى هو الذي قد استقر في النفوس؟ فإن (عقدة الشخصانية) -التعلق بالأشخاص- قد يصل إلى درجة عبادتهم من دون الله، فيتابعون على تحليل الحرام وتحريم الحلال، إن تمجيد الأشخاص في النفوس عقدةٌ مذهلةٌ تصرف كثيراً من المسلمين عن الحق، ولو أن هذا القدوة، أو هذا الشخص قد ابتعد في سفرٍ، أو موتٍ، أو ابتعد عنه، ما هي النتيجة؟ إذاً أيها الإخوة: لا بد أن نقدر الأمور بقدرها الشرعي، ونضبطها بالميزان الإلهي؛ ألا نغلو في الأشخاص كما نحفظ لهم حقوقهم، إن الذين استقاموا على الشريعة لهم مكانة عظيمة في نفوسنا، ولكن تلك المكانة لا تحملنا على ترك هجر الحق وتركه لأجلهم، إن الحق عندنا أغلى من الرجال، إن الحق أحق أن يتبع.
لقد استغلت حادثة معركة أحد لإعداد الجماعة المسلمة لتلقي الصدمة الكبرى حين تقع، والصدمة الكبرى هي وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يعلم أنها ستقع وبأي وقت ستكون، فبين القرآن أن الصلة بالله لا بغيره، وأن هؤلاء محاسبون أمام الله لا أمام غيره.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في الزاد " ومنها -أي: من الغايات في هذه الغزوة- أن وقعة أحد كانت مقدمةً وإرهاصاً بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبأهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قتل، بل الواجب عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده، ويموتوا عليه ويقتلوا، فإنهم إنما يعبدون رب محمد وهو حيٌ لا يموت، فلو مات محمد أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه وما جاء به، فكل نفس ذائقة الموت، وما بعث محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ليخلد ولا هم، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد ".
ا.
هـ ولذلك لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبضت روحه، يقول الراوي: فتشهد أبو بكر فمال إليه الناس، فقال: [أما بعد: فمن كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حيٌ لا يموت، قال الله عز وجل: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) [آل عمران:144] قال: والله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس، فما أسمعُ بشراً من الناس إلا يتلوها] رواه البخاري.(110/3)
أهمية التربية في إعطاء الناس المبادئ النظرية
أيها الإخوة: إن التربية مهمة في إعطاء الناس المبادئ النظرية التي يستعملونها في الواقع العملي، ولكن عندما تأتي الحاجة إلى استغلال هذه المبادئ، وإلى هذه الآيات والأحاديث، فإن ضغط الواقع وحجم المصيبة قد ينسي في تلك اللحظة تلك المبادئ النظرية التي تلقيت وحاول المربي أن تستقر في النفوس.
فإذاً لا بد من إنسان يعيد إلى الذاكرة تلك المبادئ وهذه الأسس التي سبق أن أخذت مكاناً لها في الذاكرة، لماذا؟ لأن الواقع العملي يحتاج في لحظات الشدة إلى قواعد يتكئ عليها المصاب التي حدثت به المصيبة، فتذكر هذه الأشياء وإعادتها إلى الأذهان من صفات عباد الله الشاكرين الذين ثبتوا ويقومون بتثبيت الناس، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: [[والله ما هو إلا أن تلاها أبو بكر -يعني: قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران:144] حتى عقرت- دهشت وبلغ بي الروع كل مأخذ- وأنا قائم، حتى خررت إلى الأرض، وأيقنت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات].
عمر رضي الله عنه وأرضاه بعظمته وسعة علمه وفقهه ما كان يصدق أنه صلى الله عليه وسلم قد مات حتى سمع الآية التي ذكره بها أبو بكر، وفي رواية: [[والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعرفت أنه الحق، فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى هويت إلى الأرض، وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات].
قالت عائشة: [[لقد بصَّر أبو بكر الناس في الله، وعرفهم الحق الذي عليهم، وخرجوا به يتلون: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)) [آل عمران:144]].
في المواقف الصعبة يظهر دور الشخصيات القيادية في المجتمع التي تقود الناس بالوحي يظهر أثرها في تثبيت الناس.
عظم أبو بكر الصديق حتى صار ملجأً للناس يلجئون إليه، والحادثة كشفت عن قدرة هذا الرجل وإيمانه وعمله، لم يقم بدوره عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا بقية الصحابة، ولذلك كان جديراً أن يكون أفضل الأمة بعد نبيها، وخليفة المسلمين بعد رحيل نبيهم صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الحادثة تعلم كيفية التعامل مع الواقع السيء، كيفية التعامل مع الناس في أجواء الشدة وأجواء المحنة، إن الناس قد جاءوا إلى أبي بكر والتفوا حوله لما وقعت المصيبة، وذهلتهم الصدمة في الرواية الصحيحة التي رواها الترمذي وغيره، قال الراوي: [جاء أبو بكر والناس قد دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أيها الناس! افرجوا لي، فأفرجوا له، فجاء حتى أكب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسه، فقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] ثم قال الناس: يا صاحب رسول الله! أقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم.
فعلموا أن قد صدق، قالوا: يا صاحب رسول الله! أيصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
قالوا: وكيف؟ قال: يدخل قومٌ فيكبرون ويصلون ويدعون، ثم يخرجون، ثم يدخل قومٌ فيكبرون ويصلون ويدعون، ثم يخرجون حتى يدخل الناس، قالوا: يا صاحب رسول الله! أيدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
قالوا: أين؟ قال: في المكان الذي قبضه الله فيه، فإن الله لم يقبض روحه إلا في مكان طيب، فعلموا أن قد صدق].
كبار الصحابة والمجتمع المدني وجميع الناس يسألون رجلاً واحداً يصدرون عن رأيه وفتواه المستندة إلى العلم الشرعي، واحد ثبت الناس كلهم، واحد رجع إليه الناس وفاءوا، واحد أنقذ الناس من هول الصدمة، وعرفهم كيف يعملون، وماذا يصنعون، واحدٌ هو الذي قادهم حتى صار بعد ذلك أمر المسلمين إليه فأنقذهم، واحدٌ هو الذي قاوم الردة بأسرها، واحدٌ هو الذي كان رأيه أن يقاتل المرتدين بمللهم حتى اجتمع أمر الصحابة على ذلك.
إذاً -أيها الإخوة- المواقف هي التي تبرز الرجال، فلو شاهدت ميتاً مات في دار بعض الناس، تجد الإنسان الذي أنعم الله بالثبات، يثبت نساء الميت وأولاده وأقرباءه، ويكون هو الشعلة التي تتحرك في هول تلك الصدمة هو الذي يبصر الناس بالواجب الشرعي عليهم.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ثابتين على الحق مثبتين لغيرنا عليه، وصلى الله على نبينا الأمي، وأستغفر الله لي ولكم.(110/4)
أثر وفاة الرسول على الصحابة
الحمد لله الذي لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده حتى لقي ربه وقد أعذر وأنذر، وبلغ الناس ما أنزل إليهم من ربهم.
أيها الإخوة: إن الجو الذي عاشه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه كان جواً حالكاً جداً يعبر عنه الراوي في الحديث الصحيح وهو أنس فيقول: (لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا من التراب، وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا).
أظلم منها كل شيء، هول الصدمة أراهم الواقع مظلماً لا يرون شيئاً، اسودت الدنيا في أعينهم، وكانوا كما جاء في وصفهم: كالغنم المتفرقة في الليلة الشاتية المطيرة، كيف يفعل الليل والشتاء والمطر والبرد بقطيع من الغنم؟ كيف يبعثرها؟ ولذلك فالثبات في لحظات الفتنة، وفي لحظات المحنة، والصدمة أمرٌ مهمٌ جداً، ولذلك يقول الله في آخر هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} [آل عمران:144] سيأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه، ليست المسألة في الأشخاص، دين الله باقٍ ولو ارتد الناس، سيأتي الله بقوم يقومون بهذا الدين: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} [آل عمران:144] لن يضر إلا نفسه، ثم قال: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] قال ابن الجوزي رحمه الله في زاد المسير: وفي هذه اللفظة (الشاكرين) أقوالٌ: أحدها: أنهم الثابتون على دينهم قاله علي، وقال: كان أبو بكر أمير الشاكرين.
وقال ابن القيم رحمه الله: والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حتى ماتوا وقتلوا، فظهر أثر هذا العتاب، وحكم هذا الخطاب يوم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد على عقبيه من كفار العرب، وثبت الشاكرون على دينهم، فنصرهم الله وأعزهم وأظفرهم على أعدائهم، وجعل العاقبة لهم.
فإذاً: تحمل المسئولية في نصرة هذا الدين هي للشاكرين الذين ثبتوا، والقيام بتثبيت الناس وظيفة مهمة ينبغي أن يقوم بها أولئك الشاكرون.
ومن عجائب الأمور التي تذكر بها هذه المناسبة: أن الله عز وجل يقول عن هذا القرآن: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) [البقرة:26] هذه الآية في المجتمع المدني ثبتت الصحابة رضوان الله عليهم لما مات عليه السلام، فخرجوا يتلونها، أما طائفة من المستشرقين من أبناء هذا الزمن، فإنهم قالوا في هذا الحديث: إن هذه الآية من بنات أفكار أبي بكر، وأنه اخترعها لحظة حصول الصدمة ليمتص بها الصدمة، وهذه الآية قديمة جداً، هذه الآية نزلت في آيات تعقب على غزوة أحد، فتباً لتلك العقول! وفعلاً إن الله يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً؛ آية من كتاب الله اهتدى بها أقوام وثبتوا، وضل بها أقوام وزاغوا، هذا القرآن إذاً يثبت الله به المؤمنين، وليس كل الناس يكون هذا القرآن ذا أثر إيجابيٍ على أنفسهم.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم اجعلنا من الشاكرين في النعماء، الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، اللهم ثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب، اللهم وطهر بلادنا من الشرك والبدع، اللهم واحمها من كل عدو للإسلام والمسلمين، اللهم من أراد بنا وببلدنا سوءاً فاجعل كيده في نحره، اللهم من أراد بلاد المسلمين بسوء اللهم فطهر الأرض من رجسه.
والحمد لله رب العالمين.(110/5)
التوفيق بين عمل الدنيا وعمل الآخرة
إن الله سبحانه وتعالى دعا عباده إلى العمل والتكسب لأجل المعيشة، ومع ذلك دعا إلى المسارعة والمسابقة إلى طاعته، مما يدل على أن الإنسان لابد أن يوفق بين عمل الدنيا وعمل الآخرة، وأن يسعى في هذه الدنيا بضوابط شرعية فرضها الله سبحانه وتعالى عليه.(111/1)
أحوال الناس تجاه عمل الدنيا والآخرة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد.
فمع عودة كثيرٍ من الناس إلى أعماهم ودراساتهم، أنبه وأعرض في هذه الخطبة -أيها المسلمون- إلى مفهومٍ إسلامي أصيل، وتصورٍ جاء به هذا الدين العظيم، وهو: أن طريق الدنيا والآخرة طريق واحد، وأن طريق العبد في هذه الحياة حتى ولو كان يعمل للدنيا فإنما هو ينظر إلى الآخرة؛ إذ أن التعارض بين الدنيا والآخرة والفصل بينهما صار عند كثيرٍ من الناس بأسبابٍ متعددة، إذا نظروا في أمر الإسلام والدين، ثم التفتوا إلى أمر دنياهم وأعمالهم ووظائفهم وتجارتهم ودراستهم؛ وجدوا تناقضاً وأحسوا بالإثم، ورأوا تعارضاً بين ما هم فيه من أمور الدنيا وبين القرآن والسنة، وهذا الشعور له مصادر متعددة، فقد يكون نتيجةً لتصور خاطئ، وقد يكون نتيجةً لممارسةٍ خاطئةٍ وعملٍ محرم، فالذين يعملون في المحرمات وظيفةً وتجارة ودراسة شعورهم بالتعارض بين دنياهم وآخرتهم شعور حقيقي وصحيح، ويجب أن يشعروا أن ما هم فيه من عمل الدنيا يتعارض مع الآخرة تعارضاً واضحاً لماذا؟ لأنهم يعملون في مجالاتٍ محرمة منافيةٍ للدين، وتصير أمور دنياهم في هذه الحالة مخالفةً لأحكام دينهم، فيجب على هؤلاء ترك المحرمات التي هم فيها واقعون.
ومن المسلمين طائفة ثانية تشعر بالتعارض؛ لأنه غلَّب جانب الدنيا على جانب الآخرة في الاهتمام والعمل، فشعوره -أيضاً- شعورٌ صحيح؛ لأنه غبن نفسه وفوت عليها حسناتٍ كثيرة لو حصلها لارتفع عند الله في الآخرة، ولأنه انشغل بالفاني، عن العمل للباقي، وركز جهده في هذه الحياة التي تنتهي؛ ركز فيها جهده وعمله، وجعل الفتات والفضلة من وقته لأمر الآخرة التي لا تنتهي، والتي حياتها في خلودٍ دائم فهذا مغبونٌ ومسكين؛ لأنه انشغل بما ينتهي عما لا ينتهي، وبالفاني عن الباقي، فينبغي أن يعود، ويعدل الميزان، وأن يجعل عمله للآخرة هو الأكثر.
ومن المسلمين من يرى تعارضاً بين الدنيا والآخرة لخطأ في تصور القضية طريق الدنيا وطريق الدين، فهؤلاء ينبغي أن يبصروا ويفقهوا ليزول اللبس فلا يتعذبون، وليعملوا وهم في راحة.
يصر البعض على زعم أن العبادة تتعارض مع الكسب والعمل في الصناعة والتجارة والزراعة وغيرها، وأن من أراد الآخرة فلا بد أن يطلَّق الدنيا طلاقاً باتاً حتى يصلح قلبه.(111/2)
شبهة الصوفية والرد عليها
يقول بعض هؤلاء من الصوفية وغيرهم: إن الصحابة لم يفتحوا البلدان، ولم يصلوا إلى المنزلة العالية من الدين، إلا بعد أن تركوا الدنيا وتفرغوا تفرغاً تاماً للعبادة والجهاد فما صحة هذا الكلام؟
الجواب
إن هذا الكلام فيه تعسفٌ ومنافاة لمصلحة الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها، وبعيدٌ عن الحكمة والعقل السليم والواقع، وهو مغاير قبل ذلك كله لحال الصحابة رضوان الله عليهم، وللرد على تلك المزاعم نريد إلقاء الضوء على النظرة الشرعية للعمل الدنيوي والكسب أولاً، وكيف طبق الصحابة ذلك في حياتهم ثانياً؟ أما المسألة الأولى: فقد قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، قال ابن كثير رحمه الله: "أي: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل، والنعمة الطائلة، في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة".
قوله تعالى: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] هذه الآية فيها تفسيران: الثاني: أي: لا تنس ما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزورك -أي: ضيوفك وزائريك- عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حقٍ حقه.
وقال الحسن وقتادة: [أي: لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه].
وهذا مثل قول ابن عمر رضي الله عنه: [احرث لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً] وقال الحسن: [قدم الفضل وأمسك ما يبلغ] وقال مالك: "هو الأكل والشرب بلا سرف".
هذا معنى: لا تنس نصيبك من الدنيا لا تنس الحلال فهو نصيبك من الدنيا.(111/3)
الكسب والفرق فيه بين المؤمنين والكفار
مسألة الكسب -أيها الإخوة- مسألة شرعية تحصيل المال لإنفاقه على النفس، وسد الحاجة مطلبٌ شرعي، وليست قضيةً دنيويةً بحتة يرتبط بتحصيل الكسب للإنفاق على النفس وسد الحاجة، أجرٌ وثوابٌ في الآخرة، فهي ليست قضية دنيوية مجردة، وهذا من الفروق بين المسلمين والكفار؛ فالكفار لا يحتسبون -في عملهم للدنيا في وظائفهم ودراساتهم وأبحاثهم- أجراً عند الله، وإن كانوا يقولون: إن ذهابهم إلى الكنيسة من أجل أن يجدوا فائدة ذلك بعد الموت، لكنهم لا يحتسبون في أعمالهم الدنيوية أي نوعٍ من أنواع الأجر.
وأما المسلمون: فانظر في هذا الحديث الصحيح: قال صلى الله عليه وسلم في الخارج من بيته: (إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيل الشيطان).
مسألة الغرس التي يغرسها الإنسان في الأرض، مع أن ظاهرها قضية دنيوية، ولكن لها في الآخرة اتصال وثيق؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة) رواه البخاري.
قال ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث فضل الغرس والزرع، والحض على عمارة الأرض.
ويستنبط منه: اتخاذ الضيعة -وهي التي يسميها الأولون بهذا الاسم- كالمزرعة وغيرها، والقيام عليها.
وفيه فساد قول من أنكر ذلك من المتزهدة من الصوفية وغيرهم.
فأما ما ورد من النهي عن ذلك فإنه يحمل على من استكثر بها واشتغل عن أمر الدين، وقوله: "إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة"، مقتضاه أن أجر ذلك الغرس يستمر حتى لو مات الزارع والغارس وانتقل ملكية الزرع إلى غيره.(111/4)
كيفية دخول الدنيا في الآخرة
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجلٌ بفلاةٍ من الأرض، فسمع صوتاً في سحابة: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب، فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله) والحرة: الأرض الملبسة حجارة سوداء.
والشرجة: مفرد شراج، وهي مسالك الماء الطرق التي يسيل فيها الماء وينحدر.
(فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله -الذي نزل من السماء- فتتبع الماء) هذا الرجل الذي سمع الصوت من السحابة يتتبع الماء إلى أين ينتهي (فإذا رجلٌ قائمٌ في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحاب) طابق الاسم الذي قاله له الرجل الاسم الذي سمعه في السحابة قبل قليل: اسق حديقة فلان (قال: فما تصنع فيها؟ -ما شأنك في هذه الحديقة والمزرعة- قال: أما إذا قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً، وأرد فيها ثلثه)، وفي رواية: (وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل) رواه مسلم.
إذاً هذا الحديث يدل على الاشتغال بالزرع لحاجة الإنسان وأهله، وحاجة الأرض والمشروع الأساسي، ثلثان لهذا الذي يتصور الناس أنه من الدنيا، ولكن ذلك الرجل بصلاح نيته وصدقته الثلث من الدخل صدقة، قد بلغ به هذا الحال عند الله أن أكرمه بهذه الكرامة العظيمة.
وحتى يكون لدينا مثال آخر في قضية دخول الدنيا في الآخرة: لنتأمل في مسألة التجارة في الحج؛ هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، أباح الشارع الحكيم التجارة فيه لعلمه بحاجات الناس وما يصلحهم؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها -في مواسم الحج- فأنزل الله: ((لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ)) [البقرة: 198]] رواه البخاري.
فكيف إذاً سمح لنا بالتجارة في موسم الحج؟! إن أعمال الحج ماشية، والحاج يسير في نسكه، ويجوز له أن يتاجر! نعم لو تفرغ للعبادة لكان أفضل، ولكن لا يمنع ذلك أن يتاجر في ذلك الموسم، وأن يبيع ويشتري ماذا يعني هذا؟ مراعاة الشريعة لحال الناس، وأن هذا دين يلبي طلبات الناس، وأن من ابتغى بعمله الله عز وجل ولو كان عمله دنيوياً أنه يؤجر على ذلك.(111/5)
الصحابة وجمعهم بين كسب الدنيا والعلم والعمل
كيف طبق الصحابة مسائل الكسب وهم يعيشون في طلب العلم والجهاد والعبادة بأنواعها؟ يشتكي الآن عدد من المخلصين ويقولون: لا نستطيع أن نوفق بين الدنيا وطلب العلم، وبين الدنيا والعبادة فكيف نفعل؟ صحيح أن المجتمع قد تعقد كثيراً، وأنه قد صارت هناك متطلبات لا توجد في العصر الأول، لكن هناك شيءٌ أساسي مشترك، وهو: الحاجة الشخصية إلى المال والكسب.
قال عمر -رضي الله عنه- لـ ابن عباس يعلمه قصة المرأتين، قال: [كنت أنا وجارٌ لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهم من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم، فينزل يوماً وأنزل يوماً؛ فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك] رواه البخاري.
عمر يحتاج إلى العمل يحتاج لكسب قوته الصحابة لم يكونوا يمدون أيديهم للناس وهم يستطيعون كسب أقواتهم، كان عندهم عزة؛ فهم يعملون لأجل كسبهم كان بين عمر وشخص آخر صداقة أدت إلى عمل مشترك في زراعة؛ فكان عمر يعمل يوماً وينزل ذلك الرجل لطلب العلم، والرجل يعمل في اليوم الثاني وعمر ينزل في ذلك اليوم لطلب العلم، ثم يخبر كل واحدٍ منهما الآخر بما حصل في ذلك اليوم من خبر الوحي أو غيره، كما قال عمر: لا يسمع شيئاً إلا حدثه به، ولا يسمع عمر شيئاً إلا حدثه به، وفي رواية: [يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غبت، وأحضره إذا غاب، ويخبرني وأخبره].
قال ابن حجر رحمه الله: وفيه أن طالب العلم يجعل لنفسه وقتاً يتفرغ فيه لأمر معاشه وحال أهله.
أيها الإخوة: العظمة كيف استطاع ذلك الجيل أن يجمع بين تحصيل الكسب الدنيوي وبين تحصيل العلم؛ إنه لم يطلب العلم يوماً ويتفرغ للدنيا يوماً ثم يفوت العلم الذي كان في اليوم الذي عمل فيه للدنيا، كلا! إنه كان يحصل العلم لنفسه يوماً، ثم يسمعه من غيره عن اليوم الآخر من ناحية الفائدة والمعلومات لا يفوته شيء، ولكن لا بد من عمل قد يفوت شيئاً من الفضل والأجر؛ كحضور مجلس العلم، والجلوس عند العلماء، ولكن هكذا فعلوا، وهكذا وفقوا بين طلبات الدنيا والطلبات الدينية؛ بين الحاجات الدينية، والحاجات الدنيوية، فلم يكن الصحابة ممتنعين عن الكسب، فهذا أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، يقول أبو العالية: [وكان له -أي: لـ أنس - بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحانٌ كان يجيء منه ريح المسك].
رواه الترمذي وحسنه.
وكذلك رعوا الغنم مع أن رعي الغنم عمل دنيوي، وهكذا حصل لـ سعد رضي الله عنه في غنمٍ له؛ فقد فر من الفتن إلى خارج المدينة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (يعجب ربك من راعي غنم، في رأس شظية الجبل، يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا، يؤذن ويقيم الصلاة، يخاف مني، قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة) رواه النسائي.
إذاً العمل الدنيوي مستمر؛ لكن إذا جاء وقت الصلاة فأذان وصلاة ولو كان وحيداً في فلاةٍ من الأرض، وكذلك المؤمن يرعى حق الله وهو في الوظيفة والدراسة، لكن عندما يقول: الحصة أهم من الصلاة ولو ضاع وقتها، والتجارة والوظيفة لا تنقطع لأجل العمل ولا تنقطع لأجل الصلاة؛ فهذا هو المسكين.
أيها الإخوة: إن التوفيق ممكن، والطريقان واحد، إذا ابتغى الإنسان وجه الله عز وجل، فقد أحلَّ الله تعالى البيع، وقال عن التجارة العالمية والنقل البحري: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} [البقرة:164] {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [النحل:14] {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ} [الإسراء:66] ومعنى يزجي: أي يُجري ويُيسر، وأكثر البضائع في العالم الآن تنقل عبر الشحن البحري، وهذه منة من الله {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} [فاطر:12] أي: السفينة العظيمة تجري في البحار بما ينفع الناس من البضائع والتجارة؛ لتبتغوا من فضله، فأشار إلى التجارة والابتغاء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الكسب: (بيع مبرور، وعمل الرجل بيده) رواه الإمام أحمد.
وقال عبد الرحمن بن عوف: [دلوني على السوق].
قالها حينما جاء المهاجرون فقراء إلى المدينة، فقال سعد بن الربيع الأنصاري -من أخوته ودينه- لـ عبد الرحمن بن عوف: انظر شطر مالي فخذه -أعطيك شطر المال- قال عبد الرحمن بن عوف: [بارك الله في مالك دلوني على السوق].
فدلوه على السوق، فذهب واشترى وباع وربح، فجاء بشيءٍ من أقطٍ وسمن، وفي رواية البخاري: ثم تابع الغدو -أي: داوم الذهاب للتجارة- ثم تزود وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً: فقد تاجروا وعملوا.
وقال أبو هريرة: [إن المهاجرين كانوا يذهبون إلى الأسواق، والأنصار يعملون في النخل] إنها حركةٌ عجيبة حركة المجتمع المدني في عهد النبوة! الجهاد قائم، وطلب العلم قائم، والعبادة قائمة، والتجارة قائمة، ورعي الغنم قائم، والزراعة قائمة، فالمجتمع يعمل للدنيا والآخرة.
لقد قدَّم لنا الصحابة -رضي الله عنهم- نموذجاً عملياً لقضية الجمع بين الدنيا والآخرة؛ كانوا في قمة الدين، وكانوا يحصلون الدنيا أيضاً.
وقال صخر الغامدي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها) وكان صخرٌ رجلاً تاجراً، صحابياً فاضلاً، وكان إذا بعث تجارة بعثهم من أول النهار فأثرى وكثر ماله.
رواه الترمذي وحسنه.
أيها الإخوة: إن هذه القضية تدل بجلاء على أن الطريقين واحد، وأنه ينبغي لنا أن نبتغي بأعمالنا الحلال وجه الله عز وجل، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لأرشد أمرنا، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم ارزقنا من فضلك واعف عنا واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.(111/6)
ضوابط التجارة والكسب
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأسبغ عليهم رضوانه، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين آمين.
عباد الله: لقد حثت الشريعة على العمل، وذمت البطالة والكسل، وكثيرٌ من المسلمين اليوم ما بين انغماسٍ في الدنيا بالكلية أو بطالة عمياء، يقع شبابهم البطالون في المعاصي وهم في الغي سادرون، وقليلٌ من المسلمين من توسط في الأمر وعرف كيف ينتهج النهج الصحيح في هذه الحياة.
لقد باشر الصحابة -رضي الله عنهم- الأعمال وتاجروا، حتى ألصق الناس بالنبي عليه الصلاة والسلام وهو أبو بكر الصديق، ما منعه حبه للنبي صلى الله عليه وسلم من الكسب والتجارة والسفر، وقد سافر إلى بصرى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا منع النبي صلى الله عليه وسلم حبه لقرب أبي بكرٍ من التجارة مع حبه له لقد عملوا في الكسب مع أنه قد عرضت عليهم هبات، لكن الكسب من التجارة أولى من الكسب من الهبة، وهذه المسألة دل عليها حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يحتطب أحدكم حزمةً عل ظهره خيرٌ له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنع) رواه البخاري، فهو يدل على أن قضية الشحاذة والسؤال والطلب مذمومة ما دام الإنسان قادراً على العمل، ولم توصد في وجهه الأبواب، ولم تسد السبل؛ فإنه ينبغي أن يعمل وأن ينوي بعمله هذا وجه الله عز وجل.
ولكن حتى لا يتصور البعض أن القضية إمضاء الوقت في الكسب والتجارة والوظائف والدراسة؛ لا بد أن نعلم أن الشريعة قد جعلت ضوابط حتى لا يحصل طغيان ولا اختلالٌ في الميزان فما هي هذه الضوابط؟(111/7)
من ضوابط التجارة: أن يكون العمل مباحاً
أولاً: لا بد أن يعمل الإنسان أو يدرس في مجالٍ مباح؛ فإذا عمل في مجالٍ محرم، أو دراسةٍ محرمة، أو إجازة محرمة، أو وظيفةٍ محرمة، أو تجارةٍ محرمة؛ فهو خارجٌ عن هذه المسألة التي ذكرناها خروجاً كلياً، وطريق دنياه توصله إلى جهنم، والأمر واضح وجلي، فإن المكاسب المحرمة والأعمال المحرمة طريق دنيوي لا يتحد مع طريق الآخرة، بل يؤدي إلى جهنم وبئس المصير.(111/8)
من ضوابط التجارة: التزام أحكام الشريعة
ثانياً: لا بد من تطبيق أحكام الشريعة في الأمور الدنيوية، وهذه مسألة ملفتة للنظر حقاً في هذه الشريعة؛ أن الشريعة ما جاءت بأحكامٍ في الصلاة والصيام والحج والذكر والدعاء وتلاوة القرآن فقط، وإنما جاءت بأحكام متعددة في النكاح والطلاق والحضانة والرضاع والبيع والشراء والوكالة والكفالة والرهن والإجارة والحوالة والبناء وأحكام البناء والطرقات وغير ذلك؛ فهذه أمور دنيوية ولكن جاءت فيها أحكام شرعية؛ لأن الله أعلم بما يصلح الخلق ليس في آخرتهم فقط، وإنما في دنياهم أيضاً، ولأن الخلق يظلمون والإنسان ظلومٌ جهول، فإذا أوكل إلى الإنسان أمر دنياه يشرِّع فيه ما يشاء من القوانين ظلم وبغى، ولذلك جاءت الشريعة بأمورٍ محددة وتدخلت الشريعة في الأمور الدنيوية، وصار البيع والشراء والاقتصاد والعلاقات منضبطة بالشريعة في الإسلام، فمن عمل في الدنيا فلا يجوز له أن يعمل في محرمٍ، ولا يبيع محرماً كخمرٍ وخنزيرٍ، ولا يغش ولا يحتكر.(111/9)
من ضوابط التجارة: الإيمان بحقارة الدنيا مع العمل فيها
وكذلك من الشروط والضوابط: أن يؤمن الإنسان بحقارة الدنيا وتفاهتها مع عمله فيها وسعيه فيها (ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم) رواه الترمذي وحسنه.
ملعونة أي: مبغوضة من الله، واستثنى: (إلا ذكر الله وما والاه) وما كان في معناه من أعمال البر والخير، ويدخل في ذلك التكسب للإنفاق على النفس والأولاد والصدقة من المال المكتسب، فكأنه قيل: الدنيا مذمومة لا يحمد فيها إلا ذكر الله وعالم أو متعلم، وما كان يخدم قضية الآخرة مما جاءت الشريعة بالأمر به؛ من وجوب النفقة على النفس والأهل، وأداء الحقوق الشرعية، وتدخلت الشريعة في أمور اللباس مع أنه أمر دنيوي؛ فلبس الحرير والذهب محرم على الرجال، والنفقة أوجبتها حتى على البهائم؛ فإذا كان عند الإنسان بهائم فيجب عليه شرعاً أن ينفق عليها، وإذا كان لا يريد، أو قصرت النفقة، فليُطْلِقْها ولا يتركها عنده، فكل إنسانٍ مسئول عن نفقة البهائم التي عنده حتى العصافير في أقفاصها.
أيها الإخوة: لقد سئل الإمام أحمد رحمه الله: أيكون الرجل زاهداً في الدنيا وعنده مائة ألف؟ قال: نعم.
إذا لم يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت.
إذاً يمكن أن يكون زاهداً ولو كان عنده الملايين، وإذا وصل الإنسان وهو يتعامل بالأموال في الدنيا والوظائف لدرجة أن يكون المال عنده بمثابة الحمار الذي يركبه في تنقله، والكنيف الذي يدخل فيه لقضاء حاجته؛ فليس على هذا خوف من التعلق بالدنيا؛ فهو يحصل المال للحاجة، مثل: اتخاذ المرحاض للحاجة فلا بد منه، ولكن القلب ليس متعلقٌ بالمرحاض، ولا بد من اتخاذ وسيلة نقل كانت عند الأولين وكثيرٍ من الآخرين الدواب الحمير، ولكن القلب ليس متعلقاً بالحمار، ولا محباً له وغالياً فيه، وينام على ذكره، ويصحو عليه، ويراه في منامه، كلا! فإذا كان الإنسان يعمل في الدنيا وقلبه ليس متعلقاً بها، وإنما يعمل لأنه لا بد من تحصيلها لنفقاته وعياله؛ فعند ذلك لا خوف عليه.(111/10)
من ضوابط التجارة: عدم الانشغال بالدنيا عن الآخرة
ومن الشروط والضوابط: عدم الانشغال بالدنيا عن الآخرة قال الله تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37]، لم يحرم التجارة ولم يحرم البيع؛ بل قال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] لكنه ذم الإلهاء ولم يذم التجارة وأثنى على عباده الذين: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور: 37] ليس أن يغلق الدكان للصلاة فقط! لا {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:37] وذكر الله أشياء كثيرة، وطلب العلم من ذكر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] فهؤلاء لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربهم؛ الذي هو خالقهم ورازقهم.
عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رأى قوماً من أهل السوق أقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد، تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة، فقال ابن مسعود: [هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه: {رِجَالٌ لا تُلْهِهم تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37]]، وكذلك قال ابن عمر رضي الله عنه: [فيهم نزلت: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} [النور:37]].
قال مطر الوراق: [كانوا يبيعون ويشترون، ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة، وإذا رفع أحدهم المطرقة فأذن ألقاها خلف ظهره ولم يطرق بها] فهذا ضابطٌ مهم جداً في الانشغال بالدنيا، وقد قيل في قوله تعالى: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، قيل: المراد بالنصيب الكفن؛ كأنه قال: لا تنس أن تترك جميع مالك إلا نصيبك الذي هو الكفن، قال الشاعر:
نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط
وقال آخر:
هي القناعة لا تبغي بها بدلاً فيها النعيم وفيها راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن
إذاً القناعة من الضوابط المهمة في الموضوع.(111/11)
من ضوابط التجارة: إخراج الزكاة والصدقات
كذلك من الضوابط في الانشغال في الدنيا: إخراج حقوق الله من ممتلكاتها؛ كتسليم الزكاة من المال، قال الله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] وإخراج النفقات الواجبة على الزوجة والأولاد والوالدين المحتاجين، والصدقة: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245].
ثم الالتزام بالأحكام الشرعية في العمل الدنيوي على النحو المتقدم بيانه، وحسن القصد: أن يقصد بتجارته أو عمله وجه الله لا الأشر ولا البطر ولا التفاخر ولا التكاثر، وأن يقصد إعفاف نفسه عن سؤال الناس، والاستغناء عن الخلق، والانفاق على الأهل، وصلة الرحم، وابتغاء الأجر من الله عز وجل.
أيها الإخوة: إذا نوى التاجر بهذا هذا، ونوى الطالب بدراسته قوة المسلمين ونفعهم، وأردنا بأعمالنا الدنيوية وجه الله، والتزمنا بالضوابط؛ استطعنا التوفيق ولم نظلم طرفاً من الأطرف.
هذه القضية الحساسة والمهمة: التوفيق بين العمل الدنيوي والعمل الأخروي، هذه المسألة الكبيرة من فقهها والتزم بها وسعد في الدنيا سعد في الآخرة.
اللهم اجعلنا ممن يخافك ويتقيك، اللهم اجعلنا نخشاك كأنا نراك، وأسعدنا بتقواك، ولا تذلنا بمعصيتك إنك سميع مجيب، اللهم انصر المجاهدين، وانصر من نصر الدين، وأيدهم بملائكة من عندك يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(111/12)
الحمد لله يرحمك الله
في هذه المادة تحدث الشيخ عن أدب من الآداب الشرعية العظيمة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، وهو أدب العطاس، ففي البداية ذكر مجمل الأحاديث الواردة في كتب الحديث عن العطاس، ثم بيّن الأحاديث الموضوعة والضعيفة التي وردت فيه، وعرج في الأخير على الكثير من الأحكام والآداب والفوائد المتعلقة بالعطاس.(112/1)
أحاديث العطاس عند البخاري
الحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد نتحدث أيها الإخوة! في هذا الدرس إن شاء الله تعالى عن أدب من الآداب الشرعية العظيمة التي جاءت بها هذه الشريعة، ألا وهو أدب العطاس والتثاؤب، وكذلك أدب يدخل فيه أيضاً وهو التجشؤ والتنخم، وقد وردت عدد من الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في موضوع العطاس، وذكر الأئمة رحمهم الله هذا الموضوع في كتاب الأدب من كتبهم المصنفة، كما ذكر ذلك البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الأدب فقال: باب الحمد للعاطس، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: (عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر فقال الذي لم يشمته: عطس فلان فشمته، وعطست فلم تشمتني! فقال: هذا حمد الله، وإنك لم تحمد الله) وقال رحمه الله باب تشميت العاطس إذا حمد الله، فيه أبو هريرة وذكر ابن حجر رحمه الله أنه يريد بذلك التنبيه على حديث أبي هريرة خلافاً لما ذكره بعض أهل العلم أن هذا ما اخترمت المنية البخاري قبل أن يتمه ويضع فيه هذا الحديث.
عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع، أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي، ورد السلام، ونصر المظلوم، وإبرار المقسم، ونهانا عن سبع: عن خواتيم الذهب، وعن آنية الفضة، وعن المياثر، والعسيِّه، والاستبرق، والديباج، والحرير).
ثم قال رحمه الله: باب ما يستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يُحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس فحمد الله؛ فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته، وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان فليرده ما استطاع فإذا قال: هاه! ضحك منه الشيطان) وقال رحمه الله تعالى: باب إذا عطس كيف يشمت، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم) وقال رحمه الله: باب لا يشمت العاطس إذا لم يحمد الله، وذكر فيه حديث سليمان التيمي، قال: سمعت أنساً رضي الله عنه يقول: (عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر، فقال الرجل: يا رسول الله شمَّتَّ هذا ولم تشمتني، قال: إن هذا حمد الله وأنت لم تحمد الله).(112/2)
أحاديث العطاس عند مسلم
وذكر مسلم رحمه الله في صحيحه في كتاب المساجد ومواضع الصلاة حديث معاوية بن الحكم السلمي الذي يتعلق أيضاً بموضوع العطاس في الصلاة، قال: (بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمِِياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يُصمتونني.
لكني سكت -أي: كدت أن أرد عليهم؛ لكني كظمت غيظي وسكت- فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي وأمي! ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني) الحديث.
وستأتي رواية في السنن تشرح هذا النص أيضاً فيها زيادة موضحة، وكذلك من الأحاديث التي ساقها الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الزهد والرقائق حديث أبي بردة، قال: (دخلت على أبي موسى -وهو في بيت بنت الفضل بن عباس - فعطست فلم يشمتني، وعطست فشمتها، فرجعت إلى أمي فأخبرتها فلما جاءها، قالت: عطس عندك ابني فلم تشمته وعطست فشمتها، فقال: إن ابنك عطس فلم يحمد الله فلم أشمته، وعطست فحمدت الله فشمتها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا عطس أحدكم فحمد الله؛ فشمتوه، فإن لم يحمد الله؛ فلا تشمتوه).
وكذلك ذكر حديث إياس بن سلمة بن الأكوع أن أباه حدثه: (أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم عطس رجلاً عنده فقال له: يرحمك الله ثم عطس أخرى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل مزكوم) ظاهر رواية مسلم أنه قالها في المرة الثانية وسيأتي في السنن أنه قالها بعد ثلاث.(112/3)
أحاديث العطاس عند أبي داود
أما في سنن أبي داود فقد روى في كتاب الصلاة مما يتعلق بالعطاس في الصلاة حديث معاذ بن رفاعة بن رافع عن أبيه، قال: (صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطس رفاعة فقلت: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فقال: من المتكلم في الصلاة) ثم ذكر الحديث.
وفي رواية عند أبي داود أيضاً: (عطس شاب من الأنصار خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فقال: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه حتى يرضى ربنا، وبِعدِّما يرضى من أمر الدنيا والآخرة، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من القائل الكلمة؟ فسكت الشاب، ثم قال: من القائل الكلمة فإنه لم يقل بأساً؟ فقال: يا رسول الله! أنا قلتها لم أرد بها إلا خيراً، قال: ما تناهت دون عرش الرحمن تبارك وتعالى).
وروى أبو داود رحمه الله تعالى كذلك حديث معاوية بن الحكم السلمي الذي رواه مسلم أيضاً، قال: لما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم علمت أموراً من أمور الإسلام، فكان فيما علمت أنه قال لي: (إذا عطست فاحمد الله، وإذا عطس العاطس فحمد الله؛ فقل: يرحمك الله).
وفي رواية أبي داود توضيح لرواية مسلم، فـ معاوية بن الحكم السلمي كان رجلاً يسكن البادية، فجاء إلى المدينة وأسلم وتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أشياء، ومن هذه الأشياء أن العاطس إذا حمد الله يشمت، ثم أنه لما تعلم هذا الأمر، قال: (فبينما أنا قائم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة إذ عطس رجلاً فحمد الله، فقلت: يرحمك الله رافعاً بها صوتي، فرماني الناس بأبصارهم حتى احتملني ذلك، -أي: وجد في نفسه من هذا النظر والعبوس- فقلت: مالكم تنظرون إلي بأعين شُزر؟ قال: فسبحوا -لأنه من نابه شيء في الصلاة سبح أي: يسكتوه بالتسبيح- فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من المتكلم؟ قيل: هذا الأعرابي).
وقد عنون عليه أبو داود رحمه الله باب تشميت العاطس في الصلاة.
وأيضاً مما رواه أبو داود في سننه وهو حديث صحيح، عن أبي هريرة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه وخفض -أو غضَّ- بها صوته) أو بأي شيء يغطي فمه ويغض من صوته.
ومن الصيغ التي تقال في العطاس بخلاف ما ورد من قوله: (الحمد الله يرحمك الله) ما رواه أبو داود أيضاً في كتاب الأدب من سننه وهو حديث صحيح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله على كل حال، وليقل أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، ويقول هو: يهديكم الله ويصلح بالكم).
فيقال إذاً (الحمد لله) وفي رواية (والحمد لله على كل حال) وروى كذلك أبو داود في سننه في باب كم مرة يشمت العاطس، من حديث عبيدة بنت عبيد بن رفاعة الزرقي عن أبيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (تشمت العاطس ثلاثاً، فإن شئت أن تشمته فشمته، وإن شئت فكف) ولكن هذا الحديث حديث ضعيف.
وروى كذلك رحمه الله تعالى في ماذا يقال لأهل الكتاب أو للكفار إذا عطسوا، من حديث أبي بردة عن أبيه، قال: (كانت اليهود تعاطس عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول لهم: يرحمكم الله -فيدعو لهم بالرحمة- فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم) فإذا عطس الكافر فلا يترحم عليه، ولا يقال له: يرحمك الله، ولا يدعى له بالرحمة، وإنما يقال: يهديكم الله ويصلح بالكم.
وهذا ما يتعلق بالعطاس من سنن أبي داود.(112/4)
أحاديث العطاس عند الترمذي
وأما الترمذي رحمه الله فإنه قد ذكر في العطاس أحاديث، ومما ذكره حديث الرجل الذي عطس في الصلاة فقال: الحمد لله حمداً كثيراً إلى آخره، قال الترمذي رحمه الله: حديث رفاعة حديث حسن، وكأن هذا الحديث عند بعض أهل العلم أنه في التطوع؛ لأن غير واحد من التابعين قالوا: إذا عطس الرجل في الصلاة المكتوبة إنما يحمد الله في نفسه ولم يوسعوا في أكثر من ذلك، هذا رأي الترمذي رحمه الله الذي نقله عن بعض التابعين أنه قال هذا الكلام، والرواية وهي رواية معاذ بن رفاعة بن رافع عن أبيه التي رواها الترمذي رحمه الله، قال: (صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فعطست فقلت: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه مباركاً عليه كما يحب ربنا ويرضى فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فقال: من المتكلم في الصلاة؟ فلم يكلمه أحد ثم قالها ثانية: من المتكلم في الصلاة؟ فقال رفاعة بن رافع بن عفراء: أنا يا رسول الله، قال: كيف قلت؟ قال، قلت: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه مباركاً عليه كما يحب ربنا ويرضى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكاً أيهم يصعد بها) وهذا الحديث رواه النسائي في كتاب الافتتاح وعنون عليه: قول المأموم إذا عطس خلف الإمام.
كذلك ذكر الترمذي رحمه الله فوائد في سننه في هذا الموضوع، قال: كرهوا -أي: أهل العلم- للرجل أن يتكلم والإمام يخطب وقالوا: إن تكلم غيره فلا يُنكر عليه إلا بالإشارة في أثناء خطبة الجمعة كما كان يفعل عمر؛ كان يضع إصبعه على شفتيه يسكته لا يقول له: أنصت حتى لا يخطئ مثله، واختلفوا في رد السلام وتشميت العاطس والإمام يخطب، فرخص بعض أهل العلم في رد السلام وتشميت العاطس والإمام يخطب وهو قول أحمد وإسحاق، وكره بعض أهل العلم من التابعين وغيرهم ذلك وهو قول الشافعي رحمه الله.
وروى أبو داود رحمه الله في كتاب الأدب من حديث هلال بن يساف، قال: (كنا مع سالم بن عبيد فعطس رجل من القوم، فقال: السلام عليكم، فقال سالم: وعليك وعلى أمك، ثم قال: لعلك وجدت مما قُلت لك أي: وجدت في نفسك مما قلت لك، قال: لوددت أنك لم تذكر أمي بخير ولا شر -وددت لو أنك ما أتيت بسيرة أمي لا بالخير ولا بالشر- قال: إنما قلت لك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنا بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجلٌ من القوم فقال: السلام عليكم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك وعلى أمك ثم قال: إذا عطس أحدكم فليحمد الله قال: فذكر بعض المحامد وليقل له من عنده: يرحمك الله وليرد -أي: عليهم- يغفر الله لنا ولكم).
وكذلك فإن الترمذي رحمه الله روى في كتاب الأدب من سننه عن نافع: (أن رجلاً عطس إلى جنب ابن عمر فقال: الحمد لله والسلام على رسول الله، قال ابن عمر: وأنا أقول الحمد لله والسلام على رسول الله وليس هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حال) قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث زياد بن الربيع.(112/5)
أحاديث العطاس عند ابن ماجة
وأما ابن ماجة رحمه الله تعالى فإنه قد ذكر في سننه حديثاً يتعلق بالعطاس لكن في باب آخر في كتاب الفرائض، ذكر حديث جابر بن عبد الله والمسور بن مخرمة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يرث الصبي حتى يستهل صارخاً، قال: واستهلاله أن يبكي ويصيح أو يعطس) فإذاً الصبي إذا ولد، يرث إذا أصدر صوتاً يدل على حياته مثل العطاس أو الصياح والبكاء.(112/6)
أحاديث أخرى في العطاس
وأيضاً مما يُذكر في موضع العطاس من الأحاديث حديث خلق آدم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح الذي رواه ابن حبان والحاكم: (لما نُفخ في آدم الروح مارت وطارت فصارت في رأسه، فعطست فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال الله: يرحمك الله) فهذا ما يتعلق إذاً بخلق آدم عليه السلام وأنه قد قال: الحمد لله رب العالمين وقد رواه الترمذي في السنن في كتاب تفسير القرآن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال: الحمد لله، فحمد الله بإذنه عز وجل فقال له ربه: يرحمك الله، يا آدم اذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملأ منهم جلوس فقل: السلام عليكم، قالوا: وعليك السلام ورحمة الله، ثم رجع إلى ربه فقال: إن هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم) إلى آخر الحديث.(112/7)
الأحاديث الضعيفة الواردة في العطاس
ومن الأحاديث الضعيفة التي وردت في العطاس: (العطاس والنعاس والتثاؤب في الصلاة، والحيض والقيء والرعاف من الشيطان) هذا الحديث رواه الترمذي في السنن لكنه حديث ضعيف.
وكذلك: (العطسة الشديدة والتثاؤب الرفيع من الشيطان) وهو أيضاً حديث ضعيف، ومن الأحاديث الموضوعة التي وردت: (العطاس عند الدعاء شاهد صدق) وكذلك: (من حدث بحديث فعُطس عنده؛ فهو حق) وكذلك: (أصدق الحديث ما عطس عنده) وكل هذه الأحاديث أحاديث موضوعة ولذلك قال العلماء: فلو أن حديثاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ذكر وعطس عنده مائة رجل لم يعد هذا دليلاً على صحته، فإذاً ليس هناك ارتباط بين العطاس وبين صحة الحديث.(112/8)
شرح أحاديث العطاس
ونشرع الآن في بيان وشرح هذه الأحاديث، وما يتعلق بآداب العطاس وبعض المسائل التفصيلية في الموضع:(112/9)
حكم قول العاطس: الحمد لله
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (فليحمد الله العاطس) فهذا يدل على وجوب ذلك، أي: ما حكم أن يقول العاطس الحمد لله، ظاهر الحديث يدل على وجوبه، ومعنى ذلك أنه يأثم إن لم يقل، لكن النووي نقل الاتفاق على الاستحباب، ولكن يبقى أن الأحوط للإنسان المسلم ألا يترك ذلك أبداً.(112/10)
ماذا يقول العاطس؟
وأما المسألة الأخرى وهي: ماذا يقول العاطس؟ يقول: الحمد لله، وورد في رواية أخرى: (الحمد لله على كل حال) وورد في رواية أخرى: (الحمد لله رب العالمين) وكل هذه الأحاديث صحيحة وقد روى البخاري في الأدب المفرد: (من قال عند عطسة سمعها: الحمد لله رب العالمين على كل حال ما كان، لم يجد وجع الضرس ولا الأذن أبداً) قال ابن حجر رحمه الله: هذا موقوف على علي ورجاله ثقات، قال: ومثله لا يقال من قبل الرأي فله حكم الرفع، فإذاً هنا صيغة جديدة وهي الجمع بين الحمد لله رب العالمين وعلى كل حال ونص الحديث: (الحمد لله رب العالمين على كل حال ما كان، وأن من قال ذلك لم يجد وجع الضرس ولا الأذن أبداً) وهذا رأي الحافظ رحمه الله في هذا الحديث.
كما روى الطبراني بسند لا بأس به عن ابن عباس قال: (إذا عطس الرجل فقال: الحمد لله، قال الملك: رب العالمين، فإذا قال: رب العالمين؛ قال الملك: يرحمك الله) إذاً العاطس مخير في أن يقول: الحمد لله فقط، أو الحمد لله رب العالمين، أو الحمد لله على كل حال، ووردت رواية عن علي موقوفة في الجمع، وأما أفضل هذه الصيغ، فقد قال بعضهم: إن الحمد لله رب العالمين أفضل، وقال بعضهم: الحمد لله على كل حال أفضل لأنها أعم، وقال بعضهم: إن الصيغة الواردة في الصلاة التي وردت للرجل الذي عطس في الصلاة، قال: [الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه مباركاً عليه كما يحب ربنا ويرضى] قالوا: هذه دالة على أفضلية هذه العبارة، وعلى كل حال نقول: هو مخير بين العبارات الثابتة المرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن قال هذا تارة وهذا تارة، فلعله يكون قد أصاب السنة إن شاء الله، فهو ينوع فتارة يقول: الحمد لله، وتارة يقول: الحمد لله رب العالمين وتارة يقول: الحمد لله على كل حال.
وإذا عطس فقال في الصلاة كما قال الصحابي والنبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك؛ فهذا أيضاً أمر محمود، لكن هناك أشياء غير مقبولة مثل أن يقول: الحمد لله والصلاة على رسول الله؛ لأن هذا ليس موضعها؛ لأن هذا ذكر من الأذكار، والأذكار توقيفية فإذا أضاف إليها الإنسان أشياء من عنده، وتركيبات لم ترد في الشريعة، فيكون مبتدعاً إذا أتى بهذه الأشياء وواظب عليها، أو اعتقد فضلها.
ولذلك نلتزم بالسنة ونأتي بما ورد في السنة، وقد جاء أيضاً عند البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عن مجاهد أن ابن عمر سمع ابنه عطس فقال: آب فقال: وما آب؟ إن (آب) اسم شيطان من الشياطين، جعلها بين العطسة والحمد.
فهذه يمكن أن تصدر من بعض الناس، وفي رواية ابن أبي شيبة: آش (بدل الباء شين) فليحرص المسلم على ألا يصدر حروفاً بعد العطاس إلا الحمد لله رب العالمين.
وكذلك بعضهم يقول عبارات أخرى أو أدعية أخرى، فإذاً علينا التقيد بالسنة، وقد ذكر أهل العلم أنه يتحرر أن كل العبارات الواردة ثلاث: الحمد لله رب العالمين أو الحمد لله على كل حال، وذكر النووي رحمه الله أن الحمد لله رب العالمين أحسن من الحمد لله، والحمد لله على كل حال أفضل، قال: يقول عقب عطاسه الحمد لله ولو قال: الحمد لله رب العالمين لكان أحسن فلو قال: الحمد لله على كل حال كان أفضل، وهذه الأحاديث تقتضي التخيير.(112/11)
التشميت والتسميت
بالنسبة لتشميت العاطس ورد بلفظ فشمَّت أو سمَّت، بالشين والسين، ومعناهما متقارب، والمقصود به التنبيه على هذه؛ حتى لا يظنها البعض خطأ مطبعياً، فيضيف نقاطاً على السين إذا رآها في بعض الكتب فالسمت: هو القصد والطريق القويم، والتشميت: التبريك، والعرب عندهم معنى شمته: أي: دعا له بالبركة، وشمت عليه: إذا برك عليه، وجاء في حديث علي وفاطمة شمت عليهما، إذا دعا لهما بالبركة، وقيل: إن التسميت أفصح، وعلى أية حال كلاهما بمعنى واحد.(112/12)
سبب قول: يرحمك الله للعاطس
ما هو وجه قولنا للعاطس إذا عطس: يرحمك الله؟ قال أهل العلم: إن العاطس إذا عطس ربما ينحل كل عضو في رأسه وما يتصل به من العنق يعني: أن هيئة العطاس وحركته فيها خطورة حتى أن بعضهم قالوا: لا تبقى عضلة في الإنسان إذا عطس إلا وتحركت، فإذا قلنا له: يرحمك الله كان هذا معناه: أن الله أعطاه رحمة يرجع بها كل عضو من الأعضاء التي تحركت إلى موضعها، ويبقى على حاله من غير تغيير، فرحمة الله لصونه لهذا العبد العاطس في رجوعه إلى حال الاعتدال.
وكذلك فإنه في اللغة الشوامت معناها: القوائم، فكأن التشميت أن يعود إلى قوامه الذي كان عليه، وأما بالنسبة لحال الشخص إذا لم يحمد الله سبحانه وتعالى؛ فإنه لا يُشمت، وقد جاء في حديث: (إن هذا ذكر الله فذكرته، وأنت نسيت الله فنسيتك) والنسيان في اللغة يطلق على الترك، نسيتك أي: ترك الحمد للعاطس مناسبته واضحة فيحمد الله أن دفع عنه الأذى، وأذهب عنه الضرر وأعاده إلى حاله، وهذه نعمة والنعم تقابل بالحمد، وخروج الضرر نعمة، وعودته إلى حاله نعمة، ولذلك يقول: الحمد لله أنه ردني إلى صحتي وعافيتي.(112/13)
خفض الصوت عند العطاس
ومن آداب العاطس أنه يخفض صوته بالعطاس ويرفع صوته بالحمد، وأن يغطي وجهه كما ورد في الحديث الصحيح السابق ذكره حتى لا يخرج من فمه أو أنفه ما يؤذي الناس من جلسائه.
وقال بعض العلماء: إنه لا يلتفت يميناً ولا شمالاً؛ لأنه إذا لوى عنقه وعطس تضرر وهذا مجرب، فإنه إذا عطس مع لي العنق تضرر.(112/14)
حصول المودة والتآلف بين المسلمين
ومن فوائد تشميت العاطس وقول: يرحمك الله، حصول المودة والتآلف بين المسلمين، وعندما نقول له: يرحمك الله؛ ففيها تأديب له بكسر نفسه عن الكبر، وحمله على التواضع؛ لأن ذكر الرحمة يقترن بالذنب الذي لا يعرى عنه هذا العاطس ولا غيره، فعندما نقول: يرحمك الله نذكره بأنه مذنب وأن عليه أن يتواضع لله سبحانه وتعالى، ونكسر كبرياءه بإشعاره بالحاجة إلى رحمة ربه، وفيه نفع له بالدعاء له بالرحمة، وهذه من محاسن دين الإسلام؛ أنه حتى الحركات الطبيعية النفسية الجسدية التي تصدر من الشخص لها آداب وسنن وأذكار.
ولننظر إلى محاسن هذه الشريعة وجمالها عندما تأتي بهذا التكامل، وبهذا الترابط بين المسلمين، إذا عطس رجل بجانبك تقول له: يرحمك الله، ولو لم يكن بينك وبينه معرفة، فتدعو لشخص ليس بينك وبينه معرفة.(112/15)
حكم تشميت العاطس
وبالنسبة لحكم التشميت: ما حكم التشميت وأن نقول للرجل: يرحمك الله؟ الحديث (إذا عطس فحمد الله فشمته) هذا في حق المسلم على المسلم وفي رواية: (خمس تجب للمسلم على المسلم) فنستفيد من لفظة تجب للمسلم على المسلم أن تشميت العاطس واجب، وقولنا له: يرحمك الله واجب، وممن نصر ذلك ابن القيم رحمه الله وقال: الوجوب لا مدافع له، ذكر ذلك في الزاد وأما في حواشيه على سنن أبي داود، فقال: جاء بلفظ الوجوب الصريح وبلفظ (الحق) أي: حق المسلم، وبلفظ (على) على المسلم، كل هذه تفيد الوجوب، وجاء بصيغة الأمر يشمته، فليقل له صاحبه: يرحمك الله.
هذه أوامر تفيد الوجوب، وقال بعض العلماء: إنها فرض على الكفاية إذا شمت واحد أغنى عن الجماعة، لكن النص: (حق على كل مسلم سمعه أن يقول له: يرحمك الله) يدفع هذا، أي: لا يمكن أن يتوافق.
إذاً هناك فرق بين رد السلام ورد العطاس، فرد السلام يكفي فيه عن الجماعة واحد، لكن رد العطاس بتشميت العاطس واجب على كل من سمع وأن يقول له: يرحمك الله كما في هذا الحديث.
فإذاً الراجح وجوب تشميت العاطس، لكن وجوب التشميت مقيد بما إذا حمد الله، فإذا لم يحمد الله لم يجب التشميت، بل لم يُشرع أصلاً، بل إن المشروع خلافه، وهو عدم التشميت، وهذا الذي فعله صلى الله عليه وسلم.(112/16)
حكم تشميت الكفار إذا عطسوا
بالنسبة للكفار إذا عطسوا لا نشمتهم وإن قالوا: (الحمد لله) لا أهل الذمة ولا غيرهم، وإنما نقول لهم: يهديكم الله ويصلح بالكم، وهذا يمكن أن يعتبر تشميتاً مخصوصاً بالكفرة، والبال هو الشأن، فأنت تدعو الله له أن يصلح شأنه، وأي شيء أعظم من إصلاح شأنه بدخوله في الإسلام وهدايته، لكن المسلمين أهل للدعاء بالرحمة بخلاف الكفرة.(112/17)
استثناءات في عدم التشميت
مسألة: هل هناك استثناءات من التشميت؟ أناس لا نشمتهم أو أحوال لا نشمت فيها: أولاً: إذا ما حمد الله لا نشمته.
ثانياً: إذا كان كافراً لا نشمته.
ثالثاً: المزكوم إذا تكرر منه العطاس فزاد عن الثلاث، قال بعض العلماء: المزكوم إذا زاد عطاسه عن الثلاث لا نشمته بعد الثالثة لأجل الحديث، وقد جاء عن أبي هريرة أنه قال: [شمته واحدة واثنتين وثلاثاً، وما كان بعد ذلك فهو زكام]، وجاء كذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (شمت أخاك ثلاثاً فما زاد فإنما هي نزلة أو زكام) وقال: (يُشمت العاطس ثلاثاً فما زاد فهو مزكوم) فإذاً بعد الثالثة لا نشمته، وبعض العلماء قالوا: ما دام يحمد الله نشمته حتى لو عطس مرات كثيرة، وممن يرى بهذا من المعاصرين الشيخ عبد العزيز بن باز، يقول: إنه لم ينه عن تشميته بعد الثالثة، ولكن وردت رواية عند ابن السني وصححها الشيخ ناصر فيها: (لا يشمت بعد الثالثة) وهذه الرواية تحتاج إلى نظر في إسنادها ففيها علة تحتاج إلى مراجعة ونظر.
فعلى أية حال يمكن أن نقول: إن المزكوم، أو الذي فيه حساسية -بعد العطسة الثالثة- من العلماء من يقول: يشمته إذا حمد الله، وهناك من يقول: إننا لا نشمته، لكن على أية حال لو شمته لا تكون قد ارتكبت أمراً محرماً، فالمسألة واسعة وسهلة إن شاء الله.
إذاً الذي دل عليه حديث مسلم وأبي داود والترمذي عن سلمة بن الأكوع: (أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وعطس رجل عنده فقال له رجل: يرحمك الله، ثم عطس أخرى فقال: الرجل مزكوم) هذه رواية مسلم والرواية عند أبي داود والترمذي من حديث سلمة أيضاً: (عطس رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم وأنا شاهد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك الله، ثم عطس الثانية أو الثالثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك الله! هذا رجل مزكوم).(112/18)
حكم من عطس والإمام يخطب
ذكروا أيضاً من الحالات إذا عطس والإمام يخطب أنه لا يُشمت، وتقدم أن هذا الرأي هو قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
إذا عطس الخطيب فقال: الحمد لله! فإن سكت بعدما قال الحمد لله شمتناه، وإن واصل الكلام شمتناه في أنفسنا، حتى لا نتكلم وهو يخطب؛ لكن السامع في المسجد إذا عطس يحمد الله في نفسه ولا يشمته أحد من الحاضرين والإمام يخطب، فإن شمته بين الخطبتين حين يسكت الإمام أو بعد إقامة الصلاة أو بعد نزوله من المنبر فلا بأس بذلك.(112/19)
حكم من عطس وهو يصلي
وكذلك إذا كان المصلي يصلي فعطس، فلا نقول له: يرحمك الله، ولو سمعته بجانبك يحمد الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى معاوية بن الحكم عن ذلك، فإنه قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) وعندما تقول له: يرحمك الله فهي مخاطبة، والمفروض أنه في الصلاة، والخطاب والكلام بينه وبين الله عز وجل، فلا تكلم رجلاً أثناء الصلاة، ولا تقل له إلا فيما ورد فيه النص مثل الفتح على الإمام مثلاً.
فإذاً وأنت في الصلاة لا تشمت رجلاً عطس سواء كان في صلاته أو كان في خارج الصلاة، فأنت في الصلاة لا تتكلم.(112/20)
حكم قول: الحمد لله للمصلي إذا عطس
وبالنسبة لحمد الله للمصلي إذا عطس، ورد أنه يحمد الله كما دل عليه حديث الشاب، لكن قال بعض العلماء: يشترط أن يكون ذلك في النافلة.
وقال بعضهم: عام في الفرائض والنوافل، لكن لا يكون في الفاتحة حتى لا يقطع الفاتحة بالحمد، ولكي تتسلسل الآيات فيها لفرضيتها ووجوبها هكذا.(112/21)
حكم من عطس في الخلاء
وأما إذا عطس وهو في بيت الخلاء، قالوا: لو قال: الحمد لله لا نشمته؛ لأن قولته (الحمد لله) خطأ، فنحن لا نتابعه على خطئه ولا نشمته، وهو مخطئ في حمده وذكره لله في بيت الخلاء.(112/22)
حكم تتابع العطاس
أما بالنسبة إذا تتابع العُطاس، عطس الواحد مرة واثنتين وثلاثاً وأكثر، ثم قال: الحمد لله مرة واحدة، نقول له: يرحمك الله، وإذا عطس ثلاث مرات ثم قال: الحمد لله الحمد لله الحمد لله، ذكر ابن حجر رحمه الله، قال: في فوائد بعض الأحاديث في صحيح البخاري: ويُستفاد منه مشروعية تشميت العاطس ما لم يزد على ثلاث إذا حمد الله، سواءً تتابع عطاسه أم لا، فلو تابع ولم يحمد لغلبة العطاس عليه ثم كرر الحمد بعدد العطاس، فهل يشمت بعدد الحمد؟ فيه نظر، وظاهر الخبر أنك تقول له: يرحمك الله يرحمك الله يرحمك الله إذا قال هو: الحمد لله الحمد لله الحمد لله، وإذا تتابع عطاسه، فإن عطس مثلاً خمس مرات وقال مرة واحدة: الحمد لله تقول له: يرحمك الله.(112/23)
حكم التشميت بعد الثالثة أو الرابعة أو الخامسة
ورواية (ولا تشمته بعد ثلاث) قال النووي: فيه رجل لم أتحقق حاله وباقي الإسناد صحيح، وقال ابن حجر: الرجل المذكور هو سليمان بن أبي داود الحراني وهذا الرجل ضعيف وقال النسائي: هذا الرجل ليس بثقة ولا مأمون.
هذا إشارة لما سبق من النهي عن التشميت بعد الثالثة.
أما إذا عطس الرابعة والخامسة فهل هناك نهي أم لا؟ فهذه المسألة تحتاج إلى تدقيق في معرفة صحة هذا الحديث، وكذلك بعد الثالثة، إذا عطس نقول له: (أنت مزكوم) وهذه اللفظة وردت إذا تتابع عطاسه، ونقولها بعد الثالثة، فمعناه أننا نخبره أنك لست أنت ممن يشمت بعد الثالثة لأجل العلة.
فالعطاس المحمود هو الذي يكون ناشئاً عن خفة البدن، فلما صار هذا من أهل العلة، ولما زاد على العطسة الثالثة ففي هذه الحالة لا يشمت، لكن هناك إرشاد بالدعاء له بالعافية، يعني: ليس القضية فقط أن نفرح بأنه مزكوم أو نبشره بأنه مزكوم، والمقصود الإرشاد هنا إلى شيء يحتاج إليه وهو الدعاء له بالعافية.
ولذلك نقل ابن دقيق العيد عن بعض الشافعية أنه قال: يُكرر التشميت إذا تكرر العطاس إلا أن يُعرف أنه مزكوم فيدعى له بالشفاء.(112/24)
العطاس نعمة من الله
ومن المهمات أن يعرف العطاس نعمة من الله كما سبق، وأنه يُفيد الجسم، ويطرد الداء؛ بخلاف التثاؤب الذي هو دليل على امتلاء البدن والكسل، ولذلك فإن العطاس يحبه الله وهو نعمة منه.(112/25)
حكم من عطس عنده شخص وهو لا يدري
ومن مسائل العطاس: لو أن العاطس عطس وأنت لا تدري هل حمد الله أو ما حمد الله؟ فعندنا ثلاث حالات: أن تدري أنه حمد الله فتشمته.
أن تدري أنه لم يحمد الله فلا تشمته، لكن هل تذكره؟
الجواب
نعم تذكره بذلك، فقد جاء عن الأوزاعي عن ابن المبارك أنه عطس رجل عنده فلم يقل: الحمد لله فقال له: ماذا يقول الرجل إذا عطس، قال: الحمد لله، قال: يرحمك الله، وهذا من بالغ الأدب والتأديب والتعليم.
الثالث: أنك لا تدري هل حمد الله أم لا؛ وفي هذه الحالة إذا وجدت قرينة تدل على أنه حمد الله، مثل أن قال له بعض الحاضرين: يرحمك الله وكان هؤلاء الحاضرون من طلبة العلم، ليسوا من الجهلة؛ لأن الجاهل يمكن أن يقول له: يرحمك الله؛ حمد أو لم يحمد، فالجهلة لا يستدل بحالهم؛ لكن لو كان هناك من طلبة العلم أو الناس الذين يعرفون السنة، فشمتوه كان ذلك دليلاً على أنه حمد الله، ففي هذه الحالة تشمت، وهناك حلٌ آخر وهو ما رواه البخاري في الأدب المفرد عن مكحول: كنت إلى جنب ابن عمر فعطس رجل من ناحية المسجد فقال ابن عمر: يرحمك الله إن كنت حمدت الله، أي: إن كنت حمدت الله فيرحمك الله، فإذاًَ الأصل أننا نشمت إذا سمعنا.(112/26)
ما الذي يقوله العاطس للمشمت؟
وكذلك من الأشياء أن الرد الذي يقوله العاطس للمشمت: يهديكم الله ويصلح بالكم ولكن هل وردت ألفاظ أخرى؟ جاء في الأدب المفرد بسند صحيح عن أبي جمرة سمعت ابن عباس إذا شُمت يقول: [عافانا الله وإياكم من النار يرحمكم الله].
وفي الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا عطس فقيل له: يرحمك الله، يقول: [يرحمنا الله وإياكم، ويغفر الله لنا ولكم] فإذاً السنة أن تقول: يهديكم الله ويصلح بالكم، ولو دعوت له بالمغفرة ودعوت له بالرحمة أيضاً فقد ورد ذلك عن الصحابة.
وجاء حديث في الموطأ عن نافع عن ابن عمر: [أنه كان إذا عطس يقول له: يرحمك الله، قال: يرحمنا الله وإياكم، ويغفر الله لنا ولكم] فجمع في الدعاء بين الرحمة والمغفرة.
وعلى كل حال فهذه الآداب تبين محاسن دين الإسلام، ونعمة الله على العاطس، وقد رتب عليه من الخير أنه شرع له الدعاء، وعلمه إياه، والذكر، وهو أن يحمد الله، ثم شرع الدعاء له بالخير وهو الرحمة، ثم شرع الدعاء منه للذي شمته بالخير أيضاً، وهذه نعم متواليات في زمن يسير، تصور أن رجلاً عطس فخرج منه الداء، ثم حمد الله فأجر، ثم دعي له بالرحمة، ثم دعا هو لمن دعا له، وهكذا في زمن يسير، فما أعظم هذه النعمة وهذه الشريعة! ومن تأمل هذه النعم المتوالية في شيء واحد من الأشياء التي تعرض كثيراً للناس أحب الله تعالى حباً يحدث في نفسه أكثر مما لو عبده أياماً.
وكذلك فيه تنبيه للعاطس على طلب الرحمة والتوبة من الذنب، ولذلك يقول: يغفر الله لنا ولكم.(112/27)
فائدة في موضوع العطاس
وكذلك من الأشياء التي تقال في موضوع العطاس، وهي نكتة (بمعنى فائدة) حصلت لـ أبي داود رحمه الله تعالى في مسألة إذا عطس وحمد ولم يشمته أحد؛ فسمعه من بعد عنه وليس عند ذلك العاطس شخص يشمته، أخرج ابن عبد البر بسند جيد عن أبي داود صاحب السنن: أنه كان في سفينة فسمع عاطساً على الشط - أبو داود في البحر في السفينة أو في النهر- فسمع عاطساً على الشط حمد الله ولم يكن عنده أحد يشمته، فاستأجر قارباً بدرهم حتى جاء إلى العاطس فشمته، قال: يرحمك الله ثم رجع، فسئل أبو داود عن ذلك: ما الذي حملك على ما صنعت، وتكلفت، واستأجرت قارباً وذهبت؟ فقال: لعله يكون مجاب الدعوة فيقول لي: يغفر الله لنا ولكم، أو يهديكم الله ويصلح بالكم، فأستفيد، فلما رقدوا سمعوا قائلاً يقول: يا أهل السفينة إن أبا داود اشترى الجنة من الله بدرهم، وجَوَّد إسناده ابن حجر رحمه الله تعالى.(112/28)
حكم تشميت المرأة الأجنبية
وبالنسبة لتشميت المرأة الأجنبية قال ابن مفلح رحمه الله في كتاب الآداب الشرعية: قال ابن تميم لا يشمت الرجل الشابة ولا تشمته.
وقال في الرعاية الكبرى: للرجل أن يشمت امرأة أجنبية -وقيل: عجوزاً- ولا تشمته هي وقيل: لا يشمتها، وذكروا قصة عن أحمد أنه كان عنده رجل من العباد، فعطست امرأة أحمد فقال لها العابد: يرحمك الله، فقال أحمد رحمه الله: عابد جاهل، وقال حرب: قلت لـ أحمد: الرجل يشمت المرأة إذا عطست؟ فقال: إن أراد أن يسمع كلامها فلا؛ لأن الكلام فتنة، وإن لم يرد ذلك؛ فلا بأس.
فإذاً هناك من فرق بين الشابة والعجوز، قال: العجوز تشمتها، لأنها سترد عليك وتدعو لك، فالعجوز لا تُشتهى ولا يطمع فيها، وأما الشابة فلا.
وبعضهم قال: إذا قصد المشمت سماع كلامها -وهذه مسألة تتعلق بالنيات- فلا يجوز له أن يشمتها، وإذا لم يقصد فلا بأس، وهي عليها أن تنتبه إلى أنه إذا شمتها رجل أجنبي ألا ترفع صوتها إذا كانت امرأة شابة أو تخشى أن يفتن بصوتها.
وهذه بعض المسائل المتعلقة بالعطاس، ونكمل الكلام عن موضوع العطاس، والتثاؤب، والتجشؤ، والتنخم إن شاء الله هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(112/29)
الرجوع إلى الحق
الحق هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلهما المكانة والشرف فوق كل الأديان والملل، وقد بين الله لنا حقارة الباطل ودناءته، ووضح لنا شرف الحق وعلو قدره ومكانته.
والله جل وعلا قد وضح لنا حقيقة الدنيا، فبين أنها ظل زائل.
وأنها مجبولة على الابتلاء والمتاعب.
فلا بد من الصبر والالتجاء إلى الله والرجوع إلى الحق وترك المعاصي والحجج الواهية في فعلها مثل قول بعضهم: المعصية مكتوبة عليَّ إلخ.
وكذلك تطرق الشيخ إلى بعض أمثلة اتباع الهوى.(113/1)
الحق ومكانته وشرفه
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم علي نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فينبغي على كل مسلم أن يتفكر في نفسه، وأن يرى مواقع الخلل ليصلح من عيبه؛ ليسلم قلبه حتى يلاقي ربه بقلبٍ سليم؛ لأنه لا ينفع يوم القيامة إلا من أتى الله بقلبٍ سليم، ويجب على المسلم أن يفكر في اتباع الحق، وينظر: هل هو يتبع الحق أم لا؟ إن هذه المسألة خطيرة أيها الإخوة وينبغي أن نفكر في أنفسنا، وأن نقوم لله تعالى متفكرين في اتباعنا للحق، هل نحن نتبع الحق أم نتبع الهوى.
ينبغي أن نفكر في شرف الحق، وضعة الباطل، وأن نتفكر في عظمة الله عزَّ وجلَّ، وأنه سبحانه اسمه الحق، وأنه يحب الحق ويكره الباطل، وأنه من يتبع الحق ينل رضوان الله، فكان الله وليه في الدنيا والآخرة، يختار له الخير، والأفضل والأنفع، والأشرف والأرفع، حتى يتوفاه راضياً مرضياً، فيرفعه إليه ويقربه لديه، ويحله في جواره مكرماً منعماً في النعيم المقيم والشرف الخالد، ومن أخلد إلى الباطل استحق سخط الله وغضبه وعقابه، فإذا جاء هذا المقيم على الباطل شيءٌ من نعيم الدنيا، فإنما ذلك لهوانه على الله ليزيده بعداً عنه، وليضاعف له عذاب الآخرة الذي لا تبلغ مداه العقول، ولا تستطيع أن تخيله ولا أن تتخيله.(113/2)
حقيقة الدنيا
عباد الله: كثيرٌ منا يتبع الباطل ويترك الحق، وذلك لعدم معرفته بمنزلة الحق وحال الباطل؛ ولأنه لا يتفكر فيمن يخالف الحق ويتبع الباطل.
إننا كثيراً ما نغرق في أوحال نعيم الدنيا، ولو فكرنا في نعيم الدنيا بالنسبة إلى رضوان الله ونعيم الآخرة، ولو فكرنا في بؤس الدنيا بالنسبة إلى سخط الله وعذاب الآخرة، قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:31 - 35].
لولا أن يكون الناس أمةً واحدة لابتلى الله المؤمنين بأمورٍ لم تجر بها العادة؛ من الشدة والفقر، والضر والخوف والحزن، ولأعطى كل كافر كل نعيم، ولجعل كل مسلمٍ مؤمنٍ في عذابٍ وشدة؛ لكن الله يعلم برحمته وعلمه وحكمته أن الناس لا يطيقون ذلك، ولربما كفروا، ولذلك جرت العادة بنعيمٍ في الدنيا وعذابٍ هنا وهنا، ولكن الله سبحانه وتعالى يبتلي الصالحين على قدر دينهم، ولذلك ضاعف البلاء على الأنبياء، فالذي يطيق ضاعف عليه البلاء؛ ليجتبيه ويخلصه مما أصابه من آثام وأوزارٍ، وليرفع درجته، وليجعله عنده في المقام العالي.(113/3)
ابتلاء المرء على قدر دينه
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (يتبلى المرء على قدر دينه؛ إن كان في دينه رقة خفف له في البلاء، وإن كان في دينه قوة ضوعف عليه البلاء) وقد جاء في الصحيحين من حديث كعب بن مالك قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، تفيئها الريح تصرعها مرة وتعدلها مرةً حتى يأتي أجله، ومثل المنافق كمثل الأرزة المجذية التي لا يصيبها شيءٌ حتى يكون انجعافها مرة واحدة) أي كالشجرة الصلبة القوية؛ شجرة الأرز التي لا تنكفئ ولا تنثني حتى يكون انقلابها مرة واحدة.
ولكن لا يعني ذلك أنه يغفل عن الكفار، ولا أنه لا ينعم على المؤمنين، بل ينعم هؤلاء ويبتلي أولئك، ولكن البلاء في أهل الدين أكثر، كما أن النعيم في أهل الشقاء والكفر أكثر، يهذب المسلم فيأنس بالمتاعب والمصاعب، ويتلقاها بالرضا والصبر والاحتساب؛ راجياً أن تكون له خيراً عند ربه، ولا يتمنى ما للآخرين فيحسدهم، ولا يسكن إلى السلامة والنعم، بل لو جاءته يتلقاها في خوفٍ وحذر ويخشى أن تكون استدراجاً من الله، فترغب نفسه في تصريفها في سبيل الله، فلا يبخل ولا يركن إلى الراحة، ولا يعجب بما أوتي، ولا يستكبر ولا يغتر.(113/4)
ابتلاء الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه
لما سئل صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: (الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل).
وقد ابتلى الله أيوباً بما هو مشهور معروف، وابتلى يعقوب بفقد ولديه، وشدد أثر ذلك على قلبه فكان كما قصه الله في كتابه: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84].
وابتلى محمداً صلى الله عليه وسلم فكلفه أن يدعو قومه إلى ترك ما نشئوا عليه تبعاً لآبائهم، ويصارحهم بذلك سراً وجهاراً، وليلاً ونهاراً، ويدور على نواديهم ومجتمعاتهم، استمر على ذلك ثلاث عشرة سنة وهم يؤذونه أشد الأذى، مع أنه كان قد عاش فيهم من قبل أربعين سنة لم يرد أنه أوذي فيها.
لقد كان من قبيلة شريفة، ونسبٍ محترمٍ موقر، في بيتٍ شريفٍ، نشأ على أخلاقٍ احترمه لأجلها الناس، ووقروه، ولقبوه بالصادق الأمين، وكان في غاية الحياء وعزة النفس، الذي يكون هذا حاله، واشتد عليه أن يؤذى ولو بكلمة، وأن يقال عنه: ساحر، أو كذاب، أو مجنون، أو به جنة، أو شاعر معلَّم علَّمه غيره.
يشتد عليه غاية الشدة أن يؤذى ويشق عليه غاية المشقة الإقدام على ما يعرضه إلى الأذى، لكنه مع ذلك أقدم مع ما لقيه من الأذى، هذا يسخر منه، وهذا يسبه، وذاك يبصق في وجهه، وهذا يضع رجليه على عنقه إذا سجد لربه، وهذا يضع سلى الجزور وأمعاءه على ظهره وهو ساجد، وهذا يأخذ بمجامع ثوبه ويخنقه، وهذا ينخس دابته حتى تلقيه، وأبو لهب عمه يتبعه يؤذيه ويحذر الناس منه في المجالس، وهو ذاهب يدعو في مواسم الحج يقول: كذاب مجنون لا تصدقوه، وهؤلاء يغرون به السفهاء فيرجمونه حتى تسيل رجلاه دماً، وهؤلاء يحاصرونه وعشيرته مدةً طويلةٍ في شعبٍ ليموتوا، وهؤلاء أيضاً يعذبون أتباعه، فيضجعونهم على الرمال في شدة الرمضاء، ويمنعونهم الماء.
منهم: من ألقي على أسياخ الحديد لم يطفئها إلا شحم ظهره لما سال عليها، ومنهم: امرأة عذبوها لترجع عن دينها، فلما يئسوا منها طعنها أحدهم بالحربة في مكان عفتها فقتلها، كل ذلك لا لشيءٍ إلا أنهم يدعون إلى الله سبحانه وتعالى؛ ليخرجوا هؤلاء الذين يعذبونهم من الظلمات إلى النور، ومن الفساد إلى الصلاح، ومن سخط الله إلى رضوانه، ومن الباطل إلى الحق، ومن عذاب الله إلى نعيمه، ومع ذلك كان هذا هو ما لاقوه.
ابتلى الله عزَّ وجلَّ نبيه صلى الله عليه وسلم بأن قبض أبويه صغيراً، ثم جده، ثم عمه الذي كان يحامي عنه، ثم امرأته التي كانت تؤنسه وتخفف عنه، ولم يزل البلاء يتعاهده صلى الله عليه وسلم، فتدبر -يا عبد الله- كل هذا وانظر بم تخرج، وأي شيءٍ تستنتج؟ نخرج في أن ما نتنافس عليه من نعيم الدنيا، ونتهالك فيه ليس بشيءٍ إذا ما قورن برضوان الله والنعيم الدائم في جواره؛ لأن معنى ذلك أنه لما حرم الله أناساً من الدنيا وابتلاهم فيها وهم أولياؤه وأصفياؤه، يعني: أن هذا الابتلاء ليس بشيء بجانب ما أعد لهم في الآخرة.
ونخرج أيضاً أن ما نفر منه من بؤس الدنيا ومكارهها ليس بشيء بجانب سخط الله وعذابه في الآخرة، وأن الفقر والدَّين والمرض والوجع والألم، وابتلاء الناس وإيذاءهم ليس بشيء بجانب عذاب الله في الآخرة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة واحدةً، ثم يقال له: يابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب) غمسة واحدة في النار أنسته كل نعيمٍ في الدنيا مر عليه، وكل حلاوة ذاقها (ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يابن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا والله يا ربي ما مر بي بؤس قط ولا رأيتُ شدةً قط) إن غمسة واحدة في النعيم قد أنسته كل ما مر به في سنين حياته في الدنيا من أنواع البلاء.(113/5)
حال المؤمن مع الطاعات
على العبد أن يفكر في أعماله من الطاعة والمعصية، فالمؤمن يأتي إلى الطاعة راغباً نشيطاً لا يريد إلا وجه الله والدار الآخرة، فإذا عرضت له رغبة في الدنيا فعلى الله تعالى فيما يرجو عونه على السعي إلى الآخرة، فإن كان ولابد أن يأخذ بشيءٍ من الدنيا كان ذلك بما لا يشغله عن الدار الآخرة، يباشر الطاعة خاشعاً خاضعاً، مستحضراً أن الله يراه، ولذلك فهو يأتي بها على الوجه الذي شرعه، وقد قال الله عز وجل: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60].
فإذا تصدق صدقةً خاف على نفسه من الرياء، وإذا قام الليل خاف على نفسه من العجب، وإذا فعل الطاعات كأن تعلم ودعا خاف على نفسه من الرياء، وأن يكون ذلك لأجل الخلق، فينقي نيته ويصحح قصده باستمرار.
هذا هو حال المؤمن، لا يزال ينقي نيته لأنه يعلم أن الله لا يقبل العمل بلا نية صالحة، وإذا أخذ من نعيم الدنيا شيئاً فإنما هو لكسر شهوةٍ لابد من كسرها، كشهوة الجوع والنكاح، وكذلك من أجل أن تتقوى نفسه على العبادة، يصحح النية في العبادة لكي لا تكون لأجل الناس، ولا يأخذ من الدنيا إلا بقدر ما يعينه على استمراره للدار الآخرة، يجاهد نفسه ضد الشبهات والوساوس مستعيناً بطاعة الله، واقفاً عند حدوده، مبتهلاً إلى الله أن يثبت قلبه ويقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.(113/6)
الحذر من جعل العبادة عادة
والعبد يحذر أن تكون عبادته عادة، وبعض الناس يصوم ليصح، ويصلي التراويح لينهضم طعامه، ويصلي عادةً وليس عبادةً، فيكون كالذي اعتاد العبث بلحيته يجد نفسه تنازعه إلى ذلك حتى لو كف عن ذلك ومنع منه شق عليه.
يقوم للصلاة عادة لا احتساباً للأجر ولا زيادة في الخشوع، كالذي يأتي الجمعة ليتفرج على الناس ويلقى أصحابه، ويقف على أخبارهم؛ دون أن يكون له حظٌ في زيادة إيمانٍ، أو احتسابٍ للأجر فيمن خرج ومشى، وبكر، وابتكر واقترب ولم يؤذِ.(113/7)
الحذر من الرياء في الطاعات
وبعض الناس يفعلون العبادات مراءاةً لينالوا المدح والثناء، وليعظم جاههم عند الخلق، وبعضهن ربما خرجت للصلاة لتلفت أنظار الرجال، كمن تخرج متزينة متعطرةً، وكبعض الذين يدعون صلاحاً ليعظّمهم الخلق، ويشتهر ذكرهم، وكالرئيس الذي يريد أن يتطاول الناس إلى رؤيته، وترتفع أصواتهم بمدحه وغير ذلك، والمؤمن وإن خلصت نيته في نفس الأمر لا يستطيع إلا أن يكمل المشوار عامداً إلى طاعة الله عزَّ وجلَّ، ثم يخاف ألا تقبل الطاعة: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] يخشى أن الله لا يقبل منه، ويجتهد في تصحيح العمل، فيعلم أن للصلاة شروطاً وأركاناً وواجبات، فيراعي أن يأتي بها على الوجه المطلوب، ويعلم أن روح الصلاة في الخشوع فيحذر نفسه، ويكون حاضر القلب والذهن وهو يقرأ آيات الله في الصلاة، ويتلو الأذكار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بها.
هذه حال المؤمن في الطاعات، فما عسى أن تكون حاله في المعاصي؟ قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:201 - 202] فالمؤمن يتصارع إيمانه وهواه، قد يطوف به الشيطان فيغفله عن قوة إيمانه، فلا تصفو له لذة، ثم لا يكاد جنبه أن يقع على الأرض حتى يتذكر فيستعيد قوة إيمانه، فيعض أنامله أسفاً وحزناً على غفلته التي أعان بها عدوه على نفسه، وكيف سمح للشيطان أن يجري ولو بفكره وراء وساوس الشيطان.(113/8)
احتجاجات باطلة لأجل فعل المعصية
أما إخوان الشياطين فتمدهم الشياطين في الغي، فيمتدون منه، ويمنون أنفسهم الأماني من الغرور الذي غرهم، فتجد العاصي يقول: الله كتب المعصية علينا ولو شاء ما فعلتها، يتهم الله بأنه هو الذي أوقعه في المعصية راضياً عنه، والله قد كتب الطاعات والمعاصي ولا شك، ولكن الله سبحانه وتعالى لا يرضى لعباده الكفر، وأعطاهم الإرادة، وأعذر وأنذر، وأنزل الكتب وأرسل الرسل، وبعض العصاة يقول: هذه مسألة اختلف فيها العلماء، هناك من يحللها وقد يكون كلامه هو الصحيح، وبعض العصاة يقول: قد اختلف في كونها كبيرة لعلها صغيرة، والصغيرة أمرها هين، والجمعة إلى الجمعة كفارة ورمضان إلى رمضان كفارة وسنحج في آخر الأمر، أو يقول العاصي: لي حسنات كثيرة تغمر هذا الذنب، ألست أصلي؟ وأزكي؟ وأصوم؟ وأتصدق؟ ألست أبر والديَّ؟ وهكذا.
أو يقول أيضاً: لعل الله يغفر لي، أليس الله واسع المغفرة؟ أليس رحيماً بعباده؟ لعلها تنالني شفاعة، أليس يقولون: إن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم عظيمة؟ أو يقول: غداً أتوب، وإذا تقدم بي العمر سأحج تلك الحجة التي تمحو جميع الذنوب، ثم أقبل على حالي ونفسي وأصلح ما أفسدت، وهذه فترة شهوة وقوة وغلبة نفس! وأحسنهم من يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، ويرى أنه قد تاب وقبلت توبته ومحي ذنبه، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً * لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:119 - 123].
قال عدد من العلماء والسلف: إن هذه أخوف آية في كتاب الله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء:123 - 124].
قال ابن مسعود رضي الله عنه: [إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ مر على أنفه فقال به هكذا] أي: كذبابة وقعت على أنفه فحرك يده وهش الذباب فطار، وانتهى كل شيء، هذا الفرق بين الإحساس بالمعصية من جهة المؤمن ومن جهة الفاسق.
نسأل الله تعالى أن يعيننا على أنفسنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من الشيطان وشركه وشرّه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(113/9)
محاكمة للنفس في اتباع الهوى واتباع الحق
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.
عباد الله: ينبغي أن نفكر في حال أنفسنا مع الهوى، إلى أي شيءٍ نميل، هل صار ميلنا إلى طاعة الله أم إلى معصية الله؟ إذا كان الميل إلى المعاصي، فمعناه: أن النفس بحاجة إلى إصلاح.
لنفكر في حال أنفسنا مع الهوى من جهة الميل عندما نتدخل لفض نزاعٍ، أو حكمٍ بين اثنين، لو جاء إليك اثنان يختصمان أحدهما قريب والآخر بعيد فإلى من تميل؛ إلى القريب أم إلى صاحب الحق؟ لو جاءك اثنان أحدهما تحبه والآخر لا تعرفه، أو بينك وبينه نفرة بسبب دنيوي، فهل تميل مع من تحب؛ أو تميل مع من معه الحق؟ لو أن شخصاً سب النبي صلى الله عليه وسلم، وآخر سب داود، وآخر سب عمر رضي الله عنه وآخر سبك وسب أباك، فمن الذي تعادي أكثر؟ وكيف ترتبهم في العداوة؟ بعض الناس يثور إذا سبه أحد، ولو سمع أن أحداً سب النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن كاتباً قد اتهم أو سب الدين، أو سب الرب، أو سب أولياء الله الصالحين، ربما لم يتحرك أبداً، لكن لو سبه شخصاً لثارت ثورته.
لو سمعت قول عالمين في مسألة أحدهما يقول: هي حلال، والآخر يقول: هي حرام، هل تميل نفسك إلى من يحللها، أو تميل نفسك إلى اتباع الحق والدليل مع أي واحد منهما كان؟ إذا سألت عالماً أو اطلعت على فتوى بتحريم شيءٍ، فهل ترضخ أم أنك تقول: لابد أن أسأل شخصاً آخر، وتظل تتبع المفتين لتصل إلى شخصٍ يقول: إنها حلال، ما هو الموقف؟ لو وقفنا مع أنفسنا حقاً ما هو الموقف؟ هنا يتبين -أيها الإخوة- من الذي يتبع الحق ممن يتبع الهوى، وهل يرضى عاقل لنفسه أن يشتري لذة اتباع هواه بفوات رضا رب العالمين، والحرمان من الزلفى عنده، والقرب منه، والنعيم العظيم في جواره؟ إذا كان كل منا يتجرد لله تبارك فلا يتبع الهوى فليبشر برضوان الله، وإن كان يميل إلى المعاصي والهوى؛ فليصحح نفسه قبل أن يبغته الموت فيقول: {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [المنافقون:10] أريد ساعة لأتصدق وأكن من الصالحين، ولكن هيهات هيهات إذا نزل الموت: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} [نوح:4] وكما قال الرجل الصالح لنفسه: تصوري أن الموت نزل بكِ الآن، فماذا كنتِ تتمنين؟ فقالت: كنت أتمنى أن أؤخر وأن أمهل، قال: إنك الآن في المهلة فاعملي.
اللهم إنا نسألك أن تعيننا على أنفسنا، وأن تقينا شر أنفسنا، اللهم اجعلنا ممن يخافك ويتقيك يا رب العالمين! اللهم وفقنا لهداك واجعل عملنا في رضاك.
اللهم انصر الإسلام وأهله يا رب العالمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر المجاهدين! اللهم ارفع الضر عن المسلمين، اللهم إن في إخواننا المسلمين من البلاء ما لا يعلمه إلا أنت فاكشف عنهم الضر يا رب العالمين، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، وإنهم عراة فاكسهم، وإنهم حفاة فاحملهم.(113/10)
وقفة مع كوسوفا
أنتم تسمعون -أيها الإخوة- ما يحل بإخواننا في كوسوفا، وتأتي الأخبار بما يلاقي إخواننا هناك، عشرات الآلاف قد شردوا من بلدانهم، وزرعت الحدود مع ألبانيا بالألغام حتى تنفجر بالنساء والأطفال وهم هاربون شاردون لا يلوون على شيء، يؤخذ الرجال إلى القتل، والنساء للاغتصاب، والأطفال ليمثل بهم.
أورخاتسا آخر الضحايا في الأيام الأربعة القادمة تلك البلدة المسلمة، سكانها عشرون ألفاً، (80%) من بيوتها قد هدمت دكاً بالمدافع الصربية، ومئات القتلى في الشوارع، ورائحة النتن تنبعث من الجثث، ويقول شهود العيان: إنها رفعت بالجرافات، جثث المسلمين ترفع بالجرافات! وهاجر عشرون ألفاً إلى قرية مجاورة تبعد عشرة أميال لينبطحوا هناك على الأرض؛ لا طعام ولا شراب، مياه للشرب غير متوفرة، رعاية صحية لا توجد، ضمادات الجروح غير موجودة، لا منازل ولا مأوى ولا مسكن.
الآن هؤلاء على الأرض مشردون في هذه اللحظات، ونحن نقف هنا في المكيفات نقعد تحت الظل، وأولئك يقعدون في العراء، أخذ الرجال من البيوت وقتلوا في الشوارع إعداماً ورمياً بالرصاص، وخطفت حافلتان من حافلات اللاجئين قبل ساعاتٍ وأُعدم كل من فيها، وآخرون أخذوا إلى جهات مجهولة، واشتركت عصابة النمور الصربية التي كانت تعمل المذابح في البوسنة في إخواننا الآن في كوسوفا مصممين على إنهاء الوجود الإسلامي، وإذا لم يكن أخذوا نصف ديارهم فضموها إلى صربيا وتركوهم محاصرين في النصف الثاني.
اللهم إنا نسألك أن تنجي المستضعفين من المؤمنين، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم طريدون فآوهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم مظلومون فانصرهم، اللهم إنهم مقهورون فأعزهم إنك أنت العزيز الحكيم.
اللهم أنت الجبار ملك السموات والأرض، أنت على كل شيء قدير أنزل بالصرب والنصارى واليهود بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم فرق شملهم وشتت جمعهم، واجعل بأسهم بينهم، واجعل دائرة السوء عليهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم تضرعنا إليك، واستغثنا بك، ورجوناك ودعوناك، اللهم فلا تخيب رجاءنا، وانصر في هذا الموقف إخواننا، ورد في هذا المقام كيد أعدائنا.
اللهم رد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً، واجمع كلمتهم على التوحيد والتقوى، اللهم ألف بين قلوبهم واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم أيقظ في قلوب المسلمين الحمية في قتال اليهود والنصارى، واجعل في قلوبهم الحمية لإخراج أولئك مما أخرجونا يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(113/11)
الرجوع للحق
من الكبر بطر الحق، وذلك مذموم شرعاً، لكن من يهده الله يفتح في قلبه باب التواضع، ولا تستثقل نفسه التراجع إلى الحق، وفي السلف الصالح من الصحابة وأئمة الفقه والحديث خير مثال على ذلك، وقد بين الشيخ هذا الأمر في هذه المحاضرة بما يكفي لطالب الهداية.(114/1)
معنى الكبر وفضيلة التواضع
.(114/2)
ليس من الكبر التجمل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس) وفي رواية الترمذي: (ولكن الكبر من بطر الحق وغمص الناس) ورواه الإمام أحمد رحمه الله عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر، فقال رجل: يا رسول الله! إني ليعجبني أن يكون ثوبي غسيلاً، ورأسي دهيناً، وشراك نعلي جديداً -وذكر أشياء حتى ذكر علاقة سوطه- أفمن الكبر ذاك يا رسول الله؟ قال: لا.
ذاك الجمال، إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر من سفه الحق، وازدرى الناس).
هذا الرجل مالك بن مرارة الرهاوي رضي الله عنه؛ لما سمع أنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر خشي أن يكون التجمل بالمباحات وإن كان دون إسراف، وفي حدود الشرع، خشي أن يكون التجمل في المظهر من الكبر، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس كذلك، وأن الله جميل؛ جميل في ذاته سبحانه، جميل في صفاته، جميل في أفعاله عز وجل، أجمل شيء في الوجود رب العزة سبحانه، ولذلك إذا نظر أهل الجنة إلى ربهم نسوا كل نعيم في الجنة يوم القيامة.
إذاً فما هو الكبر الذي من كان في قلبه مثقال ذرة منه لا يدخل الجنة؟ قال: بطر الحق، أي: دفعه وإنكاره ترفعاً وتجبراً، التجبر على الحق فلا يراه حقاً، التكبر عن الحق فلا يقبله، هذا هو بطر الحق.
وغمط الناس أي: احتقارهم.
وعند هذه المسألة في قوله: (بطر الحق) نقف.
أيها الإخوة! إذا راجعنا أنفسنا يتبين لنا أن مما ابتلينا به أننا ندفع الحق في كثير من الأحيان ولا نقبله، ونجادل بالباطل ونحن نعلم أن ما عرض علينا هو الحق، ونترفع عن قبوله ونصد عنه، هذه ظاهرة خطيرة، وهي أساس كل بلاء، وهي عدم قبول الحق والإذعان له، وقد قال الله سبحانه وتعالى عن أخلاق المسلمين: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18] فإذا عرض عليك الكلام وكان فيه حق فاستمع واقبل، وقبول الحق من العدل الذي أمر الله به بقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء:135] قبول الحق من علامات التواضع.
سئل الفضيل بن عياض رحمه الله عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له ويقبله ممن قاله، وقال ابن القيم رحمه الله: إن من أعظم التواضع أن يتواضع العبد لصولة الحق، فيتلقى سلطان الحق بالخضوع له والذل والانقياد، والدخول تحت رقه؛ بحيث يكون الحق متصرفاً فيه تصرف المالك في مملوكه، فبهذا يحصل للعبد خلق التواضع.
خضوع العبد لصولة الحق وانقياده له هو التواضع، بل قمة التواضع أن تخضع للحق، فهذا معنى عظيم من معاني التواضع غفل عنه الناس.(114/3)
تواضع السلف ورجوعهم إلى الحق
وقال عمر رضي الله عنه في كتابه لـ أبي موسى الأشعري: [ولا يمنعك قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم، ولا يبطل الحق شيء، وإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل] ولذلك أقر موسى عليه السلام بخطئه لما ذكره به أعدى أعدائه فرعون لعنه الله، قال فرعون لموسى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:18 - 19] أي: عندما قتلت ذلك القبطي، قال موسى عليه السلام: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20] فاعترف أنه فعلها على ضلالة، ليس كفراناً بنعمة فرعون، ولكن فعلها على ضلال: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20] يعني: قبل أن يوحى إلي وأرسل وأنبأ، فعلتها إذاًَ وأنا من الجاهلين، ولما قال الخضر لموسى عندما تسرع موسى، ولم يفِ بعهده للخضر في الصبر على ما يجري قال الخضر: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف:72 - 73] فجمع بين الإقرار والاعتذار، وهذا من خلق موسى عليه السلام.
كلنا يفتقر إلى الحق، خلق الإنسان ظلوماً جهولاً، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل فيفتتح صلاته بقوله: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة؛ أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) فيجب أن يكون عندنا افتقار إلى الحق، وأن نشعر أننا محتاجون إليه، وأننا لا غنى لنا عن الحق وإلا صرنا في نار جهنم.
وكان الخلفاء الراشدون يلتمسون الحق ويريدون معرفة أخطائهم، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عبارته الذهبية: [رحم الله من أهدى إلي عيوبي] وقال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم: [يا مزاحم! إن الولاة جعلوا العيون على العوام، وإني جاعلك عيني على نفسي -جعلتك جاسوساً عليَّ- فإن سمعت مني كلمة تربأ بها عني، أو فعلاً لا تحبه، فعظني عنده، وانهني عنه] وقال عمر بن عبد العزيز لـ عمر بن مهاجر: [إذا رأيتني قد ملت عن الحق، فضع يدك في تلبابي، ثم هزني ثم قل: يا عمر ما تصنع؟] وهذا من حرصهم على الحق ومعرفة أخطائهم، والرغبة في تقويمهم، كل واحد يريد أن يقوم، وأن ينبه، وأن يبين له خطؤه حتى لا يستمر على الضلال.
الرغبة في التقويم: إذا لم تكن عند كل واحد منا الرغبة في التقويم؛ فلن يتعلم ولن يتقدم ولن يهتدي، وكلام الأئمة في تواضعهم، كلام أئمة الفقه والعلم معروف مشهور، قال الشافعي رحمه الله: كل مسألة تكلمت فيها بخلاف الكتاب والسنة، فإني راجع عن كلامي في حياتي وبعد مماتي، وكذلك قال مالك رحمه الله، والنبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن نقبل الحق ولو من الكافر، ولو من اليهودي، عن قتيلة الجهنية قالت: (إن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت) أخرجه الإمام أحمد والنسائي.
إذاً: لم يجد النبي صلى الله عليه وسلم أي غضاضة من قبول تنبيه اليهودي لأنه حق، وأخذ به، وأمر أصحابه به واعتمده، وهكذا يقبل الحق من أي مكان جاء، ومن أي شخص مهما كان كبيراً أو صغيراً، وعلى هذا جرى الأئمة.(114/4)
تواضع المحدثين
وقال البخاري رحمه الله: خرجت على الكتاب بعد العشر -بعد أن حفظ القرآن- فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره من المحدثين، فقال يوماً فيما كان يقرأ للناس: سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم، في أحد الأسانيد التي يحدث بها الشيخ في المجلس وحوله الطلاب، فقلت له: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت أرجع إلى الأصل، فدخل فنظر فيه، دخل فنظر في مكتوبه في البيت، وكان يحدث من حفظه في الحلقة ثم خرج، فقال لي: كيف هو يا غلام؟ -أمام الناس- كيف هو يا غلام؟ قلت: الزبير بن عدي عن إبراهيم، هكذا أظهر صواب الغلام أمام الناس وهو الشيخ، فقيل للبخاري: ابن كم كنت حين رددت عليه؟ قال: ابن إحدى عشرة سنة.
وقال محمد بن عمار الموصلي: رددت على المعافى بن عمران حرفاً في الحديث، فسكت، فلما كان الغد جلست في مجلسه من قبل أن يحدث، وقال: إن الحديث كما قال الغلام، قال ابن عمار: وكنت حينئذٍ غلاماً أمرد ما في لحيتي أي شعرة.
وسأل رجل علياً عن مسألة فقال فيها، فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كذا وكذا، فقال علي رضي الله عنه: أصبتَ وأخطأتُ، وفوق كل ذي علم عليم.
وقال عبد الله بن وهب المصري: كنا عند مالك، فسئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء وكذلك اليدين، فلم يرَ ذلك، فتركت حتى خف المجلس، فقلت: إن عندنا في ذلك سنة، فذكر حديث: (إذا توضأت خلل أصابع رجليك) فرأيته بعد ذلك يسأل عنه فيأمر بتخليل الأصابع، ويقول: ما سمعت هذا الحديث قط إلا الآن، لكنه رجع إليه وأفتى به رضي الله عنه.
وهكذا كانت سنة الأئمة وأهل العلم في قبول الخطأ عند التنبيه عليه، يعترفون به ويرجعون إليه، ويعلنون ذلك كما قال أحدهم: أرجع وأنا صاغر، ولما صنف الإمام عبد الغني كتاباً في أوهام الحاكم، المحدث المشهور، لما وقف الحاكم على هذا الكتاب جعل يقرأه على الناس، ويعترف لـ عبد الغني بالفضل والشكر، ويرجع إلى ما أصاب فيه من الرد عليه رحمة الله عليهما.
هكذا كانوا إذاًَ في تقبلهم للحق، بل وإكرامهم، حتى قام الكسائي وعانق وأجلس إلى جنبه من نبهه على خطأ في المجلس، وقال إسماعيل بن أبي أويس للبخاري: انظر في كتبي وما أملكه لك، وأنا شاكر لك ما دمت حياً أنك نبهتني.(114/5)
الأسباب المعينة على قبول الحق
ما هي الأسباب المعينة على قبول الحق؟ إذا لم يكن عند المرء تقوى فلن يقبل الحق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال:29] فرقاناً: تفرقون به بين الحق والباطل، وتعرفون به الحق، وتنقادون إليه، فلا بد من التقوى، وأن يعرف الإنسان مقدار علمه، وأنه عرضة للخطأ، وقال عليه الصلاة والسلام: (كل بني آدم خطاء) قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: من يبرئ نفسه من الخطأ فهو مجنون، الذي يقول: أنا لا أخطئ كذاب: (كل بني آدم خطاء) من الذي لا يخطئ إلا من عصمهم الله سبحانه وتعالى.
وأن يعلم الإنسان منا أن الرجوع إلى الحق فيه أجر وثواب، لما حلف أبو بكر الصديق ألا ينفق على مسطح ولا يعطيه شيئاً؛ لأنه ظلم ابنته عائشة، أنزل الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] ولا يأتل: أي: لا يمتنع، وكان مسطح قريباً للصديق وقال: والله لا أنفق على مسطح شيئاً بعد الذي قال لـ عائشة، فلما نزلت الآية قال أبو بكر رضي الله عنه: [بلى والله، إني لأحب أن يغفر الله لي] فرجع إلى النفقة التي كان ينفق عليه وقال: [والله لا أنزعها منه أبداً] وكفر عن يمينه، هكذا فعل.
فإذاً ثواب الرجوع إلى الحق هو الذي يدفع المؤمن إلى الرجوع، وهي خصلة عظيمة، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم اجعلنا من أهل الحق، وأقمنا على ملة الحق، وأمتنا على الحق إنك أنت الحق المبين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(114/6)
الرجوع إلى الحق قوة لا ضعف
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: إن بعض الناس يتصور أن الرجوع إلى الحق ضعف، وأن العودة عن قوله أو فعله الخاطئ اهتزاز في شخصيته، ويأتي الشيطان لينفخ فيه فيقول له: إذا تراجعت فأنت ضعيف شخصية، بينما الحقيقة بخلاف ذلك تماماً، فإن الإنسان ولو توهم أن تراجعه ضعف أمام الآخرين، فإنه في الحقيقة رفعة في نظرهم، ويكبر في أعينهم، ولكن المسألة تحتاج إلى شيء من المصابرة والمجاهدة، لقد تلكأ علي رضي الله عنه عن بيعة الصديق لأنه كان يعتقد في زمن أن له في ذلك حقاً؛ كما روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها، ثم لما تبين الحق لـ علي رضي الله عنه رجع، وقال لـ أبي بكر: موعدك العشية للبيعة، فلما صلى أبو بكر على المنبر، رقى على المنبر، فتشهد وذكر شأن علي، أي: فضله ومنزلته، وعذره بالعذر الذي اعتذر إليه، ثم استغفر له، وتشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه فعظَّم حق أبي بكر، وأنه لم يحمله على الذي صنعه -أي من التأخر عن بيعته- نفاسة على أبي بكر -ليس حقداً ولا حسداً- ولا تقديماً لنفسه على نفس الصديق، ولا إنكاراً للذي فضله الله به، قال: [ولكنا كنا نرى لنا في الأمر نصيباً ونحن آل محمد صلى الله عليه وسلم] ثم عرف أن الحق فيما أجمع عليه الصحابة من بيعة الصديق، فبايع علناً أمام الناس، قال الراوي: فسر المسلمون بذلك وقالوا: أصبت، فكان المسلمون إلى علي قريباً حين راجع المعروف، قال ابن حجر رحمه الله: أي كان ودهم له قريباً، إذاً ازدادت المودة لـ علي رضي الله عنه لما راجع، لم تهتز شخصيته في أعينهم، لم يصبح ضعيفاً في أعينهم، وإنما ازدادت مودتهم له لما رجع إلى الحق.
وقال عبد الغني الأزدي: لما رددت على أبي عبد الله الحاكم الأوهام التي في المدخل إلى الصحيح في كتابه، بعث إلي يشكرني ويدعو لي، فعلمت أنه رجل عاقل، فإذاً الراجع إلى الحق يزداد في أعين الناس، وإن أوهمه إبليس في البداية أنها ضعف شخصية وأنها إهانة.
والذي لا يراجع الحق كبراً فإن الله يحرمه من معرفة الحق، كما قال الله عز وجل: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146] قال ابن جريج رحمه الله: أي سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا بها، قال المفسرون: سأرفع فهم القرآن عن قلوبهم، وهكذا يكون مصير الذي يتكبر على الحق أن يحرم عن معرفته وتبينه، وهذه لا شك كارثة كبيرة ومصيبة عظيمة فادحة تنزل بالإنسان، غضباً من الله، وعقوبة له على تكبره عن الحق، أنه لا يعود ليميزه ولا يعرفه ولا يهتدي إليه.(114/7)
بعض العوائق عن قبول الحق
وبعض الناس ربما يسهل عليه أن يرجع إلى الحق إذا اكتشف هو بنفسه الخطأ، لكن إذا بين له من الآخرين لا يسهل عليه الرجوع، ويشق عليه أن يبين له من قبل الآخرين.
وبعض الناس ربما يقبل الحق ممن هو أكبر منه، لكن إذا كان من أقرانه أو ممن هو أصغر منه لا يقبل، وهذه مصيبة أيضاً، وقد تقدم حال السلف رحمهم الله في قبول الحق من الأطفال؛ لأجل منزلة الحق وعظم الحق في قلوبهم.
ومن الناس من يكون في نفسه عجب يمنعه من قبول الحق.
إذا نصحت لذي عجب لترشده فلم يطعك فلا تنصح له أبداً
فإن ذا العجب لا يعطيك طاعته ولا يجيب إلى إرشاده أحداً
صاحب العجب (المعجب بنفسه) كيف ينقاد للحق؟! وبعض الناس لا يرجعون إلى الحق لجهلهم، وأكثر النفوس على جهل ما لم تعلمه:
وضد كل امرئٍ ما كان يجهله والجاهلون لأهل العلم أعداءُ
وبعض الناس يرد الحق لأنه يخالف ما ألفه ونشأ عليه:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
وهكذا تتوارث الأجيال كثيراً من العادات والسلوكيات الخاطئة، وتتناقلها جيلاً بعد جيل، حتى تتحول إلى مُسِلَّمة من المُسلَّمات التي لا تقبل النظر والمراجعة، فضلاً عن تركها والبعد عنها، وحينئذٍ يجبن الكثيرون عن التصويب، وهكذا ما ترى من عادات بعض القبائل من الأمور المحرمة التي لا يرجعون عنها، ويعتبرونها قانوناً لا يسعهم التخلف عنه، وحجتهم هي حجة أهل الجاهلية: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:61] ماذا يقول هؤلاء وغيرهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] وجدنا آبائنا هكذا، فنحن على ما وجدنا عليه آبائنا، تقول: هذا الحق، وهذا الكتاب، وهذه السنة، فيقولون: نحن على ما نشأنا عليه، وما ألفناه وما عرفناه، ويرفضون الحق.
فيا عبد الله! أيهما ينجيك عند الله: تقليد الآباء والأجداد، أم تقليد الكتاب والسنة؟ وما الذي سيقبله الله منك؛ أن تقول: وجدت أبي وجدي، والمجتمع من حولي، أو أن تعترف بما في الكتاب والسنة، وتراجع ذلك؟ وبعض الناس عندهم كبر تجاه الدعاة إلى الله والناصحين، لا يقبلون منهم نصيحةً، قال ابن مسعود رضي الله عنه: [إن من أكبر الذنب، أن يقول الرجل لأخيه اتق الله، فيقول: عليك نفسك أنت تأمرني؟!] وهكذا ازدراء الخلق، وإذا كان هؤلاء الخلق دعاة وفضلاء فإن ازدراءهم أعظم إثماً ولا شك، وهذه مسألة خطيرة -أيها الإخوة- ومبدأ مهم في حياتنا يجب اعتماده، والذي يخالف ذلك سيكون عرضة للهلاك بلا شك، وتأمل في أكثر مصائبنا وسبب انحرافاتنا تجد السبب أننا لا نرجع إلى الحق، وكثير من المشكلات بين الأب وأبنائه، والزوج وزوجته، والأخ وإخوانه، والجار وجاره، وهكذا، وبين المدعو والداعية، تجد أن السبب في المشكلة عدم الرجوع للحق، وعدم قبول الحق، ينبغي أن تقدر القضية حق قدرها، وأن تعطى شأنها، وأن نكون متواضعين للحق.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يخافك في الغيب والشهادة، وممن يقول كلمة الحق في الغضب والرضا، اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، اللهم إنا نشهدك أنك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، وأنك تبعث من في القبور.
ونسألك في مقامنا هذا في هذه الساعة أن تعتق رقابنا من النار، وأن تجعلنا من أهل الجنة الأبرار، اللهم إنك أنت الرحيم فارحم عبادك إنك على كل شيء قدير، اللهم ارفع البأس عن المسلمين، اللهم ارفع البأس عن المسلمين، اللهم ارفع البأس عن المسلمين.
هذه المؤامرات تحاك في بلاد المسلمين أيها الإخوة، وهذه الدوائر تدور عليهم من أعداء الإسلام والمسلمين، وهؤلاء الصرب يهددون أهل كوسوفو عند حصول أي شيء لهم بمذابح رهيبة، وآلاف مؤلفة من عصابات المذابح التي كانت في البوسنة التي يسمونها عصابات أراكان وعصابات النمور تتربص بالمسلمين المزيد من المذابح، بعد أن أنهوا عدداً كبيراً منها في المدة الماضية، والعالم مشغول كما يقولون، وهكذا تحاك حول المسلمين في فلسطين وما حولها في بلاد الشام وغيرها، تحاك الدوائر حولهم، ولكن الله سبحانه وتعالى لن يرفع الذل عن الأمة إلا إذا رجعت إليه، وأنابت إليه، والله يخوف الأمة وينذرها بهذه الأحداث والكوارث والقوارع، فمن الذي ينزجر: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} [الرعد:31] {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء:60] والواجب علينا الاعتبار والاتعاظ ومراجعة الحق والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.
اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، والرحمة للعباد، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(114/8)
السفر وآدابه [1]
السفر كلمة قليلة الحروف، غزيرة المعنى والمدلول، وفي الشرع الحنيف ذكر لأنواع السفر وأحكامها؛ مع توضيح المعنى الحقيقي للسياحة في الإسلام، والذي حرفه الواقع المخالف لذلك.
تلك موضوعات متنوعة تناولها الشيخ في خطبته، إضافة إلى ذكر بعض الحقائق المتعلقة بالسفر إلى الخارج.(115/1)
أنواع سفر النبي صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
لما كان هذا الوقت بداية الإجازة، ناسب أن يكون كلامنا أيها الإخوة! عن موضوع السفر؛ حيث أن كثيراً من الناس ينوون ويخططون للسفر في هذا الوقت.
والسفر أيها الإخوة! إنما سُمي سفراً لأنه يُسفر عن أخلاق الرجال ويكشف عنها، ولذلك فإن المسافر يتبين من طبعه وأخلاقه وشمائله ما لا يتبين في حضره؛ لأنه إذا ابتعد عن المألوفات وابتعد عن الأهل والأوطان؛ فإنه يظهر على حقيقته، وتظهر أشياء كثيرة كانت خافية من قبل.
ورسولنا صلى الله عليه وسلم كان يسافر، ما كان مقيماً في مكانٍ واحدٍ طيلة عمره، ولكن: إلى أين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافر؟ وما هي أنواع سفره عليه الصلاة والسلام؟ إن سفره صلى الله عليه وسلم كان دائراً بين أربعة أنواع من السفر: النوع الأول: سفر الجهاد.
النوع الثاني: سفر الهجرة.
النوع الثالث: سفر الحج.
النوع الرابع: سفر العمرة.
هكذا كانت أسفاره صلى الله عليه وسلم، فإنه خرج من موطنه من مكة مهاجراً إلى الله بعد أن لحق الأذى به وبأصحابه، وأصبح من الصعب جداً الإقامة وسط أولئك الكفار المعاندين، الذين كان آخر ما خططوا له اغتياله عليه الصلاة والسلام، ولكن الله نجاه منهم لأمرٍ يريده عز وجل.
وسافر صلى الله عليه وسلم سفرات كثيرة في الجهاد في سبيل الله، وكان هذا النوع من السفر أكثر الأنواع التي سافر فيها صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يلبث أن يأتي من غزوة حتى يُجهز غيرها، ولا يلبث أن تأتي سرية حتى يخرج في غيرها، وهكذا.
كانت أسفاره لخدمة الدين، كانت أسفاره لحماية هذا الإسلام الذي شرعه الله، وللذود عن حياضه، ولإنقاذ المستضعفين من المسلمين، الذين كانوا يرزحون تحت نير استعمار الكفار واضطهادهم وعذابهم.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات للعمرة، وخرج في حجة الوداع؛ لأنه لم يتمكن من الخروج قبل ذلك للحج، وإلا فإنه عليه الصلاة والسلام كان أول المبادرين إلى الطاعة، ولو كان يُمكن أن يخرج للحج في أول الدعوة لخرج، ولو كان يُمكن أن يخرج للحج قبل العام العاشر لخرج، ولكن الكفار لم يمكنوه من ذلك حتى حج عليه الصلاة والسلام في آخر سنة من حياته.(115/2)
أنواع السفر
والسفر قد يكون سفر طلب وقد يكون سفر هرب، وبناء على نوع الطلب ونوع الهرب يكون السفر إما سفر طاعة أو سفر معصية.(115/3)
سفر طلب وطاعة
قد يكون سفر طلب مثل طلب العدو، كالجهاد في سبيل الله، أو طلب العلم، أو طلب زيارة العلماء، أو طلب الحج والعمرة، وواأسفا على أناس من المسلمين يعيشون في هذه الأيام في بلاد قريبة من البيت العتيق، ومدن ليست بعيدة من الكعبة لم يروا كعبة الله حتى هذه اللحظة، وليسوا بمعذورين لا في مال، ولا في صحة، ولا في أعذار قاهرة، فأنى لهم العذر عند الله وقد تخلفوا عن الإتيان إلى بيته، إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَّ الذي ينقطع عن البيت خمس سنين: (إن عبداً أصححت له جسمه؛ لا يفد عليَّ خمس سنين لمحروم) إذا انقطع عن البيت العتيق أكثر من خمس سنين فهو محروم كما بين عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح، فكيف بمن انقطع عن البيت العتيق طيلة حياته، ويستصعبون الحج ويضعون الأعذار الواهية، وقد حج الناس والحمد لله ورجعوا في أمان وسلام.
فعلام تشويشات الشيطان، وعلام الأعذار التافهة التي يُقيمها في أنفس المسوفين العصاة الذين يقولون: العام القادم، العام القادم، وما يدريهم ماذا سيحصل في العام القادم!(115/4)
سفر طلب ومعصية
وقد يكون سفر طلب، ولكن طلب معصية كالسفر في طلب الزنا والخمور والرقص ومشاهدة المحرمات، والسفر في طلب الربا، والسفر في تتبع أولياء الله وهو من أعظم المحرمات.(115/5)
سفر هرب وطاعة
وقد يكون سفر هرب وطاعة كمن يهرب من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، ويهاجر إلى بلاد المسلمين، أو أن يهرب من الأذى، أو ممن يريد قتله، أو غصب أمواله، أو إيذاء أهله، وفي هذا العصر والزمان من غربة الإسلام خرج كثير من المسلمين من بلادهم، أو أُخرجوا من بلادهم لأنهم قالوا: ربنا الله، وفي الأرض جماعات متناثرة من المسلمين من أهل السنة أُخرجوا من ديارهم لأنهم أهل السنة، أخرجهم الكفرة، وأهل البدعة والضلالة، وأهل الإلحاد والزيغ، ولا تزال تطّلع على أخبارهم بين فترة وأخرى، وبين حين وآخر من الزمن تسمع أنباء إخوانك الذين أُخرجوا ظلماً وعدواناً من أراضيهم وبلادهم لا يلوون على شيء إلا الفِرار بأنفسهم، وسلامة أهليهم، ليس معهم إلا حقيبة يدوية.
والعتب على متبلدي الإحساس من المسلمين الذين لم يشعروا حتى هذه اللحظة أن لهم إخواناً من اللاجئين، ومن المهَجّرين، ومن الذين أُخرجوا من ديارهم ظلماً وعدواناً، ليت هؤلاء من متبلدي الإحساس بدلاً أن يسافروا إلى بلاد الكفار ليتمرغوا في أوحال المعاصي، يسافروا إلى بعض المناطق المنكوبة من أراضي إخوانهم المسلمين حتى يشهدوها.
وكذلك فإن السفر إلى المساجد الثلاثة للصلاة فيها وعبادة الله من أعظم القربات، وينبغي أن يكون في نفس المسلم في هذا الزمن حنينٌ إلى بيت المقدس المسجد الثالث من هذه المساجد الثلاثة، الذي منع اليهودُ المسلمينَ من خارج ذلك المكان الصلاة فيه إلا بصعوبة بالغة.(115/6)
السفر لزيارة الإخوان في الله
والسفر لمجرد زيارة أخ في الله من أعظم القُربات عند الله، وقد ورد بذلك أحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(115/7)
السفر لطلب الرزق
ومن سفر الطلب الدنيوي المباح: السفر لطلب الرزق، وستر الأهل والنفس عن ذل الحاجة والسؤال، وكثير من المسلمين الذين قدموا إلى هذه البلاد وغيرها للعمل فيها، إن أخلصوا النية في إتيانهم لأجل ستر أنفسهم وأهليهم؛ فإنهم إن شاء الله مأجورون على هذا العمل، ومن خرج من بلده يسعى على صبية صغار له؛ فهو في سبيل الله حتى يرجع، ولكن العتب على من خرج ليجمع الأموال ويُفاخر فيها ثم يعود ليفجر بها في بلده.
هناك الكثيرون -أيها الإخوة- يقترون على أنفسهم فترة من الزمن، ليجمعوا الأموال فإذا ما جمعوا عاثوا في الأرض فساداً.(115/8)
السفر لطلب العلم
والسفر لطلب العلم من أعظم القربات: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122].
الناس الآن يذهبون إلى الخارج ليتحللوا من الدين، والأصل: ((لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)) وهم يذهبون إلى الخارج لكي ينسوا الدين، والأصل: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] فصار طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، والمقصود في الآية طبعاً علم الشريعة، وعلم الدين الذي يحتاج إليه المسلمون.
أيها الإخوة: المسلمون اليوم يحتاجون اليوم إلى علماء في الشريعة أكثر من حاجتهم إلى الأطباء والمهندسين والله، ولكن من يفقه هذا؟ ولسنا نغض من قدر تحصيل العلم الدنيوي لرفع شأن المسلمين، ولكن علم الشريعة يحتاج إليه المسلمون في هذه الأوقات التي عم فيها الجهل حاجةً عظيمة (من خرج من بيته في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع) حديث صحيح.
وقد رحل الصحابة والسلف في طلب الحديث الواحد أياماً وشهوراً، ورحل جابر رضي الله عنه شهراً كاملاً في طلب حديث، وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: إن كنت لأرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد.
وخرج الحميدي رحمه الله، وهو من أجلة المحدثين يريد أن يلقى شيخاً في مكان على ثلاثة أميال من مكة، فلما خرج إليه وسافر ذلك السفر لقي في الطريق رجلاً، فقال له: أين تريد؟ قال: أردنا أبا العباس من الرواة.
قال: يرحم الله أبا العباس مات أمس، فقال الحميدي: هذه حسرة، ثم قال: أنا أسمعه منك هذا الحديث.(115/9)
شد الرحال لزيارة القبور والمشاهد والأضرحة
ومن السفر المذموم: السفر وشد الرحال لزيارة القبور والمشاهد والأضرحة، وكثير من المسلمين الذين يظنون بجهلهم أن الشرك قد انتهى، وأن عبادة الأضرحة قد انتهت، وأن عبادة القبور كانت من زمان؛ على أولئك الذين يسمعون الأنباء الآن في عبادة الأضرحة والقبور أن يعلموا أن هذا الشرك لم ينته بعد، وأن الجهاد في سبيل إزالته من أعظم أنواع الجهاد.
إذا كان قد حج إلى قبر البدوي في الستينيات ثلاثة مليون إنسان في سنة واحدة وهم أكثر من الذين حجوا إلى البيت العتيق في تلك السنة.
أيها الإخوة: الأمر خطير، من الناس من يعبد من دون الله أشخاصاً وأوثاناً وأحجاراً وقبوراً وأضرحة، ويزعمون أن العلم والتكنولوجيا قد قضت على الشرك والخرافة.
التكنولوجيا والعلم لا تقضي على الشرك والخرافة، الذي يقضي على الشرك والخرافة هو التوحيد والعلم الشرعي، أليس هناك كبار الدكاترة في جامعات العالم لا زالوا يعبدون أصناماً وأحجاراً وقبوراً، ويأتي الدكتور الكبير بشهادته العلمية الكبيرة إلى القبر ليعبده من دون الله؟! إذن ليست التكنولوجيا هي التي تقضي على الشرك، وإنما تعلم التوحيد ونشر السنة بين الناس هو الذي يقضي على الشرك.
صحيح أن العلم الدنيوي قد يقضي على بعض الخرافات، مثل بعض الاكتشافات الطبية؛ لكن الاكتشافات الطبية والتقدم العلمي الدنيوي لا يقضي على الشرك ولا ينشر التوحيد؛ وهو وإن قضى على بعض الخرافات فإنه لا ينشر السنة، نحن نحتاج إلى رجال يقومون بين الناس لنشر العلم، لنشر السنة، لتجريد التوحيد مما علق به من الشركيات.
وإنني أتعجب من أولئك الذين يأخذون بأيدي أطفالهم في السفريات ليروهم المقابر التي أقامها الأولون، والأبنية التي أقامها الأولون، والأضرحة التي أقامها الأولون على قبور ملوكهم وعظمائهم، ويدخلون بأطفالهم إلى المتاحف لكي يرى الأطفال الأصنام التي كانت تُعبد من دون الله، ثم يُزعم بأن هذه الأصنام تُحف ينبغي أن تُقام ويقام لها أماكن مخصصة لحفظها والعناية بها، وتُوضع بهالة من التقدير والحفظ والرعاية على أنها من مخلفات الأقوام السابقة.
وهذه موروثات حضارية عن حضارات سابقة، تُكرم وتوضع في متاحف؛ هذه أصنام كانت تعبد من دون الله توضع في المتاحف، لأي شيء؟! ويؤخذ أطفالنا ويدار بهم في المتاحف ليُرى ما كان يعبد الرومان، وما هي مقابر الفراعنة وغير ذلك، وهذا شرك.
أليست هذه وثنية؟!! إذاًَ لماذا نريها أولادنا؟ فضلاً عمن يدخل من المسلمين إلى كنائس النصارى ومعابد الكفرة يزعمون أنهم يتفرجون على الدنيا.(115/10)
السفر إلى بلاد الكفار لغير ضرورة
لقد بينّا بعض أنواع السفر المحرمة ومنها السفر إلى بلاد الكفار لغير ضرورة، يقيم في بلاد الكفار، وسط الكفار، ينسى دينه، ويتعلم تقاليدهم، ويتشبه بهم، ويُنفق الأموال التي ينبغي أن تبقى في بلاد المسلمين في بلاد الكفار؛ لتعين الكفار، وتدعم اقتصاد الكفار وبلدان المسلمين في أشد الحاجة إليها.
أليست هذه الأموال التي ينفقونها في سياحاتهم -كما يزعمون- سيسألون عنها يوم القيامة؟! (وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه).(115/11)
أحكام سفر المعصية
وسفر المعصية له أحكام في الشريعة، وكثير من العلماء يرون أن المسافر في سفر المعصية لا يجوز له أن يترخص؛ لا يقصر الصلاة، ولا يجمعها، ولا يُفطر في السفر، ولا يمسح على الجوربين ثلاثة ليالي وأيام؛ لأنه خرج في معصية الله فكيف يترخص برخصة الله.(115/12)
رد المظالم وقضاء الديون
على المسافر أن يبدأ إذا احتاج إلى السفر برد المظالم، وقضاء الديون؛ نسمع بأناس عليهم ديون متراكمة لكن مع ذلك يسافرون، وينفقون الأموال التي من المفترض أن يسددوا بها ديونهم، والدين غلٌ في عنق صاحبه، والرسول صلى الله عليه وسلم رفض أن يُصلي على الجنازة التي على صاحبها دين، وهؤلاء يبعثرون الأموال.
خرج ابن المبارك رحمه الله إلى ثغر من ثغور المسلمين للجهاد، وكان إذا وصل إلى تلك البلدة القريبة من الثغر يأتي إليه شاب من شباب المسلمين، ويقوم بحوائج ابن المبارك يخدمه ويسمع منه الحديث، فقدم عبد الله بن المبارك مرة إلى تلك المدينة، فجاء النفير بالجهاد فخرج مستعجلاً؛ ولكنه لم ير صاحبه الشاب الذي كان يأتي في العادة ليخدمه، فلما رجع سأل عنه، فقالوا: إنه محبوس على عشرة آلاف درهم من الدين، فاستدل على الغريم، وسأل: من هو صاحب الدين؟ وأعطاه عشرة آلاف، وحلفه ألا يخبر أحداً طيلة حياته؛ فأُخرج الرجل المدين من السجن، وذهب ابن المبارك وسافر، فلحقه الفتى على مرحلتين من الرقة فقال ابن المبارك: يا فتى أين كنت؟ ما رأيتك.
فقال: يا أبا عبد الرحمن كنت محبوساً بدين.
قال: وكيف خلصت؟ قال: جاء رجل فقضى ديني ولم أدر.
هذا عبد الله بن المبارك يتظاهر أنه لا يعرف عن الأمر شيئاً، قال عبد الله للفتى: فاحمد الله، ولم يعلم الرجل إلا بعد موت عبد الله، لكي تنقطع كل شوائب الرياء من الموضوع.(115/13)
حسن اختيار الصحبة الصالحة
وعلى أولئك الذين يُسافرون أن يختاروا الصحبة الصالحة، بدلاً من أن يختاروا الصحبة التي تعينهم على المنكر وعلى إتيان أماكن الفساد، وبعض الناس يذهبون معهم بخبراء في الفساد وأنواعه وأماكن الفساد؛ مرشد سياحي لكي يذهب بهم إلى الحانات والخمارات والمراقص وأماكن الدعارة؛ هذه وظيفة المرشد السياحي.
عن مبارك بن سعيد قال: أردت سفراً، فقال لي الأعمش رحمه الله: سل ربك أن يرزقك صحابة صالحين؛ فإن مجاهد حدثني فقال: [خرجت من واسط فسألت ربي أن يرزقني صحابةً -صحبة في الطريق لكي لا أكون وحدي- ولم أشترط -ما قلت في الدعاء صحابة صالحين- فاستويت أنا وهم في السفينة فإذا هم أصحاب طنابير -أصحاب معازف وآلات موسيقية-].
والصاحب يعين على الطاعة، ويعين صاحبه حتى على أمور الدنيا ومشاق السفر ومصاعبه، قال محمد بن مناذر: كنت أمشي مع الخليل بن أحمد فانقطع شسعي -أي: صار النعل لا يصلح للسير- فخلع نعليه هو أيضاً فقلت: ما تصنع؟ قال: أواسيك في الحفاء.
أي: لماذا تمشي لوحدك حافياً؟ أنا أخلع نعلي وأمشي معك أيضاً حتى أواسيك في الحفاء.(115/14)
السياحة في الإسلام وفي الواقع
والسياحة من المفاهيم التي صارت منحرفة في هذا العصر، فمعنى السياحة: أي: الذهاب لتضييع الأموال وارتكاب المحرمات؛ هذا في الغالب.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله) هذه سياحة.
والناس الآن يسافرون لإضاعة وقتهم هدراً، والرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يسافر للفرجة، وقت المسلم ثمين، لكن إذا خرج في عمرة، أو في حج، أو في جهاد، أو في سفر إلى الخارج لعلة شرعية كالدعوة إلى الله، أو إلقاء المحاضرات الإسلامية، أو كان تاجراً من تجار المسلمين يذهب لدعم إخوانه في أماكن أخرى من العالم، ووجد في الطريق آيات الله في الأرض؛ فإنه يتفكر فيها: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ} [الرعد:4].
لكن أن يخرج أساساً للفرجة؛ فهذا يقول ابن القيم رحمه الله في شأنه: أما الذين يسافرون لمجرد الفرجة فهم كالبهائم الهائمة في الصحاري؛ تذهب تتفرج لا هدف لها.
أيها الإخوة: بعضكم يستغرب هذا الكلام، أنا لا أقول إنه حرام، ولكن أقول فيه هدر للوقت؛ تذهب شهراً أو شهرين لمجرد الفرجة، لمجرد الاستمتاع هكذا بدون هدف، لماذا لا تضع في حسبانك مثلاً: زيارة قريب في ذلك المكان؟ طلب علم في ذلك المكان؟ دعم مسلمين في ذلك المكان؟! لا بأس أن يغير الإنسان الجو، ولكن لا بد أن يكون معتمداً وعازماً في ذلك السفر على أن يقوم بطاعات، أما مجرد الفرجة وخصوصاً الذين يذهبون إلى أماكن للتفرج يضيعون كثيراً من شعائر الدين؛ وهم يعلمون هذا تماماً.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم لأن نحُل حلاله ونحرم حرامه، وأن يرزقنا متابعة نبيه صلى الله عليه وسلم وظاهراً وباطناً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(115/15)
واقع السفر إلى بلاد الكفر
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الكريم، الذي سافر أسفار التقوى، وجاهد في الله حق جهاده فصلوات الله وسلامه عليه وعلى أصحابه والتابعين.
أيها الإخوة: الذهاب للنزهة في بلاد المسلمين إذا لم يُعرض الإنسان نفسه فيه لشيء من المحرمات، فهو إن شاء الله سفر مباح، حتى ولو كان لتغيير الجو ما لم يتعرض للمحرمات، ولكن السفر للفرجة في بلاد الكفار ما الخير الذي يُرجى من ورائه؟ وينبغي أن نكون في أسفارنا ممن يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويسارعون لمنع المنكر وعدم وقوعه أو تخفيفه على الأقل ونصح فاعله.
نُعلّم الناس الذين نذهب إليهم، قد تدخل مسجداً من المساجد، أو تلقى رجلاً من الناس، قد تركب معه في الطائرة، لماذا لا تدعوه إلى الله؟ بعض الناس يسافرون إلى أماكن بعضها في بلاد المسلمين لكن فيها بدع، يقول أحدهم: دخلنا مسجداً من مساجد المسلمين فوجدنا الإمام في المسجد في ذلك المكان بعد أن انتهت الصلاة أتى بالكتاب ليُحدث عليهم، ثم أدخلت طفايات السجائر فوزعت على المصلين وعلى الإمام، ثم جلسوا يدخنون، ثم بعد ذلك شرعوا في التحديث.
هناك بدع وضلالات كثيرة جداً منتشرة في أقطار العالم الإسلامي، أفلا يكون من الواجب على أهل التوحيد، وعلى الناس الذين لديهم علم بحسب قدرتهم واستطاعتهم أن ينبهوا الغافل، ويعلموا الجاهل، وينصحوا المبتدع، وكثيراً من أولئك يظنون أن بعض ما يعملونه من البدع قربة إلى الله، أليس من بعضكم الجالسين في هذا المسجد من سيرجع في هذه العطلة إلى أهله لأنه مقيم هنا في منطقة عمل، أليس لأهله حق في صلة الرحم؟! أليس لأهله المقيمين في ديارهم الأصلية حق في التعليم والنصيحة؟!! بعض المقيمين في خارج البلاد في جهل كبير، والرجل هنا في هذا البلد يكون قد تعلم أشياء كثيرة من الدين، أليس من حق أولئك أن ينقل إليهم هذا العلم؟ وأن ينبهوا على تلك الأخطاء؟ أنتم تعلمون أن كثيراً من الأهالي في بلاد أخرى قد استفادوا من بعض أقربائهم المقيمين في هذه البلاد، الذين رجعوا إليهم بالكتب الطيبة، والأشرطة الطيبة، والعلم الطيب الذي نشروه فيما بينهم، أليس من المفروض أن نكون دعاة إلى الله أينما حللنا وارتحلنا؟!!(115/16)
تضييع الأهل والمال
بعض الناس -أيها الإخوة- يجمعون ما أمامهم وما وراءهم ليسافروا به، ويرجع بعد السفر (على الحديدة) إن لم يرجع مديوناً، لماذا يفعلون هذا؟! وبعض العوائل يواعد بعضهم بعضاً في الخارج؛ في أماكن المحرمات، وبلاد الكفار، وبلاد الفتنة، يذهبون إلى هناك، ويذهب الرجال من طريق والنساء من طريق آخر، والذي يُقر الخبث في نفسه؛ فإنه لا بد أن يحدث في أهله.
إذا كان السفر سيضيع الأولاد، فلماذا نسافر؟ بعض الرجال يسافرون ويتركون بيوتهم هملاًَ لا راعي لها، وليس هناك من يقوم بشئون أهليهم، تقول الزوجة: زوجي يسافر سفراً طيباً، سفر طاعة إن شاء الله، لكنه يتركني في البيت لوحدي، أخاف أي صوت في الليل، وأنا أسمع عن كثرة السرقات المتعددة، أحياناً لا يكون عندي ماء للشرب، وقد يمرض طفلي الصغير فأضطر في الليل أن أذهب مع سيارة الأجرة لوحدي بهذا الطفل إلى المستشفى؛ لأنه ليس عندي من يأخذه إلى المستشفى.
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كفى بالمرء إثماً أن يُضيع من يقوت) كفى بالمرء إثماً أن يضيع عياله وأهله.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله عن سفر صاحب العيال: إن كان السفر يُضر بعياله لم يسافر، وسواءً كان تضررهم لقلة النفقة، أو لضعفهم، فسفر مثل هذا حرام، وإن كانوا لا يتضررون مادياً بل يتألمون وتنقص أحوالهم؛ الولد ليس عنده أب في البيت يعطف عليه، والزوجة ليس عندها أنيس، فإن لم يكن في السفر فائدة جسيمة تربو على ثواب مقامه عندهم؛ لأن جلوسه عندهم فيه ثواب، كعلم يخاف فواته، أو شيخ يتعين الاجتماع به، وإلا فمقامه عندهم أفضل.(115/17)
أسباب دنيوية لقلة السفر إلى الخارج
قد يقول قائل: لقد قلّت أسفارهم إلى الخارج.
صحيح الناس قلت أسفارهم إلى الخارج، لكن عندما تأتيك الأسباب بعد ذلك تجد الأحوال المادية ليست كما كانت سابقاً، جرائم الاختطاف والسرقات كثيرة أرعبت البعض فهم لا يسافرون.
إذن لماذا لم يسافروا؟ لماذا تركوا السفر إلى الخارج؟ لم يتركوه لله، وهذا هو لب الموضوع، لم يتركوه لله ولا لأنه يضر بالدين، ولا لأنه يضر بالعرض، ولا لأنه يفتن ويغري ويغوي، ومضيعة للأموال التي سوف يسأل عنها العبد يوم القيامة، لكن لأنها تضر به دنيوياً.
هل تظن أن امتناع هؤلاء بالسفر إلى الخارج مما يثابون عليه؟ ثم إن الذي يريد الفساد سيحصل عليه؛ فلذلك ترى بعض الناس الذين لم يستطيعوا الذهاب إلى بلدان أوروبا للفساد؛ صاروا يذهبون إلى بلدان شرق آسيا لأن نفقات الحرام أقل، والذين لم يذهبوا إلى تلك البلاد يذهبون مما هو قريب منهم جداً من البلدان التي تنتشر فيها مواخير الفساد؛ ليقضوا وطرهم المحرم هناك، فالذي يريد الفساد لا يمنعه شيء، وسيفعله وهو في بلده.(115/18)
واقع الحجاب الشرعي في الخارج
ما معنى: قيام بعض الناس بمنع بناتهم وزوجاتهم من ارتداء الحجاب الشرعي في الخارج؟ تقول: زوجي يمنعني من ارتداء الحجاب، وستر وجهي في الخارج، ويقول: تريدين من الأجانب أن يضحكوا علينا.
أيها الإخوة: من الذي تسبب أن الأجانب يضحكون عليه؟ أليس هو الذي ذهب إليهم طائعاً مختاراً حراً؟ أم أن أحداً أجبره وقيده ووثقه ورماه في بلاد الكفار؟ يذهب إلى هناك يقول لزوجته: لا نريد الناس يضحكوا علينا، اكشفي الوجه وإلا نزعته منك بالقوة.
وهكذا يفعلون! والمشكلة أن بعض النساء تضطر إلى السفر مع زوجها، وبناته يضطررن لذلك، تقول الزوجة: أنا لا أضمن زوجي ماذا يفعل في الخارج، على الأقل أرافقه، ثم هو بعد ذلك يجلب الأذى على نفسه وعليها.
لماذا؟ ولد صغير يقول: راتب أبي ينتهي أول عشرة أيام من الشهر؛ لأنه يسافر السفرات المحرمة، وفي النهاية ليس عندنا مصروف البيت، لا نجد الطعام الكافي، يقول هذا الطفل ببراءة الأطفال: كم مرة قلت لأبي: اشترِ لي ألعاب، ويعدني، ثم لا يشتري لي ألعاب، يقول: ليس عندي مال.
ويقول الطفل حزيناً: لماذا ليس عندي ألعاب كبقية الأطفال؟ لأن هذا الأب المجرم يُنفق أمواله في السفرات المحرمة، وأنتم تعلمون وبعضكم يعلم أكثر مني عن بعض العوائل وبعض الحالات التي تُوجد فيها مثل هذه النكبات، أطفالنا في محنة من جرائم الآباء في الأسفار المحرمة.
وإنني أظن -أيها الإخوة- أن بعض المسلمين أو المنتسبين إلى الإسلام يعملون في أهليهم من المنكرات ما لا يعمله اليهود في أهليهم، بل إنني أجزم بهذا من بعض الأحداث التي نسمعها، واحدة من الفتيات المراهقات في مقتبل عمرها تقول: أبي يذهب بنا إلى الخارج ويجبرنا على نزع الحجاب، ثم يدخل بنا في بلاد الكفار إلى المراقص والملاهي الليلية، ويسلمني إلى أي شاب يريد أن يرقص معي، ويدفعني إلى هذا، ولا يبالي أن يذهب بي ذلك الشاب أينما شاء، ويدفعني دفعاً، ويتفرج عليَّ مكتوف اليدين وهو مبسوط من الحضارة والمستوى الراقي الذي وصلت إليه ابنته؛ لأنها تراقص الفتيان الكفار على أنغام الموسيقى الصاخبة.
هل تتصورون أن يهودياً قد يفعل في أهله مثل هذا؟!! أولئك الفجرة.
لكن واحداً عنده بنت مستقيمة يذهب بها ليعمل بها هذا العمل.
ماذا نقول أيها الإخوة؟! وبماذا نشتكي؟! وكيف نعلل الأمور؟! ثم نقول بعد ذلك: نعاني من كثرة المشاكل، إن لم يكن منكم جميعاً وقفة صادقة مع أنفسكم، ومع أهليكم، ومع أقربائكم، ومع جيرانكم، ومع أصدقائكم، فلن يتغير شيء في الموضوع.(115/19)
الطفل الإسلامي والطفل الغربي [1]
لقد اعتنت الشريعة الإسلامية بالطفل أيما اعتناء؛ فكرمته وأعطته حقوقاً قبل مئات الأعوام عجز الغرب بمنظماته عن الإتيان بها.
ولأجل ذلك جاءت هذه المادة مبينة لجزء كبير من حقوقه، بدءاً من حقوقه قبل الزواج ثم مروراً بحقوقه في طور الحمل والولادة، وانتهاءً بذكر حقوقه حال حياته ذكراً كان أو أنثى، ولا سيما في مسألة النسب والتربية الدينية.(116/1)
تكريم الشريعة الإسلامية للطفل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: لقد جاءت هذه الشرعية بكل ما يصلح حالنا وما يصلح لنا، وما تركت جزئيةً إلا وأتت فيها بحكم وتوجيه، لقد جاءت هذه الشريعة لإسعاد المجتمع، والأطفال من ضمن المجتمع، وشريحة من شرائحه، أولادنا وأطفالنا لقد اهتمت الشرعية بهم غاية الاهتمام، وانصبت الأحكام والآداب والتوجيهات الشرعية للاهتمام بحال الأولاد والأطفال، ونحن في زمن مع الأسف غابت فيه شمس الشريعة، واندثر فيه العلم وانتشر الجهل، وفشا التقليد الأعمى للغرب، إلا من رحم الله تعالى من خلقه، فصار كثير من الناس يعجبون بالغربيين، ويتكلمون عن طريقتهم في الاهتمام بالأطفال، وعما فعلوه لإسعاد الأولاد، ونسوا ما في شرعيتنا مما جاء بهذا الخصوص.
فتعالوا بنا نعقد المقارنة، ونبين ما في الشريعة مما يتعلق بالأطفال والأولاد، وما عليه الغربيون في هذا المجال، ونبدأ بالشريعة ولابد.(116/2)
اختيار الزوجة الصالحة
إن رحلة الطفل في الإسلام تبدأ من قبل وجوده، تبدأ من حين البحث عن أم وزوجة صالحة، قال صلى الله عليه وسلم: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) وعن أم ودود ولود، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم: (تزوجوا الودود الولود).
ويدعو الإنسان قبل وجود الطفل بقوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38] كما كان نبي الله يدعو.
وعند إتيان الزوجة يلاحظ أن الطفل يمكن أن ينتج من الجماع، فهو يقول قبل الوقوع على زوجته: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا.
فإذا وجد الولد، وتخلق في بطن أمه، فلا يجوز إسقاطه ولا قتله، وإذا ولد فهو أشد وأعظم، قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31].
فإذا ولد فلا يجوز قتله بحالٍ أبداً، وإذا خاف العيلة والفقر فالله يرزقه، ولما كان يقتله خشية الفقر قدم ذكر رزق الولد أولاً على رزق الأب، فقال: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31] وفي سورة الأنعام قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31] أي: من الفقر الواقع، فقدم رزق الآباء هنا أولاً، فقال: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151] وقال الله تعالى: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} [الإسراء:31] أي: ذنباً عظيماً من أكبر الكبائر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك) رواه مسلم.(116/3)
تحريم وأد البنات
ولما كان يلحق البعض من العار بالبنات، وكان وأد البنات سنة جاهلية جاءت الشريعة بالتأكيد على تحريمه، وهو من الكبائر قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير:8] سؤال توبيخ لمن وأدها {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:9] لا يوجد في الإسلام شيء: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58 - 59].
كانت المرأة عند الولادة تأتي إلى الحفرة ومعها القابلة، فإن كانت أنثى استخرجتها فرمت بها في الحفرة مباشرة، وأهيل عليها التراب، وإن كان ذكراً نجا.
ولما كانت البنات فيهن ضعف، وهنَّ عالة على الأب، ولسن مثل الذكور في القوة والإعانة؛ عوضت الشريعة أبا البنات بأجر عظيم، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان له ثلاث بنات، فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جدَتهِ -من ماله وغناه- كنَّ له حجاباً من النار يوم القيامة) حديث صحيح.
ولما شقَّت امرأة فقيرة تمرة تصدقت عائشة بها عليها فأطعمتها ابنتيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أوجب لها بها الجنة، أو أعتقها بها من النار) رواه مسلم.(116/4)
حقوق الطفل في الإسلام(116/5)
حق الطفل جنيناً
لماذا جاءت الشريعة بالسماح بالإفطار للحبلى والمرضع؟ لماذا أجازت الإفطار وجعلت الحبلى والمرضع من أهل الأعذار؟ إن ذلك من أجل مصلحة الولد الجنين الذي في البطن، والولد الذي يرتضع، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجني أم على ولد) فلا يجوز أن تتعاطى شيئاً يضعفه أو يشوهه، وينبغي أن تتقوى الحامل لتغذيته في بطنها، وهذا من مسئوليتها.
وتأمل حفظ الشريعة للجنين! تأمل حقوق الجنين في الشريعة بتأجيل إقامة الحد على المرأة الحامل من الزنى حتى تضع حملها.
ولما جاءت المرأة الغامدية فاعترفت عند النبي صلى الله عليه وسلم: (يا نبي الله! أصبت حداً فأقمه عليَّ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليها، فقال: أحسن إليها، فإذا وضعت فائتني بها، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: ها قد ولدته، قال: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز) الحديث.
وفي رواية: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قد وضعت الغامدية، فقال: إذن لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه، فقام رجلٌ من الأنصار وقال: إليَّ رضاعه يا نبي الله! قال: فرجمها) قال العلماء: ولو كان حدها الجلد وهي حامل، لم تجلد بالإجماع حتى تضع.
ومن تعدى على الجنين في بطن أمه فأسقطه، فالحديث في ديته واضح، كما رواه البخاري في المرأتين من هذيل التين اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فأصابت بطنها وهي حامل، فقتلت ولدها الذي في بطنها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم (فقضى أن دية ما في بطنها غرة عبد أو أمة، فقال ولي المرأة التي غرمت: كيف أغرم يا رسول الله! من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يُطل! -أي: يهدر ولا يضمن- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا من إخوان الكهان) الكهان الذين يسجعون بمثل هذا السجع.
فإذاً: الجنين إذا اعتدي عليه فسقط فله دية (قيمة عبد) تدفع، قال ابن قدامة رحمه الله: الحامل إذا شربت دواءً فألقت الجنين، فعليها الغرة والكفارة، تدفع الغرة أو قيمة العبد إلى ورثة الجنين، والكفارة عليها أيضاً، قال العلماء: إذا ماتت الحامل وفي بطنها جنين -يا عباد الله! انظروا إلى حقوق الجنين في الشريعة، ولو ماتت امرأة حامل والولد حيٌ يتحرك- قد تجاوز ستة أشهر، يشق بطنها طولاً ويخرج الولد، لقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32] ومن تركه عمداً حتى يموت فهو قاتل نفس.
إذاً: يستعمل الأطباء من الوسائل الأسهل لاستخراج ما في بطنها، فإذا كانت امرأة كتابية كافرة، وفيها حمل من زوج مسلم فماتت، فأين تدفن وفي بطنها جنين مسلم؟ تدفن في طرف مقبرة المسلمين، فلا تدفن مع المسلمين؛ لئلا يتأذوا بعذابها، ولا تدفن مع الكفار لئلا يتأذى ولدها المسلم بعذابهم، هذا كلام الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
ومن حفظ الشريعة لحقوق الجنين: أنه إذا مات أبوه مثلاً وهو في بطن أمه لا يدرى ذكر أو أنثى، توأم أو واحد، فإن الورثة يقتسمون بحيث يجعل له النصيب الأوفر ويأخذون هم الأقل احتياطاً، يبنون على أنه أنثى -مثلاً- ويقتسمون، حتى إذا كان ذكراً يكون ماله محفوظاً، الاحتياط من أجل الجنين.
وأما السِقْطُ فإن له أحكاماً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والسقط يصلَّى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة) رواه أبو داود، وهو حديث صحيح الإسناد.
قال العلماء: إذا نفخ فيه الروح يُغسل ويصلَّى عليه احتراماً للسقط، جاءت به الشريعة، فإذا ولد المولود فإنه يجرى له إجراءات كثيرة في الشريعة.
تأملوا تكريم الشريعة للطفل الذي يولد، جاءت بأشياء تدل على أنه قد حدث أمر مهم، وليس مجرد أرحام تدفع، ولا مجرد ولد خرج، وإنما يحتفى به غاية الاحتفاء، ويكرم غاية التكريم، الشريعة تكرم الطفل من مبدأ أمره، فيحنك؛ بأن تلين التمرة حتى تصير مائعة بحيث تبتلع، ويفتح فم المولود وتوضع فيه، ويدعى له بالبركة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم(116/6)
حقه في النسب
ويجب إثبات نسبه لأبيه، فالشريعة تعتني غاية الاعتناء بقضية النسب لما يترتب عليها من الأحكام في المحرمية والميراث والحضانة وأشياء كثيرة تترتب على قضية النسب، فأنساب أولادنا ليست ضائعة في الشريعة، بخلاف أنساب أولادهم من أولاد الزنا وأدعيائه، ومن ينسب إلى غير أبيه بكل سهولة، ومن ينتقل عن أبيه الحقيقي قانونياً في المحكمة لديهم.
أما أولادنا فأنسابهم محفوظة: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5].
ولإثبات النسب جاءت الشريعة بحديث: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) فمن ولد على فراشه فهو ولده، وهذا أقوى شيء في الموضوع لا يلتفت إلى غيره، وإذا أقر بالنسب ألحق به، وإذا قامت البينة على النسب فكذلك، بل يستعمل القافة الذين يعرفون آثار الأقدام، وتخطيطات الأرجل، والملامح والشبه، لإثبات النسب في حالة تعذر معرفته، ويلحق الولد بأبيه، ولو عرَّض بنفيه فإنه يلحق به، ولو خالف لونه لون أبيه، لحديث الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ولد لي غلام أسود -يعرض بنفي الولد ولم يصرح- الحديث، وفيه قال النبي عليه الصلاة والسلام: فلعل ابنك هذا نزعه عرق، فخرج لجد قديم من أجداده).
والانتفاء من الولد الشرعي كفر كما نص عليه الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى كفراً بامرئ ادعى نسباً لا يعرفه، أو جحده وإن دق) رواه أحمد، وهو حديث حسن.
فإذا جحد إنسان ولده الشرعي اتهمته الشريعة بالكفر تغليظاً لهذه الجريمة.
ولو زنت المرأة وهي على فراش زوجها، فالولد ولده لحديث: (الولد للفراش) ما لم ينفه ويتبرأ منه، ولا يجوز له نفيه إلا ببينة وحجة شرعية، فإذا نفى الولد فإنه يلحق بأمه كما جاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين الرجل وامرأته، فانتفى من ولدها، ففرق بينهما، وألحق الولد بالمرأة) رواه البخاري ومسلم.
ولا ينتفي إلا إذا نص على نفيه، كما ذكر ذلك الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فإن لاعن المرأة من غير أن ينفي الولد، فالولد ولده؛ كل ذلك حفظاً لنسب الولد، وحفظاً لحياته في المستقبل، وحفظاً لمكانته في المجتمع.(116/7)
حقه في الرضاع
وحق الولد في الرضاع محفوظ، قال الله عز وجل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة:233] قال بعض أهل العلم: هذا أمر في صورة الخبر (يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ) أي: فليرضعن أولادهن، فيجب عليها خصوصاً إذا لم يقبل غير ثديها، وتأثم لو لم ترضعه في هذه الحالة، ولا يفطم قبل السنتين إلا بالتراضي والتشاور بين الأبوين، لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} [البقرة:233] فلا يحق لأحد الأبوين أن يتفرد بقرار فطم الولد، تصوروا وتأملوا قضية فطم الولد المتعلقة بتغذيته، ليس الأب حراً فيها ولا الأم، لا بد من قرارٍ مشترك مبني على مصلحة الولد {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} [البقرة:233] وربما يحتاجان إلى مشاورة الطبيب، كل هذا احتياطاً لسلامة الطفل، وتغذيته ومصلحته جاءت به الشريعة، أسمى شريعة.(116/8)
حقه في التسمي والتكني
ويسميه أبوه، ويختار له اسماً حسناً، وورد تسميته في اليوم الأول، أو السابع، ويجوز قبل السابع وبينهما وبعد ذلك، وفي الحديث: (كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق ويسمى)، ولا يسمه باسم قبيح، (وقد غير النبي صلى الله عليه وسلم اسم (عاصية) إلى (جميلة) وغيَّر اسم (أصرم) إلى (زرعة)) حديث حسن.
ولإشعار الولد والطفل بالمسئولية وبأنه كبير، ولتزداد ثقته بنفسه، شرعة تكنيته، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا عمير ما فعل النغير) طائر كان الولد يلعب به، وهو أخ صغير لـ أنس بن مالك، وقال: (هذا سنا يا أم خالد) وكانت فتاة صغيرة، تصوروا وتأملوا وتفكروا يا عباد الله! كيف تزرع الشريعة المسئولية في نفس الطفل، وكيف يشعر الطفل بأنه كبير، وكيف يحس بثقله، يا أم خالد! يا أبا عمير! يا أبا فلان، وهم صغار.
ولتكريم الولد تذبح عقيقته، ينفق من أجل ذلك المال، وينهر الدم في يوم سابعه، تذبح ولا يتصدق بثمنها، ومن فائدتها فك المولود من أسر الشيطان، للحديث: (كل غلام مرتهن بعقيقته) فلفك تسلط الشيطان عليه تذبح العقيقة، قال الإمام أحمد رحمه الله فيمن اقترض للعقيقة -استلف واستدان-: رجوت أن يخلف الله عليه، أحيا سنة، شاتان مكافئتان عن الغلام، وتجوز واحدة لحديث (عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً، وعن الجارية -البنت- شاة واحدة لا يمس رأسه بشيء من دمها) وهذه عادة جاهلية قد أبدلتها الشريعة، وجاءت بدهن رأس الولد بالزعفران، وهو ذلك الماء طيب الرائحة، ويحلق رأسه إماطة للأذى عن رأسه، ويتصدق بوزنه ذهباً أو فضة، أو ما يقابلهما من المال.
ويختن الذكر وجوباً؛ وهو قطع الجلدة التي تغطي الحشفة، بحيث تنكشف كلها مراعاة للولد، ولذكر الولد، ولطهارة الولد، ولجماع الولد في المستقبل، حماية من تراكم الإفرازات ما بين الحشفة والجلد، وكذلك الوقاية من آثار البول، ولا بأس بختان المرأة، لحديث: (إذا مس الختان الختان -فهناك ختان في الرجل وختان في المرأة- فقد وجب الغسل) فإذا دعت الحاجة إلى ختانها، كأن تكون القطعة الزائدة كبيرة فتختن لكن بغير استئصال ولا إنهاك، كما جاء في الحديث الذي حسنه بعضهم من طرقه: (إذا خفتي فأشمي ولا تنهكي -أي: لا تستأصلي- لأنه أحظى للبعل في المستقبل) فإذاً: تختن إذا دعت الحاجة رغم أنف المؤتمر العالمي الأول والثاني للمرأة.(116/9)
حقه في الحضانة
فماذا عن حق الحضانة للولد، الولد يحتاج إلى حنان وعطف ورعاية، والشريعة قد كفلت ذلك، حضانته حق حتى يستقل بأمره، يحفظ ويوقى من جميع الأضرار والشرور، وجعلت للأم الحضانة في حال انفصال الزوجين؛ لأنها أعرف بتربيته وأقدر على ذلك، وأصبر وأرأف من الأب، ولذلك جاء ذلك منصوصاً عليه في الشريعة، واجبة على الحاضنة ليس لها الحق في التخلي من هذا الواجب، خاصة إذا لم يوجد له حاضنة أخرى من المحارم.
وليس للكافر على المسلم حضانة، فلا تحضن الكافرة مسلماً؛ لأجل أن الإسلام يعلو ولا يعلى، وبالتالي لا يذهب أولاد المسلمين إلى الكنائس يوم الأحد، ولا تختطفهم أمهاتهم، ويعيشوا في بلاد الكفار فيشبوا نصارى أو يهوداً.
وفي حال السفر ينظر في الأصلح للطفل الإقامة أو النقلة، فإذا أراد الحاضن السفر فينظر في مصلحة الولد، وقد بحث العلماء ذلك وبينوه.
وللحضانة ترتيب وليست فوضى، الأم ثم أمهاتها، ثم الأب ثم أمهاته، ثم الجد ثم أمهاته، ثم الأخت من الأبوين، فالأخت لأب، فالأخت لأم، ثم الخالة، ثم العمة، ثم الأقرب فالأقرب، كل ذلك لأجل رعاية الولد وحضانته، وأن يبقى الولد عند أقرب الناس إليه، يرعاه ويحنو عليه.
أطفالنا ليسوا مشردين، أطفال الإسلام في حفظٍ وحماية ورعاية، وحضانة وكفالة، فإذا تزوجت أمه التي انفصلت عن أبيه -زوجها الأول- واشتغلت بحق الزوج الثاني، انتقلت الحضانة عن الأم، لحديث: (أنت أحق به ما لم تنكحي) فتنتقل إلى أمها، وهكذا.
فإذا صار الولد مميزاً كابن سبع سنين، وعقل واستغنى عن الحضانة يُخيَّر بين أبيه وأمه.
يراعى حاجة الولد النفسية، وميله النفسي ورغبته، ويستشار القاضي، فيحضره في المجلس، ويعقد مجلس القضاء، ويشغل القاضي والناس بالحضور، ويسأله: يقول: من تريد؟ اختر، مراعاة لشعور الولد، هذا ابن سبع سنين يخير بين أبيه وأمه، لحديث أبي هريرة: (أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس عنده، فقالت: يا رسول الله! إن زوجي يريد أن يذهب بابني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استهما عليه، فقال زوجها: من يحاقني في ولدي؟ -أي: من ينازعني فيه- فقال النبي صلى الله عليه وسلم للولد: هذا أبوك وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه، فانطلقت به) حديث صحيح، رواه أبو داود.
وهذا التخيير أو القرعة لا يكونان إلا بما يحصل مصلحة للولد، وكان الذي اختاره الولد أصلح له، فإن كانت الأم أصون من الأب وأغير منه؛ جعل الولد عندها، والعكس كذلك.
ولا اختيار للصبي في الحالة التي يختار فيها الأقل مصلحة أو لا مصلحة له، قال ابن القيم رحمه الله: سمعت شيخنا -أي: ابن تيمية - يقول: تنازع أبوان صبياً عند أحد القضاة فخيره بينهما، فاختار أباه، فقالت أمه للقاضي: سله لأي شيء اختار أباه، فسأله، فقال الولد: أمي تبعثني كل يوم للكتاب -مدرسة تحفيظ القرآن- والفقيه -أي: الذي يحفظني ويعلمني- يضربني، وأبي يتركني ألعب مع الصبيان، فقضى به للأم، وقال: أنت أحق به، هي تذهب به للكتاب، وذاك يضيعه ويتركه يلعب في الشارع مع الصبيان، فالأحق هو الأنفع للولد، فتراعى مصلحة الولد.(116/10)
حق اللقيط واليتيم
وإذا أسلم أحد الأبوين فالولد مع المسلم منهما.
واللقيط إذا وجد ولا يدرى من أبوه، بل وجد ملقى في الشارع أو في مكان ما، فللشريعة فيه أحكام، وللشريعة فيه صيانة، التقاطه فرض على الكفاية، وهو تخليص لآدمي من الهلاك، قال الله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32] {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] ولا إثم أعظم من إثم من أضاع نسمة مولودة، فيجب التقاطه على الكفاية، فلو تركه المسلمون حتى يموت أثموا كلهم، لا ذنب لنفس أن تموت جوعاً أو تأكلها الكلاب، ومن ترك الولد كذلك في برية يموت جوعاً وبرداً أو تأكله الذئاب، فهو قاتل نفس ولا شك.
حدثني بعض الإخوان عن رجل وضع ولداً في أحد الحمامات العامة وذهب، قال: فرآه بعد ذلك بمدة يقول له في المنام: ضيعك الله كما ضيعتني! وكل ما يوجد مع اللقيط من مال، أو كساء، أو سرير، أو غطاء فهو ملكه، وكل مال له ينفق عليه منه، فإن لم يوجد مال فنفقته على بيت مال المسلمين، ونسب الولد محفوظ لأبيه، ولا يجوز التبني في الإسلام: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4] ولذلك لا يجوز لملتقط اللقيط أن ينسبه إلى نفسه، وإنما يجعل له اسماً يسمى به، فيسميه زيداً أو عمراً أو سعيد بن عبد الله بن عبد الرحمن ونحو ذلك.
واليتيم: الولد الصغير الذي فقد أباه دون البلوغ، ماذا جاءت الشرعية بشأنه؟ ما أعظم ما جاءت به: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152] (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى) يقوم بأموره من النفقة والكسوة، والتأديب والتربية، وليست قضية إنفاق وكسوة فقط، وإنما تأديب وتربية للذي يريد أجر كفالة اليتيم: (أدنِ اليتيم وامسح برأسه، وأطعمه من طعامك؛ يلن قلبك وتدرك حاجتك) حديث حسن لغيره.
فإذا تولى أموال اليتامى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء:2] {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] اختلاس، تفويت، إهمال، تضييع، ومن السبع الموبقات أكل مال اليتيم.(116/11)
حق النفقة عليه
من حقوق الأطفال: النفقة عليهم، الشريعة أوجبت على الأب: أن يبدأ بمن يعول، ينفق عليهم حتى يبلغ الذكر، وتتزوج الأنثى (أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله) حديث صحيح رواه مسلم.
قال أبو قلابة: وبدأ بالعيال، وأي رجل أعظم أجراً من رجل ينفق على عياله الصغار؟! يعفهم، أو ينفعهم الله به ويغنيهم (وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت).
نفقة الصغار لا تسقط بالإعسار عند العلماء، ويفرض على الأب القادر أن ينفق على أولاده، وأن يعمل ليكتسب مالاً، ويحبس إذا امتنع، ويرغم على العمل قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] فإن كان عاجزاً فنفقته على بيت المال، لا يوجد شيء في الشريعة (أولاد من غير نفقة) أو (أطفال من غير مصروف) لابد أن يُوجد لهم مصروف ونفقة.
ومن تكريم الشريعة للطفل: أنها شرعت صدقة الفطرة عنه، فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على الصغير والكبير، وتستحب عن الجنين في بطن أمه.
الإسلام يهتم بمشاعر الطفل، العدل بين الأولاد واجب، في الهدايا والألعاب، والعيديات والأعطيات، إلا ما اقتضت المصلحة التفاوت فيه، وما وجد سببه: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم).(116/12)
حقه في التربية
وتربية الولد مسئولية واجبة: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) قال ابن القيم رحمه الله: فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، من جراء ترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كباراً.
عاتب بعض الآباء ولده في العقوق، فقال الولد: يا أبت! إنك عققتني صغيراً، فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً فأضعتك شيخاً، والجزاء من جنس العمل.
النبي عليه الصلاة والسلام كان يغتنم كل فرصة تربوية لأجل الولد، أردف مرة ابن عباس وراءه، قال: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك الحديث) ولما رأى يد عمر بن أبي سلمة تطيش في الصحفة -إناء الطعام- قال: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك).(116/13)
حقه في الملاطفة والملاعبة
من حقوق الأطفال في الإسلام معانقتهم، وشمهم، وتقبيلهم، وملاعبتهم، وممازحتهم (قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: من لا يرحم لا يرحم) رواه البخاري.
وفيه أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: تقبلون الصبيان فما نقبلهم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟) (وكان عليه الصلاة والسلام ينطلق من مسجده إلى العوالي، إلى ظئر إبراهيم مرضعة ولده ليقبله ثم يرجع) والحديث في صحيح مسلم.
وكان يأخذ الحسن بن علي والحسين فيقعدهما على فخذه يلاعبهما ويحملهما.
وحمل أمامة بنت زينب في الصلاة، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها.
ومرة أطال السجود حتى خشي الصحابة شراً، فرفع واحد رأسه، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً والولد على ظهره، فلما انتهت الصلاة سألوه وأخبرهم، قال: (إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله).
حق الولد في اللعب، حتى والنبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة لا يعجله عن حاجته؛ اللعب واللهو البريء، من حق الطفل أن يلعب وأن يلهو، وأن يشبع رغبته في ذلك، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: يا زوينب! يا زوينب! ومج مجة في وجه محمود بن الربيع وهو صغير.(116/14)
حقه في الحفاظ عليه وعدم لعنه وسبه والدعاء عليه
ولا يجوز الدعاء على الولد، ولا لعنه، ولا سبه، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم، وإذا استجنح الليل فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذٍ، فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلوهم) رواه البخاري.
من غياب الشمس إلى اشتداد الليل يحجز الأطفال في البيت؛ لأن للجن انتشاراً وخطفة، الشريعة تحافظ على الأولاد وتحفظهم من الشياطين ومن الجن.
ورقية الصبيان في الحديث الصحيح: (مال صبيكم هذا يبكي؟ فهلا استرقيتم له من العين) الرقي بالقرآن والأدعية المشروعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين.
وكان عليه الصلاة والسلام يشعر الصبيان بأهميتهم، فإذا مر بالصبيان سلم عليهم كما في الحديث الصحيح، لا يقال: ولد، بزر، جاهل، والناس يسمونه جاهل، لكنه كان يسلم عليهم، ومرة شرب وكان عن يمينه غلام، وعن يساره الأشياخ، فقال: (يا غلام! أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ؟ -الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للغلام- فقال: ما كنت لأوثر بفضلي منك أحداً يا رسول الله! فأعطاه إياه) إذا أتي بأول الثمر، دعا بالبركة وأعطاه لأصغر الأولاد عنده.
لُعَبُ عائشة كانت موجودة في البيت، وكان يسألها عليه الصلاة والسلام (لما كشف الستر عن بنات عائشة -اللعب- قال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي، ورأى بينها فرساً لها جناحان من رقاع، فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن؟ قالت: فرس، قال: وما هذا الذي عليها؟ قالت: جناحان، قال: فرس لها جناحان؟! قالت: أما سمعت أن لسليمان خيولاً لها أجنحة، فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه).(116/15)
حقه في العلاج
وعلاج الأطفال واجب على أوليائهم إذا احتاجوا، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العذرة، وعليكم بالقسط) التهاب وقرحة تخرج في حلق الولد، كانوا يدخلون شيئاً ليفقئوها، فنهاهم عليه الصلاة والسلام عن تعذيبهم بالغمز، وقال: (عليكم بالعود الهندي والقسط البحري) وهو شيء يعرفه العطارون، ويمكن سؤالهم عنه، يحك بالماء، ويجعل سعوطاً في أنف الولد، فإذا استنشقه برىء من هذه القرحة بإذن الله.
والصبي المميز يصح أذانه، ويكون إماماً في الصلاة، ويكون صفاً مع رجل آخر (ورفعت امرأة صبياً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم.
ولك أجر).
هذه بعض حقوق الأطفال في الإسلام، هذا بعض ما جاءت به الشريعة في شأن الأطفال، فهل يوجد أسمى من هذا الدين وأعظم من هذه الشريعة؟! فكفانا انخداعاً بالغرب والشرق، ولنعد إلى هذه الشريعة! نسأل الله أن يحفظنا وأهلينا وأولادنا من كل سوء، ونسأله عز وجل أن يرزقنا تربيتهم وحسن القيام بشئونهم؛ إنه سميع مجيب قريب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(116/16)
الاهتمام بالأولاد مسئولية الأبوين
الحمد لله على إحسانه، الحمد لله على شرعه ودينه، الحمد لله الذي أنزل علينا الكتاب ولم يجعله عوجاً، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: أيها المسلمون! إن تربية الأولاد أمانة ومسئولية، لا بد من القيام بها، فانظروا كم ضيع الأمانة اليوم من المسلمين!! كم من أولياء أمور ضيعوا الأمانات!! ضيعوا الأولاد! ضيعوا فلذات أكبادهم! أهملوا! تركوهم في الشوارع يتعلمون الألفاظ القبيحة، والعادات السيئة كالتدخين وغيره، ويتدرجون شيئاً فشيئاً إلى أن يتعاطوا المخدرات، ويقعوا في الفاحشة واللواط، وهكذا تكون النتائج متوقعة، ولا شك أنها نتيجة لهذا التضييع.
وهذا الإهمال الحاصل، فضلاً عن الإهمال في الحقوق الشرعية.
التساهل بالطلاق، وتشتيت الأسرة، مآسٍ تحدث في بعض البيوت، ويحرم الأولاد من حنان الأبوين ومن عطفهما، كل خلاف زوجي، وكل مهاترة ومشاتمة ومضاربة بين الزوجين يكون انعكاسها مباشرة على الولد، فاتقوا الله في أولادكم، وارعوا حقوقهم.
والجزء الثاني من هذا الموضوع: الولد في الغرب، وعقد المقارنة بين الطفل في الإسلام والطفل عند الغربيين، وبما أن الوقت قد ضاق -أيها الإخوة- فلعلنا نرجئ الحديث عن هذا الموضوع إلى الخطبة القادمة، لنتعلم فعلاً.
كيف ضاع الولد، وضاع الأطفال في حياة تلكم الأمم، بعدما تبين لنا بالدليل القاطع والبرهان الساطع كيف حفظت الشريعة أولاد المسلمين.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يهب لنا ذرية طيبة إنه سميع الدعاء، ونسأله عز وجل أن يصلح بيوتنا وأولادنا وذرارينا إنه سميع مجيب قريب، ونسأله عز وجل أن يعيننا على حمل الأمانة.
اللهم أعنا على ما حمَّلتنا، ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به يا رب العالمين، ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وانشر رحمتك علينا، وارزقنا الأمن والأمان في ديارنا وبلداننا وبلدان المسلمين، يا أرحم الراحمين؛ ويا رب العالمين! انشر علينا الأمن والإيمان، واحفظنا بحفظك إنك أنت خير حافظ وأنت أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(116/17)
وبضدها تتبين الأشياء
كيف ضاع الولد، وضاع الأطفال في حياة تلكم الأمم، بعدما تبين لنا بالدليل القاطع والبرهان الساطع كيف حفظت الشريعة أولاد المسلمين.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يهب لنا ذرية طيبة إنه سميع الدعاء، ونسأله عز وجل أن يصلح بيوتنا وأولادنا وذرارينا إنه سميع مجيب قريب، ونسأله عز وجل أن يعيننا على حمل الأمانة.
اللهم أعنا على ما حمَّلتنا، ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به يا رب العالمين، ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وانشر رحمتك علينا، وارزقنا الأمن والأمان في ديارنا وبلداننا وبلدان المسلمين، يا أرحم الراحمين؛ ويا رب العالمين! انشر علينا الأمن والإيمان، واحفظنا بحفظك إنك أنت خير حافظ وأنت أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(116/18)
الطفل الإسلامي والطفل الغربي [2]
الغرب يدعي أنه المهتم الوحيد بالطفل، وأن الطفل الغربي مكرم وله حقوقه، ومع هذا الإدعاء إلا أنه قد ظهرت الحقيقة جلية لتبين كذب دعواهم بتكذيب الواقع لهم في جملة من أخبار أطفال الغرب ختمت بها هذه المادة، والتي بدئت ببيان اهتمام الشريعة الإسلامية بالطفل، وذكر واقع أطفال السلف، وذكر معالم في تربية الطفل المسلم من كلام ابن القيم الذي أكد عليه علماء الغرب في هذا العصر؛ ولذلك جاءت هذه المادة مكملة لمادة قبلها بينت حقوق الطفل في الإسلام.(117/1)
بيان اهتمام الشريعة بالطفل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فقد تحدثنا -أيها الإخوة- في الخطبة الماضية عن حق الطفل في الإسلام، وعما جاءت به الشريعة من الحكم والأحكام بشأنه؛ رفعت من قدره، وجعلت له مكانة وحقوقاً، وذكرنا بأن هذه الشريعة الكاملة لا يعدلها نظام ولا قانون، ولا يصل إلى مستواها تدبير؛ لأنها من تدبير العليم الخبير، الذي خلق النفس ويعلم ما تحتاج إليه وما يصلحها.
ونريد أن نبين أن الطفل في الإسلام حقوقه أعلى من الطفل في الغرب، للذين يتبجحون بأن عندهم للأطفال حقوقاً ليست عند المسلمين، وأن وضع الطفل الغربي أفضل وضع على الإطلاق، لقد قلنا -أيها الإخوة! - وذكرنا بعض الآيات والأحاديث، ومن السنة المطهرة ذكرنا أموراً كثيرة جداً مما جاءت به الشريعة بشأن الطفل، لا يوجد له مثيل مطلقاً في قوانين الغرب والشرق، وقد حملت الشريعة الأبوين مسئولية تربية الولد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] قال علي رضي الله عنه: [علموهم وأدبوهم].
الأبوان عندنا يندفعان لتربية الطفل خوفاً من الله عز وجل، وخشية نار وقودها الناس والحجارة، ولذلك يكون الباعث خشية الله تعالى، إذا فرط الوالد أو الوالدة فإن العذاب والعقاب لهما بالمرصاد يوم الدين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) ففي هذا الحديث ثلاثة آداب أمرهم بها: أولاً: أمر الأولاد بالصلاة، وثانياً: ضربهم عليها، وثالثاً: التفريق بينهم في المضاجع، وما نحل والد ولداً أفضل من أدب حسن، ولأن يؤدب الوالد ولده خيرٌ له من الصدقة بكذا وكذا.
ذلك أن هذه التربية هي خيرٌ دائم، ونبع مستمر، وعطاء متجدد يكون في نفس الولد، ولذلك يكون من حق الولد على أبيه أن يحسن تسميته ويحسن أدبه، قال سفيان الثوري رحمه الله: ينبغي للرجل أن يُكره ولده على طلب الحديث، فإنه مسئول عنه، أي: يحمله على ذلك، ولذلك اهتم السلف جداً بالأطفال، فنبغ أطفال كثير من المسلمين، حفظوا القرآن منذ سن مبكرة، وحفظوا أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحملت لنا أخبار حلق العلم نبأ طفل يبلغ من العمر أربع سنين يجلس في مجلس الحديث يحفظ، غير أنه إذا جاع يبكي.
وحملت الأخبار نبأ النووي رحمه الله وهو ابن عشر سنين، والأطفال يريدونه للعب معهم، وهو يأبى ويبكي ويقرأ القرآن.
وحملت الأخبار نبأ طفولة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الذي كان أطول الأولاد لوحاً، فكتب له الشيخ عشرين حديثاً، ثم قرأها مرة واحدة فسردها عن ظهر قلب، فكتب له عشرين أخرى، فقرأها مرة واحدة، وحفظها عن ظهر قلب، ثم سردها على الشيخ.
وبذلك تفوق ذلك الجيل والأجيال الذي بعده من هذه الأمة في عصر عزها وازدهار أمرها، ولكن لما ضعفت التربية الدينية، والتعليم الشرعي للأولاد في هذا الزمان؛ لم نعد نسمع عن مثل أولئك العلماء الفطاحل، الذين خرجوا يجددون للأمة أمر دينها، وينشرون العلم في الأرض، وذلك بسبب واضح وهو عدم الاهتمام بتعليم الطفل منذ سن مبكرة، فنحن نتركهم للهو وآلاته، ونتركهم للفساد وأجهزته، ولا نحملهم أو نهتم بهم في طلب العلم والتأديب الشرعي منذ نعومة أظفارهم.
عباد الله: أليس من نعيم الدنيا أن يكون للإنسان قرة عين من ذريته، لقد سأل كثير بن زياد الحسن البصري رحمه الله عن قوله تعالى: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74] فقال: يا أبا سعيد! ما هذه القرة أفي الدنيا أم في الآخرة؟ قال: لا.
بل والله في الدنيا، قال: وما هي؟ قال: أن يري الله العبد من زوجته أو من أخيه أو من حميمه طاعة الله، لا والله! ما شيء أحب إلى المرء المسلم من أن يرى ولداً أو والداً، أو حميماً أو أخاً مطيعاً لله عز وجل.
فهذه قرة عين أن ترى ولدك يمشي على الشريعة بحسب ما جاءت به ملتزماً بآدابها، أن ترى ولدك متفقهاً في الدين، هذه من أعظم قرة العين في الدنيا (وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، وامرأة الرجل راعية في بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والرجل راع على أهل بيته) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد راعت الشرعية العدل بين الأولاد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أبنائكم) ولما نحل والد ولده غلاماً -أي: عبداً- وأراد إشهاد النبي صلى الله عليه وسلم بناء على طلب أمه، قال له عليه الصلاة والسلام: (أله أخوة؟ قال: نعم، قال: أكلهم أعطيت ما أعطيته، قال: لا، قال: فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق) رواه مسلم، وفي رواية: (لا تشهدني على جور) وفي رواية: (فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم).
إذاً: العدل بين الأولاد منذ الصغر يكون حاديهم إلى البر بآبائهم، حتى في القبلات كان السلف يعدلون، ولما رئي رجل وقد جاء ولدٌ ذكرٌ له فقبله وأجلسه في حجره، ثم جاءت بنته فأخذها فأجلسها إلى جنبه من غير تقبيل، فقيل له في ذلك المجلس: ما عدلت بينهما.
عباد الله: ربما يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده، ولذلك ينبغي الاهتمام بهم أشد الاهتمام.
عباد الله: لما فشا فينا حب الغرب، وذهب من ذهب إلى بلاد الغرب، وتفتح من تفتح على حضارة الغرب، وصار النظر إلى كتاباتهم وإنتاجاتهم وصناعاتهم؛ غر المغرورين منا ذلك التقدم الظاهري: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] وقالوا: الطفل في مجتمعات الغرب يحيا أجمل سنوات عمره، وهو أرقى طفل في الكون، مستوى معيشة الطفل الغربي يفوق آلاف المرات مستوى معيشة الطفل في البلاد العربية والإسلامية، الغرب يوفر للطفل كل شيء.
هذه العبارات وغيرها إذا جئت بها عند التحقيق، ونظرت إليها تحت المجهر وجدت أن المسألة ليست كذلك، ومن باب الإنصاف والعدل لا بد أن نقول: إنهم قد حققوا تقدماً كبيراً في بعض الجوانب بالنسبة للأطفال، فترى الحرص على الفحص الطبي، وصحة الولد، وبرامج التطعيمات، ومعالجة العيوب الخلقية، وتعهد الأطفال المعاقين، وعلاج الأمراض النفسية من الانطواء والانكماش؛ والخوف والتردد، وعمل برامج لتقوية النبوغ في الأطفال، والاهتمام بمدارس الأطفال أكبر من الاهتمام بالمدارس المتوسطة والثانوية، وحرية إبداء الرأي عند الطفل، والحديث والسؤال، والجلوس مع الكبار، والتشجيع على القراءة، وعلاج عسرها وبطئها، والبرامج التعليمية والتثقيفية، وزيارة المدرسين للأولاد في البيت، لا شك أن ذلك موجود عندهم، وقد تقدموا في ذلك تقدماً عظيماً، والإمكانات متوفرة لديهم بشكل كامل في هذا المجال.
ولكن ما هي ميزتهم علينا في الحق والحقيقة؟ من جهة الاستعداد والإمكان يمكن للمسلم أن يأخذ كل تلك الحكم، والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها يمكننا أن نأخذ كل تلك الإيجابيات ونجعلها عندنا، لأن ذلك أمر متوفر إذا صدقت العزيمة.
أما نظريات تربية الأطفال فإنها قد كثرت، ولعلنا من خلال عرض بعض الأقوال لبعض علماء الإسلام نخرج وإياكم -أيها الإخوة! - بنتيجة واضحة من أن هذه الشريعة وهذا الدين، وعلماء هذا الدين قد بينوا كل ما يحتاج إليه الطفل بحيث لا نحتاج بعدهم إلى أحد، ولن ننقل كلاماً من عالم مسلم معاصر، أو من رجل مسلم في العصر الحديث، حتى لا يقولوا: إنما أخذوا ما أخذوا من الغربيين.(117/2)
معالم في تربية الطفل المسلم
فلنطف وإياكم في جولة سريعة في معالم تربية الطفل المسلم مع رجل من أفذاذ هذه الأمة، وقادتها العلميين الفكريين، لنعلم إلى أي مرحلة كان يوجد عند المسلمين اهتمام بالطفل في كل جانب من الجوانب، لنطف مع ابن القيم رحمه الله، وهو يعقد لنا فصلاً عظيماً بعنوان: (فصول نافعة في تربية الأطفال تحمد عواقبها عند الكبر) ولن يكون الأمر مقتصراً على التربية الدينية والعلمية والشرعية، وإنما سيكون كلامه رحمه الله عاماً شاملاً لجميع النواحي في تربية الطفل، لنعلم أنه يوجد عندنا في شرعنا، وفي كلام علمائنا نظريات تربوية عجيبة واهتمام بالغ.
قال رحمه الله تعالى: ينبغي أن يكون رضاع المولود من أمه، وأن يحرص على ذلك، وإذا أريد إرضاعه من غير أمه فإنه يؤخر حتى يأخذ ذلك اللبِّأ، وتلك المواد المحصنة الموجودة في لبن الأم، وينبغي أن يمنع من حملهم والتطواف بهم حتى يأتي عليهم ثلاثة أشهر فصاعداً، لقرب عهدهم ببطون الأمهات وضعف أبدانهم، وينبغي أن يقتصر بهم على اللبن وحده إلى نبات أسنانهم؛ لضعف معدتهم وقوتهم الهاضمة للطعام، فإذا نبتت أسنانه قويت معدته، وتغذى بالطعام، فإن الله سبحانه أخر إنباتها إلى وقت حاجته إلى الطعام لحكمته ولطفه، ورحمة منه بالأم وحلمة ثدييها، فلا يعضها الولد بأسنانه.
وينبغي تدريجهم في الغذاء، فأول ما يطعمونه من الغذاء اللبن، ثم يطعمونهم الخبز المنقوع في الماء، واللبن والحليب، ثم بعد ذلك الطبيخ والأمراق الخالية من اللحم، ثم بعد ذلك ما لطف جداً من اللحم، بعد إحكام مضغه أو رضه رضاً ناعماً، فإذا قربوا من وقت التكلم، وأريد تسهيل الكلام عليهم، فليدلك ألسنتهم بالعسل، فإذا كان وقت نطقهم فليلقنوا لا إله إلا الله محمداً رسول الله، وليكن أول ما يقرع مسامعهم معرفة الله سبحانه وتوحيده، وأنه عز وجل فوق عرشه ينظر إليهم، ويسمع كلامهم، وهو معهم أينما كانوا.
فإذا حضر وقت نبات الأسنان فينبغي أن تدلك اللثة كل يوم بالزبد والسمن، وأن يحذر عليهم كل الحذر وقت نباتها إلى حين تكاملها وقوتها من الأشياء الصلبة، ويُمنعون منها كل المنع، حتى لا تتعرض الأسنان للفساد والتعويج والخلل.
ولا ينبغي أن يشق على الأبوين بكاء الطفل وصراخه، ولاسيما لشربة اللبن إذا جاع، فإنه ينتفع بذلك البكاء انتفاعاً عظيماً، فهو يوسع أمعاءه، ويفسح صدره، ويحمي مزاجه، ويثير حرارته، ويحرك الطبيعة لدفع ما فيه من الفضول.
وينبغي ألا يهمل أمر قماطه ورباطه ولو شق عليه، إلى أن يصلب بدنه، وتقوى أعضاؤه، ويجلس على الأرض، فحينئذ يمرن ويدرب على الحركة والقيام قليلاً قليلاً.
وينبغي أن يوقى الطفل كل أمر يفزعه من الأصوات الشديدة الشنيعة، والمناظر الفظيعة، والحركات المزعجة، فإن ذلك ربما أدى إلى فساد قوته العاقلة لضعفها، فلا ينتفع بها بعد كبره، فإذا عرض له عارض من أمر مفزع أو مخيف فينبغي المبادرة إلى تلافيه بضده من إيناسه وإنسائه إياه، وأن يلقم الثدي في الحال، ويسارع إلى رضاعه حتى تزول تلك الرهبة وذلك الخوف.
وكذلك ينبغي التلطف في تدبير أمره عند نبات أسنانه، وألا يملأ بطنه بالطعام، وإذا انطلق بطنه خير من أن يمسك، وكذلك فإنه يلين بالعسل المطبوخ، ويعمل منه معجون يطعمه الولد.
وأما وقت الفطام فقال الله عز وجل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233] الآية، فبين أن تمام الرضاع الحولين، وأن الفطام لا بد أن يكون عن تراضٍ وتشاور بين الأبوين، وأنه يجوز للأم أن ترضع بعد الحولين لا بأس بذلك، ولكن يكتمل الرضاع في الحولين، وينبغي للمرضع إذا أرادت فطامه أن تفطمه على التدريج، ولا تفاجئه بالفطام وهلة واحدة بل تعوده إياه.
ومن سوء التدبير للأطفال أن يمكنوا من الامتلاء من الطعام، وكثرة الأكل والشرب، فإن ذلك يؤذيهم، وإن الصبي إذا شبع وامتلأ يكثر نومه ويسترخي، ويعرض له نفخة في بطنه ورياح غليظة.
ومما ينبغي أن يحذر: أن يحمل الطفل على المشي قبل وقته؛ لما يعرض في أرجلهم بسبب ذلك من الانتقال والاعوجاج بسبب ضعفها، وعدم استعدادها للمشي منذ هذه السن المبكرة.
ويجوز وطء الأم عند الرضاع، فإذا حملت فالأفضل أن تترك الرضاع؛ لأنها في حملها لا يكون لبنها مثل الأول في فائدته، وربما كان فيه شيء من الضرر، فأرشدهم الشارع استحباباً وليس إيجاباً إلى ترك إرضاعه في ذلك الوقت.
كل هذه الفوائد الطبية التي ذكرها رحمه الله تعالى مما ينصح به الأطباء في هذا الزمان، قال ذلك قبل مئات السنين مما يدل على أن العناية الطبية كانت موجودة عند علمائنا، وكانت موجودة في المجتمعات الإسلامية، وكانوا يحرصون عليها، ولكن الأهم من ذلك كله الحرص على تأديبه وتربيته.
يقول ابن القيم رحمه الله: فينبغي أن يعوده المربي في صغره على حسن الخلق، وتجنب الغضب واللجاج، والعجلة والخفة، والطيش والحدة والجشع؛ لأنه إذا تعود ذلك صار عادة لا يستطيع الخلاص منها إذا كبر.
وينبغي أن يجنب الصبي مجالس اللهو الباطل والغناء، وسماع الفحش والبدع، ومنطق السوء؛ لأنه إذا علق بسمعه صعب عليه أن يتخلص منه ويفارقه عند الكبر.
وينبغي لوليه أن يجنبه الأخذ من غيره -لا يعود ولده على الأخذ من أيدي الناس- غاية التجنب، فإنه متى اعتاد ذلك صار طبيعة، ونشأ على أن يأخذ ولا يعطي، ويعود البذل والعطاء والإعطاء، فإذا أراد أن يعطي شيئاً أعطاه على يده ليذوق حلاوة الإعطاء، ويجنبه الكذب والخيانة أكثر مما يجنبه السم، ويجنبه الكسل والبطالة والدعة والراحة، بل يحمله على العمل والشغل والجد والتعب، ويجنبه فضول الطعام والكلام والمنام، ومخالطة الأنام؛ لأن ذلك مما يفسد عليه حياته وخلقه.
وكذلك فإنه يجنبه تناول ما يزيل عقله من مسكر وغيره، أو عِشْرة من يخشى فساده أو كلامه له ونحو ذلك من رفقاء السوء، ويجنبه لبس الحرير فإنه مفسد له، ومخالف لطبيعته، كما يخلفه اللواط وشرب الخمر والسرقة والكذب، ولذلك حرم على ذكور هذه الأمة والصبيان داخلون فيهم، فإنه ولو كان غير مكلف فإنه مستعد للتكليف، ولو أنه تعود لبس الذهب والحرير في أول أمره فإن ذلك مما يفسده منذ نعومة أظفاره.
قال: ولهذا لا يُمَكَّن من الصلاة بغير وضوء، ولا من الصلاة عرياناً ونجساًً، ولا من شرب الخمر والقمار واللواط، مع أنه غير مكلف، لكنه لا يمكن من ذلك.
وعند الغربيين شيء هو: مراعاة ميول الأطفال، فماذا يقول ابن القيم رحمه الله؟ يقول: فإذا صار له حسن فهم صحيح، وإدراك جيد، وحفظ واع، فينبغي تهيئته للعلم لينقشه في لوحة قلبه مادام خالياً، فإنه يستقر ويستمر ويزكو، فإذا رآه -أي: رأى ميول الولد- خلاف القراءة والحفظ والمنهج العلمي، والجلوس في الحِلَق، والإقبال على الحفظ -فماذا يفعل؟ -.
فإذا رآه بخلاف ذلك من كل وجه، وهو مستعد للفروسية وأسبابها؛ من الركوب والرمي واللعب بالرمح، مكَّنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها، فإنه أنفع له وللمسلمين، وإن رآه بخلاف ذلك -لا علم ولا فروسية- وأنه لم يخلق لذلك ورأى عينه منفتحة إلى صنعة من الصنائع مستعداً لها قابلاً لها، وهي صناعة مباحة نافعة للناس فليمكنه منها.
هذا كله بعد تعليمه ما يحتاج إليه في دينه، فقضية مراعاة الميول والمواهب ليست خاصة بالغربيين، ولا اكتشفوها هم، فهي موجودة عندنا، والكلام في تحفة المودود المكتوب منذ أكثر من ستمائة سنة.
فإذاً يوجد عندنا، وفي شرعنا، وكلام علمائنا ما نحتاج إليه، ولو فرضنا أن الغربيين عندهم إيجابيات فنحن أولى بها نأخذها منهم، وتبقى لهم الرذائل، نجنب ذلك أولادنا وصبياننا.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من القائمين بالمسئوليات، الحريصين على الأمانات، ونسأله تعالى أن يخفف حسابنا، وأن يسدد خطواتنا، وأن يعيننا على تربية أولادنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(117/3)
وجوب الحذر مما يبثه الغرب إلينا
الحمد لله رب العالمين، العلي الأعلى، الذي خلق فسوى، هو الواحد الأحد، والفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: لقد قدم لنا الغربيون أشياء عجيبة من أجل الأطفال، فقدموا لنا الألعاب المختلفة، فمنها ما هو حلال نجلبه لأولادنا، ومنها ما هو حرام؛ من الألعاب المشتملة على الصلبان، أو الموسيقى، أو الأفكار القمارية الميسرية، مما يدخل في النرج وغيره، وغير ذلك من الألعاب التي تشتمل على محرمات.
وقذفوا إلينا أيضاً بأفلام الكرتون التي تخاطب الأطفال، وتناسب أسنانهم وتجذبهم، وفي بعضها فوائد وتعليم لأشياء نافعة، ولكننا إذا تأملنا -يا عباد الله! - فيما قذفوه إلينا من هذه الأفلام الكرتونية لأولادنا وأطفالنا، وما جلبناه نحن لهم من هذه الأفلام، وعرضناها عليهم، لوجدنا أمراً شنيعاً والله! يندى له الجبين، فترى في بعض الأفلام عملاقين يتصارعان على امرأة، وفي بعض الأفلام تعويد للولد بشكل غير مباشر على الخدع والكمائن والإيقاع بالآخرين، وتجد في بعض هذه الأفلام أيضاً مخالفة في قضايا العقيدة؛ من عرض السحر والساحرة، أو أن يشير إلى شخص ميت بشيء فيقوم حياً، ونحو ذلك، وبعض هذه الأفلام تفسد خيالات أولادنا ولا شك، حتى يتصور الشيء الخيالي موجوداً في الواقع، بل ويطالب به ويبكي إذا لم يُحضر له.
فإذاً: ينبغي الانتباه من هذه السلبيات الموجودة في الأفلام التي عملوها، وبعدما عرضت بعضها مدبلجة باللغة العربية تكتشف في بعضها من الحملات التنصيرية، والدعوة لعقد الصداقات مع الجنس الآخر، والخروج في الرحلات المختلطة، وممارسة الرقص والتقبيل، كل ذلك موجود في أفلام الكرتون التي تعرضها أنت، وتشتريها لهم بالفيديو وغيره، ويرونها هم في القنوات المختلفة، يرونها عياناً بياناً، بل أولادنا -يا جماعة! - ينظرون الآن إلى بعض الأفلام المدبلجة العجيبة تبلغ سبعين حلقة أو مائة حلقة، ما سمعنا عنه يندى له الجبين، مما يسمى بفلم (دالس) أو (رهينة الماضي) الذي يعرض فيه الزنا على أنه شيء عادي وربما لا ترى لقطته، لكن يرى ويسمع عنه في ذات الفيلم ما يجعله عادياً، وأولاد الحرام في الفيلم شيء عادي، كثيرون مبثوثون، وأن القضية طبيعية، وإقامة العلاقة المنفتحة مع الجنس الآخر أمر عادي، والخيانة الزوجية أمر عادي.
وهذه الأفلام تنص على ذلك، وفيها ذلك، وهذا أمر تيقنا من سماعه من أكثر من شخص أنه موجود، ويجلس عندها الأطفال والكبار يتعلمون إقامة العلاقات، وسهولة قضية أولاد الحرام.
يا عباد الله: مما نادى به مؤتمر بكين للمرأة والأسرة: مبدأ الحرية الجنسية للأطفال، فإذاً جَنِّبْ قضية (فرقوا بينهم في المضاجع) وخذ بقضية (الحرية الجنسية للأطفال) هذا ما يريدونه وكل أب والله مسئول عما يرى أولاده في البيت على الشاشة!! وهؤلاء الذين جلبوا الدش ثم أهملوا أمره وفتحوه للكبير والصغير، ولا تصدق أن عليه رقابة في البيت أو إحكاماً من الأبوين، فإن كثيراً من الأولاد يتفرجون وليس الأب والأم موجودين في البيت طيلة الوقت، فكثيراً ما يخرجون في السهرات والمواعيد، وبعد ذلك يرى أطفالنا وأولادنا الصغار والكبار هذه الأشياء.
وأقسم بالله العظيم أن الحساب يوم القيامة عسير غير يسير، وهؤلاء يعرض لهم ما يفسد أخلاقهم منذ نعومة أظفارهم.
لقد جاءني شخص فسألني سؤالاً في الأحلام، قال: مات عندنا ميت، وكان قد ركب دشاً قبل موته بأسبوعين، فرأته أحد نساء العائلة في قبره وهو يُخنق بحديدة، والله، وقلت له: إنني لا أعرف في تفسير الأحلام، ولا أجيد ذلك، ولكن أعرض لكم هذا المنام من قصة واقعية سمعتها بنفسي، ركب دشاً قبل موته بأسبوعين، ثم رئي بعد ذلك يُخنق بحديدة، ولاحظ التطابق بين الدش والحديدة في قبره، فما معنى ذلك؟ الله أعلم به، ولكن أقول لا شك أن القضية عسيرة وخطيرة، والانفلات الحاصل موجود وكثير، ولذلك تجد انتشار الجرائم ووقوع الفواحش موجوداًً عند الأحداث الصغار، من أي مكان يتعلمونه؟(117/4)
نظرات في واقع الطفل الغربي
ثم ماذا يوجد عند الغربيين الذين أعجبنا بهم؟ فتى بريطاني يرفع دعوة على أمه ليتلقى منها وقتاً كافياً، توجه إلى المحكمة، يرفع قضية على أمه؛ لأنها لا تجلس معه وقتاً كافياً، تذهب خارج البيت وتتركه، وأقر القاضي فعلاً أن الحق معه، وألزم الأم بالبقاء مع الطفل، حتى الأساسيات غير موجودة عندهم، فليس هناك حضانة ولا حق في الرضاعة يعطى للطفل، ولا حنان يرتضعه، يترك ويرمى ويهمل.
وصبي آخر في أوريلندا وفي فلوريدا رفع قضية على والديه، بأنه يريد أن يغير أبويه، وأن ينتقل إلى أسرة أخرى، وفعلاً أقر القاضي له بذلك، وغير اسمه إلى اسم العائلة الجديدة، واختار الأسرة الأخرى ليبقى عندهم، وحمل الاسم الجديد، وقال إن أمه مدمنة المروانة، ولها علاقات جنسية شاذة، وأنها تأخذ أجرها في آخر الأسبوع لتشتري الخمر، وأخبر أنها تتعاطى الكحول، وأنها تنسى علبة المروانة في المطبخ، ثم أخبر أنها وضعته في دار للأيتام فترة من الزمن، ثم إنها على علاقة بعشيق لها.
أيها الإخوة! إن الغرب يقرون قضية انتساب الولد إلى غير أبويه، والله يقول: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] ونحن المتغربون منا والبعيدون عن الدين لا تظنوا أننا بعيدون عنهم، ولذلك تسمع الآن عن بعض أفراد العوائل يقولون: أبي تزوج على أمي وتركنا وأهملنا بلا نفقة ولا رعاية ولا تفقد، نحن لا نعرفه منذ سنين، كيف تطالبني الآن ببر أبي وأنا لا أريد التعرف عليه؟! أطفال يحملون الأسلحة في المدارس، وإحصائيات عن قتلى، وخوف ورعب نتيجة لذلك، هذا هو المجتمع الغربي، ثم نقلت لنا قصة مدهشة في الصحف والمجلات عن امرأة ادعت لدى البوليس بأن هناك رجلاً أسود خطف ولديها، ثم ألقى بها خارج السيارة ومضى بالصغيرين، وخيم الحزن على البلدة، وعملت الإعلانات، وتحمس السكان للبحث، وبحثوا في كل مكان ولم يجدوا شيئاً، وبعد ذلك عثر على السيارة غارقة في بحيرة وفيها الولدان، طفلان صغيران!! ثم اعترفت الأم أنها هي التي فعلت ذلك؛ لأن عشيقها يريدها من غير أولاد، والأولاد عبء عليها، فماذا تفعل بهم؟ وبينت الإحصائيات ستمائة واثنين وستين طفلاً لم يتجاوزوا الخامسة سقطوا ضحايا جرائم قتل خلال عام (1992م) ارتكب ثلثيها والدا الضحية أو أحدهما، وكذلك يفعل من يمشي على هذه الخطة الوحشية ممن هم عندنا، فتراه يربط يد الولد بأسلاك ربما تؤدي إلى بتر الأعضاء في المستقبل، ويرجع أب قد استشاط غضباً يركل ابنته (اثنتا عشرة سنة) يضربها بالحذاء بكل قوته، فتتكسر عظام الصدر حتى تصل إلى القلب، ويحدث نزيف داخلي ثم تموت، هذا هو عين ما هو موجود عند الغرب.
الطفلة ثلاث سنوات هيدي كوسدة ماتت من الجوع بعد أن تركت أياماً في غرفة مظلمة وراء باب موصد دون طعام، وذنبها أنها أخذت قطعة حلوى من غير أن تستأذن من زوج أمها، حتى وجدتها الشرطة البريطانية متحللة، وملقاة على ظهرها في غرفة رطبة.
الطفلة تيره هنري عمرها واحد وعشرون شهراً فقط توفيت على يد أبيها الذي أشبعها ضرباً وعضاً في حي دريكستون في لندن.
الطفل كريستوفر استوك أربع سنوات توفي بنزيف في المخ من جراء الضرب المبرح الذي كالته له صديقة أبيه.
الطفلة هان يومان عمرها ستة أسابيع فقط، واتهم زوج أمها بضربها ضرباً مبرحاً أدى إلى تكسر عظام الجمجمة، وتوفت الطفلة البريئة في المستشفى متأثرة بجراحها.
وأم في مقاطعة هام شاير البريطانية عمرها عشرون عاماً تعتدي على طفل رضيع لها من أجل أن تسكته عن البكاء، ولما لم يكن ليسكت كسرت جمجمته؛ لأنه كان يزعج عشيقها.
وقام جون الين اثنين وثلاثين سنة بقتل صغيرته آن سبع سنوات، ثم ابنه الأكبر كول عشر سنوات، ثم استدار إلى زوجته فطعنها طعنات كثيرة، ثم أطلق الرصاص على نفسه، وكانت آلة التسجيل تشتغل في المنزل، والصوت ينطلق بعد ذلك عند المحققين على هذه المأساة المروعة، عندما تقدم الوالد مصوباً مسدسه في يده إلى ابنته وهي تتوسل إليه وتقول: أحبك يا بابا! ولكن ذهب التوسل أدراج الرياح.
هذه هي الحظيرة الغربية، الآباء يعتدون على أبنائهم جنسياً! من يتخيل أن يعتدي الأب على ابنه جنسياً؟! أثبتت الدراسات في عام (1987م) في بريطانيا أن (90%) من حالة الاعتداء الجنسي على الأطفال تتم في نطاق الأسرة الواحدة، الأطفال في جميع الأعمار معرضون للخطر، ثلث ضحايا الانتهاكات الجنسية دون الخامسة من أعمارهم تتم على أيدي الأب، وزوج الأم والأم.
قضت إحدى محاكم لوسن في بريطانيا بالسجن خمسة أعوام على رجل في الخمسين من عمره قام بالزنا بابنته طوال اثني عشر عاماً، وقد اعترف الرجل بالتهمة، وأنجبت ابنته منه ستة أولاد توفي أحدهم والباقون في وضع سيء في المستشفى.
كل أسبوع ثلاثمائة مكالمة هاتفية من ضحايا تعرضوا لاعتداء من قبل آبائهم، ولذلك في الغرب الآن رقم هاتف مخصص لشكاوى الأطفال، يعرضونه على شاشات التلفزيون ليحفظه الولد، حتى لو أراد الاستنجاد بالشرطة من أبويه -من أقرب الناس إليه- يتصل.
المواليد غير الشرعيين في ازدياد (أولاد الحرام في ازدياد) ومع زيادة الحملة على المخدرات وجد من عمره ثلاثة أعوام يشم الكوكايين.
أيها المسلمون: هذه حياة الأطفال في الغرب؛ أم تقتل طفلها في ماء الحمام المغلي، وأب يهشم رأس صغيره الوليد بحذائه.
امرأة ولدت فألقت بالطفل في سلة المهملات، ويعثر على الأولاد في المراحيض العامة، هذا هو واقع الطفل الغربي!! ثلث عدد الأطفال المصابين بالإيدز يموتون بعد عامين من الإصابة، أمراض جنسية خطيرة تنتقل إلى الأولاد، وأطفال مشردون، وعصابات لقتل الأولاد، لأنهم يشوهون البلد، ورهنت امرأة طفلها لقاء جرعة كوكايين، ويحصلون الآن على المخدرات بسهولة.
الذي نريد أن نقوله: إن هذه الشريعة رحمة ونعمة، وإننا عندما نتمسك بالشريعة يكون أولادنا سادة العالم وقادته، وينشئون أحسن نشأة، ونعطيهم أحسن حنان وأحسن عطف، وعندما نأتي لهم بالألعاب ومن حقهم أن يلعبوا، وقد أشرنا إلى ذلك في الخطبة الماضية، حق الولد في الملاطفة والملاعبة، وأن يكنى ويسلم عليه، ويوجد له شأن في المجتمع ومكان، ويجلس في مجالس الكبار، ويعطى الإناء عن اليمين مع أنه يوجد عن اليسار كبار.
شريعة كاملة، فإلى أي شيء نسعى؟ وماذا نريد من وراء التقليد واتباع الغربيين؟ حتى ألعاب الكمبيوتر اكتشفوا فيها الآن أنها أسباب مرض الصرع، وأنها تجلب النوبات العصبية، حتى ألزمت كبار الشركات كشركة (نان تندل للألعاب) وغيرها بكتابة تحذير على الألعاب: (إن هذه الألعاب من أسباب الصرع والنوبات العصبية للأطفال).
فإذاً: ليس كل ما يأتينا منهم مفيد، بل كثير منه ضار، وأولادنا يسيرون على خطى أولادهم، وإذا لم يتق الآباء الله تعالى فسترون نتائج فضيعة في المجتمع.
فهل حان الوقت لمزيد من الاهتمام بالأطفال على ضوء الشريعة؟ هل حان الوقت للتربية والاعتناء بها لمقاومة مظاهر انتشار الفاحشة واللواط والجرائم التي تتفشى عند أولادنا؟ اللهم أصلح شأننا وبيوتنا، وأصلح نياتنا وذرياتنا يا رب العالمين.
اللهم هب لنا من ذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً.
اللهم جنبنا الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطن، اجعلنا في بلدنا هذا آمنين مطمئنين بشريعتك وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأرشد الأئمة وولاة الأمور، وارحمنا برحمتك يا عزيز يا غفور.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(117/5)
الغيظ المكتوم بين الظالم والمظلوم [1]
الظلم من شيم النفوس، وهو فساد في الأرض، وتعدٍ لحدود الله، وله صور ومجالات، وأشكال شتى تزل فيها الأقدام، ولذا يجب على كل مسلم أن يعرف الظلم ليتجنبه، وفي هذه المادة ذكر للظلم مع ذكر صور له مشهورة، فاقرأ لتعرف وتلزم.(118/1)
تحريم الظلم وعاقبته الوخيمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن الظلم حرامٌ؛ حرمه الله تعالى على نفسه، وحرمه بين الخلق، فقال عز وجل في الحديث القدسي: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته محرماً بينكم، فلا تظالموا) وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (إني حرمت على نفسي الظلم وعلى عبادي؛ ألا فلا تظالموا).
والظلم من طبيعة الإنسان، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] وقال تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]، فمن طبيعة الإنسان الظلم؛ يظلم في المجالات المختلفة، يظلم دائماً إلا من عصمه الله تعالى:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفةٍ فلعلة لا يظلمُ(118/2)
عاقبة الظالم في الدنيا والآخرة
وعاقبة الظالم أليمة في الدنيا وفي الآخرة، فأما في الدنيا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته؛ ثم قرأ: ((وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)) [هود:102]).
فيملي له تعالى ليزداد إثماً، ثم يأخذه أخذ عزيزٍ مقتدر، ولذلك فإن مصير الظالم في الدنيا الهوان والعذاب قبل الآخرة، ومن تعذيب الظالمين ما ذكره ربنا عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129]، أي: نسلط بعضهم على بعض، ونهلك بعضهم ببعض، وننتقم ببعضهم من بعض، جزاءً على ظلمهم وبغيهم؛ كما قال ابن كثيرٍ رحمه الله في تفسير هذه الآية، فيسلط الله على الظالم ظالماً آخر، فيظلمه ويقهره جزاء ظلمه، والجزاء من جنس العمل.
أما في الآخرة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الظلم ظلماتٌ يوم القيامة) وقال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه:111] أي: خضعت لجبارها الحي الذي لا يموت، وحصلت الخيبة لأهل الظلم يوم القيامة: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه:111] وقال تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] فيكون القصاص ويكون الجزاء في الآخرة بعد الدنيا.(118/3)
نصرة الله سبحانه وتعالى للمظلوم
وأما المظلوم فإن الله عز وجل قد جعل له في الدنيا دعوةً مستجابة ترفع على الغمام إلى الله عز وجل، تفتح لها أبواب السماء ويقول الله: (لأنصرنك ولو بعد حين) لأن الله لا يحب الظلم، ولذلك يستجيب دعوة المظلوم ولو بعد حين، فقد يقف المظلوم أمام الظالم يدعو عليه، ولا يحدث للظالم شيء في الموقف نفسه، ولكن الاستجابة آتية.
وربما يكون أحياناً من التخفيف على الظالم أن يُستجاب للمظلوم في الحال، كما حدث في الذي ذهب يشهد زوراً فلم يرجع من المحكمة إلى بيته إلا وقد أصيب بالشلل، نقمة عاجلة من الله تعالى، وقد يُعَجِّلُ سبحانه العقوبة وقد يؤخرها لحكمةٍ يعلمها في خلقه.
وكذلك فإن الله يجعل لولي المظلوم سلطاناً وقوة؛ كما قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء:33] أي: جعلنا له قوة واقتداراً، وجعلنا له خياراً، وجعلنا الأمر إليه في العفو أو أخذ الدية أو طلب القصاص: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء:33] فلا يمثل ويشوهْ الجثة، ولا يقتل غير القاتل، ولا يتعد على أقرباء القاتل، كما فعل بعض الناس: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} [الإسراء:33].(118/4)
النبي صلى الله عليه وسلم والصالحون من أمته يتجنبون ما يمكن أن يؤدي إلى الظلم
ولأجل خطورة الظلم كان الصالحون يخشونه على أنفسهم، ويبتعد الكثير منهم عن القضاء؛ فرفض كثيرٌ من العلماء تولي القضاء خشية أن يظلم أحد الخصمين، فيبوء بالإثم والانتقام من الله تعالى، مع أنه ربما يكون مجتهداً مخطئاً، ولكن حتى لا يحيف أو يداخله الهوى.
أعرض كثيرٌ من الصالحين والعلماء عن تولي القضاء لأجل خشية الظلم؛ لأنه يخاف أن يظلم، ويعلم ما هي عقوبة الظالم في الدنيا والآخرة.
وعن أنسٍ قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -ارتفعت الأسعار- فقالوا: يا رسول الله! سَعِّرْ لنا -افرض تسعيرةً للبضائع- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحدٌ منكم يطلبني بمظلمة في دمٍ ولا مال) رواه الترمذي وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح.
هذا النبي عليه الصلاة والسلام يرفض التسعير خشية أن يكون قد ظلم البائع الذي يجوز له أصلاً أن يبيع كيف يشاء وبالسعر الذي يريد، ولذلك رفض التسعير خشية أن يظلم الباعة، وقال لأصحابه وهو النبي عليه الصلاة والسلام: (وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحدٌ منكم يطلبني بمظلمة في دمٍ ولا مال).
وأما التسعير فقد ذكر العلماء رحمهم الله أنه إذا حصل احتكارٌ وظلمٌ، واجتمع الباعة على رفع الأسعار في الأشياء التي يحتاج إليها الناس كالأقوات، جاز التسعير عليهم لمنع ظلمهم، وأما في الأحوال العادية فلا تسعير؛ لأنه في الأصل منعٌ للبائع من حقه، فالنبي عليه الصلاة والسلام يرفض ذلك خوفاً من أن يلقى الله وفي عنقه مظلمة لأحد.(118/5)
أنواع الظلم: بحسب من يقع عليه
والظلم -أيها المسلمون- على أنواعٍ ثلاثة: الأول: ظلم العبد لربه؛ كما قال تعالى: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] يرزقهم ويعافيهم ثم يشركون به، ويجعلون له صاحبةً وولداً، أو يحلفون بغيره، أو يشركون الشرك الخفي، فيقولون: لولا الله وفلان فالشرك هو أعظم الظلم على الإطلاق.
الثاني: ظلم العبد لنفسه؛ ويكون بسائر المعاصي، قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1].
وثالثاً: ظلم العبد لغيره، والله تعالى قد يسامح ويغفر، ولكن في ظلم العبد للعبد لا بد من القصاص، لأن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً.(118/6)
منع الناس من العبادة من أقبح الظلم
ومن الظلم العظيم منع الناس من العبادة والحيلولة بينهم وبين أماكنها، كما قال عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114].
وقد عَدَّ الله عز وجل الذين يبقون في دار الشرك ولا يهاجرون إلى بلاد الإسلام ظَلَمةً، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [النساء:97] هذه الحجة التي قالوها عند قبض أرواحهم.
لماذا أنتم في بلاد الكفر؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97] أي: ما دام لكم مجالٌ وفسحة في الذهاب إلى بلاد الإسلام، فلماذا لم تهاجروا إليها؟ فسر هذه الآية ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه فقال: (إن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سواد المشركين، وتكثير سواد المشركين حرام، ونفعهم وتقويتهم وهبة عصارة الأذهان إليهم حرام، يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي السهم فيُصيب أحدهم فيقتله أو يُضرب فيقتل، فأنزل الله: ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)) [النساء:97]) رواه البخاري رحمه الله.
فالذي يختار الذهاب إلى بلاد الكفر دون حاجةٍ ولا إلجاء، يختار الذهاب إلى بلاد الكفر لمزيدٍ من زينة الحياة الدنيا، للمال وليعيش بين الكفار، فينشأ أولاده بينهم دون إلجاءٍ أو خوفٍ أو ضرورة أو تضييق، يذهب إلى بلاد الكفار مختاراً، فلا شك أنه ظالمٌ لنفسه، وكثيرٌ من الناس يتوسعون هذه الأيام في الهجرة إلى بلاد الكفر، مع ما في ذلك من المخاطر العظيمة عليهم وعلى أولادهم.
ولو كان أحدهم ملجأً مضطراً فالله سبحانه وتعالى يعلم ظرفه، بخلاف ما لو كان مختاراً فإنه ظالمٌ لنفسه.(118/7)
الوسوسة في الطهارة ظلم وتعدٍّ
وقد وصف الشارع صاحب الوسوسة بأنه ظالم، وعددٌ من الناس يقعون في هذا المرض العظيم يُهلكون أنفسهم، ألا ترى أنه قد وصفهم بالظلم كما جاء في حديث الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء، فأراه عليه الصلاة والسلام الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (هكذا الوضوء؛ فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم) الذي يزيد على الثلاث مسيءٌ ومتعدٍ وظالم، وبعضهم يمكث في دورة المياه ساعات يعيد الوضوء ويزيد، لا ينفك عن هذه الفعلة وهو ظالم، فلو تأمل الموسوسون هذا الحديث لكفاهم.(118/8)
من صور الظلم
فإذا جئنا -أيها الإخوة- إلى ظلم العباد بعضهم لبعض، فلنعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرم ظلم المسلم لأخيه المسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) الحديث رواه البخاري.
وظلم العباد لبعضهم في هذا الزمان منتشرٌ وشائعٌ للغاية، حتى صارت الجلطات وأمراض الضغط وما يحصل من الأزمات النفسية والقلبية شعاراً في هذا العصر ودليلاً على كثرة الظلم وانتشاره، وانعكس الظلم في شكل أمراضٍ خطيرة تصيب الناس لما يقع عليهم من حرمانهم حقوقهم ومن ظلمهم.(118/9)
الظلم بأخذ أرض الغير
ومن أوجه الظلم: الظلم بأخذ أرض الغير: عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ظلم من الأرض قيد شبر طُوقه من سبع أرضين) رواه البخاري رحمه الله.
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن -وكانت وبينه وبين أناسٍ خصومة في أرضٍ- فدخل على عائشة فذكر لها ذلك، فقالت: يا أبا سلمة! اجتنب الأرض؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبرٍ طوقه من سبع أرضين) رواه البخاري.
وعن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه خاصمته أروى في حقٍ لها زعمت أنه انتقصه، فخاصمته إلى مروان، فقال سعيد: أنا أنتقص من حقها شيئاً؟! أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين).
وعن يعلى بن مرة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أيما رجلٍ ظلم شبراً من الأرض كلفه الله عز وجل أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين ثم يطوقه يوم القيامة حتى يُقضى بين الناس) رواه الإمام أحمد وهو حديثٌ صحيح.
فيحفره إلى أعمق سبع أرضين ثم يجعل حول رقبته بثقله العظيم طيلة خمسين ألف سنة -يوم القيامة- ولو كان شبراً واحداً.
وترى الواحد اليوم إذا أراد أن يبني على أرضه أخذ شبراً سوراً للبيت من أرض جاره؛ يأخذ جدار بيته من أرض جاره، ليعلم إذاً أن من يأخذ شبراً فهذا مصيره؛ يطوق به يوم القيامة، فكيف إذا استولى على الأرض كلها؟!(118/10)
أكل أموال اليتامى ظلم عظيم
ومن الظلم أكل مال اليتيم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10].
لقد بلغ الظلم والانحراف عن الشريعة حداً جعل أقرب الأقربين يأكلون أموال اليتامى، فهذا يأخذ أموالَه عمُّه، وآخر يستولي على مخصصاته خالُه، فأقرب الأقرباء لم يمتنعوا من ظلم اليتامى إلا من رحم الله، يأكلون أموال اليتامى ظلماً.
الإرث الذي تركه لهم أبوهم يأكلونه، أو يتولى أحدهم عليه فيأكل منه، أو يأخذ مخصصات الدولة التي جُعلت لهؤلاء اليتامى فيأكلها، أو يأكل الضمان الاجتماعي ونحو ذلك، وهذا ظلمٌ حرامٌ وشنيع، كيف لو أن أولاده صاروا هم اليتامى؟! هل يرضى بأن تُؤكل أموالهم وحقوقهم ويبقون يتكففون الناس، أو يُعطى لهم الفتات ويأخذ الناس الباقي؟! فليرع حق الله في اليتامى.
ولذلك ترى بعض المنصفين، ينفقون من جيوبهم على اليتامى، ويبقون أموال اليتامى سليمة، يسلمونهم إياها إذا كبروا، ألا فليبشروا بأجر من الله تعالى.(118/11)
مطل الغني ظلم
ومن جوانب ظلم العباد تأخير رد الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) رواه البخاري كالمقتدر الذي عنده ما يؤدي به، ومع ذلك لا يؤدي حقوق الناس، وهذا كثيرٌ اليوم في عالم التجارة والاقتراض، يأخذون البضائع بالدين، ولا يسددون وعندهم مال، يقول أحدهم: سأتوسع! أتتوسع من مال الغير؟! يقترض ليتاجر ثم يقول للشخص: ليس عندي مال، ويقول: دعه ينتظر وأنا أنتظر الأرباح، مع أن أجل الدين قد حل، لكنهم ظلمة، يؤخر أحدهم ويماطل وعنده ما يسدد به الدين، والأموال موجودة، ولكن يقول: هكذا درجت العادة في السوق.
وقريبٌ من هذا ظلم التاجر للأُجراء والموظفين والعُمال بتأخير الرواتب وعنده مالٌ يدفعه إليهم.
عن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتجم ولم يكن يظلم أحداً أجره) حديثٌ صحيح.
حتى الحجام يعطيه أجره كاملاً، يعطيه ديناراً، ومعلوم أن الدينار أربعة غرامات وربع من الذهب، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يظلم أحداً أجره حتى الحجام.
وهؤلاء يؤخر أحدهم الرواتب بالأشهر عن العمال والموظفين، وعنده ما يدفع، فإذا نوقش قال: كل الشركات هكذا، كل السوق هكذا، أنا أحسن من غيري، هل تريد إذا ظلم الناس أن تظلم مثلهم؟ لماذا نمشي على العادة السيئة الموجودة بين بعض الناس ونقول: نظلم مثلما ظلم الآخرون؟! ثم يقول: سأعطيهم قبل السفر، يمنع الخادمة ويقول: سأعطيها قبل السفر، وهل المستحق عليك قبل السفر أم المستحق عليك في آخر الشهر؟ هذا ظلم {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:140] {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].(118/12)
تحريف الوصية ظلم
ومن أنواع الظلم: الظلم بتحريف الوصية، كأن يُدخل فيها من لم يكتب ولم يشأ الموصي، ويخرج منها من أدخله الموصي، أو يجحد بالكلية، وتغير وتحرف؛ ولذلك قال الله: {وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:107] في آخر آية الوصية التي يشهد عليها.(118/13)
اليمين الكاذبة لاقتطاع مال امرئ مسلم ظلم عظيم
ومن الظلم العظيم أن يحلف كذباً لأخذ مال أخيه المسلم، عن علقمة بن وائل عن أبيه قال: (جاء رجلٌ من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرضٍ لي كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا.
قال: فلك يمينه -يحلف- قال: يا رسول الله إن الرجل فاجرٌ لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء، فقال: ليس لك منه إلا ذلك -لا بينة إذاً يحلف المدعى عليه- فانطلق المدعى عليه ليحلف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر: أما لئن حلف على على مال صحابه ليأكله ظلماً ليلقين الله وهو عنه معرض) رواه الإمام مسلم رحمه الله.
وفي رواية لـ مسلم في شأن هذه القصة: (من اقتطع أرضاً ظالماً لقي الله وهو عليه غضبان) أي يلقى الله سبحانه وتعالى وهو معرض عنه.
كم الذين يحلفون في المحاكم ظلماً؟ كم الذين يجحدون أموال الغير؟ كم الذين يتركون العامل يعمل ويمنونه بالمشاركة ويمنونه بالأرباح، فإذا كبرت المؤسسة وقام العمل على سوقه، وبدأت الأرباح تدر، قالوا: اذهب فليس لك شيء، ويخرجونه بثيابه.
أين يكون من يفعل ذلك يوم الدين؟ وما هو حاله يوم الدين؟ ولكن الناس لا يفكرون بيوم الدين، مثل هؤلاء البشر لا يقيمون ليوم القيامة وزناً، فلا وزن لهم عند الله يوم القيامة.(118/14)
ظلم الشريك لشريكه
ومن أنواع الظلم: أن يظلم الشريك شريكه، كما قال داود عليه السلام: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24].
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يباعد بيننا وبين الظلم، وأن يجعلنا برآء من الظلم، اللهم إنا نعوذ بك أن نظلم أو نُظلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.(118/15)
ظلم الرجل لزوجته
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين.
أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، الحكمُ العدْلُ: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].
وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
عباد الله! إن من الظلم العظيم أن يظلم الرجل زوجته التي هي عانية عنده وأسيرة وضعيفةٌ، ومحتاجةٌ إلى نفقته وحمايته، فيعمد كثيرٌ من الأزواج إلى ظلم زوجاتهم، فيمنع النفقة عن زوجته أو يضربها ضرباً مبرحاً غير الذي أمر به الشارع، أو يضربها مع أنه هو الظالم وهي المظلومة.
ويُرى آثار الضرب في جلدها اخضراراً وازرقاقاً، وربما أسال الدم، وهكذا يفعل بعض الظلمة من الأزواج الذين لا يخافون الله؛ يضرب الرجل بكل قوته على جنب المرأة وجسدها في ضعفها؛ بكل قوته على ضعف جسدها ينهال عليها ضرباً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يجلدها جلد العبد) وهذا من الظلم، وستأخذ من حسناته يوم القيامة.
ومن الظلم لها أن يمنع عنها النفقة، أو يأخذ أموالها إذا كانت موظفة، ثم يقول لها: إذا أردت أن تقترضي مني فاقترضي وسددي، والمال مالها، وقد أخذ أحدهم من أموال زوجته فوق مائتي ألف لينفقها على نفسه وقرناء السوء في الخمر والحرام، فلما قالت له: اختر أنا أو قرين السوء صاحبك، قال: أختار صاحبي وأنتِ اخرجي من البيت، هكذا يتبجح بعضهم، وهذا من ضمن المآسي الاجتماعية التي تعيشها بُيوتنا.
الزوجة لا تُحس بالأمان لأنها معرضة للطرد في أي لحظة، ولو في جوف الليل، ربما يضربها وهي حامل، تقي جنينها من الضرب، وهو لا يرحم الولد ولا أمه، فهذا ظلم والله لا يحب الظالمين، فكيف يلقى الله تعالى؟! من الظلم الذي وصفه الله من ظلم النساء أن يمسكها بعد طلاقها ليزيد عليها العدة، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} [البقرة:231] فهذا ظلم، يمسكها ضراراً إلى آخر العدة وقبيل أن تنتهي يردها بعد الطلقة الأولى، ثم يطلق ويمسكها إلى قبيل انتهاء العدة في الطلاق الثاني، ويردها لتطول عليه العدة ولا تذهب إلى غيره، وليس له فيها حاجة.
ولذلك لما لاعن عويمر زوجته في قصة الملاعنة المشهورة قال بعدما تمت الملاعنة: يا رسول الله إن حبستها فقد ظلمتها، فهو يقول: بعدما رأيتها في الفجور والزنا وتمت الملاعنة، فقد كذبتها، وإن أبقيتها عندي -ولا يمكن أن أطيقها- فقد ظلمتها، فهي طالقٌ طالقٌ طالق، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت سنةً لمن كان بعدهما من المتلاعنين الانفصال التام والنهائي إلى آخر العمر، لا يردها ولو بعد زوج، وتلك هي التفرقة الكبرى؛ بين الملاعن والملاعنة، فالزوجة تخرج إلى الأبد ولا تبقى عنده وهو لا يريدها.(118/16)
قطع الشجرة التي يستظل بها الناس ظلم
وبعض الناس يتصور أن الظلم مع الأحياء أو مع أهل الحياة، ولكن الظلم حتى مع الجمادات، وحتى مع البهائم، ومن قطع شجرة ليضر بالناس فلا يستظلون بها عبثاً ظلماً صوب الله رأسه في النار، كما حمل عليه أبو داود حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح: (من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار).(118/17)
من ظلم المسلم لأخيه سوء ظنه به
وصور ظلم الأخ لأخيه المسلم كثيرة، ومن ذلك ظلمه في تفسير مواقفه، وبناء ذلك على سوء الظن، وهذا مثالٌ من السنة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزكاة، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس بن عبد المطلب -أي: منعوا زكاة أموالهم فلم يؤدوها- فقال صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله ورسوله -وهذا ذمٌ له وتأكيدٌ للتهمة عليه- وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله - خالد كيف يمنع الفرض وقد تطوع بتحبيس سلاحه وخيله ثم لا زكاة في الوقف وقد جعل خيله وسلاحه وقفاً على المجاهدين في سبيل الله، فأنتم تظلمون خالداً، لأنه جعل أمواله التي عنده وقفاً على المجاهدين في سبيل الله- وأما العباس بن عبد المطلب فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه صدقه ومثلها معها) رواه البخاري.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استعجل من العباس زكاة سنتين أخذها مقدماً للحاجة مقدماً، فلما جاء وقت الزكاة ولم يعط العباسُ زكاتَه، لأنه كان قد أعطاها من قبل، ولما ظلمه بعض الناس، أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد أداها من قبل، وأنه لو كان عليه فرقٌ فإنه سيتحمله هو من جيبه صلى الله عليه وسلم، لأنه عمه، وعم الرجل صنو أبيه.
والشاهد من هذه القصة التي رواها البخاري رحمه الله أن بعض الإخوان يظلمون أخاهم المسلم بتفسير مواقفه بناءً على سوء الظن تفسيراً غير صحيح، إذاً فليتقوا الله في أخيهم، وليحملوا أمره على أحسنه، نسأل الله السلامة والعافية.
اللهم لا تجعلنا من الظالمين، ونجنا من القوم الظالمين، اللهم إنا نعوذ بك من الظلم وأهله، اللهم لا تجعلنا من الذين يظلمون الناس يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين، وأن تُذل الشرك والمشركين، وتهزم أعداء الدين، اللهم إنا نسألك الأمن والرخاء لبلادنا وبلاد المسلمين يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(118/18)
المجاهرون
ما أعظم لباس الستر حين يستتر به المؤمن إذا وقع في ذنب! فهو لباس أسبغه الله على عباده المؤمنين؛ لكن بعض الناس يهتكون هذا اللباس ويمزقونه بعد أن سترهم الله عز وجل فحرموا العافية التي حلَّت بأهل الستر.
وتتعدد أنواع المجاهرة بالمعاصي في عصرنا الحاضر حيث وسائل الاتصال بكل أنواعها، مع اتساع دائرة المعاصي والذنوب، ألا فليحذر العاقل من نقض عرى الستر، فإن أبى إلا نقضها فلا يستغرب إن وجد ردة فعل إزاء ما يجاهر به من كثير من الخلق، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.(119/1)
كل أمتي معافى إلا المجاهرين
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن حديثه ننطلق ونأخذ النور، ومما وجهنا به عليه الصلاة والسلام في هذه المسألة العظيمة، التي هي من الأمور المهمة في حفظ مجتمع المسلمين، وصيانة دينهم وعفافهم، روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان! عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عليه).
(كل أمتي معافى) من العافية، وأن الله سبحانه وتعالى يغفر الذنب ويقبل التوبة منه.
(كل أمتي معافى إلا المجاهرين) فالمجاهرون بالمعاصي لا يعافون، الأمة يُعفى عن ذنوبها، لكن الفاسق المعلن لا يعافيه الله عز وجل، وقال بعض العلماء: إن المقصود بالحديث كل أمتي يُترَكون في الغيبة إلا المجاهرون، والعفو بمعنى الترك، والمجاهر: هو الذي أظهر معصيته وكشف ما ستر الله عليه فيحدث به.
قال الإمام النووي رحمه الله: من جاهر بفسقه، أو بدعته، جاز ذكره بما جاهر به.
هذه المجاهرة التي هي التحدث بالمعاصي، يجلس الرجل في مجلس كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: عملت البارحة -أقرب ليلة مضت- كذا وكذا، يتحدث بما فعل، ويكشف ما ستر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألمَّ بشيء منها فليستتر بستر الله) رواه الحاكم، وهو حديث صحيح.
لماذا -أيها الإخوة- كل الأمة معافى إلا أهل المجاهرة؟! أولاً: لأن في الجهر بالمعصية استخفاف بمن عُصِي وهو الله عز وجل، واستخفاف بحق رسوله صلى الله عليه وسلم، واستخفاف بصالحي المؤمنين، وإظهار العناد لأهل الطاعة ولمبدأ الطاعة، والمعاصي تذل أهلها، وهذا يذل نفسه ويفضحها في الدنيا قبل الآخرة.(119/2)
المجاهرة لمصلحة راجحة
عباد الله: إن المجاهرة بالمعصية والتبجح بها، بل والمفاخرة، قد صارت سمة من سمات بعض الناس في هذا الزمن، يفاخرون بالمعاصي، ويتباهون بها، وينبغي على الإنسان أن يتوب ويستتر، ولكن هؤلاء يجاهرون، قال النووي رحمه الله: يكره لمن ابتلي بمعصية أن يخبر غيره بها -يعني: ولو شخصاً واحداً- بل يقلع عنها ويندم، ويعزم ألا يعود، فإن أخبر بها شيخه الذي يعلمه، أو الذي يفتيه، أو نحوه من صديق عاقل صاحب دين مثلاً، يرجو بإخباره أن يعلمه مخرجاً منها، لقد أصيب الرجل بذنب أو وقع في ذنب، ويريد أن يسأل شخصاً ليعلمه كيف يتوب، وما هو المخرج من المعصية، ما هو الطريق لتركها، وكيفية التوبة، وما يجب عليه من جهة الأطراف الأخرى إن كان هناك أطراف أخرى في المعصية، ففي مثل هذه الحالة ما حكم الإخبار بالمعصية؟ فإذا أخبر بها شيخة أو نحوه ممن يرجو بإخباره أن يعلمه مخرجاً منها، أو ما يسلم به من الوقوع في مثلها، أو يعرفه السبب الذي أوقعه فيها فهو حسن، وإنما يحرم الجهر حيث لا مصلحة؛ لأن المفسدة حينئذٍ ستكون واقعة، فالكشف المذموم هو الذي يقع على وجه المجاهرة والاستهزاء لا على وجه السؤال والاستفتاء، بدليل خبر الذي واقع امرأته في رمضان، فجاء فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم لكي يعلمه المخرج، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم في إخباره.(119/3)
إمامة المجاهر بالذنب وعيادته
عباد الله: إن المجاهرة بالمعاصي وإشاعتها والتباهي بها يحمل الناس الآخرين على التقليد والوقوع فيها، إن الشريعة لما شددت على المجاهرة بالمعصية كان ذلك لحكمة، والشارع يعلم أن المجاهر يدعو غيره، ويجذبه، ويزين له ويغريه، ولذلك كانت المجاهرة بالمعصية أمر خطير جداً، وقد ذكر العلماء إجراءات متعددة في الفتاوى والأحكام بشأن المجاهر، فنصوا على كراهية الصلاة خلف الفاسق عموماً ما دام فسقه لا يكفر، فالصلاة صحيحة لكنه لا ينال ثواب من صلى خلف الإمام التقي، وقال بعضهم: بإعادة الصلاة خلف من جاهر بالمعصية.
وسُئل ابن أبي زيد رحمه الله: عمن يعمل المعاصي هل يكون إماماً؟ فأجاب: أما المصر المجاهر فلا يمكن أن يكون إماماً، ولا يجعل إماماً، ولا يُمَكّن من ذلك، ويطالب بتغييره، ويُرفع أمره؛ لأنه منصبٌ قيادي يؤم فيه المسلمين، فكيف يؤمهم ويتقدمهم ثم يكون مجاهراً بمعصية؟! وسئل عمن يعرف منه الكذب العظيم، أو القتَّات النمام الذي ينقل الأخبار للإفساد بين الناس، هل تجوز إمامته؟ فأجاب: لا يصلى خلف المشهور بالكذب، والقتات، والمعلن بالكبائر، مع صحة الصلاة أي: أنها لا تعاد، ولكن يكره الصلاة وراء هذا الرجل، أما من تكون منه الهفوة والزلة فلا تُتبع عورات المسلمين.
وقال مالك رحمه الله: من هذا الذي ليس فيه شيء، كل إنسان يعصي، وقال مالك مردفاً: وليس المصر والمجاهر كغيره، المصيبة في المصر والمجاهر، هذا في مسألة إمامته.
وماذا عن عيادته إذا مرض؟ وعيادة المريض المسلم أجرها عظيم، ومن حق المسلم على المسلم، لكن العلماء قالوا: لا يعاد المجاهر بالمعصية إذا مرض؛ لأجل أن يرتدع ويتوب ويرتدع غيره ممن يمكن أن يقع في المعصية، وإذا عاده من يدعوه إلى الله وينصحه فهو حسن لأجل دعوته، أما إذا لم تكن هناك مصلحة شرعية فلا يعاد زجراً له ولأمثاله.(119/4)
الصلاة على المجاهر وحكم إجابة دعوة الوليمة
وماذا عن الصلاة عليه؟ لقد ذكر أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة المجاهر بالمعصية إذا مات، فإنه لا يصلي عليه الإمام ولا أهل الفضل؛ زجراً له ولأمثاله، وردعاً لمن يقع في هذا، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ينبغي لأهل الخير أن يهجروا المظهر للمنكر ميتاً إذا كان فيه كف لأمثاله، فيتركون تشييع جنازته.
فمن جاهر بشيء فمات مصراً مجاهراً، يترك أهل الفضل والخير الصلاة عليه، ويصلي عليه عامة الناس ما دام مسلماً لم يخرج من الإسلام.
وماذا بالنسبة للستر عليه؟ وما حكم غيبته؟ يندب الستر على المسلم عموماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) فإذا علمت عن مسلم ذنباً فاستره، وخصوصاً إذا كان ممن ينسب لأهل الدين، والطعن فيه طعن في الإسلام، والعيب عليه عيب في أهل الإسلام، لكن المجاهر بالمعصية له شأن آخر، قال العلماء: وأما المجاهر والمتهتك فيستحب أن لا يستر عليه، بل يظهر حاله إلى الناس حتى يجتنبوه، وينبغي رفع أمره للقاضي حتى يقيم عليه ما يستحقه؛ لأن ستر مثل هذا الرجل أو المرأة يطمعه في مزيد من الأذى والمعصية، وإذا كانت غيبة المسلمين حراماً فإن هذا الرجل قد أباح للناس أن يتكلموا في شأنه بمجاهرته، فأجاز العلماء غيبة المجاهر بفسقه أو بدعته؛ كالمجاهر بشرب الخمر وغيره، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: إذا كان الرجل معلناً بفسقه فليس له غيبة، لكنَّ النووي رحمه الله أشار إلى أن غيبته فيما جاهر فيه فقط، ويهتك فيما جاهر فيه، ويحذر الناس من شأنه.
وأما هجره فإذا كان يرتدع به فيجب الهجر، وذلك بالمقاطعة وعدم الكلام، وعدم الزيارة، وعدم السلام عليه، قال الإمام أحمد رحمه الله: ليس لمن يسكر ويقارف شيئاً من الفواحش حرمة ولا صلة إذا كان معلناً مكاشفاً.
إن قضية المجاهرة حساسة جداً في الشريعة أيها الإخوة! وماذا عن وليمته؟ ودعوته للعرس والنكاح؟ إن إجابة الوليمة واجبة بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله) هذا في العموم، أما المجاهر فلا تجاب دعوته للعرس والنكاح، ولا تؤتى وليمته ما دام مجاهراً.(119/5)
من ابتلي بمعصية فليستتر
أيها المسلمون: (إن الله حيي ستير يحب الحياء والستر) إنه سبحانه وتعالى يحب الستر، فيجب على من ابتلي بمعصية أن يستتر، ويجب عدم فضحه، فإذا جاهر فقد هتك الستر الذي ستره به الستير وهو الله عز وجل، وأحل للناس عرضه، وقد أجمع العلماء على أن من اطلع على عيب أو ذنب لمؤمن ممن لم يعرف بالشر والأذى، ولم يشتهر بالفساد، ولم يكن داعياً إليه، وإنما يعمله متخوفاً متخفياً؛ أنه لا يجوز فضحه، ولا كشفه للعامة ولا للخاصة، ولا يرفع أمره إلى القاضي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حثَّ على ستر عورة المسلم وحذَّر من تتبع زلاته: (من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته، حتى يفضحه الله بها في بيته) رواه ابن ماجة وصححه في صحيح الجامع.
ولأن كشف هذه العورات والعيوب، والتحدث بما وقع من هذا المؤمن أو المسلم قد يؤدي إلى غيبة محرمة، وإشاعةٍ للفاحشة وترويج لها، المؤمن يُستر ويُنصح، والفاجر يُهتك ويُعيرَّ، كما قال الفضيل رحمه الله.
أما من عُرِف بالأذى والفساد، والمجاهرة بالفسق، وعدم المبالاة بما يرتكب، ولا يكترث بما يقال عنه، فيندب كشف حاله للناس، وإشاعة أمره بينهم؛ ليحذروا منه، ويرفع أمره إلى القاضي ما لم يخش مفسدة أكبر؛ لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء، ومزيدٍ من الفساد، وانتهاك الحرمات، والتجاسر على المعصية، هذا في المعاصي التي وقعت في الماضي، أما من رأى إنساناً يرتكب معصية فيجب عليه أن يُنكِر عليه ولا يقول: أستره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) واستثنى العلماء مسألة جرح الرواة؛ لأجل سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ويجرح الشهود عند القاضي إذا كانوا من المجروحين لحفظ الحقوق، وكذلك من أراد أن يتولى صدقات أو أوقافاً، أو أموال أيتام، أو نحو ذلك، لا يحل الستر عليهم عندئذٍ، وإنما يخبر بأمرهم القاضي؛ لأن المسألة تتعلق بها حقوق لمسلمين، أو لعامة المسلمين.
وينبغي على الإنسان المسلم إذا وقعت منه هفوة أو زلة أن يستر على نفسه، ويتوب بينه وبين الله عز وجل، ولا يستحب له رفع أمره إلى القاضي، ولا يكشف شأنه لأحد كائناً من كان إلا في مثل الأمثلة التي تقدمت في الاستفتاء والاستنصاح.
الستر لأجل ألا تشيع الفاحشة، ولأجل ألا يعم ذكرها في المجتمع، ولأجل أن تكبت أخبارها؛ لأن نشر أخبارها يجذب إليها، ولذلك فإن من الآثمين إثماً عظيماً الذين ينشرون أخبار الخنا، والفجور، والخلاعة، والمجون، والحفلات المختلطة، والغناء ونحو ذلك على الملأ؛ لأنهم يريدون إشاعة الفاحشة في المجتمع المسلم: (اجتنبوا هذه القاذورات، فمن ألمَّ فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإن من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله) حديث صحيح رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي وغيره.
أيها المسلمون: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجلٌ يقول: أصبتُ حداً فأقمه عليَّ -والمعصية حصلت خفيةً- أعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن فيه إرشاداً إلى عدم استحباب طلب إقامة الحد، وأن من وقع في شيءٍ تكفيه التوبة فيما بينه وبين الله عز وجل.
اللهم إنا نسألك أن تتوب علينا، وأن ترحمنا، وأن تغفر لنا، وأن تسترنا بسترك الجميل في الدنيا والآخرة، وأن تصفح عنا الصفح الجزيل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(119/6)
الأصل الستر وإنما الجهر لمصلحة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله البشير النذير والسراج المنير، والنبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إن مما ينبغي حفظه ما يحصل بين الزوجين، وتفاصيل ما يقع حال الجماع وقبله من مقدماته، إلى غير ذلك من الأسرار البيتية، قال صلى الله عليه وسلم: (إن من شر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها) أخرجه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم وقد أقبل على صف الرجال بعد الصلاة: (هل منكم إذا أتى على أهله أغلق بابه وأرخى ستره، ثم يخرج فيحدث فيقول: فعلت بأهلي كذا وكذا، فسكتوا، فأقبل على النساء فقال: هل فيكن من تحدث؟ فقالت فتاة منهنَّ: والله إنهم ليحدثون وإنهنَّ ليحدثن، فقال: هل تدرون ما مثل من فعل ذلك؟ إنَّ مثل من فعل ذلك مثل شيطان وشيطانة لقي أحدهما صاحبه بالسكة -أي في وسط الطريق- فقضى حاجته منها والناس ينظرون) أخرجه أحمد، وهو حديث حسن.
عباد الله: إن الله يحب الستر ويكره التحدث بالكلام الفاحش، وإن مما يقع بين الرجل وامرأته مع أنه بالحلال لكن لأنه خنا فإنه لا يتحدث به، لا يتحدث بأي شيءٍ يثير الشهوات، حتى مجرد ذكر الوقاع أنه قد حصل دون تفصيلٍ، إذا لم يكن له حاجة كرهه العلماء وعدوه من خوارم المروءة، حتى مجرد أن يخبر أنه قد حصل بينه وبين أهله شيء لغير مصلحة شرعية فهو مكروهٍ؛ لأنه من خوارم المروءة.
عباد الله: إنَّ الطبيب وغيره ممن يطلعون على بعض أسرار الناس لا يحل له أن يفشي ذلك، إلا إذا كانت هناك مَضرَّةٌ على المسلمين، فإنه يُبلَّغ بها حتى لا تقع المضرَّةُ على المسلمين، وقال العلماء: إن الإنسان إذا اطلع على شيءٍ فيه ضررٌ على أحد بلَّغه بالتحذير العام، ولا يتكلم عن الشخص إذا كان ذلك كافياً، فيقول له: انتبه واحذر! وهناك من يريد إيقاع الشر بك، ونحو ذلك، فإذا لم يكن كفُّ الشر ممكناً إلا بالإبلاغ عن هذا الشخص وجب الإبلاغ عنه، ويجب الإبلاغ عن كل من يحدث شيئاً فيه ضررٌ على المسلمين، كالذين يعملون أوكار الفجور والدعارة، وتوزيع المخدرات ونحو ذلك، يجب الإبلاغ عن هؤلاء وعدم الستر عليهم؛ لأن في ذلك مصلحة المجتمع المسلم.(119/7)
صور من المجاهرة
عباد الله: انظروا إلى من حولكم من الناس كيف صارت المجاهرة بالمعاصي عندهم شيئاً عادياً، كل من يعلق صورةً محرمةً تعليقاً يظهر للناس، أو يلصق على سيارته عبارةً بذيئة وهو يعلم معناها، أو يشرب شيئاً من المحرمات شفطاً، وأخذاً لدخانه وسحباً، أو من السوائل التي يدخلها إلى جوفه أمام الناس فهو مجاهر بالمعصية، فلا تستغرب إذا رأيت من أهل الخير من مر بمدخنٍ فلم يسلم عليه، ثم مر به وهو لا يدخن فسلم عليه؛ لأن ذلك من فقه معاملة من يجاهر.
كيف جاهر الناس برفع أطباق استقبال موجات الشر وبثها في بيوت المسلمين، حتى صارت كالأعلام ترفرف فوق البيوت؟! كيف يجاهر بعض الناس برفع أصوات الغناء عند الإشارات وزجاج باب السيارة منخفض فينشر الفسق؟! كيف بمن يجلس على الشاطئ، أو الرصيف، أو غيره فيعزف، وبعضهم يرقصون أمام الغادي والآتي؟! وهذه المرأة المتهتكة التي تنزل إلى السوق والشارع متبرجةً متعطرةً كاشفةً عن الأقدام والسيقان، وعن الشعر وغيره؛ تمشي أمام الناس مجاهرةً بالفسق والمعصية.
كيف صار حال بعض الناس في المجاهرة بالفسق والمعاصي في الدعايات التي ينشرونها على الملأ وفيها فجورٌ، أو دعوةٌ لفجورٍ، أو دعوة لحفلة غناء، أو اختلاط، أو قمار، أو ميسر في معاملات تجارية يُجهر بها على الملأ؟! لقد صارت مسألة المجاهرة من المسائل العظيمة أيها الإخوة، ولذلك تجب النصيحة، ويجب القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لماذا النهي عن المنكر واجب؟ ومحاربة المنكر لمكافحة المجاهرة، وبالدرجة الأولى الذي يجهر بالمعصية أمام الناس.
كم وكم من الناس قد وقعوا في المجاهرة، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم خطير: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) أي: فلا معافاة لهم، نفى المعافاة عنهم، ومن نفيت عنه المعافاة فكيف سيكون حاله؟! نسأل الله السلامة والعافية.
اللهم إنا نسألك أن تطهر مجتمعاتنا من المنكرات، وأن تطهر بيوتنا من المعاصي والآثام.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الأتقياء الأخفياء، الذين يخشون في السر والعلن، ويخافون أن تطلع على حال هم فيه على معصية.
اللهم طهر قلوبنا من الشرك، والرياء؛ والكبر، والغرور.
اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(119/8)